نتائج البحث عن (اعْتَبِرْهَا)

1-العربية المعاصرة (خطب)

خطَبَ/خطَبَ على/خطَبَ في يَخطُب، خَطَابةً وخُطْبةً، فهو خَطِيب، والمفعول مَخْطُوب.

* خطَب النَّاسَ/خطَب على النَّاس/خطَب في النَّاس: ألقى عليهم خُطْبة (ظل يخطُب على المنبر ساعة كاملة).

خطَبَ يَخطُب، خِطْبَةً وخَطْبًا، فهو خاطب وخطيب، والمفعول مخطوبة (للمؤنّث).

* خطَب الفتاةَ إلى أهلها/خطَب الفتاةَ من أهلها: طلبها للزواج (لاَ يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيه [حديث] - {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [قرآن]) (*) خطَب وُدَّ فلان: أرضاه، تودَّد إليه، طلب صداقته.

* خطَب الفتاةَ على فلان: جعلها خطيبته.

خطُبَ يَخطُب، خَطابَةً، فهو خَطِيب.

* خطُب فلانٌ: صار خطِيبًا، كان بارعًا في الخَطَابة (حذق فنَّ البلاغة فخطُب).

تخاطبَ يتخاطب، تخاطُبًا، فهو متخاطِب.

* تخاطب الشَّخصان: تحادثا وتكالما (تخاطبوا واستعرضوا جوانبَ القضيّة للوصول إلى اتِّفاق) (*) تخاطُب هاتفيّ مزدوج: طريقة تمكِّن من التخاطب الهاتفيّ في اتِّجاهين متضادّين في وقت واحد- لُغَة التَّخاطُب: لهجة الحديث، اللغة العاميَّة.

خاطبَ يخاطب، خِطابًا ومخاطبةً، فهو مخاطِب، والمفعول مخاطَب.

* خاطب صديقَه: كالمه وحادثه، واجهه بالكلام، اتّجه إليه بالكلام (حرَص على مخاطبة العمال- {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [قرآن]).

* خاطبه في فلانٍ/خاطبه في أمرٍ: راجعه وحدَّثه في شأنه (خاطبه في زيادة أجور الموظفين- {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [قرآن]).

أَخْطَبوط/أُخْطُبوط [مفرد]: جمعه أَخْطَبوطات/أُخْطُبوطات: (انظر: أ خ ط ب و ط - أَخْطَبوط/أُخْطُبوط).

خاطِب [مفرد]: جمعه خاطِبون وخُطَّاب:

1 - اسم فاعل من خطَبَ.

2 - طالِبُ المرأة للزَّواج (*) أرسلته لي خاطبًا فتزوَّج [مثل]: يُضرب لمن أُرسل في حاجة فقضاها لنفسه- خاطِب الدنيا: طالبُها- ذهَب خاطِبا فتزوّج: يضرب لمن يطلب القليل فيظفر بالكثير- كثُر خُطَّابُها: بلغت سنّ الزواج وخطبها الشُّبّانُ.

خاطبة [مفرد]:

1 - صيغة المؤنَّث لفاعل خطَبَ.

2 - امرأة تقوم بدور الوسيط في اختيار الزوج أو الزوجة، من تُرتِّب الزِّيجات (تزوّج عن طريق الخاطبة- لم يعد للخاطبة وجود في كثير من المدن).

خِطاب [مفرد]: جمعه خِطابات (لغير المصدر):

1 - مصدر خاطبَ.

2 - رسالة (أرسل إلى صديقه خطابًا مسجلًا- خطاب مستعجل/توصية/ترحيب/احتجاج) (*) خطابٌ مفتوح: رسالة توجّه إلى مسئول علانية عن طريق الصحافة، أو هو كلام يسمعه ويقرؤه الناس كلّهم.

3 - كلام يوجّه إلى الجماهير في مناسبة من المناسبات (ألقى الرئيس خطابًا سياسيًّا مهمًّا) (*) خطاب العرش: خطبة الافتتاح لمجلس الأمة في الدول الملكيّة- خطابٌ طنَّان: مُتَّسم بالتفخيم والمبالغة والتنميق مع استثارة الروح الوطنية.

4 - محاورة، جدال، كلام {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [قرآن].

* عيد الخطاب: [في الديانات] عند اليهود هو عيد الحصاد.

* خطاب اعتماد: [في الاقتصاد] خطاب يطلب فيه المصرف إلى مراسله في الخارج أن يدفع لحامله مبلغًا معيّنًا من المال.

* ضمير الخِطاب: [في النحو والصرف] مثل: أنتَ، أنتِ، والكاف في (لك).. الخ.

* فَصْل الخِطاب:

1 - [في البلاغة] الفصاحة، النطق ب (أما بعد) بعد حَمْد الله، خطاب لا يكون فيه إيجاز مخلّ ولا إسهاب مملّ، الرأي الأخير {وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [قرآن].

2 - [في القانون] الفقه في القضاء، الحكم بالبيِّنة أو اليمين، ما يحسم الأمر، تمييز الحقّ عن الباطل.

خَطابَة [مفرد]:

1 - مصدر خطُبَ وخطَبَ/خطَبَ على/خطَبَ في.

2 - [في الآداب] فن أدبيّ نثريّ غايته إقناع السامعين أو وعظهم أو إمتاعهم.

3 - [في الفلسفة والتصوُّف] قياس مؤلَّف من المظنونات أو المقبولات، قياس مُركَّب من مقدِّمات مقبولة أو مظنونة، والغرض منه ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم، كما يفعله الخُطباء والوعّاظ.

خِطابة [مفرد]: علم البيان والمعاني وعلم البلاغة.

خَطابيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى خَطابَة.

* أسلوب خَطابيّ: أسلوب يعتمد على العاطفة أكثر من العقل (ازدهر النَّثر الخَطابيّ في القرن الأوّل للهجرة).

خَطابيَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى خَطابَة.

2 - مصدر صناعيّ من خَطابَة.

3 - [في الآداب] نزعة أدبيَّة اعتبرها بعض النقاد من عيوب الشِّعر لأنّها تقرّبه من النثر.

4 - أسلوب يُعتمد فيه على المحسنات اللفظيّة والعاطفة أكثر من العقل (أعلن رأيه بعاطفيّة ثقيلة وخَطابيّة مبتَذَلة).

خَطْب [مفرد]: جمعه خُطُوب (لغير المصدر):

1 - مصدر خطَبَ.

2 - أمرٌ عظيم أو يسير، يكثر فيه الجدال والتخاطب (ألَمَّ به خَطْب جليل) (*) خُطُوب الدَّهر/خُطُوب الزَّمن: نوازله.

3 - حال وشأن (هذا خطب جليل/يسير/جُسام- {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [قرآن]).

خِطْب [مفرد]: جمعه أخطاب: رجل يخطب امرأة، أو امرأةٌ يخطبها رجل (للمذكّر والمؤنّث).

خُطْبَة [مفرد]: جمعه خُطُبات (لغير المصدر {وخُطْبات} [قرآن] لغير المصدر) وخُطَب (لغير المصدر):

1 - مصدر خطَبَ/خطَبَ على/خطَبَ في.

2 - قطعة من الكلام توجَّه إلى جمهور النَّاس، كلامٌ يخاطب به المتكلِّم جمعًا من النَّاس لإعلامهم وإقناعهم (ألقى خُطبة الافتتاح- سمعت خُطْبة الجمعة من أولها) (*) خُطبتا الاستسقاء: لطلب المطر- خُطبتا الجمعة: هما خطبتا صلاة الجمعة، يجلس بينهما الإمام جلسة خفيفة- خُطبتا العيدين: خطبتان بعد الصلاة في كلٍّ من العيدين- خُطبتا الكُسوف: بعد الكسوف- خُطبتا عرفات: في مسجد إبراهيم- خُطبة بتراء: لا تبدأ بحمد الله والثناء عليه.

3 - مقدِّمة (انتهى من كتابة خُطْبة الكتاب).

* خُطْبة النِّكاح: [في الديانات] عند اليهود: كلام حبر اليهود الذي يتكلّم به عند عقد الزَّواج ومباركته.

خِطْبة [مفرد]: مصدر خطَبَ.

خُطوبة [مفرد]: فترة تسبق الزَّواج يقضيها الخطيبان لاختبار كلٍّ منهما الآخر، تنتهي بالزَّواج أو القطيعة (طالت فترةُ خُطوبته- كانت فترة الخُطوبة سعيدة) (*) دُبْلة الخُطوبة/خاتم الخُطوبة: الحلقة الذهبيَّة أو الفضيَّة التي يلبسها الخاطبُ وخطيبتُه في إصبع اليد اليمنى للإعلان عن خطبتهما.

خَطِيب [مفرد]: جمعه خُطباء:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من خطُبَ وخطَبَ/خطَبَ على/خطَبَ في وخطَبَ.

2 - بارع في الخَطابة، مَن يتولّى الخطابة في المسجد وغيره (خطيب مفوّه- كان سعد زغلول خطيبَ الثَّورة المصرية) (*) إمام وخطيب: من يؤم النّاس ويخطبهم في المسجد- خطِيب القوم: المتكلِّم عنهم- خطِيبٌ لَسِنٌ/خطِيبٌ مفوَّه: فصيح.

3 - خاطب المرأة (قدّم الخطيبُ هديّة قيِّمَة إلى خطيبته).

خَطيبة [مفرد]: مخطوبة (قدّم لخطيبته خاتمًا ثمينًا).

مُخاطَب [مفرد]: اسم مفعول من خاطبَ.

* ضمير المخاطَب: [في النحو والصرف] مثل: أنتَ، أنتِ، والكاف في: (لك).. إلخ.

مخاطَبة [مفرد]: جمعه مُخَاطَبات:

1 - مصدر خاطبَ.

2 - مكالمة (تلقَّى مخاطبةً تليفونيّةً من صديقه).

3 - محادثة (كان جيِّد المخاطبة عذب المفاكهة- مخاطبة النَّفس/الذَّات).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-العربية المعاصرة (قدح)

قدَحَ/قدَحَ في يَقدَح، قَدْحًا، فهو قادح، والمفعول مَقْدوح.

* قدَح النَّارَ/قدَح النارَ من الزنْد: أخرجها منه، أشعلها بالاحتكاك (تقدح عينه شررًا: شديدة الاحمرار من شدّة الغضب- قَدَحت نظراتُه حِقْدًا: أرسل نظرات حاقدة كالنار في تأثيرها- {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [قرآن]) (*) قدَح ذهنَه في الأمر/قدَح زنادَ فكره في الأمر: فكَّر فيه طويلًا، استغرق في التفكير وأمعن فيه.

* قدَح في شهادته: شكّك فيها، أو اعتبرها باطلة (قدح في نسَبِه/عِرْضِه/نتائج الانتخابات).

اقتدحَ/اقتدحَ ب يقتدح، اقْتِداحًا، فهو مُقْتَدِح، والمفعول مُقْتدَح.

* اقتدح الأمرَ: تدبَّره ونظر فيه.

* اقتدح بالزَّنْدِ: ضرب به حَجَرًا لتخرج النارُ منه.

قادحَ يقادح، مُقادحَةً، فهو مُقادِح، والمفعول مُقادَح.

* قادحَه: بادله القَدْح (عندما أغضبه قادحه- قادَحه لأنّه يمقته).

قَدْح [مفرد]: مصدر قدَحَ/قدَحَ في.

قَدَح [مفرد]: جمعه أَقْداح:

1 - إناء أو كوب من الخزف أو الزُّجاج وغيره يُشرب فيه (قَدَحٌ من القهوة يساعد على التركيز).

2 - مِكْيال تُكال به الحبوبُ، مختلف باختلاف البلدان.

قِدْح [مفرد]: جمعه أَقْداح وقِداح:

1 - سَهْم المَيْسِر.

2 - نصيب (*) له القِدْح المُعَلَّى: له النَّصيب الأوفر.

قدَّاح [مفرد]: صانع الأقداح.

قَدَّاحَة [مفرد]:

1 - اسم آلة من قدَحَ/قدَحَ في: ولاّعة؛ أداة صغيرة من مَعْدِن ذات حجر وزنادٍ وشريط تشتعل بالبنزين ونحوه.

2 - حديدة أو حجر الزّند التي يُقدح بها لتخرج النَّار.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


3-التوقيف على مهمات التعاريف (المطلقة الاعتبارية)

المطلقة الاعتبارية: الماهية التي اعتبرها المعتبر ولا تحقق لها في نفس الأمر.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


4-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (فرض)

(فرض) - في صِفِةِ مَرْيَم - عليها السّلام -: "لم يَفْتَرضْها ولدٌ"

ذَكرَه القُتَبِيّ بالفَاءِ والضَّادِ المُعْجَمَة: أي لم يَحُزَّها ولم يُؤَثِّر فيها.

- وفي حديث أَبِي بَكْر، رضي الله عنه: "في فَرِيضَةِ الصَّدقَة التي فَرضَها رسَولُ الله - صلى الله عليه وسلَّم -"

: أي فَرضَها الله تَعالَى في كِتابِه، ثم أَمرَ رسولَه - صلّى الله عليه وسلّم - بالتَّبْلِيغ، فأُضِيفَ الفَرْضُ إليه بمعنى الدُّعاءِ إليه.

وقد فَرضَ الله - سبحانه وتعالى - طَاعتَه على الخَلْق، فجَازَ أن يُسَمَّى أَمرُه فَرضًا على هذا.

وكان ابنُ الأعرابي يَقولُ: مَعنَى الفَرْضِ - ها هنا -: السُّنَّة. وقيل: الفَرضُ: الوَاجِبُ، والسُّنَّة كالقِراءَة.

والأَشبَه أن يُقال - ها هُنا -: الفَرْض بمعْنَى التَّقْدِير.

: أي قَدَّر صَدَقَة على كلّ شيء، وسَنَّه عن أمرِ الله - عز وجل - إيّاه ووَحْيِه إليه.

- في حديث عبدِ الله بن عُمَر - رضي الله عنه -: "العِلمُ ثَلاثَة؛ منها: فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ"

يَعني: العَدلَ في القِسْمَة، فتكون مُعدَّلةً على السِّهام والأَنْصِباء المذكورة في الكِتابِ والسُّنَّة.

وقيل: مُستَنْبَطة من الكتاب والسُّنَّة. وتكون هذه الفَرِيضَة - وإن لم يُنَصَّ عليها في الكتاب والسنة - تَعدِل بما أُخِذ عَنْهُما، إذْ كانَت في مَعنَى ما أُخِذ مِنْهما.

كما قال زَيدُ بنُ ثَابِت - رضي الله عنه -: "في زَوجٍ وأبوَين: للأم ثُلثُ ما يَبْقَى بعد فَرْض الزَّوجِ، أَقولُه برأي لا أُفضِّل أُمًّا على أبٍ، فَهَذَا من باب تَعدِيلِ الفريضة، لِمَا لم يَكُنِ فيها نَصٌّ اعْتَبَرها بالمَنصُوص عليه؛ وهو قوله تعالى: {وَوَرِثَه أَبَواه فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ}، فلو أَعطاهَا ثُلُثَ المَالِ كان للأَبِ السُّدسُ، فيكون خِلافًا للنَّصِّ.

وقال عَبدُ الله بن عُرْوَة: "الفَرِيضَةُ العَادِلَةُ: ما اتَّفَق عليه المُسلِمُون

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


5-معجم النحو (ألف التأنيث المقصورة)

ألف التّأنيث المقصورة: ألف التّأنيث تختصّ بالأسماء وتنقسم إلى قسمين: مقصورة، وهي: ألف مفردة لازمة قبلها فتحة نحو «ليلى» و «سعدى» وممدودة، وهي: ألف قبلها ألف، فتقلب الثانية همزة ك «أسماء» و «حسناء» (ألف التّأنيث الممدودة).

ولكل منهما أوزان نادرة لا نتعرّض لها، وأوزان مشهورة، وهي التي نتكلم عليها.

مشهور أوزان ألف التأنيث المقصورة اثنا عشر وزنا وهي:

(1) «فعلى»، بضم ففتح ك «أربى”

للدّاهية و «رحبى وجنفى وشعبى» لمواضع و «أرنى» لحبّ يجبن به اللبن و «جعبى» لكبار النمل.

(2) «فعلى» بضم فسكون، اسما ك «بهمى» لنبت، أو صفة ك «حبلى» و «فضلى»، أو مصدرا ك «رجعى» و «بشرى».

(3) «فعلى» بفتحات، اسما كان ك «بردى» لنهر دمشق، أو مصدرا ك «مرطى وبشكى وجمزى» أو صفة ك «حيدى»

(4) «فعلى» بفتح فسكون بشرط أن يكون إمّا جمعا ك «قتلى وجرحى» أو مصدرا ك «دعوى ونجوى» أو صفة ك «سكرى وكسلى وسيفى» مؤنثات «سكران وكسلان وسيفان».

فإن كان اسما ك «أرطى» وعلقى» فهو صالح لأن تكون ألفه للتأنيث أو للإلحاق، فمن نون اعتبرها للإلحاق، ومن لم ينوّن جعلها للتأنيث.

(5) «فعالى» بضم أوله، سواء أكان اسما ك «حبارى وسمانى» لطائرين أم جمعا ك «سكارى» أو صفة، ك «علادى» للشديد من الإبل.

(6) «فعّلى» بضم الفاء وتشديد العين مفتوحة ك «سمّهى» اسم للباطل.

(7) «فعلّى» بكسر أوّله وفتح ثانيه، وتشديد ثالثه مفتوحا ك «سبطرى» و «دفقّى» لنوعين من السّير.

(8) «فعلى» بكسر فسكون إمّا مصدرا ك «ذكرى» أو جمعا ك «حجلى» جمع حجل اسم لطائر و «ظربى» جمعا لظربان اسم لدويّبة كالهرة رائحتها كريهة، ولا ثالث لهما في الجموع، وإذا لم يكن جمعا ولا مصدرا فألفه إمّا أن تكون للتأنيث، وذلك إذا لم ينوّن نحو {قِسْمَةٌ ضِيزى} أي جائزة أو للإلحاق إذا نوّن نحو «عزهى» اسم لمن لا يلهو.

(9) «فعّيلى» بكسر أوله وثانيه مشددا، ولم يجئ إلّا مصدرا نحو «حثّيثى» و «خلّيفى» و «خصّيصى و «فخّيرى» وهي أسماء للحث والخلافة والاختصاص والفخر.

(10) «فعلّى» بضمّ أوّله وثانيه وتشديد ثالثه نحو «كفرّى» لوعاء الطّلع و «حذرّى» من الحذر و «بذرّى» من التبذير.

(11) «فعّيلى» بضمّ أوّله، وفتح ثانيه مشدّدا ك «خلّيطى» للاختلاط، و «لغّيزى» للغز و «قبّيطى» لنوع من الحلوى يسمّى بالنّاطف.

(12) «فعّالى» بضمّ أوّله وتشديد ثانيه نحو «شقّارى» و «خبّازى» لنبتين و «خضّارى» لطائر.

معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م


6-المعجم المفصل في النحو العربي (إذ)

إذ

تأتي «إذ» على وجوه منها:

أولا: هي ظرف لما مضى من الزّمان وتضاف دائما، وتكون إضافتها إمّا إلى الجملة الفعليّة، كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها} وإمّا إلى الجملة الاسمية كقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} وقد تحذف الجملة المضافة إليها ويعوّض منها بتنوين العوض، كقوله تعالى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} حيث حذفت جملة المضاف إليه وعوّض منها بالتّنوين والتّقدير: يوم إذ نفخ في الصور فلا... وتعرب «إذ» على أربعة وجوه:

1 ـ الغالب أن تكون ظرف زمان كقوله تعالى: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} «إذ» ظرف مبني على السّكون في محل نصب على الظرفيّة وهو مضاف والجملة الفعلية «أخرجه الذين كفروا» في محل جرّ بالإضافة.

2 ـ هي مفعول به، كقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} «إذ» مفعول به لفعل «اذكروا» مبني على السّكون في محل نصب وهو مضاف وجملة «كنتم قليلا» في محل جرّ بالإضافة، ومن النّحاة من يعتبر أنّ كلمة «إذ» التي تذكر في أوائل القصص المذكورة في القرآن الكريم هي مفعول به لفعل محذوف تقديره «اذكر» كقوله تعالى: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فالتّقدير: واذكر إذ قال ربّك، فتكون «إذ» مفعولا به لفعل «اذكر» وكقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} والتّقدير: واذكروا إذ قلنا وكقوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ويرى بعضهم أنّ «إذ» ليست مفعولا به لفعل «اذكر» المحذوف بل هي ظرف له، ويقول ابن هشام ذلك وهم فاحش، لاقتضائه، حينئذ، الأمر بالذّكر في ذلك الوقت مع أن الأمر للاستقبال، وذلك الوقت قد مضى قبل تعلّق الخطاب بالمكلّفين منّا، وإنّما المراد ذكر الوقت نفسه لا الذّكر فيه.

3 ـ هي بدل من المفعول به، كقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا} فتكون «إذ» بدلا من «مريم» مبنيّ على السّكون في محل نصب وهو مضاف وجملة «انتبذت» في محلّ جرّ بالإضافة.

4 ـ هي مضاف إليه، والمضاف اسم زمان صالح للاستغناء عنه، مثل: «يوم»، و «بعد»، كما في قوله تعالى: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا} «إذ» في محلّ جرّ بالإضافة والمضاف «بعد». وكقوله تعالى: {يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} «يوم»: مضاف و «إذ» مضاف إليه مبني على السّكون في محلّ جرّ. وفي هذه الحالة تنوّن «إذ» وتنوينها يكون عوضا من الجملة المحذوفة الواقعة مضافا إليه، وتوصل بالظرف الذي قبلها فكأنها تؤلف معه كلمة واحدة فتكتب «يومئذ».

وكلمة «إذ» هي اسم بدليل مجيئها مضافة، ومضافا إليها، كالأمثلة السّابقة، وبدليل تنوين العوض الذي يلحقها لا تنوين الترنّم، وبدليل كونها بدلا من الاسم السّابق كما جاء في الآية: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} (8).

ثانيا: هي أداة شرط لكنّها تكون مقرونة بـ «ما» فتصير: «إذ ما»، لأنها إذا تجردّت من «ما» تضاف إلى ما بعدها، والإضافة من خصائص الأسماء فلا تكون أداة جزم، فدخول «ما» عليها كفّها عن الإضافة، ونسب لها عملا جديدا ومعنى.

وبتركيبها مع «ما» عدّت من الحروف الرّباعية وهي بذلك حرف شرط يجزم فعلين، يسمّى الأول منهما فعل الشرط والثّاني جوابه، أو جزاؤه، ومنهم من أبقاها على اسميتها رغم تركيبها، وأن مدلولها يعتبر للزّمان المستقبل، ومنهم من اعتبرها اسما قبل تركيبها، لأنها تدل على وقت مضى ولأنّها مساوية للاسم في التنوين والإضافة، ووقوعها موقع المفعول فيه، والمفعول به، وأمّا بعد التّركيب فأصبح مدلولها المجازاة وهو من معاني الحروف، ولم تعد تساوي الأسماء في دلالتها كما سبق، وفي تركيبها، قال الشاعر:

«إذ ما أتيت على الرّسول فقل له ***حقا عليك إذا اطمأنّ المجلس»

حيث خلصت «إذ ما» للحرفية والمجازاة فتعرب جملة «أتيت» فعلا للشرط وجملة «قل» هي جواب الشرط وجزاؤه.

ثالثا: «إذ» هي على رأي أبي عبيدة وابن قتيبة زائدة، وهي التي تبدأ بها الآيات القرآنية في قصص القرآن الكريم، فاعتبرا أنها في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} زائدة، ويردّ الجمهور قولهما بأنها واقعة مفعولا به لفعل محذوف تقديره: «اذكر».

رابعا: «إذ» هي بمعنى «قد» ففسر بعضهم قوله تعالى السّابق: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}: قد قلنا للملائكة... وردّ قولهم الجمهور بأنها مفعول به.

خامسا: هي مضاف إليه والمضاف ظرف يمكن الاستغناء عنه ويلحقها تنوين العوض الذي يأتي عوضا عن الجملة المحذوفة وتكتب «إذ» موصولة بما قبلها وما بعدها فتصير: «يومئذ»، «ساعتئذ»، «وقتئذ»، كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} والتّقدير: يوم إذ تقوم الساعة يتفرّقون وتكون «إذ» مضافا إليه وهي مضاف والجملة المحذوفة والمعوّض عنها التّنوين في محل جرّ بالإضافة.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


7-المعجم المفصل في النحو العربي (أيمن)

أيمن

كلمة تستعمل في القسم ذهب بعضهم على أنها حرف جرّ. وقال الجمهور من النّحاة إنها اسم. أما همزتها فمنهم من اعتبرها همزة قطع، فقال الكوفيّون هو جمع «يمين» وهمزته في الأصل همزة قطع ثم تحوّلت إلى وصل لكثرة الاستعمال وذهبوا في ذلك إلى أنّ همزة الوصل تكون مفتوحة دائما في الأسماء، وهمزة «ايمن» مفتوحة، وإلى أنّ «أفعل» بناء جمع ولا يوجد في الآحاد. ورأى البصريّون أنه اسم مفرد مشتق من «اليمن» وهمزته للوصل ومفتوحة. وهو الرأي الأقرب إلى الصواب.

أما رأي الكوفيّين فهو مردود للأسباب التالية:

1 ـ أن همزة «أيمن» جمع «يمين» هي همزة قطع، همزة «أيمن» همزة وصل ولم يعرف عن العرب أنهم حوّلوا همزة القطع إلى همزة وصل.

2 ـ من العرب من يكسر الهمزة في الابتداء، وهمزة الجمع لا تكون مكسورة.

3 ـ من لغات العرب فتح «ميم» «أيمن» فتصير على وزن: «أفعل» ولا وجود لهذا الوزن في الجمع.

4 ـ لو كان لفظ «أيمن» جمع «يمين» لجاز فيه النّصب والجرّ ككلمة «يمين» ورأى الجمهور في إعراب «ايمن» أنه اسم يقع مبتدأ دائما، ورأى ابن درستويه جرّه بواو القسم فقال: «وايمن الله» وقد تدخل عليه لام الابتداء ويكون في الغالب مضافا إلى اسم الجلالة، وقد يضاف إلى كلمة «الكعبة» فقالو: «ايمن الكعبة»، وقد يضاف إلى الكاف كقول عروة بن الزبير: «ليمنك لئن ابتليت لقد عافيت» وقد تضاف إلى «الذي» كما في قول النبي (صلّى الله عليه وسلّم): «وايم الذي نفس محمد بيده» وأضيف إلى غير ذلك كلّه في الشّعر مثل: «ليمن أبيهم لبئس العذرة اعتذروا». وفي «ايمن» لغات عدة منها: أيمن، إيمن، إيمن، ايمن، ايم، ايم، إم، إم، إم، آم، آم، آم، من، من، من، م، م، م، هيم، إيم.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


8-المعجم المفصل في النحو العربي (التاء)

التّاء

هي الحرف الثالث من حروف الهجاء في التّرتيب الألفبائيّ، والثّاني والعشرون من التّرتيب الأبجدي، وتساوي في حساب الجمّل الرقم أربعمئة، يخرج هذا الحرف من طرف اللّسان وأصول الثّنايا العليا وهو حرف مهموس من الحروف النطعيّة.

كتابتها: وتكتب التاء مربوطة في المواضع التالية:

1 ـ في العلم المؤنث مما فوق الثلاثي، مثل: «فاطمة»، «عزيزة»، «خديجة»، وفي غير العلم مثل: «طاولة»، «مسطرة»، لأنه يمكننا أن نلفظها هاء.

2 ـ في جمع التكسير الذي لا ينتهي بتاء مفتوحة مثل: «قضاة» «حماة» «حفاة»، «عراة».

3 ـ في صفة المؤنّث، مثل: «قليلة»، «كثيرة»، «صغيرة»، «كبيرة».

4 ـ وتكتب مربوطة في ثمّة.

أما «التّاء» الطّويلة فتكتب في المواضع التالية:

1 ـ في الاسم الثلاثيّ السّاكن الوسط الذي ينتهى بتاء يوقف عليها بالسّكون مثل: «بيت» «بنت» «نبت» «قوت».

2 ـ في الاسم غير الثّلاثي المذكّر، مثل: «سبات» «نبات» «ثبات» «بيات».

3 ـ في جمع المؤنّث السّالم، مثل: ««شجرات»، «فتيات»، «بنات»، «طاولات».

4 ـ في الحروف، مثل: «ليت»، «لات»، «ثمّت»، «ربّت»، «لعلّت».

5 ـ اسم العلم الأعجمي المنتهي بتاء، مثل: «بونابرت»، «زرادشت» «شوكت».

6 ـ في جمع التكسير الذي ينتهي مفرده بتاء طويلة، مثل: «وقت» «أوقات»، «بيت» «أبيات» «بنت» «بنات».

7 ـ في الاسم المفرد المنتهي بتاء قبلها «واو» مثل: «عنكبوت» «ملكوت» أو قبلها «ياء» مثل: «كبريت».

حذفها: وقد حذفت التاء في مواضع كثيرة أهمها:

1 ـ تحذف من الفعل الذي ينتهي بتاء إذا أسند إلى تاء الضمير، مثل: «مات» «متّ» «فات» «فتّ»، «بات» «بتّ».

2 ـ تحذف من أوّل المضارع إذا اتّصل بتاء المضارع، مثل: «تناول» «تتناول» «تناول» «تلوّن» «تتلوّن» «تلوّن».

واختلف النّحاة حول «التّاء» المحذوفة من أوّل المضارع، أهي تاء المضارعة أم التاء الأصليّة، فقال الكوفيون ان التاء المحذوفة هي تاء المضارعة لأنها زائدة، والزّائد أولى بالحذف من الأصلي، والأصليّ أقوى من الزّائد.

ورأى البصريون أن المحذوف هي «التاء» الأصليّة لأن تاء المضارعة دخلت على الفعل لتدلّ على مضارعيّته، أمّا الأصليّة فلا تفيد معنى فحذفها هو الأولى. وردّ رأي الكوفيين بالحجّة المقنعة أن «التاء» الدّاخلة على المضارع على نوعين نوع جاء لمعنى وليس الأصلي أقوى منه، ونوع لم يأت لمعنى والأصلي بالطبع أقوى منه، فإذا كانت تاء المضارعة جاءت لمعنى، فابقاؤها وحذف التاء الأصليّة هو الأولى، ولأن حذف تاء المضارعة يذهب المعنى الذي جاءت من أجله.

كما أثبتوا التنوين الذي جاء لمعنى في الاسم المنقوص والمقصور وحذفوا الياء من قولك: «جاء قاض» والأصل «جاء قاضي» فلما حذفت الضّمّة لثقلها على الياء بقي التّنوين ساكنا «والياء» ساكنة فحذفوا «الياء» لأنها لم تأت لمعنى وأبقوا التّنوين الذي جاء لمعنى.

زيادتها: تزاد «التّاء» في بنية الكلمة في المواضع التالية:

1 ـ في أول المضارع مثل: «ذهب» «تذهب»، «دحرج» «تدحرج» «انطلق» «تنطلق».

2 ـ في أول الفعل الذي يبنى للمطاوعة، مثل: «كسر» «تكسّر»، «مزّق» «تمزّق»، «دحرج» «تدحرج».

3 ـ في صيغة «تفاعل» مثل: «ضرب» «تضارب»، «قتل» «تقاتل»، «غفل» «تغافل»، «جهل» «تجاهل».

4 ـ في صيغة «افتعل»، مثل: «قتل» «اقتتل»، «قرب» «اقترب»، وفي صيغة «استفعل»، مثل: ««قدم» «استقدم»، «خرج» «استخرج».

5 ـ في ضمائر الرّفع المنفصلة التي تفيد الخطاب، مثل: أنت، أنتما، أنتم، أنت، أنتما، أنتنّ، عند رأي من يقول ذلك ويعتبر «أن» هي الضّمير.

6 ـ تزاد في آخر الماضي دلالة على تأنيثه، مثل: «أكلت البنت» «وشربت الدّواء».

7 ـ وتزاد في أول «الآن» عند رأي من يقول ذلك، كقول الشاعر:

«نوّلي قبل نأي دار جمانا***وصلينا كما زعمت تلانا»

ومن النّحاة من اعتبرها زائدة في أوّل كلمة «أوان» المسبوقة بـ «لا» كقول الشاعر:

«طلبوا صلحنا ولا تأوان ***فأجبنا أن ليس حين بقاء»

ومنهم من اعتبر أن «التّاء» هي جزء من «لات» التي هي من أخوات ليس، فذكر البيت كما يلي:

«طلبوا صلحنا ولات أوان ***فأجبنا أن ليس حين بقاء»

8 ـ وتأتي زائدة من غير قياس في أول الكلمات التالية: «تمثال»، و «تمساح» و «تبيان».

وفي آخر الكلمات التّالية: «ملكوت»، «جبروت»، «عشتروت»، «طاغوت» «عنكبوت»، «عفريت»، كما تزاد في أوّل وآخر الكلمات

التّالية: «ترنموت» (لترنّم القوس) على وزن «تفعلوت».

إبدالها: وجاءت التاء بدلا في المواضع التالية:

أولا: إبدالها من الواو: تبدل «التاء» من «الواو» في غير قياس في الكلمات التالية: «تجاه» من «الوجه» وزن «فعال»، «تراث» من «ورث» على وزن «فعال»، «تقيّة» من «وقيت» على وزن «فعلية». و «التقوى» على وزن «فعلى» و «تقاة» على وزن «فعلة». و «توراة» من «ورى» على وزن «فوعلة» «تولج» من الولوج على وزن «فوعل».

و «تخمة» من الوخامة على وزن «فعلة» و «تكأة» من توكّأت على وزن «فعلة» و «تكلان» من «توكلّت» على وزن «فعلان» وقالوا: «أتلجه» أي: «أولجه» على وزن أفعله وفي المشتق منه «متلج» و «أتكأه» وما اشتق منه وأبدلت في كلمة «التّليد» و «التّلاد» من «ولد» وفي «تترى» من المواترة على وزن «فعلى» وفي «أخت» و «بنت» من «الأخوّة» و «البنوّة» وفي «هنت» لأنها تجمع على «هنوات» وقياسا تبدل التاء من «الواو» في الفعل الواويّ الفاء على وزن «افتعل» فتقول من «وعد» «اوتعد» وبقلب «الواو» تاء «اتّعد» وبالإدغام للمثلين «اتّعد» ومثلها «وزن»«اوتزن» «اتتزن» «اتّزن» ما اشتق من هذه الأفعال فنقول: «يتّعد» و «اتّعاد»، «يتّزن» و «اتّزان» «يتّلج» و «اتّلاج». واعتبر بعض النّحاة تاء القسم مبدلة من واوه.

إبدالها من الياء: تبدل التّاء من «الياء» قياسا في الفعل اليائيّ الفاء على وزن «افتعل»، تقول في اليسر في المضارع على وزن «افتعل» «ايتسر» وبقلب «الياء» إلى «تاء» «اتتسر» وبإدغام المثلين «اتّسر» ومثلها «يبس» «ايتبس اتتبس اتّبس». وتبدل على غير قياس من «ثنتان» لأنها من الفعل «ثنّيت».

إبدالها من السّين: وتبدل السّين «تاء» من غير قياس في كلمة «ست» والأصل، «سدس» وفي التّصغير «سديسة».

إبدالها من الصّاد: وتبدل «الصّاد» «تاء» في «لصت» و «لصوت» والأصل: «لصّ» و «لصوص». لكثرة استعمالها بالصّاد.

إبدالها من الطّاء: وتبدل «الطاء» «تاء»، في كلمة «فسطاط» فتصير «فستاط» بدليل الجمع في فساطيط كما تبدل في «استاع» و «يستيع» والأصل: «اسطاع» و «يسطيع».

إبدالها من الدّال: وتبدل «الدّال» «تاء» في قولهم: ناقة «تربوت» فتقول: «ناقة تربوت» والأصل: «دربوت» من الدّربة.

إبدالها من الهمزة: وأبدلت الهمزة «تاء» كما في قول الشاعر:

«نوّلي قبل نأي دار جمانا***وصلينا كما زعمت تلانا»

والأصل: الآن. وزيدت في قولهم حسبك تلانا أي: حسبك الآن وزيدت «التاء» في غير قياس في «ربّت» والأصل: «ربّ» وفي «لات» والأصل: «لا». وفي «لعلّت» والأصل: «لعلّ».

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


9-المعجم المفصّل في الإعراب (أم)

أم ـ

تأتي على ثلاثة أوجه:

أ ـ أم المتّصلة:

وهي التي توصل ما قبلها بما بعدها بحيث لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر، وتقع بعد:

1 ـ همزة التسوية الداخلة على جملة مؤولة بمصدر، وتكون الجملتان ما قبلها وما بعدها فعليتين، نحو قوله تعالى: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، أو اسميتين، نحو قول الشاعر:

«ولست أبالي بعد فقدي مالكا***أموتي ناء أم هو الآن واقع»

2 ـ همزة استفهام يطلب بها وب «أم» التعيين، نحو: «أخالد في المدرسة أم سالم»، وتعرب «أم» المتصلة حرف عطف مبنيّ على السكون لا محلّ له من الإعراب.

ب ـ أم المنقطعة:

وتكون على خلاف «أم» المتصلة حيث يستغنى بما قبلها عمّا بعدها، وهي مثل «بل» لا يفارقها الإضراب، وهي ثلاثة أنواع.

1 ـ أن تسبق بالخبر المحض، نحو قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ}.

2 ـ أن تسبق بهمزة للاستفهام الإنكاري، كقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها}.

3 ـ أن تسبق باستفهام بغير الهمزة، نحو قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ} وقد اختلف النحاة في «أم» المنقطعة فمنهم من اعتبرها عاطفة بمنزلة «بل»، ومنهم من اعتبرها ليست عاطفة لا في مفرد ولا في جملة.

ج ـ أم الزائدة:

وتأتي في نحو قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ}.

ف «أم» هنا زائدة.

المعجم المفصّل في الإعراب-طاهر يوسف الخطيب-صدر: 1412هـ/1991م


10-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (اليهودية)

اليهودية

التعريف:

اليهودية: هي ديانة العبرانيين المنحدرين من إبراهيم عليه السلام والمعروفين بالأسباط من بني إسرائيل الذي أرسل الله إليهم موسى عليه السلام مؤيدًا بالتوراة ليكون لهم نبيًّا. واليهودية ديانة يبدو أنها منسوبة إلى يهود الشعب. وهذه بدورها قد اختلف في أصلها. وقد تكون نسبة إلى يهوذا أحد أبناء يعقوب وعممت على الشعب على سبيل التغليب.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

موسى عليه السلام: رجل من بني إسرائيل، ولد في مصر أيام فرعونها رمسيس الثاني على الأرجح 1301ـ 1234 ق.م وقد تربى في قصر هذا الفرعون بعد أن ألقته أمه في النهر داخل تابوت عندما خافت عليه من فرعون، الذي كان يقتل أبناء بني إسرائيل. ولما شبَّ قتل مصريًّا مما دفعه للهرب إلى مدين حيث عمل راعيًا لدى شيخ صالح هناك قيل أنه شعيب عليه السلام الذي زوجه إحدى ابنتيه.

ـ في طريق عودته إلى مصر أوحى الله إليه في سيناء بالرسالة، وأمره أن يذهب هو وأخوه هارون إلى فرعون لدعوته ولخلاص بني إسرائيل، فأعرض عنهما فرعون وناصبهم العداء، فخرج موسى ببني إسرائيل وقد كان ذلك سنة 1213ق.م في عهد فرعونها منفتاح الذي خلف أباه رمسيس الثاني، ولحق بهم هذا الفرعون، لكن الله أغرقه في اليم، ونجَّى موسى وقومه.

ـ في صحراء سيناء صعد موسى الجبل ليكلم ربه وليستلم الألواح، لكنه لما عاد وجد غالب قومه قد عكفوا على عجل من ذهب صنعه لهم السامري فزجرهم موسى، ولما أمرهم بدخول فلسطين امتنعوا عليه وقالوا له: (إنّ فيها قومًا جبارين وإنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإنْ يخرجوا منها فإنّا داخلون). (المائدة: 22) فلما حاورهم رجال من بني جلدتهم في ذلك قالوا لموسى: (إنّا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون). (المائدة: 24)، هنا دعا موسى على قومه: (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين). (المائدة: 25). فغضب الله عليهم وتركهم يتيهون في الصحراء أربعين سنة مات خلالها موسى ودفن في كثيب أحمر دون أن يدخل فلسطين.

ـ مات كذلك أخوه هارون ودفن في جبل هور، ويذكر المؤرخون أن الذين كانوا مع موسى ماتوا كلهم في التيه، باستثناء اثنين كان يوشع أحدهما.

يوشع بن نون: تولى القيادة بعد موسى، ودخل ببني إسرائيل عن طريق شرقي الأردن إلى أريحا، وقد مات يوشع سنة 1130ق.م.

تم تقسيم الأرض المفتوحة بين الإثني عشر سبطًا، الذين كان يحكمهم قضاة من الكهنة، وقد ظهرت فيهم خلال ذلك قاضية اسمها دبورة، واستمر هذا العهد العشائري البدائي حوالي قرن من الزمان حسب تقدير المؤرخين.

آخر القضاة صموئيل شاءول صار ملكًا عليهم وهو الذي يسميه القرآن طالوت، وهو الذي قادهم في معارك ضارية ضد من حولهم، وكان داود واحدًا من جنوده، وفي إحدى المعارك تغلب داود على جالوت قائد الفلسطينيين ومن هنا برز داود النبي القائد. داود عليه السلام أصبح الملك الثاني فيهم، وقد بقي الملك في أولاده وراثيًّا، واتخذ من أورشليم (القدس) عاصمة ملكه مشيدًا الهيكل المقدس، ناقلًا إليه التابوت، وقد دام حكمه أربعين سنة.

سليمان بن داود عليهما السلام: خلف أباه، وقد علا نجمه حتى إنه صاهر فرعون مصر شيشنق ودانت له سبأ، لكن ملكه انكمش بعد مماته مقتصرًا على غرب الأردن.

رحبعام: الذي صار ملكًا سنة 935 ق.م إلا أنه لم يحظ بمبايعة الأسباط، فمال عنه بنو إسرائيل إلى أخيه يربعام، مما أدى إلى انقسام المملكة إلى قسمين:

ـ شمالية اسمها إسرائيل وعاصمتها شكيم.

ـ جنوبية اسمها يهوذا وعاصمتها أورشليم.

ـ حكم في كل من المملكتين 19 ملكًا، واتصل المُلك في ذرية سليمان في مملكة يهوذا فيما تنقل في عدد من الأسر في مملكة إسرائيل.

عاموس: نبي ظهر حوالي سنة 750 ق.م وهو أقدم أنبياء العهد القديم الذين وردت أقوالهم إلينا مكتوبة إذ عاش أيام يربعام الثاني 783ـ 743 ق.م.

وقع اليهود الإسرائيليون في سنة 721 ق.م تحت قبضة الآشوريين في عهد الملك سرجون الثاني ملك آشور فزالوا من التاريخ، وسقطت مملكة يهوذا تحت قبضة البابليين سنة 586 ق.م، وقد دمر نبوخذ نصر (بختنصر) أورشليم والمعبد وسبى اليهود إلى بابل وهذا هو التدمير الأول.

أشعيا: عاش في القرن الثامن ق.م وقد كان من مستشاري الملك حزقيال ملك يهوذا 729ـ 668 ق.م.

أرميا: 650ـ 580 ق.م ندد بأخطاء قومه، وقد تنبأ بسقوط أورشليم، ونادى بالخضوع لملوك بابل مما جعل اليهود يضطهدونه ويعتدون عليه.

حزقيال: ظهر في القرن السادس قبل الميلاد، قال بالبعث والحساب وبالمسيح الذي سيجيء من نسل داود ليصبح ملكًا على اليهود، وقد عاصر فترة سقوط مملكة يهوذا، أبعد إلى بابل بعد استسلام أورشليم.

دانيال: أعلن مستقبل الشعب الإسرائيلي إذ كان مشتهرًا بالمنامات والرؤى الرمزية، وقد وعد شعبه بالخلاص على يد المسيح.

سنة 538 ق.م احتل قورش ملك الفرس بلاد بابل وقد سمح لهم قورش بالعودة إلى فلسطين، ولكن لم يرجع منهم إلا القليل.

في سنة 320 ق.م آل الحكم في فلسطين إلى الإسكندر الأكبر ومن بعده إلى البطالمة.

اكتسح الرومان فلسطين سنة 63 ق.م. واستولوا على القدس بقيادة بامبيوس.

وفي سنة 20 ق.م بني هيرودس هيكل سليمان من جديد، وقد ظل هذا الهيكل حتى سنة 70 م حيث دمر الإمبراطور تيطس المدينة وأحرق الهيكل، وهذا هو التدمير الثاني. وقد جاء أوريانوس سنة 135م ليزيل معالم المدينة تمامًا ويتخلص من اليهود بقتلهم وتشريدهم، وقد بنى هيكلًا وثنيًّا (اسمه جوبيتار) مكان الهيكل المقدس، وقد استمر هذا الهيكل الوثني حتى دمره النصارى في عهد الإمبراطور قسطنطين.

ـ في سنة 636م فتح المسلمون فلسطين وأجلوا عنها الرومان، وقد اشترط عليهم صفرونيوس بطريرك النصارى أن لا يسكن المدينة أحد من اليهود.

ـ في سنة 1897م بدأت الحركة الجديدة لليهود تحت اسم الصهيونية، لبناء دولة إسرائيل على أرض فلسطين (يراجع بحث الصهيونية).

الأفكار والمعتقدات:

الفِرَق اليهودية:

ـ الفريسيون: أي المتشددون، يسمون بالأحبار أو الربانيين، هم متصوفة رهبانيون لا يتزوجون، لكنهم يحافظون على مذهبهم عن طريق التبني، يعتقدون بالبعث والملائكة وبالعالم الآخر.

ـ الصدقيون: وهي تسمية من الأضداد لأنهم مشهورون بالإنكار، فهم ينكرون البعث والحساب والجنة والنار وينكرون التلمود، كما ينكرون الملائكة والمسيح المنتظر.

ـ المتعصبون: فكرهم قريب من فكر الفريسيين لكنهم اتصفوا بعدم التسامح وبالعدوانية، قاموا في مطلع القرن الميلادي الأول بثورة قتلوا فيها الرومان، وكذلك كلَّ من يتعاون من اليهود مع هؤلاء الرومان فأطلق عليهم اسم السفَّاكين.

ـ الكتبة أو النَّساخ: عرفوا الشريعة من خلال عملهم في النسخ والكتابة، فاتخذوا الوعظ وظيفة لهم، يسمون بالحكماء، وبالسادة، وواحدهم لقبه أب، وقد أثروا ثراءً فاحشًا على حساب مدارسهم ومريديهم.

ـ القرّاءون: هم قلة من اليهود ظهروا عقب تدهور الفريسيين وورثوا أتباعهم، لا يعترفون إلا بالعهد القديم ولا يخضعون للتلمود ولا يعترفون به بدعوى حريتهم في شرح التوراة.

ـ السامريون: طائفة من المتهوّدين الذين دخلوا اليهودية من غير بني إسرائيل، كانوا يسكنون جِبَالِ بيت المقدس، أثبتوا نبوة موسى وهارون ويوشع بن نون، دون نبوة من بعدهم. ظهر فيهم رجل، يقال له الألفان، ادعى النبوة، وذلك قبل المسيح بمائة سنة. وقد تفرقوا إلى دوستانية وهم الألفانية، وإلى كوستانية أي الجماعة المتصوفة. وقبلة السامرة إلى جبل يقال له غريزيم بين بيت المقدس ونابلس، ولغتهم غير لغة اليهود العبرانية.

ـ السبئية: هم أتباع عبد الله بن سبأ الذي دخل الإسلام ليدمره من الداخل، فهو الذي نقل الثورة ضد عثمان من القول إلى العمل مشعلًا الفتنة، وهو الذي دسَّ الأحاديث الموضوعة ليدعم بها رأيه، فهو رائد الفتن السياسية الدينية في الإسلام.

كتبهم:

ـ العهد القديم: وهو مقدس لدى اليهود والنصارى إذ أنه سجلٌ فيه شعر ونثر وحكم وأمثال وقصص وأساطير وفلسفة وتشريع وغزل ورثاء.. وينقسم إلى قسمين:

1ـ التوراة: وفيه خمسة أسفار: التكوين أو الخلق، الخروج، اللاوين، الأخبار، العدد، التثنية، ويطلق عليه اسم أسفار موسى.

2ـ أسفار الأنبياء: وهي نوعان:

أ) أسفار الأنبياء المتقدمين: يشوع، يوشع بن نون، قضاة، صموئيل الأول، صموئيل الثاني، الملوك الأول، الملوك الثاني.

ب) أسفار الأنبياء المتأخرين: أشعيا، إرميا، حزقيال، هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونان، يونس، ميخا، ناحوم، حَبَقّوق، صَفَنْيا، حجّى، زكريا، ملاخي.

ـ وهناك الكتابات وهي:

1 ـ الكتابات العظيمة: المزامير، الزبور، الأمثال، أمثال سليمان، أيوب.

2 ـ المجلات الخمس: نشيد الإنشاد، راعوت، المرائي، مرائي إرميا، الجامعة، أستير.

3ـ الكتب: دانيال، عزرا، نحميا، أخبار الأيام الأول، أخبار الأيام الثاني.

ـ هذه الأسفار السابقة الذكر معترف بها لدى اليهود، وكذلك لدى البروتستانت.

ـ أما الكنيسة الكاثوليكية: فتضيف سبعة أخرى هي: طوبيا، يهوديت، الحكمة، يسوع بن سيراخ، باروخ، المكابين الأول، المكابين الثاني. كما تجعل أسفار الملوك أربعة وأولها وثانيها بدلًا من سفر صموئيل الأول والثاني.

ـ استير ويهوديت: كل منهما أسطورة تحكي قصة امرأة تحت حاكم من غير بني إسرائيل حيث تستخدم جمالها وفتنتها في سبيل رفع الظلم عن اليهود، فضلًا عن تقديم خدمات لهم.

ـ التلمود: هو روايات شفوية تناقلها الحاخامات حتى جمعها الحاخام يوضاس سنة 150م في كتاب أسماه المشنا أي الشريعة المكررة لها في توراة موسى كالإيضاح والتفسير، وقد أتم الراباي يهوذا سنة 216م تدوين زيادات وروايات شفوية. وقد تم شرح هذه المشنا في كتاب سمي جمارا، ومن المشنا والجمارا يتكون التلمود، ويحتل التلمود عند اليهود منزلة مهمة جدًّا تزيد على منزلة التوراة.

أعيادهم:

ـ يوم الفصح: وهو عيد خروج بني إسرائيل من مصر، يبدأ من مساء 14 أبريل وينتهي مساء 21 منه ويكون الطعام فيه خبزًا غير مختمر.

ـ يوم التكفير: في الشهر العاشر من السنة اليهودية ينقطع الشخص تسعة أيام يتعبد فيها ويصوم وتسمى أيام التوبة، وفي اليوم العاشر الذي هو يوم التكفير لا يأكل فيه اليهودي ولا يشرب، ويمضي وقته في العبادة حيث يعتقد أنه تغفر فيه جميع سيئاته ويستعد فيه لاستقبال عام جديد.

ـ زيارة بيت المقدس: يتحتم على كل يهودي ذكر رشيد زيارة البيت المقدس مرتين كل عام.

ـ الهلال الجديد: كانوا يحتفلون لميلاد كل هلال جديد حيث كانت تنفخ الأبواق في البيت المقدس وتشعل النيران ابتهاجًا به.

ـ يوم السبت: لا يجوز لديهم الاشتغال في هذا اليوم لأنه اليوم الذي استراح فيه الرب كما يعتقدون. فقد اجتمعت اليهود على أن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض استوى على عرشه مستلقيًا على قفاه واضعًا إحدى رجليه على الأخرى ـ تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.

الإله:

ـ اليهود كتابيون موحدون وهذا الأصل.

ـ كانوا يتجهون إلى التعدد والتجسيم والنفعية مما أدى إلى كثرة الأنبياء فيهم لردهم إلى جادة التوحيد كلما أصابهم انحراف في مفهوم الألوهية.

ـ اتخذوا العجل معبودًا له بُعَيْد خروجهم من مصر، ويروي العهد القديم أن موسى قد عمل لهم حية من نحاس وأن بني إسرائيل قد عبدوها بعد ذلك، كما أن الأفعى مقدس لديهم لأنها تمثل الحكمة والدهاء.

ـ الإله لديهم سموه يهوه وهو ليس إلهًا معصومًا بل يخطئ ويثور ويقع في الندم وهو يأمر بالسرقة، وهو قاس، متعصب، مدمر لشعبه، إنه إله بني إسرائيل فقط وهو بهذا عدو للآخرين، ويزعمون أنه يسير أمام جماعة من بني إسرائيل في عمود من سحاب.

عزرا هو الذي أوجد توراة موسى بعد أن ضاعت، فبسبب ذلك وبسبب إعادته بناء الهيكل سمي عزرا ابن الله وهو الذي أشار إليه القرآن الكريم.

أفكار ومعتقدات أخرى:

ـ يعتقدون بأن الذبيح من ولد إبراهيم هو إسحاق المولود من سارة. والصحيح أنه إسماعيل.

ـ لم يرد في دينهم شيء ذو بال عن البعث والخلود والثواب والعقاب إلا إشارات بسيطة وذلك أن هذه الأمور بعيدة عن تركيبة الفكر اليهودي المادي.

ـ الثواب والعقاب إنما يتم في الدنيا، فالثواب هو النصر والتأييد، والعقاب هو الخسران والذل و الاستعباد.

ـ التابوت: وهو صندوق كانوا يحفظون فيه أغلى ما يملكون من ثروات ومواثيق وكتب مقدسة.

ـ المذبح: مكان مخصص لإيقاد البخور يوضع قدام الحجاب الذي أمام التابوت.

ـ الهيكل: هو البناء الذي أمر به داود وأقامه سليمان، فقد بني بداخله المحراب (أي قدس الأقداس) وهيَّأ كذلك بداخله مكانًا يوضع فيه تابوت عهد الرب.

ـ الكهانة: وتختص بأبناء ليفي (أحد أبناء يعقوب)، فهم وحدهم لهم حق تفسير النصوص وتقديم القرابين، وهم معفون من الضرائب وشخصياتهم وسيلة يتقرب بها إلى الله، فأصبحوا بذلك أقوى من الملوك.

ـ القرابين: كانت تشمل الضحايا البشرية إلى جانب الحيوان والثمار. ثم اكتفى الإله بعد ذلك بجزء من الإنسان وهو ما يقتطع منه في عملية الختان التي يتمسك بها اليهود إلى يومنا هذا فضلًا عن الثمار والحيوان إلى جانب ذلك.

ـ يعتقدون بأنهم شعب الله المختار، وأن أرواح اليهود جزء من الله، وإذا ضرب أممي (جوييم) إسرائيليًّا فكأنما ضرب العزة الإلهية، وأن الفرق بين درجة الإنسان والحيوان هو بمقدار الفرق بين اليهودي وغير اليهودي.

ـ يجوز غش غير اليهودي وسرقته وإقراضه بالربا الفاحش وشهادة الزور ضده وعدم البر بالقسم أمامه، ذلك أن غير اليهود في عقيدتهم كالكلاب والخنازير والبهائم، بل أن اليهود يتقربون إلى الله بفعل ذلك بغير اليهودي.

ـ يقول التلمود عن المسيح: إن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم بين القار والنار، وإن أمه مريم أتت به من العسكري باندارا عن طريق الخطيئة، وإن الكنائس النصرانية هي مقام القاذورات والواعظون فيها أشبه بالكلاب النابحة.

ـ بسبب ظروف الاضطهاد نشأت لديهم فكرة المسيح المنتظر كنوع من التنفيس والبحث عن أمل ورجاء.

ـ يقولون بأن يعقوب قد صارع الرب، وأن لوطًا قد شرب الخمر وزنى بابنتيه بعد نجاته إلى جبل صوغر، وأن داود قبيح في عين الرب.

ـ لقد فقدت توراة موسى بعد تخريب الهيكل أيام بختنصر فلما كتبت مرة ثانية أيام أرتحشتا ملك فارس جاءت محرفة عن أصلها، يقول الله تعالى: (يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًا مما ذكروا به).

ـ إن ديانتهم خاصة بهم، مقفلة على الشعب اليهودي.

ـ الولد الأكبر الذي هو أول من يرث وله حظ اثنين من إخوته، ولا فرق بين المولود بنكاح شرعي أو غير شرعي في الميراث.

ـ بعد الزواج تعد المرأة مملوكة لزوجها، ومالها ملك له، ولكن لكثرة الخلافات فقد أقر بعد ذلك أن تملك الزوجة رقبة المال والزوج يملك المنفعة.

ـ من بلغ العشرين ولم يتزوج فقد استحق اللعنة، وتعدد الزوجات جائز شرعًا بدون حد، فقد حدده الربانيون بأربع زوجات بينما أطلقه القراءون.

الجذور الفكرية والعقائدية:

عبادة العجل مأخوذة عن قدماء المصريين حيث كانوا هناك قبل الخروج، والفكر المصري القديم يعد مصدرًا رئيسيًّا للأسفار في العهد القديم.

أهم مصدر اعتمدت عليه أسفار العهد القديم هو تشريع حمورابي الذي يرجع إلى نحو سنة 1900 ق.م، وقد اكتشف هذا التشريع في سنة 1902م محفورًا على عمود أسود من الصخر وهو أقدم تشريع سامي معروف حتى الآن.

يقول التلمود بالتناسخ وهي فكرة تسربت لبابل من الهند فنقلها حاخامات بابل إلى الفكر اليهودي.

تأثروا بالفكر النصراني فتراهم يقولون: " تسبب يا أبانا في أن نعود إلى شريعتك، قربنا يا ملكنا إلى عبادتك وعد بنا إلى التوبة النصوح في حضرتك".

في بعض مراحلهم عبدوا آلهة البلعيم والعشتارت وآلهة آرام وآلهة صيدوم، وآلهة مؤاب وآلهة الفلسطينيين (سفر القضاء: 10/60).

الانتشار ومواقع النفوذ:

عاش العبريون في الأصل ـ في عهد أبيهم إسرائيل ـ في منطقة الأردن وفلسطين، ثم انتقل بنو إسرائيل إلى مصر ثم ارتحلوا إلى فلسطين ليقيموا هناك مجتمعًا يهوديًّا، ولكن نظرًا لانعزالهم واستعلائهم وعنصريتهم وتآمرهم، فقد اضطهدوا وشردوا، فتفرقوا في دول العالم فوصل بعضهم إلى أوروبا وروسيا ودول البلقان والأمريكتين وأسبانيا، بينما اتجه بعضهم إلى داخل الجزيرة العربية التي أجلوا عنها مع فجر الإسلام، كما عاش بعضهم في أفريقيا وآسيا.

منذ نهاية القرن الميلادي الماضي ما يزالون يجمعون أشتاتهم في أرض فلسطين تحرضهم على ذلك وتشجعهم الصهيونية والصليبية.

مما لا شك فيه أن اليهود الحاليين ـ الذين يبلغون حوالي خمسة عشر مليونًا ـ لا يمتون بصلة إلى العبرانيين الإسرائيليين القدماء المنحدرين من إبراهيم عليه السلام، إذ أنهم حاليًا أخلاط من شعوب الأرض المتهودين الذين تسوقهم دوافع استعمارية. أما الذين يرجعون إلى أصول إسرائيلية فعلًا هم اليوم ـ وفي إسرائيل بخاصة ـ يهود من الدرجة الدنيا.

ظهر لكثير من الباحثين في أمر التوراة، من خلال ملاحظة اللغات والأساليب وما تشتمل عليه من موضوعات وأحكام وتشاريع، أنها قد ألفت في عصور مختلفة وبأقلام مختلفة، وفي هذا يقول سبحانه عنهم: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) [سورة البقرة، آية: 79].

كما استطاع النقد الحديث أن يثبت تعارض نصوص التوراة والإنجيل مع الكثير من الحقائق العلمية المعاصرة، أما النقد الباطني لها فقد اعتبرها مجموعًا متنافرًا ـ كما يقول موريس بوكاي ـ وهذا يكفي لمن يريد التأكد بأن التوراة لا يمكن الاستناد إلى معطياتها لما اعتراها من تناقض وقصص مموهة بل وأشعار مشكوك في صحتها أيضًا.

يتضح مما سبق:

أن اليهودية هي ديانة العبرانيين المنحدرين من إبراهيم عليه السلام والمعروفين بالأسباط من بني إسرائيل " يعقوب عليه السلام ". وقد أرسل الله تعالى إليهم موسى عليه السلام مؤيدًا بالتوراة ليكون لهم نبيًا. واليهود ينقسمون إلى فرق هي: الفريسيون وهم يعتقدون بالبعث والملائكة وبالعالم الآخر. الصدقيون وهم ينكرون التلمود والملائكة والمسيح المنتظر. والمتعصبون ويتصفون بالعدوانية. والكتبة أو النساخ وقد عرفوا الشريعة من خلال عملهم في الكتابة وقد أثروا على حساب مدارسهم ومريديهم. والقراءون وهم لا يعترفون إلا بالعهد القديم ولا يخضعون للتلمود. والسامريون وهم طائفة من المتهودين من غير بني إسرائيل. والسبئية وهم أتباع عبد الله بن سبأ الذي دخل الإسلام ليدمره من الداخل.

وكتبهم هي العهد القديم وهو ينطوي على شعر ونثر وحكم وأمثال وقصص وأساطير وفلسفة وتشريع وغزل ورثاء، وينقسم إلى التوراة وأسفار الأنبياء بنوعيها. وهناك التلمود وهو روايات شفوية جمعت في كتاب اسمه المشنا أي الشريعة المكررة، وقد شرحت المشنا في كتاب اسمه جمارا.

اليهود من حيث الأصل كتابيون موحدين، غير أنهم اتجهوا إلى التعدد والتجسيم والنفعية فكثر أنبياؤهم، وقد عبدوا العجل وقدسوا الأفعى. وقد تأكد أن التوراة ألفت في عصور مختلفة وبأقلام مختلفة، ولذا فإن كثيرًا من نصوصها تعارض الحقائق العلمية المعاصرة، كما يعارض بعضها بعضًا.

(page)

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


11-معجم القواعد العربية (الإلحاق)

الإلحاق:

هو أن يزاد في كلمة حرف أو أكثر لتصير على مثال كلمة أخرى في عدد حروفها وسكناتها، وحينئذ يعامل في الوزن والتّصريف معاملة بناء آخر، مشهور في الاستعمال ك «الواو» في «كوثر» فقد زيدت للإلحاق «بجعفر» (انظر الملحقات في المزيد على الفعل). وهناك فرق آخر بين الملحق والمزيد، فالزيادة في الملحق لا تفيد شيئا في المعنى الأصلي ك «مهدد» في مهد فإنّه ملحق ب «جعفر» وهما بمعنى واحد، بل وقد تنقل الكلمة من معناها الأصلي إلى معنى آخر كما في «عثر» و «عثير». وقد تأتي الزّيادة بمعنى والمجرّد بغير معنى ك «زينب» و «كوكب» ولا معنى لهما بغير الياء في زينب والواو في كوكب.

وهذا بخلاف الزّيادة في المزيد فإنّها تفيد زيادة في المعنى الأصلي هذا والإلحاق سماعي، ولا يجري على الملحق إدغام ولا إعلال وتزاد حروفه من أحرف «سألتمونيها».

(انظر حروف الزيادة)

إلى: حرف جر، تجر الظّاهر والمضمر، نحو {إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ} و {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} ولها معان كثيرة منها:

أنّها تأتي لانتهاء الغاية مكانيّة نحو: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} أو زمانيّة نحو {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} وإن دلّت قرينة على دخول ما بعدها فيما قبلها نحو «قرأت القرآن من أوّله إلى آخره» ونحو قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ}، وإلّا فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها في الصحيح نحو {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} وتأتي للمعيّة، من ذلك قولهم في المثل: «الذّود إلى الذّود إبل».

ومنه قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ} ومنها: أن تأتي بمعنى اللام نحو: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ}.

وتأتي للتّبيين وهي المبيّنة لفاعليّة مجرورها بعد ما يفيد حبّا أو بغضا من فعل تعجّب أو اسم تفضيل نحو {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ}.

وتأتي لموافقه «في» نحو قوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} أي في يوم القيامة. وكقول النابغة:

«فلا تتركنّي بالوعيد كأنّني *** إلى النّاس مطليّ به القار أجرب »

ألف التّأنيث المقصورة:

ألف التأنيث هذه تختصّ بالأسماء وهي: ألف مفردة لازمة قبلها فتحة نحو: «ليلى» و «سعدى» ولها أوزان نادرة لا نتعرّض لها، وأوزان مشهورة وهي هذه:

(1) «فعلى» بضمّ ففتح ك «أربى» للدّاهية، و «رحبى، وجنفى وشعبى» لمواضع، و «جعبى» لكبار النّمل.

(2) «فعلى» بضم فسكون، اسما ك «بهمى» لنبت، أو صفة، ك «حبلى» و «فضلى»، أو مصدرا ك «رجعى» و «بشرى».

(3) «فعلى» بفتحات، اسما كان ك «بردى» لنهر دمشق، أو مصدرا ك «مرطى وبشكى وجمزى». أو صفة ك «حيدى».

(4) «فعلى» بفتح فسكون بشرط أن يكون إمّا جمعا ك «قتلى وجرحى» أو مصدرا ك «دعوى ونجوى» أو صفة ك «سكرى وكسلى وسيفى» مؤنّثات، و «سكران وكسلان وسيفان».

فإن كان اسما ك «أرطى» و «علقى» فهو صالح لأن تكون ألفه للتأنيث أو للإلحاق، فمن نوّن اعتبرها للإلحاق، ومن لم ينوّن جعلها للتّأنيث.

(5) «فعالى» بضمّ أوّله، سواء أكان اسما ك «حبارى، وسمانى» لطائرين أم جمعا ك «سكارى» أو صفة ك «علادى» للشّديد من الإبل.

(6) «فعّلى» بضم الفاء وتشديد العين مفتوحة ك «سمّهى» اسم للباطل.

(7) «فعلّى» بكسر أوّله وفتح ثانيه، وتشديد ثالثه مفتوحا ك «سبطرى» و «دفقّى» وهي الناقة السريعة الكريمة.

(8) «فعلى» بكسر فسكون إما مصدرا ك «ذكرى» أو جمعا ك «حجلى» جمع حجل وهو اسم لطائر، و «ظربى» جمعا لظربان اسم لدويّبة كالهرة رائحتها كريهة، ولا ثالث لهما في الجموع، وإذا لم يكن جمعا ولا مصدرا فألفه إمّا أن تكون للتّأنيث، وذلك إذا لم ينوّن نحو {قِسْمَةٌ ضِيزى} أي جائزة أو للإلحاق إذا نوّن نحو «عزهى» اسم لمن لا يلهو.

(9) «فعّيلى» بكسر أوله وثانيه مشددا ولم يجىء إلّا مصدرا نحو «حثّيثى» و «خلّيفى» و «خصّيصى» و «فخّيرى» وهي أسماء للحثّ والخلافة والاختصاص والفخر.

(10) «فعلّى» بضمّ أوّله وثانيه وتشديد ثالثه نحو «كفرّى» لوعاء الطّلع و «حذرّى» من الحذر و «بذرّى» من التبذير.

(11) «فعّيلى» بضمّ أوّله، وفتح ثانيه مشدّدا ك «خلّيطى» للاختلاط، و «لغّيزى» لللغز، و «قبّيطى» لنوع من الحلوى يسمّى بالنّاطف.

(12) «فعّالى» بضمّ أوله وتشديد ثانيه نحو «شقّارى» وهي اسم لشقائق النّعمان، و «خبّازى» لنبت معروف، و «خاّرى» لنبت أيضا.

معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه‍/1984م


12-معجم دمشق التاريخي (حمام ابن يمن)

حمّام ابن يمن: كان من الحمّامات التي اعتبرها الأربلي داخل السور، لكن ابن شدّاد يسميّه: حمّام غلام ابن يمن، ويعتبره من حمّامات الباب الشرقي، جوار دير الجذامى [كان دير الجذماء خارج السور قبالة الباب]، فهل هما حمّام واحد أم حمّامان مختلفان؟

معجم دمشق التاريخي-قتيبة الشهابي-صدر: 1420هـ/1999م


13-موسوعة الفقه الكويتية (الفقه الإسلامي 3)

الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ-3

بَقَاءُ الْمَذَاهِبِ وَانْتِشَارُهَا:

35- مِمَّا تَقَدَّمَ عَلِمْنَا أَنَّ هُنَاكَ مَذَاهِبَ انْدَثَرَتْ، وَأُخْرَى بَقِيَتْ وَنَمَتْ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قُوَّةِ السُّلْطَانِ وَالنُّفُوذِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ- مَرْدُودٌ- فَقَدْ يَكُونُ لِلسُّلْطَانِ وَالنُّفُوذِ بَعْضُ الْأَثَرِ فِي بَقَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَذَاهِبِ وَانْتِشَارِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْأَثَرَ ضَئِيلٌ، إِذْ إِنَّ الدَّوْلَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ- وَكَانَ نُفُوذُهَا مُمْتَدًّا عَلَى جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ- كَانَ الْقَضَاءُ بِيَدِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيِّينَ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّنَا نَجِدُ أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَجِدْ لَهُ أَتْبَاعًا فِي الشَّمَالِ الْإِفْرِيقِيِّ أَوْ فِي مِصْرَ إِلاَّ قِلَّةً قَلِيلَةً، بَلْ إِنَّ الْكَثْرَةَ الْكَثِيرَةَ مِنْ بِلَادِ فَارِسَ كَانَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِهَا يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ إِبَّانَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ قَاصِرًا عَلَى الْعِرَاقِ وَبِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَبَعْضِ بِلَادِ فَارِسَ. كَمَا أَنَّ الدَّوْلَةَ الْعُثْمَانِيَّةَ وَكَانَ سُلْطَانُهَا يَمْتَدُّ عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَ مَذْهَبُهَا الرَّسْمِيُّ هُوَ الْمَذْهَبَ الْحَنَفِيَّ، وَكَانَ الْقَضَاءُ فِي كُلِّ السَّلْطَنَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ فِي عُلَمَاءِ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَمَعَ هَذَا نَجِدُ أَنَّ الشَّمَالَ الْإِفْرِيقِيَّ كُلَّهُ لَا يَنْتَشِرُ فِيهِ إِلاَّ مَذْهَبُ مَالِكٍ، اللَّهُمَّ إِلاَّ النَّزْرَ الْيَسِيرَ فِي عَاصِمَةِ تُونُسَ فِي بَعْضِ الْأُسَرِ الْمُنْحَدِرَةِ مِنْ أَصْلٍ تُرْكِيٍّ. وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي مِصْرَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ وَمِنْهُمْ الْمَالِكِيُّونَ فِي صَعِيدِ مِصْرَ أَوْ فِي مُحَافَظَةِ الْبُحَيْرَةِ، وَلَا نَجِدُ الْحَنَفِيِّينَ إِلاَّ قِلَّةً قَلِيلَةً مُنْحَدِرَةً مِنْ أَصْلٍ تُرْكِيٍّ أَوْ شَرْكَسِيٍّ أَوْ تَمَذْهَبَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ طَمَعًا فِي تَوَلِّي الْقَضَاءِ... وَإِنْ كَانَتْ حَلَقَاتُ الدِّرَاسَةِ فِي الْأَزْهَرِ عَامِرَةً بِطُلاَّبِ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ إِمَّا شَافِعِيُّونَ أَوْ مَالِكِيُّونَ، فَأَيْنَ تَأْثِيرُ السُّلْطَانِ فِي فَرْضِ مَذْهَبٍ خَاصٍّ؟.

وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي شِبْهِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَنَاطِقِ الْخَلِيجِ، فَقَدْ كَانَتْ كُلُّهَا تَابِعَةً لِلدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى أَنَّ الْمَذَاهِبَ الْمُنْتَشِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَنَاطِقِ هِيَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَرُبَّمَا الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا وُجُودَ لِمُعْتَنِقِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ شِرْذِمَةً قَلِيلَةً.

وَالْحَقُّ أَنَّ بَقَاءَ مَذْهَبٍ مَا أَوِ انْتِشَارَهُ يَعْتَمِدُ- أَوَّلًا وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ- عَلَى ثِقَةِ النَّاسِ بِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَاطْمِئْنَانِهِمْ إِلَيْهِ، وَعَلَى قُوَّةِ أَصْحَابِهِ وَدَأْبِهِمْ عَلَى نَشْرِهِ وَتَحْقِيقِ مَسَائِلِهِ وَتَيْسِيرِ فَهْمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِحُسْنِ عَرْضِهَا.

التَّقْلِيدُ:

36- يُبَالِغُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الطَّعْنِ عَلَى مَنْ قَلَّدَ عَالِمًا فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ، وَرُبَّمَا شَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْمُقَلِّدِينَ بِالْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}

وَالْحَقُّ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْمَسَائِلِ الْأَسَاسِيَّةِ فِي الدِّينِ، وَهِيَ الْمَعْلُومَةُ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لَا تَقْلِيدَ فِيهَا لِعَالِمٍ، مَهْمَا كَانَتْ مَكَانَتُهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنِ اقْتِنَاعٍ تَامٍّ بِثُبُوتِهَا عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَوْ بِصِفَةٍ إِجْمَالِيَّةٍ. أَمَّا الْمَسَائِلُ الْفَرْعِيَّةُ الَّتِي تَتَطَلَّبُ النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ فَإِنَّ تَكْلِيفَ الْعَامَّةِ بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ تَكْلِيفٌ شَاقٌّ لَا تَسْتَقِيمُ مَعَهُ الْحَيَاةُ، إِذْ لَوْ كَلَّفْنَا كُلَّ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ نَظْرَةَ الْمُجْتَهِدِ فَإِنَّ الصِّنَاعَاتِ سَتَتَعَطَّلُ، وَمَصَالِحَ النَّاسِ سَتُهْمَلُ. وَمَا لَنَا نُطِيلُ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ وَسَلَفُ الْأُمَّةِ- وَهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ كَمَا شَهِدَ لَهُمْ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُجْتَهِدِينَ، بَلْ كَانَ الْمُجْتَهِدُونَ قِلَّةً قَلِيلَةً، وَكَانَ الْمُكْثِرُونَ مِنْهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ شَخْصًا.

عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَجْتَهِدَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ مَتَى تَوَفَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُهُ وَتَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ الَّتِي سَنُبَيِّنُهَا بِالتَّفْصِيلِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ لِهَذِهِ الْمَوْسُوعَةِ.

وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُغَالِينَ يَقُولُ: إِنَّهُ يَكْفِي الشَّخْصَ لِيَكُونَ مُجْتَهِدًا أَنْ يَكُونَ لَدَيْهِ مُصْحَفٌ وَسُنَنُ أَبِي دَاوُدَ وَقَامُوسٌ لُغَوِيٌّ، فَيُصْبِحُ بِذَلِكَ مُجْتَهِدًا لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى تَقْلِيدِ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْمُصْحَفِ وَبِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالْقَامُوسِ لَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كُلُّهُمْ مُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّهُمْ إِمَّا عَرَبٌ خُلَّصٌ، أَوْ نَشَأُوا فِي بِيئَةٍ عَرَبِيَّةٍ خَالِصَةٍ، وَشَاهَدُوا أَحْدَاثَ التَّنْزِيلِ، وَقَرِيبُو عَهْدٍ بِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَلِكَ الِادِّعَاءُ يُكَذِّبُهُ الْوَاقِعُ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ تَقْلِيدَ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُمُورِ الظَّنِّيَّةِ شِرْكٌ وَتَأْلِيهٌ لَهُمْ، قَوْلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، فَلَيْسَ هُنَاكَ أُمِّيٌّ- فَضْلًا عَنْ مُتَعَلِّمٍ- يَرَى أَنَّ لِلْأَئِمَّةِ حَقَّ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بَلْ كُلُّ مَا يُعْتَقَدُ فِيهُمْ أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ أَوْ ذَاكَ مَوْثُوقٌ بِعِلْمِهِ مَوْثُوقٌ بِدِينِهِ أَمِينٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الِاجْتِهَادَ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُحْسِنُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً صَحِيحَةً مِنْ الْمُصْحَفِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَأَقَلُّ مَا يَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّقًا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، عَالِمًا بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَطَلَّبُ إِعْدَادًا خَاصًّا لَا يَتَوَفَّرُ إِلاَّ لِلْقِلَّةِ الْقَلِيلَةِ الْمُتَفَرِّغَةِ.

37- وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَلْتَزِمَ الشَّخْصُ مَذْهَبًا خَاصًّا فِي عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ، بَلْ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ أَوْ عَرَضَتْ لَهُ مُشْكِلَةٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَلْتَمِسَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ مِنْ شَخْصٍ مَوْثُوقٍ بِعِلْمِهِ مَوْثُوقٍ بِدِينِهِ، يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ. وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَسَائِلِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلٌ لِقَائِلٍ غَيْرَ مَا عُرِفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ. فَمَهْمَا أَفْتَى بَعْضُ النَّاسِ بِحِلِّ الرِّبَا أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالِاسْتِعَاضَةِ عَنْهَا بِالصَّدَقَةِ مَثَلًا، فَلَا يَقْبَلُ قَوْلَهُ، وَلَا تَكُونُ فَتْوَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ عُذْرًا يُعْتَذَرُ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

إِقْفَالُ بَابِ الِاجْتِهَادِ:

38- مَا إِنْ أَهَلَّ الْقَرْنُ السَّادِسِ الْهِجْرِيِّ حَتَّى نَادَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِإِقْفَالِ بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَقَالُوا: لَمْ يَتْرُكْ الْأَوَائِلُ لِلْأَوَاخِرِ شَيْئًا. وَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قُصُورَ الْهِمَمِ وَخَرَابَ الذِّمَمِ، وَتَسَلُّطَ الْحُكَّامِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَخَشْيَةَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلِاجْتِهَادِ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ، إِمَّا رَهْبَةً أَوْ رَغْبَةً، فَسَدًّا لِلذَّرَائِعِ أَفْتَوْا بِإِقْفَالِ بَابِ الِاجْتِهَادِ.

وَتَعَرَّضَ بَعْضُ مَنْ خَالَفَ الْأَوَائِلَ فِي آرَائِهِمْ لِسَخَطِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَ يَظْهَرُ بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالْفَيْنَةِ مَنْ ادَّعَى الِاجْتِهَادَ أَوِ ادُّعِيَ لَهُ، وَكَانَتْ لَهُمْ اجْتِهَادَاتٌ لَا بَأْسَ بِهَا كَابْنِ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ الْقَيِّمِ، وَالْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ الْحَنَفِيِّ الْمَذْهَبِ. فَقَدْ كَانَتْ لَهُ اجْتِهَادَاتٌ خَرَجَ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ... وَمِنْ هَؤُلَاءِ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَأَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ كَانَ اجْتِهَادُ هَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ تَرْجِيحِ رَأْيٍ عَلَى رَأْيٍ، أَوْ حَلٍّ لِمُشْكِلَةٍ عَارِضَةٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا الْأَئِمَّةُ الْمُتَقَدِّمُونَ.

وَالَّذِي نَدِينُ اللَّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَّةِ عُلَمَاءُ مُتَخَصِّصُونَ، عَلَى عِلْمٍ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَوَاطِنِ الْإِجْمَاعِ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ. كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا عَلَى خِبْرَةٍ تَامَّةٍ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، وَدُوِّنَتْ بِهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَأَنْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لَا يَخْشَوْنَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، لِتَرْجِعَ إِلَيْهِمْ الْأُمَّةُ فِيمَا نَزَلَ بِهَا مِنْ أَحْدَاثٍ، وَمَا يَجِدُّ مِنْ نَوَازِلَ، وَأَلاَّ يُفْتَحَ بَابُ الِاجْتِهَادِ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ، فَيَلِجَ فِيهِ مَنْ لَا يُحْسِنُ قِرَاءَةَ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْمُصْحَفِ، كَمَا لَا يُحْسِنُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَشْتَاتِ الْمَوْضُوعِ، وَيُرَجِّحَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ.

وَالَّذِينَ أَفْتَوْا بِإِقْفَالِ بَابِ الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا نَزَعُوا عَنْ خَوْفٍ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ الِاجْتِهَادَ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ، وَأَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، فَيَقُولُونَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِرْضَاءً لِلْحُكَّامِ. وَلَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ مَنْ يَدَّعِي الِاجْتِهَادَ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِكَذَا وَكَذَا فِيهِ تَرْضِيَةٌ لِهَؤُلَاءِ السَّادَةِ، فَيَسْبِقُونَهُمْBبِالْقَوْلِ. وَيَعْتَمِدُ هَؤُلَاءِ الْحُكَّامُ عَلَى آرَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ. فَقَدْ رَأَيْنَا فِي عَصْرِنَا هَذَا مَنْ أَفْتَى بِحِلِّ الرِّبَا الِاسْتِغْلَالِيِّ دُونَ الِاسْتِهْلَاكِيِّ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِحِلِّهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ- فِي زَعْمِهِ- تُوجِبُ الْأَخْذَ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْتَى بِجَوَازِ الْإِجْهَاضِ ابْتِغَاءَ تَحْدِيدِ النَّسْلِ، لِأَنَّ بَعْضَ الْحُكَّامِ يَرَى هَذَا الرَّأْيَ، وَيُسَمِّيهِ تَنْظِيمَ الْأُسْرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ عَلَى مَنْ اعْتَادَ الْجَرِيمَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْحَدِّ، وَمِنْهُمْ... وَمِنْهُمْ... فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ حَمَلُوا أَهْلَ الْوَرَعِ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِإِقْفَالِ بَابِ الِاجْتِهَادِ.

وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْقَوْلَ بِحُرْمَةِ الِاجْتِهَادِ وَإِقْفَالِ بَابِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا لَا يَتَّفِقُ مَعَ الشَّرِيعَةِ نَصًّا وَرُوحًا، وَإِنَّمَا الْقَوْلَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ إِبَاحَتُهُ، بَلْ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ. لِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي حَاجَةٍ، إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا جَدَّ مِنْ أَحْدَاثٍ لَمْ تَقَعْ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ.

مَصَادِرُ الِاجْتِهَادِ:

39- بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ جَمِيعًا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ مَصْدَرَ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا مِنْهُ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ.

وَالْوَحْيُ إِمَّا مَتْلُوٌّ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، أَوْ غَيْرُ مَتْلُوٍّ وَهُوَ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُطَهَّرَةُ، فَإِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بِصِفَتِهِ رَسُولًا، لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى.

وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَصَادِرَ الْأَحْكَامِ كُلَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِصِفَةٍ مُبَاشِرَةٍ.

أَمَّا الْإِجْمَاعُ- إِذَا تَحَقَّقَ- فَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ.

وَأَمَّا الْقِيَاسُ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ- فَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، وَهَذَا الظَّنُّ كَافٍ فِي الِاحْتِجَاجِ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، سَوَاءٌ قُلْنَا بِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَعَدَّدُ أَمْ قُلْنَا بِغَيْرِ ذَلِكَ.

وَسَيَتَبَيَّنُ لَنَا مِنْ الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ تَوْضِيحُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ، إِلاَّ أَنَّنَا سَنَتَنَاوَلُ مَسْأَلَتَيْنِ عَاجِلَتَيْنِ كَثُرَ الْحَدِيثُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.

أ- الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَوْلَ السُّنَّةِ

40- أَثَارَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ مَصْدَرًا لِلتَّشْرِيعِ، وَسَمُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْقُرْآنِيِّينَ، وَقَالُوا: إِنَّ أَمَامَنَا الْقُرْآنَ، نُحِلُّ حَلَالَهُ وَنُحَرِّمُ حَرَامَهُ، وَالسُّنَّةُ كَمَا يَزْعُمُونَ قَدْ دُسَّ فِيهَا أَحَادِيثُ مَكْذُوبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-. وَهَؤُلَاءِ امْتِدَادٌ لِقَوْمٍ آخَرِينَ نَبَّأَنَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-. فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْمِقْدَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِقُرْآنِيِّينَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ أَوْجَبَ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ مِائَةِ آيَةٍ، وَاعْتَبَرَ طَاعَةَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} بَلْ إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ الَّذِي يَدَّعُونَ التَّمَسُّكَ بِهِ نَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ رَفَضَ طَاعَةَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَقْبَلْ حُكْمَهُ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ السُّنَّةَ قَدْ دُسَّتْ فِيهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مَرْدُودٌ بِأَنَّ عُلَمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُنُوا أَشَدَّ الْعِنَايَةِ بِتَنْقِيَةِ السُّنَّةِ مِنْ كُلِّ دَخِيلٍ، وَاعْتَبَرُوا الشَّكَّ فِي صِدْقِ رَاوٍ مِنْ الرُّوَاةِ أَوِ احْتِمَالَ سَهْوِهِ رَادًّا لِلْحَدِيثِ.

وَقَدْ شَهِدَ أَعْدَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ لَيْسَتْ هُنَاكَ أُمَّةٌ عُنِيَتْ بِالسَّنَدِ وَبِتَنْقِيحِ الْأَخْبَارِ وَلَا سِيَّمَا الْمَرْوِيَّةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَهَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَيَكْفِي لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ كَانَ- صلى الله عليه وسلم- يَكْتَفِي بِإِبْلَاغِ دَعْوَتِهِ بِإِرْسَالِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ.

ثُمَّ نَسْأَلُ هَؤُلَاءِ: أَيْنَ هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ خَمْسٌ، وَعَلَى أَنْصِبَةِ الزَّكَاةِ، وَعَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا إِلاَّ مِنْ السُّنَّةِ.

وَهُنَاكَ فِرْقَةٌ أُخْرَى لَا تَقِلُّ خَطَرًا عَنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ تَقُولُ: إِنَّنَا نَقْبَلُ السُّنَّةَ كَمَصْدَرٍ تَشْرِيعِيٍّ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْعِبَادَاتِ، أَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ تَشْرِيعَاتٍ أَوْ سُلُوكٍ فَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْنَا، وَيَتَعَلَّقُونَ بِشُبْهَةٍ وَاهِيَةٍ، وَهِيَ حَادِثَةُ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَحَاصِلُهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَمَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَأَى أَهْلَهَا يُؤَبِّرُونَ النَّخْلَ أَيْ يُلَقِّحُونَ إِنَاثَ النَّخْلِ بِطَلْعِ ذُكُورِهَا، فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَحَ، فَتَرَكُوهُ فَشَاصَ؛ أَيْ فَسَدَ وَصَارَ حَمْلُهُ شِيصًا وَهُوَ رَدِيءُ التَّمْرِ فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ؟ قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».

هَذَا الْخَبَرُ إِنْ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الَّتِي لَا صِلَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ تَحْلِيلًا أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا، بَلْ هِيَ مِنْ الْأُمُورِ التَّجْرِيبِيَّةِ، لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مُهِمَّةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَمُبَلِّغٍ عَنْ رَبِّهِ، بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ خَاضِعَةٌ لِلتَّجْرِبَةِ، وَالرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بِهَذَا كَانَ قُدْوَةً عَمَلِيَّةً لِحَثِّنَا عَلَى أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْبَحْتَةَ الَّتِي لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُلَ الْجَهْدَ فِي مَعْرِفَةِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ مِنْ غَيْرِهِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ هَذِهِBالْحَادِثَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَنْ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ هَذَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ صَحِيحٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ مِنْ صُلْبِ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنْ رَبِّهِ.

ب- الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:

41- تُثَارُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالْفَيْنَةِ دَعْوَى الِاعْتِمَادِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي تَشْرِيعَاتِنَا بِحُجَّةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِخَيْرِ الْبَشَرِيَّةِ، فَمَا كَانَ خَيْرًا أَخَذْنَا بِهِ، وَمَا كَانَ شَرًّا أَعْرَضْنَا عَنْهُ. وَهَذِهِ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ التَّشْرِيعَ الْإِسْلَامِيَّ- جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ- إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ مَصْلَحَةُ الْبَشَرِ. وَلَكِنْ مَا هِيَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ؟ أَهِيَ مُسَايَرَةُ الْأَهْوَاءِ وَتَرْضِيَةُ النُّفُوسِ الْجَامِحَةِ؟ أَمْ هِيَ الْمَصْلَحَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَسْتَقِيمُ عَلَيْهَا أَمْرُ النَّاسِ؟ ثُمَّ مَا السَّبِيلُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْمَوْهُومَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؟

وَطَبَائِعُ النَّاسِ كَمَا نَعْلَمُ وَنُشَاهِدُ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا يُحِبُّهُ هَذَا يَكْرَهُهُ ذَاكَ، وَمَا يَكْرَهُهُ ذَاكَ يُحِبُّهُ هَذَا، وَالْمُحِبُّ لَا يَرَى فِيمَا أَحَبَّ إِلاَّ جَانِبَ الْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَالْكَارِهُ لَا يَرَى فِيمَا يَكْرَهُ إِلاَّ جَانِبَ الشَّرِّ وَالضُّرِّ.

وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ، كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا، وَقَدْ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَخْتَلِطَ الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، فَتَرْجِيحُ مَصْلَحَةٍ عَلَى مَصْلَحَةٍ، أَوْ مَفْسَدَةٍ عَلَى مَفْسَدَةٍ، أَوْ مُقَارَنَةُ الْمَفَاسِدِ بِالْمَصَالِحِ وَتَرْجِيحُ إِحْدَاهَا عَلَى الْأُخْرَى، كُلُّ ذَلِكَ يَتَطَلَّبُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَتَنَزَّهُ عَنْ الْأَهْوَاءِ وَالْأَغْرَاضِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ لِعِبَادِهِ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ.

وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الْمَصَالِحَ ثَلَاثٌ: مَصْلَحَةٌ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ بِرَغْمِ مَا قَدْ يَخْتَلِطُ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْأَضْرَارِ الْبَسِيطَةِ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ فِيهَا أَرْجَحُ، كَالْمَصْلَحَةِ فِي الصَّوْمِBمَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَعْضِ الْمَشَاقِّ، وَالْمَصْلَحَةِ فِي الْجِهَادِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ.

وَهُنَاكَ مَصَالِحُ أَلْغَاهَا الشَّارِعُ إِلْغَاءً تَامًّا؛ لِأَنَّ ضَرَرَهَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهَا، كَالْمَصْلَحَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} وَكَالْمَصْلَحَةِ فِي الرِّبَا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَهُ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ أَوْ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}.

وَهُنَاكَ مَصَالِحُ سَكَتَ عَنْهَا الشَّارِعُ فَلَمْ يَعْتَبِرْهَا وَلَمْ يُلْغِهَا بِخُصُوصِهَا، فَهَذِهِ الْمَصَالِحُ إِنَّمَا يُقَدِّرُهَا الْمُخْتَصُّونَ دُونَ غَيْرِهِمْ، مَعَ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ حِمَايَتِهِمْ- قَدْرَ الْإِمْكَانِ- مِنْ ذَهَبِ الْمُعِزِّ وَسَيْفِهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْبَتُّ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ شَأْنِ الْجَمَاعَةِ لَا الْأَفْرَادِ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ تَحْتَ التَّجْرِبَةِ، فَإِنَّ أَمْثَالَهَا تَخْتَلِفُ مِنْ عَصْرٍ إِلَى عَصْرٍ وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ.

تَقْسِيمَاتُ الْفِقْهِ:

لِلْفِقْهِ تَقْسِيمَاتٌ شَتَّى لِاعْتِبَارَاتٍ شَتَّى، نَكْتَفِي مِنْهَا بِذِكْرِ التَّقْسِيمَاتِ الْآتِيَةِ:

أ- تَقْسِيمُ مَسَائِلِهِ بِاعْتِبَارِ أَدِلَّتِهِ:

42- وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: فِقْهٌ مُعْتَمِدٌ عَلَى أَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ فِي ثُبُوتِهَا وَدَلَالَتِهَا، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَكَحُرْمَةِ الزِّنَى وَالرِّبَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةِBالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ.

وَثَانِيهِمَا: فِقْهٌ يَعْتَمِدُ عَلَى أَدِلَّةٍ ظَنِّيَّةٍ كَتَحْدِيدِ الْقَدْرِ الْمَمْسُوحِ مِنْ الرَّأْسِ، وَالْقِرَاءَةِ الْمُتَعَيَّنَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَعْيِينِ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ ذَاتِ الْحَيْضِ أَبِالطُّهْرِ أَمْ بِالْحَيْضِ؟ وَهَلْ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ مُوجِبَةٌ لِتَمَامِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ؟.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَكَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ مَعْلُومَةٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ فِقْهًا، وَإِنْ اعْتُبِرَتْ فِي نَظَرِ الْفُقَهَاءِ.

ب- تَقْسِيمُ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعَاتِهِ:

43- لَمَّا كَانَ عِلْمُ الْفِقْهِ هُوَ الْعِلْمَ الَّذِي تُعْرَفُ مِنْهُ أَحْكَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ، اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا أَوْ وَضْعًا، فَإِنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَصْدُرُ عَنْ الْعِبَادِ. وَبِهَذَا تَعَدَّدَتْ مَوْضُوعَاتُهُ، فَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ عَلَاقَةَ الْعَبْدِ بِاللَّهِ تَعَالَى سُمِّيَتْ بِالْعِبَادَاتِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ بَدَنِيَّةً مَحْضَةً وَهِيَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ، أَوْ مَالِيَّةً مَحْضَةً وَهِيَ الزَّكَاةُ، أَوْ مِنْهُمَا وَهِيَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ. وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ الْأُسْرَةَ مِنْ زَوَاجٍ وَطَلَاقٍ وَنَفَقَةٍ وَحَضَانَةٍ وَوِلَايَةٍ وَنَسَبٍ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْآنَ فِقْهُ الْأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَأَلْحَقُوا بِهَا الْوَصَايَا وَالْإِرْثَ لِاتِّصَالِهِمَا الْوَثِيقِ بِأَحْكَامِ الْأُسْرَةِ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَشَرِكَةٍ- بِكُلِّ صُوَرِهَا- وَرَهْنٍ وَكَفَالَةٍ وَوَكَالَةٍ وَهِبَةٍ وَإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ، قَدْ أَطْلَقُوا عَلَيْهَا الْآنَ اسْمَ الْقَانُونِ الْمَدَنِيِّ أَوِ التِّجَارِيِّ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ الْقَضَاءَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ أَطْلَقُوا عَلَيْهَا اسْمَ قَانُونِ الْمُرَافَعَاتِ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ عَلَاقَةَ الْحَاكِمِ بِالْمَحْكُومِينَ، وَالْمَحْكُومِينَ بِالْحَاكِمِ أَطْلَقُوا عَلَيْهَا الْآنَ اسْمَ الْقَانُونِ الدُّسْتُورِيِّ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي نَظَّمَتْ عَلَاقَةَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِهِمْ سِلْمًا وَحَرْبًا قَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ الْقُدَامَى اسْمَ السِّيَرِ، وَسَمَّاهَا الْمُحْدَثُونَ بِاسْمِ الْقَانُونِ الدُّوَلِيِّ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَنَاوَلُ تَصَرُّفَاتِ الْعِبَادِ فِي مَأْكَلِهِمْ وَمَلْبَسِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ مَسَائِلَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي حَدَّدَتِ الْجَرَائِمَ وَالْعُقُوبَاتِ قَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا فُقَهَاؤُنَا اسْمَ الْحُدُودِ وَالْجِنَايَاتِ وَالتَّعْزِيرَاتِ، وَسَمَّاهَا الْمُحْدَثُونَ بِاسْمِ الْقَانُونِ الْجَزَائِيِّ أَوِ الْجِنَائِيِّ.

وَمِنْ هَذَا الْبَيَانِ الْمُخْتَصَرِ يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الْفِقْهَ تَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَتَّصِلُ بِالْإِنْسَانِ، فَلَيْسَ قَاصِرًا- كَمَا يَزْعُمُ الْبَعْضُ- عَلَى تَنْظِيمِ عَلَاقَةِ الْإِنْسَانِ بِرَبِّهِ، فَمَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ إِمَّا جَاهِلٌ أَوْ مُتَجَاهِلٌ بِالْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ وَمَوْضُوعَاتِهِ.

ج- تَقْسِيمُ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ حِكْمَتِهِ:

44- تَنْقَسِمُ مَسَائِلُ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ إِدْرَاكُ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِيهِ أَوْ عَدَمُ إِدْرَاكِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: أَحْكَامٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، وَقَدْ تُسَمَّى أَحْكَامًا مُعَلَّلَةً، وَهِيَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ الَّتِي تُدْرَكُ حِكْمَةُ تَشْرِيعِهَا، إِمَّا لِلتَّنْصِيصِ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ، أَوْ يُسْرِ اسْتِنْبَاطِهَا. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ هِيَ الْأَكْثَرُ فِيمَا شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حَيْثُ: لَمْ يَمْتَحِنَّا بِمَا تَعْيَا الْعُقُولُ بِهِ حِرْصًا عَلَيْنَا فَلَمْ نَرْتَبْ وَلَمْ نَهِمْ وَذَلِكَ كَتَشْرِيعِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَتَشْرِيعِ إِيجَابِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ، وَالْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ، وَكَتَشْرِيعِ الطَّلَاقِ عِنْدَمَا تَتَعَقَّدُ الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ... إِلَى آلَافِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَثَانِيهِمَا: أَحْكَامٌ تَعَبُّدِيَّةٌ، وَهِيَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ الَّتِي لَا تُدْرَكُ فِيهَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَعَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَكَأَكْثَرِ أَعْمَالِ الْحَجِّ. وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى.

وَتَشْرِيعُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ التَّعَبُّدِيَّةِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ اخْتِبَارُ الْعَبْدِ هَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ حَقًّا؟.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا لَمْ تَأْتِ بِمَا تَرْفُضُهُ الْعُقُولُ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَأْتِي بِمَا لَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ، وَشَتَّانَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا اقْتَنَعَ- عَقْلِيًّا- بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ لِلرُّبُوبِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَاقْتَنَعَ- عَقْلِيًّا- بِمَا شَاهَدَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَالْأَدِلَّةِ، بِصِدْقِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُبَلِّغِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ قَدْ أَقَرَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْحَاكِمِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَإِذَا مَا أُمِرَ بِأَمْرٍ، أَوْ نُهِيَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: لَا أَمْتَثِلُ حَتَّى أَعْرِفَ الْحِكْمَةَ فِيمَا أُمِرْتُ بِهِ أَوْ نُهِيتُ عَنْهُ، يَكُونُ قَدْ كَذَّبَ نَفْسَهُ فِي دَعْوَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ لِلْعُقُولِ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ إِدْرَاكُهَا، كَمَا أَنَّ لِلْحَوَاسِّ حَدًّا تَقِفُ عِنْدَهُ لَا تَتَجَاوَزُهُ.

وَمَا مَثَلُ الْمُتَمَرِّدِ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى التَّعَبُّدِيَّةِ إِلاَّ كَمَثَلِ مَرِيضٍ ذَهَبَ إِلَى طَبِيبٍ مَوْثُوقٍ بِعِلْمِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَوَصَفَ لَهُ أَنْوَاعًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ، بَعْضَهَا قَبْلَ الْأَكْلِ وَبَعْضَهَا أَثْنَاءَهُ وَبَعْضَهَا بَعْدَهُ، مُخْتَلِفَةَ الْمَقَادِيرِ، فَقَالَ لِلطَّبِيبِ: لَا أَتَعَاطَى دَوَاءَكَ حَتَّى تُبَيِّنَ لِي الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِ هَذَا قَبْلَ الطَّعَامِ وَهَذَا بَعْدَهُ، وَهَذَا أَثْنَاءَهُ، وَلِمَاذَا تَفَاوَتَتِ الْجَرْعَاتُ قِلَّةً وَكَثْرَةً؟

فَهَلْ هَذَا الْمَرِيضُ وَاثِقٌ حَقًّا بِطَبِيبِهِ؟ فَكَذَلِكَ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يَتَمَرَّدُ عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يُدْرِكُ حِكْمَتَهَا، إِذْ الْمُؤْمِنُ الْحَقُّ إِذَا أُمِرَ بِأَمْرٍ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَحْكَامٌ تَرْفُضُهَا الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، فَعَدَمُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ، فَكَمْ مِنْ أَحْكَامٍ خَفِيَتْ عَلَيْنَا حِكْمَتُهَا فِيمَا مَضَى ثُمَّ انْكَشَفَ لَنَا مَا فِيهَا مِنْ حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، فَقَدْ كَانَ خَافِيًا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا مَا يَحْمِلُهُ هَذَا الْحَيَوَانُ الْخَبِيثُ مِنْ أَمْرَاضٍ وَصِفَاتٍ خَبِيثَةٍ، أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَحْمِيَ مِنْهَا الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَكْشِفُ الْأَيَّامُ عَنْ سِرِّ تَشْرِيعِهَا وَإِنْ كَانَتْ خَافِيَةً عَلَيْنَا الْآنَ.

التَّعْرِيفُ بِالْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ

تَطْوِيرُ عَرْضِ الْفِقْهِ وَ (التَّدْوِينُ الْجَمَاعِيُّ):

45- لَقَدْ مَرَّ الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ فِي رِحْلَةِ تَدْوِينِهِ بِأَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ تُشْبِهُ أَطْوَارَ تَكْوِينِهِ، وَلَا يَتَّسِعُ الْمَجَالُ لِأَكْثَرَ مِنْ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ بَدَأَ مُمْتَزِجًا بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ، ثُمَّ ظَهَرَ فِي صُورَةِ الْأَمَالِي وَالْمَسَائِلِ وَالْجَوَامِعِ الْمُهْتَمَّةِ بِالصُّوَرِ وَالْفُرُوعِ أَكْثَرَ مِنْ الْمَبَادِئِ، ثُمَّ تَلَا ذَلِكَ تَأْلِيفُ الْمُدَوَّنَاتِ وَأُمَّهَاتِ الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ الَّتِي حُفِظَتْ بِهَا الْمَذَاهِبُ مِنْ الِانْدِثَارِ، وَقَدْ آلَ التَّصْنِيفُ فِي الْفِقْهِ بَعْدَئِذٍ إِلَى عَرْضِهِ بِأُسْلُوبٍ عِلْمِيٍّ شَدِيدِ التَّرْكِيزِ، مُتَفَاوِتِ التَّرْتِيبِ، مُسْتَغْلِقِ الْعِبَارَةِ لِغَيْرِ الْمُتَمَرِّسِ، وَظَهَرَتْ (الْمُتُونُ) الَّتِي اسْتَلْزَمَ إِيضَاحُهَا وَضْعَ (الشُّرُوحِ) وَتَعْلِيقَ (الْحَوَاشِي) عَلَى نَمَطٍ صَعْبٍ لَا تَكْمُلُ الْفَائِدَةُ مِنْهُ إِلاَّ لِلْمُتَخَصِّصِ، بَلْ رُبَّمَا تَنْحَصِرُ خِبْرَةُ الْفَرْدِ بِمَذْهَبٍ دُونَ آخَرَ لِمَا تَعَارَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ كُلِّ مَذْهَبٍ فِي دِرَاسَتِهِ وَالْإِفْتَاءِ بِهِ وَالتَّأْلِيفِ فِيهِ، مِنْ أُصُولٍ وَرُمُوزٍ وَاصْطِلَاحَاتٍ، بَعْضُهَا مُدَوَّنٌ فِي مَوَاطِنَ مُتَفَرِّقَةٍ، وَبَعْضُهَا لَا يُدْرَكُ إِلاَّ بِالتَّلْقِينِ وَالتَّوْقِيفِ عَلَيْهِ.

وَالْغَرَضُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى ظُهُورِ بَعْضِ الْمُؤَلَّفَاتِ الْمُطَوَّرَةِ فِي عَرْضِ الْفِقْهِ تُشْبِهُ الْمَوْسُوعَةَ- إِذَا غُضَّ النَّظَرُ عَنْ قَضِيَّةِ التَّرْتِيبِ، عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا- لِاشْتِمَالِهَا عَلَى بَعْضِ خَصَائِصِ الْكِتَابَةِ الْمَوْسُوعِيَّةِ كَالشُّمُولِ وَإِطْلَاقِ الْبَحْثِ عَنْ التَّقَيُّدِ بِإِيضَاحِ كِتَابٍ، أَوْ مَنْهَجِ تَدْرِيسٍ، أَوْ طَاقَةِ الْفَرْدِ الْعَادِيِّ... وَالْأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي تَجْمَعُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ مَا تَفَرَّقَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمُؤَلَّفَاتِ، وَتُعْنَى بِمَا كَانَ يُسَمَّى: عِلْمَ الْخِلَافِ (مُقَارَنَةُ الْمَذَاهِبِ) وَتُجْرَى عَلَى أُسْلُوبِ الْبَسْطِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بِحَسَبِ تَقْدِيرِ الْمُؤَلِّفِ.. لَكِنَّ تِلْكَ الْأَشْبَاهَ الْمَوْسُوعِيَّةَ كَانَتْ جُهُودًا فَرْدِيَّةً (أَوْ شِبْهَ فَرْدِيَّةٍ حِينَ تَخْتَرِمُ الْمَنِيَّةُ الْمُؤَلِّفَ فَيَأْتِيَ مَنْBيَضَعُ تَكْمِلَةً لِكِتَابِهِ) وَالنَّزْرُ الْيَسِيرُ مِنْهَا كَانَ جَهْدًا جَمَاعِيًّا وَغَالِبُهُ ثَمَرَةُ اهْتِمَامِ أُولِي الْأَمْرِ، اقْتِرَاحًا أَوْ تَشْجِيعًا أَوْ تَبَنِّيًا وَاحْتِضَانًا.

46- وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ لِلْجَهْدِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْمُؤَلَّفَاتِ الْفِقْهِيَّةِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْمَوْسُوعَاتِ: الْكِتَابُ الْمَعْرُوفُ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ بِالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ، وَالَّذِي اشْتَرَكَ فِي إِنْجَازِهِ (23) فَقِيهًا مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْهِنْدِ بِطَلَبِ وَتَمْوِيلِ مَلِكِهَا (مُحَمَّدٍ أورنكزيب) الْمُلَقَّبِ: «عَالَم كير» أَيْ فَاتِحِ الْعَالَمِ، وَلِذَا سُمِّيَتْ «الْفَتَاوَى الْعَالَمْكِيرِيَّةِ».

وَيَجْرِي عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقُ بَعْضِ أَهْدَافِ الْمَوْسُوعَةِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَى مَا فِيهَا: الْمُخْتَارَاتُ التَّشْرِيعِيَّةُ الْفِقْهِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَثَابَةً لِلْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ بِالِالْتِزَامِ فَضْلًا عَنْ الْإِلْزَامِ، كَمَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ وَالَّتِي وَضَعَتْهَا لَجْنَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِتَكْلِيفٍ مِنْ الْخِلَافَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَكَانَ بَيْنَ أَعْضَائِهَا الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ عَابِدِينَ (نَجْلُ صَاحِبِ الْحَاشِيَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ). وَيُقَارِبُهَا فِي الذُّيُوعِ ثَلَاثَةُ كُتُبٍ لِلْعَلاَّمَةِ مُحَمَّد قَدْرِي بَاشَا مَصُوغَةً كَقَوَانِينَ مُقْتَرَحَةً (وَهِيَ مُرْشِدُ الْحَيْرَانِ فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ فِي أَحْكَامِ الْأَوْقَافِ) تِلْكَ الْكُتُبُ الَّتِي يُورِدُ بَعْضُ الْكُتَّابِ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ مُؤَلِّفُهَا قَدْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، بِالرَّغْمِ مِنْ أَهْلِيَّتِهِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي لَا يُسْتَغْرَبُ مَعَهَا نُهُوضُهُ بِهَذَا الْعَمَلِ وَحْدَهُ، وَهُوَ مِمَّا يَنُوءُ بِهِ الْأَفْرَادُ.

وَلَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِلْإِفَاضَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ الْكَثِيرَةِ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِمَّا يُعْنَى بِهِ عِلْمُ وَصْفِ الْكُتُبِ (الببليوغرافيا) وَمَا كُتِبَ فِي تَارِيخِ الْفِقْهِ وَالتَّشْرِيعِ، وَالْمَدَاخِلِ إِلَى الْفِقْهِ وَمَذَاهِبِهِ وَسِيَرِ الْأَئِمَّةِ وَطَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (آدر)

آدَرُ

التَّعْرِيفُ:

1- الْآدَرُ: مَنْ بِهِ أُدْرَةٌ. وَالْأُدْرَةُ بِوَزْنِ غُرْفَةٍ: انْتِفَاخُ الْخُصْيَةِ، يُقَالُ: أَدِرَ يَأْدَرُ، مِنْ بَابِ تَعِبَ، فَهُوَ آدَرُ، وَالْجَمْعُ: أُدْرٌ، مِثْلُ أَحْمَرَ وَحُمْرٌ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ وَصْفٌ لِلرَّجُلِ عِنْدَ انْتِفَاخِ الْخُصْيَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا.

وَيُقَابِلُهُ فِي الْمَرْأَةِ الْعَفَلَةُ، وَهِيَ وَرَمٌ يَنْبُتُ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ. وَقِيلَ: هِيَ لَحْمٌ فِيهِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

2- لَمَّا كَانَتِ الْأُدْرَةُ نَوْعًا مِنَ الْخَلَلِ فِي بِنْيَةِ الْإِنْسَانِ تُوجِبُ شَيْئًا مِنَ النُّفْرَةِ مِنْهُ، وَتَعُوقُهُ عَنْ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ فِي شُئُونِهِ وَأَعْمَالِهِ، اعْتَبَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَيْبًا. وَاخْتَلَفُوا أَهِيَ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ وَفِي النِّكَاحِ أَمْ لَا.

هَذَا وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْأُدْرَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ، وَالْخِيَارِ فِيهِ، وَفِي خِيَارِ الْعَيْبِ فِي الْبُيُوعِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-موسوعة الفقه الكويتية (إباحة)

إِبَاحَة

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِبَاحَةُ فِي اللُّغَةِ: الْإِحْلَالُ، يُقَالُ: أَبَحْتُكَ الشَّيْءَ؛ أَيْ أَحْلَلْتُهُ لَكَ. وَالْمُبَاحُ خِلَافُ الْمَحْظُورِ. وَعَرَّفَ الْأُصُولِيُّونَ الْإِبَاحَةَ بِأَنَّهَا خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ تَخْيِيرًا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.

وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا الْإِذْنُ بِإِتْيَانِ الْفِعْلِ حَسَبَ مَشِيئَةِ الْفَاعِلِ فِي حُدُودِ الْإِذْنِ. وَقَدْ تُطْلَقُ الْإِبَاحَةُ عَلَى مَا قَابَلَ الْحَظْرَ، فَتَشْمَلُ الْفَرْضَ وَالْإِيجَابَ وَالنَّدْبَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِالْإِبَاحَةِ:

الْجَوَازُ:

2- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي الصِّلَةِ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالْجَوَازِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَائِزَ يُطْلَقُ عَلَى خَمْسَةِ مَعَانٍ: الْمُبَاحِ، وَمَا لَا يَمْتَنِعُ شَرْعًا، وَمَا لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا، أَوْ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَالْمَشْكُوكُ فِي حُكْمِهِ كَسُؤْرِ الْحِمَارِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَهُ عَلَى أَعَمَّ مِنَ الْمُبَاحِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ الْجَوَازَ مُرَادِفًا لِلْإِبَاحَةِ.

وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْجَوَازَ فِيمَا قَابَلَ الْحَرَامَ، فَيَشْمَلُ الْمَكْرُوهَ. وَهُنَاكَ اسْتِعْمَالٌ فِقْهِيٌّ لِكَلِمَةِ الْجَوَازِ بِمَعْنَى الصِّحَّةِ، وَهِيَ مُوَافَقَةُ الْفِعْلِ ذِي الْوَجْهَيْنِ لِلشَّرْعِ، وَالْجَوَازُ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ حُكْمٌ وَضْعِيٌّ، وَبِالِاسْتِعْمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ.

الْحِلُّ:

3- الْإِبَاحَةُ فِيهَا تَخْيِيرٌ، أَمَّا الْحِلُّ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى مَا سِوَى التَّحْرِيمِ، وَقَدْ جَاءَ مُقَابِلًا لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَمَا إِنِّي وَاللَّهِ لَا أُحِلُّ حَرَامًا وَلَا أُحَرِّمُ حَلَالًا». وَلَمَّا كَانَ الْحَلَالُ مُقَابِلًا لِلْحَرَامِ شَمِلَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْمُبَاحِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَكْرُوهِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَتَنْزِيهًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلِهَذَا قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ حَلَالًا وَمَكْرُوهًا فِي آنٍ وَاحِدٍ، كَالطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ وَصَفَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنَّهُ حَلَالٌ

وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ كُلُّ مُبَاحٍ حَلَالًا وَلَا عَكْسَ.

الصِّحَّةُ:

4- الصِّحَّةُ هِيَ مُوَافَقَةُ الْفِعْلِ ذِي الْوَجْهَيْنِ لِلشَّرْعِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ ذَا وَجْهَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ تَارَةً مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ، وَيَقَعُ تَارَةً أُخْرَى مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ. وَالْإِبَاحَةُ الَّتِي فِيهَا تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مُغَايِرَةٌ لِلصِّحَّةِ. وَهُمَا وَإِنْ كَانَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَالصِّحَّةَ حُكْمٌ وَضْعِيٌّ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّ الصِّحَّةَ إِلَى الْإِبَاحَةِ فَيَقُولُ: إِنَّ الصِّحَّةَ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ.

وَالْفِعْلُ الْمُبَاحُ قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ الْفِعْلِ الصَّحِيحِ، فَصَوْمُ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ مُبَاحٌ، أَيْ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ، وَهُوَ صَحِيحٌ إِنِ اسْتَوْفَى أَرْكَانَهُ وَشُرُوطَهُ. وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُبَاحًا فِي أَصْلِهِ وَغَيْرَ صَحِيحٍ لِاخْتِلَالِ شَرْطِهِ، كَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ. وَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا غَيْرَ مُبَاحٍ كَالصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ إِذَا اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشُرُوطَهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ.

التَّخْيِيرُ:

5- الْإِبَاحَةُ تَخْيِيرٌ مِنَ الشَّارِعِ بَيْنَ فِعْلِ الشَّيْءِ وَتَرْكِهِ، مَعَ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ بِلَا تَرَتُّبِ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، أَمَّا التَّخْيِيرُ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ، أَيْ بَيْنَ فِعْلِ الْمُبَاحِ وَتَرْكِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ بَعْضِهَا وَبَعْضٍ، وَهِيَ وَاجِبَاتٌ لَيْسَتْ عَلَى التَّعْيِينِ، كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْcolأَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَإِنَّ فِعْلَ أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُسْقِطُ الْمُطَالَبَةَ، لَكِنَّ تَرْكَهَا كُلَّهَا يَقْتَضِي الْإِثْمَ.

وَقَدْ يَكُونُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَنْدُوبَاتِ كَالتَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَالْمُصَلِّي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِرَكْعَتَيْنِ أَوْ بِأَرْبَعٍ.

وَالْمَنْدُوبُ نَفْسُهُ فِي مَفْهُومِهِ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَإِنْ رُجِّحَ جَانِبُ الْفِعْلِ، وَفِيهِ ثَوَابٌ، بَيْنَمَا التَّخْيِيرُ فِي الْإِبَاحَةِ لَا يُرَجَّحُ فِيهِ جَانِبٌ عَلَى جَانِبٍ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ.

الْعَفْوُ:

6- مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الْعَفْوَ الَّذِي رُفِعَتْ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ، وَنُفِيَ فِيهِ الْحَرَجُ، مُسَاوِيًا لِلْإِبَاحَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا». وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا}. فَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُكَلِّفْنَا بِهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا،

وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ مَثُوبَةً وَلَا عِقَابًا. وَهُوَ بِهَذَا مُسَاوٍ لِلْمُبَاحِ.

أَلْفَاظُ الْإِبَاحَةِ:

7- الْإِبَاحَةُ إِمَّا بِلَفْظٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ مِنَ الشَّارِعِ أَوْ مِنَ الْعِبَادِ. فَمِثَالُ غَيْرِ اللَّفْظِ مِنَ الشَّارِعِ أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ، أَوْ يَسْمَعُ قَوْلًا، فَلَا يُنْكِرُهُ، فَيَكُونُ هَذَا تَقْرِيرًا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ.

وَمِثَالُهُ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَضَعَ الشَّخْصُ مَائِدَةً عَامَّةً لِيَأْكُلَ مِنْهَا مَنْ يَشَاءُ.

وَأَمَّا اللَّفْظُ فَقَدْ يَكُونُ صَرِيحًا، وَمِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْجُنَاحِ وَنَفْيُ الْإِثْمِ أَوِ الْحِنْثِ أَوِ السَّبِيلِ أَوِ الْمُؤَاخَذَةِ. وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ صَرِيحٍ، وَهُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إِلَى قَرِينَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ: الْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وَمِنْهُ الْأَمْرُ الْمُقْتَرِنُ بِالْمَشِيئَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْحِلِّ، أَوْ نَفْيُ التَّحْرِيمِ، أَوِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ التَّحْرِيمِ.

مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِبَاحَةِ:

الشَّارِعُ:

8- الْأَصْلُ أَنَّ حَقَّ الْإِبَاحَةِ لِلشَّارِعِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ، وَقَدْ تَكُونُ الْإِبَاحَةُ مُطْلَقَةً كَالْمُبَاحَاتِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ مُقَيَّدَةً إِمَّا بِشَرْطٍ كَمَا فِي قوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} فِي شَأْنِ مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ كَإِبَاحَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ الْعِبَادُ:

9- الْإِبَاحَةُ مِنَ الْعِبَادِ لَا بُدَّ فِيهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَأْبَاهُ الشَّرْعُ، وَأَلاَّ تَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، وَإِلاَّ كَانَتْ هِبَةً أَوْ إِعَارَةً.

وَإِذَا كَانَتِ الْإِبَاحَةُ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَالْمَدَارُ فِيهَا- بَعْدَ الشَّرْطَيْنِ السَّابِقَيْنِ- أَنْ تَكُونَ مَنُوطَةً بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.

وَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ قَدْ تَكُونُ فِي وَاجِبٍ يَسْقُطُ بِهَا عَنْهُ، كَمَنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَاخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى تَنَاوُلِهِ إِبَاحَةٌ تُسْقِطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةَ، إِذْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ التَّمْلِيكِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ، وَبَيْنَ الْإِبَاحَةِ.

وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ كَالْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْإِطْعَامَ فِي الْكَفَّارَةِ يَجِبُ فِيهِ التَّمْلِيكُ. وَالْإِنْسَانُ يَعْرِفُ إِذْنَ غَيْرِهِ إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقُهُ. فَلَوْ قَالَ مَمْلُوكٌ مَثَلًا: هَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْكَ سَيِّدِي، أَوْ قَالَ صَبِيٌّ: هَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْكَ وَالِدِي، قُبِلَ قَوْلُهُمَا فِي حِلِّهَا؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ فِي الْعَادَةِ عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ.

دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ وَأَسْبَابُهَا:

10- قَدْ يُوجَدُ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى حُكْمِهِ بِخُصُوصِهِ، وَذَلِكَ صَادِقٌ بِصُورَتَيْنِ: الْأُولَى عَدَمُ وُرُودِ دَلِيلٍ لِهَذَا الْفِعْلِ أَصْلًا، وَالثَّانِيَةُ وُرُودُهُ وَلَكِنَّهُ جُهِلَ. وَأَكْثَرُ الْأَفْعَالِ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَيْهَا وَعُرِفَ حُكْمُهَا، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أ- الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ:

11- وَهَذَا مَا يُعْرَفُ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ أَوْ فَعَلَهُ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ.

وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ، أَوْ فِي كُتُبِ عِلْمِ الْكَلَامِ. وَهَذَا الْخِلَافُ لَا مُحَصِّلَ لَهُ الْآنَ بَعْدَ وُرُودِ الْبَعْثَةِ، إِذْ دَلَّ النَّصُّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ. قَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

ب- مَا جُهِلَ حُكْمُهُ:

12- قَدْ يَكُونُ الْجَهْلُ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ، وَلَكِنَّ الْمُكَلَّفَ- مُجْتَهِدًا أَوْ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ- لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، أَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ وَلَمْ يَسْتَطِعْ اسْتِنْبَاطَ الْحُكْمِ.

وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَهْلَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ عُذْرًا إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ الِاطِّلَاعُ عَلَى الدَّلِيلِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي إِمْكَانِهِ الِاطِّلَاعُ عَلَى الدَّلِيلِ وَقَصَّرَ فِي تَحْصِيلِهِ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا. وَيُفَصِّلُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاطِنِهَا.

وَمَنْ عُذِرَ بِجَهْلِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِحُكْمِ الْفِعْلِ، فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْإِبَاحَةِ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الَّذِي فِيهِ خِطَابٌ بِالتَّخْيِيرِ. وَإِنْ كَانَ الْإِثْمُ مَرْفُوعًا عَنْهُ بِعُذْرِ الْجَهْلِ. وَتُفَصَّلُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي مَوَاطِنِهَا فِي بَحْثِ (الْجَهْلِ). وَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

طُرُقُ مَعْرِفَةِ الْإِبَاحَةِ:

13- طُرُقُ مَعْرِفَةِ الْإِبَاحَةِ كَثِيرَةٌ، مِنْ أَهَمِّهَا:

النَّصُّ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَفْصِيلًا.

بَعْضُ أَسْبَابِ الرُّخَصِ: وَالرُّخْصَةُ هِيَ مَا شُرِعَ لِعُذْرٍ شَاقٍّ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ، مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَذَلِكَ كَالْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ لِلْفُقَهَاءِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوَاطِنِهِ.

النَّسْخُ: وَهُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ.

وَالَّذِي يُهِمُّنَا هُنَا هُوَ نَسْخُ الْحَظْرِ بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ فِيمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْحَظْرِ، مِثْلُ جَوَازِ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ بَعْدَ حَظْرِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ» فَالْأَمْرُ بِالنَّبْذِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ يُفِيدُ رَفْعَ الْحَرَجِ، وَهُوَ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ.

الْعُرْفُ. وَالْمُخْتَارُ فِي تَعْرِيفِهِ أَنَّهُ مَا اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ، وَتَلَقَّتْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ بِالْقَبُولِ. وَهُوَ دَلِيلٌ كَاشِفٌ إِذَا لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ أَوْ إِلْغَائِهِ، كَالِاسْتِئْجَارِ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ لَا يُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ.

الِاسْتِصْلَاحُ (الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ):

هِيَ كُلُّ مَصْلَحَةٍ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَلَا مُلْغَاةٍ بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ بِخُصُوصِهَا، يَكُونُ فِي الْأَخْذِ بِهَا جَلْبُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ

، كَمُشَاطَرَةِ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَمْوَالَ الَّذِينَ اتَّهَمَهُمْ بِالْإِثْرَاءِ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ لِلدَّوْلَةِ، وَهَذَا حَتَّى يَضَعَ مَبْدَأً لِلْعُمَّالِ أَلاَّ يَسْتَغِلُّوا مَرَاكِزَهُمْ لِصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ.

مُتَعَلَّقُ الْإِبَاحَةِ:

14- مُتَعَلِّقُ الْإِبَاحَةِ اهْتَمَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَتَحَدَّثُوا عَنْ أَقْسَامِهِ وَفُرُوعِهِ، فَقَسَّمُوهُ مِنْ حَيْثُ مَصْدَرُ الْإِبَاحَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ، وَمَا أَذِنَ فِيهِ الْعِبَادُ. وَمِنْ حَيْثُ نَوْعُ الْإِبَاحَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا: مَا فِيهِ تَمَلُّكٌ وَاسْتِهْلَاكٌ وَانْتِفَاعٌ، وَمَا فِيهِ اسْتِهْلَاكٌ وَانْتِفَاعٌ دُونَ تَمَلُّكٍ. وَلِكُلِّ قِسْمٍ حُكْمُهُ، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَأْتِي.

الْمَأْذُونُ بِهِ مِنَ الشَّارِعِ:

15- الْمَأْذُونُ بِهِ مِنَ الشَّارِعِ مَا وَرَدَ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَتِهِ مِنْ نَصٍّ أَوْ مِنْ مَصْدَرٍ مِنْ مَصَادِرِ التَّشْرِيعِ الْأُخْرَى. وَالْحَدِيثُ هُنَا سَيَكُونُ عَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِذْنًا عَامًّا لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ دُونَ بَعْضِهِمُ الْآخَرِ.

وَفِي ذَلِكَ مَطْلَبَانِ: مَطْلَبٌ لِلْمَأْذُونِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِالْمَالِ الْمُبَاحِ، وَمَطْلَبٌ لِلْمَأْذُونِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ فَقَطْ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ.

الْمَطْلَبُ الْأَوَّلُ

مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ

16- الْمَالُ الْمُبَاحُ هُوَ كُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَادٍ، وَلَيْسَ فِي حِيَازَةِ أَحَدٍ، مَعَ إِمْكَانِ حِيَازَتِهِ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ حَقُّ تَمَلُّكِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَيَوَانًا أَمْ نَبَاتًا أَمْ جَمَادًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-. «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ». وَهَذَا التَّمَلُّكُ لَا يَسْتَقِرُّ إِلاَّ عِنْدَ الِاسْتِيلَاءِ الْحَقِيقِيِّ، الَّذِي ضَبَطُوهُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُبَاحِ، أَيْ الِاسْتِيلَاءِ الْفِعْلِيِّ، أَوْ كَوْنِهِ فِي مُتَنَاوَلِ الْيَدِ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ بِالْقُوَّةِ. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِيلَاءَ بِإِحْدَى صُورَتَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ فِي اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِيَّةِ، كَمَا قَالُوا: إِنَّ الِاسْتِيلَاءَ بِوَسَاطَةِ آلَةٍ وَحِرْفَةٍ وَمَهَارَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَصْدِ لِيَكُونَ اسْتِيلَاءً حَقِيقِيًّا، وَإِلاَّ كَانَ اسْتِيلَاءً حُكْمِيًّا. جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ فِيمَنْ عَلَّقَ كُوزَهُ، أَوْ وَضَعَهُ فِي سَطْحِهِ، فَأَمْطَرَ السَّحَابُ وَامْتَلأَ الْكُوزُ مِنَ الْمَطَرِ، فَأَخَذَهُ إِنْسَانٌ، فَالْحُكْمُ هُوَ اسْتِرْدَادُ الْكُوزِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَأَمَّا الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْكُوزِ قَدْ وَضَعَهُ مِنْ أَجْلِ جَمْعِ الْمَاءِ فَيَسْتَرِدُّ الْمَاءَ أَيْضًا، لِأَنَّ مِلْكَهُ حَقِيقِيٌّ حِينَئِذٍ، فَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ لِذَلِكَ لَمْ يَسْتَرِدُّهُ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْأَمْوَالِ الْمُبَاحَةِ الْمَاءُ وَالْكَلأَُ وَالنَّارُ وَالْمَوَاتُ وَالرِّكَازُ وَالْمَعَادِنُ وَالْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ الْمَمْلُوكَةِ. وَلِكُلٍّ أَحْكَامُهُ

الْمَطْلَبُ الثَّانِي

مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ

17- وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ، الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ إِبَاحَتَهَا تَيْسِيرًا عَلَى عِبَادِهِ، لِيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ فِيهَا، أَوْ لِيُمَارِسُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الْحَيَاةِ مُسْتَعِينِينَ بِهَا، كَالْمَسَاجِدِ، وَالطُّرُقِ. وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ أَحْكَامِهِمَا إِلَى مُصْطَلَحَيْهِمَا.

الْمَأْذُونُ فِيهِ مِنَ الْعِبَادِ

18- إِبَاحَةُ الْعِبَادِ كَذَلِكَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَكُونُ التَّسْلِيطُ فِيهِ عَلَى الْعَيْنِ لِاسْتِهْلَاكِهَا، وَنَوْعٌ يَكُونُ التَّسْلِيطُ فِيهِ عَلَى الْعَيْنِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فَقَطْ.

إِبَاحَةُ الِاسْتِهْلَاكِ:

19- لِهَذِهِ الْإِبَاحَةِ جُزْئِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ نَكْتَفِي مِنْهَا بِمَا يَأْتِي:

أ- الْوَلَائِمُ بِمُنَاسَبَاتِهَا الْمُتَعَدِّدَةِ وَالْمُبَاحُ فِيهَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ دُونَ الْأَخْذِ. ب- الضِّيَافَةُ. وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ أَحْكَامِهِمَا إِلَى مُصْطَلَحَيْهِمَا.

إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ:

20- هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ قَدْ يَكُونُ مَعَ مِلْكِ الْآذِنِ لِعَيْنِ مَا أُذِنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَإِذْنِ مَالِكِ الدَّابَّةِ أَوِ السَّيَّارَةِ لِغَيْرِهِ بِرُكُوبِهَا، وَإِذْنِ مَالِكِ الْكُتُبِ لِلِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا. وَقَدْ يَكُونُ الْإِذْنُ فِيمَا لَا يُمْلَكُ عَيْنُهُ، وَلَكِنْ يُمْلَكُ مَنْفَعَتُهُ بِمِثْلِ الْإِجَارَةِ أَوِ الْإِعَارَةِ، إِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِمَا أَنْ يَكُونَ الِانْتِفَاعُ شَخْصِيًّا لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ.

تَقْسِيمَاتُ الْإِبَاحَةِ:

21- لِلْإِبَاحَةِ تَقْسِيمَاتٌ شَتَّى بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا. وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَنْ تَقْسِيمِهَا مِنْ حَيْثُ مَصْدَرُهَا وَمِنْ حَيْثُ الْكُلِّيَّةُ وَالْجُزْئِيَّةُ:

أ- تَقْسِيمُهَا مِنْ حَيْثُ مَصْدَرُهَا:

22- تُقَسَّمُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى

إِبَاحَةٍ أَصْلِيَّةٍ.

بِأَلاَّ يَرِدَ فِيهَا نَصٌّ مِنَ الشَّارِعِ، وَبَقِيَتْ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا.

وَإِبَاحَةٌ شَرْعِيَّةٌ:

بِمَعْنَى وُرُودِ نَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ بِالتَّخْيِيرِ، وَذَلِكَ إِمَّا ابْتِدَاءً كَإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِمَّا بَعْدَ حُكْمٍ سَابِقٍ مُخَالِفٍ، كَمَا فِي النَّسْخِ أَوِ الرُّخَصِ، وَقَدْ سَبَقَ.

عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي مُلَاحَظَتُهُ أَنَّهُ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَصْبَحَتِ الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ إِبَاحَةً شَرْعِيَّةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}

فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ يَكُونُ مُبَاحًا إِلاَّ مَا وَرَدَ دَلِيلٌ يُثْبِتُ لَهُ حُكْمًا آخَرَ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

وَقَدْ يَكُونُ مَصْدَرُ الْإِبَاحَةِ إِذْنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَى مَا سَبَقَ. (ف9).

ب- تَقْسِيمُهَا بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ:

23- تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:

1- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ طَلَبِ الْكُلِّ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، كَالْأَكْلِ مَثَلًا، فَيُبَاحُ أَكْلُ نَوْعٍ وَتَرْكُ آخَرَ مِمَّا أَذِنَ بِهِ الشَّرْعُ، وَلَكِنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ الْأَكْلِ جُمْلَةً حَرَامٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْهَلَاكِ.

2- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ طَلَبِ الْكُلِّ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، كَالتَّمَتُّعِ بِمَا فَوْقَ الْحَاجَةِ مِنْ طَيِّبَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَذَلِكَ مُبَاحٌ يَجُوزُ تَرْكُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّمَتُّعَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ تَرْكَهُ جُمْلَةً يُخَالِفُ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ مِنَ التَّحَدُّثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَالتَّوْسِعَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» وَكَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ.

3- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ التَّحْرِيمِ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّ، كَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تَقْدَحُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا فِي الْعَدَالَةِ، كَاعْتِيَادِ الْحَلِفِ، وَشَتْمِ الْأَوْلَادِ، فَذَلِكَ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِالِاعْتِيَادِ.

4- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّ، كَاللَّعِبِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا بِالْأَصْلِ إِلاَّ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مَكْرُوهَةٌ.

آثَارُ الْإِبَاحَةِ:

24- إِذَا ثَبَتَتِ الْإِبَاحَةُ ثَبَتَ لَهَا مِنَ الْآثَارِ مَا يَلِي:

1- رَفْعُ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ.

وَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْإِبَاحَةِ بِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُبَاحِ إِثْمٌ.

2- التَّمْكِينُ مِنَ التَّمَلُّكِ الْمُسْتَقِرِّ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَيْنِ، وَالِاخْتِصَاصُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْفَعَةِ:

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ طَرِيقٌ لِتَمَلُّكِ الْعَيْنِ الْمُبَاحَةِ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَيْنِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ فَإِنَّ أَثَرَ الْإِبَاحَةِ فِيهَا اخْتِصَاصُ الْمُبَاحِ لَهُ بِالِانْتِفَاعِ، وَعِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ تَتَّفِقُ فِي أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي طَعَامِ الْوَلِيمَةِ قَبْلَ وَضْعِهِ فِي فَمِهِ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ الْأَكْلِ، إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الْوَلِيمَةِ أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ عُرْفٌ أَوْ قَرِينَةٌ. وَبِهَذَا تُفَارِقُ الْإِبَاحَةُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ بِأَنَّ فِيهِمَا تَمْلِيكًا، كَمَا أَنَّهَا تُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ حَيْثُ تَكُونُ هَذِهِ مُضَافَةً إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ إِذْنِ الدَّائِنِينَ وَالْوَرَثَةِ أَحْيَانًا، كَمَا لَا بُدَّ مِنْ صِيغَةٍ فِي الْوَصِيَّةِ.

25- هَذِهِ هِيَ آثَارُ الْإِبَاحَةِ لِلْأَعْيَانِ فِي إِذْنِ الْعِبَادِ. أَمَّا آثَارُ الْإِبَاحَةِ لِلْمَنَافِعِ فَإِنَّ إِبَاحَتَهَا لَا تُفِيدُ إِلاَّ حِلَّ الِانْتِفَاعِ فَقَطْ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ. فَحَقُّ الِانْتِفَاعِ الْمُجَرَّدِ مِنْ قَبِيلِ التَّرْخِيصِ بِالِانْتِفَاعِ الشَّخْصِيِّ دُونَ الِامْتِلَاكِ، وَمِلْكُ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ اخْتِصَاصٌ حَاجِزٌ لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ مَنَافِعِ الْمُؤَجِّرِ، فَهُوَ أَقْوَى وَأَشْمَلَ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الِانْتِفَاعِ وَزِيَادَةً. وَآثَارُ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا.

الْإِبَاحَةُ وَالضَّمَانُ:

26- الْإِبَاحَةُ لَا تُنَافِي الضَّمَانَ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ إِبَاحَةَ اللَّهِ- وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ- إِلاَّ أَنَّهَا قَدْ يَكُونُ مَعَهَا ضَمَانٌ، فَإِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ تَقْتَضِي صِيَانَةَ الْعَيْنِ الْمُبَاحَةِ عَنِ التَّخْرِيبِ وَالضَّرَرِ، وَمَا حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ ضَمَانِهِ. وَإِبَاحَةُ الْأَعْيَانِ كَأَخْذِ الْمُضْطَرِّ طَعَامَ غَيْرِهِ لَا تَمْنَعُ ضَمَانَ قِيمَتِهِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعَبْدِ حَقًّا فِي مِلْكِهِ، فَلَا يُنْقَلُ الْمِلْكُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ إِلاَّ بِإِسْقَاطِهِ، كَمَا يَقُولُ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ.

وَحَكَى الْقَرَافِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُضْمَنُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَالِكِ، وَالْوَاجِبُ لَا يُؤْخَذُ لَهُ عِوَضٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجِبُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَشْهَرُ؛ لِأَنَّ إِذْنَ الْمَالِكِ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّمَا وُجِدَ إِذْنُ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَنْفِي الْإِثْمَ وَالْمُؤَاخَذَةَ بِالْعِقَابِ.

أَمَّا إِبَاحَةُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُفَصَّلًا.

مَا تَنْتَهِي بِهِ الْإِبَاحَةُ:

27- أَوَّلًا: إِبَاحَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا تَنْتَهِي مِنْ جِهَتِهِ هُوَ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ بَاقٍ، وَالْوَحْيُ قَدِ انْقَطَعَ، فَلَا وَحْيَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّمَا تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ دَوَاعِيهَا، كَمَا فِي الرُّخَصِ، فَإِذَا وُجِدَ السَّفَرُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مَثَلًا وُجِدَتِ الْإِبَاحَةُ بِالتَّرْخِيصِ فِي الْفِطْرِ، فَإِذَا انْتَهَى السَّفَرُ انْتَهَتِ الرُّخْصَةُ.

28- ثَانِيًا: وَإِبَاحَةُ الْعِبَادِ تَنْتَهِي بِأُمُورٍ:

أ- انْتِهَاءُ مُدَّتِهَا إِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ، فَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَإِذَا فُقِدَ الشَّرْطُ فُقِدَ الْمَشْرُوطُ.

ب- رُجُوعُ الْآذِنِ فِي إِذْنِهِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَهُوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَهِيَ لَا تَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ الرُّجُوعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِهِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ.

وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ قَوْلًا آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ، يُفِيدُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ رُجُوعِ الْآذِنِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَأْذُونُ لَهُ.

ج- مَوْتُ الْآذِنِ؛ لِبُطْلَانِ الْإِذْنِ بِمَوْتِهِ، فَتَنْتَهِي آثَارُهُ.

د- مَوْتُ الْمَأْذُونِ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِانْتِفَاعِ رُخْصَةٌ شَخْصِيَّةٌ لَهُ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ إِلاَّ إِذَا نَصَّ الْآذِنُ عَلَى خِلَافِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


16-موسوعة الفقه الكويتية (إثبات 1)

إِثْبَات -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِثْبَاتُ لُغَةً مَصْدَرُ أَثْبَتَ، بِمَعْنَى اعْتَبَرَ الشَّيْءَ دَائِمًا مُسْتَقِرًّا أَوْ صَحِيحًا وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِثْبَاتَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ أَمَامَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ عَلَى حَقٍّ أَوْ وَاقِعَةٍ مِنَ الْوَقَائِعِ.

الْقَصْدُ مِنَ الْإِثْبَاتِ:

2- الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِثْبَاتِ وُصُولُ الْمُدَّعِي إِلَى حَقِّهِ أَوْ مَنْعُ التَّعَرُّضِ لَهُ، فَإِذَا أَثْبَتَ دَعْوَاهُ لَدَى الْقَاضِي بِوَجْهِهَا الشَّرْعِيِّ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَانِعٌ حَقَّهُ، أَوْ مُتَعَرِّضٌ لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، يَمْنَعُهُ الْقَاضِي عَنْ تَمَرُّدِهِ فِي مَنْعِ الْحَقِّ، وَيُوَصِّلُهُ إِلَى مُدَّعِيهِ.

مَنْ يُكَلَّفُ الْإِثْبَاتَ:

3- لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَنَّ الْإِثْبَاتَ يُطْلَبُ مِنَ الْمُدَّعِي، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ». وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى أُنَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي».

وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَمْرًا خَفِيًّا، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِظْهَارٍ، وَلِلْبَيِّنَةِ قُوَّةُ إِظْهَارٍ؛ لِأَنَّهَا كَلَامُ مَنْ لَيْسَ بِخَصْمٍ، وَهُمُ الشُّهُودُ، فَجُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي. وَالْيَمِينُ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَكَّدَةً بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّهَا كَلَامُ الْخَصْمِ، فَلَا تَصْلُحُ حُجَّةً مُظْهِرَةً لِلْحَقِّ، وَتَصْلُحُ حُجَّةً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْيَدِ، فَحَاجَتُهُ إِلَى اسْتِمْرَارِ حُكْمِ الظَّاهِرِ. وَالْيَمِينُ وَإِنْ كَانَتْ كَلَامًا فَهِيَ كَافِيَةٌ لِلِاسْتِمْرَارِ. فَكَانَ جَعْلُ الْبَيِّنَةِ حُجَّةَ الْمُدَّعِي، وَجَعْلُ الْيَمِينِ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَضْعَ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ، وَهُوَ غَايَةُ الْحِكْمَةِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي (الْأَصْلِ): الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ، وَالْآخَرُ هُوَ الْمُدَّعِي، غَيْرَ أَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَهُمَا يَحْتَاجُ إِلَى فِقْهٍ وَدِقَّةٍ، إِذْ الْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الْكَلَامُ مِنْ شَخْصٍ فِي صُورَةِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ إِنْكَارٌ فِي الْمَعْنَى، كَالْوَدِيعِ إِذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّهُ مُدَّعٍ لِلرَّدِّ صُورَةً، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الرَّدِّ مَعْنًى. وَالْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُتَخَاصِمَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُدَّعِيًا مَعْنًى وَحَقِيقَةً. فَالْحُكْمُ فِيهَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

هَلْ يَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ بِالْإِثْبَاتِ عَلَى الطَّلَبِ؟

4- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْحُكْمِ وَاعْتِبَارِهِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الْخُصُومَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَإِذَا صَحَّتِ الدَّعْوَى سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا. فَإِنْ أَقَرَّ فَبِهَا، وَإِنْ أَنْكَرَ فَبَرْهَنَ الْمُدَّعِي، قُضِيَ عَلَيْهِ بِلَا طَلَبِ الْمُدَّعِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهِ ذَلِكَ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلاَّ بِطَلَبِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي، فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إِلاَّ بِطَلَبِهِ.

طُرُقُ إِثْبَاتِ الدَّعْوَى:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ وَالشَّهَادَةَ وَالْيَمِينَ وَالنُّكُولَ وَالْقَسَامَةَ- عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْكَيْفِيَّةِ أَوِ الْأَثَرِ- حُجَجٌ شَرْعِيَّةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْقَاضِي فِي قَضَائِهِ، وَيُعَوِّلُ عَلَيْهَا فِي حُكْمِهِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ الْآتِيَةِ، فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يَقْضِي بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ أَوْ مَا يَئُولُ إِلَيْهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَيْضًا أَبُو ثَوْرٍ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ الْمَدَنِيُّونَ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي شَيْءٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ اللَّيْثُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ مَالِكٍ.

وَزَادَ ابْنُ الْغَرْسِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَرِينَةَ الْوَاضِحَةَ.

وَقَالَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ: لَا شَكَّ أَنَّ مَا زَادَهُ ابْنُ الْغَرْسِ غَرِيبٌ خَارِجٌ عَنِ الْجَادَّةِ. فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعَضِّدْهُ النَّقْلُ.

وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَمْ يَحْصُرِ الطُّرُقَ فِي أَنْوَاعٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ يَكُونُ دَلِيلًا يَقْضِي بِهِ الْقَاضِي وَيَبْنِي عَلَيْهِ حُكْمَهُ. وَهَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَابْنِ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

فَقَدْ جَاءَ فِي الطُّرُقِ الْحُكْمِيَّةِ: وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ، وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ، وَتَارَةً ثَلَاثَةً، بِالنَّصِّ فِي بَيِّنَةِ الْمُفْلِسِ، وَتَارَةً تَكُونُ شَاهِدَيْنِ، وَشَاهِدًا وَاحِدًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً وَنُكُولًا، وَيَمِينًا، أَوْ خَمْسِينَ يَمِينًا، أَوْ أَرْبَعَةَ أَيْمَانٍ. وَتَكُونُ شَاهِدَ الْحَالِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ. فَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» أَيْ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ مَا يُبَيِّنُ صِحَّةَ دَعْوَاهُ.

فَإِذَا ظَهَرَ صِدْقُهُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ حُكِمَ لَهُ.

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي كُلِّ الطُّرُقِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِلْحُكْمِ سَوَاءٌ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ.

الْإِقْرَارُ:

6- الْإِقْرَارُ لُغَةً هُوَ الِاعْتِرَافُ. يُقَالُ: أَقَرَّ بِالْحَقِّ: إِذَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَقَرَّرَهُ غَيْرُهُ بِالْحَقِّ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ. وَشَرْعًا: إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ.

حُجِّيَّةُ الْإِقْرَارِ:

7- الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ:

فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}. إِذِ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْسِ إِقْرَارٌ عَلَيْهَا بِالْحَقِّ.

وَمِنَ السُّنَّةِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ بِنَاءً عَلَى إِقْرَارِهِمَا بِالزِّنَا».

وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْآنَ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُقِرِّ، يُؤْخَذُ بِهِ وَيُعَامَلُ بِمُقْتَضَاهُ.

وَدَلِيلُهُ مِنَ الْمَعْقُولِ: انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَذِبًا.

مَرْتَبَةُ الْإِقْرَارِ بَيْنَ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ.

8- الْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ غَالِبًا.

فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوْقَ الشَّهَادَةِ، بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ غَالِبًا، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَحْدَهُ، فِي حِينِ أَنَّ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ؛ لِأَنَّ الْقُوَّةَ وَالضَّعْفَ وَرَاءَ التَّعَدِّيَةِ وَالِاقْتِصَارِ. فَاتِّصَافُ الْإِقْرَارِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ، وَالشَّهَادَةِ بِالتَّعَدِّيَةِ إِلَى الْغَيْرِ، لَا يُنَافِي اتِّصَافَهُ بِالْقُوَّةِ وَاتِّصَافَهَا بِالضَّعْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ دُونَهَا.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ أَبْلَغُ مِنَ الشَّهَادَةِ.

قَالَ أَشْهَبُ: «قَوْلُ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْجَبُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِهِ.» وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنَ الشَّهَادَةِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ لَا تُسْمَعُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا تُسْمَعُ إِذَا أَنْكَرَ.

بِمَ يَكُونُ الْإِقْرَارُ؟

9- يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِاللَّفْظِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَالْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالسُّكُوتِ بِقَرِينَةٍ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِقْرَارِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَار).

الشَّهَادَةُ:

10- مِنْ مَعَانِي الشَّهَادَةِ فِي اللُّغَةِ الْبَيَانُ وَالْإِظْهَارُ لِمَا يَعْلَمُهُ، وَأَنَّهَا خَبَرٌ قَاطِعٌ. وَشَرْعًا: إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ صِيَغُهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَبَعًا لِتَضَمُّنِهَا شُرُوطًا فِي قَبُولِهَا كَلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ.

حُكْمُهَا:

11- لِلشَّهَادَةِ حَالَتَانِ: حَالَةُ تَحَمُّلٍ، وَحَالَةُ أَدَاءٍ.

فَأَمَّا التَّحَمُّلُ، وَهُوَ أَنْ يُدْعَى الشَّخْصُ لِيَشْهَدَ وَيَحْفَظَ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. فَإِنْ تَعَيَّنَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْأَدَاءُ، وَهُوَ أَنْ يُدْعَى الشَّخْصُ لِيَشْهَدَ بِمَا عَلِمَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لقوله تعالى {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وقوله تعالى {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ طُرُقِ الْقَضَاءِ، لقوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}

وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ». وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا حُجَّةٌ يُبْنَى عَلَيْهَا الْحُكْمُ.

مَدَى حُجِّيَّتِهَا:

13- الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، أَيْ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ غَيْرُ مُقْتَصِرَةٍ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ حُجَّةً بِنَفْسِهَا إِذْ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً إِلاَّ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا الْقَضَاءُ. وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوْطِنِهِ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة).

الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ:

14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ:

فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ الْمَدَنِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يَئُولُ إِلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي شَيْءٍ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَمَنْ مَعَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ».

15- وَالْقَائِلُونَ بِالْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ اخْتَلَفُوا فِي الْيَمِينِ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ:

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ الْوَاحِدِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ الْيَمِينُ مَعَ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ فِيمَا لَوْ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا مَعَ شَهَادَةِ رَجُلٍ. وَفِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ النَّاسِ خَاصَّةً كَحَدِّ الْقَذْفِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.

وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مِنَ الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَقَبُولُ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَالْيَمِينِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بِمُتَوَاتِرٍ أَوْ مَشْهُورٍ. وَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى أُنَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام- «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَمِنْ قَوْلِهِ لِمُدَّعٍ «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ»

فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ. فَإِذَا قُبِلَتْ يَمِينٌ مِنَ الْمُدَّعِي، أَوْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ.

وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الثَّانِي جَعَلَ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَجَمِيعَ أَفْرَادِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ. وَتَضَمَّنَ مَعَ هَذَا قِسْمَةً وَتَوْزِيعًا. وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي اشْتِرَاكَ الْخَصْمَيْنِ فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ الْقِسْمَةُ.

وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ خُيِّرَ الْمُدَّعِي بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إِمَّا بَيِّنَةٍ أَوْ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ يَمْنَعُ تَجَاوُزَهُمَا وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا.

الْيَمِينُ:

16- مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ فِي اللُّغَةِ الْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْجَارِحَةِ وَالْحَلِفِ. وَسُمِّيَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ يَمِينًا لِأَنَّ بِهِ يَتَقَوَّى أَحَدُ طَرَفَيِ الْخُصُومَةِ.

وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ مِنْ طُرُقِ الْقَضَاءِ، وَأَنَّهَا لَا تُوَجَّهُ إِلاَّ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَأَنَّهَا تَكُونُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلاَّ بِطَلَبٍ مِنَ الْخَصْمِ، إِلاَّ فِي مَسَائِلَ مُسْتَثْنَاةٍ، وَتَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، وَعَلَى الْبَتِّ، وَأَنَّهَا لَا يَجْرِي فِيهَا الِاسْتِخْلَافُ إِلاَّ فِيمَا اسْتُثْنِيَ، وَأَنَّهَا تَقْطَعُ الْخُصُومَةَ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّ صِيغَتَهَا وَاحِدَةٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَأَنَّهَا تُوَجَّهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ مِنَ الْقَاضِي وَالْمُحَكَّمِ.

17- وَمَوْضِعُ تَوْجِيهِ الْيَمِينِ هُوَ عِنْدَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَقَّ الْمُدَّعَى، وَعَدَمِ تَقْدِيمِ بَيِّنَةٍ. وَهُنَا تَفْصِيلٌ: فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يُرَتِّبُونَ طَلَبَ الْيَمِينِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ بَيِّنَةٍ حَاضِرَةٍ فِي الْمَجْلِسِ مَعْلُومَةٍ لَهُ. فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً فَلَهُ طَلَبُ الْيَمِينِ.

أَمَّا إِذَا قَالَ الْمُدَّعِي: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ، وَلَكِنْ أَطْلُبُ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ- فِيمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ- يَرَيَانِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي طَلَبِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَدَلٌ عَنِ الْبَيِّنَةِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- فِيمَا رَوَاهُ الْخَصَّافُ عَنْهُ- إِلَى أَنَّ لِلْمُدَّعِي حَقَّ طَلَبِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ فَإِذَا طَلَبَهُ يُجَابُ إِلَيْهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُدَّعِي حَقَّ طَلَبِ الْيَمِينِ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَقْدِيمِ الْبَيِّنَةِ أَوْ طَلَبِ الْيَمِينِ. كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، لَا يُسْتَحْلَفُ، بَلْ يُحْبَسُ لِيُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ. وَكَذَا لَوْ لَزِمَ السُّكُوتَ بِلَا آفَةٍ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَنُقِلَ عَنِ الْبَدَائِعِ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ إِنْكَارٌ فَيُسْتَحْلَفُ.

وَتَوْجِيهُ الْيَمِينِ يَكُونُ مِنَ الْقَاضِي بِطَلَبِ الْمُدَّعِي.

وَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ أَرْبَعَ مَسَائِلَ يُوَجِّهُ فِيهَا الْقَاضِي الْيَمِينَ بِلَا طَلَبِ الْمُدَّعِي.

أُولَاهَا: الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاللَّهِ مَا رَضِيتُ بِالْعَيْبِ.

وَالثَّانِيَةُ: الشَّفِيعُ: بِاللَّهِ مَا أَبْطَلْتُ شُفْعَتَكَ.

وَثَالِثُهَا: الْمَرْأَةُ إِذَا طَلَبَتْ فَرْضَ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ: بِاللَّهِ مَا خَلَّفَ لَكِ زَوْجُكِ شَيْئًا وَلَا أَعْطَاكِ النَّفَقَةَ.

وَرَابِعُهَا: يَحْلِفُ الْمُسْتَحِقُّ: بِاللَّهِ مَا بَايَعْتُ.

18- وَفِي دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ: أَجْمَعَ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ عَلَى تَحْلِيفِ الْمُدَّعِي مَعَ الْبَيِّنَةِ بِلَا طَلَبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: بِاللَّهِ مَا اسْتَوْفَيْتَ مِنَ الْمَدْيُونِ، وَلَا مِنْ أَحَدٍ أَدَّاهُ إِلَيْكَ عَنْهُ، وَلَا قَبَضَهُ لَهُ قَابِضٌ بِأَمْرِكَ، وَلَا أَبْرَأْتَهُ مِنْهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، وَلَا أَحَلْتَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا، وَلَا عِنْدَكَ مِنْهُ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ رَهْنٌ. وَتُسَمَّى هَذِهِ الْيَمِينُ يَمِينَ الِاسْتِظْهَارِ، وَيَمِينَ الْقَضَاءِ، وَالِاسْتِبْرَاءِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ، أَوْ عَلَى الْيَتِيمِ أَوْ عَلَى الْأَحْبَاسِ أَوْ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَعَلَى مَنِ اسْتَحَقَّ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ كَذَلِكَ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ لُزُومَ ذَلِكَ فِي الْعَقَارِ وَالرَّبَاعِ.

وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيفَ يَكُونُ فِي الْمَالِ وَمَا يَئُولُ إِلَى الْمَالِ.

19- وَاخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّحْلِيفِ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْإِيلَاءِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالرِّقِّ وَالْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ. فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ التَّحْلِيفِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ. وَذَهَبَ الْإِمَامَانِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى التَّحْلِيفِ. وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا. وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ لِأَجْلِ الْمَالِ فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يُقْطَعْ. وَمَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا ذُكِرَ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الْحَقُّ الْمُدَّعَى مَالًا فَإِنْ تَضَمَّنَهُ حَلَفَ لِأَجْلِ الْمَالِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

وَسَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِي التَّحْلِيفِ فِي النِّكَاحِ وَمَا تَلَاهُ أَنَّ مَنْ وُجِّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ قَدْ يَنْكُلُ عَنْ حَلِفِهَا فَيُقْضَى لِلْمُدَّعِي. وَالنُّكُولُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْبَذْلَ عِنْدَ الْإِمَامِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْبَذْلُ. وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ أَنَّ النُّكُولَ إِقْرَارٌ فَقَطْ.

20- وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ تَبْطُلُ بِهَا دَعْوَى الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَيْ أَنَّهَا تَقْطَعُ الْخُصُومَةَ لِلْحَالِ.

لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي انْقِطَاعِ الْخُصُومَةِ مُطْلَقًا بِالْيَمِينِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينَ هَلْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَعُودَ إِلَى دَعْوَاهُ إِذَا وَجَدَ بَيِّنَةً؟ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَقْطَعُ الْخُصُومَةَ فِي الْحَالِ فَقَطْ، فَإِذَا وَجَدَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً كَانَ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الْخُصُومَةَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ كَالْخُلْفِ عَنِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا جَاءَ الْأَصْلُ انْتَهَى حُكْمُ الْخُلْفِ؛ إِذْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ تُفِيدُ قَطْعَ الْخُصُومَةِ فِي الْحَالِ، لَا بَرَاءَةً مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ حَالِفًا بِالْخُرُوجِ مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ» فَلَوْ حَلَّفَ الْمُدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً بِمُدَّعَاهُ، أَوْ شَاهِدًا لِيَحْلِفَ مَعَهُ، حُكِمَ بِهَا.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْيَمِينَ تَقْطَعُ الْخُصُومَةَ مُطْلَقًا

21- التَّحْلِيفُ عَلَى فِعْلِ النَّفْسِ يَكُونُ عَلَى الْبَتَاتِ، أَيِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

عَلَامَ يَحْلِفُ؟ وَالتَّحْلِيفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ وَجَبَ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ، فَحَلَفَ عَلَى الْبَتَاتِ، كَفَى وَسَقَطَتْ عَنْهُ، وَعَلَى عَكْسِهِ لَا.

حَقُّ الِاسْتِحْلَافِ (طَلَبُ الْحَلِفِ):

22- الْأَصْلُ فِي طَلَبِ الْيَمِينِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَكِيلُهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوْ وَلِيُّهُ أَوْ نَاظِرُ الْوَقْفِ. وَلَا تَجُوزُ الْإِنَابَةُ فِي الْحَلِفِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَعْمَى أَخْرَسَ أَصَمَّ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ.

وَلَوْ أَصَمَّ كَتَبَ الْقَاضِي لِيُجِيبَ بِخَطِّهِ إِنْ عَرَفَ الْكِتَابَةَ، وَإِلاَّ فَبِإِشَارَتِهِ.

مَا يَحْلِفُ بِهِ:

23- لَا يَحْلِفُ إِلاَّ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ لِحَدِيثِ «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِيَذَرْ».

فَلَوْ حَلَّفَهُ بِغَيْرِهِ، كَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ مِمَّا فِيهِ إِلْزَامٌ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ لَوْلَا الْحَلِفُ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَإِنْ أَلَحَّ الْخَصْمُ. وَقِيلَ: إِنْ مَسَّتِ الضَّرُورَةُ إِلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، فَوَّضَ إِلَى الْقَاضِي.

وَيَحْلِفُ الْيَهُودِيُّ: بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى. وَالنَّصْرَانِيُّ: بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَالْمَجُوسِيُّ: بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ. وَيَحْلِفُ الْوَثَنِيُّ: بِاللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِهِ تَعَالَى. وَيَحْلِفُ الْأَخْرَسُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا. فَإِذَا أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ: أَيْ نَعَمْ، صَارَ حَالِفًا. وَلَا يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: «وَاللَّهِ» وَإِلاَّ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الْحَالِفَ.

مَا يُحْلَفُ عَلَيْهِ:

24- إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى بِمِلْكٍ أَوْ حَقٍّ مُطْلَقٍ فَالتَّحْلِيفُ يَكُونُ عَلَى الْحَاصِلِ، بِأَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ: مَا لَهُ قِبَلِي كَذَا وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى بِمِلْكٍ أَوْ حَقٍّ مُبَيَّنِ السَّبَبِ فَهُنَاكَ اتِّجَاهَاتٌ ثَلَاثٌ:

أ- فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَفْهُومِ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى الْحَاصِلِ- لِأَنَّهُ أَحْوَطُ- فَيَحْلِفُ: لَيْسَ لِلْمُدَّعِي قِبَلِي شَيْءٌ.

ب- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمَفْهُومُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ التَّحْلِيفَ هُنَا عَلَى السَّبَبِ، فَيَقُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: بِاللَّهِ مَا اقْتَرَضْتُ، مَثَلًا.

وَاسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ مَا لَوْ عَرَّضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَأَنْ قَالَ: قَدْ يَبِيعُ الْإِنْسَانُ شَيْئًا ثُمَّ يُقِيلُ، فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ.

ج- وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ التَّحْلِيفَ يُطَابِقُ الْإِنْكَارَ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْحَاصِلَ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ، وَإِنْ أَنْكَرَ السَّبَبَ، وَهُوَ مَوْضُوعُ الدَّعْوَى- يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ. وَفِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا التَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ إِذَا حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ السَّبَبَ وَزِيَادَةً. وَهَذَا فِي الِاتِّفَاقِ.

افْتِدَاءُ الْيَمِينِ وَالْمُصَالَحَةُ عَلَيْهَا:

25- صَحَّ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ افْتِدَاءُ الْيَمِينِ، وَالصُّلْحُ عَنْهَا، لِحَدِيثِ «ذُبُّوا عَنْ أَعْرَاضِكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ» وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- افْتَدَى يَمِينَهُ، وَقَالَ: خِفْتُ أَنْ تُصَادِفَ قَدَرًا، فَيُقَالُ: حَلَفَ فَعُوقِبَ، أَوْ هَذَا شُؤْمُ يَمِينِهِ

وَلَا يَحْلِفُ الْمُنْكِرُ بَعْدَهُ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْخُصُومَةِ. وَلِأَنَّ كِرَامَ النَّاسِ يَتَرَفَّعُونَ عَنِ الْحَلِفِ تَوَرُّعًا.

أَمَّا لَوْ أَسْقَطَ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ قَصْدًا بِدُونِ مُصَالَحَةٍ أَوِ افْتِدَاءٍ بَعْدَ طَلَبِهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْقَاطًا، وَلَهُ التَّحْلِيفُ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيفَ حَقُّ الْقَاضِي.

تَغْلِيظُ الْيَمِينِ:

26- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ تَغْلِيظِ الْيَمِينِ. لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا بِمَ يَكُونُ التَّغْلِيظُ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ تُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْهَيْئَةِ. وَذَلِكَ فِيمَا فِيهِ خَطَرٌ، كَنِكَاحٍ وَطَلَاقٍ وَلِعَانٍ وَوَلَاءٍ وَوَكَالَةٍ وَمَالٍ يَبْلُغُ نِصَابَ زَكَاةٍ.

وَالتَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ كَبَعْدِ الْعَصْرِ أَوْ بَيْنَ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَبِالْمَكَانِ لِأَهْلِ مَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَفِي غَيْرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ.

وَبِالنِّسْبَةِ لِلْهَيْئَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْلِفُ قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ.

وَلَمْ يُجَوِّزِ التَّغْلِيظَ أَكْثَرُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقِيلَ: لَا يُغَلَّظُ عَلَى الْمَعْرُوفِ بِالصَّلَاحِ.

وَعَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّغْلِيظِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ قَصَرَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ذِكْرِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: قُلْ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ، مَا لِفُلَانٍ هَذَا عَلَيْكَ وَلَا قِبَلَكَ هَذَا الْمَالُ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ. وَلِلْقَاضِي أَنْ يَزِيدَ عَلَى هَذَا فِي التَّغْلِيظِ وَيُنْقِصَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمُ التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ ذَلِكَ. وَفِي إِيجَابِ التَّغْلِيظِ حَرَجٌ عَلَى الْقَاضِي. وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ الْيَمِينُ لَا يُعْتَبَرُ نَاكِلًا إِنْ أَبَى التَّغْلِيظَ.

التَّحَالُفُ:

27- مَصْدَرُ تَحَالَفَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ كُلٍّ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ يَمِينَ الْآخَرِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُوَافِقُ لِلشَّرْعِ. غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ التَّحَالُفَ يَكُونُ أَمَامَ الْقَضَاءِ.

وَالْمُرَادُ هُنَا حَلِفُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.

إِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ فِي وَصْفِهِمَا أَوْ فِي جِنْسِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، لِلْحَدِيثِ «إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا»

وَكَذَلِكَ كُلُّ اخْتِلَافٍ بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ فَبِالتَّحَالُفِ تَنْتَهِي الْخُصُومَةُ.

وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي: (تَحَالُف).

رَدُّ الْيَمِينِ:

28- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ صَحِيحَةٌ قُضِيَ لَهُ بِهَا. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَصْلًا، أَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ غَيْرُ حَاضِرَةٍ، طَلَبَ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَعْدَ عَرْضِ الْقَاضِي الْيَمِينَ عَلَيْهِ رُفِضَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ بِلَا عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى مَالًا، أَوِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، وَلَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَقَوْلُهُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» فَحَصَرَهَا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي.

فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي حُكِمَ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَقَدْ صَوَّبَهُ أَحْمَدُ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِبَعِيدٍ، يَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ. وَقَالَ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ، وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى، لِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ» وَلِأَنَّهُ إِذَا نَكَلَ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي وَقَوِيَ جَانِبُهُ، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّهِ، كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ نُكُولِهِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا أَدَعُهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.

النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ:

29- النُّكُولُ لُغَةً: الِامْتِنَاعُ. يُقَالُ: نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ؛ أَيِ امْتَنَعَ عَنْهَا. وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الِاصْطِلَاحِ إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.

وَالنُّكُولُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي أَحَدِ رَأْيَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً يُقْضَى بِهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَلْ إِذَا نَكَلَ فِي دَعْوَى الْمَالِ أَوْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي بِطَلَبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي قُضِيَ لَهُ بِمَا طَلَبَ وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي رُفِضَتْ دَعْوَاهُ. فَقَدْ أَقَامُوا نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَقَامَ الشَّاهِدِ، إِذْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِحَقِّهِ إِذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَحَلَفَ، فَكَذَلِكَ يُقْضَى لَهُ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي. فَالْحَقُّ عِنْدَهُمْ لَا يَثْبُتُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ بِهِ وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ لَهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ كُلَّ دَعْوَى لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، كَالْقَتْلِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، فَلَا يَمِينَ تُوَجَّهُ مِنَ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَلَا بُدَّ لِتَوْجِيهِ الْيَمِينِ مِنْ إِقَامَةِ شَاهِدٍ عَلَى الدَّعْوَى، فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِرَدِّ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَلَا تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي رَدِّهَا عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَيْهِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ لِكَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا، إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ لِيَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ. وَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ إِنْ نَكَلَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَيُحْكَمُ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.

قَضَاءُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ:

30- الْمُرَادُ بِعِلْمِ الْقَاضِي ظَنُّهُ الْمُؤَكَّدُ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ مُسْتَنِدًا إِلَيْهِ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا، وَلَيْسَ مِنَ الِاحْتِيَاطِ الِاكْتِفَاءُ بِعِلْمِ الْقَاضِي، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ الْمَنْطُوقِ بِهَا، وَأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ فِي عِلْمِ الْقَاضِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، فَقَدْ فَاتَتْ صُورَتُهَا، وَهُوَ النُّطْقُ، وَفَوَاتُ الصُّورَةِ يُورِثُ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَأَمَّا قَضَاءُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَمَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:

فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ عِلْمُهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا. وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ». فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَقْضِي بِمَا يَسْمَعُ لَا بِمَا يَعْلَمُ، وَبِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي قَضِيَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذَاكَ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تَدَاعَى عِنْدَهُ رَجُلَانِ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: أَنْتَ شَاهِدِي. فَقَالَ إِنْ شِئْتُمَا شَهِدْتُ وَلَمْ أَحْكُمْ أَوْ أَحْكُمُ وَلَا أَشْهَدُ

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ الْإِمَامَيْنِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ عِلْمُهُ قَبْلَ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ أَمْ بَعْدَهَا، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي مُجْتَهِدًا- وُجُوبًا- ظَاهِرَ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ- نَدْبًا- وَاشْتَرَطُوا لِنَفَاذِ حُكْمِهِ أَنْ يُصَرِّحَ بِمُسْتَنَدِهِ، فَيَقُولُ: عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ عَلَيْكَ مَا ادَّعَاهُ، وَقَضَيْتُ، أَوْ: حَكَمْتُ عَلَيْكَ بِعِلْمِي. فَإِنْ تَرَكَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ «بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قَالَتْ لَهُ هِنْدُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِنِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» فَحَكَمَ لَهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا إِقْرَارٍ، لِعِلْمِهِ بِصِدْقِهَا، وَبِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالْبَيِّنَةِ، فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ عَيْنَهَا، بَلْ حُصُولَ الْعِلْمِ بِحُكْمِ الْحَادِثَةِ. وَعِلْمُهُ الْحَاصِلُ بِالْمُعَايَنَةِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِهِ الْحَاصِلِ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالشَّهَادَةِ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْبَرِ الظَّنِّ، وَالْحَاصِلُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ، فَهُوَ أَقْوَى، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهِ أَوْلَى.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


17-موسوعة الفقه الكويتية (احتكار)

احْتِكَارٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاحْتِكَارُ لُغَةً: حَبْسُ الطَّعَامِ إِرَادَةَ الْغَلَاءِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ: الْحُكْرَةُ.

أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَدْ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: اشْتِرَاءُ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ وَحَبْسُهُ إِلَى الْغَلَاءِ.وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ رَصْدُ الْأَسْوَاقِ انْتِظَارًا لِارْتِفَاعِ الْأَثْمَانِ، وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ اشْتِرَاءُ الْقُوتِ وَقْتَ الْغَلَاءِ، وَإِمْسَاكُهُ وَبَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لِلتَّضْيِيقِ.وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ.بِأَنَّهُ اشْتِرَاءُ الْقُوتِ وَحَبْسُهُ انْتِظَارًا لِلْغَلَاءِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2- الِادِّخَارُ: ادِّخَارُ الشَّيْءِ تَخْبِئَتُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ.وَعَلَى هَذَا فَيَفْتَرِقُ الِادِّخَارُ عَنِ الِاحْتِكَارِ فِي أَنَّ الِاحْتِكَارَ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِيمَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ حَبْسُهُ، عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، أَمَّا الِادِّخَارُ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَضُرُّ وَمَا لَا يَضُرُّ، وَفِي الْأَمْوَالِ النَّقْدِيَّةِ وَغَيْرِهَا.كَمَا أَنَّ الِادِّخَارَ قَدْ يَكُونُ مَطْلُوبًا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ، كَادِّخَارِ الدَّوْلَةِ حَاجِيَّاتِ الشَّعْبِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ «ادِّخَارٌ».

صِفَةُ الِاحْتِكَارِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

3- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِكَارَ بِالْقُيُودِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ مَحْظُورٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ.وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْحَظْرِ.فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ صَرَّحُوا بِالْحُرْمَةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} فَقَدْ فَهِمَ مِنْهَا صَاحِبُ الِاخْتِيَارِ أَنَّهَا أَصْلٌ فِي إِفَادَةِ التَّحْرِيمِ وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَى عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إِلْحَادٌ فِيهِ» وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.وَاسْتَدَلَّ الْكَاسَانِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ: «الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ».وَحَدِيثِ: «مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ» ثُمَّ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إِلاَّ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَلِأَنَّهُ ظُلْمٌ؛ لِأَنَّ مَا يُبَاعُ فِي الْمِصْرِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي عَنْ بَيْعِهِ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَقَدْ مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ، وَمَنْعُ الْحَقِّ عَنِ الْمُسْتَحِقِّ ظُلْمٌ وَحَرَامٌ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ قَلِيلُ الْمُدَّةِ وَكَثِيرُهَا، لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ.

4- كَمَا اعْتَبَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ مِنَ الْكَبَائِرِ.وَيَقُولُ: إِنَّ كَوْنَهُ كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ، مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، كَاللَّعْنَةِ وَبَرَاءَةِ ذِمَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَالضَّرْبِ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ.وَبَعْضُ هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَابِلَةُ عَلَى التَّحْرِيمِ مَا رَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ»،، وَمَا رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ»، وَمَا رُوِيَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَرَأَى طَعَامًا كَثِيرًا قَدْ أُلْقِيَ عَلَى بَابِ مَكَّةَ، فَقَالَ: مَا هَذَا الطَّعَامُ؟ فَقَالُوا: جُلِبَ إِلَيْنَا.فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ وَفِيمَنْ جَلَبَهُ.فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّهُ قَدِ احْتُكِرَ.قَالَ: مَنِ احْتَكَرَهُ؟ قَالُوا: فُلَانٌ مَوْلَى عُثْمَانَ، وَفُلَانٌ مَوْلَاكَ، فَاسْتَدْعَاهُمَا، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَضْرِبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ أَوِ الْإِفْلَاسِ».

5- لَكِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ عَبَّرُوا عَنْهُ بِالْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ.وَتَصْرِيحُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْكَرَاهَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ.وَفَاعِلُ الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا عِنْدَهُمْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، كَفَاعِلِ الْحَرَامِ، كَمَا أَنَّ كُتُبَ الشَّافِعِيَّةِ الَّتِي رَوَتْ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ قَدْ قَالُوا عَنْهُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ.

الْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ:

6- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ رَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ.وَلِذَا فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ احْتَكَرَ إِنْسَانٌ شَيْئًا، وَاضْطُرَّ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ- عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ- دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ، وَتَعَاوُنًا عَلَى حُصُولِ الْعَيْشِ.وَهَذَا مَا يُسْتَفَادُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ هُوَ الْقَصْدُ مِنَ التَّحْرِيمِ، إِذْ قَالَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالسُّوقِ فَلَا بَأْسَ وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْجَمِيعِ.

مَا يَجْرِي فِيهِ الِاحْتِكَارُ:

7- هُنَاكَ ثَلَاثُ اتِّجَاهَاتٍ:

الْأَوَّلُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا احْتِكَارَ إِلاَّ فِي الْقُوتِ خَاصَّةً.الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِكَارَ يَجْرِي فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ، وَيَتَضَرَّرُونَ مِنْ حَبْسِهِ، مِنْ قُوتٍ وَإِدَامٍ وَلِبَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا احْتِكَارَ إِلاَّ فِي الْقُوتِ وَالثِّيَابِ خَاصَّةً.وَهَذَا قَوْلٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ- أَصْحَابُ الِاتِّجَاهِ الْأَوَّلِ- بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْضُهَا عَامٌّ، كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى رَوَاهَا مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ «لَا يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ»، وَحَدِيثُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغَلِّيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ» وَزَادَ الْحَاكِمُ: «وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ.» فَهَذِهِ نُصُوصٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُحْتَكَرٍ.

وَقَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ أُخْرَى خَاصَّةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ.» وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى بِلَفْظِ: «مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ».وَزَادَ الْحَاكِمُ.«وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ».

وَإِذَا اجْتَمَعَتْ نُصُوصٌ عَامَّةٌ وَأُخْرَى خَاصَّةٌ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ حُمِلَ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَالْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ بِالْأَحَادِيثِ الْعَامَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الْخَاصَّةِ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ اللَّقَبِ، وَاللَّقَبُ لَا مَفْهُومَ لَهُ.وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ الثَّانِي فَإِنَّهُ حَمَلَ الثِّيَابَ عَلَى الْقُوتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنَ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ.

مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الِاحْتِكَارُ:

8- يَتَحَقَّقُ الِاحْتِكَارُ فِي صُوَرٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ كَوْنُ الشَّيْءِ الْمُحْتَكَرِ طَعَامًا وَأَنْ يَحُوزَهُ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ وَأَنْ يَقْصِدَ الْإِغْلَاءَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الْإِضْرَارُ وَالتَّضْيِيقُ عَلَيْهِمْ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَحْرِيمِهَا بِحَسَبِ الشُّرُوطِ.

شُرُوطُ الِاحْتِكَارِ:

9- يُشْتَرَطُ فِي الِاحْتِكَارِ مَا يَأْتِي:

1- أَنْ يَكُونَ تَمَلُّكُهُ لِلسِّلْعَةِ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ إِنَّمَا هِيَ بِاحْتِبَاسِ السِّلَعِ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ تَمَلُّكُهَا بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ، أَوِ الْجَلْبِ، أَوْ كَانَ ادِّخَارًا لِأَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ وَمَنْ يَعُولُ.

وَعَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا احْتِكَارَ فِيمَا جُلِبَ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ سُوقٍ غَيْرِ سُوقِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مِنَ السُّوقِ الَّذِي اعْتَادَتِ الْمَدِينَةُ أَنْ تَجْلُبَ طَعَامَهَا مِنْهُ.وَيَرَى كُلٌّ مِنْ صَاحِبِ الِاخْتِيَارِ وَصَاحِبِ الْبَدَائِعِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ سُوقٍ اعْتَادَتِ الْمَدِينَةُ أَنْ تَجْلُبَ طَعَامَهَا مِنْهُ، فَاشْتَرَاهُ قَاصِدًا حَبْسَهُ، يَكُونُ مُحْتَكِرًا وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الشِّرَاءِ لِتَحَقُّقِ الِاحْتِكَارِ أَنَّ حَبْسَ غَلَّةِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ لَا يَكُونُ احْتِكَارًا.وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ.وَهُنَاكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مَنِ اعْتَبَرَ حَبْسَ هَذِهِ الْغَلَّةِ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِكَارِ.وَمِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ يَرَى- أَيْضًا- أَنَّ هَذَا رَأْيٌ لِأَبِي يُوسُفَ.وَقَدْ نَقَلَ الرَّهُونِيُّ عَنِ الْبَاجِيِّ أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ قَالَ: «إِذَا وَقَعَتِ الشِّدَّةُ أُمِرَ أَهْلُ الطَّعَامِ بِإِخْرَاجِهِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ جَالِبًا لَهُ، أَوْ كَانَ مِنْ زِرَاعَتِهِ».وَالْمُعْتَمَدُ مَا أَفَادَهُ ابْنُ رُشْدٍ. 2- أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ وَقْتَ الْغَلَاءِ لِلتِّجَارَةِ انْتِظَارًا لِزِيَادَةِ الْغَلَاءِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.فَلَوِ اشْتَرَى فِي وَقْتِ الرُّخْصِ، وَحَبَسَهُ لِوَقْتِ الْغَلَاءِ، فَلَا يَكُونُ احْتِكَارًا عِنْدَهُمْ.

3- وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ لِمُدَّةٍ، وَلَمْ نَقِفْ لِفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى كَلَامٍ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا الَّذِي تَعَرَّضَ لِذِكْرِ الْمُدَّةِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ نَقْلًا عَنِ الشَّرْنَبَلَالِيِّ عَنِ الْكَافِي إِنَّ الِاحْتِكَارَ شَرْعًا اشْتِرَاءُ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ وَحَبْسُهُ إِلَى مُدَّةٍ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا، فَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدِهِ: «مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ».لَكِنْ حَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ مُنْكَرٌ.وَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهَا شَهْرٌ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ.

وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ بَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ قِلَّةَ الصِّنْفِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْقَحْطَ.وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْمُدَدَ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا.أَمَّا الْإِثْمُ الْأُخْرَوِيُّ فَيَتَحَقَّقُ وَإِنْ قَلَّتِ الْمُدَّةُ.وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَصْكَفِيُّ هَذَا الْخِلَافَ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ أَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمُدَّتَيْنِ.وَقَدْ نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ.

4- أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَكِرُ قَاصِدًا الْإِغْلَاءَ عَلَى النَّاسِ وَإِخْرَاجَهُ لَهُمْ وَقْتَ الْغَلَاءِ.

احْتِكَارُ الْعَمَلِ:

10- تَعَرَّضَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِمِثْلِ هَذَا لَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِكَارِ الِاصْطِلَاحِيِّ، وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الِاحْتِكَارِ، لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْعَامَّةِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، مَنَعُوا الْقَسَّامِينَ- الَّذِينَ يَقْسِمُونَ الْعَقَارَ وَغَيْرَهُ بِالْأُجْرَةِ- أَنْ يَشْتَرِكُوا، فَإِنَّهُمْ إِذَا اشْتَرَكُوا وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ أَغْلَوْا عَلَيْهِمُ الْأُجْرَةَ.وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَمْنَعَ مُغَسِّلِي الْمَوْتَى وَالْحَمَّالِينَ لَهُمْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِغْلَاءِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ اشْتِرَاكُ كُلِّ طَائِفَةٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى مَنَافِعِهِمْ.

احْتِكَارُ الصِّنْفِ:

11- وَقَدْ صَوَّرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَلْزَمَ النَّاسَ أَلاَّ يَبِيعَ الطَّعَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَافِ إِلاَّ نَاسٌ مَعْرُوفُونَ، فَلَا تُبَاعُ تِلْكَ السِّلَعُ إِلاَّ لَهُمْ، ثُمَّ يَبِيعُونَهَا هُمْ بِمَا يُرِيدُونَ.فَهَذَا مِنَ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ بِلَا تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.وَيَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَبِيعُوا وَيَشْتَرُوا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ مَنْعًا لِلظُّلْمِ.وَكَذَلِكَ إِيجَارُ الْحَانُوتِ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْقَرْيَةِ بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ، عَلَى أَلاَّ يَبِيعَ أَحَدٌ غَيْرُهُ، نَوْعٌ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ قَهْرًا وَأَكْلِهَا بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ.

الْعُقُوبَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لِلْمُحْتَكِرِ:

12- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِإِخْرَاجِ مَا احْتَكَرَ إِلَى السُّوقِ وَبَيْعِهِ لِلنَّاسِ.فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ؟ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:

أَوَّلًا: إِذَا خِيفَ الضَّرَرُ عَلَى الْعَامَّةِ أُجْبِرَ، بَلْ أَخَذَ مِنْهُ مَا احْتَكَرَهُ، وَبَاعَهُ، وَأَعْطَاهُ الْمِثْلَ عِنْدَ وُجُودِهِ، أَوْ قِيمَتَهُ.وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ.

ثَانِيًا: إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفٌ عَلَى الْعَامَّةِ فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ لِلْحَاكِمِ جَبْرَهُ إِذَا لَمْ يَمْتَثِلِ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ.وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فَيَرَيَانِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْبَيْعِ عَزَّرَهُ الْحَاكِمُ.

وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْجَبْرَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْجَبْرَ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ.وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْإِنْذَارَ مَرَّةً، وَقِيلَ اثْنَتَيْنِ، وَقِيلَ ثَلَاثًا.وَتَدُلُّ النُّقُولُ عَنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَرْجِعُهَا مُرَاعَاةُ الْمَصْلَحَةِ.وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


18-موسوعة الفقه الكويتية (إسقاط 2)

إِسْقَاطٌ -2

الْمُسْقَطُ عَنْهُ:

31- الْمُسْقَطُ عَنْهُ هُوَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَوْ تَقَرَّرَ قِبَلَهُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فِي الْجُمْلَةِ.هَذَا، وَأَغْلَبُ الْإِسْقَاطَاتِ يَكُونُ الْمُسْقَطُ عَنْهُ أَوْ لَهُ مَعْرُوفًا، كَمَا فِي الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْخِيَارِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا نَتَصَوَّرُ الْجَهَالَةَ فِي إِبْرَاءِ الْمَدِينِ وَفِي الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

أَمَّا الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَرَّأُ مَعْلُومًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُ شَخْصًا أَوْ رَجُلًا مِمَّا لِي قِبَلَهُ لَا يَصِحُّ.وَمِثْلُهُ مَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُ أَحَدَ غَرِيمَيَّ، أَمَّا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُ أَهَالِي الْمَحَلَّةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ مُعَيَّنِينَ، وَعِبَارَةً عَنْ أَشْخَاصٍ مَعْدُودِينَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ.

كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ لِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَلَوْ أُبْرِئَ غَيْرُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَا يَصِحُّ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: إِذَا أُبْرِئَ قَاتِلٌ مِنْ دِيَةٍ وَاجِبَةٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ فِي ذَلِكَ، لِوُقُوعِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.أَمَّا لَوْ أُبْرِئَتْ عَاقِلَةُ الْقَاتِلِ، أَوْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: عَفَوْتُ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يُسَمِّ الْمُبَرَّأَ مِنْ قَاتِلٍ أَوْ عَاقِلَةٍ صَحَّ الْإِبْرَاءُ، لِانْصِرَافِهِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.

وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَرَّأُ مُقِرًّا بِالْحَقِّ، حَيْثُ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْإِنْكَارِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي غَيْرِ الدَّيْنِ مِمَّا يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْإِبْهَامِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ، وَلَكِنَّهُ يَلْزَمُ بِتَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا تُطَلَّقَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمِصْرِيِّينَ، وَقَالَ الْمَدَنِيُّونَ: يَخْتَارُ وَاحِدَةً لِلطَّلَاقِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا.

مَحَلُّ الْإِسْقَاطِ:

32- الْمَحَلُّ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ يُسَمَّى حَقًّا، وَهُوَ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ الْعَامِّ يَشْمَلُ الْأَعْيَانَ، وَمَنَافِعَهَا، وَالدُّيُونَ، وَالْحُقُوقَ الْمُطْلَقَةَ.

وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ حَقًّا مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ- بِهَذَا الْإِطْلَاقِ الْعَامِّ- يُصْبِحُ لَهُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عَلَيْهِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْمَنْعِ عَنْهُ إِلاَّ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، فَيُمْنَعُ عَنِ التَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ.

وَالْإِسْقَاطُ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَحَلٍّ قَابِلًا لِلْإِسْقَاطِ، بَلْ مِنْهُ مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ لِتَوَفُّرِ شُرُوطِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَقْبَلُهُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شُرُوطِهِ، كَكَوْنِهِ مَجْهُولًا، أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ وَهَكَذَا.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ

أَوَّلًا- الدَّيْنُ:

33- يَصِحُّ بِاتِّفَاقٍ إِسْقَاطُ الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ، وَالْحُقُوقُ تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، فَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى غَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَمْ كَانَ مُسْلَمًا فِيهِ، أَمْ نَفَقَةً مَفْرُوضَةً مَاضِيَةً لِلزَّوْجَةِ، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُهُ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْإِسْقَاطُ خَاصًّا بِدَيْنٍ أَمْ عَامًّا لِكُلِّ الدَّيْنِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا أَمْ مُعَلَّقًا أَمْ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.وَكَمَا يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ كُلِّ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ بَعْضِهِ.

وَكَمَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ الدَّيْنِ بِدُونِ عِوَضٍ، يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ نَظِيرَ عِوَضٍ، مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الصُّورَةِ أَوِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا ذَلِكَ، وَمِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ:

أ- أَنْ يُعْطِيَ الْمَدِينُ الدَّائِنَ ثَوْبًا فِي مُقَابَلَةِ إِبْرَائِهِ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَمْلِكُ الدَّائِنُ الْعِوَضَ الْمَبْذُولَ لَهُ نَظِيرَ الْإِبْرَاءِ وَيُبَرَّأُ الْمَدِينُ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.

ب- يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا دَيْنٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَيْهَا بِدَيْنِهِ مَكَانَ نَفَقَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً فَلَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ أَيِّ أَمْوَالِهِ شَاءَ، وَهَذَا مِنْ مَالِهِ.

وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيلِ الْمُقَاصَّةِ، وَالْمُقَاصَّةُ بِالتَّرَاضِي تُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا بِعِوَضٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِهَا مِنَ اتِّحَادِ الدَّيْنِ قَدْرًا وَوَصْفًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ.

ج- كَذَلِكَ يَأْتِي إِسْقَاطُ الدَّيْنِ نَظِيرَ عِوَضِ صُورَةِ الصُّلْحِ.وَقَدْ قَسَّمَ الْقَرَافِيُّ الْإِسْقَاطَ إِلَى قِسْمَيْنِ: بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِهِ، وَجَعَلَ مِنَ الْإِسْقَاطِ بِعِوَضٍ الصُّلْحَ عَنَ الدَّيْنِ.

د- فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: إِذَا أَبْرَأَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لِيُطَلِّقَهَا، صَحَّ الْإِبْرَاءُ، وَيَكُونُ بِعِوَضٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا.

هـ- وَقَدْ يَأْتِي إِسْقَاطُ الدَّيْنِ بِعِوَضٍ فِي صُوَرِ التَّعْلِيقِ، كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي سَيَّارَتَكَ أَسْقَطْتُ عَنْكَ الدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَيْكَ.

و- وَالْإِبْرَاءُ أَيْضًا فِي صُورَةِ الْخُلْعِ يُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيلِ الْعِوَضِ.

ثَانِيًا: الْعَيْنُ

34- الْأَصْلُ أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ التَّصَرُّفَاتِ تُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلْمِلْكِ.وَذَلِكَ كَالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهِيَ عَيْنٌ.وَالْعِتْقُ مَشْرُوعٌ بَلْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ شَرْعًا، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ.كَذَلِكَ الْوَقْفُ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، فَفِي قَوَاعِدِ الْمُقْرِي: وَقْفُ الْمَسَاجِدِ إِسْقَاطُ مِلْكٍ إِجْمَاعًا، وَفِي غَيْرِهَا قَوْلَانِ.

وَقَدْ يَأْتِي إِسْقَاطُ الْعَيْنِ نَظِيرَ عِوَضٍ عَمَّنْ عَقَدَ الصُّلْحَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ شَرْعًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا».وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ إِقْرَارٍ، أَمْ عَنْ إِنْكَارٍ، أَمْ سُكُوتٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةُ حَقِّهِ فِي زَعْمِهِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ افْتِدَاءُ الْيَمِينِ وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ.بَلْ إِنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ أَجَازَ الصُّلْحَ عَمَّا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِمَالٍ لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى ضَيَاعِ الْمَالِ.

وَيُلَاحَظُ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَا يُجِيزُونَ الصُّلْحَ عَنْ إِنْكَارٍ.

وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ اُعْتُبِرَ كَالْبَيْعِ، إِنْ كَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، أَوْ كَالْإِجَارَةِ إِنْ كَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ، أَوْ كَالْهِبَةِ إِنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ الْعَيْنِ.وَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ حَالٍ شُرُوطُهَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (صُلْح).

ثَالِثًا: الْمَنْفَعَةُ:

35- الْمَنَافِعُ حُقُوقٌ تَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّيهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ نَتِيجَةَ مِلْكِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، أَمْ كَانَتْ نَتِيجَةَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ (أَيِ الْعَيْنِ) بِمُقْتَضَى عَقْدٍ، كَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ، أَوْ بِغَيْرِ عَقْدٍ، كَتَحْجِيرِ الْمَوَاتِ لِإِحْيَائِهِ، وَالِاخْتِصَاصِ بِمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.

وَالْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ أَنَّهَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِإِسْقَاطِ مَالِكِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا أَوْ مُسْتَحِقِّ مَنْفَعَتِهَا، إِذْ كُلُّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ.وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.وَصُوَرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا:

أ- مَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ، فَمَاتَ الْمُوصِي، وَبَاعَ الْوَارِثُ الدَّارَ، وَرَضِيَ بِهِ الْمُوصَى لَهُ، جَازَ الْبَيْعُ وَبَطَلَتْ سُكْنَاهُ.

ب- مَنْ وَصَّى بِعَيْنِ دَارٍ لِزَيْدٍ، وَبِالْمَنْفَعَةِ لِعَمْرٍو، فَأَسْقَطَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ حَقَّهُ، سَقَطَ بِالْإِسْقَاطِ.

ج- مَنْ كَانَ لَهُ مَسِيلُ مَاءٍ فِي دَارِ غَيْرِهِ، فَقَالَ: أَبْطَلْتُ حَقِّي فِي الْمَسِيلِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ إِجْرَاءِ الْمَاءِ دُونَ الرَّقَبَةِ بَطَلَ حَقُّهُ قِيَاسًا عَلَى حَقِّ السُّكْنَى.

د- يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ فِي الِانْتِفَاعِ بِبُيُوتِ الْمَدَارِسِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَسْقَطَهُ صَاحِبُهُ.فَإِنْ أَسْقَطَهُ مُدَّةً مَخْصُوصَةً رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَائِهَا، وَإِنْ أَطْلَقَ فِي الْإِسْقَاطِ فَلَا يَعُودُ لَهُ.

هـ- أَمَاكِنُ الْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ فِيهَا.

هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي الْمَنَافِعِ بِدُونِ عِوَضٍ.

36- أَمَّا إِسْقَاطُهُ بِعِوَضٍ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَمِلْكِ الِانْتِفَاعِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ مَلَكَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا، وَمَنْ مَلَكَ الِانْتِفَاعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ فَلَيْسَ لَهُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ، أَمْ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُ حَقِّهِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ

وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَإِنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنِ الْمَنَافِعِ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ إِلاَّ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، أَوْ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ.وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ عِنْدَهُمْ.وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِفْرَادُ حُقُوقِ الِارْتِفَاقِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَبَعًا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (إِجَارَة، ارْتِفَاق، إِعَارَة، وَصِيَّة، وَقْف).

37- وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ: مَا لَوْ صَالَحَ الْوَرَثَةُ مَنْ أَوْصَى لَهُ مُوَرِّثُهُمْ بِسُكْنَى دَارٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ التَّرِكَةِ بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ جَازَ ذَلِكَ صُلْحًا، لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِعَيْنِ الدَّارِ صَالَحَ الْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَاهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ بِمَنْفَعَةِ عَيْنٍ أُخْرَى لِتَسَلُّمِ الدَّارِ لَهُ جَازَ.

رَابِعًا: الْحَقُّ الْمُطْلَقُ

38- يَنْقَسِمُ الْحَقُّ بِحَسَبِ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ إِلَى الْآتِي:

حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ، أَوْ هُوَ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.

وَحَقٌّ خَالِصٌ لِلْعِبَادِ، وَهُوَ مَصَالِحُهُمُ الْمُقَرَّرَةُ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ.

وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالتَّعْزِيرِ.

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّهُ مَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.

وَإِفْرَادُ نَوْعٍ مِنَ الْحُقُوقِ بِجَعْلِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَقَطْ، إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ تَسْلِيطِ الْعَبْدِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِحَيْثُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ (حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ) مَوْكُولٌ لِمَنْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ ثُبُوتًا وَإِسْقَاطًا.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:

39- ذِكْرُ حَقِّ اللَّهِ هُنَا فِيمَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ لِلْإِسْقَاطِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ، أَمَّا مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

وَحُقُوقُ اللَّهِ: إِمَّا عِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ مَالِيَّةٌ كَالزَّكَاةِ، أَوْ بَدَنِيَّةٌ كَالصَّلَاةِ، أَوْ جَامِعَةٌ لِلْبَدَنِ وَالْمَالِ كَالْحَجِّ.وَإِمَّا عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ كَالْحُدُودِ.وَإِمَّا كَفَّارَاتٌ وَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ.

وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ فِي شَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَبِلَ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى فَيَسْقُطَ الْحَدُّ، بِخِلَافِ حَقِّ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ.

وَبِإِيجَازٍ نَذْكُرُ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِإِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ كَمَا اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ:

40- حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ فِي الْجُمْلَةِ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا الشَّرْعُ مُؤَدِّيَةً إِلَى ذَلِكَ، تَفَضُّلًا مِنْهُ، وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ، وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ، كَإِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ عَنِ الْمَجْنُونِ، وَكَإِسْقَاطِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ كَالْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ، لِمَا يَنَالُهُمْ مِنْ مَشَقَّةٍ.وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ الْمَشَاقَّ وَأَنْوَاعَهَا، وَبَيَّنُوا لِكُلِّ عِبَادَةٍ مَرْتَبَةً مُعَيَّنَةً مِنْ مَشَاقِّهَا الْمُؤَثِّرَةِ فِي إِسْقَاطِهَا، وَأَدْرَجُوا ذَلِكَ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، أَخْذًا مِنْ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.

وَالْحُكْمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْأَعْذَارِ يُسَمَّى رُخْصَةً.وَمِنْ أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ مَا يُسَمَّى رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ، كَإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَإِسْقَاطِ الصَّوْمِ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْوَى عَلَيْهِ.

وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ قَصْرًا فَرْضٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَتُعْتَبَرُ رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ التَّصَدُّقَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إِسْقَاطٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ كَوَلِيِّ الْقِصَاصِ، فَهُوَ مِنَ اللَّهِ الَّذِي تَلْزَمُ طَاعَتُهُ أَوْلَى.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ سُنَّةٌ لِلتَّرْفِيهِ عَنِ الْعَبْدِ.

كَذَلِكَ يَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ عَمَّنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ، إِذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ، بَلْ إِنَّ الْقَرَافِيَّ يَقُولُ: يَكْفِي فِي سُقُوطِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ ظَنُّ الْفِعْلِ، لَا وُقُوعُهُ تَحْقِيقًا.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِسْقَاطُ الْحُرْمَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ لِلضَّرُورَةِ، كَأَكْلِ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ، وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ لِمَنْ غَصَّ بِهَا، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّبِيبِ.وَيَسْرِي هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ، فَمِنَ الرُّخْصَةِ مَا سَقَطَ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي السَّلَمِ، لِقَوْلِ الرَّاوِي: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ».وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا، وَهَذَا حُكْمٌ مَشْرُوعٌ، لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي السَّلَمِ.

وَمِنَ التَّخْفِيفِ: مَشْرُوعِيَّةُ الطَّلَاقِ، لِمَا فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عِنْدَ التَّنَافُرِ، وَكَذَا مَشْرُوعِيَّةُ الْخُلْعِ وَالِافْتِدَاءِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْكِتَابَةِ لِيَتَخَلَّصَ الْعَبْدُ مِنْ دَوَامِ الرِّقِّ.وَكُلُّ ذَلِكَ مُفَصَّلٌ فِي أَبْوَابِهِ الْخَاصَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَفِي بَابَيِ: الرُّخْصَةِ وَالْأَهْلِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ.

حُقُوقُ الْعِبَادِ

41- الْمَقْصُودُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ هُنَا، مَا عَدَا الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ وَالدُّيُونِ، وَذَلِكَ لِحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْخِيَارِ.وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا أَسْقَطَهُ- وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ- سَقَطَ.

فَالشَّفِيعُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَإِذَا أَسْقَطَ هَذَا الْحَقَّ وَتَرَكَ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ سَقَطَ حَقُّهُ، وَوَلِيُّ الدَّمِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ، فَإِذَا عَفَا وَأَسْقَطَ هَذَا الْحَقَّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَالْغَانِمُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَيَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُ هَذَا الْحَقِّ، وَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي كَانَ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُ مِنْهُمَا هَذَا الْحَقُّ أَنْ يُسْقِطَهُ.وَهَكَذَا مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ حَقٌّ، وَهُوَ جَائِزُ التَّصَرُّفِ، كَانَ مِنْ حَقِّهِ إِسْقَاطُهُ، إِلاَّ لِمَانِعٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِإِسْقَاطِ الْحُقُوقِ بِدُونِ عِوَضٍ، أَمَّا إِسْقَاطُهَا نَظِيرَ عِوَضٍ فَبَيَانُهُ كَالْآتِي:

42- فَرَّقَ الْكَثِيرُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَمَا لَا يَجُوزُ بِقَاعِدَةٍ هِيَ: أَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ مُجَرَّدًا عَنِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا مُتَقَرِّرًا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ صَحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ.

وَفَرَّقَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِقَاعِدَةٍ أُخْرَى هِيَ: أَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَتْ ثَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ فَيَكُونُ ثَابِتًا لَهُ أَصَالَةً، فَيَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ.

وَمَنْ يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْثِلَةِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فَرْقٌ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ، فَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ الْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، فَلَوْ صَالَحَ عَنْهُ بِمَالٍ بَطَلَتْ وَرَجَعَ بِهِ، وَلَوْ صَالَحَ الْمُخَيَّرَةَ بِمَالٍ لِتَخْتَارَهُ بَطَلَ وَلَا شَيْءَ لَهَا، وَلَوْ صَالَحَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ بِمَالٍ لِتَتْرُكَ نَوْبَتَهَا لَمْ يَلْزَمْ، وَلَا شَيْءَ لَهَا.هَكَذَا ذَكَرُوهُ فِي الشُّفْعَةِ.وَخَرَجَ عَنْهَا حَقُّ الْقِصَاصِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ، وَحَقُّ الرِّقِّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا.وَالْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ إِذَا صَالَحَ الْمَكْفُولَ لَهُ بِمَالٍ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَجِبْ، وَفِي بُطْلَانِهَا رِوَايَتَانِ.

وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنِ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ نَفْسَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْأَشْبَاهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ وَحَقِّ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ لِلْمُخَيَّرَةِ إِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الشَّفِيعِ وَالْمَرْأَةِ، وَمَا ثَبَتَ لِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْهُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَمَّا رَضِيَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.أَمَّا حَقُّ الْقِصَاصِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ وَحَقُّ الرِّقِّ فَقَدْ ثَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ أَصَالَةً، لَا عَلَى وَجْهِ رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِهِ.وَسَارَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي الْمَحَلِّ أَصَالَةً.

أَمَّا الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فَلَمْ نَعْثُرْ لَهُمْ عَلَى قَاعِدَةٍ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ إِلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا وَاَلَّتِي لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَسَائِلِ فِي أَمَاكِنِهَا مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَالْحَضَانَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْخِيَارِ فِي الْعُقُودِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ سَنَكْتَفِي بِذِكْرِ بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ.وَالْجُمْهُورُ أَحْيَانًا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي سَبَبِ الِاعْتِيَاضِ، وَأَحْيَانًا يَخْتَلِفُونَ عَنْهُمْ.وَسَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ.

أ- الِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ، هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَيُوَافِقُهُمْ فِي الْحُكْمِ وَفِي الْعِلَّةِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.فِي حِينِ أَجَازَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إِذَا كَانَ الِاعْتِيَاضُ، مِنَ الْمُشْتَرِي لَا مِنْ غَيْرِهِ.

ب- هِبَةُ الزَّوْجَةِ يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا، لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ عَيْنًا وَلَا مَنْفَعَةً فَلَا يُقَابَلُ بِمَالٍ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الزَّوْجَةَ مِنْ حَقِّهَا كَوْنُ الزَّوْجِ عِنْدَهَا، وَهُوَ لَا يُقَابَلُ بِمَالٍ.وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ سَائِرِ حُقُوقِهَا مِنَ الْقَسْمِ وَغَيْرِهِ.وَالْمَالِكِيَّةُ أَجَازُوا الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّهَا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ أَوْ عَنْ إِسْقَاطِ الْحَقِّ.

ج- إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْحَقُّ فِي الِاعْتِيَاضِ عَنِ الْعَيْبِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ الرِّضَى بِالْعَيْبِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِمُشْتَرِي الْمُصَرَّاةِ الْخِيَارَ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَبَيْنَ الرَّدِّ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ إِمْسَاكُ الْمَبِيعِ وَالِاعْتِيَاضُ عَنِ الْعَيْبِ، لِأَنَّهُ فَاتَ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنَ الْمَبِيعِ، فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِعِوَضِهِ، وَيُخَالِفُ الْمُصَرَّاةُ، لِأَنَّ الْخِيَارَ لَهُ بِالتَّدْلِيسِ، وَكَذَلِكَ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

د- الْقِصَاصُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

هـ- يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الدَّعْوَى، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالشِّرْبِ، إِلاَّ مَا كَانَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ كَدَعْوَى الْحَدِّ وَالنَّسَبِ، وَلِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الدَّعْوَى لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ، وَهُوَ جَائِزٌ.

و- يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنِ التَّعْزِيرِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ، لَكِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ التَّعْزِيرَ الَّذِي فِيهِ حَقُّ اللَّهِ كَقُبْلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ الصُّلْحِ فِيهِ.

ز- يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الْحَضَانَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَقُّ الْحَاضِنِ.

ح- يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ

وَنَكْتَفِي بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ، إِذْ مِنَ الْعَسِيرِ حَصْرُ الْحُقُوقِ الَّتِي يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَسَائِلِ فِي أَبْوَابِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ

أ- الْعَيْنُ:

43- الْعَيْنُ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مُطْلَقًا، جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، كَالْعُرُوضِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالْعَقَارِ مِنَ الْأَرَضِينَ وَالدُّورِ، وَالْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ.

وَمَالِكُ الْعَيْنِ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالنَّقْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ.أَمَّا التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْإِسْقَاطِ- أَيْ رَفْعُ الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ، بِأَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ مَثَلًا: أَسْقَطْتُ مِلْكِي فِي هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ، يُرِيدُ بِذَلِكَ زَوَالَ مِلْكِهِ وَثُبُوتَهُ لِغَيْرِهِ- فَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَا يُفِيدُ زَوَالَ مِلْكِ الْمُسْقِطِ عَنِ الْعَيْنِ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهَا لِلْمُسْقَطِ لَهُ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ.إِلاَّ مَا وَرَدَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِتْقِ وَالْوَقْفِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.

44- لَكِنْ لَوْ حَدَثَ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنَ الْمَالِكِ، وَكَانَتِ الْعَيْنُ تَحْتَ يَدِ الْمُسْقَطِ لَهُ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ مَغْصُوبَةً هَالِكَةً صَحَّ الْإِسْقَاطُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إِسْقَاطًا لِقِيمَتِهَا الْمُتَرَتِّبَةِ فِي ذِمَّتِهِ، فَصَارَ إِسْقَاطًا لِلدَّيْنِ، وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ صَحِيحٌ.

وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً، فَمَعْنَى إِسْقَاطِهَا إِسْقَاطُ ضَمَانِهَا لَوْ هَلَكَتْ، وَتَصِيرُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ مِنْ عَيْنِهَا كَالْأَمَانَةِ، لَا تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي.وَقَالَ زُفَرُ- رحمه الله-: لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ وَتَبْقَى مَضْمُونَةً.

وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ أَمَانَةً، فَالْبَرَاءَةُ عَنْهَا لَا تَصِحُّ دِيَانَةً، بِمَعْنَى أَنَّ مَالِكَهَا إِذَا ظَفِرَ بِهَا أَخَذَهَا.وَتَصِحُّ قَضَاءً، فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي دَعْوَاهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ.وَقَدْ قَالُوا: الْإِبْرَاءُ عَنِ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ دِيَانَةً لَا قَضَاءً.وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَكُونُ مِلْكًا لَهُ بِالْإِبْرَاءِ، وَإِنَّمَا الْإِبْرَاءُ عَنْهَا صَحِيحٌ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْأَمَانَةِ.وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُعَيَّنَاتِ يَسْقُطُ بِهَا الطَّلَبُ بِقِيمَتِهَا إِذَا فَاتَتْ، وَالطَّلَبُ بِرَفْعِ الْيَدِ عَنْهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً.وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، إِلاَّ إِنَّهُ نُقِلَ عَنِ الْمَازِرِيِّ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَشْمَلُ الْأَمَانَاتِ وَهِيَ مُعَيَّنَاتٌ (وَهَذَا فِي الْإِبْرَاءِ الْعَامِّ).كَذَلِكَ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ الْإِسْقَاطَ فِي الْمُعَيَّنِ، وَالْإِبْرَاءُ أَعَمُّ مِنْهُ يَكُونُ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ.

ب- الْحَقُّ:

ذُكِرَ فِيمَا سَبَقَ مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنَ الْحُقُوقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ أَمْ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَنَذْكُرُ فِيمَا يَلِي مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْهُمَا.

مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:

45- الْأَصْلُ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ لِاعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ، كَالتَّخْفِيفِ عَنِ الْعِبَادِ عَلَى مَا سَبَقَ.فَحَقُّ اللَّهِ الْخَالِصُ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَمِنَ الْعُقُوبَاتِ كَحَدِّ الزِّنَى وَحَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنَ الْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِلْعَبْدِ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ كَحَقِّ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ، حَقُّ اللَّهِ هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ إِسْقَاطُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، بَلْ إِنَّ مَنْ حَاوَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقَاتَلُ، كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- بِمَانِعِي الزَّكَاةِ.حَتَّى إِنَّ السُّنَنَ الَّتِي فِيهَا إِظْهَارُ الدِّينِ، وَتُعْتَبَرُ مِنْ شَعَائِرِهِ، كَالْأَذَانِ، لَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ.

46- كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّحَيُّلُ عَلَى إِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ، كَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ، فَشَرِبَ خَمْرًا أَوْ دَوَاءً مُنَوِّمًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا- وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ- كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.وَكَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْحَجِّ، فَوَهَبَهُ كَيْلَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ.

47- وَتَحْرُمُ الشَّفَاعَةُ لِإِسْقَاطِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى.وَفِي السَّرِقَةِ كَذَلِكَ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ، لِأَنَّ الْحَدَّ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِسَارِقٍ قَدْ سَرَقَ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنَّا نَرَاكَ تَبْلُغُ بِهِ هَذَا، قَالَ: لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لأَقَمْتُ عَلَيْهَا الْحَدَّ».وَرَوَى عُرْوَةُ قَالَ: شَفَعَ الزُّبَيْرُ فِي سَارِقٍ فَقِيلَ: حَتَّى يَأْتِيَ السُّلْطَانُ، قَالَ: إِذَا بَلَغَ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ.وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِصَفْوَانَ، حِينَ تَصَدَّقَ عَلَى السَّارِقِ: «فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ».

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ بُلُوغِهِ الْإِمَامَ، فَأَمَّا قَبْلَ بُلُوغِهِ الْإِمَامَ فَقَدْ أَجَازَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ صَاحِبَ شَرٍّ وَأَذًى لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْفَعْ فِيهِ.

48- وَيُلَاحَظُ أَنَّ السَّرِقَةَ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ فِيهَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ، إِلاَّ أَنَّ الْجَانِبَ الشَّخْصِيَّ فِيهَا مُتَحَقِّقٌ نَاحِيَةَ الْمَالِ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمَالِ.أَمَّا الْحَدُّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ قَبْلَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ.لَكِنْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ- غَيْرُ زُفَرَ، وَرِوَايَةٌ لِأَبِي يُوسُفَ- لَوْ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ مَلَّكَ الْمَسْرُوقَ لِلسَّارِقِ سَقَطَ الْحَدُّ.

وَالْقَذْفُ مِمَّا يَجْتَمِعُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ، مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِيهِ (أَيِ الْإِسْقَاطُ) قَبْلَ التَّرَافُعِ وَبَعْدَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الرَّفْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْعَفْوَ بَعْدَ التَّرَافُعِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ يُرِيدُ السَّتْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ.وَلَا يُشْتَرَطُ هَذَا الْقَيْدُ بَيْنَ الِابْنِ وَأَبِيهِ.وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ كَذَلِكَ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْإِمَامِ.

وَأَمَّا التَّعْزِيرُ، فَمَا كَانَ مِنْهُ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ جَازَ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى الْإِمَامِ.

وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِقَامَتُهُ إِذَا كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ.وَعَنِ الْإِمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّعْزِيرِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ فَيَجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى الْإِمَامِ.

49- وَمَا دَامَتْ حُدُودُ اللَّهِ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنَ الْعِبَادِ، فَبِالتَّالِي لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ سَارِقًا أَوْ شَارِبًا لِيُطْلِقَهُ وَلَا يَرْفَعَهُ لِلسُّلْطَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَخْذُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَتِهِ.وَكَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ شَاهِدًا عَلَى أَلاَّ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسَبٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَالصُّلْحُ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَاطِلٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَهُنَاكَ أَيْضًا مَا يُعْتَبَرُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مِمَّا شُرِعَ أَصْلًا لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُنَافَاةِ الْإِسْقَاطِ لِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:

الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرِ:

50- مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ وَصْفًا ذَاتِيًّا لِصَاحِبِهَا، وِلَايَةُ الْأَبِ عَلَى الصَّغِيرِ، فَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، فَحَقُّهُ ثَابِتٌ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ، فَهِيَ حَقٌّ عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَا تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

أَمَّا غَيْرُ الْأَبِ كَالْوَصِيِّ فَفِيهِ خِلَافٌ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَدْ قَبِلَ الْوِصَايَةَ، وَمَاتَ الْمُوصِي، فَلَا يَجُوزُ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ لِثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ لَهُ.وَلِأَنَّهَا وِلَايَةٌ فَلَا تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ.أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُسْقِطَ الْوَصِيُّ حَقَّهُ، وَلَوْ بَعْدَ قَبُولِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ، فَكَانَ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ كَالْوَكِيلِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الْوِلَايَاتِ، كَالْقَاضِي وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، فِي مُصْطَلَحِ (وِلَايَة).

السُّكْنَى فِي بَيْتِ الْعِدَّةِ:

51- أَوْجَبَ الشَّارِعُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَعْتَدَّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهَا بِالسُّكْنَى حَالَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ أَوِ الْمَوْتِ، وَالْبَيْتِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا فِي قوله تعالى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} هُوَ الْبَيْتُ الَّذِي تَسْكُنُهُ.وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ إِخْرَاجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ مَسْكَنِهَا.وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ فِي الْعِدَّةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِخْرَاجُهَا أَوْ خُرُوجُهَا مِنْ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ مُنَافٍ لِلْمَشْرُوعِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِسْقَاطُهُ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ قَرَارُهَا فِي مَسْكَنِ الْعِدَّةِ، لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الَّذِي فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: «لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى».وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهَا ذَلِكَ، خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ ر: (عِدَّة، سُكْنَى).

خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:

52- بَيْعُ الشَّيْءِ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُشْتَرِي، فَلَهُ الْأَخْذُ وَلَهُ الرَّدُّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ» فَالْخِيَارُ هُنَا لَيْسَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُونَ بَيْعَ الشَّيْءِ الْغَائِبِ، مَعَ مُرَاعَاةِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ.

وَلَوْ أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ تَبَايَعَا بِشَرْطِ إِسْقَاطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ بَطَلَ الشَّرْطُ مَعَ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ، بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (بَيْع، خِيَار).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


19-موسوعة الفقه الكويتية (إقالة)

إِقَالَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِقَالَةُ فِي اللُّغَةِ: الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ إِذَا رَفَعَهُ مِنْ سُقُوطِهِ.

وَمِنْهُ الْإِقَالَةُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ.

وَهِيَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ الْعَقْدِ، وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَيْعُ:

2- تَخْتَلِفُ الْإِقَالَةُ عَنِ الْبَيْعِ فِي أُمُورٍ مِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْإِقَالَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا فَسْخٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ بَيْعٌ، وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا.وَمِنْهَا أَنَّ الْإِقَالَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا الْإِيجَابُ بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ كَقَوْلِ أَحَدِهِمَا: أَقِلْنِي، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلاَّ بِلَفْظِ الْمَاضِي، لِأَنَّ لَفْظَةَ الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُسَاوَمَةِ حَقِيقَةً، وَالْمُسَاوَمَةُ فِي الْبَيْعِ مُعْتَادَةٌ، فَكَانَتِ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ تَقَعْ إِيجَابًا، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ، لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ فِيهَا لَيْسَتْ مُعْتَادَةً، فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ فِيهَا عَلَى الْإِيجَابِ.

ب- الْفَسْخُ:

3- تَخْتَلِفُ الْإِقَالَةُ عَنِ الْفَسْخِ فِي أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ رَفْعُ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَآثَارِهِ وَاعْتِبَارِهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ.وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَقَدِ اعْتَبَرَهَا بَعْضُهُمْ فَسْخًا، وَاعْتَبَرَهَا آخَرُونَ بَيْعًا.

حُكْمُ الْإِقَالَةِ التَّكْلِيفِيِّ:

4- الْإِقَالَةُ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّدْبِ وَالْوُجُوبِ بِحَسَبِ حَالَةِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا إِذَا نَدِمَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَرْوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ».وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِقَالَةِ، وَعَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، لِوَعْدِ الْمُقِيلِينَ بِالثَّوَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وَأَمَّا كَوْنُ الْمُقَالِ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ حُكْمًا أَغْلَبِيًّا، وَإِلاَّ فَثَوَابُ الْإِقَالَةِ ثَابِتٌ فِي إِقَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ: «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا...».وَتَكُونُ الْإِقَالَةُ وَاجِبَةً إِذَا كَانَتْ بَعْدَ عَقْدٍ مَكْرُوهٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ، لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ فَاسِدًا أَوْ مَكْرُوهًا وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ صَوْنًا لَهُمَا عَنِ الْمَحْظُورِ، لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِقَالَةِ أَوْ بِالْفَسْخِ.كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْإِقَالَةُ وَاجِبَةً إِذَا كَانَ الْبَائِعُ غَارًّا لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ الْغَبْنُ يَسِيرًا، وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْغَبْنُ بِالْيَسِيرِ هُنَا، لِأَنَّ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ يُوجِبُ الرَّدَّ إِنْ غَرَّهُ الْبَائِعُ عَلَى الصَّحِيحِ.

رُكْنُ الْإِقَالَةِ:

5- رُكْنُ الْإِقَالَةِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الدَّالاَّنِ عَلَيْهَا.فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْقَبُولُ مِنَ الْآخَرِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ، وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ، نَصًّا بِالْقَوْلِ أَوْ دَلَالَةً بِالْفِعْلِ.وَيَأْتِي الْقَبُولُ مِنَ الْآخَرِ بَعْدَ الْإِيجَابِ، أَوْ تَقَدَّمَ السُّؤَالُ، أَوْ قَبَضَ الْآخَرُ مَا هُوَ لَهُ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ أَوْ مَجْلِسِ عِلْمِهَا، لِأَنَّ مَجْلِسَ الْعِلْمِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ كَمَجْلِسِ اللَّفْظِ فِي الْحَاضِرِ، فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْحَاضِرِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهَا.

الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْإِقَالَةُ:

6- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِقَالَةَ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، كَمَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَاضِي.وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَاضِيًا وَالْآخَرُ مُسْتَقْبَلًا.فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تَصِحُّ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْتَقْبَلٌ وَالْآخَرُ مَاضٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَقِلْنِي: فَقَالَ، أَقَلْتُكَ، أَوْ قَالَ لَهُ: جِئْتُكَ لِتُقِيلَنِي، فَقَالَ: أَقَلْتُكَ، فَهِيَ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ كَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ.

وَمَعَ أَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطِ الْإِقَالَةَ حُكْمَهُ، لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تَجْرِي فِي الْإِقَالَةِ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى التَّحْقِيقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَاضِي، لِأَنَّهَا كَالْبَيْعِ فَأُعْطِيَتْ بِسَبَبِ الشَّبَهِ حُكْمَ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: أَقَلْتُ، وَالْآخَرُ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ، أَوْ هَوَيْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.وَتَنْعَقِدُ بِفَاسَخْتُكَ وَتَارَكْتُ، كَمَا تَصِحُّ بِلَفْظِ «الْمُصَالَحَةِ» وَتَصِحُّ بِلَفْظِ «الْبَيْعِ» وَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُعَاطَاةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، وَكُلُّ مَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ أَجْزَأَ.خِلَافًا لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ مَا يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ لَا يَصْلُحُ لِلْحَلِّ، وَمَا يَصْلُحُ لِلْحَلِّ لَا يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ.وَتَنْعَقِدُ الْإِقَالَةُ بِالتَّعَاطِي كَالْبَيْعِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَقَلْتُكَ فَرَدَّ إِلَيْهِ الثَّمَنَ، وَتَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ.شُرُوطُ الْإِقَالَةِ:

7- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ مَا يَلِي:

أ- رِضَى الْمُتَقَايِلَيْنِ: لِأَنَّهَا رَفْعُ عَقْدٍ لَازِمٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَى الطَّرَفَيْنِ.

ب- اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ: لِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِيهَا، فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْمَجْلِسُ، كَمَا يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ.

ج- أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ قَابِلًا لِلنَّسْخِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ.

د- بَقَاءُ الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِقَالَةِ، فَإِنْ كَانَ هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ لَمْ تَصِحَّ، فَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ.

هـ- تَقَابُضُ بَدَلَيِ الصَّرْفِ فِي إِقَالَةِ الصَّرْفِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا بَيْعٌ، لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْحَقُّ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ.و- أَلاَّ يَكُونَ الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ فِي بَيْعِ الْوَصِيِّ، فَإِنْ كَانَ لَمْ تَصِحَّ إِقَالَتُهُ.

حَقِيقَتُهَا الشَّرْعِيَّةُ:

8- لِلْفُقَهَاءِ فِي تَكْيِيفِ الْإِقَالَةِ اتِّجَاهَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فَسْخٌ يَنْحَلُّ بِهِ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّفْعِ، يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ أَقِلْنِي عَثَرَاتِي، أَيِ ارْفَعْهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ شَرْعًا مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً، وَرَفْعُ الْعَقْدِ فَسْخُهُ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقَالَةَ اخْتَلَفَا اسْمًا، فَتَخَالَفَا حُكْمًا، فَإِذَا كَانَتْ رَفْعًا لَا تَكُونُ بَيْعًا، لِأَنَّ الْبَيْعَ إِثْبَاتٌ وَالرَّفْعُ نَفْيٌ، وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ، فَكَانَتِ الْإِقَالَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَسْخًا مَحْضًا، فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ.

الثَّانِي: أَنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهَا بَيْعًا فَإِنَّهَا تَكُونُ فَسْخًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالْإِمَامِ مَالِكٍ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنْ تَقَعَ الْإِقَالَةُ فِي الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَهُوَ أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ، وَقَدْ وُجِدَ، فَكَانَتِ الْإِقَالَةُ بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهَا، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.

الثَّالِثُ: أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْفَسْخِ وَالْإِزَالَةِ، فَلَا تَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ نَفْيًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَالْأَصْلُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ فِيهَا نَقْلَ مِلْكٍ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ، فَجُعِلَتْ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْإِسْقَاطِ، إِذْ لَا يَمْلِكُ الْعَاقِدَانِ إِسْقَاطَ حَقِّ غَيْرِهِمَا.

آثَارُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الْإِقَالَةِ:

يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الْإِقَالَةِ آثَارٌ فِي التَّطْبِيقِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي: أَوَّلًا- الْإِقَالَةُ بِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ:

9- إِذَا تَقَايَلَ الْمُتَبَايِعَانِ وَلَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ، أَوْ سَمَّيَا زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ سَمَّيَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى الْجِنْسِ الْأَوَّلِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، أَوْ أَجَّلَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ، فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالْأَجَلِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ بَاطِلَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ مَنْقُولًا أَمْ غَيْرَ مَنْقُولٍ، لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفْعُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَالْعَقْدُ وَقَعَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ فَسْخُهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَحُكْمُ الْفَسْخِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ، وَبَيْنَ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِ الْمَنْقُولِ، وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ وَالْأَجَلِ، وَتَبْقَى الْإِقَالَةُ صَحِيحَةً، لِأَنَّ تَسْمِيَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْإِقَالَةِ وَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ رَفْعُ مَا كَانَ لَا رَفْعُ مَا لَمْ يَكُنْ، حَيْثُ إِنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ.وَتَكُونُ الْإِقَالَةُ أَيْضًا بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الْمُسَمَّى، لَا بِمَا يُدْفَعُ بَدَلًا عَنْهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ عِوَضًا عَنْهَا، ثُمَّ تَقَايَلَا- وَقَدْ رُخِّصَتِ الدَّنَانِيرُ- رَجَعَ بِالدَّنَانِيرِ لَا بِمَا دَفَعَ، لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَتِ الْإِقَالَةُ فَسْخًا، وَالْفَسْخُ يُرَدُّ عَلَى عَيْنِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، كَانَ اشْتِرَاطُ خِلَافِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ بَاطِلًا.ثَانِيًا- الشُّفْعَةُ فِيمَا يُرَدُّ بِالْإِقَالَةِ:

10- يَقْتَضِي الْقِيَاسُ أَلاَّ يَكُونَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِيمَا رُدَّ بِالْإِقَالَةِ إِذَا اعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْإِقَالَةُ فَسْخًا مُطْلَقًا، وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَسْخًا فَتُجْعَلُ بَيْعًا.وَعَنْ زُفَرَ: هِيَ فَسْخٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً.أَمَّا سَائِرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهَا تُعْطِي الشَّفِيعَ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِيمَا رُدَّ بِالْإِقَالَةِ.فَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّهِمَا، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ تَقَايُلِ الْبَيْعِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَمَنِ اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ، فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، أَوِ اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَكُنْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ بُنِيَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ.وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ الْإِقَالَةُ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ، وَالشَّفِيعُ غَيْرُهُمَا، فَتَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ فَيَسْتَحِقُّ.وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ تُعَدُّ الْإِقَالَةُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَلِهَذَا الشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، إِنْ شَاءَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ شَاءَ بِالْبَيْعِ الْحَاصِلِ بِالْإِقَالَةِ، أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ: مِنَ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ الشِّرَاءِ، أَوْ مِنَ الْبَائِعِ لِشِرَائِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي بِالْإِقَالَةِ، حَيْثُ تَكُونُ الْإِقَالَةُ بَيْعًا مِنَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، وَحَيْثُ تَكُونُ فَسْخَ بَيْعٍ فَتُؤْخَذُ مِنَ الْمُشْتَرِي فَقَطْ، وَلَا يَتِمُّ فَسْخُهُ إِلاَّ إِنْ رَضِيَ الشَّفِيعُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَهُ.

إِقَالَةُ الْوَكِيلِ:

11- مَنْ مَلَكَ الْبَيْعَ مَلَكَ الْإِقَالَةَ، فَصَحَّتْ إِقَالَةُ الْمُوَكِّلِ بَيْعَ وَكِيلِهِ، وَتَصِحُّ إِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إِذَا تَمَّتْ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ.فَإِنْ أَقَالَ بَعْدَ قَبْضِهِ يَضْمَنُ الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ، إِذْ تُعْتَبَرُ الْإِقَالَةُ مِنَ الْوَكِيلِ حِينَئِذٍ شِرَاءً لِنَفْسِهِ.وَبِإِقَالَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيَلْزَمُ الْمَبِيعُ الْوَكِيلَ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي أَصْلًا.وَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ مِنَ الْوَكِيلِ بِالسَّلَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَالْإِبْرَاءِ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.وَالْمُرَادُ بِإِقَالَةِ الْوَكِيلِ بِالسَّلَمِ: الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ السَّلَمِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ الْعَيْنِ.وَإِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا تَجُوزُ إِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا.وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ التَّوْكِيلِ فِي حَقِّ كُلِّ آدَمِيٍّ مِنَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ.وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْإِقَالَةِ عِنْدَهُمُ ابْتِدَاءً، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: إِنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا أَمْ بَيْعٌ.هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِقَالَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سِوَى الْوَرَثَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ.أَمَّا حُكْمُ الْإِقَالَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَلَمْ يَتَطَرَّقُوا لَهُ.وَالْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنَّ إِقَالَتَهُ لَا تَصِحُّ.

مَحَلُّ الْإِقَالَةِ:

12- مَحَلُّ الْإِقَالَةِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ فِي حَقِّ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا يُمْكِنُ فَسْخُهَا إِلاَّ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِقَالَةَ تَصِحُّ فِي الْعُقُودِ الْآتِيَةِ: الْبَيْعِ- الْمُضَارَبَةِ- الشَّرِكَةِ- الْإِجَارَةِ- الرَّهْنِ (بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاهِنِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ الرَّاهِنِ دَيْنَهُ) - السَّلَمِ- الصُّلْحِ.وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَصِحُّ فِيهَا الْإِقَالَةُ فَهِيَ الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ، كَالْإِعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْجِعَالَةِ، أَوِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، مِثْلُ الْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْخِيَارِ.

أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْإِقَالَةِ:

13- إِذَا اعْتَبَرْنَا الْإِقَالَةَ فَسْخًا، فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بَلْ تَكُونُ هَذِهِ الشُّرُوطُ لَغْوًا، وَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ.فَفِي الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، إِذَا شَرَطَ أَكْثَرَ مِمَّا دَفَعَ، فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لِمُتَعَذِّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَتُبْطِلُ الشَّرْطَ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الرِّبَا، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ خَالٍ عَنِ الْعِوَضِ.وَكَذَا إِذَا شَرَطَ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الْأَقَلِّ، لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَالْفَسْخُ عَلَى الْأَقَلِّ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهُوَ مُحَالٌ.وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَرَفْعُهُ يَكُونُ مُحَالًا، إِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ بِالْأَقَلِّ، لِأَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الْعَيْبِ.وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَرَوْنَ الْإِقَالَةَ فَسْخًا، وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَإِذَا زَادَ كَانَ قَاصِدًا بِهَذَا ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ، وَإِذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ فَكَذَلِكَ.

الْإِقَالَةُ فِي الصَّرْفِ:

14- الْإِقَالَةُ فِي الصَّرْفِ كَالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، أَيْ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِ الصَّرْفِ.فَلَوْ تَقَايَلَا الصَّرْفَ، وَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، مَضَتِ الْإِقَالَةُ عَلَى الصِّحَّةِ.وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَتِ الْإِقَالَةُ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ بَيْعًا أَمْ فَسْخًا.فَعَلَى اعْتِبَارِهَا بَيْعًا كَانَتِ الْمُصَارَفَةُ مُبْتَدَأَةً، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّقَابُضِ يَدًا بِيَدٍ، مَا دَامَتِ الْإِقَالَةُ بَيْعًا مُسْتَقِلًّا يُحِلُّهَا مَا يُحِلُّ الْبُيُوعَ، وَيُحَرِّمُهَا مَا يُحَرِّمُ الْبُيُوعَ، فَلَا تَصْلُحُ الْإِقَالَةُ إِذْ حَصَلَ الِافْتِرَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ.عَلَى اعْتِبَارِهَا فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ حَقٌّ لِلشَّرْعِ، وَهُوَ هُنَا ثَالِثٌ، فَيُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ.وَهَلَاكُ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ لَا يُعَدُّ مَانِعًا مِنَ الْإِقَالَةِ، لِأَنَّهُ فِي الصَّرْفِ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، بَلْ رَدُّهُ أَوْ رَدُّ مِثْلِهِ، فَلَمْ تَتَعَلَّقِ الْإِقَالَةُ بِعَيْنِهِمَا، فَلَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِهِمَا.

إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ:

15- إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ إِلْغَاءٌ لَهَا وَالْعَوْدَةُ إِلَى أَصْلِ الْعَقْدِ، وَهِيَ تَصِحُّ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْإِقَالَةَ، ارْتَفَعَتِ الْإِقَالَةُ وَعَادَ الْبَيْعُ.وَقَدِ اسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ إِقَالَةِ الْإِقَالَةِ إِقَالَةَ الْمُسْلِمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ الْأُولَى، فَلَوِ انْفَسَخَتْ لَعَادَ الْمُسْلَمُ فِيهِ الَّذِي سَقَطَ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ.

مَا يُبْطِلُ الْإِقَالَةَ:

16- مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَبْطُلُ فِيهَا الْإِقَالَةُ بَعْدَ وُجُودِهَا مَا يَأْتِي: أ- هَلَاكُ الْمَبِيعِ: فَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَتْ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا بَقَاءَ الْمَبِيعِ، لِأَنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ وَهُوَ مَحَلُّهُ، بِخِلَافِ هَلَاكِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْإِقَالَةَ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ، وَلِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ دُونَ الثَّمَنِ.وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ قِيَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا فَهَلَكَ بَطَلَتِ الْإِقَالَةُ.وَلَكِنْ لَا يُرَدُّ عَلَى اشْتَرَطَ قِيَامَ الْمَبِيعِ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ إِقَالَةَ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، لِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا أَمْ دَيْنًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَمْ هَالِكًا.لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا حَقِيقَةً فَلَهُ حُكْمُ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

ب- تَغَيُّرُ الْمَبِيعِ: كَأَنْ زَادَ الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً، كَمَا لَوْ وَلَدَتِ الدَّابَّةُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَصَبْغِ الثَّوْبِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَبْطُلُ الْإِقَالَةُ بِتَغَيُّرِ ذَاتِ الْمَبِيعِ مَهْمَا كَانَ.كَتَغَيُّرِ الدَّابَّةِ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ، بِخِلَافِ الْحَنَابِلَةِ.

اخْتِلَافُ الْمُتَقَايِلَيْنِ:

17- قَدْ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُتَقَايِلَيْنِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، أَوْ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ، أَوْ عَلَى الثَّمَنِ، أَوْ عَلَى الْإِقَالَةِ مِنْ أَسَاسِهَا.فَإِنَّهُمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّتِهِ تَحَالَفَا، فَيَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى نَفْيِ قَوْلِ صَاحِبِهِ وَإِثْبَاتِ قَوْلِهِ.وَيُسْتَثْنَى مِنَ التَّحَالُفِ مَا لَوْ تَقَايَلَا الْعَقْدَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ، بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ.وَلَوِ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْتُهُ مِنَ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ نَقْدِهِ

(وَفَسَدَ الْبَيْعُ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْبَائِعُ: بَلْ تَقَايَلْنَاهُ، فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ فِي إِنْكَارِهِ الْإِقَالَةَ.فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْإِقَالَةَ يَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


20-موسوعة الفقه الكويتية (أهل الذمة 2)

أَهْلُ الذِّمَّةِ -2

أ- الْمُعَامَلَةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ:

28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُعْتَبَرَانِ مَالًا مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْأَصْنَامِ»، لَكِنَّهُمْ أَقَرُّوا الْمُعَامَلَةَ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، بِنَحْوِ شُرْبٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِثْلِهَا، بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِظْهَارِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ: أَنْ يُقَرَّ الذِّمِّيُّ عَلَى الْكُفْرِ مُقَابِلَ الْجِزْيَةِ، وَيُتْرَكَ هُوَ وَشَأْنُهُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ مِنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِمَّا يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا.

وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَيَسْتَدِلُّ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ، كَالْخَلِّ وَالشَّاةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ: أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْهُمْ لِمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمُ الْبَيْعَ.

ب- ضَمَانُ الْإِتْلَافِ:

29- إِذَا أَتْلَفَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِمُسْلِمٍ فَلَا ضَمَانَ اتِّفَاقًا؛ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهِمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ.وَكَذَلِكَ إِتْلَافُهُمَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ.

لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِضَمَانِ مُتْلِفِهِمَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ، وَبِهَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، إِذَا لَمْ يُظْهِرِ الذِّمِّيُّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ).

ج- اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا لِلْخِدْمَةِ:

30- تَجُوزُ مُعَامَلَةُ الْإِيجَارِ وَالِاسْتِئْجَارِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مُسْلِمًا لِإِجْرَاءِ عَمَلٍ، فَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ الَّذِي يُؤَاجِرُ الْمُسْلِمَ لِلْقِيَامِ بِهِ مِمَّا يَجُوزُ لِنَفْسِهِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْحَرْثِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ كَعَصْرِ الْخُمُورِ وَرَعْيِ الْخَنَازِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ لِخِدْمَةِ الذِّمِّيِّ الشَّخْصِيَّةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِذْلَالِ الْمُسْلِمِ لِخِدْمَةِ الْكَافِرِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٍ)

د- وَكَالَةُ الذِّمِّيِّ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ:

31- لَا يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ لَهُ مِنْ مُسْلِمَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَمْلِكُ عَقْدَ هَذَا النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ وَكَالَتُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: تَصِحُّ هَذِهِ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ: أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْلَ مَا وُكِّلَ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ عَاقِلًا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ.

هـ- عَدَمُ تَمْكِينِ الذِّمِّيِّ مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ:

32- لَا يَجُوزُ تَمْكِينُ الذِّمِّيِّ مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ أَوْ دَفْتَرٍ فِيهِ أَحَادِيثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى ابْتِذَالِهِ.

وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ يَمْنَعَانِ الذِّمِّيَّ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ، وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ إِذَا اغْتَسَلَ لِذَلِكَ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُصْحَفِ).

و- شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ:

33- لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّفَاقًا، إِلاَّ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَيُعَلِّلُ الْفُقَهَاءُ عَدَمَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ.

كَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِذِي عَدْلٍ.وَأَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، مَا دَامُوا عُدُولًا فِي دِينِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ» وَلِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.

هَذَا، وَهُنَاكَ اسْتِثْنَاءَاتٌ أُخْرَى فِي مَسَائِلِ الْوَصِيَّةِ وَإِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ وَالتَّمَلُّكِ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَنَحْوِهَا، تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَفِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

أَنْكِحَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا

34- لَا يَخْتَلِفُ أَحْكَامُ نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً.

وَلَا يَجُوزُ زَوَاجُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ كِتَابِيًّا.وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لقوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وَلَا يَجُوزُ زَوَاجُ مُسْلِمٍ مِنْ ذِمِّيَّةٍ غَيْرِ كِتَابِيَّةٍ، لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً، إِذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إِلَى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ.

وَاجِبَاتُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَالِيَّةِ

35- عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَاجِبَاتٌ وَتَكَالِيفُ مَالِيَّةٌ يَلْتَزِمُونَ بِهَا قِبَلَ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مُقَابِلَ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ الْحِمَايَةِ وَالْحُقُوقِ، وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ عِبَارَةٌ عَنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ، وَفِيمَا يَلِي نُجْمِلُ أَحْكَامَهَا:

أ- الْجِزْيَةُ: وَهِيَ الْمَالُ الَّذِي تُعْقَدُ عَلَيْهِ الذِّمَّةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ لِأَمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَصَوْنِهِ.وَتُؤْخَذُ كُلَّ سَنَةٍ مِنَ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الذَّكَرِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ اتِّفَاقًا، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهَا: السَّلَامَةُ مِنَ الزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْكِبَرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.وَفِي مِقْدَارِهَا وَوَقْتِ وُجُوبِهَا وَمَا تَسْقُطُ بِهِ الْجِزْيَةُ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جِزْيَةٌ).

ب- الْخَرَاجُ: وَهُوَ مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا.

وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَى الْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مِسَاحَتِهَا وَنَوْعِ زِرَاعَتِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَى الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ كَالْخُمُسِ أَوِ السُّدُسِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ: (خَرَاجٌ).

ج- الْعُشُورُ: وَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ، إِذَا انْتَقَلُوا بِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ دَاخِلَ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمِقْدَارُهَا نِصْفُ الْعُشْرِ، وَتُؤْخَذُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ حِينَ الِانْتِقَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ أَوْجَبُوهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَنْتَقِلُونَ بِهَا.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُشْرٍ).

مَا يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ:

36- يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الِامْتِنَاعُ عَمَّا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَانْتِقَاصُ دِينِ الْإِسْلَامِ، مِثْلُ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ كِتَابِهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ دِينِهِ بِسُوءٍ لِأَنَّ إِظْهَارَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ اسْتِخْفَافٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَازْدِرَاءٌ بِعَقِيدَتِهِمْ.وَعَدَمُ الْتِزَامِ الذِّمِّيِّ بِمَا ذُكِرَ يُؤَدِّي إِلَى انْتِقَاضِ ذِمَّتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَحْثِ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمَّةِ. كَذَلِكَ يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إِظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ إِدْخَالِهَا فِيهَا عَلَى وَجْهِ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ.وَيُمْنَعُونَ كَذَلِكَ مِنْ إِظْهَارِ فِسْقٍ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهُ كَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِهَا.

وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمْيِيزِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ، وَلَا يُصَدَّرُونَ فِي مَجَالِسَ، وَذَلِكَ إِظْهَارًا لِلصِّغَارِ عَلَيْهِمْ، وَصِيَانَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِهِمْ أَوْ مُوَالَاتِهِمْ.

وَتَفْصِيلُ مَا يُمَيِّزُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي الزِّيِّ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ تُنْظَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْجِزْيَةِ وَعَقْدِ الذِّمَّةِ.

جَرَائِمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعُقُوبَاتُهُمْ

أَوَّلًا- مَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْحُدُودِ:

37- إِذَا ارْتَكَبَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَرِيمَةً مِنْ جَرَائِمِ الْحُدُودِ، كَالزِّنَى أَوِ الْقَذْفِ أَوِ السَّرِقَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، يُعَاقَبُ بِالْعِقَابِ الْمُحَدَّدِ لِهَذِهِ الْجَرَائِمِ شَأْنُهُمْ فِي ذَلِكَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ شُرْبَ الْخَمْرِ حَيْثُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِيهِ؛ لِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ حِلِّهَا، وَمُرَاعَاةً لِعَهْدِ الذِّمَّةِ، إِلاَّ إِنْ أَظْهَرُوا شُرْبَهَا، فَيُعَزَّرُونَ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ يَخْتَصُّ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَأْتِي: أ- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى الْمُسَاوَاةِ فِي تَطْبِيقِ عُقُوبَةِ الرَّجْمِ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ، وَلَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا مِنْ ذِمِّيَّةٍ، لِعُمُومِ النُّصُوصِ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِرَجْمِ يَهُودِيَّيْنِ.

وَصَرَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِأَنَّ الزَّانِيَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ مُتَزَوِّجًا لَا يُرْجَمُ؛ لِاشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي تَطْبِيقِ الرَّجْمِ عِنْدَهُمَا، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْمُتَزَوِّجُ بِالْكِتَابِيَّةِ لَا يُرْجَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْإِحْصَانِ: الْإِسْلَامُ وَالزَّوَاجُ مِنْ مُسْلِمَةٍ مُسْتَدِلًّا بِمَا «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِحُذَيْفَةَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً: دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ»،

ب- لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، بَلْ يُعَزَّرُ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ مُسْلِمًا أَمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَذْفِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مُسْلِمًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

ج- يُطَبَّقُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى السَّارِقِ الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مُسْلِمًا أَمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا، لِعَدَمِ تَقَوُّمِهِمَا كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ: (سَرِقَةٌ).

د- إِذَا بَغَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مُنْفَرِدِينَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ عَنْ ظُلْمٍ رَكِبَهُمْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِذَا بَغَوْا مَعَ الْبُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَغْيٌ).

هَذَا، وَيُعَاقَبُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِعُقُوبَةِ قَطْعِ الطَّرِيقِ (الْحِرَابَةِ) إِذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا كَالْمُسْلِمِينَ بِلَا خِلَافٍ.

ثَانِيًا- مَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْقِصَاصِ:

38- أ- إِذَا ارْتَكَبَ الذِّمِّيُّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، إِذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُسْلِمًا أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ مُسْتَأْمَنًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ عِصْمَةَ الْمُسْتَأْمَنِ مُؤَقَّتَةٌ، فَكَانَ فِي حَقْنِ دَمِهِ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْقِصَاصَ.

أَمَّا إِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا أَوْ ذِمِّيَّةً عَمْدًا، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُقْتَصُّ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ، وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا إِذَا قَتَلَهُ الْمُسْلِمُ غِيلَةً (خَدِيعَةً) أَوْ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاصٌ).

ب- لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَتِيلُ مُسْلِمًا أَمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ.

وَفِي مِقْدَارِ دِيَةِ الذِّمِّيِّ الْمَقْتُولِ، وَمَنْ يَشْتَرِكُ فِي تَحَمُّلِهَا مِنْ عَاقِلَةِ الذِّمِّيِّ الْقَاتِلِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ) (وَعَاقِلَةٌ).

وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الذِّمِّيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَيَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ، لَا إِنْ كَانَتْ صِيَامًا. (ر: كَفَّارَةٌ).

ج- لَا يُقْتَصُّ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ فِي جَرَائِمِ الِاعْتِدَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، مِنَ الْجُرْحِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ، إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُقْتَصُّ مِنَ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ مُطْلَقًا إِذَا تَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ، وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مُطْلَقًا، بِحُجَّةِ عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ.

وَلَا خِلَافَ فِي تَطْبِيقِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَتِ الْجُرُوحُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ. (ر: قِصَاصٌ).

ثَالِثًا- التَّعْزِيرَاتُ:

39- الْعُقُوبَاتُ التَّعْزِيرِيَّةُ يُقَدِّرُهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ حَسَبَ ظُرُوفِ الْجَرِيمَةِ وَالْمُجْرِمِ، فَتُطَبَّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ مُنَاسِبًا مَعَ الْجَرِيمَةِ شِدَّةً وَضَعْفًا وَمَعَ حَالَةِ الْمُجْرِمِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِيرٍ).

خُضُوعُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ الْعَامَّةِ

40- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الذِّمِّيِّ الْقَضَاءَ عَلَى الذِّمِّيِّينَ، وَإِنَّمَا يَخْضَعُونَ إِلَى جِهَةِ الْقَضَاءِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَخْضَعُ لَهَا الْمُسْلِمُونَ.وَقَالُوا: وَأَمَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِنَصْبِ حَاكِمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا هِيَ رِئَاسَةٌ وَزَعَامَةٌ، لَا تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ بِإِلْزَامِهِ، بَلْ بِالْتِزَامِهِمْ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ حَكَمَ الذِّمِّيُّ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ، فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ التَّحْكِيمُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَجَازَ تَحْكِيمُهُ بَيْنَهُمْ.إِلاَّ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى، وَأَمَّا تَحْكِيمُهُمْ فِي الْقِصَاصِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ.

41- وَإِذَا رُفِعَتِ الدَّعْوَى إِلَى الْقَضَاءِ الْعَامِّ يَحْكُمُ الْقَاضِي الْمُسْلِمُ فِي خُصُومَاتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وُجُوبًا، إِذَا كَانَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مُسْلِمًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.أَمَّا إِذَا كَانَ كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ: الْقَاضِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: الْحُكْمِ أَوِ الْإِعْرَاضِ بِدَلِيلِ قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اشْتَرَطُوا التَّرَافُعَ مِنْ قِبَلِ الْخَصْمَيْنِ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُخَيَّرُ الْقَاضِي فِي النَّظَرِ فِي الدَّعْوَى أَوْ عَدَمِ النَّظَرِ فِيهَا.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٍ) (وَوِلَايَةٍ).

وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي الْمُسْلِمُ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْكُمُ إِلاَّ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}.

مَا يُنْقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمَّةِ

42- يَنْتَهِي عَهْدُ الذِّمَّةِ بِإِسْلَامِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عُقِدَ وَسِيلَةً لِلْإِسْلَامِ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ.

وَيُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِلُحُوقِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ، أَوْ بِغَلَبَتِهِمْ عَلَى مَوْضِعٍ يُحَارِبُونَنَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا، فَيَخْلُو عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ دَفْعُ شَرِّ الْحَرْبِ.وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يُنْتَقَضُ أَيْضًا بِالِامْتِنَاعِ عَنِ الْجِزْيَةِ؛ لِمُخَالَفَتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ عَنْ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا الْقِتَالُ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ لَا أَدَاؤُهَا، وَالِالْتِزَامُ بَاقٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ لِعُذْرِ الْعَجْزِ الْمَالِيِّ، فَلَا يُنْقَضُ الْعَهْدُ بِالشَّكِّ.

43- وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى اعْتَبَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ نَاقِضَةً لِلْعَهْدِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ بِشُرُوطٍ: فَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَرُّدِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، بِإِظْهَارِ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهَا، وَبِإِكْرَاهِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَى بِهَا إِذَا زَنَى بِهَا بِالْفِعْلِ، وَبِغُرُورِهَا وَتَزَوُّجِهَا وَوَطْئِهَا، وَبِتَطَلُّعِهِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِسَبِّ نَبِيٍّ مُجْمَعٍ عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَنَا بِمَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ.فَإِنْ سَبَّ بِمَا أُقِرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ، كَمَا إِذَا قَالَ: عِيسَى إِلَهٌ مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْلِمَةٍ، أَوْ أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ، أَوْ دَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، أَوْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ أَوِ الْقُرْآنِ، أَوْ ذَكَرَ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- بِسُوءٍ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ انْتِقَاضَ الْعَهْدِ بِهَا انْتَقَضَ، وَإِلاَّ فَلَا يُنْتَقَضُ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْطَ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ فَعَلُوا مَا ذُكِرَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ نُقِضَ الْعَهْدُ مُطْلَقًا، وَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ سَبَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ إِذَا لَمْ يُعْلِنِ السَّبَّ؛ لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةُ كُفْرٍ، وَالْعَقْدُ يَبْقَى مَعَ أَصْلِ الْكُفْرِ، فَكَذَا مَعَ الزِّيَادَةِ، وَإِذَا أَعْلَنَ قُتِلَ، وَلَوِ امْرَأَةً، وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ، بَلْ تُطَبَّقُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْقَتْلِ وَالزِّنَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا، وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ فِي الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ، وَبَقِيَتِ الذِّمَّةُ مَعَ الْكُفْرِ، فَمَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى.

حُكْمُ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ مِنْهُمْ:

44- إِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، وَيُحْكَمُ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ، وَتَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الذِّمِّيَّةُ الَّتِي خَلَّفَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ، وَإِذَا تَابَ وَرَجَعَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَتَعُودُ ذِمَّتُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَأُسِرَ يُسْتَرَقُّ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي حُكْمِ نَاقِضِ الْعَهْدِ، حَسَبَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِ النَّقْضِ، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: قُتِلَ بِسَبِّ نَبِيٍّ بِمَا لَمْ يَكْفُرْ بِهِ وُجُوبًا، وَبِغَصْبِ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَى، أَوْ غُرُورِهَا بِإِسْلَامِهِ فَتَزَوَّجَتْهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْلِمٍ، وَأَبَى الْإِسْلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَمَّا الْمُطَّلِعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى الْإِمَامُ فِيهِ رَأْيَهُ بِقَتْلٍ أَوِ اسْتِرْقَاقٍ.وَمَنِ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ، وَإِنْ خَرَجَ لِظُلْمٍ لَحِقَهُ لَا يُسْتَرَقُّ وَيُرَدُّ لِجِزْيَتِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِقِتَالٍ يُقْتَلُ، وَإِنِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ إِبْلَاغُهُ مَأْمَنَهُ فِي الْأَظْهَرِ، بَلْ يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ قَتْلًا أَوْ رِقًّا أَوْ مَنًّا أَوْ فِدَاءً.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَسْبَابِ النَّقْضِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَقَالُوا: خُيِّرَ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ وَالْمَنِّ، كَالْأَسِيرِ الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ قَدَرْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ، فَأَشْبَهَ اللِّصَّ الْحَرْبِيَّ، وَيَحْرُمُ قَتْلُهُ بِسَبَبِ نَقْضِ الْعَهْدِ إِذَا أَسْلَمَ.

هَذَا، وَلَا يَبْطُلُ أَمَانُ ذُرِّيَّتِهِمْ وَنِسَائِهِمْ بِنَقْضِ عَهْدِهِمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِأَنَّ النَّقْضَ إِنَّمَا وُجِدَ مِنَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ دُونَ الذُّرِّيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ حُكْمُهُ بِهِمْ.وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ تُسْتَرَقُّ ذُرِّيَّتُهُمْ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-موسوعة الفقه الكويتية (بذر)

بَذْرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْبَذْرُ لُغَةً: إِلْقَاءُ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَصْدَرُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُبْذَرُ، فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ.وَلَا يَخْرُجُ الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ عَنْ ذَلِكَ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- الْأَصْلُ فِي إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ الْإِبَاحَةُ فِيمَا هُوَ مُبَاحَةٌ زِرَاعَتُهُ، لقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}

فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الزَّرْعِ مِنْ جِهَةِ الِامْتِنَانِ بِهِ.وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا بِقَصْدِ التَّصَدُّقِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ».وَقَدْ يَكُونُ، وَاجِبًا إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ.وَقَدْ يَكُونُ إِلْقَاءُ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْبُذُورِ حَرَامًا، مِثْلَ إِلْقَاءِ حَبٍّ لِزَرْعٍ يَضُرُّ بِالنَّاسِ، كَالْحَشِيشَةِ وَالْأَفْيُونِ؛ لِأَنَّ هَذَا وَمَا يُمَاثِلُهُ يُؤَدِّي إِلَى الضَّرَرِ وَفِعْلِ الْحَرَامِ، وَمَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

3- تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْبَذْرِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْغَصْبِ فِي مَوَاطِنَ مُعَيَّنَةٍ:

فَمِنَ الْمُزَارَعَةِ: تَعْيِينُ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ لِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ أَوْ فَسَادِهَا، عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهَا مِنَ الْفُقَهَاءِ، كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَلُزُومُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ بِوَضْعِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ.

وَمِنَ الزَّكَاةِ: مَسْأَلَةُ الْخَارِجِ مِنَ الزَّارِعَةِ بِشُرُوطِهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ.

وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ حَبٍّ وُقِفَ لِيُزْرَعَ كُلَّ عَامٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ مُسْتَأْجَرَةٍ إِذَا بَلَغَ نِصَابًا، بِخِلَافِ الْحَبِّ الَّذِي وُقِفَ لِلتَّسْلِيفِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ وَقْفِ الْبَذْرِ لِيُزْرَعَ لِحَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ.

وَمِنَ الْغَصْبِ، الْبَذْرُ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ أَوْ مُتَعَدًّى عَلَيْهَا، وَاسْتِرْجَاعُ مَالِكِهَا لَهَا بَعْدَ الْبَذْرِ، هَلْ يُعَوَّضُ الْمُغْتَصِبُ عَنِ الْبَذْرِ أَمْ لَا.وَبَيَانُهُ فِي غَصْبٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


22-موسوعة الفقه الكويتية (تكافؤ)

تَكَافُؤٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّكَافُؤُ لُغَةً: الِاسْتِوَاءُ، وَكُلُّ شَيْءٍ سَاوَى شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ مِثْلَهُ فَهُوَ مُكَافِئٌ لَهُ، وَالْمُكَافَأَةُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ هَذَا، وَالْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ أَيْ تَتَسَاوَى فِي الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَلَيْسَ لِشَرِيفٍ عَلَى وَضِيعٍ فَضْلٌ فِي ذَلِكَ.وَالْكُفْءُ: النَّظِيرُ وَالْمُسَاوِي، وَمِنْهُ: الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ أَيْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُسَاوِيًا لِلْمَرْأَةِ فِي حَسَبِهَا وَدِينِهَا وَنَسَبِهَا وَبَيْتِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَالْكَفَاءُ مَصْدَرُ كَافَأَهُ أَيْ قَابَلَهُ وَصَارَ نَظِيرًا لَهُ، وَقَوْلُهُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، أَيْ يُلَاقِي نِعَمَهُ وَيُسَاوِي مَزِيدَ نِعَمِهِ، وَهُوَ أَجَلُّ التَّحَامِيدِ.

وَسَيَأْتِي التَّعْرِيفُ الِاصْطِلَاحِيُّ مَعَ الْإِطْلَاقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ.

حُكْمُ الْكَفَاءَةِ:

2- بَحَثَ الْفُقَهَاءُ التَّكَافُؤَ (أَوِ الْكَفَاءَةَ حَسَبَ عِبَارَتِهِمْ فِي النِّكَاحِ) فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: النِّكَاحُ، وَالْقِصَاصُ، وَالْمُبَارَزَةُ فِي الْقِتَالِ، وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى خَيْلٍ وَنَحْوِهَا، وَفِيمَا يَلِي حُكْمُ التَّكَافُؤِ فِي كُلٍّ مِنْهَا:

الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ:

3- هِيَ لُغَةً: التَّسَاوِي وَالتَّعَادُلُ

وَاصْطِلَاحًا: اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِهَا الِاصْطِلَاحِيِّ، وَعَرَّفَهَا الْقُهُسْتَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا مُسَاوَاةُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ فِي الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي النِّكَاحِ.

وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهَا أَمْرٌ يُوجِبُ عَدَمَهُ عَارًا.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُونَ الْكَفَاءَةَ فِي النِّكَاحِ وَيَسْتَدِلُّونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَالْمَعْقُولِ، لَكِنَّ الْكَرْخِيَّ وَالثَّوْرِيَّ وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الْجُمْهُورُ فِي النِّكَاحِ.

وَالْوَقْتُ الَّذِي تُعْتَبَرُ عِنْدَهُ الْكَفَاءَةُ، هُوَ ابْتِدَاءُ عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَا يَضُرُّ زَوَالُهَا بَعْدَهُ.

وَتُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- فِي جَانِبِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ وَلَا تُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ.

وَالْحَقُّ فِي الْكَفَاءَةِ لِلْمَرْأَةِ أَوْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ لَهُمَا.عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِصَالِ الْكَفَاءَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُكَافِئَ الزَّوْجُ فِيهَا الزَّوْجَةَ، وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ- كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ- إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الدِّينُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالنَّسَبُ، وَالصِّنَاعَةُ.

وَاعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْكَفَاءَةَ لِلُزُومِ النِّكَاحِ لَا لِصِحَّتِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَسَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَفِي النِّكَاحِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ، وَفِي أَثَرِ عَدَمِ اعْتِبَارِهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ «كَفَاءَةٌ» وَفِي مُصْطَلَحِ «نِكَاحٌ».

هَذَا عَنْ حُكْمِ التَّكَافُؤِ (أَثَرُهُ) أَمَّا اخْتِيَارُ الْأَكْفَاءِ فِي النِّكَاحِ فَهُوَ مَسْنُونٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ».

التَّكَافُؤُ فِي الدِّمَاءِ:

4- مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِلْقِصَاصِ: أَنْ يَتَكَافَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَعَ الْجَانِي، أَيْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَكَافُؤٌ فِي الدَّمِ.

وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ التَّكَافُؤَ فِي الْقِصَاصِ بِأَنَّهُ: مُسَاوَاةُ الْقَاتِلِ لِلْقَتِيلِ الْجَانِي لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.بِأَنْ لَا يَفْضُلَهُ بِإِسْلَامٍ أَوْ أَمَانٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ أَوْ سِيَادَةٍ، أَوْ أَصْلِيَّةٍ (أَيْ لَا يَكُونُ أَصْلًا لِلْمَقْتُولِ وَإِنْ عَلَا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَلَوْ كَافِرًا) وَقَالُوا: إِنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ الْمُسْلِمَيْنِ دُونَ نَظَرٍ إِلَى تَفَاوُتٍ فِي نَسَبٍ أَوْ مَالٍ أَوْ صِفَاتٍ خَاصَّةٍ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ..».

وَيُعْتَبَرُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ حَالَ الْجِنَايَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْحَالِ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا.

وَيُعْتَبَرُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْجُرْحِ وَالنَّفْسِ، فَإِنْ سَاوَى الْجَانِي الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ اقْتُصَّ فِيهِمَا.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَثَرَ اعْتِبَارِ التَّكَافُؤِ فِي الْقِصَاصِ: أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِمَنْ لَا يُسَاوِيهِ فِي الْعِصْمَةِ، وَيُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْمُسْلِمِ وَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَغَيْرِهِمَا.

وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَافُؤِ فِي الدِّمَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: «كَفَاءَةٌ» وَفِي مُصْطَلَحِ: «قِصَاصٌ».

التَّكَافُؤُ فِي الْمُبَارَزَةِ:

5- الْمُبَارَزَةُ لُغَةً: الْخُرُوجُ إِلَى الْخَصْمِ لِقِتَالِهِ وَمُصَارَعَتِهِ، وَكَانَتْ تَتِمُّ بِخُرُوجِ أَحَدِ الْمُقَاتِلِينَ أَمَامَ أَصْحَابِهِ وَدَعْوَةِ أَحَدِ الْخُصُومِ لِلْقِتَالِ، فَيَبْرُزُ لَهُ مَنْ دُعِيَ إِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى أَحَدًا أَوْ يَبْرُزُ إِلَيْهِ أَحَدُ أَكْفَائِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى أَحَدًا، وَيَدُورُ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ حَتَّى يَصْرَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ.

وَالتَّكَافُؤُ لِلْمُبَارَزَةِ: أَنْ يَعْلَمَ الشَّخْصُ الَّذِي يَخْرُجُ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ، وَأَنَّهُ لَنْ يَعْجِزَ عَنْ مُقَاوَمَةِ عَدُوِّهِ.

وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ «الْجِهَادِ» حُكْمَ الْمُبَارَزَةِ، وَأَنَّهَا تَكُونُ جَائِزَةً- خِلَافًا لِلْحَسَنِ- بِإِطْلَاقٍ أَوْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَتَكُونُ مُسْتَحَبَّةً لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ، لِأَنَّ فِي خُرُوجِهِ لِلْمُبَارَزَةِ نَصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَدَرْءًا عَنْهُمْ وَإِظْهَارًا لِقُوَّتِهِمْ، وَتَكُونُ مَكْرُوهَةً لِلضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَثِقُ مِنْ قُوَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَسْرِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَإِضْعَافِ عَزْمِهِمْ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ غَالِبًا.

فَالتَّكَافُؤُ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ أَوِ الْكَرَاهَةِ فِي الْمُبَارَزَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا جَازَتِ الْمُبَارَزَةُ بِمَا اسْتَشْهَدْنَا..كَانَ لِتَمْكِينِ الْمُبَارَزَةِ شَرْطَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَا نَجْدَةٍ وَشَجَاعَةٍ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَنْ يَعْجِزَ عَنْ مُقَاوَمَةِ عَدُوِّهِ، فَإِنْ كَانَ بِخِلَافِهِ مُنِعَ.

وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ زَعِيمًا لِلْجَيْشِ يُؤَثِّرُ فَقْدُهُ فِيهِمْ.

وَقَدْ «أَقَرَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- التَّكَافُؤَ فِي الْمُبَارَزَةِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَادَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إِلَيْنَا مِنْ قَوْمِنَا أَكْفَاءَنَا..فَقَدْ خَرَجَ عُتْبَةُ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ، حَتَّى إِذَا فَصَلَ مِنَ الصَّفِّ دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِتْيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَلَاثَةٌ، وَهُمْ: عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ وَرَجُلٌ آخَرُ يُقَالُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: رَهْطٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالُوا: مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِمْ يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عَلِيُّ، فَلَمَّا قَامُوا وَدَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالَ عُبَيْدَةُ: عُبَيْدَةُ، وَقَالَ حَمْزَةُ: حَمْزَةُ، وَقَالَ عَلِيٌّ: عَلِيٌّ قَالُوا: نَعَمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ، فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يُمْهِلْ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ، وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ، وَكَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفَّفَا عَلَيْهِ، وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إِلَى أَصْحَابِهِ» التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْخَيْلِ فِي السَّبْقِ:

6- السَّبْقُ- بِالسُّكُونِ- فِي اللُّغَةِ: الْمُسَابَقَةُ، وَالسَّبَقُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- مَا يُجْعَلُ مِنَ الْمَالِ رَهْنًا عَلَى الْمُسَابَقَةِ

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَقَدْ شُرِعَ السَّبْقُ فِي الْخَيْلِ وَفِي الْإِبِلِ- وَلَوْ بِجُعْلٍ- لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْدَادٍ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلسَّبْقِ وَحِلِّ الْجُعْلِ شُرُوطًا مِنْهَا: التَّكَافُؤُ بَيْنَ الدَّابَّتَيْنِ الْمُتَسَابِقَتَيْنِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ سَبْقُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالتَّكَافُؤُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُحَلِّلِ الَّذِي يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا فِي حَالَةِ شَرْطِ إِخْرَاجِ الْجُعْلِ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَا بَأْسَ بِالْمُسَابَقَةِ فِي الرَّمْيِ وَالْفَرَسِ وَالْإِبِلِ..وَحَلَّ الْجُعْلُ وَطَابَ إِنْ شُرِطَ الْمَالُ فِي الْمُسَابَقَةِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَحَرُمَ لَوْ شُرِطَ فِيهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قِمَارًا، إِلاَّ إِذَا أَدْخَلَا ثَالِثًا مُحَلِّلًا بَيْنَهُمَا بِفَرَسٍ كُفْءٍ لِفَرَسَيْهِمَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَسْبِقَهُمَا، وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ أَيْ إِنْ كَانَ يَسْبِقُ أَوْ يُسْبَقُ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَجُوزُ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِجُعْلٍ فِي الْخَيْلِ، وَفِي الْإِبِلِ، وَبَيْنَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، وَفِي السَّهْمِ إِذَا كَانَ الْجُعْلُ مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَعُيِّنَ الْمَبْدَأُ وَالْغَايَةُ وَالْمَرْكَبُ.وَثُمَّ قَالُوا فِي شَرْحِ الْمَرْكَبِ: وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْخَيْلُ أَوِ الْإِبِلُ مُتَقَارِبَةً فِي الْجَرْيِ، وَأَنْ يَجْهَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْقَ فَرَسِهِ وَفَرَسَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَحَدَ الْفَرَسَيْنِ أَكْثَرُ جَرْيًا مِنَ الْآخَرِ لَمْ تَجُزْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَشَرْطُ الْمُسَابَقَةِ عِلْمُ الْمَوْقِفِ وَالْغَايَةِ وَتَسَاوِيهِمَا فِيهِمَا، وَتَعْيِينُ الْفَرَسَيْنِ وَيَتَعَيَّنَانِ، وَإِمْكَانُ سَبْقِ كُلِّ وَاحِدٍ..فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا يُقْطَعُ بِتَخَلُّفِهِ أَوْ فَارِهًا يُقْطَعُ بِتَقَدُّمِهِ لَمْ يَجُزْ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَرَسُ الْمُحَلِّلِ مُكَافِئًا لِفَرَسَيْهِمَا أَوْ بَعِيرُهُ مُكَافِئًا لِبَعِيرَيْهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَافِئًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فَرَسَاهُمَا جَوَادَيْنِ وَفَرَسُهُ بَطِيئًا فَهُوَ قِمَارٌ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ»، وَلِأَنَّهُ مَأْمُونٌ سَبْقُهُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَافِئًا لَهُمَا جَازَ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الرِّهَانِ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَعِيرَ لَا يَكَادُ يَسْبِقُ الْفَرَسَ فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمُسَابَقَةِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


23-موسوعة الفقه الكويتية (حق 2)

حَقٌّ -2

تَقْسِيمُ الْحُقُوقِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ حَقٍّ لِلْعَبْدِ:

17- قَسَّمَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ الْحُقُوقَ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ حَقٍّ لِلْعَبْدِ وَعَدَمِ وُجُودِ حَقٍّ لَهُ إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ، وَهُمَا:

1- حَقُّ اللَّهِ فَقَطْ، مِثْلُ: الْإِيمَانِ، وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ.

2- حَقُّ الْعَبْدِ.ثُمَّ قَسَّمُوا حَقَّ الْعَبْدِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ، وَمَلْزُومُ عِبَادَتِهِ إِيَّاهُ، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَيُخَلِّصَهُ مِنَ النَّارِ،

الثَّانِي: حَقُّ الْعَبْدِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ مِنْ مَصَالِحِهِ، مِثْلُ: تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.

الثَّالِثُ: حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ، وَهُوَ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الذِّمَمِ وَالْمَظَالِمِ، مِثْلُ: الدَّيْنِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ.

الْحُقُوقُ كُلُّهَا فِيهَا حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلْعَبْدِ:

18- كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ حَقِّ اللَّهِ وَهُوَ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَعِبَادَتُهُ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ بِإِطْلَاقٍ.

فَإِنْ جَاءَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مُجَرَّدٌ لِلْعَبْدِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ جَاءَ عَلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

كَمَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا عَبَدُوهُ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ».

وَعَادَتُهُمْ فِي تَفْسِيرِ حَقِّ اللَّهِ أَنَّهُ مَا فَهِمَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا خِيرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ، كَانَ لَهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ أَوْ غَيْرُ مَعْقُولٍ.

وَحَقُّ الْعَبْدِ: مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَصَالِحِهِ فِي الدُّنْيَا.فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ.

وَمَعْنَى التَّعَبُّدِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ.

وَأَصْلُ الْعِبَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حَقِّ اللَّهِ، وَأَصْلُ الْعَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ.

وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: حُقُوقُ اللَّهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا مَا هُوَ خَالِصٌ لِلَّهِ كَالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا، وَالْإِيمَانِ بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، كَالْإِيمَانِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَبِمَا تَضَمَّنَتْهُ الشَّرَائِعُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَبِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

الثَّانِي: مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْأَمْوَالِ الْمَنْدُوبَاتِ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ، فَهَذِهِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ وَجْهٍ، وَنَفْعٌ لِعِبَادِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْغَرَضُ الْأَظْهَرُ مِنْهَا نَفْعُ عِبَادِهِ وَإِصْلَاحُهُمْ بِمَا وَجَبَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ نُدِبَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ لِبَاذِلِيهِ وَرِفْقٌ لآِخِذِيهِ.

الثَّالِثُ: مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَحُقُوقِ الْمُكَلَّفِ وَالْعِبَادِ أَوْ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحُقُوقِ الثَّلَاثَةِ.

وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا الْأَذَانُ، فِيهِ الْحُقُوقُ الثَّلَاثَةُ، أَمَّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالتَّكْبِيرَاتُ وَالشَّهَادَةُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَمَّا حَقُّ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فَالشَّهَادَةُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَأَمَّا حَقُّ الْعِبَادِ فَبِالْإِرْشَادِ إِلَى تَعْرِيفِ دُخُولِ الْأَوْقَاتِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالْمُنْفَرِدِينَ، وَالدُّعَاءِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي.

تَقْدِيمُ الْحُقُوقِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ تَيَسُّرِهِ وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ:

19- قَالَ الْإِمَامُ الزَّرْكَشِيُّ: حُقُوقُ اللَّهِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ: أ- مَا يَتَعَارَضُ فَيُقَدَّمُ آكَدُهُ.

(فَمِنْهُ): تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ آخِرَ وَقْتِهَا عَلَى رَوَاتِبِهَا وَكَذَلِكَ عَلَى الْمَقْضِيَّةِ إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ إِلاَّ مَا يَسَعُ الْحَاضِرَةَ فَإِنْ كَانَ يَسَعُ الْمُؤَدَّاةَ وَالْمَقْضِيَّةَ فَالْفَائِتَةُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ.

(وَمِنْهَا): تَقْدِيمُ النَّوَافِلِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا الْجَمَاعَةُ كَالْعِيدَيْنِ عَلَى الرَّوَاتِبِ.نَعَمْ تُقَدَّمُ الرَّوَاتِبُ عَلَى التَّرَاوِيحِ فِي الْأَصَحِّ (وَتَقْدِيمُ الرَّوَاتِبِ عَلَى النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ، وَتَقْدِيمُ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتَي الْفَجْرِ فِي الْأَصَحِّ) وَتَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَالصِّيَامِ الْوَاجِبِ عَلَى نَفْلِهِ، وَالنُّسُكِ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِهِ.وَإِذَا تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ وُجُودَ الْمَاءِ آخِرَ الْوَقْتِ فَتَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِانْتِظَارِهِ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْدِيمِ بِالتَّيَمُّمِ.

وَلَوْ أَوْصَى بِمَاءٍ لِأَوْلَى النَّاسِ بِهِ قُدِّمَ غُسْلُ الْمَيِّتِ عَلَى غَيْرِهِ، وَغُسْلُ النَّجَاسَةِ عَلَى الْحَدَثِ، لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ، وَفِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ تَقْدِيمُ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَالثَّانِي تَقْدِيمُ غُسْلِ الْحَيْضِ، وَثَالِثُهَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فَيُقْرَعُ.وَيُقَدَّمُ (الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ) وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَغْسَالِ، وَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ قَوْلَانِ: فَصَحَّحَ الْعِرَاقِيُّونَ تَقْدِيمَ الْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ عَلَى غُسْلِ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَصَحَّحَ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَتَابَعَهُمُ النَّوَوِيُّ تَقْدِيمَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، لِصِحَّةِ أَحَادِيثِهِ.وَمِنْهَا، قَاعِدَةُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَضِيلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَضِيلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَكَانِهَا.

ب- مَا يَتَسَاوَى لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ، كَمَنْ عَلَيْهِ فَائِتٌ مِنْ رَمَضَانَيْنِ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ الَّذِي عَلَيْهِ فِدْيَةُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَيْنِ، وَمَنْ عَلَيْهِ شَاتَانِ مَنْذُورَتَانِ فَلَمْ يَقْدِرْ إِلاَّ عَلَى إِحْدَاهُمَا، نَذَرَ حَجًّا أَوْ عَمْرَةً بِنَذْرٍ وَاحِدٍ أَوْ بِنُذُورٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ.

ج- مَا تَفَاوَتَتْ، فَيُقَدَّمُ الْمُرَجَّحُ، كَالدَّمِ الْوَاجِبِ فِي الْإِحْرَامِ، وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي شَاةٍ، فَالزَّكَاةُ أَوْلَى، وَمِثْلُهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَالْفِطْرَةِ، إِذَا اجْتَمَعَا فِي مَالٍ يَقْصُرُ عَنْهُمَا، فَالْفِطْرَةُ أَوْلَى، لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْعَيْنِ.

وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وَوَجَدَ الْإِطْعَامَ لِإِحْدَاهُمَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَقُلْنَا بِالْإِطْعَامِ فِي الْقَتْلِ، فَالظِّهَارُ أَوْلَى.

د- مَا اخْتُلِفَ فِيهِ كَالْعَارِي هَلْ يُصَلِّي قَائِمًا؟ وَيُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مُحَافَظَةً عَلَى الْأَرْكَانِ، أَوْ يُصَلِّي قَاعِدًا مُومِيًا مُحَافَظَةً عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ، أَوْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا؟ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ، وَكَذَا الْمَحْبُوسُ بِمَكَانٍ نَجَسٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ وَلَا يَجْلِسُ، بَلْ يَنْحَنِي لِلسُّجُودِ إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي لَوْ زَادَ عَلَيْهِ لَاقَى النَّجَاسَةَ.

وَلَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ نَجَسٍ وَمَعَهُ ثَوْبٌ، فَهَلْ يَبْسُطُهُ وَيُصَلِّي عُرْيَانًا أَوْ يُصَلِّي فِيهِ أَوْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا؟ فِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ ثَوْبَ حَرِيرٍ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَجِبُ الصَّلَاةُ فِيهِ.وَلَوِ اجْتَمَعَ عُرَاةٌ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى أَوْ جَمَاعَةً أَوْ يَتَخَيَّرُوا أَوْ هُمَا سَوَاءٌ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ.

وَفِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ إِذَا اجْتَمَعَتْ: قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَيْضًا: فَتَارَةً تَسْتَوِي كَالْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَتَسَاوِي أَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ فِي دَرَجَةٍ، وَتَسْوِيَةِ الْحُكَّامِ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمُحَاكَمَاتِ، وَتَسَاوِي الشُّرَكَاءِ فِي الْقِسْمَةِ وَالْإِجْبَارِ عَلَيْهَا، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ السَّابِقَيْنِ إِلَى مُبَاحٍ.وَتَارَةً يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ عَلَى نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَقَرِيبِهِ، وَتَقْدِيمِ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ عَلَى نَفَقَةِ قَرِيبِهِ، وَتَقْدِيمِ غُرَمَائِهِ عَلَيْهِ فِي بَيْعِ مَالِهِ، وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَتَقْدِيمِهِ عَلَى غُرَمَائِهِ بِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ وَكِسْوَتِهِمْ فِي مُدَّةِ الْحَجْرِ، وَتَقْدِيمِ الْمُضْطَرِّ عَلَى غَيْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَتَقْدِيمِ ذَوِي الضَّرُورَاتِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَالتَّقْدِيمِ بِالسَّبْقِ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَتَقْدِيمِ حَقِّ الْبَائِعِ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَالتَّقْدِيمِ فِي الْإِرْثِ بِالْعُصُوبَةِ وَقُرْبِ الدَّرَجَةِ وَفِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ بِالْأُبُوَّةِ وَالْجُدُودَةِ، ثُمَّ بِالْعُصُوبَةِ، وَالْحَقُّ الثَّابِتُ لِمُعَيِّنٍ أَقْوَى مِنَ الْحَقِّ الثَّابِتِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلِهَذَا تَجِبُ زَكَاةُ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَالْحَقُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ أَقْوَى مِنَ الْمُتَعَلِّقِ بِالذِّمَّةِ، وَلِهَذَا قُدِّمَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُفْلِسِ بِالسِّلْعَةِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ يُقَدَّمُ بِالْمَرْهُونِ، وَيُقَدَّمُ مَا لَهُ مُتَعَلَّقٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا لَهُ مُتَعَلَّقَانِ، كَمَا لَوْ جَنَى الْمَرْهُونُ يُقَدَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ لَا مُتَعَلَّقَ لَهُ سِوَى الرَّقَبَةِ، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ.

وَفِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْآدَمِيِّ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

أ- مَا قُطِعَ فِيهِ بِتَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ التَّرَفُّهِ وَالْمَلَاذِّ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ وَطْءِ الْمُتَحَيِّرَةِ، وَإِيجَابُ الْغُسْلِ عَلَيْهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ.

ب- مَا قُطِعَ فِيهِ بِتَقْدِيمِ حَقِّ الْآدَمِيِّ كَجَوَازِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ عِنْدَ الْحَكَّةِ، وَكَتَجْوِيزِ التَّيَمُّمِ بِالْخَوْفِ مِنَ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْذَارِ، وَكَذَلِكَ الْأَعْذَارُ الْمُجَوِّزَةُ لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ، وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَغَيْرُهَا، وَالتَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ غَيْرُ الْخَمْرِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ قَتْلُ قِصَاصٍ وَقَتْلُ رِدَّةٍ قُدِّمَ قَتْلُ الْقِصَاصِ، وَجَوَازُ التَّحَلُّلِ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ.

ج- مَا فِيهِ خِلَافٌ بِحَقِّهِ.

فَمِنْهَا، إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ وَدَيْنُ آدَمِيٍّ وَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: قِيلَ: تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ، وَقِيلَ: يُقَدَّمُ الدَّيْنُ، وَقِيلَ إِنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

وَمِنْهَا، الْحَجُّ وَالْكَفَّارَةُ، وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ الْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: وَلَا تَجْرِي هَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ، بَلْ يُقَدَّمُ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَيُؤَخَّرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ حَيًّا، وَمُرَادُهُ الْحُقُوقُ الْمُسْتَرْسِلَةُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَلِهَذَا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْمَرْهُونِ تُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنُ آدَمِيٍّ وَجِزْيَةٌ، فَالصَّحِيحُ تَسَاوِيهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ أَنَّ الْمُغَلِّبَ فِي الْجِزْيَةِ حَقُّ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهَا عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ، فَأَشْبَهَتْ غَيْرَهَا مِنْ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِهَذَا، لَوْ أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ لَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ، وَلَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ، وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوُجُوبِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ، إِلاَّ بِآخِرِ الْحَوْلِ.

وَمِنْهَا إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ، فَأَقْوَالٌ، قِيلَ: تُقَدَّمُ الْمَيْتَةُ، وَقِيلَ: طَعَامُ الْغَيْرِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ.

وَمِنْهَا، لَوْ بَذَلَ الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ الطَّاعَةَ فِي أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَجَبَ عَلَى الْأَبِ قَبُولُهُ، وَكَذَا لَوْ بَذَلَ لَهُ الْأُجْرَةَ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الْقَبُولَ فِي دَيْنِ الْآدَمِيِّ، بِلَا خِلَافٍ.

تَقْسِيمُ الْحُقُوقِ بِاعْتِبَارِ قَابِلِيَّتِهَا لِلْإِسْقَاطِ وَعَدَمِهِ:

20- الْحَقُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا خَالِصًا لِلْعَبْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.

وَحُقُوقُ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ إِمَّا عِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ مَالِيَّةً كَانَتْ كَالزَّكَاةِ، أَوْ بَدَنِيَّةً كَالصَّلَاةِ، أَوْ جَامِعَةً لِلْبَدَنِ وَالْمَالِ كَالْحَجِّ.وَإِمَّا عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ كَالْحُدُودِ، وَإِمَّا كَفَّارَاتٌ وَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ.

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّهُ مَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَإِفْرَادُ نَوْعٍ مِنَ الْحُقُوقِ بِجَعْلِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَقَطْ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ تَسْلِيطِ الْعَبْدِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِحَيْثُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ.

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ مَا يَسْقُطُ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ وَمَا لَا يَسْقُطُ:

أَوَّلًا: حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:

21- الْأَصْلُ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سَوَاءٌ أَكَانَتْ عِبَادَاتٍ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، أَمْ كَانَتْ عُقُوبَاتٍ كَالْحُدُودِ، أَمْ كَانَتْ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ كَالْكَفَّارَاتِ، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْعَبْدِ بِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ كَحَقِّ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَحَقِّ الْأُبُوَّةِ، وَالْأُمُومَةِ، وَحَقِّ الِابْنِ فِي الْأُبُوَّةِ وَالنَّسَبِ- هَذِهِ الْحُقُوقُ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ حَاوَلَ إِسْقَاطَ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُقَاتَلُ كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- بِمَانِعِي الزَّكَاةِ.

بَلْ إِنَّ السُّنَنَ الَّتِي فِيهَا إِظْهَارُ الدِّينِ وَتُعْتَبَرُ مِنْ شَعَائِرِهِ كَالْآذَانِ لَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ.

وَلَا يَجُوزُ التَّحَيُّلُ عَلَى إِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ كَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْحَجِّ فَوَهَبَهُ كَيْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَكَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ فَشَرِبَ دَوَاءً مُنَوِّمًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.

كَمَا تَحْرُمُ الشَّفَاعَةُ لِإِسْقَاطِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْحَدَّ حَقٌّ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ غَضِبَ حِينَ شَفَعَ أُسَامَةُ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى؟»

أَمَّا مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ كَالْقَذْفِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ مَنْ غَلَّبَ فِيهِ جَانِبَ الْعَبْدِ أَجَازَ الْعَفْوَ فِيهِ قَبْلَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ وَبَعْدَهُ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ فِيهِ بَعْدَ الرَّفْعِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْعَفْوَ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ يُرِيدُ السِّتْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ هَذَا الْقَيْدُ بَيْنَ الِابْنِ وَأَبِيهِ.

وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحُدُودِ، أَمَّا التَّعْزِيرُ فَمَا كَانَ مِنْهُ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ جَازَ الْعَفْوُ عَنْهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ حَقًّا لِلَّهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى الْإِمَامِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.

كَمَا أَنَّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مَا شُرِعَ أَصْلًا لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ لِمُنَافَاةِ الْإِسْقَاطِ لِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ، وَمِنْ ذَلِكَ وِلَايَةُ الْأَبِ عَلَى الصَّغِيرِ، فَهِيَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ وَصْفًا ذَاتِيًّا لِصَاحِبِهَا فَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، فَحَقُّهُ ثَابِتٌ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ، فَيُعْتَبَرُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ. وَمِنْ ذَلِكَ السُّكْنَى فِي بَيْتِ الْعِدَّةِ، فَعَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَعْتَدَّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهَا بِالسُّكْنَى حَالَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ، وَالْبَيْتُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا فِي قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} هُوَ الْبَيْتُ الَّذِي تَسْكُنُهُ، وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ إِخْرَاجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ مَسْكَنِهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ فِي الْعِدَّةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِخْرَاجُهَا أَوْ خُرُوجُهَا مِنْ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ مُنَافٍ لِلْمَشْرُوعِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِسْقَاطُهُ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ: (سُكْنَى- عِدَّةٌ).

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، فَبَيْعُ الشَّيْءِ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ يُثْبِتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، فَلَهُ الْأَخْذُ وَلَهُ الرَّدُّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ».فَالْخِيَارُ هُنَا لَيْسَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ.وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُونَ بَيْعَ الشَّيْءِ الْغَائِبِ مَعَ مُرَاعَاةِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي «خِيَارِ الرُّؤْيَةِ».

وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مِمَّا شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ.

وَمَا دَامَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنَ الْعِبَادِ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ أَحَدٌ سَارِقًا أَوْ شَارِبًا لِلْخَمْرِ لِيُطْلِقَهُ وَلَا يَرْفَعَهُ لِلسُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَخْذُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ شَاهِدًا عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسِبٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَالصُّلْحُ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِلٌ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَخَذَ عِوَضًا رَدُّهُ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَإِذَا كَانَتْ حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، فَإِنَّهَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ فِي شَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَبِلَ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى فَيَسْقُطُ الْحَدُّ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْحَدِّ الشُّبْهَةُ الْمُعْتَبَرَةُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».

وَالْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ الَّتِي تَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ تَكُونُ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ بَعْضِ التَّكَالِيفِ عَمَّنْ تَلْحَقُهُمُ الْمَشَقَّةُ وَذَلِكَ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَةً بِهِمْ، وَذَلِكَ كَإِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ عَنِ الْمَجْنُونِ، وَإِسْقَاطِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ كَالْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ لِمَا يَنَالُهُمْ مِنْ مَشَقَّةٍ.

وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ الْمَشَاقَّ وَأَنْوَاعَهَا، وَبَيَّنُوا لِكُلِّ عِبَادَةٍ مَرْتَبَةً مُعَيَّنَةً مِنْ مَشَاقِّهَا الْمُؤَثِّرَةِ فِي إِسْقَاطِهَا، وَأَدْرَجُوا ذَلِكَ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، أَخْذًا مِنْ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ (تَيْسِيرٌ).

وَالْحُكْمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْأَعْذَارِ يُسَمَّى رُخْصَةً، وَمِنْ أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ مَا يُسَمَّى رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ كَإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَإِسْقَاطُ الصَّوْمِ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ.

بَلْ إِنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ قَصْرًا فَرْضٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَتُعْتَبَرُ رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ التَّصَدُّقَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إِسْقَاطٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ كَوَلِيِّ الْقِصَاصِ، فَهُوَ مِنَ اللَّهِ الَّذِي تَلْزَمُ طَاعَتُهُ أَوْلَى.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِسْقَاطُ الْحُرْمَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ لِلضَّرُورَةِ كَأَكْلِ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ لِمَنْ غُصَّ بِهَا، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّبِيبِ.

وَيَسْرِي هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ، فَمِنَ الرُّخْصَةِ مَا سَقَطَ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي السَّلَمِ لِقَوْلِ الرَّاوِي: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَالْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا وَهَذَا مَشْرُوعٌ لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي السَّلَمِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ: (تَيْسِيرٌ- رُخْصَةٌ- وَإِسْقَاطٌ) وَمَوَاضِعُهُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

حُقُوقُ الْعِبَادِ:

22- حَقُّ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِسْقَاطِ وَعَدَمِهِ يَشْمَلُ الْأَعْيَانَ وَالْمَنَافِعَ وَالدُّيُونَ وَالْحُقُوقَ الْمُطْلَقَةَ وَهِيَ الَّتِي لَيْسَتْ عَيْنًا وَلَا دَيْنًا وَلَا مَنْفَعَةً.

وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ صَاحِبِ حَقٍّ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ إِذَا كَانَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ- بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ- وَكَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلْإِسْقَاطِ- بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَيْنًا أَوْ شَيْئًا مُحَرَّمًا- وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أ- الْعَيْنُ:

23- الْعَيْنُ مَا تَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مُطْلَقًا جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً كَالْعُرُوضِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالْعَقَارِ مِنَ الْأَرْضِينَ وَالدُّورِ، وَالْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ.

وَمَالِكُ الْعَيْنِ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالنَّقْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.أَمَّا التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْإِسْقَاطِ بِأَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ: أَسْقَطْتُ مِلْكِي فِي هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ، يُرِيدُ بِذَلِكَ زَوَالَ مِلْكِهِ وَثُبُوتَهُ لِغَيْرِهِ فَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ أَنَّ الْعِتْقَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهِيَ عَيْنٌ، وَالْوَقْفُ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَحْثَيْ: (إِبْرَاءٌ- إِسْقَاطٌ).

ب- الدَّيْنُ:

24- الدَّيْنُ يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِاتِّفَاقٍ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَمْ كَانَ مُسْلَمًا فِيهِ، أَمْ كَانَ نَفَقَةً مَفْرُوضَةً مَاضِيَةً لِلزَّوْجَةِ، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ.

وَكَمَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ كُلِّ الدَّيْنِ يَجُوزُ إِسْقَاطُ بَعْضِهِ وَتَخْتَلِفُ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الِاعْتِيَاضُ فَقَدْ يَكُونُ فِي صُورَةِ صُلْحٍ، أَوْ خُلْعٍ، أَوْ تَعْلِيقٍ عَلَى حُصُولِ شَيْءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: إِذَا أَبْرَأَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لِيُطَلِّقَهَا، صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَيَكُونُ بِعِوَضٍ وَهُوَ مِلْكُهَا نَفْسَهَا.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَعْطَى الْمَدِينُ الدَّائِنَ ثَوْبًا فِي مُقَابَلَةِ إِبْرَائِهِ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَمْلِكُ الدَّائِنُ الْعِوَضَ الْمَبْذُولَ لَهُ نَظِيرَ الْإِبْرَاءِ وَيَبْرَأُ الْمَدِينُ.

وَقَدْ جَعَلَ الْقَرَافِيُّ مِنْ أَقْسَامِ الْإِسْقَاطِ بِعِوَضٍ: الصُّلْحَ عَنِ الدَّيْنِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِبْرَاءٌ- إِسْقَاطٌ).

ج- الْمَنَافِعُ:

25- الْمَنَافِعُ كَذَلِكَ يَجُوزُ إِسْقَاطُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْقِطُ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، أَمْ كَانَ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ فَقَطْ بِمُقْتَضَى عَقْدٍ، كَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ، أَمْ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَتَحْجِيرِ الْمَوَاتِ لِإِحْيَائِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ بِمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، فَالْمَنَافِعُ تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِإِسْقَاطِ مُسْتَحِقِّ الْمَنْفَعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ فَمَاتَ الْمُوصِي وَبَاعَ الْوَارِثُ الدَّارَ وَرَضِيَ الْمُوصَى لَهُ جَازَ الْبَيْعُ وَبَطَلَتْ سُكْنَاهُ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَبِعِ الْوَارِثُ الدَّارَ وَلَكِنْ قَالَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ: أَسْقَطْتُ حَقِّي سَقَطَ حَقُّهُ بِالْإِسْقَاطِ.

وَأَمَاكِنُ الْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ يَجُوزُ لِلْمُنْتَفِعِ بِهَا إِسْقَاطُ الْحَقِّ فِيهَا.هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِإِسْقَاطِهَا بِدُونِ عِوَضٍ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِإِسْقَاطِهَا بِعِوَضٍ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَمِلْكِ الِانْتِفَاعِ، فَمَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ مَلَكَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا، وَمَنْ مَلَكَ الِانْتِفَاعَ فَقَطْ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْإِسْقَاطَ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَهُمْ بَعْضُ الْقُيُودِ فَإِنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنِ الْمَنَافِعِ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ إِلاَّ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، أَوْ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ، أَمَّا مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ بِدُونِ عِوَضٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا.وَالْمَنَافِعُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ.كَمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِفْرَادُ حُقُوقِ الِارْتِفَاقِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَبَعًا.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ مَا لَوْ أَوْصَى شَخْصٌ لِرَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِ الدَّارِ وَالثَّانِي بِسُكْنَاهَا، وَصَالَحَ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِعَيْنِ الدَّارِ صَالَحَ الْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَاهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ بِمَنْفَعَةِ عَيْنٍ أُخْرَى لِتَسْلَمَ الدَّارُ لَهُ جَازَ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ- إِعَارَةٌ- وَصِيَّةٌ- وَقْفٌ- ارْتِفَاقٌ).

د- الْحَقُّ الْمُطْلَقُ:

26- الْمُرَادُ بِحَقِّ الْعَبْدِ الْمُطْلَقِ هُنَا مَا لَيْسَ بِعَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ كَمَا سَبَقَ، وَذَلِكَ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَحَقِّ الْخِيَارِ، وَحَقِّ الزَّوْجَةِ فِي الْقَسْمِ، وَحَقِّ الْقِصَاصِ، وَحَقِّ الْأَجَلِ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْحُقُوقُ وَمَا شَابَهَهَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهَا، لِأَنَّ كُلَّ صَاحِبِ حَقٍّ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ.

وَمِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي تَمْنَعُ إِسْقَاطَ مِثْلِ هَذِهِ الْحُقُوقِ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

فَمِمَّا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى مَنْعِ إِسْقَاطِهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، كَحَقِّ الصَّغِيرِ فِي النَّسَبِ.فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ الصَّغِيرُ إِسْقَاطُ النَّسَبِ، فَمَنْ أَقَرَّ بِابْنٍ، أَوْ هُنِّئَ بِهِ فَسَكَتَ فَقَدِ الْتَحَقَ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ إِسْقَاطُ نَسَبِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَمِنْ ذَلِكَ تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ حَقِّ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ تَصَرُّفًا مُسْتَأْنَفًا، كَوَقْفٍ وَعِتْقٍ وَإِبْرَاءٍ وَعَفْوٍ مَجَّانًا، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ صِفَاتُ الْحُقُوقِ كَالْأَجَلِ وَالْجَوْدَةِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: صِفَاتُ الْحُقُوقِ لَا تُفْرَدُ بِالْإِسْقَاطِ فِي الْأَصَحِّ فَلَا يَسْقُطُ الْأَجَلُ، وَمِثْلُهُ الْجَوْدَةُ بِالْإِسْقَاطِ فِي حِينِ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَغَيْرُ ذَلِكَ كَإِسْقَاطِ الْمَجْهُولِ، وَإِسْقَاطِ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَبَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِبْرَاءٌ- إِسْقَاطٌ).

وَأَمَّا الِاعْتِيَاضُ عَنِ الْحُقُوقِ فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ مُجَرَّدًا عَنِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، فَلَوْ صَالَحَ عَنْهُ بِمَالٍ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ وَيَرْجِعُ بِهِ.إِلَخْ.

وَحَقُّ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ، وَحَقُّ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ لِلْمُخَيَّرَةِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا مُنْفَرِدًا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ صَحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، كَحَقِّ الْقِصَاصِ، وَمِلْكِ النِّكَاحِ، وَحَقِّ الرِّقِّ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهُ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ فَيَكُونُ ثَابِتًا لِصَاحِبِهِ أَصَالَةً فَيَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ.

أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ يُشِيرُوا إِلَى قَاعِدَةٍ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ إِلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، لَكِنْ بَعْدَ التَّتَبُّعِ لِبَعْضِ الْمَسَائِلِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجُمْلَةِ: إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ يَعْتَبِرُونَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا يَئُولُ إِلَى الْمَالِ، أَوْ مَا لَيْسَ عَيْنًا وَلَا مَنْفَعَةً كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَحَقِّ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهِبَةِ الزَّوْجَةِ يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، أَمَّا مَا كَانَ يَئُولُ إِلَى مَالٍ كَحَقِّ الْقِصَاصِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ أَجَازَ لِلزَّوْجَةِ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْ هِبَتِهَا يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا وَعَنْ سَائِرِ حُقُوقِهَا مِنَ الْقَسْمِ، كَمَا أَنَّهُ فِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ جَوَازُ الِاعْتِيَاضِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ مِنَ الْمُشْتَرِي لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْ كُلِّ حَقٍّ ثَبَتَ لِلْإِنْسَانِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ الِاعْتِيَاضُ عَنِ الشُّفْعَةِ وَعَنْ هِبَةِ الزَّوْجَةِ يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ.

وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


24-موسوعة الفقه الكويتية (رد)

رَدٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الرَّدُّ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ رَدَدْتُ الشَّيْءَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ مَنْعُ الشَّيْءِ وَصَرْفُهُ، وَرَدُّ الشَّيْءِ أَيْضًا إِرْجَاعُهُ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».أَيْ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ السُّنَّةُ.

وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَقْبَلْهُ.وَرَدَّ فُلَانًا خَطَّأَهُ.وَتَقُولُ: رَدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ جَوَابًا أَيْ: رَجَعَهُ وَأَرْسَلَهُ.

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

وَالرَّدُّ فِي الْإِرْثِ: دَفْعُ مَا فَضَلَ عَنْ فَرْضِ ذَوِي الْفُرُوضِ النَّسَبِيَّةِ إِلَيْهِمْ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: إِرْث ف 63 ج 3 ص 49).

وَالْقِسْمَةُ بِالرَّدِّ هِيَ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا لِرَدِّ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ مَالًا أَجْنَبِيًّا، كَأَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مِنْ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ بِئْرٌ أَوْ شَجَرٌ لَا تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، وَمَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ لَا يُعَادِلُ ذَلِكَ إِلاَّ بِضَمِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ، فَيَرُدُّ مَنْ يَأْخُذُ الْجَانِبَ الَّذِي فِيهِ الْبِئْرُ أَوِ الشَّجَرُ قِسْطَ قِيمَتِهِ أَيْ قِيمَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْبِئْرِ أَوِ الشَّجَرِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِسْمَة)

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلرَّدِّ بِاخْتِلَافِ مَوْطِنِهِ كَمَا يَلِي:

الرَّدُّ فِي الْعُقُودِ:

مُوجِبَاتُ الرَّدِّ:

لِلرَّدِّ مُوجِبَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا يَلِي:

3- أ- الِاسْتِحْقَاقُ: فَإِذَا ظَهَرَ كَوْنُ الشَّيْءِ مُسْتَحَقًّا لِلْغَيْرِ وَجَبَ رَدُّ الشَّيْءِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، أَوْ فِي الْجِنَايَاتِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».

وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق ج 3 219)، وَمُصْطَلَحِ: (اسْتِرْدَاد) (ف 5 ح 3 283).

4- ب- فَسْخُ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ: سَوَاءٌ كَانَ عَدَمُ لُزُومِهَا عَائِدًا إِلَى طَبِيعَتِهَا، كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ، أَوْ إِلَى دُخُولِ الْخِيَارِ- بِأَنْوَاعِهِ- عَلَيْهَا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَكِلَا الطَّرَفَيْنِ، أَوْ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ، وَيَرُدُّ كُلٌّ مَا فِي يَدِهِ إِلَى صَاحِبِهِ.

5- ج- بُطْلَانُ الْعَقْدِ: فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْآخَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْبَاطِلَ لَا وُجُودَ لَهُ شَرْعًا، وَلَا يُنْتِجُ أَيَّ أَثَرٍ.

وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُسْتَحِقٌّ لِلْفَسْخِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، إِلاَّ أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَالْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَسْتَلْزِمُ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى بَائِعِهِ، وَرَدَّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي. (انْظُرْ: اسْتِرْدَاد).

6- د- الْإِقَالَةُ: وَمَحَلُّهَا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ.وَمُقْتَضَى الْإِقَالَةِ رَدُّ الْأَمْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، أَيْ رَدُّ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ، وَالثَّمَنِ إِلَى الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهَا فَسْخًا وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، أَوْ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهَا بَيْعًا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ، أَوْ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهَا فَسْخًا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقَالَة ج 5 324)

7- هـ- انْتِهَاءُ مُدَّةِ الْعَقْدِ: إِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الْعَقْدِ فِي الْعُقُودِ الْمُقَيَّدَةِ بِمُدَّةٍ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ رَفْعُ يَدِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الرَّدُّ.قِيلَ لِأَحْمَدَ: إِذَا اكْتَرَى دَابَّةً أَوِ اسْتَعَارَ أَوِ اسْتَوْدَعَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: مَنِ اسْتَعَارَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذَهُ، فَأَوْجَبَ الرَّدَّ فِي الْعَارِيَّةِ وَلَمْ يُوجِبْهُ فِي الْإِجَارَةِ وَالْوَدِيعَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ فَلَا يَقْتَضِي رَدَّهُ وَمُؤْنَتَهُ، كَالْوَدِيعَةِ، وَفَارَقَ الْعَارِيَّةَ، فَإِنَّ ضَمَانَهَا يَجِبُ، فَكَذَلِكَ رَدُّهَا، وَعَلَى هَذَا مَتَى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ إِنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَدِّ الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا قَبْلَ الطَّلَبِ كَالْوَدِيعَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي إِمْسَاكِهَا فَلَزِمَهُ الرَّدُّ كَالْعَارِيَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِهَا، فَإِنْ قُلْنَا لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ لَمْ يَلْزَمْهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِنْ قُلْنَا يَلْزَمُهُ لَزِمَهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ كَالْعَارِيَّةِ.

مُسْقِطَاتُ الرَّدِّ فِي الْعُقُودِ:

يَسْقُطُ الرَّدُّ فِي الْعُقُودِ لِعِدَّةِ أُمُورٍ مِنْهَا مَا يَلِي:

8- أ- تَصْحِيحُ الْعَقْدِ: جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَهُمَا عِنْدَهُمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ بَاطِلًا هَلْ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إِذَا رُفِعَ الْمُفْسِدُ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إِذَا حُذِفَ الشَّرْطُ الْمُفْسِدُ لِلْعَقْدِ.وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ الشُّرُوطِ فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَهَا وَلَوْ حُذِفَ الشَّرْطُ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَصْحِيح ج 12 58 ف 11)

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَنْقَلِبَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ صَحِيحًا وَذَلِكَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ الْبَاطِلِ، وَإِذَا انْقَلَبَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ صَحِيحًا سَقَطَ الرَّدُّ لِزَوَالِ مُوجِبِهِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَصْحِيح ج 12 58 ف 11، 12، 13، 14).

9- ب- تَجْدِيدُ الْعَقْدِ: وَيَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ الْمُقَيَّدَةِ بِمُدَّةٍ كَالْإِجَارَةِ، فَإِذَا اتَّفَقَ الْعَاقِدَانِ عَلَى تَجْدِيدِ الْعَقْدِ لِمُدَّةٍ أُخْرَى سَقَطَ رَدُّ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا؛ وَلِزَوَالِ مَا يُوجِبُهُ وَهُوَ انْتِهَاءُ فَتْرَةِ الْعَقْدِ.

10- ج- سُقُوطُ الْخِيَارِ: وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِسَبَبِ دُخُولِ الْخِيَارِ عَلَيْهَا، فَإِذَا سَقَطَ الْخِيَارُ بِأَحَدِ مُسْقِطَاتِهِ أَصْبَحَ الْعَقْدُ لَازِمًا وَامْتَنَعَ الرَّدُّ حِينَئِذٍ.

وَالْخِيَارَاتُ مُتَعَدِّدَةٌ وَكَذَلِكَ مُسْقِطَاتُهَا، وَهِيَ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَار).

أَنْوَاعُ الرَّدِّ:

11- يُقَسِّمُ الْحَنَفِيَّةُ رَدَّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ إِلَى رَدٍّ بِالْقَضَاءِ وَرَدٍّ بِالتَّرَاضِي.

وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ الْمَعِيبِ إِلَى ثَالِثٍ ثُمَّ رَدِّهِ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ، فَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ بَاعَهُ فَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَوْ نُكُولٍ، كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فُسِخَ مِنَ الْأَصْلِ فَجُعِلَ الْبَيْعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.

وَإِنْ قَبِلَهُ بِالتَّرَاضِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ.

فَالْحَنَفِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ الرَّدَّ بِالْقَضَاءِ فَسْخًا، وَبِالتَّرَاضِي بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ فَسْخًا فِي الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- بَيْنَ الرَّدِّ بِالْقَضَاءِ وَالرَّدِّ بِالتَّرَاضِي، فَكِلَاهُمَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ.وَيَنْقَسِمُ رَدُّ الْمَبِيعِ كَذَلِكَ إِلَى رَدٍّ قَهْرِيٍّ، وَرَدٍّ اخْتِيَارِيٍّ، فَالرَّدُّ الْقَهْرِيُّ كَرَدِّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ، وَالرَّدُّ الِاخْتِيَارِيُّ كَالْإِقَالَةِ.

رَدُّ مَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:

12- إِذَا بَلَغَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ وَرَشَدَ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْآنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (رُشْد، حَجْر).

رَدُّ السَّلَامِ:

13- رَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَالَ فِي شَرْحِ الشِّرْعَةِ: اعْلَمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ وَإِسْمَاعَهُ مُسْتَحَبٌّ، وَجَوَابَهُ أَيْ رَدَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِسْمَاعَ رَدِّهِ وَاجِبٌ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُسْمِعْهُ لَا يَسْقُطُ هَذَا الْفَرْضُ عَنِ السَّامِعِ، حَتَّى قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُسَلِّمُ أَصَمَّ يَجِبُ عَلَى الرَّادِّ أَنْ يُحَرِّكَ شَفَتَيْهِ وَيُرِيَهُ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَصَمَّ لَسَمِعَهُ.قَالَ الشَّيْخُ عَمِيرَةُ: هُوَ- أَيْ رَدُّ السَّلَامِ- حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى.

وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سَلَام).

رَدُّ الشَّهَادَةِ:

14- الْأَصْلُ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ التُّهْمَةُ أَيِ الشَّكُّ وَالرِّيبَةُ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إِذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ، وَبِالتُّهْمَةِ لَا يَتَرَجَّحُ.

وَالتُّهْمَةُ قَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الشَّاهِدِ كَالْفِسْقِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ غَيْرِ الْكَذِبِ مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ فَقَدْ لَا يَنْزَجِرُ عَنْهُ أَيْضًا، فَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمَشْهُودِ لَهُ مِنْ قَرَابَةٍ يُتَّهَمُ بِهَا بِإِيثَارِ الْمَشْهُودِ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، كَقَرَابَةِ الْوِلَادَةِ.وَقَدْ تَكُونُ لِخَلَلٍ فِي التَّمْيِيزِ كَالْعَمَى الْمُفْضِي إِلَى تُهْمَةِ الْغَلَطِ فِي الشَّهَادَةِ.وَقَدْ تَكُونُ بِالْعَجْزِ عَمَّا جَعَلَهُ الشَّارِعُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذْ لَمْيَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة).

رَدُّ الْيَمِينِ:

15- إِذَا وَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ، وَحَكَمَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ نَاكِلٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ بِالنُّكُولِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ حَكَمَ لَهُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء، إِثْبَات، وَأَيْمَان، وَنُكُول).

رَدُّ مَالِ الْغَيْرِ:

16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَالَ الْغَيْرِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ كَالْغَصْبِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ فَوْرًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ» وَلِأَنَّ الْمَظَالِمَ يَجِبُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا فَوْرًا؛ لِأَنَّ بَقَاءَهَا بِيَدِهِ ظُلْمٌ آخَرُ.وَكَذَا السَّارِقُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً اتِّفَاقًا.

فَإِنْ هَلَكَتْ أَوِ اسْتُهْلِكَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَإِلاَّ فَقِيمَتُهَا، سَوَاءٌ قُطِعَ أَوْ لَمْ يُقْطَعْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قُطِعَ فِي السَّرِقَةِ وَالْعَيْنُ هَالِكَةٌ لَا يَضْمَنُ حِينَئِذٍ، فَلَا يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمُ الْقَطْعُ وَالْغُرْمُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ» وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ «لَا يَضْمَنُ السَّارِقُ سَرِقَتَهُ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَ قَطْعِ يَمِينِهِ».وَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يُنَافِي الْقَطْعَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَهُ لَمَلَكَهُ مِلْكًا مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الْأَخْذِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَى انْتِفَائِهِ فَهُوَ الْمُنْتَفِي.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا يَوْمَ الْقَطْعِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ، وَإِنْ كَانَ عَدِيمًا لَمْ يَضْمَنْ وَلَمْ يَغْرَمْ.وَكَذَلِكَ يَجِبُ رَدُّ مَالِ الْغَيْرِ إِذَا أَخَذَهُ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ عِنْدَمَا يُوجَدُ مَا يُوجِبُ الرَّدَّ، وَذَلِكَ كَرَدِّ اللُّقَطَةِ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَالِكِ، وَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ عِنْدَ الطَّلَبِ.

مُؤْنَةُ الرَّدِّ:

17- مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ الْفَسْخُ وَرَدُّ الْمَبِيعِ إِلَى بَائِعِهِ وَالثَّمَنِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَتَكُونُ مُؤْنَةُ رَدِّ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَهُوَ الْمُشْتَرِي.

وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مُؤْنَةَ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ مُؤْنَةَ رَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا أَوْ جَادًّا، وَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرْدُدْهَا عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الْمُؤْنَةَ مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا فِي رَدِّ الْعَارِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مُؤْنَة)

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


25-موسوعة الفقه الكويتية (شك 1)

شَكٌّ -1

تَعْرِيفُهُ:

1- الشَّكُّ لُغَةً: نَقِيضُ الْيَقِينِ وَجَمْعُهُ شُكُوكٌ.يُقَالُ شَكَّ فِي الْأَمْرِ وَتَشَكَّكَ إِذَا تَرَدَّدَ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، سَوَاءٌ اسْتَوَى طَرَفَاهُ أَوْ رَجَحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} أَيْ غَيْرَ مُسْتَيْقِنٍ، وَهُوَ يَعُمُّ حَالَتَيِ الِاسْتِوَاءِ وَالرُّجْحَانِ.وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» قِيلَ: إِنَّ مُنَاسَبَتَهُ تَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.حَيْثُ قَالَ قَوْمٌ- إِذْ ذَاكَ- شَكَّ إِبْرَاهِيمُ وَلَمْ يَشُكَّ نَبِيُّنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَاضُعًا مِنْهُ وَتَقْدِيمًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْسِهِ-: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» أَيْ أَنَا لَمْ أَشُكَّ مَعَ أَنَّنِي دُونَهُ فَكَيْفَ يَشُكُّ هُوَ؟.

وَالشَّكُّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: اسْتُعْمِلَ فِي حَالَتَيِ الِاسْتِوَاءِ وَالرُّجْحَانِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ لُغَةً فَقَالُوا: مَنْ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْ شَكَّ فِي الطَّلَاقِ، أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اسْتِوَاءِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا.وَمَعَ هَذَا فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فِي جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ.وَالشَّكُّ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: هُوَ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ لِوُجُودِ أَمَارَتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ فِي الطَّرَفَيْنِ أَوْ لِعَدَمِ الْأَمَارَةِ فِيهِمَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْيَقِينُ:

2- الْيَقِينُ مَصْدَرُ يَقِنَ الْأَمْرُ يَيْقَنُ إِذَا ثَبَتَ وَوَضَحَ، وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَبِالْيَاءِ، وَيُطْلَقُ- لُغَةً- عَلَى الْعِلْمِ الْحَاصِلِ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ يَقِينًا.وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ: الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ الثَّابِتِ.فَالْيَقِينُ ضِدُّ الشَّكِّ.فَيُقَالُ شَكَّ وَتَيَقَّنَ وَلَا يُقَالُ شَكَّ وَعَلِمَ لِأَنَّ الْعِلْمَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الثِّقَةِ.

ب- الِاشْتِبَاهُ:

3- الِاشْتِبَاهُ هُوَ مَصْدَرُ اشْتَبَهَ، يُقَالُ: اشْتَبَهَ الشَّيْئَانِ وَتَشَابَهَا، إِذَا أَشْبَهَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، كَمَا يُقَالُ: اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَيِ اخْتَلَطَ وَالْتَبَسَ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ أَهَمُّهَا الشَّكُّ، فَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا- إِذًا- سَبَبِيَّةٌ حَيْثُ يُعَدُّ الشَّكُّ سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الِاشْتِبَاهِ.كَمَا قَدْ يَكُونُ الِاشْتِبَاهُ سَبَبًا لِلشَّكِّ.

ج- الظَّنُّ:

4- الظَّنُّ مَصْدَرُ ظَنَّ مِنْ بَابِ قَتَلَ وَهُوَ خِلَافُ الْيَقِينِ، وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَا يُفَرِّقُونَ غَالِبًا بَيْنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ.

د- الْوَهْمُ:

5- الْوَهْمُ مَصْدَرُ وَهِمَ وَهُوَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ طَرَفُ الْمَرْجُوحِ مِنْ طَرَفَيِ الشَّكِّ.وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْحَمَوِيُّ- نَقْلًا عَنْ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ- حَيْثُ قَالَ: الْوَهْمُ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَضْعَفُ مِنَ الْآخَرِ.

وَالْمُتَأَكِّدُ أَنَّهُ لَا يَرْتَقِي لِإِحْدَاثِ اشْتِبَاهٍ.«إِذْ لَا عِبْرَةَ لِلتَّوَهُّمِ».وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ اسْتِنَادًا عَلَى وَهْمٍ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الشَّيْءِ الثَّابِتِ بِصُورَةٍ قَطْعِيَّةٍ بِوَهْمٍ طَارِئٍ.

أَقْسَامُ الشَّكِّ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ الْأَصْلِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ:

6- يَنْقَسِمُ الشَّكُّ- إِجْمَالًا- بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: شَكٌّ طَرَأَ عَلَى أَصْلٍ حَرَامٍ مِثْلِ أَنْ يَجِدَ الْمُسْلِمُ شَاةً مَذْبُوحَةً فِي بَلَدٍ يَقْطُنُهُ مُسْلِمُونَ وَمَجُوسٌ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا ذَكَاةُ مُسْلِمٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْحُرْمَةُ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الذَّكَاةِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا، فَلَوْ كَانَ مُعْظَمُ سُكَّانِ الْبَلَدِ مُسْلِمِينَ جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا وَالْأَكْلُ مِنْهَا عَمَلًا بِالْغَالِبِ الْمُفِيدِ لِلْحِلِّيَّةِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: شَكٌّ طَرَأَ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمُسْلِمُ مَاءً مُتَغَيِّرًا فَلَهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْهُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَغَيَّرَ بِنَجَاسَةٍ، أَوْ طُولِ مُكْثٍ، أَوْ كَثْرَةِ وُرُودِ السِّبَاعِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اسْتِنَادًا إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمِيَاهِ.مَعَ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفِ الْمُؤْمِنِينَ تَجَشُّمَ الْبَحْثِ لِلْكَشْفِ عَنْ طَهَارَتِهِ أَوْ نَجَاسَتِهِ تَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ، حَيْثُ وَرَدَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- خَرَجَ فِي رَكْبٍ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ- رضي الله عنه- حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ هَلْ تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا.

وَفِيهِ أَيْضًا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفْسَهُ كَانَ مَارًّا مَعَ صَاحِبٍ لَهُ فَسَقَطَ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ مِيزَابٍ، فَقَالَ صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُكَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْنَا، وَمَضَى.

فَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَاءٌ طَاهِرٌ وَمَاءٌ نَجِسٌ تَحَرَّى، فَمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى طَهَارَتِهِ تَوَضَّأَ بِهِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: شَكٌّ لَا يُعْرَفُ أَصْلُهُ مِثْلُ التَّعَامُلِ مَعَ شَخْصٍ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ دُونَ تَمْيِيزٍ لِهَذَا مِنْ ذَاكَ لِاخْتِلَاطِ النَّوْعَيْنِ مَعًا اخْتِلَاطًا يَصْعُبُ تَحْدِيدُهُ، فَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ لَا تَحْرُمُ مُبَايَعَتُهُ وَلَا التَّعَامُلُ مَعَهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَابِلُ حَلَالًا طَيِّبًا، وَلَكِنْ رَغْمَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّعَامُلِ مَعَهُ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ «الْمَشْكُوكَ فِي وُجُوبِهِ لَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا».

أَقْسَامُ الشَّكِّ بِحَسَبِ الْإِجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَإِلْغَائِهِ:

7- ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الشَّكَّ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مُجْمَعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ كَالشَّكِّ فِي الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ، فَالْحُكْمُ تَحْرِيمُهُمَا مَعًا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مُجْمَعٌ عَلَى إِلْغَائِهِ، كَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا؟ فَلَا شَيْءَ.عَلَيْهِ، وَشَكُّهُ يُعْتَبَرُ لَغْوًا.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَعْلِهِ سَبَبًا، كَمَنْ شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا؟ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ دُونَ الشَّافِعِيِّ.وَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَمِ اثْنَتَيْنِ؟ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ الطَّلْقَةَ الْمَشْكُوكَ فِيهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

الشَّكُّ لَا يُزِيلُ الْيَقِينَ، أَوِ «الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ» أَوْ «لَا شَكَّ مَعَ الْيَقِينِ»:

8- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ- عَلَى اخْتِلَافِ تَرَاكِيبِهَا- مِنْ أُمَّهَاتِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا تَدْخُلُ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَالْمَسَائِلُ الْمُخَرَّجَةُ عَنْهَا مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ تَبْلُغُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ عِلْمِ الْفِقْهِ.

الشَّكُّ فِي الْمِيرَاثِ:

9- الْمِيرَاثُ اسْتِحْقَاقٌ وَكُلُّ اسْتِحْقَاقٍ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِثُبُوتِ أَسْبَابِهِ وَتَوَفُّرِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، وَهَذِهِ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مَثَلًا ثُبُوتُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالشَّكِّ فِي طَرِيقِهِ وَبِالتَّالِي لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْمِيرَاثِ بِالشَّكِّ.

الشَّكُّ فِي الْأَرْكَانِ:

10- أَرْكَانُ الشَّيْءِ هِيَ أَجْزَاءُ مَاهِيَّتِهِ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا، وَهِيَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى تَوَفُّرِ شُرُوطِهَا.وَأَرْكَانُ أَيِّ عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ يُرَادُ بِهَا فَرَائِضُهَا الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْفَرْضِ إِلاَّ فِي الْحَجِّ حَيْثُ تَتَمَيَّزُ الْأَرْكَانُ فِيهِ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَالْفُرُوضِ بِعَدَمِ جَبْرِهَا بِالدَّمِ.

فَمَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ أَوْ فِي فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِهَا، هَلْ أَتَى بِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ الْمُحَقَّقِ عِنْدَهُ، وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِيهِ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ سَجْدَتَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ مَا شَكَّ فِيهِ، فَيَكُونَ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَحْضُ زِيَادَةٍ، وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَفِي غَلَبَةِ الظَّنِّ هُنَا قَوْلَانِ دَاخِلَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ: مِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهَا كَالشَّكِّ وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهَا كَالْيَقِينِ.

وَفِيمَا تَقَدَّمَ يَقُولُ الشَّيْخُ ابْنُ عَاشِرٍ- صَاحِبُ الْمُرْشِدِ الْمُعِينِ:

مَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ بَنَى عَلَى الْيَقِينْ

وَلْيَسْجُدُوا الْبَعْدِيَّ لَكِنْ قَدْ يَبِينْ

قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ مَيَّارَةَ: وَيُقَيَّدُ كَلَامُ صَاحِبِ هَذَا النَّظْمِ بِغَيْرِ الْمُوَسْوِسِ أَوْ كَالْمُسْتَنْكَحِ لِأَنَّ هَذَا لَا يَعْتَدُّ بِمَا شَكَّ فِيهِ، وَشَكُّهُ كَالْعَدَمِ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ، فَإِذَا شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا بَنَى عَلَى الْأَرْبَعِ وَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ.

وَإِجْمَالًا فَإِنَّ الشَّكَّ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَنْكِحٌ: أَيْ يَعْتَرِي صَاحِبَهُ كَثِيرًا وَهُوَ كَالْعَدَمِ لَكِنَّهُ يَسْجُدُ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَغَيْرُ مُسْتَنْكِحٍ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ مُدَّةٍ وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ، وَأَنَّ السَّهْوَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَنْكِحٌ وَغَيْرُ مُسْتَنْكِحٍ.

رَاجِعْ مُصْطَلَحَ (سَهْوٌ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَإِنَّ مَنْ شَكَّ فِي جُلُوسِهِ هَلْ كَانَ فِي الشَّفْعِ أَوْ فِي الْوَتْرِ؟ فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ لِمَالِكٍ أَنَّهُ يُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَضَافَ رَكْعَةَ الْوَتْرِ إِلَى رَكْعَتَيِ الشَّفْعِ مِنْ غَيْرِ سَلَامٍ فَيَصِيرُ قَدْ صَلَّى الشَّفْعَ ثَلَاثًا، وَمِنْ هُنَا طُولِبَ بِالسُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ: أَيْ مَسْأَلَةَ الشَّكِّ فِي الرُّكْنِ تَتَّفِقُ فِي الْحُكْمِ مَعَ مَسْأَلَةِ التَّحَقُّقِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِرُكْنٍ فَفِي الْأُولَى يُلْغَى الشَّكُّ وَيُبْنَى عَلَى الْيَقِينِ مَعَ السُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُجْبَرُ الرُّكْنُ وَيَقَعُ السُّجُودُ بَعْدَ السَّلَامِ.وَإِنَّ الَّذِي يَجْمَعُ هَذَا كُلَّهُ هُوَ قَوْلُهُمُ: الشَّكُّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ.وَلِذَلِكَ قَالَ الْوَنْشَرِيسِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: وَمِنْ ثَمَّ لَوْ شَكَّ أَصَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ أَتَى بِرَابِعَةٍ أَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ أَوِ السَّعْيِ أَوْ شَكَّ هَلْ أَتَى بِالثَّالِثَةِ أَمْ لَا؟ بَنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى الْيَقِينِ.وَتُتَمِّمُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى نَصُّهَا: الشَّكُّ فِي الزِّيَادَةِ كَتَحَقُّقِهَا.كَالشَّكِّ فِي حُصُولِ التَّفَاضُلِ فِي عُقُودِ الرِّبَا، وَالشَّكِّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الشَّكُّ فِي السَّبَبِ:

11- السَّبَبُ لُغَةً: هُوَ الْحَبْلُ أَوِ الطَّرِيقُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ مِنَ الْحَبْلِ لِيَدُلَّ عَلَى كُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ، كَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) أَيِ الْعَلَائِقُ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا سَتُوَصِّلُهُمْ إِلَى النَّعِيمِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ: «وَإِنْ كَانَ رِزْقُهُ فِي الْأَسْبَابِ» أَيْ فِي طُرُقِ السَّمَاءِ وَأَبْوَابِهَا.وَهُوَ- فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ- الْأَمْرُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ أَمَارَةً لِوُجُودِ الْحُكْمِ وَجَعَلَ انْتِفَاءَهُ أَمَارَةً عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ.

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ السَّبَبَ لَا يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجَعْلِ الْمُشَرِّعِ لَهُ كَذَلِكَ.

وَحَتَّى يَكُونَ السَّبَبُ وَاضِحَ التَّأْثِيرِ- بِجَعْلِ اللَّهِ- يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقَّنًا إِذْ لَا تَأْثِيرَ وَلَا أَثَرَ لِسَبَبٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَذَلِكَ كَالشَّكِّ فِي أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ بِأَنْوَاعِهَا.فَإِنَّهُ مَانِعٌ مِنْ حُصُولِ الْمِيرَاثِ بِالْفِعْلِ إِذْ لَا مِيرَاثَ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ.شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ الشَّكِّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ أَوْ وَقْتِ الْعَصْرِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْعِبَادَاتِ.

وَقَدْ خَصَّصَ الْقَرَافِيُّ فَرْقًا هَامًّا مَيَّزَ فِيهِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ.أَشَارَ فِي بِدَايَتِهِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَوْضُوعَ قَدْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ عَلَى جَمِيعِ الْفُضَلَاءِ، وَانْبَنَى عَلَى عَدَمِ تَحْرِيرِهِ إِشْكَالٌ آخَرُ فِي مَوَاضِعَ وَمَسَائِلَ كَثِيرَةٍ حَتَّى خَرَقَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ فِيهَا.

وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ حَسَبَ رَأْيِ الْقَرَافِيِّ: أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَ الْأَحْكَامَ وَشَرَعَ لَهَا أَسْبَابًا وَجَعَلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الشَّكَّ، فَشَرَعَهُ- حَيْثُ شَاءَ- فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ: فَإِذَا شَكَّ فِي الشَّاةِ وَالْمَيْتَةِ حَرُمَتَا مَعًا، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ، وَإِذَا شَكَّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ حَرُمَتَا مَعًا، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ، وَإِذَا شَكَّ فِي عَيْنِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ، وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَمْسِ هُوَ الشَّكُّ، وَإِذَا شَكَّ هَلْ تَطَهَّرَ أَمْ لَا؟ وَجَبَ الْوُضُوءُ، وَسَبَبُ وُجُوبِهِ هُوَ الشَّكُّ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّظَائِرِ.

فَالشَّكُّ فِي السَّبَبِ غَيْرُ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ: فَالْأَوَّلُ يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَلَا يَتَقَرَّرُ مَعَهُ حُكْمٌ، وَالثَّانِي لَا يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَتَتَقَرَّرُ مَعَهُ الْأَحْكَامُ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي النَّظَائِرِ السَّابِقَةِ وَلَا نَدَّعِي أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَصَبَ الشَّكَّ سَبَبًا فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ بَلْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِحَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَوِ النَّصُّ، وَقَدْ يُلْغِي صَاحِبُ الشَّرْعِ الشَّكَّ فَلَا يَجْعَلُ فِيهِ شَيْئًا: كَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا.فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالشَّكُّ لَغْوٌ، وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ هَلْ سَهَا أَمْ لَا؟.فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالشَّكُّ لَغْوٌ.فَهَذِهِ صُوَرٌ مِنَ الشَّكِّ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِيهَا، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ.

وَقِسْمٌ ثَالِثٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَصْبِهِ سَبَبًا: كَمَنْ شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا؟ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَمِ اثْنَتَيْنِ؟ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ الطَّلْقَةَ الْمَشْكُوكَ فِيهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَشَكَّ مَا هِيَ؟ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ.

الشَّكُّ فِي الشَّرْطِ:

12- الشَّرَطُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الْعَلَامَةُ وَالْجَمْعُ أَشْرَاطٌ مِثْلُ سَبَبٍ وَأَسْبَابٍ، وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، أَيْ عَلَامَاتُهَا وَدَلَائِلُهَا.وَالشَّرْطُ- بِسُكُونِ الرَّاءِ- يُجْمَعُ عَلَى شُرُوطٍ.تَقُولُ: شَرَطَ عَلَيْهِ شَرْطًا وَاشْتَرَطْتُ عَلَيْهِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ.

أَمَّا الشَّرْطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ: فَهُوَ مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُكَمِّلًا لِأَمْرٍ شَرْعِيٍّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِوُجُودِهِ: كَالطَّهَارَةِ؛ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُكَمِّلَةً لِلصَّلَاةِ فِيمَا يُقْصَدُ مِنْهَا مِنْ تَعْظِيمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِذِ الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ تَعَالَى مَعَ الطَّهَارَةِ الشَّامِلَةِ لِلْبَدَنِ وَالثِّيَابِ وَالْمَكَانِ أَكْمَلُ فِي مَعْنَى الِاحْتِرَامِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبِهَذَا الْوَضْعِ لَا تَتَحَقَّقُ الصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ إِلاَّ بِهَا، فَالشَّرْطُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَشْرُوطِ، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَلَا عَدَمُهُ.

«وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ مَانِعٌ مِنْ تَرَتُّبِ الْمَشْرُوطِ» وَهُوَ كَذَلِكَ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْمَشْرُوطِ.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَامْتَنَعَ الْقِصَاصُ مِنَ.

الْأَبِ فِي قَتْلِ ابْنِهِ.وَامْتَنَعَ الْإِرْثُ بِالشَّكِّ فِي مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ حَيَاةِ الْوَارِثِ، وَبِالشَّكِّ فِي انْتِفَاءِ الْمَانِعِ مِنَ الْمِيرَاثِ.

الشَّكُّ فِي الْمَانِعِ:

13- الْمَانِعُ لُغَةً: الْحَائِلُ.

أَمَّا الْمَانِعُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ عُرِّفَ بِقَوْلِهِمْ: هُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ أَجْلِ وُجُودِهِ الْعَدَمُ- أَيْ عَدَمُ الْحُكْمِ- وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَجْلِ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ.كَقَتْلِ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ عَمْدًا وَعُدْوَانًا فَإِنَّهُ يُعَدُّ مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ سَبَبُهُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ أَوِ الزَّوْجِيَّةُ أَوْ غَيْرُهُمَا.

فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْمَانِعِ فَهَلْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؟ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ «الشَّكَّ فِي الْمَانِعِ لَا أَثَرَ لَهُ» أَيْ إِنَّ الشَّكَّ مُلْغًى بِالْإِجْمَاعِ.وَمِنْ ثَمَّ أُلْغِيَ الشَّكُّ الْحَاصِلُ فِي ارْتِدَادِ زَيْدٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَمْ لَا؟ وَصَحَّ الْإِرْثُ مِنْهُ اسْتِصْحَابًا لِلْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ.كَمَا أُلْغِيَ الشَّكُّ فِي الطَّلَاقِ، بِمَعْنَى شَكُّ الزَّوْجِ هَلْ حَصَلَ مِنْهُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الشَّكَّ هُنَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِصْحَابُ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ قَبْلَ الشَّكِّ، لِأَنَّ الشَّكَّ هُنَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الشَّكِّ فِي حُصُولِ الْمَانِعِ وَهُوَ مُلْغًى وَسَيَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الشَّكِّ فِي الْحَدَثِ عِنْدَ تَنَاوُلِ الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ.

وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ أَيْضًا أُلْغِيَ الشَّكُّ فِي الْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَمَا إِلَيْهَا.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ- فِي خُصُوصِ الرَّضَاعِ-: هُوَ مِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي يَمْنَعُ وُجُودُهَا وُجُودَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَهُوَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَيَقْطَعُ اسْتِمْرَارَهُ- إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ- فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي حُصُولِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ «الشَّكُّ مُلْغًى» وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْأَحْوَطَ التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّخْصِ أَنْ يُقْدِمَ إِلاَّ عَلَى فَرْجٍ مَقْطُوعٍ بِحِلِّيَّتِهِ.

الشَّكُّ فِي الطَّهَارَةِ:

14- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ يَحَبُّ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَإِعَادَةُ الصَّلَاةِ إِنْ صَلَّى لِأَنَّ الذِّمَّةَ مَشْغُولَةٌ فَلَا تَبْرَأُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُنْقَضُ بِالشَّكِّ عِنْدَهُمْ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ-: مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وُجُوبًا- وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا- لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الشَّكَّ فِي أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْآخَرِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْكِحًا وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الْحَدِيثُ.

وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ مَعًا وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا: فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْدَثًا فَهُوَ الْآنَ مُتَطَهِّرٌ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدَثِ وَشَكَّ فِي انْتِقَاضِهَا، حَيْثُ لَا يَدْرِي هَلِ الْحَدَثُ الثَّانِي قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا؟، وَإِنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا وَكَانَ يَعْتَادُ التَّجْدِيدَ فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ حَدَثًا بَعْدَ تِلْكَ الطَّهَارَةِ وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ حَيْثُ لَا يَدْرِي هَلِ الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ أَمْ لَا؟.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْأَصْلِ حَدَثًا كَانَ أَوْ طَهَارَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا فَهُوَ عَلَى وُضُوئِهِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّ شَكَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً وَأَنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ فَرْضًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ عِنْدَهُمْ مُلْغًى، وَأَنَّ الْعَمَلَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْيَقِينِ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْفِقْهِ فَتَدَبَّرْهُ وَقِفْ عَلَيْهِ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا جَاءَ عَنِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ دَمَ الْحَيْضِ وَلَمْ تَدْرِ وَقْتَ حُصُولِهِ فَإِنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ مَنْ رَأَى مَنِيًّا فِي ثَوْبِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ حُصُولِهِ، أَيْ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُعِيدَ الصَّلَاةَ مِنْ آخِرِ نَوْمَةٍ، وَهَذَا أَقَلُّ الْأَقْوَالِ تَعْقِيدًا وَأَكْثَرُهَا وُضُوحًا.وَضَابِطُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ كَحُكْمِ الْحَيْضِ الْمُتَيَقَّنِ فِي تَرْكِ الْعِبَادَاتِ

وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ- فِي هَذَا الْمَوْضِعِ- مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ- كَمَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى السَّوَاءِ أَمْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ أَرْجَحَ.

الشَّكُّ فِي الصَّلَاةِ:

أ- الشَّكُّ فِي الْقِبْلَةِ:

15- مَنْ شَكَّ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا الْعَالِمِينَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْمَكَانِ إِنْ وُجِدُوا وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ لِمَا رَوَاهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} ».وَقِبْلَةُ الْمُتَحَرِّي- كَمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- هِيَ جِهَةُ قَصْدِهِ.وَالصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ لِجِهَةِ الْقَصْدِ هَذِهِ تُجْزِئُ الْمُصَلِّيَ وَتُسْقِطُ عَنْهُ الطَّلَبَ لِعَجْزِهِ، وَيَرَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِكُلِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ أَخْذًا بِالْأَحْوَطِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ شَكُّهُ دَائِرًا بَيْنَهَا أَمَّا إِذَا انْحَصَرَ شَكُّهُ فِي ثَلَاثِ جِهَاتٍ فَقَطْ مَثَلًا فَإِنَّ الرَّابِعَةَ لَا يُصَلِّي إِلَيْهَا، وَقَدِ اخْتَارَ اللَّخْمِيُّ مَا فَضَّلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

ب- الشَّكُّ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ:

16- مَنْ شَكَّ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ دُخُولِهِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الشَّكِّ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ وَافَقَ الْوَقْتَ، لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلَاتِهِ مِثْلَمَا هُوَ الْأَمْرُ فِيمَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ.

ج- الشَّكُّ فِي الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ:

17- مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ مِنْ يَوْمٍ مَا، وَلَا يَدْرِي أَيَّ صَلَاةٍ هِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ بِيَقِينٍ لَا بِشَكٍّ.

د- الشَّكُّ فِي رَكْعَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ:

18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً صَلَّى أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا؟ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَلَا يُجْزِئُهُ التَّحَرِّي، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَالطَّبَرِيِّ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ:

أَوَّلًا: بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى أَثْلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ.فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا، شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ».

وَثَانِيًا: بِالْقَاعِدَتَيْنِ الْفِقْهِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا مِمَّا يُوجِبُ الْبِنَاءَ عَلَى الْيَقِينِ.وَهُمَا: الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: «الْيَقِينُ لَا يُزِيلُهُ الشَّكُّ».وَالثَّانِيَةُ: «وَالشَّكُّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ».

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ الشَّكُّ يَحْدُثُ لَهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَمْ يَتَحَرَّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ صَلَاةً جَدِيدَةً.

وَإِنْ كَانَ الشَّكُّ يَعْتَادُهُ وَيَتَكَرَّرُ لَهُ يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ بِحُكْمِ التَّحَرِّي وَيَقْعُدُ وَيَتَشَهَّدُ بَعْدَ كُلِّ رَكْعَةٍ يَظُنُّهَا آخِرَ صَلَاتِهِ لِئَلاَّ يَصِيرَ تَارِكًا فَرْضَ الْقَعْدَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ظَنٌّ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ- فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ- يَتَحَرَّى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَتَحَرَّى، قَالَ: وَإِنْ نَامَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى؟ اسْتَأْنَفَ.

وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ كَانَ هَذَا شَيْئًا يَلْزَمُهُ وَلَا يَزَالُ يَشُكُّ أَجْزَأَهُ سَجْدَتَا السَّهْوِ عَنِ التَّحَرِّي، وَعَنِ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يَلْزَمُهُ اسْتَأْنَفَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَتَيْهَا.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الشَّكُّ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْيَقِينُ وَالتَّحَرِّي، فَمَنْ رَجَعَ إِلَى الْيَقِينِ أَلْغَى الشَّكَّ وَسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى التَّحَرِّي سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ.وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَبَّسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ»

وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّحَرِّي فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ» ثُمَّ- يَعْنِي- يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ.

الشَّكُّ فِي الزَّكَاةِ:

أ- الشَّكُّ فِي تَأْدِيَتِهَا:

19- لَوْ شَكَّ رَجُلٌ فِي الزَّكَاةِ فَلَمْ يَدْرِ أَزَكَّى أَمْ لَا؟ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا لِأَنَّ الْعُمُرَ كُلَّهُ وَقْتٌ لِأَدَائِهَا، وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ صَاحِبِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَبَيْنَ مَنْ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَصَلَّى أَمْ لَا؟ حَيْثُ ذَكَرُوا- كَمَا تَقَدَّمَ- إِعْفَاءَهُ مِنَ الْإِعَادَةِ لِأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ وَالزَّكَاةُ بِخِلَافِهَا.

ب- الشَّكُّ فِي تَأْدِيَةِ كُلِّ الزَّكَاةِ أَوْ بَعْضِهَا:

20- ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ حَادِثَةً وَقَعَتْ مُفَادُهَا: أَنَّ رَجُلًا شَكَّ هَلْ أَدَّى جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ أَوْ لَا؟ حَيْثُ كَانَ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مُتَفَرِّقًا مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ، فَتَمَّ إِفْتَاؤُهُ بِلُزُومِ الْإِعَادَةِ حَيْثُ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ دَفْعُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ ثَابِتَةٌ فِي ذِمَّتِهِ بِيَقِينٍ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالشَّكِّ.

ج- الشَّكُّ فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ:

21- إِذَا دَفَعَ الْمُزَكِّي الزَّكَاةَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي أَنَّ مَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ مَصْرِفٌ مِنْ مَصَارِفِهَا وَلَمْ يَتَحَرَّ، أَوْ تَحَرَّى وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَنَّهُ مَصْرِفٌ، فَهُوَ عَلَى الْفَسَادِ إِلاَّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مَصْرِفٌ.بِخِلَافِ مَا إِذَا دُفِعَتْ بِاجْتِهَادٍ وَتَحَرٍّ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ فِي الْوَاقِعِ كَالْغَنِيِّ وَالْكَافِرِ.فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ زَكَاةٌ (ف 188- 189 ج 23 233).

الشَّكُّ فِي الصِّيَامِ:

أ- الشَّكُّ فِي دُخُولِ رَمَضَانَ:

22- إِذَا شَكَّ الْمُسْلِمُ فِي دُخُولِ رَمَضَانَ فِي الْيَوْمِ الْمُوَالِي لِيَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يَبْنِي عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ سُحُبٌ وَلَا غُيُومٌ وَمَعَ ذَلِكَ عَزَمَ أَنْ يَصُومَ غَدًا بِاعْتِبَارِهِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ وَلَا يُجْزِئُهُ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَصْدٌ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِطُرُقِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَحَيْثُ انْتَفَى ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ قَصْدُهُ وَهُوَ رَأْيُ حَمَّادٍ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِأَنَّ الصَّائِمَ لَمْ يَجْزِمِ النِّيَّةَ بِصَوْمِهِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ إِلاَّ بَعْدَ خُرُوجِهِ.وَكَذَلِكَ لَوْ بَنَى عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحِسَابِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ وَإِنْ كَثُرَتْ إِصَابَتُهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَصِحُّ إِذَا نَوَاهُ مِنَ اللَّيْلِ- وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَصَدَ- لِأَنَّهُ نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَحَّ كَالْيَوْمِ الثَّانِي- وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يُوَافِقُ الْمَذْهَبَيْنِ.

ب الشَّكُّ فِي دُخُولِ شَوَّالٍ:

23- تَصِحُّ النِّيَّةُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ رَغْمَ أَنَّ هُنَاكَ احْتِمَالًا فِي أَنْ يَكُونَ مِنْ شَوَّالٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ رَمَضَانَ وَقَدْ أُمِرْنَا بِصَوْمِهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لَكِنْ إِذَا قَالَ الْمُكَلَّفُ: إِنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَوَّالٍ فَأَنَا مُفْطِرٌ فَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِنِيَّةِ الصِّيَامِ وَالنِّيَّةُ قَصْدٌ جَازِمٌ، وَقِيلَ: تَصِحُّ نِيَّتُهُ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ وَاقِعٌ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ رَمَضَانَ.

ج- الشَّكُّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ:

24- إِذَا شَكَّ الصَّائِمُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَأْكُلَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ، فَيَكُونُ الْأَكْلُ إِفْسَادًا لِلصَّوْمِ وَلِذَلِكَ كَانَ مَدْعُوًّا لِلْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».وَلَوْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَحَلُّ شَكٍّ وَالْأَصْلُ اسْتِصْحَابُ اللَّيْلِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّهَارُ وَهَذَا لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الْحُرْمَةِ رَغْمَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ، أَمَّا صَوْمُ النَّفْلِ فَقَدْ سَوَّى بَعْضُهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ فِي الْقَضَاءِ وَالْحُرْمَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا جَمَاعَةٌ فِي الْحُرْمَةِ حَيْثُ قَالُوا بِالْكَرَاهِيَةِ.

د- الشَّكُّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ:

25- لَوْ شَكَّ الصَّائِمُ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ الشَّكِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ، وَلَوْ أَفْطَرَ عَلَى شَكِّهِ دُونَ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْحَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اتِّفَاقًا.وَالْحُرْمَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا كَذَلِكَ.

وَعَدَمُ الْكَفَّارَةِ فِي الْأَكْلِ مَعَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا الْأَكْلُ مَعَ الشَّكِّ فِي الْغُرُوبِ فَمُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُهَا، فَإِنْ أَفْطَرَ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْلِ أَوْ حُصُولَ الْغُرُوبِ ثُمَّ طَرَأَ الشَّكُّ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلَا حُرْمَةٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


26-موسوعة الفقه الكويتية (عدة 2)

عِدَّةٌ -2

ج- التَّرَبُّصُ:

4- التَّرَبُّصُ لُغَةً: الِانْتِظَارُ، يُقَالُ: تَرَبَّصْتُ الْأَمْرَ تَرَبُّصًا انْتَظَرْتُهُ، وَتَرَبَّصْتُ الْأَمْرَ بِفُلَانٍ تَوَقَّعْتُ نُزُولَهُ بِهِ.

وَاصْطِلَاحًا هُوَ التَّثَبُّتُ وَالِانْتِظَارُ قَالَ تَعَالَى: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ}.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ التَّرَبُّصِ وَالْعِدَّةِ أَنَّ التَّرَبُّصَ ظَرْفٌ لِلْعِدَّةِ فَإِذَا انْتَهَتِ الْعِدَّةُ انْتَهَى التَّرَبُّصُ، وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْعِدَّةِ وَفِي غَيْرِهَا كَالْآجَالِ فِي بَابِ الدُّيُونِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعِدَّةِ، فَكُلُّ عِدَّةٍ تَرَبُّصٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَرَبُّصٍ عِدَّةٌ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

مَشْرُوعِيَّةُ الْعِدَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

أ- أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وقوله تعالى: {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.

ب- وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَا تَحُدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا».وَمَا وَرَدَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ».

ج- الْإِجْمَاعُ- أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبِهَا مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا دُونَ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ.

سَبَبُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ:

6- تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِسَبَبِ الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ أَوِ الْفَسْخِ أَوِ اللِّعَانِ، كَمَا تَجِبُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ.

وَأَمَّا الْخَلْوَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِهَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَلَا تَجِبُ فِي الْفَاسِدِ إِلاَّ بِالدُّخُولِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ بِالْخَلْوَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْوَطْءِ.

وَالتَّفْصِيلُ يُنْظَرُ: بُطْلَان ف 30 وَخَلْوَة ف 19.

انْتِظَارُ الرَّجُلِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ:

7- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ فِرَاقِ زَوْجَتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا دُونَ انْتِظَارِ مُضِيِّ مُدَّةِ عِدَّتِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَرَادَ الزَّوَاجَ بِعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ أُخْتِهَا أَوْ غَيْرِهَا مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ طَلَّقَ رَابِعَةً وَيُرِيدُ الزَّوَاجَ بِأُخْرَى، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِانْتِظَارُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ بِالِاتِّفَاقِ، أَوِ الْبَائِنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِانْتِظَارُ.

وَمَنْعُ الرَّجُلِ مِنَ الزَّوَاجِ هُنَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عِدَّةٌ، لَا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَلَا بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، وَإِنْ كَانَ يُحْمَلُ مَعْنَى الْعِدَّةِ، قَالَ النَّفْرَاوِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِدَّةِ مَنْعُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ مُدَّةَ مَنْعِ مَنْ طَلَّقَ رَابِعَةً مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهَا لَا يُقَالُ لَهُ عِدَّةٌ، لَا لُغَةً، وَلَا شَرْعًا، لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنَ النِّكَاحِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، كَزَمَنِ الْإِحْرَامِ أَوِ الْمَرَضِ وَلَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ مُعْتَدٌّ حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْعِدَّةِ:

8- شُرِعَتِ الْعِدَّةُ لَمَعَانٍ وَحِكَمٍ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ مِنْهَا: الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَأَنْ لَا يَجْتَمِعَ مَاءُ الْوَاطِئَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي رَحِمٍ وَاحِدٍ فَتَخْتَلِطُ الْأَنْسَابُ وَتَفْسُدُ، وَمِنْهَا: تَعْظِيمُ خَطَرِ الزَّوَاجِ وَرَفْعُ قَدْرِهِ وَإِظْهَارُ شَرَفِهِ، وَمِنْهَا: تَطْوِيلُ زَمَانِ الرَّجْعَةِ لِلْمُطَلِّقِ لَعَلَّهُ يَنْدَمُ وَيَفِيءُ فَيُصَادِفُ زَمَنًا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الرَّجْعَةِ، وَمِنْهَا قَضَاءُ حَقِّ الزَّوْجِ وَإِظْهَارُ تَأْثِيرِ فَقْدِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّزَيُّنِ وَالتَّجَمُّلِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ الْإِحْدَادُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الْإِحْدَادِ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَمِنْهَا: الِاحْتِيَاطُ لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَمَصْلَحَةِ الزَّوْجَةِ، وَحَقِّ الْوَلَدِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ، فَفِي الْعِدَّةِ أَرْبَعَةُ حُقُوقٍ، وَقَدْ أَقَامَ الشَّارِعُ الْمَوْتَ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِدَّةِ مُجَرَّدَ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ مَقَاصِدِهَا وَحِكَمِهَا.

أَنْوَاعُ الْعِدَّةِ:

9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ أَنْوَاعَ الْعِدَدِ فِي الشَّرْعِ ثَلَاثَةٌ: أ- عِدَّةُ الْقُرُوءِ.

ب- عِدَّةُ الْأَشْهُرِ.

ج- عِدَّةُ وَضْعِ الْحَمْلِ.

أَوَّلًا- الْعِدَّةُ بِالْقُرُوءِ.

10- قَالَ الْفَيُّومِيُّ: الْقُرْءُ فِيهِ لُغَتَانِ: الْفَتْحُ وَجَمْعُهُ قُرُوءٌ وَأَقْرُؤٌ، مِثْلُ فَلْسٌ وَفُلُوسٌ وَأَفْلُسٌ، وَالضَّمُّ وَيُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ مِثْلُ قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ، قَالَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ: وَيُطْلَقُ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ.

11- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الْقُرْءِ اصْطِلَاحًا عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ((، وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَاءِ فِي الْعِدَّةِ: الْأَطْهَارُ،

وَالطُّهْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُحْتَوَشُ بَيْنَ دَمَيْنِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- لَا مُجَرَّدُ الِانْتِقَالِ إِلَى الْحَيْضِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِمَا يَلِي:

أ- بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ فِي عِدَّتِهِنَّ أَوْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَصْلُحُ لِعِدَّتِهِنَّ، فَاللاَّمُ بِمَعْنَى فِي، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ، لَا فِي الْحَيْضِ لِحُرْمَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَيُصْرَفُ الْإِذْنُ إِلَى زَمَنِ الطُّهْرِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ الَّذِي يُسَمَّى عِدَّةً، وَتَطْلُقُ فِيهِ النِّسَاءُ.

ب- وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ».

فَالرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- أَشَارَ إِلَى الطُّهْرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ، فَصَحَّ أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ.

كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ فَرْضًا إِثْرَ الطَّلَاقِ بِلَا مُهْلَةٍ فَصَحَّ أَنَّهَا الطُّهْرُ الْمُتَّصِلُ بِالطَّلَاقِ لَا الْحَيْضُ الَّذِي لَا يَتَّصِلُ بِالطَّلَاقِ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْءُ هُوَ الْحَيْضُ لَوَجَبَ عِنْدَهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ فِيمَنْ طَلَّقَ حَائِضًا أَنْ تَعْتَدَّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ قُرْءًا، وَلَكِنْ لَا يُعْتَدُّ بِهَا.

ج- وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: إِنَّمَا الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ.

د- وَلِأَنَّ الْقُرْءَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَمْعِ، فَيُقَالُ: قَرَأْتُ كَذَا فِي كَذَا إِذَا جَمَعْتَهُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ بِالطُّهْرِ أَحَقَّ مِنَ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ اجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ، وَالْحَيْضُ خُرُوجُهُ مِنْهُ، وَمَا وَافَقَ الِاشْتِقَاقَ كَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ وَقُرُوءٍ وَأَقْرُؤٍ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ بِالْقُرْءِ: الْحَيْضُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهم- وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ قَالَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى حَيْثُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ: إِنَّهَا الْأَطْهَارُ، وَأَنَا الْيَوْمُ أَذْهَبُ إِلَى أَنَّهَا الْحَيْضُ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّهُ رَجَعَ إِلَى هَذَا، وَاسْتَقَرَّ مَذْهَبُهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ مَذْهَبٌ سِوَاهُ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.

أ- أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَلَوْ حُمِلَ الْقُرْءُ عَلَى الطُّهْرِ لَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الَّذِي صَادَفَهُ الطَّلَاقُ مَحْسُوبٌ مِنَ الْأَقْرَاءِ عِنْدَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالثَّلَاثَةُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَالِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ لَا يَقَعُ عَلَى مَا دُونَهُ، فَيَكُونُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْحَيْضِ يَكُونُ الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثٍ حِيَضٍ كَوَامِلَ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْكِتَابِ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ لِظَاهِرِ النَّصِّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ.

ب- وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ اثْنَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي الْعِدَّةِ فِيمَا يَقَعُ بِهِ الِانْقِضَاءُ، إِذِ الرِّقُّ أَثَرُهُ فِي تَنْقِيصِ الْعِدَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ لَا فِي تَغْيِيرِ أَصْلِ الْعِدَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ هُوَ الْحَيْضُ.

ج- وَلِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَالُ الْقُرْءِ بِمَعْنَى الْحَيْضِ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» «وَقَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: انْظُرِي إِذَا أَتَى قُرْؤُكِ فَلَا تُصَلِّي، فَإِذَا مَرَّ قُرْؤُكِ فَتَطَهَّرِي ثُمَّ صَلِّي مَا بَيْنَ الْقُرْءِ إِلَى الْقُرْءِ» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَالُهُ بِمَعْنَى الطُّهْرِ فِي مَوْضِعٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي لِسَانِهِ.

د- وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ، فَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ.

عِدَّةُ الْحُرَّةِ ذَاتُ الْأَقْرَاءِ فِي الطَّلَاقِ أَوِ الْفَسْخِ:

12- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ وَهِيَ مَنْ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ صَحِيحَانِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ وَإِنْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا وَطَالَ طُهْرُهَا لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}

وَذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوِ الْفَاسِدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ. (ر: خَلْوَة)

وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى الْقُرْءِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ الطُّهْرُ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ: إِنَّهُ الْحَيْضُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا اخْتِلَافٌ فِي حِسَابِ الْعِدَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي: أ- الْعِدَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ:

13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ طَلُقَتْ طَاهِرًا، وَبَقِيَ مِنْ زَمَنِ طُهْرِهَا شَيْءٌ وَلَوْ لَحْظَةً حُسِبَتْ قُرْءًا؛ لِأَنَّ بَعْضَ الطُّهْرِ وَإِنْ قَلَّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ قُرْءٍ، فَتُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ طُهْرٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ أُطْلِقَ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى عَلَى مُعْظَمِ الْمُدَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} مَعَ أَنَّهُ فِي شَهْرَيْنِ وَعَشْرِ لَيَالٍ، وَلِذَلِكَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَعَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ- بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ- لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَإِنَّمَا تَنْقَضِي بِانْقِطَاعِ دَمِ تِلْكَ الْحَيْضَةِ وَاغْتِسَالِهَا فِي الْمُعْتَمَدِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَمُقَابِلُ الْمُعْتَمَدِ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْغُسْلُ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، بَلْ يَكْفِي انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.

وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ- كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ- إِلاَّ الزُّهْرِيُّ حَيْثُ قَالَ: تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ سِوَى الطُّهْرِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَ جَامَعَهَا فِي الطُّهْرِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِبَقِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ حَرُمَ فِيهِ الطَّلَاقُ، فَلَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مِنَ الْعِدَّةِ كَزَمَنِ الْحَيْضِ.

وَإِنْ طَلَّقَهَا حَائِضًا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم- وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَأَبِي ثَوْرٍ لِئَلاَّ تَزِيدَ الْعِدَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.

ب- الْعِدَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ:

14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي مَا لَمْ تَحِضِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَ حِيَضٍ كَوَامِلَ تَالِيَةٍ لِلطَّلَاقِ، فَلَوْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ فَلَا يُحْتَسَبُ ذَلِكَ الطُّهْرُ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَهُمْ، أَوْ طَلَّقَهَا فِي حَيْضِهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْسَبُ مِنْ عِدَّتِهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِحُرْمَةِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ، فَلَا تَعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا.

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ لَا يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الطُّهْرُ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَنَا، حَتَّى لَا تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَهُ.

15- وَلَكِنْ هَلِ الْعِدَّةُ تَنْقَضِي بِالْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، أَمْ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنْهَا..؟ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ دُونَ اغْتِسَالٍ، إِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فِي الْحَيْضِ عَشْرَةً، لِانْقِطَاعِ الدَّمِ بِيَقِينٍ، إِذْ لَا مَزِيدَ لِلْحَيْضِ عَلَى عَشَرَةٍ؛ لِأَنَّهَا إِذَا رَأَتْ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ يَكُنِ الزَّائِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ حَيْضًا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِعَدَمِ احْتِمَالِ عَوْدِ دَمِ الْحَيْضِ بَعْدَ الْعَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَيَزُولُ الْحَيْضُ ضَرُورَةً وَيَثْبُتُ الطُّهْرُ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ رَجْعَتُهَا وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ بِانْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَيَّامُ حَيْضِهَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِنَّهَا فِي الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا ارْتِجَاعُهَا، وَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ نِكَاحُهَا، بِشَرْطِ أَنْ تَجِدَ مَاءً فَلَمْ تَغْتَسِلْ وَلَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ بِهِ وَلَا مَضَى عَلَيْهَا وَقْتٌ كَامِلٌ مِنْ أَوْقَاتِ أَدْنَى الصَّلَوَاتِ إِلَيْهَا:

وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أَيْ يَغْتَسِلْنَ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: تَحِلُّ لِزَوْجِهَا الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ».وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ ((عَلَى اعْتِبَارِ الْغُسْلِ شَرْطًا لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَيْثُ رَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَجَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: زَوْجَتِي طَلَّقْتُهَا وَرَاجَعْتُهَا، فَقَالَتْ: مَا يَمْنَعُنِي مَا صَنَعَ أَنْ أَقُولَ مَا كَانَ، إِنَّهُ طَلَّقَنِي وَتَرَكَنِي حَتَّى حِضْتُ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ وَانْقَطَعَ الدَّمُ، وَغَلَّقْتُ بَابِي، وَوَضَعْتُ غُسْلِي، وَخَلَعْتُ ثِيَابِي، فَطَرَقَ الْبَابَ فَقَالَ: قَدْ رَاجَعْتُكِ، فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: قُلْ فِيهَا يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، فَقُلْتُ: أَرَى الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ مَا لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا لَمْ أَرَهُ صَوَابًا.

وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيَّ- رضي الله عنهم- كَانُوا يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ: إِنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، تَرِثُهُ وَيَرِثُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- عَلَى اعْتِبَارِ الْغُسْلِ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ أَيَّامَهَا إِذَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ تَسْتَيْقِنْ بِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ، لِاحْتِمَالِ الْمُعَاوَدَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، إِذِ الدَّمُ لَا يَدِرُّ دَرًّا وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ يَدِرُّ مَرَّةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى فَكَانَ احْتِمَالُ الْعَوْدِ قَائِمًا، وَالْعَائِدُ يَكُونُ دَمَ حَيْضٍ إِلَى الْعَشَرَةِ، فَلَمْ يُوجَدِ انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ بِيَقِينٍ، فَلَا يَثْبُتُ الطُّهْرُ بِيَقِينٍ، فَتَبْقَى الْعِدَّةُ لِأَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.

وَعَلَى هَذَا إِذَا اغْتَسَلَتِ انْقَطَعَتِ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ وَهُوَ إِبَاحَةُ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، إِذْ لَا يُبَاحُ أَدَاؤُهَا لِلْحَائِضِ، فَتَقَرَّرَ الِانْقِطَاعُ بِقَرِينَةِ الِاغْتِسَالِ فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لِانْتِهَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ.

وَكَذَا إِذَا لَمْ تَغْتَسِلْ، لَكِنْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ، أَوْ إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ، بِأَنْ كَانَتْ مُسَافِرَةً فَتَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ.

أَمَّا إِذَا تَيَمَّمَتْ وَلَمْ تُصَلِّ فَهَلْ تَنْتَهِي الْعِدَّةُ وَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ؟

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ وَلَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لِلْعِلَّةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَنْتَهِي الْعِدَّةُ وَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا تَيَمَّمَتْ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ وَهُوَ إِبَاحَةُ الصَّلَاةِ فَلَا يَبْقَى الْحَيْضُ ضَرُورَةً.

وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِبَاحَةِ الْمُعْتَدَّةِ لِلْأَزْوَاجِ بِالْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فِي الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا ارْتِجَاعُهَا، وَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ نِكَاحُهَا لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّلَاةِ بِحُكْمِ حَدَثِ الْحَيْضِ فَأَشْبَهَتِ الْحَائِضَ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِطُهْرِهَا مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَانْقِطَاعِ دَمِهَا، اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وَقَدْ كَمُلَتِ الْقُرُوءُ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَفِعْلِ الصِّيَامِ وَصِحَّتِهِ مِنْهَا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي الْمِيرَاثِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهَا وَاللِّعَانِ وَالنَّفَقَةِ، قَالَ الْقَاضِي: إِذَا شَرَطْنَا الْغُسْلَ أَفَادَ عَدَمُهُ إِبَاحَةَ الرَّجْعَةِ وَتَحْرِيمَهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ، فَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعِ دَمِهَا. عِدَّةُ الْأَمَةِ:

16- عِدَّةُ الْأَمَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَوْعِ الْفُرْقَةِ الَّتِي تَعْتَدُّ مِنْهَا، وَبِاخْتِلَافِ حَالِهَا بِاعْتِبَارِهَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ أَوِ الْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِقّ ف 99)

ثَانِيًا: الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ:

17- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَشْهُرِ تَجِبُ فِي حَالَتَيْنِ:

الْحَالَةُ الْأُولَى:

وَهِيَ مَا تَجِبُ بَدَلًا عَنِ الْحَيْضِ فِي الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا الَّتِي لَمْ تَرَ دَمًا لِيَأْسٍ أَوْ صِغَرٍ، أَوْ بَلَغَتْ سِنَّ الْحَيْضِ، أَوْ جَاوَزَتْهُ وَلَمْ تَحِضْ، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لقوله تعالى: {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} أَيْ فَعِدَّتُهُنَّ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْأَشْهُرَ هُنَا بَدَلٌ عَنِ الْأَقْرَاءِ، وَالْأَصْلُ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةٍ فَكَذَلِكَ الْبَدَلُ. وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ أَنْ تَكُونَ مُطِيقَةً لِلْوَطْءِ، وَفِي الْكَبِيرَةِ الْآيِسَةِ مِنَ الْمَحِيضِ أَنْ تَكُونَ قَدْ جَاوَزَتِ السَّبْعِينَ سَنَةً.

وَسِنُّ الْيَأْسِ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِيَاس ف 6).

وَإِذِ اعْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ بِالْأَشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ فَرَاغِهَا فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَلَا تَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ.

وَلَوْ حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الْأَشْهُرِ انْتَقَلَتْ إِلَى الْأَقْرَاءِ وَلَا يُحْسَبُ مَا مَضَى قُرْءًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِقُدْرَتِهَا عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْبَدَلِ- كَالْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الْمَاءَ أَثْنَاءَ تَيَمُّمِهِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:

عِدَّةُ الْوَفَاةِ الَّتِي وَجَبَتْ أَصْلًا بِنَفْسِهَا، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْوَفَاةُ بَعْدَ زَوَاجٍ صَحِيحٍ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَمْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ أَمْ لَا، بِشَرْطِ أَلاَّ تَكُونَ حَامِلًا وَمُدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَقَوْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا».

وَقُدِّرَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي الْعَشْرِ، فَأُمِرَتْ بِتَرَبُّصِ هَذِهِ الْمُدَّةِ لِيَسْتَبِينَ الْحَمْلُ إِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنَ الْوَفَاةِ وَاجِبَةٌ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ دُونَ النِّكَاحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ كَخَامِسَةٍ فَلَا عِدَّةَ إِلاَّ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْبَالِغُ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَهِيَ مُطِيقَةٌ فَتَعْتَدُّ كَالْمُطَلَّقَةِ.

كَيْفِيَّةُ حِسَابِ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ:

18- إِنَّ حِسَابَ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ أَوِ الْفَسْخِ أَوِ الْوَفَاةِ يَكُونُ بِالشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ لَا الشَّمْسِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ أَوِ الْوَفَاةُ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ اعْتُبِرَتِ الْأَشْهُرُ بِالْأَهِلَّةِ، لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} حَتَّى وَلَوْ نَقَصَ عَدَدُ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِالْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْأَشْهُرِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ، وَلِمَا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ مَرَّتَيْنِ وَهَكَذَا فِي الثَّالِثَةِ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ كُلِّهَا وَحَبَسَ أَوْ خَنَسَ إِبْهَامَهُ وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ

وَإِنْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا لَوْ طَلُقَتْ أَوْ حَدَثَتِ الْوَفَاةُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ أَوَّلِ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ مِنْهُ اعْتُبِرَ شَهْرَانِ بِالْهِلَالِ، وَيَكْمُلُ الْمُنْكَسِرُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ، وَلَوْ كَانَ الْمُنْكَسِرُ نَاقِصًا.

وَكَذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِالْأَشْهُرِ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ الْمُنْكَسِرِ بِالْأَيَّامِ وَبَاقِي الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ، وَيَكْمُلُ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الِاعْتِدَادُ بِالشَّهْرِ، وَالْأَشْهُرُ اسْمُ الْأَهِلَّةِ، فَكَانَ الْأَصْلُ فِي الِاعْتِدَادِ هُوَ الْأَهِلَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} جَعَلَ الْهِلَالَ لِمَعْرِفَةِ الْمَوَاقِيتِ، وَإِنَّمَا يُعْدَلُ إِلَى الْأَيَّامِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْأَهِلَّةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْهِلَالِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَعَدَلْنَا عَنْهُ إِلَى الْأَيَّامِ، وَلَا تَعَذُّرَ فِي بَقِيَّةِ الْأَشْهُرِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا بِالْأَهِلَّةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تُحْتَسَبُ بِالْأَيَّامِ، فَتَعْتَدُّ مِنَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ تِسْعِينَ يَوْمًا، وَمِنَ الْوَفَاةِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْكَسَرَ شَهْرٌ انْكَسَرَ جَمِيعُ الْأَشْهُرِ، قِيَاسًا عَلَى صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ إِذَا ابْتَدَأَ الصَّوْمَ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ.

وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ يُرَاعَى فِيهَا الِاحْتِيَاطُ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَاهَا فِي الْأَيَّامِ لَزَادَتْ عَلَى الشُّهُورِ وَلَوِ اعْتَبَرْنَاهَا بِالْأَهِلَّةِ لَنَقَصَتْ عَنِ الْأَيَّامِ، فَكَانَ إِيجَابُ الزِّيَادَةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا.

بَدْءُ حِسَابِ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ:

19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَشْهُرِ تَبْدَأُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي فَارَقَهَا زَوْجُهَا فِيهَا، فَلَوْ فَارَقَهَا فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ أَوِ النَّهَارِ ابْتُدِئَ حِسَابُ الشَّهْرِ مِنْ حِينَئِذٍ، وَاعْتَدَّتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى مِثْلِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَحِسَابُ السَّاعَاتِ مُمْكِنٌ: إِمَّا يَقِينًا وَإِمَّا اسْتِظْهَارًا، فَلَا وَجْهَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُحْسَبُ يَوْمُ الطَّلَاقِ إِنْ طَلُقَتْ بَعْدَ فَجْرِهِ، وَلَا يَوْمُ الْوَفَاةِ. الْعَشْرُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِالْأَشْهُرِ:

20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَشْرَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ هِيَ عَشْرُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا فَتَجِبُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ مَعَ اللَّيْلِ، لقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فَالْعَرَبُ تُغَلِّبُ صِيغَةَ التَّأْنِيثِ فِي الْعَدَدِ خَاصَّةً عَلَى الْمُذَكَّرِ فَتُطْلِقُ لَفْظَ اللَّيَالِي وَتُرِيدُ اللَّيَالِيَ بِأَيَّامِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِسَيِّدِنَا زَكَرِيَّا- عليه السلام- {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} يُرِيدُ بِأَيَّامِهَا بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} يُرِيدُ بِلَيَالِيِهَا وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَهُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ خِلَافًا لِلْأَوْزَاعِيِّ وَالْأَصَمِّ اللَّذَيْنِ قَالَا: تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ تُسْتَعْمَلُ فِي اللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْأَيَّامُ اللاَّتِي فِي أَثْنَاءِ اللَّيَالِي تَبَعًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ تَزَوَّجَتْ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ جَازَ، أَخْذًا مِنْ تَذْكِيرِ الْعَدَدِ (الْعَشْرِ) فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» فَيَجِبُ كَوْنُ الْمَعْدُودِ اللَّيَالِي وَإِلاَّ لأَنَّثَهُ.

ثَالِثًا: الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ:

21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَنْ طَلَاقٍ أَمْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْعِدَّةِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَهِيَ تَحْصُلُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ، قَلَّتِ الْمُدَّةُ أَوْ كَثُرَتْ، حَتَّى وَلَوْ وَضَعَتْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا، فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِعُمُومِ قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فَقَدْ جَاءَتْ عَامَّةً فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِنَّ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَكَانَتْ حَامِلًا.

وَالْآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: إِذَا وَلَدَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ.

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ «أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ نَفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ وَقِيلَ: إِنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً»، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَهِيَ فِي دَمِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ.

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْحَامِلَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَإِنْ لَمْ يَمْضِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، بَلْ وَلَوْ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِسَاعَةٍ، ثُمَّ تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَوَضْعُ الْحَمْلِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَوْقَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَكَانَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِهِ أَوْلَى مِنَ الِانْقِضَاءِ بِالْمُدَّةِ.

وَذَهَبَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ- فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ- رضي الله عنهم-...وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَحْنُونٌ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ: وَضْعُ الْحَمْلِ أَوْ مُضِيُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، أَيُّهُمَا كَانَ أَخِيرًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ (Tab.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهَا عَامَّةٌ تَشْمَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا وَخَاصَّةً فِي الْمُدَّةِ {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ أَيْضًا، لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَغَيْرَهَا وَخَاصَّةً فِي وَضْعِ الْحَمْلِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَالْعَمَلِ بِهِمَا أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا اعْتَدَّتْ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ فَقَدْ عَمِلَتْ بِمُقْتَضَى الْآيَتَيْنِ، وَإِنِ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَقَدْ تَرَكَتِ الْعَمَلَ بِآيَةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَإِعْمَالُ النَّصَّيْنِ مَعًا خَيْرٌ مِنْ إِهْمَالِ أَحَدِهِمَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


27-موسوعة الفقه الكويتية (لقيط 1)

لَقِيطٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- اللَّقِيطُ فِي اللُّغَةِ: الطِّفْلُ الَّذِي يُوجَدُ مَرْمِيًّا عَلَى الطُّرُقِ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ وَلَا أُمُّهُ.

وَفِي الْمِصْبَاحِ: وَقَدْ غَلَبَ اللَّقِيطُ عَلَى الْمَوْلُودِ الْمَنْبُوذِ.

وَاصْطِلَاحًا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: اسْمٌ لِحَيٍّ مَوْلُودٍ طَرَحَهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنَ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ تُهْمَةِ الرِّيبَةِ.

وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ: صَغِيرٌ آدَمِيٌّ لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ وَلَا رِقُّهُ.

وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: كُلُّ صَبِيٍّ ضَائِعٍ لَا كَافِلَ لَهُ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: طِفْلٌ غَيْرُ مُمَيِّزٍ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ وَلَا رِقُّهُ طُرِحَ فِي شَارِعٍ أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ مَا بَيْنَ وِلَادَتِهِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- اللُّقَطَةُ:

2- اللُّقَطَةُ فِي اللُّغَةِ- بِفَتْحِ الْقَافِ كَمَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ- اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي تَجِدُهُ مُلْقًى فَتَأْخُذُهُ.

وَاللَّقَطُ- بِفَتْحَتَيْنِ- مَا يُلْقَطُ مِنْ مَعْدِنٍ وَسُنْبُلِ وَغَيْرِهِ، وَاللُّقَطَةُ: مَا الْتُقِطَ.

وَشَرْعًا هِيَ: مَالٌ يُوجَدُ ضَائِعًا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَخُصَّ اللَّقِيطُ بِبَنِي آدَمَ، وَاللُّقَطَةُ بِغَيْرِهِمْ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا.

ب- الضَّائِعُ:

3- الضَّائِعُ فِي اللُّغَةِ مِنْ ضَاعَ الشَّيْءُ يَضِيعُ ضَيَاعًا: إِذَا فُقِدَ وَهَلَكَ، وَخَصَّهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِغَيْرِ الْحَيَوَانِ كَالْعِيَالِ وَالْمَالِ، يُقَالُ: أَضَاعَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ وَمَالَهُ.وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالضَّائِعُ أَعَمُّ مِنَ اللَّقِيطِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْإِنْسَانَ وَالْمَالَ.

حُكْمُ الْتِقَاطِ اللَّقِيطِ

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ الْتِقَاطَ الْمَنْبُوذِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلاَّ أَثِمُوا جَمِيعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَلِأَنَّ فِيهِ إِحْيَاءَ نَفْسٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} إِذْ بِإِحْيَائِهَا يَسْقُطُ الْحَرَجُ عَنِ النَّاسِ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُحْتَرَمٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: هَذَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ سَيَرَاهُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ كَانَ الْتِقَاطُهُ فَرْضَ عَيْنٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْتِقَاطَ الْمَنْبُوذِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى سَيِّدَنَا عَلِيًّا- رضي الله عنه- بِلَقِيطٍ فَقَالَ: هُوَ حُرٌّ وَلأَنْ أَكُونَ وَلِيتُ مِنْ أَمْرِهِ مِثْلَ الَّذِي وَلِيتَ أَنْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا، عَدَّ جُمْلَةً مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، فَقَدْ رَغِبَ فِي الِالْتِقَاطِ وَبَالَغَ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ حَيْثُ فَضَلَّهُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّدْبِ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ- نَفْسٌ لَا حَافِظَ لَهَا بَلْ هِيَ مَضْيَعَةٌ فَكَانَ الْتِقَاطُهَا إِحْيَاءً لَهَا مَعْنًى.

وَهَذَا إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ هَلَاكُهُ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ هَلَاكُهُ لَوْ لَمْ يَرْفَعْهُ بِأَنْ وَجَدَهُ فِي مَفَازَةٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَهَالِكِ كَانَ الْتِقَاطُهُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَإِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِهِ غَيْرُهُ كَانَ الْتِقَاطُهُ فَرْضَ عَيْنٍ.

الْإِشْهَادُ عَلَى الِالْتِقَاطِ

5- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَنْبَغِي لِلْمُلْتَقِطِ الْإِشْهَادُ عِنْدَ الِالْتِقَاطِ عَلَى أَنَّهُ الْتَقَطَهُ خَوْفَ طُولِ الزَّمَانِ فَيَدَّعِي الْوَلَدِيَّةَ أَوِ الِاسْتِرْقَاقَ، فَإِنْ تَحَقَّقَ أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ وَجَبَ الْإِشْهَادُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى الِالْتِقَاطِ فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ مَشْهُورَ الْعَدَالَةِ لِئَلاَّ يُسْتَرَقَّ وَيَضِيعَ نَسَبُهُ، وَيَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى مَا مَعَهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: لَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ اعْتِمَادًا عَلَى الْأَمَانَةِ.

وَمَحَلُّ وُجُوبِ الْإِشْهَادِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ لَهُ الْحَاكِمُ فَإِنْ سَلَّمَهُ لَهُ سُنَّ وَلَا يَجِبُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُلْتَقِطِ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ كَاللُّقَطَةِ دَفْعًا لِنَفْسِهِ لِئَلاَّ تُرَاوِدَهُ بِاسْتِرْقَاقِهِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ عَلَى مَا مَعَ اللَّقِيطِ مِنْ مَالٍ صَوْنًا لِنَفْسِهِ عَنْ جَحْدِهِ.

الْأَحَقُّ بِإِمْسَاكِ اللَّقِيطِ

6- الْمُلْتَقِطُ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِ اللَّقِيطِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ بِالْتِقَاطِهِ وَلِأَنَّهُ مُبَاحُ الْأَخَذِ سَبَقَتْ يَدُ الْمُلْتَقِطِ إِلَيْهِ، وَالْمُبَاحُ مُبَاحُ مَنْ سَبَقَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ»،، وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ إِذَا تَحَقَّقَتْ فِي الْمُلْتَقِطِ الشُّرُوطُ الَّتِي اعْتَبَرَهَا كُلُّ مَذْهَبٍ فَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْهَا انْتُزِعَ مِنْ يَدِهِ.

7- وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَنْتَزِعُهُ مِنْ يَدِ الْمُلْتَقِطِ فِي الْأَحْوَالِ الْآتِيَةِ:

أ- إِذَا الْتَقَطَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمَا وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ.

ب- إِذَا الْتَقَطَهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذْ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْتِقَاطُ السَّفِيهِ وَلَا يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ فَالْمَحْجُورُ لِسَفَهٍ أَوْلَى.

ج- إِذَا الْتَقَطَهُ فَاسِقٌ فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْهُ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي إِقْرَارِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَأَمَّا مَنْ ظَاهِرُ حَالِهِ الْأَمَانَةُ: إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُخْتَبَرْ فَلَا يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ لَكِنْ يُوَكِّلُ الْقَاضِي بِهِ مَنْ يُرَاقِبُهُ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ لِئَلاَّ يَتَأَذَّى.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا الْتَقَطَ اللَّقِيطَ مَنْ هُوَ مَسْتُورُ الْحَالِ لَمْ تُعْرَفْ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْعَدَالَةِ وَلَا الْخِيَانَةُ أُقِرَّ اللَّقِيطُ فِي يَدَيْهِ، لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَدْلِ فِي لُقَطَةِ الْمَالِ وَالْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ وَالشَّهَادَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِ الْعَدَالَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: الْتِقَاطُ الْكَافِرِ صَحِيحٌ وَالْفَاسِقِ أَوْلَى، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ لَوْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ فَاسِقًا فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْهُ إِنْ خَشِيَ عَلَيْهِ الْفُجُورَ بِاللَّقِيطِ فَيُنْتَزَعُ مِنْهُ قَبْلَ حَدِّ الِاشْتِهَاءِ.

د- إِذَا الْتَقَطَهُ عَبْدٌ دُونَ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الْتِقَاطِهِ أَوْ عَلِمَ السَّيِّدُ بَعْدَ الْتِقَاطِهِ وَأَقَرَّهُ فِي يَدِهِ فَلَا يُنْتَزَعُ مِنْهُ وَكَانَ السَّيِّدُ هُوَ الْمُلْتَقِطَ وَهُوَ نَائِبُهُ فِي الْأَخْذِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ الْحُرِّيَّةَ فِي الِالْتِقَاطِ فَقَالُوا: يَصِحُّ الْتِقَاطُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ.

هـ- إِذَا الْتَقَطَهُ كَافِرٌ وَكَانَ اللَّقِيطُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي الْتِقَاطِ الْمُسْلِمِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ وِلَايَةٌ وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَنْ يَفْتِنَهُ فِي دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ أُقِرَّ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ عَلَى دِينِهِ، وَلِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ الْإِسْلَامَ فِيمَنْ يَلْتَقِطُ.

و- وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ شَرْطًا عَامًّا وَهُوَ كَوْنُ الْمُلْتَقِطِ أَهْلًا لِحِفْظِ اللَّقِيطِ، قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِحِفْظِهِ كَمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَقِطُ ذَكَرًا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ فَيَصِحُّ الْتِقَاطُ الْمَرْأَةِ وَلَا يُنْتَزَعُ مِنْهَا إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ حُرَّةً خَالِيَةً مِنَ الْأَزْوَاجِ أَوْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَأَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا.

ز- فِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا الْتَقَطَهُ فَقِيرٌ فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِحَضَانَتِهِ وَفِي ذَلِكَ إِضْرَارٌ بِاللَّقِيطِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يُقَرُّ فِي يَدِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُومُ بِكِفَايَةِ الْجَمِيعِ.

هَذَا مَا ذَكَرَهُ الشِّيرَازِيُّ إِلاَّ أَنَّ النَّوَوِيَّ ذَكَرَ بِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْغِنَى. السَّفَرُ بِاللَّقِيطِ

8- ذَكَرَ حُكْمَ السَّفَرِ بِاللَّقِيطِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ تَفْصِيلٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:

فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْتِقَاطِ الْمُقِيمِ فِي مَكَانٍ وَالْغَرِيبِ عَنْ مَكَانِ الْمُلْتَقِطِ فَقَالُوا:

أ- الْأَصَحُّ أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا كَانَ أَمِينًا وَاخْتُبِرَتْ أَمَانَتُهُ وَوَجَدَ لَقِيطًا بِبَلَدٍ فَلَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى بَلَدِهِ لِتَقَارُبِ الْمَعِيشَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَمْنِ الطَّرِيقِ وَتَوَاصُلِ الْأَخْبَارِ، فَإِنْ لَمْ تُخْتَبَرْ أَمَانَتُهُ وَجُهِلَ حَالُهُ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ إِذَا غَابَ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهُ خَشْيَةَ ضَيَاعِ النَّسَبِ.

ب- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا وَجَدَ بَلَدِيٌّ لَقِيطًا بِبَلَدٍ فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى بَادِيَةٍ لِخُشُونَةِ عَيْشِهَا وَتَفْوِيتِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالصَّنْعَةِ، وَقِيلَ لِضَيَاعِ النَّسَبِ.

وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ نَقْلَهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ.وَهَذَا الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ وَتَوَاصُلِ الْأَخْبَارِ، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا أَوِ انْقَطَعَتِ الْأَخْبَارُ بَيْنَهُمَا لَمْ يُقَرَّ اللَّقِيطُ فِي يَدِهِ قَطْعًا.

وَلَمْ يُفَرِّقَ الْجُمْهُورُ (أَيْ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ) بَيْنَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَدُونِهَا، وَجَعَلَ الْمَاوَرْدِيُّ الْخِلَافَ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَقَطَعَ فِيمَا دُونَهَا بِالْجِوَازِ وَمَنَعَهُ فِي الْكِفَايَةِ، وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

ج- وَإِنْ وَجَدَ اللَّقِيطَ بَلَدِيٌّ بِبَادِيَةٍ فِي حِلَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ فَلَهُ نَقْلُهُ إِلَى قَرْيَةٍ وَإِلَى بَلَدٍ يَقْصِدُهُ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ، وَقِيلَ وَجْهَانِ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَادِيَةُ فِي مَهْلَكَةٍ فَلَهُ نَقْلُهُ لِمَقْصِدِهِ قَطْعًا.

د- وَإِنْ وَجَدَ اللَّقِيطَ بَدْوِيٌّ بِبَادِيَةٍ أُقِرَّ بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَ أَهْلُ حِلَّتِهِ يَنْتَقِلُونَ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ كَبَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَقِيلَ: إِنْ كَانُوا يَنْتَقِلُونَ لِلنُّجْعَةِ- أَيِ الِانْتِقَالِ لِطَلَبِ الْمَرْعَى- لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ لِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعًا لِنَسَبِهِ.

قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَعُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ نَقْلَ اللَّقِيطِ مِنْ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ بَادِيَةٍ لِمِثْلِهِ أَوْ أَعَلَى مِنْهُ لَا لِدُونِهِ، وَأَنَّ شَرْطَ جِوَازِ النَّقْلِ مُطْلَقًا إِنْ أُمِنَ الطَّرِيقُ وَالْمَقْصِدُ وَتَوَاصُلُ الْأَخْبَارِ وَاخْتِبَارُ أَمَانَةِ الْمُلْتَقِطِ.

وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ السَّفَرِ بِاللَّقِيطِ لِغَيْرِ النَّقْلَةِ وَالسَّفَرِ بِهِ إِلَى مَكَانٍ لِلْإِقَامَةِ بِهِ.كَمَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُلْتَقِطِ إِذَا كَانَ مَسْتُورَ الْحَالِ لَمْ تُعْرَفْ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْعَدَالَةِ وَلَا الْخِيَانَةِ وَبَيْنَ مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ وَظَهَرَتْ أَمَانَتُهُ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ كَانَ مَسْتُورَ الْحَالِ لَمْ تُعْرَفْ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْعَدَالَةِ وَلَا الْخِيَانَةِ وَأَرَادَ السَّفَرَ بِاللَّقِيطِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يُقَرَّ فِي يَدَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُتَحَقَّقْ أَمَانَتُهُ فَلَمْ تُؤْمَنِ الْخِيَانَةُ مِنْهُ.

وَالثَّانِي: يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ، لِأَنَّهُ يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ مُشْرِفٍ يُضَمُّ إِلَيْهِ فَأَشْبَهَ الْعَدْلَ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ السَّتْرُ وَالصِّيَانَةُ.

أَمَّا مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ وَظَهَرَتْ أَمَانَتُهُ فَيُقَرُّ اللَّقِيطُ فِي يَدِهِ فِي سَفَرِهِ وَحَضَرِهِ، لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ لِغَيْرِ النُّقْلَةِ.

فَإِنْ كَانَ سَفَرُ الْمُلْتَقِطِ الْأَمِينِ بِاللَّقِيطِ إِلَى مَكَانٍ يُقِيمُ بِهِ نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ الْتَقَطَهُ مِنَ الْحَضَرِ فَأَرَادَ الِانْتِقَالَ بِهِ إِلَى الْبَادِيَةِ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ، لِأَنَّ مُقَامَهُ فِي الْحَضَرِ أَصْلَحُ لَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَأَرْفَهُ لَهُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي الْحَضَرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وُلِدَ فِيهِ فَبَقَاؤُهُ فِيهِ أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ وَظُهُورِ أَهْلِهِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِهِ.

فَإِنْ أَرَادَ الِانْتِقَالَ بِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ مِنَ الْحَضَرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يُقَرُّ فِي يَدِهِ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ فِي بَلَدِهِ أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ، فَلَمْ يُقَرَّ فِي يَدِ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُنْتَقِلِ بِهِ إِلَى الْبَادِيَةِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَرُّ فِي يَدِهِ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ، وَالْبَلَدُ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ فِي الرَّفَاهِيَةِ فَيُقَرُّ فِي يَدِهِ كَمَا لَوِ انْتَقَلَ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيِ الْبَلَدِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ.

وَإِنْ كَانَ الِالْتِقَاطُ مِنَ الْبَادِيَةِ فَلَهُ نَقْلُهُ إِلَى الْحَضَرِ، لِأَنَّهُ يَنْقُلُهُ مِنْ أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالشَّقَاءِ إِلَى الرَّفَاهِيَةِ وَالدَّعَةِ وَالدِّينِ، وَإِنْ أَقَامَ فِي حِلَّةٍ يَسْتَوْطِنُهَا فَلَهُ ذَلِكَ.

وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ بِهِ إِلَى الْمَوَاضِعِ احْتَمَلَ أَنْ يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ ابْنُ بَدْوِيَّيْنِ وَإِقْرَارُهُ فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ فَيُدْفَعَ إِلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ، لِأَنَّهُ أَرْفَهُ لَهُ وَأَخَفُّ عَلَيْهِ.وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا يُنْزَعُ مِنْ مُلْتَقِطِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا وُجِدَ مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَقُومُ بِهِ أُقِرَّ فِي يَدَيْ مُلْتَقِطِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ مِثْلُ مُلْتَقِطِهِ فَمُلْتَقِطُهُ أَوْلَى بِهِ إِذْ لَا فَائِدَةُ فِي نَزْعِهِ مِنْ يَدِهِ.

حُرِّيَّةُ اللَّقِيطِ وَرِقُّهُ

9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ إِنَّمَا هُوَ الْحُرِّيَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ أَحْرَارًا وَإِنَّمَا الرِّقُّ لِعَارِضٍ فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ الْعَارِضُ فَلَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (رِقٌّ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا).

الْحُكْمُ بِإِسْلَامِ اللَّقِيطِ أَوْ كُفْرِهِ

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي يُحْكَمُ بِهِ عَلَى اللَّقِيطِ مِنْ حَيْثُ الْإِسْلَامُ أَوِ الْكُفْرُ، هَلْ يَكُونُ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ هُوَ الدَّارُ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا دَارَ إِسْلَامٍ أَوْ دَارَ كُفْرٍ أَوْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ هُوَ حَالُ الْوَاجِدِ مِنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ؟.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ هُوَ الدَّارُ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا اللَّقِيطُ فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ دَارَ إِسْلَامٍ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا، وَالدَّارُ الَّتِي تُعْتَبَرُ دَارَ إِسْلَامٍ عِنْدَهُمْ هِيَ:

أ- دَارٌ يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَوْ كَانَ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ وَلِظَاهِرِ الدَّارِ وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ.

ب- دَارٌ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ وَقَبْلَ مِلْكِهَا أَقَرُّوهَا بِيَدِ الْكُفَّارِ صُلْحًا.

ج- دَارٌ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ وَمَلَكُوهَا عَنْوَةً وَأَقَرُّوا أَهْلَهَا عَلَيْهَا بِجِزْيَةٍ.

د- دَارٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْكُنُونَهَا ثُمَّ أَجْلَاهُمُ الْكُفَّارُ عَنْهَا.فَفِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ يُعْتَبَرُ اللَّقِيطُ الَّذِي يُوجَدُ فِيهَا مُسْلِمًا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُوجَدَ بِهَا مُسْلِمٌ يَمْكَنُ أَنْ يَكُونَ اللَّقِيطُ مِنْهُ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ، بَلْ كَانَ جَمِيعُ مَنْ فِيهَا كُفَّارًا فَهُوَ كَافِرٌ كَمَا إِذَا وُجِدَ بِدَارِ كُفَّارٍ لَمْ يَسْكُنْهَا مُسْلِمٌ يُحْتَمَلُ إِلْحَاقُهُ بِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ دَارَ كُفْرٍ وَكَانَ فِيهَا مُسْلِمُونَ كَتُجَّارٍ وَأَسْرَى فَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي احْتِمَالٍ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ اللَّقِيطَ فِيهَا يُعْتَبَرُ مُسْلِمًا تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالِاحْتِمَالُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ تَغْلِيبًا لِلدَّارِ وَالْأَكْثَرِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَخْلُو حَالُ اللَّقِيطِ مِنْ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ:

أ- أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.

ب- أَنْ يَجِدَهُ ذِمِّيٌّ فِي بَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ ذِمِّيًّا تَحْكِيمًا لِلظَّاهِرِ.

ج- أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ذِمِّيًّا أَيْضًا.

د- أَنْ يَجِدَهُ ذِمِّيٌّ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا.

كَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ مِنَ الْأَصْلِ وَاعْتُبِرَ الْمَكَانُ، وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ الْوَاجِدِ مِنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى اعْتُبِرَ الْإِسْلَامُ إِلَى أَيِّهِمَا نُسِبَ إِلَى الْوَاجِدِ أَوْ إِلَى الْمَكَانِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ هَذَا الْكِتَابِ (أَيْ كِتَابِ اللَّقِيطِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْعِنَايَةِ عَلَى الْهِدَايَةِ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي مَكَانٍ هُوَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَاللَّقِيطُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ مُسْلِمًا ظَاهِرًا، وَالْمَوْجُودُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَاللَّقِيطُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الذِّمِّيِّ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ ذِمِّيًّا ظَاهِرًا فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمَكَانِ أَوْلَى.

وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ يُعْتَبَرُ الزِّيُّ وَالْعَلَامَةُ، جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَفِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: قِيلَ يُعْتَبَرُ بِالسِّيمَا وَالزِّيِّ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ وَسَوَاءٌ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ، وَإِذَا وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى بَيْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ، فَإِنِ الْتَقَطَهُ ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ مَا قَالَهُ أَشْهَبُ وَهُوَ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ.

وَإِذَا وُجِدَ فِي قُرَى الشِّرْكِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ سَوَاءٌ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ تَغْلِيبًا لِلدَّارِ وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَمَّا أَشْهَبُ فَيَقُولُ: إِنِ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ.

نَسَبُ اللَّقِيطِ

11- إِذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ شَخْصٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنْ كَانَ رَجُلًا مُسْلِمًا حُرًّا لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ تَتَحَقَّقَ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِلْحَاقِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحْضُ نَفْعٍ لِلطِّفْلِ لِاتِّصَالِ نَسَبِهِ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ فَقُبِلَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ.

وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا فِي الِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ نَظَرًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، جَانِبِ اللَّقِيطِ بِشَرَفِ النَّسَبِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالصِّيَانَةِ عَنْ أَسِبَابِ الْهَلَاكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَانِبِ الْمُدَّعِي بِوَلَدٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.

وَفِي الْقِيَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا جَائِزَ الْوُجُودِ وَالْعَدِمِ فَلَا بُدَّ لِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخِرِ مِنْ مُرَجِّحٍ وَذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ وَلَمْ تُوجَدْ.

وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي ذِمِّيًّا تَصِحُّ دَعْوَاهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- ادَّعَى شَيْئَيْنِ يُتَصَوَّرُ انْفِصَالُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ وَكَوْنُهُ كَافِرًا، وَيُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ فِي أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ نَفْعًا لِلَّقِيطِ وَهُوَ كَوْنُهُ ابْنًا لَهُ وَلَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ فِي الْآخَرِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا بِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ كَافِرًا فَيُصَدَّقُ فِيمَا فِيهِ نَفْعُهُ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَضُرُّهُ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: وَلَا حَقَّ لَهُ أَيْضًا فِي حَضَانَتِهِ.

وَقَالُوا: إِنَّمَا يَكُونُ مُسْلِمًا فِي ادِّعَاءِ الذِّمِّيِّ لَهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الْإِقْرَارِ أَمَّا إِذَا أَقَامَ الذِّمِّيُّ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَيَكُونُ عَلَى دِينِهِ خِلَافًا لِلْإِقْرَارِ.

وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي عَبْدًا تَصِحُّ دَعْوَاهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يَكُونُ حُرًّا لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا نَفْعٌ لِلَّقِيطِ وَالْآخَرُ مَضَرَّةٌ هُوَ الرِّقُّ فَيُصَدَّقُ فِيمَا يَنْفَعُهُ لَا فِيمَا يَضُرُّهُ، وَلَا حَضَانَةَ لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالسَّيِّدِ فَيَضِيعُ فَلَا يَتَأَهَّلُ لِلْحَضَانَةِ، فَإِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ جَازَ لِانْتِفَاءِ مَانِعُ الشُّغْلِ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ، لِأَنَّ الطِّفْلَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَلْحَقُ الْمُلْتَقَطُ بِالْعَبْدِ إِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ وَقِيلَ لَا يَلْحَقُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يَلْحَقُ قَطْعًا إِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي النِّكَاحِ وَمَضَى زَمَانُ إِمْكَانِهِ وَإِلاَّ فَقَوْلَانِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى اللَّقِيطُ الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ فَلَا يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِهِ إِلاَّ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ.

الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَأْتِيَ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِأَنَّهُ ابْنُهُ وَلَا يَكْفِي قَوْلُ الْبَيِّنَةِ ذَهَبَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ طُرِحَ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَحِقَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ اللَّقِيطُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ أَوْ كُفْرِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَلْحَقُ لَهُ الَّذِي شَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِدَعْوَاهُ وَجْهٌ كَرَجُلٍ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ لَهُ وَلَدٌ فَزَعَمَ أَنَّهُ رَمَاهُ لِقَوْلِ النَّاسِ: إِذَا طُرِحَ عَاشَ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِصَاحِبِ الْوَجْهِ الْمُدَّعِي، سَوَاءٌ كَانَ اللَّقِيطُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ أَوْ كُفْرِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَلْحَقُ لَهُ صَاحِبُ الْوَجْهِ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا وَهَذَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ وَالتَّتَائِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَجْهُورِيُّ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِصَاحِبِ الْوَجْهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْوَجْهِ مُسْلِمًا وَأَمَّا إِذَا اسْتَلْحَقَهُ ذِمِّيٌّ فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ.

12- وَإِنِ ادَّعَى نَسَبَ اللَّقِيطِ اثْنَانِ، مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ أَوْ حُرٌّ وَعَبْدٌ فَهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَوِ انْفَرَدَ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، فَإِذَا تَنَازَعُوا تُسَاوَوْا فِي الدَّعْوَى كَالْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ فَهُوَ ابْنُهُ، وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا وَلَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُمَا هَاهُنَا.

فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ أَوْ كَانَتْ لَهُمَا بَيِّنَتَانِ وَتَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَى الْقَافَةِ مَعَ الْمُدَّعِيَيْنِ فَيَلْحَقُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ مِنْهُمَا، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»،، فَلَوْلَا جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَافَةِ لَمَا سُرَّ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ.

هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ وَعَطَاءٍ وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي ثَوْرٍ.

فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأَحَدِهِمَا لَحِقَ بِهِ وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِمَا فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سَقَطَ قَوْلُهُمَا وَلَا يَلْحَقُ بِهِمَا وَيُتْرَكُ حَتَّى يَبْلُغَ فَإِذَا بَلَغَ أُمِرَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى مَنْ يَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَيْهِ فَمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمَا لَحِقَ بِهِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا رَجُلًا لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَبُوهُ فَقَالَ عُمَرُ: اتَّبِعْ أَيَّهُمَا شِئْتَ وَلِأَنَّ طَبْعَ الْوَلَدِ يَمِيلُ إِلَى وَالِدِهِ وَيَجِدُ بِهِ مَا لَا يَجِدُ بِغَيْرِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَلْحَقُ بِهِمَا وَكَانَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ وَيَرِثَانِهِ جَمِيعًا مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما- وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ فِي امْرَأَةٍ وَطِئَهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ فَقَالَ الْقَائِفُ: قَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ جَمِيعًا فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: وَعَلِيٌ يَقُولُ: هُوَ ابْنُهَا وَهُمَا أَبَوَاهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ.

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ إِنِ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَيْنِ فَأَلْحَقَتْهُ بِهِمُ الْقَافَةُ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالثَّلَاثَةِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: لَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ، وَقَالَ الْقَاضِي لَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَحِقَ بِاثْنَيْنِ مَوْجُودٌ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَلْحَقَ مِنَ اثْنَيْنِ جَازَ أَنْ يَلْحَقَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ ادَّعَى رَجُلَانِ أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهُمَا وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلَّقِيطِ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُ.

وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ فَإِنْ وَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَالْوَاصِفُ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّ الدَّعْوَتَيْنِ مَتَى تَعَارَضَتَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مِنْهُمَا وَقَدْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِالْعَلَامَةِ لِأَنَّهُ إِذَا وَصَفَ الْعَلَامَةَ وَلَمْ يَصِفِ الْآخَرُ دَلَّ عَلَى أَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ سَابِقَةٌ فَلَا بُدَّ لِزَوَالِهَا مِنْ دَلِيلٍ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى جِوَازِ الْعَمَلِ بِالْعَلَامَةِ قوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْحُكْمِ بِالْعَلَامَةِ عَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلَمْ يُغَيَّرْ عَلَيْهِمْ وَالْحَكِيمُ إِذَا حَكَى عَنْ مُنْكَرٍ غَيْرِهِ فَصَارَ الْحُكْمُ بِالْعَلَامَةِ شَرِيعَةً لَنَا مُبْتَدَأَةً وَإِنْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ ابْنًا لَهُمَا إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ ابْنًا لَهُمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ، فَإِنِ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ مِنْ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تُسْمَعُ مِنْ خَمْسَةٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ اثْنَيْنِ وَلَا تُسْمَعُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ تُسْمَعُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَلَا تُسْمَعُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

13- وَإِنِ ادَّعَى اللَّقِيطُ امْرَأَةً وَقَالَتْ: إِنَّهُ ابْنِي فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهَا إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ فِي ادِّعَائِهَا بُنُوَّتَهُ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الزَّوْجُ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيمَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ بِهِ فَإِنْ أَقَامَتِ الْبَيِّنَةَ صَحَّتْ دَعْوَتُهَا وَلَحِقَ بِهَا اللَّقِيطُ وَلَحِقَ زَوْجُهَا إِنْ أَمْكَنَ الْعُلُوقُ مِنْهُ وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلاَّ بِلِعَانٍ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هَذَا إِذَا قُيِّدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِنْ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْفِرَاشِ فَفِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنَ الزَّوْجِ وَجْهَانِ: قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَصَحُّ الْمَنْعُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ خَلِيَّةً مِنَ الزَّوْجِ وَادَّعَتْ أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهَا فَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَلْحَقُهَا إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ لِإِمْكَانِهَا إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بِالْوِلَادَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَلْحَقُهَا لِأَنَّهَا أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَصَارَتْ كَالرَّجُلِ.

وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ نَقَلَهَا الْكَوْسَجُ عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ ادَّعَتْ وَلَدًا قَالَ: إِنْ كَانَ لَهَا إِخْوَةٌ أَوْ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لَا تُصَدَّقُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا دَافِعٌ لَمْ يَحِلَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهَا أَهْلٌ وَنَسَبٌ مَعْرُوفٌ لَمْ تَخْفَ وِلَادَتُهَا عَلَيْهِمْ وَيَتَضَرَّرُونَ بِإِلْحَاقِ النَّسَبِ بِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْيِيرِهِمْ بِوِلَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَهْلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ بِدَعْوَاهَا بِحَالٍ.

14- وَإِنِ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتْ إِحْدَاهُمَا الْبَيِّنَةَ فَهِيَ أَوْلَى بِهِ، وَإِنْ أَقَامَتَا بَيِّنَتَيْنِ فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ يُجْعَلُ ابْنَهُمَا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ لَا يُجْعَلُ ابْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَنَازَعَتِ امْرَأَتَانِ لَقِيطًا وَأَقَامَتَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا عُرِضَ مَعَهُمَا عَلَى الْقَائِفِ فَلَوْ أَلْحَقَهُ بِإِحْدَاهُمَا لَحِقَهَا وَلَحِقَ زَوْجَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ لَمْ يُعْرَضْ عَلَى الْقَائِفِ لِأَنَّ اسْتِلْحَاقَ الْمَرْأَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذْ إِنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَلْتَحِقُ الْوَلَدُ بِأَكْثَرَ مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُمَّيْنِ فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ أُمٍّ سَقَطَ قَوْلُهَا وَلَمْ يَلْحَقْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِتَبَيُّنِ خَطَأِ الْقَافَةِ وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


28-موسوعة الفقه الكويتية (ملك 1)

مِلْكٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمِلْكُ لُغَةً- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا-: هُوَ احْتِوَاءُ الشَّيْءِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ بِهِ وَالتَّصَرُّفُ بِانْفِرَادِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ الْمُحْدَثُونَ بِلَفْظِ الْمِلْكِيَّةِ عَنِ الْمِلْكِ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَبْلَهُمْ يُعَبِّرُونَ بِلَفْظِ الْمِلْكِ.

وَقَدْ عَرَّفَ الْقَرَافِيُّ الْمِلْكَ- بِاعْتِبَارِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا- فَقَالَ: الْمِلْكُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُقَدَّرٌ فِي الْعَيْنِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ، يَقْتَضِي تَمَكُّنَ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ مِنَ انْتِفَاعِهِ بِالْمَمْلُوكِ وَالْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِ: الْمِلْكُ هُوَ تَمَكُّنُ الْإِنْسَانِ شَرْعًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِنِيَابَةِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالْمَنْفَعَةِ وَمِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ، أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ خَاصَّةً.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْحَقُّ:

2- يُطْلَقُ الْحَقُّ لُغَةً عَلَى نَقْضِ الْبَاطِلِ وَعَلَى الْحَظِّ، وَالنَّصِيبِ، وَالثَّابِتِ وَالْمَوْجُودِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي إِنْكَارُهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ الثَّابِتِ الَّذِي يَشْمَلُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقِ الْعِبَادِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْمِلْكِ: أَنَّ الْحَقَّ أَعَمُّ مِنَ الْمِلْكِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِلْكِ:

يَتَعَلَّقُ بِالْمِلْكِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

حُرْمَةُ الْمِلْكِ فِي الْإِسْلَامِ

3- صَانَ الْإِسْلَامُ الْمِلْكَ، فَحَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ».وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْقَاعِدَةُ الْمُعْتَبَرَةُ أَنَّ الْمُلاَّكَ مُخْتَصُّونَ بِأَمْلَاكِهِمْ، لَا يُزَاحِمُ أَحَدٌ مَالِكًا فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ، ثُمَّ الضَّرُورَةُ تُحْوِجُ مُلاَّكَ الْأَمْوَالِ إِلَى التَّبَادُلِ فِيهَا...فَالْأَمْرُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ تَحْرِيمُ التَّسَالُبِ وَالتَّغَالُبِ وَمَدِّ الْأَيْدِي إِلَى أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

وَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ مِلْكَ الْأَمْوَالِ اسْتِخْلَافًا وَمِنْحَةً رَبَّانِيَّةً، لِأَنَّ الْمَالِكَ الْحَقِيقِيَّ لِلْأَمْوَالِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ أَعْطَى لِلْإِنْسَانِ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْأَمْوَالِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}.

وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا: إِنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ إِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ وَإِنْشَائِهِ لَهَا، وَإِنَّمَا خَوَّلَكُمُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَجَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، فَلَيْسَتْ هِيَ بِأَمْوَالِكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمَا أَنْتُمْ فِيهَا إِلاَّ بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلَاءِ.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فِي الْأَمْوَالِ حُقُوقًا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِلْأَقَارِبِ وَنَحْوِهِمْ.

أَقْسَامُ الْمِلْكِ:

لِلْمِلْكِ أَقْسَامٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:

- فَهُوَ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ: إمَّا مِلْكٌ تَامٌّ أَوْ نَاقِصٌ.

- وَبِاعْتِبَارِ الْمُسْتَفِيدِ مِنْهُ: إِمَّا مِلْكٌ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ.

- وَبِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ: إِمَّا مِلْكٌ اخْتِيَارِيٌّ أَوْ جَبْرِيٌّ.

- وَبِاعْتِبَارِ احْتِمَالِ سُقُوطِهِ: إِمَّا مِلْكٌ مُسْتَقِرٌّ أَوْ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ.

أ- أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ

4- يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ إِلَى مِلْكٍ تَامٍّ وَمِلْكٍ نَاقِصٍ.

وَالْمِلْكُ التَّامُّ: هُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَالْمِلْكُ النَّاقِصُ: هُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فَقَطْ، أَوِ الْمَنْفَعَةِ فَقَطْ، أَوِ الِانْتِفَاعِ فَقَطْ.

يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْمِلْكُ التَّامُّ يُمْلَكُ فِيهِ التَّصَرُّفُ فِي الرَّقَبَةِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَيُورَثُ عَنْهُ، وَيُمْلَكُ التَّصَرُّفُ فِي مَنَافِعِهِ بِالْإِعَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالِانْتِفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَدْ عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْمِلْكِ الضَّعِيفِ بَدَلَ النَّاقِصِ، يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: الْمِلْكُ قِسْمَانِ: تَامٌّ وَضَعِيفٌ، فَالتَّامُّ يَسْتَتْبِعُ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ، وَالضَّعِيفُ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مُصْطَلَحُ النَّاقِصِ أَيْضًا.

ثُمَّ إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمِلْكِ هُوَ الْمِلْكُ التَّامُّ، وَأَنَّ الْمِلْكَ النَّاقِصَ خِلَافُ الْأَصْلِ، كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْمِلْكِ هُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَشْيَاءِ.

وَلِذَلِكَ جَاءَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ نَاقِصًا، كَأَنْ يُوصِيَ بِمَنْفَعَةِ عَيْنٍ لِشَخْصِ، أَوْ أَنْ يُوصِيَ بِالرَّقَبَةِ لِشَخْصِ وَبِمَنْفَعَتِهَا لآِخَرَ.

أَمَّا مِلْكُ الْمَنَافِعِ: فَهُوَ مشَاعٌ، وَيَتَحَقَّقُ فِي الْإِجَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَالْإِعَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ فَقَطْ، وَالْوَقْفِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، وَالْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الْمُقَرَّةِ فِي يَدِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ بِالْخَرَاجِ.

وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَا عَدَا ابْنَ شُبْرُمَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى.

أَمَّا مِلْكُ الِانْتِفَاعِ: فَقَدْ ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ.

فَقَدْ قَسَّمَ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ الْمِلْكَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: مِلْكِ عَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ، وَمِلْكِ عَيْنٍ بِلَا مَنْفَعَةٍ، وَمِلْكِ مَنْفَعَةٍ بِلَا عَيْنٍ، وَمِلْكِ انْتِفَاعٍ مِنْ غَيْرِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ قَالَ:

أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ عَامَّةُ الْأَمْلَاكِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهَا، مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَإِرْثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

النَّوْعُ الثَّانِي: مِلْكُ الْعَيْنِ بِدُونِ مَنْفَعَةٍ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِدُونِ عَيْنٍ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:

الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مِلْكٌ مُؤَبَّدٌ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ صُوَرٌ: مِنْهَا الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ، وَمِنْهَا الْوَقْفُ، فَإِنَّ مَنَافِعَهُ وَثَمَرَاتِهِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ...وَمِنْهَا الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِلْكٌ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ، فَمِنْهُ الْإِجَارَةُ، وَمِنْهُ مَنَافِعُ الْبَيْعِ الْمُسْتَثْنَاةُ فِي الْعَقْدِ مُدَّةً مَعْلُومَةً.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِلْكُ الِانْتِفَاعِ الْمُجَرَّدِ، وَلَهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا مِلْكُ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ لَا الْمَنْفَعَةَ، إِلاَّ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ.

وَمِنْهَا: الْمُنْتَفِعُ بِمِلْكِ جَارِهِ مِنْ وَضْعِ خَشَبٍ، وَمَمَرٍّ فِي دَارٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ صُلْحٍ فَهُوَ إِجَارَةٌ.

وَمِنْهَا: إِقْطَاعُ الْإِرْفَاقِ كَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَنَحْوِهَا، وَمِنْهَا: الطَّعَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ حِيَازَتِهِ يَمْلِكُ الْقَائِمُونَ الِانْتِفَاعَ بِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَقِيَاسُهُ الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَةِ وَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهَا أَكْلُ الضَّيْفِ لِطَعَامِ الْمُضِيفِ فَإِنَّهُ إِبَاحَةٌ مَحْضَةٌ.

وَقَدْ فَصَّلَ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مِلْكِ الِانْتِفَاعِ، وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَقَالَ: فَتَمْلِيكُ الِانْتِفَاعِ نُرِيدُ بِهِ أَنْ يُبَاشِرَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ، وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ هُوَ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَيُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ وَيُمَكِّنُ غَيْرَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِعِوَضٍ كَالْإِجَارَةِ، وَبِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْعَارِيَةِ.

وَمِثَالُ الْأَوَّلِ- أَيِ الِانْتِفَاعِ- سُكْنَى الْمَدَارِسِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَجَالِسِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ كَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ...أَمَّا مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ فَكَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا، أَوِ اسْتَعَارَهَا، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يُسْكِنَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَيَتَصَرَّفَ فِي هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي أَمْلَاكِهِمْ.

ثُمَّ ذَكَرَ أَرْبَعَ مَسَائِلَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الِانْتِفَاعِ وَهِيَ:

الْأُولَى: النِّكَاحُ حَيْثُ هُوَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الِانْتِفَاعِ، وَلَيْسَ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ.

الثَّانِيَةُ: الْوَكَالَةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَهِيَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الِانْتِفَاعِ لَا مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ، وَأَمَّا الْوَكَالَةُ بِعِوَضٍ فَهِيَ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ.

الثَّالِثَةُ: الْقِرَاضُ (الْمُضَارَبَةُ) وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُغَارَسَةُ، فَرَبُّ الْمَالِ فِيهَا يَمْلِكُ مِنَ الْعَامِلِ الِانْتِفَاعَ لَا الْمَنْفَعَةَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى مَا مَلَكَهُ مِنَ الْعَامِلِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُؤَاجِرُهُ مِمَّنْ أَرَادَ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ عَقْدُ الْقِرَاضِ.

الرَّابِعَةُ: إِذَا وَقَفَ شَخْصٌ وَقْفًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَوْ عَلَى السُّكْنَى، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّ الْوَاقِفَ إِنَّمَا مَلَكَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعَ بِالسُّكْنَى دُونَ الْمَنْفَعَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ غَيْرَهُ، وَلَا يُسْكِنَهُ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ كَالْمُسْتَأْجِرِ، وَمِلْكِ الِانْتِفَاعِ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَقَالُوا: مَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَلَهُ الْإِجَارَةُ وَالْإِعَارَةُ، وَمَنْ مَلَكَ الِانْتِفَاعَ فَلَيْسَ لَهُ الْإِجَارَةُ قَطْعًا، وَلَا الْإِعَارَةَ فِي الْأَصَحِّ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ حَوْلَ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَدْخُلُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي مِلْكِ الِانْتِفَاعِ وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ عِنْدَ الْآخَرِينَ، بَلْ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، مِثْلُ الْعَارِيَةِ...حَيْثُ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا الْكَرْخِيَّ وَالْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّ الْعَارِيَةَ تَمْلِيكٌ لِلْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِذَلِكَ أَجَازُوا لِلْمُسْتَعِيرِ إِعَارَةَ الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ بِالْقُيُودِ الَّتِي وَضَعَهَا الْفُقَهَاءُ.

الْفُرُوقُ الْجَوْهَرِيَّةُ بَيْنَ الْمِلْكِ التَّامِّ وَالْمِلْكِ النَّاقِصِ

5- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكٌ لِلِانْتِفَاعِ.

وَتُوجَدُ فُرُوقٌ جَوْهَرِيَّةٌ بَيْنَ الْمِلْكِ التَّامِّ وَالْمِلْكِ النَّاقِصِ، تَلْخِيصُهَا فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلًا: إِنَّ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ التَّامِّ الْحَقَّ فِي إِنْشَاءِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ مِنْ عُقُودٍ نَاقِلَةٍ لِلْمِلْكِ التَّامِّ، أَوِ النَّاقِصِ، فَهُوَ حُرُّ التَّصَرُّفِ فِي حُدُودِ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، أَمَّا صَاحِبُ الْمِلْكِ النَّاقِصِ فَلَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي كُلِّ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ فِي حُدُودِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَنْفَعَةِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَالْمَنْفَعَةَ مَعًا.

ثَانِيًا: تَأْبِيدُ الْمِلْكِ التَّامِّ: وَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنَّ الْمِلْكَ التَّامَّ دَائِمٌ وَمُسْتَمِرٌّ لَا يَنْتَهِي إِلاَّ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ قَاطِعٍ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَأْقِيتُهُ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْعُقُودِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِ التَّامِّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: بِعْتُ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لِمُدَّةِ سَنَةٍ، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهَا الْإِجَارَةَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ: إِنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ بِالْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لَا بِالْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي

وَأَمَّا الْمِلْكُ النَّاقِصُ فَالْعُقُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ فِيهَا لَا بُدَّ مِنْ تَأْقِيتِهَا مِثْلَ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَنَحْوِهَا، فَهِيَ تَقْبَلُ التَّقْيِيدَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَنَوْعِ الِانْتِفَاعِ. ب- أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَفِيدِ مِنْهُ

6- يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَفِيدِ مِنْهُ إِلَى مِلْكٍ خَاصٍّ، وَإِلَى مِلْكٍ عَامٍّ، فَالْمِلْكُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ فَرْدًا أَمْ جَمَاعَةً.

وَأَمَّا الْمِلْكُ الْعَامُّ فَهُوَ الْمِلْكُ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِهِ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، كَمِلْكِ الْمَاءِ وَالْكَلأَِ وَالنَّارِ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ فِي الْكَلأَِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ».

ج- أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ

7- يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ إِلَى مِلْكٍ اخْتِيَارِيٍّ أَوْ قَهْرِيٍّ.

يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: الْمِلْكُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَحْصُلُ قَهْرًا كَمَا فِي الْمِيرَاثِ وَمَنَافِعِ الْوَقْفِ.

وَالثَّانِي: يَحْصُلُ بِالِاخْتِيَارِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: بِالْأَقْوَالِ، وَيَكُونُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبُيُوعِ، وَفِي غَيْرِهَا كَالْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا، وَالْوُقُوفِ إِذَا اشْتَرَطْنَا الْقَبُولَ.

وَالثَّانِي: يَحْصُلُ بِالْأَفْعَالِ كَتَنَاوُلِ الْمُبَاحَاتِ كَالِاصْطِيَادِ وَالْإِحْيَاءِ.

ثُمَّ فَرَّقَ الزَّرْكَشِيُّ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: وَمِمَّا يَتَخَالَفَانِ فِيهِ- أَعْنِي الِاخْتِيَارِيَّ وَالْقَهْرِيَّ- أَنَّ الِاخْتِيَارِيَّ يُمْلَكُ بِالْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ بِمَا فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَدَاءِ الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا الْقَهْرِيُّ كَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَلَا يُمْلَكُ حَتَّى يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، أَوْ يَرْضَى بِتَأْخِيرِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِذَلِكَ وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ.

وَمِنْهَا: أَنَّ التَّمَلُّكَ الْقَهْرِيَّ يَحْصُلُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا فِي أَمْوَالِ الْكُفَّارِ، بِخِلَافِ الِاخْتِيَارِيِّ.

وَمِنْهَا: أَنَّ التَّمَلُّكَ الْقَهْرِيَّ هَلْ يُشْرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ شُرُوطِهِ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَنَحْوِهَا؟ خِلَافٌ- كَمَا فِي الشُّفْعَةِ، يُؤْخَذُ الشِّقْصُ الَّذِي لَمْ يَرَهُ- عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالِاخْتِيَارِيُّ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَطْعًا.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِيهِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِاخْتِيَارِيِّ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا الصَّيْدُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالِاخْتِيَارِ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلِ الْأَسْبَابُ الْفِعْلِيَّةُ أَقْوَى أَمِ الْقَوْلِيَّةُ أَقْوَى؟ فَقِيلَ: الْفِعْلِيَّةُ أَقْوَى، وَقِيلَ: الْقَوْلِيَّةُ أَقْوَى.

وَقَدْ بَيَّنَ الْقَرَافِيُّ الْفَرْقَ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ فَقَالَ: الْأَسْبَابُ الْفِعْلِيَّةُ تَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ دُونَ الْقَوْلِيَّةِ.فَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِالِاصْطِيَادِ، وَالْأَرْضَ بِالْإِحْيَاءِ، فِي حِينٍ لَا يَمْلِكُ إِنْشَاءَ عُقُودِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْفِعْلِيَّةَ تَعُودُ بِالنَّفْعِ عَلَيْهِ، أَمَّا الْأَسْبَابُ الْقَوْلِيَّةُ فَإِنَّهَا مَوْضِعُ الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُغَابَنَةِ، فَقَدْ تَعُودُ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ، كَمَا أَنَّ فِيهَا طَرَفًا آخَرَ يُنَازِعُهُ وَيُجَاذِبُهُ إِلَى الْغَبْنِ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْعَقْلِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ تَحْقِيقَ مَصْلَحَتِهِ.

د- أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ السُّقُوطِ وَعَدَمِهِ

8- يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ- بِاعْتِبَارِ احْتِمَالِ سُقُوطِهِ وَعَدَمِهِ- إِلَى نَوْعَيْنِ هُمَا:

الْمِلْكُ الْمُسْتَقِرُّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِتَلَفِ الْمَحِلِّ، أَوْ تَلَفِ مُقَابِلِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ.

وَالْمِلْكُ غَيْرُ الْمُسْتَقِرِّ الَّذِي يَحْتَمِلُ ذَلِكَ كَالْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَالثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ.

أَسْبَابُ الْمِلْكِ:

9- لِلْمِلْكِ أَسْبَابُهُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيقِهِ

ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْأَشْبَاهِ أَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ هِيَ:

الْمُعَاوَضَاتُ الْمَالِيَّةُ، وَالْأَمْهَارُ، وَالْخُلْعُ، وَالْمِيرَاثُ، وَالْهِبَاتُ، وَالصَّدَقَاتُ، وَالْوَصَايَا، وَالْوَقْفُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْمُبَاحِ، وَالْإِحْيَاءُ، وَتَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ بِشَرْطِهِ، وَدِيَةُ الْقَتِيلِ يَمْلِكُهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَمِنْهَا الْغُرَّةُ يَمْلِكُهَا الْجَنِينُ فَتُورَثُ عَنْهُ، وَالْغَاصِبُ إِذَا فَعَلَ بِالْمَغْصُوبِ شَيْئًا أَزَالَ بِهِ اسْمَهُ وَعِظَمَ مَنَافِعِهِ مَلَكَهُ، وَإِذَا خُلِطَ الْمِثْلِيُّ بِمِثْلِيٍّ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ مِلْكُهُ.

وَذَكَرَ الْحَصْكَفِيُّ أَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ ثَلَاثَةٌ:

نَاقِلٌ كَبَيْعٍ وَهِبَةٍ، وَخِلَافَةٌ كَإِرْثٍ، وَأَصَالَةٌ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ حَقِيقَةً بِوَضْعِ الْيَدِ، أَوْ حُكْمًا بِالتَّهْيِئَةِ كَنَصْبِ شَبَكَةٍ لِصَيْدِ.

وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ نَقْلًا عَنِ الْكِفَايَةِ أَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ ثَمَانِيَةٌ: الْمِيرَاثُ، وَالْمُعَاوَضَاتُ، وَالْهِبَاتُ، وَالْوَصَايَا، وَالْوَقْفُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالْإِحْيَاءُ، وَالصَّدَقَاتُ.

قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: وَبَقِيَتْ أَسْبَابٌ أُخَرُ، مِنْهَا: تَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ بِشَرْطِهِ، وَمِنْهَا: دِيَةُ الْقَتِيلِ يَمْلِكُهَا أَوَّلًا ثُمَّ تُنْقَلُ لِوَرَثَتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلِذَلِكَ يُوَفَّى مِنْهَا دَيْنُهُ، وَمِنْهَا: الْجَنِينُ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْغُرَّةَ، وَمِنْهَا: خَلْطُ الْغَاصِبِ الْمَغْصُوبَ بِمَالِهِ، أَوْ بِمَالِ آخَرَ لَا يَتَمَيَّزُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ مِلْكَهُ إِيَّاهُ، وَمِنْهَا: الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّيْفَ يَمْلِكُ مَا يَأْكُلُهُ، وَهَلْ يُمْلَكُ بِالْوَضْعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ فِي الْفَمِ، أَوْ بِالْأَخْذِ، أَوْ بِالِازْدِرَادِ يَتَبَيَّنُ حُصُولُ الْمِلْكِ قَبِيلَهُ؟ أَوْجُهٌ.

الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْمِلْكِ:

تَرِدُ عَلَى الْمِلْكِ قُيُودٌ تَتَعَلَّقُ إِمَّا بِالْأَسْبَابِ أَوْ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ بِالِانْتِقَالِ، وَكَذَلِكَ الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ وَلِلْمُتَعَاقِدِ.

أَوَّلًا- الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى أَسْبَابِ الْمِلْكِ

10- تَظْهَرُ هَذِهِ الْقُيُودُ مِنْ خِلَالِ كَوْنِ أَسْبَابِ كَسْبِ الْمِلْكِ فِي الشَّرِيعَةِ مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وَلَيْسَتْ مُطْلَقَةً، وَلِذَلِكَ فَالْوَسَائِلُ الْمُحَرَّمَةُ مِنْ سَرِقَةٍ، وَغَصْبٍ، أَوِ اسْتِغْلَالٍ، أَوْ قِمَارٍ، أَوْ رِبًا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ، حَيْثُ قَطَعَتِ الشَّرِيعَةُ الطَّرِيقَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمِلْكِ، وَمَنَعَتْهَا مَنْعًا بَاتًّا، وَطَالَبَتِ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُهُمْ حَلَالًا طَيِّبًا، وَبِذَلِكَ وَرَدَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ، مِنْهَا قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.حَيْثُ مَنَعَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ الرِّضَا وَالْإِرَادَةِ.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.

وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ».

ثَانِيًا- الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمِلْكِ

11- وَضَعَتِ الشَّرِيعَةُ قُيُودًا عَلَى الْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالِ فَأَوْجَبَتْ عَلَى الْمَالِكِ:

أ- أَنْ لَا يَكُونَ مُبَذِّرًا مُسْرِفًا، وَلَا مُقَتِّرًا بَخِيلًا، قَالَ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}.

وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَجَالِ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَتَضْيِيعِ الْمَالِ بِدُونِ فَائِدَةٍ حَتَّى فِي مَجَالِ الْأَكْلِ، يَقُولُ مُحَمَّدٌ بْنِ حَسَنٍ الشَّيْبَانِيُّ: ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْءِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ مِنَ الْحَلَالِ الْإِفْسَادُ، وَالسَّرَفُ، وَالتَّقْتِيرُ...ثُمَّ السَّرَفُ فِي الطَّعَامِ أَنْوَاعٌ: وَمِنْهُ الِاسْتِكْثَارُ فِي الْمُبَاحَاتِ وَالْأَلْوَانِ.

ب- أَلاَّ يَسْتَعْمِلَ الْمَالِكُ مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، وَمِنْ ذَلِكَ حُرْمَةُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ وَاسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ لَهُمْ وَاسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

ج- وُجُوبُ الاْسْتِنْمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَعَدَمِ تَعْطِيلِ الْأَمْوَالِ حَتَّى تُؤَدِّيَ دَوْرَهَا فِي التَّدَاوُلِ وَالتَّعْمِيرِ، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي تُطَالِبُ بِالْعَمَلِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ بِصِيَغِ الْأَوَامِرِ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وَمِنَ الْأَحَادِيثِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلَا يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ».كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَا لَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الْأُمَّةِ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْحِرَفَ وَالصَّنَائِعَ وَالتِّجَارَةَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لِأَنَّ قِيَامَ الدُّنْيَا بِهَا، وَقِيَامَ الدِّينِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ الْخَلْقُ مِنْهُ أَثِمُوا، وَكَانُوا سَاعِينَ فِي إِهْلَاكِ أَنْفُسِهِمْ، لَكِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى حَثٍّ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبٍ فِيهَا.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكَسْبَ بِقَدْرِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَرِيضَةٌ.

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِنْمَاءٌ ف 10- 17).

د- عَدَمُ الْإِضْرَارِ بِالْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّخْصِ فِي اسْتِعْمَالِهِ مِلْكَهُ أَنْ يَقْصِدَ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْإِضْرَارِ بِأَحَدٍ لَا فِي مَالِهِ، وَلَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي عِرْضِهِ.

وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مُقَابَلَةُ الضَّرَرِ بِالضَّرَرِ وَالْإِتْلَافِ بِالْإِتْلَافِ، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ- وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ- يُمْنَعُ إِذَا أَدَّى إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْآخَرِينَ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْفُقَهَاءُ الْمَالِكَ مِنْ إِشْعَالِ النَّارِ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، مَا دَامَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِحْرَاقُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ الْجِيرَانِ، حَيْثُ يُعْتَبَرُ مُتَعَدِّيًا، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.

12- وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَنْعِ الْجَارِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِضْرَارُ بِالْجَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:

فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَهُمْ مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ مَا دَامَ فِيهِ قَصْدُ الْإِضْرَارِ، أَوْ كَانَ الضَّرَرُ فَاحِشًا، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ فَيُمْنَعُ، وَغَيْرُ الْفَاحِشِ الَّذِي لَا يُمْنَعُ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ، وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَكَمَا مَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِضْرَارَ بِالْأَفْرَادِ مَنَعَتِ الْإِضْرَارَ بِالْمُجْتَمَعِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَتِ الِاحْتِكَارَ وَالرِّبَا، وَالْمُتَاجَرَةَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى الْفَسَادِ.

ثَالِثًا- الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عِنْدَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ شُرُوطًا وَضَوَابِطَ، وَجَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ وَسَائِلَ الِانْتِقَالِ- كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ- فِي الرِّضَا وَالْإِرَادَةِ، بَلِ اشْتَرَطَتْ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا غَيْرَ مَشُوبٍ بِعُيُوبِ الرِّضَا وَعُيُوبِ الْإِرَادَة، مِنَ الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ وَالِاسْتِغْلَالِ وَالْإِكْرَاهِ وَالْغَلَطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَلِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ» وَقَوْلِهِ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ».

وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَحَ (رِضًا ف 13 وَمَا بَعْدَهَا).

كَذَلِكَ حَدَّدَ الْفُقَهَاءُ إِرَادَةَ الْمَالِكِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ بِالثُّلُثِ إِذَا كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ عَطَاءً وَهِبَةً، أَوْ مُحَابَاةً، أَوْ وَصِيَّةً.

ر: مُصْطَلَحَ (مَرَضُ الْمَوْتِ).

وَقَدْ قَيَّدَتِ الشَّرِيعَةُ إِرَادَةَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي فِيهَا ضَرَرٌ، أَوْ مِنْ شَأْنُهَا الضَّرَرُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُرَاجَعُ فِيهِ مُصْطَلَحُ: (حَجْرٌ، سَفَهٌ ف 26 وَمَا بَعْدَهَا). وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْمَوْتِ فَإِنَّ جَمِيعَ أَمْوَالِ الْمَيِّتِ تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ حَسَبَ قَوَاعِدِ الْفَرَائِضِ، كَمَا أَنَّ وَصِيَّتَهُ تُنَفَّذُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَتَنْتَقِلُ إِلَى الْمُوصَى إِلَيْهِمْ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (إِرْثٌ ف 14، وَصِيَّةٌ).

رَابِعًا- الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ:

أَعْطَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَلِيَّ الْأَمْرِ حَقَّ وَضْعِ قُيُودٍ عَلَى الْمِلْكِ وَمِنْ ذَلِكَ:

الْأَوَّلُ- تَقْيِيدُ الْمِلْكِ الْخَاصِّ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ

14- تُقِرُّ الشَّرِيعَةُ الْمِلْكَ لِلْأَفْرَادِ وَتَحْمِيهِ وَتَصُونَهُ، وَمِعْيَارُ تَقْيِيدِهِ فِيهَا يَقُومُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِنَّمَا تَعُمُّ الْمُجْتَمَعَ، يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ: لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ.

فَحَقُّ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِصَاحِبِهِ، وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا يَشَاءُ، إِلاَّ أَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَصُونٌ وَمُحَافَظٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، فَمُرَاعَاةُ مَصَالِحِ الْآخَرِينَ قَيْدٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُقُوقِ وَمِنْهَا الْمِلْكُ، يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ: لِأَنَّ طَلَبَ الْإِنْسَانِ لِحَظِّهِ حَيْثُ أُذِنَ لَهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ.

وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْعِ الْعَامِّ.

الثَّانِي- الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ عَلَى حَقِّ التَّمَلُّكِ:

وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مَا يَلِي:

أ- إِحْيَاءُ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ بِالْإِحْيَاءِ دُونَ إِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إِذْنُ الْإِمَامِ لِتَمَلُّكِهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِحْيَاءِ إِذْنُ الْإِمَامِ.

وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 14).

ب- تَمَلُّكُ الْمَعَادِنِ

16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ جَامِدَةً أَمْ سَائِلَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ ظَاهِرَةً أَمْ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ مِلْكًا خَاصًّا أَمْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَهِيَ مِلْكٌ لِلدَّوْلَةِ (جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ) تَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ بِتَأْجِيرِهَا لِمُدَّةِ مَعْلُومَةٍ، أَوْ إِقْطَاعِهَا لَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ.

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ، حَيْثُ لَا تُمْلَكُ عِنْدَهُمْ بِالْإِحْيَاءِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِضْرَارًا بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، فَلَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ عَلَى الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 29)

ج- الْحِمَى:

17- الْحِمَى حَيْثُ هُوَ قَيْدٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْمُوا لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا مَوَاضِعَ لِتَرْعَى فِيهَا خَيْلُ الْمُجَاهِدِينَ، وَنَعَمُ الْجِزْيَةِ وَإِبِلُ الصَّدَقَةِ وَضَوَالُّ النَّاسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ مَنْ سِوَاهُمْ.

ثُمَّ إِنَّ الْحِمَى نَفْسَهُ مُقَيَّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّوَسُّعُ فِيهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 21، وَحِمًى ف 6).

الثَّالِثُ- الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ عَلَى حَقِّ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ:

لِوَلِيِّ الْأَمْرِ الْحَقُّ فِي تَقْيِيدِ تَصَرُّفَاتِ الْمَالِكِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ دُونَ ضَرَرٍ وَلَا ضِرَارٍ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أ- التَّسْعِيرُ:

18- التَّسْعِيرُ هُوَ تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ لِلنَّاسِ سِعْرًا وَإِجْبَارُهُمْ عَلَى التَّبَايُعِ بِمَا قَدَّرَهُ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّسْعِيرِ هُوَ الْحُرْمَةُ، أَمَّا جَوَازُ التَّسْعِيرِ فَمُقَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِشُرُوطِ مُعَيَّنَةٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَسْعِيرٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا).

ب- الِاحْتِكَارُ:

19- الِاحْتِكَارُ هُوَ شِرَاءُ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ، وَحَبْسُهُ إِلَى الْغَلَاءِ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِكَارَ بِالْقُيُودِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ مَحْظُورٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِإِخْرَاجِ مَا احْتَكَرَ إِلَى السُّوقِ وَبَيْعِهِ لِلنَّاسِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٌ ف 12).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


29-المعجم الغني (اِسْتَحْسَنَ)

اِسْتَحْسَنَ- [حسن]، (فعل: سدا. متعدٍّ)، اِسْتَحْسَنَ، يَسْتَحْسِنُ، المصدر: اِسْتِحْسَانٌ.

1- "اِسْتَحْسَنَ إِجَابَتَهُ": اِعْتَبَرَهَا حَسَنَةً.

2- "لَمْ يَسْتَحْسِنْ نَتَائِجَهُ": لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الاسْتِحْسَانِ وَالرِّضَا.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


30-المعجم الغني (صَدَّقَ)

صَدَّقَ- [صدق]، (فعل: رباعي. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، صَدَّقْتُ، أُصَدِّقُ، صَدِّقْ، المصدر: تَصْدِيقٌ.

1- "صَدَّقَ أَقْوَالَهُ": اِعْتَبَرَهَا صَحِيحَةً مُطَابِقَةً لِلْحَقِيقَةِ.

2- "لَا يُصَدِّقُهُ أَحَدٌ": لَا يَأْمَنُ قَوْلَهُ أَحَدٌ.

3- "صَدَّقَ بِهِ": اِعْتَرَفَ بِصِدْقِ قَوْلِهِ.

4- "صَدَّقَ عَلَى الأَمْرِ": أَقَرَّهُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


31-المعجم الغني (كَذَّبَ)

كَذَّبَ- [كذب]، (فعل: رباعي. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، كَذَّبَ، يُكَذِّبُ، المصدر: تَكْذِيبٌ، كِذَّابٌ.

1- "كَذَّبَ أَقْوَالَهُ": اِعْتَبَرَهَا كَذِبًا، غَيْرَ صَحِيحَةٍ، خِلَافَ الوَاقِعِ.

2- "كَذَّبَهُ": نَسَبَهُ إِلَى الكَذِبِ.

3- "كَذَّبَ نَفْسَهُ": اِعْتَرَفَ بِأَنَّهُ كَذِبَ. "لَا أَثِقُ بِحُكْمِ نَفْسِي حَتَّى يُؤَيِّدَ النَّاسُ ظَنِّي أَوْ يُكَذِّبُوهُ". (أحمد أمين):

4- "كَذَّبَ بِالأَمْرِ": أَنْكَرَهُ وَجَحَدَهُ. ¨ {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]:

5- "كَذَّبَ عَنْ أَمْرٍ أَرَادَهُ": أَحْجَمَ.

6- "مَا كَذَّبَ أَنْ فَعَلَ كَذَا": أَيْ مَا لَبِثَ وَلَا أَبْطَأَ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


32-الأفعال المتداولة (اسْتَطَابَ)

اسْتَطَابَهُ: أنا لا أعمل عند الحكومة الجائرة لأنّي لا أَسْتَطِيبُ أموالَهَا. (لا أعتبرها حلالا)

الأفعال المتداولة-محمد الحيدري-صدر: 1423هـ/2002م


33-تعريفات الجرجاني (المطلقة الاعتبارية)

المطلقة الاعتبارية: هي الماهية التي اعتبرها المعتبر، ولا تحقق لها في نفس الأمر.

التعريفات-علي بن محمد الجرجاني-توفي: 816هـ/1413م


34-تاج العروس (عبر)

[عبر]: عَبَرَ الرُّؤْيَا يَعْبُرُها عَبْرًا، بالفَتْح، وعِبَارَةً، بالكسر، وعَبَّرَها تَعْبِيرًا: فَسَّرَهَا وأَخْبَرَ بما يَؤُول، كذا في المحكم وغيره، وفي الأَساس: بآخرِ ما يَؤُول إِليهِ أَمْرُهَا.

وفي البصائِرِ للمصنِّف: والتَّعْبِيرُ أَخَصُّ من التّأْوِيلِ، وفي التنزيل: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ} أَي إِن كُنْتُم تَعْبُرُونَ الرُّؤْيا، فعدّاها باللام والمعنى إِن كُنْتُم تَعْبُرُون، وعابِرِينَ وتُسَمَّى هذِهِ [اللَّامُ] لَامَ التَّعْقِيب؛ لأَنّهَا عَقَّبَت الإِضافَة، قال الجَوْهَرِيّ: أَوْصَلَ الفِعْلَ بلام كما يُقَال: إِن كنتَ للمالِ جامِعًا.

والعابِرُ: الذي يَنْظُرُ في الكِتَابِ فَيَعْبُرُه؛ أَي يَعْتَبِرُ بعضَهُ ببعض حتَّى يَقَعَ فَهمُه عليه، ولذلك قيل: عَبَرَ الرُّؤْيا، واعْتَبَرَ فلانٌ كذَا. وقيل: أُخِذَ هذا كلُّه من العِبْرِ، وهو جانِبُ النَّهْرِ، وهما عِبْرَانِ؛ لأَنّ عابِرَ الرُّؤْيَا يَتَأَمّلُ ناحِيَتَيِ الرُّؤْيَا، فيَتَفَكَّرُ في أَطرافِها، ويَتَدَبَّرُ كلّ شَيْ‌ءٍ منها، ويَمْضِي بفِكْره فيها مِن أَوّلِ ما رَأَى النائِمُ إِلى آخرِ ما رَأَى.

ورُوِي عن أَبي رَزِينٍ العُقَيْلِيّ أَنّه سمِعَ النَّبِيَّ صلَّى الله تَعالى عليه وسَلَّم يقول: «الرُّؤْيَا على رِجْلِ طائِرٍ، فإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ، فلا تَقُصَّها إِلَّا على وَادٍّ، أَو ذِي رَأْي»، لأَنّ الوادَّ لا يُحِبُّ أَن يَسْتَقْبِلَك في تَفْسِيرِهَا إِلّا بما تُحِبّ، وإِن لم يكن عالِمًا بالعِبَارَةِ لم يَعْجَلْ لكَ بما يَغُمُّكَ؛ لأَنّ تعْبِيرَه يُزِيلُهَا عمّا جَعلَها الله عليه، وأَمّا ذُو الرّأْيِ فمعناه ذُو العِلْمِ بعِبارَتِهَا، فهو يُخْبِرُك بحقيقةِ تَفْسِيرِهَا، أَو بأَقْرَبِ ما يَعْلَمُه منها، ولعلّه أَن يكونَ في تَفْسِيرِهَا مَوعِظَةٌ تَرْدَعُكَ عن قَبِيح أَنتَ عليه، أَو يكون فيها بُشْرَى فتَحْمَد الله تعالى على النِّعْمَةِ فيها. وفي الحديثِ: «الرُّؤْيَا لأَوَّلِ عابِرِ» وفي الحديث «للرُّؤْيا كُنًى وأَسْمَاءٌ، فكَنُّوهَا بكُناهَا، واعتَبِرُوهَا بأَسْمَائِهَا». وفي حديثِ ابنِ سِيرِينَ كان يَقُولُ: «إِني أَعْتَبِرُ الحَدِيثَ» أَي أُعَبِّر الرُّؤْيَا بالحَدِيثِ وأَعْتَبِرُ به، كما أَعْتَبِرُها بالقُرْآنِ في تَأْوِيلِهَا، مثل أَن يُعَبِّرَ الغُرَابَ بالرَّجلِ الفاسِقِ، والضِّلَع بالمرأَةِ؛ لأَنّ النّبِيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم سَمَّى الغُرَابَ فاسِقًا، وجعلَ المرأَةَ كالضِّلَعِ، ونحو ذلك من الكُنَى والأَسماءِ.

واسْتَعْبَرَه إِيّاهَا: سَأَلَه عَبْرَها وتَفْسيرَها.

وعَبَّرَ عمّا في نَفْسِه تَعْبِيرًا: أَعْرَبَ وبَيَّنَ.

وعَبَّرَ عنه غَيْرُه: عَيِيَ فَأَعْرَبَ عَنْهُ وتَكَلَّمَ، واللِّسَانُ يُعَبِّرُ عمّا في الضَّمِيرِ.

والاسْمُ منه العَبْرَةُ، بالفَتْح، كذا هو مضبوطٌ في بعضِ النُسخِ، وفي بعضِها بالكسر، والعِبَارَةُ، بكسرِ العينِ وفتْحِهَا.

وعِبْرُ الوَادِي، بالكسر ويُفْتَحُ عن كُرَاع: شاطِئُه وناحِيَتُه، وهما عِبْرَانِ، قال النابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ يمدح النُّعْمَانَ:

ومَا الفُرَاتُ إِذَا جَاشَتْ غَوَارِبُه *** تَرْمِي أَوَاذِيُّه العِبْرَيْنِ بالزَّبَدِ

يَومًا بأَطْيَبَ منه سَيْبَ نافِلَةٍ *** ولا يَحُولُ عَطَاءُ اليَوْمِ دُونَ غَدِ

وعَبَرَهُ؛ أَي النّهْرَ والوَادِيَ، وكذلك الطَّرِيقَ، عَبْرًا، بالفَتْح. وعُبُورًا، بالضَّمّ: قَطَعَهُ من عِبْرِهِ إِلى عِبْرِهِ، ويُقَالُ: فُلانٌ في ذلك العِبْرِ؛ أَي في ذلك الجانبِ.

ومن المَجَاز عَبَرَ القَوْمُ: ماتُوا، وهو عابِرٌ، كأَنَّه عَبَرَ سَبِيلَ الحياةِ، وفي البصائِرِ للمصنّف: كأَنَّه عَبَرَ قَنْطَرَةَ الدُّنْيَا، قال الشاعِر:

فإِنْ تَعْبُرْ فإِنّ لنَا لُمَاتٍ *** وإِن نَغْبُرْ فَنَحْنُ على نُذورِ

يقول: إِنْ مِتْنَا فَلَنَا أَقْرَانٌ، وإِنْ بَقِينَا فنَحْنُ ننتَظِرُ ما لا بُدَّ منه، كأَنَّ لنا في إِتْيَانِه نَذْرًا.

وعَبَرَ السَّبِيلَ يَعْبُرُهَا عُبُورًا: شَقَّها، ورَجُلٌ عَابِرٌ سَبِيلٍ؛ أَي مارُّ الطّرِيقِ، وهم عابِرْو سَبِيل، وعُبَّارُ سَبِيلٍ.

وقَوْلُه تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ} قيل: معناه أَن تكونَ له حاجَةٌ في المسجِدِ وبَيْتُه بالبُعْدِ، فيدخل المسجِدَ، ويَخْرُج مُسْرِعًا، وقال الأَزْهَرِيّ: إِلّا مُسَافِرِينَ؛ لأَنّ المُسَافِرَ [قد] يُعْوِزُهُ الماءُ، وقيل: إِلّا مارِّينَ في المَسْجِدِ غيرَ مُرِيدِينَ للصّلاةِ.

وعَبَرَ بهِ الماءَ عَبْرًا وعَبَّرَهُ به تعْبِيرًا: جَازَ، عن اللِّحْيَانِيّ.

وعَبَرَ الكِتَابَ يَعْبُرُه عَبْرًا، بالفَتْح: تَدَبَّرَه في نَفْسِه ولم يَرْفَعْ صَوْتَه بقِرَاءَتِه.

وعَبَرَ المَتَاعَ والدَّرَاهِمَ يَعْبُرُها عَبْرًا: نَظَر: كَمْ وَزْنُهَا؟

وما هِيَ؟.

وقال اللّحْيَانِيّ: عَبَرَ الكَبْشَ يَعْبُرُه عَبْرًا: تَرَكَ صُوفَه عليهِ سَنَةٌ، وأَكْبُشٌ عُبْرٌ، بضمّ فسكون، إِذا تُركَ صُوفُها عليها، قال الأَزهريّ: ولا أَدْرِي كيف هذا الجَمْعُ؟.

وعَبَرَ الطَّيْرَ: زَجَرَهَا، يَعْبُرُهُ، بالضَّمّ، ويَعْبِرُهُ، بالكَسْر، عَبْرًا، فيهما.

والمِعْبَرُ، بالكسرِ: ما عُبِرَ بِهِ النَّهْرُ من فُلْكٍ أَو قَنْطَرَةٍ أَو غَيْرِه.

والمَعْبَرُ، بالفتحِ: الشَّطُّ المُهَيَّأُ للعُبُورِ.

وبه سُمِّيَ المَعْبَرُ الذي هو: د، بساحِلِ بَحْرِ الهِنْدِ.

ونَاقَةٌ عبْرُ أَسْفَارٍ، وعبْرُ سَفَر، مُثَلَّثَةً: قَوِيَّةٌ على السَفَرِ تَشُقُّ ما مَرَّتْ بهِ وتُقْطَعُ الأَسْفَارُ عَلَيْهَا، وكذا رَجُلٌ عبْرُ أَسْفَارٍ، وعبْرُ سَفَرٍ: جَرِي‌ءٌ عليها ماضٍ فيها قَوِيٌّ عليها، وكذا جَمَلٌ عبْرُ أَسفارٍ وجِمَالٌ عبْرُ أَسْفَارٍ، للوَاحِدِ والجَمْعِ والمُؤَنّث، مثْل الفُلْكِ الذي لا يزال يُسَافَرُ عليها.

وجَمَلٌ عَبَّارٌ، ككَتّان، كذلك؛ أَي قَوِيٌّ على السَّيْرِ.

وعَبَّرَ الذَّهَبَ تَعْبِيرًا: وَزَنَه دِينَارًا دِينَارًا.

وقيل: عَبَّرَ الشَّيْ‌ءَ، إِذا لم يُبَالِغْ في وَزْنِهِ أَو كَيْلهِ، وتَعْبِيرُ الدَّراهِم: وَزْنُهَا جُمْلَةً بعد التَّفَارِيقِ.

والعِبْرَةُ، بالكِسْرِ: العَجَبُ، جمْعُه عِبَرٌ.

والعِبْرَةُ أَيضًا: الاعْتِبَارُ بما مَضَى، وقيل: هو الاسمُ من الاعْتِبَارِ.

واعْتَبَرَ منه: تَعَجَّبَ، وفي حديث أَبي ذَرٍّ: «فَمَا كانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟ قال: كانَتْ عِبَرًا كُلُّهَا» وهي كالمَوْعِظَةِ ممّا يَتَّعِظُ به الإِنْسَانُ ويَعمَلُ بهِ ويَعْتَبِرُ: ليستَدِلَّ بهِ على غَيْرِه.

والعَبْرَةُ، بالفَتْحِ: الدَّمْعَةُ، وقيل: هو أَن يَنْهَمِلَ الدَّمْعُ ولا يُسْمَعُ البُكاءُ، وقيل: هي الدَّمْعَةُ قبلَ أَنْ تَفِيضَ، أَو هي تَرَدُّدُ البُكَاءِ في الصَّدْرِ، أَوْ هِيَ الحُزْنُ بلا بُكَاءٍ، والصحيح الأَوّل، ومنه قوله:

وإِنّ شِفَائِي عَبْرَةٌ لوْ سَفَحْتُهَا

ومن الأَخِيرَةِ قولُهُم في عِنَايَة الرَّجُلِ بأَخِيه، وإِيثَارِه إِيّاهُ على نفسِه: «لكَ ما أَبْكِي ولا عَبْرَةَ بِي» ويُرْوَى «ولا عَبْرَةَ لِي» أَي أَبْكِي من أَجْلِكَ، ولا حُزْنَ بِي في خاصَّةِ نَفْسِي. قالَه الأَصْمَعِيّ.

الجمع: عَبَرَاتٌ، مُحَرَّكةً، وعِبَرٌ، الأَخِيرَة عن ابنِ جِنِّي.

وعَبَرَ الرَّجلُ عَبْرًا، بالفَتْح، واسْتَعْبَرَ: جَرَتْ عَبْرَتُه وحَزِنَ. وفي حديث أَبِي بَكْرٍ، رضي ‌الله‌ عنه: «أَنّه ذكَرَ النّبِيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، ثم اسْتَعْبَرَ فَبَكَى» أَي تَحَلَّبَ الدّمعُ.

وحَكَى الأَزْهَرِيُّ عن أَبي زَيْد: عَبِرَ الرَّجلُ يَعْبَرُ عَبَرًا، إِذا حَزِنَ.

وامرأَةٌ عابِرٌ، وعَبْرَى، كسَكْرَى، وعَبِرَةٌ، كفَرِحَةٍ: حَزِينَةٌ، ج: عَبَارَى، كسَكَارَى، قال الحارِثُ بنُ وَعْلَةَ الجَرْمِيُّ:

يَقُولُ ليَ النَّهْدِيُّ هل أَنْتَ مُرْدِفِي *** وكَيْفَ رِدَافُ الغَرِّ أُمُّكَ عَابِرُ

أَي ثاكِلٌ.

وعَيْنٌ عَبْرَى: باكِيَةٌ، ورَجُلٌ عَبْرانُ وعَبِرٌ، ككَتِفٍ: حَزِينٌ باكٍ.

والعُبْرُ، بالضَّمّ: سُخْنَةُ العَيْنِ، كأَنّه يَبْكي لمَا بهِ. ويُحَرَّكُ..

والعُبْرُ: الكَثِيرُ من كُلِّ شَيْ‌ءٍ، وقد غَلَب على الجَمَاعَة من النّاسِ. وقال كُرَاع: العُبْرُ: جماعةُ القومِ، هُذَلِيَّة.

وعَبَّرَ بِهِ تَعْبِيرًا: أَراهُ عُبْرَ عَيْنِه، ومعْنَى أَراه عُبْرَ عَيْنِه؛ أَي ما يُبْكِيهَا أَو يُسْخِنُهَا، قال ذُو الرُّمَّةِ:

ومِنْ أَزْمَةٍ حَصّاءَ تَطْرَحُ أَهْلَهَا *** علَى مَلَقِيَّاتٍ يُعَبَّرْنَ بالغُفْرِ

وفي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «وعُبْرُ جارَتِها» أَي أَنَّ ضَرَّتَهَا تَرَى من عِفَّتِها وجَمَالِهَا ما يُعَبِّرُ عَيْنَها؛ أَي يُبْكِيها.

وفي الأَساس: وإِنّه ليَنْظُر إِلى عُبْرِ عَيْنَيْه؛ أَي ما يَكرهه ويَبْكِي منه، كما قيل:

إِذَا ابْتَزَّ عَنْ أَوْصالِهِ الثَّوْبَ عِنْدَهَا *** رَأَى عُبْرَ عَيْنَيْهَا وما عَنْه مَخْنِسُ

أَي لا تَسْتَطِيع أَن تَخْنِس عنه.

وامْرَأَةٌ مُسْتَعْبِرَةٌ، وتُفْتَح الباءُ؛ أَي غيرُ حَظِيَّةٍ، قال القُطَامِيُّ:

لهَا رَوْضَةٌ في القَلْبِ لم تَرْعَ مِثْلَهَا *** فَرُوكٌ ولا المُسْتَعْبِراتُ الصَّلائِفُ

ومَجْلِسٌ عِبْرٌ، بالكسر والفتح: كَثِيرُ الأَهْلِ، واقتصر ابنُ دُرَيْدٍ على الفَتْح.

وقَوْمٌ عَبِيرٌ: كَثِيرٌ.

وقال الكِسَائِيُّ: أَعْبَرَ الشّاةَ إِعْبَارًا: وَفَّرَ صُوفَهَا، وذلك إِذا تَرَكَهَا عامًا لا يَجُزُّهَا، فهي مُعْبَرَةٌ، وتَيْسٌ مُعْبَرٌ: غير مَجزوزٍ، قال بِشْرُ بنُ أَبي خَازِمٍ يصف كَبْشًا:

جَزِيزُ القَفَا شَبْعانُ يَرْبِضُ حَجْرَةً *** حَدِيثُ الخِصاءِ وَارِمُ العَفْلِ مُعْبَرُ

وجَمَلٌ مُعْبَرٌ: كَثِيرُ الوَبَرِ، كأَنّ وَبَرَه وُفِّرَ عليهِ. ولا تَقُلْ أَعْبَرْتُه، قال:

أَو مُعْبَر الظَّهْرِ يُنْبِي عَنْ وَلِيَّته *** ما حَجَّ رَبَّه في الدُّنْيَا ولا اعْتَمَرَا

ومن المَجَاز: سَهْمٌ مُعْبَرٌ، وعَبِيرٌ، هكذا في النُّسخ كأَمِير، والصّوابُ عَبِرٌ، ككَتِفٍ: مَوْفُورُ الرِّيشِ كالمُعْبَرِ من الشّاءِ والإِبِلِ.

وغُلامٌ مُعْبَرٌ: كادَ يَحْتَلِمُ ولم يُخْتَنْ بَعْدُ، وكذلِك الجارِيَةُ ـ زادَه الزَّمَخْشَرِيُّ ـ قال:

فَهُوَ يُلَوِّي باللِّحَاءِ الأَقْشَرِ *** تَلْوِيَةَ الخَاتِنِ زُبَّ المُعْبَرِ

وقيل: هو الذي لم يُخْتَنْ، قارَبَ الاحْتِلامَ أَو لم يُقَارِبْ. وقال الأَزْهَرِيُّ: غُلامٌ مُعْبَرٌ، إِذا كادَ يَحْتَلِمُ ولم يُخْتَنْ، وقالوا: يَا ابنَ المُعْبَرَةِ، وهو شَتْمٌ؛ أَي العَفْلاءِ، وهو من ذلِك، زادَ الزَّمَخْشَريّ كيا ابْنَ البَظْرَاءِ.

والعُبْرُ، بالضَّمّ: قَبِيلَةٌ.

والعُبْرُ: الثَّكْلَى، كأَنَّه جَمْعُ عابِرٍ، وقد تقَدَّم.

والعُبْرُ: السَّحَائِبُ التي تَعْبُر عُبُورًا؛ أَي تَسِيرُ سَيْرًا شَدِيدًا.

والعُبْرُ: العُقَابُ، وقد قيل: إِنه العُثْرُ، بالثّاءِ المثَلَّثَة، وسيُذْكَر في موضِعِه إِنْ شَاءَ الله تعالَى.

والعِبْرُ، بالكَسْر: ما أَخَذَ على غَرْبِيّ الفُراتِ إِلى بَرِّيَّةِ العَرَبِ، نقله الصّاغانيُّ.

وبَنُو العِبْرِ: قَبِيلَةٌ، وهي غيرُ الأُولَى.

وبَناتُ عِبْرٍ، بالكسر: الكَذِبُ والباطِلُ، قال:

إِذا ما جِئْتَ جَاءَ بَناتُ عِبْرٍ *** وإِنْ وَلَّيْتَ أَسْرَعْنَ الذَّهَابَا

وأَبو بَنَاتِ عِبْر: الكَذّابُ.

والعِبْرِيُّ والعِبْرانِيُّ، بالكسر فيهما: لُغَةُ اليَهُود، وهي العِبْرانِيَّةُ.

وقالَ الفَرّاءُ: العَبَرُ، بالتَّحْرِيكِ الاعْتِبَارُ، والاسمُ منه العِبْرَةُ، بالكَسْر، قال: ومِنْهُ قَوْلُ العَرَبِ، هكذا نقله ابنُ منظُور والصّاغانِيّ: اللهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْبُرُ الدُّنْيَا ولا يَعْمُرُهَا. وفي الأَسَاس: ومنه‌حديث: «اعْبُرُوا الدُّنْيَا ولا تَعْمُرُوهَا» ثم الذي ذَكَرَه المُصَنّفُ «يَعْبُر» بالباءِ «ولا يَعْمُر» بالميم هو الذي وُجدَ في سائر النُّسخ، والأُصولِ الموجودةِ بين أَيدينا. وضَبَطَه الصّاغانِيّ وجَوَّدَه فقال: ممّن يَعْبَرُ الدُّنْيَا، بفتح الموحّدَة ولا يَعْبُرها، بضمّ الموحّدَة، وهكذا في اللّسَان أَيضًا، وذَكَرَا في مَعْنَاه: أَي ممن يَعْتَبِرُ بها ولا يَمُوتُ سَرِيعًا حتَّى يُرْضِيَكَ بالطَّاعَةِ، ونقله شيخُنَا أَيضًا، وصَوّبَ ما ضَبَطَه الصّاغانِيُّ.

وأَبُو عَبَرَةَ، أَو أَبو العَبَرِ، بالتَّحْرِيك فيهما، وعلى الثّاني اقتصر الصّاغانِيُّ والحَافِظُ. وقال الأَخِيرُ: كذَا ضَبَطَهَ الأَمِيرُ، وفي حِفْظِي أَنه بكَسْرِ العَيْنِ، واسمه أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّد بنِ عبدِ الله بنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بن عَليِّ بنِ عبدِ الله بنِ عبّاسٍ الهاشِمِيّ: هازِلٌ خَلِيعٌ، قال الصّاغانِيّ: كان يَكْتَسِب بالمُجُونِ والخَلاعَةِ، وقال الحافِظ: هو صاحِبُ النّوَادِرِ، أَحَدُ الشُّعَرَاءِ المُجَّانِ.

والعَبِيرُ: الزَّعْفَرَانُ وَحْدَه. عند أَهلِ الجاهِلِيَّة، قال الأَعْشَى:

وتَبْرُدُ بَرْدَ رِدَاءِ العَرُو *** سِ في الصَّيْفِ رَقْرَقْتَ فيهِ العَبِيرَا

وقال أَبُو ذُؤَيْب:

وسِرْبٍ تَطَلَّى بالعَبِيرِ كأَنَّه *** دِمَاءُ ظِبَاءٍ بالنُّحُورِ ذَبِيحُ

أَو العَبِيرُ: أَخْلاطٌ من الطِّيبِ يُجْمَعُ بالزَّعْفَرَانِ. وقال ابنُ الأَثِيرِ: العَبِيرُ: نَوْعٌ من الطِّيبِ ذُو لَوْنٍ يُجْمَع من أَخْلاطٍ.

قلت: وفي الحديث أَتَعْجَزُ إِحْدَاكُنّ أَن تَتَّخِذَ تُومَتَيْنِ ثم تَلْطَخَهُما بعَبِيرٍ أَو زَعْفَرَانٍ» ففي هذا الحديثِ بيانُ أَنَّ العَبِيرَ غيرُ الزَّعْفَرَانِ.

والعَبُورُ، كصَبُور: الجَذَعَةُ من الغَنَمِ أَو أَصْغَرُ. وقالَ اللِّحْيَانِيّ: العَبُورُ من الغَنَمِ: فَوْقَ الفَطِيمِ من إِناث الغَنَمِ.

وقيل: هي أَيضًا التي لم تُجَزَّ عَامَها.

الجمع: عَبَائِرُ، وحُكِيَ عن اللِّحْيَانِيّ: لي نَعْجَتانِ وثَلَاثُ عَبَائِرَ.

والعَبُورُ: الأَقْلَفُ، وهو الذي لم يُخْتَنْ، الجمع: عُبْرٌ، بالضَّمّ، قاله ابنُ الأَعرابِيّ.

والعُبَيْرَاءُ، بالضّمّ مُصَغَّرًا ممدودًا: نَبْتٌ، عن كُرَاع، حكاه مع الغُبَيْرَاءِ.

والعَوْبَرُ، كجَوْهَر: جِرْوُ الفَهْدِ، عن كُرَاع أَيضًا.

والمَعَابِيرُ: خُشُبٌ بضمتين، في السَّفِينَةِ مَنْصُوبَة يُشَدُّ إِليها الهَوْجَلُ، وهو أَصغَرُ من الأَنْجَرِ، تُحْبَس السَّفِينَةُ به، قاله الصّاغانيّ. وعابَرُ كهَاجَرَ: ابنُ أَرْفَخْشَذَ بنِ سامِ بنِ نُوحٍ عليهِ السّلامُ، إِليه اجتماعُ نِسبَةِ العَرَبِ وبَنِي إِسرائِيل، ومَن شارَكَهُم في نَسَبِهم، قاله الصّاغانِيُّ ويأْتي في «قحط» أَنَّ عَابَرَ هو ابنُ شالخ بنِ أَرْفَخْشَذ. قلْت: ويقال فيه عَيْبَرُ أَيضًا، وهو الذِي قُسِمَتْ في أَيّامِه الأَرْضُ بينَ أَوْلَادِ نُوح، ويقال: هو هُودٌ النَّبيّ عليه‌السلام، وبَيْنَه وبين صالِح النَّبِيِّ عليه‌السلام خَمْسمائة عام، وكان عُمْرُه مائَتَيْنِ وثَمَانِينَ سنةً، ودُفِن بِمكة، وهو أَبو قَحْطَان وفَالغ وكابر.

وعَبَّرَ بهِ، هذا الأَمْرُ تَعْبِيرًا: اشْتَدَّ عليهِ، قال أُسامَةُ بنُ الحارِثِ الهُذَلِيّ:

ومَا أَنَا والسَّيْرَ في متْلَفِ *** يُعَبِّرُ بالذَّكَرِ الضّابِطِ

ويروى «يُبَرِّحُ».

وعَبَّرْتُ به تَعْبِيرًا: أَهْلَكْتُه. كأَنّي أَرَيْتُه عُبْرَ عَيْنَيْه، وقد تقَدّم.

ومنه قيل: مُعَبَّر، كمُعَظَّمٍ: جَبَلٌ بالدَّهْنَاءِ بأَرْضِ تَمِيمٍ، قال الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَ به لأَنّه يُعَبِّرُ بسَالِكِه. أَي يُهْلِكُ.

وفي التَّكْمِلَة: حَبْلٌ من حِبَالِ الدَّهْنَاءِ، وضَبَطَه هكذا بالحاءِ المهملة مُجَوَّدًا، ولعلَّه الصواب، وضَبَطَه بعضُ أَئمّة النَّسَب كمُحَدِّثٍ، وأُراه مُنَاسِبًا لمَا ذَهَبَ إِليه الزَّمَخْشَرِيّ.

وقَوْسٌ مُعَبَّرَةٌ: تامَّةٌ، نقلَه الصاغانيّ.

والمُعْبَرَةُ، بالتَّخْفِيفِ؛ أَي مع ضَمّ الميمِ: النّاقَةُ التي لم تُنْتَجْ ثَلاثَ سِنِينَ، فيَكُونُ أَصْلَبَ لَهَا، نقله الصّاغانِيّ.

والعَبْرَانُ، كسَكْرَانَ: موضع، نقله الصّاغانِيُّ.

وعَبَرْتَى، بفتح الأَوّل والثّاني وسكون الثّالث وزيادة مُثَنّاة: قرية قُرْبَ النَّهْرَوَانِ، منها عبدُ السّلامِ بنُ يُوسُفَ العَبَرْتِيُّ، حَدَّثَ عن ابنِ ناصِرٍ السلاميّ وغيرِه، مات سنة 623.

والعُبْرَةُ، بالضَّمّ: خَرَزَةٌ كان يَلْبَسُهَا رَبِيعَةُ بنُ الحَرِيشِ، بمنزلة التَّاجِ، فلُقِّبِ لذلِك ذا العُبْرَةِ، نقله الصّاغانِيُّ.

ويَوْمُ العَبَراتِ، مُحَرَّكَةً: من أَيّامِهِم، م، معرُوف.

ولُغَةٌ عابِرَةٌ: جائِزَةٌ، من عَبَرَ به النَّهْرَ: جازَ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

العابِرُ: الناظِرُ في الشيْ‌ءِ.

والمُعْتَبِرُ: المُسْتَدِلُّ بالشَّيْ‌ءِ على الشَّيْ‌ءِ.

والمِعْبَرَةُ، بالكسر: سفِينَةٌ يُعْبَرُ عليها النَّهْرُ. قَاله الأَزْهَرِيُّ.

وقال ابنُ شُمَيْل: عَبَرْتُ مَتَاعِي: باعَدْتُه، والوادِي يَعْبُر السَّيْلَ عنّا؛ أَي يُبَاعِدُه.

والعُبْرِيُّ، بالضّمّ، من السِّدْرِ: ما نَبَتَ على عِبْرِ النَّهْرِ وعَظُمَ، منسوبٌ إِليه، نادِرٌ. وقيل: هو ما لَا ساقَ له منه، وإِنّما يكون ذلك فيما قارَبَ العِبْرَ. وقال يَعْقوب: العُبْريُّ والعُمْرِيُّ منه: ما شَرِبَ الماءَ، وأَنشد:

لاثٍ به الأَشَاءُ والعُبْرِيُّ

قال: والذي لا يشرب الماءَ يكونُ بَرِّيًّا، وهو الضَّالُ.

وقال أَبو زَيْدٍ: يقال للسِّدْرِ وما عَظُمَ من العَوْسَجِ: العُبْرِيُّ، والعُمْرِيُّ: القَدِيمُ من السِّدْرِ، وأَنشد قولَ ذِي الرُّمَّةِ:

قَطَعْتُ إِذَا تَجَوَّفَتِ العَوَاطِي *** ضُرُوبَ السِّدْرِ عُبْرِيًّا وضَالا

وعَبَرَ السَّفَرَ يَعْبُرُه عَبْرًا: شَقَّه، عن اللِّحْيَانِيّ.

والشِّعْرَى العَبُورُ: كَوكَبٌ نِيِّرٌ مع الجَوْزَاءِ، وقد تَقدّم في ش موضع ر، وإِنما سُمِّيَتْ عَبُورًا لأَنَّها عَبَرَت المَجَرَّةَ، وهي شامِيّةٌ، وهذا مَحَلُّ ذِكْرِهَا.

والعِبَارُ، بالكَسْر: الإِبِلُ القَوِيَّةُ على السَّيْرِ. وقال الأَصْمَعِيُّ: يقال: لقد أَسْرَعْتَ اسْتِعْبَارَكَ الدّراهِمَ؛ أَي استخْرَاجَك إِيّاها.

والعِبْرَةُ: الاعْتِبارُ بما مَضَى.

والاعْتِبَارُ: هو التَّدَبُّرُ والنَّظَرُ، وفي البصائِرِ للمصنّف: العِبْرَةُ والاعْتِبَارُ: الحالَةُ التي يُتَوَصَّلُ بها من معرفَةِ المُشَاهَد إِلى ما ليس بمُشَاهَدٍ.

وعَبْرَةُ الدَّمْعِ: جَرْيُهُ.

وعَبَرَتْ عَيْنُه، واسْتَعْبَرَتْ: دَمَعَتْ.

وحكَى الأَزْهَرِيّ عن أَبي زيد: عَبِرَ، كفَرِحَ، إِذا حَزِنَ، ومن دُعَاءِ العَرَبِ على الإِنْسَانِ: ماله سَهِرَ وعَبِرَ.

والعُبْر، بالضَّمّ: البُكَاءُ بالحُزْنِ، يقال: لأُمِّه العُبْرُ والعَبْرُ والعَبِرُ.

وجارِيَةٌ مُعْبَرَةٌ: لم تُخْفَضْ.

وعَوْبَرٌ، كجَوْهَر: مَوْضع.

والعَبْرُ، بالفَتْح: بلدٌ باليَمَن بين زَبِيدَ وعَدَنَ، قَرِيب من الساحِلِ الذي يُجْلَبُ إِليه الحَبَش.

وفي الأَزْدِ عُبْرَةُ، بالضَّمّ، وهو عَوْفُ بنُ مُنْهِبٍ. وفيها أَيضًا عُبْرَةُ بنُ زَهْرَانَ بن كَعْبٍ، ذَكرهما الصّاغانِيّ. قلتُ: والأَخيرُ جاهِلِيٌّ، ومُنْهِبٌ الذي ذكرَه هو ابنُ دَوْسٍ.

وعُبْرَةُ بنُ هَدَاد، ضَبطه الحَافِظُ.

والسَّيِّد العِبْرِيّ بالكسر، هو العَلّامَةُ بُرْهَانُ الدّينِ عُبَيْدُ الله بنُ الإِمَامِ شمْسِ الدّين مُحَمَّدِ بنِ غانِمٍ الحُسَيْنِيّ قاضِي تَبْرِيزَ، له تَصَانِيفُ تُوُفِّي بها سنة 743.

وفي الأَساسِ والبَصَائِرِ: وبنو فُلان يُعْبِرُونَ النّسَاءَ، ويَبِيعونَ الماءَ، ويَعْتَصِرُونَ العَطَاءَ. وأَحْصَى قاضِي البَدْوِ المَخْفُوضاتِ والبُظْرَ، فقال: وَجَدْتُ أَكْثَرَ العَفائِفِ مُوعَبَاتٍ، وأَكْثَرَ الفَوَاجِرِ مُعْبَرَات.

والعِبَارَةُ، بالكَسْر: الكَلامُ العَابِرُ من لِسَانِ المتكَلّم إِلى سَمْعِ السّامِع.

والعَبَّارُ، ككَتّانٍ: مُفَسِّرُ الأَحلامِ، وأَنشدَ المُبَرِّدُ في الكامِلِ:

رأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَّرْتُها *** وكُنْتُ للأَحْلَامِ عَبّارَا

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


35-الحضارة (عجائب الدنيا السبع)

عجائب الدنيا السبع: seven Wonders of the World عبارة عن سبعة أعمال فنية ومعمارية إعتبرها الإغريق والرومان إنشاءات إعجازية في العالم القديم.

ولم يبق منهاحاليا سوي الهرم الأكبر (مادة).

وعجائب الدنيا السبع الهرم الأكبروحدائق بابل المعلقة (بالعراق) (مادة).

وتمثال زيوس بأوليمبيا باليونان.

وكان قد أقيم بمعبد الإله زيوس.

والعجيبة الرابعة معبد آرتيميز بأفسوس بآسيا الصغري (بتركيا).

والخامسة مقبرة موسيلوم بآسيا الصغري.

وكولوسيس (تمثال) رودس إله الشمس بجزيرة رودس.

والسابعة فنار الإسكندرية.

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


36-الحضارة (مسيحية)

مسيحية: christianity دمر البابليون أورشايم عام 588 ق.

م.

ولجأ يهود كثيرون لمصر ولاذوا بها.

ورفضوا العودة لفلسطين عندما سمح لهم الملك الفارسي قورش عام 538ق.

م.

واستقروا بمصر وأقاموا لهم جالية وظلوا يتبعون مذهب معبد أورشليم.

وبنوا لهم معبدا أيام حم بطليموس لمصر (181 –146 ق.

م.

حيث كانوا يؤدون به طقوسهم ويقدمون فيه قرابينهم.

وظلوا حتي أغلقه الرومان لهم عام 70ق.

م.

إبان الفترة التي هدموا فيها معبد أورشليم.

وان اليهود لايختلطون بغيرهم.

لأنهم وثنيون وغير مختونين.

كما فرضوا لهم طقوسا جديدة غير التي أتاهم بها سيدنا موسي.

وانت أثر تشددا.

ويموا أنفسهم الربانيين.

وبعد ظهور المسيحية قبلت العهد القديم (التوراة) ليكون جزءا من العهد الجديد (الإنجيل) واعتبرته مقدمة له.

لأن نبوءاته إعتبرها المسيحيون الأوائل إشارات عن ظهور المخلص والبشارة بمجيء عيسي.

ويقول (أوليري) في كتابه (مسالك الثقافة الإغريقية إلي تاعلاب (ترجمة د.

تمام حسان) من أن الثقافة الإغريقية قد دخلت بالتعاليم المسيحية بعدما أثرت علي الفكر اليهودي من قبل ولاسيما علي الفكر الرواقي.

ولقد كانت رسائل القديس بطرس أثرها في التوفيق بين الثقافة الإغريقية واليهودية والمسيحية فيما بعد.

وهذا التوفيق أبرز ظهور الكنيسة المسيجية وتعاليمها الإغريقية والإنجيلية.

حتي أصبح العالم الإغريقي مسيطرا بفره علي المسيحية الأولي.

وكان اليهود يوعزون للرومان ويحرضونهم ضد المسيحيين إلا أن المسيحية أخذت تنتشر بآسيا الصغري.

وكان المسيحيون الأول قد استطاعوا إقامة أول كنيسة لهم خارج نطاق الدولة الرومانية التي كانت تضطهدهم.

فأقاموها بالرها في العراق إبان القرن الأول الميلادي.

وفي عام 313م.

منح الإمبراطور قسطنطين العفو عن المسيحيين وأظهر لهم تسامحه لكنه لم يعترف بالكنيسة إلا عام 368م.

وإبان ظهور الإسلام انت المسيحية منقسمة لعدة طوائف مذهبية شتي.

فان المصريون علي المذهب اليعقوبي الذي يقول أن للمسيح طبيعة واحدة لأن الطبيعة الإنسانية قد فنيت في الطبيعة الإلهية.

لهذا أطلق عليهم أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة.

وقال اليعقوبيون – أيضا- أن عيسي لم ين له سوي المظهر الإنساني الذي لايعطب.

وأن هذه الطبيعة المدمجة جعلت جسمه متحررا من أي عيب إنساني مماجعله خالدا.

وتعذيبه لم يصبه بألم.

لأنه كان مظهرا من التصوير والتمثيل.

وهذه المقولة المصرية قد ظهرت في القرن السادس.

وكان الإمبراطور البيزنطي جوستنيان وقتها قد حاول توحيد المسيحيين في إمبراطوريته تحت هيمنة الكنيسة الإ رثوذكسية الشرقية والتي أنشأها في القسطنطينية عاصمته.

والنساطرة وهم يتبعون مذهب نسطوربطريرك الكنيسة بالقسطنطينية ويعتقدونأن جسم المسيح قد تم الحمل فيه من السيدة مريم بمعجزة.

إلا أنه ولد إنسانا ثم هبط عليه الروح القدس.

ثم دخلت فيه الألوهية بعد ذلك.

غعيسي لم ين إلها منذ أن كان عمره شهرين أو ثلاثة كما يقول البطريق نسطور.

وكان هذا أيضا رأي كنيسة أنطاكيا بالشام التي أعلن أسقفها أن مريم ليست أم الرب.

لكنها مجرد إمرأة ومستحيل ولادة الرب من إمرأة.

وبناء علي هذا الجدل حول طبيعة عيسي الإلهية عقد مؤتمر نيسين الشهيروبعده أصبحت العقيدة المسيحية المعترف بها أن عيسي انت له طبيعتان هما الطبيعة (هيئة) الناسوتية (البشرية) والطبيعة اللاهوتية (الإلهية).

وهانات الطبيعتان إتحدتا في شخص واحد.

واعتبر أن مريم العذراء أم لطبيعة الناسوتية فقط.

حتي أن تعاليم بولس وفونيتوس تفول أن المسيح كان رجلا.

وليست مريم أم الرب أو أم الإنسان أو أم عيسي.

وهذا القول أنكره مؤتمر أفسيوس الكنسي الشهير الذي إعتبر مريم قد ولد ت رجلا.

وكانت مجرد هيكلا يمكن أن يحل الرب الكلمة به.

لهذا كان حملها له طبيعة إنسانية متصلة بالله.

ولقد حملت به دون أن تفقد عذرينها.

وأطلق النصاري وقتها علي هذا الحمل الحمل الإعجازي للعذراء ولم يكن إبنا لله.

وهذا القول الأخير يتوافق مع ماقاله القرآن نصا: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}.

لهذا جاءت رسالة محمد.

وفي الشام نري دولة الغساسنة النصاري وكان ملكهم الحارث بن جبلة يتبع الإمبراطورة تيودورا زوجة جوستيان بالقسطنطينية عام 543م.

وكان تدفع له جعلا سنويا لحماية حدود الشام.

وانت بصري عاصمة ملكه التي كانت القبائل تمر بها غادية رائحة للحجاز واليمن ومكة.

وكان يفرض عليها المكوس إلا أنه كان يتبع المذهب اليعقوبي.

وفي الحبشة دخلت المسيحية اليعقوبية ببطء في أوائل القرن الخامس.

وتحالف ملكها في إكسوم مع البيزنطيين لحماية جنوب البحر الأحمر.

لنه إستولي علي سواحل جنوب شبه الجزيرة العربية.

وكان المكيون يتخذون من العبيد الأحباش حراسا لهم للدفاع عن مكة.

إلا أنهم بسبب غلظة قريش فروا وهربوا إلي المدينة المنورة أيام الرسول وأسلموا.

وادعي المستشرقون إفكا أنهم علموا الرسول قصص الإنجيل.

وهؤلاء العبيد الأحباش لم يكن منهم من يتقن الكتابة والقراءة.

ولم يكن لهم في مكة كنيسة تجمعهم أو أساقفة يعلمونهم أو يلقنونهم تعاليمهم.

ولم يكن سادتهم بمكة يسمحون لهم بهذا.

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


37-الحضارة (تاريخ العلم)

تاريخ العلم: history of science.

لقد تطورالعلم من البداية المبكرة للإنسانية لإكتشاف الكون والتعراف عليه إلي ماهو عليه الآن من إنجازات ضخمة.

وهذا مالم يصنعه كائن آخر فوق الأرض.

واستطاعالإنسان بعقله لإستغناء عن القوة الحيوانية واستعاض عنها بقوة أكبر وهي القوة الحركية (الآلية).

فاخترع الآلة لتغنيه عن إستخدام قوة البشر كما كان مع العبيد أوتسخير الحيوانات ليدخر قواها في تربيتها وسد حاجته للحومها.

وبدأت الزراعة منذ 10 آلاف سنة.

فلقد بدأ الإنسان يزرع ويحصد وبربي الدواجن ويرعي الحيوانات.

وهذا مايتضح في آثار أريحا (مادة) وتيهواكان بوادي المكسيك.

فالعلم شكل طريقه لفهم الكون من حولنا.

لهذا أصبح العلم فروعا بحثية ومعرفية كنعددة المجالات يتناول كل شيء في حياتنا أو حولنا.

وأصبحت المعرفة واقعا نجربه أو نرشده من خلال المنطق العقلي والمفهوم العلمي وليس حسب ما نظن أو نعتقد.

فتحلل العلم من الحدسية الإفتراضية إلي ملموسات ومن التبريرية إلي إكتشافات من خلال الممارسة ومن خلال الخطأ والثواب.

فتولدت التجارب واكتشفت قوانين الكون والحياة في الوعاء الحضاري للإنسانية.

واختص بها الإنسان نفسه لايشاركه فيها شركاؤه الأحياء فوق كوكبه.

فالمعرفة التي إكتسبتها البشرية في العلوم تتراكم كلما مضي بنا الزمن وتضاف إليها معارف جديدة.

فالإمسان رغم ما بلغه من علم إلا أنه مازال يلهث بلا نهاية ليكتشف الكون والحياة.

فبينما نجده توصل لمعرفة الأعداد منذ الحضارات القديمة نجده منذ نصف قرن قد إكتشف الجينات المسببة للسرطان والكواركات التي تعتبر أقل وحدة بنائية للمادة.

فهي أصغر بكثير من الذرة والبروتونات.

فمن ثم في كل مجالات العلم سواء قديما أو حديثا يتبع نفس النظام الهدفي أو المنهج العلمي ليضاف الجديد لما هو موجود.

وقد بتوجه التنبؤ العلمي ليصف أشياء أو يتوقع أحداثا لم تقع بعد.

كما يتوقع الفلكيون ظاهرة الخسوف والكسوف أو كما توقع الكيميائي الروسي مندليف عام 1869في جدوله الدوري لترتيب العناصرفوضف فيه الخواص الكيميائيةوالطبعبة لعناصر لم تكتشف بعد.

وطوال ترة طويلة من التاريخ لم يكن للعلم تأثير كبير علي البشر.

لأن المعلومات كانت تجمع لغرض المعرفة وكان للعلم تطبيقات عملية محدودة ولم يكن له تأثير موسع علي حياتهم أو معيشتهم, حتي مجيء الثورةالصناعية في القرن 18.

أو كما هو حادث الآن.

فلقد دخلت التكنولوجيا المعاصرة حياتنا واصبحت جزء اساسيا لانستغي عته في حياتنا من خلال تكنولوجيات متعددة حتي الطعام خضع لآلياتها.

واكتشف الإنسان الميكروسكوبات وأطلع من خلالها علي عالم الميكروبات والخلايا الحية ومكوناتها من الجينات بتقنبة متطورة من الميكروسكوبات الإلكترنية والمواد.

واكتشف التلسكوبات ولاسيما التلسكوبات العملاقة فتوغل من خلالها لأعماق الكون واكتشف ما لم بره بشر من قبل من مجرات عملاقة وبلايين النجوم.

واستطاع من خلال تقنياته المتطور إرسال مركبات ومسابر فضائية جهزت بأحدث ماتوصل إليه العلم الحديث.

وتطورت أساليب المواصلات من عربات يجرها الخيول إلي طائرات أسرع من الصوت تطوي المسافات طيا.

وقضي علي الأوبئة التي كانت تحصده بالملايين من خلال الطعوم والأمصال اتوقيها أو من خلال الأدوية والشرايين والكلي الصناعية والإنسولين وأدوية السكر مما أطال أعمار البشر.

فالعلم في تنام لايعرف مداه وأصبحت عصوره قد قصرت من قرون إلي عقود.

ومن عقود إلي سنوات.

فكل عدة قرون كنا ندخل عصرا كالعصر الحجري والحديدي والبرونزي و النحاسي.

وتقلصت العصور فدخلنا في الثورة الصناعية منذ القرن 18 عصر البخار والكهرباء والميكنة حتي جاء القرن العشرون فدخلنا فيه عدة عصور متلاحقة ومتتابعة حيث شهدنا فيه الإنفجار العلمي والحضاري مما غير وجه الحياة فوق الأرض في كل المجالات.

ووصل في نصفه الثاني الإنسان للقمر وتجاوز فيه إسار جوه المحيط بالأرض لينطلق في عصر الفضاء لأول مرة قي تارسخ البشرية.

وعلي صعيد آخردخلنا عصر الإستنساخ بما له وعليه.

ولوث الإنسان بيئته حيث مشربه ومأكله وهوائه.

وأصبح يعاني من آثار هذه الملوثات القاتلة التي طالت البحر والبر والهواء مما جعل كوكبنا كوكبا عليلا.

فحاليا نحن نعيش في عصر الحضارة الشطرنجية.

ولن نعود عود علي بدء للطبيعة العذراء أو لعصر الإنسان الأول.

إلا لو دمرنا كوكبنا.

فالعلم موجود لأن البشر لديهم ميل طبيعي وفضول للمعرفة وقدرة علي تنظيم الأشياء وتسجيلها.

والسمة الفضولية تظهرها أيضا الحيوانات الأخري.

لكن الإنسان يتميز عنها بمهارة التنظيم والتسجيل لما هو كائن.

وهذا الفضول قد ظهر لدي إنسان عصر ماقبل التاريخ (انظر: فن ماقبل التاريخ).

فلقد سجل المعلومات بطريقة بدائية حيث رسم فوق جدران الكهوف ونقش الأغداد فوق العظام والصخور.

وكان قد سجل الأشكال العددية بعمل عقد من حبال الجلد.

وبإختراعه الكتابة منذ 6000 سنة ظهرت ظهر نظام مرن من تسجيل المعرفة التسجيلية.

وكان الكتاب الأوائل الذين عاشوا في بلاد مابين الرافدين بالعراق.

فنقشوا فوق ألواح الصلصال (الطين) برموز تطورت إلي اللغة المسمارية (مادة).

ولأن الصلصال يعيش طويلا.

فما زال الكثير من هذه المخطوطات الطينية موجودا حاليا.

وعرفنا من خلال هذه المخطوطات الطينية أن أهل بلاد مابين الرافدين كانوا علي علم بمباديء الحساب والفلك والكيمياء.

وكانوا يشخصون الأمراض العامة من أعراضها.

وأثناء 200 سنة بعد هذا التاريخ تطورت لديهم الرياضيات والعلوم.

وفي سنة 1000ق.

م.

أصبحت المعارف متراكمة وظهرت المكتبات الخاصة.

وفي مصر القديمة كان المصريون قد طوروا شكلا من الكتابة التصويرية (انظر: هيروغليفية) فمنذ سنة 1500 ق.

م.

ظهرت الكتابة فوق الصخور وورق البردي حيث ظهرت النصوص المدونة ببراعة مذهلة التي أظهرت عظمة حضارتهم ولاسيما في الطب والفلك والرياضيات والتناظر في بناء الأهرامات (مادة) وغيرها من البنايات الضخمة التي مازالت قائمة حتي الآن.

وفي مصرالقديمة وبلاد الرافدين كانت المعارف قد دونت للحاجة العملية لها.

فالرصد الفلكي أدي لظهور التقويم (مادة) لتنظيم مواسم الزراعة والحصاد.

وبلاد اليونان كانت مهد الحضارة الغربية.

وكانت حضارتهم نظرية ومنقولة عن حضارات قدماء المصريين وبلاد الرافدين حيث جاب فلاسفتهم بالعالم القديم ليطلعوا علي علومه وحضاراته والنظر إلي طبيعة مادة الأرض.

وسمة الحضارة الإغريقية الفلسفة التأملية فيما وراء الطبيعة (ميتافزيقيا).

والفليسوف الإغريقي طاليس Thales وتابعوه قالوا أن الأرض قرص يطفو فوق الماء وتدور في دائرة ولاتدور حول الشمس ولكن تدور حول كرة نار مركزية.

وهي مركز الكون.

وقال بعده الفليسوف الإغريقي فيثاغورث Pythagoras أن الأرض كروية.

ومنذ 2000سنة قال القليسوف الإغريقي لوسيباس Leucippus وتلميذه ديموقريطيس Democritus قالا أن كل المواد مصنوعة من ذرات لاتنقسم.

واتبع فلاسفة الإغريق أسلوب العقلانية في التفكير والسببية المنطقية لتعليل وتفسير كل شيء.

وبعد قرنين من وفاة الفليسوف الإغريقي أرسطو عام 322ٌق.

م.

تم تطور في مجال الأعداد حيث قام العالم الإغريقي إيراتوستينيس Eratosthenes بقياس محيط الأرض بما لاتخطيء حساباته عن قياسها حاليا سوي في1%.

ووضع الرياضي الإغريقي أرشميدس Archimedes أسس الميكانيكا.

وكان من رواد علم ميكانيكا السوائل Fluid Mechanics وعلم الهيدروستاتيكا Hydrostatics حيث إهتم بدراسة السوائل في حالة السكون.

واسس العالم الإغريقي ثيوفراستس Theophrastus علم النبات واهتم فيه بوصف النباتات وأنواعها وفحص عملية الإنبات بالبذور.

ولما تصاعدت قوة الرومان (مادة) بالقرن الأول ٌق.

م.

ولم يكونوا مهتمين كثيرا بالعوم الأساسية.

لكن في الإسكندرية, قام الفلكي المصري بطليموس بوضع خريطة للسماء وقع عليها مواقع الكواكب والنجوم المعروفة وقتها.

ووضع الأرض كمركز للكون.

ووضع الطبيب جالينوس Galen أبحاثه في التشريح ووظائف الأعضاء (فسيولوجيا).

وبصفة عامة لم تتقدم العلوم في الإمبراطورية الرومانية.

وأفلت المدارس الإغريقة وأغلقت عام 529م.

بسبب إنتشار المسيحية التي فرضتها روما علي معظم بلدان العالم القديم التابعة لها في مصر واليونان وآسيا الصغري والشام وأجزاء من جنوب أوربا.

ومنذ عام 500م.

ولمدة تسعة قرون حتي عام 1400م.

ظهرت خلالها الحضارتان الإسلامية (انظر: مادة إسلام) والصينية.

وخلال هذه الفترة لم يكن غرب أوربا يهتم بالفكر العلمي ولجأ للخيال والخرافات العلمية وكيفية تحويل المعادن الخسيسة للذهب وهذا ماعرف بعلم السيمياء Alchemy.

بينما ظهر تقدم الحضارتين الإسلامية بالعالم الإسلامي المترامي والصينية كحضارتين متفردتين ومنعزلتين عن الغرب.

فالصينيون القدماء حولوا الإكتشافات إلي نهايات عملية.

من التنظير للتجريب والإختراغ عكس الإغريق.

فلقد إخترعوا البوصلة عام 270 م.

والطباعة بحفر الخشب حوالي سنة 700م.

واخترعوا البارودسنة 1000م.

وبرعوا في الفلك.

فرصدوا مستعرا أعظم (إنفجار نجم) بسديم العقرب سنة 1054م.

كما برعوا في الرياضيات وتوصلوا لقيمة piسنة 600 م.

وفي الضيم رسموا أقدم خريطة للنجوم عام 940 م.

وفي العالم الإسلامي (انظر: حضارة إسلامية.

إسلام.) حيث إنتشرت الحضارة الإسلامية حتي بلغت أسبانيا بالعصور الوسطي حيث كانت إنجازاتهم الكبري.

فنجد من الرياضيين العرب محمد الخوارزمي الذي أدخل الأعداد العربية لأوربا بما فيها الصفر.

ووضع علم الجبر والمقابلة وظل إسمه يطلق علي اللوغاريثمات (الخوارزميات) والتي مفاهيمها تطبق علي الكومبيوتر حاليا.

وفي الفلك نجد العرب قد رصدوا النجوم الساطعة ووضعوها علي الخرائط الفلكية وأطلقوا عليها الأسماء العربية التي مازالت تستعمل ختي اليوم كنجوم الدبران والطاسر والدنيب.

وفي الكيمياء إخترعوا طرقا لصنع الفلزات من المعادن واختبروا جودة ونقاوة المعادن.

وأطلقوا مصطلحات منها كلمة الكيمياء alchemy والقلوي alkali.

وطوروا في الفيزياء ومن أشهر الفيزيائيين العرب إبن الهيثم وهو مصري الذي نشر كتاب المناظر في البصريات والعدسات والمرايا وغيرهما من الأجهزة التي تستخدم في البصريات.

ورفض فكرة إنبعاث الضوء من العين ولكنه أقر بأن العين تبصره عندما يقع أشعة الضوء من الوسط الخارجي عليها.

وهذا مانعرفه حاليا.

ويعزي المؤرخون الأوربيون لعودة ميلاد العلم لسقوط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطيةالتي كانت وقتها موئل للعلم والعلماء الإغريق عام 1453م.

علي يد محمد الفاتح.

فخرجوا من القسطنطسنية لأوربا بعدما ترجم التراث العربي للغات الأوربية ولاسيما بعد إختراع جوهانزبرج الطباعة.

فطبعت النسخ من هذا التراث وشاعت العلوم العربية وأمكن الحصول عليها هناك بسهولة ويسر.

وبعد ظهور وباء الطاعون (الموت الأسود) سنة 1347م.

تأخر التقدم العلمي في أوربا زهاء قرنين حتي سنة 1543م.

عندما نشر كتاب العالم البلجيكي أندرياس فازليس بعنوان (في تركيب الجسم البشري) (De Corporis Humani Fabrica).

حيث صحح فيه أفكار جالينوس منذ 1300 سنة عن تشريح جسم الإنسان ولاسيما وأن علماء المسلمين كانوا يحرمون إنتهاك حرمة الميت والعبث بجسده.

والكتاب الثاني في هذهالسنة عام 1543 وكان له دلالة كبري كان بعنوان (في ثورات الكرات السماوية) (De Revolutionibus Orbium Coelestium) للفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكس حيث رفض فيه فكرة الأرض مركز الكون كما وضعها بطليموس في القرن الأول ق.

م.

في كتابه (المجسطي) والذي ترجمه العرب.

كما بين كوبرنيكس – أيضا- أن الأرض والكواكب الأخري تدور حول الشمس.

ومنعت الكنيسة الكاثوليكية كتابه من التداول لمدة قرنين.

لكنه ظل معتقدا أن مدار الأرض كرويا وليس بيضاويا.

اكن أفكاره كانت تتعارض مع الكنيسة التي كفرته رغم صحة ماقاله.

لكن في الغعقد الأول من القرن 17 ثبت صحة كوبرنيكس ولاسيما بعد إختراع التلسكوب حيث إستخدمه جاليليو حيث كان أول شخص رأي أقمارا تدور حول كوكب المشتري ورأي وجه القمر ورسمه بالتفصيل كما رأي كوكب الزهرة يتضاءل وهو يدور حول الشمس.

واتهم جاليليو وكوبرنيكس اللذان صححا كثيرا من المفاهيم الفلكية بالهرطة و وهذا ماجعل جاليليو يتراجع عن أفكاره.

ورغم هذه المحنكمة الظالمة من البابا إلا أنه بحث القوانين التي تتحكم في سقوط الأشياء واكتشفأن تأرجح البندول ثابت في أي الإتجاهين.

وهذه الحركة البندولية إكتشف إمكانية إستخدامها في ضبط الساعات.

وقد طبقها إبنه عام 1641م.

وبعد عامين إكتشف تورشيللي البارومتر لقياس الضغط الجوي.

وفي سنة 1650 إكتشف الفيزيائي الألماني جويرك المضخة الهوائية.

فأحضر نصفي كرة برونزية.

وفرغهما من الهواء للدلالة علي قوة الضغط الجوي.

ثم أحضر مجموعتين من الأحصنة وكل مجموعة من ثمانية وحاولوا شد نصفي الكرة المفرغة من الجانبين المتقابلين.

فظلت الكرة ملتصقة تماما.

لأن الكرة مفرغة ولايوجد بها ضغط هوائي والضغط الجوي الخارجي الواقع عليها أعلي.

ولما ضخ الهواء بها إنفصلا عن بعضهما.

.

لأن الضغط الجوي بداخلها وبالخارج متعادل.

وخلال القرن 17 حدث تقدم كبير في علوم الحياة حيث إكتشفالإنجليزي وليام هارفي الدورة الدموية واكتشف العالم الهولندي أنطوني فان ليوفينهوك الكائنات الدقيقة من خلال ميكرو سكوبه الذي إخترعه.

وفي إنجلتلرا وضع روبرت بويل ألكيمياء الحديثة.

وفي فرنسا إكتشف رينيه ديكارت عدة رياضيات ووضع المذهب العقلي في العلم.

لكن كان أعظم إنجازات العلم في القرن 17 كان عام 1665م.

حيث إستطاع الفيزيائي والرياضي الإنجليزي إسحق نيوتن وضع نظريات عن طبيعة الضوء والجاذبيةالكونية التي إعتبرها تمتد في كل الكون.

وكل الأشياء تجتذب لبعضها بقوة معروفة.

والقمر مشدود في مداره بسبب الجاذبية التي تؤثر علي حركة المد والجزر بالمحيطات فوق الأرض.

وفي عصر التنوير The Age of Enlightenment.

كان نيوتن قد بين بالقرن 18 ان الطبيعة (الوجود) محكومة بقوانبن أساسية تجعلنا ننهج المنهج العلمي.

وهذا ماحرر علماء هذا القرن وجعلهم يقتربون من الطبيعة لأن الإكتشافات حررتهم من أسار السلطة الدينية وأفكار وحكمة الكتابات القديمة والتي لم تخضع للتجارب.

وهذا التوجه العقلاني والعلمي أدخل العلم في عصر السببية (الأسباب) Age of Reason أو مايقال بعصر التنوير Age of Enlightenment حيث طبق علماء القرن 18بشدة الفكر العقلي والملاحظة الواعية والتجارب لحل المسائل المختلفة.

فظهر تصنيف وتقسيمالأحياء حيث صنف العالم الطبيعي السويدي كارلوس لينويز 12 ألف نبات وحيوان حسب الترتيب للصفات.

وفي سنة 1700 م.

صنعت أول آلة بالبخار ونطور التلسكوب ليكتشف به الفلكي الإنجليزي وليام هيرسكل الكوكب أورانوس عام 1781 م.

وخلال القرن 18 لعب العلم دورا بارزا في الحياة اليومية.

فلقد ظهرت ثورة الآلة في نضاعفة الإنتاج الصناعي ومنذ القرن 19 إنتهج العلم طريق المعرفة في شتي فروعه.

ففي الكيمياء إعتبرت المادة مكونة من الذرات.

ووضع الإنجليزي جون دالتون النظريةالذرية Atomic theoryعام 1803 حيث إكتشف أن كل ذرة لها كتلة.

وهذه الذرات تظل بلا تغ يير حتي لو إتحدت مع ذرات أخري لتكوين المركبات.

كما بين أن المواد دائما تتحد معا بنسب ثابتة.

واستطاع ديمتري ماندليف Dmitry Mendeleyev إستخدم إكتشافات دالتون للذرات وسلوكهافي رسم جدوله الدوري الشهير الذي رتب فيه العناصرعام 1869.

كما شهد القرن 19 في الكيمياء تخليق الأسمدة الصناعية (المخلقة) synthetic fertilizer عام 1842بإنجلترا.

وفي عام 1846الكيميائي الألماني كريستيان شونباين Christian Schoenbein المادة المتفجرة نيترو سيلليلوزمن خليط حامضي الكبرتيك والنيتريك وغمسه بقطع من القطن وتجفيفها.

وتوصل إلي أن السيلليلوزبالقطت يتحول لمادة سريعة الإشتعال و شديدة الإنفجار.

وبنهاية القرن 19أمكن تصنيع مئات المركبات العضوية بتخليقها من مواد غير عضوية.

فصنعت الأصباغ والأسبرين.

والفيزياء خلال القرن 19كانت الأبحاث في الكهروباء والمغناطيسية التي قام بها مايكل فراداي Michael Faraday وجيمس كلارك ماكسويل James Clerk Maxwell في بريطانيا.

فلقد أثبت فراداي عام 1821أن المغناطيس المتحرك يولد كهرباء في الموصلات (الأسلاك).

ومكسويل بين أن الضوء طاقة من موجات كهرومغناطيسية.

وفي عام 1888إكتشف الفيزيائي الألماني هينريش هرتز Heinrich Hertz موجات الراديو.

والفيزيائي الألماني وليهيلم رونتجن Heinrich Hertz إكتشف أشعة (X) عام 1895.

.

وفي سنة 1897 إكتشف الفيزيائي البريطاني جوزيف طمسون Joseph J.

Thomson الإلكترون واعتبره جسيما دون ذري.

واخترع توماس إديسون Thomas Edisonبوق (ميكروفون) التليفون من حبيبات الكربون (الفحم) عام 1877.

كما إخترع الفونوجراف واللمبات الكهروبائية.

وفي علوم الأرض نجد القرن 19 قد شهد تطورا كبيرا حيث قدر عمر الأرض مابين 100000سنة ومئات الملايين من السنين.

وفي الفلك مع التطور الهائل في الأجهزة البصرية قد تحققت إكتشافات هامة.

ففي عام 1801لوحظت المذنبات ومدار كوكب أورانوس الشاذ.

فلقد توقع لفلكي الفرنسي جيان جوزيف ليفرييه Jean Joseph Leverrier أن كوكبا مجاورا لأورانوس يؤثر علي مداره.

وفد إستخدم الحسابات الرياضية.

وقد قام العالم الفلكي الألمانيجوهام جال Johann Galle في عام 1846بمساعد العالم ليفرييه بإكتشاف كوكب نبتون.

وكلن الفلكي الإيرلندي وليام بارسونز William Parsons اول من شاهدشكل المجرات الحلزونية فيما وراء نظامنا الشمسي عن طريق التلسكوب العاكس العملاق (وقتها) عام 1840.

كما شهد القرن 19 تقدما في علوم الحياء بدراسة الكائنات الدقيقة ولاسيما بعد ما حقق العالم الفرنسي لويس باستير Louis Pasteur ثورته في الطب الوقائي عام 1880 عندما بين أن بعض الأمراض سببها الجراثيم فصنع الطعوم الواقية منهالأول مرة في التاريخ ولاسيما ضد مرض السعار (الكلب) زواخترع طريقة البسترة لمنع إنتشار الجراثيم باللبن وتعقيم الأطعمة لمنع فسادها ونقلها للجراثيم المعدية.

وفي سنة 1866 إكتشف الراهب النمساوي جريجور مندل Gregor Mendel الوراثة.

وأعقيه العالم الإنجليزي تشارلز داروين Charles Darwin بإكتشافه نظرية التطور بنشره كتابه (أصل الأنواع (On (Origin of Species عام1859.

وفيه بين نظرية الإختيارالطبيعي natural selection للانواع.

وأن البشر أسلافهم من أشباه القرود.

وقد تطوروا من خلال عمليات بيلوجية.

وقد قوبلت نظريته بالمعارضة الدينية الشديدة إلا أن العلماء قبلوها وأقروا بأن التطور قد وقع فعلا رغم نكران البعض لآلية التطور.

وفي القرن العشرين ظهر العلم الحديث حيث كانت الإكتشافات والإنجازات العلمية المذهلة ولاسيما في مجالات الوراثة والطب والعلوم الإجتماعية.

ففي مطلع هذا القرن دخل علم الأحياء فترة تطور سريع في الهندسة الوراثية حيث أعيد إكنشاف نظلرية مندل عام 1900 وأعقبها أصبح علما الأحياء مقتنعين بوجود الجينات الوراثية بالكروموسومات بالخلايا الحية والتي عبارة عن خيوط تحتوي علي البروتينات والحامض النووي (جزيء دنا) (deoxyribonucleic acid (DNA) ).

وفي عام 1940 أكتشف أن دنا مأخوذة من بكتريا يمكن أو تغير الصفات الوراثية لبكتريا أخري.

فعرف أن دنا هو المركب الكيميائي الذي يصنع الجينات وهو مفتاح الوراثة.

ويعد أن قام العالمان الأمريكي جيمس واتسون James Watson والبريطاني فرانسيس كريك Francis Crick عام 1953 بوضع هيكل لجزيء دنا.

بعده أمكن للهندسة الوراثية فهم الوراثة من خلال مفاهيم كيميائية.

فوضع الجينوم genomeوهو الخريطة الجينية التي من خلالها تعرف غلماء الأحياء علي الجينات البشرية ودورها في الحياة البشرية والأمراض البشرية.

مما جعل التعرف علي الجينات المسببة للأمراض وسيلة لعلاجها عن طريق الجينات.

ونقلها من كائن حي لآخر لتغيير بعض صفاته الوراثية والقبام بعملية التهجين.

وفي الطب شهد القرن العشرين تطوراغير مسبوق وإكتشافات كبري.

فلقد إكتشف الطبيب الهولندي كريستيان إيجكمان Christiaan Eijkman أن الأمراض لاتسببها الجراثيم فقط ولن يمكن أن تكزم بسبب نقص بعض المواد في العذاء,.

فتوصل للفيتامينات.

وفي عام 1909 توصل البكتريولوجي الألماني بول إيرلخ Paul Ehrlich لأول قاتل كيماوي (مركب السلفانيلاميد) للجراثيم بدون قتل خلايا المريض.

ثم أكتشف البكتريولوجي اللريطاني ألكسندر فليمنج Alexander Fleming اعام البنسلين 1928 المضاد الحيوي ثم أعقيه المضادات الحيوية الأخري والتي تقتل البكتريا وليس لها تأثير علي قتل الفيروسات التي مازالت تكافح أمراضها الفيروسية الفاتلة بالأمصال والطعوم الحيوية حتي الآن.

كما في مرض الجدري ومرض شلل اللذين إنتهيا من فوق الخريطة الصحية العالمية تقريبا في أواخر القرن العشرين.

وتوقع العلماء إمكانية القضاء أو السيطرة علي الأوبئة عام 1980 إلا أنهم صدموا بظهور سلالات جديدة من الجراثيم المعدية مقاومة للمضادات الحيوية كجراثيم السل (الدرن) والفيروسات المسببةحمي النزيف الدموي أو نقص المناعة كالإيدز.

وفي مجال تشخيص الأمراض شهد الطب طفرة في تقنية التصوير التشخيصي كالتصوير بالرنين المغناطيسي magnetic resonance والمسح الطبقي (computed tomography).

كما أن العلماء في طريقهم للعلاج الجيني gene therapy لبعض الأمراض كمرض السكر.

وظهر التشخيص وإجراء العمليات بالمناظير وزراعة الأعضاء و تغيير صمامات القلب وتوسيع الشرايين.

وكلها كان من المستحيل إجراؤها وظهرت ممارسة الطب عن بعد telemedicine بفضل التقدم في توصيلات الألياف البصرية السريعة high-speed fiber-optic عن طريق إستخدام الإنسان الآلي وقيامه بالعملية الجراحية بغرفة العمليات والجراح في هذه الحالة يقوم بتوجيهه في حجرة مجاورة.

ويمكن عن طريق الإنترنت يقوم جراح في بلد آخر بالقيام بهذه العملية.

والإنسان الآلي يقوم بالمهمة أدق من الجراح البشري.

وشهد القرن العشرين الطبيب النمساوي سيجموند فرويد Sigmund Freud الذي وضع أسس التحليل النفسي.

وفي التكنولوجيا نجد أن مهندس الكهرباء الإيطالي جوليميو ماركوني Guglielmo Marconi قد أرسل أول إشارات راديو عبر محيط الأطلنطي عام 1901.

وكان المخترع الأمريكي لي دي فورست Lee De Forest قد إخترع عام 1906الأنبوب (الصمام) المفرغ مفتاح تشغيل نظم الراديو زالتلفزيون والكومبيوتر.

وبين سنتي 1920-1930 أخترع الأمريكي فلاديمير كوزما زوركين Vladimir Kosma Zworykin التلفزيون بالصوت والصورة.

وفي سنة 1935قام عالم الفيزياء البريطاني روبرت واتسون Robert Watson بإستخدام موجات الراديو المنعكسة (المرتدة) لتحديد موقع طائرة في حالة الطيران ز وإرتداد الإشارات الرادارية من القمروالكواكب والنجوم لتحديد بعدها من الأرض وتتبغ مساراتها.

وفي سنة 1947إخترع علماء أمريكان الترانسستورالذي يكبر التيار الكهروبائية ويوفر الطاقة وأصغر حجما في الأجهزة الكهربائية.

وما بين عامي 1950 و1960 ظهرت الكومبيوترات اصغيرة باستعنال الترانسستورات.

قصغر حجمها ووفرت الطاقة.

كما ظهرت الدوائر الإلكترونية.

وفي سنة 1971 ظهر الكومبيوتر الشخصي المحمول والشرائح المدمجة التخصصية specialized chips مما جعلها رخيصة ومنتشرة.

ومما ساعد علي إنتشاره وكود شبكة الإنترنت.

ومنذ سنة 1950 انهالت الإكتشافات والأحداث الفضائية والأقمار الصناعية.

وأرسلت روسيا سبوتنيك أول قمر صناعي عام 1957 للفضاء.

وفي نفس العام كان يوري جاجارين الروسي أول من يدور حول الأرض بالفضاء.

وفس 1969 هبط أول إنسان أمريكي فوق القمر.

وأرسلت أمريكا ما بين سنتي 1960 و1970مسابر مارينر الفضائية لإستكشاف كواكب عطارد والزهرة والمريخ.

وقد نجحت هذه المسابر في التمهيد للوصول لبقية الكواكب بالمجموعة الشمسية.

واستخدمت أمريكا مكوك الفضاء وروسيا إساخدمت سيوز للمساهمة في الإسنكشافات بالفضاء.

وفسي سنة 1900 توصل الفيزيائي الألماني ماكس بلانك Max Planck للنظرية الكمومية quantum theory والتي بينت كيف أن الجسيمات الدون ذرية تكون الذرات وكيف أن الذرات تتفاعل معا لتكوين المركبات الكيميائية.

وبعده جاء البرت إينشتين Albert Einstein وأعلن نظريتي النسبية العامة والخاصة.

وفي سنة 1934 توصل العالم الفيزيائي الإيطالي – الأمريكي إنريكو فيرمي Enrico Fermi لكيفية إرتطام نيترون بذرات العناص بما فيها عنصر اليورانيوم.

و بدون تدخل أي شحنات كهروبائية.

ففي هذه التجارب إتحدت النيترونات مع أنوية اليورانيوم.

وهذا أحدث إنشطارا نوويا أسفر عنه طاقة نووية هائلة.

والعلماء في الفيزياء يعرفون أن الذرات تتكون من 12جسيم أساسي كالكواركات quarks واللبتونات leptons.

وهذه الجسيمات الأساسية تتحد معا بطرق مختلفة مكونة لصنع مختلفالمواد المعروفة لنا.

فالتطور في فيزياء الجسيمات particle physics لها صلة بالتقدم العلمي في علم الكون.

حيث بين عام 1920 عالم الفيزياء المريكي إدوين هبل Edwin Hubble أن الكون يتمدد.

وحاليا العلماء يعتقدون في نظرية الإنفجار الكبير Big Bang Theory منذ 10 –20 بليون سنة حبث كانت بداية الكون.

ورغم هذا مازالت نظرية مولد الكون من إنفجار كبير ونهايته مثار جدل حتي الآن.

من هنا نجد أن العلوم لم تكن من صنع أمة واحدة، ولا شعب معين، ولم يكن التقدم حصيلة حضارة معاصرة، وإنما حصيلة حضارات متعاقبة على مرّ العصور وتعاقب الأزمان، ونتيجة خبرات وتجارب خلال مسيرة تأريخية طويلة.

(انظر: الإغريق.

قدماء المصريين.

مابين النهرين.

مايا.

حضارات.

فلك.

رياضيات.

سومر.

بابليون.

أنظر عصر الحديد.

عصر البرونز.

العجلة (الدولاب) ) تازينا: انظر: فن الصخور بتازينا..

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com