نتائج البحث عن (اعْتِبَارُهُمْ)
1-مرافعات قضائية (تكليف بالحضور)
تكليف بالحضور: تكليف بالحضور -تغيب عن الجلسة -دون أي عذر -محاكمة حضورية"من المقرر قانونا انه تعتبر محاكمة المتهم المبلغ بالحضور شخصيا والمتخلف عن الحضور بغير إبداء عذر مقبول محاكمة حضورية إعتبارية، ومن ثم فإن النعي على القرار المطعون فيه بمخالفته للقانون في غير محله يستوجب رفضه.
ولما كان ثابتا -في قضية الحال -أن المتهم تغيب عن الجلسة رغم استدعائه شخصيا ولم يقدم عذرا مقبولا، فإن قضاة المجلس عند اعتبارهم المحاكمة حضورية إعتبارية أحسنوا تطبيق القانون.
مرافعات قضائية
2-مرافعات قضائية (إصدار شيك بدون رصيد)
إصدار شيك بدون رصيد: إصدار شيك بدون رصيد-وجوب تحديد النقص في الرصيد -تحديد أسباب اعتبار القرار حضوري في غيبة المتهم -قصور في التسبيب-الخطأ في تطبيق القانون"إن القرار المطعون فيه قد أخطأ في قضائه لما أشار إلى أن رصيد المتهم غير كاف دون تحديد النقص أو تحديد المبلغ الذي كان موجودا بالرصيد حتى يتسنى للمحكمة العليا من بسط رقابتها في تحديد الغرامة المقررة قانونا.
2-إن قضاة المجلس لم يبينوا كيفية اعتبارهم للقرار المطعون فيه صدر حضوريا في غيبة المتهم فكان ينبغي تبيان هل أن المتهم حضر وترك قاعة الجلسة أو لم يحضر تماما وما دام أنهم لم يبرزوا سبب اعتبار القرار حضوريا في مواجهة التهم، فإنهم خالفوا القانون وعرضوا قرارهم للنقض لنقص التعليل
مرافعات قضائية
3-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الهجرين)
الهجرينهي واقعة في حضن جبل فارد جاثم على الأرض كالجمل البارك من غير عنق، تحفّ بسفوحه النّخيل من كلّ جانب، متجانف طرفه الغربيّ إلى جهة الجنوب، وطرفه الشّرقيّ إلى جهة الشّمال. وموقع الهجرين في جنبه الأيسر، تشرف على سفوحه الجنوبيّة ديار آل مساعد الكنديّين، وفي يسار سنامه ديار آل يزيد اليافعيّين، ومن فوق ديار آل يزيد آثار حصن، يقال له: حصن ابن ميمون.
وفي ضواحي الهجرين ثلاث حرار، يقال لإحداهما: حرّة ابن ميمون، وللأخرى: حرّة بدر بن ميمون، وللثّالثة: حرّة مرشد بن ميمون.
وعلى حارك ذلك الجبل بليدة صغيرة، يقال لها: المنيظرة، قليل منها يشرف على جهة الجنوب، والأكثر إنّما يشرف على جهتي الشّرق والشّمال، وفيها مسجد قديم كثير الأوقاف؛ لأنّ مساجد اندثرت هناك فتحوّلت إليه صدقاتها؛ لأنّه أقرب ما يكون إليها.
وفي جنب ذلك الجبل الشّبيه بالجمل من جهة الشّمال آثار دمّون المذكورة في قول امرىء القيس [في «الأغاني» 9 / 106]:
«تطاول اللّيل علينا دمّون *** دمّون إنّا معشر يمانون »
وإنّنا لأهلنا محبّون وهي المذكورة أيضا في قوله السّابق بعندل [من الطّويل]:
«كأنّي لم أله بدمّون ليلة *** ولم أشهد الغارات يوما بعندل »
ومتى عرفت هذا.. تقرب لك قول «القاموس»: (والهجران قريتان متقابلتان، في رأس جبل حصين قرب حضرموت، يقال لإحداهما: خيدون، وللأخرى: دمّون).
قال ابن الحائك: (وساكن خودون: الصّدف، وساكن دمّون: بنو الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار) اه
والظّاهر أنّه لم يأخذ سكنى بني الحارث عن نصّ، وإنّما استنتجه من شعر امرىء القيس، ولا دليل فيه؛ لأنّه إنّما لجأ إلى دمّون بعد ما طرده أبوه من أجل الشّعر، كما في شرح (اليوم خمر وغدا أمر) من «أمثال الميدانيّ» [2 / 417 ـ 418]، ما لم يكن ابن الحائك يعني أعقابا لامرىء القيس في هذه البلاد لم ينته خبرهم إلينا.
وقول «القاموس»: (قريتان متقابلتان) صحيح؛ لأنّ إحداهما في حضن الجبل الأيمن والأخرى في حضنه الأيسر، فهما متقابلتان في الموقع، أمّا في النّظر.. فيحول بينهما سنام الجبل، ومنه يتبيّن لك وهمه إذ قال: (في رأس الجبل) وإنّما هما في جنبيه، هذه حالتهما اليوم، أمّا في ما مضى.. فلا يبعد التّناظر؛ لاحتمال اتّصال العمارة إذ ذاك.
أمّا قوله: (قريب من حضرموت) فمن أخطائه في حدودها، وقد اضطرب كلامه وكلام «شرحه» في ذلك؛ ففي دوعن منه: (ودوعن كجوهر واد بحضرموت وهو أبعد من الهجرين).
وفي مادّة (مأرب) يوسّع حضرموت جدّا، فيقول: (إنّ مأرب في آخر جبال حضرموت). وفي (شبوة) يضيّق حدّها، ويقول: (إنّها بلد بين مأرب وحضرموت).
وجزم في وادي عمد بأنّه من حضرموت.
وذكر في مرباط أنّها من أعمال حضرموت، وهو الّذي جزم به صاحب «الخريدة»، وفي رحلة السّيّد يوسف بن عابد الفاسيّ المغربيّ ثمّ الحضرميّ ما يصرّح بأنّ مأرب من حضرموت.. إذن فما منوا به من فرط الهجرة ليس إلّا نتيجة قولهم: (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) كما هو موضّح ب «الأصل».
وفي الجزء الثّامن [ص 90] من «الإكليل»: أنّ دمّون من حصون حمير بحضرموت.
وهنا فائدة نفيسة، وهي: أنّ كلّ من ذكر طرد حجر لولده امرىء القيس ممّن رأيته يقول: إنّ السّبب في ذلك هو قوله الشّعر، وليس بمعقول؛ لأنّ الشّعر عندهم من الفضائل التي يتنافسون فيها سوقة وملوكا، لكنّ السّبب الصّحيح أنّه كان يشبّب بهرّ، وكنيتها أمّ الحويرث، وكانت زوجة والده، فلذلك طرده وهمّ بقتله من أجلها كما في (ص 181 ج 1) من «خزانة الأدب»، و (ص 539) من الجزء الأول منها.
وفي غربيّ جبل الهجرين: ساقية دمّون من أودية دوعن، وفي غربيّها مسيل واد عظيم، يقال له: وادي الغبر، ينهر إلى الكسر.
وفي غربيّ ذلك المسيل بلدة: نحوله لآل عمر بن محفوظ، وهي في سفح جبل، في حضنه إلى جهة الجنوب:
قزة آل البطاطيّ، وهم من بني قاصد، ورئيسهم بيافع بلعفيف، وآل يزيد وهم قبيلة واحدة، ولآل البطاطيّ نجدة وشجاعة، ومنهم: ناصر بن عليّ، كان يحترف بالرّبا فأثرى، وهو خال الأمير صلاح بن محمد بن عمر القعيطيّ، فزيّنت له نفسه أن يستأثر بالقزة ونخيلها وعيونها فناشب آل البطاطيّ الحرب، واستعان عليهم بأعدائهم آل محفوظ، وضمّ إليهم صعاليكا وذوبانا من الصّيعر ونهد.. فلم يقدر عليهم، واجتمعوا على حصاره، فزال من القزة إلى خريخر عند صهوره آل عجران، ولمّا كثروه.. استعان عليهم بابن أخته الأمير صلاح فأعطاه جماعة من عبيده يخفرونه، وقتلوا ولده قاسم بن ناصر بن عليّ في ثأر لهم عنده وعبيد صلاح في داره، فغضب صلاح وجمع يافع لحربهم، فوافقوه على ذلك إلّا بني أرض، وضيّق عليهم الحصار، وفي ذلك يقول شاعرهم الشّيخ ناصر بن جبران البطاطيّ:
«بركات طرّب من قتلني بااقتله *** ومن لقى في صوب، بالقي فيه صوب »
«والله ما بانسى شروع القبوله *** لو با ثمن في الدار هذا مية طوب »
ولمّا اشتدّ الحصر عليهم.. تداخل الحبيب حامد بن أحمد المحضار في آخر حياة أبيه، فسار بهم إلى الريّضة عند الأمير صلاح على أن يحكم عليهم بما شاء بعد أن تواضع هو وإياه على أن يكون الحكم بمسامحة آل البطاطي في قتيل لهم عند ناصر عليّ، وعلى أن يدفعوا خمس مئة ريال أيضا، ولمّا وصلوا فرط بني أرض والحبيب حامد أمامهم.. قال شاعرهم ابن جبران:
«يالفرط ما تستاهل التفريط *** لأنّ حبّك ما دخله السّوس »
«وأمّا الجماعه حبّوا التخليط *** لكنّنا باكيّس القنبوس »
ولمّا وصلوا الريضة.. قال:
«يا راد يا عوّاد هذي الرّيّضه *** قد ذكّرتني جمل في وادي حنين »
«والدرع والبيضه مع مولى بضه *** شلّ الثقيله يوم ضاقت بو حسين »
وأبو حسين هو الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ، يشير بذلك إلى نجدته الّتي أعان بها آل البطاطيّ حتّى خلّصوهم من حصار آل كثير، كما فصّلناها ب «الأصل»، وأشرنا إليها فيما يأتي.
وفيها كان مسكن الشّيخ يحيى بن قاسم الجهوريّ اليافعيّ، رجل شهم، لا يقدع أنفه، ولا يتقنّع من مسوأة، وله من الأعمال ما يصدّق قوله:
«بو لحم قال كسّاب الجميل *** إذا النّوائب فتح لي بابها »
«ننفق على العزّ من كثر او قليل *** ومحنة الوقت ما ندرى بها»
«إنّ الكرم يفتح ابواب السّبيل *** ويمحي اوصال بعد اكتابها»
«والبخل قايد إلى الذّلّه ذليل *** مولى الكرم همّته يعلى بها»
«والله ما قطّ يتجمّل بخيل *** وان قام في حجّه ما أوشى بها»
«قومي بني مالك الحبّ النّصيل *** جهاوره من فروع أنسابها»
«يسمع لهم في علا الوادي صهيل *** كم من بلد زوّعوا بابوابها»
«لي يحكموا على الرّكب طيّ القتيل *** إذا النّفوس أكثرت جلّابها»
«قولي ونا مسكني غلب الدّويل *** في قرية العزّ ذي نزهى بها»
وكأنّما أخذ قوله: (لي يحكموا على الركب.. إلخ) من فعل العنابس يوم الفجار؛ إذ قيدوا أنفسهم خشية الهرب، أو من قول البحتريّ [في «ديوانه» 2 / 63 من الخفيف]:
«وكأنّ الإله قال لهم في ال *** حرب كونوا حجارة أو حديدا»
وفي كلام الحبيب أحمد بن حسن العطّاس: أنّ الحبيب أبا بكر بن عبد الله العطّاس يحبّ الاستشهاد بأبيات من هذه القصيدة.
وقال لي بعض الثّقات: إنّ مسكن الشّيخ يحيى بن قاسم الجهوريّ ليس بالقزة، وإنّما هو بحصونهم أعمال القطن، وإنّما كان يتردّد إلى القزه لصهر أو صداقة. أمّا الدّويل: فلعلّه يعني به حصن سيئون، أو شبام؛ فكلّ منهما يقال له ذلك.
ومن آل البطاطيّ: أحمد بن ناصر، الموجود بالمكلّا الآن، وهو أدهى يافع وأرجحها عقلا فيما أراه اليوم، إلّا أنّه نفعيّ يؤثر مصلحة نفسه على منفعة حكومته، وربّما كان له عذر بإعراض موظّفي الحكومة بالآخرة عن إشاراته، وعدم اعتبارهم لنصائحه، وهو من أبطال بني مالك وشجعانها، حتّى لقد أغضبه حال من أحمد بن محمّد بن ريّس العجرانيّ ـ وهو خال الأمير عليّ بن صلاح وله منه وجه وكفالة فقتله أحمد بن ناصر غير حاسب لذلك حسابا، فتميّز الأمير عليّ بن صلاح من الغيظ، ولم يكن إلا أن أرسل السّيّد حسين بن حامد بأحمد بن ناصر مع ولده أبي بكر بن حسين إلى الريضة للتّرضية، فسوّيت المسألة.
وفي جنوب الهجرين أنف ممتدّ من جبل، ذاهب طولا إلى دوعن، وعليه بلدة لأناس من آل أحمد بن محفوظ، يقال لها: صيلع، وهي المذكورة في قول امرىء القيس
[من الطّويل]:
«أتاني وأصحابي على رأس صيلع *** حديث أطار النّوم عنّي وأفحما »
«أقول لعجليّ بعيد إيابه *** تبيّن وبيّن لي الحديث المجمجما»
«فقال: أبيت اللّعن عمرو وكاهل *** أباحوا حمى حجر فأصبح مسلما»
وقد ظفرت منها بضالّة منشودة؛ لأنّها مقطع النّزاع في حضرميّة امرىء القيس؛ ولذا كرّرتها ب «الأصل» اغتباطا واعتدادا بتدليلي بها؛ إذ لم يقل أحد عند ذكرها ـ لا ياقوت ولا صاحب «التّاج» ولا شارح «الأمثال» ولا غيرهم ـ: إنّها تحاذي الهجرين بحضرموت غيري، فلله الحمد.
وفي أخبار بدر بوطويرق الكثيريّ أنّه بنى صيلعا هذي في سنة (941 ه)، وأسكن فيها آل محفوظ وآل باداس المطرودين من الهجرين.
ولا يحصى من أنبتته الهجرين من الرّجال؛ إذ كانت فيهم ثالثة شبام وتريم.
ومنها آل عفيف الكنديّون؛ منهم: الصّوفيّ الجليل، الشّيخ أحمد بن سعيد بن عليّ بالوعار، والشّيخ عمر بن ميمون الكنديّ، من معاصري الشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف، والشّيخ فضل بن عبد الله بافضل، والشّيخ محمّد بن عليّ العفيف الهجرانيّ، كان من تلاميذ الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس، المتوفّى سنة (865 ه)، وكان الشّيخ محمّد هذا يعرف الاسم الأعظم.
ومن كتاب سيّره العلّامة عليّ بن حسن العطّاس ما نصّه: (إلى حضرة سيّدي الولد الأمجد الأرشد الصّادق الأودّ الأنجد الشّيخ الأكرم الفاضل المحترم عفيف الدّين وسلالة الصّالحين وبركة المسلمين عبد الله ابن سيّدي الشّيخ العفيف ابن الشّيخ عمر ابن الشّيخ عبد الله ابن الشّيخ العفيف ابن القطب الشّيخ عبد الله بن أحمد بن محمّد العفيف عفا الله عنه) اه وفي هذه الممادح ما يدلّ على أثيل مجد وعظيم فضل. وفي آل عفيف كثير من حفّاظ القرآن و «الإرشاد».
ومنهم: الشّيخ عليّ بن عمر باعفيف، جاء في «مجموع الأجداد» أنّه: (بعث بأسئلة إلى قاضي مكّة محمّد بن عبد الله بن ظهيرة، فأجابه عنها).
ومنها: آل بابصيل، وفيهم علماء أجلّاء؛ من آخرهم: مفتي الشّافعيّة بمكّة: الشّيخ محمّد سعيد بابصيل.
ومنها: آل بامخرمة، وإنّما هاجروا منها إلى عدن وإلى غيرها.
وأطال «النور السّافر» في ترجمة الشّيخ عبد الله بن أحمد بامخرمة، ثمّ استطرد إلى ترجمة ولده الصّوفيّ عمر بن عبد الله بامخرمة، ولم يفرده بالتّرجمة؛ لأنّه لم يعرف وقت وفاته، وسيأتي في سيئون أنّها سنة (952 ه)، وقد أفرد ولده العلّامة عبد الله بن عمر المتوفى سنة (972 ه) بالتّرجمة، وذكر فيها عمّه الطيّب ابن عبد الله بامخرمة.
ومن الهجرين: كان الشّيخ محمّد بن عمر باقضام بامخرمة يجتمع مع الشّيخ عبد الله بن أحمد في الأب السّادس، ولد ببلدة الهجرين، ثمّ ارتحل إلى عدن وأخذ عن إماميها: عبد الله بن أحمد بامخرمة، ومحمّد بن أحمد بافضل، ثمّ سار إلى زبيد، ثمّ عاد إلى عدن ولازم الإمام عبد الله بن أحمد بامخرمة، وولده أحمد. وإليه انتهت رئاسة العلم بعدن بعد الشّيخين: عبد الله بن أحمد بامخرمة، ومحمّد بن أحمد بافضل، إلّا أنّه كان يتساهل آخر عمره في الفتاوى، ويراعي أغراض السّلطان، وذلك ممّا عيب عليه. توفّي بعدن في سنة (952 ه).
وفي «شمس الظّهيرة» [2 / 419]: (أنّ للسّيّد محمّد بن أحمد الكاف عقبا بالهجرين، منهم: السّيّد الفاضل عليّ بن محمّد بن علويّ، المتوفّى سنة (1267 ه)، وابنا أخيه الآن: عبد الرّحمن وعلويّ، فقيهان فاضلان. وابن ابنه أحمد بن حسن بن عليّ، ذكيّ نبيه متفقّه) اه
ولقد كان سروري عظيما؛ إذ بقي إلى ساعتنا هذه من يثني عليه شيخنا المشهور في سنة (1307 ه) ممتّعا بالحواسّ والقوّة والعلم، ولم يبق ممّن ذكر فيها سواه، يخرج بمكتله صباح كلّ يوم إلى حقله فيؤدّي ما تعهّد به من الخدمة والتّنقية وإثارة الأرض على الثّيران، ثمّ يرجع ويتنظّف ويجلس في مجلس القضاء؛ لأنّه عليه بالهجرين وما قاربها منذ زمن بعيد.
وفيها جماعات من آل العطّاس، وآل الحامد، وآل باسلامة، وكثير من السّوقة.
ولا يزيد سكّانها عن ألفين وخمس مئة تقريبا، وفي تربتها من لا يحصى من الصّالحين والعلماء.
وكانت ولاية الهجرين لآل محفوظ الكنديّين، وهم من ذرّيّة آل جعفر الّذين امتدحهم الشّيخ عليّ بن عقبة الخولانيّ أثناء القرن السّابع بقصيدته السّائرة، الّتي تعدّ ـ ولا سيّما أبياتها السّتّة ـ غرّة في جبين الشّعر العربيّ، وهي [من الكامل]:
«أصبرت نفس السّوء أم لم تصبري *** بيني ومن تهوين يوم المحشر»
«إنّي امرؤ عفّ الإزار عن الخنا *** لم أغش منذ نشأت باب المنكر»
«والله ما صافحت كفّ بغيّة *** كلّا ولا نادمت شارب مسكر»
«لكن على كسب العلوم مخيّم *** وبكاي في طلب العلا وتحسّري »
«وقسمت حالاتي ثلاثا مثلما *** قد كان قسّمها أبي الشّهم السّري »
«كرم تدين له الأنام وحالة *** ظهر الحصان وحالة للمنبر»
«وتخذت أصحابا إذا نادمتهم *** لم أخش منهم من ينمّ ويفتري »
«علمي وحلمي والحصان وصارمي *** وندى يميني والعنان ودفتري »
كذا هي في حفظي، ولئن خالفت بعض ما هي عليه.. فإلى أحسن منه إن شاء الله تعالى.
وفيها ثلاثة أبيات مأخوذة من شعر الرّضيّ، وهي قوله:
«أعددتكم عونا لكلّ مكسّر *** عرضي فكنتم عون كلّ مكسّر»
«وتخذتكم لي محجرا فكأنّما *** ختل العدوّ مخاتلي من محجري »
«فلأنفضنّ الكفّ يأسا منكم *** نفض الأنامل من تراب المقبر»
وهي في «ديوان الرّضيّ» [2 / 220 ـ 221] هكذا:
«أعددتكم لدفاع كلّ ملمّة *** عنّي فكنتم عون كلّ ملمّة»
«وتخذتكم لي جنّة فكأنّما *** نظر العدوّ مقاتلي من جنّتي »
«فلأنفضنّ يديّ يأسا منكم *** نفض الأنامل من تراب الميّت »
وقد رأيت هذه الأبيات الثّلاثة في «معاهد التّنصيص» معزوّة لابن سناء الملك، وما هو إلّا وهم ظاهر؛ لأنّ قصيدة الرّضيّ الّتي منها الأبيات مشهورة؛ ومنها [في «ديوانه» 1 / 220 ـ 221 من الكامل]:
«قل للّذين بلوتهم.. فوجدتهم *** آلا وغير الآل ينقع غلّتي »
«تأبى ثمار أن تكون كريمة *** وفروع دوحتها لئام المنبت »
«لمّا رميت إليكم بمطامعي *** كثر الخلاج مقلّبا لرويّتي »
«ووقفت دونكم وقوف مقسّم *** حذر المنيّة راجي الأمنيّة»
«فلأرحلنّ رحيل لا متلهّف *** لفراقكم أبدا ولا متلفّت »
«يا ضيعة الأمل الّذي وجّهته *** طمعا إلى الأقوام بل يا ضيعتي »
وللرّضيّ في معنى هذه القصيدة كثير كالّتي منها قوله [في «ديوانه» 1 / 666 من الطّويل]:
«سأذهب عنكم غير باك عليكم *** وما لي عذر أن تفيض المدامع »
«ولا عاطفا جيدا إليكم بلهفة *** من الشّوق ما سار النّجوم الطّوالع »
«نبذتكم نبذ المخفّف رحله *** وإنّي لحبل منه بالعذر قاطع »
وكقوله [في «ديوانه» 1 / 261 من الوافر]:
«فيا ليثا دعوت به ليحمي *** حماي من العدا فاجتاح سرحي »
«ويا طبّا رجوت صلاح جسمي *** بكفّيه فزاد فساد جرحي »
ولإبراهيم بن العبّاس الصّوليّ في هذا المعنى عدّة مقاطيع، يعبث فيها بابن الزّيّات؛ منها قوله [من الطّويل]:
«وإنّي وإعدادي لدهري محمّدا *** كملتمس إطفاء نار بنافخ »
وقوله [من الطّويل]:
«وإنّي إذ أدعوك عند ملمّة *** كداعية عند القبور نصيرها»
وفي ترجمة ابن الزّيّات من «تاريخ ابن خلكان» [5 / 97] جملة منها.
وقد جاء في قصيدة ابن عقبة ذكر المراحل من الجوف إلى الهجرين، وبينها ذكر منصح، ولعلّها الّتي يقول امرؤ القيس بن عانس السّكونيّ في ذكر روضتها [من الطّويل]:
«ألا ليت شعري هل أرى الورد مرّة *** يطالب سربا موكلا بغرار»
«أمام رعيل أو بروضة منصح *** أبادر أنعاما وأجل صوار»
«وهل أشربن كأسا بلذّة شارب *** مشعشعة أو من صريح عقار»
«إذا ما جرت في العظم خلت دبيبها *** دبيب صغار النّمل وهي سواري »
وقد تكون هذه الرّوضة في داخل حضرموت، بأمارة أنّها لبني وكيعة الكنديّين وهم من وسط حضرموت، وابن عانس من أسفلها فتكون غير التي ذكرها ابن عقبة إذن.
واسم ملك آل محفوظ لذلك العهد: محفوظ، عرفناه من قصّته مع الشّيخ عبد الرّحمن جدّ الشّيخ عبد الله بن محمّد القديم عبّاد ـ الآتية في الغرفة إن شاء الله ـ ومن اسمه نفهم أنّ آل جعفر ممدوحي ابن عقبة بتلك القصيدة هم آل محفوظ.
ثمّ خلفهم على الهجرين آل فارس النّهديّون، وقد ذكرنا ب «الأصل» من أخبارهم مع آل كثير وآل يمانيّ وآل سعد وغيرهم ما شاء الله أن نذكر.
ثمّ تغلّب عليها يافع كسائر بلاد حضرموت في سنة (1117 ه).
وفي آل عقبة الخولانيّين كثير من العلماء والشّعراء؛ منهم الشّيخ أحمد بن عقبة الزّياديّ الخولانيّ الهجرانيّ، أحد مشايخ الإمام محمّد بن مسعود باشكيل.
وفي حدود سنة (1276 ه) قدم الشّيخ عمر بن سالم بن مساعد من بقايا آل محفوظ الكنديّين ـ وقيل: إنّه من آل بامطرف ـ بدراهم كثيرة، فحدّثته نفسه بملك آبائه، وتمنّى أن يخضع آل يزيد اليافعيّين السّاكنين بأعلى الهجرين، حتّى لقد ورده الشّيخ صالح باوزير في جملة الوفود الّتي تتابعت لتهنئته، فأكرم مثواه، وأطال معه السّمر، ولم يزل يتسقّطه الكلام ليرى ما قدره مع ثروته في نفس الشّيخ صالح، فقال له: (إنّك لفوق القبيليّ ودون السّلطان) فلم يقتنع بذلك، وجفاه ولم يقابله بعدها، فمرّ في خروجه على جماعة يتراجزون في شبوانيّ لهم، فقال:
«يا بن مساعد قال صالح نعنبوك *** يا الله متى الهوّاك في دارك يهوك »
«ولعاد باتنفع مياتك واللّكوك *** باتصبح الّا عند بامهلس تحوك »
والّا بعوره عند صالح بادكوك
وذهب الشّيخ صالح باوزير لطيّته، وبقي الشّيخ عمر بن مساعد يساور الأحلام والآمال، حتّى لجأ إلى آل عبد الله الكثيريّين بسيئون فنهضوا معه، ولم يزالوا يوالون التّجهيزات حتّى استولوا على الهجرين في سنة (1285 ه) ـ ومعلوم أنّ الهجرين مفتاح دوعن بأسره ـ ثمّ حطّوا على قزة آل البطاطيّ فانكسروا دونها؛ لنجدة جاءت لأهلها من الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ بالشّحر، فطردوا من حواليها من أصحاب الدّولة الكثيريّة، وتراجعت فلولهم إلى الهجرين.
ثمّ لم يحسن المآل بين الشّيخ عمر بن سالم بن مساعد والدّولة الكثيريّة؛ لأنّه استنفد أكثر ما في يده وعرف أنّ الدّولة لن تعطيه شيئا ممّا يتمنّاه، وتحقّق استبدادهم عند رسوخ أقدامهم، فاتّفق مع القعيطيّ وفتح له الطّريق فاقتحموها، وحصروا بها الأمير الكثيريّ ـ وهو صالح بن مطلق ـ حتّى سلّم بشرط أن يتحمّل بما معه ممّا تقدر عليه الجمال، ولهذا بقي بها مدفع الدّولة إلى اليوم؛ لأنّه لم يدخل تحت الشّرط.
وقد وفّى السّلطان القعيطيّ للشّيخ عمر بن سالم بن مساعد بما اشترطه عليه، والأخبار في ذلك طويلة شيّقة، وهي مستوفاة ب «الأصل».
وفيه: أنّ آل محفوظ عدّة قبائل؛ منهم آل عمر بن محفوظ أهل نحولة، وآل أحمد بن محفوظ أهل صيلع، وآل عجران منهم آل مرشد وآل ريّس وآل الشّيبة، ومنهم: آل عبد الله بن محفوظ رهط الشّيخ عمر بن مساعد السّالف الذّكر.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
4-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (شهود يهوه-النصرانية وما تفرع عنها من مذاهب)
شهود يَهْوَهالتعريف:
هي منظمة عالمية دينية وسياسية، تقوم على سرية التنظيم وعلنية الفكرة، ظهرت في أمريكا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكما تدعي أنها مسيحية، والواقع يؤكد أنها واقعة تحت سيطرة اليهود وتعمل لحسابهم، وهي تعرف باسم (جمعية العالم الجديد) إلى جانب (شهود يهوه) الذي عرفت به ابتداء من سنة 1931م وقد اعترف بها رسميًا في أمريكا قبل ظهورها بهذا الاسم وذلك سنة 1884م.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
أسسها سنة 1874م الراهب تشارلز راسل 1862 – 1916م وكانت تعرف آنذاك باسم مذهب الراسلية أو الراسليين نسبة إلى مؤسسها كما عرفت باسم الدارسون الجدد للإنجيل. وعرفت بعد ذلك باسم جمعية برج المراقبة والتوراة والكراريس Watch Tower Bible and Tract Society ثم استقر الأمر أخيرًا وعرفت باسم يهوه نسبة إلى يَهْوَه إله بني إسرائيل على ما تردد توراتهم، (راجع سفر الخروج6: 2–4) "وكلم الله موسى قال له أنا الرب. أنا الذي تجليت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب إلهًا قادرًا على كل شيء وأما اسمي يهوه فلم أعلنه لهم".
ثم خلفه في رئاسة المنظمة فرانكلين رذرفورد 1869 – 1942م الذي ألف سنة 1917م كتاب سقوط بابل ويرمز ببابل لكل الأنظمة الموجودة في العالم.
ثم جاء نارثان هرمر كنور 1905م وفي عهده أصبحت المنظمة دولة داخل الدولة كما يقال.
الأفكار والمعتقدات:
إشاعة الفوضى الخلقية والتحلل من جميع الفضائل الإنسانية التي حثت عليها التعاليم الدينية.
يؤمنون بيهوه إلهًا لهم وبعيسى رئيسًا لمملكة الله.
يؤمنون بالكتاب المقدس للنصارى ولكنهم يفسرونه حسب مصالحهم.
الطاعة العمياء لرؤسائهم.
يستغلون اسم المسيح والكتاب المقدس للوصول إلى هدفهم وهو: إقامة دولة دينية دنيوية للسيطرة على العالم.
تهيئة النفوس لإقامة الدولة اليهودية الكبرى.
نفي الحساب والعقاب في الآخرة فلا إثم على من يقترف ذنبًا أو معصية في دنياه.
لا يؤمنون بالآخرة ولا بجهنم ويعتقدون بأن الجنة ستكون في الدنيا في مملكتهم.
يعتقدون بقرب قيام حرب تحريرية يقودها عيسى وهم جنوده يزيحون بها جميع حكام الأرض.
يقتطفون من الكتاب المقدس الأجزاء التي تحبب إسرائيل واليهود إلى الناس ويقومون بنشرها.
لا يؤمنون بالروح وبخلودها ولهم معابد خاصة بهم يسمونها القاعة الملكية أو بيت الرب.
الأخوة الإنسانية مقتصرة عليهم دون سواهم من البشر.
يعادون النظم الوضعية ويدعون إلى التمرد، ويعادون الأديان إلا اليهودية، وجميع رؤسائهم يهود.
إشاعة الفوضى العالمية بتحريض الشعوب على التمرد على حكوماتهم وشق عصا الطاعة عليها ومقاطعة جميع النشاطات الرسمية في الدولة ويبررون ذلك بما جاء في كتابهم الأخضر "ليكن الله صادقًا بأنهم سفراء الله في ملكوته المقدس، ومن ثمَّ فهم يتمتعون بحصانة تعفيهم من الخضوع للحكومات المدنية أيًا كانت مقوماتها".
يعترفون بقداسة الكتب التي تعترف بها اليهودية وتقدسها وهي 19 كتابًا.
يقولون بالتثليث ويفسرونه بـ (يهوه، الابن، الروح القدس).
يمر العضو فيها بمراحل معقدة ويخضع الالتحاق بها إلى شروط قاسية، وتنتظم عضوية جمعية شهود يهوه ثلاث مراتب:
أعضاء الرجاء السماوي: وهم أعضاء الإدارة العليا ويرأسهم العبد العظيم أو الحكيم ويعرف مقره ببيت "إيل" أي بيت الله.
صف جلعاد أو الرجاء الأرضي: ويشمل من الأعضاء الرواد والمعاونين ونظار المناطق، وهؤلاء هم أعضاء الإدارة التنفيذية.
المبشرون: ويعرف أعضاؤها بالخدم، وتضم هذه المرتبة الشهود وهم الأعضاء المكلفون بتوزيع مطبوعات الجمعية ورسائلها.
شعاراتهم ورموزهم:
تبني المينورا وهي الشمعدان السباعي الذي هو رمز اليهود الديني والوطني.
تبني النجمة السداسية وهي رمز لليهود كذلك.
تبني اسم يهوه ويكتبونه بالعبرية وهو "الإله" عند اليهود.
من كتب المنظمة:
تنطق باسمهم مجلة كانت تصدر تحت اسم برج مراقبة صهيون ثم عدلوها إلى: برج المراقبة لإخفاء كلمة صهيون.
هذا الخبر الجيد عن المملكة (المقصود مملكتهم المأمولة).
الأساس في الإيمان بعالم جديد.
لقد اقترب علاج الأمم.
العيش بأمل نظام عادل جديد.
الجذور الفكرية والعقائدية:
يمكن اعتبارهم فرقة مسيحية منفردة بفهم خاص إلا أنهم واقعون تحت سيطرة اليهود بشكل واضح ويتبنون العقائد اليهودية في الجملة ويعملون لأهداف اليهود.
تأثروا بأفكار الفلاسفة القدامى واليونانيين منهم بخاصة.
لهم علاقة وطيدة بإسرائيل وبالمنظمات اليهودية العالمية كالماسونية.
لهم علاقة تعاون مع المنظمات التبشيرية والمنظمات الشيوعية والاشتراكية الدولية.
لهم علاقة كبيرة مع أهل النفوذ من اليونانيين والأرمن.
الانتشار ومواقع النفوذ:
لا تكاد تخلو دولة في العالم من نشاط لهذه المنظمة السرية الخطرة.
مركزهم الرئيسي في أمريكا – حي بروكلين بنيويورك: 124 Columbia Heights.
(i) Brooklyn 1. New York - USA
وصل عدد البلدان التي يزاولون فيها نشاطهم سنة 1955م إلى 158 دولة وكان عددهم آنذاك 632929 عضوًا وعدد دعاتهم 1814 داعية فكم يكون إذن عددهم الآن؟ وقد فطنت بعض الدول إلى خطورتهم فمنعت نشاطهم وتعقبتهم ومن هذه الدول: سنغافورة، لبنان، ساحل العاج، الفلبين، العراق، النرويج، الكاميرون، الصين، تركيا، سويسرا، رومانيا، هولندا.. وما يزالون ينشطون في هذه الدول بطريقتهم الخاصة السرية. أما في إفريقيا والدول الإسلامية فغالبًا ما يكون نشاطهم بالتعاون مع المنظمات التبشيرية.
طريقتهم في العمل:
يرون أنه ثبت بالدليل أن عددًا كبيرًا من الناس لا يحضرون إلى المعابد، وأن أكثر من نصف الناس في بعض البلدان لا ينتمون إلى طائفة من الطوائف الدينية، وأن ملايين من المنتمين إلى الطوائف الدينية لا يحضرون عبادتهم ولا يريدون أن يستمعوا إلى رجال الدين. فعملت شهود يهوه على أن تخفي نفسها تحت أستار أنها فرقة مسيحية تطوف بالبيوت والمقاهي والأندية العامة والطرقات، حاملة الكتب والمنشورات، تعرض فيها تعاليمها بحماسة مدعية أنها حاملة رسالة دين جديد يجمع تحت لوائه أهل الأديان كافة، تتظاهر بعدم معاداة أحد أو أية طائفة من الطوائف. كما عملت على عدم الاحتفاظ بأسماء أعضائها واكتفت فقط بحفظ ناشري مطبوعاتها ونشراتها وعملت – أيضًا – على عدم الإعلان عمن يساعدها بالأموال في أداء مهامها.
يصدرون آلاف الكتب والنشرات والصحف ويوزعونها مجانًا مما يدل على قوة رصيدهم المالي.
لهم مدارس خاصة بهم ومزارع ودور صحافة ودور نشر.. ولكل منها إدارة خاصة بها.
لهم مكاتب للترجمة والتأليف ولجان دينية عليا لتفسير الكتاب المقدس وفق مصلحتهم.
لهم تعاون كبير مع المنظمات المماثلة التي تعمل لصالح اليهود.
تستفيد هذه المنظمة من أعضائها في أعمال الاستخبارات والجاسوسية والدعاية.
ويتضح مما سبق:
إن منظمة شهود يهوه تدعي المسيحية وتوالي اليهودية وتعادي الإسلام وهي من المنظمات المشبوهة التي يلزم وقف نشاطاتها في أي بلد إسلامي – إن وجد - وعدم السماح بتداول مطبوعاتها ومجلاتها تحت أي مسمى كان ويكفي أن علاقتهم وطيدة بإسرائيل وأن روابطهم وثيقة بعملاء التنصير.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
5-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (المهاريشية-الأديان الشرقية)
المهاريشيةالتعريف:
المهاريشية نحلة هندوسية دهرية ملحدة، انتقلت إلى أمريكا وأوروبا متخذة ثوبًا عصريًّا من الأفكار التي لم تخف حقيقتها الأصلية، وهي تدعو إلى طقوس كهنوتية من التأمل التصاعدي (التجاوزي) بغية تحصيل السعادة الروحية، وهناك دلائل تشير إلى صلتها بالماسونية والصهيونية التي تسعى إلى تحطيم القيم والمثل الدينية وإشاعة الفوضى الفكرية والعقائدية والأخلاقية بين الناس.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
مؤسسها فقير هندوسي لمع نجمه في الستينات واسمه مهاريشي – ماهيش – يوجي انتقل من الهند ليعيش في أمريكا ناشرًا أفكاره بين الشباب الضائع الذي يبحث عن المتعة الروحية بعد أن أنهكته الحياة المادية الصاخبة.
بقي في أمريكا مدة 13 سنة حيث التحق بركب نحلته الكثيرون، ومن ثم رحل لينشر فكرته في أوروبا وفي مختلف بلدان العالم.
في عام 1981م انتسب إلى هذه الفرقة ابن روكفلر عمدة نيويورك السابق وخصص لها جزءً من أمواله يدفعها سنويًّا لهذه الحركة، ومعروف انتماء هذه الأسرة اليهودية إلى الحركة الصهيونية والمؤسسات الماسونية.
الأفكار والمعتقدات:
لا يؤمن أفراد هذه النحلة بالله سبحانه وتعالى، ولا يعرفون إلا المهاريشي إلهًا وسيدًا للعالم.
لا يؤمنون بدين من الأديان السماوية، ويكفرون بجميع العقائد والمذاهب، ولا يعرفون التزامًا بعقيدة إلا بالمهاريشية التي تمنحهم الطاقة الروحية – على حد زعمهم – وهم يرددون: لا رب.. لا دين.
لا يؤمنون بشيء اسمه الآخرة أو الجنة أو النار أو الحساب.. ولا يهمهم أن يعرفوا مصيرهم بعد الموت لأنهم يقفون عند حدود متع الحياة الدنيا لا غير.
حقيقتهم الإلحاد، لكنهم يظهرون للناس أهدافًا براقة لتكون ستارًا يخفون بها تلك الحقيقة. فمن ذلك أنهم يدعون إلى التحالف من أجل المعرفة أو علم الذكاء الخلاق ويفسرون ذلك على النحو التالي:
علم: من حيث دعوتهم إلى البحث المنهجي التجريبي.
الذكاء: من حيث الصفة الأساسية للوجود متمثلًا في هدف ونظام للتغيير.
الخلاق: من حيث الوسائل القوية القادرة على إحداث التغييرات في كل زمان ومكان.
وهم يصلون إلى ذلك عن طريق (التأمل التجاوزي) الذي يأخذ بأيديهم – كما يعتقدون- إلى إدراك غير محدود.
(التأملات التجاوزية) تتحقق عن طريق الاسترخاء، وإطلاق عنان الفكر والضمير والوجدان حتى يشعر الإنسان منهم براحة عميقة تنساب داخله، ويستمر في حالته الصامتة تلك حتى يجد حلاًّ للعقبات والمشكلات التي تعترض طريقه، وليحقق بذلك السعادة المنشودة.
يخضع المنتسب للتدريب على هذه التأملات التصاعدية خلال أربع جلسات موزعًا على أربعة أيام، وكل جلسة مدتها نصف ساعة.
ينطلق الشخص بعد ذلك ليمارس تأملاته بمفرده على أن لا تقل كل جلسة عن عشرين دقيقة صباحًا ومثلها مساءً كل يوم وبانتظام.
من الممكن أن يقوموا بذلك بشكل جماعي، ومن الممكن أن يقوم به عمال في مصنع رغبةً في تجاوز إرهاقات العمل وزيادة الإنتاج.
يحيطون تأملاتهم بجو من الطقوس الكهنوتية مما يجعلها جذابة للشباب الغربي الغارق في المادة والذي يبحث عما يلبي له أشواقه الروحية.
ينطلقون في الشوارع يقرعون الطبول، وينشدون، دون إحساس بشيء اسمه الخجل أو العيب أو القيم، ويرسلون شعورهم ولحاهم، ولعل بعضهم يكون حليق الرأس على نحو شاذ، وهيئتهم رثة، كل ذلك جذبًا للأنظار، وتعبيرًا عن تحللهم من كل القيود.
استعاض المهاريشية عن النبوة والوحي بتأملاتهم الذاتية، واستعاضوا عن الله بالراحة النفسية التي يجدونها، وبذلك أسقطوا عن اعتبارهم مدلولات النبوة والوحي والألوهية.
يطلقون العنان لشبابهم وشاباتهم لممارسة كل أنواع الميول الجنسية الشاذة والمنحرفة، إذ إن ذلك- كما يعتقدون – يحقق لهم أعلى مستوى من السعادة. وقد وجد بينهم ما يسمى بالبانكرز وما يسمى بالجنس الثالث.
يدعون شبابهم إلى عدم العمل، وإلى ترك الدراسة، وإلى التخلي عن الارتباط بأرض أو وطن، فلا يوجد لديهم إلا عقيدة المهاريشي، فهي العمل وهي الدراسة وهي الأرض وهي الوطن.
عدم إلزام النفس بأي قيد يحول بينها وبين ممارسة نوازعها الحيوانية الطبيعية.
يحثون شبابهم على استخدام المخدرات كالماريجوانا والأفيون حتى تنطلق نفوسهم من عقالها سابحة في بحر من السعادة الموهومة.
يلزمون أتباعهم بالطاعة العمياء للمهاريشي وعدم الخضوع إلاّ له إذ إنه هو الوحيد الذي يمكنه أن يفعل أي شيء.
يلخصون أهدافهم ومجالات عملهم بسبع نقاط براقة تضفي على حركتهم جوًّا من الروح العلمية الإنسانية العالمية وهي أهداف لا يكاد يكون لها وجود في أرض الواقع وهي:
1- تطوير كل إمكانات الفرد.
2- تحسين الإنجازات الحكومية.
3- تحقيق أعلى مستوى تعليمي.
4- التخلص من كل المشكلات القديمة للجريمة والشر، ومن كل سلوك يؤدي إلى تعاسة الإنسانية.
5- زيادة الاستغلال الذكي للبيئة.
6- تحقيق الطموحات الاقتصادية للفرد والمجتمع.
7- إحراز هدف روحي للإنسانية.
أما وسائلهم المعتمدة لتحقيق هذه الأفكار فهي:
1- افتتاح الجامعات في الأرياف والمدن.
2- نشر دراسات عن علم الذكاء الخلاق والدعوة إلى تطبيقها على المستوى الفردي والحكومي والتعليمي والاجتماعي وفي مختلف البيئات.
3- إيجاد تلفزيون ملون عالمي لبث التعاليم من عدة مراكز في العالم.
الجذور الفكرية والعقائدية:
إنها ديانة هندوسية مصبوغة بصبغة عصرية جديدة من الحرية والانطلاق.
إنها مزيج من اليوغا ومن الرياضات المعروفة عند الهندوس.
خالطت معتقداتها طقوس صوفية بوذية هندية.
تأثر مذهبهم بنظرية أفلوطين الإسكندري في الفلسفة الإشراقية.
إن استشراف الحق عن طريق التأمل الذاتي نظرية قديمة في الفلسفة اليونانية وقد بعثت هذه النظرية من جديد على يد ماكس ميلر، وهربرت سبنسر، وبرجسون، وديكارت، وجيفونس، وأوجست، وغيرهم.
كان لفلسفة فرويد ونظريته في التحليل النفسي ولآرائه في الكبت وطرق التخلص منه النصيب الوافر في معتقدات هذه النحلة التي راحت تبحث عن سعادتها عن طريق الإرواء الجنسي بشتى صوره.
الانتشار ومواقع النفوذ:
مؤسسها هندوسي لم يجد له مكانًا في الهند لمضايقة الهندوس له لخوفهم من استقطابه الأتباع بسبب إتباعه سياسة الانفتاح الجنسي.
انتقل إلى أمريكا وأنشأ جامعة في كاليفورنيا، ومن ثم انتقل إلى أوروبا وصار له أتباع فيها، ورحل بحركته إلى أفريقيا ليقيم لها أرضية في ساليسبورغ، ووصلت دعوته إلى الخليج العربي ومصر حيث يزرع الأتباع هنا وهناك ويتحرك فوق ثروة مالية هائلة.
وتملك المهاريشية إمكانيات مادية رهيبة تدعو إلى التساؤل والاستغراب، وتشير إلى الأيدي الصهيونية والماسونية التي تقف وراءها مستفيدة من تدميرها لأخلاق وقيم الأمم.
في عام 1971م أنشأ زعيمهم جامعة كبيرة في كاليفورنيا سماها (جامعة المهاريش العالمية) ويقول بأنه فعل ذلك بعد أن أحس بتقبل مذهبه في أكثر من 600 كلية وجامعة في أنحاء العالم.
وفي عام 1974م أُعلن عن قيام الحكومة العالمية لعصر الانبثاق برئاسة مهاريشي – ماهيشي – يوجي ومقرها سويسرا كما أن لهذه الدولة دستورًا ووزراءً وأتباعًا وثروة طائلة واستثمارات في مختلف أنحاء العالم.
في كانون الأول 1978م ادعوا بأن حكومتهم المهاريشية قد أرسلت إلى إسرائيل بعثة من 400 محافظ ليقيموا دورة هناك لثلاثمائة رجل حتى تجعل الشعب أكثر اجتماعية وأقل حدةً وتوترًا.
يعتبر عام 1978م عام السلام لديهم حيث إنهم قد أعلنوا أنه لن تقهر أمة في العالم بعد ذلك. وقد دعوا في ذلك العام إلى عقد مؤتمر في ساليسبورغ لتكوين نظام عدم القهر لأية أمة، كما أسس فيه المجلس النيابي لعصر الانبثاق.
كتبهم ومطبوعاتهم تكتب بماء الذهب، وهم يمتلكون أكبر المصانع والعقارات في أوروبا، وقد اشتروا قصر برج مونتمور في بريطانيا لتأسيس عاصمتهم الجديدة هناك.
يحرصون دائمًا على اعتبار مؤسستهم مؤسسة خيرية معفاة من الضرائب على الرغم من غناهم الفاحش.
يخدم مع المهاريشي سبعة آلاف خبير، ويشتري هذا المهاريشي، الفقير أصلًا، عشرات القصور الفارهة فمن أين له ذلك؟
إن اليهودية قد وجدت فيها خير وسيلة لنشر الانحلال والفوضى بين البشر فتبنتها ووقفت وراءها مسخرة لها الأموال والصحافة وعقدت لها المناقشات لطرح نظريتها والدعوة إليها.
وصل بعضهم إلى دبي وعقدوا اجتماعًا في فندق حياة ريجنسي يدعون فيها علانية لمذهبهم وقد ألقي القبض على هؤلاء الأشخاص الأربعة الذين قدموا إليها بتأشيرة سياحية ثم أُبعدوا عن البلاد.
وصل بعضهم إلى الكويت وتقدموا بطلب للحصول على ترخيص لهم باعتبارهم مؤسسة خيرية غير تجارية، وقد نشروا في الصحافة الكويتية أكثر من مقال وبث لهم التلفزيون الكويتي بعض المقابلات قبل أن تتضح أهدافهم الحقيقية.
نظموا دورة لموظفي وزارة المواصلات في الكويت في فندق هيلتون وقد دعوا الموظفين أثناء الدورة إلى مراجعة مواريثهم العقائدية والفكرية.
طُرد المهاريشي من ألمانيا بعد أن ظهر أثره السيئ على الشباب.
نشرت رابطة العالم الإسلامي في مكة بيانًا أوضحت فيه خطر هذا المذهب على الإسلام والمسلمين مؤكدة ارتباطه بالدوائر الماسونية والصهيونية.
ويتضح مما سبق:
أن المهاريشية دين هندوسي وضعي دهري ملحد، لا يعترف بالآخرة، ويدعو إلى إلغاء كافة العقائد والأديان السابقة، ويطالب التخلي عن كل القيود والتعاليم الخلقية، ويسعى لاستقطاب الشباب وإغراقه في متاهات التأمل التجاوزي والانحلال الجنسي والسقوط فريسة سهل للمخدرات.
والحقيقة أن المهاريشية ما هي إلا ضلالة جديدة انتهزت فرصة إخفاق النصرانية في احتواء الشباب، وظهور صرعات الهيبيز والخنافس وأبناء الزهور، فتقدمت لتملأ الفراغ، تحت وهم جلب الراحة النفسية ومطاردة موجات القلق والاضطراب، عن طريق الرياضات الروحية، بعيدًا عن طريق الوحي والنبوات.
ولا يستبعد أن تكون ذراعًا جديدًا للماسونية، ويرى الكثيرون في ماهيش يوغي مؤسس المهاريشية أنه راسبوتين العصر، لطابع الدجل والاستغلال والانحراف الذي يتحلى به.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
6-معجم دمشق التاريخي (محكمة الميدان)
محكمة الميدان: كانت في ميدان الحصى [حيّ الميدان التحتاني اليوم]، وفي أواخر القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي عرف قضاتها بضعفهم وعدم اعتبارهم.معجم دمشق التاريخي-قتيبة الشهابي-صدر: 1420هـ/1999م
7-موسوعة الفقه الكويتية (احتراف)
احْتِرَافٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِاحْتِرَافُ فِي اللُّغَةِ: الِاكْتِسَابُ، أَوْ طَلَبُ حِرْفَةٍ لِلْكَسْبِ.وَالْحِرْفَةُ كُلُّ مَا اشْتَغَلَ بِهِ الْإِنْسَانُ وَاشْتُهِرَ بِهِ، فَيَقُولُونَ حِرْفَةُ فُلَانٍ كَذَا، يُرِيدُونَ دَأْبَهُ وَدَيْدَنَهُ.وَهِيَ بِهَذَا تُرَادِفُ كَلِمَتَيْ صَنْعَةَ، وَعَمَلٍ.أَمَّا الِامْتِهَانُ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ احْتِرَافٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمِهْنَةِ يُرَادِفُ مَعْنَى الْحِرْفَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرَادُ بِهِ حِذْقُ الْعَمَلِ.وَيُوَافِقُ الْفُقَهَاءُ اللُّغَوِيِّينَ فِي هَذَا، فَيُطْلِقُونَ الِاحْتِرَافَ عَلَى مُزَاوَلَةِ الْحِرْفَةِ وَعَلَى الِاكْتِسَابِ نَفْسِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الصِّنَاعَةُ:
2- الِاحْتِرَافُ يَفْتَرِقُ عَنِ «الصِّنَاعَةِ» لِأَنَّهَا عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ تَرْتِيبُ الْعَمَلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عِلْمٌ بِهِ، وَبِمَا يُوَصِّلُ إِلَى الْمُرَادِ مِنْهُ وَلِذَا قِيلَ لِلنَّجَّارِ صَانِعٌ وَلَا يُقَالُ لِلتَّاجِرِ صَانِعٌ.فَلَا يَشْتَرِطُونَ فِي الصِّنَاعَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا الشَّخْصُ دَأْبَهُ وَدَيْدَنَهُ، وَيَخُصُّ الْفُقَهَاءُ، كَلِمَةَ «صِنَاعَةٍ» بِالْحِرَفِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِيهَا الْآلَةُ، فَقَالُوا: الصِّنَاعَةُ مَا كَانَ بِآلَةٍ.
ب- الْعَمَلُ.
3- يَفْتَرِقُ الِاحْتِرَافُ عَنِ الْعَمَلِ، بِأَنَّ الْعَمَلَ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ سَوَاءٌ حَذَقَهُ الْإِنْسَانُ أَوْ لَمْ يَحْذِقْهُ، اتَّخَذَهُ دَيْدَنًا لَهُ أَوْ لَمْ يَتَّخِذْهُ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: الْعَمَلُ الْمِهْنَةُ وَالْفِعْلُ.وَغَالِبُ اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ إِطْلَاقُ الْعَمَلِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الِاحْتِرَافِ وَالصَّنْعَةِ، كَمَا أَنَّ الِاحْتِرَافَ أَعَمُّ مِنَ الصَّنْعَةِ.
ج- الِاكْتِسَابُ أَوِ الْكَسْبُ:
4- يَفْتَرِقُ مَعْنَى الِاحْتِرَافِ عَنْ مَعْنَى الِاكْتِسَابِ أَوِ الْكَسْبِ، بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنَ الِاحْتِرَافِ، لِأَنَّهُمَا عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا يَتَحَرَّاهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا فِيهِ اجْتِلَابُ نَفْعٍ وَتَحْصِيلُ حَظٍّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَجْعَلَهُ الشَّخْصُ دَأْبَهُ وَدَيْدَنَهُ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الِاحْتِرَافِ، وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الِاكْتِسَابَ أَوِ الْكَسْبَ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَالِ بِمَا حَلَّ أَوْ حَرُمَ مِنَ الْأَسْبَابِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِاحْتِرَافٍ أَوْ بِغَيْرِ احْتِرَافٍ، كَمَا يُطْلِقُونَ الْكَسْبَ عَلَى الْحَاصِلِ بِالِاكْتِسَابِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ إِجْمَالًا:
5- الِاحْتِرَافُ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْعُمُومِ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهُ.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
تَصْنِيفُ الْحِرَفِ:
6- تُصَنَّفُ الْحِرَفُ إِلَى صِنْفَيْنِ: الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: حِرَفٌ شَرِيفَةٌ، وَالصِّنْفُ الثَّانِي حِرَفٌ دَنِيئَةٌ.وَالْأَصْلُ فِي هَذَا التَّصْنِيفِ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنِّي وَهَبْتُ لِخَالَتِي غُلَامًا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَارَكَ لَهَا فِيهِ.فَقُلْتُ لَهَا: لَا تُسَلِّمِيهِ حَجَّامًا، وَلَا صَائِغًا، وَلَا قَصَّابًا».
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الصَّائِغُ رُبَّمَا كَانَ مِنْ صُنْعِهِ شَيْءٌ لِلرِّجَالِ وَهُوَ حَرَامٌ، أَوْ كَانَ مِنْ آنِيَةٍ وَهِيَ حَرَامٌ، أَمَّا الْقَصَّابُ فَلِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى ثَوْبِهِ وَبَدَنِهِ مَعَ تَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْعَرَبُ أَكْفَاءٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِلاَّ حَائِكًا أَوْ حَجَّامًا».قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَكَيْفَ تَأْخُذُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَنْتَ تُضَعِّفُهُ؟ قَالَ: الْعَمَلُ عَلَيْهِ.
تَفَاوُتُ الْحِرَفِ الشَّرِيفَةِ فِيمَا بَيْنَهَا:
7- فَاضَلَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْحِرَفِ الشَّرِيفَةِ لِاعْتِبَارَاتٍ ذَكَرُوهَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ الْحِرَفِ الْعِلْمُ وَمَا آلَ إِلَيْهِ، كَالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُدَرِّسَ كُفْءٌ لِبِنْتِ الْأَمِيرِ.وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ الْكَسْبِ الْغَنَائِمُ إِذَا سَلِمَ مِنَ الْغُلُولِ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَتْلُوهُ فِي الْفَضْلِ.
هَذَا وَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ كَلَامًا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْحِرَفِ الشَّرِيفَةِ، مِنْ عِلْمٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ.إِلَخْ وَلَهُمْ فِي اتِّجَاهَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ فِيمَا هُوَ أَشْرَفُ اسْتِدْلَالٌ بِأَحَادِيثَ وَوُجُوهٌ مِنَ الْمَعْقُولِ ظَنِّيَّةُ الْوُرُودِ أَوِ الدَّلَالَةِ، وَلَعَلَّ فِي آرَائِهِمْ تِلْكَ مُرَاعَاةً لِبَعْضِ الْأَعْرَافِ وَالْمُلَابَسَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً فِي زَمَانِهِمْ، وَنَجْتَزِئُ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ عَنْ إِيرَادِ الِاتِّجَاهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْحِرَفُ الدَّنِيئَةُ:
8- لَقَدْ حَرَصَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْدِيدِ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ لِيَبْقَى مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْحِرَفِ شَرِيفًا.فَقَالُوا: الْحِرَفُ الدَّنِيئَةُ هِيَ كُلُّ حِرْفَةٍ دَلَّتْ مُلَابَسَتُهَا عَلَى انْحِطَاطِ الْمُرُوءَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِهِمُ الْحِرَفَ الْمُحَرَّمَةَ، كَاحْتِرَافِ الزِّنَا وَبَيْعِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، حِرَفًا دَنِيئَةً كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ سَلَكَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ- فِيمَا عَدَا الْمُحَرَّمَةِ مِنْهَا- مَسْلَكَيْنِ:
الْأَوَّلُ: تَحْدِيدُهَا بِالضَّابِطِ، وَمِنْهُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ كُلَّ حِرْفَةٍ فِيهَا مُبَاشَرَةُ نَجَاسَةٍ هِيَ حِرْفَةٌ دَنِيئَةٌ.الثَّانِيَ: تَحْدِيدَهَا بِالْعُرْفِ، وَهُوَ مَسْلَكُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا، وَاجْتَهَدُوا اسْتِنَادًا إِلَى الْأَعْرَافِ السَّائِدَةِ فِي عُصُورِهِمْ فِي تَحْدِيدِ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ.
هَذَا، وَإِنَّ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ وَصْفِ بَعْضِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْحِرَفِ بِالدَّنَاءَةِ- تَبَعًا لِأَوْضَاعٍ زَمَنِيَّةٍ- فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ تَزُولُ كَرَاهَةُ الِاحْتِرَافِ بِحِرْفَةٍ دَنِيئَةٍ إِذَا كَانَ احْتِرَافُهَا لِلْقِيَامِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، إِذْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ بَلَدٍ جَمِيعُ الصَّنَائِعِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا.
التَّحَوُّلُ مِنْ حِرْفَةٍ إِلَى حِرْفَةٍ:
9- قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: يُسْتَحَبُّ إِذَا وَجَدَ الْخَيْرَ فِي نَوْعٍ مِنَ التِّجَارَةِ أَنْ يَلْزَمَهُ، وَإِنْ قَصَدَ إِلَى جِهَةٍ مِنَ التِّجَارَةِ فَلَمْ يُقْسَمْ لَهُ فِيهَا رِزْقُهُ، عَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا: «إِذَا رُزِقَ أَحَدُكُمْ فِي الْوَجْهِ مِنَ التِّجَارَةِ فَلْيَلْزَمْهُ»
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنِ اتَّجَرَ فِي شَيْءٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يُصِبْ فِيهِ فَلْيَتَحَوَّلْ إِلَى غَيْرِهِ.وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَنِ اتَّجَرَ فِي شَيْءٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُصِبْ فِيهِ، فَلْيَتَحَوَّلْ إِلَى غَيْرِهِ.
وَلَكِنْ هَلْ لِهَذَا التَّحَوُّلِ أَثَرٌ فِي الْكَفَاءَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحِرْفَةِ؟ (ر: كَفَاءَةٌ.نِكَاحٌ)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلِاحْتِرَافِ تَفْصِيلًا:
10- أ- يُنْدَبُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَخْتَارَ حِرْفَةً لِكَسْبِ رِزْقِهِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنِّي لأَرَى الرَّجُلَ فَيُعْجِبُنِي، فَأَقُولُ: لَهُ حِرْفَةٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، سَقَطَ مِنْ عَيْنِي.
ب- وَيَجِبُ- عَلَى الْكِفَايَةِ- أَنْ يَتَوَفَّرَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أُصُولُ الْحِرَفِ جَمِيعِهَا، احْتِيجَ إِلَيْهَا أَوْ لَا.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرُهُمْ كَالْغَزَالِيِّ، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنَّهُ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إِلاَّ بِهَا.
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ احْتِرَافَ بَعْضِ الْحِرَفِ يُصْبِحُ فَرْضَ كِفَايَةٍ إِذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا، فَإِنِ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِمَا يَجْلِبُونَهُ أَوْ يُجْلَبُ إِلَيْهِمْ فَقَدْ سَقَطَ وُجُوبُ احْتِرَافِهَا.فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُحْتَرِفُونَ عَنِ الْقِيَامِ بِهَذَا الْفَرْضِ أَجْبَرَهُمُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ بِعِوَضِ الْمِثْلِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مَتَى لَمْ يَقُمْ بِهَا إِلاَّ إِنْسَانٌ بِعَيْنِهِ صَارَتْ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ غَيْرُهُ عَاجِزًا عَنْهَا، فَإِذَا كَانَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إِلَى فِلَاحَةِ قَوْمٍ أَوْ نِسَاجَتِهِمْ أَوْ بِنَائِهِمْ صَارَ هَذَا الْعَمَلُ وَاجِبًا يُجْبِرُهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَيْهِ إِذَا امْتَنَعُوا عَنْهُ بِعِوَضِ الْمِثْلِ، وَلَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِزِيَادَةٍ عَنْ عِوَضِ الْمِثْلِ.
11- ج- وَلَمَّا كَانَ إِقَامَةُ الصِّنَاعَاتِ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَانَ تَوْفِيرُ الْمُحْتَرِفِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ فَرْضًا، لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ مَا مُفَادُهُ: يَجِبُ أَنْ يُسَلِّمَ الْوَلِيُّ الصَّغِيرَ لِذِي حِرْفَةٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ الْحِرْفَةَ.وَرَغْمَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الْوَلِيِّ الصَّغِيرَ إِلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ الْحِرْفَةَ إِلاَّ أَنَّ كَلَامَهُمْ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
حُكْمُ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ:
12- د- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَكَاسِبَ غَيْرَ الْمُحَرَّمَةِ كُلُّهَا فِي الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ.وَلَكِنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ تَكْتَنِفُهَا الْكَرَاهَةُ إِذَا اخْتَارَ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ حِرْفَةً دَنِيئَةً إِنْ وَسِعَهُ احْتِرَافُ مَا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهَا.وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: مَكْسَبَةٌ فِيهَا بَعْضُ الدَّنَاءَةِ خَيْرٌ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ.وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ تَعَلُّمُ الصَّنَائِعِ الرَّدِيئَةِ مَعَ إِمْكَانِ مَا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهَا.وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى زَوَالِ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَتِ الْحِرْفَةُ الدَّنِيئَةُ هِيَ حِرْفَةُ أَبِيهِ.وَنَصَّ ابْنُ مُفْلِحٍ الْحَنْبَلِيُّ عَلَى زَوَالِ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ إِذَا احْتَرَفَ الْمَرْءُ حِرْفَةً دَنِيئَةً لِلْقِيَامِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا يَرْجِعُ إِلَى الدَّنَاءَةِ مِنَ الْمَكَاسِبِ فِي عُرْفِ النَّاسِ لَا يَسَعُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ».وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيُبْغِضُ سَفْسَافَهَا» وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْأَوَّلُ.
الْحِرَفُ الْمَحْظُورَةُ:
13- أ- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ احْتِرَافُ عَمَلٍ مُحَرَّمٍ بِذَاتِهِ، وَمِنْ هُنَا مُنِعَ الِاتِّجَارُ بِالْخَمْرِ وَاحْتِرَافُ الْكِهَانَةِ.
ب- كَمَا لَا يَجُوزُ احْتِرَافُ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَرَامِ أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ إِعَانَةٌ عَلَيْهِ، كَالْوَشْمِ: لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ وَكَكِتَابَةِ الرِّبَا: لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعَانَةِ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَتَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اتِّخَاذِ حِرَفٍ يَتَكَسَّبُ مِنْهَا الْمُحْتَرِفُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْذُلَ فِيهَا جَهْدًا، أَوْ يَزِيدَ زِيَادَةً، كَالْخَيَّاطِ يَتَسَلَّمُ الثَّوْبَ لِيَخِيطَهُ بِدِينَارَيْنِ فَيُعْطِيَهُ لِمَنْ يَخِيطَهُ بِدِينَارٍ وَيَأْخُذَ الْفَرْقَ.
فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ كَالْبَيْعِ، وَبَيْعُ الْمَبِيعِ يَجُوزُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَبِأَقَلَّ مِنْهُ وَبِأَكْثَرَ، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ جِنْسِ الْأُجْرَةِ الْأُولَى فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَطِيبُ لَهُ إِلاَّ إِذَا بَذَلَ جَهْدًا أَوْ زَادَ زِيَادَةً، فَإِنَّهَا تَطِيبُ وَلَوِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ.
آثَارُ الِاحْتِرَافِ:
14- أ- يُعْطَى الْفَقِيرُ الْمُحْتَرِفُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ آلَاتِ حِرْفَتِهِ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَشْتَرِي بِهِ آلَةَ حِرْفَتِهِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (زَكَاةٌ).
ب- إِذَا فَعَلَ الْمُحْتَرِفُ فِعْلًا فِي حُدُودِ حِرْفَتِهِ، فَأَخْطَأَ فِيهِ خَطَأً يُحْتَمَلُ أَنْ يُخْطِئَ فِيهِ الْمُحْتَرِفُونَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَالطَّبِيبِ.أَمَّا مَنْ عَدَاهُ فَيَضْمَنُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَابِ الضَّمَانِ.
ج- يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ إِفْطَارِ رَمَضَانَ لِمَنْ يَحْتَرِفُ حِرْفَةً شَاقَّةً يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الصِّيَامُ مَعَهَا، وَلَيْسَ بِإِمْكَانِهِ تَرْكُهَا فِي رَمَضَانَ.
د- لِلْمُعْتَدَّةِ- وَلَا سِيَّمَا الْمُحْتَرِفَةِ- الْخُرُوجُ فِي حَوَائِجِهَا نَهَارًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُطَلَّقَةً أَوْ مُتَوَفًّى عَنْهَا وَلَيْسَ لَهَا الْمَبِيتُ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا وَلَا الْخُرُوجُ لَيْلًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (عِدَّةٌ) (وَإِحْدَادٌ).
هـ- لِلِاحْتِرَافِ أَثَرٌ فِي الْكَفَاءَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَفْصِيلُهُ فِي (نِكَاحٌ)،
و- لِلِاحْتِرَافِ أَثَرٌ فِي تَخْفِيفِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالتَّرْخِيصِ لِلْقَصَّابِ بِالصَّلَاةِ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهِ مَعَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الدَّمِ، مَا لَمْ يَفْحُشْ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (نَجَاسَةٌ- مَا يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
8-موسوعة الفقه الكويتية (تحويل)
تَحْوِيلٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّحْوِيلُ لُغَةً: مَصْدَرُ حَوَّلَ الشَّيْءَ، وَتَدُورُ مَعَانِيهِ عَلَى النَّقْلِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ. (وَحَوَّلْتُهُ) تَحْوِيلًا: نَقَلْتَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَحَوَّلْتُ الرِّدَاءَ: نَقَلْتُ كُلَّ طَرَفٍ إِلَى مَوْضِعِ الْآخَرِ.
(وَالْحَوَالَةُ) بِالْفَتْحِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّقْلِ، فَتَقُولُ: أَحَلْتُهُ بِدَيْنِهِ أَيْ: نَقَلْتَهُ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- النَّقْلُ:
2- النَّقْلُ: تَحْوِيلُ الشَّيْءِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ النَّقْلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالنَّقْلِ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَكَنَقْلِ اللَّفْظِ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ إِلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِيِّ.
ب- التَّبْدِيلُ وَالْإِبْدَالُ وَالتَّغْيِيرُ:
3- وَهِيَ أَنْ يُجْعَلَ مَكَانَ الشَّيْءِ شَيْءٌ آخَرُ، أَوْ تُحَوَّلَ صِفَتُهُ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى.وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ التَّحْوِيلَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي تَبْدِيلِ ذَاتٍ بِذَاتٍ أُخْرَى.
أَحْكَامُ التَّحْوِيلِ:
أ- تَحْوِيلُ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ:
4- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فِي وُقُوعِهِ عِبَادَةً.
فَمِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِذَا حَوَّلَ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ إِلَى نِيَّةِ التَّبَرُّدِ أَوِ التَّنَظُّفِ، فَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِي إِفْسَادِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِمُ النِّيَّةَ فَرْضًا.وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ التَّحْوِيلِ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الْوُضُوءِ عِبَادَةً، وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: الصَّلَاةُ تَصِحُّ عِنْدَنَا بِالْوُضُوءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْوِيًّا، وَإِنَّمَا تُسَنُّ النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ لِيَكُونَ عِبَادَةً، فَإِنَّهُ بِدُونِهَا لَا يُسَمَّى عِبَادَةً مَأْمُورًا بِهَا..وَإِنْ صَحَّتْ بِهِ الصَّلَاةُ.
فَالْوُضُوءُ مَعَ النِّيَّةِ أَوْ بِدُونِهَا أَوْ مَعَ تَحْوِيلِهَا صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِهِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ عِبَادَةً بِدُونِ النِّيَّةِ أَوْ مَعَ تَحْوِيلِهَا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَيَظْهَرُ أَثَرُ تَحْوِيلِ النِّيَّةِ عِنْدَهُمْ فِي إِفْسَادِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: رَفْضُ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ لَا يَضُرُّ، إِذَا رَجَعَ وَكَمَّلَهُ بِالنِّيَّةِ الْأُولَى عَلَى الْفَوْرِ، بِأَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ- عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ- أَمَّا إِذَا لَمْ يُكَمِّلْهُ أَوْ كَمَّلَهُ بِنِيَّةٍ أُخْرَى كَنِيَّةِ التَّبَرُّدِ أَوِ التَّنْظِيفِ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْمَلَهُ بِالنِّيَّةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ بَعْدَ طُولِ فَصْلٍ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ نَوَى نِيَّةً صَحِيحَةً ثُمَّ نَوَى بِغَسْلِ الرِّجْلِ- مَثَلًا- التَّبَرُّدَ أَوِ التَّنَظُّفَ فَلَهُ حَالَانِ: الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ لَا تَحْضُرَهُ نِيَّةُ الْوُضُوءِ فِي حَالِ غَسْلِ الرِّجْلِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ لِبَقَاءِ حُكْمِ النِّيَّةِ الْأُولَى.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَحْضُرَهُ نِيَّةُ الْوُضُوءِ مَعَ نِيَّةِ التَّبَرُّدِ- كَمَا لَوْ نَوَى أَوَّلَ الطَّهَارَةِ الْوُضُوءَ مَعَ التَّبَرُّدِ- فَفِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْوُضُوءَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ رَفْعِ الْحَدَثِ حَاصِلَةٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِتَشْرِيكِهِ بَيْنَ قُرْبَةٍ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَإِنَّ مَنْ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ، وَغَسَلَ بَعْضَهَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ، فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ إِذَا أَعَادَ فِعْلُ مَا نَوَى بِهِ التَّبَرُّدَ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفْصِلَ فَصْلًا طَوِيلًا فَيَكُونُ وُضُوءُهُ صَحِيحًا، وَذَلِكَ لِوُجُودِ النِّيَّةِ مَعَ الْمُوَالَاةِ.
فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ بِحَيْثُ تَفُوتُ الْمُوَالَاةُ بَطَلَ الْوُضُوءُ لِفَوَاتِهَا.
ب- تَحْوِيلُ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ:
5- لِلْفُقَهَاءِ فِي أَثَرِ تَحْوِيلِ النِّيَّةِ تَفْصِيلٌ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِنِيَّةِ الِانْتِقَالِ إِلَى غَيْرِهَا وَلَا تَتَغَيَّرُ، بَلْ تَبْقَى كَمَا نَوَاهَا قَبْلَ التَّغْيِيرِ، مَا لَمْ يُكَبِّرْ بِنِيَّةٍ مُغَايِرَةٍ، بِأَنْ يُكَبِّرَ نَاوِيًا النَّفْلَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْفَرْضِ أَوْ عَكْسُهُ، أَوِ الِاقْتِدَاءَ بَعْدَ الِانْفِرَادِ وَعَكْسُهُ، أَوِ الْفَائِتَةَ بَعْدَ الْوَقْتِيَّةِ وَعَكْسُهُ.
وَلَا تَفْسُدُ حِينَئِذٍ إِلاَّ إِنْ وَقَعَ تَحْوِيلُ النِّيَّةِ قَبْلَ الْجُلُوسِ الْأَخِيرِ بِمِقْدَارِ التَّشَهُّدِ، فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهُ وَقُبَيْلَ السَّلَامِ لَا تَبْطُلُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: نَقْلُ النِّيَّةِ سَهْوًا مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ آخَرَ أَوْ إِلَى نَفْلٍ سَهْوًا، دُونَ طُولِ قِرَاءَةٍ وَلَا رُكُوعٍ، مُغْتَفَرٌ.
قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ إِنْ حَوَّلَ نِيَّتَهُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ، فَإِنْ قَصَدَ بِتَحْوِيلِ نِيَّتِهِ رَفْعَ الْفَرِيضَةِ وَرَفْضَهَا بَطَلَتْ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ رَفْضَهَا لَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ الثَّانِيَةُ مُنَافِيَةً لِلْأُولَى.لِأَنَّ النَّفَلَ مَطْلُوبٌ لِلشَّارِعِ، وَمُطْلَقُ الطَّلَبِ مَوْجُودٌ فِي الْوَاجِبِ، فَتَصِيرُ نِيَّةُ النَّفْلِ مُؤَكِّدَةً لَا مُخَصِّصَةً.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ قَلَبَ الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ الَّتِي هُوَ فِيهَا صَلَاةً أُخْرَى عَالِمًا عَامِدًا بَطَلَتْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَانْقَلَبَتْ نَفْلًا.وَذَلِكَ كَظَنِّهِ دُخُولَ الْوَقْتِ، فَأَحْرَمَ بِالْفَرْضِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُ دُخُولِ الْوَقْتِ فَقَلَبَ صَلَاتَهُ نَفْلًا، أَوْ قَلَبَ صَلَاتَهُ الْمُنْفَرِدَةَ نَفْلًا لِيُدْرِكَ جَمَاعَةً.لَكِنْ لَوْ قَلَبَهَا نَفْلًا مُعَيَّنًا كَرَكْعَتَيِ الضُّحَى لَمْ تَصِحَّ، أَمَّا إِذَا حَوَّلَ نِيَّتَهُ بِلَا سَبَبٍ أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ فَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ بُطْلَانُ الصَّلَاةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا حَوَّلَ نِيَّتَهُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ، وَتَنْقَلِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ نَفْلًا.
وَإِنِ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ فَلَا تَبْطُلُ، لَكِنْ تُكْرَهُ، إِلاَّ إِنْ كَانَ الِانْتِفَالُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَلَا تُكْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، كَمَنْ أَدْرَكَ جَمَاعَةً مَشْرُوعَةً وَهُوَ مُنْفَرِدٌ، فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِيُدْرِكَهَا، فَإِنَّهُ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَقْلِبَهَا نَفْلًا، وَأَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ تَضَمَّنَتْ نِيَّةَ النَّفْلِ، فَإِذَا قَطَعَ نِيَّةَ الْفَرْضِ بَقِيَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ.
وَمِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ يَتَبَيَّنُ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَحْوِيلَ نِيَّةِ الصَّلَاةِ مِنْ نَفْلٍ إِلَى فَرْضٍ لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَقْلِهَا، وَتَظَلُّ نَفْلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ بِنَاءَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ.
ج- تَحْوِيلُ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ:
6- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ لَا يَبْطُلُ بِنِيَّةِ الِانْتِقَالِ إِلَى النَّفْلِ، وَلَا يَنْقَلِبُ نَفْلًا.
وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَنْقَلِبُ نَفْلًا إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، أَمَّا فِي رَمَضَانَ فَلَا يَقْبَلُ النَّفَلَ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِ فَرْضِ رَمَضَانَ وَلَا يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ صَائِمًا عَنْ نَذْرٍ، فَحَوَّلَ نِيَّتَهُ إِلَى كَفَّارَةٍ أَوْ عَكْسُهُ، لَا يَحْصُلُ لَهُ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ- بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ- لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْكَفَّارَةِ التَّبْيِيتَ مِنَ اللَّيْلِ.
أَمَّا الصَّوْمُ الَّذِي نَوَاهُ أَوَّلًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ وَلَا يَبْطُلُ.
الثَّانِي: يَبْطُلُ.وَلَا يَنْقَلِبُ نَفْلًا عَلَى الْأَظْهَرِ.وَيُقَابِلُهُ: أَنَّهُ يَنْقَلِبُ نَفْلًا إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ.
وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ:
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنْ تَحَوَّلَتْ نِيَّتُهُ إِلَى نَافِلَةٍ، وَهُوَ فِي فَرِيضَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ هَذَا عَبَثًا عَمْدًا فَلَا خِلَافَ- عِنْدَهُمْ- أَنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهُ.أَمَّا إِنْ فَعَلَهُ سَهْوًا فَخِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَإِنْ نَوَى خَارِجَ رَمَضَانَ قَضَاءً، ثُمَّ حَوَّلَ نِيَّةَ الْقَضَاءِ إِلَى النَّفْلِ بَطَلَ الْقَضَاءُ لِقَطْعِهِ نِيَّتَهُ، وَلَمْ يَصِحَّ نَفْلًا لِعَدَمِ صِحَّةِ نَفْلِ مَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ، كَذَا فِي الْإِقْنَاعِ، وَأَمَّا فِي الْفُرُوعِ وَالتَّنْقِيحِ وَالْمُنْتَهَى فَيَصِحُّ نَفْلًا، وَإِنْ كَانَ فِي صَوْمِ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ فَقَطَعَ نِيَّتَهُ ثُمَّ نَوَى نَفْلًا صَحَّ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَلَبَ نِيَّةَ الْقَضَاءِ إِلَى النَّفْلِ بَطَلَ الْقَضَاءُ، وَذَلِكَ لِتَرَدُّدِهِ فِي نِيَّتِهِ أَوْ قَطْعِهَا، وَلَمْ يَصِحَّ النَّفَلُ لِعَدَمِ صِحَّةِ نَفْلِ مَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ.
د- تَحْوِيلُ الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَحْوِيلَ الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ مَنْدُوبٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، إِلاَّ إِذَا تَعَسَّرَ ذَلِكَ لِضِيقِ الْمَوْضِعِ، أَوْ لِأَيِّ سَبَبٍ آخَرَ، فَيُلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَرِجْلَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ.
وَدَلِيلُ تَحْوِيلِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ - رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَأَلَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ - رضي الله عنه- فَقَالُوا: تُوُفِّيَ، وَأَوْصَى بِثُلُثِهِ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَوْصَى أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ لَمَّا اُحْتُضِرَ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَصَابَ الْفِطْرَةَ، وَقَدْ رَدَدْتُ ثُلُثَهُ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَأَدْخِلْهُ جَنَّتَكَ.وَقَدْ فَعَلْتَ».
هـ- تَحْوِيلُ الرِّدَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ:
8- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ- إِلَى اسْتِحْبَابِ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَلَا يُحَوَّلُ الرِّدَاءُ عِنْدَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ.لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لَا صَلَاةَ فِيهِ عِنْدَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ.
وَمَعْنَى تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ: أَنْ يَجْعَلَ مَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، وَبِالْعَكْسِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ- إِلَى اسْتِحْبَابِ التَّنْكِيسِ كَذَلِكَ.وَهُوَ: أَنْ يَجْعَلَ أَعْلَى الرِّدَاءِ أَسْفَلَهُ وَبِالْعَكْسِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالتَّنْكِيسِ.
وَمَحَلُّ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ لِلدُّعَاءِ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ.
وَدَلِيلُ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ».
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ التَّفَاؤُلُ بِتَغْيِيرِ الْحَالِ إِلَى الْخِصْبِ وَالسَّعَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الرِّدَاءِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فَلَا يُحَوِّلُ رِدَاءَهُ إِلاَّ الْإِمَامُ فِي الْقَوْلِ الْمُفْتَى بِهِ.
و- تَحْوِيلُ الدَّيْنِ:
9- عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ تَعْرِيفَاتٍ مُتَقَارِبَةً، مِنْهَا: تَحَوُّلُ الْحَقِّ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى فِي الْمُطَالَبَةِ.
وَمِنْهَا: نَقْلُ الدَّيْنِ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.
وَمَشْرُوعِيَّتُهَا ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ.وَمُسْتَنَدُهَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ».
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْحَوَالَةِ فِي نَقْلِ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.
فَيَبْرَأُ بِالْحَوَالَةِ الْمُحِيلُ عَنْ دَيْنِ الْمُحَالِ، وَيَبْرَأُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ عَنْ دَيْنِ الْمُحِيلِ، وَيَتَحَوَّلُ حَقُّ الْمُحَالِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، هَذَا فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، وَهِيَ الْأَغْلَبُ حَيْثُ يَكُونُ الْمُحِيلُ دَائِنًا لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ.أَمَّا فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهِيَ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُحِيلُ دَائِنَا لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْبَرَاءَةَ تَحْصُلُ لِلْمُحِيلِ فَقَطْ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَوَالَةٌ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
9-موسوعة الفقه الكويتية (حدث 1)
حَدَثٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْحَدَثُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْحُدُوثِ: وَهُوَ الْوُقُوعُ وَالتَّجَدُّدُ وَكَوْنُ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَمِنْهُ يُقَالُ: حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ إِذَا تَجَدَّدَ وَكَانَ مَعْدُومًا قَبْلَ ذَلِكَ.وَالْحَدَثُ اسْمٌ مِنْ أَحْدَثَ الْإِنْسَانُ إِحْدَاثًا: بِمَعْنَى الْحَالَةِ النَّاقِضَةِ لِلْوُضُوءِ.وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْأَمْرِ الْحَادِثِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعْتَادٍ وَلَا مَعْرُوفٍ، وَمِنْهُ مُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أُمُورٌ:
أ- الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ (أَوِ الْحُكْمِيُّ) الَّذِي يَحِلُّ فِي الْأَعْضَاءِ وَيُزِيلُ الطَّهَارَةَ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا الْوَصْفُ يَكُونُ قَائِمًا بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَبِجَمِيعِ الْبَدَنِ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِهِمْ.كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا التَّعْرِيفُ فِي كُتُبِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بِاخْتِلَافٍ بَسِيطٍ فِي الْعِبَارَةِ.
ب- الْأَسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ، وَلِهَذَا نَجِدُ الْحَنَفِيَّةَ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ: خُرُوجُ النَّجَسِ مِنَ الْآدَمِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمَا مُعْتَادًا كَانَ أَمْ غَيْرَ مُعْتَادٍ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ مِنَ الْمُخْرَجِ الْمُعْتَادِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ يُعَرِّفُونَهُ بِمَا أَوْجَبَ وُضُوءًا أَوْ غُسْلًا كَمَا وَضَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بَابًا لِلْأَحْدَاثِ ذَكَرُوا فِيهَا أَسْبَابَ نَقْضِ الْوُضُوءِ.
ج- وَيُطْلَقُ الْحَدَثُ عَلَى الْمَنْعِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ
د- وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ إِطْلَاقَهُ عَلَى خُرُوجِ الْمَاءِ فِي الْمُعْتَادِ كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ.
وَالْمُرَادُ هُنَا مِنْ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ هُوَ الْأَوَّلُ، أَمَّا الْمَنْعُ فَإِنَّهُ حُكْمُ الْحَدَثِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَلَيْسَ نَفْسَ الْحَدَثِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الطَّهَارَةُ:
2- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ وَالْخُلُوصُ مِنَ الْأَدْنَاسِ حِسِّيَّةً كَانَتْ كَالْأَنْجَاسِ، أَمْ مَعْنَوِيَّةً كَالْعُيُوبِ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِهِمَا.
وَفِي الشَّرْعِ رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ أَوْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالتُّرَابِ.
فَالطَّهَارَةُ ضِدُّ الْحَدَثِ (ر: طَهَارَةٌ).
ب- الْخَبَثُ:
3- الْخَبَثُ بِفَتْحَتَيْنِ النَّجَسُ، وَإِذَا ذُكِرَ مَعَ الْحَدَثِ يُرَادُ مِنْهُ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَيِ الْعَيْنُ الْمُسْتَقْذِرَةُ شَرْعًا، وَمِنْ هُنَا عَرَّفُوا الطَّهَارَةَ بِأَنَّهَا النَّظَافَةُ مِنْ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ.
وَالْخُبْثُ بِسُكُونِ الْبَاءِ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَبُثَ الشَّيْءُ خُبْثًا ضِدُّ طَابَ، يُقَالُ: شَيْءٌ خَبِيثٌ أَيْ نَجِسٌ أَوْ كَرِيهُ الطَّعْمِ، وَالْخُبْثُ كَذَلِكَ الشَّرُّ وَالْوَصْفُ مِنْهُ الْخُبْثُ وَجَمْعُهُ الْخُبُثُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» أَيْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ، وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ حَرَامٍ
ج- النَّجَسُ:
4- النَّجَسُ بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرُ نَجُسَ الشَّيْءُ نَجَسًا، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْمًا لِكُلِّ مُسْتَقْذَرٍ، وَالنَّجِسُ بِكَسْرِ الْجِيمِ ضِدُّ الطَّاهِرِ، وَالنَّجَاسَةُ ضِدُّ الطَّهَارَةِ، فَالنَّجَسُ لُغَةً يَعُمُّ الْحَقِيقِيَّ وَالْحُكْمِيَّ، وَعُرْفًا يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ كَالْخُبْثِ.وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِنْسَانُ وَنُقِضَ وُضُوءُهُ يُقَالُ لَهُ: مُحْدِثٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ نَجِسٌ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ.أَمَّا الْخُبْثُ فَيَخُصُّ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ يَخُصُّ الْحُكْمِيَّةَ، وَالطَّهَارَةُ ارْتِفَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
أَقْسَامُ الْحَدَثِ:
5- سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ الْحَدَثِ أَنَّهُ بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ وَصْفٌ يَحِلُّ بِالْأَعْضَاءِ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.فَهَذَا الْوَصْفُ إِنْ كَانَ قَائِمًا فِي جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ وَأَوْجَبَ غُسْلًا يُسَمَّى حَدَثًا أَكْبَرَ، وَإِذَا كَانَ قَائِمًا بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ وَأَوْجَبَ غَسْلَ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ فَقَطْ يُسَمَّى حَدَثًا أَصْغَرَ.
وَالْحَدَثُ بِالْإِطْلَاقِ الثَّانِي أَيِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ كَذَلِكَ نَوْعَانِ: حَدَثٌ حَقِيقِيٌّ، وَحَدَثٌ حُكْمِيٌّ.
وَالْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ: فَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّجَسِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَكَانَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ جُعِلَ حَدَثًا شَرْعًا تَعَبُّدًا مَحْضًا.وَهَذَا التَّقْسِيمُ صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلَاتُ غَيْرِهِمْ.
أَسْبَابُ الْحَدَثِ:
أَوَّلًا- خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ:
6- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ النَّجَسِ مِنَ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ مِنَ السَّبِيلَيْنِ (الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ) مُعْتَادًا كَانَ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، أَمْ غَيْرَ مُعْتَادٍ كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ.أَوْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالْجُرْحِ وَالْقُرْحِ وَالْأَنْفِ وَالْفَمِ سَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ دَمًا أَوْ قَيْحًا أَوْ قَيْئًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِالْخَارِجِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ، لَا حَصًى وَدُودٍ وَلَوْ بِبِلَّةٍ، وَهَذَا يَشْمَلُ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ وَالْمَذْيَ وَالْمَنِيَّ وَالْوَدْيَ وَالرِّيحَ، سَوَاءٌ أَكَانَ خُرُوجُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ بِاخْتِيَارٍ، أَمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، كَسَلَسٍ فَارَقَ أَكْثَرَ الزَّمَنِ، أَيِ ارْتَفَعَ عَنِ الشَّخْصِ، زَمَانًا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ.فَإِنْ لَازَمَهُ كُلَّ الزَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ نِصْفَهُ فَلَا نَقْضَ، وَيَشْمَلُ الْحَدَثُ عِنْدَهُمُ الْخَارِجَ مِنْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ إِنِ انْسَدَّ السَّبِيلَانِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ، وَالدُّودُ، وَالْحَصَى، وَالدَّمُ، وَالْقَيْحُ، وَالْقَيْءُ وَنَحْوُهَا لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا وَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ قُبُلِهِ أَوْ دُبُرِهِ عَيْنًا كَانَ أَوْ رِيحًا، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا، جَافًّا أَوْ رَطْبًا، مُعْتَادًا كَبَوْلٍ أَوْ نَادِرًا كَدَمٍ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.إِلاَّ الْمَنِيَّ فَلَيْسَ خُرُوجُهُ نَاقِضًا قَالُوا: لِأَنَّهُ أَوْجَبَ أَعْظَم الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْغُسْلُ فَلَا يُوجِبُ أَدْوَنَهُمَا وَهُوَ الْوُضُوءُ بِعُمُومِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا انْسَدَّ مَخْرَجُهُ وَانْفَتَحَ تَحْتَ مَعِدَتِهِ فَخَرَجَ الْمُعْتَادُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: النَّاقِضُ لِلْوُضُوءِ هُوَ الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، نَادِرًا كَانَ كَالدُّودِ وَالدَّمِ وَالْحَصَى، أَوْ مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْوَدْيِ وَالْمَذْيِ وَالرِّيحِ، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ غَائِطًا أَوْ بَوْلًا نَقَضَ وَلَوْ قَلِيلًا مِنْ تَحْتِ الْمَعِدَةِ أَوْ فَوْقِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّبِيلَانِ مَفْتُوحَيْنِ أَمْ مَسْدُودَيْنِ.وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَاتُ الْخَارِجَةُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ غَيْرَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ كَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْقَيْحِ، وَدُونَ الْجِرَاحِ لَمْ يَنْقُضْ إِلاَّ كَثِيرُهَا.
وَمِمَّا سَبَقَ يَظْهَرُ أَنَّ أَسْبَابَ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ:
أَسْبَابُ الْحَدَثِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ الْمُعْتَادَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ، وَأَيْضًا دَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يُعْتَبَرُ حَدَثًا حَقِيقِيًّا قَلِيلًا كَانَ الْخَارِجُ أَوْ كَثِيرًا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَدَثِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ وَنَحْوِهِمَا.وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».
وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ بَعْضُهَا حَدَثٌ أَكْبَرُ فَيُوجِبُ الْغُسْلَ كَخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَبَعْضُهَا حَدَثٌ أَصْغَرُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
الْأَسْبَابُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:
أ- مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَادِرًا:
8- مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَادِرًا كَالدُّودِ وَالْحَصَى وَالشَّعْرِ وَقِطْعَةِ اللَّحْمِ وَنَحْوِهَا تُعْتَبَرُ أَحْدَاثًا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ)، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ، لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فَأَشْبَهَتِ الْمَذْيَ، وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ بِلَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَدَمُهَا خَارِجٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْخَارِجَ غَيْرَ الْمُعْتَادِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ كَحَصًى تَوَلَّدَ بِالْبَطْنِ وَدُودٍ لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا وَلَوْ بِبِلَّةٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ غَيْرِ مُتَفَاحِشٍ بِحَيْثُ يُنْسَبُ الْخُرُوجُ لِلْحَصَى وَالدُّودِ لَا لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ تَخْرُجَ الدُّودَةُ وَالْحَصَى غَيْرَ نَقِيَّةٍ.
9- وَاخْتَلَفُوا فِي الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنَ الذَّكَرِ أَوْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا تُعْتَبَرُ حَدَثًا، وَلَا يُنْتَقَضُ بِهَا الْوُضُوءُ، لِأَنَّهَا اخْتِلَاجٌ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ رِيحًا مُنْبَعِثَةً عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُفْضَاةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْمُفْضَاةِ فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهَا الْوُضُوءُ، وَقِيلَ: يَجِبُ، وَقِيلَ: لَوْ مُنْتِنَةً، لِأَنَّ نَتَنَهَا دَلِيلُ خُرُوجِهَا مِنَ الدُّبُرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْخَارِجَةَ مِنَ الذَّكَرِ أَوْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ حَدَثٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ».
ب- مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ:
10- الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ نَجِسًا، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ مِنَ النَّجَاسَةِ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ سَائِلًا جَاوَزَ إِلَى مَحَلٍّ يُطْلَبُ تَطْهِيرُهُ وَلَوْ نَدْبًا، كَدَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ عَنْ رَأْسِ جُرْحٍ، وَكَقَيْءٍ مَلأَ الْفَمَ مِنْ مُرَّةٍ أَوْ عَلَقٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ مَاءٍ، لَا بَلْغَمٍ، وَإِنْ قَاءَ دَمًا أَوْ قَيْحًا نَقَضَ وَإِنْ لَمْ يَمْلأَِ الْفَمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا إِلاَّ الْغَائِطَ وَالْبَوْلَ فَلَا تُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْكَثْرَةُ عِنْدَهُمْ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ النَّجِسَ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ حَدَثٌ هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
مِنْهُمُ: ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ، مِنْهَا: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ» وَلِأَنَّ الدَّمَ وَنَحْوَهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنَ الْبَدَنِ فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ.
وَوَجْهُ مَا اشْتَرَطَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنَ الْكَثْرَةِ فِي غَيْرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الدَّمِ: إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ دَمٌ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَعْنِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ- فَأَصَابَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَلَفَ أَنْ لَا أَنْتَهِيَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمًا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَنْزِلًا، فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا؟ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: كُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلَانِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ اضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي، وَأَتَى الرَّجُلُ، فَلَمَّا رَأَى شَخْصَهُ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةٌ لِلْقَوْمِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ حَتَّى رَمَاهُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ انْتَبَهَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَذِرُوا بِهِ هَرَبَ، وَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِنَ الدَّمِ: قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَلَا أَنْبَهْتنِي أَوَّلَ مَا رَمَى؟ قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا» وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام-: «قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ».
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا خَرَجَ مِنْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ إِنِ انْسَدَّ مَخْرَجُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَنْسَدَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ.ثَانِيًا- الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ:
11- الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ هُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا.فَيَأْخُذُ حُكْمَ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ شَرْعًا، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ:
- زَوَالُ الْعَقْلِ أَوِ التَّمْيِيزُ وَذَلِكَ بِالنَّوْمِ أَوِ السُّكْرِ أَوِ الْإِغْمَاءِ أَوِ الْجُنُونِ أَوْ نَحْوِهَا.وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ.وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ».
وَبِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ».
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ النَّوْمِ النَّاقِضِ لِلْوُضُوءِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النَّوْمُ النَّاقِضُ هُوَ مَا كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَّكِئًا أَوْ مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيلَ مِنْهُ لَسَقَطَ، لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ سَبَبٌ لِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ فَلَا يَعْرَى عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَادَةً، وَالثَّابِتُ عَادَةً كَالْمُتَيَقَّنِ.وَالِاتِّكَاءُ يُزِيلُ مُسْكَةَ الْيَقِظَةِ، لِزَوَالِ الْمَقْعَدَةِ عَنِ الْأَرْضِ.بِخِلَافِ النَّوْمِ حَالَةَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ بَعْضَ الِاسْتِمْسَاكِ بَاقٍ، إِذْ لَوْ زَالَ لَسَقَطَ، فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِرْخَاءُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّاقِضَ هُوَ النَّوْمُ الثَّقِيلُ بِأَنْ لَمْ يَشْعُرْ بِالصَّوْتِ الْمُرْتَفِعِ، بِقُرْبِهِ، أَوْ بِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، طَالَ النَّوْمُ أَوْ قَصُرَ.وَلَا يُنْقَضُ بِالْخَفِيفِ وَلَوْ طَالَ، وَيُنْدَبُ الْوُضُوءُ إِنْ طَالَ النَّوْمُ الْخَفِيفُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّ مَنْ نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ نَحْوِهَا لَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَكِّنًا يُنْتَقَضُ عَلَى أَيَّةِ هَيْئَةٍ كَانَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ فَيَنَامُونَ، أَحْسَبُهُ قَالَ: قُعُودًا حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ..وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضَعَ جَنْبَهُ إِلَى الْأَرْضِ» وَيُنْدَبُ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ مَعَ التَّمْكِينِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَسَمُوا النَّوْمَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ فَيُنْقَضُ بِهِ الْوُضُوءُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَخْذًا لِعُمُومِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ.الثَّانِي: نَوْمُ الْقَاعِدِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا نُقِضَ بِنَاءً عَلَى الْحَدِيثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يُنْقَضْ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ.الثَّالِثُ: مَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَهُوَ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُنْقَضُ مُطْلَقًا لِلْعُمُومِ فِي الْحَدِيثَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ: لَا يُنْقَضُ، إِلاَّ إِذَا كَثُرَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَسْجُدُ وَيَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي فَقُلْتُ لَهُ: صَلَّيْتَ وَلَمْ تَتَوَضَّأْ، وَقَدْ نِمْتَ، فَقَالَ إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ»
وَالْعِبْرَةُ فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمُ الْعُرْفُ.
أَمَّا السُّكْرُ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فَدَلِيلُ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهَا أَنَّهَا أَبْلَغُ فِي إِزَالَةِ الْمُسْكَةِ مِنَ النَّوْمِ، لِأَنَّ النَّائِمَ يَسْتَيْقِظُ بِالِانْتِبَاهِ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَلِتَعْرِيفِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَمَعْرِفَةِ حُكْمِهَا وَأَثَرِهَا عَلَى الْوُضُوءِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَاتِهَا.
الْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ دُونَ الْجِمَاعِ:
12- وَتَفْسِيرُهَا، كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ وَيَنْتَشِرَ لَهَا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ وَلَمْ يَرَ بَلَلًا.
وَقَالَ فِي الدُّرِّ: أَنْ تَكُونَ بِتَمَاسِّ الْفَرْجَيْنِ وَلَوْ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ أَوِ الرَّجُلَيْنِ مَعَ الِانْتِشَارِ وَلَوْ بِلَا بَلَلٍ.فَهَذِهِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- إِلاَّ مُحَمَّدًا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ، وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَعَادَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ.وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ.فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَاتَّبَعَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ انْصَرَفَ وَاتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُلِ فَلَحِقَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ.قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ، أَوْ قَالَ ذَنْبَكَ».
وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو عَنْ خُرُوجِ الْمَذْيِ عَادَةً إِلاَّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ جَفَّ بِحَرَارَةِ الْبَدَنِ فَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ أَوْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ فَكَانَتْ سَبَبًا مُفْضِيًا إِلَى الْخُرُوجِ، وَهُوَ الْمُتَحَقِّقُ فِي مَقَامِ وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ.
الْتِقَاءُ بَشَرَتَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ:
13- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لَمْسَ بَشَرَتَيِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيلِ.
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ هُوَ اللَّمْسُ بِعُضْوٍ أَصْلِيٍّ أَوْ زَائِدٍ يَلْتَذُّ صَاحِبُهُ بِهِ عَادَةً، وَلَوْ لِظُفْرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ سِنٍّ، وَلَوْ بِحَائِلٍ خَفِيفٍ يُحِسُّ اللاَّمِسُ فَوْقَهُ بِطَرَاوَةِ الْجَسَدِ، إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا بِدُونِ الْقَصْدِ، قَالُوا: وَمِمَّنْ يُلْتَذُّ بِهِ عَادَةً الْأَمْرَدُ وَاَلَّذِي لَمْ تَتِمَّ لِحْيَتُهُ، فَلَا نَقْضَ بِلَمْسِ جَسَدِ أَوْ فَرْجِ صَغِيرَةٍ لَا تُشْتَهَى عَادَةً، وَلَوْ قَصَدَ.اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا، كَمَا لَا تُنْقَضُ بِلَمْسِ مَحْرَمٍ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، أَمَّا الْقُبْلَةُ بِفَمٍ فَنَاقِضَةٌ وَلَا تُشْتَرَطُ فِيهَا اللَّذَّةُ وَلَا وُجُودُهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ لَمْسُ بَشَرَتَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى اللَّذَيْنِ بَلَغَا حَدًّا يُشْتَهَى، وَلَوْ لَمْ يَكُونَا بَالِغَيْنِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِشَهْوَةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ، أَوْ يَكُونَ الذَّكَرُ مَمْسُوحًا أَوْ خَصِيًّا أَوْ عِنِّينًا، أَوِ الْمَرْأَةُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ، أَوِ الْعُضْوُ زَائِدًا أَوْ أَصْلِيًّا سَلِيمًا أَوْ أَشَلَّ أَوْ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا.وَالْمُرَادُ بِالْبَشَرَةِ ظَاهِرُ الْجِلْدِ.وَفِي مَعْنَاهَا اللَّحْمُ، كَلَحْمِ الْأَسْنَانِ وَاللِّسَانِ وَاللِّثَةِ وَبَاطِنِ الْعَيْنِ، فَخَرَجَ مَا إِذَا كَانَ عَلَى الْبَشَرَةِ حَائِلٌ وَلَوْ رَقِيقًا.وَالْمَلْمُوسُ فِي كُلِّ هَذَا كَاللاَّمِسِ فِي نَقْضِ وُضُوئِهِ فِي الْأَظْهَرِ.
وَلَا يُنْقَضُ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ فِي الْأَظْهَرِ، وَلَا صَغِيرَةٍ، وَشَعْرٍ، وَسِنٍّ، وَظُفْرٍ فِي الْأَصَحِّ، كَمَا لَا يُنْقَضُ بِلَمْسِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَالْخُنْثَى مَعَ الْخُنْثَى أَوْ مَعَ الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ، لِانْتِفَاءِ مَظِنَّتِهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَسُّ بَشَرَةِ الذَّكَرِ بَشَرَةَ أُنْثَى أَوْ عَكْسُهُ لِشَهْوَةٍ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ غَيْرِ طِفْلَةٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ كَانَ اللَّمْسُ بِزَائِدٍ أَوْ لِزَائِدٍ أَوْ شَلَلٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَلْمُوسُ مَيِّتًا أَوْ عَجُوزًا أَوْ مَحْرَمًا أَوْ صَغِيرَةً تُشْتَهَى، وَلَا يُنْقَضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ بَدَنُهُ وَلَوْ وُجِدَ مِنْهُ شَهْوَةٌ، وَلَا بِلَمْسِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَسِنٍّ وَعُضْوٍ مَقْطُوعٍ وَأَمْرَدَ مَسَّهُ رَجُلٌ وَلَا مَسِّ خُنْثَى
مُشْكِلٍ، وَلَا بِمَسِّهِ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَلَا بِمَسِّ الرَّجُلِ رَجُلًا، وَلَا الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ فِيهِمْ.
هَذَا، وَيَسْتَدِلُّ الْجُمْهُورُ فِي اعْتِبَارِهِمُ اللَّمْسَ مِنَ الْأَحْدَاثِ بِمَا وَرَدَ فِي الْآيَةِ مِنْ قوله تعالى. {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمِ النِّسَاءَ} أَيْ لَمَسْتُمْ كَمَا قُرِئَ بِهِ، فَعَطَفَ اللَّمْسَ عَلَى الْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا الْأَمْرَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَدَثٌ كَالْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ.وَلَيْسَ مَعْنَاهُ (أَوْ جَامَعْتُمْ) لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، إِذْ اللَّمْسُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِمَاعِ.قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَلَّكَ لَمَسْتَ».
أَمَّا مَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ قَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وُجُودِهَا وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّمْسُ بِالشَّهْوَةِ فَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ الِالْتِقَاءِ كَمَا سَيَأْتِي.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَعْتَبِرُونَ مَسَّ الْمَرْأَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ مُطْلَقًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلِي فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا..وَعَنْهَا أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
مَسُّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ:
14- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَسَّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيلِ:
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مُطْلَقُ مَسِّ ذَكَرِ الْمَاسِّ الْبَالِغِ الْمُتَّصِلِ وَلَوْ كَانَ خُنْثَى مُشْكِلًا بِبَطْنٍ أَوْ جَنْبٍ لِكَفٍّ أَوْ إِصْبَعٍ وَلَوْ كَانَتِ الْإِصْبَعُ زَائِدَةً وَبِهَا إِحْسَاسٌ.وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّدُ أَوِ الِالْتِذَاذُ.أَمَّا مَسُّ ذَكَرِ غَيْرِهِ فَيَجْرِي عَلَى حُكْمِ اللَّمْسِ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْقَصْدِ أَوْ وُجْدَانِ اللَّذَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النَّاقِضُ مَسُّ قُبُلِ الْآدَمِيِّ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا بِبَطْنِ الْكَفِّ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ.وَكَذَا (فِي الْجَدِيدِ) حَلْقَةُ دُبُرِهِ وَلَوْ فَرْجَ الْمَيِّتِ وَالصَّغِيرِ وَمَحَلَّ الْجَبِّ وَالذَّكَرَ الْأَشَلَّ وَبِالْيَدِ الشَّلاَّءِ عَلَى الْأَصَحِّ، لَا بِرَأْسِ الْأَصَابِعِ وَمَا بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَجْعَلُ مَسَّهُ حَدَثًا: النَّاقِضُ مَسُّ ذَكَرِ الْآدَمِيِّ إِلَى أُصُولِ الْأُنْثَيَيْنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاسُّ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لَا مَسُّ مُنْقَطِعٍ وَلَا مَحَلِّ الْقَطْعِ، وَيَكُونُ الْمَسُّ بِبَطْنِ الْكَفِّ أَوْ بِظَهْرِهِ أَوْ بِحَرْفِهِ غَيْرِ ظُفْرٍ، مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، وَلَوْ بِزَائِدٍ.
كَمَا يَنْقُضُ مَسُّ حَلْقَةِ دُبُرٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَسُّ امْرَأَةٍ فَرْجَهَا الَّذِي بَيْنَ شَفْرَيْهَا أَوْ فَرْجَ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَمَسُّ رَجُلٍ فَرْجَهَا وَمَسُّهَا ذَكَرَهُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ حَدَثٌ مَا رَوَاهُ بُسْرُ بْنُ صَفْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلَا يُصَلِّ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» وَمَا رُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ»
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْأَحْدَاثِ فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: هَلْ هُوَ إِلاَّ بَضْعَةٌ مِنْكَ».
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَغْسِلُ يَدَهُ نَدْبًا لِحَدِيثِ «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» أَيْ لِيَغْسِلْ يَدَهُ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «هَلْ هُوَ إِلاَّ بَضْعَةٌ مِنْكَ» حِينَ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّلَاةِ.
الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ:
15- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- لَا يَعْتَبِرُونَ الْقَهْقَهَةَ مِنَ الْأَحْدَاثِ مُطْلَقًا، فَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا أَصْلًا وَلَا يَجْعَلُونَ فِيهَا وُضُوءًا، لِأَنَّهَا لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَا تَنْقُضُهُ دَاخِلَهَا، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجًا نَجِسًا، بَلْ هِيَ صَوْتٌ كَالْكَلَامِ وَالْبُكَاءِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَحْدَاثِ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ إِذَا حَدَثَتْ مِنْ مُصَلٍّ بَالِغٍ يَقْظَانَ فِي صَلَاةٍ كَامِلَةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَوَضِّئًا أَمْ مُتَيَمِّمًا أَمْ مُغْتَسِلًا فِي الصَّحِيحِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْقَهْقَهَةُ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ مَعًا».
وَالْقَهْقَهَةُ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لِجِيرَانِهِ، وَالضَّحِكُ مَا يَسْمَعُهُ هُوَ دُونَ جِيرَانِهِ، وَالتَّبَسُّمُ مَا لَا صَوْتَ فِيهِ وَلَوْ بَدَتْ أَسْنَانُهُ.قَالُوا: الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَتُبْطِلُ الصَّلَاةَ مَعًا، وَالضَّحِكُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ خَاصَّةً، وَالتَّبَسُّمُ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَبْطُلُ وُضُوءُ صَبِيٍّ وَنَائِمٍ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا لَا يُنْقَضُ وُضُوءُ مَنْ قَهْقَهَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، أَوْ مَنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ غَيْرِ كَامِلَةٍ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ.
ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ الْقَهْقَهَةَ مِنَ الْأَحْدَاثِ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ: لَا بَلْ وَجَبَ الْوُضُوءُ بِهَا عُقُوبَةً وَزَجْرًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّلَاةِ إِظْهَارُ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْقَهْقَهَةُ تُنَافِي ذَلِكَ فَنَاسَبَ انْتِقَاضَ وُضُوئِهِ زَجْرًا لَهُ.
وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ حَدَثًا وَإِلاَّ لَاسْتَوَى فِيهَا جَمِيعُ الْأَحْوَالِ مَعَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِأَنْ تَكُونَ فِي الصَّلَاةِ الْكَامِلَةِ مِنْ مُصَلٍّ بَالِغٍ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَرَجَّحَ فِي الْبَحْرِ الْقَوْلَ الثَّانِيَ لِمُوَافَقَتِهِ الْقِيَاسَ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجًا نَجِسًا بَلْ هِيَ صَوْتٌ كَالْكَلَامِ وَالْبُكَاءِ، وَلِمُوَافَقَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهَا، إِذْ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ الْأَمْرُ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهَا حَدَثًا.
16- وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الْقَوْلَيْنِ تَظْهَرُ فِي جَوَازِ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَكِتَابَةِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ جَعَلَهَا حَدَثًا مَنَعَ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ عُقُوبَةً وَزَجْرًا جَوَّزَ.
أَكْلُ لَحْمِ الْجَزُورِ:
17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْجَزُورِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَأَكْلِ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ» وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ» وَلِأَنَّهُ مَأْكُولٌ أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَأْكُولَاتِ فِي عَدَمِ النَّقْضِ، وَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوِ الْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ- بِأَنْ أَكْلَ لَحْمِ الْإِبِلِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ حَالٍ نِيئًا وَمَطْبُوخًا، عَالِمًا كَانَ الْآكِلُ أَوْ جَاهِلًا.لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ».
وَقَالُوا: إِنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ تَعَبُّدِيٌّ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ بِشُرْبِ لَبَنِهَا، وَمَرَقِ لَحْمِهَا، وَأَكْلِ كَبِدِهَا وَطِحَالِهَا وَسَنَامِهَا وَجِلْدِهَا وَكَرِشِهَا وَنَحْوِهِ.
غُسْلُ الْمَيِّتِ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِتَغْسِيلِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَكُونُ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذَا نَصٌّ فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ.وَلِأَنَّهُ غَسْلُ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ غَسْلَ الْحَيِّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
وَيَرَى أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ أَوْ بَعْضَهُ وَلَوْ فِي قَمِيصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَغْسُولُ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا.لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمَا كَانَا يَأْمُرَانِ غَاسِلَ.الْمَيِّتِ بِالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَنْ تَقَعَ يَدُهُ عَلَى فَرْجِ الْمَيِّتِ فَتُقَامُ مَظِنَّةُ ذَلِكَ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ كَمَا أُقِيمَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ.
الرِّدَّةُ:
19- الرِّدَّةُ- وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِمَا يُخْرِجُ مِنَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ- حَدَثٌ حُكْمِيٌّ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَالْمُرْتَدُّ إِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَرَجَعَ إِلَى دِينِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا قَبْلَ رِدَّتِهِ وَلَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى.لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وَالطَّهَارَةُ عَمَلٌ.
وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِحْبَابُ الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَلَمْ يَعُدَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الرِّدَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَدَثِ فَلَا يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا عِنْدَهُمْ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} فَشَرَطَ الْمَوْتَ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِحُبُوطِ الْعَمَلِ- كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ)
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
10-موسوعة الفقه الكويتية (خيار الرؤية)
خِيَارُ الرُّؤْيَةِالتَّعْرِيفُ:
1- سَبَقَ تَعْرِيفُ الْخِيَارِ لُغَةً فِي مُصْطَلَحِ: «خِيَارٌ» بِوَجْهٍ عَامٍّ.
أَمَّا لَفْظُ (الرُّؤْيَةِ) مِنَ الْمُرَكَّبِ الْإِضَافِيِّ (خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) فَهُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلِ رَأَى يَرَى وَمَعْنَاهُ لُغَةً: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَبِالْقَلْبِ.
أَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ اصْطِلَاحًا: فَهُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ بِهِ لِلْمُتَمَلِّكِ الْفَسْخُ، أَوِ الْإِمْضَاءُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَحَلِّ الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ، وَالْإِضَافَةُ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ مِنْ إِضَافَةِ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبَّبِ أَيْ خِيَارٌ سَبَبُهُ الرُّؤْيَةُ.
وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ نَظَرًا لِلْعَاقِدِ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَى شِرَاءِ مَا لَمْ يَرَهُ، فَرُبَّمَا لَا يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُ، فَقَدْ أَبَاحَ لَهُ الشَّارِعُ مُمَارَسَةَ حَقِّ الْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِهِ أَوِ الِاسْتِمْرَارِ فِيهِ، وَهَكَذَا لَا يَحْتَاجُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إِلَى اشْتِرَاطٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِهِ، إِلاَّ الْمَالِكِيَّةَ فَهُوَ عِنْدَهُمْ خِيَارٌ إِرَادِيٌّ يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ أَحْيَانًا تَصْحِيحًا لَهُ.
وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ- بِالرَّغْمِ مِنْ سَلْكِهِ فِي عِدَادِ خِيَارَاتِ الْجَهَالَةِ- هُوَ مِنَ الْخِيَارَاتِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا إِتَاحَةُ الْمَجَالِ لِلْعَاقِدِ لِيَتَرَوَّى وَيَنْظُرَ هَلِ الْمَبِيعُ صَالِحٌ لِحَاجَتِهِ أَمْ لَا؟
خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْمَذَاهِبُ فِيهِ:
2- الْقَوْلُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ إِيجَابًا أَوْ نَفْيًا مُرْتَبِطٌ كُلَّ الِارْتِبَاطِ بِبَيْعِ الشَّيْءِ الْغَائِبِ صِحَّةً وَفَسَادًا.
وَمِنَ الضَّرُورِيِّ التَّعْجِيلُ بِبَيَانِ الْمُرَادِ بِالْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِمُ (الْعَيْنُ الْغَائِبَةُ) فَالْمُرَادُ خُصُوصُ غَيْبَتِهَا عَنِ الْبَصَرِ بِحَيْثُ لَمْ تَجْرِ رُؤْيَتُهَا عِنْدَ الْعَقْدِ.سَوَاءٌ أَكَانَتْ غَائِبَةً أَيْضًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ حَاضِرَةً فِيهِ لَكِنَّهَا مَسْتُورَةٌ عَنْ عَيْنِ الْعَاقِدِ، فَهِيَ تُسَمَّى غَائِبَةً فِي كِلْتَا الْحَالَيْنِ، وَيَسْتَوِي فِي غِيَابِهَا عَنِ الْمَجْلِسِ أَنْ تَكُونَ فِي الْبَلَدِ نَفْسِهِ أَوْ فِي بَلَدٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ مَفْهُومُ الْغَيْبَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ أَحْيَانًا.
فَالْغَائِبُ هُنَا هُوَ غَيْرُ الْمَرْئِيِّ، إِمَّا لِعَدَمِ حُضُورِهِ، وَإِمَّا لِانْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِ بِالرَّغْمِ مِنْ حُضُورِهِ، فَلَيْسَ كُلُّ حَاضِرٍ مَرْئِيًّا، فَقَدْ يَكُونُ حَاضِرًا غَيْرَ مَرْئِيٍّ.
مَشْرُوعِيَّةُ بَيْعِ الْغَائِبِ:
3- بَيْعُ الْغَائِبِ مَعَ الْوَصْفِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ) ف 43 وَ 44 (ج 9 23)
مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
1- إِثْبَاتُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، بِحُكْمِ الشَّرْعِ- دُونَ حَاجَةٍ إِلَى اتِّفَاقِ الْإِرَادَتَيْنِ عَلَيْهِ- وَتَمْكِينُ الْعَاقِدِ بِمُوجَبِهِ مِنَ الْفَسْخِ أَوِ الْإِمْضَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّرَوِّي، وَلَوْ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ مُوَافِقًا لِمَا وُصِفَ لَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ.
2- الْقَوْلُ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ يَشْتَرِطُهُ الْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ لِيَصِحَّ عَقْدُهُ، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ بَلْ هُوَ إِرَادِيٌّ مَحْضٌ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِدِ اشْتِرَاطُهُ فِي بَعْضِ صُوَرِ بَيْعِ الْغَائِبِ وَبِدُونِهِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.
3- نَفْيُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْقَوْلُ الْجَدِيدُ الْمُعْتَبَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
أَدِلَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ:
5- احْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}.وَهَذَا عَلَى عُمُومِهِ، فَيَشْمَلُ بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ بَيْعٌ مَنَعَهُ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ أَوْ إِجْمَاعٌ.
وَبِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ».
وَقَدْ جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا بِلَفْظِهِ وَزِيَادَةِ: «إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ».
وَمِنَ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الصَّحَابَةِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ اشْتَرَى مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالًا، فَقِيلَ لِعُثْمَانَ: إِنَّكَ قَدْ غُبِنْتَ- وَكَانَ الْمَالُ بِالْكُوفَةِ لَمْ يَرَهُ عُثْمَانُ حِينَ مَلَكَهُ- فَقَالَ عُثْمَانُ: لِي الْخِيَارُ لِأَنِّي بِعْتُ مَا لَمْ أَرَ.فَقَالَ طَلْحَةُ: لِي الْخِيَارُ، لِأَنِّي اشْتَرَيْتُ مَا لَمْ أَرَ، فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ فَقَضَى أَنَّ الْخِيَارَ لِطَلْحَةَ وَلَا خِيَارَ لِعُثْمَانَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمَعْقُولِ:
بِالْقِيَاسِ عَلَى النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الزَّوْجَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ عَلَى بَيْعِ مَا لَهُ صَوَانِي كَالرُّمَّانِ وَالْجَوْزِ.
دَلِيلُ الْمَانِعِينَ:
6- وَدَلِيلُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ أَصْلًا لَا يَصِحُّ كَمَا سَبَقَ.وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ أَشْبَهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِدِ اشْتِرَاطُهُ لِيَصِحَّ بَيْعُ الْغَائِبِ.
سَبَبُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:
7- إِنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ هَذَا الْخِيَارِ هُوَ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ، وَاسْمُهُ، وَتَعْرِيفُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ سَبَبَهُ هُوَ الرُّؤْيَةُ نَفْسُهَا، فَالْإِضَافَةُ إِلَى الرُّؤْيَةِ هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِهِ (وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى شَرْطِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ).وَلَا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ.
الْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ:
8- الْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ فِي هَذَا الْمَجَالِ: الْعِلْمُ بِالْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنْ مَحَلِّ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ يَحْصُلُ بِالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ أَوْ بِأَيِّ حَاسَّةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ، كَاللَّمْسِ، وَالْجَسِّ، أَوِ الذَّوْقِ، أَوِ الشَّمِّ، أَوِ السَّمْعِ.فَهُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
وَفِي رُؤْيَةِ مَا سَبِيلُ الْعِلْمِ بِهِ الرُّؤْيَةُ لَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ جَمِيعِهِ، بَلْ يَكْفِي رُؤْيَةُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَحَلِّ شَيْئًا وَاحِدًا، أَوْ أَشْيَاءَ لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا كَالْمِثْلِيَّاتِ.
فَفِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
الرُّؤْيَةُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ:
9- الْمَحَلُّ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إِمَّا مِثْلِيٌّ وَإِمَّا قِيَمِيٌّ، وَتَخْتَلِفُ الرُّؤْيَةُ الْمُعْتَبَرَةُ- أَوِ الِاطِّلَاعُ وَالْعِلْمُ- فِي أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِيِّ هُنَا مَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ دَيْنٌ وَلَا يَجْرِي فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْأَعْيَانِ.
الرُّؤْيَةُ فِي الْقِيَمِيَّاتِ:
10- الْقِيَمِيَّاتُ أَوِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ الْمِثْلِيَّةِ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا: الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ، كَالدَّوَابِّ، وَالْأَرَاضِي، وَالثِّيَابِ الْمُتَفَاوِتَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ رُؤْيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، أَوْ رُؤْيَةِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ، كَعِدَّةِ دَوَابٍّ مَثَلًا، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ لَا تُعَرِّفُ الْبَاقِيَ لِلتَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ.
صُوَرٌ خَاصَّةٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ:
أ- الرُّؤْيَةُ مِنْ خَلْفِ زُجَاجٍ: لَا تَكْفِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُرَى مَا فِيهِ أَوْ مَا خَلْفَهُ دُونَ حَائِلٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكْفِي، لِأَنَّ الزُّجَاجَ لَا يُخْفِي صُورَةَ الْمَرْئِيِّ، وَرَوَى هِشَامٌ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
ب- الرُّؤْيَةُ لِمَا هُوَ فِي الْمَاءِ: كَسَمَكٍ (يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ اصْطِيَادٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لِأَنَّهُ رَأَى عَيْنَ الْمَبِيعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْقُطُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَا يُرَى فِي الْمَاءِ عَلَى حَالِهِ بَلْ يُرَى أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ، فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ لَا تُعَرِّفُ الْمَبِيعَ.
ج- الرُّؤْيَةُ بِوَسَاطَةِ الْمِرْآةِ: قَالُوا: لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لِأَنَّهُ مَا رَأَى عَيْنَهُ بَلْ مِثَالَهُ.
د- الرُّؤْيَةُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ: تُعْتَبَرُ رُؤْيَةً، عَلَى مَا فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ.
هـ- الرُّؤْيَةُ فِي ضَوْءٍ يَسْتُرُ لَوْنَ الشَّيْءِ: كَرُؤْيَةِ وَرَقٍ أَبْيَضَ أَوْ قُمَاشٍ، فِي ضَوْءٍ يَسْتُرُ مَعْرِفَةَ بَيَاضِهِ كَضَوْءِ النَّارِ، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، لَا تُعْتَبَرُ رُؤْيَةً مُسْقِطَةً لِقِيَامِ الْخِيَارِ.
و- الرُّؤْيَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَعْمَى: لَا يَثُورُ التَّسَاؤُلُ فِيهِ إِلاَّ فِيمَا سَبِيلُ مَعْرِفَتِهِ الرُّؤْيَةُ بِالْبَصَرِ، أَمَّا مَا يُعْرَفُ بِالذَّوْقِ، أَوِ الشَّمِّ، أَوِ الْجَسِّ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْبَصِيرِ، أَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَتِهِ كَالدَّارِ وَنَحْوِهَا وَالنَّمُوذَجِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ فَيُغْنِي عَنِ الرُّؤْيَةِ الْوَصْفُ بِأَبْلَغِ مَا يُمْكِنُ، فَإِذَا قَالَ: قَدْ رَضِيتُ، سَقَطَ خِيَارُهُ، لِأَنَّ الْوَصْفَ يُقَامُ مُقَامَ الرُّؤْيَةِ أَحْيَانًا، كَالسَّلَمِ، وَالْمَقْصُودُ رَفْعُ الْغَبْنِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْوَصْفِ وَإِنْ كَانَ بِالرُّؤْيَةِ أَتَمَّ.
دُورُ الْعُرْفِ فِي تَحْدِيدِ الرُّؤْيَةِ الْجُزْئِيَّةِ الْكَافِيَةِ:
11- تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ بِالْبَيَانِ الْمُسْهَبِ بَعْضَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ (الْمُتَفَاوِتَةِ الْآحَادِ) وَخَاصَّةً مَا تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَى تَدَاوُلِهِ، فَذَكَرُوا مَا تَكْفِي رُؤْيَتُهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا لِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ حَاصِلًا عَقِبَ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ الْمُقْتَضِبَةِ، فَيُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ الرِّضَا وَالْفَسْخُ بَعْدَهَا.وَالْخِلَافُ فِي الرُّؤْيَةِ الْكَافِيَةِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ قَدْ نَشَأَ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الْمَكَانِيِّ أَوِ الزَّمَانِيِّ، وَذَلِكَ يُتِيحُ الْمَجَالَ لِوَسْمِ جَمِيعِ مَا ذَكَرُوهُ بِهَذَا الْمِيسَمِ، أَيْ أَنَّهُ تَصْوِيرٌ لِلْعُرْفِ فِي مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، وَأَنَّهُ لَا ضَيْرَ فِي الِانْعِتَاقِ عَنْ تِلْكَ الْقُيُودِ إِذَا كَانَ الْعُرْفُ قَدْ تَغَيَّرَ، أَمَّا فِيمَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي الِاجْتِزَاءِ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ مُسْتَمَدَّةً مِنَ الْعَقْلِ أَوِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، فَذَلِكَ بَاقٍ لِبَقَاءِ عَوَامِلِ اعْتِبَارِهِ.
شَرَائِطُ قِيَامِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
أ- كَوْنُ الْمَحَلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْنًا:
12- الْمُرَادُ بِالْعَيْنِ مَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ عَلَى عَيْنِهِ، لَا عَلَى مِثْلِهِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الدَّيْنِ (بِمَعْنَى مَا يُعَيَّنُ بِالْوَصْفِ وَيَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ).قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا يُتَصَوَّرُ فِي النَّقْدِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ عَلَى مِثْلِهَا لَا عَلَى عَيْنِهَا.حَتَّى لَوْ بَاعَهُ هَذَا الدِّينَارُ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، لِصَاحِبِ الدِّينَارِ أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَهُ، وَكَذَا لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ.بِخِلَافِ الْأَوَانِي وَالْحُلِيِّ.
وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْعَقْدِ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْفَسْخِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا قَبَضَ يَرُدُّهُ هَكَذَا إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَمْ يَكُنِ الرَّدُّ مُفِيدًا، لِأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِالْعَقْدِ، وَمَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْفَسْخُ.
وَكَذَلِكَ لَا حَاجَةَ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي غَيْرِ الْأَعْيَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ تَحْقِيقُ الرِّضَا، وَرِضَاهُ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مَوْكُولٌ بِالْوَصْفِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْوَصْفُ حَصَلَ الرِّضَا وَانْتَفَى مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ.
فَيُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْعَقْدِ (الْمَبِيعُ مَثَلًا) مِنَ الْأَعْيَانِ (أَيِ الْأَمْوَالِ الْعَيْنِيَّةِ) وَهِيَ مَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَلَا يَحِقُّ لِدَافِعِهَا تَبْدِيلُهَا.
وَمِثَالُ الْأَعْيَانِ: الْأَرَاضِي وَالدَّوَابُّ وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ.
أَمَّا الْمِثْلِيَّاتُ فَبَعْضُهَا أَعْيَانٌ وَبَعْضُهَا دُيُونٌ، بِحَسَبِ تَعْيِينِ الْعَاقِدِ لَهَا، فَإِذَا عَقَدَ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مُعَيَّنٍ بِالْإِشَارَةِ أَوْ أَيَّةِ وَسِيلَةٍ تَجْعَلُ الْعَقْدَ يَنْصَبُّ عَلَيْهَا دُونَ أَمْثَالِهَا فَهِيَ حِينَئِذٍ عَيْنٌ، وَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، أَمَّا إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ كَذَا مِنَ الْحِنْطَةِ، وَبَيَّنَ أَوْصَافَهَا، فَهِيَ قَدْ ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ وَلَمْ تَقَعْ عَلَى مُعَيَّنٍ، بِالرَّغْمِ مِنْ كَوْنِهَا عِنْدَهُ لَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهَا لِلْعَقْدِ.وَعَلَى هَذَا قَالَ قَاضِيخَانْ فِي فَتَاوِيهِ: «الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَعْيَانِ، وَكَذَا التِّبْرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَوَانِي، وَلَا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيمَا مُلِكَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ (أَيِ الْمُسْلَمِ فِيهِ)، وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ».
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمِنْهُ- أَيِ الْأَعْيَانِ- بَيْعُ إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَثْمَانِ الْخَالِصَةِ.وَكَذَا رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ إِذَا كَانَ عَيْنًا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، أَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَقَدْ تَمَحَّضَتْ دُيُونًا فَهِيَ لَا تَقْبَلُ التَّعْيِينَ.
ب- كَوْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي عَقْدٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ: أَيْ يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ:
13- وَذَلِكَ كَالْبَيْعِ، فَإِذَا رَدَّ الْمَبِيعَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَكَالْإِجَارَةِ- إِذَا رَدَّ الْعَيْنَ الْمَأْجُورَةَ- وَالصُّلْحِ عَنْ دَعْوَى الْمَالِ بِرَدِّ الْمَالِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ، وَالْقِسْمَةِ بِرَدِّ النَّصِيبِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ تَنْفَسِخُ بِرَدِّ مَحَلِّهَا فَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، أَمَّا مِثْلُ الْمَهْرِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، أَوِ الْبَدَلِ فِي الْخُلْعِ، وَبَدَلِ الصُّلْحِ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ تِلْكَ الْعُقُودَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَيْهَا لَا تَنْفَسِخُ بِرَدِّ هَذِهِ الْأَمْوَالِ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا أَعْيَانٌ.
ذَلِكَ أَنَّ الرَّدَّ لَمَّا لَمْ يُوجِبِ الِانْفِسَاخَ بَقِيَ الْعَقْدُ قَائِمًا، وَقِيَامُهُ يُوجِبُ الْمُطَالَبَةَ بِالْعَيْنِ لَا بِمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْقِيمَةِ.فَلَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ أَبَدًا.إِذْ كُلَّمَا آلَتْ إِلَيْهِ عَيْنٌ بَدِيلَةٌ ثَبَتَ فِيهَا خِيَارُ رُؤْيَةٍ وَرَدٍّ وَهَكَذَا، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مِمَّا يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ لِيَكُونَ لِثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِيهِ جَدْوَى.
ج- عَدَمُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ قَبْلَهُ، مَعَ عَدَمِ التَّغَيُّرِ:
14- سَبَبُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ السَّابِقَةَ تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخِيَارِ إِذَا تَوَفَّرَ فِيهَا أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: عَدَمُ التَّغَيُّرِ، فَبِالتَّغَيُّرِ يَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا شَيْئًا لَمْ يَرَهُ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا وَقْتَ الْعَقْدِ أَنَّ مَا يَعْقِدُ عَلَيْهِ هُوَ مَرْئِيُّهُ السَّابِقُ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَأَنْ رَأَى ثَوْبًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ مَلْفُوفًا بِسَاتِرٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ ذَلِكَ الَّذِي رَآهُ فَلَهُ الْخِيَارُ.لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالرِّضَا.
وَسَوَاءٌ فِي الرُّؤْيَةِ أَنْ تَكُونَ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كُلِّهِ، أَوْ لِنَمُوذَجٍ مِنْهُ، أَوِ الْجُزْءِ الدَّالِ عَلَى الْكُلِّ.
وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي الرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ أَنْ تَحْصُلَ مَعَ قَصْدِ الشِّرَاءِ حِينَئِذٍ، فَلَوْ رَآهُ لَا لِقَصْدِ الشِّرَاءِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ.
وَهَذَا الْقَيْدُ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ وَجَامِعِ الْفُصُولَيْنِ مُصَدَّرًا بِلَفْظِ «قِيلَ»- وَهِيَ صِيغَةُ تَمْرِيضٍ- لَكِنَّ ابْنَ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ قَالَ عَقِبَهُ: «وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ لَا يُتَأَمَّلُ التَّأَمُّلَ الْمُفِيدَ» ثُمَّ قَالَ الْحَصْكَفِيُّ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: «وَلِقُوَّةِ مُدْرَكِهِ عَوَّلْنَا عَلَيْهِ» غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرُقْ لِلْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ وَالْمَقْدِسِيِّ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ، بِحُجَّةِ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِإِطْلَاقَاتِهِمْ.
وَاعْتِبَارُ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطًا لِقِيَامِ الْخِيَارِ، هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْكَاسَانِيُّ- وَهُوَ شَدِيدُ الْوُضُوحِ فِي ظَاهِرِهِ- لَكِنْ لِلْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ عِبَارَةٌ تُوهِمُ خِلَافَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي تَحْلِيلِ لَفْظِ: (خِيَارُ الرُّؤْيَةِ): الْإِضَافَةُ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى شَرْطِهِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَعَدَمَ الرُّؤْيَةِ هُوَ السَّبَبُ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ.فَهُوَ قَدِ اعْتَبَرَ الرُّؤْيَةَ شَرْطًا، وَعِنْدَ الْكَاسَانِيِّ الشَّرْطُ عَكْسُهُ: عَدَمُ الرُّؤْيَةِ.
د- رُؤْيَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ مَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ:
15- أَشَارَ ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ كَمَا رَأَيْنَا، وَمَنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي عِدَادِ الشُّرُوطِ اكْتَفَى بِالْبَيَانِ الصَّرِيحِ بِأَنَّ وَقْتَ ثُبُوتِهِ هُوَ وَقْتُ الرُّؤْيَةِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الرُّؤْيَةُ بَعْدَ الشِّرَاءِ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ.
مَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ:
16- هُنَاكَ اتِّجَاهَاتٌ لِلْفُقَهَاءِ فِيمَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ.
الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيمَا بَاعَهُ وَلَمْ يَرَهُ، كَمَنْ وَرِثَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْيَانِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ فَبَاعَهُ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ، Bوَهُوَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا آخِرُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَدْ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا بِثُبُوتِهِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ لَازِمٌ، وَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ.وَاسْتَدَلُّوا بِنَصِّ الْحَدِيثِ الْمُثْبِتِ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ عَدَمَ الْخِيَارِ وَلُزُومَ الْعَقْدِ هُوَ الْأَصْلُ.
وَفِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلطَّرَفَيْنِ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا يُعْتَبَرُ مُشْتَرِيًا.
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا، وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَرْجُوعُ عَنْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ عَلَى افْتِرَاضِ الْأَخْذِ بِالْخِيَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ صَحَّحُوا عَدَمَ الْأَخْذِ بِهِ.
الْعُقُودُ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:
17- يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الشِّرَاءُ، لِأَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ دُونَ الْبَائِعِ وَالْعَقْدُ مِنْ وِجْهَتِهِ شِرَاءٌ.
أَمَّا فِي (عَقْدِ السَّلَمِ) فَإِذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ عَيْنًا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيهِ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ.
وَلَا يَثْبُتُ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ إِنْ كَانَ دَيْنًا كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ بَتَاتًا، لِأَنَّ شَرْطَهُ الْأَسَاسِيَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الدُّيُونِ.
وَلَا مَدْخَلَ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي الصَّرْفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ.
وَيَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي الِاسْتِصْنَاعِ لِلْمُسْتَصْنِعِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ أَتَى بِهِ الصَّانِعُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ وَلَا يَثْبُتُ لِلصَّانِعِ إِذَا أَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعَ وَرَضِيَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْخِيَارُ لَهُمَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لُزُومُهُ فِي حَقِّهِمَا.
أَمَّا الصَّانِعُ فَلَيْسَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ فِي إِجَارَةِ الْأَعْيَانِ، كَإِجَارَةِ دَارٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ سَيَّارَةٍ بِذَاتِهَا، إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ عَقَدَ الْإِجَارَةَ دُونَ أَنْ يَرَى الْمَأْجُورَ.
وَفِي عَقْدِ الْقِسْمَةِ يَثْبُتُ فِي قِسْمَةِ غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ، أَيْ فِي نَوْعَيْنِ فَقَطْ مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْمَالِ الْمَقْسُومِ، هُمَا قِسْمَةُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ جَزْمًا، وَقِسْمَةُ الْقِيَمِيَّاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْجِنْسِ كَالثِّيَابِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، أَوِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، أَمَّا فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْجِنْسِ كَالْمَكِيلَاتِ Bوَالْمَوْزُونَاتِ، فَلَا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيهَا، لِأَنَّهَا مِمَّا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُقْتَسِمِينَ لَمْ يَرَ نَصِيبَهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ.
وَفِي عَقْدِ الصُّلْحِ عَلَى مَا سَبَقَ.
وَقْتُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:
18- وَقْتُ ثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ هُوَ وَقْتُ الرُّؤْيَةِ، لَا قَبْلَهَا.وَلِذَا لَوْ أَمْضَى الْعَقْدَ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَرَضِيَ بِهِ صَرِيحًا بِأَنْ قَالَ: أَجَزْتُ أَوْ رَضِيتُ أَوْ مَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، ثُمَّ رَآهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.لِأَنَّ النَّصَّ أَثْبَتَ الْخِيَارَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْإِجَازَةِ قَبْلَهَا وَأَجَازَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ بَعْدَهَا، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ مَجْهُولُ الْوَصْفِ.
وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ وَبِوُجُودِ سَبَبِهِ مُحَالٌ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ.
وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَوِ التَّنَازُلِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: رَضِيتُ الْمَبِيعَ أَوْ أَمْضَيْتُ الْعَقْدَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِالرُّؤْيَةِ، وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ فَرْعٌ لِثُبُوتِهِ، فَلَا يُمْكِنُ الْإِسْقَاطُ قَبْلَ الثُّبُوتِ.فَلَوْ أَسْقَطَ الْمُشْتَرِي خِيَارَهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَسْقُطْ، وَظَلَّ لَهُ حَقُّ مُمَارَسَتِهِ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ.قَالَ السَّرَخْسِيُّ: إِنَّ فِي الرِّضَا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ هُنَا إِبْطَالَ حُكْمٍ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَهُوَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الرُّؤْيَةِ.
إِمْكَانُ الْفَسْخِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ:
19- قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِنَاءً عَلَى الْخِيَارِ- لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ- بَلْ لِمَا فِي الْعَقْدِ مِنْ صِفَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ لِلْجَهَالَةِ الْمُصَاحِبَةِ لَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، حَيْثُ اشْتَرَاهُ دُونَ أَنْ يَرَاهُ، فَهُوَ كَالْعُقُودِ الْأُخْرَى غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَفَسْخُهُ مُمْكِنٌ لِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، فَكَانَ سَبَبًا آخَرَ لِلْفَسْخِ وَلَا مَانِعَ مِنِ اجْتِمَاعِ الْأَسْبَابِ عَلَى مُسَبَّبٍ وَاحِدٍ.
أَمَدُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
20- لِلْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ مَدَى الزَّمَنِ الصَّالِحِ لِلرِّضَا أَوِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ اتِّجَاهَانِ:
الْأَوَّلُ: عَلَى التَّرَاخِي، فَلَيْسَ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ مَدًى مَحْدُودٌ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِمُدَّةٍ.
فَهُوَ يَبْدَأُ بِالرُّؤْيَةِ وَيَبْقَى إِلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُبْطِلُهُ- وَلَوْ فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ- وَلَا يَتَوَقَّتُ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ.
وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ مِنْ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، Bوَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْمُخْتَارُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ وَابْنُ نُجَيْمٍ وَغَيْرُهُمَا.
وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ، وَلِأَنَّ سَبَبَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ اخْتِلَالُ الرِّضَا، وَالْحُكْمُ يَبْقَى مَا بَقِيَ سَبَبُهُ.
الثَّانِي: عَلَى الْفَوْرِ، فَهُوَ مُؤَقَّتٌ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ رَآهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْفَسْخِ وَلَمْ يَفْسَخْ سَقَطَ خِيَارُهُ بِذَلِكَ وَلَزِمَ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصْرِيحٌ بِالرِّضَا أَوْ مُسْقِطٍ آخَرَ لِلْخِيَارِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا.وَهَذَا قَوْلٌ لِبَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ.
أَثَرُ الْخِيَارِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ:
21- حُكْمُ الْعَقْدِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ حُكْمُ الْعَقْدِ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْحِلِّ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ لِلْحَالِّ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ لِلْحَالِّ، لِأَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ، أَوِ الْإِجَارَةِ، أَوِ الْقِسْمَةِ، أَوِ الصُّلْحِ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِهِ.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ الْعَقْدُ لَوْلَا أَنَّهُ ثَبَتَ الْخِيَارُ (شَرْعًا) احْتِيَاطًا لِلْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَمَّةَ ثَبَتَ بِإِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ فَأَثَّرَ فِي رُكْنِ الْعَقْدِ بِالْمَنْعِ مِنَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ تَحْقِيقًا لِرَغْبَةِ الْعَاقِدِ فِي تَعْلِيقِ الْعَقْدِ.
هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْفَسْخِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، فَالْعَقْدُ غَيْرُ لَازِمٍ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، أَمَّا مَنْ مَنَعَ الْفَسْخَ فَهُوَ يَرَى أَنَّ الْعَقْدَ بَاتٌّ، فَلَا يَلْحَقُهُ فَسْخٌ وَلَا إِجَازَةٌ إِلَى أَنْ تَحْصُلَ الرُّؤْيَةُ، وَقَدْ مَالَ ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى هَذَا.
أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ:
22- مُنْذُ قِيَامِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ (بِتَحَقُّقِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الرُّؤْيَةُ) يَغْدُو الْعَقْدُ غَيْرَ لَازِمٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيُّ أَثَرٍ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ، فَلَا يَمْنَعُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْعَقْدِ قَدْ وُجِدَ خَالِيًا مِنْ تَعْلِيقٍ حُكْمِ الْعَقْدِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهُ كَامِلًا كَانْتِقَالِ الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمِلْكَ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَا يَنْتَقِلُ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ بِاحْتِمَالِ الْفَسْخِ، وَالْمِلْكُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَقْدِ الْمُسْتَقَرِّ.وَلَا يَخْفَى أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْعَقْدِ لَا يَعُوقُ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْهُ تَمَكُّنُ صَاحِبِ الْخِيَارِ مِنْ رَفْعِ الْعَقْدِ بِالْفَسْخِ.
سُقُوطُ الْخِيَارِ:
23- يَسْقُطُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بِالْأُمُورِ التَّالِيَةِ، سَوَاءٌ حَصَلَتْ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَوْ بَعْدَهَا:
أ- التَّصَرُّفَاتُ فِي الْمَبِيعِ بِمَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ، كَمَا Bلَوْ بَاعَ الشَّيْءَ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَرَهُ لِشَخْصٍ آخَرَ بَيْعًا لَا خِيَارَ فِيهِ، أَوْ رَهَنَهُ، أَوْ آجَرَهُ، أَوْ وَهَبَهُ مَعَ التَّسْلِيمِ، لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا تَكُونُ إِلاَّ مَعَ الْمِلْكِ، وَمِلْكُ صَاحِبِ الْخِيَارِ ثَابِتٌ فِيهَا، فَصَادَفَتِ الْمَحَلَّ وَنَفَذَتْ، وَبَعْدَ نُفُوذِهَا لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ وَالرَّفْعَ، فَبَطَلَ الْخِيَارُ ضَرُورَةً، كَمَا أَنَّ إِبْطَالَهَا فِيهِ ضَيَاعٌ لِحُقُوقِ الْغَيْرِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ لَهُمْ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، فَفَسْخُ الْبَيْعِ أَوْلَى مِنْ إِبْطَالِ حُقُوقِهِمْ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، أَوِ الْمُسَاوِمَةِ بِقَصْدِ الْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ، أَوِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَرْبُو عَلَى صَرِيحِ الرِّضَا، وَهُوَ لَا يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ.ثُمَّ إِنَّ التَّصَرُّفَ الَّذِي تَعَلَّقَ فِيهِ حَقُّ الْغَيْرِ لَوْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ بِرَدٍّ قَضَائِيٍّ، أَوْ بِفَكِّ الرَّهْنِ، أَوْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ ثُمَّ رَآهُ فَلَهُ الْخِيَارُ.
ب- تَغَيُّرُ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ:
حُصُولُ التَّغَيُّرِ إِمَّا بِطُرُوءِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا (الْمُنْفَصِلَةِ أَوِ الْمُتَّصِلَةِ، الْمُتَوَلِّدَةِ أَوْ غَيْرِهَا) عَلَى أَنْ تَكُونَ مَانِعَةً لِلرَّدِّ، وَإِمَّا بِالنَّقْصِ وَالتَّعَيُّبِ- فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- وَالنَّقْصُ الْمُرَادُ هُنَا هُوَ مَا يَحْصُلُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي خِيَارَيِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ، كَمَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ.
ج- تَعَيُّبُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي:
لِأَنَّهُ بِالتَّعَيُّبِ لَا يُمْكِنُ إِرْجَاعُ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ كَمَا اسْتَلَمَهُ الْمُشْتَرِي، وَالْفَسْخُ يَكُونُ بِالْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمَبِيعُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَقَدِ اسْتَلَمَهُ سَلِيمًا فَلَا يَرُدُّهُ مَعِيبًا، وَلِذَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ.
د- إِجَازَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا اشْتَرَيَاهُ وَلَمْ يَرَيَاهُ دُونَ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَذَرًا مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ، كَمَا مَرَّ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ.
هـ- الْمَوْتُ: وَاعْتِبَارُهُ مُسْقِطًا مَوْضِعُ خِلَافٍ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
حُكْمُ صَرِيحِ الْإِسْقَاطِ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، إِلاَّ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لَا يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ لَا قَبْلَ Bالرُّؤْيَةِ وَلَا بَعْدَهَا، لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ثَبَتَ شَرْعًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ، وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَقَدْ ثَبَتَا بِالِاشْتِرَاطِ حَقِيقَةً، أَوْ دَلَالَةً، وَمَا ثَبَتَ حَقًّا لِلْعَبْدِ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِهِ مَقْصُودًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا، اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا، فَأَمَّا مَا ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ فَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ إِسْقَاطًا مَقْصُودًا، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَقْصُودًا، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ حَقِّ الشَّرْعِ، فَيَسْقُطُ حَقُّ الشَّرْعِ فِي ضِمْنِ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ.
انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:
24- يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ إِجَازَةً قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً، وَالْإِجَازَةُ الْقَوْلِيَّةُ هِيَ الرِّضَا بِالْعَقْدِ، صَرَاحَةً أَوْ بِمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا.أَمَّا الْإِجَازَةُ الْفِعْلِيَّةُ فَتَكُونُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، بِأَنْ يُوجَدَ مِنَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفٌ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.أَمَّا الْفَسْخُ فَمِنْهُ اخْتِيَارِيٌّ، وَمِنْهُ ضَرُورِيٌّ دُونَ إِرَادَةِ الْعَاقِدِ.
انْتِهَاؤُهُ بِالْإِجَازَةِ:
الْإِجَازَةُ الصَّرِيحَةُ أَوْ بِمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا:
25- تَتِمُّ الْإِجَازَةُ الصَّرِيحَةُ بِالتَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا، وَهُوَ بِكُلِّ عِبَارَةٍ تُفِيدُ إِمْضَاءَ الْعَقْدِ، أَوِ اخْتِيَارَهُ، مِثْلُ: أَجَزْتُهُ، أَوْ رَضِيتُهُ، أَوِ اخْتَرْتُهُ.وَفِي مَعْنَى الرِّضَا الصَّرِيحِ مَا شَابَهَهُ وَجَرَى مَجْرَاهُ سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْبَائِعُ بِالْإِجَازَةِ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ اللُّزُومُ.
الْإِجَازَةُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ:
26- هِيَ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَبْضُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ.
وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ بِأَنْ كَانَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ، أَوْ أَرْضًا فَبَنَى عَلَيْهَا، لِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلِيلُ الرِّضَا، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَكَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ حَرَامٌ، فَجَعَلَ ذَلِكَ إِجَازَةً، صِيَانَةً لَهُ عَنِ ارْتِكَابِهِ.
انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِالْفَسْخِ:
27- الْفَسْخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا، أَوْ ضَرُورِيًّا، كَمَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ، وَصُورَةُ الْفَسْخِ الِاخْتِيَارِيِّ (الَّذِي يَنْتَهِي بِهِ الْخِيَارُ تَبَعًا) هِيَ أَنْ يَقُولَ: فَسَخْتُ الْعَقْدَ، أَوْ نَقَضْتُهُ، أَوْ رَدَدْتُهُ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى.
وَأَمَّا الْفَسْخُ الضَّرُورِيُّ فَلَهُ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ Bذَكَرَهَا الْكَاسَانِيُّ، وَهِيَ أَنْ يَهْلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ ضَرُورَةً، وَيَنْتَهِيَ مَعَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِذَهَابِ الْمَحَلِّ.
شَرَائِطُ الْفَسْخِ:
28- يُشْتَرَطُ لِلْفَسْخِ مَا يَأْتِي:
أ- قِيَامُ الْخِيَارِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ إِذَا سَقَطَ بِأَحَدِ الْمُسْقِطَاتِ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ اللاَّزِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ.
ب- أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ رَدَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ بَعْضِهِ لَمْ يَصِحَّ.
وَكَذَا إِذَا رَدَّ الْبَعْضَ وَأَجَازَ الْبَيْعَ فِي الْبَعْضِ لَمْ يَجُزْ.سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ قَبْضِهِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ، فَفِي بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي الْبَعْضِ تَفْرِيقٌ لِلصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ تَمَامِهَا وَهُوَ بَاطِلٌ.
ج- عِلْمُ الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَدْ تَوَسَّعَ الْكَاسَانِيُّ فِي دَلَائِلِ هَذَا الْخِلَافِ.
انْتِقَالُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
29- خِيَارُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ، وَذَلِكَ مُنْسَجِمٌ مَعَ كَوْنِهِ عِنْدَهُمْ لِمُطْلَقِ التَّرَوِّي، لَا لِتَحَاشِي الضَّرَرِ أَوِ الْخُلْفِ فِي الْوَصْفِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَنْظُرَ الْمُشْتَرِي أَيَصْلُحُ لَهُ أَمْ لَا، وَمَعَ اعْتِبَارِهِمْ إِيَّاهُ خِيَارًا حُكْمِيًّا مِنْ جِهَةِ الثُّبُوتِ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِالْإِرَادَةِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
11-موسوعة الفقه الكويتية (خيار الشرط 2)
خِيَارُ الشَّرْطِ -2مَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ:
23- خِيَارُ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِ الْعُقُودِ، وَالْعُقُودُ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا وُقُوعُ خِيَارِ الشَّرْطِ هِيَ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ الْقَابِلَةُ لِلْفَسْخِ، لِأَنَّ فَائِدَتَهُ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِيهَا فَقَطْ.أَمَّا الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ فَهِيَ بِمَا تَتَّصِفُ بِهِ مِنْ طَبِيعَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ لَا فَائِدَةَ لِاشْتِرَاطِ خِيَارٍ فِيهَا.وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ فَيَتَعَذَّرُ قِيَامُ الْخِيَارِ فِيهَا، لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ طَبِيعَتَهَا.
وَالْبَيْعُ هُوَ الْمَجَالُ الْأَسَاسِيُّ لِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَجَرَيَانُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ اتِّفَاقِيٌّ، لِأَنَّهُ هُوَ الْعَقْدُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ أَخْبَارُ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَالْبَيْعُ عَقْدٌ لَازِمٌ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ (بِطَرِيقِ الْإِقَالَةِ) فَهُوَ يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِخِيَارِ الشَّرْطِ.بَلْ يَدْخُلُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَمَا هُوَ نَصُّ الْهِدَايَةِ لِلْمَرْغِينَانِيِّ، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْبَيْعِ بَيْعَ مُسَاوَمَةٍ، أَوْ بَيْعَ أَمَانَةٍ كَالْمُرَابَحَةِ وَأَخَوَاتِهَا.
أَمَّا الْمُسْتَثْنَيَاتُ مِنَ الْبَيْعِ فَهِيَ: السَّلَمُ، وَالصَّرْفُ، وَبَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِقَوْلِهِ: كُلُّ بَيْعٍ قَبْضُ عِوَضِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ.وَهِيَ عُقُودٌ يُبْطِلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ إِسْقَاطُهُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ.
وَقَدْ نَبَّهَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ مُخِلٌّ بِالضَّابِطِ، وَهُوَ ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْدِ اللاَّزِمِ الْمُحْتَمَلِ الْفَسْخَ، فَهُمَا- أَيِ السَّلَمُ وَالصَّرْفُ- كَذَلِكَ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ فِي السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ قَصِيرٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (سَلَمٌ)، (صَرْفٌ).
وَيَجْرِي خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَيَّدُوا الْخِيَارَ بِالْإِجَارَةِ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ، أَمَّا الْإِجَارَةُ الْمُعَيَّنَةُ فَيَدْخُلُهَا الْخِيَارُ إِذَا كَانَتْ لِمُدَّةٍ غَيْرِ تَالِيَةٍ لِلْعَقْدِ.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ لِمُدَّةٍ تَبْدَأُ مِنْ فَوْرِ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهَا، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى فَوَاتِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ، أَوْ إِلَى اسْتِيفَائِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي وَجْهٍ لِلْحَنَابِلَةِ: تَجُوزُ فِي الْمُدَّةِ التَّالِيَةِ لِلْعَقْدِ أَيْضًا، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِقِيمَةِ الْمَنَافِعِ.
وَالْحَوَالَةُ: اخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الْأَوَّلُ: تَقْبَلُهُ، وَعَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ احْتِمَالٌ لِلْحَنَابِلَةِ- كَمَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ- فَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الْحَوَالَةِ لِكُلٍّ مِنَ الْمُحَالِ، وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ- وَهُمَا اللَّذَانِ يَجِبُ رِضَاهُمَا فِي عَقْدِهَا- أَمَّا الْمُحِيلُ- وَرِضَاهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْأَصَحِّ- فَلَيْسَ لَهُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ أَصَالَةً أَيْ بِاعْتِبَارِهِ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِنِ اشْتَرَطَ لَهُ كَمَا يَشْتَرِطُ الْأَجْنَبِيُّ مِنْ قِبَلِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، بِأَنِ اشْتَرَطَهُ لَهُ الْمُحَالُ أوِ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ، وَلَكِنْ تُطَبَّقُ أَحْكَامُ الِاشْتِرَاطِ لِأَجْنَبِيٍّ، وَهِيَ ثُبُوتُهُ لَهُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ فَيَكُونُ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِطِ.وَعَلَّلَ ابْنُ قُدَامَةَ قَبُولَ الْحَوَالَةِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ بِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يُقْصَدُ بِهَا الْعِوَضُ.
الثَّانِي: عَدَمُ قَبُولِ الْحَوَالَةِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ عَقْدَ الْحَوَالَةِ لَمْ يُبْنَ عَلَى الْمُغَابَنَةِ.وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ: اخْتَلَفَ الرَّأْيُ فِيهَا بِحَسَبِ النَّظَرِ إِلَيْهَا هَلْ هِيَ بَيْعٌ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَمْ هِيَ تَمْيِيزُ حُقُوقٍ كَمَا يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُفَادُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ.وَمَنْ أَثْبَتَ خِيَارَ الشَّرْطِ فِيهَا مِنَ الْحَنَابِلَةِ احْتَجَّ بِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَمْ يُشْرَعْ خَاصًّا بِالْبَيْعِ، بَلْ هُوَ لِلتَّرَوِّي وَتَبَيُّنِ أَرْشَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ.
وَالْقِسْمَةُ أَنْوَاعٌ: قِسْمَةُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَهِيَ قِسْمَةُ تَرَاضٍ لَا إِجْبَارَ فِيهَا- وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، وَهِيَ تَقْبَلُ الْإِجْبَارَ وَلَا يَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ- وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، كَالْبَقَر وَالْغَنَمِ، أَوِ الثِّيَابُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ تَقْبَلُ الْإِجْبَارَ وَيَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُفْتَى بِهِ.
وَالْكَفَالَةُ: يَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَلِلْكَفَالَةِ خِصِّيصَةٌ فِي بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ مِنْ حَيْثُ التَّوْقِيتُ إِذْ يَجُوزُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمَذْهَبِهِ فِي اشْتِرَاطِ التَّحْدِيدِ بِالثَّلَاثِ، لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ.
وَالْوَقْفُ: يَجْرِي فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا شَرَطَ فِي الْوَقْفِ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ فَاسِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي (وَقْفٌ).
اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ:
24- مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ لِأَيِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِكِلَيْهِمَا (فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً: لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي).وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ مِنْ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ لِنَفْسِهِ، (وَمُقْتَضَى هَذَا النَّقْلِ عَنْهُمَا أَنَّ مَجَالَ الْخِيَارِ عِنْدَهُمَا هُوَ عَقْدُ الْبَيْعِ فَقَطْ) وَعِنْدَ هَذَيْنِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْبَائِعُ فَسَدَ الْعَقْدُ.
وَفِي اشْتِرَاطِهِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا لَا فَرْقَ أَنْ يَنْشَأَ الِاشْتِرَاطُ مِنَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ أَوْ مِنْهُ لِلْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَحْصُلُ كَثِيرًا، إِذْ يَجْعَلُ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، كَمَا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ لَكَ ذَا الشَّيْءَ عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ، فَإِذَا صَدَرَ الْقَبُولُ مِنَ الْمُشْتَرِي كَانَ الْخِيَارُ لَهُ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِمَنْ شُرِطَ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ الْعَاقِدِ الْمُشْتَرِطِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَهُ لِنَفْسِهِ أَيْضًا وَرَضِيَ الْآخَرُ.
اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ عَنِ الْعَقْدِ:
25- يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِأَجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الِاشْتِرَاطُ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْأَجْنَبِيُّ الْمُشْتَرَطُ لَهُ الْخِيَارُ شَخْصًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا مِنَ الْعَاقِدَيْنِ كِلَيْهِمَا أَوْ كَانَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا شَخْصٌ غَيْرُ مَنِ اشْتَرَطَهُ الْآخَرُ، عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى نَصٍّ عَنْ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ دَلَائِلَ الْجَوَازِ تَشْمَلُهُ.
وَأَصْلُ هَذَا الْحُكْمِ (صِحَّةُ الِاشْتِرَاطِ لِأَجْنَبِيٍّ) مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَجْعُولُ لَهُ الْخِيَارُ مِمَّنْ يَجُوزُ قَوْلُهُ- لَا كَالطِّفْلِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ- وَإِلاَّ بَطَلَ الْخِيَارُ.
وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الِاسْتِحْسَانُ، فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَلِذَا خَالَفَ فِيهِ زُفَرُ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ مُوَاجِبِ الْعَقْدِ وَأَحْكَامِهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ بِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالِاسْتِحْسَانِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً ظَاهِرَةً حِينَ يَكُونُ الْمُتَعَاقِدُ قَلِيلَ الْخِبْرَةِ بِالْأَشْيَاءِ يَخْشَى الْوُقُوعُ فِي الْغَبْنِ فَيَلْجَأُ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْصَرُ مِنْهُ وَيُفَوِّضُ إِلَيْهِ الْخِيَارَ.وَفَضْلاً عَنْ هَذَا أَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ لَيْسَ أَصَالَةً بَلْ هُوَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ الْعَاقِدِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُ- عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ- فَيُقَدَّرُ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدِ اقْتِضَاءً، ثُمَّ يَجْعَلُ الْأَجْنَبِيَّ نَائِبًا عَنْهُ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِدِ.
فَإِذَا جَعَلَ الْخِيَارَ لِأَجْنَبِيٍّ، فَمَا هِيَ صِفَةُ هَذَا الْجُعْلِ؟ وَمَا أَثَرُهُ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وِجْهَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ تَوْكِيلٍ لِغَيْرِهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ، فَالْخِيَارُ لِلْعَاقِدِ وَالْأَجْنَبِيِّ مَعًا.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.بَلْ إِنَّ الْحَنَابِلَةَ جَعَلُوا الْخِيَارَ لَهُمَا أَيْضًا فِيمَا لَوْ قَصَرَ الْعَاقِدُ الْخِيَارَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَقَالَ: هُوَ لَهُ دُونِي، وَذَهَبَ أَبُو يَعْلَى مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ.
الْوِجْهَةُ الْأُخْرَى: أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ جَعْلَ الْخِيَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ تَفْوِيضٌ- أَوْ تَحْكِيمٌ- لَا تَوْكِيلٌ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ.
شَرْطُ الِاسْتِئْمَارِ (أَوِ الْمُؤَامَرَةِ) أَوِ الْمَشُورَةِ:
26- مِمَّا يَتَّصِلُ بِمَعْرِفَةِ صَاحِبِ الْخِيَارِ قَضِيَّةُ اشْتِرَاطِ مَشُورَةِ فُلَانٍ مِنَ النَّاسِ، أَوِ اسْتِئْمَارِهِ: أَيْ مَعْرِفَةُ أَمْرِهِ وَامْتِثَالُهُ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُسْتَأْمِرِ وَالْمُسْتَأْمَرِ الِاسْتِقْلَالَ فِي الرَّدِّ وَالْإِمْضَاءِ (بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ وَرِضَاهُ، فَلَا اسْتِقْلَالَ لَهُ دُونَ مَنْ شَرَطَ لَهُ، وَهَذَا فِي الْمَشُورَةِ الْمُطْلَقَةِ، أَمَّا إِذَا قَالَ عَلَى مَشُورَتِهِ إِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ رَدَّ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ).
وَلِلْمَالِكِيَّةِ هَاهُنَا تَفْصِيلٌ بِحَسَبِ صِيغَةِ جَعْلِ الْخِيَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ، فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْمَشُورَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْخِيَارِ أَوِ الرِّضَا.
فَإِذَا قَالَ: عَلَى مَشُورَةِ فُلَانٍ، فَإِنَّ لِلْعَاقِدِ- بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا- أَنْ يَسْتَبِدَّ بِإِبْرَامِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ دُونَ أَنْ يَفْتَقِرَ ذَلِكَ إِلَى مَشُورَتِهِ.لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْمُشَاوِرَةِ الْمُوَافَقَةُ، وَمُشْتَرِطُ الْمَشُورَةِ اشْتَرَطَ مَا يُقَوِّي بِهِ نَظَرَهُ.
أَمَّا إِذَا قَالَ: عَلَى خِيَارِ فُلَانٍ أَوْ رِضَاهُ، فَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مِنْهَا أَنَّهُ تَفْوِيضٌ فَلَيْسَ لِلْعَاقِدِ- بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا- أَنْ يَسْتَقِلَّ بِإِبْرَامِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ، ذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ- أَوِ الرِّضَا- لِلْأَجْنَبِيِّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ تَوْكِيلاً بَلْ هُوَ تَفْوِيضٌ، حَيْثُ إِنَّهُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِغَيْرِهِ مُعْرِضٌ عَنْ نَظَرِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَلْحَقُوا بِلَفْظِ الْخِيَارِ أَوِ الرِّضَا لَفْظَ الْمَشُورَةِ- السَّابِقَ ذِكْرُهُ- إِذَا جَاءَ مُقَيَّدًا بِمَا يَدْنُو بِهِ إِلَى هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: عَلَى مَشُورَةِ فُلَانٍ إِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، فَحُكْمُ هَذَا كَالْخِيَارِ وَالرِّضَا.وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِاللَّفْظَيْنِ مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ أَلْفَاظٍ مُسْتَحْدَثَةٍ تُؤَدِّي الْمَعْنَى نَفْسَهُ كَالرَّغْبَةِ وَالرَّأْيِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذَا اتِّجَاهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَتَّى يَقُولَ: اسْتَأْمَرْتُهُ فَأَمَرَنِي بِالْفَسْخِ، وَالِاتِّجَاهُ الْآخَرُ- وَعَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ- : أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اسْتِئْمَارُهُ، وَأَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْمُثْبِتُونَ قَدْ جَاءَ بِقَصْدِ الِاحْتِيَاطِ لِئَلاَّ يَكُونَ كَاذِبًا.وَنَحْوُهُ مَا ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ (إِنْ أَخَذْتُ) عَلَى (إِنْ رَضِيتُ)، إِذْ قَدْ يَرْضَى، ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ، وَقَدْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ الرَّأْيَ الْأَوَّلَ.وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَنْ سَيُشَاوِرُهُ.أَمَّا لَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ أُشَاوِرَ (كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا)، لَمْ يَكْفِ.قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ يَكْفِي، وَهُوَ فِي هَذَا شَارِطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ.
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَفِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
النِّيَابَةُ فِي الْخِيَارِ:
27- الْخِيَارُ يَثْبُتُ لِلْعَاقِدِ الْمُشْتَرِطِ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ مَهْمَا كَانَتْ صِفَةُ الْعَاقِدِ، فَسَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَمْ وَصِيًّا يَعْقِدُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوصَى عَلَيْهِ، أَمْ وَلِيًّا لِمَصْلَحَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، أَمْ كَانَ يَعْقِدُ بِالْوَكَالَةِ.
ذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي حَالِ الْوِلَايَةِ أَوِ الْوِصَايَةِ هُوَ مِنْ بَابِ النَّظَرِ وَالرِّعَايَةِ لِلصَّغِيرِ فَذَلِكَ لَهُمَا.وَأَمَّا فِي الْوَكَالَةِ، فَلِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْعَقْدِ أَمْرًا مُطْلَقًا فَيَظَلُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَيَشْمَلُ الْعَقْدَ بِخِيَارٍ أَوْ بِدُونِهِ.
وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ أَوِ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ، يَمْلِكُ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي مُعَامَلَاتِ الشَّرِكَةِ بِمُقْتَضَى إِطْلَاقِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ.
وَهَذَا شَامِلٌ لِمَا لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْعَاقِدِ الْآخَرِ الَّذِي يُشَاطِرُهُ التَّعَاقُدَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا بِصِحَّتِهِ فِي الْوَكَالَةِ- فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ- إِذَا اشْتَرَطَهُ الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ، كَمَا مَنَعُوا الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ فَعَلَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَهَذَا مَا لَمْ يَأْذَنَ الْمُوَكِّلُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ الْخِيَارُ مَنْ شُرِطَ لَهُ فَلَا يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ وَلَا الْعَكْسُ- وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ- لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالشَّرْطِ فَكَانَ لِمَنْ شَرَطَهُ خَاصَّةً.أَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَأَطْلَقَ، فَشَرْطُ الْوَكِيلِ كَذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ لِلْوَكِيلِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ أَحْكَامِ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ وَحْدَهُ وَلَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِرِضَا الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ مَنُوطٌ بِرِضَا وَكِيلِهِ.
وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي صِحَّةِ اشْتِرَاطِ الْوَكِيلِ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ، لَا لِلْعَاقِدِ الْآخَرِ مَعَ احْتِمَالِ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ فِيهَا بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: لِلْوَكِيلِ التَّوْكِيلُ.
ثُمَّ إِنَّ عَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَفْعَلَ مَا فِيهِ حَظُّ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ.
وَكَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعُ وَاحِدًا، يَثْبُتُ لِلْمُتَعَدِّدِ أَيْضًا إِذَا كَانَ الطَّرَفُ الْمُتَعَاقِدُ مُتَعَدِّدًا، كَمَا لَوْ بَاعَ شَرِيكَانِ شَيْئًا، أَوْ بَاعَ الْمَالِكُ سِلْعَةً لِاثْنَيْنِ وَاشْتَرَطَا الْخِيَارَ لَهُمَا.
آثَارُ الْخِيَارِ:
أَوَّلاً: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ:
28- حُكْمُ الْخِيَارِ أَنَّهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِ الْعَقْدِ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْمُعْتَادُ لِلْحَالِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَذَلِكَ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ أَيْضًا، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: الْحُكْمُ نَافِذٌ فِي حَقِّ مَنْ لَا خِيَارَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ بِالنِّسْبَةِ لَهُ- وَسَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ عَنْهُ- وَلِذَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ: (هُوَ لِلْحَالِ مَوْقُوفٌ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ حُكْمُهُ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ) وَالْعِلَّةُ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ أَنَّهُ لَا يُدْرَى أَيَتَّصِلُ بِهِ الْفَسْخُ أَوِ الْإِجَازَةُ.ثُمَّ قَالَ بَعْدَئِذٍ: «فَيَتَوَقَّفُ فِي الْجَوَابِ لِلْحَالِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ عِنْدَنَا، وَقَالَ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ: شَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ».
وَتَبَيَّنَ مِنْ مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى الْعَقْدِ حُكْمُهُ فِي الْحَالِ، فَلَا يَخْرُجُ الْمَبِيعُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَا الثَّمَنُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَا يَفْتَرِقُ هَذَا الْعَقْدُ عَنِ الْعَقْدِ الْبَاتِّ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ تَعَرُّضُهُ لِلْفَسْخِ بِمُوجِبِ خِيَارِ الشَّرْطِ الَّذِي زَلْزَلَ حُكْمَ الْعَقْدِ وَجَعَلَهُ عُرْضَةً لِلْفَسْخِ.فَفِي حَالِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلطَّرَفَيْنِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ أَصْلاً.
وَإِلَى مِثْلِ ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي صُورَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلطَّرَفَيْنِ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، لَا يُحْكَمُ بِانْتِقَالِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَلَا أَنَّهُ لِلْبَائِعِ خَالِصًا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِلْكِيَّةُ مَحَلِّ الْخِيَارِ بَاقِيَةٌ لِلْبَائِعِ، وَلَمْ تَنْتَقِلْ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَحُكْمُ الْعَقْدِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى خِيَارٍ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ نَفَاذِهِ أَيًّا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ.
ثَانِيًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ:
يَخْتَلِفُ أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ كَوْنِهِ لِأَحَدِهِمَا.
أ- كَوْنُ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ:
29- إِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ ثَابِتًا لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلَا تَغْيِيرَ يَحْصُلُ فِي قَضِيَّةِ الْمِلْكِ لِلْبَدَلَيْنِ، فَمَحَلُّ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَالثَّمَنُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا.ذَلِكَ مَوْقِفُ الْحَنَفِيَّةِ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فِي الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا، فَلَا يَزُولُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَكَذَا الثَّمَنُ...لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَوْجُودٌ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ الْخِيَارُ.وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَوْقِفُ الشَّافِعِيَّةِ بِمُلَاحَظَةِ اخْتِيَارِهِمْ وَصْفَ هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ بِانْتِظَارِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمِلْكَ مَا زَالَ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ تَمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ لِلْمُشْتَرِي مُنْذُ الْعَقْدِ.
وَالْمَذَاهِبُ الْأُخْرَى لَا تُفْرِدُ هَذِهِ الْحَالَةَ بِالْحُكْمِ، بَلْ يَنْصَبُّ نَظَرُهَا إِلَى خِيَارِ الْبَائِعِ، فَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْقَضِيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى النَّقِيضِ مِمَّا سَبَقَ، فَالْمِلْكُ فِي الْعَقْدِ الْمُقْتَرِنِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَمْ لِأَحَدِهِمَا أَيًّا كَانَ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ عَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْعَقْدَ مَعَ الْخِيَارِ كَالْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عَنْهُ.
ب- كَوْنُ الْخِيَارِ لِأَحَدِهِمَا:
30- تَخْتَلِفُ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْمَالِكِ لِمَحَلِّ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَتَنْحَصِرُ الْآرَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: بَقَاءُ الْمِلْكِ، انْتِقَالُهُ، التَّفْصِيلُ بِحَسَبِ صَاحِبِ الْخِيَارِ.
1- ذَهَبَ الرَّأْيُ الْأَوَّلُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ لِصَاحِبِ الْمَحَلِّ كَمَا كَانَ قَبْلَ حُصُولِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْبَائِعُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا.بِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ.وَقَدْ عَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ بَيْعَ الْخِيَارِ مُنْحَلٌّ لَا مُنْعَقِدٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ لَمْ يَنْتَقِلْ، فَالْإِمْضَاءُ اللاَّحِقُ بَعْدَئِذٍ نَاقِلٌ لِلْمِلْكِ لَا مُقَرِّرٌ.
فَقَدِ اعْتَبَرَ هَؤُلَاءِ يَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى مَحَلِّ الْخِيَارِ يَدَ أَمَانَةٍ، وَأَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الْمَالِكُ (وَالضَّامِنُ أَيْضًا) وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِيَارُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ، أَيْ هُوَ عَقْدٌ غَيْرُ نَافِذٍ فِي الْجُمْلَةِ: لَمْ يَنْتَقِلَ الْمِلْكُ عَنِ الْبَائِعِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقَعْ قَبُولٌ مِنَ الْعَاقِدِ الْآخَرِ (الْمُشْتَرِي مَثَلاً).
2- الرَّأْيُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، فَالْإِمْضَاءُ تَقْرِيرٌ لَا نَقْلٌ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْضًا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ.
3- وَالرَّأْيُ الثَّالِثُ قَائِمٌ عَلَى التَّفْصِيلِ بِحَسَبِ صَاحِبِ الْخِيَارِ.
فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْمِلْكُ بَاقٍ لَهُ، لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ مِنْهُ إِبْقَاءٌ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلِهَذَا نَتَائِجُ عَدِيدَةٌ أَبْرَزُهَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ- بِالرَّغْمِ مِنَ الْعَقْدِ- لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ، كَمَا أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْبَائِعِ تَنْفُذُ، وَتُعْتَبَرُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ.وَهَذَا الْقَوْلُ لِلشَّافِعِيَّةِ قَائِمٌ عَلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي- وَهُوَ الْأَظْهَرُ- وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ أُخْرَى (مُطَّرِدَةٌ فِي حَالِ كَوْنِ الْخِيَارِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا) أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَبِيعَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ، وَالثَّمَنُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي.وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ إِلَى تَمَامِ الْبَيْعِ لِلْحُكْمِ بِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي مُنْذُ الْعَقْدِ، أَوْ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالْمِلْكُ زَائِلٌ عَنِ الْبَائِعِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، حَيْثُ لَا مَانِعَ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَا خِيَارَ لَهُ وَهُوَ الْبَائِعُ.وَالتَّصَرُّفُ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ شُرِعَ نَظَرًا لَهُ وَحْدَهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَدْرِ اتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ عَمَّنْ لَا خِيَارَ لَهُ.
ثَالِثًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى ضَمَانِ الْمَحَلِّ:
31- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَتَحَمَّلُ تَبِعَةَ هَلَاكِ مَحَلِّ الْخِيَارِ عَلَى النَّحْوِ الْآتِي:
فَالْحَنَفِيَّةُ فَرَّقُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ عِدَّةِ صُوَرٍ: 1- إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ- وَبِالْأَوْلَى إِذَا كَانَ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي- وَهَلَكَ مَحَلُّ الْخِيَارِ بِيَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ اتِّفَاقًا، وَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَى الْخِيَارِ الْقَبْضُ لِيَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي تَعْدِيلِ ارْتِبَاطِ تَبِعَةِ الْهَلَاكِ بِالْمِلْكِ، وَلَا إِشْكَالَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْخِيَارِ.
2- إِذَا هَلَكَ مَحَلُّ الْخِيَارِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَالضَّمَانُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ غَدَا بِانْقِضَاءِ الْخِيَارِ بَيْعًا مُطْلَقًا.وَالضَّمَانُ حِينَئِذٍ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْدَمَا أُبْرِمَ الْبَيْعُ، وَإِبْرَامُهُ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لِعَدَمِ فَسْخِ الْبَائِعِ فِي الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ هَلَاكَهُ بِمَثَابَةِ الْإِجَازَةِ.
3- إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَقَدْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي مَحَلَّ الْخِيَارِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي خِلَالَ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدِ انْفَسَخَ بِهَلَاكِ الْمَحَلِّ إِذْ كَانَ مَوْقُوفًا، لِأَجْلِ خِيَارِ الْبَائِعِ، وَلَا نَفَاذَ لِلْمَوْقُوفِ إِذَا هَلَكَ الْمَحَلُّ، فَبَقِيَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَقْبُوضًا عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ (أَيِ الْمُعَاوَضَةِ)، لَا عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ الْمَحْضَةِ كَالْإِيدَاعِ وَالْإِعَارَةِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ إِلاَّ عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ.وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَسَوَّوْا بَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ وَبَيْنَ إِيدَاعِ الْمُشْتَرِي إِيَّاهُ بَعْدَ الْقَبْضِ عِنْدَ الْبَائِعِ.
أَمَّا كَيْفِيَّةُ ضَمَانِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ- إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا (لِأَنَّ ضَمَانَهُ حِينَئِذٍ بِالْمِثْلِ)- وَالضَّمَانُ بِالْقِيمَةِ، لَا بِالثَّمَنِ، هُوَ الشَّأْنُ فِيمَا قُبِضَ عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
وَقَدْ جَعَلَ الْكَاسَانِيُّ ضَمَانَهُ أَوْلَى مِنْ ضَمَانِ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
4- إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَقَدْ قَبَضَ مَحَلَّ الْخِيَارِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَالضَّمَانُ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ هُنَا بِالثَّمَنِ.
وَبَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ وَسَابِقَتِهَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّةُ الضَّمَانِ فَهُنَا الضَّمَانُ بِالثَّمَنِ، وَهُنَاكَ الضَّمَانُ بِالْقِيمَةِ، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ إِلَى وَجْهِ الْفَرْقِ، وَتَابَعَهُ الشُّرَّاحُ مُفَصِّلِينَ الْوَجْهَ نَفْسَهُ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَهَلَكَ الْمَبِيعُ فَإِنَّهُ بِمَثَابَةِ تَعَيُّبٍ آلَ إِلَى تَلَفٍ، لِأَنَّ التَّلَفَ لَا يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ، فَبِدُخُولِ الْعَيْبِ عَلَى مَحَلِّ الْخِيَارِ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي (صَاحِبُ الْخِيَارِ) الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْبِ، كَائِنًا مَا كَانَ الْعَيْبُ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْهَلَاكُ لَمْ يَبْقَ الرَّدُّ سَائِغًا، فَيَهْلِكُ الْمَحَلُّ بَعْدَ أَنِ انْبَرَمَ الْعَقْدُ بِمُقَدِّمَاتِ الْهَلَاكِ، وَبِلُزُومِ الْعَقْدِ يَجِبُ الثَّمَنُ لَا الْقِيمَةُ.
أَمَّا فِي حَالَةِ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَتَلَفِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ تَعَيُّبَ الْمَبِيعِ وَإِشْرَافَهُ عَلَى الْهَلَاكِ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ حُكْمًا، لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ لَمْ يَسْقُطْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْجِزْ عَنِ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ الَّذِي لَوْ رَضِيَ بِهِ يَتَمَكَّنُ مِنَ الِاسْتِرْدَادِ، فَإِذَا هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً لِعَدَمِ الْمَحَلِّ فَيَكُونُ ضَمَانُهُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، أَيْ بِالْقِيمَةِ، لَا بِالثَّمَنِ لِفُقْدَانِ الْعَقْدِ.
32- أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَالضَّمَانُ مُنْسَجِمٌ مَعَ الْمِلْكِ الَّذِي جَعَلُوهُ ثَابِتًا مُطْلَقًا لِلْبَائِعِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ أَيْضًا إِلاَّ فِي اسْتِثْنَاءَاتٍ يَدْعُو إِلَيْهَا إِعْوَازُ الْمُشْتَرِي الدَّلِيلَ عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِ وَعَدَمِ تَفْرِيطِهِ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْبَائِعِ لِلتَّلَفِ خَاصٌّ بِمَا لَوْ كَانَ تَلَفًا بِحَادِثٍ سَمَاوِيٍّ، أَوْ ضَيَاعٍ، وَيَتَمَثَّلُ الْأَصْلُ فِي صُورَتَيْنِ:
الْأُولَى: إِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي مَحَلَّ الْخِيَارِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ، إِذْ هُوَ أَقْدَمُ مِلْكًا، فَلَا يَنْتَقِلُ الضَّمَانُ عَنْهُ إِلاَّ بِتَمَامِ انْتِقَالِ مِلْكِهِ.
وَذَلِكَ الْأَصْلُ ثَابِتٌ فِيمَا إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْخِيَارِ مِمَّا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ (أَيْ: مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ)، حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُ الْمُشْتَرِي فِي دَعْوَاهُ التَّلَفَ دُونَ صُنْعِهِ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْخِيَارِ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ ثَبَتَ تَلَفُهُ أَوْ ضَيَاعُهُ بِبَيِّنَةٍ (لِأَنَّ هَلَاكَهُ ظَاهِرٌ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي قَبْضِهِ كَالرَّهْنِ وَالْعَارِيَّةِ).
وَفِيمَا وَرَاءَ هَذَا الْأَصْلِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فِيمَا كَانَ مُحْتَرِزًا عَنْهُ بِقُيُودِ الصُّورَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ (صُورَةِ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ كَذِبُ الْمُشْتَرِي، وَصُورَةِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَثَبَتَ أَنَّ التَّلَفَ لَيْسَ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي) يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي.
33- أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ يَنْفَسِخُ بِذَلِكَ عِنْدَ بَقَاءِ يَدِهِ، فَعِنْدَ بَقَاءِ مِلْكِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ نَقْلَ الْمِلْكِ بَعْدَ التَّلَفِ لَا يُمْكِنُ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُودَعًا مَعَ الْبَائِعِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِهِ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُشْتَرِي وَيَرُدُّ الْبَائِعُ عَلَيْهِ الثَّمَنَ وَلَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيمَةُ فِي الْمُتَقَوِّمِ، وَالْمِثْلُ فِي الْمِثْلِيِّ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ أَوْ لَهُمَا فَتَلِفَ الْمَبِيعُ بَعْدَ قَبْضِهِ لَمْ يَنْفَسِخَ الْبَيْعُ لِدُخُولِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ وَلَمْ يَنْقَطِعَ الْخِيَارُ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ التَّحَالُفُ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ وَلَزِمَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِنْ تَمَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ فُسِخَ فَالْقِيمَةُ أَوِ الْمِثْلُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ وَلَوْ بَعْدَ قَبْضِهِ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ انْفَسَخَ الْبَيْعُ كَمَا فِي صُورَةِ التَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَأَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ وَلَوْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَنْفَسِخْ، أَيِ الْبَيْعُ، لِقِيَامِ الْبَدَلِ اللاَّزِمِ لَهُ مِنْ قِيمَةِ أَوْ مِثْلٍ مَقَامَهُ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِلْمُشْتَرِي لِفَوَاتِ عَيْنِ الْمَبِيعِ وَالْخِيَارُ بِحَالِهِ وَإِنْ أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي وَلَوْ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْخِيَارُ لَهُ أَوْ لَهُمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، لِأَنَّهُ بِإِتْلَافِهِ الْمَبِيعَ قَابِضٌ لَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ الْبَائِعُ، وَلَوْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَتَلَفِهِ بِآفَةٍ.
34- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ جَعَلُوا الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ ضَمَانَ مَحَلِّ الْخِيَارِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَغَلَّتُهُ لَهُ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِ كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ.وَمَئُونَتُهُ عَلَيْهِ.وَهَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ (قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ) إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ الْمَكِيلِ أَوِ الْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِمَا كَالْمَعْدُودِ وَالْمَذْرُوعِ، شَرِيطَةَ أَنْ لَا يَكُونَ عَدَمُ الْقَبْضِ نَاشِئًا مِنْ مَنْعِ الْبَائِعِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْخِيَارِ مِنَ الْمَكِيلِ أَوِ الْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ لِيَكُونَ ضَمَانُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ لَمْ يَحْصُلْ فَالضَّمَانُ حِينَئِذٍ عَلَى الْبَائِعِ.وَلَا يُعْتَبَرُ الْحُكْمُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ اسْتِثْنَاءً، بَلْ هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْحَنَابِلَةِ مِنِ اعْتِبَارِهِمُ الْقَبْضَ ضَمِيمَةً لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِيَنْتَقِلَ ضَمَانُهُ عَنِ الْبَائِعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ حُكْمٌ يَتَّفِقُ فِيهِ الْبَيْعُ الْمُقَيَّدُ بِالْخِيَارِ، وَالْبَيْعُ الْمُطْلَقُ.وَعَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَبْضِ فِي الْكَيْلِ وَالْمَوْزُونِ هُوَ اكْتِيَالُهُ أَوْ وَزْنُهُ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ التَّخْلِيَةِ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَبِالِاكْتِيَالِ يُعْرَفُ هَلْ وَصَلَ إِلَى الْمُشْتَرِي حَقُّهُ كَامِلاً أَمْ نَقَصَ مِنْهُ أَوْ زَادَ عَنْهُ.
أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى زِيَادَةِ الْمَبِيعِ وَغَلَّتِهِ وَنَفَقَتِهِ.
35- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الزَّوَائِدَ الَّتِي قَدْ تَطْرَأُ عَلَى الْمَبِيعِ إِلَى الْأَقْسَامِ التَّالِيَةِ:
1- الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ، كَالسِّمَنِ فِي الْحَيَوَانِ وَزِيَادَةِ وَزْنِهِ، وَالْبُرْءِ مِنْ دَاءٍ كَانَ فِيهِ، وَالنُّضْجِ فِي الثَّمَرِ، وَالْحَمْلِ الَّذِي يَحْدُثُ زَمَنَ الْخِيَارِ (أَمَّا الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَهُوَ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، كَالْأُمِّ، فَيُقَابِلُهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى مَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ).
2- الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْأَصْلِ، وَمِثَالُهَا: الصَّبْغُ وَالْخِيَاطَةُ، وَالْبِنَاءُ فِي الْأَرْضِ، وَالْغَرْسُ فِيهَا، وَلَتُّ السَّوِيقِ بِسَمْنٍ.
3- الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الْأَصْلِ، وَمِثَالُهَا: الْوَلَدُ، وَالثَّمَرُ، وَاللَّبَنُ، وَالْبَيْضُ، وَالصُّوفُ.
4- الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْأَصْلِ.وَمِثَالُهَا: غَلَّةُ الْمَأْجُورِ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى عُضْوٍ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْعُقْرُ وَهُوَ مَا يُعْتَبَرُ مَهْرًا لِلْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ.
هَذَا تَقْسِيمُ الْحَنَفِيَّةِ لِلزَّوَائِدِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عِنَايَةً بِتَنْوِيعِهَا، نَظَرًا لِتَفَاوُتِ أَحْكَامِهَا عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ.
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَمَا بَيْنَ مُوَحِّدِ النَّظْرَةِ إِلَى الزِّيَادَةِ، أَوْ مُكْتَفٍ بِتَقْسِيمِ الزَّوَائِدِ إِلَى مُتَّصِلَةٍ أَوْ مُنْفَصِلَةٍ، وَإِدَارَةُ الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ فَقَطْ.
وَإِنَّ لِلزَّوَائِدِ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ أَحْكَامًا أَهَمُّهَا اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: لِمَنْ يَكُونُ مِلْكُ الزَّوَائِدِ؟ وَالثَّانِي كَوْنُهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ، أَيْ تَعْدَمُ الْخِيَارَ بِإِلْزَامِ صَاحِبِهِ بِالْإِجَازَةِ دُونَ الْفَسْخِ.ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الزِّيَادَةِ أَنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ وَيَسْرِي امْتِنَاعُ الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا سِوَى الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ اتِّفَاقًا، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ عَلَى خِلَافٍ.فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ يَنْبَرِمُ الْعَقْدُ وَيَلْزَمُ، وَتَكُونُ الزَّوَائِدُ مُطْلَقًا لِلْمُشْتَرِي الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مِلْكُ الْأَصْلِ.أَمَّا فِي الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ حَيْثُ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، وَفِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ حَيْثُ اخْتُلِفَ فِي امْتِنَاعِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَمْلِكُ تِلْكَ الزَّوَائِدَ عَلَى النَّحْوِ الْآتِي.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
12-موسوعة الفقه الكويتية (دولة)
دَوْلَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الدَّوْلَةُ فِي اللُّغَةِ حُصُولُ الشَّيْءِ فِي يَدِ هَذَا تَارَةً وَفِي يَدِ هَذَا أُخْرَى، أَوِ الْعُقْبَةُ فِي الْمَالِ وَالْحَرْبِ (أَيِ التَّعَاقُبُ)، وَالدَّوْلَةُ فِي الْمَالِ وَالْحَرْبِ سَوَاءٌ، وَقِيلَ: الدُّولَةُ بِالضَّمِّ فِي الْمَالِ، وَالدَّوْلَةُ بِالْفَتْحِ فِي الْحَرْبِ.
وَالْإِدَالَةُ مَعْنَاهَا الْغَلَبَةُ، يُقَالُ: أُدِيلَ لَنَا عَلَى أَعْدَائِنَا أَيْ نُصِرْنَا عَلَيْهِمْ.وَفِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ: «يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى».أَيْ: نَغْلِبُهُ مَرَّةً وَيَغْلِبُنَا مَرَّةً، مِنَ التَّدَاوُلِ، وَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وَقَوْلُهُ: {كَيْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} أَيْ يُتَدَاوَلُونَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَجْعَلُونَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُ نَصِيبًا.
أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَلَمْ يَشِعِ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْمُصْطَلَحِ، وَوَرَدَ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ.وَسَارَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلَامِ عَنِ اخْتِصَاصَاتِ «الدَّوْلَةِ» عَلَى إِدْرَاجِهَا ضِمْنَ الْكَلَامِ عَنْ صَلَاحِيَّاتِ الْإِمَامِ وَاخْتِصَاصَاتِهِ حَيْثُ اعْتَبَرُوا أَنَّ «الدَّوْلَةَ» مُمَثَّلَةٌ فِي شَخْصِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، أَوِ الْخَلِيفَةِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ وِلَايَاتٍ وَوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَعْهُودَ أَنَّ «الدَّوْلَةَ» هِيَ مَجْمُوعَةُ الْإِيَالَاتِ تَجْتَمِعُ لِتَحْقِيقِ السِّيَادَةِ عَلَى أَقَالِيمَ مُعَيَّنَةٍ، لَهَا حُدُودُهَا، وَمُسْتَوْطِنُوهَا، فَيَكُونُ الْحَاكِمُ أَوِ الْخَلِيفَةُ، أَوْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى رَأْسِ هَذِهِ السُّلُطَاتِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِاسْتِعْمَالِ مُصْطَلَحِ «دَوْلَةٍ» عِنْدَ مَنِ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ فُقَهَاءِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ.
وَنَتِيجَةً لِذَلِكَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الدَّوْلَةَ تَقُومُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ وَهِيَ: الدَّارُ، وَالرَّعِيَّةُ، وَالْمَنَعَةُ (السِّيَادَةُ).
2- وَلَقَدْ بَحَثَ الْفُقَهَاءُ أَرْكَانَ الدَّوْلَةِ عِنْدَ بَحْثِهِمْ عَنْ أَحْكَامِ دَارِ الْإِسْلَامِ، يَتَّضِحُ هَذَا مِنْ تَعْرِيفَاتِهِمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ:
التَّعْرِيفُ الْأَوَّلُ: «كُلُّ دَارٍ ظَهَرَتْ فِيهَا دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِهِ بِلَا خَفِيرٍ، وَلَا مُجِيرٍ، وَلَا بَذْلِ جِزْيَةٍ، وَقَدْ نَفَذَ فِيهَا حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إِنْ كَانَ فِيهِمْ ذِمِّيٌّ، وَلَمْ يَقْهَرْ أَهْلُ الْبِدْعَةِ فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ».
وَالتَّعْرِيفُ الثَّانِي:
«كُلُّ أَرْضٍ سَكَنَهَا مُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ، أَوْ تَظْهَرُ فِيهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ».
فَالدَّارُ هِيَ الْبِلَادُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَمَا تَشْمَلُهُ مِنْ أَقَالِيمَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالرَّعِيَّةُ هُمُ الْمُقِيمُونَ فِي حُدُودِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ.وَالسِّيَادَةُ هِيَ ظُهُورُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَنَفَاذُهُ.وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَعَدَمُ الِافْتِيَاتِ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَيِّ وِلَايَةٍ مِنْ وِلَايَاتِ الدَّوْلَةِ؛ لِأَنَّ الِافْتِيَاتَ عَلَيْهَا افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ.وَيَكُونُ الِافْتِيَاتُ بِالسَّبْقِ بِفِعْلِ شَيْءٍ دُونَ اسْتِئْذَانِ مَنْ يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ، وَالِافْتِيَاتُ عَلَى الْإِمَامِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ، فَإِذَا أَمَّنَ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ كَافِرًا دُونَ إِذْنِ الْإِمَامِ، وَكَانَ فِي تَأْمِينِهِ مَفْسَدَةٌ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ هَذَا الْأَمَانَ، وَلَهُ أَنْ يُعَزِّرَ مَنِ افْتَاتَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا بَاشَرَ الْمُسْتَحِقُّ فَأَقَامَ الْحَدَّ أَوِ الْقِصَاصَ دُونَ إِذْنِ الْإِمَامِ عَزَّرَهُ الْإِمَامُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَيْهِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ: «أَمَان» «وَافْتِيَات» «وَدَارُ الْإِسْلَامِ».
3- وَتَتَأَلَّفُ الدَّوْلَةُ مِنْ مَجْمُوعَةٍ مِنَ النُّظُمِ وَالْوِلَايَاتِ بِحَيْثُ تُؤَدِّي كُلُّ وِلَايَةٍ مِنْهَا وَظِيفَةً خَاصَّةً مِنْ وَظَائِفِ الدَّوْلَةِ، وَتَعْمَلُ مُجْتَمِعَةً لِتَحْقِيقِ مَقْصِدٍ عَامٍّ، وَهُوَ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
يَقُولُ الْمَاوَرْدِيُّ: (الْإِمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا) وَالْإِمَامُ هُوَ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ جَمِيعُ الْوِلَايَاتِ فِي الدَّوْلَةِ.
وَيَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: «فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلَايَاتِ إِصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ».
وَيَقُولُ ابْنُ الْأَزْرَقِ: «إِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ- يَعْنِي وُجُوبَ نَصْبِ الْإِمَامِ- رَاجِعَةٌ إِلَى النِّيَابَةِ عَنِ الشَّارِعِ فِي حِفْظِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا بِهِ، وَسُمِّيَ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ النِّيَابَةِ خِلَافَةً وَإِمَامَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدِّينَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي إِيجَادِ الْخَلْقِ لَا الدُّنْيَا فَقَطْ».
وَبَعْدَ هَذَا نَعْرِضُ إِلَى مَجْمُوعِ الْوِلَايَاتِ فِي الدَّوْلَةِ وَمَا يَخُصُّ كُلًّا مِنْهَا مِنْ وَظَائِفَ:
أَوَّلًا: الْحَاكِمُ أَوِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ:
4- الْإِمَامُ وَكِيلٌ عَنِ الْأُمَّةِ فِي خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَيَتَوَلَّى مَنْصِبَهُ بِمُوجِبِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ.
وَالْأَصْلُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يُبَاشِرَ إِدَارَةَ الدَّوْلَةِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا مُتَعَذِّرًا مَعَ اتِّسَاعِ الدَّوْلَةِ وَكَثْرَةِ وَظَائِفِهَا، وَتَعَدُّدِ السَّلِطَاتِ فِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يُنِيبَ عَنْهُ مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ السُّلُطَاتِ مِنْ وُلَاةٍ، وَأُمَرَاءَ، وَوُزَرَاءَ، وَقُضَاةٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَيَكُونُونَ الْوُكَلَاءَ عَنْهُ فِي إِدَارَةِ مَا وُكِّلَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَعْمَالٍ.فَإِدَارَةُ الْإِمَامِ لِلدَّوْلَةِ دَائِرَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَنِ النَّاسِ وَنَائِبًا عَنْهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يُنِيبَ هُوَ وَيُوَكِّلَ مَنْ يَقُومُ بِأَعْبَاءِ الْحُكْمِ شَرِيطَةَ أَلاَّ يَنْصَرِفَ عَنِ النَّظَرِ الْعَامِّ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ، وَمُطَالَعَةِ كُلِّيَّاتِ الْأُمُورِ مَعَ الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ يُوَلِّيهِمْ؛ لِيَتَحَقَّقَ مِنْ كِفَايَتِهِمْ لِمَنَاصِبِهِمْ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةٌ كُبْرَى).
ثَانِيًا: وَلِيُّ الْعَهْدِ:
5- وَهُوَ مَنْ يُوَلِّيهِ الْإِمَامُ عَهْدَ الْإِمَامَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ تَصَرُّفٌ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ مَا دَامَ الْإِمَامُ حَيًّا، وَلَا يَلِي شَيْئًا فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ، وَإِنَّمَا تَبْدَأُ إِمَامَتُهُ وَسُلْطَتُهُ بِمَوْتِ الْإِمَامِ، فَتَصَرُّفُهُ كَالْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِشَرْطٍ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ عَزْلُ وَلِيِّ الْعَهْدِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ، قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ خَلْعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِمَنْ بَايَعُوهُ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةٌ كُبْرَى).
ثَالِثًا: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ
6- وَوَجْهُ اعْتِبَارِهِمْ سُلْطَةً مُسْتَقِلَّةً أَنَّ لَهُمْ قُدْرَةَ الْقِيَامِ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ وَاجِبَاتِ الدَّوْلَةِ وَهِيَ:
أ- اخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَمُبَايَعَتُهُ.
ب- اسْتِئْنَافُ بَيْعَةِ وَلِيِّ الْعَهْدِ عِنْدَ تَوْلِيَتِهِ إِمَامًا، حَيْثُ تُعْتَبَرُ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْعَهْدِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ فَاسِقًا وَقْتَ الْعَهْدِ وَكَانَ بَالِغًا عَدْلًا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَلِّي لَمْ تَصِحَّ خِلَافَتُهُ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ بَيْعَتَهُ.
ج- تَعْيِينُ نَائِبٍ عَنْ وَلِيِّ الْعَهْدِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عِنْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ.
د- خَلْعُ الْإِمَامِ إِذَا قَامَ مَا يُوجِبُ خَلْعَهُ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: «أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ».
رَابِعًا: الْمُحْتَسِبُ:
7- هُوَ مَنْ يُوَلِّيهِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ لِلْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَالْكَشْفِ عَنْ أُمُورِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ،
وَهُوَ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ.وَمَوْضُوعُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ إِلْزَامُ الْحُقُوقِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا، وَمَحَلُّ وِلَايَتِهِ كُلُّ مُنْكَرٍ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ ظَاهِرٍ لِلْمُحْتَسِبِ بِغَيْرِ تَجَسُّسٍ مَعْلُومٍ كَوْنُهُ مُنْكَرًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى إِنْكَارِهِ أَعْوَانًا؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ لِهَذَا الْعَمَلِ، وَمِنْ صَلَاحِيَّتِهِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ فَقِيهًا عَارِفًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لِيَعْلَمَ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ.
وَعَمَلُ الْمُحْتَسِبِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ عَمَلِ الْقَاضِي وَعَمَلِ وَالِي الْمَظَالِمِ.
فَيَتَّفِقُ الْمُحْتَسِبُ مَعَ الْقَاضِي فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
(1) جَوَازُ الِاسْتِعْدَاءِ لِلْمُحْتَسِبِ، وَسَمَاعُهُ دَعْوَى الْمُسْتَعْدِي عَلَى الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِصَاصِهِ.
(2) لَهُ أَنْ يَلْزَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَبِإِقْرَارٍ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُ بِالدَّفْعِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْحَقِّ مُنْكَرٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهِ.
وَيَفْتَرِقُ الْمُحْتَسِبُ عَنِ الْقَاضِي فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
(1) جَوَازُ النَّظَرِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ مَعْرُوفٍ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ مِنْ مُنْكَرٍ دُونَ التَّوَقُّفِ عَلَى دَعْوَى أَوِ اسْتِعْدَاءٍ.
(2) أَنَّ الْحِسْبَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلرَّهْبَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى قُوَّةِ السَّلْطَنَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْجُنْدِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: «حِسْبَة».
خَامِسًا: الْقَضَاءُ:
8- عُرِّفَ الْقَضَاءُ بِأَنَّهُ: إِنْشَاءُ إِلْزَامٍ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الْمُتَقَارِبَةِ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَعُرِّفَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ: الْإِلْزَامُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى صِيغَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِأَمْرٍ ظُنَّ لُزُومُهُ فِي الْوَاقِعِ.
فَالْقَضَاءُ سُلْطَةٌ تُمَكِّنُ مَنْ تَوَلاَّهَا مِنَ الْإِلْزَامِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ بَيْنَ النَّاسِ.وَقَضَاءُ الْقَاضِي مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا مُثْبِتٌ لَهُ.
وَتَجْتَمِعُ فِي الْقَاضِي صِفَاتٌ ثَلَاثَةٌ: فَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ جِهَةِ الْإِثْبَاتِ، وَمُفْتٍ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَذُو سُلْطَانٍ مِنْ جِهَةِ الْإِلْزَامِ.وَيَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ، وَاسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَجَانِينِ وَالسُّفَهَاءِ، وَالْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ، وَالنَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ، وَتَنْفِيذُ الْوَصَايَا، وَتَزْوِيجُ اللاَّتِي لَا وَلِيَّ لَهُنَّ؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ.».وَالْقَاضِي يَنُوبُ عَنِ الْإِمَامِ فِي هَذَا.
وَلَيْسَ هُنَاكَ ضَابِطٌ عَامٌّ لِمَا يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَاضِي وَمَا لَا يَدْخُلُ، فَالْأَصْلُ فِيهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَقَدْ تَتَّسِعُ صَلَاحِيَّةُ الْقَاضِي لِتَشْمَلَ وِلَايَةَ الْحَرْبِ، وَالْقِيَامَ بِأَعْمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَالْعَزْل وَالْوِلَايَةِ، وَقَدْ تَقْتَصِرُ عَلَى النَّظَرِ فِي الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ.
وَالْقَضَاءُ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا يَتَوَلاَّهَا إِلاَّ الْإِمَامُ، كَعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَالْقَاضِي وَكِيلٌ عَنِ الْإِمَامِ فِي الْقِيَامِ بِالْقَضَاءِ، وَلِذَا لَا تَثْبُتُ وِلَايَتُهُ إِلاَّ بِتَوْلِيَةِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَهُوَ عَقْدُ وِلَايَةٍ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْوَكَالَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَهْلِيَّةَ مَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَتِهِ مِنْ أَعْمَالٍ؛ لِيَعْلَمَ مَحَلَّهَا فَلَا يَحْكُمُ فِي غَيْرِهَا.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: «قَضَاء».
سَادِسًا: بَيْتُ الْمَالِ:
9- بَيْتُ الْمَالِ هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي يُسْنَدُ إِلَيْهَا حِفْظُ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ لِلدَّوْلَةِ، وَالْمَالُ الْعَامُّ هُوَ كُلُّ مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ كَالزَّكَاةِ، وَالْفَيْءِ، وَخُمُسِ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ، وَخُمُسِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَعَادِنِ، وَخُمُسِ الرِّكَازِ، وَالْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى الْقُضَاةِ أَوْ عُمَّالِ الدَّوْلَةِ مِمَّا يَحْمِلُ شُبْهَةَ الرِّشْوَةِ أَوِ الْمُحَابَاةِ، وَكَذَلِكَ الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ لِمَصْلَحَتِهِمْ وَمَوَارِيثُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا وَارِثٍ، وَالْغَرَامَاتُ وَالْمُصَادَرَاتُ.وَيَقُومُ بَيْتُ الْمَالِ بِصَرْفِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي مَصَارِفِهَا كُلٌّ بِحَسَبِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِجِلٌّ هُوَ دِيوَانُ بَيْتِ الْمَالِ لِضَبْطِ مَا يَرِدُ إِلَيْهِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَمْوَالٍ، وَلِضَبْطِ مَصَارِفِهَا كَذَلِكَ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: «بَيْتُ الْمَالِ».
سَابِعًا: الْوُزَرَاءُ:
10- لَمَّا كَانَ الْمُتَعَذِّرُ عَلَى الْإِمَامِ الْقِيَامَ بِنَفْسِهِ بِأَعْبَاءِ الْحُكْمِ وَتَسْيِيرِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ مَعَ كَثْرَتِهَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْتَنِيبَ الْوُزَرَاءَ ذَوِي الْكِفَايَةِ لِذَلِكَ.
وَالْوَزِيرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَزِيرَ تَفْوِيضٍ، أَوْ وَزِيرَ تَنْفِيذٍ.أَمَّا وَزِيرُ التَّفْوِيضِ فَهُوَ مِنْ يُفَوِّضُ لَهُ الْإِمَامُ تَدْبِيرَ أُمُورِ الدَّوْلَةِ وَإِمْضَاءَهَا بِاجْتِهَادِهِ، وَلَهُ النَّظَرُ الْعَامُّ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ وَكِيلٌ عَنِ الْإِمَامِ فِيمَا وُلِّيَ عَلَيْهِ، وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي وَزِيرِ التَّفْوِيضِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ بِاسْتِثْنَاءِ كَوْنِهِ قُرَشِيًّا، وَكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَكَمَا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يُبَاشِرَ شُئُونَ الدَّوْلَةِ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يُبَاشِرُهَا، وَكُلُّ مَا صَحَّ مِنَ الْإِمَامِ صَحَّ مِنَ الْوَزِيرِ إِلاَّ أُمُورًا ثَلَاثَةً:
أَحَدُهَا: وِلَايَةُ الْعَهْدِ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْهَدَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَطْلُبَ الْإِعْفَاءَ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ.
ثَالِثُهَا: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ، وَلَيْسَ لِلْوَزِيرِ عَزْلُ مَنْ قَلَّدَهُ الْإِمَامُ.
وَالْوَزَارَةُ وِلَايَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى عَقْدٍ، وَالْعُقُودُ لَا تَصِحُّ إِلاَّ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُمُومُ النَّظَرِ.وَالثَّانِي: النِّيَابَةُ.
فَإِذَا اقْتَصَرَ الْإِمَامُ عَلَى عُمُومِ النَّظَرِ دُونَ النِّيَابَةِ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، إِذْ أَنَّ نَظَرَهُ عَامٌّ كَنَظَرِ الْإِمَامِ إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَنُوبُ عَنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ، وَأَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى النِّيَابَةِ دُونَ عُمُومِ النَّظَرِ كَانَتْ نِيَابَةً مُبْهَمَةً لَمْ تُبَيِّنْ مَا اسْتَنَابَهُ فِيهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ عُمُومِ النَّظَرِ وَالنِّيَابَةِ؛ لِتَنْعَقِدَ وَزَارَةُ التَّفْوِيضِ.
أَمَّا وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فَلَا يَسْتَقِلُّ بِالنَّظَرِ كَوَزِيرِ التَّفْوِيضِ، فَتَقْتَصِرُ مُهِمَّتُهُ عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ الْإِمَامِ فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالرَّعِيَّةِ يُبَلِّغُهُمْ أَوَامِرَهُ وَيُخْبِرُهُمْ بِتَقْلِيدِ الْوُلَاةِ، وَلِذَا لَا يَحْتَاجُ وَزِيرُ التَّنْفِيذِ إِلَى عَقْدٍ وَتَقْلِيدٍ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا مُجَرَّدُ الْإِذْنِ، وَتَقْصُرُ فِي شُرُوطِهَا عَنْ شُرُوطِ وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ.وَلَمَّا قَصُرَتْ مُهِمَّتُهُ عَلَى تَبْلِيغِ الْخَلِيفَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، اشْتُرِطَ فِيهِ الْأَمَانَةُ وَالصِّدْقُ، وَقِلَّةُ الطَّمَعِ، وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْ عَدَاوَةِ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ ضَابِطًا لِمَا يَنْقِلُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ.وَقَدْ يُشَارِكُ وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فِي الْمَشُورَةِ وَالرَّأْيِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حُنْكَةٍ وَتَجْرِبَةٍ تُؤَدِّيهِ إِلَى إِصَابَةِ الرَّأْيِ وَحُسْنِ الْمَشُورَةِ.
إِمَارَةُ الْحَرْبِ:
11- تَتَوَلَّى هَذِهِ الْإِمَارَةُ وِلَايَةَ الْحَرْبِ وَحِمَايَةَ الدَّوْلَةِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا مِنَ الْخَارِجِ.وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ إِمَارَةً خَاصَّةً مَقْصُورَةً عَلَى سِيَاسَةِ الْجَيْشِ وَإِعْدَادِهِ، وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ.أَوْ أَنْ تَتَّسِعَ صَلَاحِيَّتُهَا فِيمَا يُفَوِّضُ إِلَيْهَا الْإِمَامُ فَتَشْمَلُ قَسْمَ الْغَنَائِمِ، وَعَقْدَ الصُّلْحِ.
وَيَلْزَمُ أَمِيرَ الْجَيْشِ فِي سِيَاسَتِهِ لِلْجَيْشِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ
1).حِرَاسَتُهُمْ مِنْ غِرَّةٍ يَظْفَرُ بِهَا الْعَدُوُّ مِنْهُمْ.
2) تَخَيُّرُ مَوْضِعِ نُزُولِهِمْ لِمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ.
3) إِعْدَادُ مَا يَحْتَاجُ الْجَيْشُ إِلَيْهِ.
4) أَنْ يَعْرِفَ أَخْبَارَ عَدُوِّهِ.
5) تَرْتِيبُ الْجَيْشِ فِي مَصَافِّ الْحَرْبِ.
6) أَنْ يُقَوِّيَ نُفُوسَهُمْ بِمَا يُشْعِرُهُمْ مِنَ الظَّفَرِ.
7) أَنْ يَعِدَ أَهْلَ الصَّبْرِ وَالْبَلَاءِ مِنْهُمْ بِثَوَابِ اللَّهِ.
8) أَنْ يُشَاوِرَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْهُمْ.
9) أَنْ يَأْخُذَ جَيْشَهُ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُقُوقِهِ.
10) أَنْ لَا يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ جَيْشِهِ أَنْ يَتَشَاغَلَ بِتِجَارَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ، حَتَّى لَا يَنْصَرِفَ عَنْ مُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ.
وَتَجْهِيزُ الْمُثْبَتِينَ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ مِنَ الْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَلُّهُ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَعَلَى أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَأَغْنِيَائِهِمْ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: «جِهَاد».
زَوَالُ الدَّوْلَةِ:
12- تَزُولُ الدَّوْلَةُ بِزَوَالِ أَحَدِ أَرْكَانِهَا: الشَّعْبُ، أَوِ الْإِقْلِيمُ، أَوِ الْمَنَعَةُ (السِّيَادَةُ) أَوْ بِتَحَوُّلِهَا مِنْ دَارِ إِسْلَامٍ إِلَى دَارِ حَرْبٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: «دَارُ الْإِسْلَامِ».
تَعَدُّدُ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ:
13- يَتَعَلَّقُ حُكْمُ تَعَدُّدِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِحُكْمِ تَعَدُّدِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ إِنَّ الدَّوْلَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ تُمَثِّلُ شَخْصَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرُ السُّلْطَةِ فِيهَا، وَعَنْهُ تَصْدُرُ جَمِيعُ سُلُطَاتِ الدَّوْلَةِ وَصَلَاحِيَّاتِهَا.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُ إِمَامَيْنِ فِي الْعَالَمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَجُوزُ إِلاَّ إِمَامٌ وَاحِدٌ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا» وَلِأَنَّ فِي تَعَدُّدِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَظِنَّةٌ لِلنِّزَاعِ وَالْفُرْقَةِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَاتَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
وَفِي أَحَدِ أَوْجُهِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّيحِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الدَّوْلَةُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ.
انْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ: (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى).
وَاجِبَاتُ الدَّوْلَةِ الْعَامَّةِ:
14- يَتَعَيَّنُ عَلَى الدَّوْلَةِ مُمَثَّلَةً بِمَجْمُوعِ سُلُطَاتِهَا أَنْ تَرْعَى الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ الدَّاخِلِينَ تَحْتَ وِلَايَتِهَا، وَجِمَاعُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ يَعُودُ إِلَى:
(1) حِفْظِ أُصُولِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ.وَتُنْظَرُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (إِمَامَةٌ كُبْرَى، رِدَّة، بِدْعَة، ضَرُورِيَّات، وَجِهَاد).
(2) إِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَعُقُوبَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَتَعْزِيرِهِ.وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (قِصَاص، تَعْزِير).
(3) حِفْظِ الْمَالِ الْعَامِّ لِلدَّوْلَةِ، وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا مُصْطَلَحِ بَيْتِ الْمَالِ.
(4) إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ وَقَطْعِ الْخُصُومَاتِ، وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحِ: (قَضَاء).
(5) رِعَايَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَيُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (أَهْلُ الذِّمَّةِ).
(6) تَكْثِيرِ الْعِمَارَةِ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِمَارَة).
(7) إِقَامَةِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحِ: (سِيَاسَةٌ شَرْعِيَّةٌ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
13-موسوعة الفقه الكويتية (دين 1)
دَيْنٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- أ- الدَّيْنُ فِي اللُّغَةِ: يُقَالُ دَانَ الرَّجُلُ يَدِينُ دَيْنًا مِنْ الْمُدَايَنَةِ.وَيُقَالُ: دَايَنْتُ فُلَانًا إِذَا عَامَلْتَهُ دَيْنًا، إِمَّا أَخْذًا أَوْ عَطَاءً.مِنْ أَدَنْتُ: أَقْرَضْتُ وَأَعْطَيْتُ دَيْنًا.
ب- مَعْنَى الدَّيْنِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ:
2- قِيلَ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ أَوْضَحُهَا مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ: «الدَّيْنُ لُزُومُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ».
فَيَشْمَلُ الْمَالَ وَالْحُقُوقَ غَيْرَ الْمَالِيَّةِ كَصَلَاةٍ فَائِتَةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَشْمَلُ مَا ثَبَتَ بِسَبَبِ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِتْلَافٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعَيْنُ:
3- يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ كَلِمَةَ «الْعَيْنِ» فِي مُقَابِلِ «الدَّيْنِ» بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ هُوَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَخَّصًا، سَوَاءٌ أَكَانَ نَقْدًا أَمْ غَيْرَهُ.أَمَّا الْعَيْنُ «فَهِيَ الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ الْمُشَخَّصُ كَبَيْتٍ».
ب- الْكَالِئُ:
4- الْكَالِئُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الْمُؤَخِّرُ.وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ».وَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بَيْعُ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ، أَوِ الدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ.
ج- الْقَرْضُ:
5- الْقَرْضُ عَقْدٌ مَخْصُوصٌ يَرِدُ عَلَى دَفْعِ مَالٍ مِثْلِيٍّ لآِخَرَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ.وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا اسْمُ «دَيْنٍ» فَيُقَالُ: دَانَ فُلَانٌ يَدِينُ دَيْنًا: اسْتَقْرَضَ.وَدِنْتُ الرَّجُلَ: أَقْرَضْتُهُ.وَالْقَرْضُ أَخَصُّ مِنَ الدَّيْنِ.
مَا يَقْبَلُ الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا مِنَ الْأَمْوَالِ:
6- عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الدَّيْنَ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ «مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَالٍ فِي مُعَاوَضَةٍ، أَوْ إِتْلَافٍ، أَوْ قَرْضٍ» وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ «مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَالٍ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ».وَهَذَا الْخِلَافُ فِي حَقِيقَةِ الدَّيْنِ- بِالنَّظَرِ إِلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ- لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ عَلَى قَضِيَّةِ: أَيُّ الْأَمْوَالِ يَصِحُّ أَنْ تَثْبُتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَأَيُّهَا لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ؟ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ يَنْقَسِمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى قِسْمَيْنِ: أَعْيَانٍ وَمَنَافِعَ.أَوَّلًا: أَمَّا الْأَعْيَانُ فَهِيَ نَوْعَانِ: مِثْلِيٌّ، وَقِيَمِيٌّ.
أ- أَمَّا الْمِثْلِيُّ:
7- فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَمِنْ هُنَا جَازَ إِقْرَاضُهُ وَالسَّلَمُ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.فَإِذَا وَجَبَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الذِّمَّةِ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ مَوْصُوفَةٍ غَيْرِ مُشَخَّصَةٍ، وَكُلُّ عَيْنٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا تِلْكَ الصِّفَاتُ الْمُعَيَّنَةُ يَصِحُّ لِلْمَدِينِ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَهُ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ قَبُولِهَا.
ب- وَأَمَّا الْقِيَمِيُّ: فَلَهُ حَالَتَانِ:
8- الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُضْبَطُ بِالْوَصْفِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ.وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الِاسْتِصْنَاعِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْقَرْضِ وَالسَّلَمِ.وَجَاءَ فِي «الْمُهَذَّبِ» لِلشِّيرَازِيِّ: «يَجُوزُ قَرْضُ كُلِّ مَالٍ يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ يَثْبُتُ الْعِوَضُ فِيهِ فِي الذِّمَّةِ، فَجَازَ فِيمَا يُمْلَكُ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ كَالسَّلَمِ».وَقَالَ: «وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي كُلِّ مَالٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَتُضْبَطُ صِفَاتُهُ كَالْأَثْمَانِ وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالثِّيَابِ».
9- وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ لِلْقِيَمِيِّ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ، كَالْجَوَاهِرِ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَعَقِيقٍ وَفَيْرُوزٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَخْتَلِفُ آحَادُهُ وَتَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهُ وَلَا يَقْبَلُ الِانْضِبَاطَ بِالْأَوْصَافِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ كَوْنِ هَذَا الْمَالِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ جَعْلُهُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ انْشِغَالُ ذِمَّةِ الْمُلْتَزِمِ بِذَلِكَ الْمَالِ لَكَانَ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ، وَلَوَجَبَ عِنْدَئِذٍ أَنْ تَفْرُغَ الذِّمَّةُ وَيُوَفَّى الِالْتِزَامُ بِأَدَاءِ أَيِّ فَرْدٍ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِ، وَلَا مِثْلَ لَهُ.
وَعَلَى هَذَا شَرَطُوا فِي صِحَّةِ الْقَرْضِ وَالسَّلَمِ وَالِاسْتِصْنَاعِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ مُنْضَبِطًا بِالصِّفَةِ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مَا لَا تَنْضَبِطُ صِفَاتُهُ تَخْتَلِفُ آحَادُهُ كَثِيرًا، وَذَلِكَ يُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْوَفَاءِ، وَعَدَمُهَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا.
وَقَدِ اسْتَثْنَى مَالِكٌ وَالْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ دَيْنَ الْمَهْرِ، فَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ قِيَمِيًّا مَعْلُومَ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الصِّفَةِ، وَجَعَلَ مَالِكٌ لَهَا الْوَسَطَ مِمَّا سُمِّيَ إِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فِي أَدَاءِ الْوَسَطِ مِنْهُ أَوْ قِيمَتِهِ.وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لَا تَضُرُّ، إِذِ الْمَالُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي الزَّوَاجِ، فَيُتَسَامَحُ فِيهِ بِمَا لَا يُتَسَامَحُ بِهِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ تُبْنَى عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَالْمُكَايَسَةِ، فَكَانَ الْجَهْلُ بِأَوْصَافِ الْعِوَضِ فِيهَا مُخِلًّا بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُكَارَمَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّدَاقِ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا مُمَاثِلًا، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ الشَّارِعُ نِحْلَةً فَهُوَ كَالْهِبَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِهِ كَمَا لَا يَضُرُّ بِالْهِبَةِ.
(وَالْقَوْلُ الثَّانِي) لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ الْأَصَحِّ، أَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُهُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ.وَفِيمَا يَكُونُ بِهِ الْوَفَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ الْمَالِيَّةِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ لِشَخْصٍ عَيْنًا مَالِيَّةً قِيَمِيَّةً، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا.قَالَ الشِّيرَازِيُّ: «لِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْمِثْلِ إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ، ضُمِنَ بِالْقِيمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ كَالْمُتْلَفَاتِ».
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ مِثْلِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْخِلْقَةُ مَعَ التَّغَاضِي عَنِ التَّفَاوُتِ الْيَسِيرِ فِي الْقِيمَةِ.
ثَانِيًا: أَمَّا الْمَنَافِعُ، وَمَدَى قَبُولِهَا لِلثُّبُوتِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ:
10- فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ تُعْتَبَرُ أَمْوَالًا بِحَدِّ ذَاتِهَا، وَأَنَّهَا تُحَازُ بِحِيَازَةِ أُصُولِهَا وَمَصَادِرِهَا، وَهِيَ الْأَعْيَانُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا، وَلِهَذَا جَازَتْ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا بِالْمَالِ فِي الْإِجَارَةِ بِشَتَّى صُوَرِهَا.كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ تُعْتَبَرُ صَالِحَةً لأَنْ تَثْبُتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَتْ مِثْلِيَّةً أَوْ قَابِلَةً لأَنْ تُضْبَطَ بِالْوَصْفِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْأَعْيَانِ وَلَا فَرْقَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مَنَافِعَ أَعْيَانٍ أَمْ مَنَافِعَ أَشْخَاصٍ.
وَعَلَى هَذَا نَصُّوا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَى جَوَازِ التَّعَاقُدِ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بِالذَّاتِ، وَسَمَّوْهَا «إِجَارَةَ الذِّمَّةِ» نَظَرًا لِتَعَلُّقِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا بِذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ، لَا بِأَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ.كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ دَابَّةً مَوْصُوفَةً لِتَحْمِلَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالْعَقْدِ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُكَارِي، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَيَّةِ دَابَّةٍ يُحْضِرُهَا إِلَيْهِ.وَلِهَذَا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إِذَا هَلَكَتِ الدَّابَّةُ الَّتِي عَيَّنَهَا الْمُؤَجِّرُ أَوِ اسْتُحِقَّتْ، بَلْ يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ فَيُطَالِبُهُ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، بَلْ مُتَعَلِّقٌ فِي الذِّمَّةِ، وَعَلَى الْمُؤَجِّرِ الْوَفَاءُ بِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِأَيَّةِ دَابَّةٍ أُخْرَى يُحْضِرُهَا لَهُ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ «إِجَارَةَ الذِّمَّةِ» سَلَمًا فِي الْمَنَافِعِ، وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا فِي صِحَّتِهَا تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي السَّلَمِ، سَوَاءٌ عُقِدَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَوِ السَّلَمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الْحَنَابِلَةُ إِذَا عُقِدَتْ بِلَفْظِ السَّلَمِ، أَمَّا إِذَا عُقِدَتْ بِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُعْتَبَرُ أَمْوَالًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ عِنْدَهُمْ هُوَ: «مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ طَبْعُ الْإِنْسَانِ، وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ».وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْإِحْرَازِ وَالِادِّخَارِ، إِذْ هِيَ أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَآنًا فَآنًا، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا غَيْرُ مَا يَنْتَهِي.وَبِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمُ الْمَنَافِعَ أَمْوَالًا، وَقَصْرِهِمُ الدَّيْنَ عَلَى الْمَالِ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَقْبَلُ الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا وَفْقَ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُجِيزُوا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ أَنْ يَرِدَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَشَرَطُوا لِصِحَّةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَوْنَ الْمُؤَجَّرِ مُعَيَّنًا.
مَحَلُّ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَاسْتِثْنَاءَاتُهُ:
11- تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، هُوَ «مَا وَجَبَ مِنْ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ.» وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَعَلُّقُهُ بِذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ عِنْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ أَمْ مَلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَكُونُ جَمِيعُ أَمْوَالِهِ صَالِحَةً لِوَفَاءِ أَيِّ دَيْنٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ الدَّيْنُ مَانِعًا لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الدُّيُونِ، وَلَكِنْ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ اسْتِثْنَاءَاتٌ، حَيْثُ إِنَّ بَعْضَ الدُّيُونِ تَتَعَلَّقُ بِأَعْيَانِ الْمَدِينِ الْمَالِيَّةِ تَأْكِيدًا لِحَقِّ الدَّائِنِ وَتَوْثِيقًا لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ:
12- أ- الدَّيْنُ الَّذِي اسْتَوْثَقَ لَهُ صَاحِبُهُ بِرَهْنٍ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَيُقَدَّمُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْهَا عَلَى مَنْ عَدَاهُ مِنَ الدَّائِنِينَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ. (ر: رَهْن، تَرِكَة، إِفْلَاس).
13- ب- الدَّيْنُ الَّذِي حُجِرَ عَلَى الْمَدِينِ بِسَبَبِهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ يَعْنِي «خَلْعَ الرَّجُلِ مِنْ مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ» وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ لَمَا كَانَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ «وَلِأَنَّهُ يُبَاعُ مَالُهُ فِي دُيُونِهِمْ، فَكَانَتْ حُقُوقُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِهِ كَالرَّهْنِ».وَلَا يَخْفَى أَنَّ الدَّيْنَ هَاهُنَا إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بِذَوَاتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الْمَدِينَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهَا الْمَالِيَّةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا أَنْ يُعَاوِضَ عَلَيْهَا بِغَبْنٍ يَلْحَقُهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِضْرَارِ بِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ.وَتَصِحُّ فِيهِ الْمُبَادَلَاتُ الْمَالِيَّةُ الَّتِي لَا غَبْنَ عَلَيْهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا إِذَا أَخْرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ شَيْئًا فَقَدْ أَدْخَلَتْ فِيهِ مَا يُعَادِلُهُ، فَبَقِيَتْ قِيمَةُ الْأَمْوَالِ ثَابِتَةً.
14- ج- حُقُوقُ الدَّائِنِينَ وَالْوَرَثَةِ فِي مَالِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، حَيْثُ إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ فِيهِ بِمَالِ الْمَرِيضِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّتِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ.وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ مَرْحَلَةٌ تَتَهَيَّأُ فِيهَا شَخْصِيَّةُ الْإِنْسَانِ وَأَهْلِيَّتُهُ لِلزَّوَالِ، كَمَا أَنَّهُ مُقَدَّمَةٌ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ فِي أَمْوَالِ الْمَرِيضِ لِمَنْ سَتَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ دَائِنِينَ وَوَرَثَةٍ.فَيَنْتُجُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ تُصْبِحَ الدُّيُونُ مُتَعَلِّقَةً بِمَالِ الْمَرِيضِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّتِهِ قَبْلَ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ تَضْعُفُ بِالْمَرَضِ لِعَجْزِ صَاحِبِهَا عَنِ السَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ، فَيَتَحَوَّلُ التَّعَلُّقُ مِنْ ذِمَّتِهِ- مَعَ بَقَائِهَا- إِلَى مَالِهِ تَوْثِيقًا لِلدَّيْنِ، وَتَتَقَيَّدُ تَصَرُّفَاتُهُ بِمَا لَا يَضُرُّ بِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ.كَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ لِيَخْلُصَ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ تَمَلُّكُ الثُّلُثَيْنِ مِمَّا يَبْقَى بَعْدَ سَدَادِ الدُّيُونِ إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ دُيُونٌ، فَتَتَقَيَّدُ تَصَرُّفَاتُهُ أَيْضًا بِمَا لَا يَضُرُّ بِحُقُوقِ الْوَرَثَةِ.
أَمَّا الثُّلُثُ فَقَدْ جَعَلَهُ الشَّارِعُ حَقًّا لِلْمَرِيضِ يُنْفِقُهُ فِيمَا يَرَى مِنْ سُبُلِ الْخَيْرِ وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ بِالتَّبَرُّعِ الْمُنْجَزِ حَالَ الْمَرَضِ، أَوْ بِالْوَصِيَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
15- عَلَى أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الدَّائِنِينَ وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ، وَهَذَا الْفَرْقُ يَئُولُ إِلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّ الدَّائِنِينَ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَعْنًى لَا صُورَةً، أَيْ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمِقْدَارِ مَا فِيهَا مِنْ مَالِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِهِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنِ اسْتِيفَاءِ دُيُونِهِمْ.
أَمَّا تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّتِهِ أَمْ بِعَيْنِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: - فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ أَبِي يَعْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ كَحَقِّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَعْنًى لَا صُورَةً، فَيَصِحُّ بَيْعُ الْمَرِيضِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ وَلِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَصَرُّفِهِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُمْ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، فَكَانَ الْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءً.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَتَارَةً أُخْرَى بِالْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، فَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ مَعَ غَيْرِ وَارِثٍ كَانَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِالْمَالِيَّةِ، فَيَصِحُّ بَيْعُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ لَا بِأَقَلَّ.وَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ مَعَ وَارِثٍ كَانَ حَقُّهُمْ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ، فَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُؤْثِرَ أَحَدًا مِنْ وَرَثَتِهِ بِعَيْنٍ مِنْ مَالِهِ وَلَوْ بِالْبَيْعِ لَهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، إِذِ الْإِيثَارُ كَمَا يَكُونُ بِالتَّبَرُّعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّهُ بِأَعْيَانٍ يَخْتَارُهَا لَهُ مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَدَلُ مِثْلَ قِيمَتِهَا.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي بَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الدَّائِنِينَ بِمَالِ الْمَرِيضِ وَبَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ أَنَّ حَقَّ الدَّائِنِينَ فِي التَّعَلُّقِ بِمَالِ الْمَرِيضِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ وَفَاءَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَوْزِيعِ الْمِيرَاثِ، فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الدَّائِنِينَ بِجَمِيعِ مَالِهِ إِنْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ مُسْتَغْرَقَةً، فِي حِينِ لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ بَعْدَ وَفَاءِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّ لِلْمَرِيضِ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِ مَالِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُنْجَزًا أَمْ مُضَافًا إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيَأْخُذُ تَبَرُّعُهُ هَذَا حُكْمَ الْوَصِيَّةِ.
16- د- مَا يُنْفَقُ فِي سَبِيلِ تَسْدِيدِ الدُّيُونِ الْمُحِيطَةِ بِأَمْوَالِ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِنْدَ بَيْعِ أَمْوَالِهِ لِلْوَفَاءِ بِدُيُونِهِ كَأُجْرَةِ الْمُنَادِي وَالْكَيَّالِ وَالْحَمَّالِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُؤَنِ، فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِ الْمَدِينِ، وَيُقَدَّمُ الْوَفَاءُ بِهَا عَلَى سَائِرِ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ.
17- هـ- دَيْنُ مُشْتَرِي الْمَتَاعِ الَّذِي بَاعَهُ الْحَاكِمُ مِنْ أَمْوَالِ الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ إِذَا ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا وَتَلِفَ الثَّمَنُ الْمَقْبُوضُ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمَدِينِ، وَيُقَدَّمُ بَدَلُ الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ عَلَى بَاقِي الْغُرَمَاءِ، وَلَا يُضَارِبُ بِهِ مَعَهُمْ لِئَلاَّ يَرْغَبَ النَّاسُ عَنْ شِرَاءِ مَالِ الْمُفْلِسِ.
18- و- الدَّيْنُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الصَّانِعُ كَصَائِغٍ وَنَسَّاجٍ وَخَيَّاطٍ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ إِذَا أَفْلَسَ صَاحِبُهُ، وَالْعَيْنُ بِيَدِ الصَّانِعِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَتَاعِهِ، وَيُقَدَّمُ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ.
جَاءَ فِي «الْمُدَوَّنَةِ»: «إِذَا أَفْلَسَ الرَّجُلُ وَلَهُ حُلِيٌّ عِنْدَ صَائِغٍ قَدْ صَاغَهُ لَهُ، كَانَ هُوَ أَوْلَى بِأَجْرِهِ، وَلَمْ يُحَاصَّهُ الْغُرَمَاءُ، بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ فِي يَدَيْهِ»، «وَكُلُّ ذِي صَنْعَةٍ مِثْلُ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ وَمَا أَشْبَهَهُمْ مِنْهُمْ أَحَقُّ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْتِ وَالتَّفْلِيسِ جَمِيعًا، وَكُلُّ مَنْ تُكُورِيَ عَلَى حَمْلِ مَتَاعٍ فَحَمَلَهُ إِلَى بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، فَالْمُكْرَى أَحَقُّ بِمَا فِي يَدَيْهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْتِ وَالتَّفْلِيسِ جَمِيعًا».
19- ز- دَيْنُ الْكِرَاءِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ إِذَا أَفْلَسَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَمَا زَرَعَهَا، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالزَّرْعِ، وَيُقَدَّمُ بِهِ عَلَى سَائِرِ غُرَمَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ.قَالَ التَّسَوُّلِيُّ: «لِأَنَّ الزَّرْعَ كَرَهْنٍ بِيَدِهِ فِي كِرَائِهَا، فَيُبَاعُ وَيُؤْخَذُ الْكِرَاءُ مِنْ ثَمَنِهِ».وَكَذَا «كُلُّ مَنِ اسْتُؤْجِرَ فِي زَرْعٍ أَوْ نَخْلٍ أَوْ أَصْلٍ يَسْقِيهِ، فَسَقَاهُ ثُمَّ فَلَّسَ صَاحِبُهُ، فَسَاقِيهِ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ».
20- ح- الدَّيْنُ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ مَالًا، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ كَتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْمَرْهُونِ.
وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّارِعُ هَذَا التَّعَلُّقَ لِمَصْلَحَةِ الْمَيِّتِ كَيْ تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ «فَاللاَّئِقُ بِهِ أَلاَّ يُسَلَّطَ الْوَارِثُ عَلَيْهِ».
21- ط- الدَّيْنُ الَّذِي يَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي عَجَّلَ الْأُجْرَةَ وَتَسَلَّمَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ، إِذَا فُسِخَتْ الْإِجَارَةُ قَبْلَ انْتِهَاءِ مُدَّتِهَا لِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ، فَإِنَّ مَا يُقَابِلُ الْمُدَّةَ الْبَاقِيَةَ مِنَ الْأُجْرَةِ يَكُونُ دَيْنًا مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَإِذَا بِيعَتِ الدُّيُونُ عَلَى مَالِكِهَا الْمُتَوَفَّى كَانَ دَيْنُ الْمُسْتَأْجِرِ مُقَدَّمًا عَلَى دُيُونِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: «فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَى الْأُجْرَةَ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ الْآجِرُ صَارَتِ الدَّارُ هُنَا بِالْأُجْرَةِ».
أَسْبَابُ ثُبُوتِ الدَّيْنِ:
22- الْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ دَيْنٍ أَوِ الْتِزَامٍ أَوْ مَسْئُولِيَّةٍ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُنْشِئُ ذَلِكَ وَيُلْزِمُ بِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ لَا بُدَّ لِثُبُوتِ أَيِّ دَيْنٍ مِنْ سَبَبٍ مُوجِبٍ يَقْتَضِيهِ.وَالْبَاحِثُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ يَجِدُ أَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِ الدَّيْنِ عَدِيدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَصْرُهَا فِي تِسْعَةِ أَسْبَابٍ:
23- أَحَدُهَا: الِالْتِزَامُ بِالْمَالِ: سَوَاءٌ أَكَانَ فِي عَقْدٍ يَتِمُّ بَيْنَ طَرَفَيْنِ كَالْبَيْعِ، وَالسَّلَمِ، وَالْقَرْضِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالزَّوَاجِ، وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَالْحَوَالَةِ، وَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ، وَالِاسْتِصْنَاعِ وَنَحْوِهَا، أَوْ كَانَ فِي الْتِزَامٍ فَرْدِيٍّ يَتِمُّ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ كَنَذْرِ الْمَالِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَالْتِزَامِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
فَفِي الْقَرْضِ مَثَلًا يَلْتَزِمُ الْمُقْتَرِضُ أَنْ يَرُدَّ لِلْمُقْرِضِ مَبْلَغًا مِنَ النُّقُودِ، أَوْ قَدْرًا مِنْ أَمْوَالٍ مِثْلِيَّةٍ يَكُونُ قَدِ اقْتَرَضَهَا مِنْهُ، وَثَبَتَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.
عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الدُّيُونِ الَّتِي تَثْبُتُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ لَا تَسْتَقِرُّ فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ لُزُومِهَا إِلاَّ بِقَبْضِ الْبَدَلِ الْمُقَابِلِ لَهَا، إِذْ بِهِ يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ إِلاَّ دَيْنًا وَاحِدًا وَهُوَ دَيْنُ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ لِاحْتِمَالِ طُرُوءِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى انْفِسَاخِ الْعَقْدِ وَسُقُوطِ الدَّيْنِ.
وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الدَّيْنِ فِي أَيِّ عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ إِنَّمَا يَعْنِي الْأَمْنَ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ حُصُولِ الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ جِنْسِهِ وَامْتِنَاعِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ.وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِدَيْنِ السَّلَمِ دُونَ بَقِيَّةِ الدُّيُونِ؛ لِجَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ جِنْسِهَا.
24- وَالثَّانِي: الْعَمَلُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ الْمُقْتَضِي لِثُبُوتِ دَيْنٍ عَلَى الْفَاعِلِ: كَالْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلدِّيَةِ وَالْجِنَايَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَرْشِ، وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، وَكَتَعَدِّي يَدِ الْأَمَانَةِ أَوْ تَفْرِيطِهَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا بِحَوْزَتِهِ مِنْ أَمْوَالٍ، كَتَعَمُّدِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ إِتْلَافَ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ تَحْتَ يَدِهِ أَوْ إِهْمَالِهِ فِي حِفْظِهَا.
وَيُعَدُّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا لَوْ «أَتْلَفَ عَلَى شَخْصٍ وَثِيقَةً تَتَضَمَّنُ دَيْنًا لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ، وَلَزِمَ مِنْ إِتْلَافِهَا ضَيَاعُ ذَلِكَ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ».
25- وَالثَّالِثُ: هَلَاكُ الْمَالِ فِي يَدِ الْحَائِزِ إِذَا كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الْهَلَاكِ، كَتَلَفِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَهَلَاكِ الْمَتَاعِ فِي يَدِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ أَوِ الْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
26- وَالرَّابِعُ: تَحَقُّقُ مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مَنَاطًا لِثُبُوتِ حَقٍّ مَالِيٍّ: كَحَوَلَانِ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ، وَاحْتِبَاسِ الْمَرْأَةِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَحَاجَةِ الْقَرِيبِ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.فَإِذَا وُجِدَ سَبَبٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ مَنْ قَضَى الشَّارِعُ بِإِلْزَامِهِ بِهِ.
27- وَالْخَامِسُ: إِيجَابُ الْإِمَامِ لِبَعْضِ التَّكَالِيفِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا لِلْوَفَاءِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ إِذَا عَجَزَ بَيْتُ الْمَالِ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا، أَوْ لِلْمُسَاهَمَةِ فِي إِغَاثَةِ الْمَنْكُوبِينَ وَإِعَانَةِ الْمُتَضَرِّرِينَ بِزِلْزَالٍ مُدَمِّرٍ أَوْ حَرِيقٍ شَامِلٍ أَوْ حَرْبٍ مُهْلِكَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْجَأُ النَّاسَ وَلَا يَتَّسِعُ بَيْتُ الْمَالِ لِتَحَمُّلِهِ أَوِ التَّعْوِيضِ عَنْهُ.
لَكِنْ لَا يَجُوزُ هَذَا إِلاَّ بِشُرُوطٍ:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَتَعَيَّنَ الْحَاجَةُ.فَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَقُومُ بِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ.الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالْعَدْلِ.وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَنْ يُنْفِقَهُ فِي سَرَفٍ، وَلَا أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، وَلَا يُعْطِيَ أَحَدًا أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَصْرِفَ مَصْرِفَهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ لَا بِحَسَبِ الْغَرَضِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ عَلَى مَنْ كَانَ قَادِرًا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَلَا إِجْحَافٍ، وَمَنْ لَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ لَهُ شَيْءٌ قَلِيلٌ فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَتَفَقَّدَ هَذَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَرُبَّمَا جَاءَ وَقْتٌ لَا يَفْتَقِرُ فِيهِ لِزِيَادَةٍ عَلَى مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَلَا يُوَزَّعُ.وَكَمَا يَتَعَيَّنُ الْمَالُ فِي التَّوْزِيعِ، فَكَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَتِ الضَّرُورَةُ لِلْمَعُونَةِ بِالْأَبْدَانِ وَلَمْ يَكْفِ الْمَالُ، فَإِنَّ النَّاسَ يُجْبَرُونَ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْأَمْرِ الدَّاعِي لِلْمَعُونَةِ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ وَتَعَيُّنِ الْمَصْلَحَةِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى ذَلِكَ.
28- السَّبَبُ السَّادِسُ مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الدَّيْنِ: أَدَاءُ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُ: كَمَنْ دَفَعَ إِلَى شَخْصٍ مَالًا يَظُنُّهُ دَيْنًا وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَيْهِ.وَقَدْ نَصَّتْ م 207 مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ «مَنْ دَفَعَ شَيْئًا ظَانًّا أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ عَدَمُ وُجُوبِهِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ».
29- وَالسَّابِعُ: أَدَاءُ وَاجِبٍ مَالِيٍّ يَلْزَمُ الْغَيْرَ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهِ: كَمَا إِذَا أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَدَاءِ دَيْنِهِ، فَأَدَّاهُ الْمَأْمُورُ مِنْ مَالِهِ عَنْهُ، فَإِنَّ مَا دَفَعَهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْآمِرُ رُجُوعَهُ- بِأَنْ قَالَ لَهُ: أَدِّ دَيْنِي عَلَى أَنْ أُؤَدِّيَهُ لَكَ بَعْدُ- أَوْ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: أَدِّ دَيْنِي- فَقَطْ- فَأَدَّاهُ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ لَهُ، أَوْ بِبِنَاءِ دَارٍ أَوْ دُكَّانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَفَعَلَ الْمَأْمُورُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِمَا دَفَعَهُ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ.وَكَذَا لَوْ أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَنْ يَكْفُلَهُ بِالْمَالِ فَكَفَلَهُ، ثُمَّ أَدَّى الْكَفِيلُ مَا كَفَلَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ.وَكَذَا إِذَا أَحَالَ مَدِينٌ دَائِنَهُ عَلَى شَخْصٍ غَيْرِ مَدِينٍ لِلْمُحِيلِ، فَرَضِيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، وَأَدَّى عَنْهُ الدَّيْنَ الْمُحَالَ بِهِ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهِ، فَإِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ.
30- وَالثَّامِنُ: الْفِعْلُ الْمَشْرُوعُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ: كَمَنْ أَكَلَ طَعَامَ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ مُضْطَرًّا لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ تَرْخِيصَ الشَّارِعِ وَإِبَاحَتَهُ اسْتِهْلَاكَ مَالِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ لَا يُسْقِطُ عَنِ الْفَاعِلِ الْمَسْئُولِيَّةَ الْمَالِيَّةَ، وَلَا يُعْفِيهِ مِنْ ثُبُوتِ مِثْلِ مَا أَتْلَفَهُ أَوْ قِيمَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لِمَالِكِهِ، فَالْأَعْذَارُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ، وَالْإِبَاحَةُ لِلِاضْطِرَارِ لَا تُنَافِي الضَّمَانَ؛ وَلِأَنَّ إِذْنَ الشَّارِعِ الْعَامَّ بِالتَّصَرُّفِ إِنَّمَا يَنْفِي الْإِثْمَ وَالْمُؤَاخَذَةَ بِالْعِقَابِ، وَلَا يُعْفِي مِنْ تَحَمُّلِ تَبَعَةِ الْإِتْلَافِ، بِخِلَافِ إِذْنِ الْمَالِكِ وَلِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ «الِاضْطِرَارُ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ» (م 33) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَغَيْرِهِمْ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالُوا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَالِكِ، وَالْوَاجِبُ لَا يُؤْخَذُ لَهُ عِوَضٌ.
وَهُنَاكَ رَأْيٌ ثَالِثٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِلَى طَعَامِ الْغَيْرِ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِصَاحِبِهِ إِنْ كَانَتْ مَعَهُ- أَيْ بِأَنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ حَاضِرٌ- وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ بَذْلِ رَبِّهِ لَهُ.
31- وَالتَّاسِعُ: الْقِيَامُ بِعَمَلٍ نَافِعٍ لِلْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ: وَهُوَ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَأْتِيَ بِعَمَلٍ يَلْزَمُ الْغَيْرَ أَوْ يَحْتَاجُهُ بِدُونِ إِذْنِهِ، كَمَنْ أَنْفَقَ عَنْ غَيْرِهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً عَلَيْهِ، أَوْ قَضَى عَنْهُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُنْفِقُ بِذَلِكَ التَّبَرُّعَ، فَإِنَّ مَا دَفَعَهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُنْفِقِ عَنْهُ.وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ.فَقَدْ جَاءَ فِي مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ (م 205): «إِذَا قَضَى أَحَدٌ دَيْنَ غَيْرِهِ بِلَا أَمْرِهِ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنِ الْمَدْيُونِ، سَوَاءٌ أَقَبِلَ أَمْ لَمْ يَقْبَلْ، وَيَكُونُ الدَّافِعُ مُتَبَرِّعًا لَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِشَيْءٍ مِمَّا دَفَعَهُ بِلَا أَمْرِهِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ الْقَابِضِ لِاسْتِرْدَادِ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ».
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ نَفَقَةٍ عَلَى قَرِيبٍ أَوْ زَوْجَةٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، فَهُوَ إِمَّا فُضُولِيٌّ، وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَفُوتَ عَلَيْهِ مَا فَوَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مُتَفَضِّلٌ فَعِوَضُهُ عَلَى اللَّهِ دُونَ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ.
32- وَقَدْ ذَكَرَ عَلِيّ حَيْدَر فِي كِتَابِهِ: «دُرَرُ الْحُكَّامِ شَرْحُ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ» قَاعِدَةَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا النَّوْعِ وَهِيَ: «أَنَّ مَنْ أَدَّى مَصْرُوفًا عَائِدًا عَلَى غَيْرِهِ بِدُونِ أَمْرِهِ أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا».
وَحَكَى لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعًا كَثِيرَةً مِنْهَا:
أ- إِذَا وَفَّى شَخْصٌ دَيْنَ آخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا.
ب- إِذَا دَفَعَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَصْرُوفًا عَلَى الرَّهْنِ يَلْزَمُ الْآخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا، وَلَا يَحِقُّ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُضْطَرًّا لِهَذَا الْإِنْفَاقِ طَالَمَا أَنَّهُ مُقْتَدِرٌ عَلَى اسْتِحْصَالِ أَمْرٍ مِنَ الْحَاكِمِ بِهِ لِتَأْمِينِ حَقِّهِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْمُسْتَفِيدِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ.وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّتْ الْمَجَلَّةُ الْعَدْلِيَّةُ فِي (م 725).
ج- إِذَا أَدَّى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَصَارِيفَ اللاَّزِمَةَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ بِلَا أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا (م 529) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ.
وَإِذَا أَعْطَى الْمُسْتَأْجِرُ الْحَيَوَانَ الْمَأْجُورَ عَلَفًا بِدُونِ أَمْرِ الْمُؤَجِّرِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا.
د- إِذَا كَفَلَ شَخْصٌ دَيْنَ آخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا.
هـ- إِذَا صَرَفَ الْمُودَعُ عَلَى الْوَدِيعَةِ بِلَا أَمْرِ صَاحِبِهَا أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يُعَدُّ مُتَبَرِّعًا.
و- إِذَا عَمَّرَ الشَّرِيكُ الْمِلْكَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِدُونِ إِذْنِ الشَّرِيكِ أَوِ الْحَاكِمِ يُعَدُّ مُتَبَرِّعًا.
ز- لَوْ أَنْشَأَ أَحَدٌ دَارًا أَوْ عَمَّرَهَا لِصَاحِبِهَا بِدُونِ أَمْرِهِ كَانَ الْبِنَاءُ أَوِ الْعِمَارَةُ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ أَوِ الدَّارِ، وَيَكُونُ الْمُنْشِئُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَنْفَقَهُ.
ح- لَوْ أَنْفَقَ شَخْصٌ عَلَى عُرْسِ آخَرَ بِلَا إِذْنِهِ كَانَ مُتَبَرِّعًا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
14-موسوعة الفقه الكويتية (مصافحة)
مُصَافَحَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمُصَافَحَةُ فِي اللُّغَةِ الْأَخْذُ بِالْيَدِ كَالتَّصَافُحِ، قَالَ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ: الرَّجُلُ يُصَافِحُ الرَّجُلَ إِذَا وَضَعَ صَفْحَ كَفِّهِ فِي صَفْحِ كَفِّهِ، وَصَفَحَا كَفَّيْهِمَا: وَجَّهَاهُمَا، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ إِلْصَاقِ صَفْحِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ وَإِقْبَالِ الْوَجْهِ عَلَى الْوَجْهِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- اللَّمْسُ:
2- مِنْ مَعَانِي اللَّمْسِ فِي اللُّغَةِ الْمَسُّ بِالْيَدِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَاللَّمْسُ أَعَمُّ مِنَ الْمُصَافَحَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَالْمَلْمُوسُ قَدْ يَكُونُ يَدًا أَوْ غَيْرَهَا، وَالْمُصَافَحَةُ لَمْسُ الْيَدِ بِالْيَدِ بِأُسْلُوبٍ خَاصٍّ هُوَ وَضْعُ صَفْحَتِهَا عَلَى صَفْحَتِهَا.
ب- الْمُبَاشَرَةُ:
3- الْمُبَاشَرَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ بَاشَرَ، يُقَالُ: بَاشَرَ الْأَمْرَ: وَلِيَهُ بِنَفْسِهِ، وَبَاشَرَ الْمَرْأَةَ: جَامَعَهَا أَوْ صَارَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَبَاشَرَتْ بَشَرَتُهُ بَشَرَتَهَا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.وَالْمُبَاشَرَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُصَافَحَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُصَافَحَةِ بِاخْتِلَافِ طَرَفَيْهَا، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلًا: مُصَافَحَةُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ:
4- مُصَافَحَةُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا عِنْدَ التَّلَاقِي وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَصْلُ الْمُصَافَحَةِ حَسَنَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ نَصَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُصَافَحَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِجُمْلَةٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي»،، وَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ- رضي الله عنه-: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: «تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبُ الشَّحْنَاءُ».
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُصَافَحَةَ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَاسْتَدَلَّ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي وَصْفِ تَحِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ لِسَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام-: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} حَيْثُ حَيَّوْهُ بِإِلْقَاءِ السَّلَامِ، وَلَمْ يُتْبِعُوهُ بِالْمُصَافَحَةِ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ مَالِكٍ اسْتِحْبَابُ الْمُصَافَحَةِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَصَافَحَهُ وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ لَعَانَقْتُكَ، فَقَالَ سُفْيَانُ: عَانَقَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَمِنْكَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِجَعْفَرٍ حِينَ قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، قَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ خَاصٌّ، قَالَ سُفْيَانُ: بَلْ هُوَ عَامٌّ مَا يَخُصُّ جَعْفَرًا يَخُصُّنَا، وَمَا يَعُمُّهُ يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ.
ثَانِيًا: مُصَافَحَةُ الْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ:
5- أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ الْقَوْلَ بِسُنِّيَّةِ الْمُصَافَحَةِ، وَلَمْ يَقْصُرُوا ذَلِكَ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْهَا بَيْنَ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَوْا مُصَافَحَةَ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَقَالُوا بِتَحْرِيمِهَا، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مُصَافَحَةَ الْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ مِنَ السُّنِّيَّةِ، فَيَشْمَلُهَا هَذَا الْحُكْمُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ فَقَالَ: وَتُسَنُّ مُصَافَحَةُ الرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ وَقَالَ النَّفْرَاوِيُّ: وَإِنَّمَا تُسَنُّ الْمُصَافَحَةُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوْ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، لَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً.
وَاسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ عُمُومِ الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى الْمُصَافَحَةِ، مِثْلَ قَوْلِ الرَّسُول- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا».
وَقَوْلِهِ: «تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِلُّ».وَمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ».
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، وَتَشْمَلُ بِعُمُومِهَا الْمَرْأَةَ تُلَاقِي الْمَرْأَةَ فَتُصَافِحُهَا وَلِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ وَتَمَسَّ مِنَ الْمَرْأَةِ مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَيَمَسُّهُ مِنَ الرَّجُلِ، وَهُوَ سَائِرُ الْجَسَدِ سِوَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ خَوْفُ الشَّهْوَةِ، حَتَّى لَوْ خِيفَتِ الشَّهْوَةُ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا.
ثَالِثًا: الْمُصَافَحَةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُصَافَحَةِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحَسَبِ كَوْنِهِمَا مِنَ الْمَحَارِمِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ:
6- فَأَمَّا مُصَافَحَةُ الْمَحَارِمِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى جِوَازِهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ فِي الْوَالِدَيْنِ مَعَ الْأَبْنَاءِ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَفِي غَيْرِهِمْ فِي رِوَايَةٍ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِجَوَازِ لَمْسِ الْمَحَارِمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْعَوْرَةِ بِشَرْطِ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَعَدَمِ خَوْفِ الشَّهْوَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُقَبِّلُ فَاطِمَةَ- رضي الله عنها- إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَتُقَبِّلُهُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَبَّلَ ابْنَتَهُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- وَلِأَنَّ مَسَّ الْمَحَارِمِ فِي غَيْرِ عَوْرَةٍ يَغْلِبُ فِيهِ الصِّلَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ، وَيَنْدُرُ اقْتِرَانُهُ بِالشَّهْوَةِ.
وَإِذَا كَانَ لَمْسُ الْمَحَارِمِ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ مُبَاحًا فَإِنَّ الْمُصَافَحَةَ نَوْعٌ مِنَ اللَّمْسِ، فَتَكُونُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّ الْمَحَارِمِ، وَيَشْمَلُهَا حُكْمُ الِاسْتِحْبَابِ الَّذِي اسْتُفِيدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ مَعَ الْأَبْنَاءِ فِي رِوَايَةٍ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ مُصَافَحَةِ الْمَحَارِمِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بَعَدَمِ جَوَازِ مَسِّهِمْ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبَيْنِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ جَوَازُ لَمْسِ الْمَحَارِمِ فِي غَيْرِ عَوْرَةٍ إِذَا انْتَفَتِ الشَّهْوَةُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا شَفَقَةٍ.
7- وَأَمَّا الْمُصَافَحَةُ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَحَارِمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِهَا وَفَرَّقُوا بَيْنَ مُصَافَحَةِ الْعَجَائِزِ وَمُصَافَحَةِ غَيْرِهِمْ:
فَمُصَافَحَةُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ الَّتِي لَا تَشْتَهِي وَلَا تُشْتَهَى، وَكَذَلِكَ مُصَافَحَةُ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ الْعَجُوزِ الَّذِي لَا يَشْتَهِي وَلَا يُشْتَهَى، وَمُصَافَحَةُ الرَّجُلِ الْعَجُوزِ لِلْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ، جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا دَامَتِ الشَّهْوَةُ مَأْمُونَةً مِنْ كِلَا الطَّرَفَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ»،، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَصَافِحَيْنِ مِمَّنْ لَا يَشْتَهِي وَلَا يُشْتَهَى فَخَوْفُ الْفِتْنَةِ مَعْدُومٌ أَوْ نَادِرٌ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ مُصَافَحَةِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً، وَهِيَ الْعَجُوزُ الْفَانِيَةُ الَّتِي لَا إِرَبَ لِلرِّجَالِ فِيهَا، أَخْذًا بِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّحْرِيمِ.
وَعَمَّمَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ لَمْسِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا الْعَجُوزَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِهِمُ التَّحْرِيمَ فِي حَقِّ مُصَافَحَتِهَا، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشَّابَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا مُصَافَحَةُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى تَحْرِيمِهَا، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ التَّحْرِيمَ بِأَنْ تَكُونَ الشَّابَّةُ مُشْتَهَاةً، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ كَثَوْبٍ وَنَحْوِهِ أَمْ لَا.
وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ مُصَافَحَةِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يُمْتَحَنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} - الْآيَةَ- قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ»، وَكَانَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ، وَلَا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ غَيْرَ أَنَّهُ يُبَايِعُهُنَّ بِالْكَلَامِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: «وَاللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- النِّسَاءَ قَطُّ إِلاَّ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلَامًا».
وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- الْمِحْنَةَ بِقَوْلِهِ: (وَكَانَتِ الْمِحْنَةُ أَنْ تُسْتَحْلَفَ بِاللَّهِ أَنَّهَا مَا خَرَجَتْ مِنْ بُغْضِ زَوْجِهَا وَلَا رَغْبَةً مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ وَلَا الْتِمَاسَ دُنْيَا وَلَا عِشْقًا لِرَجُلٍ مِنَّا بَلْ حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ).
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لأَنْ يُطَعْنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ» وَوَجْهُ دِلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِمَنْ يَمَسُّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمُصَافَحَةَ مِنَ الْمَسِّ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ مُتَعَمَّدًا وَكَانَ بِغَيْرِ سَبَبٍ مَشْرُوعٍ، لِمَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ تَحْرِيمَ النَّظَرِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا دَاعِيًا إِلَى الْفِتْنَةِ، وَاللَّمْسُ الَّذِي فِيهِ الْمُصَافَحَةُ أَعْظَمُ أَثَرًا فِي النَّفْسِ، وَأَكْثَرُ إِثَارَةً لِلشَّهْوَةِ مِنْ مُجَرَّدِ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا كُلُّ مَنْ حُرِّمَ النَّظَرُ إِلَيْهِ حُرِّمَ مَسُّهُ، بَلِ الْمَسُّ أَشَدُّ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَى أَجْنَبِيَّةٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يَجُوزُ مَسُّهَا.
رَابِعًا: مُصَافَحَةُ الصِّغَارِ:
8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ لَمْسَ الصِّغَارِ بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ، سَوَاءٌ فِي حَالَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَمْ فِي حَالَةِ اخْتِلَافِهِ، وَسَوَاءٌ أَبَلَغَ الصِّغَارُ حَدَّ الشَّهْوَةِ أَمْ لَمْ يَبْلُغُوهَا، وَمِنَ اللَّمْسِ الْمُصَافَحَةُ، وَمِنْ شُرُوطِ مَشْرُوعِيَّةِ الْمُصَافَحَةِ عَدَمُ خَوْفِ الْفِتْنَةِ.
فَإِنْ كَانَ اللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَكَانَ الصَّغِيرُ أَوِ الصَّغِيرَةُ مِمَّنْ لَا يُشْتَهَى جَازَ لَمْسُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَمِ اخْتَلَفَ، لِعَدَمِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِنَاءً عَلَيْهِ تَحِلُّ مُصَافَحَتُهُ مَا دَامَتِ الشَّهْوَةُ مُنْعَدِمَةً، لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللَّمْسِ فَتَأْخُذُ حُكْمَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْهِدَايَةِ بِجِوَازِ مُصَافَحَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى
وَأَمَّا إِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ أَوِ الصَّغِيرَةُ حَدَّ الشَّهْوَةِ فَحُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ اللَّمْسُ كَحُكْمِ الْكِبَارِ.
وَالْمُصَافَحَةُ مِثْلُهُ، فَيُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ حَالَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَحَالَةِ اخْتِلَافِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ ابْنَ ثَمَانِ سَنَوَاتٍ فَأَقَلُّ يَجُوزُ مَسُّهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، فَإِنْ زَادَ عَنْ هَذِهِ السِّنِّ أَخَذَ حُكْمَ الرِّجَالِ فِي الْمَسِّ، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَإِنْ لَمْ تَتَجَاوَزْ سِنَّ الرَّضَاعِ جَازَ مَسُّهَا، وَإِنْ جَاوَزَتْ سِنَّ الرَّضَاعِ وَكَانَتْ مُطِيقَةً (أَيْ مُشْتَهَاةً) حَرُمَ مَسُّهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُطِيقَةً فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، وَمَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ الْمَنْعُ.
وَبِنَاءً عَلَيْهِ يُعْرَفُ حُكْمُ مُصَافَحَةِ الصِّغَارِ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللَّمْسِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: عَوْرَةٌ).
خَامِسًا: مُصَافَحَةُ الْأَمْرَدِ:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مُصَافَحَةِ الْأَمْرَدِ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَمْرَدُ ف 5).
سَادِسًا: مُصَافَحَةُ الْكَافِرِ:
10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى الْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ مُصَافَحَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مُصَافَحَةَ الْمُسْلِمِ جَارَهُ النَّصْرَانِيَّ إِذَا رَجَعَ بَعْدَ الْغَيْبَةِ وَكَانَ يَتَأَذَّى بِتَرْكِ الْمُصَافَحَةِ وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ، بِنَاءً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ مُصَافَحَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ مُصَافَحَةِ الْمُسْلِمِ الْكَافِرِ وَلَا الْمُبْتَاعِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ طَلَبَ هَجْرَهُمَا وَمُجَانَبَتَهُمَا، وَفِي الْمُصَافَحَةِ وَصْلٌ مُنَافٍ لِمَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ.
الْحَالَاتُ الَّتِي تُسَنُّ فِيهَا الْمُصَافَحَةُ:
حِينَ تُشْرَعُ الْمُصَافَحَةُ فَإِنَّهَا تُسْتَحَبُّ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
11- عِنْدَ التَّلَاقِي سَوَاءٌ مِنْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ (ف 4).
12- كَذَلِكَ تُسَنُّ عِنْدَ مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ الْمُسْلِمِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ حَيْثُ كَانَتِ الْبَيْعَةُ عَلَى عَهْدِ الرَّسُول- صلى الله عليه وسلم- وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ بِالْمُصَافَحَةِ، وَفِي مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ لَهُ فِي السَّقِيفَةِ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعَهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَهَذَا خَاصٌّ بِالرِّجَالِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(ر: بَيْعَةٌ ف 12).
13- وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ فِي حُكْمِ الْمُصَافَحَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَبِخَاصَّةِ صَلَاتَيِ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ وَيَظْهَرُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِالِاسْتِحْبَابِ، وَآخَرُ بِالْإِبَاحَةِ، وَثَالِثٌ بِالْكَرَاهَةِ.
أَمَا الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْبَابِ فَقَدِ اسْتَنْبَطَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ إِطْلَاقِ عِبَارَاتِ أَصْحَابِ الْمُتُونِ، وَعَمَّ نَصُّهُمْ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ- التُّمُرْتَاشِيُّ- تَبَعًا لِلدُّرَرِ وَالْكَنْزِ وَالْوِقَايَةِ وَالنُّقَايَةِ وَالْمَجْمَعِ وَالْمُلْتَقَى وَغَيْرِهَا يُفِيدُ جَوَازَهَا مُطْلَقًا وَلَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ، أَيْ مُبَاحَةٌ حَسَنَةٌ كَمَا أَفَادَهُ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ، وَعَقَّبَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضَ مَنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِهَا مُطْلَقًا مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُتُونِ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِعُمُومِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمُصَافَحَةِ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَحَمْزَةُ النَّاشِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالُوا بِاسْتِحْبَابِ الْمُصَافَحَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ مُطْلَقًا وَاسْتَأْنَسَ الطَّبَرِيُّ بِمَا رِوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ تَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَةُ وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ، قَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي، فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ»،، قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: وَيُسْتَأْنَسُ بِذَلِكَ لِمَا تَطَابَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ لَا سِيَّمَا فِي الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ قَصْدٌ صَالِحٌ مِنْ تَبَرُّكٍ أَوْ تَوَدُّدٍ أَوْ نَحْوِهِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْإِبَاحَةِ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ قَسَّمَ الْبِدَعَ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبَةٌ وَمُحَرَّمَةٌ وَمَكْرُوهَةٌ وَمُسْتَحَبَّةٌ وَمُبَاحَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَلِلْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا الْمُصَافَحَةُ عُقَيْبَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ.وَنَقَلَ ابْنُ عَلاَّنَ عَنِ الْمِرْقَاةِ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهَا مِنَ الْبِدَعِ فَإِذَا مَدَّ مُسْلِمٌ يَدَهُ إِلَيْهِ لِيُصَافِحَهُ فَلَا يَنْبَغِي الْإِعْرَاضُ عَنْهُ بِجَذْبِ الْيَدِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَذًى يَزِيدُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَدَبِ، وَإِنْ كَانَ يُقَالُ إِنَّ فِيهِ نَوْعَ إِعَانَةٍ عَلَى الْبِدْعَةِ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُجَابَرَةِ.
وَاسْتَحْسَنَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ- كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَلاَّنَ- كَلَامَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَاخْتَارَ أَنَّ مُصَافَحَةَ مَنْ كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ مُبَاحَةٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ سُنَّةٌ، وَقَالَ فِي الْأَذْكَارِ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُصَافَحَةَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ كُلِّ لِقَاءٍ، وَأَمَّا مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنَ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلَاتَيِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْمُصَافَحَةِ سُنَّةٌ، وَكَوْنُهُمْ حَافَظُوا عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَفَرَّطُوا فِيهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَوْ أَكْثَرِهَا لَا يُخْرِجُ ذَلِكَ الْبَعْضَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْمُصَافَحَةِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَصْلِهَا.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ فَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، وَقَالَ: قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَيْهَا بَعْدَ الصَّلَوَاتِ خَاصَّةً قَدْ يُؤَدِّي بِالْجَهَلَةِ إِلَى اعْتِقَادِ سُنِّيَّتِهَا فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَأَنَّ لَهَا خُصُوصِيَّةً زَائِدَةً عَلَى غَيْرِهَا، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَذُكِرَ أَنَّ مِنْهُمْ مِنْ كَرِهَهَا لِأَنَّهَا مِنْ سُنَنِ الرَّوَافِضِ.
وَاعْتَبَرَ ابْنُ الْحَاجِّ هَذِهِ الْمُصَافَحَةَ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُمْنَعَ فِي الْمَسَاجِدِ، لِأَنَّ مَوْضِعَ الْمُصَافَحَةِ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ لَا فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَحَيْثُ وَضَعَهَا الشَّرْعُ تُوضَعُ، فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيُزْجَرُ فَاعِلُهُ، لِمَا أَتَى مِنْ خِلَافِ السُّنَّةِ.
كَيْفِيَّةُ الْمُصَافَحَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَآدَابُهَا:
14- تَقَعُ الْمُصَافَحَةُ فِي الْأَصْلِ بِأَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ صَفْحَ كَفِّهِ فِي صَفْحِ كَفِّ صَاحِبِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الْمُصَافَحَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ بِكِلْتَا الْيَدَيْنِ أَمْ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمُصَافَحَةِ أَنْ تَكُونَ بِكِلْتَا الْيَدَيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُلْصِقَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَصَافِحَيْنِ بَطْنَ كَفِّ يَمِينِهِ بِبَطْنِ كَفِّ يَمِينِ الْآخَرِ، وَيَجْعَلُ بَطْنَ كَفِّ يَسَارِهِ عَلَى ظَهْرِ كَفِّ يَمِينِ الْآخَرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَبِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- «عَلَّمَنِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- التَّشَهُّدَ وَكَفِي بَيْنَ كَفَّيْهِ» وَبِمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْأَخْذِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: صَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَزِينٍ قَالَ: «مَرَرْنَا بِالرَّبَذَةِ فَقِيلَ لَنَا: هَاهُنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ- رضي الله عنه-، فَأَتَيْتُهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ فَقَالَ: بَايَعْتُ بِهَاتَيْنِ نَبِيَّ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- ».
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ الْتَقَيَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَحْضُرَ دُعَاءَهُمَا وَلَا يُفَرَّقَ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى يَغْفِرَ لَهُمَا»،، قَالُوا: وَرَدَتِ الرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلَا يَصْدُقُ إِلاَّ عَلَى الْمُصَافَحَةِ الَّتِي تَكُونُ بِكِلْتَا الْيَدَيْنِ لَا بِيَدٍ وَاحِدَةٍ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْمُصَافَحَةِ الْمَشْرُوعَةِ لَا تَتَعَدَّى الْمَعْنَى الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ، وَيَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ إِلْصَاقِ صَفْحِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ.
وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الرَّأْيِ بِقَوْلِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ- رضي الله عنه-: «تَرَوْنَ كَفِّي هَذِهِ، فَأَشْهَدُ أَنَّنِي وَضَعْتُهَا عَلَى كَفِّ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-..وَذَكَرَ الْحَدِيثَ».
وَيُسْتَحَبُّ فِي الْمُصَافَحَةِ أَنْ تَكُونَ إِثْرَ التَّلَاقِي مُبَاشَرَةً مِنْ غَيْرِ تَوَانٍ وَلَا تَرَاخٍ وَأَنْ لَا يَفْصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللِّقَاءِ سِوَى الْبَدْءُ بِالسَّلَامِ، لِقَوْلِ الرَّسُول- صلى الله عليه وسلم-.«مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا»،، حَيْثُ عَطَفَ الْمُصَافَحَةَ عَلَى التَّلَاقِي بِالْفَاءِ، وَهِيَ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ وَالتَّعْقِيبَ وَالْفَوْرِيَّةَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ الْمُسْتَحَبَّ لِلْمُصَافَحَةِ هُوَ أَوَّلُ اللِّقَاءِ وَأَمَّا أَنَّ الْبَدْءَ بِالسَّلَامِ يَسْبِقُهَا فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَيَأْخُذُ بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُهُ إِلاَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَتَفَرَّقَانِ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُمَا».
كَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنَّ تَدُومَ مُلَازَمَةُ الْكَفَّيْنِ فِيهَا قَدْرَ مَا يَفْرُغُ مِنَ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ وَالسُّؤَالِ عَنِ الْغَرَضِ، وَيُكْرَهُ نَزْعُ الْمُصَافِحِ يَدَهُ مِنْ يَدِ الَّذِي يُصَافِحُهُ سَرِيعًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «مَا رَأَيْتُ رَجُلًا الْتَقَمَ أُذُنَ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ يُنَحِّي رَأْسَهُ، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَكَ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ لَا يَنْزِعُ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ يَدَهُ وَلَا يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُهُ»،، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: يُكْرَهُ لِلْمُصَافِحِ أَنْ يَنْزِعَ يَدَهُ مِنْ يَدِ مَنْ يُصَافِحُهُ قَبْلَ نَزْعِهِ هُوَ إِلاَّ مَعَ حَيَاءٍ أَوْ مَضَرَّةِ التَّأْخِيرِ، وَقَصَرَ بَعْضُهُمْ كَرَاهَةَ السَّبْقِ بِالنَّزْعِ عَلَى غَيْرِ الْمُبَادِرِ بِالْمُصَافَحَةِ حَتَّى يَنْزِعَهَا ذَلِكَ الْمُبَادِرُ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الضَّابِطُ أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْآخَرَ سَيَنْزِعُ أَمْسَكَ وَإِلاَّ فَلَوِ اسْتُحِبَّ الْإِمْسَاكُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَفْضَى إِلَى دَوَامِ الْمُعَاقَدَةِ، ثُمَّ اسْتَحْسَنَ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ النَّزْعَ لِلْمُبْتَدِئِ بِالْمُصَافَحَةِ.
وَمِنْ سُنَنِ الْمُصَافَحَةِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُصَافِحُ إِبْهَامَ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَأَمَّا شَدُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَهُ عَلَى يَدِ الْآخَرِ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ: قَوْلٌ بِاسْتِحْبَابِهِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّوَدُّدِ، وَقَوْلٌ بِعَدِمِ اسْتِحْبَابِهِ، وَكَذَلِكَ تَقْبِيلُ الْمُصَافِحِ يَدَ نَفْسِهِ بَعْدَ الْمُصَافَحَةِ فِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَهُمْ، لَكِنْ قَالَ الْجُزُولِيُّ: صِفَةُ الْمُصَافَحَةِ أَنْ يُلْصِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاحَتَهُ بِرَاحَةِ الْآخَرِ، وَلَا يَشُدُّ وَلَا يُقَبِّلُ أَحَدُهُمَا يَدَهُ وَلَا يَدَ الْآخَرِ، فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
وَيُسْتَحَبُّ السَّبْقُ فِي الشُّرُوعِ بِالْمُصَافَحَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا الْتَقَى الرَّجُلَانِ الْمُسْلِمَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّ أَحَبَّهُمَا إِلَى اللَّهِ أَحْسَنُهُمَا بِشْرًا لِصَاحِبِهِ فَإِذَا تَصَافَحَا نَزَلَتْ عَلَيْهِمَا مِائَةُ رَحْمَةٍ، لِلْبَادِي مِنْهُمَا تِسْعُونَ وَلِلْمُصَافِحِ عَشَرَةٌ».
وَمِنْ آدَابِ الْمُصَافَحَةِ أَنْ يَقْرُنَهَا الْمُصَافِحُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِغْفَارِ بِأَنْ يَقُولَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، وَبِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- وَبِالدُّعَاءِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَبِالْبَشَاشَةِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ مَعَ التَّبَسُّمِ وَحُسْنِ الْإِقْبَالِ وَاللُّطْفِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَصْدُقَ فِيهَا، بِأَنْ لَا يَحْمِلَهُ عَلَيْهَا سِوَى الْحُبِّ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «لَقِيتُ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فَأَخَذَ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُ لأَحْسَبُ أَنَّ الْمُصَافَحَةَ لِلْأَعَاجِمِ، فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُصَافَحَةِ مِنْهُمْ، مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ مَوَدَّةً بَيْنَهُمَا وَنَصِيحَةً إِلاَّ أُلْقِيَتْ ذُنُوبُهُمَا بَيْنَهُمَا».
أَثَرُ الْمُصَافَحَةِ عَلَى وُضُوءِ الْمُتَصَافِحَيْنِ
15- لَمَّا كَانَتِ الْمُصَافَحَةُ صُورَةً مِنْ صُوَرِ اللَّمْسِ، فَإِنَّهُ يَجْرِي فِي أَثَرِهَا عَلَى وُضُوءِ الْمُتَصَافِحَيْنِ الِاخْتِلَافُ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَثَرِ اللَّمْسِ عَلَيْهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (لَمْسٌ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
15-موسوعة الفقه الكويتية (موت 2)
مَوْتٌ -2ثَانِيًا- الدِّيَةُ وَأَرْشُ الْأَطْرَافِ:
20- الدِّيَةُ وَالْأَرْشُ كِلَاهُمَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَجِبُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَدَلَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ.
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الدِّيَةَ عَلَى الْمَالِ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَالْأَرْشَ عَلَى الْمَالِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْأَطْرَافِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا، أَرْشٌ ف 1).
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ الدِّيَةَ وَالْأَرْشَ تَكُونَانِ عَلَى الْجَانِي فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْخَطَأِ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَثَ أَنْ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ تُوُفِّيَ بَعْدَ مَا وَجَبَ لَهُ الْحَقُّ فِي الْأَرْشِ، فَمَا هُوَ مُصِيرُ هَذَا الْحَقِّ هَلْ يُعْتَبَرُ مِلْكًا لَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِ، بِحَيْثُ تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمْ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي تَمَلُّكِهِ، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ دُونَهُ، بِحَيْثُ لَا تُوَفَّى مِنْهُ دُيُونُهُ وَلَا يُنَفَّذُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ وَصَايَاهُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَالٌ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ، وَنَفْسُهُ لَهُ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا، وَلِأَنَّ بَدَلَ أَطْرَافِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَهُ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَجُوزُ تَجَدُّدُ الْمِلْكِ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً وَنَحْوَهَا فَسَقَطَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ...وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنَّهُ تُسَدَّدُ مِنْهَا دُيُونُهُ، وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ، وَتُقْضَى مِنْهَا سَائِرُ حَوَائِجِهِ مِنْ تَجْهِيزٍ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ حَسَبَ قَوَاعِدِ الْإِرْثِ.
وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- نَشَدَ النَّاسَ بِمِنًى: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الدِّيَةِ أَنْ يُخْبِرَنِي، فَقَامَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ فَقَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا...فَقَضَى عُمَرُ بِذَلِكَ».قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ أَشْيَمُ قُتِلَ خَطَأً.
قَالَ الْبَاجِيُّ: اقْتَضَى ذَلِكَ تَعَلُّقَ هَذَا الْحُكْمِ بِقَتْلِ الْخَطَأِ، إِلاَّ أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلِمْنَاهُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ دِيَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَأَنَّهَا كَسَائِرِ مَالِ الْمَيِّتِ، يَرِثُ مِنْهَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ.
وَعَلَّقَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَثَرِ عُمَرَ وَقَضَائِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنْ يَرِثَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَنْ وَرِثَ مَا سِوَاهَا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهَا تُمْلَكُ عَنِ الْمَيِّتِ، وَبِهَذَا نَأْخُذُ، فَنُوَرِّثُ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَنْ وَرِثَ مَا سِوَاهَا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِذَا مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَقَدْ وَجَبَتْ دِيَتُهُ، فَمَنْ مَاتَ مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَتْ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ دِيَتِهِ، كَأَنَّ رَجُلًا جَنَى عَلَيْهِ فِي صَدْرِ النَّهَارِ فَمَاتَ، وَمَاتَ ابْنٌ لَهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَأُخِذَتْ دِيَةُ أَبِيهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَمِيرَاثُ الِابْنِ الَّذِي عَاشَ بَعْدَهُ سَاعَةً قَائِمٌ فِي دِيَتِهِ، كَمَا يَثْبُتُ فِي دَيْنٍ لَوْ كَانَ لِأَبِيهِ، وَكَذَلِكَ امْرَأَتُهُ وَغَيْرُهَا مِمَّنْ يَرِثُهُ إِذَا مَاتَ.
وَالثَّانِي: لِإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ وَشَرِيكٍ وَهُوَ أَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً، وَلَا تَكُونُ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ أَصْلًا، إِذِ الْمَقْتُولُ لَا تَجِبُ دِيَتُهُ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ بَطَلَ مِلْكُهُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ، وَلَا أَنْ تُنَفَّذَ مِنْهَا وَصَايَاهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ: أَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ حَدَثَ لِلْأَهْلِ بَعْدَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ، وَلَمْ يَرِثُوهُ عَنْهُ قَطُّ، إِذْ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ، فَكَانَ مِنَ الْبَاطِلِ أَنْ يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْ مَالِ الْوَرَثَةِ الَّذِي لَمْ يَمْلِكْهُ هُوَ قَطُّ فِي حَيَاتِهِ، وَأَنْ تُنَفَّذَ مِنْهُ وَصِيَّتُهُ...ثُمَّ إِنَّهُ بِالْمَوْتِ تَزُولُ أَمْلَاكُ الْمَيِّتِ الثَّابِتَةُ لَهُ، فَكَيْفَ يَتَجَدَّدُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِلْكٌ؟ وَلِهَذَا لَا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ مِنْ مَالِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنَّمَا يُوصِي بِجُزْءٍ مِنْ مَالٍ لَا بِمَالِ وَرَثَتِهِ.
ثَالِثًا- حُقُوقُ الِارْتِفَاقِ
21- حَقُّ الِارْتِفَاقِ عِبَارَةٌ عَنْ حَقٍّ مُقَرَّرٍ عَلَى عَقَارٍ لِمَنْفَعَةِ عَقَارٍ آخَرَ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِ مَالِكِ الْعَقَارِ الْأَوَّلِ، وَتَشْمَلُ حُقُوقُ الِارْتِفَاقِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: حَقَّ الشُّرْبِ، وَحَقَّ الْمَجْرَى، وَحَقَّ الْمَسِيلِ، وَحَقَّ الْمُرُورِ، وَحَقَّ التَّعَلِّي، وَحَقَّ الْجِوَارِ.
وَحُقُوقُ الِارْتِفَاقِ لَيْسَتْ بِمُفْرَدِهَا مَالًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّهَا أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ حَوْزُهَا وَادِّخَارُهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا وَهِبَتِهَا اسْتِقْلَالًا، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهَا حُقُوقًا مَالِيَّةً لِتَعَلُّقِهَا بِأَعْيَانٍ مَالِيَّةٍ، وَمِنْ هُنَا أَجَازُوا بَيْعَهَا تَبَعًا لِلْعَقَارِ الَّذِي ثَبَتَتْ لِمَنْفَعَتِهِ.
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَقَدِ اعْتَبَرُوهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْوَالِ، وَأَجَازُوا- فِي الْجُمْلَةِ- بَيْعَهَا وَهِبَتَهَا اسْتِقْلَالًا.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ تَبَعًا لِلْعَقَارِ الَّذِي ثَبَتَتْ لِمَصْلَحَتِهِ، لِأَنَّهُ حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ، فِيهَا مَعْنَى الْمَالِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَعْيَانٍ مَالِيَّةٍ، وَلِهَذَا فَلَا تَأْثِيرَ لِلْمَوْتِ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهَا أَمْوَالٌ ذَاتُهَا أَوْ حُقُوقٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَعْيَانٍ مَالِيَّةٍ.
رَابِعًا- حُقُوقُ الْمُرْتَهِنِ:
22- الرَّهْنُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي يُجْعَلُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ، لِيُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ.وَبِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِالرَّهْنِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ بِحَيْثُ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ دُيُونٌ أُخْرَى لَا تَفِي بِهَا أَمْوَالُهُ، وَبِيعَ الرَّهْنُ لِسَدَادِ مَا عَلَيْهِ، كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهِ أَوَّلًا، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَهُوَ لِبَقِيَّةِ الْغُرَمَاءِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حُقُوقَ الْمُرْتَهِنِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَالْمَيِّتُ الَّذِي لَهُ دَيْنٌ بِهِ رَهْنٌ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ بِرَهْنِهِ، وَتَبْقَى الْعَيْنُ رَهْنًا عِنْدَهُمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا سَائِرُ حُقُوقِ الْمُرْتَهِنِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
23- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى حُقُوقِ الْمُرْتَهِنِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ قَبْضِ الرَّهْنِ، هَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ أَمْ تَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ قَبْضِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَلْزَمُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ أَنْ يَلْزَمَ عَقْدُ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ.
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ حُقُوقَ الْمُرْتَهِنِ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِمُ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ مَتَى طَلَبُوا ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاخَى الْإِقْبَاضُ حَتَّى يُفْلِسَ الرَّاهِنُ أَوْ يَمْرَضَ أَوْ يَمُوتَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّهْنَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبْضٍ.
خَامِسًا- حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ
24- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الْمَبِيعِ وَالِامْتِنَاعَ عَنْ تَسْلِيمِهِ لِلْمُشْتَرِي حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ إِذَا كَانَ حَالًّا، أَوِ الْقَدْرَ الْحَالَّ مِنْهُ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ مُؤَجَّلًا أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ، اعْتِبَارًا لِتَرَاضِيهِمَا عَلَى تَأْخِيرِهِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا حَالًّا، أَيْ مَالًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَلَا مُؤَجَّلٍ، وَكَانَ حَاضِرًا مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ، فَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ لِقَبْضِ الثَّمَنِ.
وَلَمَّا كَانَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، أَيِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ، فَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْحَقِّ إِذَا مَاتَ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ- كَسَائِرِ أَعْيَانِهِ الْمَالِيَّةِ- وَلَا يَكُونُ لِلْمَوْتِ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ.
أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ الْمَحْضَةِ
25- الْحُقُوقُ الشَّخْصِيَّةُ الْمَحْضَةُ هِيَ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ شَخْصِهِ وَذَاتِهِ وَمَا يَتَوَفَّرُ فِيهِ مِنْ صِفَاتٍ وَمَعَانٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، مِثْلُ حَقِّ الْحَضَانَةِ، وَحَقِّ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَحَقِّ الْمُظَاهِرِ فِي الْعَوْدِ، وَحَقِّ الْفَيْءِ بَعْدَ الْإِيلَاءِ، وَحَقِّ أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ فِي وَظَائِفِهِمْ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ ذَوِيهَا أَوْ أَصْحَابِهَا وَلَا تُورَثُ عَنْهُمْ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَرِكَةٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا، وَظِيفَةٌ).
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَبَيَانِ تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمَقْذُوفِ عَلَى هَذَا الْحَقِّ
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قَذْفٌ ف 44).
أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْحُقُوقِ الشَّبِيهَةِ بِالْحَقَّيْنِ الْمَالِيِّ وَالشَّخْصِيِّ
26- نَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ تَجْمَعُ بَيْنَ شَبَهَيْنِ، شَبَهٌ بِالْحَقِّ الْمَالِيِّ، وَشَبَهٌ بِالْحَقِّ الشَّخْصِيِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ حَتَّى تَلْحَقَ بِهِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى هَذِهِ الْحُقُوقِ.
أَوَّلًا- حَقُّ الْخِيَارِ:
27- يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُ الْمَوْتِ عَلَى حُقُوقِ الْخِيَارَاتِ بِحَسَبِ نَوْعِ الْخِيَارِ الثَّابِتِ لِلْعَاقِدِ وَطَبِيعَتِهِ وَاجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ فِي تَغْلِيبِ شَبَهِهِ بِالْحَقِّ الْمَالِيِّ أَوِ الْحَقِّ الشَّخْصِيِّ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ- خِيَارُ الْمَجْلِسِ:
28- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى هَذَا الْخِيَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَهُوَ انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي 92 الْمَذْهَبِ، 92 وَهُوَ سُقُوطُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ.
وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ وُقُوعِ الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمَيِّتِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَيْنَ عَدَمِ تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ، حَيْثُ يَنْتَقِلُ الْخِيَارُ إِلَى الْوَارِثِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (خِيَارٌ ف 13).
ب- خِيَارُ الْقَبُولِ:
29- خِيَارُ الْقَبُولِ: هُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ فِي الْقَبُولِ أَوْ عَدَمِهِ فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ صُدُورِ الْإِيجَابِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ سُقُوطُ خِيَارِ الْقَبُولِ وَانْتِهَاؤُهُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ مَوْتَ الْمُوجِبِ يُسْقِطُ إِيجَابَهُ، وَأَمَّا مَوْتُ الَّذِي خُوطِبَ بِالْإِيجَابِ، فَلِأَنَّ حَقَّ الْقَبُولِ لَا يُورَثُ.
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ خِيَارَ الْقَبُولِ يُورَثُ وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ.
ج- خِيَارُ الْعَيْبِ:
30- خِيَارُ الْعَيْبِ: وَهُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي رَدِّ الْمَبِيعِ بِسَبَبِ وُجُودِ وَصْفٍ مَذْمُومٍ فِيهِ يَنْقُصُ الْعَيْنَ أَوِ الْقِيمَةَ نُقْصَانًا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَيَغْلِبُ فِي جَنْسِهِ عَدَمُهُ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِهِ بِالْأَعْيَانِ الْمَالِيَّةِ وَلُصُوقِهِ بِهَا.
قَالَ الشِّيرَازِيُّ: انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ يَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ فَانْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الثَّمَنُ.
د- خِيَارُ الشَّرْطِ:
31- خِيَارُ الشَّرْطِ: هُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالِاشْتِرَاطِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا يُخَوِّلُ صَاحِبَهُ فَسْخَ الْعَقْدِ خِلَالَ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.
أَحَدُهَا: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بِاعْتِبَارِهِ مِنْ مُشْتَمِلَاتِ التَّرِكَةِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِإِصْلَاحِ الْمَالِ، كَالرَّهْنِ وَحَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ أَصِيلًا أَمْ نَائِبًا، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: لِأَنَّ الْخِيَارَ صِفَةٌ لِلْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ.
وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَبَيْنَ عَدَمِهَا، قَالُوا: فَإِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْخِيَارِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَمْ يُورَثْ عَنْهُ، أَمَّا إِذَا طَالَبَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ إِلاَّ بِالْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمُشْتَرِطِ فِي حَيَاتِهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (خِيَارُ الشَّرْطِ ف 54).
هـ- خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:
32- خِيَارُ الرُّؤْيَةِ: هُوَ حَقٌّ يُثْبِتُ لِلْمُتَمَلِّكِ الْفَسْخَ أَوِ الْإِمْضَاءَ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَحَلِّ الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، بِاعْتِبَارِهِ لِمُطْلَقِ التَّرَوِّي لَا لِتَحَاشِي الضَّرَرِ أَوِ الْخُلْفِ فِي الْوَصْفِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَنْظُرَ الْمُشْتَرِي: هَلْ يَصْلُحُ لَهُ الْمَبِيعُ أَمْ لَا؟ وَمَعَ اعْتِبَارِهِمْ إِيَّاهُ خِيَارًا حُكْمِيًّا مِنْ جِهَةِ الثُّبُوتِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِالْإِرَادَةِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالُ، وَالْحُقُوقُ الْمُرْتَبِطَةُ بِمَشِيئَةِ الْعَاقِدِ لَا تُورَثُ، لِأَنَّ انْتِقَالَهَا إِلَى الْوَارِثِ يَعْنِي نَقْلَ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ.
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ.
و- خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ:
33- خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ هُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي فَسْخِ الْعَقْدِ لِتَخَلُّفِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ اشْتَرَطَهُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا الْخِيَارُ يُورَثُ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ ف 13).
ز- خِيَارُ التَّعْيِينِ:
34- خِيَارُ التَّعْيِينِ: وَهُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَحَدِهَا شَائِعًا خِلَالَ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ مَحَلِّ الْخِيَارِ، ذَلِكَ أَنَّ لِمُوَرِّثِهِ مَالًا ثَابِتًا ضِمْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْخِيَارِ، فَوَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَ مَا يَخْتَارُهُ وَيَرُدَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَى مَالِكِهِ.
ح- خِيَارُ التَّغْرِيرِ:
35- خِيَارُ التَّغْرِيرِ هُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخِ لِتَعَرُّضِهِ لِأَقْوَالٍ مُوهِمَةٍ مِنَ الْبَائِعِ دَفَعَتْهُ لِلتَّعَاقُدِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كَوْنِهِ مَوْرُوثًا، فَاسْتَظْهَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَأَقَرَّهُ الْحَصْكَفِيُّ- أَنَّ خِيَارَ التَّغْرِيرِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، وَهِيَ لَا تُورَثُ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا بَحَثَهُ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنَّ خِيَارَ ظُهُورِ الْخِيَانَةِ لَا يُورَثُ، لِتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، بَلْ هُنَاكَ مَا يَجْعَلُ نَفْيَ تَوْرِيثِهِ بِالْأَوْلَى، لِأَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ الْخِدَاعِ، فَإِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ الْمَلْفُوظِ بِهِ لَا يُورَثُ، فَكَيْفَ يُورَثُ غَيْرُ الْمَلْفُوظِ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ.
وَفِي رَأْيٍ أَنَّهُ يُورَثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
ط- خِيَارُ النَّقْدِ:
36- خِيَارُ النَّقْدِ: هُوَ حَقٌّ يَشْتَرِطُهُ الْعَاقِدُ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْفَسْخِ عِنْدَ عَدَمِ نَقْدِ الْبَدَلِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُورَثُ، بَلْ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، لِأَنَّهُ وَصْفٌ لَهُ، وَالْأَوْصَافُ لَا تُورَثُ، وَأُسْوَةٌ بِأَصْلِهِ وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُورَثُ عِنْدَهُمْ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُقُوطِهِ أَوْ إِرْثِهِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ أَصْلًا.
ثَانِيًا- حَقُّ الشُّفْعَةِ:
37- الشُّفْعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ فِي الْعَقَارِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ صَاحِبُ حَقِّ الشُّفْعَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا، هَلْ يَنْتَقِلُ ذَلِكَ الْحَقُّ لِوَرَثَتِهِ، أَمْ يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِمَوْتِهِ؟ وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ حَقٌّ مَالِيٌّ، فَيُورَثُ عَنِ الْمَيِّتِ كَمَا تُورَثُ أَمْوَالُهُ، وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ.
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّفِيعَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مُجَرَّدُ خِيَارٍ فِي التَّمَلُّكِ، وَهِيَ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ فِي الْأَخْذِ أَوِ التَّرْكِ، وَذَلِكَ لَا يُورَثُ إِلاَّ إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِهَا أَوْ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِهَا.
الثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، لِأَنَّهُ نَوْعُ خِيَارٍ شُرِعَ لِلتَّمْلِيكِ، أَشْبَهَ الْإِيجَابَ قَبْلَ قَبُولِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ عَلَى الشُّفْعَةِ، لِاحْتِمَالِ رَغْبَتِهِ عَنْهَا، فَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ مَا شُكَّ فِي ثُبُوتِهِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ طَلَبِهِ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ تَنْتَقِلُ لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الطَّلَبَ يَنْتَقِلُ بِهِ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَةٌ ف 51).
ثَالِثًا- حَقُّ الْمَالِكِ فِي إِجَازَةِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ
38- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَالِكَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ إِجَازَتِهِ لِعَقْدِ الْفُضُولِيِّ الْمَوْقُوفِ عَلَى إِجَازَتِهِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْإِجَازَةِ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِنَ الْمَالِكِ لَا مِنْ وَارِثِهِ وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ فِي الْقِسْمَةِ، فَمَعَ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْإِجَازَةِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا ثُمَّ إِعَادَتِهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَالْقِيَاسُ بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ بِمَوْتِهِ، وَعَدَمُ انْتِقَالِهَا لِلْوَارِثِ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مُبَادَلَةٌ كَالْبَيْعِ.
رَابِعًا- اسْتِحْقَاقُ الْمَنَافِعِ بِمُوجِبِ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ
39- الْمَنْفَعَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هِيَ الْفَائِدَةُ الْعَرَضِيَّةُ الَّتِي تُنَالُ مِنَ الْأَعْيَانِ بِطَرِيقِ اسْتِعْمَالِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الشَّخْصُ فِي- عَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ بِمُوجِبِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ أَوِ الْإِعَارَةِ أَوِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ، هَلْ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِيهَا بِالْمَوْتِ أَمْ أَنَّهَا تُورَثُ عَنْهُ؟ وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ- الْإِجَارَةُ:
40- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَنَافِعِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَإِسْحَاقَ وَالْبَتِّيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ أَمَدِ الْإِجَارَةِ، فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا يَنْفَسِخُ مَوْتُ الْعَاقِدِ مَعَ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ، وَهِيَ مَالٌ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ.
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إِلاَّ فِيمَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ، لِيَكُونَ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَيَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي، وَالْمَنْفَعَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تَبْقَى لِتُورَثَ، وَالَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ لِيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهَا، إِذِ الْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ، وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ تَعَيَّنَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ.
ب- الْإِعَارَةُ:
41- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ مَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَنَافِعِ فِي الْعَارِيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْمُسْتَعِيرِ بِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ حَقٌّ شَخْصِيٌّ، يَنْتَهِي بِوَفَاةِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِعَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ، وَيَجِبُ عَلَى وَرَثَتِهِ رَدُّ الْعَارِيَةِ فَوْرًا إِلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْهَا.
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِعَارَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مُطْلَقَةً، فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَسْتَحِقُّ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ أَوِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ عَادَةً عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَعِيرُ قَبْلَ انْتِهَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْمَنْفَعَةِ فِي الْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا اشْتَرَطَ الْمُعِيرُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِنَفْسِهِ فَقَطْ، فَحِينَئِذٍ لَا تُورَثُ عَنْهُ الْمُدَّةَ الْمُتَبَقِّيَةَ، لِأَنَّ فِيهَا يُعْتَبَرُ حَقًّا شَخْصِيًّا.
ج- الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ:
42- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ أَمَدِهَا، هَلْ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَوْتِهِ، أَمْ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ حَتَّى نِهَايَةِ مُدَّتِهَا؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا تَبَقَّى مِنْ مُدَّةِ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصَى لَهُ بِهَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ، بَلْ تَعُودُ الْعَيْنُ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوصِي قَدْ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَ هَذَا الْحَقُّ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ حَتَّى يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّوَارُثِ.
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ يَمْلِكُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا مَاتَ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ فِيمَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْمُدَّةِ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ أَوْ كَانَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ لِأَنَّهَا مَالٌ، فَتُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ.
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ حَالَةَ مَا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ مُقَيَّدَةً بِحَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعْتَبَرُ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِهَا حَقًّا شَخْصِيًّا، فَيَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ.
خَامِسًا- أَجَلُ الدُّيُونِ:
43- الْأَجَلُ فِي الدُّيُونِ حَقٌّ لِلْمَدِينِ، وَمَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ فَلَيْسَ لِلدَّائِنِ مُطَالَبَتُهُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِهِ، فَإِذَا مَاتَ فَهَلْ يَبْطُلُ الْأَجَلُ وَيَحِلُّ الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ، أَمْ يَبْقَى ثَابِتًا كَمَا هُوَ وَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَجَلَ يَسْقُطُ، وَيَحِلُّ الدَّيْنُ بِمَوْتِ الْمَدِينِ، وَتَنْقَلِبُ جَمِيعُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ الَّتِي عَلَيْهِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ آجَالُهَا حَالَّةً بِمَوْتِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَسوَّارٌ وَالثَّوْرِيُّ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحِ التَّوَارُثَ إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَالْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ لَا يُرِيدُوا أَنْ يُؤَخِّرُوا حُقُوقَهُمْ فِي الْمَوَارِيثِ إِلَى مَحِلِّ أَجَلِ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُجْعَلَ الدَّيْنُ حَالًّا، وَإِمَّا أَنْ يَرْضَوْا بِتَأْخِيرِ مِيرَاثِهِمْ حَتَّى تَحِلَّ الدُّيُونُ، فَتَكُونُ الدُّيُونُ حِينَئِذٍ مَضْمُونَةً فِي التَّرِكَةِ خَاصَّةً لَا فِي ذِمَمِهِمْ وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوِ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَلَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا، وَلَا ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ، وَلَا رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَتَأْجِيلُهُ، لِأَنَّهُ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلَا نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ.
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِالْمَوْتِ فِيهِمَا، وَهِيَ:
أ- إِذَا قُتِلَ إِلَى الدَّائِنِ الْمَدِينُ، فَإِنَّ دَيْنَهُ لَا يَحِلُّ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَعْجَلَهُ قَبْلَ أَوَانِهِ فَعُوقِبَ بِالْحِرْمَانِ.
ب- إِذَا اشْتَرَطَ الْمَدِينُ عَلَى الدَّائِنِ أَنْ لَا يَحِلَّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ، فَيُعْمَلُ بِالشَّرْطِ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمَدِينِ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُوَثَّقْ بِذَلِكَ حَلَّ، لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَدْ لَا يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ.
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْتَ مَا جُعِلَ مُبْطِلًا لِلْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيقَاتٌ لِلْخِلَافَةِ، وَعَلَامَةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَعَلَى هَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمُفْلِسِ عِنْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ الْتِزَامَ الدَّيْنِ وَأَدَاءَهُ لِلْغَرِيمِ عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي الْمَالِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الْغَرِيمُ، أَوْ يُوَثِّقُوا الْحَقَّ بِضَمِينٍ مَلِيءٍ أَوْ رَهْنٍ يَثِقُ بِهِ لِوَفَاءِ حَقِّهِ.
وَالثَّالِثُ: رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَحِلُّ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يُوَثِّقِ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمُ الدَّيْنَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ، فَيُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالزُّهْرِيُّ وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ.
سَادِسًا- حَقُّ التَّحْجِيرِ:
44- وَهُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ لِمَنْ قَامَ بِوَضَعِ عَلَامَاتٍ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ- سَوَاءٌ بِنَصْبِ أَحْجَارٍ أَوْ غَرْزِ أَخْشَابٍ عَلَيْهَا أَوْ حَصَادِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَشِيشِ وَالشَّوْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ- لِيَصِيرَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا لِسَبْقِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ حَدَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَهُ أَمَدًا مُعَيَّنًا يَنْتَهِي فِيهِ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ خِلَالَهُ، وَهُوَ ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ لِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
وَالْمُتَحَجِّرُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ نِهَايَةِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ لِاحْتِجَارِهِ، فَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِمَوْتِهِ، أَمْ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ إِلَى وَرَثَتِهِ؟
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ يُورَثُ، وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمُتَحَجِّرِ، وَيَكُونُ وَرَثَتُهُ أَحَقَّ بِالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِهِمْ.وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، إِذِ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنْ تُورَثَ الْحُقُوقُ كَالْأَمْوَالِ، إِلاَّ إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى مُفَارَقَةِ الْحَقِّ لِمَعْنَى الْمَالِ، وَحَقُّ التَّحْجِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ، لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، فَكَانَ مَوْرُوثًا.
سَابِعًا- حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ:
45- الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ: هِيَ الَّتِي فُرِضَ الْخَرَاجُ عَلَى الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، سَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، وَالْخَرَاجُ: هُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرِ الْعُشْرِيَّةِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ.
وَيَعْتَبِرُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةَ مَوْقُوفَةً عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَقُولُونَ: هِيَ مِلْكٌ لِأَصْحَابِهَا، وَلَهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهَا بِسَائِرِ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُورَثُ عَنْهُمْ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ، إِذْ لَيْسَ حَقُّ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا إِلاَّ أَثَرًا مِنْ آثَارِ ثُبُوتِ مَلَكِيَّتِهِمْ عَلَيْهَا.
وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِوَقْفِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُنْتَفِعِينَ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنَ الْفَلاَّحِينَ وَنَحْوِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، وَلَكِنْ لَهُمْ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي مُقَابِلِ دَفْعِ خَرَاجِهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْتِقَالِ هَذَا الْحَقِّ لِوَرَثَتِهِمْ بِالْمَوْتِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْمَنْفَعَةِ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ يُورَثُ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُنْتَفِعُ بِهَا انْتَقَلَ الْحَقُّ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ مَوْرُوثٌ.
وَالثَّانِي: لِمُتَقَدِّمِي فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِالْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ إِذَا مَاتَ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلَا تُورَثُ عَنْهُ، وَيَكُونُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ بَعْدِهِ لِمَنْ يَشَاءُ، بِحَسَبِ مُقْتَضَيَاتِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م