نتائج البحث عن (بِبَعَثَ)

1-جمهرة اللغة (برق بقر ربق رقب قبر قرب)

البَرْق: معروف، والجمع البروق.

والسحابة بارقة، والجمع بوارق.

وسُمّيت السيوف بارقةً وبوارقَ تشبيهًا بالبرق.

وأبْرَقْنا نحن وأرْعَدْنا، إذا رأينا البَرْقَ وسمعنا الرعدَ.

ويقال: بَرَقَ الرجل بَرْقًا، إذا تهدد.

وإنك لتَبْرُق لي وتَرْعُد، إذا جاء متهددًا.

وأنشد الأصمعي:

«إذا جاوَزَتْ من ذاتِ عِرْقٍ ثَنـيَّةً*** فقُل لأبي قابوسَ ما شئت فآرْعُدِ»

وبَرِقَ الرجلُ يَبْرَق بَرَقًا، إذا شَخَصَ بطَرْفه مِن فَزَع أو عَجَبٍ.

قال الشاعر:

«ولو أن لقمانَ الحكيمَ تعرَّضَتْ*** لعينيه مَيّ سافِرًا كاد يَبْـرَقُ»

وفي التنزيل: {فإذا بَرِقَ البصرُ}.

وبَرَقَ الشيءً بريقًا وبَرَقانًا، إذا لمع.

قال الشاعر:

«كأنَّ بَريقَه بَرَقان سَـحْـل*** جَلا عن مَتْنِه حُرُض وماءُ»

السحْل: الثوب الأبيض.

والأبْرَق والبُرْقة والبَرْقاء واحد، وهي آكام فيها طين وحجارة.

وجمع أبْرَق أبارِق، وجمع بَرْقاء بَرْقاوات وجمع برْقَة بُرَق.

وجَبَل أبْرَقُ، إذا كان ذا لونين، سواد وبياض أو غير ذلك.

ورجل بُرْقان، إذا كان برّاق البَدَن.

والبَرَق: الحَمَل، أعجمي معرَّب.

وبنو بارق: قبيلة من العرب.

وبارِق: موضع بالسَّواد قريب من الكوفة.

وقد سمَّت العرب بارقًا وبُريقًا وبُرْقانًا.

وناقة بَروق، وهي التي تَشول بذنَبها، ليست بلاقح.

ومثل من أمثالهم: " ما أطيق تَكْذابَك وتَأثامَك تَشول بلسانك شَوَلان البَروق ".

قال الشاعر:

«أم كيف ينْقعُ ما تُعطي البَروقُ به*** رِئمانَ أنف إذا ما ضُنَّ باللبَـنِ»

ويروى: العَلوق به.

والبَرْوَق: نبت ضعيف يُغنيه اليسير من ندى الليل فينبت.

ومثل من أمثالهم: "أشْكَر من بَرْوَقَة ".

والبُراق: الدابَّة التي حُمل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم.

اشتقاقها من البرْق إن شاء الله.

وبَراقة: اسم.

وامرأة برّاقة الجسم، أي صافيته.

قال الشاعر:

«برّاقةُ الجيد واللَّبّاتِ واضحة*** كأنها ظَبية أفضَى بها لبب»

والبُرْقان من الجراد: التي تستبين فيه خطوط سود وحمر.

والبَقَر: معروفة، من الأهلي والوحشي.

وجمع البَقر باقِر وبقير وبيْقور.

قال الشاعر:

«ما لي رأيُتك بعد أهلكَ موحِشًا*** قفْرًا كحوض البَاقِر المتهدم»

وقال آخر:

«عُشَر مّا ومثله سَلع مّـا*** عائل مّا وعالتِ البَيْقُورا»

قال أبو بكر: " ما" في هذا البيت صلة، وهي لغة ثَقَفيّة، وقد تكلم بها غيرهم.

والسلَع: نبت؛ وعائل من قولهم: عالَني، أي أثقلَني.

وقوله: عالت البيقّورا، أي أثقلت هذه السنةُ البيقورَ بالهُزال والضُّرّ.

وقد قرئ: {إن البَقَر نَشابَهَ علينا} وإن الباقر تَشابَهَ علينا.

وبَقِرَ الرجلُ، إذا فزع فلم يبرح.

وبقَرْتُ البطنَ أبقُره بقرًا، إذا شققته، فهو بَقير ومَبقور.

والبَقيرة: خِرقة يُجعل لها جيب يلبسُها الصِّبيان، فكأنها قد بقرت، أي شُقَّت.

وتبقَّر الرجلُ في المال، إذا اتّسع فيه، مثل تبحّر.

ولعِب الصبيانُ البُقَيْرَى، وهي لعبة، يبقرون الأرضَ ويجعلون فيها خبيئًا، وهو التبقير، ولاعبها المُبَقر.

قال الشاعر:

«أبَنَّتْ فما تنفكُّ حول مُتالِعٍ*** لها مثل آثار المُبَقِّرِ مَلْعَب»

أبنت: أقامت، ومُتالِع: جبل، وبَيْقَر: موضع، الياء فيه زائدة، هو مأخوذ من البَقْر، أي الشَّقّ.

والبَيْقَران: نبت ذكره أبو مالك، لا أدري ما صحَّته.

وذكر بعض أهل اللغة أنه كان يقال فيما مضى: بَيْقَرَ الرجلُ، إذا خرج من الشام إلى العراق: وأنشدوا:

«ألا هل أتاها والحوادثُ جَـمَّة*** بأنّ امرَأ القيس بن تَمْلِكَ بَيْقَرا»

وبَيْقَرَ الرجلُ، إذا عدا منكِّسًا رأسَه خاضعًا.

قال الشاعر:

«فباتَ يَجتابُ شُقارَى كمـا*** بَيْقَرَ مَن يمشي إلى الجَلْسَدِ»

والجَلْسَد: صنم كان في الجاهلية.

والرِّبْقُ: حُبيل يشدّ في عُنُق الحَمَل أو البَهْمة، والجمع أرباق، ويقال له الرِّبْقَة أيضًا.

وبَهْم مرَبَّق، إذا قرن بالأرباق، والشاة مَربوق ورَبيق.

وفي الحديث عن عمر: (حجّوا بالذُّرِّية لا تأكلوا أرزاقَها وتتركوا أرباقَها في أعناقها).

وقطعت رِبْقَةَ فلان، إذا كان في همّ ففرَّجت عنه.

وأخرج فلان رِبْقَةَ الإسلام من عُنقه، إذا فارق الجماعةَ.

والرَّقَبَة: معروفة.

ورَقَبْتُ الرجلَ أرْقُبُه رِقْبَةً وارتقبته ارتقابًا، إذا انتظرته.

وأعتقَ فلان رقبةً، إذا أعتقَ نسمة.

ورقبتُ الرجلَ والدابة، إذا طرحتَ في رقبته حبلًا.

وأعطى من رَقَبَة ماله، أي من خالصه.

وفككتُ رقبةَ فلان، إذا أطلقتَه من أسْره.

والرقْبَى، مقصور في وزن فُعْلَى: أن يعطيَ الرجلُ دارًا أو أرضًا رجلًا فإن مات قبله رجعتْ إلى وَرَثَته، وإنما سُمِّيت رُقْبَى لأن كل واحد منهما يراقب موتَ صاحبه.

والمَراقب واحدها مَرْقب، وهي المَرابي واحدها مَرْبأ، وهو موضع الرَّبيئة.

والمَرْقَب من الجبل: الموضع الذي يقعد فيه الرَّبيئة، وجمعه مَراقب.

والرقيبة: كل ما استترتَ به لترميَ صيدًا.

ورجل رَقَبان ورَقَبانيّ: غليظ الرقبة.

والأرْقَب: الغليظ الرَّقبة من الأسْد والرِّجال؛ رجل أرْقبُ وامرأة رَقْباءُ.

والرَّقيب: النجم الذي ينوء من المشرق فيغيب رَقيبُه في المغرب.

والرقيب: الرجل المشرف على أصحاب المَيْسِر.

قال الشاعر:

«كمقاعد الرُّقَباء لـل*** ضُرَباء أيديهم نَواهِدْ»

ويروى: كمجالس الرقباء.

ويقال: نَهَدَ بيده، إذا تناول بها.

وإنما سمِّي العَيوق رَقيب الثُّرَيّا تشبيهًا برقيب المَيْسِر.

وذو الرُّقَيبة: أحد فرسان العرب.

وأشْعَرُ الرقَبان: لقب رجل من العرب.

والمرأة الرقوب: التي لا يعيش لها ولد.

قال الشاعر:

«باتَت على إرَم عَذوبًا*** كأنها شيخة رَقوبُ»

والقبر: معروف، قبرت الرجلَ، إذا عفنته، وأقبرته، إذا أعَنْتَ على دفنه أو جعلتَ له موضعَ قبر.

كذا فسر أبو عبيدة في قوله جل ثناؤه: {ثُمَّ أماتَهُ فاقْبَرَه}، يريد أنه ألهمَ تبارك وتعالى كيف يُدفن الميت ببعث الغراب إلى ابن آدمٍ الذي قتل أخاه.

قالت بنو تميم للحَجاج، وكان قتل صالحًا وصلبه: " أقْبِرْنا صالحًا "، فقال: " دونَكُموه "، أرادوا: إيذنْ لنا أن نقبره.

هذا صالح بن عبد الرحمن مولى لبني سعد ثم لبني الذيال، وبنو الذيّال: البطن الذي منهم عمرو بن جُرْموز، وهو الذي نقل ديوان العراق من الفارسية إلى العربية.

وأرض قَبور: غامضة.

ونخلة قَبورٌ وكَبوس: التي يكون حملُها في سَعَفها.

والمَقْبَرة والمَقْبُرة والمَقْبَر: موضع القبور، والجمع مَقابر.

وقَرُبَ الشيء قُربًا: ضد البعد.

ويقال: قَرُبْتُ من فلان قُربًا، وتقرَّبت تِقِرّابًا وتَقَرُّبًا.

وقريب الرجل: مدانيه مِن نَسَب أمّ أو أب، والجمع قَرابة وقُرَباء وأقْرِباء.

ومثل من أمثالهم: "دون كل قُرَيْبَى قُرَيْبَى ".

وقَرابِين الملك: خاصّته، الواحد قُرْبان.

قال الشاعر:

«وما لي لا أحِبهمُ ومنهم*** قَرابِينُ الإله بنو قُصَيِّ»

أي أنهم أولياء الله تبارك وتعالى.

والقِرْبة: معروفة.

وقِراب السيف: جِلد يكون فيه وليس بالغِمد، والجمع قُرُب.

قال الشاعر:

«يا رَبةَ البيتِ قومي غيرَ صاغِرةٍ*** ضُمي إليك رِحالَ القوم والقُرُبا»

وقربتِ الإبل الماء إذا طلبته، فهي قوارب وأهلها مُقْرِبون.

وليلة القرَب: ليلة طلب الماء.

قال الشاعر:

«يقاسون جيشَ الهُرْمُزان كأنهم*** قواربُ أحواض الكُلابِ تَلوبُ»

أي تحوم على الماء؛ لاب يلوب وحام يحوم، إذا دار حول الماء.

وشاة مُقْرِب، إذا دنا وِلادُها.

وفرس مُقرَبة والجمع مُقْرَبات، وهي التي تُدنَى وتُقرب ولا تُترك أن ترود، وإنما يُفعل ذلك بالإناث خاصة لئلا يَقْرَعَها فحل لئيم.

وقرّب الفرسُ تقريبًا، وهو تقريبان: التقريب الأدنى، وهو الإرخاء؛ والتقريب الأعلى، وهو الثعْلَبية.

وقرب الفرس تقريبًا، وهو دون الحُضْر.

وقالت هند بنت عُتْبَة:

«لَنَهْبِطَـن يَثْـرِبَـهْ*** بغارةٍ منشعِـبَـهْ»

«فيها الخيولُ المُقْرَبَهْ*** كل جوادٍ سَلْهَبَـهْ»

والمُقْربَة: المُكْرَمَة.

وقُرْب الفرس: كَشْحُه، وهو الخَصْر، والجمع أقراب.

وتقول: هذه الدراهم قُراب مائة.

وإناء قَرْبان، إذا قاربَ أن يمتلىء.

وما له عند الله قُرْبَة، أي شيء يقرِّبه منه.

والقُرْبان: الأضاحيّ.

وكل ما تُقَربُ إلى الله فهو قُرْبان.

وقارِبُ السفينة: معروف، وهو الصغير الذي يتبعها.

وقُرْبان الملك: قَرابته، والجمع قَرابين.

قال الأعشى:

«كأنّك لم تشهد قرابينَ جَمَّةً*** تَعيث ضِباع فيهمُ وعَواسلُ»

وقُراب كل شيء: ما قارب الامتلاءَ.

وفي الحديث: (يقول الله تعالى: لو أتاني ابنُ آدم بقُراب الأرض خطايا تلقَّيتُه بقرابها مَغْفِرَةً ما لم يُشرك بي شيئًا).

والمَقْربة: القَرابة، هكذا قال أبو عُبيدة.

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


2-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (ورى)

(ورى) - قوله تبارك وتعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}

: أي استَتَرَت بِاللَّيْل، يَعني الشّمسَ، أَضمَرَهَا ولم يَجرِ لها ذِكْرٌ. والعَرَبُ تفعَلُ ذلك، إَذا كانَ في الكلام ما يَدُلّ عليه.

- وقوله تعالى: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ}

: أي وَلَدِ الوَلَدَ، ومنهم مَن يَجْعَلْهُ من المَهْمُوزِ.

- قوله تعالى: {التَّوْرَاةَ}

قيل: معناها الضِّياءُ والنُّورُ؛ من وَرَى الزَّنْدُ يَرِى؛ إذا خرجَت نَارُه.

- في حديث أبي طَالبٍ في تزويج خدِيجَةَ - رضي الله عنها - "نَفَخْتَ فَأوْرَيْتَ"

قال الحَربِيُّ: كان يَنْبغِى أن يقولَ: قَدَحْتَ فأَوْرَيْتَ والوارِى: الزَّنْدُ الذي يُورِى النّارَ سَرِيعًا.

ورجل وارِى الزِّنادِ: كَرِيمٌ.

- في حديث فَتْح أَصْبِهان: "تَبْعَثُ إلى أَهل البَصْرة فَيُوَرُّوا بِبَعْثٍ"

لعلَّه مِن قَولهمِ: وَرَّيْتُ النارَ تَوْرِيَةً: اسْتَخْرَجْتُها، واسْتَوْرَيْتُ فُلانًا رَأيًا: سَألتُهُ أن يَسْتَخرِجَ لى رأْيًا، ويَحتَمِل أن يكون مِن الحديث الآخر: "أنّه إذَا أراد سَفرًا ورَّى بغَيره".

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


3-المعجم الاشتقاقي المؤصل (فرض)

(فرض): {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]

الفُرْضة -بالضم- في القوس: الحَزّ الذي (في طرفه) يقع فيه الوَتَر، وفي الدَوَاة: موضع النِقْس منها، وفى النهر: ثُلْمَته التي يُسْتَقَى منها، وللبحر: مَحَطُّ السفن، ومن الباب: الخشبة التي تدور فيها رِجْله (الرِجْل هي الممتدّة من أحد جانبيه أعلى وأسفل ترتكز في الفُرضة)، ومن الجبل: ما انحدر من وسطه وجانبه. والفريض: السهم المفروض فُوقُهُ (الفُوقُ هو الحزّ الذي في كعب السهم) وكذلك فَرْضُ الزَنْد -بالفتح: حيث يُقدَح منه، وكذلك الفَرْضُ في القِدْح والسَيْر وغيرها: الحَزُّ.

° المعنى المحوري

قطع غائر (غير نافذ) في جرم غليظ (يرسخ فيه شيء): كما يَسْتقِرُّ الوَتَر والنِقْس في الفُرضة، وكثُلْمة البحر للسفن، والخشبة المنقورة لِرِجْل الباب (والحز في القوس والسهم والدواة والخشبة والزند مقدَّر بدقة، وفي البحر والنهر لا يجاوز حدًا معينًا وهو للسفن).

ومن معنى القطع في الحزّ وهو تحديد، أو مما يَثْبُت ويَرْسَخ فيه: "الفريضة: الحصة (القطعة) المفروضة (المثبتة) على إنسان بقدْر معلوم " (كالمَهْر) في قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُم} [البقرة: 237 وكذا ما في 236 منها وما في النساء: 24]. ومن ذلك: علم الفرائض أي ما فُرِضَ لكل وارث من الميراث: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]. ومن ذلك أيضًا: الفريضة: مقدار الزكاة في المال: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 60]. وقوله تعالى {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ

عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] (أي محُدَّدًا) فُسِّرَ ببعث النار من الآدميين [قر 5/ 388] كقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179]. {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] - (أي أوقعه وأدّاه فيهن، أو شرع فيه). [وانظر قر 2/ 406].

ومن الأصل يؤخذ فَرْضُ الشيء بمعنى إِلْزامه كما يرسخ الشيء الغليظ في الفُرْضَة. ويؤخذ أيضًا من القطع كأنما قطع ذلك المفروض ثم حمّله إياه (والعامة تقول: مقطوعية: للعمل المحدّد الذي يجب أن يؤدَّى). {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] مخففة بمعنى الإلزام بما فيها من أحكام، ومضعفة على معنى تكثير الفرائض أو على معنى التفصيل والبيان -من القطع- أو للتنجيم [قر 12/ 158]. ومن هذا معنى الشرع أي أن يَشْرع اللَّه تعالى شيئا لعباده، ويلحظ أن الشريعة إلى الماء قطع جزئي في الشاطيء فهي تشبه الفرض: الحزّ): {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2 ومثله ما في الأحزاب: 38، 50] وكذا (فريضة) في [النساء: 11، التوبة: 60].

وقوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ} [البقرة: 68] من: فَرَض الحيوان (جلس وكرم): كبِر وأسنّ (فالفارض تَعَمَّقت في الزمن وغارت كالشيء الداخل في فُرْضة، كما نقول طَعَن في السن، أو لبقائها طويلًا كذلك الشيء الراسخ في الفرضة) [وانظر قر 1/ 448].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


4-المعجم الاشتقاقي المؤصل (فصل)

(فصل): {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]

المَفْصِل - كمَجْلِس: كُلّ مُلْتَقَى عَظْمين من الجَسَد. والفَصْل -بالفتح: موضعه. وتَفْصِيل الجَزُور: تَعْضِيَتُه. والفاصلة: الخَرَزَة التي تفصل بين اللؤلؤتين أو نحوهما في النِظَام.

° المعنى المحوري

تميّز الشيء عن غيره مع تمامٍ أو ما هو من بابه: كتميّز كلٍّ من عُضْويَ المَفْصِل، وكلٍّ من أعضاء الجَزور، وفي تَفْصِل الخَرَزة بين اللؤلؤتين. ومنه "تفصيل الشيء: تبيينه/ جعْله فصولًا متمايزة " (تمييز أجزائه وتوضيح جزئياته). {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114]:

موضَّحًا مزال الإشكال، أو مفصلا أي مفرّقا على حسب المصالح ولم ينزله مجموعًا، أو مبيَّنَ الأحكام من النهي والأمر والحلال والحرام والضلال والرشد والوعد والوعيد، أو بالشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء [بحر 4/ 212 بتصرف وما قبل الأخير هو الأنسب]. {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] بتقطيعه (تنجيمه) وتبيين أحكلامه وأوامره على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته، أو فُصّل بها ما يحتاج إليه العباد أي بُيّن ولخص [بحر 5/ 201 بتصرف]. {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 154]، {بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف: 52] أي أحكامه أو آياته (ونجومه). وكل (فَصّلَ) للفاعل والمفعول ومضارعها و (تفصيل) و (مفصَّل) - وكلها منصبّة على الكتاب والآيات - لا يخرج معنى أيٍّ منها عن أيٍّ مما سبق. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} [الأعراف: 133]: متميزات الواحدة بعد الأخرى وواضحات.

ومنه: "فَصَلت المرأةُ وَلَدها: فَطَمته " (فاستقل عنها): {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وكذا ما في [لقمان: 14]، {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] الفصال هنا: الفطام قبل تمام الحولين إذا ظهر استغناؤه عن اللبن، فلابد من تراضيهما [بحر 2/ 227]. و "الفَصِيل من أولاد الإبل والبقر: ما فَصَل عن أمه وعن اللبن. وفَصَل مِنْ عندي وعَنْ البَلَد فصولًا: خرج ": {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} [يوسف: 94] أي خرجت من مصر عائدة إلى البدو - حيث كانوا يقيمون. {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة: 249] (انفصل من مكان إقامته بادئا المسير بجيشه).

و"فَصَل بين الخصمين: حَكَم " (فميّز بين المحق والمبطل وحدود كل منهما:

{إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17 ومثلها ما في الأنعام: 57، السجدة: 25، الممتحنة: 3]، {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 21]، (القضاء ومنه الحساب)، {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]: القضاء بين الناس بالحق، وإصابته وفهمه [بحر 7/ 374]، {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13]: فاصل بين الحق والباطل، كما قيل له: فُرقان. ويجوز أن يعود الضمير على الكلام الذي أخبر فيه ببعث الإنسان يوم القيامة وابتلاء سرائره، أي إن ذلك الكلام قول جزم مطابق للواقع لا هزل فيه [بحر 8/ 451]. {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 21] أي العِدَة بأن الفَصْل (التام) يكون في الآخرة (لا في الدنيا)، أي ولولا القضاء بذلك لقُضِيَ بين المؤمن والكافر أو بين المشركين وشركائهم (في الدنيا) [بحر 7/ 394]. وكل (يوم الفصل) في القرآن هو يوم القضاء أي يوم القيامة. "والفيصل: الحاكم ".

و"فصيلة الرجل: عشيرته ورهطه الأدنَوْن/ أقرب آبائه إليه كالعباس -رضي اللَّه عنه- يقال له فصيلة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "والمقصود بالفصيلة: (القِسْم) من القبيلة الذي ينتمي إليه الشخص أقربَ انتماء، ولذا وصف القرآن الفصيلة بالإيواء: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


5-المعجم العربي لأسماء الملابس (الشاش)

الشَّاش: الشاش: اسم ولاية في تركستان مشهورة بنسيجها وتُسمَّى أيضًا: جاج، وسُمِّيت فيما بعد: سمرقند الشاش. والشاش: ضرب من النسيج القطنى الأبيض، الذي يتميز برقته وجودته، يُلفَّ على الرأس؛ وبعد اللَّف يُسمَّى عمامة؛ وهو مولد؛ منقول من اللغة الهندية؛ منسوب إلى بلدة: شاش.

والشاش أيضًا قماش يوضع للجروح أو على العمائم، وتجمع على شاشات، وقد تُطلق على قماش الحطة

واستعمل أيضًا كنوع من زينة الحريم يوضع على الرأس ويزخرف بالذهب واللؤلؤ، وقد شاع استعماله في القرن الثامن الهجرى وبولغ كثيرًا بالإنفاق عليه.

وقد ورد ذكر الشاش كثيرًا في صبح الأعشى؛ كما ورد في كثير من أشعار المولَّدين؛ قال الشهاب الحجازى عفا اللَّه عنه:

«يا سيدًا أنعشنى فضله *** ببعث شاش أي إنعاش»

«فقهنى جودك في المدح إذ *** أخذت ذا الفقه عن الشاشى»

وقال النواجى:

«أهديت لي منك شاشًا لا أزال أرى *** به لك المنة العظمى على رأسى »

المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م


6-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (التغريب-فلسفات ولدت في كنف الحضارة الغربية ومتأثرة بالنصرانية)

التغريب

التعريف:

التغريب هو تيار فكري كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبْغ حياة الأمم بعامة، والمسلمين بخاصة، بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

بدأ المشرقيون في العالم الإسلامي مع نهاية القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر بتحديث جيوشهم وتعزيزها عن طريق إرسال بعثات إلى البلاد الأوروبية أو باستقدام الخبراء الغربيين للتدريس والتخطيط للنهضة الحديثة، وذلك لمواجهة تطلع الغربيين إلى بسط نفوذهم الاستعماري إثر بدء عهد النهضة الأوروبية.

لما قضى السلطان محمود الثاني على الإنكشارية العثمانية سنة 1826م أمر باتخاذ الزيِّ الأوروبي الذي فرضه على العسكريين والمدنيين على حد سواء.

أصدر السلطان العثماني عبد المجيد منشورًا 1255هـ/ 1839م يسمح فيه لغير المسلمين بأن يلتحقوا بالخدمة العسكرية.

استقدم السلطان سليم الثالث المهندسين من السويد وفرنسا والمجر وانجلترا وذلك لإنشاء المدارس الحربية والبحرية.

قام محمد علي والي مصر، والذي تولى سنة 1805م، ببناء جيش على النظام الأوروبي، كما عمد إلى ابتعاث خريجي الأزهر من أجل التخصص في أوروبا.

أنشأ أحمد باشا باي الأول في تونس جيشًا نظاميًا، وافتتح مدرسة للعلوم الحربية فيها ضباط وأساتذة فرنسيون وإيطاليون وإنجليز.

افتتحت أسرة القاجار التي حكمت إيران كلية للعلوم والفنون على أساس غربي سنة 1852م.

منذ عام 1860م بدأت حركة التغريب عملها في لبنان عن طريق الإرساليات، ومنها امتدت إلى مصر في ظل الخديوي إسماعيل الذي كان هدفه أن يجعل مصر قطعة من أوروبا.

التقى الخديوي إسماعيل في باريس مع السلطان العثماني عبد العزيز 1284هـ/1867م حينما لبَّيا دعوة الإمبراطور نابليون الثالث لحضور المعرض الفرنسي العام، وقد كانا يسيران في تيار الحضارة الغربية.

ابتعث كل من رفاعة الطهطاوي إلى باريس وأقام فيها خمس سنوات 1826 – 1831م وكذلك ابتعث خير الدين التونسي إليها وأقام فيها أربع سنوات 1852 – 1856م وقد عاد كل منهما محملًا بأفكار تدعو إلى تنظيم المجتمع على أساس علماني عقلاني.

منذ 1830م بدأ المبتعثون العائدون من أوروبا بترجمة كتب فولتير وروسو ومونتسكيو في محاولة منهم لنشر الفكر الأوروبي الذي ثار ضد الدين الذي ظهر في القرن الثامن عشر (على النحو الذي فصلنا، في مادة العلمانية).

أنشأ كرومر كلية فيكتوريا بالإسكندرية لتربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط إنجليزي ليكونوا أداة المستقبل في نقل ونشر الحضارة الغربية.

- قال اللورد لويد (المندوب السامي البريطاني في مصر) حينما افتتح هذه الكلية سنة 1936م: "كل هؤلاء لن يمضي عليهم وقت طويل حتى يتشبعوا بوجهة النظر البريطانية بفضل العشرة الوثيقة بين المعلمين والتلاميذ".

كان نصارى الشام من أول من اتصل بالبعثات التبشيرية وبالإرساليات ومن المسارعين بتلقي الثقافة الفرنسية والإنجليزية، كما كانوا يشجعون العلمانية التحررية وذلك لعدم إحساسهم بالولاء تجاه الدولة العثمانية، فبالغوا من اظهار إعجابهم بالغرب ودعوا إلى الاقتداء به وتتبع طريقه، وقد ظهر ذلك جليًا في الصحف التي أسسوها وعملوا فيها.

كان ناصيف اليازجي 1800 – 1871م وابنه إبراهيم اليازجي 1847-1906م على صلة وثيقة بالإرساليات الأمريكية الإنجيلية.

أسس بطرس البستاني 1819 – 1883م في عام 1863م مدرسة لتدريس اللغة العربية والعلوم الحديثة فكان بذلك أول نصراني يدعو إلى العروبة والوطنية إذ كان شعاره "حب الوطن من الإيمان"، كما أصدر صحيفة الجنان سنة 1870م التي استمرت ستة عشرة سنة. وقد تولى منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت مشاركًا في الترجمة البروتستانتية للتوراة مع الأمريكيَيْن سميث وفانديك.

أنشأ جورجي زيدان 1861 – 1914م مجلة الهلال في مصر وذلك في سنة 1892م، وقد كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان، كما كانت له سلسلة من القصص التاريخية التي حشاها بالافتراءات على الإسلام والمسلمين.

أسس سليم تقلا صحيفة الأهرام في مصر وقد سبق له أن تلقى علومه في مدرسة عربية بلبنان والتي أنشأها المبشر الأمريكي فانديك.

أصدر سليم النقاش صحيفة المقتطف التي عاشت ثمانية أعوام في لبنان انتقلت بعدها إلى مصر في سنة 1884م.

تجوَّل جمال الدين الأفغاني 1838-1897م كثيرًا في العالم الإسلامي شرقًا وغربًا، وقد أدخل نظام الجمعيات السرية في العصر الحديث إلى مصر، كما يقال بأنه انضم إلى المحافل الماسونية، وكان على صلة بالمستر بلنت البريطاني.

كان الشيخ محمد عبده 1849-1905م من أبرز تلاميذ الأفغاني، وشريكه في إنشاء مجلة العروة الوثقى، وكانت له صداقة مع اللورد كرومر والمستر بلنت، ولقد كانت مدرسته – ومنها رشيد رضا – تدعو إلى مهاجمة التقاليد، كما ظهرت لهم فتاوى تعتمد على أقصى ما تسمح به النصوص من تأويل بغية إظهار الإسلام بمظهر المتقبل لحضارة الغرب، كما دعا الشيخ محمد عبده إلى إدخال العلوم العصرية إلى الأزهر لتطويره وتحديثه.

كان المستشرق مستر بلنت: يطوف هو وزوجته مرتديًا الزي العربي، داعيًا إلى القومية العربية وإلى إنشاء خلافة عربية بغية تحطيم الرابطة الإسلامية.

قاد قاسم أمين 1865 – 1908م وهو تلميذ محمد عبده، الدعوة إلى تحرير المرأة وتمكينها من العمل في الوظائف والأعمال العامة. وقد كتب تحرير المرأة – 1899م والمرأة الجديدة 1900م.

كان سعد زغلول: الذي صار وزيرًا للمعارف سنة 1906م شديد التأثر بآراء محمد عبده، وقد نفذ فكرة كرومر القديمة والداعية إلى إنشاء مدرسة للقضاء الشرعي بقصد تطوير الفكر الإسلامي من خلال مؤسسة غير أزهرية منافسة له.

كان أحمد لطفي السيد 1872 – 1963م: من أكبر مؤسسي حزب الأحرار الدستوريين الذين انشقوا عن سعد زغلول سياسيًا، وكان يدعو إلى الإقليمية الضيقة وهو صاحب العبارة المشهورة التي أطلقها عام 1907م وهي "مصر للمصريين". وقد تولى شؤون الجامعة المصرية منذ تسلمتها الحكومة المصرية عام 1916م وحتى 1941م تقريبًا.

وكان طه حسين 1889- 1973م من أبرز دعاة التغريب في العالم الإسلامي، حيث تلقى علومه على يد المستشرق دور كايم وقد نشر أخطر آرائه في كتابيه الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر.

- يقول في كتابه الشعر الجاهلي ص 26: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا أيضًا، ولكن ورود هذين الأسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي".

- ويقول بعد ذلك: "وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح". كما أنه ينفي فيه نسب النبي r إلى أشراف قريش.

- لقد بدأ طه حسين محاضرة له في اللغة والأدب بحمد الله والصلاة على نبيه ثم قال: "سيضحك مني بعض الحاضرين إذا سمعني أبدأ هذه المحاضرة بحمد الله والصلاة على نبيه لأن ذلك يخالف عادة العصر". (مجلة الهلال، عدد أكتوبر ونوفمبر 1911م).

ازدهرت حركة التغريب بعد سيطرة الاتحاديين عام 1908م على الحكم في الدولة العثمانية وسقوط السلطان عبد الحميد.

وفي سنة 1924م ألغت حكومة مصطفى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية مما مهد لانضمام تركيا إلى الركب العلماني الحديث، وفرض عليها التغريب بأقصى صورة وأعنفها.

علي عبدالرزاق: نشر سنة 1925م كتابه الإسلام وأصول الحكم الذي ترجم إلى الإنجليزية والأردية. يحاول فيه المؤلف أن يقنع القارىء بأن الإسلام دين فقط وليس دينًا ودولة. وقد ضرب سميث مثلًا به عندما أشار إلى أن التحررية العلمانية والعالمية لا تروج في العالم الإسلامي إلا إذا فسرت تفسيرًا إسلاميًا مقبولًا، وقد حوكم الكتاب والمؤلف من قبل هيئة العلماء بالأزهر في 12/8/1925م وصدرت ضده إدانة أخرجته من زمرة العلماء. وكان يشرف على مجلة الرابطة الشرقية، كما أقام حفل تكريم لأرنست رينان في الجامعة المصرية بمناسبة مرور مائة سنة على وفاة هذا المستشرق الذي لم يدخر وسعًا في مهاجمة العرب والمسلمين.

وكان محمود عزمي من أكبر دعاة الفرعونية في مصر، درس على أستاذه دور كايم الذي كان يقول له: "إذا ذكرت الاقتصاد فلا تذكر الشريعة، وإذا ذكرت الشريعة فلا تذكر الاقتصاد".

وسبق أن قدم منصور فهمي 1886-1959م: أول أطروحة للدكتوراه على أستاذه ليفي بريل مهاجمًا نظام الزواج في الإسلام التي موضوعها حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها. وفي هذه الرسالة يقول: "محمد يشرع لجميع الناس ويستثني نفسه" ويقول: "إلا أنه أعفى نفسه من المهر والشهود"، لكنه انتقد بعد ذلك حركة التغريب في سنة 1915م وجاهر بآرائه في الأخطاء التي حملها طه حسين ومدرسته.

ويعتبر إسماعيل مظهر من أئمة مدرسة التغريب لكنه لم يلبث أن تحول عنها إبان عصر النهضة الحديثة.

وكان زكي مبارك في مقدمة تلاميذ طه حسين. درس على أيدي المستشرقين، وسبق له أن قدم أطروحة للدكتوراه في الغزالي والمأمون مهاجمًا الغزالي هجومًا عنيفًا، لكنه رجع عن ذلك فيما بعد وكتب مقاله المعروف إليك أعتذر أيها الغزالي.

ويعتبر محمد حسين هيكل 1888 – 1956م رئيس تحرير جريدة السياسة في الفترة الأولى من حياته من أبرز المستغربين، وقد أنكر الإسراء بالروح والجسد معًا انطلاقًا من نظرة عقلانية حياة محمد. لكنه عدل عن ذلك وكتب معبرًا عن توجهه الجديد في مقدمة كتابه في منزل الوحي.

وكان الشيخ أمين الخولي وهو من مدرسي مادتي التفسير والبلاغة بالجامعة المصرية، يروج لأفكار طه حسين في الدعوة إلى دراسة القرآن دراسة فنية بغض النظر عن مكانته الدينية، وقد استمر في ذلك حتى كشفه الشيخ محمود شلتوت سنة 1947م.

وقاد شلبي شميل 1860 – 1917م الدعوة إلى العلمانية ومهاجمة قيم الأديان والأخلاق.

الأفكار والمعتقدات:

أفكار تغريبية:

- المستشرق الإنجليزي جب ألف كتاب إلى أين يتجه الإسلام الذي يقول فيه: "من أهم مظاهر سياسة التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة". وقد أعلن في بحثه هذا صراحة أن هدفه معرفة" إلى أي مدى وصلت حركة تغريب الشرق وما هي العوامل التي تحول

- عندما دخل اللورد اللنبي القدس عام 1918م أعلن قائلًا: "الآن انتهت الحروب الصليبية".

- يقول لورنس براون: "إن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع وفي حيويته. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الغربي". ولهذا فلابد من الدعوة إلى أن يطبع العالم الإسلامي بطابع الغرب الحضاري.

- تشجيع فكرة إيجاد فكر إسلامي متطور يبرر الأنماط الغربية ومحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية بغية إيجاد علائق مستقرة بين الغرب وبين العالم الإسلامي خدمة لمصالحه.

- الدعوة إلى الوطنية ودراسة التاريخ القديم والدعوة إلى الحرية باعتبارها أساس نهضة الأمة مع عرض النظم الاقتصادية الغربية عرضًا مصحوبًا بالإعجاب، وتكرار الكلام حول تعدد الزوجات في الإسلام وتحديد الطلاق واختلاط الجنسين.

- نشر فكرة العالمية والإنسانية التي يزعم أصحابها بأن ذلك هو السبيل إلى جمع الناس على مذهب واحد تزول معه الخلافات الدينية والعنصرية لإحلال السلام في العالم، ولتصبح الأرض وطنًا واحدًا يدين بدين واحد ويتكلم بلغة واحدة وثقافة مشتركة، بغية تذويب الفكر الإسلامي

- إن نشر الفكر القومي كان خطوة على طريق التغريب في القرن التاسع عشر وقد انتقل من أوروبا إلى العرب والإيرانيين والترك والأندونيسيين والهنود، بغية تمزيق الكتل الكبيرة إلى كيانات جزئية تقوم على رابط جغرافي يجمع أناسًا ينتمون إلى أصول عرقية مشتركة.

- تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة، يقول المستشرق جب: "وقد كان من أهم مظاهر سياسية التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن… وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العد

- عرض روكفلر الصهيوني المتعصب تبرعه بعشرة ملايين دولار لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر وملحق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن.

- إن كلًا من الاستعمار، والاستشراق، والشيوعية، والماسونية وفروعها، والصهيونية، ودعاة التوفيق بين الأديان" وحدة الأديان"، قد تآزروا جميعًا في دعم حركة التغريب وتأييدها بهدف تطويق العالم الإسلامي وتطويعه ليكون أداة لينة بأيديهم.

- نشر المذاهب الهدامة كالفرويدية، والداروينية، والماركسية، والقول بتطور الأخلاق (ليفي بريل) وبتطور المجتمع (دور كايم) والتركيز على الفكر الوجودي والعلماني، والتحرري، والدراسات عن التصوف الإسلامي، والدعوة إلى القومية والأقليمية والوطنية، والفصل بين الدين و

- اعتبار القرآن فيضًا من العقل الباطن مع الإشادة بعبقرية النبي محمد r وألمعيته وصفاء ذهنه ووصف ذلك بالإشراق الروحي تمهيدًا لإزالة صفة النبوة عنه.

مؤتمرات تغريبية:

- عقد مؤتمر في بلتيمور عام 1942م وهو يدعو إلى دراسة وابتعاث الحركات السرية في الإسلام.

- في عام 1947م عقد في جامعة برنستون بأمريكا مؤتمر لدراسة (الشؤون الثقافية والاجتماعية في الشرق الأدنى) وقد ترجمت بحوث هذا المؤتمر إلى العربية تحت رقم 116 من مشروع الألف كتاب في مصر. شارك فيه كويلر يونغ وحبيب كوراني وعبد الحق أديوار ولويس توماس.

- عقد مؤتمر (الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة) في صيف عام 1953م في جامعة برنستون وشارك فيه كبار المفكرين من مثل ميل بروز، وهارولد سميث، وروفائيل باتاي، وهارولد ألن، وجون كرسويل، والشيخ مصطفى الزرقا، وكنت كراج، واشتياق حسين، وفضل الرحمن الهندي.

- وفي عام 1955م عقد في لاهور بالباكستان مؤتمر ثالث لكنه فشل وظهرت خطتهم بمحاولتهم إشراك باحثين من المسلمين والمستشرقين في توجيه الدراسات الإسلامية.

- انعقد مؤتمر للتأليف بين الإسلام والمسيحية في بيروت 1953م، ثم في الاسكندرية 1954م وتتالت بعد ذلك اللقاءات والمؤتمرات في روما وغيرها من البلدان لنفس الغرض.

- في سبتمبر 1994م عقد بالقاهرة مؤتمر السكان والتنمية بهدف نشر أفكار التحلل الجنسي "الغربية" بين المسلمين – من إتاحة للاتصالات غير المشروعة بين المراهقين والإجهاض والزواج الحر والسفاح والتدريب على موانع الحمل، وقد أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية ا

كتب تغريبية خطرة:

- الإسلام في العصر الحديث لمؤلفه ولفرد كانتول سميث مدير معهد الدراسات الإسلامية وأستاذ الدين المقارن في جامعة ماكجيل بكندا، حصل على الدكتوراه من جامعة برنستون سنة 1948م تحت إشراف المستشرق هـ. أ.ر. جب الذي تتلمذ عليه في جامعة كمبريدج وهذا الكتاب يدعو إلى ا

- نشر هـ.أ.ر. جب كتابه إلى أين يتجه الإسلام؟ Whither Islam? الذي نشر بلبنان سنة 1932م كان قد ألفه مع جماعة من المستشرقين، وهو يبحث في أسباب تعثر عملية التغريب في العالم الإسلامي ووسائل تقدمها وتطورها.

- إن بروتوكولات حكماء صهيون التي ظهرت في العالم كله عام 1902م ظلت ممنوعة من الدخول إلى الشرق الأوسط والعالم الإسلامي حتى عام 1952م تقريبًا أي إلى ما بعد قيام إسرائيل في قلب الأمة العربية والإسلامية. ولا شك بأن منعها كان خدمة لحركة التغريب عمومًا.

- تصوير بعض الشخصيات الإسلامية في صور من الابتذال والعهر والمزاجية كما في كتب جورجي زيدان، وكذلك تلك الكتب التي تضيف الأساطير القديمة إلى التاريخ الإسلامي علىهامش السيرة لطه حسين والكتب التي تعتمد على المصادر غير الموثوقة مثل محمد رسول الحرية للشرقاوي وكت

الجذور الفكرية والعقائدية:

لقد ارتدت الحملة الصليبية مهزومة بعد حطين، وفتح العثمانيون عاصمة الدولة البيزنطية ومقر كنيستهم عام 1453م واتخذوها عاصمة لهم وغيروا اسمها إلى اسلامبول أي دار الإسلام، كما أن جيوش العثمانيين قد وصلت أوروبا وهددت فيينا سنة 1529م وقد ظل هذا التهديد قائمًا حتى سنة 1683م. وسبق ذلك كله سقوط الأندلس وجعلها مقرًا للخلافة الأموية، كل ذلك كان مدعاة للتفكير بالتغريب، والتبشير فرع منه، ليكون السلاح الذي يحطم العالم الإسلامي من داخله.

إن التغريب هجمة نصرانية، صهيونية، استعمارية، في آن واحد، التقت على هدف مشترك بينها وهو طبع العالم الإسلامي بالطابع الغربي تمهيدًا لمحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية.

الانتشار ومواقع النفوذ:

لقد استطاعت حركة التغريب أن تتغلغل في كل بلاد العالم الإسلامي، وإلى كل البلاد المشرقية على أمل بسط بصمات الحضارة الغربية المادية الحديثة على هذه البلاد وربطها بالغرب فكرًا وسلوكًا.

لقد تفاوت تأثير حركة التغريب إذ أنه قد ظهر بوضوح في مصر، وبلاد الشام، وتركيا، وأندونيسيا والمغرب العربي، وتتدرج بعد ذلك في البلاد الإسلامية الأقل فالأقل، ولم يخل بلد إسلامي أو مشرقي من آثار وبصمات هذه الحركة.

ويتضح مما سبق:

أن التغريب تيار مشبوه يهدف إلى نقض عرى الإسلام والتحلل من التزاماته وقيمه واستقلاليته، والدعوة إلى التبعية للغرب في كل توجهاته وممارساته. ومن واجب قادة الفكر الإسلامي كشف مخططاته والوقوف بصلابة أمام سمومه ومفترياته، التي تبثها الآن، شخصيات مسلمة، وصحافة ذات باع طويل في محاولات التغريب، وأجهزة وثيقة الصلة بالصهيونية العالمية والماسونية الدولية. وقد استطاع هذا التيار استقطاب كثير من المفكرين العرب، فمسخوا هويتهم، وحاولوا قطع صلتهم بدينهم، والذهاب بولائهم وانتمائهم لأمتهم الإسلامية، من خلال موالاة الغرب والزهو بكل ما هو غربي، وهي أمور ذات خطر عظيم على الشباب المسلم.

مراجع للتوسع:

- حصوننا مهددة من داخلها، د. محمد محمد حسين – مؤسسة الرسالة – بيروت – ط 7 – 1402هـ/ 1982م.

- العالم الإسلامي والمكائد الدولية خلال القرن الرابع عشر الهجري، فتحي يكن- مؤسسة الرسالة – بيروت – ط2- 1403هـ/1983م.

- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، د. محمد محمد حسين – دار الإرشاد – بيروت – طبعة عام 1389هـ/1970م.

- الإسلام والحضارة الغربية، د. محمد محمد حسين – مؤسسة الرسالة – بيروت 54 – 1402هـ/ 1982م.

- شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، أنور الجندي- المكتب الإسلامي – بيروت – طبعة عام 1398هـ/ 1978م.

- يقظة الفكر العربي، أنور الجندي – مطبعة زهران – القاهرة – 1972م.

- تحرير المرأة، قاسم أمين – ط2 – مطبعة روز اليوسف – 1941م.

- زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين – ط1 – نشر مكتبة النهضة المصرية – 1948م.

- تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، الدكتورة نفوسة زكريا – دار الثقافة بالإسكندرية – 1393هـ/ 1964م.

- حاضر العالم الإسلامي، لوثروب ستودارد – ترجمة عجاج نويهض وتعليق شكيب أرسلان – مصر 1343هـ/ 1925م.

- الغارة على العالم الإسلامي، أ.ل. شاتليه – ترجمة مساعد اليافي ومحب الدين الخطيب – مصر 1350هـ.

- مستقبل الثقافة في مصر، طه حسين – مصر – 1944م.

- اليوم والغد، سلامة موسى – مصر – 1927م.

- إلى أين يتجه الإسلام، هـ.أ.ر. جب – ط لبنان – 1932م.

المراجع الأجنبية:

- Islam in Modern History W.C.Smith, Princeton University Press New Jersy 1957.

- Whither Islam?: H.A.r. Gibb. London 1932.

- Arabic Thought in the Liberal Age: A. Hourani, Oxford 1962.

- Egypt Since Cromer: Lord Loyd, London 1933.

- Modern Egypt The Earl of Cromer: London 1911.

- Great Britain Egypt (F.W. Polson Newmen 1928).

- reports by His Majesty’s Agent and Consul General on the Finances.

- Administration and Condition of Egypt and The Sudan.

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


7-موسوعة الفقه الكويتية (إحصار 2)

إِحْصَارٌ -2

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّحَلُّلِ:

32- الْمُحْصَرُ كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّحَلُّلِ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ عَنِ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ لَبَقِيَ مُحْرِمًا لَا يَحِلُّ لَهُ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ إِلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ، وَفِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْإِحْرَامِ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَالْحَرَجِ.

وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِحْصَارُ عَنِ الْحَجِّ، أَوْ عَنِ الْعُمْرَةِ، أَوْ عَنْهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ الْمُحْصَرُ

33- الْإِحْصَارُ بِحَسَبِ إِطْلَاقِ الْإِحْرَامِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ أَوْ تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ نَوْعَانِ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْإِحْصَارُ فِي الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْمُحْرِمُ لِنَفْسِهِ حَقَّ التَّحَلُّلِ إِذَا طَرَأَ لَهُ مَانِعٌ.النَّوْعُ الثَّانِي: الْإِحْصَارُ فِي الْإِحْرَامِ الَّذِي اشْتَرَطَ فِيهِ الْمُحْرِمُ التَّحَلُّلَ.

التَّحَلُّلُ بِالْإِحْصَارِ فِي الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ

34- يَنْقَسِمُ هَذَا الْإِحْصَارُ إِلَى قِسْمَيْنِ، حَسْبَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنَ الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْإِحْصَارُ بِمَانِعٍ حَقِيقِيٍّ، أَوْ شَرْعِيٍّ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لَا دَخْلَ لِحَقِّ الْعَبْدِ فِيهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الْإِحْصَارُ بِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ لِحَقِّ الْعَبْدِ لَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَدْ وَجَدْتُ نَتِيجَةَ التَّقْسِيمِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ مُطَابِقَةً لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ إِجْمَالًا، فِيمَا اتَّفَقُوا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ إِحْصَارًا.

كَيْفِيَّةُ تَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ

أَوَّلًا: نِيَّةُ التَّحَلُّلِ:

35- إِنَّ مَبْدَأَ نِيَّةِ التَّحَلُّلِ بِالْمَعْنَى الْوَاسِعِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَشَرْطٍ لِتَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ مِنْ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ:

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ شَرَطُوا نِيَّةَ التَّحَلُّلِ عِنْدَ ذَبْحِ الْهَدْيِ، بِأَنْ يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ بِذَبْحِهِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّحَلُّلِ وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْوِيَ لِيُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَحْلِقَ؛ وَلِأَنَّ مَنْ أَتَى بِأَفْعَالِ النُّسُكِ فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَيَحِلُّ مِنْهَا بِإِكْمَالِهَا، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نِيَّةٍ، بِخِلَافِ الْمَحْصُورِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنَ الْعِبَادَةِ قَبْلَ إِكْمَالِهَا، فَافْتَقَرَ إِلَى قَصْدِهِ.

كَذَلِكَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّحَلُّلِ عِنْدَ الْحَلْقِ، بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ لِحُصُولِ التَّحَلُّلِ، كَمَا سَيَأْتِي (ف..) وَذَلِكَ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى شَرْطِيَّةِ النِّيَّةِ عِنْدَ ذَبْحِ الْهَدْيِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: نِيَّةُ التَّحَلُّلِ وَحْدَهَا هِيَ رُكْنُ التَّحَلُّلِ فَقَطْ، بِالنِّسْبَةِ لِتَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، أَوِ الْفِتْنَةِ، أَوِ الْحَبْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ.هَؤُلَاءِ يَتَحَلَّلُونَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّيَّةِ فَحَسْبُ، وَلَا يُغْنِي عَنْهَا غَيْرُهَا، حَتَّى لَوْ نَحَرَ الْهَدْيَ وَحَلَقَ وَلَمْ يَنْوِ التَّحَلُّلَ لَمْ يَتَحَلَّلْ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: «إِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ، وَكَذَا إِذَا كَانَ مُحْرِمًا بِهِمَا، وَأَرَادَ التَّحَلُّلَ- بِخِلَافِ مَنْ أَرَادَ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى حَالِهِ، مُنْتَظِرًا زَوَالَ إِحْصَارِهِ- يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ..إِلَخْ» فَقَدْ عَلَّقُوا التَّحَلُّلَ بِبَعْثِ الْهَدْيِ وَذَبْحِهِ عَلَى إِرَادَةِ التَّحَلُّلِ، وَاحْتَرَزُوا عَمَّنْ أَرَادَ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى حَالِهِ.فَلَوْ بَعَثَ هَدْيًا، وَهُوَ مُرِيدُ الِانْتِظَارِ لَا يَحِلُّ بِذَبْحِ الْهَدْيِ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهِ التَّحَلُّلَ.

ثَانِيًا: ذَبْحُ الْهَدْيِ:

تَعْرِيفُ الْهَدْيِ:

36- الْهَدْيُ مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ.

لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا وَفِي أَبْحَاثِ الْحَجِّ خَاصَّةً: مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْمَاعِزِ خَاصَّةً.

حُكْمُ ذَبْحِ الْهَدْيِ لِتَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ:

36 م- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ ذَبْحِ الْهَدْيِ عَلَى الْمُحْصَرِ، لِكَيْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ بَعَثَ بِهِ وَاشْتَرَاهُ، لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يُذْبَحْ.

وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ يَتَحَلَّلُ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَبْحُ الْهَدْيِ، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ شَرْطًا.

اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} عَلَى مَا سَبَقَ.

وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ أَيْضًا بِالسُّنَّةِ: «بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَحِلَّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَحْلِقْ رَأْسَهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ»، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ إِحْلَالِ الْمُحْصَرِ ذَبْحَ هَدْيٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ.

وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ وَدَلِيلُهُمْ فَهُوَ دَلِيلٌ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ تَحَلُّلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، عَارٍ مِنَ التَّفْرِيطِ وَإِدْخَالِ النَّقْصِ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ هَدْيٌ، أَصْلُ ذَلِكَ إِذَا أَكْمَلَ حَجَّهُ.

مَا يُجْزِئُ مِنَ الْهَدْيِ فِي الْإِحْصَارِ:

37- يُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ الشَّاةُ عَنْ وَاحِدٍ، وَكَذَا الْمَاعِزُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الْبَدَنَةُ وَهِيَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، فَتَكْفِي عَنْ سَبْعَةٍ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: هَدْيٌ).

مَا يَجِبُ مِنَ الْهَدْيِ عَلَى الْمُحْصَرِ:

38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مُفْرَدَةً، أَوِ الْحَجِّ مُفْرَدًا، إِذَا أُحْصِرَ يَلْزَمُهُ ذَبْحُ هَدْيٍ وَاحِدٍ لِلتَّحَلُّلِ مِنْ إِحْرَامِهِ.

أَمَّا الْقَارِنُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْهَدْيِ لِلتَّحَلُّلِ بِالْإِحْصَارِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحِلُّ بِدَمٍ وَاحِدٍ، حَيْثُ أَطْلَقُوا وُجُوبَ هَدْيٍ عَلَى الْمُحْصَرِ دُونَ تَفْصِيلٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إِلاَّ بِدَمَيْنِ يَذْبَحُهُمَا فِي الْحَرَمِ.

وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هُوَ اخْتِلَافُ الْفَرِيقَيْنِ فِي حَقِيقَةِ إِحْرَامِ الْقَارِنِ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ إِحْرَامٌ).

فَالشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ: الْقَارِنُ عِنْدَهُمْ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ يُجْزِئُ عَنِ الْإِحْرَامَيْنِ: إِحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، لِذَلِكَ قَالُوا: يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَقْرُونَيْنِ، فَأَلْزَمُوهُ إِذَا أُحْصِرَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْقَارِنُ عِنْدَهُمْ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ: إِحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، لِذَلِكَ أَلْزَمُوهُ بِطَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، فَأَلْزَمُوهُ إِذَا أُحْصِرَ بِهَدْيَيْنِ.وَقَالُوا: الْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ مُبَيَّنَيْنِ، هَذَا لِإِحْصَارِ الْحَجِّ، وَهَذَا لِإِحْصَارِ الْعُمْرَةِ، كَمَا أَلْزَمُوهُ فِي جِنَايَاتِ الْإِحْرَامِ عَلَى الْقِرَانِ الَّتِي يَلْزَمُ فِيهَا الْمُفْرِدَ دَمٌ أَلْزَمُوا الْقَارِنَ بِدَمَيْنِ، وَكَذَا الصَّدَقَةُ.

مَكَانُ ذَبْحِ هَدْيِ الْإِحْصَارِ:

39- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ يَذْبَحُ الْهَدْيَ حَيْثُ أُحْصِرَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ ذَبَحَهُ فِي مَكَانِهِ.حَتَّى لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَأَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إِلَى الْحَرَمِ فَذَبَحَهُ فِي مَوْضِعِهِ أَجْزَأَهُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْمَذْهَبَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- إِلَى أَنَّ ذَبْحَ هَدْيِ الْإِحْصَارِ مُؤَقَّتٌ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْحَرَمُ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُحْصَرُ أَنْ يَتَحَلَّلَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ إِلَى الْحَرَمِ فَيُذْبَحَ بِتَوْكِيلِهِ نِيَابَةً عَنْهُ فِي الْحَرَمِ، أَوْ يَبْعَثَ ثَمَنَ الْهَدْيِ لِيُشْتَرَى بِهِ الْهَدْيُ وَيُذْبَحَ عَنْهُ فِي الْحَرَمِ.ثُمَّ لَا يَحِلُّ بِبَعْثِ الْهَدْيِ وَلَا بِوُصُولِهِ إِلَى الْحَرَمِ، حَتَّى يُذْبَحَ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ ذُبِحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنَ الْإِحْرَامِ، بَلْ هُوَ مُحْرِمٌ عَلَى حَالِهِ.وَيَتَوَاعَدُ مَعَ مَنْ يَبْعَثُ مَعَهُ الْهَدْيَ عَلَى وَقْتٍ يَذْبَحُ فِيهِ لِيَتَحَلَّلَ بَعْدَهُ.وَإِذَا تَبَيَّنَ لِلْمُحْصَرِ أَنَّ الْهَدْيَ ذُبِحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَلَا يُجْزِي.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الذَّبْحِ فِي أَطْرَافِ الْحَرَمِ فَفِيهِ وَجْهَانِ.

اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ نَحَرَ هَدْيَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أُحْصِرَ، وَهِيَ مِنَ الْحِلِّ.بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}.

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى حِكْمَةِ تَشْرِيعِ التَّحَلُّلِ مِنَ التَّسْهِيلِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ، كَمَا قَالَ فِي الْمُغْنِي.«لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَعَذُّرِ الْحِلِّ، لِتَعَذُّرِ وُصُولِ الْهَدْيِ إِلَى الْحَرَمِ» أَيْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الِاشْتِرَاطِ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى تَوْقِيتِ ذَبْحِ الْهَدْيِ بِالْحَرَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}.

وَتَوْجِيهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: التَّعْبِيرُ بِ «الْهَدْيِ».الثَّانِي: الْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ «مَحِلَّهُ» بِأَنَّهُ الْحَرَمُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى دِمَاءِ الْقُرُبَاتِ، لِأَنَّ الْإِحْصَارَ دَمُ قُرْبَةٍ، وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إِلاَّ فِي زَمَانٍ، أَوْ مَكَانٍ، فَلَا يَقَعُ قُرْبَةً دُونَهُ.أَيْ دُونَ تَوْقِيتٍ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ، وَالزَّمَانُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، فَتَعَيَّنَ التَّوْقِيتُ بِالْمَكَانِ.

زَمَانُ ذَبْحِ هَدْيِ الْإِحْصَارِ:

40- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ- عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِ- إِلَى أَنَّ زَمَانَ ذَبْحِ الْهَدْيِ هُوَ مُطْلَقُ الْوَقْتِ، لَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، بَلْ أَيُّ وَقْتٍ شَاءَ الْمُحْصَرُ ذَبْحَ هَدْيِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْصَارُ عَنِ الْحَجِّ أَوْ عَنِ الْعُمْرَةِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إِلاَّ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ الثَّلَاثَةِ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ.

اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.فَقَدْ ذَكَرَ الْهَدْيَ فِي الْآيَةِ مُطْلَقًا عَنِ التَّوْقِيتِ بِزَمَانٍ، وَتَقْيِيدُهُ بِالزَّمَانِ نَسْخٌ أَوْ تَخْصِيصٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ الْقَطْعِيِّ فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَلَا دَلِيلَ.

وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِأَنَّ هَذَا دَمٌ يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ، فَيَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ فِي الْحَجِّ.وَرُبَّمَا يَعْتَبِرَانِهِ بِدَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ فَيَقِيسَانِهِ عَلَيْهِ، حَيْثُ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُذْبَحَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَسْتَطِيعُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مَتَى تَحَقَّقَ إِحْصَارُهُ بِذَبْحِ الْهَدْيِ، دُونَ مَشَقَّةِ الِانْتِظَارِ.

أَمَّا عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ: فَلَا يَحِلُّ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ، وَلَا يُذْبَحُ الْهَدْيُ عِنْدَهُمَا إِلاَّ أَيَّامَ النَّحْرِ.

الْعَجْزُ عَنِ الْهَدْيِ:

41- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْهَدْيِ فَلَهُ بَدَلٌ يَحِلُّ مَحَلَّ الْهَدْيِ، وَفِي تَعْيِينِ هَذَا الْبَدَلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ: أَنَّ بَدَلَ الْهَدْيِ طَعَامٌ تُقَوَّمُ بِهِ الشَّاةُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ قِيمَةِ الطَّعَامِ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، لَكِنَّهُ قَالَ: يَصُومُ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا.

ثُمَّ إِذَا انْتَقَلَ إِلَى الصِّيَامِ فَلَهُ التَّحَلُّلُ فِي الْحَالِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالْحَلْقِ وَالنِّيَّةُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ يَطُولُ انْتِظَارُهُ، فَتَعْظُمُ الْمَشَقَّةُ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْإِحْرَامِ إِلَى فَرَاغِهِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: بَدَلُ الْهَدْيِ الطَّعَامُ فَقَطْ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ أَنْ يُقَوَّمَ كَمَا سَبَقَ.الثَّانِي أَنَّهُ ثَلَاثُ آصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ، مِثْلُ كَفَّارَةِ جِنَايَةِ الْحَلْقِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ بَدَلَ الدَّمِ الصَّوْمُ فَقَطْ.وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ كَصَوْمِ التَّمَتُّعِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ لَا بَدَلَ لِلْهَدْيِ.فَإِنْ عَجَزَ الْمُنْحَصِرُ عَنِ الْهَدْيِ بِأَنْ لَمْ يَجِدْهُ، أَوْ لَمْ يَجِدْ ثَمَنَهُ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَبْعَثُ مَعَهُ الْهَدْيَ إِلَى الْحَرَمِ بَقِيَ مُحْرِمًا أَبَدًا، لَا يَحِلُّ بِالصَّوْمِ، وَلَا بِالصَّدَقَةِ، وَلَيْسَا بِبَدَلٍ عَنْ هَدْيِ الْمُحْصَرِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَجِبُ الْهَدْيُ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى الْمُحْصَرِ عِنْدَهُمْ، فَلَا بَحْثَ فِي بَدَلِهِ عِنْدَهُمْ.

اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَائِلُونَ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْبَدَلِ لِمَنْ عَجَزَ عَنِ الْهَدْيِ بِالْقِيَاسِ، وَوَجْهُهُ «أَنَّهُ دَمٌ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِإِحْرَامٍ، فَكَانَ لَهُ بَدَلٌ، كَدَمِ التَّمَتُّعِ».

وَقَاسُوهُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فَإِنَّ لَهَا بَدَلًا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا (ر: إِحْرَامٌ).

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}.

وَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَةِ كَمَا قَالَ فِي الْبَدَائِعِ «نَهَى اللَّهُ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ مَمْدُودًا إِلَى غَايَةِ ذَبْحِ الْهَدْيِ، وَالْحُكْمُ الْمُدَوَّدُ إِلَى غَايَةٍ لَا يَنْتَهِي قَبْلَ وُجُودِ الْغَايَةِ، فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ مَا لَمْ يَذْبَحِ الْهَدْيَ، سَوَاءٌ صَامَ، أَوْ أَطْعَمَ، أَوْ لَا».

وَبِتَوْجِيهٍ آخَرَ أَنَّهُ تَعَالَى «ذَكَرَ الْهَدْيَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ بَدَلًا، وَلَوْ كَانَ لَهُ بَدَلٌ لَذَكَرَهُ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ».وَاسْتَدَلُّوا بِالْعَقْلِ وَذَلِكَ «لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ قَبْلَ إِتْمَامِ مُوجِبِ الْإِحْرَامِ عُرِفَ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَلَا يَجُوزُ إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ بِالرَّأْيِ».

ثَالِثًا: الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ:

42- مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ- وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْحَلْقُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ مِنَ الْإِحْرَامِ.وَيَحِلُّ الْمُحْصَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالذَّبْحِ بِدُونِ الْحَلْقِ، وَإِنْ حَلَقَ فَحَسَنٌ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحَلْقَ سُنَّةٌ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.أَيْ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَلْقِ لِلْمُحْصَرِ: «هُوَ وَاجِبٌ لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ» وَهُوَ قَوْلُهُ آخِرًا، وَأَخَذَ بِهِ الطَّحَاوِيُّ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ شَرْطٌ لِلتَّحَلُّلِ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ وَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ لِمَا ذُكِرَ فِي النِّيَّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ.

اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ مَعَهُ بِالْقِرَانِ وَهُوَ قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَعْنَى: «إِنْ أُحْصِرْتُمْ وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.جَعَلَ ذَبْحَ الْهَدْيِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ إِذَا أَرَادَ الْحِلَّ كُلَّ مُوجَبِ الْإِحْصَارِ، فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَلْقَ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضَ الْمُوجَبِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ».

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ: «بِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنَّهُ حَلَقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا وَلَمَّا تَبَاطَئُوا عَظُمَ عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى بَادَرَ فَحَلَقَ بِنَفْسِهِ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ فَحَلَقُوا وَقَصَّرُوا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟، فَقَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ».

وَلَوْلَا أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ مَا دَعَا لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَإِذَا كَانَ نُسُكًا وَجَبَ فِعْلُهُ كَمَا يَجِبُ عِنْدَ الْقَضَاءِ لِغَيْرِ الْمُحْصَرِ.

وَاسْتَدَلَّ لَهُمْ أَيْضًا بِالْآيَةِ {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْغَايَةِ يَقْتَضِي «أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْغَايَةِ بِضِدِّ مَا قَبْلَهَا، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَإِذَا بَلَغَ فَاحْلِقُوا.وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَلْقِ».

تَحَلُّلُ الْمُحْصَرِ لِحَقِّ الْعَبْدِ:

43- الْمُحْصَرُ لِحَقِّ الْعَبْدِ- عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ السَّابِقِ- يَكُونُ تَحْلِيلُهُ عَلَى النَّحْوِ الْآتِي:

عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ يَأْتِيَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْإِحْصَارِ عَمَلًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ نَاوِيًا التَّحْلِيلَ كَقَصِّ شَعْرٍ أَوْ تَقْلِيمِ ظُفُرٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَلَا يَكْفِي الْقَوْلُ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ: يَكُونُ التَّحَلُّلُ بِنِيَّةِ الْمُحْصَرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّحَلُّلِ قَامَ مَنْ كَانَ الْإِحْصَارُ لِحَقِّهِ بِتَحْلِيلِهِ بِنِيَّتِهِ أَيْضًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِلزَّوْجِ تَحْلِيلُ زَوْجَتِهِ، وَلِلْأَبِ تَحْلِيلُ ابْنِهِ، وَلِلسَّيِّدِ تَحْلِيلُ عَبْدِهِ فِي الْأَحْوَالِ السَّابِقَةِ.

وَمَعْنَى التَّحْلِيلِ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا ذَكَرُوا فِي الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ: أَنْ يَأْمُرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِالتَّحَلُّلِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا التَّحَلُّلُ بِأَمْرِهِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهَا التَّحَلُّلُ قَبْلَ أَمْرِهِ.وَتَحَلُّلُهَا كَتَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ بِالذَّبْحِ ثُمَّ الْحَلْقِ، بِنِيَّةِ التَّحَلُّلِ فِيهِمَا.وَلَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ إِلاَّ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ تَحَلُّلُ الْمُحْصَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَيُقَاسُ عَلَيْهِ تَحْلِيلُ الْأَبِ لِلِابْنِ أَيْضًا.وَلَوْ لَمْ تَتَحَلَّلِ الزَّوْجَةُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهَا زَوْجُهَا بِالتَّحَلُّلِ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا، وَالْإِثْمُ عَلَيْهَا.

إِحْصَارُ مَنِ اشْتَرَطَ فِي

إِحْرَامِهِ التَّحَلُّلَ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَانِعٌ

مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ وَالْخِلَافُ فِيهِ:

44- الِاشْتِرَاطُ فِي الْإِحْرَامِ: هُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُحْرِمُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ: «إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ» مَثَلًا، أَوِ «الْعُمْرَةَ، فَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي».وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمَذَاهِبُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الِاشْتِرَاطِ فِي الْإِحْرَامِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الِاشْتِرَاطَ فِي الْإِحْرَامِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي إِبَاحَةِ التَّحَلُّلِ

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاشْتِرَاطِ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَنَّ لَهُ أَثَرًا فِي التَّحَلُّلِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ).

آثَارُ الِاشْتِرَاطِ:

45- أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ الْمَانِعِينَ لِشَرْعِيَّةِ الِاشْتِرَاطِ فِي الْإِحْرَامِ.فَإِنَّ الِاشْتِرَاطَ فِي الْإِحْرَامِ لَا يُفِيدُ الْمُحْرِمَ شَيْئًا، وَلَا يُجِيزُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ إِذَا طَرَأَ لَهُ مَانِعٌ عَنِ الْمُتَابَعَةِ، مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ مَرَضٍ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْهَدْيُ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ الْمُحْصَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا أَرَادَ التَّحَلُّلَ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ نِيَّةِ التَّحَلُّلِ الَّتِي بِهَا يَتَحَلَّلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الِاشْتِرَاطَ فِي الْإِحْرَامِ يُفِيدُ الْمُحْرِمَ الْمُشْتَرِطَ جَوَازَ التَّحَلُّلِ إِذَا طَرَأَ لَهُ مَانِعٌ مِمَّا لَا يُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلْإِحْصَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَالْمَرَضِ وَنَفَادِ النَّفَقَةِ، وَضَلَالِ الطَّرِيقِ، وَالْأَوْجَهُ فِي الْمَرَضِ أَنْ يَضْبِطَ بِمَا يَحْصُلُ مَعَهُ مَشَقَّةٌ لَا تُحْتَمَلُ عَادَةً فِي إِتْمَامِ النُّسُكِ.

ثُمَّ يُرَاعِي فِي كَيْفِيَّةِ التَّحَلُّلِ مَا شَرَطَهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَفِي هَذَا يَقُولُ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ إِنْ شَرَطَهُ بِلَا هَدْيٍ لَمْ يَلْزَمْهُ هَدْيٌ، عَمَلًا بِشَرْطِهِ.وَكَذَا لَوْ أَطْلَقَ- أَيْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِ الْهَدْيِ وَلَا لِإِثْبَاتِهِ- لِعَدَمِ شَرْطِهِ، وَلِظَاهِرِ خَبَرِ ضُبَاعَةَ.فَالتَّحَلُّلُ فِيهِمَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ.وَإِنْ شَرَطَهُ بِهَدْيٍ لَزِمَهُ، عَمَلًا بِشَرْطِهِ.

وَلَوْ قَالَ: إِنْ مَرِضْتُ فَأَنَا حَلَالٌ، فَمَرِضَ صَارَ حَلَالًا بِالْمَرَضِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَعَلَيْهِ حَمَلُوا خَبَرَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ».

وَإِنْ شَرَطَ قَلْبَ حَجِّهِ عُمْرَةً بِالْمَرَضِ أَوْ نَحْوِهِ، جَازَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ التَّحَلُّلَ بِهِ، بَلْ أَوْلَى، وَلِقَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي أُمَيَّةَ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ: حُجَّ وَاشْتَرِطْ، وَقُلْ: اللَّهُمَّ الْحَجَّ أَرَدْتُ وَلَهُ عَمَدْتُ، فَإِنْ تَيَسَّرَ، وَإِلاَّ فَعُمْرَةٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ لِعُرْوَةِ: هَلْ تَسْتَثْنِي إِذَا حَجَجْتَ؟ فَقَالَ: مَاذَا أَقُولُ؟ قَالَتْ: قُلْ: اللَّهُمَّ الْحَجَّ أَرَدْتُ وَلَهُ عَمَدْتُ، فَإِنْ يَسَّرْتَهُ فَهُوَ الْحَجُّ، وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَهُوَ عُمْرَةٌ.رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

فَلَهُ فِي ذَلِكَ- أَيْ إِذَا شَرَطَ قَلْبَ حَجِّهِ عُمْرَةً- إِذَا وُجِدَ الْعُذْرُ أَنْ يَقْلِبَ حَجَّهُ عُمْرَةً، وَتُجْزِئُهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ.وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْخُرُوجُ إِلَى أَدْنَى الْحِلِّ وَلَوْ بِيَسِيرٍ، إِذْ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ.

وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَنْقَلِبَ حَجُّهُ عُمْرَةً عِنْدَ الْعُذْرِ، فَوُجِدَ الْعُذْرُ، انْقَلَبَ حَجُّهُ عُمْرَةً، وَأَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ عُمْرَةِ التَّحَلُّلِ بِالْإِحْصَارِ فَإِنَّهَا لَا تُجْزِئُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ عُمْرَةً، وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُ عُمْرَةٍ.

وَحُكْمُ التَّحَلُّلِ بِالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ حُكْمُ التَّحَلُّلِ بِالْإِحْصَارِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُفِيدُ الِاشْتِرَاطُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ جَوَازَ التَّحَلُّلِ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ تَوَسَّعُوا، فَقَالُوا: يُفِيدُ اشْتِرَاطُ التَّحَلُّلِ الْمُطْلَقِ شَيْئَيْنِ:

أَحَدَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا عَاقَهُ عَائِقٌ مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ، وَنَحْوِهِ أَنَّ لَهُ التَّحَلُّلَ.الثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى حَلَّ بِذَلِكَ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا صَوْمَ أَيْ بَدَلًا عَنِ الدَّمِ- بَلْ يَحِلُّ بِالْحَلْقِ عَلَيْهِ التَّحَلُّلُ.

وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ سَوَّوْا فِي الِاشْتِرَاطِ بَيْنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي تُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلْإِحْصَارِ كَالْعَدُوِّ، وَبَيْنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلْإِحْصَارِ عِنْدَهُمْ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يُجْرُوا الِاشْتِرَاطَ فِيمَا يُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلْإِحْصَارِ.وَمَلْحَظُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْإِحْصَارِ جَائِزٌ بِلَا شَرْطٍ، فَشَرْطُهُ لَاغٍ.وَإِذَا كَانَ لَاغِيًا، لَا يُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الدَّمِ.

تَحَلُّلُ مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ

دُونَ الطَّوَافِ

46- هَذَا لَا يُعْتَبَرُ مُحْصَرًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُعْتَبَرُ مُحْصَرًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَتَحَلَّلُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاعْتِبَارُ الْخَاصُّ لِهَذِهِ الْعُمْرَةِ، عِنْدَ كُلِّ مَذْهَبٍ، كَمَا سَبَقَ.

هَذَا وَإِنَّ مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ دُونَ الطَّوَافِ إِذَا تَحَلَّلَ قَبْلَ فَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُحْصَرِ.أَمَّا إِنْ تَأَخَّرَ فِي التَّحَلُّلِ حَتَّى فَاتَ الْوُقُوفُ أَصْبَحَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْفَوَاتِ لَا الْحَصْرِ، عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ.وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا.وَقَدْ قَرَّرَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَجْرِيَ هَذَا الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يَفْسَخِ الْحَجَّ إِلَى عُمْرَةٍ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ.

تَحَلُّلُ مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ دُونَ الْوُقُوفِ

47- مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ دُونَ الْوُقُوفِ يُعْتَبَرُ مُحْصَرًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ.وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ يَتَحَلَّلَ.وَيَحْصُلُ تَحَلُّلُهُ بِمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ الْمُحْصَرُ، وَهُوَ الذَّبْحُ وَالْحَلْقُ بِنِيَّةِ التَّحَلُّلِ فِيهِمَا.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا عِنْدَهُمْ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَيَظَلَّ مُحْرِمًا بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ حَتَّى يُفِيضَ.

وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ بَعْدَ الرَّمْيِ، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.وَكَذَا لَوْ لَمْ يَتَحَلَّلْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَيُؤَدِّي طَوَافَ الْإِفَاضَةِ بِإِحْرَامِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ لَمْ يَتَحَلَّلِ التَّحَلُّلَ الْأَكْبَرَ فَإِحْرَامُهُ قَائِمٌ، إِذِ التَّحَلُّلُ يَكُونُ بِالطَّوَافِ، وَلَمْ يُوجَدِ الطَّوَافُ، فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ قَائِمًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِحْرَامٍ جَدِيدٍ.

تَفْرِيعٌ عَلَى شُرُوطِ تَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ:

أَجْزِيَةُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ تَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ:

48- يَتَفَرَّعُ عَلَى شُرُوطِ التَّحَلُّلِ لِلْمُحْصَرِ أَنَّ الْمُحْصَرَ إِذَا لَمْ يَتَحَلَّلْ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، أَوْ تَحَلَّلَ لَكِنْ وَقَعَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ غَيْرِ الْمُحْصَرِ، بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.

إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ.قَالُوا: مَنْ كَانَ مُحْصَرًا فَنَوَى التَّحَلُّلَ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ- أَوِ الصَّوْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْهَدْيِ- لَمْ يَحِلَّ.لِفَقْدِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الذَّبْحُ أَوِ الصَّوْمُ بِالنِّيَّةِ: أَيْ بِنِيَّةِ التَّحَلُّلِ، وَلَزِمَ دَمٌ لِكُلِّ مَحْظُورٍ فَعَلَهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ، وَدَمٌ لِتَحَلُّلِهِ بِالنِّيَّةِ.

فَزَادُوا عَلَى الْجُمْهُورِ دَمًا لِتَحَلُّلِهِ بِالنِّيَّةِ، وَوَجْهُهُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْ هَدْيٍ أَوْ صَوْمٍ- أَيْ عِنْدَ عَدَمِ الْهَدْيِ- فَلَزِمَهُ دَمٌ.

مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ

قَضَاءُ مَا أُحْصِرَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ

قَضَاءُ النُّسُكِ الْوَاجِبِ الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ:

49- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ قَضَاءُ النُّسُكِ الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا، كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمَنْذُورَيْنِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، وَكَعُمْرَةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا يَسْقُطُ هَذَا الْوَاجِبُ عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِحْصَارِ.

وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْوُجُوبِ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ إِلاَّ بِأَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ.

لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ فَصَلُوا بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُسْتَقِرِّ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ غَيْرِ الْمُسْتَقِرِّ، فَقَالُوا: «إِنْ كَانَ وَاجِبًا مُسْتَقِرًّا كَالْقَضَاءِ، وَالنَّذْرِ، وَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي اسْتَقَرَّ وُجُوبُهَا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ بَقِيَ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ، وَإِنَّمَا أَفَادَهُ الْإِحْصَارُ جَوَازَ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَهِيَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ سَقَطَتِ الِاسْتِطَاعَةُ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِطَاعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.فَلَوْ تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ وَالْوَقْتُ وَاسِعٌ وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ مِنْ سَنَتِهِ اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الِاسْتِطَاعَةِ لَكِنْ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَجَّ عَنْ هَذِهِ السَّنَةِ لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي».

50- أَمَّا مَنْ أُحْصِرَ عَنْ نُسُكِ التَّطَوُّعِ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَجَعَ عَنِ الْبَيْتِ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلَا أَنْ يَعُودُوا لِشَيْءٍ، وَلَا حُفِظَ ذَلِكَ عَنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا قَالَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ: إِنَّ عُمْرَتِي هَذِهِ قَضَاءٌ عَنِ الْعُمْرَةِ الَّتِي حُصِرْتُ فِيهَا.وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَاضَى قُرَيْشًا وَصَالَحَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَامِ عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَصْدِهِ مِنْ قَابِلٍ فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ.

وَصَرَّحَ ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالسَّفِيهِ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ الْقَاسِمِ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ.وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الزَّوْجَةِ فَقَطْ.وَعَلَّلَهُ الدُّسُوقِيُّ بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الزَّوْجَةِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لِحَقِّ غَيْرِهَا، بِخِلَافِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ وَمَنْ يُشْبِهُهُ لِأَنَّهُ لِحَقِّ نَفْسِهِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ النَّفْلِ الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ؛ لِأَنَّ اعْتِمَارَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ إِنَّمَا كَانَ قَضَاءً لِتِلْكَ الْعُمْرَةِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهَا عُمْرَةُ الْقَضَاءِ.وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَهِيَ رِوَايَةٌ مُقَابِلَةٌ لِلصَّحِيحِ.

مَا يَلْزَمُ الْمُحْصَرَ فِي الْقَضَاءِ:

51- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ عَنِ الْحَجِّ إِذَا تَحَلَّلَ وَقَضَى فِيمَا يُسْتَقْبَلُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ، وَالْقَارِنُ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ.أَمَّا الْمُعْتَمِرُ فَيَقْضِي الْعُمْرَةَ فَقَطْ.وَعَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ إِلَى أَنَّ النُّسُكَ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الْقَضَاءُ لِلتَّحَلُّلِ بِالْإِحْصَارِ يَلْزَمُ فِيهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ بِالْإِحْصَارِ فَحَسْبُ، إِنْ حَجَّةً فَحَجَّةٌ فَقَطْ، وَإِنْ عُمْرَةً فَعُمْرَةٌ، وَهَكَذَا.وَعَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا.

اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ: «عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ» وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ.

وَتَابَعَهُمَا فِي ذَلِكَ عَلْقَمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَسَالِمٌ، وَالْقَاسِمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ».وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً مَعَ الْحَجِّ لَذَكَرَهَا.

مَوَانِعُ الْمُتَابَعَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:

52- مَوَانِعُ الْمُتَابَعَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَهَا حَالَانِ:

الْحَالُ الْأُولَى: أَنْ تَمْنَعَ مِنَ الْإِفَاضَةِ وَمَا بَعْدَهَا.الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَمْنَعَ مِمَّا بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ.سَبَقَ الْبَحْثُ فِيمَنْ مُنِعَ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، هَلْ يَكُونُ مُحْصَرًا أَوْ لَا، مَعَ بَيَانِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ.

أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْإِحْصَارُ إِذَا اسْتَوْفَى الْمَانِعُ شُرُوطَ الْإِحْصَارِ فَحُكْمُ تَحَلُّلِهِ حُكْمُ تَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ، بِكُلِّ التَّفَاصِيلِ الَّتِي سَبَقَتْ.وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْإِحْصَارُ فَإِنَّهُ يَظَلُّ مُحْرِمًا حَتَّى يُؤَدِّيَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.وَعَلَيْهِ جَزَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ وَاجِبَاتٍ، كَمَا سَيَأْتِي.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (طلاق 4)

طَلَاقٌ -4

59- 4- عَدَمُ اسْتِغْرَاقِ الْمُسْتَثْنَى لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ ثَلَاثًا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ وَإِلْغَاءٌ، وَلَيْسَ اسْتِثْنَاءً.

وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ؟ نَصَّ الْجُمْهُورُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ.إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ قَالَ: طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَاصِدًا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلاً لَغَا طَلَاقُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ.

وَهَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى؟ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ شَرْطِيَّةِ ذَلِكَ، وَسَوَّوْا بَيْنَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمُسْتَثْنَى أَوِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ ثِنْتَانِ، وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ إِلاَّ وَاحِدَةً طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَعَ ثِنْتَانِ أَيْضًا، وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَذَلِكَ مَا دَامَ أَدْخَلَ الْفَاءَ عَلَى (أَنْتِ) فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فَقَوْلَانِ، الْمُفْتَى بِهِ مِنْهُمَا: عَدَمُ الْوُقُوعِ.وَهَلْ يَجِبُ التَّلَفُّظُ بِالْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ؟ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ كَتَبَ مُتَّصِلاً: إِلاَّ وَاحِدَةً، وَقَعَ اثْنَتَانِ، وَلَوْ كَتَبَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ مُتَّصِلاً: إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ اثْنَتَانِ أَيْضًا.فَإِنْ كَتَبَهُمَا مَعًا، ثُمَّ أَزَالَ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ اثْنَتَانِ فَقَطْ، وَلَا قِيمَةَ لِإِزَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَنْهُ، وَالرُّجُوعُ هُنَا غَيْرُ صَحِيحٍ.

60- 5- أَنْ لَا يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءَ طَلْقَةٍ، فَإِنِ اسْتَثْنَى جُزْءَ طَلْقَةِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ نِصْفَ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ إِلاَّ ثُلُثَيْ طَلْقَةٍ، طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ أَيْضًا لَدَى الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيُسْتَثْنَى بِجُزْءِ الطَّلْقَةِ طَلْقَةٌ كَامِلَةٌ.

61- وَهَلْ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَلْفُوظَ دُونَ الْمَمْلُوكِ؟ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَيْنِ، الْأَصَحُّ مِنْهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْمَلْفُوظِ كَالْحَنَفِيَّةِ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَمْلُوكِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلاَّ ثَلَاثًا طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ الثَّانِي طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَلَمَّا اسْتَثْنَى مِنْهُ ثَلَاثًا كَانَ رُجُوعًا فَلَغَا.وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إِلاَّ تِسْعًا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِوَاحِدَةٍ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبِثَلَاثٍ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ.الرَّاجِحُ مِنْهُمَا اعْتِبَارُ الْمَلْفُوظِ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمُقَابِلُ الرَّاجِحِ اعْتِبَارُ الْمَمْلُوكِ، فَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلاَّ اثْنَتَيْنِ، فَعَلَى الرَّاجِحِ يَلْزَمُهُ ثَلَاثٌ، وَعَلَى الْمَرْجُوحِ يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ.

الْإِنَابَةُ فِي الطَّلَاقِ:

62- الطَّلَاقُ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ قَوْلِيٌّ، وَهُوَ حَقُّ الرَّجُلِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَمْلِكُهُ وَيَمْلِكُ الْإِنَابَةَ فِيهِ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَمْلِكُهَا، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ...فَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ: وَكَّلْتُكَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ، فَطَلَّقَهَا عَنْهُ، جَازَ، وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ نَفْسِهَا: وَكَّلْتُكِ بِطَلَاقِ نَفْسِكِ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، جَازَ أَيْضًا، وَلَا تَكُونُ فِي هَذَا أَقَلَّ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ.وَبَيَانُ الْمَذَاهِبِ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:

63- إِذْنُ الزَّوْجِ لِغَيْرِهِ فِي تَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: تَفْوِيضٌ وَتَوْكِيلٌ وَرِسَالَةٌ.وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ لِلتَّفْوِيضِ ثَلَاثَةَ أَلْفَاظٍ، وَهِيَ: تَخْيِيرٌ، وَأَمْرٌ بِيَدٍ، وَمَشِيئَةٌ.فَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، وَاخْتَارِي نَفْسَكِ، وَأَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَالْأَوْلَى يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا صَرِيحًا بِدُونِ نِيَّةٍ، وَاللَّفْظَانِ الْآخَرَانِ مِنْ أَلْفَاظِ.الْكِنَايَةِ، فَلَا يَقَعُ بِهِمَا الطَّلَاقُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.

كَمَا يَكُونُ التَّفْوِيضُ عِنْدَهُمْ بِإِنَابَةِ الزَّوْجِ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ إِذَا عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَتِهِ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتِي إِنْ شِئْتَ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ: إِنْ شِئْتَ، كَانَ تَوْكِيلاً لَا تَفْوِيضًا.

هَذَا، وَبَيْنَ التَّفْوِيضِ وَالتَّوْكِيلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فُرُوقٌ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثِيَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَهَمُّهَا:

أ- مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِي التَّفْوِيضِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى مَشِيئَةٍ، وَالتَّعْلِيقُ يَمِينٌ لَا رُجُوعَ فِيهَا، فَإِذَا قَالَ لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتِي إِنْ شِئْتَ، أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: اخْتَارِي نَفْسَكِ نَاوِيًا طَلَاقَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهَا، أَمَّا الْوَكِيلُ فَلَهُ عَزْلُهُ مُطْلَقًا مَا دَامَ لَمْ يُطَلِّقْ.

ب- مِنْ حَيْثُ الْحَدُّ بِالْمَجْلِسِ: فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَلِّقَ عَنْ مُوَكِّلِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ، مَا لَمْ يَحُدَّهُ الْمُوَكِّلُ بِالْمَجْلِسِ أَوْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ مُعَيَّنَيْنِ، فَإِنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ تَحَدَّدَ بِهِ، أَمَّا التَّفْوِيضُ فَمَحْدُودٌ بِالْمَجْلِسِ فَإِذَا انْقَضَى الْمَجْلِسُ لَغَا التَّفْوِيضُ، مَا لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ مُدَّةً، أَوْ يُعَلِّقْهُ عَلَى مَشِيئَتِهِ، فَإِنْ بَيَّنَ مُدَّةً تَحَدَّدَ بِالْمُدَّةِ الْمُبَيَّنَةِ، كَأَنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ خِلَالَ شَهْرٍ، أَوْ يَوْمٍ، أَوْ سَاعَةٍ، أَوْ طَلِّقِي نَفْسَكِ مَتَى شِئْتِ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ تَحَدَّدَ بِمَا ذُكِرَ، لَا بِالْمَجْلِسِ.

ج- مِنْ حَيْثُ نَوْعُ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ بِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفْوِيضَ إِذَا كَانَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ كَقَوْلِهِ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَطَلَّقَتْ، وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَإِنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي، وَقَعَ بِهِ بَائِنًا، هَذَا إِذَا نَوَيَا الطَّلَاقَ، وَإِلاَّ لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ.

د- مِنْ حَيْثُ تَأَثُّرُهُ بِجُنُونِ الزَّوْجِ، فَإِذَا فَوَّضَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ أَوْ غَيْرَهَا بِالطَّلَاقِ، ثُمَّ جُنَّ، فَالتَّفْوِيضُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ وَكَّلَهُ بِالطَّلَاقِ فَجُنَّ بَطَلَ التَّوْكِيلُ، لِأَنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ، وَهُوَ لَا يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ، عَلَى خِلَافِ التَّوْكِيلِ، فَهُوَ إِنَابَةٌ مَحْضَةٌ، وَهِيَ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ.

هـ- مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ أَهْلِيَّةِ النَّائِبِ، فَإِنَّ التَّفْوِيضَ يَصِحُّ لِعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ وَصَغِيرٍ، عَلَى خِلَافِ التَّوْكِيلِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْوَكِيلِ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ فَوَّضَ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِطَلَاقِ نَفْسِهَا فَطَلَّقَتْ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ وَكَّلَ أَخَاهُ الصَّغِيرَ بِطَلَاقِهَا، فَطَلَّقَهَا لَمْ يَصِحَّ، فَلَوْ فَوَّضَهَا بِالطَّلَاقِ، وَهِيَ عَاقِلَةٌ، ثُمَّ جُنَّتْ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا.

ثَانِيًا- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:

64- النِّيَابَةُ فِي الطَّلَاقِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: تَوْكِيلٌ وَتَخْيِيرٌ وَتَمْلِيكٌ وَرِسَالَةٌ.

فَالتَّوْكِيلُ عِنْدَهُمْ هُوَ: جَعْلُ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ لِغَيْرِهِ- زَوْجَةً أَوْ غَيْرَهَا- مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ لِلزَّوْجِ فِي مَنْعِ الْوَكِيلِ- بِعَزْلِهِ- مِنْ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ تَوْكِيلاً.

وَالتَّخْيِيرُ عِنْدَهُمْ هُوَ: جَعْلُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ حَقًّا لِلْغَيْرِ وَمِلْكًا لَهُ نَصًّا كَقَوْلِهِ لَهَا: اخْتَارِينِي أَوِ اخْتَارِي نَفْسَكِ.

وَالتَّمْلِيكُ هُوَ: جَعْلُ الطَّلَاقِ حَقًّا لِلْغَيْرِ وَمِلْكًا لَهُ رَاجِحًا فِي الثَّلَاثِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، وَبَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ اتِّفَاقٌ وَاخْتِلَافٌ عَلَى مَا يَلِي:

أ- فَمِنْ حَيْثُ جَوَازُ الرُّجُوعِ فِيهِ، فِي التَّوْكِيلِ لِلزَّوْجِ حَقُّ عَزْلِ وَكِيلِهِ بِالطَّلَاقِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الزَّوْجَةُ أَمْ غَيْرُهَا، إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ زَائِدٌ عَنِ التَّوْكِيلِ، كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَوْ أَمْرُ الدَّاخِلَةِ عَلَيْكِ بِيَدِكِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّهَا بِهِ، وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لأَمْكَنَهُ عَزْلُهَا.

فَإِنْ فَوَّضَهُ بِالطَّلَاقِ تَخْيِيرًا أَوْ تَمْلِيكًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُ الْمُفَوَّضِ حَتَّى يُطَلِّقَ أَوْ يَرُدَّ التَّفْوِيضَ.

ب- وَمِنْ حَيْثُ تَحْدِيدُهُ بِمُدَّةٍ، فَإِنْ حَدَّدَ الزَّوْجُ النِّيَابَةَ بِأَنْوَاعِهَا بِالْمَجْلِسِ تَحَدَّدَ مُطْلَقًا، وَإِنْ حَدَّدَهَا بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلَكِنْ إِنْ مَارَسَ النَّائِبُ حَقَّهُ فِي الطَّلَاقِ خِلَالَ الزَّمَنِ الْمُحَدَّدِ طَلُقَتْ، وَإِلاَّ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مَا دَامَ الزَّمَانُ بَاقِيًا، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَحْضُرُهُ وَيَأْمُرُهُ بِالِاخْتِيَارِ، فَإِنِ اخْتَارَ الطَّلَاقَ طَلُقَتْ، وَإِلاَّ أَسْقَطَ الْقَاضِي حَقَّهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُمْهِلُهُ وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجُ بِالْإِمْهَالِ، وَذَلِكَ حِمَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُحَدِّدْهُ بِالْمَجْلِسِ وَلَا بِزَمَنٍ آخَرَ، فَلِلْمَالِكِيَّةِ رِوَايَتَانِ: الْأُولَى: يَتَحَدَّدُ بِالْمَجْلِسِ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَالثَّانِيَةُ: لَا يَتَحَدَّدُ بِهِ.

ج- مِنْ حَيْثُ عَدَدُ الطَّلْقَاتِ، إِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ تَخَيُّرًا مُطْلَقًا- وَقَدْ دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ- فَلِلْمُفَوَّضَةِ إِيقَاعُ مَا شَاءَتْ مِنَ الطَّلَاقِ، وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَوْ كَانَ التَّفْوِيضُ تَمْلِيكًا، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ، إِنْ تَوَفَّرَتْ لَمْ يَقَعْ بِقَوْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَإِنِ اخْتَلَّتْ وَقَعَ مَا ذَكَرَتْ.

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:

1- أَنْ يَنْوِيَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الثَّلَاثِ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً لَمْ تَمْلِكْ بِذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِذَا نَوَى اثْنَيْنِ مَلَكَتْهُمَا وَلَمْ تَمْلِكِ الثَّلَاثَ.

2- أَنْ يُبَادِرَ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهَا فَوْرَ إِيقَاعِهَا الثَّلَاثَ، وَإِلاَّ سَقَطَ حَقُّهُ وَوَقَعَ ثَلَاثٌ.

3- أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِذَلِكَ أَكْثَرَ مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِمَا أَوْقَعَتْ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهَا.

4- عَدَمُ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ إِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ تَخَيُّرًا، وَإِلاَّ وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَيْهِ إِنْ أَوْقَعَهَا مُطْلَقًا.

5- أَنْ لَا يُكَرِّرَ التَّفْوِيضَ، فَإِنْ كَرَّرَهُ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، لَمْ يُقْبَلِ اعْتِرَاضُهُ عَلَى طَلَاقِهَا الثَّلَاثَ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِالتَّكْرَارِ التَّأْكِيدَ، فَيُقْبَلُ اعْتِرَاضُهُ.

6- أَنْ لَا يَكُونَ التَّفْوِيضُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ مَلَكَتِ الثَّلَاثَ مُطْلَقًا.

فَإِنْ خَيَّرَهَا وَدَخَلَ بِهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَقَطْ، لَمْ تَقَعْ وَسَقَطَ تَخْيِيرُهَا؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِذَلِكَ عَمَّا فَوَّضَهَا، وَقَدِ انْقَضَى حَقُّهَا بِإِظْهَارِ مُخَالَفَتِهَا، فَسَقَطَ خِيَارُهَا فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ خِيَارُهَا.

ثَالِثًا- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:

65- أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلزَّوْجِ إِنَابَةَ زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ، كَمَا أَجَازُوا لَهُ إِنَابَةَ غَيْرِهَا بِهِ أَيْضًا، فَإِنْ أَنَابَ الْغَيْرَ كَانَ تَوْكِيلاً، فَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ الشُّرُوطِ وَالْأَحْكَامِ مَا يَجْرِي عَلَى التَّوْكِيلِ مِنْ جَوَازِ التَّقْيِيدِ وَالرُّجُوعِ فِيهِ.

وَلِلزَّوْجِ تَفْوِيضُ طَلَاقِهَا إِلَيْهَا، وَهُوَ تَمْلِيكٌ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُشْتَرَطُ لِوُقُوعِهِ تَطْلِيقُهَا عَلَى الْفَوْرِ..وَفِي قَوْلٍ تَوْكِيلٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ فَوْرٌ فِي الْأَصَحِّ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّمْلِيكِ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهَا لَفْظًا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ، وَالْمُرَجَّحُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ لَفْظًا.

وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: (التَّمْلِيكُ وَالتَّوْكِيلُ) لَهُ الرُّجُوعُ عَنِ التَّفْوِيضِ.

وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: طَلِّقِي وَنَوَى ثَلَاثًا، فَقَالَتْ: طَلَّقَتْ وَنَوَتْهُنَّ: وَقَدْ عُلِمَتْ نِيَّتُهُ، أَوْ وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا فَثَلَاثٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ، وَقَدْ نَوَيَاهُ.

وَإِذَا نَوَى ثَلَاثًا وَلَمْ تَنْوِ هِيَ عَدَدًا، أَوْ لَمْ يَنْوِيَا، أَوْ نَوَى أَحَدَهُمَا وَقَعَتْ وَاحِدَةً فِي الْأَصَحِّ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَهُوَ تَوْكِيلٌ مِنْهُ لَهَا بِالطَّلَاقِ وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ، بَلْ هُوَ عَلَى التَّرَاخِي لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رضي الله عنه- ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ.وَفِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، أَفْتَى بِهِ أَحْمَدُ مِرَارًا، كَقَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ مَا شِئْتِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: أَرَدْتُ وَاحِدَةً.

وَإِنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَتَقَعُ رَجْعِيَّةٌ، لِأَنَّ: (اخْتَارِي) تَفْوِيضٌ مُعَيَّنٌ، فَيَتَنَاوَلُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُوَ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، كَأَنْ يَقُولَ: اخْتَارِي مَا شِئْتِ، أَوِ اخْتَارِي الطَّلْقَاتِ إِنْ شِئْتِ، فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ اخْتَارِي عَدَدًا، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ.بِخِلَافِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَمْرِهَا.وَلَيْسَ لِلْمَقُولِ لَهَا: اخْتَارِي أَنْ تُطَلِّقَ إِلاَّ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ يَوْمًا أَوْ أُسْبُوعًا أَوْ شَهْرًا، فَتَمْلِكُهُ إِلَى انْقِضَاءِ ذَلِكَ.

طَلَاقُ الْفَارِّ

66- طَلَاقُ الْفَارِّ هُوَ: طَلَاقُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بَائِنًا فِي حَالِ مَرَضِ مَوْتِهِ، وَقَدْ يُعَنْوِنُ الْفُقَهَاءُ لَهُ: بِطَلَاقِ الْمَرِيضِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ طَلَاقِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ إِذَا كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ مَوْتٍ، كَصِحَّتِهِ مِنَ الزَّوْجِ غَيْرِ الْمَرِيضِ مَا دَامَ كَامِلَ الْأَهْلِيَّةِ.

كَمَا ذَهَبُوا إِلَى إِرْثِهَا مِنْهُ إِذَا مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِطَلَبِهَا أَمْ لَا، وَأَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ لِذَلِكَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ.فَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَحِيحًا عِنْدَ الطَّلَاقِ غَيْرَ مَرِيضٍ مَرَضَ الْمَوْتِ لَمْ تَرِثْ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ مَوْتٍ عِنْدَ الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْأَصَحِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَتَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ، وَيُعَدُّ فَارًّا بِهَذَا الطَّلَاقِ مِنْ إِرْثِهَا، وَاسْمُهُ طَلَاقُ الْفِرَارِ.

وَاشْتَرَطُوا لَهُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ طَلَبِهَا وَلَا رِضَاهَا بِالْبَيْنُونَةِ، وَأَنْ تَكُونَ أَهْلاً لِلْمِيرَاثِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ إِلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِرِضَاهَا كَالْمُخَالَعَةِ لَمْ تَرِثْ.وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِسَبَبِ تَقْبِيلِهَا ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ لَيْسَ مِنَ الزَّوْجِ، فَلَا يُعَدُّ بِذَلِكَ فَارًّا مِنْ إِرْثِهَا، فَإِنْ طَلَبَتْ مِنْهُ الطَّلَاقَ مُطْلَقًا، أَوْ طَلَبَتْ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَطَلَّقَهَا بَائِنًا وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا وَرِثَتْ مِنْهُ، لِأَنَّهَا لَمْ تَطْلُبِ الْبَيْنُونَةَ وَلَمْ تَرْضَ بِهَا.فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَمْ تَرِثْ مِنْهُ، وَلَمْ تَتَغَيَّرْ عِدَّتُهَا لَدَى الْجُمْهُورِ، وَلَا يُعَدُّ فَارًّا بِطَلَاقِهَا، وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ.وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَوْرِيثِهَا مِنْهُ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ بِطَلَبِهَا كَالْمُخَيَّرَةِ وَالْمُمَلَّكَةِ وَالْمُخَالِعَةِ، أَوْ بِغَيْرِ طَلَبِهَا، حَتَّى لَوْ مَاتَ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَزَوَاجِهَا مِنْ غَيْرِهِ.

مَسْأَلَةُ الْهَدْمِ:

67- هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَمَيَّزَتْ بِلَقَبٍ خَاصٍّ بِهَا لَدَى الْفُقَهَاءِ، نَظَرًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِيهَا وَأَهَمِّيَّتِهَا، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِمَّا يَلِي: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ: أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ.كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا- دُونَ الزَّوَاجِ مِنْ آخَرَ- أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ لَهُ إِلَى الثَّلَاثِ فَقَطْ.فَإِذَا طَلَّقَهَا بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ، فَتَزَوَّجَتْ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ:

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَفِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ لَهُ إِلَى الثَّلَاثِ، فَإِنْ كَانَ أَبَانَهَا بِوَاحِدَةٍ مَلَكَ عَلَيْهَا اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَبَانَهَا بِاثْنَتَيْنِ مَلَكَ عَلَيْهَا ثَالِثَةً فَقَطْ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمْ - رضي الله عنهما- .

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا، وَقَدِ انْهَدَمَ مَا أَبَانَهَا بِهِ سَابِقًا، وَمِنْ هُنَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَسْأَلَةِ الْهَدْمِ، وَقَوْلُ الشَّيْخَيْنِ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فِيهِمُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهم- وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي- وَهُوَ الْأَرْجَحُ عِنْدَهُمْ- مَعَ الْجُمْهُورِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، فَمِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ قَالُوا بِتَرْجِيحِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، كَالْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ، بَلْ إِنَّهُ قَالَ عَنْهُ: إِنَّهُ الْحَقُّ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ النَّهْرِ وَالْبَحْرِ والشُّرنْبُلَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ كَالْعَلاَّمَةِ قَاسِمٍ، وَعَلَيْهِ مَشَتِ الْمُتُونُ حُكْمُ جُزْءِ الطَّلْقَةِ:

68- إِذَا قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ رُبُعَ طَلْقَةٍ، أَوْ ثُلُثَ طَلْقَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، وَقَعَ عَلَيْهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ.لِأَنَّ الطَّلْقَةَ تَحْرِيمٌ، وَهُوَ لَا يَتَجَزَّأُ.وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يَحْسُنُ مَعَهُ ذِكْرُ كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَجُزْءُ الطَّلْقَةِ وَلَوْ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ تَطْلِيقَةٌ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ.فَلَوْ زَادَتِ الْأَجْزَاءُ وَقَعَ أُخْرَى، وَهَكَذَا مَا لَمْ يَقُلْ: نِصْفُ طَلْقَةٍ وَثُلُثُ طَلْقَةٍ وَسُدُسُ طَلْقَةٍ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الْمُنَكَّرَ إِذَا أُعِيدَ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، فَيَتَكَامَلُ كُلُّ جُزْءٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثُهَا وَسُدُسُهَا، حَيْثُ تَقَعُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ عَيْنُ الْأَوَّلِ.فَإِنْ جَاوَزَ مَجْمُوعُ الْأَجْزَاءِ تَطْلِيقَةً- بِأَنْ قَالَ: نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثُهَا وَرُبُعُهَا- قِيلَ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ ثِنْتَانِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَصَحَّحَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ.وَلَوْ بِلَا وَاوٍ بِأَنْ قَالَ: نِصْفُ طَلْقَةٍ، ثُلُثُ طَلْقَةٍ، سُدُسُ طَلْقَةٍ، فَوَاحِدَةٌ، لِدَلَالَةِ حَذْفِ الْعَاطِفِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ الثَّانِيَ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثَ بَدَلٌ مِنَ الثَّانِي.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا وَيَقَعُ بِثَلَاثَةِ أَنْصَافِ طَلْقَتَيْنِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ وَاحِدَةٌ فَثَلَاثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَقِيلَ ثِنْتَانِ، لِأَنَّ التَّطْلِيقَتَيْنِ إِذَا نُصِّفَتَا كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَنْصَافٍ فَثَلَاثَةٌ مِنْهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، فَتَكْمُلُ تَطْلِيقَتَيْنِ.وَيَقَعُ بِثَلَاثَةِ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ أَوْ نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَانِ فِي الْأَصَحِّ وَكَذَا فِي نِصْفِ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَيَتَكَامَلُ النِّصْفُ.وَفِي نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ يَتَكَامَلُ كُلُّ نِصْفٍ فَيَحْصُلُ طَلْقَتَانِ.

69- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ لَزِمَهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ لَزِمَتْهُ وَاحِدَةٌ لِعَدَمِ إِضَافَةِ الْجُزْءِ لِلَفْظِ طَلْقَةٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ لَزِمَهُ اثْنَتَانِ لِزِيَادَةِ الْأَجْزَاءِ عَلَى وَاحِدَةٍ.وَلَوْ أَضَافَ الْجُزْءَ لِلَفْظِ طَلْقَةٍ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ لَزِمَهُ اثْنَتَانِ.وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ.طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ وَنِصْفَ طَلْقَةٍ لَزِمَهُ ثَلَاثُ طَلَقَاتٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَسْرٍ أُضِيفَ لِطَلْقَةٍ أُخِذَ مُمَيَّزُهُ، فَاسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ، أَيْ: حُكِمَ بِكَمَالِ الطَّلْقَةِ فِيهِ، فَالْجُزْءُ الْآخَرُ الْمَعْطُوفُ يُعَدُّ طَلْقَةً.

70- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَبَعَّضُ، فَإِيقَاعُ بَعْضِهِ كَإِيقَاعِ كُلِّهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَيِ الطَّلْقَةِ طَلْقَةٌ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُلَّ نِصْفٍ مِنْ طَلْقَةٍ، فَتَقَعُ طَلْقَتَانِ عَمَلاً بِقَصْدِهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نِصْفُهُمَا، مَا لَمْ يُرِدْ كُلَّ نِصْفٍ مِنْ طَلْقَةٍ فَتَقَعُ طَلْقَتَانِ.وَفِي أَجْزَاءِ الطَّلْقَةِ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: حَاصِلُ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ إِنْ كَرَّرَ لَفْظَ «طَلْقَةٌ» مَعَ الْعَاطِفِ، وَلَمْ تَزِدِ الْأَجْزَاءُ عَلَى طَلْقَةٍ، كَأَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ، كَانَ كُلُّ جُزْءٍ طَلْقَةً، وَإِنِ اسْقَطَ لَفْظَ طَلْقَةٍ كَأَنْتِ طَالِقٌ رُبُعَ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ، أَوْ أَسْقَطَ الْعَاطِفَ كَأَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ، رُبُعَ طَلْقَةٍ، كَانَ الْكُلُّ طَلْقَةً، فَإِنْ زَادَتِ الْأَجْزَاءُ كَنِصْفِ وَثُلُثِ وَرُبُعِ طَلْقَةٍ كَمُلَ الزَّائِدُ مِنْ طَلْقَةٍ أُخْرَى وَوَقَعَ بِهِ طَلْقَةٌ، وَلَوْ قَالَ: نِصْفُ طَلْقَةٍ وَنِصْفُهَا وَنِصْفُهَا فَثَلَاثٌ، إِلاَّ إِنْ أَرَادَ بِالنِّصْفِ الثَّالِثِ تَأْكِيدَ الثَّانِي فَطَلْقَتَانِ.

71- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَيِ الشَّيْءِ كُلُّهُ، وَإِنْ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ،؛ لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، فَكَمُلَ النِّصْفُ، فَصَارَا طَلْقَتَيْنِ.

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً، لِأَنَّ نِصْفَ الطَّلْقَتَيْنِ طَلْقَةٌ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَتْ طَلْقَتَانِ، لِأَنَّ نِصْفَيِ الشَّيْءِ جَمِيعُهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ يَكْمُلُ النِّصْفُ فَتَصِيرُ طَلْقَتَيْنِ.وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ لِأَنَّهَا أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَقَعُ ثَلَاثٌ، لِأَنَّهُ عَطَفَ جُزْءًا مِنْ طَلْقَةٍ عَلَى جُزْءٍ مِنْ طَلْقَةٍ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا طَلَقَاتٌ مُتَغَايِرَةٌ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى لَجَاءَ بِهَا فَاللاَّمُ التَّعْرِيفِ فَقَالَ: ثُلُثُ الطَّلْقَةِ وَسُدُسُ الطَّلْقَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: إِذَا ذُكِرَ لَفْظٌ ثُمَّ أُعِيدَ مُنَكَّرًا فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللاَّمِ فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ.وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ ثُلُثَ طَلْقَةٍ سُدُسَ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ طَلْقَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْطِفْ بِوَاوِ الْعَطْفِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ مِنْ طَلْقَةٍ غَيْرُ مُتَغَايِرَةٍ، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ الثَّانِي هَاهُنَا بَدَلاً مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ مِنَ الثَّانِي، وَالْبَدَلُ هُوَ الْمُبْدَلُ أَوْ بَعْضُهُ، فَلَمْ يَقْتَضِ الْمُغَايَرَةَ وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ طَلْقَةً طَلْقَةً لَمْ تَطْلُقْ إِلاَّ طَلْقَةً، فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَثُلُثًا وَسُدُسًا لَمْ يَقَعْ إِلاَّ طَلْقَةٌ، لِأَنَّ هَذِهِ أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ مِنْ كُلِّ طَلْقَةٍ جُزْءًا فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا.وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَثُلُثًا وَرُبُعًا طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى الطَّلْقَةِ نِصْفَ سُدُسٍ ثُمَّ يَكْمُلُ، وَإِنْ أَرَادَ مِنْ كُلِّ طَلْقَةٍ جُزْءًا طَلُقَتْ ثَلَاثًا.

الرَّجْعَةُ فِي الطَّلَاقِ:

72- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ بَائِنًا لَا يَعُودُ إِلَيْهَا إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، فِي الْعِدَّةِ أَمْ بَعْدَهَا، مَا دَامَتِ الْبَيْنُونَةُ صُغْرَى وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ فَسْخِ الزَّوَاجِ.فَإِذَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ كُبْرَى، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهَا إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَيْضًا، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَدْخُلُ بِهَا، ثُمَّ يُفَارِقُهَا وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ رَجْعِيًّا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ لَهُ الْعَوْدَ إِلَيْهَا بِالْمُرَاجَعَةِ بِدُونِ عَقْدٍ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}.وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ.وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَجْعَة ج 22).

(التَّفْرِيقُ لِلشِّقَاقِ:

73- الشِّقَاقُ هُنَا: هُوَ النِّزَاعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِسَبَبٍ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ بِسَبَبِهِمَا مَعًا، أَوْ بِسَبَبِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُمَا، فَإِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا الْإِصْلَاحُ، فَقَدْ شُرِعَ بَعْثُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا لِلْعَمَلِ عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا وَإِزَالَةِ أَسْبَابِ النِّزَاعِ وَالشِّقَاقِ، بِالْوَعْظِ وَمَا إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} وَمُهِمَّةُ الْحَكَمَيْنِ هُنَا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِحِكْمَةٍ وَرَوِيَّةٍ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُهِمَّةِ الْحَكَمَيْنِ، وَفِي شُرُوطِهِمَا، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

أ- مُهِمَّةُ الْحَكَمَيْنِ:

74- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مُهِمَّةَ الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحُ لَا غَيْرُ، فَإِذَا نَجَحَا فِيهِ فَبِهَا، وَإِلاَّ تَرَكَا الزَّوْجَيْنِ عَلَى حَالِهِمَا لِيَتَغَلَّبَا عَلَى نِزَاعِهِمَا بِنَفْسَيْهِمَا، إِمَّا بِالْمُصَالَحَةِ، أَوْ بِالصَّبْرِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ، أَوْ بِالْمُخَالَعَةِ، وَلَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلاَّ أَنْ يُفَوِّضَ الزَّوْجَانِ إِلَيْهِمَا ذَلِكَ، فَإِنْ فَوَّضَاهُمَا بِالتَّفْرِيقِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ التَّوْفِيقِ، كَانَا وَكِيلَيْنِ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ، وَجَازَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَاجِبَ الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحُ أَوَّلاً، فَإِنْ عَجَزَا عَنْهُ لِتَحَكُّمِ الشِّقَاقِ كَانَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ تَوْكِيلٍ، وَوَجَبَ عَلَى الْقَاضِي إِمْضَاءُ حُكْمِهِمَا بِهَذَا التَّفْرِيقِ إِذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ ذَلِكَ اجْتِهَادَهُ.

وَإِنْ طَلَّقَا، وَاخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ فِي الْمَالِ، بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: الطَّلَاقُ بِعِوَضٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: بِلَا عِوَضٍ، فَإِنْ لَمْ تَلْتَزِمْهُ الْمَرْأَةُ فَلَا طَلَاقَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ، وَيَعُودُ الْحَالُ كَمَا كَانَ، وَإِنِ الْتَزَمَتْهُ وَقَعَ وَبَانَتْ مِنْهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: طَلَّقْنَا بِعَشْرَةٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: بِثَمَانِيَةٍ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ لِلزَّوْجِ خُلْعَ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ لَوِ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، أَوْ جِنْسِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنِ اشْتَدَّ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعَثَ الْقَاضِي حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، وَهُمَا وَكِيلَانِ لَهُمَا فِي الْأَظْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ: هُمَا حَاكِمَانِ مُوَلَّيَانِ مِنَ الْحَاكِمِ، فَعَلَى

الْأَوَّلِ: يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، فَيُوَكِّلُ الزَّوْجُ حَكَمَهُ بِطَلَاقٍ وَقَبُولِ عِوَضِ خُلْعٍ، وَتُوَكِّلُ الزَّوْجَةُ حَكَمَهَا بِبَذْلِ عِوَضٍ وَقَبُولِ طَلَاقٍ، وَيُفَرِّقُ الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا إِنْ رَأَيَاهُ صَوَابًا، وَإِنِ اخْتَلَفَ رَأْيُهُمَا بَعَثَ الْقَاضِي اثْنَيْنِ غَيْرَهُمَا، حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى شَيْءٍ، وَعَلَى

الْقَوْلِ الثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ بِبَعْثِهِمَا وَيُحَكَّمَانِ، بِمَا يَرَيَانِهِ مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ أَوِ التَّفْرِيقِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُهِمَّةَ الْحَكَمَيْنِ الْأُولَى التَّوْفِيقُ، فَإِنْ عَجَزَا عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا التَّفْرِيقُ فِي قَوْلٍ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: لَهُمَا ذَلِكَ.

ب- شُرُوطُ الْحَكَمَيْنِ:

75- اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَكَمَيْنِ شُرُوطًا هِيَ:

1- كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ، وَهِيَ: الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، فَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ.

2- الْإِسْلَامُ، فَلَا يَحْكُمُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ فِي الْمُسْلِمِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِ.

3- الْحُرِّيَّةُ، فَلَا يَحْكُمُ عَبْدٌ، وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ بِجَوَازِ جَعْلِ الْعَبْدِ مُحَكَّمًا، مَا دَامَ التَّحْكِيمُ وَكَالَةً.

4- الْعَدَالَةُ، وَهِيَ: مُلَازَمَةُ التَّقْوَى.

5- الْفِقْهُ بِأَحْكَامِ هَذَا التَّحْكِيمِ.

6- أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ لَا الْوُجُوبِ.

ثُمَّ إِنْ وَكَّلَ الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ بِرِضَاهُمَا كَانَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ أَيْضًا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْجَمْعِ وَالتَّوْفِيقِ، وَفِي حَالِ التَّوْكِيلِ فِي التَّفْرِيقِ يُشْتَرَطُ إِلَى جَانِبِ مَا تَقَدَّمَ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ كَامِلَيِ الْأَهْلِيَّةِ رَاشِدَيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنِ احْتِمَالِ رَدِّ بَعْضِ الْمَهْرِ.

فَإِنْ وَكَّلَ الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ، ثُمَّ جُنَّ أَحَدُهُمَا أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ، لَغَا التَّوْكِيلُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَكَمَيْنِ غَيْرُ التَّوْفِيقِ، فَإِنْ غَابَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ لَمْ يَنْعَزِلِ الْحَكَمَانِ، وَيَكُونُ لَهُمَا التَّفْرِيقُ فِي غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ لَا تُبْطِلُ الْوَكَالَةَ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْحَكَمَيْنِ، وَمَعَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي الذُّكُورَةَ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَيْنِ هُنَا حَاكِمَانِ، وَلَا يَجُوزُ جَعْلُ الْمَرْأَةِ عِنْدَهُمْ حَاكِمًا.

وَالْحَكَمَانِ يَحْكُمَانِ بِالتَّفْرِيقِ جَبْرًا عَنِ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا حَاكِمَانِ هُنَا وَنَائِبَانِ عَنِ الْقَاضِي، إِلاَّ أَنْ يُسْقِطَ الزَّوْجَانِ مُتَّفِقَيْنِ دَعْوَى التَّفْرِيقِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ، فَإِنْ فَعَلَا سَقَطَ التَّحْكِيمُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُمَا الْحُكْمُ بِالتَّفْرِيقِ بِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّحْكِيمِ هُنَا الدَّعْوَى، وَهَذَا إِذَا كَانَا مُحَكَّمَيْنِ مِنَ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَا مُحَكَّمَيْنِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَيْنِ مِنْ غَيْرِ قَاضٍ، فَكَذَلِكَ يَنْفُذُ حُكْمُهُمَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلَا بِهِ، مَا دَامَا لَمْ يَعْزِلَاهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ، فَإِنْ عَزَلَاهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ انْعَزِلَا، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ رَأْيِهِمَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ رَأْيِهِمَا لَمْ يَنْعَزِلَا.

كَمَا أَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ كَوْنَ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يُجِيزَا تَحْكِيمَ غَيْرِهِمَا، إِلاَّ أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْ أَهْلِهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِلتَّحْكِيمِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ جَازَ تَحْكِيمُ جَارَيْهِمَا، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَنُدِبَ أَنْ يَكُونَا جَارَيْنِ لِلْعِلْمِ بِحَالِهِمَا غَالِبًا.

ثُمَّ إِذَا وَكَّلَ الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ مُخَالَعَةً، كَانَ لَهُمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ رَأْيِهِمَا مَا لَمْ يُقَيِّدَاهُمَا بِشَيْءٍ، فَإِنْ قَيَّدَاهُمَا تَقَيَّدَا بِهِ لَدَى الْجَمِيعِ.

فَإِذَا لَمْ يُوَكِّلَاهُمَا بِالتَّفْرِيقِ وَالْمُخَالَعَةِ، كَانَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دُونَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُنَا يَمْلِكُ الْحَكَمَانِ التَّفْرِيقَ بِطَلَاقٍ أَوْ مُخَالَعَةٍ بِحَسَبِ رَأْيِهِمَا، فَإِنْ رَأَيَا أَنَّ الضَّرَرَ كُلَّهُ مِنَ الزَّوْجِ طَلَّقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَيَا أَنَّهُ كُلُّهُ مِنَ الزَّوْجَةِ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا بِمُخَالَعَةٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ لَهُ كُلَّ الْمَهْرِ، وَرُبَّمَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ بَعْضُهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَبَعْضُهُ مِنَ الزَّوْجِ، فَرَّقَا بَيْنَهُمَا مُخَالَعَةً عَلَى جُزْءٍ مِنَ الْمَهْرِ يُنَاسِبُ مِقْدَارَ الضَّرَرِ مِنْ كُلٍّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (نشوز 2)

نُشُوزٌ -2

ب- الْهَجْرُ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُؤَدِّبُ الرَّجُلُ بِهِ امْرَأَتَهُ إِذَا نَشَزَتِ الْهَجْرَ، لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْهَجْرُ الْمَشْرُوعُ، وَفِي غَايَتِهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَعَظَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَتَرَكَتِ النُّشُوزَ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، وَقِيلَ: يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، لَعَلَّ نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْهَجْرِ، قِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُجَامِعَهَا وَلَا يُضَاجِعَهَا عَلَى فِرَاشِهِ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُكَلِّمَهَا فِي حَالِ مُضَاجَعَتِهِ إِيَّاهَا، لَا أَنْ يَتْرُكَ جِمَاعَهَا وَمُضَاجَعَتَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ مَا عَلَيْهَا، فَلَا يُؤَدِّبُهَا بِمَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ وَيُبْطِلُ حَقَّهُ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ يُفَارِقَهَا فِي الْمَضْجَعِ وَيُضَاجِعَ أُخْرَى فِي حَقِّهَا وَقَسْمِهَا، لِأَنَّ حَقَّهَا عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ فِي حَالِ الْمُوَافَقَةِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَالِ التَّضْيِيعِ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا وَجِمَاعِهَا لِوَقْتِ غَلَبَةِ شَهْوَتِهَا وَحَاجَتِهَا لَا فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ هَذَا لِلتَّأْدِيبِ وَالزَّجْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّبَهَا لَا أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الْمُضَاجَعَةِ فِي حَالِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْهَجْرُ أَنْ يَتْرُكَ مَضْجَعَهَا، أَيْ يَتَجَنَّبَهَا فِي الْمَضْجَعِ فَلَا يَنَامُ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ، لَعَلَّهَا أَنْ تَرْجِعَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَهَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَحَسَّنَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

وَغَايَةُ الْهَجْرِ الْمُسْتَحْسَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ شَهْرٌ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ أَجَلًا عُذْرًا لِلْمُولِي.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ وَعَظَهَا زَوْجُهَا، ثُمَّ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ لِأَنَّ لَهُ أَثَرًا ظَاهِرًا فِي تَأْدِيبِ النِّسَاءِ، أَمَّا الْهُجْرَانُ فِي الْكَلَامِ فَلَا يَجُوزُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِحَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» إِلاَّ إِنْ قَصَدَ رَدَّهَا أَوْ إِصْلَاحَ دِينِهَا، إِذِ الْهَجْرُ- وَلَوْ دَائِمًا وَلِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ- جَائِزٌ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ كَفِسْقٍ وَابْتِدَاعٍ وَإِيذَاءٍ وَزَجْرٍ وَإِصْلَاحٍ.

وَالْمُرَادُ بِالْهَجْرِ أَنْ يَهْجُرَ فِرَاشَهَا فَلَا يُضَاجِعَهَا فِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ تَرْكُ الْوَطْءِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا هُجْرًا أَيْ إِغْلَاظًا فِي الْقَوْلِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: لَا غَايَةَ لَهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، لِأَنَّهُ لِحَاجَةِ صَلَاحِهَا، فَمَتَى لَمْ تَصْلُحْ تُهْجَرْ وَإِنْ بَلَغَ سِنِينَ وَمَتَى صَلَحَتْ فَلَا هَجْرَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَظْهَرَتِ الْمَرْأَةُ النُّشُوزَ هَجَرَهَا زَوْجُهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُضَاجِعُهَا فِي فِرَاشِكَ، وَقَدْ «هَجَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- نِسَاءَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا» وَهَجْرُهَا فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا فَوْقَهَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- السَّابِقِ وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: هَجْر.

ج- الضَّرْبُ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُؤَدِّبُ بِهِ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ عِنْدَ نُشُوزِهَا الضَّرْبَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّرْبِ وَمَا يَلْزَمُ تَوَافُرُهُ لِمُبَاشَرَتِهِ.

فَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَرْبِ التَّأْدِيبِ الْمَشْرُوعِ إِنْ نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ غَيْرَ مُدْمٍ وَلَا مُبَرِّحٍ وَلَا شَائِنٍ وَلَا مُخَوِّفٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْسِرُ عَظْمًا وَلَا يَشِينُ جَارِحَةً كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيْرَ.

وَقَالُوا: الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ هُوَ مَا يَعْظُمُ أَلَمُهُ عُرْفًا، أَوْ مَا يُخْشَى مِنْهُ تَلَفُ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ، أَوْ مَا يُورِثُ شَيْئًا فَاحِشًا، أَوِ الشَّدِيدُ، أَوِ الْمُؤَثِّرُ الشَّاقُّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُ مِنْ بَرِحَ الْخَفَاءُ إِذَا ظَهَرَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اتَّقَوُا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ».

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ النَّاشِزَةَ إِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ وَتَدَعِ النُّشُوزَ إِلاَّ بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ أَوِ الْخَوْفِ لَمْ يَجُزْ لِزَوْجِهَا تَعْزِيرُهَا لَا بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ وَلَا بِغَيْرِهِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: لَا يَجُوزُ الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ النُّشُوزَ إِلاَّ بِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فَلَهَا التَّطْلِيقُ عَلَيْهِ وَالْقِصَاصُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي هَيْئَةِ الضَّرْبِ:

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَضْرِبُ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ الَّتِي تَحَقَّقَ نُشُوزَهَا عَلَى الْوَجْهِ وَالْمَهَالِكِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ، فَعَنْ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوِ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبَ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحَ، وَلَا تَهْجُرَ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ» وَقَالَ الْهَيْتَمِيُّ: لَا تَضْرِبْ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى بَدَنِهَا، وَلَا يُوَالِيِهِ فِي مَوْضِعٍ لِئَلاَّ يَعْظُمَ ضَرَرُهُ، وَقَالُوا: لَا يَبْلُغُ ضَرْبُ حُرَّةٍ أَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا عِشْرِينَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجْتَنِبُ الْوَجْهَ تَكْرِمَةً لَهُ، وَالْبَطْنَ وَالْمَوَاضِعَ الْمَخُوفَةَ خَشْيَةَ الْقَتْلِ، وَالْمَوَاضِعَ الْمُسْتَحْسَنَةَ لِئَلاَّ يُشَوِّهَهَا، وَيَكُونُ الضَّرْبُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَأَقَلَّ.

لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَوْجُهِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَ زَوْجَتَهُ إِنْ نَشَزَتْ بِضَرْبِهَا بِسَوْطٍ أَوْ عَصًا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا مُدْمٍ وَلَا شَائِنٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ: يُؤَدِّبُهَا بِضَرْبِهَا بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ أَوْ بِمِنْدِيلٍ مَلْفُوفٍ أَوْ بِيَدِهِ، لَا بِسَوْطٍ وَلَا بِعَصًا وَلَا بِخَشَبٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّأْدِيبُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ- إِنْ جَازَ لَهُ الضَّرْبُ لِتَأْدِيبِ امْرَأَتِهِ لِنُشُوزِهَا- فَالْأَوْلَى لَهُ الْعَفْوُ لِأَنَّ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ وَلِمَصْلَحَتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَرْكُ الضَّرْبِ بِالْكُلِّيَّةِ أَفْضَلُ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْأَوْلَى تَرْكُ ضَرْبِهَا إِبْقَاءً لِلْمَوَدَّةِ.

وَفِي ضَرْبِ الْمَرْأَةِ لِلنُّشُوزِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابِهِ بِالضَّرْبِ صَرَاحَةً إِلاَّ هُنَا- أَيِ الضَّرْبِ لِلتَّعْزِيرِ عَلَى النُّشُوزِ- وَفِي الْحُدُودِ الْعِظَامِ، فَسَاوَى مَعْصِيَتَهُنَّ بِأَزْوَاجِهِنَّ بِمَعْصِيَةِ الْكَبَائِرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ يَضْرِبُ الْمُسْتَحِقُّ فِيهِ مَنْ مَنَعَهُ حَقَّهُ غَيْرَ هَذَا، وَالرَّقِيقُ يَمْتَنِعُ مِنْ حَقِّ سَيِّدِهِ.

هَلْ يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ النُّشُوزِ حَتَّى يُشْرَعَ الضَّرْبُ:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَكْرَارِ نُشُوزِ الْمَرْأَةِ لِضَرْبِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الضَّرْبَ لِتَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ النَّاشِزَةِ مَشْرُوعٌ بِتَحَقُّقِ نُشُوزِهَا وَلَوْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ دُونَ أَنْ يَتَكَرَّرَ النُّشُوزُ، لِظَاهِرِ قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} فَتَقْدِيرُهُ: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ، فَإِنْ نَشَزْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ، وَالْخَوْفُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا فِي قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} وَالْأَوْلَى بَقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ صَرَّحَتْ بِنُشُوزِهَا فَكَانَ لِزَوْجِهَا ضَرْبُهَا كَمَا لَوْ أَصَرَّتْ، وَلِأَنَّ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي لَا تَخْتَلِفُ بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ كَالْحُدُودِ.

وَرَجَّحَ الرَّافِعِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ تَحَقَّقَ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ وَلَمْ يَظْهَرْ إِصْرَارُهَا عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ضَرْبُهَا، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالتَّكْرَارِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زَجْرُهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَسْهَلِ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ ضَرْبِ النَّاشِزَةِ أَنْ يَعْلَمَ الزَّوْجُ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَوْ يَظُنَّ أَنَّ الضَّرْبَ يُفِيدُ فِي تَأْدِيبِهَا وَرَدْعِهَا عَنِ النُّشُوزِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ لَمْ يَجُزْ لَهُ ضَرْبُهَا وَيَحْرُمُ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مُسْتَغْنًى عَنْهَا.

وَقَيَّدَ الزَّرْكَشِيُّ ضَرْبَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ النَّاشِزَةَ بِنَفْسِهِ لِكَفِّهَا عَنِ النُّشُوزِ وَتَأْدِيبِهَا بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، وَإِلاَّ فَيَتَعَيَّنُ الرَّفْعُ إِلَى الْقَاضِي لِتَأْدِيبِهَا.

الضَّمَانُ بِضَرْبِ التَّأْدِيبِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ ضَرْبَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِنُشُوزِهَا- بِالْقُيُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ- هُوَ ضَرْبُ تَأْدِيبٍ يُقْصَدُ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيْرَ، فَإِنْ أَفْضَى إِلَى تَلَفٍ أَوْ هَلَاكٍ وَجَبَ الْغُرْمُ وَالضَّمَانُ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ضَرْبُ إِتْلَافٍ لَا إِصْلَاحٍ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ مَا تَلِفَ بِالضَّرْبِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، لِأَنَّ ضَرْبَ التَّأْدِيبِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ النَّاشِزَةَ إِنْ تَلِفَتْ مِنْ ضَرْبِ زَوْجِهَا الْمَشْرُوعِ لِلتَّأْدِيبِ عَلَى نُشُوزِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا.

التَّرْتِيبُ فِي التَّأْدِيبِ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْتِزَامِ الزَّوْجِ التَّرْتِيبَ فِي تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ حَسَبَ وُرُودِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَأْدِيبَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ لِنُشُوزِهَا يَكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي الْآيَةِ، فَيَبْدَأُ بِالْوَعْظِ ثُمَّ الْهَجْرِ ثُمَّ الضَّرْبِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلزَّوْجِ وِلَايَةُ تَأْدِيبِ امْرَأَتِهِ لِنُشُوزِهَا لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَعِظُهَا أَوَّلًا عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، وَقِيلَ: يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلاَّ هَجَرَهَا لَعَلَّ نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ، فَإِنْ تَرَكَتِ النُّشُوزَ وَإِلاَّ ضَرَبَهَا، فَإِنْ نَفَعَ الضَّرْبُ وَإِلاَّ رَفَعَ إِلَى الْقَاضِي.

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} فَظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْوَاوِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَمْعُ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ، وَالْوَاوُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ.

وَقَالُوا: وَسَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ: أَنَّ الْآمِرَ يَبْدَأُ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ دُونَ التَّغْلِيظِ فِي الْقَوْلِ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلاَّ غَلَّظَ الْقَوْلَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلاَّ بَسَطَ يَدَهُ فِيهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَعِظُ الزَّوْجُ مَنْ نَشَزَتْ، ثُمَّ إِذَا لَمْ يُفِدِ الْوَعْظُ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ، ثُمَّ إِذَا لَمْ يُفِدِ الْهَجْرُ جَازَ لَهُ ضَرْبُهَا، وَلَا يَنْتَقِلُ لِحَالَةٍ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَا تُفِيدُ، وَيَفْعَلُ مَا عَدَا الضَّرْبَ وَلَوْ لَمْ يَظُنَّ إِفَادَتَهُ- بِأَنْ شَكَّ فِيهِ لَعَلَّهُ يُفِيدُ- لَا إِنْ عَلِمَ عَدَمَ الْإِفَادَةِ، وَأَمَّا الضَّرْبُ فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا ظَنَّ إِفَادَتَهُ لِشِدَّتِهِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّوْجَ يَعِظُ زَوْجَتَهُ إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا، فَإِنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهَا هَجَرَهَا إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا، فَإِنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهَا ضَرَبَهَا إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا، لَا إِنْ شَكَّ فِيهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ: إِذَا ظَهَرَ مِنَ الزَّوْجَةِ أَمَارَاتُ النُّشُوزِ وَعَظَهَا، فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْأَدَبِ حَرُمَ الْهَجْرُ وَالضَّرْبُ لِزَوَالِ مُبِيحِهِمَا، وَإِنْ أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، وَهَجَرَهَا فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا فَوْقَهَا، فَإِنْ أَصَرَّتْ وَلَمْ تَرْتَدِعْ بِالْهَجْرِ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا بَعْدَ الْهَجْرِ فِي الْفِرَاشِ وَتَرْكِهَا مِنَ الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَ زَوْجَتَهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ طُرُقِ التَّأْدِيبِ الْوَارِدَةِ فِي الْآيَةِ دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: مَرَاتِبُ تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ ثَلَاثٌ:

إِحْدَاهَا: أَنْ يُوجَدَ مِنْهَا أَمَارَاتُ النُّشُوزِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، بِأَنْ تُجِيبَهُ بِكَلَامٍ خَشِنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَيِّنًا، أَوْ يَجِدَ مِنْهَا إِعْرَاضًا وَعُبُوسًا بَعْدَ طَلَاقَةٍ وَلُطْفٍ، فَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، يَعِظُهَا وَلَا يَضْرِبُهَا وَلَا يَهْجُرُهَا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَحَقَّقَ نُشُوزُهَا، لَكِنْ لَا يَتَكَرَّرُ، وَلَا يَظْهَرُ إِصْرَارُهَا عَلَيْهِ، فَيَعِظُهَا وَيَهْجُرُهَا، وَفِي جَوَازِ الضَّرْبِ قَوْلَانِ، رَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ الْمَنْعَ، وَرَجَّحَ صَاحِبَا الْمُهَذَّبِ وَالشَّامِلِ الْجَوَازَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: رَجَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» الْمَنْعَ، وَالْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْجَوَازُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَكَرَّرَ وَتُصِرَّ عَلَيْهِ، فَلَهُ الْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ بِلَا خِلَافٍ، هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ.وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا فِي جَوَازِ الْهِجْرَانِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِي حَالَةِ ظُهُورِ النُّشُوزِ، ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ.

أَحَدُهَا: لَهُ الْوَعْظُ وَالْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ، وَالثَّانِي: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهَا وَلَا يَجْمَعُ.وَالثَّالِثُ: يَعِظُهَا، فَإِنْ لَمْ تَتَّعِظْ هَجَرَهَا، فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ ضَرَبَهَا.

اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي النُّشُوزِ:

20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ مِنْهُمَا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي وُقُوعِ النُّشُوزِ.

فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ فِي وُقُوعِ النُّشُوزِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ، فَادَّعَاهُ الرَّجُلُ وَأَنْكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَالْقَوْلُ لَهَا فِي عَدَمِ النُّشُوزِ بِيَمِينِهَا حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ لَهُ وَكَانَتْ فِي بَيْتِهِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا ظَاهِرٌ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي نُشُوزٍ فِي الْحَالِ، أَمَّا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهَا سُقُوطَ النَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي شَهْرٍ مَاضٍ- مَثَلًا- لِنُشُوزِهَا فِيهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ لَهَا أَيْضًا لِإِنْكَارِهَا مُوجِبَ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا، وَلَوِ ادَّعَتْ أَنَّ خُرُوجَهَا إِلَى بَيْتِ أَهْلِهَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَأَنْكَرَ، أَوْ ثَبَتَ نُشُوزُهَا ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ- مَثَلًا- أَذِنَ لَهَا بِالْمُكْثِ هُنَاكَ هَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ لَهَا أَمْ لَا؟ لَمْ أَرَهُ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي لِتَحَقُّقِ الْمُسْقِطِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ مَنْعَ الْوَطْءِ أَوْ الِاسْتِمْتَاعِ لِعُذْرٍ وَأَكْذَبَهَا الزَّوْجُ أَثْبَتَتْهُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ، وَهَذَا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَأَمَّا مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ كَخُرُوجِهَا بِلَا إِذْنٍ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ: هِيَ تَمْنَعُنِي مِنْ وَطْئِهَا حَيْثُ قَالَتْ: لَمْ أَمْنَعْهُ وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ.

وَقَالُوا: إِنْ ضَرَبَهَا، فَادَّعَتِ الْعَدَاءَ وَادَّعَى الْأَدَبَ فَإِنَّهَا تُصَدَّقُ، وَحِينَئِذٍ يُعَزِّرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَاءِ مَا لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ، وَإِلاَّ قُبِلَ قَوْلُهُ.

وَقَالَ صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ ضَرَبَهَا وَادَّعَى أَنَّهُ بِسَبَبِ نُشُوزٍ وَادَّعَتْ عَدَمَهُ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ فِي الْمَطْلَبِ قَالَ: وَالَّذِي يَقْوَى فِي ظَنِّي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ وَلِيًّا فِي ذَلِكَ، وَالْوَلِيُّ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهَا فَلَا، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَعْلَمْ جَرَاءَتَهُ وَتَعَدِّيَهُ، وَإِلاَّ لَمْ يُصَدَّقْ وَصُدِّقَتْ هِيَ، وَقَيَّدَ الشَّرْقَاوِيُّ تَصْدِيقَهُ بِيَمِينِهِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ: إِنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي نُشُوزِهَا بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِالتَّسْلِيمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ.

نُشُوزُ الزَّوْجِ أَوْ إِعْرَاضُهُ:

21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ خَافَتْ مِنْ زَوْجِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا لِرَغْبَتِهِ عَنْهَا، إِمَّا لِمَرَضٍ بِهَا أَوْ كِبَرٍ أَوْ دَمَامَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا تَسْتَرْضِيَهُ بِذَلِكَ، لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا} وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَتِ: «الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ».

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ جَمَاعَةٌ، وَعَلَى وُجُوبِ الْكَوْنِ عِنْدَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ إِلاَّ وَاحِدَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ كَعْبَ بْنَ سُورٍ قَضَى بِأَنَّ لَهَا يَوْمًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِحَضْرَةِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَاسْتَحْسَنَهُ وَوَلاَّهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، وَأَبَاحَ اللَّهُ أَنْ تَتْرُكَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَأَنْ تَجْعَلَهُ لِغَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ، وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى تَرْكِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ لَهَا بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ لَهَا إِسْقَاطُ مَا وَجَبَ مِنَ النَّفَقَةِ لِلْمَاضِي، فَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَلَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَتْ مِنَ الْوَطْءِ لَمْ يَصِحَّ إِبْرَاؤُهَا وَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ بِطِيبِ نَفْسِهَا بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ بِالنَّفَقَةِ وَبِالْكَوْنِ عِنْدَهَا، فَأَمَّا أَنْ تُسْقِطَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ فَلَا، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَهَا عِوَضًا عَلَى تَرْكِ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ أَوِ الْوَطْءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، أَوْ ذَلِكَ حَقٌّ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَنْوَاعُ الصُّلْحِ كُلُّهَا مُبَاحَةٌ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، بِأَنْ يُعْطِيَ الزَّوْجُ عَلَى أَنْ تَصْبِرَ هِيَ، أَوْ تُعْطِيَ هِيَ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ الزَّوْجُ، أَوْ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ وَيَتَمَسَّكَ بِالْعِصْمَةِ، أَوْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الصَّبْرِ وَالْأَثَرَةِ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ الرَّجُلُ لَا يَتَعَدَّى عَلَى امْرَأَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا لَكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَيُعْرِضُ عَنْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيُسَنُّ لَهَا اسْتِعْطَافُهُ بِمَا يُحِبُّ، كَأَنْ تَسْتَرْضِيَهُ بِتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا، كَمَا تَرَكَتْ سَوْدَةُ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ- رضي الله عنهما- لَمَّا خَافَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا- صلى الله عليه وسلم-، كَمَا أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ إِذَا كَرِهَتْ صُحْبَتَهُ لِمَا ذُكِرَ أَنْ يَسْتَعْطِفَهَا بِمَا تُحِبُّ مِنْ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَافَتِ امْرَأَةٌ نُشُوزَ زَوْجِهَا وَإِعْرَاضَهُ عَنْهَا لِكِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَرَضٍ أَوْ دَمَامَةٍ، فَوَضَعَتْ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا أَوْ كُلَّ حُقُوقِهَا، تَسْتَرْضِيهِ بِذَلِكَ جَازَ، لِأَنَّهُ حَقُّهَا وَقَدْ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِهِ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ فِي ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا رُجُوعَ لَهَا فِي الْمَاضِي، وَإِنْ شَرَطَا مَالًا يُنَافِي نِكَاحًا لَزِمَ وَإِلاَّ فَلَا، فَلَوْ صَالَحَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ نَفَقَتِهَا أَوْ قَسْمِهَا، أَوْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ جَازَ، فَإِنْ رَجَعَتْ فَلَهَا ذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَغِيبُ عَنِ امْرَأَتِهِ فَيَقُولُ لَهَا: إِنْ رَضِيتِ عَلَى هَذَا وَإِلاَّ فَأَنْتِ أَعْلَمُ، فَتَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ، فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ.

تَعَدِّي الزَّوْجِ:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ تَعَدَّى عَلَى زَوْجَتِهِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ أَوِ الْقَاضِيَ يَكُفُّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَنَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ أَنْ يُعَزِّرَ الزَّوْجَ، وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ يُسَاكِنُهَا، فَشَكَتْ إِلَى الْقَاضِي أَنَّ الزَّوْجَ يَضْرِبُهَا وَيُؤْذِيهَا، سَأَلَ الْقَاضِي جِيرَانَهَا، فَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا قَالَتْ- وَهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ- فَالْقَاضِي يُؤَدِّبُهُ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا، وَيَأْمُرُ جِيرَانَهُ أَنْ يَتَفَحَّصُوا عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَالْجِيرَانُ قَوْمًا صَالِحِينَ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُحَوِّلَهَا إِلَى جِيرَانٍ صَالِحِينَ، فَإِنْ أَخْبَرُوا الْقَاضِيَ بِخِلَافِ مَا قَالَتْ أَقَرَّهَا هُنَاكَ وَلَمْ يُحَوِّلْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ تَعَدَّى الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ لِغَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ بِضَرْبٍ أَوْ سَبٍّ وَنَحْوِهِ، وَثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ زَجَرَهُ الْحَاكِمُ بِوَعْظٍ فَتَهْدِيدٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِالْوَعْظِ ضَرَبَهُ إِنْ ظَنَّ إِفَادَتَهُ فِي زَجْرِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِلاَّ فَلَا، وَهَذَا إِذَا اخْتَارَتِ الْبَقَاءَ مَعَهُ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَعَظَهُ فَقَطْ دُونَ ضَرْبٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَنَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ حَقًّا لَهَا كَقَسْمٍ وَنَفَقَةٍ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي تَوْفِيَتَهُ إِذَا طَلَبَتْهُ لِعَجْزِهَا عَنْهُ، بِخِلَافِ نُشُوزِهَا فَإِنَّ لِلزَّوْجِ إِجْبَارَهَا عَلَى إِفَاءِ حَقِّهِ لِقَدْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مُكَلَّفًا أَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أُلْزِمَ وَلَيُّهُ تَوْفِيَتَهُ.

فَإِنْ أَسَاءَ خُلُقَهُ وَآذَاهَا بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ بِلَا سَبَبٍ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يُعَزِّرُهُ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ وَطَلَبَتْ تَعْزِيرَهُ مِنَ الْقَاضِي عَزَّرَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَزِّرْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَوَازَهُ إِذَا طَلَبَتْهُ قَالَ السُّبْكِيُّ: لَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ إِسَاءَةَ الْخُلُقِ تَكْثُرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالتَّعْزِيرُ عَلَيْهَا يُورِثُ وَحْشَةً بَيْنَهُمَا، فَيَقْتَصِرُ أَوَّلًا عَلَى النَّهْيِ لَعَلَّ الْحَالَ يَلْتَئِمُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ عَادَ عَزَّرَهُ وَأَسْكَنَهُ بِجَنْبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُ الزَّوْجَ مِنَ التَّعَدِّي عَلَيْهَا.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُحَالُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَعُودَ إِلَى الْعَدْلِ، وَلَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ فِي الْعَدْلِ، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهَا وَشَهَادَةُ الْقَرَائِنِ.

وَفَصَّلَ الْإِمَامُ فَقَالَ: إِنْ ظَنَّ الْحَاكِمُ تَعَدِّيَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَحَقَّقَهُ أَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ وَخَافَ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا- لِكَوْنِهِ جَسُورًا- حَالَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ عَدْلٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمَا وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّعْزِيرِ لَرُبَّمَا بَلَغَ مِنْهَا مَبْلَغًا لَا يُسْتَدْرَكُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ شِقَاقٌ نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَهُوَ نُشُوزٌ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ مِنَ الرَّجُلِ أَسْكَنَهُمَا إِلَى جَنْبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهَا وَالتَّعَدِّي عَلَيْهَا.

تَعَدِّي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ:

23- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ صَاحِبَهُ تَعَدَّى عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَمْرَهُمَا يُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي فَيَنْظُرُهُ، وَيَأْمُرُ فِيهِ بِمَا يَمْنَعُ الِاعْتِدَاءَ وَيَزْجُرُ الْمُتَعَدِّي، وَإِلاَّ نَصَّبَ حَكَمَيْنِ لِلنَّظَرِ فِي الشِّقَاقِ وَمُحَاوَلَةِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ وَادَّعَى الزَّوْجُ النُّشُوزَ، وَادَّعَتْ هِيَ عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَتَقْصِيرَهُ فِي حُقُوقِهَا، حِينَئِذٍ يَبْعَثُ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا لِيَتَوَلَّيَا النَّظَرَ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَيَرُدَّا إِلَى الْحَاكِمِ مَا يَقِفَانِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ الْحَكَمَانِ لِيَعِظَا الظَّالِمَ مِنْهُمَا وَيُنْكِرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَإِعْلَامَ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ هُوَ عَلَى يَدِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ ثَبَتَ تَعَدِّي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ- عِنْدَ الْحَاكِمِ- وَعَظَهُمَا ثُمَّ ضَرَبَهُمَا بِاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ ذَلِكَ فَالْوَعْظُ فَقَطْ، وَسَكَّنَهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ يُوصَوْنَ عَلَى النَّظَرِ فِي حَالِهِمَا لِيُعْلَمَ مَنْ عِنْدَهُ ظُلْمٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ أُشْكِلَ الْأَمْرُ بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَالَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ: إِنَّ صَاحِبَهُ مُتَعَدٍّ عَلَيْهِ وَأَشْكَلَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، تَعَرَّفَ الْقَاضِي الْحَالَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَهُمَا بِثِقَةٍ وَاحِدٍ يُخْبِرُهُمَا وَيَكُونُ جَارًا لَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ أَسْكَنَهُمَا فِي جَنْبِ ثِقَةٍ يَتَعَرَّفُ حَالَهُمَا ثُمَّ يُنْهِي إِلَيْهِ مَا يَعْرِفُهُ، وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ حَالُهُمَا مَنَعَ الظَّالِمَ مِنْ عَوْدِهِ لِظُلْمِهِ، وَطَرِيقِهُ فِي الزَّوْجِ مَا سَلَفَ فِي «تَعَدِّي الزَّوْجِ» وَفِي الزَّوْجَةِ بِالزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ كَغَيْرِهَا.

وَاكْتُفِيَ هُنَا بِثِقَةِ وَاحِدٍ تَنْزِيلًا لِذَلِكَ مَنْزِلَةَ الرِّوَايَةِ، لِمَا فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مِنَ الْعُسْرِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الثِّقَةِ أَنْ يَكُونَ عَدْلَ شَهَادَةٍ بَلْ يَكْفِي عَدْلَ الرِّوَايَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمِ اعْتِبَارُ مَنْ تَسْكُنُ النَّفْسُ بِخَبَرِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ لَا الشَّهَادَةِ.

وَقَالُوا: إِنِ اشْتَدَّ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، بِأَنِ اسْتَمَرَّ الْخِلَافُ وَالْعَدَاوَةُ، وَدَامَ التَّسَابُّ وَالتَّضَارُبُ، وَفَحُشَ ذَلِكَ، بَعَثَ الْقَاضِي حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ شِقَاقٌ نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَدٍّ، أَوِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْآخَرَ ظَلَمَهُ، أَسْكَنَهُمَا إِلَى جَانِبِ مِنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا وَيُلْزِمُهُمَا الْإِنْصَافُ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ ذَلِكَ وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا، وَخِيفَ الشِّقَاقُ عَلَيْهِمَا وَالْعِصْيَانُ، بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

التَّحْكِيمُ عِنْدَ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:

24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ خِلَافُ الزَّوْجَيْنِ، وَأَشْكَلَ أَمْرُهُمَا، وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنِ الْإِسَاءَةُ مِنْهُمَا، وَخِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا إِلَى حَدٍّ يُؤَدِّي إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}.

وَمَشْرُوعِيَّةُ التَّحْكِيمِ فِي الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَالَ بِهَا الْفُقَهَاءُ، اتِّبَاعًا لِلْحُكْمِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ، وَعَمَلًا بِهِ.

وَقَدْ بَسَطَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّحْكِيمِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي مَسَائِلَ، مِنْهَا:

أ- الْحَالُ الَّتِي يُبْعَثُ عِنْدَهَا الْحَكَمَانِ:

25- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنْ نَشَزَتْ وَلَمْ يُجْدِ فِي تَأْدِيبِهَا وَكَفِّهَا عَنِ النُّشُوزِ الضَّرْبُ أَوْ مَا يَسْبِقُهُ مِنْ وَسَائِلِ التَّأْدِيبِ وَالرَّدْعِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى الْقَاضِي لِيُوَجِّهَ إِلَيْهِمَا الْحَكَمَيْنِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا أَشْكَلَ الْأَمْرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنِ الْإِسَاءَةُ مِنْهُمَا، وَاسْتَمَرَّ الْإِشْكَالُ بَعْدَ إِسْكَانِهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ، أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمُ ابْتِدَاءً، أَوْ لَمْ يُمْكِنِ السُّكْنَى بَيْنَهُمْ، أَوْ إِذَا اشْتَدَّ الْخِلَافُ وَالشِّقَاقُ وَالْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا، وَدَامَ التَّسَابُّ وَالتَّضَارُبُ وَفَحُشَ ذَلِكَ، وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا وَخَشَى أَنْ يُخْرِجَهُمَا إِلَى الْعِصْيَانِ بَعَثَ الْقَاضِي الْحَكَمَيْنِ.

ب- الْخِطَابُ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ وَحُكْمُهُ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} لِلْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَيَمْنَعُونَ مِنَ التَّعَدِّي وَالظُّلْمِ.

وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَقِيلَ: لِلزَّوْجَيْنِ، فَيَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَلِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمَيْنِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا كَحُكْمِ مَنْ عَيَّنَهُمَا الْقَاضِي لِذَلِكَ.

وَنَصَّ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْثَ الْحَكَمَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ آيَةَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، فَالْعَمَلُ بِهَا وَاجِبٌ، وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الظِّلَامَاتِ، وَهُوَ مِنَ الْفُرُوضِ الْعَامَّةِ عَلَى الْقَاضِي، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: صَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ الْأَذْرُعِيُّ: ظَاهِرُ نَصِّ الْأُمِّ الْوُجُوبُ.

وَنَصُّ الْأُمِّ هُوَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا ارْتَفَعَ الزَّوْجَانِ الْمَخُوفُ شِقَاقُهُمَا إِلَى الْحَاكِمِ فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (نشوز 3)

نُشُوزٌ -3

ج- كَوْنُ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ:

27- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ كَوْنَ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ، لَكِنَّهُ الْأَوْلَى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} وَلِأَنَّهُمَا أَشْفَقُ وَأَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِمَا، لِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِي الْحَاكِمِ وَلَا فِي الْوَكِيلِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ إِرْشَادًا وَاسْتِحْبَابًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ- حَكَمٌ مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمٌ مِنْ أَهْلِهَا- إِنْ أَمْكَنَ، لِأَنَّ الْأَقَارِبَ أَعْرَفُ بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ، وَأَقْعَدُ بِأَحْوَالِ الزَّوْجَيْنِ، وَأَطْيَبُ لِلْإِصْلَاحِ، وَنُفُوسُ الزَّوْجَيْنِ أَسْكَنُ إِلَيْهِمَا، فَيُبْرِزَانِ لَهُمَا مَا فِي ضَمَائِرِهِمَا مِنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَإِرَادَةِ الْفُرْقَةِ أَوِ الصُّحْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْثُ أَجْنَبِيَّيْنِ مَعَ إِمْكَانِ الْأَهْلَيْنِ، فَإِنْ بَعَثَهُمَا مَعَ الْإِمْكَانِ فَالظَّاهِرُ نَقْضُ حُكْمِهِمَا، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ كَوْنَهُمَا مِنْ أَهْلِهِمَا مَعَ الْوِجْدَانِ وَاجِبٌ شَرْطٌ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهُمَا مَعًا مِنَ الْأَهْلِ، بَلْ وَاحِدٌ فَقَطْ مِنْ أَهْلِ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ أَجْنَبِيٌّ فَقَالَ اللَّخْمِيُّ: يُضَمُّ لِأَهْلِ أَحَدِهِمَا أَجْنَبِيٌّ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُمَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَتَرْكُ الْقَرِيبِ لِأَحَدِهِمَا، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لِئَلاَّ يَمِيلَ الْقَرِيبُ لِقَرِيبِهِ.

وَنَدَبَ كَوْنَهُمَا جَارَيْنِ فِي بَعْثِ الْأَهْلَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ وَالْأَجْنَبِيَّيْنِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَهْلِهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُرْسِلُ مِنْ غَيْرِهِمَا.

وَقَالَ الْجَصَّاصُ: إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهَا وَالْآخِرُ مِنْ أَهْلِهِ لِئَلاَّ تَسْبِقَ الظِّنَّةُ إِذَا كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ بِالْمَيْلِ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ قِبَلِهِ وَالْآخَرُ مَنْ قِبَلِهَا زَالَتِ الظِّنَّةُ، وَتَكَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّنْ هُوَ مِنْ قِبَلِهِ.

د- شُرُوطُ الْحَكَمَيْنِ:

28- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْحَكَمَيْنِ الْعَدَالَةُ وَالْفِقْهُ بِأَحْكَامِ النُّشُوزِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: شَرْطُ الْحَكَمَيْنِ الذُّكُورَةُ وَالرُّشْدُ وَالْعَدَالَةُ وَالْفِقْهُ بِمَا حَكَمَا فِيهِ، وَبَطَلَ حُكْمُ غَيْرِ الْعَدْلِ- وَهُوَ الْفَاسِقُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ- بِإِبْقَاءٍ أَوْ بِطَلَاقٍ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ فِي خُلْعٍ، وَبَطَلَ حُكْمُ سَفِيهٍ- وَهُوَ الْمُبَذِّرُ فِي الشَّهَوَاتِ وَلَوْ مُبَاحَةً عَلَى الْمَذْهَبِ- وَحُكْمُ امْرَأَةٍ، وَحُكْمُ غَيْرِ فَقِيهٍ بِأَحْكَامِ النُّشُوزِ مَا لَمْ يُشَاوِرِ الْعُلَمَاءَ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ، فَإِنْ حَكَمَ بِمَا أَشَارُوا بِهِ عَلَيْهِ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْحَكَمَيْنِ التَّكْلِيفُ وَالْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَالَةُ وَالِاهْتِدَاءُ إِلَى الْمَقْصُودِ بِمَا بُعِثَا لَهُ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: الْأَظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّهُمَا وَكِيلَانِ، وَمُقَابِلُهُ وَهُوَ أَنَّهُمَا حَاكِمَانِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ فِيهِمَا ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا وَكِيلَانِ لِتَعَلُّقِ وَكَالَتِهِمَا بِنَظَرِ الْحَاكِمِ كَمَا فِي أَمِينِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الذُّكُورَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ فِي الْمَذْهَبِ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَتُنْدَبُ وَتُشْتَرَطُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحَكَمَانِ لَا يَكُونَانِ إِلاَّ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ، سَوَاءٌ قُلْنَا هُمَا حَاكِمَانِ أَوْ وَكِيلَانِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَظَرِ الْحَاكِمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِلاَّ عَدْلًا كَمَا لَوْ نُصِّبَ وَكِيلًا لِصَبِيٍّ أَوْ مُفْلِسٍ، وَيَكُونَانِ ذَكَرَيْنِ لِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ، قَالَ الْقَاضِي: وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا حُرَّيْنِ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَتَكُونُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَمْ تُعْتَبَرِ الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْعَبْدِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَا حَكَمَيْنِ اعْتُبِرَتِ الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ لِأَنَّهُمَا يَتَصَرَّفَانِ فِي ذَلِكَ فَيُعْتَبَرُ عِلْمُهُمَا بِهِ.

هـ- صِفَةُ الْحَكَمَيْنِ وَصَلَاحِيَّتُهُمَا:

29- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، لَا يُبْعَثَانِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا وَتَوْكِيلِهِمَا وَلَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ يَفْعَلَانِ مَا يَرَيَانِ أَنَّهُ الْمَصْلَحَةُ، وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ أَوْ لَمْ يُوكِّلَاهُمَا.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلٌ:

30- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْحَكَمَانِ وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ، أَحَدُهُمَا وَكَيْلُ الْمَرْأَةِ وَالْآخَرُ وَكِيلُ الزَّوْجِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَتُهُ بَيْنَهُمَا شِقَاقٌ إِلَى عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: ابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ تَجْمَعَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تُفَرِّقَا، قَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ بِمَا عَلَيَّ فِيهِ، قَالَ الرَّجُلَ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَا يَنْقَلِبُ حَتَّى يُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ، فَأَخْبَرَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- أَنَّ قَوْلَ الْحَكَمَيْنِ إِنَّمَا يَكُونُ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ.

وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُفَرِّقَا إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الزَّوْجَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِسَاءَةِ إِلَيْهَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُجْبِرْهُ الْحَاكِمُ عَلَى طَلَاقِهَا قَبْلَ تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِالنُّشُوزِ لَمْ يُجْبِرْهَا الْحَاكِمُ عَلَى خُلْعٍ وَلَا عَلَى رَدِّ مَهْرِهَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُهُمَا قَبْلَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ بَعْثِهِمَا لَا يَجُوزُ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ مِنْ جِهَتِهِمَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ وَتَوْكِيلِهِ وَلَا إِخْرَاجِ الْمَهْرِ عَنْ مِلْكِهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ خُلْعُهُمَا إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ الْحَكَمَانِ، وَإِنَّمَا هُمَا وَكِيلَانِ لَهُمَا فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي التَّفْرِيقِ.

وَقَالُوا: إِنَّ الْحَكَمَيْنِ لَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ بِالتَّوْكِيلِ، وَلَا يَكُونَانِ حَكَمَيْنِ إِلاَّ بِذَلِكَ، ثُمَّ مَا حَكَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَخْلَعَا بِغَيْرِ رِضَاهُ وَيُخْرِجَا الْمَالَ عَنْ مِلْكِهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَمَنَعَ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْحَاكِمَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَخْذَ مَالِ أَحَدٍ وَدَفْعَهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ أَخْذَ مَالِهَا وَدَفْعَهُ إِلَى زَوْجِهَا، وَلَا يَمْلِكُ إِقَاعَ طَلَاقٍ عَلَى الزَّوْجِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِهِ وَلَا رِضَاهُ

31- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلْحَكَمَيْنِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَفْرِيقُهُمَا جَائِزٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوَكِّلَاهُمَا، وَيَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خُلْعًا بِأَنْ كَانَ بِلَا عِوَضٍ، وَيُنَفَّذُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ بِهِ بَعْدَ إِيقَاعِهِ- وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلِلزَّوْجَيْنِ الَّذَيْنِ أَقَامَا الْحَكَمَيْنِ بِدُونِ رَفْعٍ لِلْحَاكِمِ الرُّجُوعُ- وَيُنَفَّذُ حُكْمُ الْحَاكِمَيْنِ إِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْحَاكِمُ، أَوْ خَالَفَ حُكْمَ قَاضِي الْبَلَدِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَا مُقَامَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ أَمْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ طَرِيقَهُمَا الْحُكْمُ لَا الشَّهَادَةُ وَلَا الْوَكَالَةُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} وَهَذَا نَصٌّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمَا قَاضِيَانِ لَا وَكِيلَانِ وَلَا شَاهِدَانِ، وَلِلْوَكِيلِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى، وَلِلْحَكَمِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى، فَإِذَا بَيَّنَ اللَّهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَكَّبَ مَعْنَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ- الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي اسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيَّةِ- أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: «أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا» فَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ أَوْ شَاهِدَيْنِ لَمْ يَقُلْ لَهُمَا: أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ: أَتَدْرِيَانِ بِمَا وُكِّلْتُمَا؟.

وَلَا يَلْزَمُ طَلَاقٌ أَوْقَعَهُ الْحَكَمَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا إِيقَاعُ الْأَكْثَرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَعْنَى الْإِصْلَاحِ الَّذِي بُعِثَا لَهُ فَلِلزَّوْجِ رَدُّ الزَّائِدِ، قَالَ الْآبِيُّ: وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يُفَرِّقَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَهِيَ بَائِنَةٌ فَإِنْ حَكَمَا بِهِ سَقَطَ.

وَإِنْ طَلَّقَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ وَاحِدَةً وَطَلَّقَ الْآخَرُ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَزِمَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّفَاقِ الْحَكَمَيْنِ عَلَى الْوَاحِدِ.

وَإِنْ طَلَّقَ الْحَكَمَانِ، وَاخْتَلَفَا فِي كَوْنِ الطَّلَاقِ بِالْمَالِ لِلزَّوْجِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ كَوْنِهِ بِلَا مَالٍ، بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: طَلَّقْتُهَا بِمَالٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: طَلَّقْتُهَا بِلَا مَالٍ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: طَلَّقْنَاهَا مَعًا بِمَالٍ وَقَالَ الْآخَرُ: بِلَا مَالٍ، فَإِنْ لَمْ تَلْتَزِمِ الزَّوْجَةُ الْمَالَ فَلَا طَلَاقَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ، وَيَعُودُ الْحَالُ كَمَا كَانَ، وَإِنِ الْتَزَمَتْهُ وَقَعَ وَبَانَتْ مِنْهُ.

وَيَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ- أَنْ يَأْتِيَا لِلْحَاكِمِ الَّذِي أَرْسَلَهُمَا فَيُخْبِرَاهُ بِمَا فَعَلَاهُ لِيَحْتَاطَ عِلْمُهُ بِالْقَضِيَّةِ، فَإِذَا أَخْبَرَاهُ وَجَبَ إِمْضَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ تَعَقُّبٍ وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ، بِأَنْ يَقُولَ: حَكَمْتُ بِمَا حَكَمْتُمَا بِهِ.

وَإِذَا أَقَامَ الزَّوْجَانِ حَكَمَيْنِ بِدُونِ رَفْعٍ إِلَى الْحَاكِمِ، جَازَ لِلزَّوْجَيْنِ أَنْ يَرْجِعَا عَنِ التَّحْكِيمِ وَيَعْزِلَا الْحَكَمَيْنِ مَا لَمْ يَسْتَوْعِبَا الْكَشْفَ عَنْ حَالِ الزَّوْجَيْنِ وَيَعْزِمَا عَلَى الْحُكْمِ بِالطَّلَاقِ، أَمَّا إِنِ اسْتَوْعَبَاهُ وَعَزَمَا عَلَى ذَلِكَ فَلَا عِبْرَةَ بِرُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمَا عَنِ التَّحْكِيمِ، وَيَلْزَمُهُمَا مَا حَكَمَا بِهِ، سَوَاءٌ رَجَعَ أَحَدُهُمَا أَوْ رَجَعَا مَعًا، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ رَضِيَا بِالْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَوَّازِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: يَنْبَغِي إِذَا رَضِيَا مَعًا بِالْبَقَاءِ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: مَفْهُومُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مُوَجَّهَيْنِ مِنَ الْحَاكِمِ فَلَيْسَ- أَيْ لِلزَّوْجَيْنِ- الْإِقْلَاعُ عَنِ التَّحْكِيمِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَوْعِبِ الْحَكَمَانِ الْكَشْفَ عَنْ حَالِ الزَّوْجَيْنِ.

32- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْحَكَمَانِ وَكِيلَانِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْأَظْهَرِ لِأَنَّ الْحَالَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْفِرَاقِ، وَالْبُضْعُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالْمَالُ حَقُّ الزَّوْجَةِ، وَهُمَا رَشِيدَانِ فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي حَقِّهِمَا، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوِلَايَةِ إِلاَّ فِي الْمَوْلَى وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، فَيُوَكِّلُ الزَّوْجُ إِنْ شَاءَ حَكَمَهُ بِطَلَاقٍ وَقَبُولِ عِوَضِ خُلْعٍ، وَتُوَكِّلُ الزَّوْجَةُ إِنْ شَاءَتْ حَكَمَهَا بِبَذْلِ عِوَضٍ لِلْخُلْعِ وَقَبُولِ طَلَاقٍ بِهِ، وَيُفَرِّقُ الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا إِنْ رَأَيَاهُ صَوَابًا.

وَلَا يَجُوزُ لِوَكِيلٍ فِي طَلَاقٍ أَنْ يُخَالِعَ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ أَفَادَهُ مَالًا فَوَّتَ عَلَيْهِ الرُّجْعَةَ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِوَكِيلٍ فِي خُلْعٍ أَنْ يُطَلِّقَ مَجَّانًا.

وَإِنِ اخْتَلَفَ رَأْيُ الْحَكَمَيْنِ بَعَثَ الْقَاضِي اثْنَيْنِ غَيْرَهُمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى شَيْءٍ، فَإِنْ عَجِزَا أَيْضًا أَدَّبَ الْقَاضِي الظَّالِمَ مِنْهُمَا وَأَخَذَ حَقَّ الْآخَرِ مِنْهُ.

وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ

حَاكِمَانِ مُوَلَّيَانِ مِنَ الْحَاكِمِ قَالَ الْخَطِيبُ: وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُمَا فِي الْآيَةِ حَكَمَيْنِ، وَالْوَكِيلُ مَأْذُونٌ لَيْسَ بِحَكَمٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَا يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ بِبَعْثِهِمَا، وَيَحْكُمَانِ بِمَا يَرَيَاهُ مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَإِذَا رَأَى حَكَمُ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ اسْتَقَلَّ بِهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى طَلْقَةٍ، وَإِنْ رَأَى الْخُلْعَ وَوَافَقَهُ حَكَمُهَا تَخَالَعَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ.

33- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَكَمَيْنِ:

فَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُمَا وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ، لَا يُرْسَلَانِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا وَتَوْكِيلِهِمَا، وَلَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا، لِأَنَّ الْبُضْعَ حَقُّهُ وَالْمَالَ حَقُّهَا، وَهُمَا رَشِيدَانِ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمَا التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلاَّ بِوَكَالَةٍ مِنْهُمَا أَوْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ كَمَا قَالَ الْمُرْدَاوِيُّ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُمَا حَاكِمَانِ، وَلَهُمَا أَنْ يَفْعَلَا مَا يَرَيَانِ مِنْ جَمْعٍ وَتَفْرِيقٍ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا يَحْتَاجَانِ إِلَى تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا رِضَاهُمَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} فَسَمَّاهُمَا حَكَمَيْنِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} فَخَاطَبَ الْحَكَمَيْنِ بِذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قُلْنَا: هُمَا وَكِيلَانِ فَلَا يَفْعَلَانِ شَيْئًا حَتَّى يَأْذَنَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ صُلْحٍ، وَتَأْذَنُ الْمَرْأَةُ لِوَكِيلِهَا فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَلَى مَا يَرَاهُ، وَلَا يَصْلُحُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْحَكَمَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُوَكَّلَا فِيهِ إِلاَّ فِي الْخُلْعِ خَاصَّةً مِنْ وَكِيلِ الْمَرْأَةِ فَقَطْ فَتَصِحُّ بَرَاءَتُهُ عَنْهَا، لِأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بِعِوَضٍ، فَتَوْكِيلُهَا فِيهِ إِذْنٌ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَمِنْهَا الْإِبْرَاءُ.

وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ فَإِنَّهُمَا يُمْضِيَانِ مَا يَرَيَانِهِ مِنْ طَلَاقٍ وَخُلْعٍ، فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا رَضِيَاهُ أَوْ أَبَيَاهُ.

و- إِقَامَةُ حَكَمٍ وَاحِدٍ:

34- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِقَامَةِ حَكَمٍ وَاحِدٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَالِ الشِّقَاقِ:

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لِلْحَاكِمِ يَكُونُ عَدْلًا رَشِيدًا ذَكَرًا فَقِيهًا بِمَا بُعِثَ لَهُ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ الْحَكَمُ مَا يَفْعَلُهُ الْحَكَمَانِ مِنَ الْإِصْلَاحِ أَوِ التَّطْلِيقِ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ إِقَامَةِ الْوَلِيَّيْنِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْمَحْجُورَيْنِ حَكَمًا وَاحِدًا عَلَى الصِّفَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالرُّشْدِ وَالذُّكُورَةِ وَالْفِقْهِ، وَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُمَا، فَقَالَ اللَّخْمِيُّ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَالْأَظْهَرُ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ- الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِمَنْعِ إِقَامَةِ حَكَمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَوْ أُقِيمَ وَحَكَمَ بِشَيْءٍ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ الرَّمْلِيُّ: لَا يَكْفِي حَكَمٌ وَاحِدٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ يَنْظُرَانِ فِي أَمْرِهِمَا بَعْدَ اخْتِلَاءِ حَكَمِ كُلٍّ بِهِ وَمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُ.

وَقَالَ الْخَطِيبُ: اقْتَضَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ- النَّوَوِيِّ- عَدَمَ الِاكْتِفَاءِ بِحَكَمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَتَّهِمُهُ وَلَا يُفْشِي إِلَيْهِ سِرَّهُ.

ز- مَا يَنْبَغِي لِلْحَكَمَيْنِ:

35- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَا اسْتَطَاعَا، فَإِنْ أَعْيَاهُمَا الصُّلْحُ رَفَعَا الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ أَوْ فَرَّقَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُبْعَثُ الْحَكَمَانِ إِلَى الزَّوْجَيْنِ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَعْيَاهُمَا الصُّلْحُ وَعَظَا الظَّالِمَ مِنْهُمَا، وَأَنْكَرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ، وَأَعْلَمَا الْحَاكِمَ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ عَلَى يَدِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِكُلِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُمَا لِأَجْلِ الْأُلْفَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْلُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَرِيبِهِ وَيَسْأَلَهُ عَمَّا كَرِهَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَيَقُولَ لَهُ: إِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فِي صَاحِبِكَ رَدَدْنَاهُ لِمَا تَخْتَارُ مَعَهُ.

فَإِنْ تَعَذَّرَ الْإِصْلَاحُ نَظَرَ الْحَكَمَانِ: فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِسَاءَةَ مِنَ الزَّوْجِ طَلَّقَا عَلَيْهِ بِلَا خُلْعٍ، أَيْ بِلَا مَالٍ يَأْخُذَانِهُ مِنْهَا لَهُ لِظُلْمِهِ.

وَإِنْ كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنْهَا ائْتَمَنَاهُ عَلَيْهَا وَأَقَرَّاهَا عِنْدَهُ- إِنْ رَأَيَاهُ صَلَاحًا- وَأَمَرَاهُ بِالصَّبْرِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، أَوْ خَالَعَا لَهُ بِنَظَرِهِمَا فِي قَدْرِ الْمُخَالَعِ بِهِ وَلَوْ زَادَ عَلَى الصَّدَاقِ، إِنْ أَحَبَّ الزَّوْجُ الْفِرَاقَ أَوْ عَلِمَا أَنَّهَا لَا تَسْتَقِيمُ مَعَهُ.

وَإِنْ كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِصْلَاحِ الطَّلَاقُ بِلَا خُلْعٍ إِنْ لَمْ تَرْضَ الزَّوْجَةُ بِالْمَقَامِ مَعَهُ، أَوْ لَهُمَا أَنْ يُخَالِعَا بِالنَّظَرِ عَلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْهَا لَهُ؟ قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ- أَيْ عَلَى الْخُلْعِ بِالنَّظَرِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ شُرَّاحِ الْمُدَوَّنَةِ- وَقَالَ الشَّبْرَخِيتِيُّ: إِنَّ الْأَوَّلَ- وَهُوَ الطَّلَاقُ بِلَا خُلْعٍ- هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.

وَقَالَ الْآبِيُّ نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ: فِي كَيْفِيَّةِ التَّفْرِقَةِ عِبَارَاتٌ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِنْ كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَرَّقَ الْحَكَمَانِ عَلَى بَعْضِ الصَّدَاقِ فَلَا يَسْتَوْعِبَاهُ لَهُ، وَعَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَشْهَبَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهُوَ مَعْنَى قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَقَالَ ابْنُ فَتْحُونٍ: إِنْ لَمْ يَقْدِرَا عَلَى الصُّلْحِ فَرَّقَا بِشَيْءٍ مِنَ الزَّوْجَةِ لَهُ، أَوْ إِسْقَاطِهِ عَنْهُ، أَوْ عَلَى الْمُتَارَكَةِ دُونَ أَخْذٍ وَإِسْقَاطٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ لَهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَبِعَهُ الْمُتَيْطِيُّ.

وَعَلَى الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَأْتِيَا الْحَاكِمَ فَيُخْبِرَاهُ بِمَا حَكَمَا بِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَنْظُرُ الْحَكَمَانِ فِي أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ اخْتِلَاءِ حَكَمِهِ بِهِ وَحَكَمِهَا بِهَا وَمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَلَا يُخْفِي حَكَمٌ عَنْ حَكَمٍ شَيْئًا إِذَا اجْتَمَعَا، وَيُصْلِحَانِ بَيْنَهُمَا أَوْ يُفَرِّقَانِ بِطَلْقَةٍ إِنْ عَسُرَ الْإِصْلَاحُ، وَيَلْزَمُ كُلًّا مِنَ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَحْتَاطَ، فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِوَكِيلِهِ: خُذْ مَالِي مِنْهَا وَطَلِّقْهَا، أَوْ طَلِّقْهَا عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مَالِي مِنْهَا اشْتَرَطَ تَقْدِيمَ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: خُذْ مَالِي مِنْهَا وَطَلِّقْهَا- كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ تَصْحِيحِ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّهُ- لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَاطُ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ، فَإِنْ قَالَ: طَلِّقْهَا ثُمَّ خُذْ مَالِي مِنْهَا جَازَ تَقْدِيمُ أَخْذِ الْمَالِ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ خَيْرٍ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَكَالتَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فِيمَا ذُكِرَ التَّوْكِيلُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ، كَأَنْ قَالَتْ: خُذْ مَالِي مِنْهُ ثُمَّ اخْتَلِعْنِي.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَنْوِيَا الْإِصْلَاحَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} وَأَنْ يُلَطِّفَا الْقَوْلَ، وَأَنْ يُنْصِفَا، وَيُرَغِّبَا، وَيُخَوِّفَا، وَلَا يَخُصَّا بِذَلِكَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا.

ح- غِيَابُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ جُنُونُهُ:

36- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ التَّحْكِيمِ لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ، وَلَوْ جُنَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا انْقَطَعَ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: عَلَى الْقَوْلِ الْأَظْهَرِ بِأَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ إِنْ أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ جُنَّ وَلَوْ بَعْدَ اسْتِعْلَامِ الْحَكَمَيْنِ رَأْيَهُ لَمْ يُنَفَّذْ أَمْرُهُمَا، لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ جُنَّ قَبْلَ الْبَعْثِ لَمْ يَجُزْ بَعْثُ الْحَكَمَيْنِ، وَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ نُفِّذَ أَمْرُهُمَا كَمَا فِي سَائِرِ الْوُكَلَاءِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى- بِاعْتِبَارِهِمَا وَكِيلَيْنِ، وَهِيَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ- وَيَنْقَطِعُ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَعْتَبِرُهُمَا حَاكِمَيْنِ، وَقِيلَ: لَا يَنْقَطِعُ نَظَرُهُمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِاعْتِبَارِهِمَا حَاكِمَيْنِ.

وَلَوْ جُنَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا انْقَطَعَ نَظَرُهُمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَلَى الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ عَلَى الْمَجْنُونِ، قَالَ الْمُرْدَاوِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَأَضَافَ قَوْلَهُ: وَجَزَمَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُغْنِي بِأَنَّ نَظَرَهُمَا يَنْقَطِعُ أَيْضًا عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ بَقَاءُ الشِّقَاقِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ جَازَ لِلْحَكَمَيْنِ إِمْضَاءُ رَأْيِهِمَا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُمَا وَكِيلَانِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْغَيْبَةِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ لَمْ يَجُزْ لَهُمَا إِمْضَاءُ الْحُكْمِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَحْكُومٌ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَا قَدْ وَكَّلَاهُمَا فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْكِيلِ لَا بِالْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ وَكَّلَ جَازَ لِوَكِيلِهِ فِعْلَ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ مَعَ غَيْبَتِهِ.

وَإِنْ جُنَّ أَحَدُهُمَا بَطَلَ حُكْمُ وَكِيلِهِ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ بَقَاءَ الشِّقَاقِ وَحُضُورَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ الْجُنُونِ.

ط- امْتِنَاعُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ تَوْكِيلِ الْحَكَمَيْنِ:

37- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، فَلَا يُرْسَلُ الْحَكَمَانِ إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ بِبَعْثِهِمَا أَوِ امْتَنَعَا مِنْ تَوْكِيلِهِمَا لَمْ يُجْبَرَا عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَزَالُ الْحَاكِمُ يَبْحَثُ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ مَنِ الظَّالِمُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَيَرْدَعُهُ وَيُسْتَوْفِي مِنْهُ الْحَقَّ لِلْمَظْلُومِ إِقَامَةً لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com