نتائج البحث عن (الْفَوَاحِشِ)

1-العربية المعاصرة (بطن)

بطَنَ يَبطُن، بُطونًا وبَطْنًا، فهو باطِن، والمفعول مبطون (للمتعدِّي).

* بطَن عيبٌ ونحوُه: خَفِيَ واستتر، خلاف ظهر (بطَنت الفواحِشُ- {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [قرآن] - {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [قرآن]).

* بطَن الأمورَ وغيرَها: جرَّبها وعرفها، خبرها وعرف بواطنَها (لا يمكن أن يقع في حبائله مادام قد بطَنه).

* بطَن الدَّاءُ الشَّخصَ: أصاب بطنَه.

بطُنَ يَبطُن، بَطانةً، فهو أبطن وبَطين.

* بطُن الشَّخصُ: عَظُم بَطْنُه، ظَهَر له بَطْن ضَخْم (رجلٌ أبطنُ: ضخم البطن).

بطِنَ يَبطَن، بَطَنًا، فهو بَطِن.

* بطِن المريضُ: أصابه داءُ البَطْن، أُصيب بألم في بطنه.

أبطنَ يُبطن، إبطانًا، فهو مُبطِن، والمفعول مُبطَن.

* أبطن الكُفْرَ وغيرَه: أخفاه وكتمه (يُظهر خلافَ ما يُبطن).

* أبطن الثَّوبَ وغيرَه: جعل له طبقة رَقيقة واقية داخليًّا.

استبطنَ يستبطن، استِبطانًا، فهو مُستبطِن، والمفعول مُستبطَن.

* استبطن الأمرَ: عرَف باطِنَه، ووقف على حقيقته (استبطن نيّات صديقه).

* استبطن السِّرَّ: أخفاه في نفسه، احتفظ به في دَخيلة نفسه (استبطن المتآمرون السّرّ للوقت المناسب).

بطَّنَ يبطِّن، تبطينًا، فهو مُبطِّن، والمفعول مُبطَّن.

* بطَّنَ الثَّوبَ وغيرَه: أبطنه، جعل له طبقة رَقيقة واقية داخليًّا (بطَّن مِعْطفًا) (*) تبطين آبار البترول: وقايتها ببِطانة- كلامٌ مُبَطَّن: ظاهره خلاف باطنه خفيّ يحتمل التأويل، فيه تلميح.

* بطَّن النَّسِيجَ: طرَقه، وكيَّسَه وصَقَله.

أبطنُ [مفرد]: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من بطُنَ.

استِبْطان [مفرد]:

1 - مصدر استبطنَ.

2 - [في علوم النفس] ملاحظة داخِليّة وتأمّل ذاتيّ للحالات الشعوريّة التي يحسّ بها الشّخص.

استِبْطانيَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من استِبْطان.

* الاستِبْطانيَّة: [في علوم النفس] المنهج الذي يعتمد التّأمّل الذَّاتيّ للحالات الشُّعوريّة.

باطِن [مفرد]: جمعه أَبْطِنَة وبَواطِنُ، والمؤنث باطِنة، والجمع المؤنث بَواطِنُ: اسم فاعل من بطَنَ (*) العقلُ الباطِن: اللاشعور، اللاّوعي- المستأجِر من الباطن: المستأجِر من مستأجِر- باطِنًا: سرًّا وخفاءً- باطِن الأرض/بواطن الأرض: أعماقها- باطن الإنسان: طوِيَّته، دخيلته- باطن الجسم: داخله- باطِن القدم: وجهها الأسفل، ما يطأ الأرضَ منها- باطِن الكفّ: راحة اليَد، داخلها- بواطن الأمر: خفاياه، وجوهه غير الظاهرة- في باطن الأمر: في الحقيقة- في باطن نفسه: في داخله، في سِرّه- مُقاوِل من الباطن: يعمل من خلال مُقاوِل آخر، مقاول يأخذ بشكل تبعيّ قسمًا من أعمال مقاول أصْليّ أو هو مقاول يحلُّ محلّ مقاول تعهَّد عملًا- وقَفت على بواطنه: عرفت خفاياه.

* الباطِن: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الذي لا يُحَسّ، وإنّما يُدرَك بآثاره وأفعاله، والذي لا يُعلم كُنْه حقيقته للخلق، والعالم ببواطن الأمور والمطّلع على حقيقة كلّ شيء {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [قرآن].

* علم الباطِن: [في الفلسفة والتصوُّف] معرفة الأمور الخفيَّة.

باطِنة [مفرد]: جمعه بَواطِنُ:

1 - مؤنَّث باطِن.

2 - سريرة الإنسان، أو مكنون صدره.

باطِنيّ [مفرد]:

1 - اسم منسوب إلى باطِن (*) باطنيّ النُّموّ: داخليّ النموّ- تأمّل باطِنيّ: فحص المرء أفكاره ودوافعه وشعوره.

2 - جوفيّ، تحت سطح الأرض، أو تحت سطح الماء.

3 - [في الفلسفة والتصوُّف] من أتباع الباطِنيَّة.

* طِبّ باطِنيّ: [في الطب] فرع من الطبّ يهتم بتشخيص الأمراض التي تصيب الأعضاء الداخليّة للجسم وما تسبِّبه من آفات واضطرابات، وهو يختص بالتشخيص والعلاج غير الجراحيّ (مرض باطِنيّ: داخِليّ).

باطِنيَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من باطِن.

* الباطنيَّة: مجموعة فرق إسلاميَّة مبتدعة تعتقد أنّ للشَّريعة ظاهرًا وباطنًا وأنَّ لكلِّ ظاهرٍ باطنًا ولكلِّ تنزيل تأويلًا.

بِطان [مفرد]: جمعه أَبْطِنَة: نِطاق، حزام يُشدُّ على البطن (*) رَجُلٌ عريض البِطان: رخيّ البال.

بَطانَة [مفرد]: مصدر بطُنَ.

بَطانَة/بِطانَة [مفرد]: جمعه بَطائِنُ:

1 - ما يُبَطَّن به الثَّوبُ وغيرُه من الدَّاخِل، ما تحت الظِّهارة {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [قرآن] (*) بطانة بنطلون: شريط متين يُخاط عند ملتقى السَّاقين لمنع البلى- بطانة كعْب: صفيحة من الفلِّين توضع تحت كعب حذاء لتقويته.

2 - [في التشريح] طبقة طلائيّة تُبطِّن جميع الأوعية الدَّمويّة واللِّمفاويّة (*) بطانة الرَّحم: نسيج يغشى التجويف الرّحميّ.

* بِطانَة الملك ونحوه: حاشيته، خاصّته وأهل ثقته، مَنْ يحيطونه ويلازمونه وهم مُقرَّبون إليه ولا يُحجب عنهم سرّ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [قرآن] - فلان بطانة فلان: مؤانس له.

بَطَّانيَّة [مفرد]: جمعه بَطّانيّات وبَطاطينُ: غطاء من الصّوف أو غيره يُلتحف به للوقاية من البرد.

بَطْن [مفرد]: جمعه أَبْطُن وبُطْنان وبُطون:

1 - مصدر بطَنَ.

2 - [في التشريح] جزء من الجسم واقع بين الصَّدر والحوض، وفيه الأحشاء والأمعاء، ويقابله الظَّهر (مذكّر وقد يُؤنّث) (مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ [حديث] - {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [قرآن] - {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} [قرآن]) (*) داء البطن: سُعار، جوع مرضيّ- بقر بطنه: شقّه وفتحه- رقبتا البطن: ما بين الخاصرة والرفغ من الجانبين- زقزقت عصافير بطنه: جاع- عبدُ البطن/ابن بطنه: الشَّرِه، النَّهِم- فلانٌ لا يفكِّر إلاّ في بطنه: لا ينشغل إلاّ بما يأكل ويشرب.

3 - مَرَّةُ واحدة من النِّتاج (وَلدتْ بَطْنًا واحدًا) (*) ذو البطن: الجنين، ما تحمله الأنثى في بطنها من الأجنّة عند حملها.

4 - فرع من العَشيرة، جماعة دون القبيلة (بُطون قريش) (*) فلان بطن فلان: أي خَصّه وآثره بمودّته على غيره.

* البَطْن من كلِّ شيء: جَوْفه، داخِله، عكْسه الظَّهر (بَطْن الأرض: ما انخفض منها، جوفها- بُطون الجبال- {بِبَطْنِ مَكَّةَ} [قرآن]) - ألقى الرَّجلُ ذا بطنه: كناية عن الرجيع- بطنا القلب: تجويفا القلب- بطن السَّاق: مَأْبِضها، باطن الرُّكبة- بَطْن اليد: راحتها- بطون الدِّماغ: تجاويف الدِّماغ- بناتُ البطون: الأمعاء- بياض البطن: شحم الكُلَى وغيره- في بُطون الكتب: داخلها- قلَب الأمرَ ظَهْرًا لبَطْن: اختبره.

بَطَن [مفرد]:

1 - مصدر بطِنَ.

2 - [في الطب] مرض يصيب البَطْنَ.

بَطِن [مفرد]:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من بطِنَ.

2 - نَهِم لا يهمُّه إلاّ ملء بطنه بالطّعام والشّراب.

بِطْنَة [مفرد]: جمعه بِطْنات.

* البِطْنَة: الامتلاء الشَّديد من الطَّعام (البِطْنَة تذهب الفطنة [مثل]).

بُطون [مفرد]: مصدر بطَنَ.

بَطين [مفرد]: جمعه بِطان:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من بطُنَ: أبطن، ضخم البطن.

2 - شَرِه، نَهِم، أَكول، لا يهمُّه إلاّ بَطْنُه.

بُطَيْن [مفرد]:

1 - تصغير بَطْن.

2 - [في التشريح] أحد التجويفين السُّفليَّين للقلب اللذين يجتمع فيهما الدَّم ثمّ يدفع في الشّرايين، وهما بُطينان: أيمن وأيسر (جدار بُطينيّ).

تَبَطُّن [مفرد]: [في الفلسفة والتصوُّف] تحويل ما هو موضوعيّ إلى ذاتيّ بحيث يُدرك إدراكًا باطنًا.

مِبْطان [مفرد]: مؤنثه: مِبْطان ومِبْطانَة:

1 - صيغة مبالغة من بطُنَ: عظيم البَطْن.

2 - كثير الأكل، شَرِه، أَكول (رجل مِبْطان- امرأة مِبْطان/مِبْطانَة).

مبطون [مفرد]:

1 - اسم مفعول من بطَنَ.

2 - عليل البَطْن، أو مَنْ به إسهال يمتدّ أشهرًا لضعف المَعِدة (المَبْطُونُ شَهِيدٌ) [حديث].

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-العربية المعاصرة (جل)

جلَّ/جلَّ على/جلَّ عن جلَلْتُ، يَجِلّ، اجلِلْ/جِلَّ، جَلالًا وجَلالةً، فهو جَليل وجَلّ، والمفعول مجلولٌ عليه.

* جلَّ الأمرُ: عظُم، ضد حَقُرَ (جلَّ الذَّنْبُ- لقد جل في عيني- جلّ شأنُه- {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [قرآن]) (*) جلَّ جلالُه: عظُم قدرُه، تعبير يستعمل مع لفظ الجلالة- جلَّ قدرُه: كان عظيم الشَّأن.

* جلَّ على الصَّغائر/جلَّ عن الصَّغائر: تنزَّه وترفَّع عنها (جلّ عن الدَّناءات- جلَّ اللهُ تعالى عن أن يكون له صاحبة أو ولد) - جلَّ عن الوصف: لا يمكن حصرُه.

أجلَّ يُجِلّ، أجْلِلْ/أجِلَّ، إجلالًا، فهو مُجِلّ، والمفعول مُجَلّ.

* أجلَّ معلِّمَه: عامله باحترام شديد، عظَّمه ورفع شأنه، بجَّله (*) إجلالًا له: تعظيمًا وإكرامًا واحترامًا له.

* أجلَّ سؤالَ رئيسه عنه: رآه جليلًا أي عظيمًا (نُجِلّ الكبيرَ عن القيام بأعمال تمسّ كرامتَه).

* أجلَّه عن العيب: نزَّهه عنه (أجلَّه عن الفواحش).

* أجلّه عن المكان: أبعده عنه.

تجالَّ عن يَتجالّ، تَجالَلْ/تَجالَّ، تَجالاًّ، فهو مُتجالّ، والمفعول مُتجالٌّ عنه.

* تجالَّ فلانٌ عن السَّفاسف: ترفَّع عنها.

تجلَّلَ ب يتجلَّل، تجلُّلًا، فهو مُتجلِّل، والمفعول مُتجلَّلٌ به.

* تجلَّلت بمُلاءةٍ: تغطَّت بها، التحفت بها (تجلَّل بالمجد/بالعظمة- تجلَّلت بالسَّواد حزنًا على فقد زوجها).

جلَّلَ يجلِّل، تَجِلَّةً وتجليلًا، فهو مُجلِّل، والمفعول مُجلَّل.

* جلَّلَ شخصًا: عظَّمه، أكبره (لابد أن تجلِّل الدولةُ العلماءَ).

* جلَّل الأثاثَ: غطَّاه، كساه بغطاء (جلّل الحياءُ وجهَها- جلَّل فرسًا/بقرةً: ألبسها جُلاًّ).

تجِلَّة [مفرد]: مصدر جلَّلَ.

جَلال [مفرد]: مصدر جلَّ/جلَّ على/جلَّ عن (*) جلالُ الله: عظمته.

* ذو الجلال: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: المُتّصِف بصفات الجلال والعظمة والمُسْتحِقّ أن يُعرف بجلاله وكبريائه.

* الجلال: [في الفلسفة والتصوُّف] احتجاب الحق بحجاب العزّة عن معرفة حقيقة ذاته المقدَّسة، فلا يرى ذاته ولا يعلمها إلاّ هو.

جَلالة [مفرد]: مصدر جلَّ/جلَّ على/جلَّ عن (*) اسم الجلالة: اسم الله تعالى- صاحب الجَلالة/جَلالة الملك: لقب احترام يُستعمل للملوك.

جَلّ [مفرد]: جمعه أَجِلَّة: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من جلَّ/جلَّ على/جلَّ عن.

جَلَل [مفرد]: شيء كبير عظيم خطير (*) خَطْبٌ جَلَلٌ: مصابٌ عظيمٌ.

جُلّ [مفرد]: مُعظَم، أغلبُ، أكثرُ (حضر جُلُّ المدعوين- باع الفلاحُ جُلَّ نتاجه) (*) جُلُّ ما في الأمر: أهمُّ مافيه- ما لا يُدْرك كُلُّه لا يُترك جُلُّه: الحثّ على تحصيل ما يمكن تحصيله حتى ولو كان قليلًا.

جِلّ [مفرد]: كبير، خلاف دقّ (اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ) [حديث].

جَلاَّلة [مفرد]: [في الحيوان] حشرة من مُغْمَدات الأجنحة تعيش على الرَّوْث.

* الجَلاَّلة من الماشية: التي تأكل الجِلَّة والعَذِرة (نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَنْ أَكْلِ الجَلاَّلَةِ) [حديث].

جَلَّة/جِلَّة [مفرد]: جمعه جِلال: بَعْرٌ ورَوْث.

جُلّة [مفرد]: [في الرياضة والتربية البدنية] كرة حديديّة ترمى في مسابقة رَمْي الجُلّة.

جِلَّة [جمع]: مفرده جَليل: جماعةٌ ذات قدرٍ جليل ومكانةٍ رفيعة (حضر الحفلَ جِلَّةٌ من العلماء والفقهاء والأدباء) (*) قومٌ جِلَّة: سادَةٌ عِظام.

جُلَّى [مفرد]: جمعه جُلَل: مؤنَّث أجلّ: ما عظُم من الخِدْمات والمصالِح والقضايا ونحوها (بحث قضيَّةً جُلَّى- قدّم إليَّ خِدمةً جُلَّى) (*) لا يُدْعى للجُلَّى إلاّ أخوها [مثل]: أي لا يُنْدَب للأمر العظيم إلاَّ مَنْ يقوم به وَيصْلُح له، ويُضْرب أيضًا للعاجز، أي ليس مثلُك يُدْعَى إلى الأمر العظيم.

جَليل [مفرد]: جمعه أجِلاّء وجِلَّة، والمؤنث جليلة، والجمع المؤنث جليلات وجلائل:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من جلَّ/جلَّ على/جلَّ عن.

2 - [في الفلسفة والتصوُّف] ما جاوز الحدَّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر، رائع يأخذ بمجامع القلوب.

* الجَليل: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: المتَّصف بصفات الجلال والعظمة، المستحِقّ أن يُعرف بجلاله وكبريائه.

* جلائل الأعمال: الأعمال العظيمة الشأن أو القدر.

مَجَلَّة [مفرد]: جمعه مجلاَّت ومجالّ: صحيفة مُصوَّرة عامَّة أو متخصِّصة في فنّ من الفنون، دوريّة، لكنّها غير يوميّة (مَجَلَّة علميّة/أسبوعيّة/شهريّة- المَجَلَّة المصوّرة) (*) مَجَلَّة حائطيّة: مَجَلَّة تُعلّق على الحائط- مَجَلَّة فصليّة: تصدر كلّ 3 شهور.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


3-العربية المعاصرة (سدر)

سدِرَ يَسدَر، سَدارَةً وسَدَرًا، فهو سادِر وسَدِر.

* سدِر الشَّخصُ:

1 - تحيَّر بصرُه من شدّة الحرِّ (سدِر البصرُ).

2 - استهتر، لم يهتمّ بما صنع ولم يبالِ (ظلّ سادِرًا في غيِّه- ارتكبَ الفواحش وسدِر).

سَدارَة [مفرد]: مصدر سدِرَ.

سَدَر [مفرد]:

1 - مصدر سدِرَ.

2 - [في الطب] دُوار يصيب الإنسان عند ركوب البَحْر.

سَدِر [مفرد]: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من سدِرَ.

سِدْر [جمع]: وجمع الجمع سِدَر، ومفرده سِدْرة: [في النبات] شجر النبق وهو نوعان: نوع ينبت قرب العيون والأنهار قليل الشوك طريّه؛ عظيم الثمار، وهو من طعام أهل الجنّة، ونوع ذو أشواك صغير الثمار، وهو من طعام أهل النار {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [قرآن] - {وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [قرآن].

سِدْرَة [مفرد]: جمعه سِدْرات وسِدَر: [في النبات] واحدة السِّدْر، وهي شجرة النَّبِق، وهي شجرة ثمرتها طيِّبة، ينتفع بورقها، ومنها نوع آخر لا ينتفع بورقه وثمرته عفصة.

* سِدْرة المنتهى: شجرة في الجنَّة، وقيل: إنّها في السماء السابعة تجتمع عندها الملائكة ولا تتعدّاها، أو شجرة نَبِق عن يمين العرش {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [قرآن] (*) بلَغ سدرة المنتهى: بلغ أقصى غاية.

سَدِير [مفرد]:

1 - منبع الماء.

2 - عُشْب.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


4-العربية المعاصرة (فحش)

فحَشَ يَفحُش، فُحْشًا، فهو فاحِش.

* فحَش القولُ أو الفعلُ: اشتدّ قُبْحُه (فحَش كلامه- مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إلاَّ شَانَهُ) [حديث].

* فحَش الأمرُ: جاوز الحدّ (فحَش ظلمه فثار الناس عليه- خطأ/غلاء فاحش).

فحُشَ يَفحُش، فُحشًا وفَحَاشةً، فهو فاحِش.

* فحُشَ القولُ أو الفعلُ: فحَش، اشتدَّ قُبْحُه (ذنب فاحش).

* فحُش الأمرُ: فحَش؛ جاوز الحدَّ (فحُش غضبُه- ثراء/غلاء فاحِش).

أفحشَ في يُفحش، إفحاشًا، فهو مفحِش، والمفعول مفحَشٌ فيه.

* أفحش في قوله أو فعله: أتى بقول أو فعل قبيحيْن؛ أتى بالفُحْش (لم يُفحش بالفعل ولكنّه يُفحش بالقول عندما يُستثار).

استفحشَ يستفحش، استفحاشًا، فهو مُستفحِش.

* استفحش الأمرُ: تفاقم.

تفاحشَ يتفاحش، تفاحُشًا، فهو متفاحِش.

* تفاحش فلانٌ: أظهر القُبحَ من قول أو فعل (تفاحَشَ القومُ: تراموا بالفُحْش).

* تفاحش الأمرُ: فَحَش؛ اشتد قبحه، تفاقم (تفاحش الخطأُ/الذنبُ- قد تفاحش ما بينهم).

تفحَّشَ/تفحَّشَ في يتفحَّش، تفحُّشًا، فهو متفحِّش، والمفعول متفحَّشٌ فيه.

* تفحَّشَ فلانٌ: أفحش، أظهر القبحَ من قول أو فعل.

* تفحَّش في كلامه: تكلّم بالقبيح من القول.

فحَّشَ ب يفحِّش، تفحيشًا، فهو مُفحِّش، والمفعول مُفَحَّش به.

* فحّش بالشّيء: شنَّع به (فحّش بأخلاق عدوّه).

فاحِشة [مفرد]: جمعه فاحشات وفواحِشُ:

1 - صيغة المؤنَّث لفاعل فحَشَ وفحُشَ: (جريمة فاحشة).

2 - قول أو فعل قبيح وشنيع (عبارات فاحشة- {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [قرآن] - {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ} [قرآن]).

3 - زِنًى {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [قرآن].

4 - لُواط {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [قرآن].

فحََّاش [مفرد]: صيغة مبالغة من فحَشَ: كثير القبح (رجل فحَّاش في قوله وفعله- ليس المؤمن بفحَّاش).

فَحَاشَة [مفرد]: مصدر فحُشَ.

فُحْش [مفرد]: مصدر فحَشَ وفحُشَ.

فَحْشَاءُ [مفرد]:

1 - فاحشة؛ كُلّ مستقبح من قول أو فعل (يتمرّغ في الفحشاء- {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [قرآن] - {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [قرآن]).

2 - زنًى (كان يرتكب الفحشاءَ سرًّا- {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [قرآن]).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


5-العربية المعاصرة (أقذع)

أقذعَ/أقذعَ ل يُقذع، إِقْذَاعًا، فهو مُقْذِع، والمفعول مُقْذَع.

* أقذع القولَ: أساءه.

* أقذعه/أقذع له: شتمَه بالكلام السيِّئ، أفحش في شَتْمِه.

مُقْذِع [مفرد]:

1 - اسم فاعل من أقذعَ/أقذعَ ل.

2 - هجاء فيه طعن وقبْح (شِعْرٌ/كلام مُقْذِعٌ) (*) رماه بالمقذعات: الفواحش.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


6-العربية المعاصرة (لاط)

لاطَ/لاطَ ب يلوط، لُطْ، لَوْطًا، فهو لائط، والمفعول مَلوط.

* لاطَ الشَّخْصُ الحوضَ أو الحائطَ: طلاه بالطِّين والجصّ.

* لاطَ الشَّيءَ بالشّيء: ألصقه به.

* لاطَ المنظرُ الطَّبيعيُّ بقلبه: لصِق به وأحبَّه.

لاطَ يَلوط، لُطْ، لِواطًا ولِواطةً، فهو لائط.

* لاطَ فلانٌ: فعل ما كان يفعل قومُ لوطٍ من مباشرة الذُّكور.

لاوطَ يلاوط، مُلاوَطةً، فهو مُلاوِط.

* لاوطَ فلانٌ: لاطَ2، عمِل عَمَل قومِ لوط من مباشرة الذُّكور.

لوَّطَ يلوّط، تلويطًا، فهو مُلوِّط، والمفعول مُلوَّط.

* لوَّطه بالطِّيب: لطّخه به.

لائط [مفرد]: اسم فاعل من لاطَ/لاطَ ب ولاطَ.

لِواط [مفرد]:

1 - مصدر لاطَ.

2 - شذوذ جنسيّ بين رجلين.

لِواطة [مفرد]:

1 - مصدر لاطَ.

2 - لِواط؛ شذوذ جنسيّ بين رجلين.

لَوْط [مفرد]: مصدر لاطَ/لاطَ ب.

لُوط [مفرد]: نبيٌّ، من أنبياء الله، آمن برسالة إبراهيم عليه السلام، ودعا قومَه إلى طاعة الله والبُعد عن الفواحش حيث كانوا يأتون الرِّجال شهوة من دون النساء، ولكنهم عصوه وهدّدوه بالطّرد فأمطر الله عليهم حجارة من سجيل وجعل عالي القرية سافلها {وَلُوطًا ءَاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [قرآن] (*) آل لُوط: أتباعه أو ابنتاه.

لُوطيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى لُوط: مَنْ يعمل عمل قوم لوط من مباشرة الذُّكور؛ شاذّ جنسيًّا (*) اللُّوطيَّة: اللِّواط.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


7-العربية المعاصرة (نعى)

نعَى يَنعَى، انْعَ، نَعْيًا ونَعِيًّا، فهو ناعٍ، والمفعول مَنعيّ.

* نعَى أخاه: أذاع خبرَ موتِه (ترك الدَّارَ تنعَى من بناها- يكره نَعْي الأطفال- شيخٌ منعيّ) (*) نعاه له/نعاه إليه: أخبره بموته.

* نعَى على صديقه السُّكْرَ: عابه عليه، وشهَّر به، وبَّخه (نعَى عليه الفجورَ/هفواتِه- نعَى على القوم شهواتِهم) - يَنْعى على نفسه بالفواحش: إذا شهّر نفسه بتعاطيها- يَنْعى عليه ذنوبَه: يذكّره بها/يظهرها ويشهرها.

أنعى يُنعي، أَنْعِ، إنعاءً، فهو مُنعٍ، والمفعول مُنعًى.

* أنعى عليه معاصيَه: شنَّع عليه (أنعى على صديقه ارتكابَ الفواحشَ- أنعى عليه سوءَ سلوكه).

تناعى يتناعى، تَناعَ، تناعيًا، فهو مُتناعٍ.

* تناعَى القومُ: نعَوْا قتلاهم، أي أذاعوا نبأَ موتهم ليحرّض بعضُهم بعضًا على الثَّأر.

إنعاء [مفرد]: مصدر أنعى.

منعاة [مفرد]: جمعه مناعٍ: مَنْعًى، خبر الموت (أتتْنا منعاتُه مساءَ الجمعة).

مَنْعًى [مفرد]: جمعه مناعٍ: مصدر ميميّ من نعَى: خبر الموت (أتانا منعاه صبيحة هذا اليوم).

ناعٍ [مفرد]: جمعه ناعون ونُعاة ونواعٍ، والمؤنث ناعية، والجمع المؤنث ناعيات ونواعٍ:

1 - اسم فاعل من نعَى.

2 - مَن يأتي بخبر المَوْت.

3 - من يُشيِّعُ الميِّتَ إلى قبره (مشى النّاعون خلف النَّعش).

نَعْي [مفرد]:

1 - مصدر نعَى.

2 - إعلان قد يكون طويلًا عن وفاة شخص مع ذكر علاقته بأفراد أسرته، وقد يتضمَّن أحيانًا ترجمة موجزة لحياة الفقيد.

نَعْيَة [مفرد]: جمعه نَعَيات ونَعْيات: اسم مرَّة من نعَى: إعلان وفاة (نعية بوفاة فلان- نعاه في مكبّر الصوت نعْيةً واحدة).

نَعِيّ [مفرد]: جمعه نَعايا (لغير المصدر):

1 - مصدر نعَى.

2 - رجل ميِّت.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


8-المعجم الوسيط (الفَاحِشَةُ)

[الفَاحِشَةُ]: مؤنثُ الفاحِشِ.

و- القبيحُ الشنيع من قولٍ أو فعل.

(والجمع): فوَاحِشُ.

وفي التنزيل العزيز: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


9-شمس العلوم (الإِثْم)

الكلمة: الإِثْم. الجذر: ءثم. الوزن: فِعْل.

[الإِثْم]: ما يأثم الإِنسان بفعله.

وقيل: إِنّ الإِثْم اسم الخمر، سميت باسم ما تؤدي إِليه من الإِثم، وأنشد بعضهم:

شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى زالَ عَقْلِي *** كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بالعُقُولِ

وعلى الوجهين يُفَسَّر قوله تعالى: {إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ}.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


10-شمس العلوم (الفاحشة)

الكلمة: الفاحشة. الجذر: فحش. الوزن: فَاعِلَة.

[الفاحشة]: كل فعلة قبيحة من زِنَى وغيره، قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ}.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


11-معجم متن اللغة (القذور من النساء)

القذور من النساء: المتنزهة عن الأقذار (ز) أي الفواحش (ز): المتنحية من الرجال (ز): التي تجتنب الريب (ز).

و- من الرجال: الذي لا يخالط الناس لسوء خلقه (ز): المتبرم بهم.

و- من النياق: التي تبرك ناحية من الإبل لا تخالطها (ز).

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


12-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بطن)

(بطن): {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]

البَطْن - بالفتح من الإنسان وسائر الحيوان: معروف، ومن كل شيء: جَوْفُه. وبَطْن الأرض وباطنها: ما غمَض منها واطمأن/ الداخلُ منها.

° المعنى المحوري

هو: التعبير عن الجوف الداخلي للشيء حيث يَخْفَى فيه ما يدخل إليه: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35]، {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [النحل: 69]. و "بَطَنَ الشيءُ: خَفِىَ " (كأنه في بَطْن): {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] الذي لا تناله الحواس. وفُسّر (الباطن) أيضًا بأنه يعلم ما خفي (ينفذ علمه إليه). {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] أي خفي {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}

[لقمان: 20] (النعم الباطنة لا تحصى كثيرة منها راحة البال، والتوفيق للرَشَد في الفكر والتصرف، وصحة العقيدة..). "ويِطانة الثوب: ضد ظِهارته ": {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]. ومن مجاز هذا: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] أي مقربين يعرفون دخائل أموركم. و "باطنة الكُورة (= المدينة): وَسَطُها " {بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24]. ويقال: "بَطَنْتُ الوادي: دخلته (الوادي كالبطن كأنك دخلت بطنه). وبَطَنت هذا الأمرَ: عرفت باطنه ". وليس في التركيب إلا (البطن) وجمعها (بطون)، و (البطانة) وحمعها (بطائن)، و {بِبَطْنِ مَكَّةَ} وقد ذكرناهن. وسائر ما في القرآن منه فعلًا أو غيره فهو بمعنى الخفاء.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


13-المعجم الاشتقاقي المؤصل (خبث)

(خبث): {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]

خَبَثُ الحديد والفضة -محركة: ما نَفَاه الكِيرُ إذا أُذيبا، وهو ما لا خير فيه. ويقال في الشيء الكريه الطعم أو الرائحة خبيثٌ مثل الثَوْم والبَصَل والكُرّاث. والأخبثان: الرجيع والبَوْل أو القيءُ والسَلْحُ.

° المعنى المحوري

رديء مكروه ينتشر من الشيء أو يتأتى منه: كصدأ الحديد ونحوه وكطعم الثوم ورائحته الخ وقَذَر الرجيع الخ. {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]: الرديء. ومن هذا يطلق الخبيث على ما استقبحه الشرع كالحرام من المال والقبيح من الأفعال: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2]، (فالمال المأخوذ بغير حق حرامٌ خبيث، وذكر اليتامى هنا إنما هو لزيادة تشنيع الفعل مع الإشارة لواقعةٍ. والتبدل قد يراد به حقيقته، وقد يراد به مجرد أخذ المال الحرام الخبيث هذا مع إمكان الحلال الطيب [ينظر المحرر الوجيز 3/ 486] {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]: الدمَ والميتةَ ولحمَ الخنزير والخمرَ إلخ أو ما تستخبث العرب أَكْله كالعقرب والحية والحشرات [بحر 4/ 403]، {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء: 74]: القرية هي سدوم. والخبائث الفواحش وهي في هذه القرية اللواط [وينظر قر 11/ 306]. {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58] البلد (= الأرض) الخبيث: الذي في تربته حجارة أو شوك [قر 7/ 231] (لعل الأدق: الفاقد

الخصوبة لأمرٍ ما) {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] على ما أنتم عليه أيها المؤمنون من اختلاطكم بالمنافقين وإشكال أمرهم وإجراء المنافق مجرى المؤمن، ولكنه ميز بعضا من بعض بها ظهر من هؤلاء وهؤلاء من الأقوال والأفعال [بحر 3/ 130] وقريب منه ما في [الأنفال: 37]. {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] الخبيثات الزواني أو الكلمات الخبيثات من القول للخيثين من الرجال [قر 12/ 211] {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26] الكلمة الخبيثة كلمة الكفر، والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل [قر 9/ 361].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


14-المعجم الاشتقاقي المؤصل (خفو خفي)

(خفو- خفي): {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108]

خَفا البَرقُ يخفُو خَفْوًا وخُفُوًّا، وخَفَى يخفِي (كرمى) وخَفِيَ يخفَى (كرضى) خَفْيا فبهما: برَقَ بَرْقًا خَفِيًا ضعيفًا معترضًا في نواحي الغيم [ل، تاج] فإن لمع قليلًا ثم سكن وليس له اعتراض فهو الوميض وإن شق الغيم -واستطال في الجوّ إلى السماء من غير أن يأخذ يمينًا ولا شمالا فهو العقيقة.

° المعنى المحوري

استتار الشيء استتارًا ضعيفًا بحيث يظهر من وراء الساتر ظهورًا ضعيفًا أيضًا. كالبرق الموصوف. ومن هذا الظهور الضعيف بعد استتار "الخفيّةُ: الركيّة التي حُفِرت ثم تركت حتى اندفنت ثم انتُثِلَت واحتُفرِت ونُقيت (لا تكون بقوة ظهور المستحدثة). خفَى المطرُ الفِئارَ يخفِيهن: أخرجهن من جِحرَتهن (يلحظ أن الفئران دقيقة الأحجام فظهورها ضعيف) المختفى: النبّاش الذي يستخرج أكفان الموتى. وأخفِية النَوْر: أكِمّته واحدها خِفاء. والخِفَاء (أيضًا): رداء تَلبسه العروس على ثوبها فتخفيه به. والخوافي (من ريش جناح الطائر): ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خَفِيت "الخ. ومن ذلك الأصل استعمل التركيب في الستر والظهور الضعيف. ولدينا هنا تلخيص مستحسن: ففي قوله تعالى: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]، "قال الأخفش المستخفي: الظاهر والسارب: المتوارى. وقال الفراء {مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} أي مستتر و {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} ظاهر. كأنه قال الظاهر والخفي عنده جَلَّ وعزّ واحد. قال أبو منصور (: الأزهري) قول الأخفش: المستخفى الظاهرُ خطأ. والمستخفي بمعنى المستتر كما قال الفراء. وأما الاختفاء (يعني صيغة افتعل) فله

معنيان أحدهما بمعنى خَفِىَ (أي استتر) والآخر بمعنى الاستخراج، ومنه قيل للنباش المختفي. وجاء خَفَيْتُ بمعنيين وكذلك أخفيت. وكلام العرب العالي أن تقول خَفَيت الشيء أخفِيه أي أظهرته واسخفيت من فلان أي تواريت واستترت ولا يكون بمعنى الظهور. اه ويتمم. كلام الأزهري أن خَفِى (من باب تعب) تكون بمعنى الاستتار فحسب. {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} [الحاقة: 18]، {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]، {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} [إبراهيم: 38] كل هذا بمعنى الستر. وفي قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] قراءة الجمهور بضم الهمزة. والأقرب الأشيع أن تكون بمعنى أسترها. فيكون المعنى. أنها ظاهرة أي مقدماتها. وواقع التحلل من القيم العامة دينية وأخلاقية، وظهور الفساد، ودعمه على مستوى العالم، مع تسمية الفواحش والمنكرات بما يحسنّها (الحريات الشخصية وحقوق الإنسان إلخ) بل والظروف الطبيعية كل ذلك يؤكد أنها آتية، واللام في "لتجزى متعلقة بآتية على هذا التفسير لأخفيها. وجملة (أكاد أخفيها) اعتراضية... وهناك على هذا التفسير -أثر يقول أكاد أخفيها من (نفسي). وأرى فيه جفاء وأرجح أن تكون معرفة عن (نبيي)، وأما على تفسير أُخفيها المضمومة الهمزة بـ أظهرها، وكذلك على قراءة فتح الهمرة بهذا المعنى فهي خفية أي خفيةُ مَوعدِ الوقوع، والمعنى أكاد أظهرها أي أوقِعها، ولام (لتجزى) متعلقة حينئذ بـ أخفى. وفي [بحر/ علمية 6/ 218 - 219] تفصيل لبعض ما أجملته هنا. وسائر ما في القرآن من التركيب فهو من الخفاء الاستتار.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


15-المعجم الاشتقاقي المؤصل (ظهر)

(ظهر): {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]

الظَهْر من الأرض: ما غلُظ وارتفع، ومن الإنسان والحيوان: خلاف بطنه. والظواهر: أعالي الأودية وأشراف الأرض. وظاهر الجبل: أعلاه. وظاهر كل شيء: أعلاه.

° المعنى المحوري

بروز من أثناء أو باطن إلى سَطْح -مع شدة وغلظ أو قوة (1) كالظهر من الأرض، ومن الحيوان والإنسان وكظواهر الأودية والجبل بالنسبة لما دونها. {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146]. وظهر الإنسان

يقابل الجانب المكتنف الذي فِيه بطنه أيضًا {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 3]، إنقاض الظهر كناية عن بلوغ المحمول عليه غاية الثقل. {رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى: 33]، وكذا كل (ظَهْر) الإنسان، والأرض، والبحر، و (ظهور) الناس، والدواب، والأنعام.. حقيقة أو كناية حسب السياق. {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود: 92]. أي من ناحية الظهر، كناية عن الإعراض. وكذا ما في [البقرة: 101، آل عمران 187] وقالوا "ظَهَر الشيءَ وبه وأظهره: جعله خلف ظهره. وظهّر الثوبَ - ض: جعل له ظِهارة... ".

ومن البروز بقوة من أثناء شيء عُبّر بالتركيب عن نحو الانكشاف "ظَهَر ظُهُورا: بَرَز بعد الخفاء، وأظهر الشيءَ: بيّنه وأبرزه، {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، من الظهور ضد الاستتار، وكذا كل الصفة (ظاهر)، وصفة الجمع (ظاهرة). والمراد بالزينة الظاهرة الخاتم والفتخة والكحل والخضاب [بحر 6/ 412] {نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان 20] الظاهر ما يدرك بالمشاهدة كالتى في البدن السمع والبصر إلخ، والمال والبنون والجاه إلخ [ينظر بحر 7/ 185] {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]، {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] في [بحر 4/ 214، 252] الظاهر العموم في المعاصي كلها من الشرك ونكاح المحرمات والطواف عرايا، والخمر، والزنا.. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] قطع الطريق وشيوع الظلم والجدب والغصب، وحدوث الفتن والرزايا. وقد نسب ذلك بعضهم إلى حقبه ما قبل الإسلام [ينظر بحر 7/ 171] {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7].

ظاهر الشيء ضد باطنه أمر معايشهم ودنياهم متى يزرعون ومتى يحصدون، وكيف يغرسون وكيف يبنون.. [قر 11/ 7] (أي هو البارز المنكشف منه). ومنه الإظهار: الإطلاع {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم: 3] ومن هذا كل (أظهر) و (يُظهر) فهي إطلاع أو إعلام عدا [الروم: 18، النور: 58]. فهما من الظُهْر.

ومن البروز على السطح: "ظهر على الحائط والسطح: صار فوقه. وظهر الجبلَ والسطحَ: علاه ". {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97]، {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]. ومن معنوي هذا "ظهرت على فلان: عَلَوْته وغلبته. {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف: 20]، {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، وكذا {إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} {لِيُظْهِرَهُ} {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} [التوبة: 8، 33، 48] وكذا ما في [الكهف 20، غافر 26، 29، الفتح 28، الصف 9، 14].

ومن التقوية المادية التي تؤخذ من الأصل "ظاهر بين ثوبين: طابق بينهما "كأنه قوى أحدهما بالآخر "ومن معنويها: "ظاهره عليه: أعانه، وظاهره: عاونه وتظاهروا: تعاونوا ". {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} [التوبة: 4] وكل الفعل (ظَاهَر) ومضارعه - عدا [الأحزاب 4، والمجادلة 3، 4] والفعل (تظاهر)، ومضارعه، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} [التحريم: 4]. والظهير: المعين {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

والظهر -بالضم، والظهيرة يجمع ارتفاع الشمس. (من البروز إلى أعلى) إلى شدة الضوء والحرارة (فيه العلو والظهور والشدة أو القوة) {وَحِينَ تَضَعُونَ

ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور: 58]، {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18].

{وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد 3] الظاهر بالأدلة ونظر العقول في صنعه سبحانه [بحر 7/ 216] {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد 33] من غير أن يكون له حقيقة بباطل. (المقصود تسميتهم آلهتهم [بحر 5/ 385] {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف 22] أي غير متعمق فيه، وهو أن تقصّ عليهم ما أوحى إليك فحسب من غير تجهيل ولا تعنيف [بحر 6/ 110].

{قُرًى ظَاهِرَةً} [سبأ 18] متصلة على الطريق مرتفعة معروفة. يغدون فيقيلون في قرية ويبيتون في أخرى. [بحر 7/ 261].

{بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] باطنه الشِقّ الذي لأهل الجنة، وظاهره ما يدانيه من قِبَلِه العذاب [بحر 8/ 221].

* ومن الأصل: استظهر القرآن: حفظه -كأنما صار ظاهرًا لقلبه واضحًا لا يغيب منه شيء وهذه قوة ظهور.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


16-المعجم الاشتقاقي المؤصل (فحش)

(فحش): {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]

الفاحش: ذو الفحش والخنا من قول أو فعل. والمتفحش: الذي يتكلف سب الناس ويتعمده. والفُحْش: التعدي في القول والجواب/ قَذَعُ الكلام ورديئه. وقالوا في دم البراغيث: إن لم يكن فاحشًا فلا بأس أي كثيرًا زائدًا. وفَحُشَتْ المرأة - ككرُم: قَبُحَت وأسَنَّتْ.

° المعنى المحوري

صدور ما يفشو استقباحُه أو حِدّةُ وَقْعِه على الحسّ من قول أو فعل: كالبذاء المتعمَّد المتزيّد، وكدم البراغيث المنتشر، وكالصورة المستقبحة للشيء. ومن هذا دل على ما هو حادّ الوقع على النفس شائع الاستقباح لدى الناس، كالزنى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32]، واللواط {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]. وقد فسر الشافعي الفاحشة في {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] بالبَذَاء وسَلاطة اللسان [ل] وما يماثل كبائر الذنوب عمومًا {كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [الشورى: 37]. وقد وصف به البخل في قولة طرفه: {ويصطفى.. عقيلة مال الفاحش المتشدد} وبه يفسر {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]. فإما أنه من عموم استقباحه حيث كان الكرم عامّ الاستحسان، أو لأنه من الفواحش الباطنة، فإن نفس البخيل مشحونة بمشاعر حادة قبيحة نحو الآخرين. والخلاصة أن لفظ الفاحشة وجمعها الفواحش تعني ما كان شائع الاستقباح عند الشرع، كما مُثِّل. وكلها في

القرآن بهذا المعنى. {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] العبارة جامعة لكل ما يستفحش في الشرع كالخمر (لنزف العقل) والربا (استغلال الاحتياج)، والبَغْي والعقوق والزنا والحسد والكبر ونحوها [ينظر بحر 4/ 252 ثم 214].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


17-المعجم الاشتقاقي المؤصل (فح)

° معنى الفصل المعجمي (فح): هو أن يصدر عن الحي ما له أثر حادٌّ منتشر كنفخ الحية السمّ -في (فحح)، وكالقول والفعل القبيح كالسب والزنى وسائر الفواحش في (فحش).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


18-المعجم الاشتقاقي المؤصل (أمر)

(أمر): {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ} [الأعراف: 54]

الأَمَرة- محركة: مثلُ المَنارة فَوق الجبل عريضٌ مثلُ البيت وأعظمُ وهي حجارة مكوّمَة بعضُها فوق بعض قد أُلزِق ما بينها بالطين وأنت تراها كأنها خِلْقة، وطوله في السماء أربعون قامة. الأَمَرة: الرابية، والعَلَمُ الصغير من أعلام المفاوز من الحجارة. أمّر القناة- ض: جعل فيها سِنانا. أمِّرْ قناتك: اجعل فيها سنانا. سنان مُؤَمَّر- كمعظم: مُحَدَّد. ويقال: أمِرَ أمره: اشتد.

° المعنى المحوري

نفاذ مع علُوٍّ وراءه جمع بشدة. كالأَمَرة الموصوفة لا بد أن تكون قمتها أقل ضخامة من قاعدتها- على ما يتطلبه انتصابها وبقاؤها كذلك في الزمن القديم لئلا تنهار. وقلة ضخامة قمتها عن قاعدتها تحدُّد ونفاذ إلى أعلى، وشدّة تجمع أسفلها التزاق حجارتها. وكالسنان وهو محدد، وهو مركب في أعلى الرمح (تجمع) بمتانة، لينفذ في الضريبة بقوة. ومن الجمع بشدة مع النفاذ جاء معنى الكثرة, لأن النفاذ صورة من الانتشار. ومنه في الحديث: "خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة "أي نَتُوج ولود. وزَرْع أمِر (كفرح): كثيرٌ. وما أحسن أمارَتهم أي ما يكثرون ويكثُر أولادُهم وعددهم. وفي وَجْه المالِ الأَمِر (كفرح) تُعْرَفُ أَمَرتُه أي زيادتُه ونماؤه ونفقته (كذا, ولعلها: نفعه أو

نَفاقه). وقد أمِرَ القومُ: (فرح) كَثُروا، والرجلُ: كَثُرت ماشيته ".

ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - عن أَمْرِه أي دَعْوة الإِسلام "والله لَيَأمَرَنّ "وكذا قول أبي سفيان إن "أمْرَه - صلى الله عليه وسلم - قد أمِرَ "أي تزايد وعظم. ومنه كذلك "رجل أمِر (كفرح): مبارك يُقبِل عليه المال، وامرأة أمِرَة: مباركة على بعلها ".

ومن العلو مع النفاذ جاء "الأمر ضد النهي {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] وبهذا المعنى جاء عُظْم ما في القرآن من الفعل [أمَر] ومضارعه وأمره. وسائره عُبِّر به لمعنى التمكن من المأمور {الشَّيطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268، وكذا ما في 169 منها] أو لمعنى التهكم {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا} [الطور: 32, وكذا ما في البقرة: 93] أو لمعنى قبول الموجَّه إليه الكلام كقوله تعالى على لسان فرعون مخاطبًا سَحَرته {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110، وكذا ما في الشعراء: 35]، {وَأْتَمِرُوا بَينَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] كقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] وفي [قر 18/ 169] هي للأزواج والزوجات أي ليقبل بعضُهم من بعض ما أمر به من المعروف الجميل. ولمعنى القبول هذا استُعمِلت صيغ من التركيب لمعنى الشورى وما هو من بابها. فيقال "تآمروا على الأمر وائتمروا: (تشاوروا) وأجمعوا آراءهم. {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] أي يتشاورون في قتلك. وقيل يأمر بعضهم بعضًا [قر 13/ 266]. وآمره واستأمره: شاوره ". وفي الحديث "آمِرُوا النساء في أنفسهن ""البِكر تُسْتَأْذن والثيب تُسْتَأمر ".

و "الأمير: الملك "أي ذو الأَمْر أي الذي له أن يطلب استحداث أشياء أو عملها: "أمَر عليهم " (نصر، وكفرح وكرم).

وفسر قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] أي كَثَّرناهم. وذلك على القول لورود الفعل بهذا المعنى من باب (نصر)، كما فُسِّرت بالأمر ضد النهي أي أمَرْناهم (أي أمرهم الله بأوامر من عبادته) ففسقوا عن أمر ربهم وعَصَوا. وقرئت أمّرنا -بالتضعيف: أي جَعَلناهم أُمَراء. كما قرئت آمرنا- بالمد بمعنى التكثير، وأمِرْنا كعَلِمنا وفسرت بالأمر ضد النهي، وبالتسليط وبالتكثير، [ل 88/ 5 - 8، وقر 10/ 232 - 233] ومن ذا: "أَمرَ أمرُه كفرح: اشتَدّ. والاسم الإِمْر بالكسر [ل. 93/ 19] {لَقَدْ جِئْتَ شَيئًا إِمْرًا} [الكهف: 71] أي عظيمًا كقوله تعالى {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] وكتسمية الفواحش من الذنوب كبائر.

أما (الأمر) فهو يأتي بمعى المصدر من (أمر) كما في {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69, وكذلك ما في 50 منها] وغيرهما. ويأتي بمعنى (الحادثة) و (الشأن) و (الحال) كما في [تاج]، وهذا المعنى هو صورة من الجرَيان المأخوذ من النفاذ في المعنى المحوري وجمع الأول أوامر، وجمع الأخير أمور [تاج]، وإذا أُسْنِد (الأمر) إلى المولى عَزَّ وَجَلَّ فإنه يفسَّر بالقضاء، وبالتصريف والتدبير. ويوضح بعض ذلك ما في [البحر 3/ 279] في {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47] الأمر هنا واحد الأمور يُقصَد به الجنس وهو عبارة عن المحكومات.. كالعذاب واللعنة والمغفرة، أو المراد به المأمور به أي الذي (إذا) أراده أوجده، أو كل أمر أخّر تكوينه فهو كائن لا محالة لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله ".

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


19-المعجم المفصل في النحو العربي (المضاف)

المضاف

لغة: اسم مفعول من أضاف الشيء: ضمّه.

واصطلاحا: هو الاسم الأول الذي يخضع للنّسبة التّقييديّة بين اسمين والتي توجب لثانيهما الجرّ مطلقا، ويكون إعرابه حسب موقعه في الكلام، فقد يكون مبتدأ، كقوله تعالى: {وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} «لباس»: مبتدأ مرفوع بالضّمّة وهو مضاف «التّقوى» مضاف إليه، أو فاعلا، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ} «ربي»: فاعل «حرّم» مرفوع بالضّمّة المقدّرة على ما قبل ياء المتكلّم وهو مضاف و «الياء»: ضمير متّصل مبنيّ على السّكون في محل جرّ بالإضافة، أو مفعولا به، كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ} «زينة»: مفعول به وهو مضاف «الله»: اسم الجلالة مضاف إليه. أو ظرفا كقوله تعالى: {وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ} «تلقاء»: ظرف منصوب وهو مضاف «أصحاب»: مضاف إليه وهو بدوره مضاف «النّار» مضاف إليه. فكلمة «أصحاب» هي مضاف إليه بالنسبة لما قبلها ومضاف بالنّسبة لما بعدها. أو نائب فاعل، مثل: «سمعت أخبار الحرب منذ أسبوعين» «أخبار»: نائب فاعل مرفوع وهو مضاف «الحرب» مضاف إليه.

أنواعه: أوّلا: يكون المضاف في الإضافة المحضة على أنواع منها:

1 ـ اسما من الأسماء الجامدة كالمصدر، مثل: «حسن الكلام يؤدي إلى حسن التّفاهم بين الناس». واسم المصدر، وهو الاسم المساوي للمصدر في الدّلالة على الحدث ويختلف عنه بخلوّه من بعض أحرف فعله لفظا وتقديرا، مثل: «لو تكلّم المذنب كلام الصّادقين لعفي عنه»، «كلام»، اسم مصدر من «تكلّم» والظّرف، كقوله تعالى: {وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ} «تلقاء»: ظرف منصوب وهو مضاف.

2 ـ مشتقا مطلق الزّمن، أي: الذي لا دليل معه على الزّمن الذي تحقق فيه معنى الإضافة، مثل: «طالع الجبل الهادىء يصل بسرعة إلى مبتغاه» «طالع» مبتدأ مرفوع وهو مضاف «الجبل»: مضاف إليه. وهذا المضاف لا دليل معه على الزّمن فهو مطلق الزّمن.

3 ـ أفعل التّفضيل، مثل: «هند أجمل النساء» «هند»: مبتدأ «أجمل» خبر المبتدأ وهو مضاف «النساء»: مضاف إليه.

4 ـ مشتقا دالّا على زمن ماض بدليل قرينة تدلّ على الماضي، مثل: «سارق البيت أمس صار بيد العدالة اليوم». «سارق»: اسم مشتق في الزّمن الماضي بدليل كلمة «أمس».

5 ـ وصفا مضافا إلى الظّرف، مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} «مالك» اسم مشتق هو مضاف إلى الظّرف «يوم».

ثانيا: يكون المضاف في الإضافة اللّفظية على أنواع منها:

1 ـ اسم فاعل، مثل: «هذا طالب العلم» «طالب» خبر المبتدأ، «هذا»، وهو مضاف «العلم»: مضاف إليه مجرور لفظا مرفوع محلّا على أنه فاعل لاسم الفاعل «طالب».

2 ـ اسم مفعول، مثل: نتيجة الامتحانات الرّسمية مجهولة الموعد حتى الآن». والتقدير: مجهولة موعدها. «الموعد»: مضاف إليه لفظا مرفوع محلّا على أنه نائب فاعل لاسم المفعول «مجهولة».

3 ـ الصّفة المشبّهة مثل: «مشرق الوجه اليوم ناجح غدا». والتقدير: مشرق وجهه. «الوجه»: فاعل «مشرق».

4 ـ الأسماء المبهمة، مثل: «غير» «شبه»، «خدن»، بمعنى: صديق. ناهيك «حسبك»، «ضرب»، «ندّ»، «شرعك»، «نجلك».

5 ـ صدر العلم المركّب تركيبا مزجيّا المضاف إلى عجزه، مسايرة لبعض اللّغات الجائزة فيه، مثل: «جئت إلى بور سعيد».

ويلحق بهذا النّوع من الإضافة قول العرب: «لا أبا لك» لوجود الفاصل بين المتضايفين.

ويلحق بها أيضا:

1 ـ إضافة الاسم إلى الصفة، مثل: «صلّيت في المسجد الجامع» كلمة «مسجد» مجرور بـ «في» وهو مضاف إلى صفته «الجامع».

2 ـ إضافة المسمّى إلى الاسم، مثل: «صمت شهر رمضان».

3 ـ إضافة الصّفة إلى الموصوف، مثل: «زيد طويل القامة». «طويل» خبر المبتدأ مرفوع وهو مضاف «القامة» مضاف إليه مجرور لفظا مرفوع محلّا على أنه فاعل للصفة المشبهة «طويل».

4 ـ إضافة الموصوف إلى القائم مقام الوصف، كقول الشاعر:

«علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ***بأبيض ماضي الشّفرتين يمان»

والتقدير: علا زيد صاحبنا رأس زيد صاحبكم فحذف الصّفتين، وجعل الموصوف خلفا عنهما في الإضافة.

5 ـ إضافة المؤكّد إلى المؤكّد وأكثر ما يكون ذلك في أسماء الزّمان، مثل: «يومئذ»، «عامئذ»، «ساعتئذ»، «حينئذ».

6 ـ إضافة اسم ملغى إلى اسم غير ملغى، مثل: «ألقيت اسم السّلام عليكم» أي: ألقيت السّلام عليكم. «اسم» كلمة ملغاة لأن معناها مفسّر بـ «السّلام عليكم».

7 ـ إضافة اسم غير ملغى إلى اسم ملغى، مثل: «سافرت إلى دمشق الشام» فكلمة «دمشق» اسم غير ملغى هو اسم مجرور بـ «إلى» وعلامة جرّه الفتحة عوضا عن الكسرة لأنه ممنوع من الصّرف. و «دمشق» هي «الشام» لذلك تعتبر كلمة «الشام» ملغاة.

8 ـ إضافة صدر مركّب مزجي إلى عجزه مثل: «سافرت إلى نيويورك» فتكون كلمة «نيو» بمعنى: جديد التي هي صدر المركب اسم مجرور بـ «إلى» وهو مضاف «يورك» مضاف إليه وهي بمعنى: العالم. ومثل: «ما أحب سيبويه علما» «سيب» التي هي بمعنى: التفاح هي مفعول به لفعل «أحبّ» وأضيف إلى عجزه «ويه» بمعنى: رائحة. و «سيبويه» بمعنى: رائحة التفاح ومن خصائص الفارسيّة أن يضاف الموصوف إلى صفته «تفاح الرائحة» سيب تفاح «ويه» رائحة و «ويه» مضاف إليه. يقول عبد السّلام هارون محقّق «كتاب» سيبويه «سألت دارسي الفارسيّة عن صحّة معنى «ويه»: الرائحة اهتديت إلى بطلان ذلك....» ويرى آخرون أن «سيبويه» كلمة تتألّف من «سي» ومعناها «ثلاثون» و «بوي» أو «بويه» أي الرائحة. فمعناها: الثلاثون رائحة أو ذو الثلاثين رائحة.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


20-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (يهود الدونمة-اليهودية وما تفرع عنها)

يهود الدونمة

التعريف:

هم جماعة من اليهود أظهروا الإسلام وأبطنوا اليهودية للكيد للمسلمين، سكنوا منطقة الغرب من آسيا الصغرى وأسهموا في تقويض الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة عن طريق انقلاب جماعة الاتحاد والترقي.. ولا يزالون إلى الآن يكيدوا للإسلام، لهم براعة في مجالات الاقتصاد والثقافة والإعلام؛ لأنها هي وسائل السيطرة على المجتمعات.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

أسسها سباتاي زيفي 1626م ـ 1675م: وهو يهودي أسباني الأصل، تركي المولد والنشأة، وكان ذلك سنة 1648م حين أعلن أنه مسيح بني إسرائيل ومخلصهم الموعود واسمه الحقيقي موردخاي زيفي وعرف بين الأتراك باسم قرامنتشته.

ـ استفحل خطر سباتاي فاعتقلته السلطات العثمانية وناقشه العلماء في ادعاءاته ولما عرف أنه تقرر قتله أظهر رغبته في الإسلام، وتسمى باسم محمد أفندي.

ـ واصل دعوته الهدامة من موقعه الجديد كمسلم وكرئيس للحجاب وأمر أتباعه بأن يظهروا الإسلام ويبقوا على يهوديتهم في الباطن.

ـ طلب من الدولة السماح له بالدعوة في صفوف اليهود فسمحت له بذلك فعمل بكل خبث واستفاد من هذه الفرصة العظيمة للنيل من الإسلام.

ـ اتضح للحكومة بعد أكثر من 10 سنوات أن إسلام سباتاي كان خدعة فنفته إلى ألبانيا ومات بها.

أطلق الأتراك على أتباع هذا المذهب الدونمة وهي مشتقة من المصدر التركي دونمك بمعنى العودة والرجوع.

إبراهام نطحان: يهودي، وقد أصبح رسول سباتاي إلى الناس.

جوزيف بيلوسوف: وهو خليفة سباتاي ووالد زوجته الثانية، كان يتحرك باسم عبد الغفور أفندي.

مصطفى جلبي رئيس فرقة قاش وهي من ضمن ثلاث فرق تفرعت عن الدونمة وهم اليعاقبة والقاقاشية والقاباتجية.

ليس لهم مؤلفات مطبوعة ومتداولة ولكن لهم نشرات سرية كثيرة يتداولولنها فيما بينهم.

الأفكار والمعتقدات:

يعتقدون أن سباتاي هو مسيح إسرائيل المخلص لليهود.

يقولون إن الجسم القديم لسباتاي صعد إلى السماء فعاد بأمر الله في شكل ملاك يلبس الجلباب والعمامة ليكمل رسالته.

يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية الماكرة الحاقدة على المسلمين.

لا يصومون ولا يصلون ولا يغتسلون من الجنابة، وقد يظهرون بعض الشعائر الإسلامية في بعض المناسبات كالأعياد مثلًا إيهامًا وخداعًا، ومراعاة لعادات الأتراك ذرًّا للرماد في عيونهم ومحافظة على مظاهرهم كمسلمين.

يحرمون مناكحة المسلمين، ولا يستطيع الفرد منهم التعرف على حياة الطائفة وأفكارها إلا بعد الزواج.

لهم أعياد كثيرة تزيد على العشرين منها: الاحتفال بإطفاء الأنوار وارتكاب الفواحش، ويعتقدون أن مواليد تلك الليلة مباركون، ويكتسبون نوعًا من القدسية بين أفراد الدونمة.

لهم زي خاص بهم فالنساء ينتعلن الأحذية الصفراء والرجال يضعون قبعات صوفية بيضاء مع لفها بعمامة خضراء.

يحرمون المبادرة بالتحية لغيرهم.

يهاجمون حجاب المرأة ويدعون إلى السفور والتحلل من القيم ويدعون إلى التعليم المختلط ليفسدوا على الأمة شبابها.

الجذور الفكرية والعقائدية:

عقيدتهم يهودية صرفة وبالتالي فهم يتحلّون بالخصال الأساسية لليهود، كالخبث والمراوغة والدهاء والكذب والجبن والغدر، وتظاهرهم بالإسلام إنما هو وسيلة لضرب الإسلام من داخله.

لهم علاقة وطيدة بالماسونية، وكان كبار الدونمة من كبار الماسونيين.

يعملون ضمن مخططات الصهيونية العالمية.

يمتلكون ويديرون أكثر الجرائد التركية انتشارًا مثل جريدة حريت ومجلة حياة ومجلة التاريخ وجريدة مليت وجريدة جمهوريت وكلها تحمل اتجاهات يسارية ولها تأثير واضح على الرأي العام التركي.

الانتشار ومواقع النفوذ:

غالبيتهم العظمى توجد الآن في تركيا.

ـ ما يزالون إلى الآن يملكون في تركيا وسائل السيطرة على الإعلام والاقتصاد، ولهم مناصب حساسة جدًّا في الحكومة.

ـ كانوا وراء تكوين جماعة الاتحاد والترقي التي كانت جل أعضائها منهم، وكما ساهموا من موقعهم هذا في علمنة تركيا المسلمة، وسخروا كثيرًا من شباب المسلمين المخدوعين لخدمة أغراضهم التدميرية.

ويتضح مما سبق:

أن الدونمة طائفة من اليهود ادعت الإسلام ولا علاقة لهم به قدر ذرة، وكانوا يتحينون الفرص للانتقام من الإسلام وإفساد الحياة الاجتماعية الإسلامية والهجوم على شعائر الإسلام. ويكفي أنهم أداروا الجزء الأعظم من انقلاب تركيا الفتاة الذي أسقط السلطان عبد الحميد الثاني.

مراجع للتوسع:

ـ يهود الدونمة، محمد علي قطب.

ـ وثائق منظمات وعادات السباتاي، إبراهيم غالانتي.

ـ مجموعة مقالات عن الدونمة، علاء الدين غوسة.

ـ يهود الدونمة، للدكتور محمد عمر (مؤسسة الدراسات التاريخية).

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


21-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الصابئة المندائيون-الأديان الشرقية)

الصابئة المندائيون

التعريف:

الصابئة المندائية هي طائفة الصابئة الوحيدة الباقية إلى اليوم والتي تعتبر يحيى عليه السلام نبيًّا لها، يقدّس أصحابها الكواكب والنجوم ويعظمونها، ويعتبر الاتجاه نحو نجم القطب الشمالي وكذلك التعميد في المياه الجارية من أهم معالم هذه الديانة التي يجيز أغلب فقهاء المسلمين أخذ الجزية من معتنقيها أسوة بالكتابيين من اليهود والنصارى.

ولقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الرد على المنطقيين ط6 (ص454 وما بعدها) حقيقة الصابئة كما وردت في القرآن الكريم فقال ما حاصله:

إن الصابئة نوعان: صابئة حنفاء وصابئة مشركون.

أما الصابئة الحنفاء فهم بمنزلة من كان متبعًا لشريعة التوراة والإنجيل قبل النسخ والتحريف والتبديل من اليهود والنصارى. وهؤلاء حمدهم الله وأثنى عليهم. والثابت أن الصابئين قوم ليس لهم شريعة مأخوذة عن نبي، وهم قوم من المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين، ولكنهم عرفوا الله وحده، ولم يحدثوا كفرًا، وهم متمسكون "بالإسلام المشترك" وهو عبادة الله وحده وإيجاب الصدق والعدل وتحريم الفواحش والظلم ونحو ذلك مما اتفقت الرسل على إيجابه وتحريمه وهم يقولون "لا إله إلا الله" فقط وليس لهم كتاب ولا نبي. والصحيح أنهم كانوا موجودين قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأرض اليمن.

وأما الصابئة المشركون فههم قوم يعبدون الملائكة ويقرؤون الزبور ويصلون، فهم يعبدون الروحانيات العلوية.

وعلى ذلك فمن دان من الصابئة بدين أهل الكتاب فهو من أهل الكتاب، ومن لم يدن بدين أهل الكتاب فهو مشرك ومثالهم من يعبد الكواكب. كمن كانوا بأرض حران عندما أدركهم الإسلام وهؤلاء لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وإن أظهروا الإيمان بالنبيين وقد أفتى أبو سعيد الاصطخري بأن لا تقبل الجزية منهم، ونازعه في ذلك جماعة من الفقهاء.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

يدّعى الصابئة المندائيون بأن دينهم يرجع إلى عهد آدم عليه السلام.

ينتسبون إلى سام بن نوح عليه السلام، فهم ساميون.

يزعمون أن يحيى عليه السلام هو نبيهم الذي أرسل إليهم.

كانوا يقيمون في القدس، وبعد الميلاد طردوا من فلسطين فهاجروا إلى مدينة حران فتأثروا هناك بمن حولهم وتأثروا بعبدة الكواكب والنجوم من الصابئة الحرانيين.

- ومن حران هاجروا إلى موطنهم الحالي في جنوبي العراق وإيران وما يزالون فيه، حيث يعرفون بصابئة البطائح.

منهم الكنزبرا الشيخ عبد الله بن الشيخ سام الذي كان مقيمًا في بغداد سنة 1969م وهو الرئيس الروحي لهم، وقد كان في عام 1954م يسكن في دار واقعة بجوار السفارة البريطانية في الكرخ ببغداد.

الأفكار والمعتقدات:

كتبهم:

- لديهم عدد من الكتب المقدسة مكتوبة بلغة سامية قريبة من السريانية وهي:

1- الكنزاربّا: أي الكتاب العظيم ويعتقدون بأنه صحف آدم عليه السلام، فيه موضوعات كثيرة عن نظام تكوين العالم وحساب الخليقة وأدعية وقصص، وتوجد في خزانة المتحف العراقي نسخة كاملة منه. طبع في كوبنهاجن سنة 1815م، وطبع في لايبزيغ سنة 1867م.

2- دراشة إديهيا: أي تعاليم يحيى، وفيه تعاليم وحياة النبي يحيى عليه السلام.

3- الفلستا: أي كتاب عقد الزواج، ويتعلق بالاحتفالات والنكاح الشرعي والخطبة.

4- سدرة إدنشاماثا: يدور حول التعميد والدفن والحداد، وانتقال الروح من الجسد إلى الأرض ومن ثمّ إلى عالم الأنوار، وفي خزانة المتحف العراقي نسخة حديثة منه مكتوبة باللغة المندائية.

5- كتاب الديونان: فيه قصص وسير بعض الروحانيين مع صور لهم.

6- كتاب إسفر ملواشه: أي سفر البروج لمعرفة حوادث السنة المقبلة عن طريق علم الفلك والتنجيم.

7- كتاب النباتي: أي الأناشيد والأذكار الدينية، وتوجد نسخة منه في المتحف العراقي.

8- كتاب قماها ذهيقل زيوا: ويتألف من 200 سطر وهو عبارة عن حجاب يعتقدون بأن من يحمله لا يؤثر فيه سلاح أو نار.

9- تفسير بغره: يختص في علم تشريح جسم الإنسان وتركيبه والأطعمة المناسبة لكل طقس مما يجوز لأبناء الطائفة تناوله.

10- كتاب ترسسر ألف شياله: أي كتاب الأثنى عشر ألف سؤال.

11- ديوان طقوس التطهير: وهو كتاب يبين طرق التعميد بأنواعه على شكل ديوان.

12- كتاب كداواكدفيانا: أي كتاب العوذ.

طبقات رجال الدين:

يشترط في رجل الدين أن يكون سليم الجسم، صحيح الحواس، متزوجًا منجبًا، غير مختون، وله كلمة نافذة في شؤون الطائفة كحالات الولادة والتسمية والتعميد والزواج والصلاة والذبح والجنازة، ورتبهم على النحو التالي:

1- الحلالي: ويسمى "الشماس" يسير في الجنازات، ويقيم سنن الذبح للعامة، ولايتزوج إلا بكرًا، فإذا تزوج ثيبًا سقطت مرتبته ومنع من وظيفته إلا إذا تعمد هو وزوجته 360مرة في ماء النهر الجاري.

2- الترميدة: إذا فقه الحلالي الكتابين المقدَّسين سدره إنشماثا والنياني أي كتابَيْ التعميد والأذكار فإنه يتعمد بالارتماس في الماء الموجود في المندي ويبقى بعدها سبعة أيام مستيقظًا لا تغمض له عين حتى لا يحتلم، ويترقى بعدها هذا الحلالي إلى ترميدة، وتنحصر وظيفته في العقد على البنات الأبكار.

3- الأبيسق: الترميدة الذي يختص في العقد على الأرامل يتحول إلى أبيسق ولا ينتقل من مرتبته هذه.

4- الكنزبرا: الترميدة الفاضل الذي لم يعقد على الثيبات مطلقًا يمكنه أن ينتقل إلى كنزبرا وذلك إذا حفظ كتاب الكنزاربّا فيصبح حينئذٍ مفسرًا له، ويجوز له ما لا يجوز لغيره، فلو قتل واحدًا من أفراد الطائفة لا يقتص منه لأنه وكيل الرئيس الإلهي عليها.

5- الريش أمه: أي رئيس الأمة، وصاحب الكلمة النافذة فيها ولا يوجد بين صابئة اليوم من بلغ هذه الدرجة لأنها تحتاج إلى علم وفير وقدرة فائقة.

6- الربّاني: وفق هذه الديانة لم يصل إلى هذه الدرجة إلا يحيي بن زكريا عليهما السلام كما أنه لا يجوز أن يوجد شخصان من هذه الدرجة في وقت واحد. والرباني يرتفع ليسكن في عالم الأنوار وينزل ليبلغ طائفته تعاليم الدين ثم يرتفع كرة أخرى إلى عالمه الرباني النوراني.

الإِله:

- يعتقدون من حيث المبدأ – بوجود الإِله الخالق الواحد الأزلي الذي لاتناله الحواس ولايفضي إليه مخلوق.

- ولكنهم يجعلون بعد هذا الإله 360 شخصًا خلقوا ليفعلوا أفعال الإله، وهؤلاء الأشخاص ليسوا بآلهة ولا ملائكة، يعملون كل شيء من رعد وبرق ومطر وشمس وليل ونهار… وهؤلاء يعرفون الغيب، ولكل منهم مملكته في عالم الأنوار.

- هؤلاء الأشخاص الـ 360 ليسوا مخلوقين كبقية الكائنات الحية، ولكن الله ناداهم بأسمائهم فخلقوا وتزوجوا بنساء من صنفهم، ويتناسلون بأن يلفظ أحدهم كلمة فتحمل أمرأته فورًا وتلد واحدًا منهم.

- يعتقدون بأن الكواكب مسكن للملائكة، ولذلك يعظمونها ويقدسونها.

المندي:

- هو معبد الصابئة، وفيه كتبهم المقدسة، ويجري فيه تعميد رجال الدين، يقام على الضفاف اليمنى من الأنهر الجارية، له باب واحد يقابل الجنوب بحيث يستقبل الداخل إليه نجم القطب الشمالي، لابدَّ من وجود قناة فيه متصلة بماء النهر، ولا يجوز دخوله من قبل النساء، ولا بد

الصلاة:

- تؤدى ثلاث مرات في اليوم: قبيل الشروق، وعند الزوال، وقبيل الغروب، وتستحبّ أن تكون جماعة في أيام الآحاد والأعياد، فيها وقوف وركوع وجلوس على الأرض من غير سجود، وهي تستغرق ساعة وربع الساعة تقريبًا.

- يتوجه المصلي خلالها إلى الجدي بلباسه الطاهر، حافي القدمي، يتلو سبع قراءات يمجد فيها الرب مستمدًا منه العون طالبًا منه تيسير اتصاله بعالم الأنوار.

الصوم:

- صابئة اليوم يحرمون الصوم لأنه من باب تحريم ما أحل الله.

- وقد كان الصوم عند الصابئة على نوعين: الصوم الكبير: ويشمل الصوم عن كبائر الذنوب والأخلاق الرديئة، والصوم الصغير الذي يمتنعون فيه عن أكل اللحوم المباحة لهم لمدة 32 يومًا متفرقة على طول أيام السنة.

- ابن النديم المتوفى سنة 385هـ في فهرسته، وابن العبري المتوفى سنة 685هـ في تاريخ مختصر الدول ينصان على أن الصيام كان مفروضًا عليهم لمدة ثلاثين يومًا من كل سنة.

الطهارة:

- الطهارة مفروضة على الذكر والأنثى سواء بلا تمييز.

- تكون الطهارة في الماء الحي غير المنقطع عن مجراه الطبيعي.

- الجنابة تحتاج إلى طهارة وذلك بالارتماس في الماء ثلاث دفعات مع استحضار نية الاغتسال من غير قراءة لأنها لا تجوز على جنب.

- عقب الارتماس في الماء يجب الوضوء، وهو واجب لكل صلاة، حيث يتوضأ الشخص وهو متجه إلى نجم القطب، فيؤديه على هيئة تشبه وضوء المسلمين مصحوبًا بأدعية خاصة.

- مفسدات الوضوء: البول، الغائط، الريح، لمس الحائض والنفساء.

التعميد وأنواعه:

- يعتبر التعميد من أبرز معالم هذه الديانة ولا يكون إلا في الماء الحي، ولا تتم الطقوس إلا بالارتماس في الماء سواء أكان الوقت صيفًا أم شتاءً، وقد أجاز لهم رجال دينهم مؤخرًا الاغتسال في الحمامات وأجازوا لهم كذلك ماء العيون النابعة لتحقيق الطهارة.

- يجب أن يتم التعميد على أيدي رجال الدين.

- يكون العماد في حالات الولادة، والزواج، وعماد الجماعة، وعماد الأعياد وهي على النحو التالي:

1- الولادة: يعمد المولود بعد 45 يومًا ليصبح طاهرًا من دنس الولادة حيث يُدخل هذا الوليد في الماء الجاري إلى ركبتيه مع الإتجاه جهة نجم القطب، ويوضع في يده خاتم أخضر من الآس.

2- عماد الزواج: يتمّ في يوم الأحد وبحضور ترميدة وكنزبرا، يتم بثلاث دفعات في الماء مع قراءة من كتاب الفلستا وبلباس خاص، ثم يشربان من قنينة ملئت بماء أُخذ من النهر يسمى (ممبوهة) ثم يطعمان (البهثة) ويدهن جبينهما بدهن السمسم، ويكون ذلك لكلا العروسين لكل واحد منهما على حدة، بعد ذلك لا يُلمسان لمدة سبعة أيام حيث يكونان نجسين وبعد الأيام السبعة من الزواج يعمدان من جديد، وتعمد معهما كافة القدور والأواني التي أكلا فيها أو شربا منها.

3- عماد الجماعة: يكون في كل عيد (بنجة) من كل سنة كبيسة لمدة خمسة أيام ويشمل أبناء الطائفة كافة رجالًا ونساءً كبارًا وصغارًا، وذلك بالارتماس في الماء الجاري ثلاث دفعات قبل تناول الطعام في كل يوم من الأيام الخمسة. والمقصود منه هو التكفير عن الخطايا والذنوب المرتكبة في بحر السنة الماضية، كما يجوز التعميد في أيام البنجة ليلًا ونهارًا على حين أن التعميد في سائر المواسم لا يجوز إلا نهارًا وفي أيام الآحاد فقط.

4- عماد الأعياد: وهي:

أ‌- العيد الكبير: عيد ملك الأنوار حيث يعتكفون في بيوتهم 36 ساعة متتالية لا تغمض لهم عين خشية أن يتطرق الشيطان إليهم لأن الاحتلام يفسد فرحتهم، وبعد الاعتكاف مباشرة يرتسمون، ومدة العيد أربعة أيام، تنحر فيه الخراف ويذبح فيه الدجاج ولا يقومون خلاله بأي عمل دنيوي.

ب‌- العيد الصغير: يوم واحد شرعًا، وقد يمتد لثلاثة أيام من أجل التزاور، ويكون بعد العيد الكبير بمائة وثمانية عشر يومًا.

ت‌- عيد البنجة: سبق الحديث عنه، وهو خمسة أيام تكبس بها السنة، ويأتي بعد العيد الصغير بأربعة أشهر.

ث‌- عيد يحيى: يوم واحد من أقدس الأيام، يأتي بعد عيد البنجة بستين يومًا وفيه كانت ولادة النبي يحيى عليه السلام الذي يعتبرونه نبيًّا خاصًا بهم، والذي جاء ليعيد إلى دين آدم صفاءه بعد أن دخله الانحراف بسبب تقادم الزمان.

تعميد المحتضر ودفنه:

ج‌- عندما يحتضر الصابيء يجب أن يؤخذ – وقبل زهوق روحه – إلى الماء الجاري ليتمّ تعميده.

ح‌- من مات من دون عماد نجس ويحرم لمسه.

خ‌- أثناء العماد يغسلونه متجهًا إلى نجم القطب الشمالي، ثم يعيدونه إلى بيته ويجلسونه في فراشه بحيث يواجه نجم القطب أيضًا حتى يوافيه الأجل.

د‌- بعد ثلاث ساعات من موته يغسل ويكفن ويدفن حيث يموت إذ لا يجوز نقله مطلقًا من بلد إلى بلد آخر.

ذ‌- من مات غيلة أو فجأة، فإنه لا يغسل ولا يلمس، ويقوم الكنزبرا بواجب العماد عنه.

ر‌- يدفن الصابيء بحيث يكون مستلقيًا على ظهره ووجهه ورجلاه متجهة نحو الجدي حتى إذا بعث واجه الكوكب الثابت بالذات.

ز‌- يضعون في فم الميت قليلًا من تراب أول حفرة تحفر لقبره فيها.

س‌- يحرم على أهل الميت الندب والبكاء والعويل، والموت عندهم مدعاة للسرور، ويوم المأتم من أكثر الأيام فرحًا حسب وصية يحيى لزوجته.

ش‌- لا يوجد لديهم خلود في الجحيم، بل عندما يموت الإنسان إما أن ينتقل إلى الجنة أو المطهر حيث يعذب بدرجات متفاوتة حتى يطهر فتنتقل روحه بعدها إلى الملأ الأعلى، فالروح خالدة والجسد فان.

أفكار ومعتقدات أخرى:

- البكارة: تقوم والدة الكنزبرا أو زوجته بفحص كل فتاة عذراء بعد تعميدها وقبل تسليمها لعريسها وذلك بغية التأكد من سلامة بكارتها.

- الخطيئة: إذا وقعت الفتاة أو المرأة في جريمة الزنى فإنها لا تقتل، بل تهجر، وبإمكانها أن تكفر عن خطيئتها بالارتماس في الماء الجاري.

- الطلاق: لا يعترف دينهم بالطلاق إلا إذا كانت هناك انحرافات أخلاقية خطيرة فيتمّ التفريق عن طريق الكنزبرا.

- السنة المندائية: 360 يومًا، في 12 شهرًا، وفي كل شهر ثلاثون يومًا مع خمسة أيام كبيسة يقام فيها عيد البنجة.

- يعتقدون بصحة التاريخ الهجري ويستعملونه، وذلك بسبب اختلاطهم بالمسلمين، ولأن ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان مذكورًا في الكتب المقدسة الموجودة لديهم.

- يعظمون يوم الأحد كالنصارى ويقدسونه ولا يعملون فيه أي شيء على الإطلاق.

- ينفرون من اللون الأزرق النيلي ولا يلامسونه مطلقًا.

- ليس للرجل غير المتزوج من جنة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

- يتنبئون بحوادث المستقبل عن طريق التأمل في السماء والنجوم وبعض الحسابات الفلكية.

- لكل مناسبة دينية ألبسة خاصة بها، ولكل مرتبة دينية لباس خاص بها يميزها عن غيرها.

- إذا توفي شخص دون أن ينجب أولادًا فإنه يمرّ بالمطهر ليعود بعد إقامته في العالم الآخر إلى عالم الأنوار ثم يعود إلى حالته البدنية مرة أخرى حيث تتلبس روحه في جسم روحاني فيتزوج وينجب أطفالًا.

- يؤمنون بالتناسخ ويعتقدون بتطبيقاته في بعض جوانب عقيدتهم.

- للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء على قدر ما تسمح له به ظروفه.

- يرفضون شرب الدواء، ولا يعترضون على الدهون والحقن الجلدية.

- الشباب والشابات يأتون إلى الكهان ليخبروهم عن اليوم السعيد الذي يمكنهم أن يتزوجوا فيه، وكذلك يخبرون السائلين عن الوقت المناسب للتجارة أو السفر، وذلك عن طريق علم النجوم.

- لا تؤكل الذبيحة إلا أن تذبح بيدي رجال الدين وبحضور الشهود، ويقوم الذابح – بعد أن يتوضأ – بغمسها في الماء الجاري ثلاث مرات ثم يقرأ عليها أذكارًا دينية خاصة ثم يذبحها مستقبلًا الشمال، ويستنزف دمها حتى آخر قطرة، ويحرم الذبح بعد غروب الشمس أو قبل شروقها إلا

- تنص عقيدتهم على أن يكون الميراث محصورًا في الابن الأكبر، لكنهم لمجاورتهم المسلمين فقد أخذوا بقانون المواريث الإسلامي.

الجذور الفكرية والعقائدية:

تأثر الصابئة بكثير من الديانات والمعتقدات التي احتكوا بها.

أشهر فرق الصابئة قديمًا أربعة هي: أصحاب الروحانيات، وأصحاب الهياكل، وأصحاب الأشخاص، والحلولية.

لقد ورد ذكرهم في القرآن مقترنًا باليهود والنصارى والمجوس والمشركين (انظر الآيات62/ البقرة - 69/ المائدة، 17/الحج)، ولهم أحكام خاصة بهم من حيث جواز أخذ الجزية منهم أو عدمها أسوة بالكتابيين من اليهود والنصارى.

عرف منهم الصابئة الحرانيون الذين انقرضوا والذين تختلف معتقداتهم بعض الشيء عن الصابئة المندائيين الحاليين.

لم يبق من الصابئة اليوم إلا صابئة البطائح المنتشرون على ضفاف الأنهر الكبيرة في جنوب العراق وإيران.

تأثروا باليهودية، وبالمسيحية، وبالمجوسية لمجاورتهم لهم.

تأثروا بالحرانيين الذين ساكنوهم في حران عقب طردهم من فلسطين فنقلوا عنهم عبادة الكواكب والنجوم أو على الأقل تقديس هذه الكواكب وتعظيمها وتأثروا بهم في إتقان علم الفلك وحسابات النجوم.

تأثروا بالأفلاطونية الحديثة التي استقرت فلسفتها في سوريا مثل الاعتقاد بالفيض الروحي على العالم المادي.

تأثروا بالفلسفة الدينية التي ظهرت أيام إبراهيم الخليل - عليه السلام - فقد كان الناس حينها يعتقدون بقدرة الكواكب والنجوم على التأثير في حياة الناس.

تأثروا بالفلسفة اليونانية التي استقلت عن الدين، ويلاحظ أثر هذه الفلسفة اليونانية في كتبهم.

لدى الصابئة قسط وافر من الوثنية القديمة يتجلى في تعظيم الكواكب والنجوم على صورة من الصور.

الانتشار ومواقع النفوذ:

الصابئة المندائيون الحاليون ينتشرون على الضفاف السفلى من نهري دجلة والفرات، ويسكنون في منطقة الأهوار وشط العرب، ويكثرون في مدن العمارة والناصرية والبصرة وقلعة صالح والحلفاية والزكية وسوق الشيوخ والقرنة وهي موضع اقتران دجلة بالفرات، وهم موزعون على عدد من الألوية مثل لواء بغداد، والحلة، والديوانية والكوت وكركوك والموصل. كما يوجد أعداد مختلفة منهم في ناصرية المنتفق والشرش ونهر صالح والجبابيش والسليمانية.

كذلك ينتشرون في إيران، وتحديدًا على ضفاف نهر الكارون والدز ويسكنون في مدن إيران الساحلية، كالمحمرة، وناصرية الأهواز وششتر ودزبول.

تهدمت معابدهم في العراق، ولم يبق لهم إلا معبدان في قلعة صالح، وقد بنوا معبدًا منديًا بجوار المصافي في بغداد، وذلك لكثرة الصابئين النازحين إلى هناك من أجل العمل.

يعمل معظمهم في صياغة معدن الفضة لتزيين الحلي والأواني والساعات وتكاد هذه الصناعة تنحصر فيهم لأنهم يحرصون على حفظ أسرارهما كما يجيدون صناعة القوارب الخشبية والحدادة وصناعة الخناجر.

مهاراتهم في صياغة الفضة دفعتهم إلى الرحيل للعمل في بيروت ودمشق والإسكندرية ووصل بعضهم إلى إيطاليا وفرنسا وأمريكا.

ليس لديهم أي طموح سياسي، وهم يتقربون إلى أصحاب الديانات الأخرى بنقاط التشابه الموجودة بينهم وبين الآخرين.

ويتضح مما سبق:

إن الصابئة من أقدم الديانات التي تعتقد بأن الخالق واحد وقد جاء ذكر الصابئين في القرآن باعتبار أنهم أتباع دين كتابي. وقد اختلف الفقهاء حول مدى جواز أخذ الجزية منهم، إن كانوا أحدثوا في دينهم ما ليس منه. وقد أصبحت هذه الطائفة كأنها طائفة وثنية تشبه صابئة حران الذين وصفهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وعمومًا فالإسلام قد جب ما قبله ولم يعد لأي دين من الديانات السابقة مكان بعده.

(page)

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


22-معجم البلدان (قشاقش)

قُشَاقِشُ:

بلد بحضرموت يسكنه كندة ويقال له كسر قشاقش، قال أبو سليمان بن يزيد بن الحسن الطائي:

«وأوطن منّا في قصور براقش *** فما ودّ وادي الكسر كسر قشاقش»

إلى قيّنان كلّ أغلب رائش بهاليل ليسوا بالدّناء الفواحش ولا الحلم إن طاش الحليم بطائش

والكسر: قرى كثيرة.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


23-موسوعة الفقه الكويتية (إفساد)

إِفْسَادٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِفْسَادُ لُغَةً: ضِدُّ الْإِصْلَاحِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ فَاسِدًا خَارِجًا عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ.

وَشَرْعًا: جَعْلُ الشَّيْءِ فَاسِدًا، سَوَاءٌ وُجِدَ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ- كَمَا لَوِ انْعَقَدَ الْحَجُّ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُهُ- أَوْ وُجِدَ الْفَسَادُ مَعَ الْعَقْدِ، كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

وَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْإِفْسَادِ وَالْإِبْطَالِ تَبَعًا لِتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ، فَقَالُوا: الْفَاسِدُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ، وَالْبَاطِلُ مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ.أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَالْإِفْسَادُ وَالْإِبْطَالُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ.وَلِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ: كَالْحَجِّ، وَالْخُلْعِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِتْلَافُ:

2- الْإِتْلَافُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ يُقَالُ: أَتْلَفَ الشَّيْءَ إِذَا أَفْنَاهُ وَأَهْلَكَهُ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ بِهَذَا الْمَعْنَى، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: إِتْلَافُ الشَّيْءِ إِخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً.

فَالْإِفْسَادُ أَعَمُّ مِنَ الْإِتْلَافِ، فَإِنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ، وَيَنْفَرِدُ الْإِفْسَادُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ.

ب- الْإِلْغَاءُ:

3- الْإِلْغَاءُ مِنْ مَعَانِيهِ: إِبْطَالُ الْعَمَلِ بِالْحُكْمِ، وَإِسْقَاطُهُ، وَقَدْ أَلْغَى ابْنُ عَبَّاسٍ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ، أَيْ أَبْطَلَهُ وَأَسْقَطَهُ.وَيَسْتَعْمِلُ الْأُصُولِيُّونَ الْإِلْغَاءَ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ بِمَعْنَى عَدَمِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ الْمُلْغَى عِنْدَهُمْ، كَمَا يَسْتَعْمِلُونَ الْإِلْغَاءَ فِي إِهْدَارِ أَثَرِ التَّصَرُّفِ مِنْ فَاقِدِ الْأَهْلِيَّةِ.

ج- التَّوَقُّفُ:

4- الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ ضِدُّ النَّافِذِ، وَهُوَ مَا تَوَقَّفَ نَفَاذُهُ عَلَى الْإِجَازَةِ مِنْ مَالِكِهَا، كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ.فَإِنَّهُ يَكُونُ بِهَذَا الْمَعْنَى جَائِزًا فِي الْجُمْلَةِ، بِخِلَافِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الْمُقَرَّرُ شَرْعًا أَنَّ الْعِبَادَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا صَحِيحَةٌ، لَا يَلْحَقُهَا الْإِفْسَادُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَاقِعَ يَسْتَحِيلُ رَفْعُهُ، إِلاَّ بِأَسْبَابٍ يُصَارُ إِلَيْهَا بِالدَّلِيلِ كَالرِّدَّةِ، فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالْعِبَادَاتِ، كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَالْهِجْرَةُ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ التَّوْبَةُ وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ.أَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعِبَادَةِ وَقَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَيَحْرُمُ إِفْسَادُ الْفَرْضِ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ دُونَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَكَذَلِكَ النَّفَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَلِهَذَا يَجِبُ إِعَادَتُهُ.أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ إِفْسَادُ النَّافِلَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَلَا إِعَادَةَ إِنْ أَفْسَدَ النَّافِلَةَ الْمُطْلَقَةَ، عَدَا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَحْرُمُ إِفْسَادُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا كَسَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ.

أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ اللاَّزِمَةُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا الْإِفْسَادُ بَعْدَ نَفَاذِهَا.إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ الْفَسْخُ بِرِضَا الْعَاقِدَيْنِ كَمَا فِي الْإِقَالَةِ، وَفِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ يَصِحُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِفْسَادُهَا مَتَى شَاءَ، أَمَّا اللاَّزِمَةُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَجُوزُ إِفْسَادُهَا مِمَّنْ هِيَ لَازِمَةٌ فِي حَقِّهِ وَيَجُوزُ لِلْآخَرِ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ.

أَثَرُ الْإِفْسَادِ فِي الْعِبَادَاتِ:

6- مَنْ شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ مَفْرُوضَةٍ فَرْضًا عَيْنِيًّا أَوْ كِفَائِيًّا، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ بِاسْتِيفَاءِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا حَتَّى تَبْرَأَ الذِّمَّةُ، فَإِذَا أَفْسَدَهَا فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ فِعْلُهَا تَامَّةٌ، كَمَا لَوْ صَلَّى مُسَافِرٌ خَلْفَ مُقِيمٍ ثُمَّ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا تَامَّةً، لِأَنَّهَا لَا تُبْرِئُ الذِّمَّةَ بَعْدَ الْفَسَادِ بِلَا خِلَافٍ.

كَمَا لَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا أَوْ بَاطِلِهَا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ فَاسِدَ الْعِبَادَاتِ لَا يُلْحَقُ بِصَحِيحِهَا إِلاَّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ يَمْضِي فِي فَاسِدِهِمَا وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.وَهَذَا مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ حَيْثُ إِنَّ الْعِبَادَةَ الْفَاسِدَةَ يَنْقَطِعُ حُكْمُهَا وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ عَهْدِهَا.

أَمَّا مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِتْمَامُهُ، وَإِذَا أَفْسَدَهُ يَقْضِيهِ وُجُوبًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَالُوا: يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُ النَّفْلِ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ قَضَاءُ مَا أَفْسَدَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ مِنَ النَّوَافِلِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ التَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، حَيْثُ يَجِبُ إِتْمَامُهُمَا إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا.

وَلَوْ وَقَعَ مِنْهُ مُفْسِدٌ لَهُمَا، يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا حِينَئِذٍ مَعَ الْجَزَاءِ اللاَّزِمِ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى مَا سَبَقَ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (الْإِحْرَامِ، وَالْحَجِّ)

إِفْسَادُ الصَّوْمِ:

7- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَامَعَ أَوِ اسْتَمْنَى أَوْ طَعِمَ أَوْ شَرِبَ عَنْ قَصْدٍ، مَعَ ذِكْرِ الصَّوْمِ فِي نَهَارِهِ فَقَدْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ، لقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُفْسِدَاتٍ أُخْرَى لِلصَّوْمِ، مِنْهَا مَا يَرِدُ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِثْلُ الْحُقْنَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرِدُ إِلَى بَاطِنِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يَرِدُ الْجَوْفَ، مِثْلُ أَنْ يَرِدَ الدِّمَاغَ وَلَا يَرِدَ الْمَعِدَةَ.وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ هُوَ قِيَاسُ الْمُغَذِّي عَلَى غَيْرِ الْمُغَذِّي.فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّوْمِ مَعْنًى مَعْقُولٌ لَمْ يُلْحِقِ الْمُغَذِّيَ بِغَيْرِ الْمُغَذِّي، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ الْإِمْسَاكُ فَقَطْ عَمَّا يَرِدُ الْجَوْفَ، سَوَّى بَيْنَ الْمُغَذِّي وَغَيْرِهِ.ر: (احْتِقَانٌ) (وَصَوْمٌ).

8- وَاخْتَلَفُوا فِي الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ.فَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَقَدْ رَأَى أَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَّهَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالْكَرَاهَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ الْإِفْسَادِ.

وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ هُوَ تَعَارُضُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.وَأَمَّا الْقَيْءُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ بِمُفْطِرٍ، وَأَنَّ مَنِ اسْتِقَاءَ فَقَاءَ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهُ.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ) (وَقَيْءٌ).

نِيَّةُ إِفْسَادِ الْعِبَادَةِ:

9- نِيَّةُ الْإِفْسَادِ يَخْتَلِفُ أَثَرُهَا صِحَّةً وَبُطْلَانًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ.

فَإِذَا نَوَى إِفْسَادَ الْإِيمَانِ أَوْ قَطْعَهُ، صَارَ مُرْتَدًّا فِي الْحَالِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَإِنْ نَوَى إِفْسَادَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا لَمْ تَبْطُلْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ نَوَى قَطْعَ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا بَطَلَتْ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْإِيمَانِ، وَلَوْ نَوَى قَطْعَ السَّفَرِ بِالْإِقَامَةِ صَارَ مُقِيمًا.أَمَّا إِذَا نَوَى قَطْعَ الصِّيَامِ بِالْأَكْلِ أَوِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ حَتَّى يَأْكُلَ أَوْ يُجَامِعَ.

وَلَوْ نَوَى قَطْعَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَبْطُلَا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا بِالْإِفْسَادِ، فَلَا يَخْرُجُ بِالْأَوْلَى بِنِيَّةِ الْإِفْسَادِ أَوِ الْإِبْطَالِ.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (نِيَّةٌ) وَإِلَى مَوَاطِنِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ.

أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي إِفْسَادِ الْعَقْدِ:

10- إِفْسَادُ الْعَقْدِ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَا يُسَبِّبُهُ مِنْ غَرَرٍ أَوْ رِبًا أَوْ نَقْصٍ فِي الْمِلْكِ، أَوْ اشْتِرَاطِ أَمْرٍ مَحْظُورٍ أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ.

وَالْعُقُودُ عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ: نَوْعَانِ:

(الْأَوَّلُ): عُقُودٌ تَفْسُدُ عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِهَا،

(وَالثَّانِي): عُقُودٌ تَصِحُّ، وَيَسْقُطُ الشَّرْطُ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمَذَاهِبُ فِي الْأَثَرِ النَّاشِئِ عَنِ الشُّرُوطِ:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يَعْتَرِيهِ الْفَسَادُ.

فَاَلَّذِي يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مِثْلُ: الْبَيْعِ، وَالْقِسْمَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَاَلَّذِي لَا يَفْسُدُ مِثْلُ: النِّكَاحِ وَالْقَرْضِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالْوَصِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، إِذْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ بِالشَّرْطِ فِي الْجُمْلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ، أَوْ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ فَاحِشٍ، يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الْعَمْدِ، فَالْأَمْرُ الْمَحْظُورُ مِثْلُ: مَا إِذَا اشْتَرَى دَارًا وَاشْتَرَطَ اتِّخَاذَهَا مَجْمَعًا لِلْفَسَادِ.فَالشَّرْطُ حَرَامٌ وَالْبَيْعُ فَاسِدٌ.وَالْغَرَرُ الْفَاحِشُ مِثْلُ: مَا إِذَا بَاعَ دَارًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا يَكْفِيهِ لِلنَّفَقَةِ طُولَ حَيَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَا تُدْرَى نَفَقَتُهُ وَلَا كَمْ يَعِيشُ.

وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: هَذِهِ الشُّرُوطُ الْمُحَرَّمَةُ أَوْ تِلْكَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ فَاحِشٍ، لَا تُؤَدِّي إِلَى إِفْسَادِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تُلْغَى، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ.أَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى إِفْسَادِ الْعَقْدِ فَهِيَ، اشْتِرَاطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، أَوْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ.مِثْلُ: مَا إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ عَقْدًا آخَرَ كَشَرْطٍ لِلْبَيْعِ، كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي هَذِهِ الْفَرَسَ.فَهَذَا اشْتِرَاطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، وَمِثْلُ: مَا إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَلَا يَبِيعَ الْمَبِيعَ، وَكَذَلِكَ إِنْ شَرَطَ أَنَّ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ لَا تَحْمِلُ، أَوْ تَضَعُ الْوَلَدَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ.فَهَذَا اشْتِرَاطٌ يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ.

إِفْسَادُ النِّكَاحِ:

11- إِفْسَادُ النِّكَاحِ بَعْدَ وُجُودِهِ صَحِيحًا لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْمَرْأَةِ فِي الصَّدَاقِ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ اتِّفَاقًا، أَمَّا قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا فِي نِصْفِ الْمَهْرِ، إِذَا وَقَعَ الْإِفْسَادُ مِنْ جِهَتِهِ، كَرِدَّتِهِ.

أَمَّا لَوْ وَقَعَ إِفْسَادُ النِّكَاحِ مِنْ جِهَتِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، لِتَسَبُّبِهَا فِي إِفْسَادِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ لِلْمَهْرِ.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نِكَاحٌ) (وَرَضَاعٌ).

أَثَرُ الْإِفْسَادِ فِي التَّوَارُثِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:

12- إِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِإِفْسَادِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ انْتَفَى التَّوَارُثُ عِنْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، أَمَّا مَا كَانَتِ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِطَلَاقٍ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِ التَّوَارُثُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَارًّا مِنْ تَوْرِيثِهَا.

إِفْسَادُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا:

13- يَحْرُمُ إِفْسَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ مَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا»

فَمَنْ أَفْسَدَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَيْ: أَغْرَاهَا بِطَلَبِ الطَّلَاقِ أَوِ التَّسَبُّبِ فِيهِ فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ.وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ وَزَجْرِهِ، حَتَّى قَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِتَأْبِيدِ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ الْمُخَبَّبَةِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَهَا عَلَى زَوْجِهَا مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ النَّاسُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِفْسَادِ الزَّوْجَاتِ.ر- (تَخْبِيبٌ).

الْإِفْسَادُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:

14- تَحْرُمُ الْوَقِيعَةُ وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الْإِبْقَاءُ عَلَى وَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ.

الثَّانِي: رِعَايَةُ حُرْمَتِهِمْ، لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَظَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتِكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ وَلِهَذَا كَانَ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ بَيْنٍ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» وَلِهَذَا نَهَى الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم- عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنِ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ، وَالتَّبَاغُضِ، وَالتَّحَاسُدِ، وَكُلِّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْوَقِيعَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ»

أَمَّا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَإِتْلَافِ النُّفُوسِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَعُقُوبَتُهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}.وَتَفْصِيلُهُ فِي حِرَابَةٌ.

كَمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِفْسَادِ، بِفِعْلِ الْمَعَاصِي، وَإِشَاعَةِ الْفَوَاحِشِ، وَفِعْلِ كُلِّ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


24-موسوعة الفقه الكويتية (ترك)

تَرْكٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّرْكُ لُغَةً: وَدْعُكَ الشَّيْءَ، وَيُقَالُ: تَرَكْتُ الشَّيْءَ: إِذَا خَلَّيْتَهُ، وَتَرَكْتُ الْمَنْزِلَ: إِذَا رَحَلْتَ عَنْهُ، وَتَرَكْتُ الرَّجُلَ: إِذَا فَارَقْتَهُ.ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْإِسْقَاطِ فِي الْمَعَانِي، فَقِيلَ: تَرَكَ حَقَّهُ: إِذَا أَسْقَطَهُ، وَتَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ: إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا، فَإِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِمَا ثَبَتَ شَرْعًا

وَالتَّرْكُ فِي اصْطِلَاحِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْإِيقَاعِ، فَهُوَ فِعْلٌ نَفْسِيٌّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِهْمَالُ:

2- الْإِهْمَالُ: التَّرْكُ عَنْ عَمْدٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَيُقَالُ: أَهْمَلَهُ إِهْمَالًا إِذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَيَأْتِي عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى التَّرْكِ.

ب- التَّخْلِيَةُ:

3- التَّخْلِيَةُ: التَّرْكُ وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي: تَمْكِينِ الشَّخْصِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ دُونَ حَائِلٍ.

فَالتَّرْكُ أَعَمُّ مِنَ التَّخْلِيَةِ.

ج- الْإِسْقَاطُ وَالْإِبْرَاءُ:

4- الْإِسْقَاطُ: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ أَوْ مُسْتَحِقٍّ.

وَالْإِبْرَاءُ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.

وَكِلَاهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْطِنِ التَّرْكِ إِلاَّ أَنَّ التَّرْكَ أَعَمُّ فِي اسْتِعْمَالَاتِهِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أَوَّلًا- التَّرْكُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:

أ- التَّرْكُ وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ:

5- اقْتِضَاءُ التَّرْكِ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.

وَاقْتِضَاءُ التَّرْكِ لِشَيْءٍ إِنْ كَانَ جَازِمًا فَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ فَهُوَ لِلْكَرَاهَةِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ فِي الْخِطَابِ فَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ.

وَانْظُرِ الْمُلْحَقَ الْأُصُولِيَّ.

ب- التَّرْكُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ:

6- يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِالتَّرْكِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ؛ إِذِ الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ الْمُقْتَضِي لِلتَّرْكِ هُوَ الْكَفُّ، أَيْ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْفِعْلِ إِذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِعْلٌ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ (لَا تَكْلِيفَ إِلاَّ بِفِعْلٍ) وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَمْرِ، وَفِي النَّهْيِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ مُقْتَضَاهُ وَهُوَ التَّرْكُ فِعْلٌ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ التَّرْكَ مِنْ مُقْتَضَى النَّهْيِ، وَالنَّهْيُ تَكْلِيفٌ، وَالتَّكْلِيفُ إِنَّمَا يَرِدُ بِمَا كَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ، وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَثَرٍ وُجُودِيٍّ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ، فَيُمْتَنَعُ إِسْنَادُهُ إِلَيْهَا.وَلِأَنَّ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ- أَيِ الْمُسْتَمِرَّ- حَاصِلٌ، وَالْحَاصِلُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ ثَانِيًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُقْتَضَى النَّهْيِ لَيْسَ هُوَ الْعَدَمَ ثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ.

كَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مُمْتَثِلَ التَّكْلِيفِ مُطِيعٌ وَالطَّاعَةُ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلثَّوَابِ، وَلَا يُثَابُ إِلاَّ عَلَى شَيْءٍ (وَأَلاَّ يَفْعَلَ) عَدَمٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ شَيْءٌ فَكَيْفَ يُثَابُ عَلَى لَا شَيْءَ؟.

وَقَالَ قَوْمٌ، مِنْهُمْ أَبُو هَاشِمٍ: إِنَّ التَّرْكَ غَيْرُ فِعْلٍ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ بِأَنْ لَا يَشَاءَ فِعْلَهُ الَّذِي يُوجَدُ بِمَشِيئَتِهِ.

وَانْظُرِ: الْمُلْحَقَ الْأُصُولِيَّ.

هَذَا، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ قَصْدُ التَّرْكِ امْتِثَالًا، بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّرْكِ.إِنَّمَا يُشْتَرَطُ قَصْدُ التَّرْكِ امْتِثَالًا لِحُصُولِ الثَّوَابِ.

لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».

وَفِي تَقْرِيرَاتِ الشِّرْبِينِيِّ عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ: فِي التَّكْلِيفِ بِالنَّهْيِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّرْكِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ، بَلْ مَدَارُهُ عَلَى إِقْبَالِ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ، ثُمَّ كَفِّهَا عَنْهُ.

الثَّانِي: الْمُكَلَّفُ بِهِ الْمُثَابُ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّرْكُ بِقَصْدِ الِامْتِثَالِ.

الثَّالِثُ: عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِهِ؛ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ.وَانْظُرِ الْمُلْحَقَ الْأُصُولِيَّ.

ج التَّرْكُ وَسِيلَةٌ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ:

7- قَدْ يَكُونُ التَّرْكُ وَسِيلَةً لِبَيَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: الْبَيَانُ إِمَّا بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ، أَوْ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، أَوْ بِالتَّرْكِ.

وَالتَّرْكُ يُبَيَّنُ بِهِ حُكْمُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَنْدُوبِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ثَانِيًا- التَّرْكُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

أ- تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ:

8- الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي نَهَى الشَّرْعُ عَنْهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، أَمْ كَانَتْ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ كَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ.هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ يَجِبُ تَرْكُهَا امْتِثَالًا لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ مِنَ الشَّرْعِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَشَهَادَةُ الزُّورِ».

يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَفُّ الْجَوَارِحِ عَنِ الْحَرَامِ، وَكَفُّ الْقَلْبِ عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ مَعْنَى قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} وَفِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ مَعْصِيَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعُقُوبَةُ الْمُقَرَّرَةُ لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَدًّا كَمَا فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، أَمْ كَانَتْ قِصَاصًا كَمَا فِي الْجِنَايَاتِ، أَمْ كَانَتْ تَعْزِيرًا كَمَا فِي الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا.

وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَرَّمَاتِ تُبَاحُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَقَدْ تَجِبُ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ إِحْيَاءً لِلنَّفْسِ، وَكَشُرْبِ الْخَمْرِ لِإِزَالَةِ الْغُصَّةِ، وَذَلِكَ بِالشُّرُوطِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْحَالَتَيْنِ.وَهَكَذَا

وَيُنْظَرُ كُلُّ مَا سَبَقَ فِي أَبْوَابِهِ.

ب- تَرْكُ الْحُقُوقِ:

الْحَقُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعِبَادِ.

9- أَمَّا حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَالْعِبَادَاتِ مَثَلًا، فَتَرْكُهَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَعْصِي تَارِكُهَا، وَيَكُونُ آثِمًا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْكُفْرُ إِنْ كَانَ تَرَكَهَا جَحْدًا لَهَا مَعَ كَوْنِهَا فَرْضًا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، أَوِ الْإِثْمُ وَالْعُقُوبَةُ إِنْ كَانَ تَرَكَهَا كَسَلًا.

يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا امْتَنَعَ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْوَاجِبِ، فَإِنْ لَمْ تَدْخُلِ النِّيَابَةُ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى نُظِرَ: إِنْ كَانَتْ صَلَاةً طُولِبَ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قُتِلَ، وَإِنْ كَانَ صَوْمًا حُبِسَ وَمُنِعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ...وَإِنْ دَخَلَتْهُ النِّيَابَةُ قَامَ الْقَاضِي مَقَامَهُ، كَمَا فِي عَضْلِ الْوَلِيِّ الْمُجْبَرِ فِي النِّكَاحِ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ.

وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْمَعِ عَلَيْهِ.أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ تَارِكُهُ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ فَهُوَ آثِمٌ.

وَكَذَلِكَ يَأْثَمُ الْمُسْلِمُ الْمُكَلَّفُ بِتَرْكِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَالْجَمَاعَةِ وَالْأَذَانِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ إِذْ فِي تَرْكِهَا تَهَاوُنٌ بِالشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَنْدُوبَاتِ؛ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ فُرَادَى.

هَذَا وَيُبَاحُ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِلضَّرُورَةِ؛ إِذِ الْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ دَفْعُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ.وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْمُسَامَحَةُ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْسَعَ مِنَ الْمُسَامَحَةِ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمِ، وَاعْتِنَاءُ الشَّرْعِ بِالْمَنْهِيَّاتِ فَوْقَ اعْتِنَائِهِ بِالْمَأْمُورَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».

10- وَالْحُدُودُ الَّتِي تَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ يَجِبُ إِقَامَتُهَا مَتَى بَلَغَتِ الْإِمَامَ.

قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْحَدُّ لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ.وَعَلَيْهِ بُنِيَ عَدَمُ جَوَازِ الشَّفَاعَةِ فِيهِ، فَإِنَّهَا طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَلِذَا «أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ- رضي الله عنهما- حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟...» وَلِأَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ بُلُوغِ الْإِمَامِ يَصِيرُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَرْكُهُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الشَّفَاعَةُ فِي إِسْقَاطِهِ.

11- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعْزِيرِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ إِقَامَتُهُ كَالْحُدُودِ، إِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إِلاَّ بِهِ، أَوْ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إِقَامَتِهِ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْإِمَامِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (حَدٌّ- تَعْزِيرٌ).

12- وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَهُ فَتَرْكُهُ جَائِزٌ، إِذِ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ تَرْكِ حَقِّهِ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّرْكُ مَنْدُوبًا إِذَا كَانَ قُرْبَةً، كَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ.

هَذَا إِذَا كَانَ الْحَقُّ قِبَلَ الْغَيْرِ، أَمَّا إِذَا كَانَ قِبَلَ نَفْسِهِ فَقَدْ يَكُونُ التَّرْكُ حَرَامًا كَمَا إِذَا تَرَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ، وَكَمَا إِذَا أُلْقِيَ فِي مَاءٍ يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ عَادَةً، فَمَكَثَ فِيهِ مُخْتَارًا حَتَّى هَلَكَ.

وَقِيلَ فِي التَّمَتُّعِ بِأَنْوَاعِ الطَّيِّبَاتِ: إِنَّ التَّرْكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ.قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وَقِيلَ: إِنَّ التَّرْكَ أَفْضَلُ لقوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}.

13- وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلْغَيْرِ، وَتَرَتَّبَ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ، وَأَصْبَحَ مُلْتَزِمًا بِهِ حِفْظًا أَوْ أَدَاءً، فَإِنَّ تَرْكَ الْحِفْظِ أَوِ الْأَدَاءِ يُعْتَبَرُ مَعْصِيَةً تَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، مَعَ الضَّمَانِ فِيمَا ضَاعَ أَوْ تَلِفَ.

وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَتَعَلَّقُ بِنَفْعِ الْغَيْرِ، لَكِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ بِهِ شَخْصٌ، وَكَانَ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ بِمَا يُحَقِّقُ النَّفْعَ ضَيَاعُ الْمَالِ أَوْ تَلَفُهُ، كَمَنْ تَرَكَ الْتِقَاطَ لُقَطَةٍ تَضِيعُ لَوْ تَرَكَهَا، أَوْ تَرَكَ قَبُولَ وَدِيعَةٍ تَضِيعُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْهَا، فَتَلِفَ الْمَالُ أَوْ ضَاعَ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِالتَّرْكِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِحُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ إِذِ الْأَخْذُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُمْ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي تَرَتُّبِ الضَّمَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ، هَلْ يُعَدُّ التَّرْكُ فِعْلًا يُكَلَّفُ الْإِنْسَانُ بِمُوجَبِهِ؛ إِذْ لَا تَكْلِيفَ إِلاَّ بِفِعْلٍ، أَمْ لَا يُعْتَبَرُ فِعْلًا؟.

فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا ضَمَانَ بِالتَّرْكِ عِنْدَ الضَّيَاعِ أَوِ التَّلَفِ؛ إِذْ التَّرْكُ فِي نَظَرِهِمْ لَيْسَ سَبَبًا وَلَا تَضْيِيعًا، بَلْ هُوَ امْتِنَاعٌ مِنْ حِفْظٍ غَيْرِ مُلْزِمٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ إِنَّمَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ أَوِ الْإِتْلَافِ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا الْتَقَطَ أَوْ قَبِلَ الْوَدِيعَةَ وَتَرَكَ الْحِفْظَ حَتَّى ضَاعَ الْمَالُ أَوْ تَلِفَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ حِينَئِذٍ لِتَرْكِهِ مَا الْتَزَمَ بِهِ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تَرَتُّبُ الضَّمَانِ عَلَى التَّرْكِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، بَلْ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُضَمِّنُونَ الصَّبِيَّ فِي تَرْكِ مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، فَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ عَلَى صَيْدٍ مَجْرُوحٍ لَمْ يَنْفُذْ مَقْتَلُهُ، وَأَمْكَنَتْهُ ذَكَاتُهُ، فَتَرَكَ تَذْكِيَتَهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَجْرُوحًا لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ؛ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ التَّرْكَ سَبَبًا فِي الضَّمَانِ، فَيَتَنَاوَلُ الْبَالِغَ وَغَيْرَهُ.

14- هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَرْكِ إِنْقَاذِ نَفْسٍ مِنَ الْهَلَاكِ، فَالْمُتَتَبِّعُ لِأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي حَالَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقُومَ شَخْصٌ بِعَمَلٍ ضَارٍ نَحْوَ شَخْصٍ آخَرَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى هَلَاكِهِ غَالِبًا، ثُمَّ يَتْرُكَ مَا يُمْكِنُ بِهِ إِنْقَاذُ هَذَا الشَّخْصِ فَيَهْلِكُ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَحْبِسَ غَيْرَهُ فِي مَكَانٍ، وَيَمْنَعَهُ الطَّعَامَ أَوِ الشَّرَابَ، فَيَمُوتَ جُوعًا وَعَطَشًا لِزَمَنٍ يَمُوتُ فِيهِ غَالِبًا، وَكَانَ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ.فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَكُونُ فِيهِ الْقَوَدُ لِظُهُورِ قَصْدِ الْإِهْلَاكِ بِذَلِكَ.

وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ- أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- يَكُونُ فِي ذَلِكَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.لِأَنَّ حَبْسَهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ فِي هَلَاكِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ حَصَلَ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ لَا بِالْحَبْسِ، وَلَا صُنْعَ لِأَحَدٍ فِي الْجُوعِ وَالْعَطَشِ.

فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ الطَّعَامَ أَوِ الشَّرَابَ، بِأَنْ كَانَ مَعَهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ خَوْفًا أَوْ حُزْنًا، أَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ الطَّلَبُ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَمَاتَ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ.

الْحَالُ الثَّانِيَةُ: مَنْ أَمْكَنَهُ إِنْقَاذُ إِنْسَانِ مِنَ الْهَلَاكِ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَنْ رَأَى إِنْسَانًا اشْتَدَّ جُوعُهُ.وَعَجَزَ عَنِ الطَّلَبِ، فَامْتَنَعَ مَنْ رَآهُ مِنْ إِعْطَائِهِ فَضْلَ طَعَامِهِ حَتَّى مَاتَ، أَوْ رَأَى إِنْسَانًا فِي مَهْلَكَةٍ فَلَمْ يُنْجِهِ مِنْهَا، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ- فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- عَدَا أَبِي الْخَطَّابِ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُ وَلَمْ يُحْدِثْ فِيهِ فِعْلًا مُهْلِكًا، لَكِنَّهُ يَأْثَمُ.وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمُضْطَرُّ لَمْ يَطْلُبِ الطَّعَامَ، أَمَّا إِذَا طَلَبَهُ فَمَنَعَهُ رَبُّ الطَّعَامِ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْهُ كَانَ سَبَبًا فِي هَلَاكِهِ، فَضَمِنَهُ بِفِعْلِهِ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْجِهِ مِنَ الْهَلَاكِ مَعَ إِمْكَانِهِ.

هَذَا وَيُلَاحَظُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ قِتَالُ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ فَضْلَ طَعَامِهِ، فَإِنْ قُتِلَ رَبُّ الطَّعَامِ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ الْمُضْطَرُّ فَفِيهِ الْقِصَاصُ؛ لِقَضَاءِ عُمَرَ- رضي الله عنه- بِذَلِكَ.

عُقُوبَةُ تَرْكِ الْوَاجِبِ:

15- يَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ: التَّعْزِيرُ يَكُونُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَرْكُ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ: مِثْلُ الْوَدَائِعِ وَأَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَغَلاَّتِ الْوُقُوفِ وَمَا تَحْتَ أَيْدِي الْوُكَلَاءِ وَالْمُقَارِضِينَ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ رَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمَظَالِمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ أَبَاهُ وَلَوْ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ.

وَيَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا امْتَنَعَ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْوَاجِبِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حُبِسَ حَتَّى يَفْعَلَهُ.كَمَا إِذَا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ حَبْسِهِ وَبَيْنَ النِّيَابَةِ عَنْهُ فِي التَّسْلِيمِ، كَالْمُقِرِّ بِمُبْهَمٍ يُحْبَسُ حَتَّى يُبَيِّنَ.وَإِنْ كَانَتْ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ قَامَ الْقَاضِي مَقَامَهُ.

النِّيَّةُ فِي التَّرْكِ:

16- تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ النَّهْيِ.وَأَمَّا لِحُصُولِ الثَّوَابِ، بِأَنْ كَانَ التَّرْكُ كَفًّا- وَهُوَ: أَنْ تَدْعُوهُ النَّفْسُ إِلَيْهِ قَادِرًا عَلَى فِعْلِهِ، فَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ رَبِّهِ- فَهُوَ مُثَابٌ، وَإِلاَّ فَلَا ثَوَابَ عَلَى تَرْكِهِ، فَلَا يُثَابُ الْعِنِّينُ عَلَى تَرْكِ الزِّنَا، وَلَا الْأَعْمَى عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ.

آثَارُ التَّرْكِ:

17- تَتَعَدَّدُ آثَارُ التَّرْكِ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِ، وَبِاخْتِلَافِ مَا إِذَا كَانَ التَّرْكُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ جَهْلًا وَهَكَذَا.وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ آثَارِ التَّرْكِ.

أ- يَسْقُطُ الْحَقُّ فِي الشُّفْعَةِ بِتَرْكِ طَلَبِهَا بِلَا عُذْرٍ.وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا هَذَا الْحَقُّ. (ر: شُفْعَةٌ).

ب- لَا تُؤْكَلُ الذَّبِيحَةُ إِذَا تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا إِنْ تَرَكَ نِسْيَانًا فَتُؤْكَلُ اتِّفَاقًا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ يُنْظَرُ (ذَبَائِحُ- أُضْحِيَّةٌ).

وَالْأَجِيرُ إِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا ضَمِنَ قِيمَةَ الذَّبِيحَةِ.

ج- تَرْكُ الْقِيَامِ بِالدَّعْوَى بِلَا عُذْرٍ، وَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ يَمْنَعُ سَمَاعَهَا، وَهَذَا عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ سُلْطَانِيٍّ، وَكَمَا لَا تُسْمَعُ فِي حَيَاةِ الْمُدَّعِي لِلتَّرْكِ لَا تُسْمَعُ مِنَ الْوَرَثَةِ.

وَإِذَا تَرَكَ الْمُوَرِّثُ الدَّعْوَى مُدَّةً وَتَرَكَهَا الْوَارِثُ مُدَّةً، وَبَلَغَ مَجْمُوعُ الْمُدَّتَيْنِ حَدَّ مُرُورِ الزَّمَانِ فَلَا تُسْمَعُ. (ر: دَعْوَى).

د- يَلْزَمُ الْحِنْثُ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ. (ر: أَيْمَانٌ).

هـ- تَرْكُ الْعِبَادَاتِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهَا يَسْتَلْزِمُ الْجُبْرَانَ.وَالْمَتْرُوكَاتُ مِنْهَا مَا يُجْبَرُ بِالْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ كَسُجُودِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْقَضَاءِ أَوِ الْإِعَادَةِ لِمَنْ تَرَكَ فَرْضًا.

وَمِنْهَا مَا يُجْبَرُ بِالْمَالِ كَجَبْرِ الصَّوْمِ بِالْإِطْعَامِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْعَاجِزِ، وَالدَّمُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.

هَذَا وَقَدْ وَرَدَ فِي ثَنَايَا الْبَحْثِ آثَارُ التَّرْكِ، كَتَرَتُّبِ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ فِي تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ عَدَمِ تَرْكِ مُحَرَّمٍ، وَكَالضَّمَانِ فِي التَّلَفِ بِالتَّرْكِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


25-موسوعة الفقه الكويتية (تفسير)

تَفْسِيرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّفْسِيرُ فِي اللُّغَةِ: الْكَشْفُ وَالْإِظْهَارُ وَالتَّوْضِيحُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَغَلَبَ عَلَى تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ، كَمَا قَالَ الْجُرْجَانِيِّ: تَوْضِيحُ مَعْنَى الْآيَةِ، وَشَأْنِهَا، وَقِصَّتِهَا، وَالسَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّأْوِيلُ:

2- التَّأْوِيلُ مَصْدَرُ أَوَّلَ.يُقَالُ: أَوَّلَ الْكَلَامَ تَأْوِيلًا: دَبَّرَهُ وَقَدَّرَهُ وَفَسَّرَهُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنَى يَحْتَمِلُهُ إِذَا كَانَ الْمُحْتَمَلُ الَّذِي يَرَاهُ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِثْلُ قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} إِنْ أَرَادَ بِهِ إِخْرَاجَ الطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ كَانَ تَفْسِيرًا، وَإِنْ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ، أَوِ الْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ كَانَ تَأْوِيلًا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ أَنَّ التَّفْسِيرَ أَعَمُّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ التَّفْسِيرِ فِي الْأَلْفَاظِ وَمُفْرَدَاتِهَا، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعَانِي وَالْجُمَلِ.وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ التَّأْوِيلُ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ.أَمَّا التَّفْسِيرُ فَيُسْتَعْمَلُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا.

وَقَالَ قَوْمٌ: مَا وَقَعَ مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَمُعَيَّنًا فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ سُمِّيَ تَفْسِيرًا، لِأَنَّ مَعْنَاهُ قَدْ ظَهَرَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ بِاجْتِهَادٍ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَرَدَ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَالتَّأْوِيلُ مَا اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ الْعَالِمُونَ بِمَعَانِي الْخِطَابِ، الْمَاهِرُونَ بِآلَاتِ الْعُلُومِ.

قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: التَّفْسِيرُ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّفْظِ هُوَ هَذَا، وَالشَّهَادَةُ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ عَنَى بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فَصَحِيحٌ، وَإِلاَّ فَتَفْسِيرٌ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ.وَالتَّأْوِيلُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ بِدُونِ الْقَطْعِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ ب- الْبَيَانُ:

3- الْبَيَانُ: إِظْهَارُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُرَادَ لِلسَّامِعِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّفْسِيرِ، لِشُمُولِهِ- عَدَا بَيَانَ التَّفْسِيرِ- كُلًّا مِنْ بَيَانِ التَّغْيِيرِ، وَبَيَانِ التَّقْرِيرِ، وَبَيَانِ الضَّرُورَةِ، وَبَيَانِ التَّبْدِيلِ.حُكْمُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ:

4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمَعْنَى اللُّغَةِ، لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَأَجَلُّ الْعُلُومِ الثَّلَاثَةِ الشَّرْعِيَّةِ (أَيْ: التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ) وَقَالَ: - نَقْلًا عَنِ الْأَصْفَهَانِيِّ- أَشْرَفُ صِنَاعَةٍ يَتَعَاطَاهَا الْإِنْسَانُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ.

كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى حَظْرِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ لُغَةٍ وَلَا نَقْلٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} إِلَى قَوْلِهِ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّفْسِيرُ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ لُغَةٍ، وَلَا نَقْلٍ.

أَقْسَامُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ:

5- قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أ- مَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَحَجَبَ عِلْمَهُ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَمِنْهُ أَوْقَاتُ وُقُوعِ الْأُمُورِ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهَا كَائِنَةٌ، مِثْلُ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَوَقْتِ نُزُولِ عِيسَى، وَوَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا الْقِسْمُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ بِالتَّأْوِيلِ.

ب- مَا خَصَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ دُونَ سَائِرِ أُمَّتِهِ، وَيَحْتَاجُ الْعِبَادُ إِلَى تَفْسِيرِهِ لِأُمُورِ دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ، فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ أَيْضًا إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيَانِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- لَهُمْ تَأْوِيلَهُ.

ج- مَا كَانَ عِلْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ عِلْمُ تَأْوِيلِ عَرَبِيَّتِهِ وَإِعْرَابِهِ، فَلَا يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمْ.

طُرُقُ التَّفْسِيرِ:

6- قَالَ السُّيُوطِيُّ:

قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ طَلَبَهُ أَوَّلًا مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، فَمَا أُجْمِلَ مِنْهُ فِي مَكَانٍ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اخْتُصِرَ فِي مَكَانٍ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ.فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ طَلَبَهُ مِنَ السُّنَّةِ، فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَمُبَيِّنَةٌ لَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رضي الله عنه-: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ.

لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}.

وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «أَلَا إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ».

وَقَالُوا: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُوَضِّحُ الْمَعْنَى، يُرْجَعُ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ عِنْدَ نُزُولِهِ، وَلِمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنَ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ عُلُومِ الْحَدِيثِ: إِنَّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ، فَأَخْبَرَ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ.

وَقَالَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَى تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَحَضَرُوا التَّأْوِيلَ.فَتَفْسِيرُهُ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ.وَإِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَهُوَ تَوْقِيفٌ.

وَقَالَ الْقَاضِي، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ لَزِمَ قَبُولُ تَفْسِيرِهِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ نَقْلَ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ صَيَّرَ إِلَيْهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ اجْتِهَادًا أَوْ قِيَاسًا عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَلْزَمْ قَبُولُ تَفْسِيرِهِ.

7- أَمَّا تَفْسِيرُ التَّابِعِيِّ فَلَا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ حُجَّةً بِالِاتِّفَاقِ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ التَّابِعِيِّ فِي التَّفْسِيرِ، وَغَيْرِهِ.

وَنَقَلَ أَبُو دَاوُدَ: إِذَا جَاءَ عَنِ الرَّجُلِ مِنَ التَّابِعِينَ لَا يُوجَدُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- نَقْلٌ لَا يَلْزَمُ الْأَخْذُ بِهِ.وَقَالَ الْمَرْوِيُّ: يُنْظَرُ مَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يُؤْخَذُ وُجُوبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنِ التَّابِعِينَ، وَقَالَ الْقَاضِي: يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ، وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَى ذَلِكَ.

وَالْمَسْأَلَةُ أُصُولِيَّةٌ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ:

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَقَالُوا: لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ.قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ.فَإِنْ قِيلَ: الْعَرَبُ إِنَّمَا تَفْهَمُ مِنْ قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وَ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الْجِهَةَ، وَالِاسْتِقْرَارَ.وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ.قُلْنَا هَيْهَاتَ، فَإِنَّ هَذِهِ كِنَايَاتٌ، وَاسْتِعَارَاتٌ يَفْهَمُهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ الْمُصَدِّقُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ تَأْوِيلَاتٌ تُنَاسِبُ تَفَاهُمَ الْعَرَبِ.

وَهُنَاكَ مَنْ يَرَى إِثْبَاتَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا، مَعَ الْتِزَامِ التَّنْزِيهِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي عِلْمِ الْعَقِيدَةِ.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَفِي حَثِّ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي آيِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ، وَالْبَيَانَاتِ فِي قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ} وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَحَثَّهُمْ فِيهَا عَلَى الِاعْتِبَارِ بِأَمْثَالِ آيِ الْقُرْآنِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةَ تَأْوِيلِ مَا لَمْ يُحْجَبْ عَنْهُمْ تَأْوِيلُهُ مِنْ آيِهِ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُقَالَ- لِمَنْ لَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ، وَلَا يَعْقِلُ تَأْوِيلَهُ-: اعْتَبِرْ بِمَا لَا فَهْمَ لَكَ بِهِ، وَلَا مَعْرِفَةَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْبَيَانِ وَالْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ بِأَنْ يَفْهَمَهُ، وَيَفْقَهَهُ ثُمَّ يَتَدَبَّرَهُ، وَيَعْتَبِرَ بِهِ.فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَمُسْتَحِيلٌ أَمْرُهُ بِتَدَبُّرِهِ وَهُوَ جَاهِلٌ عَنْ مَعْنَاهُ.

ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَقَدْ فَسَدَ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَ تَفْسِيرَ الْمُفَسِّرِينَ فِي كُتُبِ اللَّهِ، مَا لَمْ يَحْجُبِ اللَّهُ تَأْوِيلَهُ عَنْ خَلْقِهِ.وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْهُ لَا إِلَى جَمِيعِهِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ التَّفْسِيرُ لَمْ تَكُنِ الْحُجَّةُ بَالِغَةً.فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، جَازَ لِمَنْ عَرَفَ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَأَسْبَابَ النُّزُولِ أَنْ يُفَسِّرَهُ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوهَ اللُّغَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَسِّرَهُ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا سَمِعَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ، وَلَوْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ كَذَا- وَهُوَ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا، فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِلُغَاتِ الْعَرَبِ.

شُرُوطُ الْمُفَسِّرِ لِلْقُرْآنِ، وَآدَابُهُ:

9- يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهَا، فَبِالْعِلْمِ بِهَا يُعْرَفُ شَرْحُ مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَمَدْلُولَاتِهَا حَسَبَ الْوَضْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ.

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ: (لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِلُغَاتِ الْعَرَبِ).

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّحْوِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّرُ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ، وَبِالصَّرْفِ لِأَنَّ بِهِ يَعْرِفُ أَبْنِيَةَ الْكَلِمَاتِ وَاشْتِقَاقَاتِهَا، لِأَنَّ الِاسْمَ إِذَا كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ مَادَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ بِاخْتِلَافِهَا.

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ عُلُومَ الْبَلَاغَةِ: الْمَعَانِيَ، وَالْبَيَانَ، وَالْبَدِيعَ، لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْعُلُومِ يَعْرِفُ خَوَاصَّ تَرَاكِيبِ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ إِفَادَتِهَا الْمَعْنَى، وَخَوَاصَّهَا مِنْ حَيْثُ اخْتِلَافُهَا، حَسَبَ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ، وَخَفَائِهَا، وَتَحْسِينِ الْكَلَامِ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأُصُولِ الْفِقْهِ، إِذْ بِهِ يَعْرِفُ وُجُوهَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَطُرُقَ الِاسْتِنْبَاطِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَسْبَابَ النُّزُولِ، إِذْ بِهِ يَعْرِفُ مَعْنَى الْآيَةِ الْمُنَزَّلَةِ فِيهِ بِحَسَبِ مَا أُنْزِلَتْ.

وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَعْرِفَ النَّاسِخَ، وَالْمَنْسُوخَ لِيَعْلَمَ الْمُحْكَمَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْأَحَادِيثَ الْمُبَيِّنَةَ لِتَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ، وَالْمُبْهَمِ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُفَسِّرِ صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ، وَلُزُومُ السُّنَّةِ، وَأَلاَّ يُتَّهَمَ بِإِلْحَادٍ، وَلَا هَوًى، لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الدُّنْيَا مَنْ كَانَ مَغْمُوصًا فِي دِينِهِ فَكَيْفَ يُؤْتَمَنُ عَلَى الدِّينِ، ثُمَّ هُوَ لَا يُؤْتَمَنُ فِي الدِّينِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عَالِمٍ، فَكَيْفَ يُؤْتَمَنُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَسْرَارِ اللَّهِ؟ وَكَذَلِكَ لَا يُؤْتَمَنُ إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِإِلْحَادٍ أَنْ يَبْغِيَ الْفِتْنَةَ وَيَغُرَّ النَّاسَ بِلَيِّهِ، وَخِدَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِهَوَى لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَحْمِلَهُ هَوَاهُ عَلَى مَا يُوَافِقُ بِدْعَتَهُ

وَعَدَّ السُّيُوطِيُّ عِلْمَ الْمَوْهِبَةِ قَالَ: وَهُوَ عِلْمٌ يُورِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِحَدِيثِ: «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ».

10- وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ عَنْ أَبِي طَالِبٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِمَادُ الْمُفَسِّرِ عَلَى النَّقْلِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ عَاصَرَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَنْ يَتَجَنَّبَ الْمُحْدَثَاتِ- أَيِ الْأَقْوَالَ الْمُبْتَدَعَةَ- وَإِذَا تَعَارَضَتْ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا فَعَلَ.وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا رَدَّ الْأَمْرَ إِلَى مَا ثَبَتَ فِيهِ السَّمْعُ.فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَمْعًا، وَكَانَ لِلِاسْتِدْلَالِ طَرِيقٌ إِلَى تَقْوِيَةِ أَحَدِهِمَا رَجَّحَ مَا قَوِيَ الِاسْتِدْلَالِ فِيهِ، إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ صَحِيحِهِ مِنْ ضَعِيفِهِ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ أَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَا نَقْلَ فِيهِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَفْسِيرِهِ.

وَعَامَّةُ هَذَا النَّوْعِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ كَلَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَاسْمِهِ، وَالْبَعْضُ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْمَيِّتُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَاسْمُ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ صَاحِبُ مُوسَى- عليه السلام-، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَشْغَلَ أَنْفُسَنَا بِذَلِكَ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفَسِّرُ سَلِيمَ الْمَقْصِدِ فِيمَا يَقُولُ، لِيَلْقَى التَّسْدِيدَ مِنَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَحَمْلُهُ لَهَا:

11- يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَحَمْلُهَا وَالْمُطَالَعَةُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، قَالُوا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّفْسِيرِ: مَعَانِي الْقُرْآنِ، لَا تِلَاوَتُهُ، فَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْقُرْآنِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْجَوَازَ مَشْرُوطٌ فِيهِ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ مِنَ الْقُرْآنِ لِعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِتَعْظِيمِهِ حِينَئِذٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُصْحَفِ.وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، فَأَوْجَبُوا الْوُضُوءَ لِمَسِّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَفٌ، وَحَدَثٌ).

قَطْعُ سَارِقِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَطْعِ سَارِقِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهَا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُ الْقَطْعِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الْقَطْعِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ).

تَفْسِيرُ الْمُقِرِّ مَا أَبْهَمَهُ فِي الْإِقْرَارِ:

13- إِذَا قَالَ ابْتِدَاءً أَوْ جَوَابًا عَنْ دَعْوَى صَحِيحَةٍ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، صَحَّ الْإِقْرَارُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْمُبْهَمِ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا يُتَمَوَّلُ قُبِلَ تَفْسِيرُهُ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ.

وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَا يُتَمَوَّلُ وَلَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَمَوَّلُ، كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ يُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّهُ شَيْءٌ يَحْرُمُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَيَجِبُ رَدُّهُ عَلَى آخِذِهِ.

وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يُفَسَّرَ بِذِي قِيمَةٍ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَمَوَّلُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ لِمَنْفَعَتِهِ كَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ أَوِ الْقَابِلِ لِلتَّعْلِيمِ، وَالسِّرْجِينِ، فَيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، كَخَمْرِ غَيْرِ الذِّمِّيِّ، أَوْ كَكَلْبٍ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، فَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِهِ.وَإِنْ فَسَّرَهُ بِوَدِيعَةٍ، أَوْ بِحَقِّ الشُّفْعَةِ قُبِلَ.

وَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَ، لِأَنَّ التَّفْسِيرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ بِامْتِنَاعِهِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا أَقَرَّ بِهِ مُجْمَلًا- كَمَنِ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ.

وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يُحْبَسُ، فَإِنْ وَقَعَ الْإِقْرَارُ الْمُبْهَمُ فِي جَوَابِ دَعْوَى، وَامْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ جُعِلَ مُنْكِرًا، وَيُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَصَرَّ وَلَمْ يَحْلِفْ جُعِلَ نَاكِلًا، وَحَلَفَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءً بِلَا سَبْقِ دَعْوَى ادَّعَى عَلَيْهِ الْمُقِرُّ لَهُ بِالْحَقِّ، وَقَالُوا: حَيْثُ أَمْكَنَ حُصُولُ الْغَرَضِ فَلَا يُحْبَسُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


26-موسوعة الفقه الكويتية (حسبة 3)

حِسْبَةٌ -3

أَقْسَامُ الْمَعْرُوفِ:

23- يَنْقَسِمُ الْمَعْرُوفُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.وَالثَّالِثُ: مَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا.

وَمَعْنَى حَقِّ اللَّهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، وَحَقِّ الْعَبْدِ مَصَالِحُهُ.لِأَنَّ التَّكَالِيفَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ كَالْإِيمَانِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ، وَقِسْمٌ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَقَطْ كَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ، وَقِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ أَوْ حَقُّ الْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا كَانَ حَقًّا مَحْضًا لِلْعَبْدِ وَبَيْنَ حَقِّ اللَّهِ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ الْمَحْضَ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، وَإِلاَّ فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيُوجَدُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقِّ الْعَبْدِ، وَلَا يُوجَدُ حَقُّ الْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْإِسْقَاطِ، فَكُلُّ مَا لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ خُصُومٌ فِي إِثْبَاتِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى نِيَابَةً عَنْهُ تَعَالَى لِكَوْنِهِمْ عَبِيدَهُ، أَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَنْتَصِبُ أَحَدٌ خَصْمًا عَنْ أَحَدٍ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ انْتِصَابَهُ خَصْمًا.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَرْبَانِ:

24- أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:

الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَتَلْزَمُ فِي وَطَنٍ مَسْكُونٍ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدِ اتُّفِقَ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ كَالْأَرْبَعِينَ فَمَا زَادَ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَأْخُذَهُمُ الْمُحْتَسِبُ بِإِقَامَتِهَا، وَيَأْمُرَهُمْ بِفِعْلِهَا وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدِ اخْتُلِفَ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ فَلَهُ فِيهِمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:

إِحْدَاهَا: أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُ الْمُحْتَسِبِ وَرَأْيِ الْقَوْمِ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ الْعَدَدِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُسَارِعُوا إِلَى أَمْرِهِ بِهَا، وَيَكُونُ فِي تَأْدِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِهَا أَلْيَنَ مِنْهُ فِي تَأْدِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا وَهُوَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا لَوْ أُقِيمَتْ أَحَقُّ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرَى الْقَوْمُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ وَلَا يَرَاهُ الْمُحْتَسِبُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَارِضَهُمْ فِيهَا، وَلَا يَأْمُرَ بِإِقَامَتِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا وَيَمْنَعَهُمْ مِمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ.

الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرَى الْمُحْتَسِبُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ وَلَا يَرَاهُ الْقَوْمُ، فَهَذَا مِمَّا فِي اسْتِمْرَارِ تَرْكِهِ تَعْطِيلُ الْجُمُعَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَزِيَادَتِهِ، فَهَلْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ لِئَلاَّ يَنْشَأَ الصَّغِيرُ عَلَى تَرْكِهَا، فَيَظُنَّ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا تَسْقُطُ بِنُقْصَانِهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْرِهِمْ بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَلَا يَقُودُهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَهُمْ فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِ مَعَ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ يَمْنَعُ مِنْ إِجْزَاءِ الْجُمُعَةِ.

الْمِثَالُ الثَّانِي: صَلَاةُ الْعِيدِ وَهَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا مِنَ الْحُقُوقِ اللاَّزِمَةِ، أَوْ مِنَ الْحُقُوقِ الْجَائِزَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَسْنُونَةٌ قَالَ: يُنْدَبُ الْأَمْرُ بِهَا، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ قَالَ: الْأَمْرُ بِهَا يَكُونُ حَتْمًا.

الْمِثَالُ الثَّالِثُ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ:

صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِقَامَةُ الْأَذَانِ فِيهَا لِلصَّلَوَاتِ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَامَاتِ مُتَعَبَّدَاتِهِ الَّتِي فَرَّقَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الشِّرْكِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ مَحَلَّةٍ أَوْ بَلَدٍ عَلَى تَعْطِيلِ الْجَمَاعَاتِ فِي مَسَاجِدِهِمْ، وَتَرْكِ الْأَذَانِ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ، كَانَ الْمُحْتَسِبُ مَنْدُوبًا إِلَى أَمْرِهِمْ بِالْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي اتِّفَاقِ أَهْلِ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهَلْ يَلْزَمُ السُّلْطَانَ مُحَارَبَتُهُمْ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟

فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مِنْ آحَادِ النَّاسِ أَوْ تَرَكَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لِصَلَاتِهِ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَجْعَلْهُ عَادَةً وَإِلْفًا، لِأَنَّهَا مِنَ النَّدْبِ الَّذِي يَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ، إِلاَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ اسْتِرَابَةٌ، أَوْ يَجْعَلَهُ إِلْفًا وَعَادَةً وَيَخَافُ تَعَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَيُرَاعِي حُكْمَ الْمَصْلَحَةِ بِهِ فِي زَجْرِهِ عَمَّا اسْتَهَانَ بِهِ مِنْ سُنَنِ عِبَادَتِهِ، وَيَكُونُ وَعِيدُهُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ، كَاَلَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَانِي أَنْ يَسْتَعِدُّوا إِلَيَّ بِحُزَمٍ مِنْ حَطَبٍ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ تُحَرَّقُ بُيُوتٌ عَلَى مَنْ فِيهَا».

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَأْمُرُ بِهِ آحَادَ النَّاسِ وَأَفْرَادَهُمْ كَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، فَيُذَكِّرُ بِهَا وَيَأْمُرُ بِفِعْلِهَا، وَيُرَاعِي جَوَابَهُ عَنْهَا، فَإِنْ قَالَ: تَرَكْتُهَا لِنِسْيَانٍ، حَثَّهُ عَلَى فِعْلِهَا بَعْدَ ذِكْرِهِ وَلَمْ يُؤَدِّبْهُ، وَإِنْ تَرَكَهَا لِتَوَانٍ أَدَّبَهُ زَجْرًا وَأَخَذَهُ بِفِعْلِهَا جَبْرًا، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى مَنْ أَخَّرَهَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي فَضْلِ التَّأْخِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ، وَلَكِنْ لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ عَلَى تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْجَمَاعَاتِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَالْمُحْتَسِبُ يَرَى فَضْلَ تَعْجِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ لَا؟

مَنْ رَأَى أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ رَاعَى أَنَّ اعْتِيَادَ تَأْخِيرِهَا وَإِطْبَاقَ جَمِيعِ النَّاسِ عَلَيْهِ مُفْضٍ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَنْشَأُ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْوَقْتُ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَلَوْ عَجَّلَهَا بَعْضُهُمْ تَرَكَ الْمُحْتَسِبُ مَنْ أَخَّرَهَا مِنْهُمْ وَمَا يَرَاهُ مِنَ التَّأْخِيرِ.

فَأَمَّا الْأَذَانُ وَالْقُنُوتُ فِي الصَّلَوَاتِ إِذَا خَالَفَ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ، فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَإِنْ كَانَ يَرَى خِلَافَهُ، إِذَا كَانَ مَا يُفْعَلُ مُسَوَّغًا فِي الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ إِذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ يُخَالِفُ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ مِنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ، وَالْوُضُوءِ بِمَاءٍ تَغَيَّرَ بِالْمَذْرُورَاتِ الطَّاهِرَاتِ، أَوِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَسْحِ أَقَلِّ الرَّأْسِ، وَالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ.

الْقِسْمُ الثَّانِي مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ:

25- الْمَعْرُوفُ الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ضَرْبَانِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ.

فَأَمَّا الْعَامُّ فَكَالْبَلَدِ إِذَا تَعَطَّلَ شِرْبُهُ، أَوِ اسْتُهْدِمَ سُورُهُ، أَوْ كَانَ يَطْرُقُهُ بَنُو السَّبِيلِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ فَكَفُّوا عَنْ مَعُونَتِهِمْ، نَظَرَ الْمُحْتَسِبُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِبُ، لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ مَصْرُوفٌ إِلَى سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِمْ فِيهِ ضَرَرٌ أَمَرَ بِإِصْلَاحِ شِرْبِهِمْ، وَبِنَاءِ سُورِهِمْ وَبِمَعُونَةِ بَنِي السَّبِيلِ فِي الِاجْتِيَازِ بِهِمْ، لِأَنَّهَا حُقُوقٌ تَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ دُونَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتُهْدِمَتْ مَسَاجِدُهُمْ وَجَوَامِعُهُمْ، فَأَمَّا إِذَا أُعْوِزَ بَيْتُ الْمَالِ كَانَ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ سُورِهِمْ، وَإِصْلَاحِ شِرْبِهِمْ، وَعِمَارَةِ مَسَاجِدِهِمْ وَجَوَامِعِهِمْ، وَمُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ فِيهِمْ مُتَوَجِّهًا إِلَى كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمْ فِي الْأَمْرِ بِهِ، فَإِنْ شَرَعَ ذَوُو الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِمْ وَفِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ، وَبَاشَرُوا الْقِيَامَ بِهِ، سَقَطَ عَنِ الْمُحْتَسِبِ حَقُّ الْأَمْرِ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِئْذَانُ فِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ، وَلَا فِي بِنَاءِ مَا كَانَ مَهْدُومًا، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادُوا هَدْمَ مَا يُرِيدُونَ بِنَاءَهُ مِنَ الْمُسْتَرَمِّ وَالْمُسْتَهْدَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى هَدْمِهِ إِلاَّ بِاسْتِئْذَانِ وَلِيِّ الْأَمْرِ دُونَ الْمُحْتَسِبِ، لِيَأْذَنَ لَهُمْ فِي هَدْمِهِ بَعْدَ تَضْمِينِهِمُ الْقِيَامَ بِعِمَارَتِهِ، هَذَا فِي السُّورِ وَالْجَوَامِعِ، وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الْمُخْتَصَرَةُ فَلَا يَسْتَأْذِنُونَ فِيهَا.

وَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِبِنَاءِ مَا هَدَمُوهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِإِتْمَامِ مَا اسْتَأْنَفُوهُ.فَأَمَّا إِذَا كَفَّ ذَوُو الْمُكْنَةِ عَنْ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ وَعِمَارَةِ مَا اسْتَرَمَّ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَامُ فِي الْبَلَدِ مُمْكِنًا وَكَانَ الشِّرْبُ، وَإِنْ فَسَدَ أَوْ قَلَّ مُقْنِعًا تَرَكَهُمْ وَإِيَّاهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمُقَامُ فِيهِ لِتَعَطُّلِ شِرْبِهِ وَانْدِحَاضِ سُورِهِ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا يَضُرُّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ تَعْطِيلُهُ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُفْسِحَ فِي الِانْتِقَالِ عَنْهُ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النَّوَازِلِ إِذَا حَدَثَتْ فِي قِيَامِ كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ بِهِ، وَكَانَ تَأْثِيرُ الْمُحْتَسِبِ فِي مِثْلِ هَذَا إِعْلَامُ السُّلْطَانِ وَتَرْغِيبُ أَهْلِ الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَلَدُ ثَغْرًا مُضِرًّا بِدَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ أَمْرُهُ أَيْسَر وَحُكْمُهُ أَخَفَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَهْلَهُ جَبْرًا بِعِمَارَتِهِ، لِأَنَّ السُّلْطَانَ أَحَقُّ أَنْ يَقُومَ بِعِمَارَتِهِ، وَإِنْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ فَيَقُولُ لَهُمُ الْمُحْتَسِبُ مَا دَامَ عَجَزَ السُّلْطَانُ عَنْهُ: أَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الِانْتِقَالِ عَنْهُ أَوِ الْتِزَامِ مَا يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعَهَا دَوَامُ اسْتِيطَانِهِ.فَإِنْ أَجَابُوا إِلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ كَلَّفَ جَمَاعَتَهُمْ مَا تَسْمَحُ بِهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ وَيَقُولُ: لِيُخْرِجْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ وَتَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ، وَمَنْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ أَعَانَ بِالْعَمَلِ حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَتْ كِفَايَةُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ تَعَيَّنَ اجْتِمَاعُهَا بِضَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُكْنَةِ قَدْرًا طَابَ بِهِ نَفْسًا، شَرَعَ الْمُحْتَسِبُ حِينَئِذٍ فِي عَمَلِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ، وَإِنْ عَمَّتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِالْقِيَامِ بِهَا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ السُّلْطَانَ فِيهَا، لِئَلاَّ يَصِيرَ بِالتَّفَرُّدِ مُفْتَاتًا عَلَيْهِ، إِذْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ مِنْ مَعْهُودِ حِسْبَتِهِ، وَإِنْ قَلَّتْ وَشَقَّ اسْتِئْذَانُ السُّلْطَانِ فِيهَا أَوْ خِيفَ زِيَادَةُ الضَّرَرِ لِبُعْدِ اسْتِئْذَانِهِ جَازَ شُرُوعُهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ.

وَأَمَّا الْخَاصُّ فَكَالْحُقُوقِ إِذَا مُطِلَتْ، وَالدُّيُونِ إِذَا أُخِّرَتْ، فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا مَعَ الْمُكْنَةِ إِذَا اسْتَعْدَاهُ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْحُبْسَ حُكْمٌ وَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلَازِمَ وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ لِافْتِقَارِ ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ فَرَضَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَدَائِهَا، وَكَذَلِكَ كَفَالَةُ مَنْ تَجِبُ كَفَالَتُهُ مِنَ الصِّغَارِ لَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهَا حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ، وَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْقِيَامِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِيهَا.فَأَمَّا قَبُولُ الْوَصَايَا وَالْوَدَائِعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا أَعْيَانَ النَّاسِ وَآحَادَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ حَثًّا عَلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ تَكُونُ أَوَامِرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. 26- الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَأَخْذِ الْأَوْلِيَاءِ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى مِنْ أَكْفَائِهِنَّ إِذَا طَلَبْنَ، وَإِلْزَامِ النِّسَاءِ أَحْكَامَ الْعِدَدِ إِذَا فُورِقْنَ، وَلَهُ تَأْدِيبُ مَنْ خَالَفَ فِي الْعِدَّةِ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْدِيبُ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَنْ نَفَى وَلَدًا قَدْ ثَبَتَ فِرَاشُ أُمِّهِ وَلُحُوقُ نَسَبِهِ أَخَذَهُ بِأَحْكَامِ الْآبَاءِ أَوْ عَزَّرَهُ عَلَى النَّفْيِ أَدَبًا، وَيَأْخُذُ أَرْبَابَ الْبَهَائِمِ بِعَلَفِهَا إِذَا قَصَّرُوا فِيهَا، وَأَلاَّ يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ، وَمَنْ أَخَذَ لَقِيطًا فَقَصَّرَ فِي كَفَالَتِهِ أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِ الْتِقَاطِهِ مِنَ الْتِزَامِ كَفَالَتِهِ أَوْ تَسْلِيمِهِ إِلَى مَنْ يَلْتَزِمُهَا وَيَقُومُ بِهَا، وَكَذَلِكَ وَاجِدُ الضَّوَالِّ إِذَا قَصَّرَ فِيهَا أَخَذَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْقِيَامِ بِهَا أَوْ تَسْلِيمِهَا إِلَى مَنْ يَقُومُ بِهَا، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِلضَّالَّةِ بِالتَّقْصِيرِ وَلَا يَكُونُ بِهِ ضَامِنًا لِلَّقِيطِ، وَإِذَا سَلَّمَ الضَّالَّةَ إِلَى غَيْرِهِ ضَمِنَهَا وَلَا يَضْمَنُ اللَّقِيطَ بِالتَّسْلِيمِ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ عَلَى نَظَائِرِ هَذَا الْمِثَالِ يَكُونُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.

مَعْنَى الْمُنْكَرِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ

27- الْمُنْكَرُ ضِدُّ الْمَعْرُوفِ وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِ مَعْنَاهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ شَامِلًا لِمُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِ وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ.وَاسْتَعْمَلَهُ آخَرُونَ فِي كُلِّ مَا عُرِفَ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ قُبْحُهُ وَقَالَ غَيْرُهُمْ هُوَ أَشْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، هُوَ مَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ السَّلِيمَةُ وَتَتَأَذَّى بِهِ مِمَّا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ وَنَافَرَهُ الطَّبْعُ وَتَعَاظَمَ اسْتِكْبَارُهُ وَقَبُحَ غَايَةَ الْقُبْحِ اسْتِظْهَارُهُ فِي مَحَلِّ الْمَلأَِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ».

وَالْمُنْكَرُ مِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَحْظُورٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِمْ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ يُسَاوِي الْمُحَرَّمَ، وَيُسَمَّى أَيْضًا مَعْصِيَةً وَذَنْبًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ وَالْمَحْظُورِ، أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْمُنْكَرِ الْمَكْرُوهِ مُسْتَحَبٌّ، وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْفَاعِلُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَجَبَ ذِكْرُهُ لَهُ، فَإِنَّ لِلْكَرَاهَةِ حُكْمًا فِي الشَّرْعِ يَجِبُ تَبْلِيغُهُ إِلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ.أَمَّا الْمَحْظُورُ فَالنَّهْيُ عَنْهُ وَاجِبٌ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ إِذَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ، وَبِهَذَا اشْتَرَطَ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ يَكُونَ مُدْرَكُ عَدَمِ التَّحْرِيمِ فِيهِ ضَعِيفًا.

شُرُوطُ الْمُنْكَرِ:

28- يُشْتَرَطُ فِي الْمُنْكَرِ الْمَطْلُوبِ تَغْيِيرُهُ مَا يَلِي: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا فِي الشَّرْعِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمُنْكَرُ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، إِذْ مَنْ رَأَى صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيقَ خَمْرَهُ وَيَمْنَعَهُ، وَكَذَا إِنْ رَأَى مَجْنُونًا يَزْنِي بِمَجْنُونَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَهَذَا لَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ، إِذْ مَعْصِيَةٌ لَا عَاصِيَ بِهَا مُحَالٌ، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبَا الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ عَاصِيَيْنِ، بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ وَالْآخَرُ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ التَّحْصِيلِ، وَسَاقَا جُمْلَةَ أَمْثِلَةٍ لِلْمُنْكَرِ الَّذِي يَجِبُ تَغْيِيرُهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ.

أَحَدُهَا: أَمْرُ الْجَاهِلِ بِمَعْرُوفٍ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهُ، وَنَهْيُهُ عَنْ مُنْكَرٍ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَهُ كَنَهْيِ الْأَنْبِيَاءِ- عليهم السلام- أُمَمَهُمْ أَوَّلَ بَعْثِهِمْ.

الثَّانِي: قِتَالُ الْبُغَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي بَغْيِهِمْ لِتَأَوُّلِهِمْ.

الثَّالِثُ: ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْفَوَاحِشِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ.

الرَّابِعُ: قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ إِذَا صَالُوا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُمْ إِلاَّ بِقَتْلِهِمْ.

الْخَامِسُ: إِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي الْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ أَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِالْعَفْوِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَأَرَادَ الِاقْتِصَاصَ، فَلِلْفَاسِقِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْقَتْلِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ إِلاَّ بِهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ.

السَّادِسُ: ضَرْبُ الْبَهَائِمِ فِي التَّعْلِيمِ وَالرِّيَاضَةِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الشِّرَاسِ وَالْجِمَاحِ، وَكَذَلِكَ ضَرْبُهَا حَمْلًا عَلَى الْإِسْرَاعِ لِمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالْقِتَالِ. وَلَا يَقْتَصِرُ الْإِنْكَارُ عَلَى الْكَبِيرَةِ، بَلْ يَجِبُ النَّهْيُ عَنِ الصَّغَائِرِ أَيْضًا.

الشَّرْطُ الثَّانِي

29- أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ بِأَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مُسْتَمِرًّا عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ تَرْكُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ إِنْكَارُ مَا وَقَعَ عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنِ الْحِسْبَةِ عَلَى مَنْ فَرَغَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَاحْتِرَازٌ عَمَّا سَيُوجَدُ، كَمَنْ يَعْلَمُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الشُّرْبِ فِي لَيْلَةٍ فَلَا حِسْبَةَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالْوَعْظِ، وَإِنْ أَنْكَرَ عَزْمَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ وَعْظُهُ أَيْضًا، فَإِنَّ فِيهِ إِسَاءَةَ ظَنٍّ بِالْمُسْلِمِ، وَرُبَّمَا صُدِّقَ فِي قَوْلِهِ، وَرُبَّمَا لَا يُقْدِمُ عَلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ لِعَائِقٍ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَانِ

الْحَالَةُ الْأُولَى: الْإِصْرَارُ عَلَى فِعْلِ الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ تَوْبَةٍ فَهَذَا يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَفِي رَفْعِهِ إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ السَّتْرِ وَاسْتِحْبَابِهِ وَعَلَى سُقُوطِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ وَعَدَمِهِ، أَمَّا عَنْ وُجُوبِ السَّتْرِ وَاسْتِحْبَابِهِ فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ أَقَاوِيلَ نُوجِزُهَا فِي الْآتِي:

ذَهَبَ الْأَحْنَافُ إِلَى أَنَّ الشَّاهِدَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ (أَسْبَابُ الْحُدُودِ) مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ}

وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَقَدْ نَدَبَهُ الشَّرْعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ الْحِسْبَةِ فَأَقَامَهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ السَّتْرِ فَيَسْتُرُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَالسَّتْرُ أَوْلَى.

وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ الْحُدُودِ نَحْوُ طَلَاقٍ وَإِعْتَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ تَلْزَمُهُ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى إِقَامَتِهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ إِنِ اسْتَدَامَ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّضَاعِ وَالْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَنْقَضِي بِالْفَرَاغِ مِنْ مُتَعَلَّقِهِ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الرَّفْعِ وَعَدَمِهِ، وَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ فِي غَيْرِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ.وَفِي الْمَوَّاقِ أَنَّ سَتْرَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَاجِبٌ حِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَرْكُ الرَّفْعِ وَاجِبًا.

وَذَكَرَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَفْصِيلًا خُلَاصَتُهُ أَنَّ الزَّوَاجِرَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ زَاجِرٌ عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ حَاضِرٍ، أَوْ مَفْسَدَةٍ مُلَابِسَةٍ لَا إِثْمَ عَلَى فَاعِلِهَا وَهُوَ مَا قُصِدَ بِهِ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ الْمَوْجُودَةِ وَيَسْقُطُ بِانْدِفَاعِهَا.

30- النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَقَعُ زَاجِرًا عَنْ مِثْلِ ذَنْبٍ مَاضٍ مُنْصَرِمٍ أَوْ عَنْ مِثْلِ مَفْسَدَةٍ مَاضِيَةٍ مُنْصَرِمَةٍ وَلَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَجِبُ إِعْلَامُ مُسْتَحِقِّهِ لِيَبْرَأَ مِنْهُ أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ، وَذَلِكَ كَالْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَكَحَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مُسْتَحِقَّهُ لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا الْأَوْلَى بِالْمُتَسَبِّبِ إِلَيْهِ سَتْرُهُ كَحَدِّ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ.ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الشُّهُودُ عَلَى هَذِهِ الْجَرَائِمِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِهَا وَأَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَرْبَابَهَا وَإِنْ كَانَتْ زَوَاجِرُهَا حَقًّا مَحْضًا لِلَّهِ فَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِهَا، فَيَشْهَدُوا بِهَا مِثْلَ أَنْ يَطَّلِعُوا مِنْ إِنْسَانٍ عَلَى تَكَرُّرِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى شُرْبِ الْخُمُورِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي السَّتْرِ عَلَيْهِ مِثْلَ زَلَّةٍ مِنْ هَذِهِ الزَّلاَّتِ تَقَعُ نُدْرَةً مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ ثُمَّ يُقْلِعُ عَنْهَا وَيَتُوبُ مِنْهَا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِهَزَّالٍ: يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ»

وَحَدِيثِ: «وَأَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» وَحَدِيثِ: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»

وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: عَدَمُ الْإِنْكَارِ وَالتَّبْلِيغُ عَلَى الذَّنْبِ الْمَاضِي مَبْنِيٌّ عَلَى سُقُوطِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنِ اعْتَقَدَ الشَّاهِدُ سُقُوطَهُ لَمْ يَرْفَعْهُ وَإِلاَّ رَفَعَهُ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْمُحَرَّمِ لَمْ يَتُبْ، فَهَذَا يَجِبُ إِنْكَارُ فِعْلِهِ الْمَاضِي وَإِنْكَارُ إِصْرَارِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


27-موسوعة الفقه الكويتية (حسبة 5)

حِسْبَةٌ -5

خَامِسًا- الِاحْتِسَابُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ:

40- أَهْلُ الذِّمَّةِ عَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِذْ هُمْ مُقِيمُونَ فِي الدَّارِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ فَإِنَّهُمْ صَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فِي دَارِهِمْ، وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَبِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فَإِنَّ إِقَامَتَهُمْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ لَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ دُونَ هَؤُلَاءِ.

وَمِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَنَّهُمْ إِنْ أَقَامُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يُحْتَسَبُ فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِيمَا لَا يُظْهِرُونَهُ فِي كُلِّ مَا اعْتَقَدُوا حِلَّهُ فِي دِينِهِمْ مِمَّا لَا أَذَى لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِهِ، وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، فَلَا تَعَرُّضَ لَهُمْ فِيمَا الْتَزَمْنَا تَرْكَهُ، وَمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ إِنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَإِذَا انْفَرَدُوا فِي مِصْرِهِمْ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي الْقُرَى، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَيْنِ سُكَّانِهَا مُسْلِمُونَ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ إِعْلَامِ الدِّينِ مِنْ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ.وَإِذَا أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنَ الْفِسْقِ فِي قُرَاهُمْ مِمَّا لَمْ يُصَالِحُوا عَلَيْهِ مِثْلَ الزِّنَى وَإِتْيَانِ الْفَوَاحِشِ مُنِعُوا مِنْهُ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِيَانَةٍ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ فِسْقٌ فِي الدِّيَانَةِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ ذَلِكَ كَمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ «أَهْلُ الذِّمَّةِ».

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: فِي الِاحْتِسَابِ وَمَرَاتِبِهِ:

41- الْقِيَامُ بِالْحِسْبَةِ- وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ- مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَأَهَمِّ الْمُحْتَسَبَاتِ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَامْتَدَحَهُ فِيهِ بِأَسَالِيبَ عَدِيدَةٍ، وَكَانَ حَظُّهُ مَعَ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ أَوْفَرَ وَذِكْرُهُ فِيهَا أَكْثَرَ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحَ، وَمَا يُدْرَأُ بِهِ مِنْ مَفَاسِدَ، وَذَلِكَ أَسَاسُ كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ الدِّينُ، وَحِكْمَةُ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ رُجْحَانُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِذْ لَا يَخْلُو كُلُّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ مِنْ مَصْلَحَةٍ يُحَقِّقُهَا وَمَفْسَدَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَجَحَتْ الْمَصْلَحَةُ أَمَرَ بِهِ، وَإِذَا رَجَحَتِ الْمَفْسَدَةُ نَهَى عَنْهُ.كَانَ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَشْرُوعًا وَطَاعَةً مَطْلُوبَةً، وَكَانَ تَرْكُهَا، أَوْ وَضْعُ أَحَدِهِمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ عِصْيَانًا وَأَمْرًا مُحَرَّمًا مَطْلُوبًا تَرْكُهُ، لِأَنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ الْفَسَادُ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.

مَرَاتِبُ الِاحْتِسَابِ:

ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ مَا يُمْكِنُ إِيجَازُهُ فِيمَا يَلِي:

42- النَّوْعُ الْأَوَّلُ: التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ وَذَلِكَ فِيمَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُزِيلُ فَسَادَ مَا وَقَعَ لِصُدُورِ ذَلِكَ عَلَى غِرَّةٍ وَجَهَالَةٍ، كَمَا يَقَعُ مِنَ الْجَاهِلِ بِدَقَائِقِ الْفَسَادِ فِي الْبُيُوعِ، وَمُسَالِكِ الرِّبَا الَّتِي يُعْلَمُ خَفَاؤُهَا عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا يَصْدُرُ مِنْ عَدَمِ الْقِيَامِ بِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِ الْعِبَادَاتِ فَيُنَبَّهُونَ بِطَرِيقِ.التَّلَطُّفِ وَالرِّفْقِ وَالِاسْتِمَالَةِ.

43- النَّوْعُ الثَّانِي: الْوَعْظُ وَالتَّخْوِيفُ مِنَ اللَّهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَفَ الْمُنْكَرَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ فَيَتَعَاهَدُهُ الْمُحْتَسِبُ بِالْعِظَةِ وَالْإِخَافَةِ مِنْ رَبِّهِ.

44- النَّوْعُ الثَّالِثُ: الزَّجْرُ وَالتَّأْنِيبُ وَالْإِغْلَاظُ بِالْقَوْلِ وَالتَّقْرِيعِ بِاللِّسَانِ وَالشِّدَّةِ فِي التَّهْدِيدِ وَالْإِنْكَارِ، وَذَلِكَ فِيمَنْ لَا يَنْفَعُ فِيهِ وَعْظٌ، وَلَا يَنْجَحُ فِي شَأْنِهِ تَحْذِيرٌ بِرِفْقٍ، بَلْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ مَبَادِئُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمُنْكَرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْعِظَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَا لَا يُعَدُّ فُحْشًا فِي الْقَوْلِ وَلَا إِسْرَافًا فِيهِ خَالِيًا مِنَ الْكَذِبِ، وَمِنْ أَنْ يَنْسُبَ إِلَى مَنْ نَصَحَهُ مَا لَيْسَ فِيهِ مُقْتَصِرًا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ نَتِيجَتِهِ إِصْرَارٌ وَاسْتِكْبَارٌ.

45- النَّوْعُ الرَّابِعُ: التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ فِيمَنْ كَانَ حَامِلًا الْخَمْرَ، أَوْ مَاسِكًا لِمَالٍ مَغْصُوبٍ، وَعَيْنُهُ قَائِمَةٌ بِيَدِهِ، وَرَبُّهُ مُتَظَلِّمٌ مِنْ بَقَاءِ ذَلِكَ بِيَدِهِ، طَالِبٌ رَفْعَ الْمُنْكَرِ فِي بَقَائِهِ تَحْتَ حَوْزِهِ وَتَصَرُّفِهِ، فَأَمْثَالُ هَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الزَّجْرِ وَالْإِغْلَاظِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ لِلْإِزَالَةِ بِالْيَدِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْيَدِ كَأَمْرِ الْأَعْوَانِ الْمُمْتَثِلِينَ أَمْرَ الْمُغَيِّرِ فِي إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ.

46- النَّوْعُ الْخَامِسُ: إِيقَاعُ الْعُقُوبَةِ بِالنَّكَالِ وَالضَّرْبِ.وَذَلِكَ فِيمَنْ تَجَاهَرَ بِالْمُنْكَرِ وَتَلَبَّسَ بِإِظْهَارِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلاَّ بِذَلِكَ.

47- النَّوْعُ السَّادِسُ: الِاسْتِعْدَاءُ وَرَفْعُ الْأَمْرِ إِلَى الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ لِمَا لَهُ مِنْ عُمُومِ النَّظَرِ وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ، مَا لَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ لِتَرْكِ النُّصْرَةِ بِهِ لِمَا يُخْشَى مِنْ فَوَاتِ التَّغْيِيرِ، فَيَجِبُ قِيَامُ الْمُحْتَسِبِ بِمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي الْحَالِ.

48- وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَّخِذَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ أُمُورِ الْحِسْبَةِ بِمَا يَرَى فِيهِ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ، وَزَجْرَ الْمُفْسِدِينَ، وَلَهُ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ- بِوَجْهٍ خَاصٍّ- التَّعْزِيرُ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ، مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي اخْتِصَاصِ الْقَاضِي، وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ، أَوِ الْحَبْسِ، أَوِ الْإِتْلَافِ، أَوِ الْقَتْلِ أَوِ النَّفْيِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ «تَعْزِيرٌ».

خَطَأُ الْمُحْتَسِبِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّمَانِ «ضَمَانُ الْوُلَاةِ»:

49- الْمُحْتَسِبُ مَأْمُورٌ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، فَلَهُ أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَى كُلِّ مَنِ اقْتَرَفَ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي وَأَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَيْهَا بِمَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا، وَقَدْ يَحْدُثُ أَثْنَاءَ ذَلِكَ تَجَاوُزٌ فِي الْعُقُوبَةِ، فَيَتَسَبَّبُ عَنْهُ تَلَفٌ فِي الْمَالِ أَوْ فِي الْبَدَنِ فَهَلْ يَضْمَنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّجَاوُزِ فِي إِتْلَافِ الْمَالِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ إِلَى عَدَمِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ:

لَا ضَمَانَ فِي إِتْلَافِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ، وَكَذَا لَوْ كَسَرَ صَلِيبًا أَوْ مِزْمَارًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ صَنَمًا.لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ.وَلِحَدِيثِ: «بُعِثْتُ بِمَحْقِ الْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفِ» وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَفِي كَسْرِ آنِيَةِ الْخَمْرِ رِوَايَتَانِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى الضَّمَانِ إِذَا تَجَاوَزَ الْمُحْتَسِبُ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ.

قَالَ صَاحِبُ تُحْفَةِ النَّاظِرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا لَمْ يَقَعِ التَّمَكُّنُ مِنْ إِرَاقَةِ الْخَمْرِ إِلاَّ بِكَسْرِ أَنَابِيبِهَا وَتَحْرِيقِ وِعَائِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَإِنْ أَمْكَنَ زَوَالُ عَيْنِهَا مَعَ بَقَاءِ الْوِعَاءِ سَلِيمًا وَلَمْ يَخَفِ الْفَاعِلُ مُضَايَقَةً فِي الزَّمَانِ وَلَا فِي الْمَكَانِ بِتَغَلُّبِ فَاعِلِهِ مَعَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْمَوَانِعِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ، إِنْ كَانَ لِأَمْثَالِهِ قِيمَةٌ وَهُوَ يُنْتَفَعُ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَفِي إِرَاقَةِ الْخُمُورِ يَتَوَقَّى كَسْرَ الْأَوَانِي إِنْ وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَحَيْثُ كَانَتِ الْإِرَاقَةُ مُتَيَسِّرَةً بِلَا كَسْرٍ، فَكَسَرَهَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ.

وَقَالَ أَيْضًا: الْوَالِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِكَسْرِ الظُّرُوفِ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ زَجْرًا، وَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَأْكِيدًا لِلزَّجْرِ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ، وَلَكِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الزَّجْرِ وَالْفِطَامِ شَدِيدَةً، فَإِذَا رَأَى الْوَالِي بِاجْتِهَادِهِ مِثْلَ الْحَاجَةِ جَازَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَنُوطًا بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ دَقِيقٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لآِحَادِ الرَّعِيَّةِ.

50- أَمَّا الشِّقُّ الْآخَرُ وَهُوَ الضَّمَانُ فِي تَلَفِ النُّفُوسِ بِسَبَبِ مَا يَقُومُ بِهِ الْمُحْتَسِبُ، فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالًا فِي ذَلِكَ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ التَّعْزِيرِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، فَلَمْ يُضْمَنْ مَنْ تَلِفَ بِهَا كَالْحَدِّ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ، فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ: فَإِنْ عَزَّرَ الْحَاكِمُ أَحَدًا فَمَاتَ أَوْ سَرَى ذَلِكَ إِلَى النَّفْسِ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ، وَفِي عُيُونِ الْمَجَالِسِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ إِذَا عَزَّرَ الْإِمَامُ إِنْسَانًا فَمَاتَ فِي التَّعْزِيرِ لَمْ يَضْمَنَ الْإِمَامُ شَيْئًا لَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً.

وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ فُقَهَائِهِمْ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنِّ السَّلَامَةِ، فَإِنْ شَكَّ فِيهَا ضَمِنَ مَا سَرَى عَلَى نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ، وَإِنْ ظَنَّ عَدَمَ السَّلَامَةِ فَالْقِصَاصُ.

وَالشَّافِعِيُّ يَرَى التَّضْمِينَ فِي التَّعْزِيرِ إِذَا حَصَلَ بِهِ هَلَاكٌ، لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ وَلَا يُعْفَى مِنَ التَّعْزِيرِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ بِنَحْوِ تَوْبِيخٍ بِكَلَامٍ وَصَفْعٍ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ عَزَّرَ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ، وَلَا عَلَى مَنْ عَزَّرَهُ مُمْتَنِعًا مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ قَالَ الرَّمْلِيُّ: لِلْحَاكِمِ تَعْزِيرُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ بَعْدَ طَلَبِ مُسْتَحِقِّهِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ وَإِنْ زَادَ عَلَى التَّعْزِيرِ بَلْ وَإِنْ أَدَّى إِلَى مَوْتِهِ لِأَنَّهُ بِحَقٍّ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ.وَلَا يَكُونُ التَّعْزِيرُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَإِنْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا يَقْتُلُ غَالِبًا أَوْ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا أَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (تَعْزِيرٌ، حُدُودٌ، ضَمَانٌ).

مِقْدَارُ الضَّمَانِ وَعَلَى مَنْ يَجِبُ:

51- وَحَيْثُ قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَفِي قَدْرِهِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: لُزُومُ كَامِلِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَعُدْوَانِ الضَّارِبِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْعَادِي، كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَرِيضًا سَوْطًا فَمَاتَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ تَلَفٌ بِعُدْوَانٍ وَغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَلْقَى عَلَى سَفِينَةٍ مُوقَرَةٍ حَجَرًا فَغَرَّقَهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ تَلَفٌ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ فَمَاتَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: يَجِبُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا تَعَدَّى بِهِ.

عَلَى مَنْ يَجِبُ الضَّمَانُ:

52- فِي غَيْرِ حَالَاتِ التَّعَمُّدِ وَالتَّعَدِّي إِذَا قُلْنَا يَضْمَنُ الْإِمَامُ فَهَلْ يَلْزَمُ عَاقِلَتَهُ أَوْ بَيْتَ الْمَالِ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: هُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ خَطَأَهُ يَكْثُرُ فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَجْحَفَ بِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَالثَّانِيَةُ: عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِخَطَئِهِ فَكَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، كَمَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَ آدَمِيًّا.وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


28-موسوعة الفقه الكويتية (خروج)

خُرُوجٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخُرُوجُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَرَجَ يَخْرُجُ خُرُوجًا وَمَخْرَجًا، نَقِيضُ الدُّخُولِ.

وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْخُرُوجَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْبَغْيِ، أَيِ الْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخُرُوجِ:

لِلْخُرُوجِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْخَارِجِ، وَبِاخْتِلَافِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخُرُوجُ، أَهَمُّهَا مَا يَلِي:

الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَغَيْرِهِمَا:

2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ إِذَا كَانَ مَنِيًّا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ، أَوْ دَمَ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ، وَعَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَنِيِّ إِذَا كَانَ مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ، أَوِ الْغَائِطِ، وَالرِّيحِ، يُنْقِضُ الْوُضُوءَ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُعْتَادِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ يُنْقِضُ الْوُضُوءَ.

وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَادِ كَالدُّودِ وَالْحَصَى لَا يُنْقِضُ الْوُضُوءَ.

وَفِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وُضُوءٌ).

خُرُوجُ الْقَدَمِ أَوْ بَعْضِهَا مِنَ الْخُفِّ:

3- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ نَزْعِ الْخُفِّ- وَهُوَ بُطْلَانُ الْوُضُوءِ أَوِ الْمَسْحِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ- بِخُرُوجِ الْقَدَمِ إِلَى سَاقِ الْخُفِّ، وَكَذَا بِخُرُوجِ أَكْثَرِ الْقَدَمِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ خُرُوجِ الْقَلِيلِ مُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْقَصْدِ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ، فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ لَيْسَ بِمُتَعَذِّرٍ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا مِنْ قَدَمِ الْخُفِّ إِلَى السَّاقِ لَمْ يُؤَثِّرْ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْخُفُّ طَوِيلًا خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ، فَأَخْرَجَ رِجْلَهُ إِلَى مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ الْخُفُّ مُعْتَادًا لَظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ بَطَلَ مَسْحُهُ بِلَا خِلَافٍ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِلْبَعْضِ حُكْمُ الْكُلِّ فَيَبْطُلُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ الْقَدَمِ، أَوْ بَعْضِهَا إِلَى سَاقِ خُفِّهِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْحُ الْخُفِّ).

الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ بِلَا عُذْرٍ، أَوْ نِيَّةِ رُجُوعٍ إِلَى الْمَسْجِدِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّأْذِينُ لِلْفَجْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَلَا يُكْرَهُ الْخُرُوجُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ، قَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: « كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ يَمْشِي، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ- صلى الله عليه وسلم- »، وَالْمَوْقُوفُ فِي مِثْلِهِ كَالْمَرْفُوعِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَ ر: مُصْطَلَحَ (مَسْجِدٌ).

خُرُوجُ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ:

5- إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ وَقَامَ لِلْخُطْبَةِ اسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ؛ لِأَنَّهُ بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ، وَيَحْرُمُ الْكَلَامُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَأَمَّا الْكَلَامُ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْخُطْبَةِ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلْإِخْلَالِ بِغَرَضِ الِاسْتِمَاعِ، وَلَا اسْتِمَاعَ هُنَا، وَكَرِهَهُ الْحَكَمُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَكْرَهَانِ الْكَلَامَ، وَالصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ، وَيَحْرُمُ الْكَلَامُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِ الْإِمَامِ.

وَأَمَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَطَوُّعَ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- « قَالَ لِلَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ: اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ ».وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تَشْغَلُهُ عَنِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ فَكُرِهَ، كَصَلَاةِ الدَّاخِلِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ التَّطَوُّعُ بِجُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ غَيْرُ الدَّاخِلِ، فَمَنْ دَخَلَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّحِيَّةَ يُخَفِّفُهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي آخِرِهَا، فَلَا يُصَلِّي لِئَلاَّ يَفُوتَهُ أَوَّلُ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ.

خُرُوجُ الْمُعْتَكِفِ مِنَ الْمَسْجِدِ:

6- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلاَّ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوِ الْجُمُعَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: « كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إِلاَّ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ».وَقَالَتِ- رضي الله عنها-: « السُّنَّةُ لِلْمُعْتَكِفِ أَلاَّ يَخْرُجَ إِلاَّ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ».

إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَجِبُ الْخُرُوجُ لِلْجُمُعَةِ وَلَكِنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ الِاعْتِكَافُ؛ لِإِمْكَانِ الِاعْتِكَافِ فِي الْجَامِعِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ)

الْخُرُوجُ لِلِاسْتِسْقَاءِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ الشَّبَابُ وَالشُّيُوخُ وَالضُّعَفَاءُ، وَالْعَجَزَةُ، وَغَيْرُ ذَاتِ الْهَيْئَةِ مِنَ النِّسَاءِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجُوا مُشَاةً بِتَوَاضُعٍ وَخُشُوعٍ فِي ثِيَابٍ خُلْقَانٍ، وَأَنْ يُقَدِّمُوا الصَّدَقَةَ كُلَّ يَوْمٍ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَاخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِسْقَاءٌ).

خُرُوجُ الْمَرْأَةِ مِنَ الْمَنْزِلِ:

8- الْأَصْلُ أَنَّ النِّسَاءَ مَأْمُورَاتٌ بِلُزُومِ الْبَيْتِ مَنْهِيَّاتٌ عَنِ الْخُرُوجِ.

ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ: أَنَّ مِنْهَا: مِلْكُ الِاحْتِبَاسِ وَهُوَ صَيْرُورَتُهَا (الزَّوْجَةِ) مَمْنُوعَةً مِنَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ}، وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ نَهْيٌ عَنِ الْخُرُوجِ، وَالْبُرُوزِ، وَالْإِخْرَاجِ، إِذِ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَمْنُوعَةً عَنِ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لَاخْتَلَّ السَّكَنُ وَالنَّسَبُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيبُ الزَّوْجَ وَيَحْمِلُهُ عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِلُزُومِ الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِنِسَاءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ دَخَلَ فِيهِ غَيْرُهُنَّ بِالْمَعْنَى.هَذَا لَوْ لَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يَخُصُّ جَمِيعَ النِّسَاءِ، فَكَيْفَ وَالشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِلُزُومِ النِّسَاءِ بُيُوتَهُنَّ وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.

فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ بِرَوْحَةِ رَبِّهَا وَهِيَ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا ».

كَمَا أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: « جِئْنَ النِّسَاءُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ذَهَبَ الرِّجَالُ بِالْفَضْلِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا لَنَا عَمَلٌ نُدْرِكُ بِهِ عَمَلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَنْ قَعَدَتْ- أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- مِنْكُنَّ فِي بَيْتِهَا، فَإِنَّهَا تُدْرِكُ عَمَلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ».

وَعِنْدَ الْحَاجَةِ كَزِيَارَةِ الْآبَاءِ، وَالْأُمَّهَاتِ، وَذَوِي الْمَحَارِمِ، وَشُهُودِ مَوْتِ مَنْ ذُكِرَ، وَحُضُورِ عُرْسِهِ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ لَا غَنَاءَ لِلْمَرْأَةِ عَنْهَا وَلَا تَجِدُ مَنْ يَقُومُ بِهَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ.إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُقَيِّدُونَ جَوَازَ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ بِقُيُودٍ أَهَمُّهَا: 1- أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ غَيْرَ مَخْشِيَّةِ الْفِتْنَةِ، أَمَّا الَّتِي يُخْشَى الِافْتِتَانُ بِهَا فَلَا تَخْرُجُ أَصْلًا.

2- أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ مَأْمُونَةً مِنْ تَوَقُّعِ الْمَفْسَدَةِ وَإِلاَّ حَرُمَ خُرُوجُهَا.

3- أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا فِي زَمَنِ أَمْنِ الرِّجَالِ وَلَا يُفْضِي إِلَى اخْتِلَاطِهَا بِهِمْ؛ لِأَنَّ تَمْكِينَ النِّسَاءِ مِنَ اخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ أَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ، كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ فَسَادِ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَاخْتِلَاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْفَوَاحِشِ وَالزِّنَى، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ اخْتِلَاطِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَالْفُرُجِ، وَمَجَامِعِ الرِّجَالِ، وَإِقْرَارُ النِّسَاءِ عَلَى ذَلِكَ إِعَانَةٌ لَهُنَّ عَلَى الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ مَنَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- النِّسَاءَ مِنَ الْمَشْيِ فِي طَرِيقِ الرِّجَالِ وَالِاخْتِلَاطِ بِهِمْ فِي الطَّرِيقِ.

4- أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا عَلَى تَبَذُّلٍ وَتَسَتُّرٍ تَامٍّ.

قَالَ الْعَيْنِيُّ: يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ مِنْ أُمُورِهَا الْجَائِزَةِ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ بَذَّةَ الْهَيْئَةِ، خَشِنَةَ الْمَلْبَسِ، تَفِلَةَ الرِّيحِ، مَسْتُورَةَ الْأَعْضَاءِ غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ بِزِينَةٍ وَلَا رَافِعَةً صَوْتَهَا.

قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُ النِّسَاءِ مِنَ الْخُرُوجِ مُتَزَيِّنَاتٍ مُتَجَمِّلَاتٍ، وَمَنْعُهُنَّ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي يَكُنَّ بِهَا كَاسِيَاتٍ عَارِيَّاتٍ، كَالثِّيَابِ الْوَاسِعَةِ وَالرِّقَاقِ، وَإِنْ رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ أَنْ يُفْسِدَ عَلَى الْمَرْأَةِ- إِذَا تَجَمَّلَتْ وَخَرَجَتْ- ثِيَابَهَا بِحِبْرٍ وَنَحْوِهِ، فَقَدْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَأَصَابَ.وَهَذَا مِنْ أَدْنَى عُقُوبَتِهِنَّ الْمَالِيَّةِ.فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- « أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَطَيَّبَتْ وَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ ».

5- أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ، فَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: وَإِذَا اضْطُرَّتِ امْرَأَةٌ لِلْخُرُوجِ لِزِيَارَةِ وَالِدٍ خَرَجَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ. وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ عَنِ النَّوَوِيِّ عِنْدَ التَّعْلِيقِ عَلَى حَدِيثِ: « إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ » أَنَّهُ قَالَ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ إِلَى الْأَزْوَاجِ بِالْإِذْنِ.

وَلِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَى مَا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ، سَوَاءٌ أَرَادَتْ زِيَارَةَ وَالِدَيْهَا أَوْ عِيَادَتَهُمَا أَوْ حُضُورَ جِنَازَةِ أَحَدِهِمَا.قَالَ أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ مَرِيضَةٌ: طَاعَةُ زَوْجِهَا أَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ أُمِّهَا إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ بَطَّةَ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ عَنْ أَنَسٍ « أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ وَمَنَعَ زَوْجَتَهُ مِنَ الْخُرُوجِ فَمَرِضَ أَبُوهَا، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي عِيَادَةِ أَبِيهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اتَّقِي اللَّهَ وَلَا تُخَالِفِي زَوْجَكَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهَا بِطَاعَةِ زَوْجِهَا » وَلِأَنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ وَاجِبَةٌ، وَالْعِيَادَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ.وَلَا يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْ عِيَادَةِ وَالِدَيْهَا، وَزِيَارَتِهِمَا لِأَنَّ فِي مَنْعِهَا مِنْ ذَلِكَ قَطِيعَةً لَهُمَا، وَحَمْلًا لِزَوْجَتِهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ.

وَيَنْبَغِي التَّنْوِيهُ إِلَى أَنَّ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تَخْرُجُ لِلْوَالِدَيْنِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَبِدُونِهِ، وَلِلْمَحَارِمِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً بِإِذْنِهِ وَبِدُونِهِ.وَفِي مَجْمَعِ النَّوَازِلِ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَابِلَةً، أَوْ غَسَّالَةً، أَوْ كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى آخَرَ أَوْ لآِخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ، تَخْرُجُ بِالْإِذْنِ وَبِغَيْرِ الْإِذْنِ، وَالْحَجُّ عَلَى هَذَا.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا فِي النَّوَازِلِ: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْخَانِيَّةِ تَقْيِيدُ خُرُوجِهَا بِإِذْنِ الزَّوْجِ.

هَذَا وَيَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِمَا لَا غَنَاءَ لَهَا عَنْهُ، كَإِتْيَانٍ بِنَحْوِ مَأْكَلٍ وَالذَّهَابِ إِلَى الْقَاضِي لِطَلَبِ الْحَقِّ، وَاكْتِسَابِ النَّفَقَةِ إِذَا أَعْسَر بِهَا الزَّوْجُ، وَالِاسْتِفْتَاءُ إِذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا فَقِيهًا.وَكَذَلِكَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِذَا كَانَ الْمَنْزِلُ الَّذِي تَسْكُنُهُ مُشْرِفًا عَلَى انْهِدَامٍ. وَأَخَذَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ لِلزَّوْجَةِ اعْتِمَادَ الْعُرْفِ الدَّالِّ عَلَى رِضَا أَمْثَالِ الزَّوْجِ بِمِثْلِ الْخُرُوجِ الَّذِي تُرِيدُهُ، نَعَمْ لَوْ عُلِمَ مُخَالَفَتُهُ لِأَمْثَالِهِ فِي ذَلِكَ فَلَا تَخْرُجُ.

خُرُوجُ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ:

9- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرَادَتْ حُضُورَ الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ، إِنْ كَانَتْ شَابَّةً أَوْ كَبِيرَةً تُشْتَهَى كُرِهَ لَهَا، وَكُرِهَ لِزَوْجِهَا وَوَلِيِّهَا تَمْكِينُهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى فَلَهَا الْخُرُوجُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ دُونَ كَرَاهَةٍ.

وَمِثْلُهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّابَّةِ، أَمَّا الْعَجُوزُ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ عِنْدَهُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ فَقَطْ، وَلَا تَخْرُجُ فِي الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ.

وَكَرِهَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجَهَا مُطْلَقًا لِفَسَادِ الزَّمَنِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالنِّسَاءُ عِنْدَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: عَجُوزٌ انْقَطَعَتْ حَاجَةُ الرِّجَالِ عَنْهَا، فَهَذِهِ تَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ، وَلِلْفَرْضِ، وَلِمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ، وَتَخْرُجُ لِلصَّحْرَاءِ فِي الْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَلِجِنَازَةِ أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا، وَلِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا، وَمُتَجَالَّةٌ (مُسِنَّةٌ) لَمْ تَنْقَطِعْ حَاجَةُ الرِّجَالِ مِنْهَا بِالْجُمْلَةِ، فَهَذِهِ تَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ لِلْفَرَائِضِ، وَمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ، وَلَا تُكْثِرُ التَّرَدُّدَ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهَا أَيْ يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ، وَشَابَّةٌ غَيْرُ فَارِهَةٍ فِي الشَّبَابِ وَالنَّجَابَةِ، تَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ جَمَاعَةً، وَفِي جَنَائِزِ أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا، وَلَا تَخْرُجُ لِعِيدٍ وَلَا اسْتِسْقَاءٍ وَلَا لِمَجَالِسِ ذِكْرٍ أَوْ عِلْمٍ.وَشَابَّةٌ فَارِهَةٌ فِي الشَّبَابِ وَالنَّجَابَةِ، فَهَذِهِ الِاخْتِيَارُ لَهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ أَصْلًا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلنِّسَاءِ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَالِ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، قَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: « كَانَ النِّسَاءُ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ ».وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: « لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ » يَعْنِي غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ.

وَتَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَوَازَ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ- عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ- مُقَيَّدٌ بِالْقُيُودِ السَّابِقَةِ.وَلَا يُقْضَى عَلَى زَوْجِ الشَّابَّةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا بِالْخُرُوجِ لِنَحْوِ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَلَوْ شَرَطَ لَهَا فِي صُلْبِ عَقْدِهَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا إِذَا اسْتَأْذَنَتْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ إِذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى، وَأَمِنَ الْمَفْسَدَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ مَنَعَهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُنَا.قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ.

خُرُوجُ الْمَرْأَةِ فِي السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ:

10- قَالَ النَّوَوِيُّ نَقْلًا عَنِ الْقَاضِي: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ إِلاَّ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تُهَاجِرَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَسَفَرِ الزِّيَارَاتِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الْأَسْفَارِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحَاتُ: (حَجٌّ، سَفَرٌ، عُمْرَةٌ، هِجْرَةٌ).

الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ:

11- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ الْخُرُوجِ: « اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ » أَوْ يَقُولَ: « رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ »، وَذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

الْخُرُوجُ مِنَ الْبَيْتِ:

12- يُسْتَحَبُّ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ أَنْ يَقُولَ مَا كَانَ يَقُولُهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ وَذَلِكَ فِيمَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها-: « أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ». وَعَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « مَنْ قَالَ- يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ- بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ وَوُقِيتَ وَهُدِيتَ وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ ».

الْخُرُوجُ مِنَ الْخَلَاءِ:

13- يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلَاءِ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيَقُولُ: غُفْرَانَكَ، أَوِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي.لِمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه-: « أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءُ الْحَاجَةِ).

خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْبَيْتِ:

14- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مُلَازَمَةُ السَّكَنِ، فَلَا تَخْرُجُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ أَوْ عُذْرٍ، فَإِنْ خَرَجَتْ أَثِمَتْ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا، وَكَذَا لِوَارِثِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ.

وَتُعْذَرُ فِي الْخُرُوجِ فِي مَوَاضِعَ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ).

مَنْ لَا يَجُوزُ خُرُوجُهُ مَعَ الْجَيْشِ فِي الْجِهَادِ:

15- لَا يَسْتَصْحِبُ أَمِيرُ الْجَيْشِ مَعَهُ مُخَذِّلًا، وَلَا مُرْجِفًا، وَلَا جَاسُوسًا، وَلَا مَنْ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْعَى بِالْفَسَادِ، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا وَلأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}

وَإِنْ خَرَجَ هَؤُلَاءِ فَلَا يُسْهَمُ لَهُمْ وَلَا يُرْضَخُ، وَإِنْ أَظْهَرُوا عَوْنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (جِهَادٌ، وَغَنِيمَةٌ).

الْخُرُوجُ عَلَى الْإِمَامِ:

16- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا كَانَ عَدْلًا تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَمُحَرَّمٌ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحَيِ: (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى، وَبُغَاةٌ).

خُرُوجُ الْمَحْبُوسِ:

17- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْمَحْبُوسَ لِأَجْلِ قَضَاءِ الدَّيْنِ يُمْنَعُ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، وَإِلَى الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَالزِّيَارَةِ، وَالضِّيَافَةِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِذَا مُنِعَ عَنْ ذَلِكَ سَارَعَ إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ.

(ر: حَبْسٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


29-موسوعة الفقه الكويتية (زنى 2)

زِنَى -2

ب- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:

19- قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الشُّبْهَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٍ فِي الْوَاطِئِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْمَوْطُوءَةِ، وَشُبْهَةٍ فِي الطَّرِيقِ.

فَالشُّبْهَةُ فِي الْوَاطِئِ: كَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ امْرَأَتُهُ، فَالِاعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُعْتَقِدٌ الْإِبَاحَةَ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي اعْتِقَادِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.

وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَوْطُوءَةِ: كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِذَا وَطِئَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ.فَمَا فِيهَا مِنْ نَصِيبِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.وَالشُّبْهَةُ فِي الطَّرِيقِ: كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي إِبَاحَةِ الْمَوْطُوءَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهِ.فَإِنَّ قَوْلَ الْمُحَرِّمِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، وَقَوْلَ الْمُبِيحِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.

فَهَذِهِ الثَّلَاثُ هِيَ ضَابِطُ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ.غَيْرَ أَنَّ لَهَا شَرْطًا وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقْدِمِ عَلَى الْفِعْلِ مُقَارَنَةَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُصُولِ السَّبَبِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ.وَضَابِطُ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالْخُرُوجِ عَنِ الشُّبُهَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ كَمَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ مَبْتُوتَةً ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ، أَوْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوِ النَّسَبِ أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ.

ج- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:

20- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: شُبْهَةٍ فِي الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةٍ فِي الْفَاعِلِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْجِهَةِ.

فَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَأَمَتِهِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ.فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَكَذَا لَوْ وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، كَأُخْتِهِ مِنْهُمَا، أَوْ بِمُصَاهَرَةٍ كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، فَلَا حَدَّ بِوَطْئِهَا فِي الْأَظْهَرِ؛ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَأُخْتِهِ.أَمَّا مَنْ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ فَهُوَ زَانٍ قَطْعًا.وَكَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، أَوِ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّةَ وَالْوَثَنِيَّةَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ أَمَةُ ذِمِّيٍّ فَوَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تُبَاعَ.وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْفَاعِلِ، فَمِثْلُ أَنْ يَجِدَ امْرَأَةً فِي فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ.وَلَوْ ظَنَّهَا جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ فَكَانَتْ غَيْرَهَا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَكَانَ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ.وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ مِنَ احْتِمَالَيْنِ.وَجَزَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِسُقُوطِهِ.وَيَدْخُلُ فِي شُبْهَةِ الْفَاعِلِ الْمُكْرَهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْجِهَةِ: فَهِيَ كُلُّ طَرِيقٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا فَلَا حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ نَظَرًا لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ.فَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.وَبِلَا شُهُودٍ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ.وَلَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ.

ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا يُقَارِنَهُ حُكْمٌ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.فَإِنْ قَارَنَهُ حُكْمٌ قَاضٍ بِبُطْلَانِهِ حُدَّ قَطْعًا، أَوْ حُكْمٌ قَاضٍ بِصِحَّتِهِ لَمْ يُحَدَّ قَطْعًا.

وَقَدْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الضَّابِطَ فِي الشُّبْهَةِ قُوَّةُ الْمُدْرِكِ لَا عَيْنُ الْخِلَافِ.فَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ حُدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ حِلُّ ذَلِكَ.

وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مِنْ عَالِمٍ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهُ الْفَاعِلُ.

د- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:

21- لَمْ يُقَسِّمِ الْحَنَابِلَةُ الشُّبْهَةَ إِلَى أَنْوَاعٍ كَالْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا لَهَا أَمْثِلَةً فَقَالُوا: لَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ إِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ سَوَاءٌ وَطِئَهَا الِابْنُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ لِحَدِيثِ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِوَلَدِهِ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِمُكَاتَبِهِ فِيهَا شِرْكٌ؛ لِلْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتِهِ، وَلَا حَدَّ إِنْ وَطِئَ أَمَةً كُلَّهَا لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ بَعْضَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ، لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ.وَلَا حَدَّ إِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ دُبُرٍ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَدْ صَادَفَ مِلْكًا، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يُقَلْ لَهُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.وَلَوْ دَعَا ضَرِيرٌ امْرَأَتَهُ فَأَجَابَتْهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.بِخِلَافِ مَا لَوْ دَعَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا الْمَدْعُوَّةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَدْعُوَّةُ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِهَذَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا يَظُنُّهُ ابْنَهُ فَبَانَ أَجْنَبِيًّا.وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ أَوِ الْوَثَنِيَّةَ أَوِ الْمُرْتَدَّةَ أَوِ الْمُعْتَدَّةَ، أَوِ الْمُزَوَّجَةَ، أَوْ فِي مُدَّةِ اسْتِبْرَائِهَا فَلَا حَدَّ، لِأَنَّهَا مِلْكُهُ.وَإِنْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مِلْكٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ بِلَا شُهُودٍ، وَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَنِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، وَنَحْوِهَا، وَنِكَاحِ الْبَائِنِ مِنْهُ، وَنِكَاحِ خَامِسَةٍ فِي عِدَّةِ رَابِعَةٍ لَمْ تَبِنْ، وَنِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ وَلَوْ قَبْلَ الْإِجَازَةِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَمْ لَا.

هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ إِذَا اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ.

وَإِنْ جَهِلَ نِكَاحًا بَاطِلًا إِجْمَاعًا كَخَامِسَةٍ فَلَا حَدَّ لِلْعُذْرِ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا.أَمَّا إِذَا عَلِمَ بِبُطْلَانِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.وَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي شِرَاءٍ فَاسِدٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوِ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِإِقْبَاضِهِ الْأَمَةَ كَأَنَّهُ أَذِنَهُ فِي فِعْلِ مَا يَمْلِكُهُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَمِنْهُ الْوَطْءُ، أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ.كَمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي وَطْءِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ وَيَعْلَمُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ.

5- مِنْ شُرُوطِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُخْتَارًا:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ».وَلِأَنَّ هَذَا شُبْهَةٌ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِهَا.

وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرَّجُلِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى.فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالَّذِي بِهِ الْفَتْوَى وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلِشُبْهَةِ الْإِكْرَاهِ.

وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالِانْتِشَارِ الْحَادِثِ بِالِاخْتِيَارِ.

وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ وَإِكْرَاهِ غَيْرِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا، وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا، كَمَا فِي النَّائِمِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ لَا يَدُومُ إِلاَّ نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ.وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا.وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ.قَالَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ: وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالسُّلْطَانِ، وَفِي زَمَنِهِمَا ظَهَرَتِ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا.

ثَانِيًا: الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:

1- اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ حَيَّةً:

23- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ حَيَّةً، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ لِلزَّجْرِ، وَهَذَا مِمَّا يَنْفِرُ الطَّبْعُ عَنْهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ بِحَدٍّ لِزَجْرِ الطَّبْعِ عَنْهُ.وَفِيهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَهُمْ.

وَيُعَبِّرُ الشَّافِعِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِالْفَرْجِ الْمُشْتَهَى طَبْعًا، وَهُوَ فَرْجُ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فَيَجِبُ عِنْدَهُمُ الْحَدُّ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي قُبُلِهَا أَوْ دُبُرِهَا.وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَ فَلَا يُحَدُّ بِوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمَيْتَةِ.وَاسْتَثْنَوْا كَذَلِكَ الْمَرْأَةَ إِذَا أَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيْتٍ غَيْرَ زَوْجٍ فِي فَرْجِهَا فَلَا تُحَدُّ لِعَدَمِ اللَّذَّةِ.

كَوْنُ الْمَوْطُوءَةِ امْرَأَةً:

24- اشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ امْرَأَةً.فَلَا حَدَّ عِنْدَهُ فِيمَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ، وَلَوِ اعْتَادَ اللِّوَاطَةَ قَتَلَهُ الْإِمَامُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مِحْصَنٍ سِيَاسَةً.أَمَّا الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا فَلَيْسَ حُكْمًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًى وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَدٌّ.

وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ، فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ جَلْدًا إِنْ لَمْ يَكُنْ أُحْصِنَ، وَرَجْمًا إِنْ أُحْصِنَ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ حَدًّا أُحْصِنَا أَمْ لَا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْفَاعِلِ.أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ. وَطْءُ الْبَهِيمَةِ:

25- ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقُولُهُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَأْبَاهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى زَجْرٍ بِحَدٍّ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: بِأَنَّهُ يُقْتَلُ مُطْلَقًا مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.

وَمِثْلُ وَطْءِ الْبَهِيمَةِ مَا لَوْ مَكَّنَتِ امْرَأَةٌ حَيَوَانًا مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا بَلْ تُعَزَّرُ.

وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لَا تُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ، وَإِذَا قُتِلَتْ فَإِنَّهَا يَجُوزُ أَكْلُهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤْكَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَكْلَهَا.وَقَالَا: تُذْبَحُ وَتُحْرَقُ.وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا حَيَّةً وَمَيِّتَةً.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُقْتَلُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ.وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ.وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: «مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ».وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهَا تُذْبَحُ إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، وَصَرَّحُوا بِحُرْمَةِ أَكْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَلُ.

3- كَوْنُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، لِأَنَّهُ فَرْجٌ أَصْلِيٌّ كَالْقُبُلِ.

وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ الْحَدَّ بِالْفَاعِلِ فَقَطْ.أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْلَدُ وَتُغَرَّبُ، مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ.

وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُ عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ.أَمَّا إِتْيَانُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَلَا حَدَّ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً.وَقَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ التَّعْزِيرَ عَلَى مَا إِذَا تَكَرَّرَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلَا تَعْزِيرَ فِيهِ.

4- كَوْنُ الْوَطْءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ:

27- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الزِّنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ».

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ عَلَى أَحَدٍ حَدٌّ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ.

وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، وَلَا قُدْرَةَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا وُجُوبَ وَإِلاَّ عَرَى عَنِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ لِيَحْصُلَ الزَّجْرُ، وَالْفَرْضُ أَنْ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَرَجَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْإِيجَابِ حَالَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْقَلِبْ مُوجِبًا لَهُ حَالَ عَدَمِهِ.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا زَنَى فِي عَسْكَرٍ لِأَمِيرِهِ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحَدِّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَى؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَالْقُدْرَةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ مِنَ الْعَسْكَرِ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَزَنَى ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعَسْكَرِ فَإِنَّهُ لَا يُقِيمُهُ، وَكَذَا لَوْ زَنَى فِي الْعَسْكَرِ وَالْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَيَّامِ الْمُحَارَبَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ.وَهَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِمَا إِذَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، بِخِلَافِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ أَوِ السَّرِيَّةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَوَّضَ لَهُمَا تَدْبِيرَ الْحَرْبِ لَا إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْإِمَامِ، وَوِلَايَةُ الْإِمَامِ مُنْقَطِعَةٌ ثَمَّةَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً مِنْ نَحْوِ رِدَّةِ الْمَحْدُودِ وَالْتِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ أَتَى حَدًّا فِي الْغَزْوِ لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِمَا رَوَى جُنَادَةُ بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَالُ لَهُ: مَصْدَرٌ، قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ» وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَطَعْتُهُ.

وَنَقَلُوا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى رَجَعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِعَارِضٍ، وَقَدْ زَالَ.

وَإِذَا أَتَى حَدًّا فِي الثُّغُورِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى زَجْرِ أَهْلِهَا كَالْحَاجَةِ إِلَى زَجْرِ غَيْرِهِمْ.

5- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا:

28- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ طَائِعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَيُرَدُّ إِلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، وَتُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ.وَإِنِ اسْتَكْرَهَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ عَلَى الزِّنَى قُتِلَ.

وَقَدْ وَافَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأُخْرَى مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَقَطْ.

وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي: فَفِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَيُحَدُّ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: يُحَدُّ الْجَمِيعُ.وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ.فَإِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ دُونَ الْحَرْبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَدَّانِ، وَإِنْ زَنَى الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيَّةِ الْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحَدَّانِ جَمِيعًا.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِمَا بِالْأَحْكَامِ، وَيُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ لِالْتِزَامِهِ بِالْأَحْكَامِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ زَنَيَا».وَكَانَا قَدْ أُحْصِنَا.قَالَ الرَّمْلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْيَوْمَ لَا يُحَدُّونَ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْمُسْتَأْمَنِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجَدَّدُ لَهُمْ عَهْدٌ، بَلْ يَجْرُونَ عَلَى ذِمَّةِ آبَائِهِمْ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُحَدُّونَ حَدَّ الزِّنَى، «لِأَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَرُجِمَا» وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ إِقَامَةُ الْحَدِّ فِي زِنَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ؛ لِالْتِزَامِهِمْ حُكْمَنَا.وَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى مُسْتَأْمَنٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَنَا.

وَلِأَنَّ زِنَى الْمُسْتَأْمَنِ يَجِبُ بِهِ الْقَتْلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ سِوَاهُ.وَهَذَا إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ.أَمَّا إِذَا زَنَى الْمُسْتَأْمَنُ بِغَيْرِ مُسْلِمَةٍ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

6- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا:

29- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا.فَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عِنْدَهُمْ عَلَى الْأَخْرَسِ مُطْلَقًا، حَتَّى وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ أَوْ إِشَارَةٍ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَى لَا تُقْبَلُ لِلشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ فَيَجِبُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْأَخْرَسِ إِذَا زَنَى.

ثُبُوتُ الزِّنَى:

يَثْبُتُ الزِّنَى بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: بِالشَّهَادَةِ، وَالْإِقْرَارِ، وَالْقَرَائِنِ.

أ- الشَّهَادَةُ:

30- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْيَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}

وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ».

وَيُشْتَرَطُ فِي الشُّهُودِ عَلَى الزِّنَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ لِلشَّهَادَةِ (الْمَذْكُورَةِ فِي مُصْطَلَحِ شَهَادَةٍ) أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهِمْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ الزِّنَى، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الذُّكُورَةُ:

31- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي شُهُودِ الزِّنَى، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا رِجَالًا كُلَّهُمْ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ.

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الزِّنَى بِحَالٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ بِأَرْبَعَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لَا يُكْتَفَى بِهِمْ، وَأَنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً:

32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّنَى لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ؛ وَلِأَنَّ الزِّنَى مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ فَغُلِّظَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ لِيَكُونَ أَسْتَرَ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَمُلُوا أَرْبَعَةً حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَلِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- حَدَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَى.وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ صُورَةَ الشَّهَادَةِ ذَرِيعَةً إِلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ.

وَعِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا يُجْلَدُ الشُّهُودُ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا شَاهِدِينَ لَا هَاتِكِينَ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:

33- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ شَهِدَ بَعْضُ الْأَرْبَعَةِ فِي مَجْلِسٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ.كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعُوا خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، أَمَّا لَوْ كَانُوا قُعُودًا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ فَقَامَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدَ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ بَعْدَ إِتْيَانِهِمْ مَحَلَّ الْحَاكِمِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمْ يُفَرَّقُونَ وُجُوبًا لِيَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَوْ بَعْضُهُمْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدُّوا.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ إِتْيَانَهُمْ مُجْتَمِعِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَأْتُوا مُتَفَرِّقِينَ لِقِصَّةِ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُمْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا.عَلَى أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَهُمْ قَذَفَةٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَا صَحِيحَةٌ، وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَأَنْ تُؤَدَّى الشَّهَادَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَجْلِسٍ، لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}.وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْلِسَ.وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}.وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٌ إِنِ اتَّفَقَتْ، تُقْبَلُ إِذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: تَفْصِيلُ الشَّهَادَةِ:

34- يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى التَّفْصِيلُ، فَيَصِفُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّةَ الزِّنَى، فَيَقُولُونَ: رَأَيْنَاهُ مُغَيِّبًا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا، أَوْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا- إِنْ كَانَ مَقْطُوعَهَا- فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، أَوِ الرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَبَرَ التَّصْرِيحَ فِي الْإِقْرَارِ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَقِدُ الشَّاهِدُ مَا لَيْسَ بِزِنًى زِنًى، فَاعْتُبِرَ ذِكْرُ صِفَتِهِ.كَمَا يُبَيِّنُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّتَهُمَا مِنَ اضْطِجَاعٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ قِيَامٍ، أَوْ هُوَ فَوْقَهَا أَوْ تَحْتَهَا.

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَهُمُ الْقَاضِي فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمَا زَنَيَا، فَإِنَّهُ لَا يَحُدُّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودَ.وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ شَهِدُوا بِأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ.

كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْبَلَدِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَذَا تَعْيِينُ الْمَكَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، كَكَوْنِهَا فِي رُكْنِ الْبَيْتِ الشَّرْقِيِّ أَوِ الْغَرْبِيِّ، أَوْ وَسَطِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَكَانِ فِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِيهِ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالِانْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالِاضْطِرَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ، وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، أَمَّا فِي الْبَيْتِ الْكَبِيرِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ.

وَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ تَعْيِينِ الزَّمَانِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِتَكُونَ الشَّهَادَةُ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا شَهِدَ بِهِ أَحَدُهُمْ غَيْرَ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ.فَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ السَّبْتِ فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.وَكَذَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ أُخْرَى.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَصَالَةُ الشَّهَادَةِ:

35- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي شُهُودِ الزِّنَى الْأَصَالَةَ، فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السِّتْرِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا شُبْهَةٌ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا اجْتِمَاعُ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْكَذِبِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ مَعَ احْتِمَالِ ذَلِكَ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَهَذَا احْتِمَالٌ زَائِدٌ لَا يُوجَدُ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ إِنَّمَا تُقْبَلُ لِلْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِّ، لِأَنَّ سِتْرَ صَاحِبِهِ أَوْلَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى بِشَرْطِ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ كُلِّ شَاهِدٍ أَصِيلٍ شَاهِدَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَ الشَّاهِدَانِ عَنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ عَنْ شَاهِدَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدَيْنِ النَّاقِلَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا أَصِيلًا، فَيَجُوزُ فِي الزِّنَى أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، أَوْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ، أَوْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ، أَوْ يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَيَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ الرَّابِعِ، وَإِذَا نَقَلَ اثْنَانِ عَنْ ثَلَاثَةٍ وَعَنِ الرَّابِعِ اثْنَانِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ؛ وَوَجْهُ عَدَمِ صِحَّتِهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْفَرْعُ إِلاَّ حَيْثُ تَصِحُّ شَهَادَةُ الْأَصْلِ لَوْ حَضَرَ، وَالرَّابِعُ الَّذِي نَقَلَ عَنْهُ الِاثْنَانِ الْآخَرَانِ لَوْ حَضَرَ مَا صَحَّتْ شَهَادَتُهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ النَّاقِلَيْنِ عَنِ الثَّلَاثَةِ لِنَقْصِ الْعَدَدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْفَرْعِ فِيهَا نَاقِصٌ عَنْ عَدَدِ الْأَصْلِ حَيْثُ نَقَلَ عَنِ الثَّلَاثَةِ اثْنَانِ فَقَطْ، وَالْفَرْعُ لَا يَنْقُصُ عَنِ الْأَصْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَنِيَابَتِهِ مَنَابَهُ.كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّلْفِيقُ بَيْنَ شُهُودِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَأَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى رُؤْيَةِ الزِّنَى، وَيَنْقُلَ اثْنَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


30-موسوعة الفقه الكويتية (فتوى 1)

فَتْوَى -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْفَتْوَى لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِفْتَاءِ، وَالْجَمْعُ: الْفَتَاوَى وَالْفَتَاوِي، يُقَالُ: أَفْتَيْتُهُ فَتْوَى وَفُتْيَا إِذَا أَجَبْتَهُ عَنْ مَسْأَلَتِهِ، وَالْفُتْيَا تَبْيِينُ الْمُشْكِلِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَتَفَاتَوْا إِلَى فُلَانٍ: تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ وَارْتَفَعُوا إِلَيْهِ فِي الْفُتْيَا، وَالتَّفَاتِي: التَّخَاصُمُ، وَيُقَالُ: أَفْتَيْتُ فُلَانًا رُؤْيَا رَآهَا: إِذَا عَبَّرْتَهَا لَهُ وَمِنْهُ قوله تعالى حَاكِيًا: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ}.

وَالِاسْتِفْتَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْجَوَابِ عَنِ الْأَمْرِ الْمُشْكِلِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى مُجَرَّدِ سُؤَالٍ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيِ اسْأَلْهُمْ.

وَالْفَتْوَى فِي الِاصْطِلَاحِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَنْ دَلِيلٍ لِمَنْ سَأَلَ عَنْهُ وَهَذَا يَشْمَلُ السُّؤَالَ فِي الْوَقَائِعِ وَغَيْرِهَا.

وَالْمُفْتِي لُغَةً: اسْمُ فَاعِلِ أَفْتَى، فَمَنْ أَفْتَى مَرَّةً فَهُوَ مُفْتٍ، وَلَكِنَّهُ يُحْمَلُ فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: هَذَا الِاسْمُ مَوْضُوعٌ لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ، وَعَلِمَ جُمَلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَكَذَلِكَ السُّنَنُ وَالِاسْتِنْبَاطُ، وَلَمْ يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا، فَمَنْ بَلَغَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ سَمَّوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَمَنِ اسْتَحَقَّهُ أَفْتَى فِيمَا اسْتُفْتِيَ فِيهِ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْمُفْتِي مَنْ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ، وَهَذَا إِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقَضَاءُ:

2- الْقَضَاءُ: هُوَ فَصْلُ الْقَاضِي بَيْنَ الْخُصُومِ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْحُكْمُ، وَالْحَاكِمُ: الْقَاضِي.

وَالْقَضَاءُ شَبِيهٌ بِالْفَتْوَى إِلاَّ أَنَّ بَيْنَهُمَا فُرُوقًا: مِنْهَا: أَنَّ الْفَتْوَى إِخْبَارٌ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْقَضَاءَ إِنْشَاءٌ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْفَتْوَى لَا إِلْزَامَ فِيهَا لِلْمُسْتَفْتِي أَوْ غَيْرِهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا إِنْ رَآهَا صَوَابًا وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا وَيَأْخُذَ بِفَتْوَى مُفْتٍ آخَرَ، أَمَّا الْحُكْمُ الْقَضَائِيُّ فَهُوَ مُلْزِمٌ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إِذَا دَعَا الْآخَرَ إِلَى فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ لَمْ نُجْبِرْهُ، وَإِنْ دَعَاهُ إِلَى قَاضٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ، وَأُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَنْصُوبٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ وَإِنْهَائِهَا.

وَمِنْهَا: مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنْ أَيْمَانِ الْبَزَّازِيَّةِ: أَنَّ الْمُفْتِيَ يُفْتِي بِالدِّيَانَةِ- أَيْ عَلَى بَاطِنِ الْأَمْرِ، وَيُدَيِّنُ الْمُسْتَفْتِيَ، وَالْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَى الظَّاهِرِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: مِثَالُهُ إِذَا قَالَ رَجُلٌ لِلْمُفْتِي: قُلْتُ لِزَوْجَتِي: أَنْتِ طَالِقٌ قَاصِدًا الْإِخْبَارَ كَاذِبًا فَإِنَّ الْمُفْتِيَ يُفْتِيهِ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ، أَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْوُقُوعِ.

وَمِنْهَا: مَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي جُزْئِيٌّ خَاصٌّ لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَلَهُ، وَفَتْوَى الْمُفْتِي شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفْتِي وَغَيْرِهِ، فَالْقَاضِي يَقْضِي قَضَاءً مُعَيَّنًا عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَالْمُفْتِي يُفْتِي حُكْمًا عَامًّا كُلِّيًّا: أَنَّ مَنْ فَعَلَ كَذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ كَذَا، وَمَنْ قَالَ كَذَا لَزِمَهُ كَذَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِلَفْظٍ مَنْطُوقٍ، وَتَكُونُ الْفُتْيَا بِالْكِتَابَةِ وَالْفِعْلِ وَالْإِشَارَةِ.

ب- الِاجْتِهَادُ:

3- الِاجْتِهَادُ: بَذْلُ الْفَقِيهِ وُسْعَهُ فِي تَحْصِيلِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الظَّنِّيِّ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِفْتَاءِ: أَنَّ الْإِفْتَاءَ: يَكُونُ فِيمَا عُلِمَ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا.أَمَّا الِاجْتِهَادُ فَلَا يَكُونُ فِي الْقَطْعِيِّ وَأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ تَحْصِيلِ الْفَقِيهِ الْحُكْمَ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَتِمُّ الْإِفْتَاءُ إِلاَّ بِتَبْلِيغِ الْحُكْمِ لِلسَّائِلِ.

وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ، أَرَادُوا بَيَانَ أَنَّ غَيْرَ الْمُجْتَهِدِ لَا يَكُونُ مُفْتِيًا حَقِيقَةً، وَأَنَّ الْمُفْتِيَ لَا يَكُونُ إِلاَّ مُجْتَهِدًا، وَلَمْ يُرِيدُوا التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالْإِفْتَاءِ فِي الْمَفْهُومِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- الْفَتْوَى فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، إِذْ لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَحْكَامَ دِينِهِمْ فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ، وَلَا يُحْسِنُ ذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَقُومَ بِهِ مَنْ لَدَيْهِ الْقُدْرَةُ.

وَلَمْ تَكُنْ فَرْضَ عَيْنٍ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي تَحْصِيلَ عُلُومٍ جَمَّةٍ، فَلَوْ كُلِّفَهَا كُلُّ وَاحِدٍ لأَفْضَى إِلَى تَعْطِيلِ أَعْمَالِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ، لِانْصِرَافِهِمْ إِلَى تَحْصِيلِ عُلُومٍ بِخُصُوصِهَا، وَانْصِرَافِهِمْ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ».

قَالَ الْمَحَلِّيُّ: وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ، وَحَلُّ الْمُشْكِلَاتِ فِي الدِّينِ، وَدَفْعُ الشُّبَهِ، وَالْقِيَامُ بِعُلُومِ الشَّرْعِ كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِمَا.

وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبِلَادِ مُفْتُونَ لِيَعْرِفَهُمُ النَّاسُ، فَيَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِمْ بِسُؤَالِهِمْ يَسْتَفْتِيهِمُ النَّاسُ، وَقَدَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ مَسَافَةِ قَصْرٍ وَاحِدٌ.

تَعَيُّنُ الْفَتْوَى:

5- مَنْ سُئِلَ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْمُتَأَهِّلِينَ لِلْفَتْوَى يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، بِشُرُوطٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُوجَدَ فِي النَّاحِيَةِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْإِجَابَةِ، فَإِنْ وُجِدَ عَالِمٌ آخَرُ يُمْكِنُهُ الْإِفْتَاءُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَى الْأَوَّلِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُحِيلَ عَلَى الثَّانِي، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَرُدُّهَا هَذَا إِلَى هَذَا، وَهَذَا إِلَى هَذَا، حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْأَوَّلِ: وَقِيلَ: إِذَا لَمْ يَحْضُرْ الِاسْتِفْتَاءَ غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَالِمًا بِالْحُكْمِ بِالْفِعْلِ، أَوْ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ، وَإِلاَّ لَمْ يَلْزَمْ تَكْلِيفُهُ بِالْجَوَابِ، لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي تَحْصِيلِهِ.

الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْجَوَابِ مَانِعٌ، كَأَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَنْ أَمْرٍ غَيْرِ وَاقِعٍ، أَوْ عَنْ أَمْرٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلسَّائِلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

مَنْزِلَةُ الْفَتْوَى:

6- تَتَبَيَّنُ مَنْزِلَةُ الْفَتْوَى فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ، مِنْهَا:

أ- أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْتَى عِبَادَهُ، وَقَالَ {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وَقَالَ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}.

ب- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَوَلَّى هَذَا الْمَنْصِبَ فِي حَيَاتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى رِسَالَتِهِ، وَقَدْ كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.فَالْمُفْتِي خَلِيفَةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي أَدَاءِ وَظِيفَةِ الْبَيَانِ، وَقَدْ تَوَلَّى هَذِهِ الْخِلَافَةَ بَعْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَصْحَابُهُ الْكِرَامُ، ثُمَّ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَهُمْ.

ج- أَنَّ مَوْضُوعَ الْفَتْوَى هُوَ بَيَانُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَطْبِيقُهَا عَلَى أَفْعَالِ النَّاسِ، فَهِيَ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَنَّهُ يَقُولُ لِلْمُسْتَفْتِي: حُقَّ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ، أَوْ حَرَامٌ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ، وَلِذَا شَبَّهَ الْقَرَافِيُّ الْمُفْتِيَ بِالتُّرْجُمَانِ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ الْمُوَقِّعِ عَنِ الْمَلِكِ قَالَ: إِذَا كَانَ مَنْصِبُ التَّوْقِيعِ عَنِ الْمُلُوكِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي لَا يُنْكَرُ فَضْلُهُ، وَلَا يُجْهَلُ قَدْرُهُ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّاتِ، فَكَيْفَ بِمَنْصِبِ التَّوْقِيعِ عَنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ نَقَلَ النَّوَوِيُّ: الْمُفْتِي مُوَقِّعٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ قَالَ: الْعَالِمُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يَدْخُلُ بَيْنَهُمْ؟.

تَهَيُّبُ الْإِفْتَاءِ وَالْجُرْأَةُ عَلَيْهِ:

7- وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَوْلُهُ: «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ» وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى تَرَادُّ الصَّحَابَةِ لِلْجَوَابِ عَنِ الْمَسَائِلِ.وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي حَدِيثِهِ عَنْهُمْ رِوَايَةً فِيهَا زِيَادَةُ: مَا مِنْهُمْ مَنْ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إِلاَّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ إِيَّاهُ، وَلَا يُسْتَفْتَى عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ وَسَحْنُونٍ: أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا، فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ مُتَهَيِّبًا لِلْإِفْتَاءِ، لَا يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ إِلاَّ حَيْثُ يَكُونُ الْحُكْمُ جَلِيًّا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ يَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا تَعَارَضَتْ فِيهِ الْأَقْوَالُ وَالْوُجُوهُ وَخَفِيَ حُكْمُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَيَتَرَيَّثَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ وَجْهُ الْجَوَابِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ تَوَقَّفَ.

وَفِيمَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يُسْأَلُ عَنْ خَمْسِينَ مَسْأَلَةً فَلَا يُجِيبُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَجَابَ فَيَنْبَغِي قَبْلَ الْجَوَابِ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَكَيْفَ خَلَاصُهُ، ثُمَّ يُجِيبُ، وَعَنِ الْأَثْرَمِ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَدْرِي.

الْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ:

8- الْإِفْتَاءُ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، وَيَتَضَمَّنُ إِضْلَالَ النَّاسِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّه ِمَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَقَرَنَهُ بِالْفَوَاحِشِ وَالْبَغْيِ وَالشِّرْكِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَثُرَ النَّقْلُ عَنِ السَّلَفِ إِذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ لِلسَّائِلِ: لَا أَدْرِي.نُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ، وَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ وَيُعَوِّدَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ فَعَلَ الْمُسْتَفْتِي بِنَاءً عَلَى الْفَتْوَى أَمْرًا مُحَرَّمًا أَوْ أَدَّى الْعِبَادَةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَى وَجْهٍ فَاسِدٍ، حَمَلَ الْمُفْتِي بِغَيْرِ عِلْمٍ إِثْمَهُ، إنْ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَفْتِي قَصَّرَ فِي الْبَحْثِ عَمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْفُتْيَا، وَإِلاَّ فَالْإِثْمُ عَلَيْهِمَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ».

أَنْوَاعُ مَا يُفْتَى فِيهِ:

9- يَدْخُلُ الْإِفْتَاءُ الْأَحْكَامَ الِاعْتِقَادِيَّةَ: مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ.

وَيَدْخُلُ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ جَمِيعَهَا: مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْأَنْكِحَةِ، وَيَدْخُلُ الْإِفْتَاءُ الْأَحْكَامَ التَّكْلِيفِيَّةَ كُلَّهَا، وَهِيَ الْوَاجِبَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ وَالْمَنْدُوبَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ وَالْمُبَاحَاتُ، وَيَدْخُلُ الْإِفْتَاءُ فِي الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ كَالْإِفْتَاءِ بِصِحَّةِ الْعِبَادَةِ أَوِ التَّصَرُّفِ أَوْ بُطْلَانِهِمَا.

حَقِيقَةُ عَمَلِ الْمُفْتِي:

10- لَمَّا كَانَ الْإِفْتَاءُ هُوَ الْإِخْبَارَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَنْ دَلِيلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أُمُورًا:

الْأَوَّلُ: تَحْصِيلُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُجَرَّدِ فِي ذِهْنِ الْمُفْتِي، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مَشَقَّةَ فِي تَحْصِيلِهِ لَمْ يَكُنْ تَحْصِيلُهُ اجْتِهَادًا، كَمَا لَوْ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ مَا هِيَ؟ أَوْ عَنْ حُكْمِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ؟ وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ خَفِيًّا، كَمَا لَوْ كَانَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَ وَاضِحَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ، أَوْ حَدِيثًا نَبَوِيًّا وَارِدًا بِطَرِيقِ الْآحَادِ، أَوْ غَيْرَ وَاضِحِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ، أَوْ كَانَ الْحُكْمُ مِمَّا تَعَارَضَتْ فِيهِ الْأَدِلَّةُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ شَيْءٍ مِنَ النُّصُوصِ أَصْلًا، احْتَاجَ أَخْذُ الْحُكْمِ إِلَى اجْتِهَادٍ فِي صِحَّةِ الدَّلِيلِ أَوْ ثُبُوتِهِ أَوِ اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ مِنْهُ أَوِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ.

الثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا، بِأَنْ يَذْكُرَهَا الْمُسْتَفْتِي فِي سُؤَالِهِ، وَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُحِيطَ بِهَا إِحَاطَةً تَامَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَابُ، بِأَنْ يَسْتَفْصِلَ السَّائِلَ عَنْهَا، وَيَسْأَلَ غَيْرَهُ إِنْ لَزِمَ، وَيَنْظُرَ فِي الْقَرَائِنِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ انْطِبَاقَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا، بِأَنْ يَتَحَقَّقَ مِنْ وُجُودِ مَنَاطِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تَحَصَّلَ فِي الذِّهْنِ فِي الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا لِيَنْطَبِقَ عَلَيْهَا الْحُكْمُ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَنُصَّ عَلَى حُكْمِ كُلِّ جُزْئِيَّةٍ بِخُصُوصِهَا، وَإِنَّمَا أَتَتْ بِأُمُورٍ كُلِّيَّةٍ وَعِبَارَاتٍ مُطْلَقَةٍ، تَتَنَاوَلُ أَعْدَادًا لَا تَنْحَصِرُ مِنَ الْوَقَائِعِ، وَلِكُلِّ وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا.وَلَيْسَتِ الْأَوْصَافُ الَّتِي فِي الْوَقَائِعِ مُعْتَبَرَةً فِي الْحُكْمِ كُلُّهَا، وَلَا هِيَ طَرْدِيَّةٌ كُلُّهَا، بَلْ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ، وَمِنْهَا مَا يُعْلَمُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ، وَبَيْنَهُمَا قِسْمٌ ثَالِثٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَلَا تَبْقَى صُورَةٌ مِنَ الصُّوَرِ الْوُجُودِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ إِلاَّ وَلِلْمُفْتِي فِيهَا نَظَرٌ سَهْلٌ أَوْ صَعْبٌ، حَتَّى يُحَقِّقَ تَحْتَ أَيِّ دَلِيلٍ تَدْخُلُ؟ وَهَلْ يُوجَدُ مَنَاطُ الْحُكْمِ فِي الْوَاقِعَةِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا حَقَّقَ وُجُودَهُ فِيهَا أَجْرَاهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا اجْتِهَادٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ قَاضٍ وَمُفْتٍ، وَلَوْ فُرِضَ ارْتِفَاعُ هَذَا الِاجْتِهَادِ لَمْ تَتَنَزَّلِ الْأَحْكَامُ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ إِلاَّ فِي الذِّهْنِ، لِأَنَّهَا عُمُومَاتٌ وَمُطْلَقَاتٌ، مُنَزَّلَةٌ عَلَى أَفْعَالٍ مُطْلَقَةٍ كَذَلِكَ، وَالْأَفْعَالُ الَّتِي تَقَعُ فِي الْوُجُودِ لَا تَقَعُ مُطْلَقَةً، وَإِنَّمَا تَقَعُ مُعَيَّنَةً مُشَخَّصَةً، فَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ وَاقِعًا عَلَيْهَا إِلاَّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ يَشْمَلُهُ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ أَوْ ذَلِكَ الْعَامُّ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَهْلًا وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ اجْتِهَادٌ.

وَمِثَالُ هَذَا: أَنْ يَسْأَلَهُ رَجُلٌ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ؟

فَيَنْظُرَ أَوَّلًا فِي الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ، فَيَعْلَمَ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الِابْنِ الْغَنِيِّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ الْفَقِيرِ، وَيَتَعَرَّفَ ثَانِيًا حَالَ كُلٍّ مِنَ الْأَبِ وَالِابْنِ، وَمِقْدَارَ مَا يَمْلِكُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِيَالِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَظُنُّ أَنَّ لَهُ فِي الْحُكْمِ أَثَرًا، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي حَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِيُحَقِّقَ وُجُودَ مَنَاطِ الْحُكْمِ- وَهُوَ الْغِنَى وَالْفَقْرُ- فَإِنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ اللَّذَيْنِ عَلَّقَ بِهِمَا الشَّارِعُ الْحُكْمَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ، فَالْغِنَى مَثَلًا لَهُ طَرَفٌ أَعْلَى لَا إِشْكَالَ فِي دُخُولِهِ فِي حَدِّ الْغِنَى، وَلَهُ طَرَفٌ أَدْنَى لَا إِشْكَالَ فِي خُرُوجِهِ عَنْهُ، وَهُنَاكَ وَاسِطَةٌ يَتَرَدَّدُ النَّاظِرُ فِي دُخُولِهَا أَوْ خُرُوجِهَا، وَكَذَلِكَ الْفَقْرُ لَهُ أَطْرَافٌ ثَلَاثَةٌ- فَيَجْتَهِدُ الْمُفْتِي فِي إِدْخَالِ الصُّورَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا فِي الْحُكْمِ أَوْ إِخْرَاجِهَا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ- وَهُوَ الْمُسَمَّى تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ- لِأَنَّ كُلَّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ النَّازِلَةِ نَازِلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فِي نَفْسِهَا، لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا نَظِيرٌ، وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ مِثْلُهَا فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي تَحْقِيقِ كَوْنِهَا مِثْلَهَا أَوْ لَا، وَهُوَ نَظَرُ اجْتِهَادٍ.

شُرُوطُ الْمُفْتِي:

11- لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي الْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورِيَّةُ وَالنُّطْقُ اتِّفَاقًا، فَتَصِحُّ فُتْيَا الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْأَخْرَسِ وَيُفْتِي بِالْكِتَابَةِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَأَمَّا السَّمْعُ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ شَرْطٌ فَلَا تَصِحُّ فُتْيَا الْأَصَمِّ وَهُوَ مَنْ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ إِذَا كُتِبَ لَهُ السُّؤَالُ وَأَجَابَ عَنْهُ جَازَ الْعَمَلُ بِفَتْوَاهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَصَّبَ لِلْفَتْوَى، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُهُمْ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرُوا فِي الشُّرُوطِ الْبَصَرَ، فَتَصِحُّ فُتْيَا الْأَعْمَى، وَصَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ.

أَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي فَهُوَ أُمُورٌ:

12- أ- الْإِسْلَامُ: فَلَا تَصِحُّ فُتْيَا الْكَافِرِ.

ب- الْعَقْلُ: فَلَا تَصِحُّ فُتْيَا الْمَجْنُونِ.

ج- الْبُلُوغُ: فَلَا تَصِحُّ فُتْيَا الصَّغِيرِ.

13- د: الْعَدَالَةُ: فَلَا تَصِحُّ فُتْيَا الْفَاسِقِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْإِفْتَاءَ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَخَبَرُ الْفَاسِقِ لَا يُقْبَلُ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ إِفْتَاءَ الْفَاسِقِ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ صِدْقَ نَفْسِهِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ يَصْلُحُ مُفْتِيًا، لِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ لِئَلاَّ يُنْسَبَ إِلَى الْخَطَأِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: تَصِحُّ فُتْيَا الْفَاسِقِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ وَدَاعِيًا إِلَى بِدْعَتِهِ، وَذَلِكَ إِذَا عَمَّ الْفُسُوقُ وَغَلَبَ، لِئَلاَّ تَتَعَطَّلَ الْأَحْكَامُ، وَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ الْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ.

وَأَمَّا الْمُبْتَدِعَةُ، فَإِنْ كَانَتْ بِدْعَتُهُمْ مُكَفِّرَةً أَوْ مُفَسِّقَةً لَمْ تَصِحَّ فَتَاوَاهُمْ، وَإِلاَّ صَحَّتْ فِيمَا لَا يَدْعُونَ فِيهِ إِلَى بِدَعِهِمْ، قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: تَجُوزُ فَتَاوَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَمَنْ لَا نُكَفِّرُهُ بِبِدْعَتِهِ وَلَا نُفَسِّقُهُ، وَأَمَّا الشُّرَاةُ وَالرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَشْتُمُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَ السَّلَفَ فَإِنَّ فَتَاوِيَهُمْ مَرْذُولَةٌ وَأَقَاوِيلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ.

14- هـ- الِاجْتِهَادُ وَهُوَ: بَذْلُ الْجَهْدِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلًا عَارِفًا بِكِتَابِ اللَّهِ: بِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَتَأْوِيلِهِ وَتَنْزِيلِهِ، وَمَكِّيِّهِ وَمَدَنِيِّهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ، وَيَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ بَصِيرًا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَيَعْرِفُ مِنَ الْحَدِيثِ مِثْلَ مَا عَرَفَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَكُونُ بَصِيرًا بِاللُّغَةِ، بَصِيرًا بِالشِّعْرِ، وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلسُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ وَيَسْتَعْمِلُ هَذَا مَعَ الْإِنْصَافِ، وَيَكُونُ مُشْرِفًا عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَتَكُونُ لَهُ قَرِيحَةٌ بَعْدَ هَذَا، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيُفْتِيَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَكَذَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ.ا هـ.وَهَذَا مَعْنَى الِاجْتِهَادِ.

وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَمَفْهُومُ هَذَا الشَّرْطِ: أَنَّ فُتْيَا الْعَامِّيِّ وَالْمُقَلِّدِ الَّذِي يُفْتِي بِقَوْلِ غَيْرِهِ لَا تَصِحُّ،

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَفِي فُتْيَا الْمُقَلِّدِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْفُتْيَا بِالتَّقْلِيدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ.

الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَتَقَلَّدَ لِغَيْرِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ فَلَا.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ، قَالَ: وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْهُمَامِ: وَقَدِ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِمُفْتٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِذَا سُئِلَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ، فَعُرِفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا مِنْ فَتْوَى الْمَوْجُودِينَ لَيْسَ بِفَتْوَى، بَلْ هُوَ نَقْلُ كَلَامِ الْمُفْتِي لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِي.ا هـ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَهُ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ وَلَا يَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ هُوَ، وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ فُتْيَا الْمُقَلِّدِ لَيْسَتْ بِفُتْيَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَتُسَمَّى فُتْيَا مَجَازًا لِلشَّبَهِ، وَيَجُوزُ الْأَخْذُ بِهَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ لِقِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ أَوِ انْعِدَامِهِمْ، وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: الِاجْتِهَادُ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الْمُجْتَهِدُ فَهُوَ الْأَوْلَى بِالتَّوْلِيَةِ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: تَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إِلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ، أَوِ اسْتِرْسَالِ الْخَلْقِ فِي أَهْوَائِهِمْ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا كَانَ عَدْلًا مُتَمَكِّنًا مِنْ فَهْمِ كَلَامِ الْإِمَامِ، ثُمَّ حَكَى لِلْمُقَلِّدِ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ، قَالَ: وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفُتْيَا.

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: أَمَّا مَنْ شَدَا (جَمَعَ) شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ فَقَدْ نُقِلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ.

15- وَلَيْسَ لِمَنْ يُفْتِي بِمَذْهَبِ إِمَامٍ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ عَرَفَ دَلِيلَهُ وَوَجْهَ الِاسْتِنْبَاطِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ، هَذَا إِجْمَاعُ السَّلَفِ وَبِهِ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا.

وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: مَنْ حَفِظَ نُصُوصَ الشَّافِعِيِّ وَأَقْوَالَ النَّاسِ بِأَسْرِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَهَا وَمَعَانِيَهَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَقِيسَ، وَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى، وَلَوْ أَفْتَى بِهِ لَا يَجُوزُ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي الْمَذْهَبِ مِنَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ التَّرْجِيحِ لَا يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ وَتَرْجِيحُ مَا رَجَحَ عِنْدَهُ دَلِيلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْأَخْذُ بِأَقْوَالِ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ بِتَرْتِيبٍ الْتَزَمُوهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَا شَاءَ وَكَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي مَسْأَلَةٍ ذَاتِ قَوْلَيْنِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَيَّهُمَا أَقْرَبَ إِلَى الْأَدِلَّةِ أَوْ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ فَيَعْمَلَ بِهِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَسَبَقَهُ إِلَى حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّوَابَ فِي قَوْلِ غَيْرِ إِمَامِهِ وَكَانَ لَهُ اجْتِهَادٌ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ.

وَلَيْسَ لِلْمُفْتِي الْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ بِالضَّعِيفِ وَالْمَرْجُوحِ مِنَ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، بَلْ نَقَلَ الْحَصْكَفِيُّ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ جَهْلٌ وَخَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ لَيْسَ لِلْمُفْتِي الْمُقَلِّدِ الْإِفْتَاءُ بِالضَّعِيفِ وَالْمَرْجُوحِ حَتَّى فِي حَقِّ نَفْسِهِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ أَجَازُوا لَهُ الْعَمَلَ بِالضَّعِيفِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ.

16- وَحَيْثُ قُلْنَا: إِنَّ لِلْمُقَلِّدِ الْإِفْتَاءَ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْمُقَلِّدُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَذَاهِبُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا.وَصَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ الَّذِي يَسْتَنْبِطُ حُكْمًا فَهُوَ عِنْدَهُ حُكْمٌ دَائِمٌ.

وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ عَاشَ فَإِنَّهُ كَانَ يُجَدِّدُ النَّظَرَ عِنْدَ النَّازِلَةِ إِمَّا وُجُوبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا، وَلَعَلَّهُ لَوْ جَدَّدَ النَّظَرَ لَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ.

17- وَمَا رَجَعَ عَنْهُ الْمُجْتَهِدُ مِنْ أَقْوَالِهِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ الْإِفْتَاءُ بِهِ، لِأَنَّهُ بِرُجُوعِهِ عَنْهُ لَمْ يُعَدَّ قَوْلًا لَهُ، وَهَذَا مَا لَمْ يُرَجِّحْهُ أَهْلُ التَّرْجِيحِ، وَمِنْ هُنَا تُرِكَ الْقَدِيمُ مِنْ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ الَّتِي خَالَفَهَا فِي الْجَدِيدِ، إِلاَّ مَسَائِلَ مَعْدُودَةً يُعْمَلُ فِيهَا بِالْقَدِيمِ رَجَّحَهَا أَهْلُ التَّرْجِيحِ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ فِي حِلٍّ مَنْ رَوَى عَنِّي الْقَدِيمَ.

18- و- جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الْإِصَابَةِ، صَحِيحَ الِاسْتِنْبَاطِ، فَلَا تَصْلُحُ فُتْيَا الْغَبِيِّ، وَلَا مَنْ كَثُرَ غَلَطُهُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِطَبْعِهِ شَدِيدَ الْفَهْمِ لِمَقَاصِدِ الْكَلَامِ وَدَلَالَةِ الْقَرَائِنِ، صَادِقَ الْحُكْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: أَنْ تَكُونَ لَهُ قَرِيحَةٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: شَرْطُ الْمُفْتِي كَوْنُهُ فَقِيهَ النَّفْسِ، سَلِيمَ الذِّهْنِ، رَصِينَ الْفِكْرِ، صَحِيحَ النَّظَرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ.ا هـ.

وَهَذَا يُصَحِّحُ فُتْيَاهُ مِنْ جِهَتَيْنِ:

الْأُولَى: صِحَّةُ أَخْذِهِ لِلْحُكْمِ مِنْ أَدِلَّتِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: صِحَّةُ تَطْبِيقِهِ لِلْحُكْمِ عَلَى الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا، فَلَا يَغْفُلُ عَنْ أَيٍّ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْحُكْمِ، وَلَا يَعْتَقِدُ تَأْثِيرَ مَا لَا أَثَرَ لَهُ.

19- ز- الْفَطَانَةُ وَالتَّيَقُّظُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: شَرَطَ بَعْضُهُمْ تَيَقُّظَ الْمُفْتِي، قَالَ: وَهَذَا شَرْطٌ فِي زَمَانِنَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي مُتَيَقِّظًا يَعْلَمُ حِيَلَ النَّاسِ وَدَسَائِسَهُمْ، فَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ مَهَارَةً فِي الْحِيَلِ وَالتَّزْوِيرِ وَقَلْبِ الْكَلَامِ وَتَصْوِيرِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، فَغَفْلَةُ الْمُفْتِي يَلْزَمُ مِنْهَا ضَرَرٌ كَبِيرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِمَكْرِ النَّاسِ وَخِدَاعِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ زَاغَ وَأَزَاغَ، فَالْغِرُّ يَرُوجُ عَلَيْهِ زَغَلُ الْمَسَائِلِ كَمَا يَرُوجُ عَلَى الْجَاهِلِ بِالنَّقْدِ زَغَلُ الدَّرَاهِمِ، وَذُو الْبَصِيرَةِ يُخْرِجُ زَيْفَهَا كَمَا يُخْرِجُ النَّاقِدُ زَغَلَ النُّقُودِ، وَكَمْ مِنْ بَاطِلٍ يُخْرِجُهُ الرَّجُلُ بِحُسْنِ لَفْظِهِ وَتَنْمِيقِهِ فِي صُورَةِ حَقٍّ، بَلْ هَذَا أَغْلَبُ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُفْتِي فَقِيهًا فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ النَّاسِ تَصَوَّرَ لَهُ الْمَظْلُومُ فِي صُورَةِ الظَّالِمِ وَعَكْسُهُ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا مَا نَبَّهَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ عَلَى عِلْمٍ بِالْأَعْرَافِ اللَّفْظِيَّةِ لِلْمُسْتَفْتِي، لِئَلاَّ يُفْهَمَ كَلَامُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ إِفْتَاؤُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ كَالْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَنَحْوِهَا.

20- وَالْقَرَابَةُ وَالصَّدَاقَةُ وَالْعَدَاوَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْفَتْوَى كَمَا تُؤَثِّرُ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَوْ شَرِيكَهُ أَوْ يُفْتِيَ عَلَى عَدُوِّهِ، فَالْفَتْوَى فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ الْمُفْتِيَ فِي حُكْمِ الْمُخْبِرِ عَنِ الشَّرْعِ بِأَمْرٍ عَامٍّ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِشَخْصٍ، وَلِأَنَّ الْفَتْوَى لَا يَرْتَبِطُ بِهَا إِلْزَامٌ، بِخِلَافِ حُكْمِ الْقَاضِي.

وَيَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ نَفْسَهُ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَابِيَ نَفْسَهُ أَوْ قَرِيبَهُ فِي الْفُتْيَا، بِأَنْ يُرَخِّصَ لِنَفْسِهِ أَوْ قَرِيبِهِ، وَيُشَدِّدَ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ قَدَحَ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِ، وَنَقَلَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ عَنْ صَاحِبِ الْحَاوِي أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا نَابَذَ فِي فُتْيَاهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا صَارَ خَصْمًا، فَتُرَدُّ فَتْوَاهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ إِذَا وَقَعَتْ.

وَقَدْ نَبَّهَ أَحْمَدُ إِلَى خِصَالٍ مُكَمِّلَةٍ لِلْمُفْتِي حَيْثُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْصِبَ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نُورٌ، وَلَا عَلَى كَلَامِهِ نُورٌ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ وَحِلْمٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَالْكِفَايَةُ وَإِلاَّ مَضَغَهُ النَّاسُ، وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


31-موسوعة الفقه الكويتية (لواط)

لِوَاطٌ

التَّعْرِيفُ:

1- اللِّوَاطُ لُغَةً: مَصْدَرُ لَاطَ، يُقَالُ: لَاطَ الرَّجُلُ وَلَاوَطَ: أَيْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ.

وَاصْطِلَاحًا: إِيلَاجُ ذَكَرٍ فِي دُبُرِ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الزِّنَا:

2- الزِّنَا فِي اللُّغَةِ: الْفُجُورُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ لِلزِّنَا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَهُوَ يَشْمَلُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لَا يُوجِبُهُ بِأَنَّهُ: وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ.

وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: إِيلَاجُ الذَّكَرِ بِفَرْجٍ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ خَالٍ عَنِ الشُّبْهَةِ مُشْتَهًى طَبْعًا.

وَيَتَّفِقُ اللِّوَاطُ وَالزِّنَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَطْءٌ مُحَرَّمٌ، لَكِنِ اللِّوَاطُ وَطْءٌ فِي الدُّبُرِ، وَالزِّنَا وَطْءٌ فِي الْقُبُلِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللِّوَاطَ مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ.

وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ وَعَابَ عَلَى فِعْلِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}.

وَقَدْ ذَمَّهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ».

عُقُوبَةُ اللاَّئِطِ

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عُقُوبَةَ اللاَّئِطِ هِيَ عُقُوبَةُ الزَّانِي، فَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ وَيُجْلَدُ غَيْرُهُ وَيُغَرَّبُ لِأَنَّهُ زِنًا بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ».

5- هَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلِمُخَالِفِيهِمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ تَفْصِيلٌ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِوَطْءِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فِي غَيْرِ قُبُلِهَا وَلَا بِاللِّوَاطَةِ بَلْ يُعَزَّرُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: اللِّوَاطُ كَالزِّنَا فَيُحَدُّ جَلْدًا إِنْ لَمْ يَكُنْ أُحْصِنَ وَرَجْمًا إِنْ أُحْصِنَ.

وَمَنْ تَكَرَّرَ اللِّوَاطُ مِنْهُ يُقْتَلُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَمَنْ فَعَلَ اللِّوَاطَ فِي عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ مَنْكُوحَتِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ الْمَحْظُورَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَ قَوْمِ لُوطٍ رُجِمَ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ التَّكْلِيفُ فِيهِمَا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ.وَأَمَّا إِتْيَانُ الرَّجُلِ حَلِيلَتَهُ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ أَمَةٍ فَلَا حَدَّ بَلْ يُؤَدَّبُ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ بِاللِّوَاطِ حَدُّ الزِّنَا، وَفِي قَوْلٍ يُقْتَلُ الْفَاعِلُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ».

وَقِيلَ: إِنَّ وَاجِبَهُ التَّعْزِيرُ فَقَطْ كَإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ.

وَشَمَلَ ذَلِكَ دُبُرَ عَبْدِهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ هَذَا حُكْمُ الْفَاعِلِ.

وَأَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مُكْرَهًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا جُلِدَ وَغُرِّبَ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِحْصَانُ، وَقِيلَ تُرْجَمُ الْمَرْأَةُ الْمُحْصَنَةُ.

وَأَمَّا وَطْءُ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ فِي دُبْرِهَا فَالْمَذْهَبُ أَنَّ وَاجِبَهُ التَّعْزِيرُ إِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْفِعْلُ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلَا تَعْزِيرَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَالزَّوْجَةُ وَالْأَمَةُ فِي التَّعْزِيرِ مِثْلُهُ سَوَاءً.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ اللِّوَاطِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ كَزَانٍ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- السَّابِقِ، وَلِأَنَّهُ فَرْجٌ مَقْصُودٌ بِالِاسْتِمْتَاعِ فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ كَفَرْجِ الْمَرْأَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللِّوَاطُ فِي مَمْلُوكِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ لِأَنَّ الذَّكَرَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْوَطْءِ، فَلَا يُؤَثِّرُ مِلْكُهُ لَهُ، أَوْ فِي دُبُرِ أَجْنَبِيَّةٍ لِأَنَّهُ فَرْجٌ أَصْلِيٌّ كَالْقُبُلِ، فَإِنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا أَوْ وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَلَا حَدَّ فِيهِ لِأَنَّهَا مَحَلٌّ لِلْوَطْءِ فِي الْجُمْلَةِ بَلْ يُعَزَّرُ لِارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ.

مَا يَثْبُتُ بِهِ اللِّوَاطُ

6- يَثْبُتُ اللِّوَاطُ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الشَّهَادَةِ.

وَأَمَّا عَدَدُ الشُّهُودِ، فَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَدَدُهُمْ بِعَدَدِ شُهُودِ الزِّنَا أَيْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ.

الْقَذْفُ بِاللِّوَاطِ

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: إِنَّهُ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ قَذْفًا، وَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلِحِ (قَذْفٌ ف 11).

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


32-موسوعة الفقه الكويتية (مجاهرة)

مُجَاهَرَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْمُجَاهَرَةِ فِي اللُّغَةِ: الْإِظْهَارُ، يُقَالُ: جَاهَرَهُ بِالْعَدَاوَةِ مُجَاهَرَةً وَجِهَارًا أَظْهَرَهَا.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

قَالَ عِيَاضٌ: الْجِهَارُ وَالْإِجْهَارُ وَالْمُجَاهَرَةُ كُلُّهُ صَوَابٌ بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَالْإِظْهَارِ، يُقَالُ: جَهَرَ وَأَجْهَرَ بِقَوْلِهِ وَقِرَاءَتِهِ: إِذَا أَظْهَرَ وَأَعْلَنَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْإِظْهَارُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْإِظْهَارِ فِي اللُّغَةِ: التَّبْيِينُ وَالْإِبْرَازُ بَعْدَ الْخَفَاءِ، يُقَالُ: أَظْهَرَ الشَّيْءَ: بَيَّنَهُ، وَأَظْهَرَ فُلَانًا عَلَى السِّرِّ: أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُجَاهَرَةِ وَالْإِظْهَارِ: أَنَّ الْمُجَاهَرَةَ أَعَمُّ مِنَ الْإِظْهَارِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- الْمُجَاهَرَةُ قَدْ تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا، كَالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ وَالتَّبَجُّحِ وَالِافْتِخَارِ بِهَا بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَقَدْ تَكُونُ مَشْرُوعَةً، كَمَنْ قَوِيَ إِخْلَاصُهُ وَصَغُرَ النَّاسُ فِي عَيْنَيْهِ وَاسْتَوَى عِنْدَهُ مَدْحُهُمْ وَذَمُّهُمْ فَيَجُوزُ لَهُ إِظْهَارُ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُجَاهَرَةِ:

الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي

4- الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي مَنْهِيٌّ عَنْهَا، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ» وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ لِمَنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَةٍ أَنْ يُخْبِرَ غَيْرَهُ بِهَا، بَلْ يُقْلِعَ عَنْهَا وَيَنْدَمَ وَيَعْزِمَ أَنْ لَا يَعُودَ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِهَا شَيْخَهُ أَوْ نَحْوَهُ مِمَّنْ يَرْجُو بِإِخْبَارِهِ أَنْ يُعْلِمَهُ مَخْرَجًا مِنْهَا، أَوْ مَا يَسْلَمُ بِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهَا، أَوْ يُعَرِّفُهُ السَّبَبَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيهَا، أَوْ يَدْعُو لَهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِانْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْكَشْفُ الْمَذْمُومُ هُوَ الَّذِي إِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمُجَاهَرَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، لَا عَلَى وَجْهِ السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْتَاءِ بِدَلِيلِ خَبَرِ مَنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ فَجَاءَ فَأَخْبَرَ الْمُصْطَفَى- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ.

5- وَجَعَلَ ابْنُ جَمَاعَةَ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ إِفْشَاءَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمُبَاحِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» وَالْمُرَادُ مِنْ نَشْرِ السِّرِّ ذِكْرُ مَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ مِنْ أُمُورِ الْوِقَاعِ وَوَصْفِ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَمَا يَجْرِي مِنَ الْمَرْأَةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْوِقَاعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ فَذِكْرُهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ دَعَتْ إِلَى ذِكْرِهِ حَاجَةٌ وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ فَهُوَ مُبَاحٌ كَمَا لَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ عِنِّينٌ.

(ر: إِفْشَاءُ السِّرِّ ف 6).

الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ

6- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ بِالْجَارِحَةِ، وَقَالُوا: مَنْ صَلَّى خَلْفَ فَاسِقٍ يَكُونُ مُحْرِزًا ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ، لَكِنْ لَا يَنَالُ ثَوَابَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ إِمَامٍ تَقِيٍّ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْفَاسِقُ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اخْتُلِفَ فِي إِمَامَةِ الْفَاسِقِ بِالْجَوَارِحِ فَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: الْمَشْهُورُ إِعَادَةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ أَبَدًا، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ فِسْقُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَالزِّنَا وَتَرْكِ الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِنْ كَانَ فِسْقُهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالصَّلَاةِ كَالزِّنَا وَغَصْبِ الْمَالِ أَجْزَأَتْهُ، لَا إِنْ تَعَلَّقَ بِهَا كَالطَّهَارَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ صَلَّى خَلْفَ شَارِبِ الْخَمْرِ أَعَادَ أَبَدًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَالِي الَّذِي تُؤَدَّى إِلَيْهِ الطَّاعَةُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سَكْرَانَ حِينَئِذٍ وَسُئِلَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ عَمَّنْ يَعْمَلُ الْمَعَاصِيَ هَلْ يَكُونُ إِمَامًا؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الْمُصِرُّ وَالْمُجَاهِرُ فَلَا.وَالْمَسْتُورُ الْمُعْتَرِفُ بِبَعْضِ الشَّيْءِ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْكَامِلِ أَوْلَى، وَخَلْفَهُ لَا بَأْسَ بِهَا.

وَسُئِلَ عَمَّنْ يُعْرَفُ مِنْهُ الْكَذِبُ الْعَظِيمُ، أَوْ قَتَّاتٌ كَذَلِكَ، هَلْ تَجُوزُ إِمَامَتُهُ؟ فَأَجَابَ: لَا يُصَلَّى خَلْفَ الْمَشْهُورِ بِالْكَذِبِ وَالْقَتَّاتِ وَالْمُعْلِنِ بِالْكَبَائِرِ وَلَا يُعِيدُ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَمَّا مَنْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ فَلَا يَتْبَعُ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ مَالِكٍ: مَنْ هَذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ؟ وَلَيْسَ الْمُصِرُّ وَالْمُجَاهِرُ كَغَيْرِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تَصِحُّ إِمَامَةُ فَاسِقٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ فِسْقُهُ بِالِاعْتِقَادِ أَوْ بِالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ، وَسَوَاءٌ أَعْلَنَ فِسْقَهُ أَوْ أَخْفَاهُ.

وَاخْتَارَ الشَّيْخَانِ أَنَّ الْبُطْلَانَ مُخْتَصٌّ بِظَاهِرِ الْفِسْقِ دُونَ خَفِيِّهِ، وَقَالَ فِي الْوَجِيزِ: لَا تَصِحُّ خَلْفَ الْفَاسِقِ الْمَشْهُورِ فِسْقُهُ.

عِيَادَةُ الْمُجَاهِرِ بِمَعْصِيَةٍ

7- تُسَنُّ عِيَادَةُ مَرِيضٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ مُبْتَدِعٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ: رَدُّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ».

وَلَا تُسَنُّ عِيَادَةُ مُتَجَاهِرٍ بِمَعْصِيَةِ إِذَا مَرِضَ لِيَرْتَدِعَ وَيَتُوبَ، وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحُكْمِ: وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُتَجَاهِرِ بِمَعْصِيَةٍ يُعَادُ.

الصَّلَاةُ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِالْمَعَاصِي

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ.

قَالَ ابْنُ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ وَلِأَهْلِ الْفَضْلِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى الْبُغَاةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ الرَّدْعِ، قَالَ: وَيُصَلِّي عَلَيْهِمُ النَّاسُ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَهِرُ بِالْمَعَاصِي وَمَنْ قُتِلَ فِي قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِمُ الْإِمَامُ وَلَا أَهْلُ الْفَضْلِ.

وَقَالَ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ أَنْ يَهْجُرُوا الْمُظْهِرَ لِلْمُنْكَرِ مَيِّتًا إِذَا كَانَ

فِيهِ كَفٌّ لِأَمْثَالِهِ، فَيَتْرُكُونَ تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ تَصْرِيحًا أَوْ تَأْوِيلًا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

(ر: جَنَائِزُ ف 40).

السَّتْرُ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ

9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ السَّتْرُ فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِأَذًى أَوْ فَسَادٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

وَأَمَّا الْمُجَاهِرُ وَالْمُتَهَتِّكُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُسْتَرَ عَلَيْهِ، بَلْ يُظْهَرُ حَالُهُ لِلنَّاسِ حَتَّى يَتَوَقَّوْهُ، أَوْ يَرْفَعُهُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِ وَاجِبَهُ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، مَا لَمْ يَخْشَ مَفْسَدَةً، لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَيْهِ يُطْمِعُهُ فِي مَزِيدٍ مِنَ الْأَذَى وَالْفَسَادِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: مَنْ جَاهَرَ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ جَازَ ذِكْرُهُ بِمَا جَاهَرَ بِهِ دُونَ مَنْ لَمْ يُجَاهِرْ بِهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ سَتْرِ عُيُوبِ الْمُؤْمِنِ (ر: إِفْشَاءُ السِّرِّ ف 10 وَسَتْرٌ ف 2).

غِيبَةُ الْمُجَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ

10- الْغِيبَةُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَجَازُوا غِيبَةَ الْمُجَاهِرِ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كَالْمُجَاهِرِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَمُصَادَرَةِ النَّاسِ وَأَخْذِ الْمَكْسِ وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ ظُلْمًا وَتَوَلِّي الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِجَوَازِهِ سَبَبٌ آخَرُ.

قَالَ الْخَلاَّلُ: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ.

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ (بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ) عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثَةٌ لَا غِيبَةَ فِيهِمْ: الْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، وَشَارِبُ الْخَمْرِ، وَالسُّلْطَانُ الْجَائِرُ». هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي

11- يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّةِ، وَقِيلَ: يَجِبُ إِنِ ارْتَدَعَ بِهِ، وَإِلاَّ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَقِيلَ: يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا إِلاَّ مِنَ السَّلَامِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيُكْرَهُ لِبَقِيَّةِ النَّاسِ تَرْكُهُ، وَظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْهُ: لَيْسَ لِمَنْ يَسْكَرُ وَيُقَارِفُ شَيْئًا مِنَ الْفَوَاحِشِ حُرْمَةٌ وَلَا صِلَةٌ إِذَا كَانَ مُعْلِنًا مُكَاشِفًا.

قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى حَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ» إِذَا كَانَ الْهَجْرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنِ ارْتَكَبَ الْمَهْجُورُ بِدْعَةً أَوْ تَجَاهَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، وَالْوَعِيدُ لَا يَتَنَاوَلُهُ أَصْلًا، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.

إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ

12- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الدَّعَوَاتِ غَيْرِ الْوَلِيمَةِ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.

وَأَمَّا الْإِجَابَةُ إِلَى دَعْوَةِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالُوا: لَا يُجِيبُ دَعْوَةَ الْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِفِسْقِهِ، وَكَذَا دَعْوَةُ مَنْ كَانَ غَالِبُ مَالِهِ مِنْ حَرَامٍ مَا لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ حَلَالٌ.

إِنْكَارُ مَا يُجَاهِرُ بِهِ مِنْ مَحْظُورَاتٍ وَمُبَاحَاتٍ

13- قَالَ ابْنُ الْإِخْوَةِ: إِذَا جَاهَرَ رَجُلٌ بِإِظْهَارِ الْخَمْرِ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَرَاقَهَا الْمُحْتَسِبُ وَأَدَّبَهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أُدِّبَ عَلَى إِظْهَارِهَا، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِرَاقَتِهَا عَلَيْهِ:

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا لَا تُرَاقُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَضْمُونَةِ فِي حُقُوقِهِمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ عِنْدَهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلَا الْكَافِرِ.

فَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ النَّبِيذِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُقَرُّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا، فَيُمْنَعُ مِنْ إِرَاقَتِهِ وَمِنَ التَّأْدِيبِ عَلَى إِظْهَارِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخَمْرِ وَلَيْسَ فِي إِرَاقَتِهِ غُرْمٌ، فَيَعْتَبِرُ وَالِي الْحِسْبَةِ شَوَاهِدَ الْحَالِ فِيهِ فَيَنْهَى عَنِ الْمُجَاهَرَةِ وَيَزْجُرُ عَلَيْهِ وَلَا يُرِيقُهُ إِلاَّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِإِرَاقَتِهِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِئَلاَّ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ غُرْمٌ إِنْ حُوكِمَ فِيهِ.

وَمِنْ قَبِيلِ إِنْكَارِ مَا يُجَاهَرُ بِهِ مِنْ مُبَاحَاتٍ مَا نَقَلَهُ الْبُهُوتِيُّ عَنِ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ.

قَالَ ابْنُ الْإِخْوَةِ: وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ الْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ، مِثْلُ الزَّمْرِ وَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالصَّنْجِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الْمَلَاهِي، فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْصِلَهَا حَتَّى تَصِيرَ خَشَبًا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي، وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يَكْسِرَهَا إِنْ كَانَ خَشَبُهَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي، فَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي كَسَرَهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي فِيهَا لَمَّا كَانَتْ مَحْظُورَةً شَرْعًا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا، وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنَ الِاسْتِسْرَارِ بِهَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَّمَ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالطَّاعَاتِ وَالْإِسْرَارِ بِهَا

14- جَاءَ فِي قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ: الطَّاعَاتُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:

أَحَدُهَا: مَا شُرِعَ مَجْهُورًا بِهِ، كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُطَبِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ وَالْأَعْيَادِ وَالْجِهَادِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْأَمْوَاتِ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ.فَإِنْ خَافَ فَاعِلُهُ الرِّيَاءَ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي دَفْعِهِ إِلَى أَنْ تَحْضُرَهُ نِيَّةُ إِخْلَاصِهِ فَيَأْتِيَ بِهِ مُخْلِصًا كَمَا شُرِعَ، فَيَحْصُلَ عَلَى أَجْرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَعَلَى أَجْرِ الْمُجَاهِدِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ.

الثَّانِي: مَا يَكُونُ إِسْرَارُهُ خَيْرًا مِنْ إِعْلَانِهِ كَإِسْرَارِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَإِسْرَارِ أَذْكَارِهَا، فَهَذَا إِسْرَارُهُ خَيْرٌ مِنْ إِعْلَانِهِ.

الثَّالِثُ: مَا يَخْفَى تَارَةً وَيَظْهَرُ أُخْرَى كَالصَّدَقَاتِ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ أَوْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِبْدَاءِ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَمَنْ أَمِنَ مِنَ الرِّيَاءِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، فَإِخْفَاؤُهَا أَفْضَلُ إِذْ لَا يَأْمَنُ مِنَ الرِّيَاءِ عِنْدَ الْإِظْهَارِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ كَانَ الْإِبْدَاءُ أَوْلَى، لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْفُقَرَاءِ مَعَ مَصْلَحَةِ الِاقْتِدَاءِ، فَيَكُونُ قَدْ نَفَعَ الْفُقَرَاءَ بِصَدَقَتِهِ وَبِتَسَبُّبِهِ إِلَى تَصَدُّقِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ نَفَعَ الْأَغْنِيَاءَ بِتَسَبُّبِهِ إِلَى اقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي نَفْعِ الْفُقَرَاءِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


33-موسوعة الفقه الكويتية (نكاح منهي عنه 2)

نِكَاحٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ -2

الْخَامِسُ: نِكَاحُ الْخِدْنِ:

10- الْخِدْنُ: هُوَ الصَّدِيقُ لِلْمَرْأَةِ يَزْنِي بِهَا سِرًّا.وَذَاتُ الْخِدْنِ مِنَ النِّسَاءِ: هِيَ الَّتِي تَزْنِي سِرًّا.وَقِيلَ: ذَاتُ الْخِدْنِ هِيَ الَّتِي تَزْنِي بِوَاحِدٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعِيبُ الْإِعْلَانَ بِالزِّنَى وَلَا تَعِيبُ اتِّخَاذَ الْأَخْدَانِ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ جَمِيعَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ مِنْهُ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ بِقَوْلِهِ {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَزَجَرَ عَنِ الْوَطْءِ إِلاَّ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} كَانَتِ الْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَشْهُورَاتٍ، وَمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ.وَكَانُوا بِعُقُولِهِمْ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيُحِلُّونَ مَا بَطَنَ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْجَمِيعِ

السَّادِسُ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ:

11- نِكَاحُ الْمُتْعَةِ هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ: أُعْطِيكِ كَذَا عَلَى أَنْ أَتَمَتَّعَ بِكِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ سَوَاءٌ قَدَّرَ الْمُتْعَةَ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ، أَوْ قَدَّرَهَا بِمُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ كَقَوْلِهِ: أُعْطِيكِ كَذَا عَلَى أَنْ أَتَمَتَّعَ بِكِ مَوْسِمَ الْحَجِّ أَوْ مَا أَقَمْتُ فِي الْبَلَدِ أَوْ حَتَّى يَقْدَمَ زَيْدٌ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَجَلُ الْمُحَدَّدُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ.

وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ مِنْ أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ مُبَاحًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ حُرِّمَ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ» ثُمَّ رَخَّصَ فِيهِ عَامَ الْفَتْحِ، «لِحَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ- رضي الله عنهما-: أَنَّ أَبَاهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَتْحَ مَكَّةَ قَالَ: فَأَقَمْنَا بِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ (ثَلَاثِينَ بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) فَأَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ» ثُمَّ حُرِّمَ فِيهِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، ثُمَّ حُرِّمَ أَبَدًا لِحَدِيثِ سَبْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، ثُمَّ حَرَّمَ أَبَدًا» قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا حُرِّمَ ثُمَّ أُبِيحَ ثُمَّ حُرِّمَ إِلاَّ الْمُتْعَةَ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى حُرْمَةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَبُطْلَانِ عَقْدِهِ، مُسْتَدِلِّينَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا «حَدِيثُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ- رضي الله عنهما-: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» وَحَدِيثُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمُتْعَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلَمَّا نَزَلَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ نُسِخَتْ» وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «حَرَّمَ- أَوْ هَدَمَ- الْمُتْعَةَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ» بِمَعْنَى أَنَّ الْمُتْعَةَ تَرْتَفِعُ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا فُرْقَةٍ وَلَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا، مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَلَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ فِيهَا زَوْجَةً لِلرَّجُلِ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فَالَّتِي اسْتَمْتَعَ بِهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُتْعَةِ لَوْمٌ.

وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: إِنَّمَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يُقِيمُ، فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وَتُصْلِحُ لَهُ شَأْنَهُ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَى هَذَيْنِ فَهُوَ حَرَامٌ.

وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ لِاقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ، بَلْ شُرِعَ لِأَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْهَا، وَاقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْمُتْعَةِ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إِلَى الْمَقَاصِدِ فَلَا يُشْرَعُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- وَالتَّابِعِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ

وَأَمَّا قوله تعالى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أَيْ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا هُوَ النِّكَاحُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَجْنَاسًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ فِي النِّكَاحِ، وَأَبَاحَ مَا وَرَاءَهَا بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} أَيْ بِالنِّكَاحِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أَيْ غَيْرَ مُتَنَاكِحِينَ غَيْرَ زَانِينَ وَقَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} ذَكَرَ النِّكَاحَ لَا الْإِجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ، فَيُصْرَفُ قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ} إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ.

وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْوَاجِبِ أَجْرًا فَنَعَمْ، الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ يُسَمَّى أَجْرًا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أَيْ مُهُورَهُنَّ وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}.

وَالْأَمْرُ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ فِي قوله تعالى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ وَهُوَ الْمُتْعَةُ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: (فَآتَوْهُنَّ أُجُورَهُنَّ إِذَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُمْ) أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ إِذَا أَرَدْتُمْ تَطْلِيقَ النِّسَاءِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْإِجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ فَقَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ.وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} نَسَخَهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: الْمُتْعَةُ بِالنِّسَاءِ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا آيَةُ الطَّلَاقِ وَالصَّدَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَوَارِيثِ وَالنِّكَاحُ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الْحُقُوقُ هُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْمُتْعَةِ

الْقَوْلُ الثَّانِي: حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهَا جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَطَاءٌ وَطَاوسٌ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرٍ- رضي الله عنهما- وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ الِاسْتِمْتَاعَ وَلَمْ يَذْكُرِ النِّكَاحَ، وَالِاسْتِمْتَاعُ وَالتَّمَتُّعُ وَاحِدٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ وَالْمُتْعَةِ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنَّمَا يَجِبُ فِي النِّكَاحِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيُؤْخَذُ الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ أَوَّلًا ثُمَّ يُمَكَّنُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَدَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الْمُتْعَةِ

كَمَا اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَالَ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ وَمُتْعَةُ الْحَجِّ.

قَالُوا: فَأُخْبِرْنَا بِإِبَاحَتِهِمَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَمَا ثَبَتَ إِبَاحَتُهُ بِالشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ بِهِ تَحْرِيمٌ بِالِاجْتِهَادِ.

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِمَا وَرَدَ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلَا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} ».

وَبِمَا وَرَدَ «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- قَالَ: كُنَّا نَسْتَمْتِعُ بِالْقَبْضَةِ مِنَ التَّمْرِ وَالدَّقِيقِ الْأَيَّامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ حَتَّى نَهَى عَنْهُ عُمَرُ».

وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ، فَصَحَّ تَقْدِيرُهُ بِمُدَّةٍ كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ إِبَاحَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يُنْتَقَلْ عَنْهُ إِلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ بِإِجْمَاعٍ آخَرَ

12- قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ صَحَّ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ لِلْمُتْعَةِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، بِحَدِيثِ «سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَتَحَ مَكَّةَ قَالَ: فَأَقَمْنَا بِهَا خَمْسَ عَشَرَ، فَأَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمْ أَخْرُجْ حَتَّى حَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».

وَمُخَالَفَةُ بَعْضٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي حُجِّيَّتِهِ وَلَا قَائِمَةٍ لَنَا بِالْمَعْذِرَةِ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ حَفِظُوا التَّحْرِيمَ وَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ لَنَا فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا ثُمَّ حَرَّمَهَا، وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَمَتَّعَ وَهُوَ مُحْصَنٌ إِلاَّ رَجَمْتُهُ بِالْحِجَارَةِ.

رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «حَرَّمَ أَوْ- هَدَمَ- الْمُتْعَةَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ».

وَوَرَدَ «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجْنَا وَمَعَنَا النِّسَاءُ اللاَّتِي اسْتَمْتَعْنَا بِهِنَّ...فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هُنَّ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

وَأَمَّا مَا وَرَدَ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ.فَقُلْنَا: أَلَا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ» بِأَنَّ مُؤَدَّى هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ إِبَاحَةُ الْمُتْعَةِ الَّتِي حَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْمُتْعَةَ قَدْ أُبِيحَتْ فِي وَقْتٍ ثُمَّ حُرِّمَتْ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذِكْرُ التَّارِيخِ فَأَخْبَارُ الْحَظْرِ قَاضِيَةٌ عَلَيْهَا لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرُ الْحَظْرِ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَأَيْضًا لَوْ تَسَاوَيَا لَكَانَ الْحَظْرُ أَوْلَى.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمُتْعَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَقَالَ الْجَصَّاصُ: قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُتْعَةَ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي وَقْتٍ فَلَوْ كَانَتِ الْإِبَاحَةُ بَاقِيَةً لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهَا مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَلَعَرَّفَتْهَا الْكَافَّةُ وَلَمَا اجْتَمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى تَحْرِيمِهَا لَوْ كَانَتِ الْإِبَاحَةُ بَاقِيَةً، فَلَمَّا وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ مُنْكِرِينَ لِإِبَاحَتِهَا مُوجِبِينَ لِحَظْرِهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بَدْيًا بِإِبَاحَتِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَظْرِهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْهُ تَجْرِيدُ الْقَوْلِ فِي إِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ حِينَ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُهَا بِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَإِبَاحَتِهِ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِيَّاهُ وَتَوَاتَرَتْ عِنْدَهُ الْأَخْبَارُ فِيهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ فَكَذَلِكَ كَانَ سَبِيلُهُ فِي الْمُتْعَةِ.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ عَرَفَتْ نَسْخَ إِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا» وَقَالَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: «لَوْ تَقَدَّمْتُ فِيهَا لَرَجَمْتُ» فَلَمْ يُنْكِرْ هَذَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ لَا سِيَّمَا فِي شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوا إِبَاحَتَهُ، وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا بَقَاءَ إِبَاحَتِهِ فَاتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى حَظْرِهَا وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عِيَانًا وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ وَإِلَى الِانْسِلَاخِ مِنَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ إِبَاحَةَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُتْعَةِ ثُمَّ قَالَ هِيَ مَحْظُورَةٌ مِنْ غَيْرِ نَسْخِ لَهَا فَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا حَظْرَهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرُوهُ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ عُمَرُ مُنْكَرًا وَلَمْ يَكُنِ النَّسْخُ عِنْدَهُمْ ثَابِتًا لَمَا جَازَ أَنْ يُقَارُّوهُ عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى نَسْخِ الْمُتْعَةِ، إِذْ غَيْرُ جَائِزٍ حَظْرُ مَا أَبَاحَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ بِجَوَازِ الْمُتْعَةِ ثُمَّ ثَبَتَ رُجُوعُهُ عَنْهَا فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهَا

وَقَالَ الْمَازِرِي: ثَبَتَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ كَانَ جَائِزًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ نُسِخَ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلاَّ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ

صِيغَةُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ:

13- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ التَّفْرِقَةِ فِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ بَيْنَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْمُتْعَةِ وَلَفْظِ الزَّوَاجِ وَالنِّكَاحِ الْمُؤَقَّتَيْنِ فَإِذَا قَالَ مَثَلًا: أَتَزَوَّجُكِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ وَيُسَمُّونَهُ النِّكَاحَ لِأَجَلٍ أَوِ الْمُؤَقَّتَ

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ بَاطِلٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ خَالِيَةٍ مِنَ الْمَوَانِعِ: أَتَمَتَّعُ بِكِ كَذَا مُدَّةَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مَثَلًا، أَوْ يَقُولُ: أَيَّامًا أَوْ مَتِّعِينِي نَفْسَكِ أَيَّامًا أَوْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ أَيَّامًا بِكَذَا مِنَ الْمَالِ.قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ: أَنْ يُذْكَرَ الْمُؤَقَّتُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَفِي الْمُتْعَةِ أَتَمَتَّعُ أَوْ أَسْتَمْتِعُ، يَعْنِي مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَادَّةِ مُتْعَةٍ.قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الشُّهُودِ فِي الْمُتْعَةِ وَتَعْيِينُ الْمُدَّةِ، وَفِي الْمُؤَقَّتِ الشُّهُودُ وَتَعْيِينُهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِهَؤُلَاءِ عَلَى تَعْيِينِ كَوْنِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ الَّذِي أَبَاحَهُ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ حَرَّمَهُ هُوَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَادَّةُ (م ت ع) لِلْقَطْعِ مِنَ الْآثَارِ بِأَنَّ الْمُتَحَقِّقَ لَيْسَ إِلاَّ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ مَنْ بَاشَرَ هَذَا الْمَأْذُونَ فِيهِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُخَاطِبَهَا بِلَفْظِ أَتَمَتَّعُ وَنَحْوِهِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا يُطْلَقُ وَيُرَادُ مَعْنَاهُ، فَإِذَا قَالَ: تَمَتَّعُوا مِنْ هَذِهِ النِّسْوَةِ فَلَيْسَ مَفْهُومُهُ قُولُوا أَتَمَتَّعُ بِكِ، بَلْ أَوْجِدُوا مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ الْمَشْهُورُ: أَنْ يُوجِدَ عَقْدًا عَلَى امْرَأَةٍ لَا يُرَادُ بِهِ مَقَاصِدَ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنَ الْقَرَارِ لِلْوَلَدِ وَتَرْبِيَتِهِ بَلْ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ يَنْتَهِي الْعَقْدُ بِانْتِهَائِهَا أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بِمَعْنَى بَقَاءِ الْعَقْدِ مَا دُمْتُ مَعَكِ إِلَى أَنْ أَنْصَرِفَ عَنْكِ فَلَا عَقْدَ.وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الْمُتْعَةِ عَقْدٌ مُؤَقَّتٌ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا بِمَادَّةِ الْمُتْعَةِ وَالنِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ أَيْضًا فَيَكُونُ النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتْعَةِ وَإِنْ عُقِدَ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ وَأُحْضِرَ الشُّهُودُ وَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُفِيدُ التَّوَاطُؤُ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

وَلَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ لَفْظٌ وَاحِدٌ مِمَّنْ بَاشَرَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- بِلَفْظِ: تَمَتَّعْتُ بِكِ وَنَحْوِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ لِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ صُوَرًا هِيَ:

أ- أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ مَجْهُولَةٍ.

ب- أَنْ يَشْتَرِطَ طَلَاقَ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ بِوَقْتٍ كَقَوْلِ الْوَلِيِّ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي شَهْرًا أَوْ سَنَةً إِلَى انْقِضَاءِ الْمَوْسِمِ أَوْ إِلَى قُدُومِ الْحَاجِّ وَشِبْهِهِ.

ج- أَنْ يَنْوِيَ الزَّوْجُ طَلَاقَ الْمَرْأَةِ بِوَقْتٍ بِقَلْبِهِ.

د- أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: أَمْتِعِينِي نَفْسَكِ، فَتَقُولُ: أَمْتَعْتُكَ نَفْسِي بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ

الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ:

14- يَتَرَتَّبُ عَلَى بُطْلَانِ عَقْدِ الْمُتْعَةِ آثَارٌ نُبَيِّنُهَا فِيمَا يَلِي:

أ- لَا يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ طَلَاقٌ وَلَا إِيلَاءٌ وَلَا ظِهَارٌ وَلَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا وَلَا لِعَانٌ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ إِحْصَانٌ لِلرَّجُلِ وَلَا لِلْمَرْأَةِ وَلَا تَحْصُلُ بِهِ إِبَاحَةٌ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لِمَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا.وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ب- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الرَّجُلِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنَ الْمَهْرِ وَالْمُتْعَةِ وَالنَّفَقَةِ مَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْمَرْأَةِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُسَمًّى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَجَلِ أَثَّرَ خَلَلًا فِي الصَّدَاقِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْأَقَلُّ مِمَّا سَمَّى لَهَا وَمِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا إِنْ كَانَ ثَمَّةَ مُسَمًّى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُسَمًّى فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا بِالدُّخُولِ الْمُسَمَّى لِأَنَّ فَسَادَهُ لِعَقْدِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ اللَّخْمِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ

ج- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَاءَتِ الْمَرْأَةُ بِوَلَدٍ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لَحِقَ نَسَبُهُ بِالْوَاطِئِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ، لِأَنَّ لَهُ شُبْهَةُ الْعَقْدِ وَالْمَرْأَةُ تَصِيرُ بِهِ فِرَاشًا.وَتُعْتَبَرُ مُدَّةُ النَّسَبِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ

د- وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَحْصُلُ بِالدُّخُولِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أُصُولِهِمَا وَفُرُوعِهِمَا

عُقُوبَةُ الْمُتَمَتِّعِ:

15- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ تَعَاطَى نِكَاحَ الْمُتْعَةِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَالشُّبْهَةُ هُنَا هِيَ شُبْهَةُ الْخِلَافِ، بَلْ يُعَزَّرُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ.

وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ نَسْخُهُ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ- كَمَا جَاءَ فِي فَتْحِ الْمُعِينِ- بِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إِذَا عُقِدَ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ فَإِنْ عُقِدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَجَبَ الْحَدُّ إِنْ وَطِئَ

السَّابِعُ: النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ:

16- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُؤَقَّتَ هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالنِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ بِذِكْرِ لَفْظِ التَّزَوُّجِ فِي الْمُؤَقَّتِ دُونَ الْمُتْعَةِ، وَكَذَا بِالشَّهَادَةِ فِيهِ دُونَ الْمُتْعَةِ، وَفِي الْمُحِيطِ: كُلُّ نِكَاحٍ مُؤَقَّتٍ مُتْعَةٌ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَكُونُ الْمُتْعَةُ إِلاَّ بِلَفْظِهَا.

وَفَرْقٌ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا إِلَى أَجَلٍ لَا يَبْلُغَانِهِ، أَوْ يَكُونَ إِلَى أَجَلٍ يَبْلُغَانِهِ.فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا إِلَى أَجَلٍ لَا يَبْلُغَانِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ:

فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو الْحَسَنِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْبَلْقِينِيُّ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أُجِّلَ النِّكَاحُ بِأَجَلٍ لَا يَبْلُغَانِهِ صَحَّ النِّكَاحُ كَأَنَّهُ ذَكَرَ الْأَبَدَ، لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُطْلَقَ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ لَا يَضُرُّ.قَالَ الْبَلْقِينِيُّ: وَفِي نَصِّ الْأُمِّ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يَشْهَدُ لَهُ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقْلًا عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحُلْوَانِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا سَمَّيَا مَا يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُمَا لَا يَعِيشَانِ إِلَيْهِ كَأَلْفِ سَنَةٍ يَنْعَقِدُ- أَيِ النِّكَاحُ- وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَوْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ أَوْ نُزُولِ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مَا لَوْ قَالَ زَوَّجْتُكَهَا مُدَّةَ حَيَاتِكَ أَوْ حَيَاتِهَا لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بَلْ يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ عَدَا الْبَلْقِينِيِّ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ الْمُؤَقَّتَ إِلَى أَجَلٍ لَا يَبْلُغَانِهِ بَاطِلٌ.

فَإِنْ أُجِّلَ إِلَى أَجَلٍ يَبْلُغَانِهِ كَمَا لَوْ قَالَ أَتَزَوَّجُكِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ نِكَاحٌ فَاسِدٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (عَدَا زُفَرَ) وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ بِاعْتِبَارِهِ عِنْدَهُمْ مِنْ صُوَرِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا الْعَقْدُ لَكَانَ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَقَّتًا بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَبَّدًا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْأُولَى لِأَنَّ هَذَا مَعْنَى الْمُتْعَةِ إِلاَّ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزَوُّجِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُقُودِ مَعَانِيهَا لَا الْأَلْفَاظُ كَالْكَفَالَةِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ إِنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى لِوُجُودِ الْحَوَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُهَا وَالْمُتْعَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ الْبُضْعِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَقَالَ زُفَرُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: النِّكَاحُ جَائِزٌ وَهُوَ مُؤَبَّدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ النِّكَاحَ وَشَرَطَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ، فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَبَقِيَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، كَمَا إِذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ إِلَى أَنْ أُطَلِّقَكِ إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ

الثَّامِنُ: النِّكَاحُ بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النِّكَاحِ بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ جُزِمَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ سَوَاءٌ عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ أَمْ لَا.وَذَلِكَ لِخُلُوِّ هَذَا الْعَقْدِ مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ، وَلَا يَفْسُدُ بِالنِّيَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْوِي مَا لَا يَفْعَلُ وَيَفْعَلُ مَا لَا يَنْوِي، وَلِأَنَّ التَّوْقِيتَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاللَّفْظِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ هَذَا النِّكَاحُ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَبْطَلَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَرَّحَ بِهِ أَبْطَلَ كُرِهَ إِذَا أَضْمَرَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْأَوْزَاعِيُّ- رحمه الله- إِلَى بُطْلَانِ هَذَا النِّكَاحِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بِهْرَامُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا فَهِمَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِي قَصَدَهُ الرَّجُلُ فِي نَفْسِهِ

التَّاسِعُ: النِّكَاحُ بِشَرْطِ الطَّلَاقِ:

18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النِّكَاحِ بِشَرْطِ الطَّلَاقِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ مُحَدَّدًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ كَشَهْرٍ أَوْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَوْ بِمَجْهُولٍ كَأَنْ يَشْتَرِطَ طَلَاقَهَا إِنْ قَدِمَ أَبُوهَا مَثَلًا، لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ فَأَبْطَلَهُ، وَلِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ بَقَاءِ النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ.

وَذَهَبُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ بِشَرْطِ الطَّلَاقِ صَحِيحٌ فَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ- مَثَلًا- جَازَ النِّكَاحُ، لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَاطِعِ يَدُلُّ عَلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ مُؤَبَّدًا وَبَطَلَ الشَّرْطُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


34-موسوعة الفقه الكويتية (وطء 1)

وَطْءٌ -1

التَّعْرِيفُِ:

1- الْوَطْءُ لُغَةً: الْعُلُوُّ عَلَى الشَّيْءِ.يُقَالُ: وَطِئْتُهُ بِرِجْلِي، أَطَؤُهُ، وَطْئًا: أَيْ عَلَوْتُهُ.

وَكَذَلِكَ يُطْلَقُ الْوَطْءُ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ إِيلَاجُ ذَكَرٍ فِي فَرْجٍ، لِيَصِيرَا بِذَلِكَ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ.فَيُقَالُ: وَطِئَ زَوْجَتَهُ وَطْأً، أَيْ جَامَعَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْلَاءٌ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- النِّكَاحُ:

2- أَصْلُ النِّكَاحِ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ وَالْجَمْعُ.وَيُطْلَقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَقِيقَةً عَلَى الْوَطْءِ، وَمَجَازًا عَلَى الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ.

وَيُطْلَقُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى عَقْدِ التَّزْوِيجِ حَقِيقَةً، وَعَلَى الْوَطْءِ مَجَازًا.وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوَطْءِ.وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ، فَيُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ حَقِيقَةً.وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي مَجْمُوعِهِمَا، كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالنِّكَاحِ هِيَ التَّرَادُفُ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ.وَالسَّبَبِيَّةُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ.

ب- اللِّوَاطُ:

3- اللِّوَاطُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ لَاطَ، يُقَالُ: لَاطَ الرَّجُلُ وَلَاوَطَ: أَيْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَهُوَ إِتْيَانُ الذُّكُورِ.

وَيُطْلَقُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى إِيلَاجِ ذَكَرٍ فِي دُبُرِ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَطْءِ وَاللِّوَاطِ أَنَّ الْوَطْءَ أَعَمُّ مِنَ اللِّوَاطِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَطْءِ:

َتَعَلَّقُ بِالَوَطْءِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا:

أَوَّلًا: الْوَطْءُ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ.

أَقْسَامُ الْوَطْءِ:

4- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْوَطْءَ- بِمَعْنَى الْجِمَاعِ- إِلَى قِسْمَيْنِ: مَشْرُوعٍ، وَمَحْظُورٍ.

فَأَمَّا الْمَشْرُوعُ: فَهُوَ وَطْءُ الْحَلِيلَةِ، الَّتِي هِيَ الزَّوْجَةُ أَوِ السُّرِّيَّةُ.وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ التَّحْرِيمُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، كَوَطْءِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَفِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ.

وَالتَّحْرِيمُ الْعَارِضُ فِي النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ أَخَفُّ مِنَ اللاَّزِمِ.

وَأَمَّا الْوَطْءُ الْمَحْظُورُ: فَهُوَ مَا لَازَمَهُ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا، كَوَطْءِ أَجْنَبِيَّةٍ فِي قُبُلِهَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا، وَفِيهِ حَدُّ الزِّنَا، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَفِي وَطْئِهَا حَقَّانِ، حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَفِيهِ ثَلَاثُ حُقُوقٍ، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَهْلٌ وَأَقَارِبُ يَلْحَقُهُمُ الْعَارُ بِذَلِكَ صَارَ فِيهِ أَرْبَعَةُ حُقُوقٍ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ صَارَ فِيهِ خَمْسَةُ حُقُوقٍ.

وَالثَّانِي: مَا لَا سَبِيلَ إِلَى حِلِّهِ أَلْبَتَّةَ، كَاللِّوَاطَةِ وَوَطْءِ الْحَلِيلَةِ أَوِ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي دُبُرِهَا وَوَطْءِ الْبَهِيمَةِ.وَإِنَّ مِنْ أَفْحَشِ صُوَرِهِ وَأَفْظَعِهَا وَطْءَ الْمَحَارِمِ.

(أَ) الْوَطْءُ الْمَشْرُوعُ:

أَسْبَابُهُ:

5- أَسْبَابُ حِلِّ الْوَطْءِ أَمْرَانِ: عَقْدُ النِّكَاحِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ.

فَأَمَّا النِّكَاحُ، فَقَدْ شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَجَعَلَ حِلَّ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَهَمَّ أَحْكَامِهِ الْأَصْلِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ كَمَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا فَزَوْجُهَا يَحِلُّ لَهَا..وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالْوَطْءِ مَتَى شَاءَ إِلاَّ عِنْدَ اعْتِرَاضِ أَسْبَابٍ مَانِعَةٍ مِنَ الْوَطْءِ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ وَالْإِحْرَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ زَوْجَهَا بِالْوَطْءِ، لِأَنَّ حِلَّهُ لَهَا حَقُّهَا، كَمَا أَنَّ حِلَّهَا لَهُ حَقُّهُ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ؟ {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.

وَفِي مَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ وَحِكْمَتِهِ (ر: نِكَاح ف7).

وَأَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ وَطْءِ الْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ وَالتَّسَرِّي بِهَا، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى عَقْدِ نِكَاحٍ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَإِبَاحَةَ الْبُضْعِ. (ر: تَسَرِّي ف 6- 7)

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ حُكْمَ وَطْءِ الْحَلِيلَةِ- الزَّوْجَةِ أَوِ السُّرِّيَّةِ- فِي الْأَصْلِ هُوَ الْإِبَاحَةُ، إِذْ هُوَ مِنَ الْمُسْتَلَذَّاتِ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا الطِّبَاعُ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ فِي ذَاتِهِ.

وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الِاسْتِحْبَابُ إِذَا قَارَنَتْهُ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، كَالِاسْتِعْفَافِ بِالْحَلَالِ عَنِ الْحَرَامِ، وَالِانْقِطَاعِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَطَلَبِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْمُبَاحَاتِ تَصِيرُ طَاعَاتٍ بِالنِّيَّاتِ الصَّادِقَاتِ، فَالْجِمَاعُ يَكُونُ عِبَادَةً إِذَا نَوَى بِهِ قَضَاءَ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَمُعَاشَرَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، أَوْ طَلَبَ وَلَدٍ صَالِحٍ، أَوْ إِعْفَافَ نَفْسِهِ أَوْ إِعْفَافَ الزَّوْجَةِ، وَمَنْعَهُمَا جَمِيعًا مِنَ النَّظَرِ إِلَى حَرَامٍ أَوِ الْفِكْرِ فِيهِ أَوِ الْهَمِّ بِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ.

وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، كَمَا إِذَا تَعَيَّنَ وَسِيلَةً لِإِعْفَافِ النَّفْسِ أَوْ إِعْفَافِ الْأَهْلِ عَنِ الْحَرَامِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ التَّحْرِيمُ كَمَا فِي وَطْءِ الْحَائِضِ أَوِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ أَوْ وَطْءِ الزَّوْجَةِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الْكَرَاهَةُ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِوَصْفٍ يَقْتَضِيهَا.

مَقَاصِدُ الْوَطْءِ الشَّرْعِيَّةُ:

7- قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَأَمَّا الْجِمَاعُ وَالْبَاهُ، فَكَانَ هَدْيُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِيهِ أَكْمَلَ هَدْيٍ، يَحْفَظُ بِهِ الصِّحَّةَ، وَتَتِمُّ بِهِ اللَّذَّةُ وَسُرُورُ النَّفْسِ، وَيُحَصِّلُ بِهِ مَقَاصِدَهُ الَّتِي وُضِعَ لِأَجْلِهَا، فَإِنَّ الْجِمَاعَ وُضِعَ فِي الْأَصْلِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ هِيَ مَقَاصِدُهُ الْأَصْلِيَّةُ:

أَحَدُهَا: حِفْظُ النَّسْلِ وَدَوَامُ النَّوْعِ إِلَى أَنْ تَتَكَامَلَ الْعِدَّةُ الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ بُرُوزَهَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ.

الثَّانِي: إِخْرَاجُ الْمَاءِ الَّذِي يَضُرُّ احْتِبَاسُهُ وَاحْتِقَانُهُ بِجُمْلَةِ الْبَدَنِ.

الثَّالِثُ: قَضَاءُ الْوَطَرِ وَنَيْلُ اللَّذَّةِ وَالتَّمَتُّعُ بِالنِّعْمَةِ.وَهَذِهِ وَحْدَهَا هِيَ الْفَائِدَةُ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ، إِذْ لَا تَنَاسُلَ هُنَاكَ، وَلَا احْتِقَانَ يَسْتَفْرِغُهُ الْإِنْزَالُ.ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ مَنَافِعِهِ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ النَّفْسِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْعِفَّةِ عَنِ الْحَرَامِ، وَتَحْصِيلُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ، فَهُوَ يَنْفَعُ نَفْسَهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَيَنْفَعُ الْمَرْأَةَ.

ثَوَابُ الْوَطْءِ الْمَشْرُوعِ:

8- وَرَدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ.قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ».

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى ثَوَابِ الرَّجُلِ عَلَى جِمَاعِهِ لِحَلِيلَتِهِ إِذَا قَارَنَتْهُ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ كَإِعْفَافِ نَفْسِهِ أَوْ حَلِيلَتِهِ عَنْ إِتْيَانِ مُحَرَّمٍ، أَوْ قَضَاءِ حَقِّهَا مِنْ مُعَاشَرَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَوْ طَلَبِ وَلَدٍ صَالِحٍ يُوَحِّدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَقُومُ بِنَشْرِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيَحْمِي بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْمَبْرُورَةِ.

9- أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْوِ الْمُجَامِعُ غَيْرَ قَضَاءِ شَهْوَتِهِ وَنَيْلِ لَذَّتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثَوَابِ جِمَاعِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ يُثَابُ وَيُؤْجَرُ فِي جِمَاعِ حَلِيلَتِهِ مُطْلَقًا دُونَ أَنْ يَنْوِيَ شَيْئًا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» حَيْثُ دَلَّ ظَاهِرُ إِطْلَاقِهِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُؤْجَرُ فِي جِمَاعِ حَلِيلَتِهِ مُطْلَقًا، إِذْ إِنَّهُ كَمَا يَأْثَمُ فِي الزِّنَا الْمُضَادِّ لِلْوَطْءِ الْحَلَالِ، فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ فِي فِعْلِ الْحَلَالِ.

وَالثَّانِي: لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ- مَالَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ- وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْوِ بِجِمَاعِ حَلِيلَتِهِ إِعْفَافَ نَفْسِهِ أَوْ زَوْجِهِ أَوْ طَلَبَ وَلَدٍ فَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَطْءِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- مِنَ التَّصْرِيحِ بِالِاحْتِسَابِ لِنَيْلِ الثَّوَابِ، وَنَصُّهَا: «قُلْتُ: نَأْتِي شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلْتَهُ فِي حَرَامٍ أَكُنْتَ تَأْثَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.قَالَ: فَتَحْتَسِبُونَ بِالشَّرِّ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ؟».

وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه-: «لَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ».

وَوَرَدَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً».فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يُؤْجَرُ فِيهَا إِذَا احْتَسَبَهَا.وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ مُشْتَرَطًا، فَأَوْلَى فِي الْجِمَاعِ الْمُبَاحِ.

آدَابُ الْوَطْءِ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ:

10- لَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ لِلْوَطْءِ آدَابًا وَمُسْتَحَبَّاتٍ، فَقَالُوا:

أ- أ- يُسْتَحَبُّ الْبَدَاءَةُ بِالتَّسْمِيَةِ؛ لقوله تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْجِمَاعِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا».

ب- كَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الِانْحِرَافُ عَنِ الْقِبْلَةِ، فَلَا يَسْتَقْبِلْهَا بِالْوِقَاعِ إِكْرَامًا لَهَا.

ج- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمُلَاعَبَةِ وَالضَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ.فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمُوَاقَعَةِ قَبْلَ الْمُلَاعَبَةِ».وَذَلِكَ لِتَنْهَضَ شَهْوَتُهَا، فَتَنَالَ مِنْ Bلَذَّةِ الْجِمَاعِ مِثْلَ مَا نَالَهُ.

د- وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ مُرَاعَاةُ التَّوَافُقِ مَعَ حَلِيلَتِهِ فِي قَضَاءِ الْوَطَرِ، لِأَنَّ فِي تَعَجُّلِهِ فِي قَضَاءِ وَطَرِهِ قَبْلَ قَضَاءِ حَاجَتِهَا ضَرَرًا عَلَيْهَا وَمَنْعًا لَهَا مِنْ قَضَاءِ شَهْوَتِهَا.

فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «إِذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَصْدُقْهَا، ثُمَّ إِذَا قَضَى حَاجَتَهُ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ حَاجَتَهَا فَلَا يُعْجِلْهَا حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا».

قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثُمَّ إِذَا قَضَى وَطَرَهُ فَلْيَتَمَهَّلْ عَلَى أَهْلِهِ حَتَّى تَقْضِيَ هِيَ أَيْضًا نَهْمَتَهَا، فَإِنَّ إِنْزَالَهَا رُبَّمَا يَتَأَخَّرُ، فَتَهِيجُ شَهْوَتُهَا، ثُمَّ الْقُعُودُ عَنْهَا إِيذَاءٌ لَهَا، وَالِاخْتِلَافُ فِي طَبْعِ الْإِنْزَالِ يُوجِبُ التَّنَافُرَ مَهْمَا كَانَ الزَّوْجُ سَابِقًا إِلَى الْإِنْزَالِ، وَالتَّوَافُقُ فِي وَقْتِ الْإِنْزَالِ أَلَذُّ عِنْدَهَا.

هـ- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَغَطَّى هُوَ وَأَهْلُهُ بِثَوْبٍ، حَيْثُ رَوَى عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ، وَلَا يَتَجَرَّدَا تَجَرُّدَ الْعَيْرَيْنِ».

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعَرِّيَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ.

و- كَمَا يُسْتَحَبُّ غَضُّ الصَّوْتِ وَعَدَمُ الْإِكْثَارِ مِنَ الْكَلَامِ عِنْدَ الْجِمَاعِ وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ وَطْءُ حَلِيلَتِهِ بِحَيْثُ يَرَاهُمَا أَوْ يَسْمَعُ حِسَّهُمَا أَوْ يُحِسُّ بِهِمَا أَحَدٌ غَيْرَ طِفْلٍ لَا يَعْقِلُ، وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجَانِ.وَذَلِكَ إِذَا كَانَا مَسْتُورِي الْعَوْرَةِ، وَإِلاَّ حَرُمَ مَعَ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطَأُ الرَّجُلُ أَمَتَهُ بِحَضْرَةِ زَوْجَتِهِ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ زَوْجَتِهِ بِحَضْرَةِ أَمَتِهِ، وَلَا بِحَضْرَةِ الضَّرَّةِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ وَطْءُ زَوْجَتِهِ بِحَضْرَةِ أَمَتِهِ أَوْ ضَرَّتِهَا.

ز- وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُجَامِعَ مَرَّةً ثَانِيَةً أَنْ يَغْسِلَ فَرْجَهُ وَيَتَوَضَّأَ، وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ».

وَعَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ».

وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- طَافَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى نِسَائِهِ، يَغْتَسِلُ عِنْدَ هَذِهِ وَعِنْدَ هَذِهِ.فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا تَجْعَلُهُ غُسْلًا وَاحِدًا؟ قَالَ: هَذَا أَزْكَى وَأَطْيَبُ وَأَطْهَرُ».

11- قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنِ اسْتَحَبَّ الْجِمَاعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهُ وَذَلِكَ تَحْقِيقًا لِأَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِ الْمُصْطَفَى- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَسَّلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ- كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا».

التَّحَدُّثُ عَنِ الْوَطْءِ وَإِفْشَاءُ سِرِّهِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّحَدُّثِ عَنِ الْوَطْءِ وَإِفْشَاءِ سِرِّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ- قَالَ عَنْهُ الْمَرْدَاوِيُّ: هُوَ الصَّوَابُ- وَالنَّوَوِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الْمُفَاخَرَةُ بِالْجِمَاعِ وَإِفْشَاءُ الرَّجُلِ مَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا».

وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الشِّيَاعُ حَرَامٌ».قَالَ ابْنُ Bلَهِيعَةَ: يَعْنِي بِهِ الَّذِي يَفْتَخِرُ بِالْجِمَاعِ.

وَعَدَّهُ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالْهَيْتَمِيُّ وَابْنُ عِلاَّنَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحَدُّثُ الزَّوْجَيْنِ بِمَا جَرَى بَيْنَهُمَا وَلَوْ لِضَرَّتِهَا.

وَهَذَا مَا عَزَاهُ الْهَيْتَمِيُّ إِلَى النَّوَوِيِّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَقَالَ: مَحَلُّ الْحُرْمَةِ فِيمَا إِذَا ذَكَرَ حَلِيلَتَهُ بِمَا يَخْفَى كَالْأَحْوَالِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْجِمَاعِ وَالْخَلْوَةِ، وَالْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا ذَكَرَ مَا لَا يَخْفَى مُرُوءَةً، وَمِنْهُ ذِكْرُ مُجَرَّدِ الْجِمَاعِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ.

مَوَانِعُ الْوَطْءِ الْمَشْرُوعِ:

مَوَانِعُ الْوَطْءِ الْمَشْرُوعِ تِسْعَةٌ، اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سِتَّةٍ مِنْهَا: وَهِيَ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَالِاعْتِكَافُ وَالصَّوْمُ وَالْإِحْرَامُ وَالظِّهَارُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلَاثَةٍ مِنْهَا: وَهِيَ الِاسْتِحَاضَةُ، وَعَدَمُ الِاغْتِسَالِ بَعْدَ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضِ، وَالْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أَوَّلًا: الْحَيْضُ:

13- اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}.وَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ فِي شَأْنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحُيَّضِ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ».

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْضُوعِ وَلِمَعْرِفَةِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي كَفَّارَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ وَحُكْمِ مُسْتَحِلِّ وَطْءِ الْحَائِضِ. (ر.حَيْض ف42- 44).

ثَانِيًا: النِّفَاسُ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ النُّفَسَاءِ فِي الْفَرْجِ، وَأَنَّ حُكْمَ دَمِ النِّفَاسِ فِي حَظْرِ الْوَطْءِ وَفِي اقْتِضَاءِ الْغُسْلِ بَعْدَهُ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ- حُكْمُ الْحَيْضِ اتِّفَاقًا وَاخْتِلَافًا.

(ر: حَيْض ف 42- 44)

ثَالِثًا: الِاسْتِحَاضَةُ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ إِلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ.وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُولُ.

وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}.وَهَذِهِ طَاهِرَةٌ مِنَ الْحَيْضِ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ- رضي الله عنها- كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، وَكَانَ زَوْجُهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُجَامِعُهَا، وَأَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ- رضي الله عنها- كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَغْشَاهَا وَقَدْ سَأَلَتَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَحْكَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ، فَلَوْ كَانَ وَطْؤُهَا حَرَامًا لَبَيَّنَهُ لَهُمَا.وَلِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ كَالطَّاهِرِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ فِي الْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ، فَلَمْ يَمْنَعِ الْوَطْءَ كَالنَّاسُورِ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِتَحْرِيمٍ فِي حَقِّهَا، بَلْ وَرَدَ بِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَابْنُ عُلَيَّةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ وَطْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ الْعَنَتِ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: الْمُسْتَحَاضَةُ لَا يَغْشَاهَا زَوْجُهَا.وَلِأَنَّ بِهَا أَذًى فَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا كَالْحَائِضِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ وَطْءَ الْحَائِضِ مُعَلِّلًا بِالْأَذَى بِقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}.

فَأَمَرَ بِاعْتِزَالِهِنَّ عَقِيبَ الْأَذَى مَذْكُورًا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ذُكِرَ مَعَ وَصْفٍ يَقْتَضِيهِ وَيَصْلُحُ لَهُ عُلِّلَ بِهِ، وَالْأَذَى يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً Bفَيُعَلَّلُ بِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهَا.

رَابِعًا: الِاعْتِكَافُ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ فِي الِاعْتِكَافِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لَهُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا إِذَا كَانَ عَامِدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.

(وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي اعْتِكَاف ف27).

خَامِسًا: الصَّوْمُ:

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ عَمْدًا عَلَى الصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ، وَمُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، حَيْثُ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ! قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا.قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ، فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا.قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ.فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرِ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا- أَيِ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتِ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».

(ر: صَوْم ف 68، 89).

سَادِسًا: الْإِحْرَامُ:

18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِنُسُكِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}.حَيْثُ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الرَّفَثِ: أَنَّهُ مَا قِيلَ عِنْدَ النِّسَاءِ مِنْ ذِكْرِ الْجِمَاعِ وَقَوْلِ الْفُحْشِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ، أَيْ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

كَمَا فُسِّرَ الرَّفَثُ أَيْضًا بِالْجِمَاعِ نَفْسِهِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ نَصًّا فِيهِ.

وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ جِنَايَةٌ تُفْسِدُ النُّسُكَ، إِذَا كَانَ الْوَطْءُ Bقَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلَا يُفْسِدُهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ.وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ إِذَا كَانَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ.

(وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي إِحْرَام ف 170- 171).

سَابِعًا: الظِّهَارُ:

19- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ الْمَظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ».

فَقَدْ أَمَرَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الْوِقَاعِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الذَّنْبِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، كَمَا أَنَّه- عليه الصلاة والسلام- نَهَاهُ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى الْوِقَاعِ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى حُرْمَةِ الْوِقَاعِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ.

وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجَةِ تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ.

(ر: ظِهَار ف 22).

ثَامِنًا: وَطْءُ الْمُسْلِمِ حَلِيلَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَطَأَ حَلِيلَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا نَسْلٌ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّوَطُّنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: لَا تَرَاءَى نَارُهُمَا».

وَإِذَا خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ رُبَّمَا يَبْقَى لَهُ نَسْلٌ فِيهَا فَيَتَخَلَّقُ وَلَدُهُ بِأَخْلَاقِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِأَنَّ مَوْطُوءَتَهُ إِذَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَإِذَا عَلِقَتْ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ مَلَكُوهَا مَعَ مَا فِي بَطْنِهَا، فَفِي هَذَا تَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَطَأُ الْمُسْلِمُ زَوْجَتَهُ فِي دَارِ Bالْحَرْبِ نَصًّا إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ فَإِذَا وُجِدَتِ الضَّرُورَةُ يَجِبُ الْعَزْلُ.

(ب) الْوَطْءُ الْمَحْظُورُ

لِلْوَطْءِ الْمَحْظُورِ صُوَرٌ: مِنْهَا الزِّنَا، وَاللِّوَاطَةُ، وَوَطْءُ الْحَلِيلَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ فِي دُبُرِهَا، وَوَطْءُ الْمَيْتَةِ، وَوَطْءُ الْبَهِيمَةِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: الزِّنَا:

21- الزِّنَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَكَبِيرَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}.

(ر: زِنًا ف 5).

ثَانِيًا: اللِّوَاطُ:

22- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللِّوَاطَ مُحَرَّمٌ مُغَلَّظُ التَّحْرِيمِ وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاللِّوَاطُ أَغْلَظُ الْفَوَاحِشِ تَحْرِيمًا.

(ر: لِوَاط ف 3).

وَجَرِيمَةُ اللِّوَاطِ لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ؛ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}.

عُقُوبَةُ اللِّوَاطِ:

23- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُقُوبَةِ مَنْ فَعَلَ فِعْلَ قَوْمِ لُوطٍ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَهُوَ أَنَّ حَدَّ اللِّوَاطِ- الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ- كَالزِّنَا، فَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ، وَيُجْلَدُ الْبِكْرُ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنهما-.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ» وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى طَبْعًا Bمَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى قُبُلِ الْمَرْأَةِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالْحَدِّ، لِأَنَّهُ إِتْيَانٌ فِي مَحَلٍّ لَا يُبَاحُ الْوَطْءُ فِيهِ بِحَالٍ، وَالْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ يُبَاحُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَنِ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ كَالزِّنَا.

الثَّانِي: لِأَبِي حَنِيفَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْحَكَمِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُودَعُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ.وَلَوِ اعْتَادَ اللِّوَاطَةَ أَوْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ، قَتَلَهُ الْإِمَامُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحْصَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، سِيَاسَةً.

وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ حَدُّ الزِّنَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُهُ، فَكَانَ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِعَقْدٍ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ حَدٌّ، كَالِاسْتِمْتَاعِ بِمِثْلِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الْحُدُودِ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا.وَأَيْضًا: فَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي مَحَلٍّ لَا تَشْتَهِيهِ الطِّبَاعُ، بَلْ رَكَّبَهَا اللَّهُ عَلَى النَّفْرَةِ مِنْهُ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يَزْجُرَ الشَّارِعُ عَنْهُ بِالْحَدِّ، كَأَكْلِ الْعَذِرَةِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَشُرْبِ الْبَوْلِ...غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْصِيَةً مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَمْ يُقَدِّرِ الشَّارِعُ فِيهَا حَدًّا مُقَدَّرًا، كَانَ فِيهِ التَّعْزِيرُ.

الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ حَدَّ اللِّوَاطِ الرَّجْمُ مُطْلَقًا، فَيُرْجَمُ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَا مُحْصَنَيْنِ أَمْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ.وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ حَبِيبٍ وَرَبِيعَةَ وَإِسْحَاقَ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ».

وَبِأَنَّهُ إِيلَاجٌ فِي فَرْجِ آدَمِيٍّ يُقْصَدُ الِالْتِذَاذُ بِهِ غَالِبًا كَالْقُبُلِ، فَكَانَ الرَّجْمُ مُتَعَلِّقًا بِهِ كَالْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَا إِنَّمَا وُضِعَ زَجْرًا وَرَدْعًا لِئَلاَّ يَعُودَ إِلَى مِثْلِهِ، وَوَجَدْنَا الطِّبَاعَ تَمِيلُ إِلَى الِالْتِذَاذِ بِإِصَابَةِ هَذَا الْفَرْجِ كَمَيْلِهَا إِلَى الْقُبُلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الرَّدْعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُبُلِ، بَلْ إِنَّ هَذَا أَشَدُّ وَأَغْلَظُ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْإِحْصَانُ كَمَا اعْتُبِرَ الزِّنَا، إِذِ الْمَزْنِيُّ بِهَا جِنْسٌ مُبَاحٌ وَطْؤُهَا، Bوَإِنَّمَا أُتِيَتْ عَلَى خِلَافِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَالذَّكَرُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ وَطْؤُهُ، فَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ أَغْلَظَ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا.

الرَّابِعُ: لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَلُ اللُّوطِيُّ بِالسَّيْفِ كَالْمُرْتَدِّ، مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنهم- وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَرَبِيعَةَ بْنِ مَالِكٍ.

قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ هَذَا سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ».حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ مُحْصَنٍ وَغَيْرِ مُحْصَنٍ.وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّمَا تَغَلَّظَتْ، تَغَلَّظَتْ عُقُوبَتُهَا، وَوَطْءُ مَنْ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ وَطْءِ مَنْ يُبَاحُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ حَدُّهُ أَغْلَظَ مِنْ حَدِّ الزِّنَا.

الْخَامِسُ: يُحْرَقُ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ بِالنَّارِ.

وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وابْنِ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنهم-، فَقَدْ رَوَى صَفْوَانُ بْنُ سَلِيمٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- الصَّحَابَةَ فِيهِ، فَكَانَ عَلِيٌّ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا فِيهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا إِلاَّ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهَا، أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ.فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ بِذَلِكَ فَحَرَقَهُ.

وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ رَأَى الْإِمَامُ تَحْرِيقَ اللُّوطِيِّ فَلَهُ ذَلِكَ.

السَّادِسُ: يُعْلَى اللُّوطِيُّ أَعْلَى الْأَمَاكِنِ مِنَ الْقَرْيَةِ ثُمَّ يُلْقَى مَنْكُوسًا فَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً}.

وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


35-الغريبين في القرآن والحديث (فحش)

(فحش)

قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة} معنى الفاحشة: ما يشتد قبحه من الذنوب.

قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة} يعني: الزنا.

وقوله: {إنما حرم ربي الفواحش}. قال ابن عرفة: هو كل ما نهى الله عنه قال: والفواحش عند العرب: المقابح يقال: يفحش المكان وتفاحش إذا قبح قال الأنصاري:

«هل عيشنا بك في زمانك راجع *** فلقد تفحش بعدك المتعلل»

وقال في قوله: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} أراد لا تخرج من بيتها إلا أن تأتي فاحشة فتخرج فيقام عليها الحد وقال الأزهري: أراد أن لا يظهر منها بداء تؤذي بها الزوج وقيل: هي أن تبدو على أحمائها.

قوله: {ويأمركم بالفحشاء} أي: البخل ويقال للبخيل فاحش قال طرفة: عقيلة مال الفاحش المتشاد.

وفي الحديث: (إن الله يبغض الفاحش المتفحش) فالفاحش ذو الفحش

في كلامه والمتفحش الذي يتكلف ذلك ويتعمده ويكون المتفحش الذي يأتي الفاحشة المنهي عنها.

وسئل بعشهم عن دم البراغيت، فقال: إذا لم يكن فاحشا فلا بأس أي: كثيرا غالبا، والفحش: زيادة الشيء على ما يحمد من امتداده وقال امرؤ القيس:

«وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش *** إذا هي نصته ولا بمعطل»

أي: ليس بفتح الطول زائد على الاعتدال، ومن ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام- لعائشة- رضي الله عنها وسمعها تقول لليهود عليكم السام واللعنة والأفن والذم (لا تقولي ذلك؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفاحش) أراد بالفحش التعدي وأن الجواب لا الفحش الذي هو من قذع الكلام؛ لأنه لم يكن منها إليهم فحش.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


36-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين الهم والهمة)

الْفرق بَين الْهم والهمة

أَن الهمة اتساع الْهم وَبعد موقعه وَلِهَذَا يمدح بهَا الْإِنْسَان فَيُقَال فلَان ذُو همة وَذُو عَزِيمَة وَأما قَوْلهم فلَان بعيد الهمة وكبير الْعَزِيمَة فَلِأَن بعض الهمم يكون أبعد من بعض وأكبر من بعض وَحَقِيقَة ذَلِك أَنه يهتم بالأمور الْكِبَار والهم هُوَ الْفِكر فِي إِزَالَة الْمَكْرُوه واحتلاب المحبوب وَمِنْه يُقَال أهم بحاجتي والهم أَيْضا الشَّهْوَة قَالَ الله تَعَالَى (وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا) أَي عزمت هِيَ على الْفَاحِشَة واشتهاها هُوَ وَالشَّاهِد على صِحَة هَذَا التَّأْوِيل قيام الدّلَالَة على أَن الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم لَا يعزمون على الْفَوَاحِش وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى (إِن الله وَمَلَائِكَته بصلون على النَّبِي) وَالصَّلَاة من الله الرَّحْمَة وَمن الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار وَمن الْآدَمِيّين الدُّعَاء وَقَوله تَعَالَى (شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة) فالشهادة من الله تَعَالَى إِخْبَار وَبَيَان وَمِنْهُم إِقْرَار والهم أَيْضا عِنْد الْحزن الَّذِي يذيب الْبدن من قَوْلك هم الشَّحْم إِذا أذابه وَسَنذكر الفروق بَين الْهم الْغم والحزن فِي بَابه إِن شَاءَ الله.

الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م


37-المعجم الغني (بَطَنَ)

بَطَنَ- [بطن]، (فعل: ثلاثي. لازم، مزيد بحرف)، بَطَنْتُ، أَبْطُنُ، اُبْطُنْ، المصدر: بُطونٌ، بُطُنٌ.

1- "بَطَنَ السِّرُّ": خَفِيَ.

{حَرَّمَ رَبِّي الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} [الأعراف: 33]:

2- "بَطَنَ من جَارِهِ وَبِهِ": صَارَ مِنْ بِطَانتِهِ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


38-المعجم الغني (وَازِعٌ)

وَازِعٌ- الجمع: وَزَعَةٌ، وُزَّاعٌ. [وزع]، (اسم فاعل. من وَزَعَ):

1- "يَقُومُ بِمُهِمَّةِ الوَازِعِ": مَنْ يُدَبِّرُ أُمُورَ الجَيْشِ وَيَسْهَرُ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ قَوَانِينَ الْجُنْدِيَّةِ.

2- "ضَمِيرُهُ هُوَ وَازِعُهُ": مَانِعُهُ، زَاجِرُهُ. "يَمْنَعُهُ الوَازِعُ الخُلُقِيُّ عَنِ ارْتِكَابِ الفَوَاحِشِ".

3- "اِبْنُ وَازِعٍ": الكَلْبُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


39-الأفعال المتداولة (بَطَنَ يَبْطُنُ بُطُونًا)

بَطَنَ يَبْطُنُ بُطُونًا: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} (خفي)

الأفعال المتداولة-محمد الحيدري-صدر: 1423هـ/2002م


40-الأفعال المتداولة (ظَهَرَ يَظْهَرُ ظُهُورًا)

ظَهَرَ يَظْهَرُ ظُهُورًا: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} (تبيّن وبدا)

الأفعال المتداولة-محمد الحيدري-صدر: 1423هـ/2002م


41-طِلبة الطلبة (قرب)

(قرب):

وَإِذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ فُلَانَةَ فَهُوَ مُؤْلٍ لِأَنَّ الْقِرْبَانَ بِكَسْرِ الْقَافِ مِنْ حَدِّ عَلِمَ صَارَ اسْمًا لِلْمُجَامَعَةِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهَا عُرْفًا وَشَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَأَصْلُهُ مُقَارَبَةُ الشَّيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] وَقَالَ {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام: 151] وَقَالَ {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] فَأَمَّا الْقُرْبُ فَهُوَ نَقِيضُ الْبُعْدِ وَقَدْ قَرُبَ قُرْبًا فَهُوَ قَرِيبٌ أَيْ صَارَ كَذَلِكَ مِنْ حَدِّ شَرُفَ.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


42-تاج العروس (سيح)

[سيح]: ساحَ الماءُ يَسيحُ سَيْحًا وسَيَحَانًا، محرَّكةً: إِذا جَرَى على وَجْهِ الأَرْضِ. وساح الظِّلُّ؛ أَي فاءَ.

والسَّيْحُ: الماءُ الجاري. وفي التهذيب: الماءُ الظاهِر الجارِي على وَجْهِ الأَرض، وجمعه سُيُوحٌ. وماءٌ سَيحٌ وغَيْلٌ، إِذا جَرَى على وَجْهِ الأَرْض، وجمْعه أَسْيَاحٌ.

والسَّيْح: الكِسَاءُ المُخطَّطُ يُسْتَتَر به ويُفْتَرَش وقيل: هو ضَرْبٌ من البُرودِ، وجمْعه سُيوحٌ. وأَنشد ابن الأَعرابيّ:

وإِنّي وإِنْ تُنْكَرْ سُيوحُ عَباءَتي *** شِفَاءُ الدَّقَى يا بِكْرَ أُمِّ تَميمِ

وسَيْحٌ: ماءٌ لبني حَسّان بنِ عَوْفٍ، وقال ذُو الرُّمّة:

يا حَبَّذَا سَيْحٌ إِذا الصَّيْفُ الْتَهَبْ

وسَيْحٌ: اسم ثَلَاثة أَوْدِيَة باليمَامةِ، بأَقْصَى العِرْض منها، لآل إِبراهِيمَ بن عَرَبيّ.

والسِّيَاحَةُ، بالكسر، والسُّيُوحُ بالضّمّ، والسَّيَحَانُ، محرَّكَةً، والسَّيْحُ، بفتح فسكون: الذَّهابُ في الأَرضِ للعِبَادة والتَّرَهُّب؛ هكذا في اللّسان وغيره. وقولُ شيخنا: إِن قَيْدَ العِبَادَةِ خَلَتْ عنه أَكثرُ زُبُرِ الأَوّلين، والظّاهر أَنّه اصطلاحٌ، مَحَلُّ تَأَمُّل. نعمْ الّذي ذَكروه في معنى السِّيَاحَةِ فقطْ، يعني مُقَيَّدًا، وأَما السُّيُوح والسَّيَحَانُ والسَّيْحُ فقالوا: إِنه مُطلقُ الذَّهابِ في الأَرْضِ، سواءٌ كان للعِبادةِ أَو غيرِهَا.

وفي الحديث: «لا سِياحَةَ في الإِسلامِ». أَوردَه الجوهريّ، وأَراد مُفَارَقَةَ الأَمْصَارِ، والذَّهَابَ في الأَرضِ، وأَصْلُه من سَيْحِ الماءِ الجارِي، فهو مجازٌ. وقال ابن الأَثير: أَراد مُفارَقَةَ الأَمصارِ، وسُكْنَى البَرارِي، وتَرْكَ شُهودِ الجُمُعَةِ والجَمَاعَاتِ. قال: وقِيل: أَراد الّذِين يَسْعَون في الأَرض بالشَّرِّ والنَّمِيمةِ والإِفسادِ بين الناس، وقد ساحَ.

ومنه المَسيح عيسى بنُ مَريمَ عليهما‌السلام. في بعض الأَقاويل، كان يَذهبُ في الأَرض، فأَيْنَما أَدرَكَه اللَّيْلُ صَفَّ قَدَميْه وصَلَّى حتّى الصّباحِ. فإِذا كان كذلك فهو مَفْعُولٌ بمعنى فاعل. وقد ذَكرتُ في اشْتِقاقِه خمْسِين قوْلًا ـ قال شيخُنَا: كُلُّهَا منقُولةٌ مبحوثٌ فيها أَنْكرَها الجماهِيرُ وقالوا: إِنّمَا هي من طُرُق النَّظرِ في الأَلْفاظ، وإِلّا فهو ليس من أَلفاظ العرب، ولا وَضَعتْه العرب لعيسى، حتى يَتَخَرَّجَ على اشتقاقاتها ولُغَاتها ـ في شَرْحي لصَحيحِ البَخَارِيّ المُسمَّى بمنْح البارِي وغيره من المصنّفات. قال شيخُنا: وشَرْحُه هذا غريبٌ جدًّا. وقد ذكره الحافظُ ابنُ حَجَرٍ وقال: إِنه خَرجَ فيه عن شَرْح الأَحاديث المَطْلُوبِ من الشَّرْح إِلى مَقالاتِ الشَّيْخ مُحْيِى الدّين بن عرَبِيّ رَحمَه الله، الخارِجةِ عن البحث، وتَوسَّعَ فيها بما كان سَببًا لطرْحِ الكِتَابِ وعدمِ الالتِفاتِ إِليه، مع كثرةِ ما فِيه من الفوائد. بل بالغَ الحافِظ في شَيْنِ الكِتَابِ وشَناعَته بما ذكر.

ومن المجاز: السَّائِح: الصَّائمُ المُلازِمُ للمَساجِدِ وهو سِيَاحَة هذه الأُمّةِ. وقوله تعالى: {الْحامِدُونَ السّائِحُونَ} قال الزّجّاج: السّائِحُونَ ـ في قول أَهل التفسير واللُّغة جميعًا ـ: الصّائمون. قال: ومذْهب الحَسنِ أَنّهم الّذين يصومون الفرْض. وقيل: هم الّذين يُدِيمون الصِّيامَ، وهو ممّا في الكُتُب الأُول. وقيل: إِنما قيل للصائم: سائحٌ لأَنّ الّذِي يَسِيح متعبِّدًا يَسيح ولا زاد معه، إِنّما يَطْعم إِذا وَجَدَ الزَّادَ، والصائمُ لا يَطْعَم أَيضًا، فلِشَبَهِه به سُمِّيَ سائحًا. وسُئَل ابن عبَّاس وابنُ مسعُودٍ عن السَّائِحين، فقالا: هم الصّائمون.

والمسيَّح كمُعظَّم: المُخَطَّط من الجرادِ، الواحدة مُسَيّحَة. قال الأَصمعيّ. إِذا صار في الجراد خُطوطٌ سُودٌ وصُفْرٌ وبِيضٌ فهو المُسَيَّح، فإِذا بَدَا حَجْمُ جَنَاحِه فذلك الكُتْفَانُ لأَنّه حينئذ يُكَتِّف المشْيَ. قال: فإِذَا ظَهرَتْ أَجْنحتُه وصار أَحمر إِلى الغُبْرَةِ فهو الغَوْغاءُ، الواحِدةُ غوْغَاءَةٌ، وذلك حين يَموجُ بعضُه في بعْض ولا يتوجَّهُ جِهةً واحِدَةً. قال الأَزهريّ هذا في رواية عمْرو بن بَحْرٍ.

والمُسيَّح أَيضًا: المُخَطَّطُ من البُرُودِ. قال ابن شُميلٍ: المُسيَّحُ من العباءِ: الّذي فيه جُدَدٌ: واحدةٌ بيضاءُ، وأُخْرَى سَوْدَاءُ ليست بشَديدةِ السَّوادِ، وكلُّ عَبَاءَة سَيْحٌ ومُسَيَّحَةٌ؛ وما لم يكن جُددٌ فإِنّما هو كِساءٌ وليس بعَباءٍ.

ومن المَجَاز: في التّهذيب: المُسيَّح من الطَّريق: المُبَيَّن شَرَكُه، محرَّكةً، هكذا هو مضبوطٌ في النُّسخ، وضبطه شيخُنَا بضمَّتين، ولْيُنْظَرْ؛ أَي طُرُقُه الصِّغارُ، وإِنما سَيَّحَه كثْرَةُ شركِه، شُبِّهَ بالعَباءِ المُسيَّح.

ومن المجاز: المُسيَّحُ: الحِمَارُ الوَحْشيّ لجُدَّتِه الّتي تَفْصِلُ بين البَطْنِ والجَنْب. وفي الأَساس: والعَيْرُ مُسَيَّحُ العجِيزَةِ، للبَيَاضِ على عَجِيزته. قال ذو الرُّمّة:

تُهاوِي بيَ الظَّلْمَاءَ حَرْفٌ كأَنّها *** مُسَيَّحُ أَطرافِ العَجِيزَةِ أَصْحَرُ

يَعنِي حِمارًا وَحْشيًّا شَبَّهَ النَّاقَة به.

ومن المجاز: سيْحَانُ كرَيْحَان: نهْرٌ بالشّامِ بالعواصِم من أَرضِ المَصِيصةِ، ونَهرٌ آخَرُ بالبَصْرَةِ، ويقال: فيه ساحِينٌ.

وسَيْحَانُ: اسمُ وادٍ أَو: قرية بالبَلْقاءِ من الشّام، بها قَبْرُ سيّدنا مُوسَى الكَلِيمِ عليه وعلى نبِيّنا أَفضلُ الصّلاة والسَّلام، وقد تَشرَّفْتُ بزيارته.

وسَيْحُونُ: نَهرٌ بما وراءَ النهْر وراءَ جيْحُون، ونَهرٌ بالهند مشهورٌ.

ومن المجاز: المِسْياحُ بالكسر: مَنْ يَسيحُ بالنَمِيمةِ والشَّرِّ في الأَرض والإِفسادِ بين النّاس.

وفي حديث عليّ رضي ‌الله‌ عنه: «أُولئك أُمّةُ الهُدَى، لَيْسُوا بالمسايِيحِ ولا بالمَذايِيع البُذُرِ» يعني الّذِين يَسِيحون في الأَرض بالنَّمِيمةِ والشَّرِّ والإِفسادِ بين النّاس. والمَذاييعُ: الّذين يُذيعُون الفَوَاحِشَ. قال شَمِرٌ: المَسَايِيحُ ليس من السِّيَاحَة، ولكنّه من التَّسييحِ، والتَّسيِيحُ في الثَّوْبِ أَن تكون فيه خُطوطٌ مُخْتَلِفةٌ ليس من نَحْوٍ وَاحدٍ.

وانْساحَ بالُه: اتَّسعَ، وقال:

أُمَنِّي ضَمِيرَ النَّفْسِ إِيّاكِ بعدَ ما *** يُرَاجِعُني بَثِّي فَيَنْساحُ بالُها

وانْساحَ الثَّوْبُ وغيرُه: تَشقَّقَ، وكذلك الصُّبْح.

وفي حديث الغار؛ «فانْساحَتِ الصَّخرةُ»: أَي انْدَفَعَتْ وانشقَّتْ. ومنه ساحةُ الدَّارِ. ويُرْوَى بالخاءِ والصّاد.

وانْساحَ بَطْنُه: كَبُرَ واتَّسَعَ ودَنَا من السِّمَن. وفي التّهذيب عن ابن الأَعْرَابيّ: يقال للأَتانِ: قد انْساحَ بَطْنُها وانْدَالَ، انْسِيَاحًا، إِذا ضَخُمَ ودَنَا من الأَرضِ.

وأَسَاحَ فُلانٌ نَهْرًا، إِذا أَجْرَاهُ، قال الفَرَزْدَق:

وكَمْ للمُسْلِمِينَ أَسَحْتُ بَحْري *** بإِذنِ اللهِ مِن نَهرٍ ونَهْرِ

وأَساحَ الفَرسُ بذَنَبِه، إِذا أَرْخاه. وغَلِطَ الجوهَرِيّ فذكره بالشِّين في أَشاح. ووجدْت في هامش الصّحاح ما نَصُّه: قال الأَزهريّ: الصّواب أَساحَ الفَرَسُ بذَنَبه، إِذا أَرْخَاه، بالسّينُ، والشّينُ تَصْحِيفٌ. ومثْلُه في التكملة للصّغانيّ. وجَزمَ غيرُ واحدٍ بأَنّه بالشّين على ما في الصّحاح.

وجَبَلُ سَيَّاحٍ بالإِضافَة كَكَتّانٍ حَدٌّ بين الشّام والرُّوم، ذكره أَبو عُبَيْد البَكرِيّ.

والسُّيُوح بالضّمّ: قرية، باليَمَامة، وهي الأَوْدِيَةُ الثَّلاثةُ الّتي تقدَّم ذِكْرُها.

وأَبو منصورٍ مُسْلِمُ بنُ عليّ بنِ السِّيحِيّ، بالكسر: مُحَدِّثٌ، من أَهل الموْصِل، روَى عن أَبي البَركاتِ بنِ حُميْد؛ قاله ابن نُقْطَة.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

من اللسان: ويقال: أَساحَ الفَرَسُ ذَكَرَه وأَسَابَه، إِذا أَخْرَجه من قُنْبِه قال خَليفةُ الحُصَيْنِيّ: ويقال سَيَّبَه وسيَّحَه، مثلُه.

ومن الأَساس: من المجاز: وسَيَّحَ فُلانٌ تَسْيِيحًا كَثَّرَ كلامَه.

وسَيْحَانُ: ماءٌ لبني تَميم في دِيارِ بني سعْد؛ كذا في معجم البَكريّ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


43-تاج العروس (قذر)

[قذر]: قَذرَ الشَّيْ‌ءُ، كفَرِحَ، ونَصَر، وكَرُم، قَذَرًا، مُحَرَّكَةً، وقَذَارَةً، بالفَتْح، فهو قَذْرٌ، بالفَتْحِ فالسُّكونِ، وقَذرٌ، ككَتِفٍ، ورَجُلٍ، وجَمَلٍ. وقد قَذِرَهُ ـ كسَمِعَهُ، ونَصَرَه ـ قَذْرًا، بالفَتْح، وقَذَرًا، بالتَّحْرِيكِ، وتَقَذَّرَهُ، واسْتَقْذَرَه، قال اللّيْثُ: يُقَال: قَذِرْتُ الشَّيْ‌ءَ، بالكَسْر: إِذا اسْتَقْذَرْتَهُ وتَقَذَّرْتَ مِنْه. وقد يُقَال للشَّيْ‌ءِ القَذِرِ قَذْرٌ أَيضًا، فمَنْ قال: قَذِرٌ، جعله على بِنَاءِ فَعِلٍ من قَذِرَ يَقْذَرُ، فهو قَذِرٌ، ومَنْ جَزَمَ قال: قَذُرَ يَقْذُر قَذَارَةً، فهو قَذْرٌ.

ورَجُلٌ مَقْذَرٌ، كمَقْعَد: مُتَقَذِّرٌ، أَو يَجْتَنِبُهُ الناسُ، وهو في شِعْرِ الهذَلِيّ.

والقَذُورُ من النّسَاءِ: المُتَنَحِّيَةُ من الرِّجالِ، قال:

لَقَدْ زادَنِي حُبًّا لسَمْراءَ أَنَّهَا *** عَيُوفٌ لإِصْهَارِ اللِّئامِ قَذُورُ

والقَذُورُ من النِّسَاءِ أَيضًا: المُتَنزِّهَةُ عن الأَقْذَارِ؛ أَي الفَوَاحِشِ، وهذا مَجازٌ. ومن المجازِ أَيضًا: رَجُلٌ قَذُورٌ، كصَبُور، وقاذُورٌ، وقاذُورَةٌ، وذُو قاذُورَةٍ: لا يُخالِطُ الناسَ، وفي الأَساس: رَجُلٌ قاذُورَةٌ: مُتَبَرِّمٌ بالناسِ لا يَجْلِسُ إِلّا وَحْدَه، ولا يَنْزِل إِلّا وَحْدَهَ. وفي المُحْكَم: رَجُلٌ ذُو قَاذُورَةٍ: لا يُخَالُّ النَّاسَ لِسُوءِ خُلُقِه ولا يُنَازِلُهم. قال مُتَمِّمُ ابنُ نُوَيْرَةَ يَرْثِي أَخاهُ:

فإِنْ تَلْقَهُ في الشَّرْبِ لا تَلْقَ فاحِشًا *** عَلَى الكَأْسِ ذا قَاذُورَةٍ مُتَزَبِّعَا

وقال أَبو عُبَيْد: القَاذُورَةُ من الرِّجالِ: الفاحِشُ السَّيِّئُ الخُلُقِ، وقال اللَّيْثُ: القاذُورَةُ: الغَيُور من الرِّجالِ. و‌في الحديث: «مَنْ أَصابَ مِنْ هذِه القاذُورَةِ شَيْئًا فلْيَسْتَتِر بِسِتْرِ الله».

قال ابنُ سِيدَه: أُراه عَنَى بِهِ الزِّنَا وسَمّاهُ قاذُورَةً، كما سمَّاه الله عزّ وجلّ: فاحِشَةً ومَقْتًا. وقال ابنُ الأَثِير في تَفسيره: أَرادَ به ما فِيه حَدُّ كالزِّنى والشُّرْبِ. وقال خالِدُ بنُ جَنَبَة: القَاذُورَةُ التي نَهَى الله عَنْهَا: الفِعْلُ القَبِيحُ واللَّفْظُ السَّيِّئُ. وقال الزمَخْشريّ: القاذُوراتُ: الفَوَاحِشُ، وهو مَجازٌ. ومن المَجَاز أَيضًا: القاذُورَةُ من الإِبِلِ: الّتِي تَبْرُك ناحِيَةً منها لا تُخَالِطُهَا وتَسْتَبْعِدُ وتُنَافِرُهَا عِنْدَ الحَلْبِ، كالقَذُور، كصَبورٍ. قال الحُطَيْئَة يصفُ إِبِلًا عازِبَةً لا تَسْمَعُ أَصواتَ الناسِ:

إِذا بَرَكَتْ لم يُؤْذِهَا صَوْتُ سامِرٍ

قال الأَزهريّ: والكَنُوفُ مِثْلُهَا. وفي المُحْكَم: القَاذُورَةُ: الرَّجُل يَتَقَذَّرُ الشَّيْ‌ءَ فلا يَأْكُلُه، عن أَبي عُبَيْدَةَ، وهكذا نَصّه في المُحْكَم، وفي التَّكْمِلَة واللِّسَان. ومنهُ ما رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم كان قَاذُورَةً لا يَأْكُلُ الدَّجَاجَ حَتَّى تُعْلَف» الهَاءُ للمُبَالَغَة. وفي حَدِيث أَبي مُوسَى في الدَّجاج: «رأَيْتُه يَأْكلُ شَيْئًا فقَذِرْتُه» أَي كَرِهْتُ أَكْلَه، كأَنَّه رآه يأْكُلُ القَذَرَ.

وقَذُورُ: اسم امْرَأَة، وأَنْشَد أَبو زِيَاد:

وإِنّي لأَكْنُو عَنْ قَذُورَ بغَيْرِهَا *** وأُعْرِبُ أَحْيَانًا بها فأُصارِحُ

وقَيْذارُ بنُ إِسْمَاعِيل، بنِ إِبراهِيمَ، عليهِمَا وعلَى نَبِيِّنَا أَفضلُ الصَّلَاةِ والسَّلام، وهو أَبو العَرَبِ وقد قِيلَ في نُبُوَّتِه أَيضًا، ولَهُ مَشْهَدٌ يُزَارُ قريبًا من السُّلْطَانِيّة بالعَجَمِ، وأَعْقَبَ مِنْ وَلَدِه حَمَلَ بن قَيْذارَ، وله ابنٌ آخَرُ يُقَال له سوارى، ويُقَال له: قَيْذَرٌ، كحَيْدَرٍ، وقاذَرَ. في حَدِيثِ كَعْبٍ: قال الله لرُومِيَّةَ: إِنّي أُقسِم بعِزَّتي لأَهَبَنَّ سَبْيَك لِبَنِي قاذَرَ» أَي بَنِي إِسماعيلَ بنِ إِبراهيم عليهما‌السلام، يريدُ العَرَب، ففي عبارة المُصَنّف كالصاغانيّ قُصُور.

ومن المَجَازِ: رَجُلٌ قُذَرَةٌ، كهُمَزَةٍ: مُتَنزِّهٌ عن المَلائِم؛ أَي يَتجَنَّبُ عمّا يُلامُ عليه.

ومن المَجَاز قولُهُم: يا ابنَ أُمّ، قد أَقْذَرْتَنَا؛ أَي أَكْثَرْتَ الكَلامَ فأَضْجَرْتَنَا، أَنشد أَبو عَمْرٍو على هذِه اللُّغَةِ قَوْلَ أَبي كَبِيرٍ:

ونُضِيتُ ممّا كُنْتُ فِيه فأَصْبَحَتْ *** نَفْسِي إِلى إِخْوَانِهَا كالمُقْذِرِ

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

قَذِرَ الشيْ‌ءَ: كَرِهَهُ واجْتَنَبَهُ، وهو مَجازٌ. ومنه‌الحَدِيث: «وتَقْذَرُهم نَفْسُ الله»؛ أَي يَكْرهُ خُرُوجَهم إِلى الشامِ ومُقامَهم بها، فلا يُوفِّقهُم لِذلك.

والقَاذُورَةُ من الرِّجال: الّذِي لا يُبَالِي ما صَنَعَ وما قَالَ.

وقال عبدُ الوَهّابِ الكِلابِيّ: القَاذُورَةُ: الذي يَقْذَرُ كُلَّ شَيْ‌ءٍ لَيْسَ بنَظِيفٍ.

وقال أَبو الهيْثَم: قَذِرْتُ الشَّيْ‌ءَ أَقْذَرُه قَذرًا فهو مَقْذُورٌ، قال العَجَّاج:

وقَذَرِي ما لَيْسَ بالمَقْذُورِ

وهْوَ مَجَازٌ. يقولُ: صِرْتُ أَقْذَرُ ما لمْ أَكُنْ أَقْذَرُه في الشَّبَابِ من الطَّعَامِ.

وفي الحَدِيث: «هَلَك المُقَذِّرُون» يعنِي الذِين يَأْتُونَ القَاذُورَاتِ.

وقُذَارُ، كغُرَاب: لَقَبُ مُحَمَّدِ بنِ عليِّ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ بنِ جَعْفرِ بن الحَسَنِ بنِ الحَسَنِ بنِ عليِّ بنِ أَبِي طالِب رضي ‌الله‌ عنه، لُقِّب بذلِك لِنظَافَتِه؛ ذكرهُ الحافِظُ.

وقد أَجْحَفَ في نَسَبِه، والصَّوابُ فيه أَنه مُحَمَّد بنُ عليّ بنِ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ الحَسَنِ بن عليّ بنِ مُحَمَّد بن الحَسَن بن جَعْفَر، والباقِي سَواءٌ. والعَجَبُ منه، فإِنّه قد ذَكَرَ والِدَه عَلِيًّا في بَاغِر، ولم يُنَبِّه على ذلك وهُوَ هُوَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


44-تاج العروس (ذيع)

[ذيع]: ذاعَ الشَّيْ‌ءُ والخَبَرُ يَذِيعُ ذَيْعًا وذُيُوعًا بالضَّمِّ وذَيْعُوعَة، كَشَيْخُوخَةٍ وذَيَعَانًا، مُحَرَّكَةً: فَشا، وانْتَشَر.

وِالمِذْيَاعُ بالكَسْرِ: مَنْ لا يَكْتُم السِّرَّ، أَو مَنْ لا يَسْتَطِيعُ كَتْمَ خَبَرِهِ، والجَمْعُ المَذَاييعُ. ومِنْهُ قولُ عَلِيَّ رَضِيَ الله عِنْهُ ـ في صِفَةِ الأَوْلِيَاءِ: ـ «الأَوْلِيَاءُ لَيْسُوا بالمَذايِيع البُذُرِ» وقِيلَ: أَرادَ لا يُشِيعُونَ الفَواحِشَ. وهو بِنَاءُ مُبَالَغَة، ويُقَالُ: فُلانٌ لِلأَسْرارِ مِذْيَاعٌ، وللأَسْبَابِ مِضْيَاعُ.

وِأَذاعَ سِرَّهُ، وبِه: أَفْشاهُ وأَظْهَرَهُ، أَوْ نادَى به في النّاس، وبه فَسَّر الزَّجّاجُ قَوْلَهُ تَعالَى: {وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ} أَي أَظْهَرُوهُ ونَادَوْا به في النّاسِ، وأَنْشَدَ.

أَذَاعَ به في النّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ *** بعَلْيَاءَ نارٌ أَوْقِدَتْ بِثَقُوبِ

وِأَذاعَتِ الإِبِلُ، أَو القَوْمُ ما في الحَوْضِ، وبما في الحَوْضِ إِذاعَةً، أَيْ شَرِبُوه كُلَّه، كَما في الصّحاح، أَوْ شَرِبُوا ما فيه، كما في اللِّسَان.

وِأَذاعَ النّاسُ بمَالِيّ: ذَهَبُوا به وكُلُّ ما ذُهِبَ به فَقَدْ أَذِيعَ به. ومِنْهُ بَيْتُّ الكِتابِ.

رَبْعٌ قَواءُ أَذاعَ المُعْصِراتُ به

أَي أَذْهَبتْه وطَمَسَتْ مَعَالِمَه. ومنه قَوْل الآخَر:

نَوَازِلُ أَعْوَامٍ أَذاعَتْ بخَمْسَةٍ *** وِتَجْعَلُنِي ـ إِنْ لَمْ يَقِ الله ـ سادِيًا

وَاوِيَّةٌ يائِيَّةٌ. الصَّوَاب أَنَّهَا يَائيَّةٌ.

والذّوْعُ الَّذِي اسْتَدْرَكه الخارْزَنْجِيُّ مَنْظُورٌ فِيه، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثِقَةٍ عِنْدَهُمْ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْه:

ذاعَ الجَوْرُ: انْتَشَرَ.

وِذَاعَ الجَرَبُ في الجِلْدِ، إِذا عَمَّ وانْتَشَرَ، وهو مَجَازٌ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


45-تاج العروس (قذع)

[قذع]: قَذَعَه، كمَنَعَه، قَذْعًا: رمَاه بالفُحْشِ. وسُوءِ القَوْلِ فيه، قال طَرَفَةُ:

وِإِنْ يَقْذِفُوا بالقَذْعِ عِرْضَكَ أَسْقِهِمْ *** بكَأْسِ حِيَاضِ المَوْتِ قَبْلَ التَّنَجُّدِ

كأَقْذَعَه، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، قَالَ الصّاغَانِيُّ: وهو أَفْصَحُ من قَذَعَه، قالَ الأَزْهَرِيُّ: لم أَسْمَع قَذَعْت، بغيْرِ أَلِفٍ لغَيْرِ اللَّيْثِ. وفي الحَدِيثِ: «مَنْ قالَ في الإِسْلامِ شِعْرًا مُقْذِعًا فلِسَانُه هَدَرٌ» وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ رَوَى هِجَاءً مُقْذِعًا فهُوَ أَحَدُ الشّاتِمَيْن» الهِجَاءُ المُقْذِعُ: الَّذِي فيه فُحْشٌ. وقَذْفٌ وسَبٌ؛ أَي أَنَّ إِثْمَهُ كإِثْمِ قَائِله. [الأَول] وسُئِلَ الحَسَنُ عَنْ الرَّجُلِ يُعْطِي الرَّجُلَ من الزَّكَاةِ: أَيُخْبِرُه بها؟ قالَ: يُرِيدُ أَنْ يُقْذِعَه؛ أَي يُسْمِعَهُ ما يَشُقُّ عليه؟ فسَمّاه قَذْعًا، وأَجْرَاهُ مجَرَى يَشتمه ويُؤْذيه، فلذلِك عَدّاه بغيْرِ لامٍ، قالَهَ الزَّمَخْشَرِي.

ويُقَالُ: أَقذَعَّ فُلانٌ لفلانٍ أَيْضًا، وقَوْلُه: مُعَدًّى بغيْرِ لام، على هذِه اللُّغَةِ، وقالَ رُؤبَةُ:

يا أَيُّهَا القائِلُ قَوْلًا أَقْذَعَا *** أَصْبِحْ فَمَنْ نَادَى تَمِيمًا أَسْمَعَا

أَرادَ أَنَّه أَقْذَعَ فيه، وقِيلَ: أَقْذَعَ نَعْتٌ للقَوْلِ، كأَنَّه قالَ قَوْلًا ذَا قَذَعٍ. وقال أَبُو زيْد ـ عن الكِلابِيِّينَ ـ: أَقْذَعْته بلِسَانِي، إِذا قَهَرْتَه بِلِسَانِكَ، وهو مَجَازٌ.

وِقَذَعَه بالعَصَا قَذْعًا: ضَرَبَهُ بها، نَقَلَهُ أَبو زَيْدٍ، قالَ الأَزْهَرِيُّ: أَحْسَبُه بالدّالِ المُهْمَلَة.

وقالَ الصّاغَانِيُّ: الصَّوابُ ما قالَهُ الأَزْهَرِيُّ، ومنه سُمِّيَت العَصَا مِقْدَعَة، كما تَقَدَّم.

وِالقَذَعُ، مُحَرَّكةً: الخَنَا والفُحْشُ الّذي يَقبَحُ ذِكْره، وهو مَجَازٌ، وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ لزهيْر بنِ أَبِي سُلْمَى يخاطِب الحَارِث بن وَرْقاءَ الصَيْدَاوِيّ:

ليَأْتِينَّكَ مِني مَنْطِقٌ قَذَعٌ *** باقٍ كما دَنسَ القُيطِيَّةَ الوَدَكُ

وِالقُذَعُ: القَذَرُ والدنَسُ.

وِيقَال: قَذَّعَ ثوبَهُ تَقْذِيعًا: إِذا قَذَرَه، نَقَلَه ابنُ عَبّادٍ والزَّمَخْشَرِيُّ.

وِقالَ الأَزْهَرِيُّ: قَرَأْتُ في نَوَادِرِ الأَعْرَابِ: تَقَذَّعَ له بالشَّرِّ، بالدّالِ والذّالِ، إِذا اسْتَعَدَّ له.

وِقاذَعَه: فَاحَشَهُ وشَاتَمَهُ، قال بَعْضُ بَنِي قَيْسٍ:

إِنِّي امْرُؤٌ مُكْرِمٌ نَفْسِي ومُتَّئِدٌ *** من أَنْ أُقاذِعَهَا حَتَّى أُجَازِيهَا

ويُقَالُ: بَيْنَهما مُقَاذَفَةٌ ومُقَاذَعَةٌ، وهو مَجَازٌ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

مَنْطِقٌ قَذَعٌ، بالتَّحْرِيكِ، وقذِعٌ كَكَتِفٍ، وقَذِيعٌ، وأَقْذَعُ: فَاحِشٌ، وشاهِدُ الأَوَّلِ قَوْلُ زُهَيْرٍ السّابِقُ، ويُرْوَى كالثّانِي، وشَاهِدُ الأَخِيرِ قولُ رُؤْبَةَ السّابِقُ على رِوَايَةٍ.

ورَمَاهُ بالمُقْذِعَاتِ، بالتَّخْفِيفِ والتَّشْدِيدِ، عَلَى الأَوَّلِ مَعْنَاهُ الفَوَاحِشُ وعَلَى الثّانِي: مَعْنَاهُ القَاذُورَاتُ.

وِالقَذِيعَةُ، كالقَذِيفَة: الشَّتْمَةُ.

وما عَليْهِ قِذَاعٌ، بالكَسْرِ؛ أَي شَيْ‌ءٌ، عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ، والأَعْرَفُ قِزَاعٌ، بالزّايِ، كما سَيَأْتِي.

وِتَقَذَّعَ بمَعْنَى تَكَرَّهَ، قالَ السُّهَيْلِيُّ: كأَنَّه من أَقْذَعْتُ الشَّيْ‌ءَ، إِذا صَادَفْتَه قَذِعًا.

والقَذِعَةُ: المَرْأَةُ الحَيِيَّةُ، نَقَلَه ابنُ عَبَّادٍ، ورَدَّهُ الصاغَانِيُّ فِي العبَابِ، وقال: هو تَصْحِيفٌ، والصّوابُ بالدّالِ المُهْمَلَةِ، وقد تَقَدَّم.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


46-تاج العروس (طمل)

[طمل]: الطَّمْلُ: الخَلْقُ كُلُّهم.

والطِّمْلُ، بالكسرِ: الرَّجُلُ الفاحِشُ الذي لا يُبالِي ما صَنَعَ، كذا في المُحْكَمِ.

ونَصُّ العَيْنِ بعْدَ الفاحِش: البَذِي‌ءُ الذي لا يُبَالِي ما أَتَى وما قيلَ له، وإنَّه لَمِلْطٌ طِمْلٌ، كالطَّامِلِ والطَّمولِ، كصَبُورٍ، الجمع: طُمولٌ، بالضمِ، والاسمُ الطُّمولَةُ، بالضمِ.

وقالَ ابنُ الأعْرَابيِّ: الطِّمْلُ الماءُ الكَدِرُ.

وأَيْضًا: الثَّوْبُ المُشْبَعُ صِبْغًا.

وأَيْضًا: الكِساءُ الأسْوَدُ نَقَلَه الصَّاغانيُّ، أَو الأَسْوَدُ مُطْلقًا

وأَيْضًا: القِلادَةُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.

وأَيْضًا: اللَّئيمُ لا يُبالِي ما صَنَعَ.

وأَيْضًا: الأَحْمقُ.

وأَيْضًا: اللِّصُّ عن أَبي عَمْرٍو، وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ:

وأَسْرَعَ في الفَوَاحِشِ كلّ طَمْلٍ *** يَجُرّ المُخْزِيات ولَا يُبَالي

وخَصَّ به غيرُه: الفاسِقُ وفي الأَمْثالِ للميدانيِّ: الخَبِيثُ، كالطِّمْلِيلِ بالكسرِ.

وأَيْضًا: الثَّوْبُ الخَلَقُ.

وأَيْضًا: الذِّئبُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، وخَصّ به غيرُه.

الأطْلَسُ الخفِيُّ الشَّخصِ، كما في المُحْكَمِ، كالطِّمِلِّ، كطِمِرٍّ والطِّمْلالِ، كسِرْبالٍ، نَقَلَهما ابنُ سِيْدَه.

وأَيْضًا: الفقيرُ السَّيِّ‌ءُ الخُلُقِ، وفي المُحْكمِ: السَّيِّئُ الحالِ القبيحُ الهَيْئةِ الأغْبَرُ التَّقَشُّفِ، كذا في النسخِ، والصَّوابُ: القَشِف كما هو نَصّ المُحْكَمِ كالطِّمْلالِ والطِّمْليلِ، بكسْرِهما، والطُّمْلولِ، بالضمِ، أَو هو العارِي من الثِّيابِ، وأَكْثَرُ ما يُوصَفُ به القانِصُ نَقَلَهن ابِنُ دُرَيْدٍ ما عَدا الطِّمْلال، وأَنْشَدَ:

أَطْلَسُ طُمْلُولٌ عليه طِمْرُ

والطَّمِيلُ، كأَميرِ: الخَفِيُّ الشأَنِ.

وأَيْضًا الجَدْيُ والعَناقُ كالطَّميلَةِ لأَنَّهما يُطْمَلان أَي يُشَدَّان.

والطَّمِيلُ: الحَصيرُ، وقد طَمَلَه طَملًا فهو مَطْمولٌ وطَمِيلٌ إذا رَمَلَه وجَعَل فيه الخُيوطَ.

وأَيْضًا: ماءُ الحَمْأَة.

وأَيْضًا: السُّلَّاءَةُ.

وأَيْضًا: النَّصْلُ العَريضُ.

وأَيْضًا: القِلادَةُ، قالَ:

فكَيفَ أَبِيتُ الليلَ وابنَةُ مالكٍ *** بزِينتها لَمَّا يُقَطَّعْ طَمِيلُها؟

سُمِّيَتْ لأَنَّها تُطْمَلُ أَي تُلْطَخُ بالطِّيبِ.

وطِمْلالُ، كسِرْبالٍ: فَرَسٌ كانَ لبنِي الحَارِثِ بنِ ثعلبةَ بنِ دُوْدَان بنِ أَسَدِ بنِ خَزيمةَ ومنه قَوْلُ الكَاهِنِ: ارْكَبُوا شنخوبًا وطملالًا فاقْتَاسُوا الأرضَ أميالًا.

والطُّمْلُولُ، كزُنْبُورٍ، وفي بعضِ النسخِ كزُبَيْرٍ غَلَطٌ: الرجُلُ العارِي من الثِّيابِ، وهذا قد تقدَّمَ عن ابنِ دُرَيْدٍ قَرِيبًا، ومَرَّ أَنَّ أَكْثَرَ ما يُوصَفُ به القانِصُ فهو تِكْرارٌ.

والطُّمْلَةُ، بالضمِ والفتحِ وبالتَّحريكِ، واقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ على الأَخِيْرَتَيْن، وقالَ: هي الحَمْأَةُ وما بَقِيَ في أَسْفَلِ الحَوْضِ من الماءِ الكَدِرِ.

وَنَصّ الجَوْهَرِيّ: والطِّينُ يَبْقَى في أَسْفَلِ الحَوْضِ يقالُ: صارَ الماءُ طَمَلَة كما يقالُ دَكَلَة.

ونَقَلَ الأَزْهَرِيُّ عن الفرِّاءِ: صارَ الماءُ دَكلَةَ وطَمَلَة وثُرْمُطةً، كُلّه الطِّين الرَّقيقُ.

والطِّمْلَةُ، بالكسرِ: المرْأَةُ الضَّعيفَةُ، نَقَلَه الصَّاغانيُّ.

وطَمَلَ الإِبِلَ: سَاقَها سَوْقًا عَنيفًا فَسِيحًا، ووَقَعَ في نسخِ الصِّحاحِ: طَمَلْتِ الناقَةَ طَمْلًا: سَرتُها سَيْرًا قَبيحًا وكأَنَّه تَصْحيفٌ من الكاتِبِ والصَّوابُ فَسِيحًا كما في العُبَابِ.

وفي المُحْكَمِ: الطَّمْلُ: السَّيْرُ العَنيفُ.

وطَمَلَ الحَصيرَ يَطْملُه طَمْلًا: رَمَلَه وجَعَل فيه بالخُيوطِ فهو مَطْمولٌ وطَمِيلٌ كما تقدَّمَ.

وطَمَلَ الثَّوْبَ يَطْملُه طَمْلًا: أَشْبَعَ صَبغَهُ فهو طِمْلٌ بالكسرِ.

وطَمَلَ الخُبْزَ يَطْملُه طَملًا: وَسَّعَهُ بالمِطْمَلَةِ، كمِكْنَسَةٍ: اسمٌ للشَّوْبَقِ، كجَوْهَرٍ، ما تُوَسَّعُ به الخُبْزَةُ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وطَمَلَ الدَّمُ السَّهْمَ وغيرَهُ: لطَخَه فهو مَطْمولٌ وطَميلٌ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ فيهما أَي في السَّهْمِ والخبز، وكلُّ ما لُطِخَ بِدُهْنٍ أو دَمٍ أَو قارٍ وشِبهِ ذلك فقد طُمِلَ كعُنِيَ وفَرِحَ. ويقالُ: وَقَعَ في طَمْلَةٍ أَي أَمرٍ قبيحٍ فالْتَطَخَ به وهو مجازٌ.

واطُّمِلَ ما في الحَوْضِ، كافْتُعِلَ أُخْرِجَ فلم يُتْرَكْ فيه قَطْرَةٌ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وانْطَمَلَ: شارَكَ اللُّصوصَ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.

وأَطْمَلَ الدَّفْتَرَ إِطْمالًا: مَحاهُ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

الطَّمْلُ: العَجْنُ، كما في العُبَابِ، وبالكسرِ: النَّصِيبُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.

والطِّمْلالُ، بالكسرِ: الذِّئْبُ عن الفرِّاءِ.

ورجُلٌ مَطْمولٌ ومُطَمَّلٌ: مَلْطوخٌ بدَمٍ أَو بقَبِيحٍ أَو غيرِ ذلِكَ نَقَلَه ابنُ سِيْدَه والأَزْهَرِيُّ.

وطَمَلَيه، محرَّكَةً: قَرْيةٌ بمِصْرَ في جَزِيرةِ بنِي نَصْر وتُعْرَفُ بطملاهه.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


47-لسان العرب (سبح)

سبح: السَّبْحُ والسِّباحة: العَوْمُ.

سَبَحَ بِالنَّهْرِ وَفِيهِ يَسْبَحُ سَبْحًا وسِباحةً، وَرَجُلٌ سابِحٌ وسَبُوح مِنْ قَوْمٍ سُبَحاء، وسَبَّاحٌ مِنْ قَوْمٍ سَبَّاحين؛ وأَما ابْنُ الأَعرابي فَجَعَلَ السُّبَحاء جَمْعَ سَابِحٍ؛ وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وماءٍ يَغْرَقُ السُّبَحاءُ ***فِيهِ، سَفِينتُه المُواشِكةُ الخَبُوبُ

قَالَ: السُّبَحاءُ جَمْعُ سابِحٍ.

وَيَعْنِي بِالْمَاءِ هُنَا السَّرابَ.

والمُواشِكةُ: الجادَّةُ فِي سَيْرِهَا.

والخَبُوب، مِنَ الخَبَب فِي السَّيْرِ؛ جَعَلَ النَّاقَةَ مِثْلَ السَّفِينَةِ حِينَ جَعَلَ السَّرابَ كَالْمَاءِ.

وأَسْبَح الرجلَ فِي الْمَاءِ: عَوَّمَه؛ قَالَ أُمية:

والمُسْبِحُ الخُشْبَ، فوقَ الماءِ سَخَّرَها، ***فِي اليَمِّ جَرْيَتُها، كأَنها عُوَمُ

وسَبْحُ الفَرَسِ: جَرْيُه.

وَفَرَسٌ سَبُوحٌ وسابِحٌ: يَسْبَحُ بِيَدَيْهِ فِي سَيْرِهِ.

والسَّوابِحُ: الْخَيْلُ لأَنها تَسْبَح، وَهِيَ صِفَةٌ غَالِبَةٌ.

وَفِي حَدِيثِ الْمِقْدَادِ: «أَنه كَانَ يَوْمَ بدرٍ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ سَبْحَة»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَسٌ سابِحٌ إِذا كَانَ حسنَ مَدِّ الْيَدَيْنِ فِي الجَرْي؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ثَعْلَبٌ:

لَقَدْ كانَ فِيهَا للأَمانةِ موضِعٌ، ***وللعَيْنِ مُلْتَذٌّ، وللكَفِّ مَسْبَحُ

فَسَّرَهُ فَقَالَ: مَعْنَاهُ إِذا لمسَتها الْكَفُّ وَجَدَتْ فِيهَا جَمِيعَ مَا تُرِيدُ.

وَالنُّجُومُ تَسْبَحُ فِي الفَلَكِ سَبْحًا إِذا جَرَتْ فِي دَوَرانها.

والسَّبْحُ: الفَراغُ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحًا طَوِيلًا}؛ إِنما يَعْنِي بِهِ فَرَاغًا طَوِيلًا وتَصَرُّفًا؛ وَقَالَ اللَّيْثُ: مَعْنَاهُ فَرَاغًا لِلنَّوْمِ؛ وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: مُنْقَلَبًا طَوِيلًا؛ وَقَالَ المُؤَرِّجُ: هُوَ الفَراغ والجَيئَة وَالذَّهَابُ؛ قَالَ أَبو الدُّقَيْش: وَيَكُونُالسَّبْحُ أَيضًا فَرَاغًا بِاللَّيْلِ؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ لَكَ فِي النَّهَارِ مَا تَقْضِي حَوَائِجَكَ؛ قَالَ أَبو إِسحاق: مَنْ قرأَ سَبْخًا فَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنَ السَّبْح، وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: مَنْ قرأَ سَبْحًا فَمَعْنَاهُ اضْطِرَابًا وَمَعَاشًا، وَمَنْ قرأَ سَبْخًا أَراد رَاحَةً وَتَخْفِيفًا للأَبدان.

قَالَ ابنُ الفَرَج: سَمِعْتُ أَبا الجَهْم الجَعْفَرِيَّ يَقُولُ: سَبَحْتُ فِي الأَرض وسَبَخْتُ فِيهَا إِذا تَبَاعَدْتَ فِيهَا؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَأَي يَجْرُونَ}، وَلَمْ يَقُلْ تَسْبَحُ لأَنه وَصَفَهَا بِفِعْلِ مَنْ يَعْقِلُ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحًا؛ هِيَ النُّجُومُ تَسْبَحُ فِي الفَلَكِ أَي تَذْهَبُ فِيهَا بَسْطًا كَمَا يَسْبَحُ السابحُ فِي الْمَاءِ سَبْحًا؛ وَكَذَلِكَ السَّابِحُ مِنَ الْخَيْلِ يَمُدُّ يَدَيْهِ فِي الْجَرْيِ سَبْحًا؛ وَقَالَ الأَعشى:

كَمْ فيهمُ مِنْ شَطْبَةٍ خَيْفَقٍ، ***وسابِحٍ ذِي مَيْعَةٍ ضامِرِ

وَقَالَ الأَزهري فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسَّابِحاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقاتِ سَبْقًا}؛ قِيلَ: السابحاتُ السُّفُنُ، والسابقاتُ الخيلُ، وَقِيلَ: إِنها أَرواح الْمُؤْمِنِينَ تَخْرُجُ بِسُهُولَةٍ؛ وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ تَسْبَحُ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرض.

وسَبَحَ اليَرْبُوعُ فِي الأَرض إِذا حَفَرَ فيها، وسَبَحَ فِي الْكَلَامِ إِذا أَكثر فِيهِ.

والتَّسبيح: التَّنْزِيهُ.

وَسُبْحَانَ اللَّهِ: مَعْنَاهُ تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، وَقِيلَ: تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يُوصَفَ، قَالَ: ونَصْبُه أَنه فِي مَوْضِعِ فِعْلٍ عَلَى مَعْنَى تَسْبِيحًا لَهُ، تَقُولُ: سَبَّحْتُ اللَّهَ تَسْبِيحًا لَهُ أَي نَزَّهْتُهُ تَنْزِيهًا، قَالَ: وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}؛ قَالَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ الْمَعْنَى أُسبِّح اللَّهَ تَسْبِيحًا.

قَالَ: وَسُبْحَانَ فِي اللُّغَةِ تَنْزِيهُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنِ السُّوءِ؛ قَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: رأَيت فِي الْمَنَامِ كأَنَّ إِنسانًا فَسَّرَ لِي سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَما تَرَى الْفَرَسَ يَسْبَحُ فِي سُرْعَتِهِ؟ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ السرعةُ إِليه والخِفَّةُ فِي طَاعَتِهِ، وجِماعُ مَعْنَاهُ بُعْدُه، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، عَنْ أَن يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ أَو شَرِيكٌ أَو ندٌّ أَو ضِدٌّ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: زَعَمَ أَبو الْخَطَّابِ أَن سُبْحَانَ اللَّهِ كَقَوْلِكَ براءَةَ اللَّهِ أَي أُبَرِّئُ اللهَ مِنَ السُّوءِ بَرَاءَةً؛ وَقِيلَ: قَوْلُهُ سُبْحَانَكَ أَي أُنزهك يَا رَبِّ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وأُبرئك.

وَرَوَى الأَزهري بإِسناده أَن ابْنَ الكَوَّا سأَل عَلِيًّا، رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، عَنْ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقَالَ: كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ فأَوصى بِهَا.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سُبْحانَ مِن كَذَا إِذا تَعَجَّبَتْ مِنْهُ؛ وَزَعَمَ أَن قَوْلَ الأَعشى فِي مَعْنَى الْبَرَاءَةِ أَيضًا:

أَقولُ لمَّا جَاءَنِي فَخْرُه: ***سبحانَ مِن عَلْقَمَةَ الفاخِرِ

أَي بَرَاءَةً مِنْهُ؛ وَكَذَلِكَ تَسْبِيحُهُ: تَبْعِيدُهُ؛ وَبِهَذَا اسْتُدِلَّ عَلَى أَن سُبْحَانَ مَعْرِفَةٌ إِذ لَوْ كَانَ نَكِرَةً لَانْصَرَفَ.

وَمَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ أَيْضًا: الْعَجَبُ مِنْهُ إِذ يَفْخَرُ، قَالَ: وإِنما لَمْ يُنَوَّنْ لأَنه مَعْرِفَةٌ وَفِيهِ شَبَهُ التأْنيث؛ وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: إِنما امْتَنَعَ صَرْفُهُ لِلتَّعْرِيفِ وَزِيَادَةِ الأَلف وَالنُّونِ، وَتَعْرِيفُهُ كَوْنُهُ اسْمًا عَلَمًا لِلْبَرَاءَةِ، كَمَا أَن نَزالِ اسْمُ عَلَمٍ لِلنُّزُولِ، وشَتَّانَ اسْمُ عَلَمٍ لِلتَّفَرُّقِ؛ قَالَ: وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ سُبْحَانَ مُنَوَّنَةً نَكِرَةً؛ قَالَ أُمية:

سُبْحانَه ثُمَّ سُبْحانًا يَعُودُ لَهُ، ***وقَبْلَنا سَبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ

وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: سُبْحَانَ اسْمُ عَلَمٍ لِمَعْنَى الْبَرَاءَةِ وَالتَّنْزِيهِ بِمَنْزِلَةِ عُثْمانَ وعِمْرانَ، اجْتَمَعَ فِي سُبْحَانَ التَّعْرِيفُ والأَلف وَالنُّونُ، وَكِلَاهُمَا عِلَّةٌ تَمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ.

وسَبَّح الرجلُ: قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ؛ وَفِي التَّنْزِيلِ: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ؛ قَالَ رُؤْبَةُ:} سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِن تَأَلُّهِ وسَبَحَ: لُغَةً، حَكَى ثَعْلَبٌ سَبَّح تَسْبِيحًا وسُبْحانًا، وَعِنْدِي أَن سُبْحانًا لَيْسَ بِمَصْدَرِ سَبَّح، إِنما هُوَ مَصْدَرُ سَبَح، وَفِي التَّهْذِيبِ: سَبَّحْتُ اللَّهَ تَسْبِيحًا وسُبْحانًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالْمَصْدَرُ تَسْبِيحٌ، وَالِاسْمُ سُبْحان يَقُومُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ.

وأَما قَوْلُهُ تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}؛ قَالَ أَبو إِسحاق: قِيلَ إِن كُلَّ مَا خَلَقَ اللَّهُ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وإِن صَريرَ السَّقْف وصَريرَ الْبَابِ مِنَ التَّسْبِيحِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الخطابُ لِلْمُشْرِكِينَ وَحْدَهُمْ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ؛ وَجَائِزٌ أَن يَكُونَ تَسْبِيحُ هَذِهِ الأَشياء بِمَا اللَّهُ بِهِ أَعلم لَا نَفْقَه مِنْهُ إِلا مَا عُلِّمْناه، قَالَ: وَقَالَ قَوْمٌ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِأَي مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَفِيهِ دَلِيلٌ أَن اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، خَالِقُهُ وأَن خَالِقَهُ حَكِيمٌ مُبَرَّأٌ مِنَ الأَسْواء وَلَكِنَّكُمْ، أَيها الْكُفَّارُ، لَا تَفْقَهُونَ أَثر الصَّنْعة فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ قَالَ أَبو إِسحاق: وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لأَن الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذَا كَانُوا مُقِرِّينَ أَن اللَّهَ خالقُهم وخالقُ السَّمَاءِ والأَرض وَمَنْ فِيهِنَّ، فَكَيْفَ يَجْهَلُونَ الخِلْقَة وَهُمْ عَارِفُونَ بِهَا؟ قَالَ الأَزهري: وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى أَن تَسْبِيحَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ تَسْبِيحٌ تَعَبَّدَتْ بِهِ قولُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجِبَالِ: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}؛ وَمَعْنَى أَوِّبي سَبِّحي مَعَ دَاوُدَ النهارَ كلَّه إِلى اللَّيْلِ؛ وَلَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ مَعْنَى أَمر اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجِبَالِ بالتأْويب إِلا تَعَبُّدًا لَهَا؛ وَكَذَلِكَ قَوْلِهِ تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ}، فَسُجُودُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ عِبَادَةٌ مِنْهَا لِخَالِقِهَا لَا نَفْقَهُها عَنْهَا كَمَا لَا نَفَقُهُ تَسْبِيحَهَا؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}؛ وَقَدْ عَلِم اللهُ هُبوطَها مِنْ خَشْيَتِهِ وَلَمْ يُعَرِّفْنَا ذَلِكَ فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا أُعلمنا وَلَا نَدَّعِي بِمَا لَا نُكَلَّف بأَفهامنا مِنْ عِلْمِ فِعْلِها كَيْفِيَّةً نَحُدُّها.

وَمِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {السُّبُّوحُ القُدُّوسُ}؛ قَالَ أَبو إِسحاق: السُّبُّوح الَّذِي يُنَزَّه عَنْ كُلِّ سُوء، والقُدُّوسُ: المُبارَك، وَقِيلَ: الطَّاهِرُ؛ وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: سُبُّوحٌ قُدُّوس مِنْ صِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لأَنه يُسَبَّحُ ويُقَدَّسُ، وَيُقَالُ: سَبُّوحٌ قَدُّوسٌ؛ قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ فِيهَا الضَّمُّ، قَالَ: فإِن فَتَحْتَهُ فَجَائِزٌ؛ هَذِهِ حِكَايَتُهُ وَلَا أَدري مَا هِيَ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنما قَوْلُهُمْ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ؛ فَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ سُبْحان لأَن سُبُّوحًا قُدُّوسًا صِفَةٌ، كأَنك قُلْتَ ذَكَرْتُ سُبُّوحًا قُدُّوسًا فَنَصَبْتَهُ عَلَى إِضمار الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إِظهاره، كأَنه خَطَرَ عَلَى بَالِهِ أَنه ذَكَره ذاكِرٌ، فَقَالَ سُبُّوحًا أَي ذَكرت سُبُّوحًا، أَو ذَكَره هُوَ فِي نَفْسِهِ فأَضمر مِثْلَ ذَلِكَ، فأَما رَفْعُه فَعَلَى إِضمار المبتدإِ وتَرْكُ إِظهارِ مَا يَرْفع كَتَرْكِ إِظْهَارِ مَا يَنْصِب؛ قَالَ أَبو إِسحاق: وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بناءٌ عَلَى فُعُّول، بِضَمِّ أَوّله، غَيْرُ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ وَحَرْفٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ للذِّرِّيحِ، وَهِيَ دُوَيْبَّةٌ: ذُرُّوحٌ، زَادَهَا ابْنُ سِيدَهْ فَقَالَ: وفُرُّوجٌ، قَالَ: وَقَدْ يُفْتَحَانِ كَمَا يُفْتَحُ سُبُّوح وقُدُّوسٌ، رَوَى ذَلِكَ كُرَاعٌ.

وَقَالَ ثَعْلَبٌ: كُلُّ اسْمٍ عَلَى فَعُّول فَهُوَ مَفْتُوحُ الأَول إِلَّا السُّبُّوحَ والقُدُّوسَ، فإِن الضَّمَّ فِيهِمَاأَكثر؛ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فُعُّول بِوَاحِدَةٍ، هَذَا قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ؛ قَالَ الأَزهري: وَسَائِرُ الأَسماء تَجِيءُ عَلَى فَعُّول مِثْلَ سَفُّود وقَفُّور وقَبُّور وَمَا أَشبهها، وَالْفَتْحُ فِيهِمَا أَقْيَسُ، وَالضَّمُّ أَكثر اسْتِعْمَالًا، وَهُمَا مِنْ أَبنية الْمُبَالَغَةِ وَالْمُرَادُ بِهِمَا التَّنْزِيهُ.

وسُبُحاتُ وجهِ اللَّهِ، بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاءِ: أَنوارُه وجلالُه وَعَظَمَتُهُ.

وَقَالَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِن لِلَّهِ دُونَ الْعَرْشِ سَبْعِينَ حِجَابًا لَوْ دَنَوْنَا مِنْ أَحدها لأَحرقتنا سُبُحاتُ وَجْهِ رَبِّنَا """"؛ رَوَاهُ صَاحِبُ الْعَيْنُ، قَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: سُبُحاتُ وَجْهِهِ نُورُ وَجْهِهِ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: """" حجابُه النورُ والنارُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرقت سُبُحاتُ وَجْهِهِ كلَّ شَيْءٍ أَدركه بصَرُه """"؛ سُبُحاتُ وَجْهِ اللَّهِ: جلالُه وَعَظَمَتُهُ، وَهِيَ فِي الأَصل جَمْعُ سُبْحة؛ وَقِيلَ: أَضواء وَجْهِهِ؛ وَقِيلَ: سُبُحاتُ الْوَجْهِ محاسنُه لأَنك إِذا رأَيت الحَسَنَ الوجهِ قُلْتَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تنزيهٌ لَهُ أَي سُبْحَانَ وَجْهِهِ؛ وَقِيلَ: سُبُحاتُ وَجْهِهِ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ أَي لَوْ كَشَفَهَا لأَحرقت كُلَّ شَيْءٍ أَدركه بَصَرُهُ، فكأَنه قَالَ: لأَحرقت سُبُحاتُ اللَّهِ كُلَّ شَيْءٍ أَبصره، كَمَا تَقُولُ: لَوْ دَخَلَ المَلِكُ البلدَ لَقُتِلَ، والعِياذُ بِاللَّهِ، كلَّ مِنْ فِيهِ؛ قَالَ: وأَقرب مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَن الْمَعْنَى: لَوِ انْكَشَفَ مِنْ أَنوار اللَّهِ الَّتِي تُحْجَبُ الْعِبَادُ عَنْهُ شَيْءٌ لأَهلك كلَّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ ذَلِكَ النورُ، كَمَا خَرَّ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، صَعِقًا وتَقَطَّعَ الجبلُ دَكًّا، لمَّا تَجَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وَيُقَالُ: السُّبُحاتُ مَوَاضِعُ السُّجُودِ.

والسُّبْحَةُ: الخَرَزاتُ الَّتِي يَعُدُّ المُسَبَّحُ بِهَا تَسْبِيحَهُ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مولَّدة.

وَقَدْ يَكُونُ التَّسْبِيحُ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ والذِّكر، تَقُولُ: قَضَيْتُ سُبْحَتي.

وَرُوِيَ أَن عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، جَلَدَ رَجُلَيْنِ سَبَّحا بَعْدَ الْعَصْرِ """"أَي صَلَّيا؛ قَالَ الأَعشى:

وسَبِّحْ عَلَى حِينِ العَشِيَّاتِ والضُّحَى، ***وَلَا تَعْبُدِ الشيطانَ، واللهَ فاعْبُدا

يَعْنِي الصَّلَاةَ بالصَّباح والمَساء، وَعَلَيْهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ """"؛ يأْمرهم بِالصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الوَقتين؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حِينَ تُمْسُونَ الْمَغْرِبُ وَالْعَشَاءُ، وَحِينَ تُصْبِحُونَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَعَشِيًّا الْعَصْرُ، وَحِينَ تُظْهِرُونَ الأُولى.

وَقَوْلُهُ: وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ"""" أَي وصَلِّ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}؛ أَراد مِنَ الْمُصَلِّينَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنما ذَلِكَ لأَنه قَالَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لَا إِله إِلَّا أَنت سُبْحَانَكَ إِني كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.

وَقَوْلُهُ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ؛ يُقَالُ: إِن مَجْرَى التَّسْبِيحِ فِيهِمْ كمَجرى النَّفَسِ مِنَّا لَا يَشْغَلُنا عَنِ النَّفَسِ شَيْءٌ.

وَقَوْلُهُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَأَي تَسْتَثْنَوْنَ، وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ تعظيمُ اللَّهِ والإِقرارُ بأَنه لَا يَشَاءُ أَحدٌ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ، فَوَضَعَ تَنْزِيهَ اللَّهِ مَوْضِعَ الِاسْتِثْنَاءِ.

والسُّبْحةُ: الدُّعَاءُ وصلاةُ التَّطَوُّعِ والنافلةُ؛ يُقَالُ: فَرَغَ فلانٌ مِنْ سُبْحَته أَي مِنْ صَلَاتِهِ النَّافِلَةِ، سمِّيت الصَّلَاةُ تَسْبِيحًا لأَن التَّسْبِيحَ تَعْظِيمُ اللَّهِ وَتَنْزِيهُهُ مِنْ كلِّ سُوءٍ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وإِنما خُصت النَّافِلَةُ بالسُّبْحة، وإِن شَارَكَتْهَا الْفَرِيضَةُ فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ، لأَن التَّسْبِيحَاتِ فِي الْفَرَائِضِ نوافلُ، فَقِيلَ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ سُبْحة لأَنها نَافِلَةٌ كَالتَّسْبِيحَاتِ والأَذكار فِي أَنها غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ السُّبْحة فِي الْحَدِيثِ كَثِيرًا فَمِنْهَا: """" اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً أَي نَافِلَةً، وَمِنْهَا: كُنَّا إِذا نَزَلْنَا مَنْزِلًا لَا نُسَبِّحُ حَتَّى نَحُلَّ الرِّحال """"؛ أَراد صَلَاةَ الضُّحَى، بِمَعْنَى أَنهم كَانُوا مَعَ اهْتِمَامِهِمْ بِالصَّلَاةِ لَا يُبَاشِرُونَهَا حَتَّى يَحُطُّوا الرِّحَالَ ويُريحوا الجمالَرِفْقًا بِهَا وإِحسانًا.

والسُّبْحَة: التطوُّع مِنَ الذِّكر وَالصَّلَاةِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَقَدْ يُطْلَقُ التَّسْبِيحُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنواع الذِّكْرِ مَجَازًا كَالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ وَغَيْرِهِمَا.

وسُبْحَةُ اللَّهِ: جلالُه.

وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحًا طَوِيلًا""""} أَي فَرَاغًا لِلنَّوْمِ، وَقَدْ يَكُونُ السَّبْحُ بِاللَّيْلِ.

والسَّبْحُ أَيضًا: النَّوْمُ نَفْسُهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الْمُلَقَّبُ بِنَفْطَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أَي سَبِّحْهِ بأَسمائه وَنَزِّهْهُ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِغَيْرِ مَا سمَّى بِهِ نَفْسَهُ، قَالَ: وَمَنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ مَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ، فَهُوَ مُلْحِدٌ فِي أَسمائه، وكلُّ مَنْ دَعَاهُ بأَسمائه فَمُسَبِّح لَهُ بِهَا إِذ كَانَتْ أَسماؤُه مَدَائِحَ لَهُ وأَوصافًا؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها}، وَهِيَ صِفَاتُهُ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ، وَكُلُّ مَنْ دَعَا اللَّهَ بأَسمائه فَقَدْ أَطاعه وَمَدَحَهُ ولَحِقَه ثوابُه.

وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: مَا أَحدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الفواحشَ، وَلَيْسَ أَحدٌ أَحبَّ إِليه المَدْحُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

والسَّبْحُ أَيضًا: السُّكُونُ.

والسَّبْحُ: التقَلُّبُ وَالِانْتِشَارُ فِي الأَرض والتَّصَرُّفُ فِي الْمَعَاشِ، فكأَنه ضِدٌّ.

وَفِي حَدِيثِ الْوُضُوءِ: «فأَدخل إصْبُعَيْه السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذنيه»؛ السَّبَّاحةُ والمُسَبِّحةُ: الإِصبع الَّتِي تَلِي الإِبهام، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنها يُشَارُ بِهَا عِنْدَ التَّسْبِيحِ.

والسَّبْحَةُ، بِفَتْحِ السِّينِ: ثَوْبٌ مِنْ جُلُود، وَجَمْعُهَا سِباحٌ؛ قَالَ مَالِكُ بْنُ خَالِدٍ الْهُذَلِيُّ:

وسَبَّاحٌ ومَنَّاحٌ ومُعْطٍ، ***إِذا عادَ المَسارِحُ كالسِّباحِ

وصحَّف أَبو عُبَيْدَةَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَرَوَاهَا بِالْجِيمِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: لَمْ يَذْكُرْ، يَعْنِي الْجَوْهَرِيَّ، السَّبْحَة، بِالْفَتْحِ، وَهِيَ الثِّيَابُ مِنَ الْجُلُودِ، وَهِيَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا التَّصْحِيفُ، فَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: هِيَ السُّبْجة، بِالْجِيمِ وَضَمِّ السِّينِ، وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ، وإِنما السُّبْجَة كِسَاءٌ أَسود، وَاسْتَشْهَدَ أَبو عُبَيْدَةَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِقَوْلِ مَالِكٍ الْهُذَلِيِّ: """" إِذا عَادَ الْمَسَارِحُ كَالسِّبَاجِ فصحَّف الْبَيْتَ أَيضًا، قَالَ: وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْ قَصِيدَةٍ حَائِيَّةٍ مَدَحَ بِهَا زهيرَ بنَ الأَغَرِّ اللِّحْيَانِيَّ، وأَوَّلها:

فَتًى مَا ابنُ الأَغَرِّ، إِذا شَتَوْنا، ***وحُبَّ الزَّادُ فِي شَهْرَيْ قُماحِ [قِماحِ]

وَالْمَسَارِحُ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَسْرَحُ إِليها الإِبل، فَشَبَّهَهَا لمَّا أَجدبت بِالْجُلُودِ المُلْسِ فِي عَدَمِ النَّبَاتِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِيدَهْ فِي تَرْجَمَةِ سَبَجَ، بِالْجِيمِ، مَا صُوُرَتُهُ: والسِّباجُ ثِيَابٌ مِنْ جُلُودٍ، وَاحِدَتُهَا سُبْجَة، وَهِيَ بِالْحَاءِ أَعلى، عَلَى أَنه أَيضًا قَدْ قَالَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ: إِن أَبا عُبَيْدَةَ صحَّف هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَرَوَاهَا بِالْجِيمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَمِنَ الْعَجَبِ وُقُوعُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ حِكَايَتِهِ عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ أَنه وَقَعَ فِيهِ، اللَّهُمَّ إِلا أَن يَكُونَ وَجَدَ نَقْلًا فِيهِ، وَكَانَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنه لَوْ وَجَدَ نَقْلًا فِيهِ أَن يَذْكُرَهُ أَيضًا فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ عِنْدَ تَخْطِئَتِهِ لأَبي عُبَيْدَةَ وَنِسْبَتِهِ إِلى التَّصْحِيفِ لِيَسْلَمَ هُوَ أَيضًا مِنَ التُّهْمَةِ وَالِانْتِقَادِ.

أَبو عَمْرٍو: كساءٌ مُسبَّح، بِالْبَاءِ، قَوِيٌّ شَدِيدٌ، قَالَ: والمُسَبَّحُ، بِالْبَاءِ أَيضًا، المُعَرَّضُ، وَقَالَ شَمِرٌ: السِّباحُ، بِالْحَاءِ، قُمُصٌ لِلصِّبْيَانِ مِنْ جُلُودٍ؛ وأَنشد:

كأَنَّ زوائِدَ المُهُراتِ عَنْهَا ***جَواري الهِنْدِ، مُرْخِيةَ السِّباحِ

قَالَ: وأَما السُّبْجَة، بِضَمِّ السِّينِ وَالْجِيمِ، فَكِسَاءٌ أَسود.

والسُّبْحَة: الْقِطْعَةُ مِنَ الْقُطْنِ.

وسَبُوحةُ، بِفَتْحِ السِّينِ مُخَفَّفَةً: البلدُ الحرامُ، وَيُقَالُ: """"وادٍ بِعَرَفَاتٍ؛ وَقَالَ يَصِفُ نُوقَ الْحَجِيجِ:

خَوارِجُ مِنْ نَعْمانَ، أَو مِنْ سَبُوحةٍ ***إِلى البيتِ، أَو يَخْرُجْنَ من نَجْدِ كَبْكَبِ

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


48-لسان العرب (سيح)

سيح: السَّيْحُ: الماءُ الظَّاهِرُ الْجَارِي عَلَى وَجْهِ الأَرض، وَفِي التَّهْذِيبِ: الْمَاءُ الظَّاهِرُ عَلَى وَجْهِ الأَرض، وجمعُه سُيُوح.

وَقَدْ ساحَ يَسيح سَيْحًا وسَيَحانًا إِذا جَرَى عَلَى وَجْهِ الأَرض.

وماءٌ سَيْحٌ وغَيْلٌ إِذا جَرَى عَلَى وَجْهِ الأَرض، وَجَمْعُهُ أَسْياح؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

لِتِسْعَةِ أَسياح وَسِيحِ الْعُمُرْ

وأَساحَ فلانٌ نَهْرًا إِذا أَجراه؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

وَكَمْ لِلْمُسْلِمِينَ أَسَحْتُ بَحْري، ***بإِذنِ اللهِ مِنْ نَهْرٍ ونَهْرِ

وَفِي حَدِيثِ الزَّكَاةِ: «مَا سُقِي بالسَّيْح فَفِيهِ العُشْرُ»؛ أي الْمَاءُ الْجَارِي.

وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي صِفَةِ بئرٍ: «فَلَقَدْ أُخْرِجَ أَحدُنا بِثَوْبٍ مَخَافَةَ الْغَرَقِ ثُمَّ ساحتْ»أَي جَرَى مَاؤُهَا وَفَاضَتْ.

والسِّياحةُ: الذَّهَابُ فِي الأَرض للعبادة والتَّرَهُّب؛ وساح فِي الأَرض يَسِيح سِياحةً وسُيُوحًا وسَيْحًاوسَيَحانًا أَي ذَهَبَ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا سِياحة فِي الإِسلام»؛ أَراد بالسِّياحة مفارقةَ الأَمصار والذَّهابَ فِي الأَرض، وأَصله مِنْ سَيْح الْمَاءِ الْجَارِي؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: أَراد مفارقةَ الأَمصار وسُكْنى البَراري وتَرْكَ شُهُودِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ؛ قَالَ: وَقِيلَ أَراد الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي الأَرض بالشرِّ وَالنَّمِيمَةِ والإِفساد بَيْنَ النَّاسِ؛ وَقَدْ سَاحَ، وَمِنْهُ المَسيحُ بن مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ فِي بَعْضِ الأَقاويل: كَانَ يَذْهَبُ فِي الأَرض فأَينما أَدركه الليلُ صَفَّ قَدَمَيْهِ وَصَلَّى حَتَّى الصَّبَاحَ؛ فإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ مَفْعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ.

والمِسْياحُ الَّذِي يَسِيحُ فِي الأَرض بِالنَّمِيمَةِ وَالشَّرِّ؛ وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أُولئك أُمَّةُ الهُدى لَيْسُوا بالمَساييح وَلَا بالمَذاييع البُذُرِ»؛ يَعْنِي الَّذِينَ يَسِيحون فِي الأَرض بِالنَّمِيمَةِ وَالشَّرِّ والإِفساد بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمَذَايِيعُ الَّذِينَ يُذِيعُونَ الْفَوَاحِشَ.

الأَزهري: قَالَ شَمِرٌ: الْمَسَايِيحُ لَيْسَ مِنَ السِّياحة وَلَكِنَّهُ مِنَ التَّسْييح؛ والتَّسْييح فِي الثَّوْبِ: أَن تَكُونَ فِيهِ خُطُوطٌ مُخْتَلِفَةٌ لَيْسَتْ مِنْ نَحْوٍ وَاحِدٍ.

وسِياحةُ هَذِهِ الأُمة الصيامُ ولُزُومُ الْمَسَاجِدِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ}؛ وَقَالَ تعالى: {سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكارًا}؛ السَّائِحُونَ وَالسَّائِحَاتُ: الصَّائِمُونَ؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: السَّائِحُونَ فِي قَوْلِ أَهل التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ جَمِيعًا الصَّائِمُونَ، قَالَ: وَمَذْهَبُ الْحَسَنِ أَنهم الَّذِينَ يَصُومُونَ الْفَرْضَ؛ وَقِيلَ: إِنهم الَّذِينَ يُدِيمونَ الصيامَ، وَهُوَ مِمَّا فِي الْكُتُبِ الأُوَل؛ وَقِيلَ: إِنما قِيلَ لِلصَّائِمِ سَائِحٌ لأَن الَّذِي يَسِيحُ مُتَعَبِّدًا يَسِيحُ وَلَا زَادَ مَعَهُ إِنما يَطْعَمُ إِذا وُجِدَ الزَّادُ.

وَالصَّائِمُ لَا يَطْعَمُ أَيضًا فَلِشَبَهِهِ بِهِ سُمِّيَ سَائِحًا؛ وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ السَّائِحِينَ، فَقَالَ: هُمُ الصَّائِمُونَ.

والسَّيْح: المِسْحُ المُخَطَّطُ؛ وَقِيلَ: السَّيْح مِسْح مُخَطَّطٌ يُسْتَتَرُ بِهِ ويُفْتَرَش؛ وَقِيلَ: السَّيْحُ العَباءَة المُخَطَّطة؛ وَقِيلَ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ البُرود، وَجَمْعُهُ سُيُوحٌ؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

وإِني، وإِن تُنْكَرْ سُيُوحُ عَباءَتي، ***شِفاءُ الدَّقَى يَا بِكْرَ أُمِّ تَميمِ

الدَّقَى: البَشَمُ وعَباءَة مُسَيَّحة؛ قَالَ الطِّرِمَّاحُ:

مِنَ الهَوْذِ كَدْراءُ السَّراةِ، ولونُها ***خَصِيفٌ، كَلَوْنِ الحَيْقُطانِ المُسَيَّحِ

ابْنُ بَرِّيٍّ: الهَوْذُ جُمْعُ هَوْذَةٍ، وَهِيَ القَطاة.

والسَّراة: الظَّهْرُ.

والخَصِيفُ: الَّذِي يَجْمَعُ لَوْنَيْنِ بَيَاضًا وَسَوَادًا.

وبُرْدٌ مُسَيَّح ومُسَيَّر: مُخَطَّطٌ؛ ابْنُ شُمَيْلٍ: المُسَيَّحُ مِنَ العَباء الَّذِي فِيهِ جُدَدٌ: وَاحِدَةٌ بَيْضَاءُ، وأُخرى سَوْدَاءُ لَيْسَتْ بِشَدِيدَةِ السَّوَادِ؛ وَكُلُّ عباءَة سَيْحٌ ومُسَيَّحَة، وَيُقَالُ: نِعْمَ السيْحُ هَذَا وَمَا لَمْ يَكُنْ جُدَد فإِنما هُوَ كِسَاءٌ وَلَيْسَ بِعَبَاءٍ.

وجَرادٌ مُسَيَّحٌ: مُخَطَّطٌ أَيضًا؛ قَالَ الأَصمعي: المُسَيَّح مِنَ الْجَرَادِ الَّذِي فِيهِ خُطُوطٌ سُودٌ وَصُفْرٌ وَبِيضٌ، وَاحِدَتُهُ مُسَيَّحة؛ قَالَ الأَصمعي: إِذا صَارَ فِي الْجَرَادِ خُطوط سُودٌ وصُفْر وَبِيضٌ، فَهُوَ المُسَيَّحُ، فإِذا بَدَا حَجْمُ جَناحه فذلك الكُتْفانُ [الكِتْفانُ] لأَنه حِينَئِذٍ يُكَتِّفُ المَشْيَ، قَالَ: فإِذا ظَهَرَتْ أَجنحته وَصَارَ أَحمر إِلى الغُبْرة، فَهُوَ الغَوْغاءُ، الْوَاحِدَةُ غَوْغاءَة، وَذَلِكَ حِينَ يموجُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَلَا يَتَوَجَّهُ جِهَةً وَاحِدَةً، قَالَ الأَزهري: هَذَا فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ بَحْرٍ.

الأَزهري: والمُسَيَّحُ مِنَ الطَّرِيقِ المُبَيَّنُ شَرَكُه، وإِنما سَيَّحَه كثرةُ شَرَكه، شُبِّه بِالْعَبَاءِ المُسَيَّح؛ وَيُقَالُ لِلْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ: مُسَيَّحٌ لجُدَّة تَفْصِلُ بَيْنَ بَطْنِهِ وَجَنْبِهِ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

تَهاوَى بيَ الظَّلْماءَ حَرْفٌ، كأَنها ***مُسَيَّحُ أَطرافِ العَجيزة أَسْحَمُ

يَعْنِي حِمَارًا وَحْشِيًّا شَبَّهَ النَّاقَةَ بِهِ.

وانْساحَ الثوبُ وَغَيْرُهُ: تَشَقَّقَ، وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ.

وَفِي حَدِيثِ الْغَارِ: «فانْساحت الصَّخْرَةُ»أَي انْدَفَعَتْ وَاتَّسَعَتْ؛ وَمِنْهُ ساحَة الدَّارِ، وَيُرْوَى بِالْخَاءِ وَبِالصَّادِ.

وانْساحَ البطنُ: اتَّسَعَ وَدَنَا مِنَ السِّمَنِ.

التَّهْذِيبُ، ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ للأَتان قَدِ انْساحَ بَطْنُهَا وانْدالَ انْسِياحًا إِذا ضَخُمَ وَدَنَا مِنَ الأَرض.

وانْساحَ بالُه أَي اتَّسَعَ؛ وَقَالَ:

أُمَنِّي ضميرَ النَّفْسِ إِياك، بعد ما ***يُراجِعُني بَثِّي، فَيَنْساحُ بالُها

وَيُقَالُ: أَساحَ الفَرَسُ ذكَره وأَسابه إِذا أَخرجه مِنْ قُنْبِه.

قَالَ خَلِيفَةُ الحُصَيْني: وَيُقَالُ سَيَّبه وسَيَّحه مِثْلُهُ.

وَسَاحَ الظِّلُّ أَي فاءَ.

وسَيْحٌ: مَاءٌ لِبَنِي حَسَّان بْنِ عَوْف؛ وَقَالَ:

يَا حَبَّذا سَيْحٌ إِذا الصَّيْفُ الْتَهَبْ

وسَيْحانُ: نَهْرٌ بِالشَّامِ؛ وَفِي الْحَدِيثِ ذكْرُ سَيْحانَ، هُوَ نَهْرٌ بالعَواصِم مِنْ أَرض المَصِيصَةِ قَرِيبًا مِنْ طَرَسُوسَ، وَيُذْكَرُ مَعَ جَيْحانَ.

وساحِينُ: نَهْرٌ بِالْبَصْرَةِ.

وسَيْحُونُ: نهر بالهند.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


49-لسان العرب (طبخ)

طبخ: الطَّبْخُ: إِنْضَاجُ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ اشْتِوَاءً وَاقْتِدَارًا.

طبخَ القِدْرَ واللحمَ يطبُخُهُ ويَطبخُه طَبخًا واطَّبخه؛ الأَخيرة عَنْ سِيبَوَيْهِ، فَانْطَبَخَ واطَّبَخ أَي اتَّخَذَ طَبِيخًا، افْتَعَلَ، وَيَكُونُ الِاطِّبَاخُ اشْتِوَاءً وَاقْتِدَارًا.

يُقَالُ: هَذِهِ خُبْزَةٌ جَيِّدَةُ الطَّبْخِ، وآجُرَّة جَيِّدَةُ الطَّبْخِ.

وطابِخَةُ: لَقَبُ عَامِرِ بْنِ الْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، لَقَّبَهُ بِذَلِكَ أَبوه حِينَ طَبَخَ الضَّب، وَذَلِكَ أَن أَبَاهُ بَعَثَهُ فِي بَغَاءِ شَيْءٍ فَوَجَدَ أَرنبًا فَطَبَخَهَا وَتَشَاغَلَ بِهَا عَنْهُ فَسُمِّيَ طَابِخَةَ.

وتميمُ بنُ مُرٍّ وَمُزَيْنَةُ وَضَبَّةُ بَنُو أَدّ بْنُ طَابِخَةَ بْنِ خِندِف، وكأَنه إِنما أَثبت الْهَاءَ فِي طَابِخَةَ لِلْمُبَالَغَةِ.

والمِطبخ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُطْبَخُ فِيهِ؛ وَفِي التَّهْذِيبِ: المَطبخ بَيْتُ الطَّباخ، والمِطبخ، بِكَسْرِ الْمِيمِ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَ عَلَى الْفِعْلِ مَكَانًا وَلَا مَصْدَرًا وَلَكِنَّهُ اسْمٌ كَالْمِرْبَدِ.

والمِطْبخ آلَةُ الطَّبْخِ.

والطَّبَّاخ: مُعَالِجُ الطَّبْخِ وَحِرْفَتُهُ الطِّباخة؛ وَقَدْ يَكُونُ الطَّبْخُ فِي الْقُرْصِ وَالْحِنْطَةِ.

وَيُقَالُ: أَتقدرُونَ أَم تشوُون؟ وَهَذَا مُطَّبَخ الْقَوْمِ ومُشْتواهم.

وَيُقَالُ: اطَّبِخُوا لَنَا قُرصًا.

وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «فاطَّبخنا»هُوَ افْتَعَلْنَا مِنَ الطَّبْخِ فَقُلِبَتِ التَّاءُ لأَجل الطَّاءِ قَبْلَهَا.

وَالِاطِّبَاخُ: مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَطْبُخُ لِنَفْسِهِ، وَالطَّبْخُ عَامٌّ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ.

والطِّبْخُ: اللحمُ الْمَطْبُوخُ.

وَالطَّبِيخُ: كَالْقَدِيرِ، وَقِيلَ: الْقَدِيرُ مَا كَانَ بِفِحىً وتوابِلَ، وَالطَّبِيخُ: مَا لَمْ يفَحَّ.

واطَّبَخنا: اتَّخَذْنَا طَبِيخًا؛ وَهَذَا مُطَّبَخ الْقَوْمِ وَهَذَا مُشْتواهم.

والطُّباخَة: الفُوارَة، وَهُوَ مَا فَارَ مِنْ رَغْوَةِ القِدرإِذا طُبِخَ فِيهَا.

وطبُاخَة كُلِّ شَيْءٍ: عُصَارَتُهُ المأْخوذة مِنْهُ بَعْدَ طَبْخِه كَعُصَارَةِ البَقَّمِ وَنَحْوِهِ.

التَّهْذِيبِ: الطُّباخَة مَا تَحْتَاجُ إِليه مِمَّا يُطبَخ نَحْوُ البَقَّمِ تأَخذ طُباخَتَه لِلصَّبْغِ وَتَطْرَحُ سَائِرَهُ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَاللَّهِ لَوْلَا أَن تَحُشَّ الطُّبَّخُ ***بِيَ الجَحِيمَ، حَيْثُ لَا مُسْتَصْرَخُ

يَعْنِي بالطُّبَّخ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِالْعَذَابِ يَعْنِي عَذَابَ الْكُفَّارِ، والطُّبَّخ جَمْعُ طَابِخٍ.

وَالطَّبِيخُ: ضَرْبٌ مِنَ الأَشربة؛ ابْنُ سِيدَهْ: وَالطَّبِيخُ ضَرْبٌ مِنَ المُنَصَّف.

وطَبَخ الحَرُّ الثَّمَرَ: أَنْضَجَهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ أَبي حَثْمة قي صِفَةِ التَّمْرِ: تُحفةُ الصَّائِمِ وتَعِلَّةُ الصبيِّ ونُزُلُ مريمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، وتُطبَخُ وَلَا تُعَنِّي صاحبهَا.

وَطَبَائِخُ الْحَرِّ: سَمَائِمُهَا فِي الْهَوَاجِرِ، وَاحِدَتُهَا طَبِيخَةٌ؛ قَالَ الطِّرِمَّاحُ:

ومستأْنس بالقَفرِ، بَاتَتْ تلُفُّه ***طبائخُ حرٍّ، وقعُهُنَّ سَفُوعُ

وَالطَّابِخَةُ: الْهَاجِرَةُ.

والطابخُ: الحمَّى الصالِبُ.

والطّبَاخُ: القوَّة.

وَرَجُلٌ لَيْسَ بِهِ طَبَاخٌ أَي لَيْسَ بِهِ قُوَّةٌ وَلَا سِمن، وَوُجِدَ بِخَطِّ الأَزهري طُباخ، بِضَمِّ الطَّاءِ، وَوُجِدَ بِخَطِّ الإِيادي طَباخ، بِفَتْحِ الطَّاءِ؛ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:

المالُ يَغْشَى رِجَالًا لَا طَباخَ بِهِمْ، ***كالسَّيل يَغْشَى أُصولَ الدِّندِن الْبَالِي

وَمَعْنَاهُ: لَا عَقْلَ لَهُمْ.

والدِّنْدِنُ: مَا بَلِيَ وعفِنَ مِنْ أُصول الشَّجَرِ، الْوَاحِدَةُ دِنْدِنَة، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْبَيْتُ في شعر لِحَيَّةَ بن خَلَفٍ الطَّائِيِّ يُخَاطِبُ امرأَة مِنْ بَنِي شمحَى بْنِ جَرْمٍ يُقَالُ لَهَا أَسماءُ، وَكَانَتْ تَقُولُ مَا لِحَيَّة مَالٌ فَقَالَ مُجَاوِبًا لَهَا:

تَقُولُ أَسماء لَمَّا جِئْتُ خَاطِبَهَا: ***يَا حيُّ مَا أَرَبي إِلَّا لِذِي مالِ

أَسماءُ لَا تَفْعَلِيهَا، رُبّ ذِي إِبل ***يَغْشَى الفَواحش، لَا عَفّ وَلَا نَالَ

الْفَقْرُ يَزْرِي بأَقوام ذَوِي حَسَبٍ، ***وَقَدْ يُسَوِّدُ، غيرَ السَّيِّدِ، المالُ

وَالْمَالُ يَغْشَى أُناسًا، لَا طَبَاخ لَهُمْ، ***كَالسَّيْلِ يَغْشَى أُصول الدِّندِن الْبَالِي

أَصون عِرْضِي بِمَالِي لَا أُدنسه، ***لَا بَارَكَ اللَّهُ بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمَالِ

أَحتال لِلْمَالِ، إِن أَودى، فأَكسبه ***وَلَسْتُ لِلْعِرْضِ، إِنْ أَوْدَى، بِمُحْتَالِ

قَوْلُهُ نَالَ مِنَ النَّوَالِ وأَصله نَوِلَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ كَبْشٌ صافٍ وأَصله صَوِفٌ؛ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: «وَوَقَعَتِ الثَّالِثَةُ فَلَمْ تَرْتَفِعْ، وَفِي النَّاسِ طَبَاخٌ»: أَصل الطَّبَاخِ الْقُوَّةُ وَالسِّمَنُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ، فَقِيلَ: لَا طَبَاخَ لَهُ؛ أي لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا خَيْرَ عِنْدَهُ؛ أَراد أَنها لَمْ تُبْقِ فِي النَّاسِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحدًا؛ وَعَلَيْهِ يُبْنَى حَدِيثُ الأَطبخ الَّذِي ضَرَبَ أُمّه عِنْدَ مَنْ رَوَاهُ بِالْخَاءِ.

وَفِي الْحَدِيثُ: «إِذا أَراد اللَّهُ بِعَبْدٍ سُوءًا جَعَلَ مَالَهُ فِي الطَّبِيخَيْنِ»؛ قِيلَ: هُمَا الْجَصُّ وَالْآجُرُّ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.

وامرأَة طَبَاخِيَةٌ مِثْلُ عَلَانِيَةٍ: شَابَّةٌ مُمْتَلِئَةٌ مُكْتَنِزَةُ اللَّحْمِ؛ قَالَ الأَعشى:

عبْهَرةُ الخَلْقِ طَباخِيَّةٌ، ***تَزينه بالخُلُق الطَّاهِرِ

وَيُرْوَى لُباخِيَّة.

وَقِيلَ: امرأَة طُبَاخِيَّةٌ عاقلة مليحة، وَفِي كَلَامِهِ طُبَاخٌ إِذا كَانَ مُحْكَمًا.

والمُطَبَّخُ: الشابُّ الْمُمْتَلِئُ؛ ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ لِلصَّبِيِّ إِذا وُلِدَ: رَضِيعٌ وَطِفْلٌ ثُمَّ فَطِيمٌ ثُمَّ دارِجٌ ثُمَّ جَفْر ثُمَّ يَافِعٌ ثُمَّ شَدَخ ثُمَّ مُطَبَّخٌ ثُمَّ كَوْكَبٌ.

وطبَّخ: تَرَعْرَعَ وَعَقَلَ.

ابْنُ سِيدَهْ: والمُطبِّخ، بِكَسْرِ الْبَاءِ مُشَدَّدَةً: من أَولاد الضأْن أَملأُ مَا يَكُونُ؛ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي كَادَ يَلْحَقُ بأَبيه وأَوّله حِسْل ثُمَّ غَيْداق ثُمَّ مُطَبِّخٌ ثُمَّ خُضَرِم ثُمَّ ضَبٌّ.

وَقَدْ طَبَّخَ الحِسلُ تَطْبِيخًا: كَبِرَ.

وَرَجُلٌ طبْخَةُ: أَحمق، وَالْمَعْرُوفُ طَيْخَةُ.

والأَطبخ: الْمُسْتَحْكِمُ الْحُمْقِ كَالطَّبْخَةِ بيِّن الطبَخ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ فِي الْحَيِّ رَجُلٌ لَهُ زَوْجَةٌ وأُم ضَعِيفَةٌ فَشَكَتْ زوجتُه إِليه أُمه فَقَامَ الأَطبخ إِلى أُمه فأَلقاها فِي الْوَادِي»؛ حَكَاهُ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ.

والطِّبِّيخُ بِلُغَةِ أَهل الْحِجَازِ: الْبِطِّيخُ، وَقَيَّدَهُ أَبو بَكْرٍ بفتح الطاء.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


50-لسان العرب (فحش)

فحش: الفُحْش: مَعْرُوفٌ.

ابْنُ سِيدَهْ: الفُحْش والفَحْشاءُ والفاحِشةُ القبيحُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَجَمْعُهَا الفَواحِشُ.

وأَفْحَشَ عَلَيْهِ فِي المَنْطِق أَي قَالَ الفُحْش.

والفَحْشاءُ: اسْمُ الْفَاحِشَةِ، وَقَدْ فَحَشَ وفَحُشَ وأَفْحَشَ وفَحُشَ عَلَيْنَا وأَفْحَشَ إِفْحاشًا وفُحْشًا؛ عَنْ كُرَاعٍ وَاللِّحْيَانِيِّ، وَالصَّحِيحُ أَن الإِفْحاشَ والفُحْش الِاسْمُ.

وَرَجُلٌ فاحِشٌ: ذُو فُحْش، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن اللَّه يُبْغِضُ الفاحِشَ المُتَفَحِّشَ»، فالفاحِشُ ذُو الْفُحْشِ والخَنا مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، والمُتَفَحِّشُ الَّذِي يتكلَّفُ سَبَّ النَّاسِ ويتعمَّدُه، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الفُحْش وَالْفَاحِشَةِ وَالْفَاحِشِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَشتد قُبْحُه مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَكَثِيرًا مَا تَرِدُ الفاحشةُ بِمَعْنَى الزِّنَا وَيُسَمَّى الزِّنَا فَاحِشَةً، وَقَالَ اللَّه تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}؛ قِيلَ: الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ أَن تَزْنِيَ فتُخْرَج لِلْحدّ، وَقِيلَ: الفاحشةُ خروجُها مِنْ بَيْتِهَا بِغَيْرِ إِذن زَوْجِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَن تَبْذُوَ على أَحْمائِها بِذَرابةِ لِسَانِهَا فتُؤْذِيَهُم وتَلُوكَ ذَلِكَ.

فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: «أَن النَّبِيَّ» صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعل لَهَا سُكْنى وَلَا نَفَقَةً وذَكر أَنه نَقَلها إِلى بَيْتِ ابْنِ أُم مَكتوم لبَذاءتِها وسَلاطةِ لِسانِها وَلَمْ يُبْطِلْ سُكْناها لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}.

وكلُّ خَصْلة قبيحةٍ، فَهِيَ فاحشةٌ مِنَ الأَقوال والأَفعال؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «قَالَ لِعَائِشَةَ لَا تَقُولِي ذَلِكَ فإِن اللَّه لَا يُحبُّ الفُحْشَ وَلَا التفاحُشَ»؛ أَراد بالفُحْش التَّعَدِّيَ فِي الْقَوْلِ وَالْجَوَابِ لَا الفُحْشَ الَّذِي هُوَ مِنْ قَذَعِ الْكَلَامِ وَرَدِيئِهِ، والتَّفاحُشُ تَفاعُلٌ مِنْهُ؛ وَقَدْيَكُونُ الفُحْشُ بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ وَالْكَثْرَةِ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ وَقَدْ سُئِل عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ فَقَالَ: " إِن لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا فَلَا بأْس.

وكلُّ شَيْءٍ جَاوَزَ قدرَه وحدَّه، فَهُوَ فاحِشٌ.

وَقَدْ فَحُشَ الأَمر فُحْشًا وتفاحَشَ.

وفَحَّشَ بِالشَّيْءِ: شَنَّعَ.

وفَحُشَت المرأَةُ: قَبُحت وكبِرَت؛ حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي؛ وأَنشد:

وعَلِقْتَ تُجْرِيهِمْ عَجُوزَك، بعد ما ***فَحُشَتْ محاسِنُها عَلَى الخُطَّاب

وأَفْحَشَ الرَّجُلُ إِذا قَالَ قَوْلًا فَاحِشًا، وَقَدْ فَحُشَ عَلَيْنَا فلانٌ وإِنه لَفَحّاشٌ، وتفَحّشَ فِي كَلَامِهِ، وَيَكُونُ المُتَفَحّشُ الَّذِي يأْتي بِالْفَاحِشَةِ المَنْهيّ عَنْهَا.

وَرَجُلٌ فَحّاش: كَثِيرُ الفُحْش، وفَحُشَ قَوْلُهُ فُحْشًا.

وكلُّ أَمر لَا يَكُونُ مُوَافِقًا للحقِّ والقَدْر، فَهُوَ فاحشةٌ.

قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَقَالُوا فاحِشٌ وفُحَشاء كجاهلٍ وجُهلاء حَيْثُ كَانَ الفُحْشُ ضرْبًا مِنْ ضُروب الْجَهْلِ ونَقِيضًا للحِلْم؛ وأَنشد الأَصمعي: " وَهَلْ عَلِمْت فُحَشاءَ جَهَلَهْ وأَما قَوْلُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ}؛ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ يأْمركم بأَن لَا تَتَصَدَّقُوا، وَقِيلَ: الْفَحْشَاءُ هَاهُنَا البُخْل، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي البَخيلَ فَاحِشًا؛ وَقَالَ طَرَفَةُ:

أَرى المَوْتَ يَعتامُ الكِرامَ، ويَصْطَفي ***عَقِيلةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ

يَعْنِي الَّذِي جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْبُخْلِ.

وَقَالَ ابن بري: الفاحِشُ السَّيِء الخلُق الْمُتَشَدِّدُ الْبَخِيلُ.

يَعْتامُ: يَخْتَارُ.

يَصْطفي أَي يأْخذ صَفْوته وَهِيَ خِيارُه.

وعَقِيلةُ الْمَالِ: أَكرمُه وأَنفَسُه؛ وتفحَّش عليهم بلسانه.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


51-لسان العرب (ذيع)

ذيع: الذَّيْعُ: أَن يَشِيع الأَمرُ.

يُقَالُ أَذَعْناه فَذَاعَ وأَذَعْت الأَمر وأَذَعْتُ بِهِ وأَذَعْتُ السِّرَّ إِذاعة إِذا أَفْشيْته وأَظهرته.

وذاعَ الشيءُ وَالْخَبَرُ يَذِيع ذَيْعًا وذيَعانًا وذُيوعًا وذَيْعوعةً: فَشا وانتشَر.

وأَذاعه وأَذاع بِهِ أَي أَفشاه.

وأَذاعَ بِالشَّيْءِ: ذهَب بِهِ؛ وَمِنْهُ بَيْتُ الْكِتَابِ: " رَبْع قِواء أَذاعَ المُعْصِراتُ بِهِ "أَي أَذْهَبته وطَمَسَتْ مَعالِمَه؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:

نَوازِل أَعْوامٍ أَذاعَتْ بخَمْسةٍ، ***وتَجْعَلُني، إِن لَمْ يَقِ اللهُ، سادِيا

وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ}، قَالَ أَبو إِسحاق: يَعْنِي بِهَذَا جَمَاعَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ وضَعَفةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: وَمَعْنَى أَذاعُوا بِهِ أَي أَظهروه ونادَوْا بِهِ فِي النَّاسِ؛ وأَنشد:

أَذاعَ بِهِ فِي الناسِ حَتَّى كأَنه، ***بعَلْياء، نارٌ أُوقِدتْ بثَقُوبِ

وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا أُعلم أَنه ظاهرٌ عَلَى قَوْمٍ أَمِنَ مِنْهُمْ، أَو أُعلم بتَجَمُّع قَوْمٍ يُخافُ مِنْ جَمْع مِثلهم، أَذاعَ الْمُنَافِقُونَ ذَلِكَ ليَحْذَر مَنْ يَبْتَغِي أَن يَحْذر مِنَ الْكُفَّارِ وليَقْوى قلبُ مَنْ يَبْتَغِي أَن يقْوى قلبُه عَلَى مَا أَذاع، وَكَانَ ضَعَفةُ الْمُسْلِمِينَ يشِيعون ذَلِكَ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِالضَّرَرِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ رَدُّوا ذَلِكَ إِلى أَن يأْخذوه مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ وَمِنْ قِبَلِ أُولي الأَمر مِنْهُمْ لَعَلِمَ الَّذِينَ أَذاعوا بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا يَنْبَغِي أَن يُذاعَ أَو لَا يُذَاعَ}.

وَرَجُلٌ مِذياعٌ: لَا يَسْتَطِيعُ كَتْمَ خبَر.

وأَذاع الناسُ والإِبلُ مَا وَبِمَا فِي الحَوْضِ إِذاعةً إِذا شَرِبُوا مَا فِيهِ.

وأَذاعَتْ بِهِ الإِبل إِذاعة إِذا شَرِبَتْ.

وتركْتُ مَتاعي فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فأَذاع الناسُ بِهِ إِذا ذَهَبُوا بِهِ.

وكلُّ مَا ذُهب بَهِ، فَقَدْ أُذِيعَ بِهِ.

والمِذْياع: الَّذِي لَا يكتمُ السِّرَّ، وَقَوْمٌ مَذايِيعُ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كرَّم اللَّهُ وَجْهَهُ، ووصْف الأَولياء: «لَيْسُوا بالمَذايِيع البُذُر»، هُوَ جَمْعُ مِذْياع مِنْ أَذاعَ الشيءَ إِذا أَفْشاه، وَقِيلَ: أَراد الَّذِينَ يُشِيعون الفواحِش وهو بِناءُ مبالغة.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


52-لسان العرب (بغا)

بغا: بَغَى الشيءَ بَغْوًا: نَظَر إِلَيْهِ كَيْفَ هُوَ.

والبَغْوُ: مَا يَخْرُجُ مِنْ زَهْرةِ القَتادِ الأَعْظَمِ الْحِجَازِيِّ، وَكَذَلِكَ مَا يَخْرُجُ مِنْ زَهْرَة العُرْفُط والسَّلَم.

والبَغْوَةُ: الطَّلْعة حِينَ تَنْشَقُّ فَتَخْرُجُ بَيْضَاءَ رَطْبَةً.

والبَغْوة: الثَّمَرَةُ قَبْلَ أَن تَنْضَج؛ وَفِي التَّهْذِيبِ: قَبْلَ أَن يَسْتَحْكِم يُبْسُها، وَالْجَمْعُ بَغْوٌ، وَخَصَّ أَبو حَنِيفَةَ بالبَغْوِ مَرَّةً البُسرَ إِذَا كَبِرَ شَيْئًا، وَقِيلَ: البَغْوَة التمْرة الَّتِي اسْوَدَّ جوفُها وَهِيَ مُرْطِبة.

والبَغْوَة: ثمرةُ العِضاه، وَكَذَلِكَ البَرَمَةُ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: البَغْوُ والبَغْوَة كُلُّ شَجَرٍ غَضّ ثَمرهُ أَخْضَر صَغِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « أَنه مرَّ بِرَجُلٍ يَقْطَعُ سَمُرًا بِالْبَادِيَةِ فَقَالَ: رَعَيْتَ بَغْوَتَها وبَرَمَتَها وحُبْلَتها وبَلَّتها وفَتْلَتَها ثُمَّ تَقْطَعُها »؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: قَالَ الْقُتَيْبِيُّ" يَرْوِيهِ أَصحاب الْحَدِيثِ مَعْوَتَها "، قَالَ: وَذَلِكَ غَلَطٌ لأَن المَعْوَةَ البُسْرَة الَّتِي جَرَى فِيهَا الإِرْطابُ، قَالَ: وَالصَّوَابُ بَغْوَتَها، وَهِيَ ثَمَرَةُ السَّمُرِ أَوَّلَ مَا تَخْرُجُ، ثُمَّ تَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ بَرَمَةً ثُمَّ بَلَّة ثُمَّ فَتْلة.

والبُغَةُ: مَا بَيْنَ الرُّبَع والهُبَع؛ وَقَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ البُعَّة، بِالْعَيْنِ الْمُشَدَّدَةِ، وَغَلَّطُوهُ فِي ذَلِكَ.

وبَغَى الشيءَ مَا كَانَ خَيْرًا أَو شَرًّا يَبْغِيه بُغاءً وبُغىً؛ الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ والأُولى أَعرف: طَلَبَه؛ وأَنشد غَيْرُهُ:

فَلَا أَحْبِسَنْكُم عَنْ بُغَى الخَيْر، إِنني ***سَقَطْتُ عَلَى ضِرْغامةٍ، وَهُوَ آكِلي

وبَغَى ضالَّته، وَكَذَلِكَ كُلُّ طَلِبَة، بُغَاءً، بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ؛ وأَنشد الْجَوْهَرِيُّ:

لَا يَمْنَعَنَّك مِنْ بُغاءِ ***الخَيْرِ تَعْقادُ التَّمائم

وبُغَايَةً أَيضًا.

يُقَالُ: فَرِّقوا لِهَذِهِ الإِبلِ بُغْيَانًا يُضِبُّون لَهَا أَي يتفرَّقون فِي طَلَبِهَا.

وَفِي حَدِيثِ سُراقة والهِجْرةِ: « انْطَلِقوا بُغْيَانًا» أَي نَاشِدِينَ وَطَالِبِينَ، جَمْعُ بَاغٍ كَرَاعٍ ورُعْيان.

وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي الْهِجْرَةِ: « لَقِيَهُمَا رَجُلٌ بكُراعِ الغَمِيم فَقَالَ: مَنْ أَنتم؟ فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: باغٍ وهادٍ »؛ عَرَّضَ بِبُغاء الإِبل وَهِدَايَةِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ يُرِيدُ طلبَ الدِّينِ والهدايةَ مِنَ الضَّلَالَةِ.

وابْتَغَاه وتَبَغَّاه واسْتَبْغَاه، كُلُّ ذَلِكَ: طَلَبُهُ؛ قال ساعدة ابن جُؤيَّة الهُذَلي:

ولكنَّما أَهلي بوادٍ، أَنِيسُه ***سِباعٌ تَبَغَّى الناسَ مَثْنى ومَوْحَدا

وَقَالَ:

أَلا مَنْ بَيَّنَ الأَخَوَيْنِ، ***أُمُّهما هِيَ الثَّكْلَى

تُسائلُ مَنْ رَأَى ابْنَيْها، ***وتَسْتَبْغِي فَمَا تُبْغَى

جَاءَ بِهِمَا بَعْدَ حَرْفِ اللِّينِ.

المعوَّض مِمَّا حَذَفَ، وبَيَّنَ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ، والاسم البُغْيَةُ.

وَقَالَ ثَعْلَبٌ: بَغَى الخَيْرَ بُغْيَةً وبِغْيَةً، فَجَعَلَهُمَا مَصْدَرَيْنِ.

وَيُقَالُ: بَغَيْتُ الْمَالَ مِنْ مَبْغاتِه كَمَا تَقُولُ أَتيت الأَمر مِنْ مَأتاته، يُرِيدُ المَأْتَى والمَبْغَى.

وَفُلَانٌ ذُو بُغَايَة لِلْكَسْبِ إِذَا كَانَ يَبغِي ذَلِكَ.

وارْتَدَّتْ عَلَى فُلَانٍ بُغْيَتُه أَي طَلِبَتُه، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا طَلَب.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: بَغَى الرجلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وكلَّ مَا يَطْلُبُهُ بُغَاءً وبِغْيَة وبِغىً، مَقْصُورٌ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بُغْيَةً وبُغىً.

والبُغْيَةُ: الْحَاجَةُ.

الأَصمعي: بَغَى الرجلُ حَاجَتَهُ أَو ضَالَّتَهُ يَبْغِيها بُغَاءً وبُغْيَةً وبُغَايةً إِذَا طَلَبَهَا؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

بُغَايَةً إِنَّمَا تَبْغي الصِّحَابَ من ***الفِتْيانِ فِي مِثْلِهِ الشُّمُّ الأَناجِيجُ

والبَغِيَّةُ: الطَّلِبَةُ، وَكَذَلِكَ البِغْيَة.

يُقَالُ: بَغِيَّتي عِنْدَكَ وبِغْيَتِي عِنْدَكَ.

وَيُقَالُ: أَبْغِنِي شَيْئًا أَي أَعطني وأَبْغِ لِي شَيْئًا.

وَيُقَالُ: اسْتَبْغَيْتُ الْقَوْمَ فَبَغَوْا لِي وبَغَوْني أَي طَلَبوا لِي.

والبِغْيَة والبُغْيَةُ والبَغِيَّةُ: مَا ابْتُغِي.

والبَغِيَّةُ: الضَّالَّةُ المَبْغِيَّة.

والبَاغِي: الَّذِي يَطْلُبُ الشَّيْءَ الضالَّ، وَجَمْعُهُ بُغَاة وبُغْيَانٌ؛ قَالَ ابْنُ أَحمر:

أَو بَاغِيَان لبُعْرانٍ لَنَا رَقصَتْ، ***كَيْ لَا تُحِسُّون مِنْ بُعْرانِنا أَثَرَا

قَالُوا: أَراد كَيْفَ لَا تُحِسُّونَ.

والبِغْية والبُغْية: الْحَاجَةُ المَبْغِيَّة، بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ، يُقَالُ: مَا لِي فِي بَنِي فُلَانٍ بِغْيَة وبُغْيَة أَي حَاجَةٌ، فالبِغْيَة مِثْلُ الجلْسة الَّتِي تَبْغِيها، والبُغْيَة الْحَاجَةُ نَفْسُهَا؛ عَنِ الأَصمعي.

وأَبْغَاه الشيءَ: طَلَبَهُ لَهُ أَو أَعانه عَلَى طَلَبِهِ، وَقِيلَ: بَغَاه الشيءَ طَلَبَهُ لَهُ، وأَبْغَاه إِيَّاهُ أَعانه عَلَيْهِ.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: اسْتَبْغَى القومَ فَبَغَوْه وبَغَوْا لَهُ أَي طَلَبُوا لَهُ.

والبَاغِي: الطالِبُ، وَالْجَمْعُ بُغَاة وبُغْيَانٌ.

وبَغَيْتُك الشيءَ: طَلَبْتُهُ لَكَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَكَمْ آمِلٍ مِنْ ذِي غِنىً وقَرابةٍ ***لِتَبْغِيَه خَيْرًا، وَلَيْسَ بفاعِل

وأَبْغَيْتُك الشيءَ: جَعَلْتُكَ لَهُ طَالِبًا.

وَقَوْلُهُمْ: يَنْبَغِي لَكَ أَن تَفْعَلَ كَذَا فَهُوَ مِنْ أَفعال الْمُطَاوَعَةِ، تَقُولُ: بَغَيْتُه فانْبَغَى، كَمَا تَقُولُ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}؛ أَي يَبْغُون لَكُمْ، مَحْذُوفُ اللَّامِ؛ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:

إِذَا مَا نُتِجْنا أَرْبَعًا عامَ كَفْأَةٍ، ***بَغَاها خَناسيرًا فأَهْلَكَ أَرْبعا

أَي بَغَى لَهَا خَناسير، وَهِيَ الدَّوَاهِي، وَمَعْنَى بَغَى هَاهُنَا طَلَب.

الأَصمعي: وَيُقَالُ ابْغِنِي كَذَا وَكَذَا أَي اطْلُبْهُ لِي، وَمَعْنَى ابْغِنِي وابْغِ لِي سَوَاءٌ، وَإِذَا قَالَ أَبْغِنِي كَذَا وَكَذَا فَمَعْنَاهُ أَعِنِّي عَلَى بُغائه وَاطْلُبْهُ مَعِي.

وَفِي الْحَدِيثِ: « ابْغِنِي أَحجارًا أَسْتَطبْ بِهَا».

يُقَالُ: ابْغِنِي كَذَا بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ أَي اطْلُبْ لِي.

وأَبْغِنِي بِهَمْزَةِ الْقَطْعِ أَي أَعِنِّي عَلَى الطَّلَبِ.

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ابْغُونِي حَديدةً أَسْتَطِبْ بِهَا "، بِهَمْزِ الْوَصْلِ وَالْقَطْعِ؛ هو مِنْ بَغَى يَبْغِي بُغاءً إِذَا طَلَبَ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « أَنه خَرَجَ فِي بُغَاء إِبِلٍ »؛ جَعَلُوا البُغَاء عَلَى زِنَةِ الأَدْواء كالعُطاس والزُّكام تَشْبِيهًا لِشَغْلِ قَلْبِ الطَّالِبِ بِالدَّاءِ.

الْكِسَائِيُّ: أَبْغَيْتُك الشيءَ إِذَا أَردت أَنك أَعنته عَلَى طَلَبِهِ، فَإِذَا أَردت أَنك فَعَلْتَ ذَلِكَ لَهُ قُلْتَ قَدْ بَغَيْتُك، وَكَذَلِكَ أعْكَمْتُك أَو أَحْمَلْتُك.

وعَكَمْتُك العِكْم أَي فَعَلْتُهُ لك.

وقوله: {يَبْغُونَها عِوَجًا}؛ أَي يَبْغُون لِلسَّبِيلِ عِوَجًا، فَالْمَفْعُولُ الأَول مَنْصُوبٌ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الأَعشى:

حَتَّى إِذَا ذَرَّ قَرْنُ الشَّمْسِ صَبَّحها ***ذُؤالُ نَبْهانَ، يَبْغِي صَحْبَه المُتَعا

أَي يَبْغِي لِصَحْبِهِ الزادَ؛ وَقَالَ واقِدُ بْنُ الغِطرِيف:

لَئِنْ لَبَنُ المِعْزَى بِمَاءِ مُوَيْسِلٍ ***بَغَانِيَ دَاءً، إِنَّنِي لَسَقِيمُ

وَقَالَ السَّاجِعُ: أَرْسِل العُراضاتِ أَثَرًا يَبْغِينك مَعْمَرًا أَي يَبْغِينَ مَعْمَرًا.

يُقَالُ: بَغَيتُ الشيءَ طَلَبْتُهُ، وأَبْغَيْتُك فَرسًا أَجْنَبْتُك إِيَّاهُ، وأَبْغَيْتُك خَيْرًا أَعنتك عَلَيْهِ.

الزَّجَّاجُ: يُقَالُ انْبَغَى لِفُلَانٍ أَن يَفْعَلَ كَذَا أَي صَلَحَ لَهُ أَن يَفْعَلَ كَذَا، وكأَنه قَالَ طَلَبَ فِعْلَ كَذَا فانْطَلَبَ لَهُ أَي طَاوَعَهُ، وَلَكِنَّهُمُ اجْتزَؤوا بِقَوْلِهِمُ انْبَغَى.

وانْبَغَى الشيءُ: تَيَسَّرَ وَتَسَهَّلَ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ}؛ أَي مَا يَتَسَهَّلُ لَهُ ذَلِكَ لأَنا لَمْ نُعَلِّمْهُ الشِّعْرَ.

وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: وَمَا يَنْبَغِي لَهُ وَمَا يَصْلُح لَهُ.

وَإِنَّهُ لذُو بُغَايَةٍ أَي كَسُوبٌ.

والبِغْيَةُ فِي الْوَلَدِ: نقِيضُ الرِّشْدَةِ.

وبَغَتِ الأَمة تَبْغِي بَغْيًا وبَاغَتْ مُبَاغَاة وبِغَاء، بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ، وَهِيَ بَغِيٌّ وبَغُوٌّ: عَهَرَتْ وزَنَتْ، وَقِيلَ: البَغِيُّ الأَمَةُ، فَاجِرَةً كَانَتْ أَو غَيْرَ فَاجِرَةٍ، وَقِيلَ: البَغِيُّ أَيضًا الْفَاجِرَةُ، حُرَّةً كَانَتْ أَو أَمة.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}؛ أَي مَا كَانَتْ فَاجِرَةً مِثْلَ قَوْلِهِمْ ملْحَفَة جَدِيدٌ؛ عَنِ الأَخفش، وأُم مَرْيَمَ حرَّة لَا مَحَالَةَ، وَلِذَلِكَ عمَّ ثعلبٌ بالبِغَاء فَقَالَ: بَغَتِ المرأَةُ، فَلَمْ يَخُصَّ أَمة وَلَا حُرَّةً.

وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: البَغَايا الإِماءُ لأَنهنَّ كنَّ يَفْجُرْنَ.

يُقَالُ: قَامَتْ على رؤُوسهم البَغَايَا، يَعْنِي الإِماءَ، الْوَاحِدَةُ بَغِيٌّ، وَالْجَمْعُ بِغَايَا.

وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: البِغَاءُ مَصْدَرُ بَغَتِ المرأَة بِغاءً زَنَت، والبِغَاء مَصْدَرُ بَاغَتْ بِغَاءً إِذَا زَنَتْ، والبِغَاءُ جَمْعُ بَغِيّ وَلَا يُقَالُ بَغِيَّة؛ قَالَ الأَعشى:

يَهَبُ الْجِلَّةَ الجَراجِرَ، كالبُسْتانِ، ***تَحْنو لدَرْدَقٍ أَطفالِ

والبَغَايا يَرْكُضْنَ أَكْسِيةَ الإِضْرِيجِ ***والشَّرْعَبيَّ ذَا الأَذْيالِ

أَراد: ويَهَبُ البَغَايَا لأَن الْحُرَّةَ لَا تُوهَبُ، ثُمَّ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ حَتَّى عَمُّوا بِهِ الْفَوَاجِرَ، إِمَاءً كُنَّ أَو حَرَائِرَ.

وَخَرَجَتِ المرأَة تُبَاغِي أَي تُزاني.

وبَاغَتِ المرأَة تُبَاغِي بِغَاءً إِذَا فَجَرَتْ.

وبَغَتِ المرأَةُ تَبْغِي بِغَاء إِذَا فَجرَت.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ}؛ والبِغاء: الفُجُور، قَالَ: وَلَا يُرَادُ بِهِ الشَّتْمُ، وَإِنْ سُمِّينَ بِذَلِكَ فِي الأَصل لِفُجُورِهِنَّ.

قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَلَا يُقَالُ رِجْلٌ بَغِيّ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « امرأَة بَغِيّ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ فِي كَلْب » أَي فَاجِرَةٌ، وَيُقَالُ للأَمة بَغِيٌّ وَإِنْ لَمْ يُرَدْ بِهِ الذَّم، وَإِنْ كَانَ فِي الأَصل ذَمًّا، وَجَعَلُوا البِغَاء عَلَى زِنَةِ الْعُيُوبِ كالحِرانِ والشِّرادِ لأَن الزِّنَا عَيْبٌ.

والبِغْيَةُ: نَقِيضُ الرِّشْدةِ فِي الْوَلَدِ؛ يُقَالُ: هُوَ ابْنُ بِغْيَةٍ؛ وأَنشد:

لدَى رِشْدَةٍ مِنْ أُمِّه أَو بَغِيَّةٍ، ***فيَغلِبُها فَحْلٌ، عَلَى النَّسْلِ، مُنْجِب

قَالَ الأَزهري: وَكَلَامُ الْعَرَبِ هُوَ ابْنُ غَيَّة وَابْنُ زَنيَة وَابْنُ رَشْدَةٍ، وَقَدْ قِيلَ: زِنْيةٍ ورِشْدةٍ، وَالْفَتْحُ أَفصح اللُّغَتَيْنِ، وأَما غَيَّة فَلَا يَجُوزُ فِيهِ غَيْرُ الْفَتْحِ.

قَالَ: وأَما ابْنُ بِغْيَة فَلَمْ أَجده لِغَيْرِ اللَّيْثِ، قَالَ: وَلَا أُبْعِدُه عَنِ الصَّوَابِ.

والبَغِيَّةُ: الطليعةُ الَّتِي تَكُونُ قَبْلَ ورودِ الجَيْش؛ قَالَ طُفَيل:

فأَلْوَتْ بَغَاياهُم بِنَا، وتباشَرَتْ ***إِلَى عُرْضِ جَيْشٍ، غَيرَ أَنْ لَمْ يُكَتَّبِ

أَلْوَتْ أَي أَشارت.

يَقُولُ: ظَنُّوا أَنَّا عِيرٌ فَتَبَاشَرُوا فَلَمْ يَشْعُروا إِلَّا بِالْغَارَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ عَلَى الإِماء أَدَلُّ مِنْهُ عَلَى الطَّلائع؛ وَقَالَ النَّابِغَةُ فِي البَغَايا الطَّلائع:

عَلَى إثْرِ الأَدِلَّةِ والبَغَايا، ***وخَفْقِ الناجِياتِ مِنَ الشآمِ

وَيُقَالُ: جَاءَتْ بَغِيَّةُ الْقَوْمِ وشَيِّفَتُهم أَي طَلِيعَتُهم.

والبَغْيُ: التَّعَدِّي.

وبَغَى الرجلُ عَلَيْنَا بَغْيًا: عَدَل عَنِ الْحَقِّ وَاسْتَطَالَ.

الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ} قَالَ، البَغْي الإِستطالة عَلَى النَّاسِ؛ وَقَالَ الأَزهري: مَعْنَاهُ الْكِبَرُ، والبَغْي الظُّلْم وَالْفَسَادُ، والبَغْيُ مُعْظَمُ الأَمر.

الأَزهري: وَقَوْلُهُ {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} "، قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوجه: قَالَ بَعْضُهُمْ: فَمَنِ اضْطُرَّ جَائِعًا غَيْرَ باغٍ أَكْلَها تَلَذُّذًا وَلَا عَادٍ وَلَا مجاوزٍ مَا يَدْفَع بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الجُوعَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: {غَيْرَ باغٍ} غَيْرَ طَالِبٍ مُجَاوَزَةَ قَدَرِ حَاجَتِهِ وغيرَ مُقَصِّر عَمَّا يُقيم حالَه، وَقِيلَ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الإِمام وَغَيْرَ مُتَعدّ عَلَى أُمّته.

قَالَ: وَمَعْنَى البَغْي قصدُ الْفَسَادِ.

وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَبْغِي عَلَى النَّاسِ إِذَا ظَلَمَهُمْ وَطَلَبَ أَذاهم.

والفِئَةُ البَاغِيَةُ: هِيَ الظَّالِمَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ طَاعَةِ الإِمام الْعَادِلِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَمَّار: وَيْحَ ابنِ سُمَيَّة تَقْتله الفئةُ البَاغِيَة وَفِي التَّنْزِيلِ: {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}؛ أَيْ إِنْ أَطَعْنكم لَا يَبْقَى لَكُمْ عَلَيْهِنَّ طريقٌ إِلَّا أَن يَكُونَ بَغْيًا وجَوْرًا، وأَصلُ البَغْي مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: « قَالَ لِرَجُلٍ أَنا أُبغضك، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنك تَبْغِي فِي أَذانِكَ »؛ أَراد التَّطْرِيبَ فِيهِ، وَالتَّمْدِيدَ مِنْ تجاوُز الْحَدِّ.

وبَغَى عَلَيْهِ يَبْغِي بَغْيًا: عَلَا عَلَيْهِ وَظَلَمَهُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ}.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: مَا لِي وللبَغِ بعضُكم على بعض؛ أَراد وللبَغْي وَلَمْ يُعَلِّلْهُ؛ قَالَ: وَعِنْدِي أَنه اسْتَثْقَلَ كَسْرَةَ الإِعراب عَلَى الْيَاءِ فَحَذَفَهَا وأَلقى حَرَكَتَهَا عَلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا.

وَقَوْمُ بُغاء.

وتَبَاغَوْا: بَغَى بعضُهم عَلَى بَعْضٍ؛ عَنْ ثَعْلَبٍ.

وبَغَى الْوَالِي: ظَلَمَ.

وكلُّ مُجَاوَزَةٍ وَإِفْرَاطٍ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي هُوَ حَدُّ الشَّيْءِ بَغْيٌ.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: بَغَى عَلَى أَخيه بَغْيًا حَسَدَهُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}، وفيه: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ.

والبَغْيُ: أَصله الْحَسَدُ، ثُمَّ سُمِّيَ الظُّلْمُ بَغْيًا لأَن الْحَاسِدَ يَظْلِمُ الْمَحْسُودَ جُهْدَه إراغَةَ زوالِ نعمةِ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنْهُ.

وبَغَى بَغْيًا: كَذَب.

وَقَوْلُهُ تعالى: {يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا}؛ يَجُوزُ أَن يَكُونَ" مَا نَبْتَغِي "أَي مَا نَطْلُبُ، فَمَا عَلَى هَذَا اسْتِفْهَامٌ، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مَا نكْذب وَلَا نَظْلِم فَمَا عَلَى هَذَا جَحْد.

وبَغَى فِي مِشْيته بَغْيًا: اخْتال وأَسرع.

الْجَوْهَرِيُّ: والبَغْيُ اخْتِيَالٌ ومَرَحٌ فِي الفَرس.

غَيْرُهُ: والبَغْيُ فِي عَدْوِ الْفَرَسِ اختيالٌ ومَرَح.

بَغَى بَغْيًا: مَرِحَ وَاخْتَالَ، وَإِنَّهُ ليَبْغِي فِي عَدْوِه.

قَالَ الْخَلِيلُ: وَلَا يُقَالُ فَرَسٌ باغٍ.

والبَغْيُ: الْكَثِيرُ مِنَ المَطَر.

وبَغَتِ السَّمَاءُ: اشْتَدَّ مَطَرُهَا؛ حَكَاهُ أَبو عُبَيْدٍ.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: دَفَعْنا بَغْيَ السَّمَاءِ عَنَّا أَي شدَّتَها ومُعْظَم مَطَرِهَا، وَفِي التَّهْذِيبِ: دَفَعْنا بَغْيَ السَّمَاءِ خَلفَنا.

وبَغَى الجُرحُ يَبْغِي بَغْيًا: فَسَدَ وأَمَدَّ ووَرِمَ وتَرامَى إِلَى فَسَادٍ.

وبَرِئَ جُرْحُه عَلَى بَغْي إِذَا برئَ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ نَغَلٍ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي سَلَمة: « أَقام شَهْرًا يُدَاوِي جُرْحَه فَدَمَلَ عَلَى بَغْي وَلَا يَدْري بِهِ »أَي عَلَى فَسَادٍ.

وجَمَل باغٍ: لَا يُلْقِح؛ عَنْ كُرَاعٍ.

وبَغَى الشيءَ بَغْيًا: نَظَرَ إِلَيْهِ كَيْفَ هُوَ.

وبَغَاه بَغْيًا: رَقبَه وانتَظره؛ عَنْهُ أَيضًا.

وَمَا يَنْبَغِي لَكَ أَن تَفْعَل وَمَا يَبْتَغِي أَي لَا نَوْلُكَ.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: مَا انْبَغَى لَكَ أَن تَفْعَلَ هَذَا وَمَا ابْتَغَى أَي مَا يَنْبَغِي.

وَقَالُوا: إِنَّكَ لَعَالَمٌ وَلَا تُباغَ أَي لَا تُصَبْ بِالْعَيْنِ، وأَنتما عَالِمَانِ وَلَا تُباغَيا، وأَنتم عُلَمَاءُ وَلَا تُباغَوْا.

وَيُقَالُ للمرأَة الْجَمِيلَةِ: إِنَّكِ لَجَمِيلَةٌ وَلَا تُباغَيْ، وَلِلنِّسَاءِ: وَلَا تُباغَيْنَ.

وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا نُبَالِي أَن تُباغَي أَي مَا نُبَالِي أَن تُصِيبَكَ الْعَيْنُ.

وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: الْعَرَبُ تَقُولُ إِنَّهُ لَكَرِيمٌ وَلَا يُباغَهْ، وَإِنَّهُمَا لَكَرِيمَانِ وَلَا يُباغَيا، وَإِنَّهُمْ لَكِرَامٌ وَلَا يُبَاغَوْا، وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ لَهُ أَي لَا يُبْغَى عَلَيْهِ؛ قَالَ: وَبَعْضُهُمْ لَا يَجْعَلُهُ عَلَى الدُّعَاءِ فَيَقُولُ لَا يُباغَى وَلَا يُبَاغَيَان وَلَا يُبَاغَون أَي لَيْسَ يُبَاغِيَهُ أَحد، قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لَا يُباغُ وَلَا يُباغان وَلَا يُباغُونَ.

قَالَ الأَزهري: وَهَذَا مِنَ البَوْغِ، والأَول مِنَ البَغْي، وكأَنه جَاءَ مَقْلُوبًا.

وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: إِنَّكَ لَعَالِمٌ وَلَا تُبَغْ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الأَعراب مَنْ هَذَا المَبُوغُ عَلَيْهِ؟ وَقَالَ آخَرُ: مَن هَذَا المَبيغُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: وَمَعْنَاهُ لَا يُحْسَدُ.

وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَكَرِيمٌ وَلَا يُباغُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

إِما تَكَرّمْ إنْ أَصَبْتَ كَريمةً، ***فَلَقَدْ أَراك، وَلَا تُباغُ، لَئِيما

وَفِي التَّثْنِيَةِ: لَا يُباغانِ، وَلَا يُبَاغُونَ، وَالْقِيَاسُ أَن يُقَالَ فِي الْوَاحِدِ عَلَى الدُّعَاءِ وَلَا يُبَغْ، وَلَكِنَّهُمْ أَبوا إلَّا أَن يَقُولُوا وَلَا يُباغْ.

وَفِي حَدِيثِ النَّخَعِي: « أَن إِبْرَاهِيمَ بْنَ المُهاجِر جُعِلَ عَلَى بَيْتِ الوَرِقِ فَقَالَ النَّخَعِيُّ مَا بُغِي لَهُ»؛ أي مَا خِير لَهُ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


53-لسان العرب (شها)

شها: شَهِيتُ الشَّيْءَ، بِالْكَسْرِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وأَشْعَثَ يَشْهَى النَّومَ قلتُ لَهُ: ارْتَحِلْ، ***إِذا مَا النُّجُومُ أَعْرَضَتْ واسْبكَّرَتِ

وشَهِيَ الشيءَ وشَهاهُ يَشْهاهُ شَهْوَةً واشْتَهَاهُ وتَشَهَّاهُ: أَحَبَّه ورَغِب فِيهِ.

قَالَ الأَزهري: يُقَالُ شَهِيَ يَشْهَى وشَهَا يَشْهُو إِذا اشْتَهَى، وَقَالَ: قَالَ ذَلِكَ أَبو زَيْدٍ.

والتَّشَهِّي: اقتِراحُ شَهْوةٍ بَعْدَ شَهْوةٍ، يُقَالُ: تَشَهَّتِ المرأَةُ عَلَى زوجِها فأَشْهَاها أَي أَطْلَبها شَهَواتِها.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}؛ أَي يَرْغَبُون فِيهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلى الدُّنْيَا.

غَيْرُهُ: الشَّهْوةُ مَعْرُوفَةٌ.

وطعامٌ شَهِيٌّ أَي مُشْتَهىً.

وتَشَهَّيْتُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا.

وَهَذَا شيءٌ يُشَهِّي الطعامَ أَي يحمِلُ عَلَى اشْتِهائِه، ورجلٌ شَهِيٌّ وشَهْوَانُ وشَهْوَانِيٌّ وامرأَةٌ شَهْوَى وَمَا أَشْهَاهَا وأَشْهَانِي لَهَا، قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذَا عَلَى مَعْنَيَين لأَنك إِذا قُلْتَ مَا أَشْهَاهَا إِليَّ فإِنما تُخْبِرُ أَنها مُتَشَهَّاةٌ، وكأَنه عَلَى شُهِيَ، وإِن لَمْ يُتَكْلَّمْ بِهِ فَقُلْتُ مَا أَشْهَاهَا كَقَوْلِكَ مَا أَحْظاها، وإِذا قلتَ مَا أَشْهَانِي فإِنما تُخْبرُ أَنك شَاهٍ.

وأَشْهَاهُ: أَعطاه مَا يَشْتَهِي، وأَنا إِليه شَهْوانُ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " فهِيَ شَهْوَى وَهُوَ شَهْوَانِيُ وقومٌ شَهَاوَى أَي ذَووُ شَهْوةٍ شديدةٍ للأَكل.

وَفِي حَدِيثِ رَابِعَةَ: « يَا شَهْوَانِيُ يُقَالُ: رجلٌ شَهْوَانُ وشَهْوَانِيٌّ إِذا كَانَ شديدَ الشَّهْوةِ»، والجمعُ شَهَاوَى كسَكارى.

وَفِي الْحَدِيثِ: « إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخافُ عَلَيْكُمُ الرِّياءُ والشَّهْوَةُ الخفيَّة »؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: ذَهَبَ بِهَا بعضُ النَّاسِ إِلى شَهْوةِ النِّساءِ وغيرِها مِنَ الشهَواتِ، قَالَ: وَعِنْدِي أَنه لَيْسَ بمخصوصٍ بشيءٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ فِي كُلِّ شيءٍ مِنَ الْمَعَاصِي يُضْمِرُه صَاحِبُهُ ويُصِرُّ عَلَيْهِ، فإِنما هُوَ الإِصرارُ وإِنْ لَمْ يَعْمَلْه، وَقَالَ غيرُ أَبي عُبيد: هُوَ أَن يَرى جَارِيَةً حَسناءَ فيغُضَّ طرْفَه ثُمَّ ينظُرَ إِليها بِقَلْبِهِ كَمَا كَانَ ينظُر بعينِه، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ ينظُر إِلى ذاتِ مَحْرَمٍ لَهُ حَسناءَ، وَيَقُولُ فِي نفسِه: ليْتَها لَمْ تَحْرُم عليَّ.

أَبو سَعِيدٍ: الشَّهْوَةُ الخفِيَّة مِنَ الْفَوَاحِشِ مَا لَا يحِلُّ مِمَّا يَسْتَخْفي بِهِ الإِنسانُ، إِذا فعَلَه أَخفاهُ وكَرِهَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الناسُ؛ قَالَ الأَزهري: والقولُ مَا قَالَهُ أَبو عُبَيْدٍ فِي الشهوةِ الخفِيَّة، غَيْرَ أَني أَستَحْسِنُ أَنْ أَنْصِبَ قَوْلَهُ والشَّهوةَ الخفِيَّةَ، وأَجعل الواوَ بِمَعْنَى مَعْ كأَنه قَالَ: أَخْوفُ مَا أَخافُ عليكمُ الرياءُ مَعَ الشَّهوةِ الخفِيَّةِ لِلْمَعَاصِي، فكأَنه يُرائي الناسَ بتَرْكِه المَعاصِيَ، والشهوةُ لَهَا فِي قلبِه مُخْفاةٌ، وإِذا استَخْفَى بِهَا عَمِلَها، وَقِيلَ: الرياءُ مَا كَانَ ظَاهِرًا مِنَ الْعَمَلِ، والشهوةُ الخفِيَّة حُبُّ اطِّلاعِ الناسِ عَلَى العملِ.

ابْنُ الأَعرابي: شَاهَاهُ فِي إِصابةِ العينِ وهاشاهُ إِذا مازَحَه.

ورجلٌ شَاهِي البصرِ: قَلْبُ شائِه البَصرِ أَي حديدُ البصرِ.

ومُوسَى شَهَواتٍ: شَاعِرٌ مَعْرُوفٌ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


54-لسان العرب (نعا)

نعا: النَّعْوُ: الدائرةُ تَحْتَ الأَنف.

والنَّعْو الشَّقُّ فِي مِشْفَر البَعِير الأَعْلى، ثُمَّ صَارَ كلُّ فَصْلٍ نَعْوًا؛ قَالَ الطِّرِمَّاحُ:

تُمِرُّ عَلَى الوِراكِ، إِذا المَطايا ***تقايَسَتِ النَّجادَ مِنَ الوَجِينِ،

خَريعَ النَّعْوِ مُضْطَرِبَ النَّواحي، ***كأَخْلاقِ الغَريفةِ ذِي غُضُونِ

خَريعُ النَّعْوِ: لَيِّنُه أَي تُمِرُّ مِشْفَرًا خَريع النَّعْوِ عَلَى الوِراك، والغَريفةُ النَّعل.

وَقَالَ اللحياني: النَّعْوُ مشَقُّ مِشْفَرِ الْبَعِيرِ فَلَمْ يَخُصَّ الأَعلى وَلَا الأَسفل، وَالْجَمْعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ نُعِيٌّ لَا غَيْرُ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: النَّعْوُ مَشَقُّ المِشفر، وَهُوَ لِلْبَعِيرِ بِمَنْزِلَةِ التَّفِرة للإِنسان.

ونَعْوُ الحافِر: فَرْجُ مُؤخَّره؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.

والنَّعْوُ: الفَتْقُ الَّذِي فِي أَلْيَة حافِرِ الفَرَس.

والنَّعْوُ: الرُّطَبُ.

والنَّعْوَةُ: مَوْضِعٌ، زَعَمُوا.

والنُّعَاء: صَوْتُ السِّنَّوْر؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وإِنما قضيناعَلَى هَمْزَتِهَا أَنها بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ لأَنهم يَقُولُونَ فِي مَعْنَاهُ المُعاء، وَقَدْ مَعا يَمْعُو، قَالَ: وأَظنُّ نُونَ النُّعَاء بَدَلًا مِنْ مِيمِ الْمِعَاءِ.

والنَّعْيُ: خَبَر الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ النَّعِيُّ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والنَّعْيُ والنَّعِيُّ، بِوَزْنِ فَعيل، نِداء الدَّاعِي، وَقِيلَ: هُوَ الدُّعاء بِمَوْتِ الْمَيِّتِ والإِشْعارُ بِهِ، نَعَاه يَنْعَاه نَعْيًا ونُعْيَانًا، بِالضَّمِّ.

وَجَاءَ نَعِيُّ فلانٍ: وَهُوَ خَبَرُ مَوْتِهِ.

وَفِي الصِّحَاحِ: والنَّعْيُ والنَّعِيُّ، وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: النَّعِيُّ الرَّجل الميِّت، والنَّعْيُ الفِعْل؛ وأَوقع ابْنُ مَجْكان النَّعْيَ عَلَى النَّاقَةِ العَقير فَقَالَ:

زَيَّافةٍ بنْتِ زَيَّافٍ مُذَكَّرةٍ، ***لَمَّا نَعَوْها لِراعي سَرْحِنا انْتَحَبا

والنَّعِيُّ: المَنْعِيُّ.

وَالنَّاعِي: الَّذِي يأْتي بِخَبَرِ الْمَوْتِ؛ قَالَ:

قامَ النَّعِيُّ فأَسْمَعا، ***ونَعَى الكَريمَ الأَرْوَعا

ونَعاءِ: بِمَعْنَى انْعَ.

وَرُوِيَ عَنْ شدَّاد بْنِ أَوس أَنه قَالَ: يَا نَعايا الْعَرَبِ.

وَرُوِيَ عَنِ الأَصمعي وَغَيْرِهِ: إِنما هُوَ فِي الإِعراب يَا نَعَاءِ العَرَبَ، تأْويلُه يَا هَذَا انْعَ العربَ؛ يأْمر بِنَعْيِهِمْ كأَنه يَقُولُ قَدْ ذَهَبَتِ العربُ.

قَالَ ابْنُ الأَثير فِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوس: « يَا نَعايا الْعَرَبِ إِن أَخوف مَا أَخاف عَلَيْكُمُ الرِّياء والشَّهْوةُ الخَفِيَّةُ »، وَفِي رِوَايَةٍ: يَا نُعْيانَ العربِ.

يُقَالُ: نَعَى الميتَ يَنْعاهُ نَعْيًا ونَعِيًّا إِذا أَذاعَ مَوْتَهُ وأَخبر بِهِ وإِذا نَدَبَه.

قَالَ الزَّمخشري: فِي نَعايا ثَلَاثَةُ أَوجه: أَحدها أَن يَكُونَ جَمْعَ نَعِيٍّ وَهُوَ الْمَصْدَرُ كصَفِيٍّ وصَفايا، وَالثَّانِي أَن يَكُونَ اسْمَ جَمْعٍ كَمَا جَاءَ فِي أَخِيَّةٍ أَخايا، وَالثَّالِثُ أَن يَكُونَ جَمْعَ نَعاءِ الَّتِي هِيَ اسْمُ الْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى يَا نَعايا الْعَرَبِ جِئنَ فَهَذَا وقَتكنَّ وزمانكُنَّ، يُرِيدُ أَن الْعَرَبَ قَدْ هَلَكَتْ.

والنُّعْيان مَصْدَرٌ بِمَعْنَى النَّعْي.

وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: خَفْض نَعاءِ مِثْلُ قَطامِ ودَراكِ ونَزال بِمَعْنَى أَدْرِكْ وانْزِلْ؛ وأَنشد لِلْكُمَيْتِ:

نَعَاءِ جُذامًا غَيْرَ مَوتٍ وَلَا قَتْلِ، ***ولكِنْ فِراقًا للدَّعائِمِ والأَصْلِ

وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذا قُتِلَ مِنْهُمْ شَرِيفٌ أَو مَاتَ بَعَثُوا رَاكِبًا إِلى قَبَائِلِهِمْ يَنْعاه إِليهم فنَهى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذا مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ لَهُ قَدْرٌ رَكِبَ رَاكِبٌ فَرَسًا وَجَعَلَ يَسِيرُ فِي النَّاسِ وَيَقُولُ: نَعَاءِ فُلَانًا أَي انْعَه وأَظْهِرْ خَبَرَ وَفَاتِهِ، مبنيةٌ عَلَى الْكَسْرِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: أَي هَلَكَ فُلَانٌ أَو هَلكت الْعَرَبُ بِمَوْتِ فُلَانٍ، فَقَوْلُهُ يَا نعاءِ العربَ مَعَ حَرْفِ النِّدَاءِ تَقْدِيرُهُ يَا هَذَا انْعَ الْعَرَبَ، أَو يَا هَؤُلَاءِ انْعَوا الْعَرَبَ بِمَوْتِ فُلَانٍ، كَقَوْلِهِ: أَلا يَا اسْجُدوا أَي يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا، فِيمَنْ قرأَ بِتَخْفِيفٍ أَلا، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَرْوِيهِ يَا نُعْيانَ الْعَرَبِ، فَمَنْ قَالَ هَذَا أَراد الْمَصْدَرَ، قَالَ الأَزهري: وَيَكُونُ النُّعْيان جمعَ النَّاعِي كَمَا يُقَالُ لِجَمْعِ الرَّاعي رُعْيان، وَلِجَمْعِ الْبَاغِي بُغْيان؛ قَالَ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ لخَدَمه إِذا جَنَّ عَلَيْكُمُ اللَّيْلُ فثَقِّبوا النِّيرَانَ فَوْقَ الإِكام يَضْوي إِليها رُعْيانُنا وبُغْيانُنا.

قَالَ الأَزهري: وَقَدْ يُجْمَعُ النَّعِيُّ نَعَايَا كَمَا يُجْمع المَريُّ مِنَ النُّوق مَرايا والصَّفِيُّ صَفَايَا.

الأَحمر: ذَهَبَتْ تَمِيمُ فَلَا تُنْعَى وَلَا تُسْهى أَي لَا تُذكر.

والمَنْعَى والمَنْعَاة: خَبَرُ الْمَوْتِ، يُقَالُ: مَا كانَ مَنْعَى فُلَانٍ مَنْعَاةً وَاحِدَةً، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَنَاعِيَ.

وتَنَاعَى القومُ واسْتَنْعَوْا فِي الْحَرْبِ: نَعَوْا قَتْلاهم ليُحرِّضوهم عَلَى الْقَتْلِ وطلَب الثأْر، وَفُلَانٌ يَنْعَى فُلَانًا إِذا طلَب بثأْره.

والنَّاعِي: المُشَنِّع.

ونَعَى عَلَيْهِ الشيءَ يَنْعَاه: قبَّحه وَعَابَهُ عَلَيْهِ ووبَّخه.

ونَعَى عَلَيْهِ ذُنوبه: ذَكرها لَهُ وشَهَره بِهَا.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « إِن اللَّهَ تَعَالَى نَعى عَلَى قَوْمٍ شَهَواتِهم»؛ أي عَابَ عَلَيْهِمْ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « تَنْعَى عليَّ امْرَأً أَكرمه اللَّهُ عَلَى يَدَيَ »أَي تَعِيبني بِقَتْلِي رَجُلًا أَكرمه اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى يدَيَّ؛ يَعْنِي أَنه كَانَ قَتَلَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَن يُسْلِمَ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأُرى يَعْقُوبَ حَكَى فِي الْمَقْلُوبِ نَعَّى عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ ذَكَرَهَا لَهُ.

أَبو عَمْرٍو: يُقَالُ: أَنْعَى عَلَيْهِ ونَعَى عَلَيْهِ شَيْئًا قَبِيحًا إِذا قَالَهُ تَشْنِيعًا عَلَيْهِ؛ وَقَوْلُ الأَجدع الهمْداني:

خَيْلانِ مِنْ قَوْمِي وَمِنْ أَعْدائِهمْ ***خَفَضُوا أَسِنَّتَهم، فكلٌّ نَاعِي

هُوَ مِنْ نَعَيْتُ.

وَفُلَانٌ يَنْعَى عَلَى نَفْسِهِ بالفَواحش إِذا شَهَرَ نفسَه بتَعاطِيه الفَواحشَ، وَكَانَ امْرُؤُ الْقَيْسِ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ نَعَوْا عَلَى أَنفسهم بالفَواحش وأَظْهَرُوا التَّعَهُّر، وَكَانَ الْفَرَزْدَقُ فَعُولًا لِذَلِكَ.

ونَعَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ أَمرًا إِذا أَشادَ بِهِ وأَذاعه.

واسْتَنْعَى ذِكرُ فُلَانٍ: شاعَ.

واسْتَنْعَتِ الناقةُ: تقَدَّمت، واسْتَنْعَت تَرَاجَعَتْ نَافِرَةً أَو عَدَتْ بِصَاحِبِهَا.

واسْتَنْعَى القومُ: تفَرَّقوا نَافِرِينَ.

والاسْتِنْعَاء: شِبْهُ النِّفار.

يُقَالُ: اسْتَنْعَى الإِبلُ وَالْقَوْمُ إِذا تفرَّقوا مِنْ شَيْءٍ وَانْتَشَرُوا.

وَيُقَالُ: اسْتَنْعَيْت الغنَم إِذا تَقَدَّمْتَها ودَعَوْتَها لِتَتْبَعَكَ.

واسْتَنْعَى بِفُلَانٍ الشرُّ إِذا تَتَابَعَ بِهِ الشَّرُّ، واستَنْعَى بِهِ حُبُّ الخَمر أَي تَمادى بِهِ، وَلَوْ أَن قَوْمًا مُجْتَمِعِينَ قِيلَ لَهُمْ شَيْءٌ فَفَزِعُوا مِنْهُ وتفَرَّقوا نَافِرِينَ لَقُلْتَ: اسْتَنْعَوْا.

وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ فِي بَابِ الْمَقْلُوبِ: اسْتَنَاعَ واسْتَنْعَى إِذا تقدَّم، وَيُقَالُ: عطَفَ؛ وأَنشد:

ظَلِلْنا نَعُوجُ العِيسَ فِي عَرصَاتِها ***وُقوفًا، ونَسْتَنْعِي بِهَا فنَصُورُها

وأَنشد أَبو عُبَيْدٍ:

وَكَانَتْ ضَرْبَةً مِنْ شَدْقَمِيٍّ، ***إِذا مَا اسْتَنَّتِ الإِبلُ اسْتَناعا

وَقَالَ شِمْرٌ: اسْتَنْعَى إِذا تقدَّم لِيَتْبَعُوهُ، وَيُقَالُ: تَمادى وتتابع.

قال: ورُبَّ ناقةٍ يَسْتَنْعِي بِهَا الذئبُ أَي يَعْدُو بَيْنَ يَدَيْهَا وَتُتْبِعُهُ حَتَّى إِذا امَّازَ بِهَا عَنِ الحُوارِ عَفَقَ عَلَى حُوارِها مُحْضِرًا فَافْتَرَسَهُ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والإِنْعَاء أَن تَسْتَعِيرَ فَرَسًا تُراهِنُ عَلَيْهِ وذِكْرُه لِصَاحِبِهِ؛ حَكَاهُ ابْنُ دُرَيْدٍ وَقَالَ: لا أَحُقُّه.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


55-أساس البلاغة (قذر)

قذر

قذر الشيء قذرًا فهو قذر، وقذر قذارة فهو قذر كضخم وصعب. وتطهر من الأقذار والقاذورات. ورجل قذر، وقوم أقذار، وقذرت الشيء واستقذرته وتقذّرت منه وأقذرته: وجدته قذرًا.

ومن المجاز: قذرت الشيء وتقذّرت منه إذا كرهته. وقال العجاج:

وقذري ما ليس بالمقذور

ورجل قاذورة: متبرم بالناس لا يجلس إلا وحده ولا ينزل إلا وحده. ورجل قذرة: يتنزّه عما يلام عليه. وناقة قذور: تبرك ناحية من الإبل لا تخالطها. وامرأة قذور: تجتنب الرّيب. وأقذرتنا رحمك الله: أضجرتنا. وفي الحديث: «ومن أتى منكم شيئًا من هذه القاذورات فليستر على نفسه» أراد الفواحش. قال متمّم:

وإن تلقه في الشّرب لا تلق فاحشًا *** على الكأس ذا قاذورة متزبّعًا

أساس البلاغة-أبوالقاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م


56-مقاييس اللغة (أثم)

(أَثَمَ) الْهَمْزَةُ وَالثَّاءُ وَالْمِيمُ تَدُلُّ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْبُطْءُ وَالتَّأَخُّرُ.

يُقَالُ: نَاقَةٌ آثِمَةٌ، أَيْ: مُتَأَخِّرَةٌ.

قَالَ الْأَعْشَى:

إِذَا كَذَبَ الْآثِمَاتُ الْهَجِيرَا.

وَالْإِثْمُ مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَا الْإِثْمِ بَطِيءٌ عَنِ الْخَيْرِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ.

قَالَ الْخَلِيلُ: أَثِمَ فُلَانٌ وَقَعَ فِي الْإِثْمِ، فَإِذَا تَحَرَّجَ وَكَفَّ قِيلَ تَأَثَّمَ كَمَا يُقَالُ حَرِجَ وَقَعَ فِي الْحَرَجِ، وَتَحَرَّجَ تَبَاعَدَ عَنِ الْحَرَجِ.

وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: رَجُلٌ أَثِيمٌ أَثُومٌ.

وَذَكَرَ نَاسٌ عَنِ الْأَخْفَشِ - وَلَا أَعْلَمَ كَيْفَ صِحَّتُهُ - أَنَّ الْإِثْمَ الْخَمْرُ،.

وَعَلَى ذَلِكَ فَسَّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33].

وَأَنْشَدَ:

شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي *** كَذَاكَ الْإِثْمُ تَفْعَلُ بِالْعُقُولِ

فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهَا تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


57-صحاح العربية (طمل)

[طمل] الطَمْلَةُ والطَمَلَةُ بالتحريك: الحَمأة والطِين يبقى في أسفل الحوض.

يقال، صار الماء طَمَلَةً واحدة، كما يقال دَكَلَةً.

واطَّمِلَ ما في الحوض فلم يُترك فيه قطرة، وهو افتعل منه.

والطمل بالكسر، اللص.

قال لبيد: وأسْرَعَ في الفَواحِشِ كلُّ طِمْلٍ يَجُرُّ المُخْزِياتِ ولا يُبالي

والمِطْمَلَةُ: ما تُوَسَّعُ به الخُبْزَةُ.

وطَمَلْتُ الخبزة: وسّعتها.

وطَمَلْتُ الناقة طملا: سرتها سيرا فسيخا.

صحاح العربية-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


58-منتخب الصحاح (طمل)

الطَمْلَةُ والطَمَلَةُ بالتحريك: الحَمأة والطِين يبقى في أسفل الحوض.

يقال صار الماء طَمَلَةً واحدة، كما يقال دَكَلَةً.

واطَّمِلَ ما في الحوض فلم يُترك فيه قطرة والطِمْلُ بالكسر، اللصّ، قال لبيد:

وأسْرَعَ في الفَواحِشِ كلُّ طِمْلٍ *** يَجُرُّ المُخْزِياتِ ولا يُبالي

والمِطْمَلَةُ: ما تُوَسَّعُ به الخُبْزَةُ.

وطَمَلْتُ الخبزة: وسّعتها.

وطَمَلْتُ الناقة طَمْلًا: سِرْتُها سيرًا فسيحًا.

منتخب الصحاح-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


59-تهذيب اللغة (نعي)

نعي: وقال الليث: نعى يَنْعَى نَعْيًا.

وجاءنا نَعْي فلان: وهو خبر موته.

والنعِيّ بوزن فعيل: نداء الناعي.

والنعِيّ أيضًا: هو الرجل الذي يَنْعَى.

ورُوي عن شدّاد بن أوس أنه قال: يا نَعَايا العرب.

قال أبو عبيد: قال الأصمعي وغيره، إنما هو في الإعراب يا نعاءِ العربَ تأويله: انعَ العرب، يأمر بنعيهم.

كأنه يقول: قد ذهبت العرب.

وقال أبو عبيد: خَفْضُ نَعَاءِ مثل قولهم قَطَام ودَراك ونزال.

وأنشد للكميت:

نعاء جُذاما غير مَوت ولا قتل *** ولكن فراقا للدعائم والأصل

قال: وبعضهم يرويه يا نُعْيان العرب.

فمن قال هذا أراد المصدر؛ يقال: نعيته نَعْيًا ونُعيانًا.

قلت: ويكون النُعْيان جمعًا للناعي، كما يقال لجمع الراعي: رُعْيان، ولجمع الباغي: بُغْيان وسمعت بعض العرب يقول لخَدمه: إذا جَنّ عليكم الليلُ فثقّبوا النيران فوق الآكام يَضْوِي إليها رُعياننا وبغياننا.

قلت: وقد يجمع النعِيّ نعايا، كما تجمع المَرِيّ من النوق مرايا، والصَفِيّ صفايا.

ومن قال: يا نعاء العربَ فمعناه: يا هذا انع العرب، ويا أيها الرجل انعهم.

ويقال: فلان ينعى على نفسه بالفواحش إذا شَهَر نفسه بتعاطيه الفواحش.

وكان امرؤ القيس من الشعراء الذين نَعَوا على أنفسهم بالفواحش، وأظهروا التعهّر.

وكان الفرزدق فَعُولًا لذلك.

ونعى فلان على فلان أمرًا إذا أشاد به وأذاعه.

وفلان ينعى فلانًا إذا طلب بثأره.

وكانت العرب إذا قُتل منهم رجل شريف أو مات، بعثوا راكبًا إلى قبائلهم ينعاه إليهم، فنهى النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم عن ذلك.

وقال أبو زيد: النَعِيّ: الرجل الميت.

والنَعْي: الفعل.

وقال ابن الأعرابي: الناعي المشنِّع.

يقال: نعى عليه أمره إذا قبَّحه عليه.

عمرو عن أبيه: قال يقال: أَنْعَى عَليه، ونعى عليه شيأ قبيحًا إذا قاله تشنيعًا عليه.

أبو عبيد عن الأحمر: ذهبت تميم فلا تُنْعَى ولا تُسْهى ولا تُنْهى أي لا تُذكر.

وتناعى بنو فلان في الحرب إذا نَعَوا قتلاهم ليحرّضوهم على الطلب بالثأر.

وقال الليث: النعِيّ: الناعي الذي ينعي.

وأنشد قوله:

قام النعِيّ فأسمعا *** ونَعَى الكريمَ الأروعا

قال: والاستغناء: شبه النفار.

قال: ولو أن قومًا مجتمعين قيل لهم شيء ففزعوا منه وتفرقوا نافرين لقلت: استْنَعوا.

والناقة إذا نفرت فقد استنعت.

وقال أبو عبيد في باب المقلوب: استناع واستنعى إذا تقدم، ويقال: عطف.

وأنشد:

ظلِلنا نعوج العِيس في عَرَصاتها *** وقوفًا ونستنعي بها فنصورها

وقال شمر ـ فيما أخبرني عنه الإياديّ ـ: استنعى إذا تقدم فذهب ليتبعوه.

ويقال: تمادى.

قال ورُبّ ناقة يستنعِي بها الذئبُ أي يعدو بين يديها وتتبعه، حتى إذا امّاز بها عن الحُوَار عَفَق على حوارها مُحضِرًا فافترسه.

وقال أبو عبيد: استناع واستنعى إذا تقدّم.

وأنشد:

وكانت ضربة من شَدْقَمِيّ *** إذا ما اسْتَنَّت الإبل استناعا

وقال أبو عمرو: استناع واستنعى إذا تمادى وتتابع.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


60-تهذيب اللغة (فحش)

فحش: الليث: الفُحْشُ: معروف، والفَحْشاءُ: اسم الفاحِشَة، وكل شيء جاوز حدّه وقدرَه فهو فاحش.

وأَفْحشَ الرجلُ إذا قال قولًا فاحِشًا، وقد فَحُش علينا فلان، وإنه لفَحَّاش، وكل أمر لا يكون مُوافِقًا للحق فهو فاحِشَة، وقال الله جلّ وعزّ: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النِّساء: 19] قيل: الفاحِشَة المَبَيِّنَةُ: أن تَزْنِي فَتُخرَجَ للحَدِّ، وقيل: الفاحِشَةُ: خروجها من بيتها من غير إذْن

زَوْجها.

وقال الشافعي: هو أن تَبْذَأَ على أَحْمائها بذَرَابة لِسانِها فَتُؤْذِيهَم، وتأوَّل ذلك في حديث فاطمة بنت قَيْس أنَّ النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم لم يجعل لها سُكْنى ولا نفقة، وذكر أنه نقلها إلى بيت ابنِ أُمِّ مَكتُوم لِبَذاءتها وسَلاطَة لسانها، ولم يُبْطِلْ سُكْناها لقولِ الله جلّ وعزّ: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطّلَاق: 1].

وأما قول الله جلّ وعزّ: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ} [البَقَرَة: 268]: قال المفسرون: معناه يأمركم بأن لا تَتَصَدَّقُوا، وقيل: الفَحْشَاءُ هاهنا البُخْل، والعرب تسمي البَخِيل فاحِشًا، وقال طرفة:

أرى الموتَ يَعْتَامُ الكِرامَ ويَصْطفِي *** عَقِيلةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ

وفي الحديث: «إن الله يُبْغِضُ الفَاحِشَ المُتَفَحِّش *، فالفَاحِشُ هو ذُو الفُحْشِ والخَنَا من قول وفِعْل، والمتفحِّش: الذي يَتكلَّف سَبَّ النّاس ويُفْحِش عليهم بلسانه، ويكون المُتَفَحِّش: الذي يأتي الفاحِشَة المَنْهِيَّ عنها وجمعها الفواحِش.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


61-تهذيب اللغة (سبح)

سبح: قال الله جلّ وعزّ: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المُزمّل: 7].

قال الليث: معناه فراغًا للنوم.

قال: وقال أبو الدُّقَيْش: ويكون السَّبْحُ أيضًا فراغًا بالليل.

وقال الفرَّاء: يقول لك في النهار.

ما تقضي حوائجك.

وقال أبو إسحاق: (سَبْحًا طَوِيلًا)، قال فَرَاغًا وتَصَرُّفًا، ومن قرأ سَبْخًا فهو قَرِيبٌ من السَّبْح.

وقال ابن الأعرابي: من قرأ سَبْحًا فمعناه اضطرابًا ومعاشًا.

ومن قرأ: سَبْخًا أراد راحة وتخفيفًا للأبدان.

وقال ابن الفَرَج: سمِعتُ أبا الجهم الجَعْفَرِي يقول: سَبَحْتُ في الأرض وسبَخْتُ فيها إذا تباعدت فيها.

قال: وسبح اليَرْبُوعُ في الأرض إذا حفر فيها، وسَبَحَ في الكلام إذا أكثرَ فيه.

وقال أبو عُبَيدة: سَبْحًا طويلًا أي مُنْقَلَبًا طويلا.

وقال الليث: (سُبْحانَ اللهِ): تنزيه لله عن كل ما لا ينبغي له أن يوصف به.

قال: ونَصْبُه أنه في موضع فعل على معنى تَسْبِيحًا له، تقول: سَبَّحْتُ الله تسبيحًا أي نَزّهْتُه تنزيهًا.

وكذلك روي عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم.

وقال الزجاج في قول الله جَلّ وعزّ: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسرَاء: 1] منصوب على المصدر، أسبِّح الله تَسبيحًا.

قال: وسُبحَان في اللغة: تنْزِيه لله عَزّ وجَلّ عن السوء.

قلت: وهذا قول سيبويه، يقال: سَبّحْت الله تسبيحًا وسُبْحَانًا بمعنى واحد، فالمصدر تسبيح، والإسم سبحان يقوم مقام المصدر.

قال سيبويه: وقال أبو الخَطّاب الكبير: (سُبْحانَ اللهِ) كقولك: بَرَاءَة الله من السوء، كأنه قال: أُبَرِّىء الله من السوء.

ومثله قول الأعْشَى:

* سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِر*

أي: بَرَاءَة منه.

قلت: ومعنى تَنْزِيه الله من السُّوء: تَبْعِيدُه منه، وكذلك تسبيحه تبعيده، من قولك: سَبَحْتُ في الأرض إذا أَبْعَدْتَ فيها، ومنه قوله جَلَّ وعَزَّ: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، وكذلك قوله: {وَالسَّابِحاتِ سَبْحًا} [النَّازعَات: 3] هي النجوم تَسْبَحُ في الفَلَكِ أي تذهَبُ فيها بَسْطًا كما يَسْبَحُ السابح في الماء سَبْحًا، وكذلك السابحُ من الخَيْل يَمُدُّ يَدَيه في الجَرْي سَبْحًا كما يسبح السابح في الماء وقال الأعْشَى:

كم فيهم من شَطْبَهٍ خَيْفَقٍ *** وسَابِحٍ ذي مَيْعَةٍ ضَامِر

وقال الليث: النجوم تسْبَح في الفلك إذا جَرَت في دورانه.

وقال ابن شميل ـ فيما رَوَى عنه أبو داود المَصَاحِفي ـ: رأيت في المنام كأنّ إنسانًا فَسّر لي (سُبْحانَ اللهِ) فقال: أما ترى الفرس يَسْبَحُ في سرعته، وقال: (سُبْحانَ اللهِ): السُّرْعَة إليه.

قلت: والقولُ هو الأوّلُ، وجِمَاعُ مَعْناه بُعْدُه تبارك وتعالى عن أن يكون له مِثْلٌ أو

شَرِيكٌ أَو ضِدٌّ أَو نِدٌّ.

وقال الفرَّاء في قول الله جَلَّ وعَزّ: {فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الرُّوم: 17] الآية فصلّوا لله {حِينَ تُمْسُونَ} وهي المغرب والعِشَاء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صَلَاةَ الفَجْر، {وَعَشِيًّا} العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الأولى.

وكذلك قوله: {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصَّافات: 143].

قال المفسرون: من المصلين.

وقال الليث: السُّبْحَةُ من الصَّلَاةِ: التَّطَوُّع.

وفي الحديث أن جبريل قال: «لله دون العرش سَبْعونَ حِجَابًا لو دَنَوْنَا من أحدها لأحرَقَتْنا سُبُحَاتُ وَجْه ربنا» قيل: يعني بالْسُبُحاتِ جَلالَه وعَظمتَه ونورَه.

وقال ابن شميل: سُبُحَاتُ وَجْهِه: نُورُ وَجْهه.

وأخبرني المُنْذِرِيُّ عن أبي العباس أنه قال: السُّبُحات: مَواضِعُ السُّجود.

وأما قول الله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسرَاء: 44] وقال أبو إسحاق: قيل: إنَّ كل ما خلق الله يسبِّحُ بحَمْدِه، وإنَّ صَرِيرَ السَّقْفِ وصريرَ الباب من التسبيح، فيكون على هذا الخطاب للمشركين وحدهم في {وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، وجائز أن يكون تَسْبِيحُ هذه الأشياء بما الله به أعلم لا يُفْقَهُ مِنْه إلَّا ما عُلِّمنا قال: وقال قوم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي ما من شيءٍ إلا وفيه دليل أن الله جلّ وعزّ خالِقُه، وأنَّ خالِقَه حكيمٌ مُبَرَّأٌ من الأسواء، ولكنكم أيها الكفار لا تفقهون أثر الصَّنْعَةِ في هذه المخلوقات.

قال أبو إسحاق: وليس هذا بشيء لأن الذين خوطبوا بهذا كانوا مُقرِّين بأن الله خالقُهم وخالِقُ السماء والأرض ومَنْ فيهن، فكيف يجهلون الخِلْقَة وهم عارفون بها.

قلت: وممّا يَدُلُّك على أن تسبيح هذه المخلوقات تَسبيحُ تُعِبِّدَتْ به قولُ الله جلّ وعزّ للجبال: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سَبَإ: 10] ومعنى {أَوِّبِي} أي سَبِّحي مع داوُد النهارَ كلَّه إلى الليل، ولا يجوز أن يكون معنى أمر الله جلّ وعزّ للجبال بالتأوِيبِ إلا تعبُّدًا لها.

وكذلك قوله جلّ وعزّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الحَجّ: 18] إلى قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحَجّ: 18] فسُجودُ هذه المخلوقات عبادةٌ منها لخالقها لا نَفْقَهُها عنها كما لا نَفْقَه تسبيحَها.

وكذلك قوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} [البَقَرَة: 74] وقد علِم الله هُبوطَها من خَشَيتِه، ولم يُعرِّفْنَا ذلك، فنحن نؤمِن بما أَعْلَمَنا ولا نَدّعي بما لم نُكَلَّف بأفهامنا من عِلْمِ فِعلِها كَيفيّةً نَحُدُّها.

ومن صفات الله جلّ وعزّ السُّبُّوحُ القُدُّوسُ.

قال أبو إسحاق: السُّبُّوحُ: الذي تَنزَّه عن

كلِّ سوءٍ، والقُدُّوسُ: المبارك، وقيل: الطَّاهرُ، قال: وليس في كلام العرب بناء على فُعُّول بضم أوله غير هذين الإسمين الجليلين وحرف آخر وهو قولهم للذّرِّيحِ وهي دُوَيْبَّةٌ ذُرُّوح، وسائر الأسماء تجيء على فَعُّول مثل: سَفُّود وقَفُّود وقَبُّور وما أشبهها.

ويقال لهذه الخَرَزات التي يَعُدُّ بها المُسَبِّحُ تَسْبِيحَه السُّبْحَة وهي كلمة مولدة.

أبو عُبَيد عن أصحابه: السَّبْحَة بفتح السين وجمعها سِبَاحٌ: ثياب من جلود.

وقال مالكُ بن خالد الهذليّ:

* إذا عادَ المسَارِحُ كالسِّبَاح *

قال: وقال أبو عمرو: كِسَاءٌ مُسبَّح بالباء أي قوي شديد.

قال: والمُشَبَّح بالباء أيضًا والشين: المُعَرَّض.

وقال شمر: السَّباحُ بالحاء: قُمُصٌ للصبيان من جلود.

وأنشد:

كأن زَوَائِدَ المُهُرَاتِ منها *** جَوارِي الهِندِ مُرْخِيةَ السِّبَاحِ

وأما السُّبْجَةُ بضم السين والجيم فكِساءٌ أسود.

وقال ابن عَرَفَة المُلَقَّب بِنِفْطَوَيْه في قول الله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقِعَة: 74] أي سبِّحه بأسمائه ونزِّهه عن التَّسمِيَة بغيْرِ ما سَمّى به نفسه.

قال: ومَنْ سَمّى الله بغير ما سَمّى به نفسه فهو مُلْحِد في أسمائه، وكلّ من دعاه بأسمائه فمسبِّح له بها إذْ كانت أسماؤه مدائحَ له وأوْصافًا.

قال الله جلّ وعزّ: {وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها} [الأعرَاف: 180] وهي صفاته التي وصف بها نفسه، فكل من دعا الله بأسمائه فقد أطاعه ومدحه ولَحِقَه ثوابُه.

وروى الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال رسول الله صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم: «ما أَحَدٌ أَغْيَرَ من الله، ولذلك حَرَّم الفواحِشَ وليس أحدٌ أحَبّ إليه المدحُ من الله.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


62-تهذيب اللغة (سيح سوح)

سيح ـ سوح: قال الليث: السَّيْحُ الماء الظَّاهِرُ على وجْه الأرْض يَسِيحُ سَيْحًا.

الأصمعي: ساحَ الماءُ يسيحُ سَيْحًا إذا جرَى على وجه الأرض، وماء سَيْح وغَيْلٌ إذا جرَى على وجه الأرض، وجمعه سَيُوح وأَسْيَاحٌ، ومنه قوله:

تِسْعَةُ أَسْيَاح وسَيْحُ الغَمَرْ

وقال الليث: السِّيَاحَةُ ذهاب الرجل في الأرْضِ للعبادة والتَّرَهُّبِ، وسياحَةُ هذه الأمّة الصيَامُ ولزومُ المساجد.

وَرُوِيَ عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنه قال «لا سياحة في الإسلام»، أراد بالسياحة مفارَقَةَ الأَمْصَارِ والذهابَ في الأرضِ وأصله من سَيْح الماءِ الجاري.

وقال الله جلّ وعزّ: {الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ} [التّوبَة: 112] وقال {سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكارًا} [التّحْريم: 5] جاء في التفسير أن السائحين والسائحات الصائمون.

وقال الحسن: هم الذين يَصومُون الفرض.

وقد قيل: إنهم الذين يُدِيمُون الصِّيام.

وقول الحسن أَبْيَنُ.

وقيل للصائم: سائح لأن الذي يسيح مُتَعبِّدًا يذهبُ في الأرض لا زادَ مَعه فحين يَجِد الزاد يَطْعَمُ، والصائم لا يَطْعَم أيضًا، فَلِشَبهَه به سمي سائحًا.

وفي الحديث على أنه وصف قَوْمًا فقال: «ليسوا بالمسَايِيح البُذُر».

قال شمر: المسايِيحُ ليس من السّياحة ولكنه من التسييح في الثوْبِ أن يكون فيه خطُوطٌ مختلفةٌ ليس من نحوٍ واحدٍ وقال ابن شميل: المُسَيَّحُ من العَبَاءِ الذي فيه جُدَدٌ، واحدةٌ بيضاءُ وأُخْرى سَوْدَاءُ ليست بشديدةِ السَواد.

وكل عباءة سَيْحٌ ومُسَيَّحَةٌ.

يقال: نِعْم السَّيْحُ هَذَا، وما لم يكن ذَا جُدَدٍ، فإنما هو كِسَاء وليس بِعَبَاءٍ.

وقال: وكذلك المُسَيَّح من الطرق المبيَّنُ، وإنما سيَّحه كثرة شَرَكِه، شُبِّه بالعَباءِ المُسَيَّح.

ويقال للحمار الوحش مُسيَّح لجُدَّته التي تفْصِل بين البَطْن والجَنْبِ.

أبو عبيد عن الأصمعي: السيْح مِسْحٌ مُخَطَّطٌ يكونُ في البيت يصلح أن يُفْتَرَش وأن يستتر به.

وقال الأصمعيُّ: إذا صارَ في الجَرَادِ خطوطٌ سودٌ وصُفْرٌ وبيضٌ فهو المُسَيَّح، فإذا بدا حَجْمُ جَناحِه فذلك الكُتْفَان لأنه حينئذٍ يَكْتِف المشي فإذا ظَهَرَتْ أجْنِحَتُه وصار أحْمَرَ إلى الغُبْرَةِ فهو الغَوْغَاءُ والواحدة غَوْغَاءَةٌ؛ وذلك حين يَمُوجُ بعضُه في بَعْضٍ ولا يتوجّه جِهَةً واحدةً، هذا في رواية عمر بن بَحْرٍ.

وقال شمر: المسايِيحُ الذَين يسيحون في الأرْض بالشَّرِّ والنميمةِ والإفسادِ بين الناس، والمَذَايِيعُ الذين يُذيعُون الفواحش.

وقال الليثُ: السَّاحة فَضَاءٌ يكون بين دُور الحَيِّ، والجمعُ سوحٌ وسَاحَاتٌ، وتصغيرها سُوَيْحَةٌ.

وقال ابن الأعرابي: يقال للأتان قد انْسَاح بَطْنُها وأنْدَال سِيَاحًا إذا ضَخُمَ ودَنَا من الأَرْض.

ويقال: أساحَ الفَرَسُ ذَكَرَه وأَسابَه إذا أخرجه من قُنْبِه.

قاله خليفة الحصيني قال وسيَّبه وسيَّحه مثلُه.

وقال غيره: أسَاحَ فلانٌ نَهْرًا إذا أَجْراه.

وقال الفرزدق:

وكم لِلْمُسلمِين أسَحْتَ يَجْرِي *** بإذن الله من نَهْر ونَهْرِ

يقول: كم من نَهْرٍ أجريتَه للمسلمين فانتفعوا بمائه.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


63-تهذيب اللغة (حيا)

حيا: قال الليث: يقال حَيِي يحيا فهو حَيٌ ويقال للجميع حَيُّوا بالتشديد.

قال ولغة أخرى يقال حَيَ يَحَييُ، والجميع حَيُوا خفيفة.

وقال الله جلَّ وعزَّ: {وَيَحْيى مَنْ حَيَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] قال الفرّاء: كِتَابُها على الإدغام بياءٍ واحدةٍ وهي أكثرُ القراءة.

وقال بعضهم حَيِيَ عن بيّنَةٍ بإظهارهما.

قال: وإنما أدْغَمُوا الياءَ مع اليَاءِ، وكان ينبغي أن لا يفعلوا لأن الياء الآخِرَةَ لزمها النصبُ في فعلٍ فأدغموا لَمّا الْتَقَى حَرْفَانِ متحرِّكَانِ من جنسٍ واحِد.

قال ويجوز الإدغام في الاثنين للحركة اللّازمة للياةء الآخِرة.

فتقول حَيَّا وحَيِيَا، وينبغي للجميع أن لا يُدْغَم إلا بِيَاءٍ لأن ياءَها يصيبُها الرفعُ وما قبلها مكسورٌ فينبغي لها أن تسْكُنَ فتسقط بِواوِ الجَمْعِ، وربّما أظهرت العربُ الإدغَامَ في الجمع إرَادَة تأليفِ الأفْعَال وأن تكون كلُّها مشدّدة فقالو في حَيِيتُ حَيُّوا وفي عَيِيتُ عَيُّوا قال: وأنشدني بعضهم:

يَحْدِنَ بنا عَنْ كُلِ حَيٍ كأنَّنَا *** أَخَارِيْسُ عَيُّوا بالسَّلَامِ وبالنَّسَبْ

قال: وقد أجمعت العرَبُ على إدغام التحيّة لحركة الياء الآخِرة كما استحبوا إدغام حَيّ وعَيّ للحركة اللّازمة فيها.

فأمّا إذا سكنت الياء الأخيرة فلا يجوز الإدغامُ مثل يُحْيِي ويُعْيِي.

وقد جاء في بعض الشعر الإدْغَامُ وليس بالوجْه.

قلت: وأنكر البصريون الإدغام في مثل هذا الموضع ولم يَعْبأ الزجّاج بالبيت الذي احتجّ به الفرّاء وقال: لا يعرف قائله.

وكأَنّها بينَ النِّسَاءِ سَبِيكَةٌ *** تَمْشِي بِسُدَّةِ بَيْتِها فَتُحَيَ

حدثنا الحسين عن عثمان بن أبي شَيْبَة عن أبي معاوية عن إسماعيل بن سُمَيعْ عن أبي مالك عن ابن عباس في قول الله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً} [النّحل: 97] قال هو الرِّزْقُ الحلالُ في الدُّنْيَا {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [النّحل: 97] إذا صارُوا إلى الله جَزَاهم أجرهم في الآخرة بأحسنِ ما عملوا.

ثعلب عن ابن الأعرابي الحَيُ: الحقُّ واللَّيُّ الباطِلُ ومنه قولهم: هو لا يَعرِف الحَيَ من اللَّيِّ وكذلك الحوُّ من اللَّوِ في المعنيين.

قال: وأخبرني المنذريّ عن ابن حَمُّويَةَ، قال سمعت شمرًا يقول في قول العرب فلان لا يعرف الحَوَّ من اللَّوِّ الحَوُّ نَعَمْ واللَّوُّ: لو قال، والحَيُ الحَوِيّةُ واللَّيُّ لَيُّ الحَبْلِ أي فَتْلُه يُضرب هذا لِلأَحمق الذي لا يعرف شيئًا.

قال والحيُ فَرْج المرأة، ورأى أعرابيٌ جهازَ عَروسٍ فقال: هذا سَعَفُ الحَيّ أي جهازَ فَرْجِ امرأةٍ.

قال: والحيُ كلُّ متكلِّم ناطق.

قال والحَيّ من النَّبَات ما كان طرِيًّا يهتزُّ، والحيُ الواحِدُ من أَحْيَاءِ العرب.

قال والحِيّ بكسر الحاء جمع الحياة وأنشد:

ولو ترى إذا الحياةُ حِيّ

قال الفرّاء كسروا أَوّلها لئلا يتبدل الياءُ واوًا كما قالوا بِيضٌ وعِينٌ.

قال الأزهري: الحيُ من أَحْياءِ العرب يقع على بني أبٍ كَثُروا أم قلّوا، وعلى شَعْبٍ يجمع القبائل من ذلك قول الشاعر:

قَاتَلَ اللهُ قَيْسَ عَيْلَانَ حَيًّا *** ما لَهُمْ دُونَ غَدْرَةٍ مِنْ حِجَابِ

أنشده أبو عبيدة.

وقال الليث: الحياة كتبت بالواو في المصحف ليُعلم أن الواو بعد الياء، وقال بعضهم بل كتبت واوًا على لغة من يفخِّم الألف التي مرجعها إلى الواو، نحو الصلوة، والزكوة، وحَيْوَة اسم رجل بسكون الياء، وأخبرني المنذري عن الغساني عن سَلَمة عن أبي عبيدة في قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} [البَقَرَة: 179] أي منفعةٌ، ومنه قولهم ليس بفلان حياة أي ليس عنده نَفْعٌ، ولا خيرٌ.

ويقال حايَيْتُ النار بالنفْخ كقولك أحْيَيْتُها.

وقال الأصمعيّ: أنشد بعض العرب بيت ذي الرمة:

فقلتُ له ارْفَعْهَا إليكَ وَحَايِها *** بِرُوحِكَ واقْتَتْهُ لها قِيتَةً قَدْرا

وغيره يرويه وأحْيها، وسمعتُ العربَ تقول إذا ذَكَرَتْ مَيِّتًا: كُنَّا سَنَة كَذَا وكَذَا بمكان كَذَا وكَذَا، وَحَيُ عمروٍ معنا، يريدون: عَمْرُو مَعَنَا حَيٌ بذلك المكان، وكانوا يقولون: أتينا فلانًا زَمَانَ كذا وحيُ فلان شاهدٌ وحيُ فلانَةَ شاهدَةٌ، المعنى وفلانٌ إذ ذاك حَيٌ وأنشد الفرّاء في هذا

ألا قَبَحَ الإِلهُ بَنِي زِيَادٍ *** وحَيَ أبِيهِمُ قَبْحَ الحِمَارِ

أي: قبّح الله بني زياد وأباهم.

وقال ابن شميلٍ: يقالُ أتانا حَيُ فلانٍ أي أَتانا في حَيَاتِه وسمعتُ حَيَ فلان يقولون كذا أي: سمعته يقول في حياتِه.

أخبرني المنذري عن ثعلب عن ابن الأعرابي أَنَّهُ أنشده:

ألا حَيَ لي مِنْ ليلةِ القَبْرِ أَنَّهُ *** مَآبٌ ولو كُلِّفْتُه أنا آئِبُهْ

قال: أراد ألا يُنْجِيَنِي من ليلة القَبْرِ.

وقال الكسائيّ: يقال لا حَيّ عنه أي لا مَنْعَ منه وأنشد:

ومَنْ يَكُ يَعْيَا بالبيَان فإنَّه *** أبو مَعْقِلٍ لا حَيَ عنه ولا حَدَدْ

قال الفرّاء معناه: لا يَحُدُّ عَنْه شيءٌ، ورواه:

فإِنْ تَسْأَلُوني بالبيَانِ فإناه *** أبو مَعْقِلٍ.

.

.

الخ والعرب تذكّر الحيَّةَ وتؤنّثها فإذا قالت: الحيُّوتُ عَنَوْا الحية الذَّكَر.

وقال الليث: جاء في الحديث أَنّ الرجل الميّتَ يُسأل عن كلّ شيء حتى عن حيَّة أَهْلِه قال معناه عن كل شيء حيٍ في منزله مثل الهِرّة وغيره، فأنَّث الحيّ وقال حيَّة، ونحوَ ذلك.

قال أَبُو عبيد في تفسير هذا الحرف: قال وإنَّما قال حيَّةٌ لأنَّه ذهب إلى كلّ نفس أو دَابَّةٍ فأنّث لذلك.

عمرو عن أبيه: العرب تقول: كيف أنت وكيف حَيَّةُ أهْلِك، أي كيف مَنْ بقي منهم حَيًّا.

قلت: وللعرب أَمْثَالٌ كثيرة في الحَيّة نَذْكُرُ ما حضرَنا منها، سمعتُهم يقولون في باب التشبيه: هو أَبْصَرُ من حيَّةٍ؛ لِحدَّة بَصَره ويقولون: هو أظْلمُ من حيّة، لأنها تأتي جُحْرَ الضبّ فتأكل حِسْلها وتسكن

جُحْرُهُ.

ويقولون: فلانٌ حَيَّةُ الْوادِي إذا كان شديدَ الشكيمة حاميَ الحقيقة.

وهم حَيَّةُ الأرْضِ إذا كانُوا أَشِدَّاء ذوي بَسالة، ومنه قول ذي الإصبع العَدْوانيّ:

عَذِيرَ الحَيِ من عَدْوَا *** نَ كَانُوا حَيَّةَ الأرْضِ

أراد أَنَّهم كانوا ذوي إِرْبٍ وشِدَّة لا يضيعون ثأرًا.

ويقال: فلان رأسُه رأْسُ حيَّةٍ إذا كان متوقِّدًا ذَكيًّا شَهْمًا.

وفلانٌ حَيَّةٌ ذَكَرٌ أي شجاع شديدٌ.

ويُدْعَى على الرجُلِ فيقالُ: سقاه الله دم الحيَّاتِ أي أهْلَكَه اللهُ.

ويقال: رأيت في كتابٍ كتَبَه فلانٌ في أمرِ فلان حيَّاتٍ وعَقَارِبَ إذا مَحَلَ كاتبهُ برجُلٍ إلى سلطانٍ ليُوقِعَه في وَرْطة.

ويقال للرجُلِ إذا طال عُمْره وللمرأَة المعمَّرة: ما هو إلا حيَّةٌ وما هي إلا حَيَّةٌ، وذلك أن عمر الحيَّة يطول وكأنه سمّي حيَّةً لطول حياته وأنه قَلَّمَا يوجد ميِّتًا إلا أن يُقْتل.

أبو العباس عن ابن الأعرابيّ: فلان حيَّةُ الوادي، وحيَّةُ الأرْضِ وشيطان الحَمَاطِ إذا بلغ النهاية في الإرْب والخُبْثِ وأنشد الفرّاء:

كَمِثْلِ شَيْطَانِ الحَمَاطِ أَعْرَفُ

وقول مالك بن الحارث الكاهلي:

فلا يَنْجُو نَجَائي ثَمَ حَيٌ *** من الحَيَواتِ لَيْسَ له جَنَاحُ

كل ما هُوَ حَيٌ، فجمعه حَيَوات، وتجمع الحيَّة حَيَوَات، وفي الحديث: «لا بأس بقتل الحَيَوَات» جمع الحيَّة.

والحيَوَانُ اسمٌ يقع على كل شيءٍ حَيٍ.

وسمَّى الله جلَّ وعزَّ الآخرة حيوانًا فقال: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ} [العَنكبوت: 64] فحدثنا ابن هَاجَك عن حمزة عن عبد الرازق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ} قال: هي الحَيَاةُ.

قال الأزهري: معناه أَنَّ من صار إلى الآخرة لم يَمُتْ ودام حَيًّا فيها لا يموت، فمن أُدْخِلَ الجنَّةَ حَيِيَ فيها حياة طيبة، ومن دَخَلَ النارَ فإنّه لا يموت فيها ولا يَحْيَا، كما قال الله جلَّ وعزَّ.

وكُلُّ ذي رُوح حيوانٌ.

والحيوان عَيْنٌ في الجنة.

ابن هانىء عن زيد بن كَثوة: من أمثالهم: حَيَّهِنْ حِماري وحمارَ صاحبي.

حَيِّهِنْ حِماري وَحْدي.

يقال ذلك عند المَزْرِئَة على الذي يستحقّ ما لا يملِكُ مكابرَةً وظُلْمًا، وأَصْلُه أنَّ امرأَةً كانت رافقت رَجُلًا في سفَرٍ وهي راجلة وهُو على حِمَار، قال فَأَوَى لَها وأَفْقَرها ظَهرَ حِمَارِه، ومشى عنها، فبينما هما في مسيرهما إذ قالت وهي راكبة عليه حَيَّهِن حِمارِي وحِمار صاحبي، فسمع الرجل مقالَتهَا فقال: حَيَّهِنْ حِماري وَحْدي، ولم يَحْفِل لقولها ولم يُنْغِضْها، فلم يزالا كذلك حتى بلغت النَّاسَ فلمَّا وثقت قالت: حَيَّهِنْ حِمَاري وحْدِي وهي عليْه فنازَعَها الرجلُ إيّاه، فاستغاثت عليه، فاجتمع لهما الناسُ والمرأةُ راكبةٌ على الحمار والرجل راجل، فَقُضِي لهَا عليه بالحمارِ لِمَا رَأَوْا فذهبت مثلًا.

وقال أبو زيد: يقال أرض مَحْيَاةٌ ومَحْوَاةٌ من الحَيَّات.

وقال ابن المظفّر: الحَيَوانُ كلٌّ ذِي رُوحٍ، والجميع والواحد فيه سواءٌ.

قالً: والحَيَوان مَاءٌ في الجنة لا يصيب شيئًا إلا حَيِيَ بإذن الله.

قال: واشتقاق الحيَّةِ من الحيَاةِ، ويقال هي في أصل البناء حَيْوَة فأُدْغِمت الياء في الواو، وجُعلتا ياءً شديدة.

قال ومن قال لصاحب الحيَّاتِ حَايٍ فهو فاعلٌ من هذا البِنَاءِ وصارت الواو كسْرةً كواو الغازِي والعالي.

ومن قال حَوّاء على فَعَّال فإنه يقول: اشتقاق الحيَّةِ من حَوَيْتُ لأنها تَتَحَوَّى في الْتوائها، وكُل ذلك تقول العربُ.

قلت: وإن قيل حَاوٍ على فاعل فهو جائز، والفرْقُ بينه وبين غازِي أَنَّ عين الفعل من حاوٍ وَاوٌ وعينَ الفعل من الغازِي الزاي فبينهما فرق.

وهذا يَجُوزُ على قولِ من جعل الحيَّة في أصل البناء حَوْيَةً.

وقال الليثُ الحياءُ من الاستحياء ممدودٌ ورجل حَيِيٌ بوزن فَعِيلٍ وامرأة حَيِيَّةٌ ويقال: استحيا الرجل واستحْيَتْ المرأةُ.

قلت: وللعرب في هذا الحرف لغتان يقال اسْتَحى فلان يستَحِي بياءٍ واحدةٍ، واستحْيَا فلان يَسْتَحيي بياءين.

والقرآنُ نَزَلَ باللُّغة التامَّة.

قال الله جلَّ وعزَّ: {إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البَقَرَ: 26].

وأما قوله صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم «اقْتُلوا شُيُوخَ المُشْركين واستَحْيُوا شَرْخَهُمْ فهو بمعنى استفْعِلُوا من الحياة أي استبْقوهم ولا تقتلوهم.

وكذلك قول الله {يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ} [القَصَص: 4] أي يستبْقِيهِنّ فلا يقتلُهن.

وليس في هذا المعنى إلا لُغَةٌ واحدة.

ويقال فلانٌ أحيا من الهَدِيِّ وأحيا من كَعَابٍ وأحيا من مُخَدَّرةٍ ومن مخبَّأَةٍ، وهذا كله من الحياء ممدودٌ، وأما قولُهم أحيا من الضَّبِّ فهي الحياةُ.

وقال أبو زيد يقال حَيِيتُ من فعل كذا أَحْيَا حَيَاءً أي استَحْيَيتُ وأنشد:

ألا تَحْيَوْنَ من تَكْثِيرِ قَوْمٍ *** لِعَلَّاتٍ وأمُّكُمُ رَقُوبُ

معناه ألا تَسْتَحْيُونَ.

ورُوي عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنه قال «الحَيَاءُ شعبةٌ من الإيمان».

واعترض هذا الحديثَ بعضُ الناس، فقال كيفَ جعل الحيَاءَ وهو غرِيزةٌ شعبةً من الإيمان وهو اكتسابٌ؟ والجواب في ذلك أن المستحِي ينقطع بالحياءِ عن المعَاصِي وإن لم تكن له تقِيَّةٌ، فصار كالإيمان الذي يُقْطعُ عَنْها ويحول بين المؤمنين وبيْنهَا، وكذلك قِيلَ إذا لم تَسْتَحِ فاصنعْ ما شِئْتَ، يُرَادُ أَنَّ من لم يَسْتَحِ صَنَع ما شَاءَ لأنّه لا يكون له حياءٌ يَحْجِزُه عن الفواحِش فيتهافَتُ فيها ولا يتوقّاها، والله أعلم.

وأما قول الله جلَّ وعزَّ مُخْبِرًا عن طائفةٍ من الكفّار لم يؤمنوا بالبعث والنشور بعد الموت {وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الجَاثِيَة: 24] فإنّ أبا العباس أحمد بن

يحيى سُئِل عن تفسيرِها فقال: اختُلِفَ فيه، فقالت طائِفَةٌ: هو مقدم ومؤخر ومعناه نحيا ونموت ولا نحيا بعد ذلك.

وقالت طائِفَةٌ: معناه نَحْيَا ونَمُوتُ ولا نَحْيَا أبدًا، ويحيا أولادُنا بَعْدَنا فجعلوا حياةَ أَوْلَادِهم بَعْدَهُم كحياتهم، ثم قالوا: ويموت أَوْلَادُنا فلا نحيا وَلَا هُمْ.

وقال ابْنُ المظَفَّر في قول المصلّي في التشهد: التحيَّاتُ للهِ، قال: معناه: البقاء للهِ، ويقال: المُلْكُ للهِ.

وأخبرني المنذريُّ عن أبي العباس عن سلَمَةَ عن الفرّاء أَنّه قال في قول العرب حَيَّاكَ اللهُ، معناه: أبقاك اللهُ، قال: وحَيّاكَ أَيْضًا أي ملّكك اللهُ، قال: وحيّاك أي سلّم عليك.

قال وقولنا في التشهد: التَّحِيَّاتُ للهِ يُنْوَى بها البقاءُ للهِ والسلام من الآفاتِ لله والمُلْكُ للهِ.

وَنَحْوَ ذلك قال أبو طالب النحويُّ فيما أفادني عنه المنذري.

وقال أبو عبيد قال أبو عمرو: التحيَّةُ: المُلْكُ وأنشد قول عمرو بن معدي كرب:

أسيِّرُها إلى النُّعْمَانِ حتى *** أُنِيْخَ على تَحِيَّتِه بِجُنْدي

يعني على مُلْكِه، وأنشد قول زهير بن جَنَابٍ الكَلْبي:

وَلَكُلُّ ما نال الفَتَى *** قَدْ نِلْتُه إلَّا التَّحِيَّة

قال يعني المُلْكَ.

قال أبو عبيد: والتحيَّةُ في غير هذا: السلامُ.

قال خالد بن يزيد: لو كانت التحيَّةُ المُلْكَ لما قيل التحيَّاتُ لِلَّهِ، والمعنى السلَامَاتُ من الآفات كلها لِلَّهِ، وجَمَعَها لأنه أراد السلام من كل آفَةٍ.

وقال القتبي: إنما قيل التحيّات لِلَّهِ على الجمع لأنه كان في الأرض مُلُوك يُحَيَّوْن بتحيّاتٍ مختلفة يقال لبعضهم: أبيتَ اللَّعْن، ولبعضهم اسْلَمْ وانْعَمْ، وَعِشْ ألفَ سنَةٍ، فقيل لنا قُولُوا: التحيَّاتُ لِلَّهِ، أي الألفاظ التي تَدُل على المُلْكِ ويُكَنَّى بها عن المُلْكِ هي للهِ تعالى.

وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه كان يُنكر في تفسير التحية ما رويناه عن هؤلاء الأئمة، ويقول: التحيَّةُ في كلام العرب ما يُحيِّي به بعضُهم بعضًا إذا تلاقَوْا.

قال: وتحيّةُ اللهِ التي جعلها في الدنيا والآخرةِ لِمُؤْمِنِي عبادِه إذا تلاقَوْا ودعا بعضُهم لبعض بأَجْمَع الدُّعَاءِ أن يقول: السلام عليكم ورَحْمَةُ اللهِ.

قال اللهُ في أهل الجنة: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44] وقال في تحيَّة الدنيا {وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها} [النِّساء: 86] وقال في قول زهير بن جناب:

ولَكُلُّ مَا نَال الْفَتَى *** قَدْ نِلْتُهُ إلا التّحِيَّة

يريد إلّا السلامة من المنيّة والآفات فإن أحدًا لا يسلم من الموتِ على طول البقَاءِ.

فجعل أبو الهيثم معنى (التحياتُ لِلَّهِ) أي السلام له من الآفات التي تلحق العباد من العَناء وأسباب الفناء

قلت: وهذا الذي قاله أبو الهيثم حسَنٌ ودلائله واضحة غير أن التحيّة وإن كانت في الأَصْلِ سلامًا فجائز أن يُسَمَّى المُلْكُ في الدنيا تحيّةً كما قال الفرّاء وأبو عمرو، لأن المَلِكَ يُحيَّا بِتَحِيّة المُلْكِ المعروفة للملوك التي يباينون فيها غيرَهم، وكانت تحية ملوك العجم قريبةً في المعنى من تحية مُلوكِ العرب، كان يقال لِمَلِكِهم زِهْ هَزَارْ سَالْ، المعنى عِشْ سالمًا ألفَ سنة.

وجائز أن يقال للبقاء تحيَّةً لأن من سَلِمَ من الآفات فهو باقٍ، والباقي في صفة اللهِ من هذا لأنه لا يموت أبدًا، فمعنى حيَّاك اللهُ: أي أَبقاك صحيحٌ، من الحياة، وهو البقاء.

يقال: أَحْيَاهُ اللهُ وحيَّاه بمعنىً واحد، والعرب تسمي الشيءَ باسم غيرِه إذا كان معه أو من سببه.

أخبرني محمد بن مُعاذ عن حاتم بن المظفّر أنه سأل سَلَمة بن عاصم عن قوله: حيّاك اللهُ، فقال: بمنزلة أَحْيَاكَ اللهُ أي أبقاك اللهُ مثل كرّم اللهُ وأكرم اللهُ، قال: وسألت أبا عثمان المازني عن حيّاك اللهُ فقال عَمَّرك اللهُ.

وقال الليثُ: المحاياةُ الغِذاء للصبيّ بما به حَيَاتُه، وقال: حَيَا الربيع ما تحيا به الأرض من الغيث.

وروى أَبُو عبيد عن أبي زيد يقال أحيا القومُ إذا مُطِروا فأصابت دوابُّهم العشب وسمنت.

وإن أرادُوا أنفسَهم قالوا: حَيُوا بعد الهزال.

والحَيَا الغيثُ مقصورٌ لا يمدّ.

وحَيَاءُ الشَّاةِ والناقةِ والمرأةِ ممدودٌ ولا يجوز قصْره إلا لشاعرٍ يُضطرّ في شعره إلى قَصْره.

وما جاء عن العرب إلا ممدودًا، وإنما قيل له حَيَاءٌ باسم الحياءِ من الاستحياء لأنه يُسْتَرُ من الآدميّ، ويكنّى عنه من الحيوان ويستفحش التصريح بذكره واسمه الموضوع له، ويستحى من ذلك، سمّي حياءً لهذا المعنى.

وقد قال الليث: يجوز قصر الحياء ومدُّه وهو غلطٌ لا يجوز قصره لغير الشاعر لأن أصْلَه الحياء من الاستحياء.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


64-تهذيب اللغة (شهو)

شهو: في الحديث: «إن أخوَفَ ما أخافُ عليكم الرِّياء والشهوَة الخَفيَّة».

قال أبو عبيد: ذهب بها بعضُ الناس إلى شهوة النساء وغيرِها من الشهوَات، وهو عندي ليس بمخصوص بشيء واحد، ولكنه في كل شيء من المعاصِي يُضمِره صاحبُه ويُصِرّ عليه، فإنما هو الإصرار وإن لم يَعملْه.

وقال غيرُ أبي عبيد: هو أن يرَى جاريةً حسناءَ فيغُضّ طَرْفَه، ثم ينظرُ إليها بقَلْبه كما كان يَنظر بعيْنه، وقيل: هو أن ينظر إلى ذاتِ مَحْرَم له حَسْناء ويقول في نفسه: ليتَها لم تحرُم عليَّ.

قال أبو سعيد: الشهْوَة الخفية من الفواحش ما لا يَحِلّ مما يَستخفِي به الإنسان، إذا فعَله أخفاه، وكَرِه أن يطّلِع عليه الناس.

قال الأزهريّ: القول: ما قال أبو عبيد في الشهوة الخفيَّة، غيرَ أني أَستحسِن أن أَنصِب قولَه: والشهْوة الخفية، وأَجعلَ الواوَ بمعنى مع، كأنه قال: أخوَفُ ما أَخافُ عليكم الرِّياء مع الشهوة الخفيَّة للمعاصي، فكأنه يُرائي الناسَ بتركِه المعاصي، والشّهوَةُ لها في قَلبه مُخفاةٌ، وإذا استَخفَى بها عَمِلَها.

وقال الليث: رجلٌ شَهْوان، وامرأةٌ شَهْوَى، وأنا إليه شَهْوانُ.

وقال العَجَّاج:

فهيَ شَهاوَى وهوَ شَهوانيُ *

وقوم شَهاوَى: ذَوُو شَهوة شديدة للأكل.

ويقال: شَهِيَ يَشْهَى، وشَها يَشهُو، إذا اشتَهَى.

قال ذلك أبو زيد.

والتشهِّي: اقتراح شهوةٍ بعدَ شهوة.

يقال؛ تشهّتِ المرأةُ على زَوْجها فأَشهاها، أي أطلَبَها شهواتِها.

أبو العباس عن ابن الأعرابي: شاهَاهُ في إصابة العَيْن، وهاشَاهُ، إذا مازَحَه.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


65-معجم العين (نور)

نور: النُّور: الضيّاء، والفعل: نار وأنار ونَوْرًا وإنارةً.

واستنار، أي: أضاء.

والنُّور: نَوْرُ الشَّجَر، والفِعْل: التَّنوير، وتنوير الشَّجَرة: إزْهارُها.

والنُّوّار: نَوْرُ الشَّجَر.

وتنوَّرْت نارًا: قَصَدْت إليها.

والنّائرةُ: الكائنةُ تقعُ بينَ القَوْمِ.

والمَنارة، مَفْعَلة من الإنارة، وبَدْء ذلك أَنَّهم كانوا يُنَوِّرونَ في الجاهِليّة ليُهْتَدَى ويُقْتَدَى بها.

والمنارة: الشَّمعةُ ذات السِّراج.

والمنارةُ: ما يُوضَعُ عليه المِسرَجة، قال

وكِلاهُما في كَفِّهِ يَزَنِيَّةٌ *** فيها سِنانٌ كالمنارةِ أَصْلَعُ

والمنارة: للمؤذِّن.

والنَّؤُورُ: دُخانُ الفَتيلة، يُتَّخَذُ كُحلًا أو وَشْمًا.

والنُّورة: يُطْلَى بها.

وفُلانٌ يُنَوِّر على فلان، إذا شبّه عليه أمرًا، ولَيْسَت الكلمةُ بعربيّة مَحْضة، واشْتِقاقُهُ: أنّ امرأة كانت تُسَمَّى نُورة من أَسحَر النّاس، فكل من فعل فِعْلَها قيل له: قد نوّر فهو مُنَوِّر.

وامرأة نَوارٌ: وهي العَفيفةُ النّافرةُ عن الشَّرِّ والقَبيح، والجميعُ: النُّورُ، أو هي التي تكره الرِّجال.

وبقرةٌ نَوارٌ: تَنْفِرُ من الفَحل، قال:

من نساءٍ عن الفواحشِ نُورِ

ونُرْتُ فلانًا، أي: أَنْفَرته بقولٍ أو فِعلٍ.

العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com