نتائج البحث عن (بِعِبَارَاتٍ)
1-العربية المعاصرة (شاد)
شادَ يَشِيد، شِدْ، شَيْدًا، فهو شائد، والمفعول مَشيد.* شاد البناءَ: رفعه وأعلاه {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [قرآن].
أشادَ/أشادَ ب يُشيد، أَشِدْ، إشادةً، فهو مُشيد، والمفعول مُشاد.
* أشاد البِناءَ: شاده، طوّله، أعلاه ورفعه.
* أشاد ذكرَه/أشاد بذكره: أثنى عليه بعباراتٍ تقريظيَّة، مدَحه، رفعه بالثناء عليه (أشاد بطبيب) (*) أشاد بالفضيلة: مدحها، أعلى من شأنها- أشاد بنفسه: افتخر بها.
شيَّدَ يُشيِّد، تشييدًا، فهو مُشيِّد، والمفعول مُشَيَّد.
* شيَّد البناءَ: شادَه، رفعه وأعلاه (شيَّد نُصُبًا تذكاريًّا/القصرَ/مجدَه- شيّد خزّانًا على النهر- {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [قرآن]: محكمة، محصَّنة).
إشادة [مفرد]: مصدر أشادَ/أشادَ ب.
تشييديَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى تشييد: (حركة/هندسة تشييديَّة).
* قراءة تشييديَّة: قراءة إبداعيَّة، تستوحي من النصوص المقروءة أفكارًا وألفاظًا تبني العقل والشخصيَّة الثقافيَّة.
شائد [مفرد]: اسم فاعل من شادَ.
شَيْد [مفرد]: مصدر شادَ.
مَشيد [مفرد]: اسم مفعول من شادَ.
مُشيد [مفرد]: اسم فاعل من أشادَ/أشادَ ب.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-العربية المعاصرة (غلظ)
غلَظَ/غلَظَ على يَغلِظ، غِلَظًا وغَلاظةً وغِلْظَةً، فهو غليظ، والمفعول مغلوظ عليه.* غلَظ الشَّيءُ: ثخُن وصلُب، خلاف رقَّ ودقَّ ولان (غلَظ شرابٌ مخفوق/الغُصْنُ).
* غلَظ عليه في القول: عنف واشتدّ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلِظْ عَلَيْهِمْ} [قرآن]).
غلُظَ/غلُظَ على/غلُظَ ل يَغلُظ، غِلَظًا وغِلْظةً، فهو غليظ، والمفعول مغلوظ عليه.
* غلُظت ساقُ الشّجرة: كبُر حجمُها، عكسه رقّت (حبلٌ غليظ).
* غلُظ الرَّجلُ: غلَظَ؛ قسا وعنُف، اشتدّ وصعُب، عكسه رقّ ولان (غليظ القلب/الطّبع/القول والفعل- غلُظت الأرضُ: خشنت وصعُبت- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [قرآن]) (*) غلُظ العيشُ: اشتدّ وصعُب.
* غلُظَ الصَّوتُ: قوي، ارتفعت نبرتُه.
* غلُظ على خَصْمِه/غلُظ لخَصْمِه: عنُف واشتدّ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [قرآن].
أغلظَ/أغلظَ ل يُغْلِظ، إغلاظًا، فهو مُغلِظ، والمفعول مُغلَظ.
* أغلظ اليمينَ: أكّدها، شدّدها.
* أغلظ لفلان القولَ/أغلظ لفلانٍ في القول: خاطبه بعبارات جافّة وقاسية، اشتدّ عليه فيه (أغلظتُ القولَ لمن كذَب عليَّ وغشَّني).
استغلظَ يستغلظ، استغلاظًا، فهو مُستغلِظ، والمفعول مُستغلَظ (للمتعدِّي).
* استغلظ النَّباتُ: اشتدَّ وخرج فيه الحَبُّ، استحكمت نبتتُه (استغلظ الشجرُ/الزرعُ- {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [قرآن]).
* استغلظ صوتَها: وجدَه غليظًا خشنًا، عكسه رقيق (استغلظ النِّكات التي يرويها له صديقه).
غالظَ يُغالِظ، مُغالَظةً، فهو مُغالِظ، والمفعول مُغالَظ.
* غالَظ فلانًا: عاداه وقسا عليه وعارضه (غالَظ جارَه من غير سبب).
غلَّظَ/غلَّظَ على يغلِّظ، تغليظًا، فهو مُغلِّظ، والمفعول مُغلَّظ.
* غلَّظ صوتَه: خشَّنه، جعله غليظًا، عكسه رقَّقه (غلّظ الكِبَرُ تقاطيعَ وجهه).
* غلَّظ اليمينَ/غلَّظ عليه في اليمين: أكّدها، شدّدها، قوّاها (حلفت له بالأقسام المغلّظة- غلَّظ عليه في الميثاق) (*) الدِّيَّة المغلّظة: الشديدة القويّة التي تجب في شبه العمد.
تغلُّظ [مفرد]: حالة صوت عند الولد تتغيّر نبرتُه عند مقاربة البُلوغ (تغلُّظ الصَّوت).
غَلاظة [مفرد]: مصدر غلَظَ/غلَظَ على.
غِلَظ [مفرد]: مصدر غلَظَ/غلَظَ على وغلُظَ/غلُظَ على/غلُظَ ل.
غَلْظَة/غُلْظَة [مفرد]: قساوة وشِدّة {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غَلْظَةً} [قرآن] - {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غُلْظَةً} [قرآن]).
غِلْظة [مفرد]:
1 - مصدر غلَظَ/غلَظَ على وغلُظَ/غلُظَ على/غلُظَ ل (*) بينهما غِلْظَة: عداوة.
2 - اسم هيئة من غلَظَ/غلَظَ على وغلُظَ/غلُظَ على/غلُظَ ل.
غليظ [مفرد]: جمعه غِلاظ:
1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من غلَظَ/غلَظَ على وغلُظَ/غلُظَ على/غلُظَ ل: سميك، خشن، عكسه رقيق (*) غليظ الذِّهن: عَديم الذّكاء- غليظُ الرَّقبة: جِلْف، عنيد.
2 - قاسٍ، عكسه رقيق أو ليِّن (كلام/طبع/عيش غليظ- {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [قرآن] - {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ} [قرآن]) (*) أمرٌ غليظ: شديد، صَعْب- غليظ القلب: لا يتأثّر بشيء- غليظ الكبد: جافٍ، شرس، قاسٍ.
3 - مؤكَّد، مشدَّد، ثابت (عهدٌ غليظ- يمين غليظة- {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [قرآن]).
4 - أليم {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [قرآن].
* المِعَى الغليظ: [في التشريح] الجزء السُّفليّ من الأمعاء، وهو أغلظ من الجزء العلويّ، قسم من القناة الهضميّة يتبع المعدة ويتألّف من الأعور، القولون، المستقيم.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
3-المعجم الوسيط (الإِنْشَاءُ)
[الإِنْشَاءُ] - (عند علماء البلاغة): الكلام الذي ليس لنسبته خارج تطابقه هذه النسبة أَو لا تطابقه.و- (عند الأُدباء): فن يُعْلم به جَمْع المعاني والتأْليف بينها وتنسيقها ثم التعبير عنها بعباراتٍ أَدبيّة بليغة.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
4-معجم متن اللغة (عناية العرب بلغتهم 2)
من أوهام الأعلامالعصمة لله
توفر الأئمة على جمع اللغة والتقاط أوابدها وشواردها من البادية الموثوق بعربيتها، وبذلوا في ذلك جهدًا جهيدًا، وتحرزوا من الكذب في النقل عن العرب، فكانت وثاقة الناقل وصدقة هما ميزان القبول في نقله.
وجعلوا ضابط الصحيح من اللغة ما تصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، على حد الصحيح من الحديث.
وإنما شرطت الثقة والعدالة في الناقل لا في المأخوذ عنه.
ومع ذلك فإن الذين دونوا اللغة ورتبوها، وأخذوها عمن كتبها من العرب لم يكونوا في عصمة عن السهو والغلط والتحريف.
ولكنه قليل إلى جنب الكثير من إفادتهم وجهودهم.
فلم يسلم أجل الكتب وأقدمها ترتيبًا لأشهر إمام قام بين أئمة اللغة العربية، الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو كتاب "العين" من اعتراضٍ، وإن جل قدر الخليل بينهم عن الاعتراض، فنسبوه إلى الليث ابن نصر بن سيار الذي أتم كتاب "العين".
قال الجوهري: إن "المحيط" لابن عباد فيه أغلاط فاحشة، ولذا ترك الأخذ منه (تاج م ظ ع).
وإن أحمد بن عبد الرحمن بن قابوس الطرابلسي اللغوي قرأ "الجمهرة" على ابن خالويه بروايته لها عن ابن دريد، وكتب عليها حواشي من استدراك ابن خالويه على مواقع منها، ونبه على أوهام وتصحيفات (المزهر: 1: 58.)
وأبو زكريا الخطيب التبريزي اللغوي يقول في صحاح الجوهري: "إنه كتاب حسن الترتيب سهل المطلب لما يراد منه، وقد أتى بأشياء حسنة وتفاسير مشكلات من اللغة، إلا أنه مع ذلك فيه تصحيف لا يشك في أنه من المصنف لا من الناسخ، لأن الكتاب مبني على الحروف؛ قال: ولا تخلو هذه الكتب الكبار من سهو يقع فيها أو غلط، وقد ورد على أبي عبيد، في الغريب المصنف، مواضع كثيرة منه.
غير أن القليل من الغلط الذي يقع في الكتب إلى جنب الكثير الذي اجتهدوا فيه، "
وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه، معفو عنه. هذا كلام الخطيب التبريزي أبي زكريا، على ما نقله المزهر (1 - 60).
وفي التاج: "وقد وقع فيه، أي الغلط والتحريف، جماعة من الأجلاء من أئمة اللغة وأئمة الحديث، حتى قال الإمام أحمد: ومن يعري عن الخطأ والتصحيف؟ "
قال ابن دريد: "صحف الخليل بن أحمد فقال: يوم لغاث، بالغين المعجمة وإنما هو بالمهملة، أورده ابن الجوزي.
وفي صحاح الجوهري قال الأصمعي: "كنت في مجلس شعبة فروى الحديث قال: تسمعون جرش طير الجنة، بالشين المعجمة، فقلت: جرس، فنظر إلي وقال: خذوها منه فإنه أعلم بهذا منا".
وقال الحافظ محمد ناصر الدمشقي في رسالة له: "إن ضبط القلم لا يؤمن التحريف عليه، بل يتطرق أوهام الظنانين إليه لاسيما من علمه من الصحف بالمطالعة، من غير تلقٍ من المشايخ ولا سؤلة ولا مراجعة.
ويقول الفيروز أبادي في مقدمة كتابه "المحيط": "واختصصت كتاب الجوهري- الصحاح- من بين الكتب اللغوية، مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة، لتداوله واشتهاره واعتماد المدرسين على نقوله ونصوصه.
يقول هذا صاحب القاموس ويتبجج بفضله على الأوائل في صدر هذه المقدمة؛ ولكنه لم يسلم هو من التحريف والتصحيف في قاموسه، وإليك شاهدًا منها؛ وإذا أردت المزيد فعليك بتاج العروس تر فيه العجب العجاب: جاء في مادة "ت ر ع" من معاني الترعة، قال الشارح: "جعله – أي الوجه- من معاني الترعة وهو خطأ" أخذه من قول أبي عبيدة حين فسر الحديث وذكر تفسير راوي الحديث فقال: هو الوجه عندنا، فظن المصنف، الفيروز أبادي، أنه معنى من معاني الترعة.
وإنما يشير إلى ترجيح ما فسره الراوي فتأمل! وفي مادة "ح ر ز" المحارزة: المفاكهة التي تشبه السباب؛ يقول صاحب التاج: "قلت الصواب فيه الجيم كما تقدم وقد تصحف على المصنف هما. وقال صاحب القاموس في مادة "ج ر ز" المجارزة: مفاكهة تشبه السباب، نقله الصاغا
وفي القاموس مادة " س ع د": "وبنو ساعده قوم من الخزرج وسقيفتهم بمكة" يقول صاحب التاج هكذا في سائر المصححة والأصول المقررة، ولا شك في أنه سبق قلم، لأنه أدرى بذلك لكثرة مجاورته وتردده في الحرمين الشريفين، والصواب أنها بالمدينة كما وجد ذلك في بعض
النسخ على الصواب، وهو إصلاح من التلامذة.
وفي مادة " ج ر ر": "الجر أصل الجبل وسفحه والجمع جرار....
قال ابن دريد: "هو حيث علا من السهل على الغلظ وهو مجاز كما يقال قيل الجبل، أو تصحيف للفراء، والصواب: الجراصل كعلابط للجبل، والعجب من المصنف حيث لم يذكر الجر أصل في كتابه هذا- القاموس- بل ولا تعرض له أحد من أئمة الغريب، فإذًا لا تصحيف كما لا يخفى.
وجاء في القاموس ما نصه: "وغلط الجوهري فاحش في دراهم زائفات "ضرب جيات" فإنه قال: أي ضرب أصبهان، فجمع جيًا باعتبار أجزائها، والصواب ضربجيات أي دريات جمع ضربجي أي زائف.
وفي التاج عن ابن الأعرابي: درهم ضربجي أي زائف، ثم اعتذر الشارح بأن الأصل في ضربجي: ضرب جي، وهي المدينة القديمة.
من أغلاط الأئمة لسبق الوهم والقلم
وفي لسان العرب مادة "ح ب ك" بعد أن ذكر رواية أبي عبيد عن الأصمعي في الاحتباك أنه الاحتباء وهو غلط، وصوابه الاحتياك، بالياء، قال: "والذي سبق إلى وهمي أن أبا عبيد كتب هذا الحرف عن الأصمعي بالياء، ـ فنزل في النقط وتوهمه باء".
قال: "والعالم وإن كان غاية في الضبط والإتقان فإنه لا يكاد يخلو من خطيئة بزلة، والله أعلم."
قال صاحب اللسان: "ولقد أتصف الجوهري، رحمه الله، فيما بسطه في هذه المقابلة، فإنا نجد كثيرًا من أنفسنا ومن غيرنا أن القلم يجري فينفط ما لا يجب نفطه، ويسبق إلى ضبط ما لا يختاره كاتبه، ولكنه إذا قرأه بعد ذلك أو قرئ عليه تيقظ له وتفطن لما جرى به فاستدركه.
وفي أيضًا مادة "ح شء": وفي التهذيب: حشأت النار إذا غشيتها؛ قال الأزهري: "هو باطل وصوابه حشأت المرأة إذا غشيتها فافهمه؛ قال: "وهذا من تصحيف الوراقين.
وفي مادة " هـ ن ن" قال أبو حاتم: "حضرت الأصمعي وسأله إنسان عن قوله: "ما ببعيري هانة ولا هنانة" فقال: إنما هو "هتاتة" بتاءين؛ قال أبو حاتم: قلت إنما هو "هانة وهنانة" ويجنبه أعرابي فسأله فقال: "ما الهنانة؟ " قال: لعلك تريد الهنانة، فرجع إلى الصواب؛ قال الأزهري: "وهكذا سمعته من العرب: الهنانة، بالنون: الشحم، كل شحمةٍ هنانة؛ والهنانة: بقية المخ.
وفي مادة "ح ل ب" عند ذكر المثل: شتى تؤوب الحلبة.
قال الشيخ أبو محمد بن بري: هذا المثل ذكره الجوهري "شتى تؤوب الحلبة" وغيره ابن
القطاع فجعل بدل "شتى" ونصب تؤوب.
قال: "والمعروف هو الذي ذكره الجوهري، وكذلك أبو عبيد الأصبعي، وقال: أصله أنهم كانوا يوردون إبلهم الشريعة والحوض جميعًا، فإذا صدروا تفرقوا إلى منازلهم فحلب كل واحد منهم في أهله."
وفي مادة "خ ض م": والخضم المسن، لأنه إذا شحذ الحديد قطع؛ قال أبو وجزة:
«حرى موقعة ماج البنان بها *** على خضم لسقي الماء عجاج»
وفي الصحاح: "الخضم، في قول أبي وجزة: المسن من الإبل، قال ابن بري: "وصوابه المسن الذي يسن عليه الحديد؛ قال: وكذلك حكاه أبو عبيد، عن الأموي، وذكر البيت الذي ذكره لأبي وجزة؛ وقد أورده ابن سيده وغيره، وفسره فقال: شبهها بسهم موقع قد ماجت الأصابع في سنه على حجر خضم يأكل الحديد عجاج أي بصوته عجيج.
وأورد صاحب اللسان: "خبص خبصًا بمعنى عدا عدوًا شديدًا"؛ قال صاحب التاج: "أهله الجوهري وأورده صاحب اللسان والصاغاني، قلت: وهو تصحيف جنص جنصًا، بالجيم والنون.
وفي القاموس مادة "ص ن ق": الصنق، ككتف: المتبين الشديد الصلب كالصانق؛ قال في التاج: هكذا في سائر النسخ، وهو غلط نشأ عن تصحيف قبيح، والصواب الصنق: المتن، كالصانق كما هو نص العباب، وكأن صاحب القاموس قد تصحفت عليه كلمة المنتن بالمتين، وأعقبها من عنده بما يؤيد المتانة، وهو الشدة والصلابة، وهذا من الغرائب في الأوهام.
وفي مادة " ط وس": والطوس، بالضم: دوام الشيء؛ قال صاحب التاج: هكذا في أكثر النسخ وفي بعضها دوام المثنى.
وهو غلط فلحش لا أدري كيف ارتكبه المصنف مع جلالة قدره، ولعله من تجريف النساخ.
والصواب دواء المشي، نسبه الصاغاني إلى ابن الأعرابي ومعناه دواء يمشي البطن، وهو الأذريطوس.
وفي لسان العرب مادة "خ ش ف": والمخشف النجران الذي يجري منه الباب، وليس له فعل؛ وقال صاحب التاج: والمخشف "كمقعد" اليخدان، عن الليث، قال الصاغاني: ومعناه موضع الجمد؛ قلت: واليخ بالفارسية الجمد، ودان هو موضعه وهو الصواب، وقد غلط صاحب اللسان لما رأى لفظ اليخدان في كتاب العين ولم يفهم معناه فصحفه وقال: هو النجران، وزاد عبارة: الذي يجري عليه الباب؛ ولا أخاله إلا مقلدًا للأزهري، والصواب ما ذكرناه، رضي الله عليهم أجمعين.
من طرائف الأوهام:
لهؤلاء الأئمة الأعلام طرائف أوهام، منها ما جاء في التاج مادة "س ل م": وقول
الجوهري: ويقال للجلدة التي بين العين والأنف سالم غلط؛ تبع به خاله أبا نصر الفارابي- هكذا جاءت في التاج وفي طبقات ابن الأنبا ري، وإنما الفارابي أبو إبراهيم أو أبو يعقوب، في كتاب "ديوان الأدب" كما صرح به غير واحد من الأئمة، واستشهاده ببيت عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، في ولده سالم:
«يديرونني عن سالم وأديرهم *** وجلدة بين العين والأنف سالم»
قال الجوهري: وهذا المعنى أراد عبد الله في جوابه على كتاب الحجاج أنه عندي كسالم؛ قال ابن بري: هذا وهم قبيح أي جعله سالمًا للجلدة التي بين العين والأنف، وإنما سالم بن عبد الله ابن عمر، فجعله لمحبته له بمنزلة جلدة ما بين عينه وأنفه.
قال شيخنا: والصحيح أن البيت المذكور هو لزهير، وإنما كان يتمثل به ابن عمر.
وجاء في اللسان مادة "ح وز" عن الأزهري: وحوزة المرأة: فرجها؛ وقال امرأة:
«فظلت أحشو الترب في وجهه *** عني، وأحمي حوزة الغائب»
قال محمد بن مكرم: "إن كان للأزهري دليل غير شعر المرأة في قولها: "وأحمي حوزة الغائب" على أن حوزة المرأة فرجها سمع؛ واستدلاله بهذا البيت فيه نظر لأنها لو قالت "وأحمي حوزتي للغائب" صح له الاستدلال، لكنها قالت: "وأحمي حوزة الغائب" وهذا القول منها لا يعطي حصر المعنى في أن الحوزة فرج المرأة، لأن كل عضو للإنسان قد جعله الله في حوزته، وجميع أعضاء المرأة والرجل حوزة، وفرج المرأة أيضًا في حوزتها حتى تتزوج، فيصبح في حوزة زوجها...."
ثم وما أشبه هذا بوهم الجوهري في استدلاله ببيت عبد الله بن عمر في محبته لابنه سالم، وأورد القصة ثم قال: وكذلك هذه المرأة، جعلت فرجها في حوزة زوجها فحمته له من غيره لا أن اسمه حوزة... إلخ
وقيل: إن أبا عبيد قال: صآة، في الماء الذي يكون في السلي، فرد عليه وقيل له هو: صاءة، فقيله؛ وقال: الصاءة على وزن الساعة لئلا ينساه بعد ذلك.
وقال ابن الأعرابي في النوادر: "أصنع الرجل إذا أعان أخرق" فأشتبه على ابن عباد فقال هو آخر، ثم زاد عليه من عنده: وأصنع الأخرق تعلم، وأحكم، كذا في العباب؛ وقلده الصاغاني من غير مراجعة لنص ابن الأعرابي.
قلت: ثم تبعهما صاحب القاموس؛ قال في التاج: والصواب ما ذكرناه ومثله في اللسان.
وفي التاج مادة "ظ ر ر": واختلف في البصرة في مجلس اليزيدي نديمان له نحويان في الظروري، فقال أحدهما: هو الكيس، وقال الآخر: هو الكيش؛ فكتبوا إلى أبي عمر الزاهد يسألونه عن ذلك، فقال أبو عمر: من قال إن الظروري الكيش فهو تيس، إنما هو الكيس!
من الإصرار على الغلط
ما جاء في التاج مادة "ج د ع" وأورد لبشر بن أبي حازم:
«ليبكك الشرب والمدامة *** والفتيان طرأ وطامع طمعًا.»
«وذات هدم عار نواشرها *** تصمت بالماء تولبًا جدعًا.»
وأورده اللسان لأوس بن حجر.
قال: وقد صحف بعض العلماء هذه اللفظة؛ قال الجوهري: ورواه المفضل بالذال المعجمة ورد عليه الأصمعي؛ قلت: قال الأزهري في أثناء خطبة كتابه: جمع سليمان بن علي الهاشمي بالبصرة بين المفضل الضبي والأصمعي، فأنشد المفضل "وذات هدم" وقال آخر البيت: "جذعًا" ففطن الأصمعي لخطأه، وكان أحدث سنًا منه، فقال: إنما هو "تولبًا جذعًا" وأراد تقريره على الخطأ فلم يفطن المفضل لمراده، وقال: كذلك أنشدته؛ فقال الأصمعي حينئٍذ: أخطأت إنما هو "تولبًا جدعًا" فقال له المفضل: جدعًا جذعًا! ورفع صوته ومده، فقال الأصمعي: لو نفخت في الشبور ما نفعك، تكلم كلام النمل وأصب، إنما هو جدعًا! فقال سليمان بن علي: من تختار أن أجعله بينكما؟ فاتفقا على غلام من بني أسد حافظ للشعر، فأحضر، فعرضا عليه ما اختلفا فيه، فصدق الأصمعي وصوب قوله، فقال له المفضل: وما الجدع؟ قال: السيئ الغذاء.
ومثل ذلك ما حكاه المبرد، عن أبي محمد التوزي، عن أبي عمر الشيباني، قال: كنا بالرقة فأنشد الأصمعي:
«عننا باطلًا وظلمًا كما تعنز *** عن حجرة الربيض الظباء»
فقلت له: إنما تعتر من العتيرة، والعتر الذبح، فقال الأصمعي: تعتز أي تطعن بالعنزة وهي الحربة، وجعل يصيح ويشغب، فقلت: تكلم كلام النمل وأصب، والله لو نفخت في شبور يهودي وصحت إلى التناد ما نفعك، ولا كان إلا تعتر، ولا رويته أنت بعد هذا اليوم إلا تعتر! فقال الأصمعي: والله لا رويته بعد هذا اليوم إلا تعنز! قال في اللسان: ومعنى البيت أن الرجل كان يقول في الجاهلية: إن بلغت إبلي مائة تعرت عنها عتيرة، فإذا بلغت مائة ضن بالغنم، فصاد ظبيًا فذبحه؛ يقول: فهذا الذي تسألوننا اعتراض وباطل وظلم كما يعتر الظبي عن ربيض الغنم.
وفي المزهر: قال الزبيدي: حدثني قاضي القضاة منذر بن سعيد قال: أنبت أبا جعفر النحاس فألفيته يملي في أخبار الشعراء شعر قيس بن معاذ المجنون حيث يقول:
«خليلي هل بالشام عين حزينة *** تبكي على نجد؟ لعلي أعينها»
«قد أسلمها الباكون إلا حمامة *** مطوقة باتت وبات قرينها»
فلما بلغ هذا الموضع قلت: باتا يفعلان ماذا، أعزل الله؟ فقال لي: كيف تقول أنت يا أندلسي؟ فقلت: بانت وبان قرينها.
وقال ابن جني في الخصائص، باب سقطات العلماء: حكي عن الأصمعي أنه صحف قول الحطيئة:
«وغررتني وزعمت أنك *** لابن بالصيف تامر»
فأنشده: لا تني بالضيف تأمر، أي تأمر بإنزاله وإكرامه.
ويحكي عن خلف قال: أخذت على المفضل الضبي في مجلس واحد ثلاث سقطات؛ أنشد لامرئ القيس:
«نمس بأعراف الجياد أكفنا *** إذا نحن قمنا عن سواء مصهب»
فقلت: عافاك الله! إنما هو نمش أي نمسح، ومنه المنديل الغمر مشوشًا؛ وأنشد للمخبل السعدي:
«وإذا ألم خيالها طرقت *** غيني بماء جفنها سجم»
فقلت: عافاك اله! إنما هو طرفت؛ وأنشد للأعشى:
«ساعة أكبر النهار كما شد *** محيل لبونه إعظامًا»
فقلت: عافاك الله! إنه مخبل، بالخاء المعجمة، رأى خال السحابة فأشفق منها على بهمه.
وفي المزهر عن كتاب "ليس" لابن خالويه: جمع أبا عمرو الجرمي والأصمعي مجلس فقال الجرمي: ما في الدنيا بيت للعرب إلا وأعرف قائله! فقال: ما نشك في فضلك، أيدك الله، ولكن كيف تنشد هذا البيت:
«قد كن يخبأن الوجوه تسترًا *** فالآن حين بدأن للنظار»
فقال "بدأن"؛ قال: بدين؛ قال: أخطأت إنما هو "بدون" من بدا يبدو إذا ظهر؛ فأفحمه.
وفيه: اختلف المعمري والنحويان في "الظرورى" فقال أحدهما: الكيس، وقال الآخر:
الكيش؛ فقال كل لصاحبه: صفحت! وكتب بذلك إلى أبي عمر الزاهد فقال: من قال إن الظرورى هو الكيش فهو تيس، وإنما الظرورى الكيس!
ومما لا يتسامح به ما يكون في نص الآيات كما جاء في التاج في مادة "ن ز ل": وشاهد الاستنزال قوله تعالى: {واستنزلوهم من صياصيهم.} ليس من القرآن مثل هذا، وإنما هي عبارة الأساس على سبيل المثال، ونص الآية {وانزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم}.
خطأ الأئمة
نقل في المزهر عن عبد الله بن بكر السهمي قال: دخل أبي علي عيسى، وهو أمير البصرة، فعزاه في طفل له مات؛ ودخل بعده شيب بن شبة فقال: أبشر أيها الأمير، فإن الطفل ما زال مجنظيًا على باب الجنة يقول لا أدخل حتى يدخل والدي! فقال أبي: يا أبا معمر، دع الظاء إي المعجمة، وألزم الطاء؛ فقال شيب: أتقول هذا وما بين لابنيها أفصح مني؟ فقال له أبي: وهذا أخطأت ثانية، من أين للبصرة لابة؟ (واللابة الحجارة السود، والبصرة الحجارة البيض) أورد هذه الحكاية ياقوت الحموي في معجم الأدباء، وابن الجوزي في كتاب الحمقى والمغفلين، والزجاجي في أماليه بسنده إلى عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي.
ترتيب الكتاب
وضع الكتاب باقتراح المجمع العلمي العربي بدمشق، لمكان الحاجة إليه، وقد وضعته على النسق الذي رآه المجتمع، وابتدأت في جمعه في أول سنة 1351 هـ (1930 م) وأتممته في آخر سنة 1939، ومنذ ذلك الحين لا يزال الكتاب قيد المراجعة والتنقيح على الأمهات من كتب الأئمة المتقدمين حتى سنة 1947، تاريخ اتفاقي مع المجمع المذكور على البدء بطبعه سنة 1948.
وأما المنهاج الذي نهجته في ترتيبه وتصنيفه فهو ما يلي: "
1 - حثت في مقدمته بحثًا طريفًا في نشء اللغات إجمالًا، وفي نشء اللغة العربية خاصة وتطورها، وقد طبع على حدة بكتاب خاص هو "مولد اللغة".
2 - رتبته على أصل المادة المجردة من الزيادات في الحروف، كما هو الحال في سائر معاجم اللغة العربية قديمها وحديثها.
وإذا انقاد غير اللغة العربية من اللغات مع مرتبي المعاجم على حروف الكلمة كما هي في أصلها وزائدها، فإن اللغة العربية لا تنقاد كذلك، لأنها من اللغات المتصرفة التي تدخل في صلبها الزيادات على المادة لزيادة في المعنى.
وتتغير هيئة الكلمة، بتنوع الاشتقاق وسعته وكثرته، تنوعًا يبعث الشتات في الكلمات المشتقة من أصل واحد إذا أريد ترتيبها على صورتها، ويدعو إلى تباعدها عن محالها التي تألفها بعدًا يأباه الذوق العربي.
كأكرم وكرم، فالأولى تكون حينئِذ في أول المعجم والثانية في آخره.
ومكرم تأتي في مادة أخرى؛ وكذلك التكريم، وهو مصدر كرم، يجئ في غير مادتها.
ومثل ذلك: ودع وأودع وأتدع وايتدع وتودع واستودع والدعة والميدع، بل لا تسلم من هذا التشتيت كلمة من المشتقات، وهي تكاد تكون جماع اللغة.
وكذلك يأخذ بعض الحروف أكثر الكلمات إليه كحرف الألف مثلًا فإنه يحتضن في شتى فصوله من الكلمات، عدا الكلمات المبدوءة بالألف الأصلية، كل الكلمات المزيدة ألفًا في أولها، وصليه كانت أو قطعية، كأفعل وافتعل وانفعل واستفعل وافعنلل وافعل وأفعال.
وأنني أجد"
أن إرجاع الكلمة إلى ًاولها للاطلاع على معناها في المعجم هو من فضائل اللغة العربية كما قال المستشرق لوي ماسينيون: "وقد وجدنا خصائص في اللغات ولاسيما اللغة العربية، فإن فيها فضائل خاصة بها دون سواها، منها: الأصول الثلاثية في الكلمات، أي إرجاع أي كلمة كانت إلى ثلاثة أحرف للاطلاع على معناها في المعجم، ولكن هذه الخاصة لا توجد في اللغات الآرية، فلا ترتب المعاجم فيها بمقتضى أصول الكلمات بل ترتب كل كلمة كما تلفظ.
وبعد، فإن من يريد أن يحمل اللغة العربية السامية على منهاج غيرها من اللغات الآرية، مع تباين ما بينها من الخصائص والمزايا والمقومات، هو كمن يطلب في الماء جذوة نار.
«ومكلف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار»
3 - بدأت بالترتيب على نسق: فالألف قبل الياء، والألف مع الباء قبل الألف مع التاء، وهكذا في ثالث الحروف منها.
وأول ما أذكر من المادة الفعل الثلاثي المجرد على ترتيب أبوابه الستة التي يجمعها قول بعضهم: "فتح ضم، فتح كسر، فتحتان، كسر فتح، ضم ضم، كسرتان. ثم أذكر بعد المجرد المعدي بالتضعيف من الثلاثي، كفرح من فرح؛ ثم المعدي بالهمز كأكرم، ثم افتعل، وتفعل، وهكذا وآ
ثم في الأسماء أبدأ بالثلاثي المجرد المفتوح الفاء، ثم مضمومها، ثم مكسورها، ثم المحرك، ثم صفة فاعل وفاعلة، ثم المفعول وما جرى مجراه، والفعال وما أشبهه، والفعيل وإضرابه، ثم المزيد الميم؛ ثم يتبع المادة المضاعف الرباعي، كزلزل في مادة ز ل ل، ثم أختم المادة
4 - إذا ذكرت الفعل الثلاثي ذكرت مصادره كلها لأنها ليس لها ضابط مطرد.
أما مصادر الثلاثي المزيد والرباعي مجردًا أو مزيدًا فلم أذكرها اكتفاء بعلم القارئ، لأنها مطردة إلا ما شد منها عن القاعدة، وهو نادر، فإني ذكرته إلى جانب فعله مثل: توضأ وضوءًا، وتطهر طهورًا، وصلى صلاة، وأدركه دركًا ومدركًا.
على أنني وضعت للمصادر المطردة جدولًا في هذا الكتاب، يستحضر الطالب فيه ما يغيب عن ذهنه منها.
5 - في الأكثر أذكر مع الفعل اسم الفاعل منه واسم المفعول.
أما إذا كان في ذكره مفردًا فائدة، فإني أفرده في الذكر.
6 - ذكرت النسب الشاذة عن القياس: كالجزي في النسبة إلى سجستان، والصنعاني في النسبة إلى صنعاء، والداوردي في النسبة إلى دراب جرد (بلد بفارس).
ونبهت على شذوذها، ولم أذكر النسب القياسية إلا فيما ندر.
7 - أشرت إلى الفعل المستقبل في الثلاثي المجرد بحركة عينه فوق خط أفقي، إن كان مفتوحها أو مضمومها، وتحت الخط أن كان مكسورها.
8 - ذكرت الجموع ما استطعت لأنها في الثلاثي سماعية في الأغلب، ليس لها ضابط مطرد.
9 - عند اختلاف عبارات الأئمة في تفسير الكلمة أختار فيما اتفق معناه أفضلها بحسب نظري، وأوفاها بالمراد.
وربما جاءت عبارتهم مغلقة لا يفهم كل طالب المراد منها، فأردفها بما يفسرها جمعًا بين حفظ النص وفهم الطالب.
مثال ذلك في مادة "ح ض ب" قالوا: الخصب سرعة أخذ الطرق الرهدن (الطرق: الفخ، الرهدن: العصفور).
وربما جئت بالمعنى وحده في التفسير حيث يقتضيه الاختصار؛ مثاله: قالوا: الطحنة جوبة تنجاب في الحرة، فقلت: الطحنة أرض لينة وسط الحرة.
وأما ما كان فيه اختلاف بينهم فإني أذكر الأقوال بعبارات موجزة.
10 - تجنبت ما استطعت مرد كل أقوال الأئمة في الاستدلال على ما ذهبوا إليه منهاـ، وتركت تعليلاتهم، إذ أن الطالب لا يطلب غير معنى الكلمة، وزبدة الأقوال فيها؛ وربما اقتصرت في هذه الأقوال على الأكثر استعمالًا والأشهر.
11 - أشرت إلى المجاز معتمدًا في الحكم بمجازيته على أقوال الأئمة، ولاسيما الزمخشري في الأساس، وصاحب التاج، وعلى ما جاء في تضاعيف كتب الأئمة، وصل إليه بحثي ووقع في يدي، وعلى ما كانت العلاقة فيه ظاهرة.
12 - أشرت ما استطعت إلى الأصل في معنى الكلمة معتمدًا على نصوص الأئمة في ذلك.
وأما لم يرد نص منهم في أصل معناه، وظهر لي فقد قلت فيه: والظاهر أن الأصل في المعنى كذا.
13 - كثيرًا ما كنت أعثر في تضاعيف مواد اللغة في كتب الأئمة على كلمة نادة عن مادتها، ولاحقة عرضًا بغيرها من المواد، بحيث يعسر الاهتداء إليها إذا طلبت، فأخذتها من حيث وجدتها وأبلغتها مأمنها في مادتها التي هي منها، وأشرت إلى المادة التي نقلتها ليراجعها من يريد.
14 - ذكرت ما وضعه أو صحح إطلاقه مجمعًا اللغة في عصرنا هذا (وهما مجمع اللغة العربية الملكي في مصر وهو المعروف بجمع فؤاد الأول، والمجمع العلمي العربي بدمشق) من الأسماء الجديدة للمسميات الحديثة منذ أنشئ المجمعان إلى يومنا هذا.
وأشرت إلى المجمع العلمي العربي بدمشق بـ "م د" وإلى مجمع اللغة العربية الملكي بمصر بـ "م م".
15 - رأيت أن الأوزان والمكاييل ومقادير المساحة قد اختلفت قديمًا كما تختلف حديثًا باختلاف الأزمان واختلاف الأمكنة والبلدان، وتتفاوت الاصطلاحات عليها، وكثيرًا ما يرى
الناظر في الكتب العربية اسم الطسوج والقيراط والدرهم والمثقال والإستار والكيلجة والقفيز والجريب والكر والوسق ونحو ذلك، ولا يهتدي إلى نسبتها فيما يعادلها من مقادير هذا العصر؛ فحرصت على حل المشكل بقدر ما أستطيع.
وعثرت في منشورات مجلة المقتبس الدمشقية على رسالة لنجم الأئمة الشيخ رضي الدين الإسترابادي، استخرج فيها من أقوال الأئمة اللغة وأئمة الفقه آراءهم في هذه المقادير، وبينها بالحبة والدرهم والمثقال، واعتمد على أشهر الأقوال التي اعتمدها الفقهاء في تقاديرهم الش
واستخرجت النسبة من معادلة الدرهم العثماني الذي هو الدرهم البغلي المعروف عند اللغويين بأنه 64 حبة على أنه 3 غرامات و 0.207362 من الغرام، حسب بيان دار الضرب العثمانية كما هو وارد في التقادير الرسمية، ووضعت لها جداول خاصة في كتابي هذا.
16 - رأيت كلمات طرأـ على اللغة في العصر العباسي، بعضها اندثر ولكنه لا يزال مذكورًا في مؤلفات ذلك العصر مثل الكردناج والبزماورد والدقدان والشامرك، وبعضها ما زال مستعملًا إلى اليوم.
وهذه الطارئة ليست من صلب اللغة وأكثرها دخيل، ولكنها شاعت، ولم يتحرج مؤلفو هذا العصر من إدماجها في عباراتهم، فكان من الخير أن أتعرض لها في كتابي هذا.
وقد وقع لأحد الجهابذة، وهو أبو عبد الله بن الطيب الفاسي المتوفى سنة 1170 هـ، أن أنكر على صاحب القاموس تفسيره العنة بالدقدان لأنه لم يعرف معناه فقال: ولعل المراد به الغليان.
والدقدان من الألفاظ العباسية لما ينصب عليه القدر، ويعرف اليوم في لبنان بالمنصب.
فبحثت فيما اطلعت عليه منها بقدر وسعي وأثبتها في كتابي هذا.
17 - كنت وما زلت أجد كثيرًا من العامي الذي يمكن رده إلى الفصيح، وأحس تحريف الفصيح في الكلام العامي، فتتوق نفسي إلى ولوج باب البحث فيه، فأقدمت بعد إحجام لصعوبة البحث ووعورة الطريق، وعنيت به، وفتحت الباب للمحققين بما أقدمت عليه بقدر المستطاع، وبقدر ما وصل إليه علمي وبحثي من جذبه إلى الفصيح وتطبيقه عليه.
وقد يكون المأخذ قريبًا سهلًا، وقد يكون بعيدًا يحتاج إلى شيء من التكلف، وقد تكون الكلمة دخيلة من الآرامية أو الفارسية أو غيرهما.
ومهما تيسر لي ردها إلى أصل عربي كان عندي أولى من حملها على ًال غير عربي، واعتبارها دخيلة، ما دام لي مجال لإلحاقها بالمادة العربية.
سلكت هذا الطريق وأنا أعلم أنني سلكت سبيلًا شاقة، وتوقلت عقبة صعبة لا آمن فيها العثار، ولا أبرأ من الزلل- والعصمة لله- ولكنه فتح يجب أن ينفتح ليستقر أمره وينتظم.
ولا بد لإدراك الثمرة من أن يتسع فيه المقال وتظهر آراء الرجال.
ولكنني خشيت أن يختلط الصحيح الفصيح بالعامي في متن الكتاب، فجعلت مكان العامي هامش
الكتاب، والله الموفق للصواب.
ولا حاجة لأن أقول أن أكثر ما ذكرته من العامي إنما هو من اللهجة التي أسمعها كل يوم، بل تدخل سمعي كل ساعة، وهي لهجة بلاد ساحل الشام من سفوح لبنان، وبالأخص لهجة بلدي جبل عاملة.
ولم آل جهدًا في إثبات ما سمعته من عامية غير هذه الديار.
على أنني توسعت في هذا البحث في كتاب خاص أسميته "رد العامي إلى الفصيح".
18 - حرصت أن لا تفوت كتابي هذا مادة ذكرت في لسان العرب وتاج العروس، وهما أكثر كتب الأئمة المعروفة لدينا جميعًا لمواد اللغة، فكان كتابي هذا جامعًا لكل ما يمكن أن يطلبه طال اللغة، فلا تمر به كلمة من كلماتهم إلا ويكون لها تفسير فيه؛ فإن بلغت بذلك رضا الطالب فهو غاية المرام، وإلا فاللغة بحر لا يدرك ساحله.
وقد رأيت كثيرًا من ناشئة اليوم قد أولعوا بالإعراض عن الكلمات الغريبة الوحشية التي هي غير مأنوسة في الاستعمال.
فإن كان هذا من حيث الاستعمال فصالح، وهو حق وصواب، ويحسن بنا أن نتخير لكلامنا في منظومنا ومنشورنا الألفاظ العذبة السائغة ونتجنب الحوشي والوحشي الثقيل على السمع واللسان.
وإن كان من حيث هجرها المطلق وطلاقها البائن حتى لا تذكر في معاجمنا، فذلك غير صالح لأنها من تراث اللغة القديم الذي لا يستغنى عن معرفته متأدب ينظر في كلام العرب وخطبهم وأشعارهم وأخبارهم، وهجرها هذا يقطع الصلة بينا وبين سلفنا، ذلك السلف الذي نفتخر ببيانه و
وقد تجد كلمات كانت غير مأنوسة في زمن، وأتى عليها زمن آخر تداولتها الألسن، فأنست بعد نفار، وتأهلت بعد استيحاش.
19 - رأيت منذ شرعت في كتابي هذا أن الاعتماد على كتب الأئمة السالفين، وهم الذين أوتوا خطأ وافرًا من العلم باللغة، وافنوا زهرة أيامهم في تحصيله، وبذلوا في سبيله كل جهد، وتحملوا كل عناء، حتى بلغوا من ذلك الذروة أو كادوا، وأحرزوا فيه ملكة راسخة، وتحقيقًا واسعًا، رأيت أ، الاعتماد عليهم هو الذي يجب علينا أن نهتم له، وأن نعني به كل العناية، لأن كتب المتأخرين المعاصرين غير مأمونة الخطأ.
فتجنبت بادئ بدء مراجعة كتب المتأخرين المعاصرين حتى لا تسري إلى أغلاطهم من حيث لا أشعر بها، وهذا كتاب أقرب المواد للشرتوني، وهو أكثر كتب المعاصرين رواجًا بين أيدي الكتاب والطلاب على جلالة قدره، فإني راجعت أوائله بعد إتمام مؤلفي هذا فاستخرجت له نحوًا من
ولكن ما وصل إلينا من كتب الأئمة وتداولته أيدينا على جامعيته الكبرى وتحقيقه الجم، كان عسير المأخذ لقلة ترتيبه، كلسان العرب لجمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري الخرزجي الأفريقي، المعروف بابن منظور وبابن مكرم المتوفى سنة 711 هـ.
وهو الذي جمع فيه تهذيب الأزهري، ومحكم ابن سيده، وصحاح الجوهري، وحاشية ابن بري، وجمهرة ابن دريد، ونهاية ابن الأثير وغير ذلك، والذي قيل فيه: انه أعظم كتاب ألف في مفردات اللغة! ومثل: تاج العروس في شرح القاموس للسيد محمد بن محمد، المعروف بالمرتضى الزبيدي ا
فوضعت أمامي تاج العروس إلى جنب القاموس المحيط للشيخ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي الشيرازي المتوفى سنة 817 هـ إلى جنب لسان العرب؛ فكنت آخذ المادة فأطالعها في القاموس مدققًا بقدر الاستطاعة في شرحها في التاج واختصرها في مسودة، ثم أعارضها بما في لسان العرب- والقاموس وشرحه التاج عيالان على لسان العرب كما لا يخفي- واحرص في الاختصار أن لا أخرج عن مرادهم ومدلول كلامهم؛ ثم انظر بعد ذلك في كتاب أساس اللغة للزمخشري، وفي مختار الصحاح للرازي، وفي المصباح المنير للفيومي؛ وبعد ذلك كله أثبت ما استخرجته في موضعه من كتابي هذا، على أنني فيما أنقله من هذه الكتب الخمسة لا أنبه إلى اسم الكتاب المنقول عنه؛ وأما ما أنقله عن غيرها فإني أنبه إليه وإلى اسم الكتاب.
وإنني أرجو أن لا يتسرع منتقد كتابي هذا بالحكم علي بالخطأ، إذا رأى ما يخالف نص بعض كتب الأئمة كالقاموس مثلًا، قبل أن يرجع إلى كتاب إمام آخر؛ فإنني وجدت اختلافًا بين هذه الكتب في ضبط الكلمة حتى بين التاج واللسان، مع أن الأول قد أخذ عن الثاني، وكثيرًا ما يكون أخذه بالحرف الواحد، فإذا رأى المخالفة لهما معًا ولم يكن مذكورًا سند القول عندي، صح له أن يسجل على الخطأ، وأما اختيار أحد القولين فليس من الخطأ في شيء.
20 - لم أذكر في معجمي اصطلاحات العلوم والفنون لأنها خارجة عن اللغة، اللهم إلا ما كان منها له أساس بالمتن.
21 - أما الحديث عن الواو والياء في المعتل الأجوف والناقص في كتابي هذا، فإنني وجدت من سنن العرب أنهم يدخلون أحد حرفي اللين على الآخر أي تدخل الواو على الياء، والياء على الواو، لأنهما من حيز واحد وهو الهواء، وهما حرف لين كما صرح به صاحب اللسان عن الأزهري في مادة "ح ي ض" وكما جاء في التاج في مادة "ط ل و" وحكاه الأحمر عن العرب من قوله: أن عندك لأشاوي، في جمع شيء، وأصلها أشايا؛ وكما جاء في الطلاوة لما يطلي به الشيء فإنها من "طليت" نص عليه صاحب التاج؛ وكما جاء في الدعاية فإنها من دعوت، وقد جاءت دعاية في
الحديث النبوي الشريف؛ وكذلك الشكاية فإنها من شكوت ولم يقولوا الشكاوة.
ووجدت أن الواو والياء بهذا الاعتبار قد أصبحا بكثرة تعاقبهما، وحلول أحدهما محل الآخر في كثرة لم تكن في حرفين من حروف الهجاء غيرهما، قد أصبحا كالحرف الواحد مثل: كينونة من الكون، ودام ديمومة من الدوام، وساد سيدودة من السيادة، وصاغ يصوغ صوغًا وصياغة وصيغوغة وهو صواغ وصياغ.
ومثل: صيم وصيام وصيامي من الصوم.
ووجدت أنهم أوجبوا اعلال الأجوف المفتوح الفاء بإبداله ألفًا لينة سواء كان واويًا أو يائيًا؛ فإذا لم يعلموا أصله حمله بعضهم على باب "نصر" وبعضهم على باب "ضرب" وبعضهم أجاز الأمرين.
وإن هذا الماضي المعتل يأتي على ضروب منها: "
1 - ما لا خلاف في أصله، كقام فيما ًاله الواو، وباع فيما ًاله الياء.
2 - ما صح عندهم مجيئه واويًا أو يائيًا بمعنى واحد، كحاز الإبل يحوزها ويحيزها حوزًا وحيزًا، بمعنى ساقها سوقًا شديدًا؛ وهذا الضرب أكثر من أن يحصى في كلامهم.
3 - ما اختلفوا في ًاله، كالأريحية، جعلها صاحب اللسان من بنات الياء، وعدها الفارسي من بنات الواو.
4 - ما استعمل في معنيين متفرعين من أصل واحد، فانفرد أحدهما بالاستعمال وجعل من بنات الياء، واستقر المعنى الآخر في بنات الواو، كالشوب بمعنى الخلط، والشيب لبياض الشعر في سواده، فقيل في الأول شاب يشوب شوبًا، وفي الثاني شاب يشيب شيبًا.
5 - ما لم يظهر لهم أصله فحملوه على أحد الوجهين أو أجازوه فيهما معًا.
وقد حاول بعضهم تخليص الواو من الياء في ترتيب المواد في معاجمهم، فلم يوفقوا كل التوفيق في ذلك.
وقد جريت في كتابي هذا على جعل ما كان من الضرب الثاني والثالث والخامس في مادة واحدة، وفصلت فصل الواو عن فصل الياء فيما كان من الضرب الرابع.
وأما الضرب الأول فهو متميز بلفظه ومعناه، وباب القول مثلًا غير باب البيع طبعًا.
ومن الله أستمد العون والتوفيق.
المصادر القياسية للأفعال المزيدة
الفعل - مصدره - مثاله.
فعل من الصحيح - تفعيلًا: التفعيل - علم تعليمًا.
فعل من المعتل اللام - تفعلة: التفعلة - سمى تسمية.
افعل من صحيح العين - إفعالًا: الإفعال - أكرم إكرامًا.
افعل من معتل العين - أفعاله - أقام إقامة.
تفعل - تفعلًا: التفعل - تعلم تعلمًا.
تفعل إذا كان معتل اللام قلبت ألفه الأخيرة ياء - تأتي تأتيًا.
افتعل - افتعالًا: الافتعال - اصطفى اصطفاء.
انفعل - انفعالًا: الانفعال - انفرج انفراجًا.
افعل - افعلالًا: الأفعلال - احمر احمرارًا.
افعال - فعيلالًا: الافعيلال - احمار احميرارًا.
استفعل - استفعالًا: الاستفعال - استخرج استخراجًا.
استفعل إذا كان معتل العين قلبت عينه ألفًا ولحقته تاء التأنيث استقام استقامة "واصلة استقوامًا"
افعنلل - افعنلالًا: الافعنلال - احرنج احرنجامًا.
فعلل - فعللة وفعلالًا: الفعللة والفعلال - دحرج دحرجة ودحراجًا والثاني - قياسي في المضاعف الرباعي وسماعي في غيره.
تفعلل - تفعللًا: التفعلل - تدحرج تدحرجًا.
فاعل - مفاعلة وفعالًا: المفاعلة والفعال - قاتل مقاتلة وقتالًا.
وتقل فعالًا في ما كانت فاؤه ياء - كياسرة مياسرة، ويامن ميامنة.
تفاعل - تفاعلًا: التفاعل - تظاهر تظاهرًا.
وإذا أعلت لأمه قلبت ألفه ياء نحو: - تقاضى تقاضيًا.
أفعول افعيلالًا: - الافعيلال - اعشوشب اعشيشابًا.
فوعل - فوعلة وفيعالًا: الفوعلة والفيعال - حوقل حوقلة وحيقالًا.
افعلل - افعلالًا وفعله: الافعلال والفعلة - اقشعر اقشعرارًا وقشعريرة.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
5-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (تريس)
تريسهي من قدامى البلدان، ولم يذكرها ياقوت، ولم يزد الطيّب بامخرمة على قوله: (تريس: قرية من قرى حضرموت، شرقيّ محلّة المشايخ آل باعبّاد المعروفة بالغرفة، ذكرها القاضي مسعود) اه
وفي موضع من «صفة حزيرة العرب» للهمدانيّ [ص 293]: (تريم من ديار تميم، وتريس بحضرموت) اه
ولعلّ تريسا فيه محرّفة عن تريم؛ لأنّه الأليق بالسّياق.
وفي «الأصل» عن صاحب «معجم البلدان» عن «معجم البكريّ» أنّها:
(سمّيت باسم تريس بن خوالي بن الصّدف بن مرتع الكنديّ) اه
ثمّ رأيت «معجم البكريّ» فإذا النّقل صحيح، وفيه: أنّ لتريس أخا اسمه مديس، وما ذكره من سبب التّسمية معقول؛ فإن أغلب سكّانها من أعقاب الصّدف، ففيها مثرى المشايخ آل باكثير، وقد سبق في شبام أنّ منهم الشّيخ عبد الله بن أحمد بن محمّد، أحد أصحاب الإمام البخاريّ.
ولكنّه جاء في «الضّوء اللّامع» [5 / 11] للسخاوي ذكر: عبد الله بن أحمد باكثير هذا، وقال: إنّه أخذ عنه، فتبيّن به أنّ البخاريّ في «التّاج» [14 / 21] مصحّف تصحيفا مطبعيّا عن السّخاويّ، وقد ترجم السّيّد عبد القادر العيدروس في «النّور السّافر» [178] للشّيخ عبد الله بن أحمد باكثير هذا، وذكر أنّ وفاته سنة (925 ه)، وولادته بحضرموت، وطلبه للعلم بغيل باوزير. وكانت وفاة السّخاويّ بالمدينة المشرّفة سنة (902 ه).
ولا بأس بعلامة الدّرك بعد الفوت أن نتمثّل بقولهم: (إن ذهب عير.. فعير في الرّباط)؛ لأنّه إن فاتنا الشّيخ عبد الله بن أحمد باكثير.. ففي أيدينا من هو أقدم وأولى بالذّكر منه وهو الشّيخ عبد الله الحضرميّ الّذي كان يخطّىء الفرزدق في أشعاره، فهجاه فخطّأه في نفس هجائه.. جاء في «خزانة الأدب» [1 / 237] بعد ذكره لذلك ما نصّه: (وعبد الله هذا هو عبد الله بن أبي إسحاق الزّياديّ الحضرميّ، قال الواحديّ في كتاب «الإغراب في علم الإعراب» كان عبد الله من تلامذة عتبة بن سفيان، وهو من تلامذة أبي الأسود الدؤليّ واضع النّحو، وليس في أصحاب عتبة مثل عبد الله... إلى أن قال: وكان يقال: عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم، وفرّع النّحو وقاسه، وكان أبو عمرو بن العلاء قد أخذ عنه النّحو، ومن أصحابه الّذين أخذوا عنه النّحو: عيسى بن عمر الثّقفيّ، ويونس بن حبيب، وأبو الخطّاب الأخفش) اه
توفي سنة (117 ه)، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وصلّى عليه بلال بن أبي بردة، وقد ذكرناه هنا عن غير كبير مناسبة؛ لأنّ فيه تعزية عن باكثير. قال شنبل: وفي سنة (912 ه) توفّي الفقيه القاضي شجاع الدّين محمّد بن أحمد باكثير في سيئون، ودفن بها.
وفي سنة (913 ه): توفّي الرّجل الصّالح عتيق بن أحمد باكثير، وهذا هو جدّ آل بن عتيق أصحاب مدوده.
وقد ألّف العلّامة الجليل، شيخنا الشّيخ محمّد بن محمّد باكثير كتابا سمّاه «البنان المشير إلى علماء وفضلاء آل باكثير».
وممّن بتريس منهم: الشّيخ أبو بكر بن عمر، عنده حظّ وافر من الفقه، قال الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم: (ولم أعلم له مشاركة في غيره، ولي قضاء شبام بعد والدي وولي قضاء الغرفة وقضاء هينن، وإليه المرجع عند المنازعات بين الدّرسة) اه
قال الشّيخ محمّد باكثير: (وكانت وفاته في حدود سنة 1083 ه).
ومنهم: الشّيخ عبد الرّحيم بن محمّد بن عبد الله المعلّم بن عمر بن قاضي باكثير، وإنّما قيل لجدّهم: (قاضي)، ولم يكن به؛ لأنّه حضر نزاعا في مشكل فحلّه بفهمه، فقيل له: إنّك لقاضي، فلزمه، تولّى الشّيخ عبد الرّحيم القضاء ببور نحوا من سنتين، ثمّ حصلت عليه شدّة من بعض الظّلمة فعزل نفسه وعاد إلى بلده تريس، ثمّ طلبه السّلطان لقضاء شبام، ففعل وأقام سنتين وخمسة أشهر، ثمّ تعصّب عليه الحسّاد فعزل، وعاد إلى تريس، واشتغل بالمطالعة، ثمّ تولّى قضاء تريم في سنة (1094 ه).
وفي سنة (1096 ه) تنازع هو وآل تريم في قضيّة الهلال، وردّ على جواب في القضيّة للشّيخ محمّد بن عبد الله باعليّ برسالة سمّاها: «المنهل الزّلال في مسألة الهلال»، فوافقه السّيّد علويّ بن عبد الله باحسن ـ مع أنّه كان من منابذيه، والشّيخ عبد الله بن محمّد بن قطنة، والشّيخ عبد الله قدريّ باشعيب.
وفيه يقول عبد الله قدريّ [من السّريع]:
«فتريم قاضيها التّريسي غدا *** يقوّم الدّين لتهنا تري »
«فبالحري من بعد عري أتت *** تريم تزهو في ثياب الحري »
وفي البيتين الاكتفاء، وأمّا حذف الهمزة من (تهنا) للجزم.. فكما جاء في حديث توبة كعب بن مالك: «لتهنك توبة الله عليك». ولم يعلم بموته ولا قبره
ومنهم: الشّيخ أبو بكر بن عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن عمر باكثير، ولم يعلم وقت وفاته، ولكنّه من تلاميذ السّيّد أحمد بن محمّد الحبشيّ، المتوفّى بالحسيّسة سنة (1038 ه)، والسّيّد عبد الرّحمن الجفريّ مولى العرشة، المتوفّى بتريس سنة (1037 ه).
ومنهم: الشّيخ أبو بكر بن عثمان باكثير، له ذكر في «مجموع الأجداد».
ومنهم: الشّيخ عبد القادر بن إبراهيم بن عبد القادر باكثير، توفّي بتريس.
ومنهم: الشّيخ إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم باكثير، توفّي بتريس.
ومنهم: الشّيخ أبو بكر بن أحمد بن محمّد باكثير، له مسجد بتريس.
ومنهم: الفاضل الجليل عليّ بن عبد الرّحيم بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن قاضي، ولد بتريس سنة (1081 ه)، له ترجمة طويلة بلا ذكر وقت الوفاة وقد ترجم لنفسه، وذكر جماعة من آل باكثير، ومنهم الشّيخ عبد الصّمد باكثير، بينه وبين العلّامة أحمد بن حسن الحدّاد مساجلات شعريّة؛ منها أنّ عبد الصّمد أرّخ ميلاد السّيّد حامد بن أحمد بن حسن بأبيات جاء فيها قوله:
«وقد أرّخت مولده بقولي: *** (شريف عارف حبر أديب) »
(590) + (351) + (210) + (17) ـ
سنة (1168 ه)
فأجابه الحبيب أحمد بقصيدة من بحره وقافيته.
ومنهم: صاحب التّصانيف الكثيرة، الشّيخ عليّ بن عمر بن قاضي، توفّي حوالي سنة (1230 ه).
ومنهم: الخطّاط الشّيخ أحمد بن عمر بن محمّد بن عمر بن عبد الرّحيم، توفّي بتريس سنة (1247 ه). وغيرهم.
ومرجع أكثر آل باكثير في النّسب إلى الشّيخ محمّد بن سلمة بن عيسى بن سلمة الكنديّ، تلميذ الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ المتوفّى بقيدون سنة (671 ه).
وقال الملك الأشرف المتوفّى سنة (696 ه): (وجدّ بني شهاب الّذين ينسبون إليه هو: محمّد بن سلمة الكنديّ، وهو الّذي انتجع من حضرموت، وسكن بالبلاد الشّهابيّة من أعمال صنعاء، وله ثلاثة أولاد: حاجب وعطوة ودغفان، ولكلّ منهم أولاد) اه
ولكن لا يمكن أن يكون هذا هو المراد؛ لأنّ قوله: (وجدّ بني شهاب.. إلخ) يدلّ على تقدّم زمانه، ولم يذكر من أولاده من اسمه أحمد، ولكنّه لا يبعد أن يكون محمّد بن سلمة المذكور في كلام الأشرف هو جدّ محمّد بن سلمة المذكور في نسب آل باكثير، والمدار في ذلك على النّقل، فعسى أن يوجد ما يوافق هذا.
وفي تريس خاصّة وحضرموت عامّة كثير من آل باعطوة، فيهم الشّعراء والشّحّاذون، فلا يبعد أن يكونوا من ذرّيّة عطوة بن محمّد بن سلمة جدّ بني شهاب، بل إنّ الأمر قريب من بعضه جدّا.
ومن أهل تريس: آل ابن حميد الصّدفيّون، منهم: القاضي الفاضل، الفقيه الصّالح المؤرّخ الشيخ: سالم بن محمّد بن سالم بن حميد، توفّي بتريس في حدود سنة (1314 ه) عن عمر ناهز المئة، قضاه في أعمال البرّ. وقد أحضرني والدي إليه، فألبسني، وأجازني، وبارك عليّ.
أمّا السّادة العلويّون الّذين بتريس.. فقد سبق منهم ذكر السّيّد عبد الرّحمن الجفريّ، وهو المعروف بصاحب العرشة، ومن خطّ سيّدي عبد الرّحمن بن عليّ السّقّاف: أنّ الأستاذ الحدّاد ذكر من أمر ونهى في القرون الماضية حتى وصل إلى ذكر القرن العاشر فذكر عن الشيخ عبد الرّحمن بن محمّد الجفريّ صاحب تريس فقال: إنّه كان قد طلب العلم وعمل وسلك ولقي المشايخ، وكان إذا أمر ونهى.. لا يبالي بمن يأمره كائنا من كان، وإنّه رأى رجلا في المسجد يقرأ القرآن وهو لا يحسن القراءة، فبعد الصّلاة سأل عنه؟ قال له رجل من أصحاب الدّولة: إنّه ألثغ، وهذا مقدوره.. فقال له: وأنت يوم تصلّي ولا تطمئنّ يا فاعل يا تارك، وبقي يصيح عليه حتّى انهزموا من المسجد، وكان يكتب إلى بعض سلاطين الجهة: (إلى فليّن، مردم جهنّم) اه
وقوله: فليّن: تصغير فلان.
وقد كان جدّه عبد الله من أهل تريس، ومن ذرّيّته السّيّد علويّ بن عمر بن سالم، تولّى القضاء بشبام.
وعيدروس وعبد الله ابنا أحمد أخيار فقهاء، توفّي الأخير منهما بتريس سنة (1264 ه).
ومن ذرّيّة شيخان بن علويّ بن عبد الله التّريسيّ: العلّامة الجليل علويّ بن سقّاف بن محمّد بن عيدروس بن سالم بن حسين بن عبد الله بن شيخان المذكور، وهو الشّيخ الخامس عشر من مشايخ سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، كان واسع العلم والرّواية، متفنّنا، وله رحلات إلى اليمن وغيرها.
وكان هو وسيّدي الجدّ محسن بن علويّ أخصّ تلاميذ سيّدنا الحسن بن صالح البحر، وكان الحقّ عنده فوق كلّ عاطفة، من ذلك:
أنّ بعض الوهّابيّة أنكر على آل حضرموت جعلهم ختم المجالس بالفاتحة على الكيفيّة المعلومة سنّة مطّردة، مع أنّه لا دليل على ذلك، فردّ عليه سيّدنا طاهر بن حسين بردّ خرج مخرج الخطابة والوعظ، فنقضه الحبيب علويّ بن سقّاف الجفريّ هذا برسالة سمّاها «الدّلائل الواضحة في الرّدّ على رسالة الفاتحة»، ترجم فيها لابن تيمية، وتلميذه ابن القيّم، وللشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب صاحب الدّعوة المشهورة، وأطنب في الثّناء عليهم.
ولمّا اطّلع عليها الحبيب عبد الله بن حسين.. كتب عليها بخطّه: (علويّ بن سقّاف يقول الحقّ ولو كان مرّا) ! !
غير أنّني تحيّرت زمانا في الحبيب عبد الله بن حسين هذا المقرّض، أهو بلفقيه أم ابن طاهر؟ حتّى تذكّرت ما جاء في خطّ السّقّاف الّذي سيّره للسّيّد أحمد بن جعفر الحبشيّ ـ حسبما سبق في الحوطة ـ من قوله: (وأذعن لمصنّفه من لا يحبّه)، فعرفت أنّ المراد بلفقيه؛ لأنّه هو الّذي لا يحبّ مؤلّف «الدّلائل الواضحة»؛ لاتّساع شقّة الخلاف بينهما في عدّة مسائل فروعيّة، تبودلت بينهما في بعضها الرّدود اللّاذعة من الطّرفين.
وكانت «الدّلائل الواضحة» عندي.. فاستعارها منّي الفاضل الأديب السّيّد حسن بن عبد الله الكاف، ثمّ لم يردّها وأحالني إلى عدن بعدّة كتب قياضا عنها، فلم تدفع الحوالة، وأخاف أن يكون أعدمها؛ فإنّه بخوف شديد من أن يطّلع عليها الإرشاديّون فيجمعوا منها أيديهم على حجّة ضدّ العلويّين فيما هم فيه مختلفون.
ومن هذا ومن أخذ الجماعة كلّهم عن السّيّد أبي بكر بن عبد الله الهندوان ـ وهو وهّابيّ قحّ ـ تبيّنت أنّ عند مولانا شيخ الوادي الحسن بن صالح مسحة من تلك الآراء بغاية الاعتدال؛ لموافقتها لما هو فيه من الاستغراق في تجريد التّوحيد، وعدم التفاته إلى غير الحميد المجيد.
ولا يشكل ـ على هذا ما في «بغية المسترشدين» عن فتاوى الحبيب علويّ بن سقّاف الجفريّ هذا.. من جواز التّوسّل؛ لأنّه إنّما يبيح منه ما لا يوهم القدح في التّوحيد، كما لا يشكل ما يوجد في بعض مكاتبات الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه ـ مع توهيبه ـ من الإنكار على بعض المتشدّدين في ذلك؛ لأنّ ذلك الإنكار إنّما كان للتّهوّر وفرط الغلوّ اللّذين اشتطّ فيهما الرّجل، وظنّي أنّه السّيّد جعفر السّالف الذّكر عمّا قريب.
وقد قال أبو سليمان الخطّابيّ ـ وهو أحمد بن محمّد بن إبراهيم ـ [من الطّويل]:
«ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي كلّ الأمور ذميم »
ومعاذ الله أن يخرج مولانا البحر ومن على طريقه عن حدّ الاعتدال، ويقول بتكفير أحد من المسلمين، إلّا بعد ثبوت المكفّر والإصرار عليه بعد الاستتابة، وقد قال العلّامة ابن تيميّة في (ص 258) من ردّه على البكريّ: (فلهذا كان أهل العلم والسّنّة لا يكفّرون من خالفهم) اه
مع أنّ هؤلاء ينكرون إنكارا شديدا على القبوريّين وجهّالهم ـ حسبما قاله لسان حالهم الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان في غير موضع من كتبه ـ ولم يكونوا في ذلك بمقلّدين، بل كما قال سيّدي عبد الله بن حسين بلفقيه حين رمى كتاب غرامة: (نحن وهّابيّون من أيّام محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الّذي جاء بتكسير الأوثان، والحنيفيّة البيضاء).
ورأيت للسّيّد محمّد بن أحمد الأهدل سياقة توافق ما هم عليه؛ منها: أنّ طلب التّوجّه إلى الله في المهمّات من الأولياء ـ مع اعتقاد براءتهم من الحول والقوّة والاتّصاف بالعبوديّة المحضة ـ جائز، وهو معنى التّوسّل. ولكنّه لا يكون إلّا عند ضعف اليقين، والأولى للمؤمن القويّ الإيمان أن لا يجعل بينه وبين الله واسطة؛ فقد قال تعالى:
(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ)
وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يستعين إلّا بالصّبر والصّلاة، ومتى حزبه أمر.. فزع إلى الصّلاة.
أمّا الأولياء.. فإنّهم ـ مع وجاهتهم وقرب دعائهم من القبول ـ ضعفاء فقراء لا يملكون لأنفسهم ـ فضلا عن غيرهم ـ نفعا ولا ضرّا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. والمكفّرات مقرّرة حتّى في المتون، والاستتابة واجبة، والكلام في العلل والأسباب معروف، والتّوسّلات من جملة ذلك.. فلا حاجة إلى الشّغب فيما الاتّفاق على أصله حاصل.
وذكر البرزالي وغيره أنّ شيخ الصّوفيّة كريم الأبليّ وابن عطاء جاءا ومعهم جماعة نحو من خمس مئة يشتكون إلى الدّولة من تقيّ الدّين ابن تيميّة.. فعقد له مجلس قال فيه أن لا يستغاث إلّا بالله، حتّى لا يستغاث بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ الاستغاثة بمعنى العبادة ـ ولكنّه يتوسّل ويتشفّع به إلى الله.. فبعض الحاضرين قال: ليس في هذا شيء، ورأى قاضي القضاة أنّ فيه قلّة أدب؛ فالأمر لو لا الحسد والمنافسات الحزبيّة.. أدنى إلى الوفاق.
وما أكثر ما يوجد التّوسّل في شعري بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أصلا وببقيّة الخمسة الأرواح تبعا، مع فرط تكيّفي بما في السّياق السّابق من أنّ التّوسّل به صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس كغيره، كما نقله ابن القيّم وغيره عن ابن عبد السّلام؛ لحديث الأعمى، وهو مرويّ عند أحمد [4 / 138] والبيهقيّ، والتّرمذيّ [3578]، والنّسائيّ [في «الكبرى» 6 / 169]، وابن ماجه [1385]، والحاكم [1 / 707]، وغيرهم.
وذكره ابن تيميّة في «القاعدة الجليلة في التّوسّل والوسيلة»، ولم يقدر على تضعيفه بحال، بل ولا على إنكار الزّيادة المشهورة فيه عند الطّبرانيّ [طب 9 / 30] والبيهقيّ، وقال في تلك الرّسالة: (إذا كان التّوسّل بالإيمان بالنّبيّ عليه السّلام ومحبّته جائزا بلا نزاع.. فلم لا يحمل التّوسّل به على ذلك، قيل: من أراد هذا المعنى.. فهو مصيب في ذلك بلا نزاع) اه
ومن هنا يكثر التّوسل في أشعاري، ويشتدّ على القبوريّين إنكاري؛ لأنّهم لا يقصدون ما أقصده، وإنّما يأتون بصريح الإشراك والجهل، فالقرائن محكمة، والعلاقات معتبرة، والفروق بين الحقيقة والمجاز مرعيّة، وكلا جانبي الإفراط والتّفريط مردود.
ورأيت العلّامة ابن تيميّة في (ص 251) من ردّه على البكريّ يعذر الشّيخ يحيى الصّرصريّ الشّاعر المشهور في سؤال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد وفاته ما كان يسأل فيه أيّام حياته؛ حيث يقول: (وهذا ـ مشيرا إلى التّسوية ما بين المحيا والممات ـ ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنّه موجود في كلام بعض النّاس
مثل الشّيخ يحيى الصّرصريّ؛ ففي شعره قطعة منه، والشّيخ محمّد بن النّعمان كان له كتاب «المستغيثين بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في اليقظة والمنام»، وهذا الرّجل قد نقل منه فيما يغلب على ظنّي، وهؤلاء لهم صلاح ودين، ولكنّهم ليسوا من أهل العلم) اه
وحسبنا منه عذرهم، وبه يتبيّن أنّ ابن تيميّة لم يثبت في إنكاره الاستغاثة والتّوسّل على حال واحد، بل يقول تارة: إنّه شرك، وأخرى: إنّه بدعة، والثّالثة: إنّه يعذر من يفعله من أهل الدّين والصّلاح، وكلامه الّذي يوافق الجمهور أحبّ إلينا من كلامه الّذي ينفرد به، وقد قال الإمام عليّ بن أبي طالب في أمّهات الأولاد قولا غير الّذي قاله بموافقة عمر، فقال له قاضيه: رأيك مع عمر أحبّ إلينا من رأيك في الفرقة. وحسب ابن تيميّة من منصفيه أن يقولوا هكذا. والله أعلم.
رأيت في «مجلّة الفتح» أنّ أشدّ ما يتألّم منه ملك الحجاز ونجد: أن يشيع المرجفون عنه أو عن قومه أنّهم يكفّرون المسلمين أو يخرجونهم عن دائرة الدّين.. إذن فنحن وإيّاهم من المتّفقين، وما ذكره العلّامة ابن تيميّة عن الصّرصريّ موجود بكثرة عند أهل العلم؛ كالحافظ ابن حجر، وابن الزّملكانيّ، وابن دقيق العيد... وغيرهم، وحسبنا بهم أسوة.
ورأيت ابن القيّم في «الزّاد» يعتبر كلام الصّرصريّ في زمن ولادة النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويعدّ قوله في شعره عنها من الأقوال الّتي تذكر، ومعاذ الله أن يثني العلّامة السّيّد علويّ بن سقّاف الجفريّ على الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب وهو يعلم أنّه يكفّر أحدا من المسلمين بمجرّد التّوسّل والاستغاثة القابلين الاحتمال، وكان العلّامة السّيّد محمّد بن إسماعيل الأمير امتدح الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب بقصيدة تستهلّ بقوله:
سلام على نجد ومن حلّ في نجد
ولمّا بلغه عن قومه ما لا يرضاه من الغلوّ.. أنشأ قصيدته المستهلّة بقوله:
رجعت عن القول الّذي قلت في النّجدي
وقد مرّ في ذي أصبح ما يعرف منه تعصّب عبد الله عوض غرامة لآراء الوهّابيّة، وأنّ الإمام البحر ينكر عليه جوره بعبارات قاسية تكاد تشقّق منها الحجارة، حتّى إنّه لا يقول في كتبه إليه عندما يثور عليه إلّا: من حسن بن صالح البحر إلى عبد الله عوض غرامة، السّلام على من اتّبع الهدى... ثمّ يصعب له القول، ويطيل في وعظه الجول، ولو كان من رأيه إنكار توهيبه.. لما سكت له في ذلك، وهو لسان الدّين النّاطق، وبرهان الحقّ الصّادق.
توفّي الحبيب علويّ بن سقّاف الجفريّ المذكور بتريس، سنة (1273 ه) قبيل وفاة شيخه البحر بمدّة يسيرة.
وخلفه ولده العلّامة الفقيه سالم بن علويّ، وكان على قضاء تريس، وجرت بيننا وبينه محاورات ومناقضات ورسائل؛ وخبر ذلك أنّني لمّا عدت من جاوة مشبّعا بالآمال في الإصلاح.. خطبت في الجامع في سنة (1330 ه) إثر الصّلاة ودعوت إلى التّسامح والتّصالح والتّآلف والاجتماع، فاستاءت لذلك طائفة باطويح، واشتدّ عليهم أن أتكلّم بمرأى ومسمع من حضرة السّيّد العلّامة عليّ بن محمّد الحبشيّ، وربّما فهموا من السّياق تعريضا بانحراف السّيّد عليّ عن سير السّلف الطّيّبين، فلم أشعر بعد مدّة إلّا بورقة فيها ما يشبه الرّدّ على بعض نقاط من تلك الخطبة الّتي اختزلها بعض الطّلبة ووزّع نسخا منها بين النّاس، معزوّة تلك الورقة إلى الفاضل الأديب ـ الّذي أخلص صداقتي فيما بعد ـ السّيّد عيدروس بن سالم بن علويّ الجفريّ، فكتبت ردّا عليها من لسان القلم عزوته إلى غيري.
وبعد شهر تقريبا وصلتني عدّة أوراق ـ نحو العشر ـ يراد منها دفع ذلك الرّدّ، فنقضتها في بضعة أيّام برسالة ضافية الذّيول، سمّيتها ب: «النّجم الدّرّيّ في الرّدّ على السّيّد سالم الجفريّ» فكانت القاضية ـ في أخبار طويلة مستوفاة ب «الأصل» ـ فلم يكن منه ـ أعني السّيّد سالم بن علويّ رحمه الله ـ إلّا أن جاءني بعد ذلك على شيخوخته، وصارحني بأنّه لم يراجعني القول إلّا عن إيعاز قويّ ممّن يذبّ عنهم، وأنّه مكره لا بطل، وأنّ الصّواب تبيّن له من «النّجم الدّرّيّ» فرجع إليه، فأكبرته وأعظمت طيب نيّته، وسلامة صدره، إلى ذلك الحدّ الّذي يصعب مثله إلّا على أهل الإخلاص، وقليل ما هم.
ومن العجب العجيب أنّ كلام العلّامة السّيّد سالم بن علويّ رحمه الله في دفاعه عن صاحبه كان مخالفا على طول الخطّ لما قرّره أبوه في «الدّلائل الواضحة» وهي موجودة عنده، والحقّ فيها أعظم وأوضح ممّا هو في «النّجم»، وما وقعت عليها إلّا بعد ذلك من يد ولده الفاضل السّيّد عيدروس، ولو كانت عندي من قبل.. لكانت الحجّة أدمغ والعبارة أبلغ، ويقيني أنّه لم يكن على ذكر منها حين كتب ما كتب، توفّي رحمه الله في حدود سنة (1336 ه).
وخلفه على القضاء والتّدريس بتريس ولده العالم الجليل، والفاضل النّبيل عيدروس، وكان أديبا شاعرا، جميل الوجه، نظيف الثّوب، حسن الشّارة، كبير الهمّة، لم تضع الأعادي قدر شأنه وقتما كان على القضاء، ولكنّه أراد ما أراده الطّغرائيّ في قوله [من البسيط]:
«أريد بسطة كفّ أستعين بها *** على قضاء حقوق للعلا قبلي »
فطوّحت به الأسفار إلى جاوة من حدود سنة (1342 ه) إلى اليوم، نسأل الله أن يقضي لنا وله الحاجات، ويفرّج الكربات، ويجمعنا به في الأوطان على أرغد عيش وأنعم بال.
أمّا دولة تريس: فقد كانت لآل ثعلب، ومن صلحائهم: السّلطان عمر بن سليمان بن ثعلب أثنى عليه الشّيخ محمّد بن عمر باجمال في كتابه «مقال النّاصحين» [ص 196] وقال: (كانت له أحوال محمودة، وشفقة على الرّعيّة صالحة، وتفقّد لهم تامّ، وكان يقتني من البهائم وآلات الحرث لرعاياه مثل ما يعدّه لنفسه، ويبذل ذلك لهم، وكان يتفقّد أهل الفقر والحاجة منهم، فيواسيهم ويحسن إليهم، ويصلح بين المتخاصمين، ويتحمّل في ذلك الأثقال الكثيرة) اه
ومع هذا.. فقد كان الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة يغري به سلاطين آل كثير ويهيّجهم عليه، إلّا أنّ الشّيخ من أهل الأحوال الّذين لا يقتدى بهم.
ولمّا تلاشى ملك آل ثعلب.. صاروا سوقة وتجّارا بالغرفة وغيرها، حسبما مرّت الإشارة فيها إليه.
ثمّ استولت يافع على تريس، وكان عليها منهم: الأمير صالح بن ناصر بن نقيب، يعشّرها وما حواليها إلى مكان آل مهري، لا يقدر أحد من آل كثير أن يعترضه في شيء، مع أنّ عسكره قليل جدّا، غير أنّه كان شجاعا مهابا، وكان ولده عبد الله جمرة حرب، متورّدا على حياض القتل والضّرب.
وفي جمادى الآخرة من سنة (1264 ه): نازلهم آل عبد الله الكثيريّون بأشراف القبلة وغيرهم بعد أن فرغوا من آل الظّبي بسيئون.
وبعد حصار دام سبعين يوما.. سلّمت تريس، وتمّ الصّلح، وكان جلاء آل ابن نقيب إلى القطن حسبما هو مفصّل ب «الأصل»، وتلك الأيّام نداولها بين النّاس.
وعلى ذكر بيت الطّغرائيّ السّابق: بلغني أنّ بعض بني شيبة اعتزم السّفر فجاء لموادعة الشّريف، فقال له: فيم؟ قال: أريد.
فلم يصل داره إلا وقد سبقه ألف دينار له إليه من الشّريف، أراد الشّريف قول الطّغرّائيّ [من البسيط]:
«فيم اقتحامك لجّ البحر تركبه *** وأنت تكفيك منه مصّة الوشل؟ »
وأراد الرّجل ذلك البيت السّابق ذكره من نفس القصيدة.
رحمة الله على أهل الجود، ووا أسفا إذ قد تضمّنتهم اللّحود، ولله درّ الرّضيّ في قوله [في «ديوانه» 1 / 665 من الطّويل]:
«وهل تدّعي حفظ المكارم عصبة *** لئام ومثلي بينها اليوم ضائع »
«نعم لستم الأيدي الطّوال فعاونوا *** على قدركم قد تستعان الأصابع »
وللشّعراء في معنى الأوّل مجال واسع، ذكرنا منه في «العود الهنديّ» ما شاء الله أن نذكر.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
6-المعجم المفصل في النحو العربي (سألتم هواني)
سألتم هوانيهي جملة أو عبارة تجمع اصطلاحا حروف الزّيادة التي قد تزاد إلى حروف الكلمة الأصليّة؛ ومجموع حروف الزيادة عشرة جمعها بعضهم في عبارة سألتم هواني، وقد وصلت هذه الحروف بعبارات كثيرة يصل عددها إلى مئة وثلاثين عبارة وجمعها ابن خروف باثنتين وعشرين، نذكر منها: اليوم تنساه، أمان وتسهيل، تسليم وهناء، هويت السّمان، (المازني)، التّناهي سموّ، (المعرّي)، تهاوني أسلم، (المعرّي أيضا)، تلا يوم أنسه، نهاية مسؤول، أتاه سليمان، الموت ينساه، أسلمني وتاه، التمسن هواي، سألتم هواني، لا أنسيتموه، هم يتساءلون، هو استمالني، تنمي وسائله.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
7-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الصوفية 1)
الصوفيةالتعريف:
التصوُّف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنـزعاتٍ فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري. ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرق مميزة معروفة باسم الصوفية، ويتوخّى المتصوفة تربية النفس والسمو بها بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة لا عن طريق إتباع الوسائل الشرعية، ولذا جنحوا في المسار حتى تداخلت طريقتهم مع الفلسفات الوثنية: الهندية والفارسية واليونانية المختلفة. ويلاحظ أن هناك فروقًا جوهرية بين مفهومي الزهد والتصوف أهمها: أن الزهد مأمور به، والتصوف جنوح عن طريق الحق الذي اختطَّه أهل السنة والجماعة.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
مقدمة هامة:
خلال القرنين الأولين ابتداءً من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين حتى وفاة الحسن البصري، لم تعرف الصوفية سواء كان باسمها أو برسمها وسلوكها، بل كانت التسمية الجامعة: المسلمين، المؤمنين، أو التسميات الخاصة مثل: الصحابي، البدري، أصحاب البيعة، التابعي.
لم يعرف ذلك العهد هذا الغلو العملي التعبُّدي أو العلمي الاعتقادي إلا بعض النزعات الفردية نحو التشديد على النفس الذي نهاهم عنه النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة، ومنها قوله للرهط الذين سألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
وقوله صلى الله عليه وسلم للحولاء بنت نويت التي طوَّقت نفسها بحبل حتى لا تنام عن قيام الليل كما في حديث عائشة رضي الله عنها: (عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يملّ حتى تملوا، وأحبُّ العمل إلى الله أدْوَمُه وإن قل).
ـ وهكذا كان عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا المنهج يسيرون، يجمعون بين العلم والعمل، والعبادة والسعي على النفس والعيال، وبين العبادة والجهاد، والتصدي للبدع والأهواء مثلما تصدى ابن مسعود رضي الله عنه لبدعة الذكر الجماعي بمسجد الكوفة وقضى عليها، وتصدِّيه لأصحاب معضّد بن يزيد العجلي لما اتخذوا دورًا خاصة للعبادة في بعض الجبال وردهم عن ذلك.
ظهور العُبّاد: في القرن الثاني الهجري في عهد التابعين وبقايا الصحابة ظهرت طائفة من العباد آثروا العزلة وعدم الاختلاط بالناس فشددوا على أنفسهم في العبادة على نحو لم يُعهد من قبل، ومن أسباب ذلك بزوغ بعض الفتن الداخلية، وإراقة بعض الدماء الزكية، فآثروا اعتزال المجتمع تصوُّنًا عما فيه من الفتن، وطلبًا للسلامة في دينهم، يضاف إلى ذلك أيضًا فتح الدنيا أبوابها أمام المسلمين، وبخاصة بعد اتساع الفتوحات الإسلامية، وانغماس بعض المسلمين فيها، وشيوع الترف والمجون بين طبقة من السفهاء، مما أوجد ردة فعل عند بعض العباد وبخاصة في البصرة والكوفة حيث كانت بداية الانحراف عن المنهج الأول في جانب السلوك.
ـ ففي الكوفة ظهرت جماعة من أهلها اعتزلوا الناس وأظهروا الندم الشديد بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه وسموا أنفسهم بالتوَّابين أو البكَّائين. كما ظهرت طبقة من العبَّاد غلب عليهم جانب التشدد في العبادة والبعد عن المشاركة في مجريات الدولة، مع علمهم وفضلهم والتزامهم بآداب الشريعة، واشتغالهم بالكتاب والسنة تعلمًا وتعليمًا، بالإضافة إلى صدعهم بالحق وتصديهم لأهل الأهواء. كما ظهر فيهم الخوف الشديد من الله تعالى، والإغماء والصعق عند سماع القرآن الكريم مما استدعى الإنكار عليهم من بعض الصحابة وكبار التابعين كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم رضي الله عنهم، وبسببهم شاع لقب العُبَّاد والزُهَّاد والقُرَّاء في تلك الفترة. ومن أعلامهم: عامر بن عبد الله بن الزبير، و صفوان بن سليم، وطلق بن حبيب العنزي، عطاء السلمي، الأسود بن يزيد بن قيس، وداود الطائي، وبعض أصحاب الحسن البصري.
بداية الانحراف: كدأب أي انحراف يبدأ صغيرًا، ثم ما يلبث إلا أن يتسع مع مرور الأيام، فقد تطور مفهوم الزهد في الكوفة والبصرة في القرن الثاني للهجرة على أيدي كبار الزهاد أمثال: إبراهيم بن أدهم، مالك بن دينار، وبشر الحافي، ورابعة العدوية، وعبد الواحد بن زيد، إلى مفهوم لم يكن موجودًا عند الزهاد السابقين من تعذيب للنفس بترك الطعام، وتحريم تناول اللحوم، والسياحة في البراري والصحاري، وترك الزواج. يقول مالك بن دينار: "لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، ويأوي إلى مزابل الكلاب". وذلك دون سند من قدوة سابقة أو نص كتاب أو سنة، ولكن مما يجدر التنبيه عليه أنه قد نُسب إلى هؤلاء الزهاد من الأقوال المرذولة والشطحات المستنكرة ما لم يثبت عنهم بشكل قاطع كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.
ـ وفي الكوفة أخذ معضد بن يزيد العجلي هو وقبيلُه يروِّضون أنفسهم على هجر النوم وإدامة الصلاة، حتى سلك سبيلهم مجموعة من زهاد الكوفة، فأخذوا يخرجون إلى الجبال للانقطاع للعبادة، على الرغم من إنكار ابن مسعود عليهم في السابق.
ـ وظهرت من بعضهم مثل رابعة العدوية أقوال مستنكرة في الحب والعشق الإلهي للتعبير عن المحبة بين العبد وربه، وظهرت تبعًا لذلك مفاهيم خاطئة حول العبادة من كونها لا طمعًا في الجنة ولا خوفًا من النار مخالفةً لقول الله تعالى: (يَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا).
ـ يلخص شيخ الإسلام ابن تيمية هذا التطور في تلك المرحلة بقوله: "في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام، والتصوف، فكان جمهور الرأي في الكوفة، وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة، فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وظهر أحمد بن علي الهجيمي ت200هـ، تلميذ عبد الواحد بن زيد تلميذ الحسن البصري، وكان له كلام في القدر، وبنى دويرة للصوفية ـ وهي أول ما بني في الإسلام ـ أي دارًا بالبصرة غير المساجد للالتقاء على الذكر والسماع ـ صار لهم حال من السماع والصوت ـ إشارة إلى الغناء. وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء في القول والعمل، وأما الشاميون فكان غالبهم مجاهدين".
ومنذ ذلك العهد أخذ التصوف عدة أطوار أهمها:
ـ البداية والظهور: ظهر مصطلح التصوف والصوفية أول ما ظهر في الكوفة بسبب قُربها من بلاد فارس، والتأثُّر بالفلسفة اليونانية بعد عصر الترجمة، ثم بسلوكيات رهبان أهل الكتاب، وقد تنازع العلماء والمؤرخون في أول مَن تسمَّ به. على أقوال ثلاثة:
1 ـ قول شيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقه: أن أول من عُرف بالصوفي هو أبو هاشم الكوفي ت150هـ أو 162هـ بالشام بعد أن انتقل إليها، وكان معاصرًا لسفيان الثوري ت 155هـ قال عنه سفيان: "لولا أبو هاشم ما عُرِفت دقائق الرياء". وكان معاصرًا لجعفر الصادق وينسب إلى الشيعة الأوائل، ويسميه الشيعة مخترع الصوفية.
2 ـ يذكر بعض المؤرخين أن عبدك ـ عبد الكريم أو محمد ـ المتوفى سنة 210هـ هو أول من تسمى بالصوفي، ويذكر عنه الحارث المحاسبي أنه كان من طائفة نصف شيعية تسمي نفسها صوفية تأسست بالكوفة. بينما يذكر الملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع أن عبدك كان رأس فرقة من الزنادقة الذين زعموا أن الدنيا كلها حرام، لا يحل لأحد منها إلا القوت، حيث ذهب أئمة الهدى، ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل، وإلا فهي حرام، ومعاملة أهلها حرام.
3 ـ يذهب ابن النديم في الفهرست إلى أن جابر بن حيان تلميذ جعفر الصادق والمتوفى سنة 208هـ أول من تسمى بالصوفي، والشيعة تعتبره من أكابرهم، والفلاسفة ينسبونه إليهم.
ـ وقد تنازع العلماء أيضًا في نسبة الاشتقاق على أقوال كثيرة أرجحها:
1ـ ما رجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون وطائفة كبيرة من العلماء من أنها نسبة إلى الصُّوف حيث كان شعار رهبان أهل الكتاب الذين تأثر بهم الأوائل من الصوفية، وبالتالي فقد أبطلوا كل الاستدلالات والاشتقاقات الأخرى على مقتضى قواعد اللغة العربية، مما يبطل محاولة نسبة الصوفية أنفسهم لأهل الصُّفَّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو محاولة نسبة الصوفية أنفسهم إلى علي بن أبي طالب والحسن البصري وسفيان الثوري رضي الله عنهم جميعًا، وهي نسبة تفتقر إلى الدليل ويعوزها الحجة والبرهان.
2ـ الاشتقاق الآخر ما رجحه أبو الريحان البيروني 440هـ وفون هامر حديثًا وغيرهما من أنها مشتقة من كلمة سوف SOPHاليونانية والتي تعني الحكمة. ويدلِّل أصحاب هذا الرأي على صحته بانتشاره في بغداد وما حولها بعد حركة الترجمة النشطة في القرن الثاني الهجري بينما لم تعرف في نفس الفترة في جنوب وغرب العالم الإسلامي. ويضاف إلى الزمان والمكان التشابه في أصل الفكرة عند الصوفية واليونان حيث أفكار وحدة الوجود والحلول والإشراق والفيض. كما استدلوا على قوة هذا الرأي بما ورد عن كبار الصوفية مثل السهروردي ـ المقتول ردة ـ بقوله: (وأما أنوار السلوك في هذه الأزمنة القريبة فخميرة الفيثاغورثيين وقعت إلى أخي أخميم (ذي النون المصري) ومنه نزلت إلى سيارستري وشيعته (أي سهل التستري) وأضافوا إلى ذلك ظهور مصطلحات أخرى مترجمة عن اليونانية في ذلك العصر، مثل الفلسفة، الموسيقا، الموسيقار، السفسطة، الهيولي.
طلائع الصوفية: ظهر في القرنين الثالث والرابع الهجري ثلاث طبقات من المنتسبين إلى التصوف وهي:
· الطبقة الأولى: وتمثل التيار الذي اشتهر بالصدق في الزهد إلى حد الوساوس، والبعد عن الدنيا والانحراف في السلوك والعبادة على وجه يخالف ما كان عليه الصدر الأول من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته بل وعن عبّاد القرن السابق له، ولكنه كان يغلب على أكثرهم الاستقامة في العقيدة، والإكثار من دعاوى التزام السنة ونهج السلف، وإن كان ورد عن بعضهم ـ مثل الجنيد ـ بعض العبارات التي عدها العلماء من الشطحات، ومن أشهر رموز هذا التيار:
ـ الجنيد: هو أبو القاسم الخراز المتوفى 298هـ يلقبه الصوفية بسيد الطائفة، ولذلك يعد من أهم الشخصيات التي يعتمد المتصوفة على أقواله وآرائه وبخاصة في التوحيد والمعرفة والمحبة. وقد تأثر بآراء ذي النون النوبي، فهذبها، وجمعها ونشرها من بعده تلميذه الشبلي، ولكنه خالف طريقة ذي النون والحلاّج و البسطامي في الفناء، حيث كان يُؤْثر الصحو على السكر وينكر الشطحات، ويؤثر البقاء على الفناء، فللفَناءِ عنده معنى آخر، وقد أنكر على المتصوفة سقوط التكاليف. وقد تأثر الجنيد بأستاذه الحارث المحاسبي الذي يعد أول من خلط الكلام بالتصوف، وبخاله السري السقطي ت 253هـ.
وهناك آخرون تشملهم هذه الطبقة أمثال: أبو سليمان الداراني عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العني ت205هـ، وأحمد بن الحواري، والحسن بن منصور بن إبراهيم أبو علي الشطوي الصوفي وقد روى عنه البخاري في صحيحه، والسري بن المغلس السقطي أبوالحسن ت253هـ، سهل بن عبد الله التستري ت273هـ، معروف الكرخي أبو محفوظ 200هـ، وقد أتى من بعدهم ممن سار على طريقتهم مثل: أبي عبد الرحمن السلمي 412هـ محمد بن الحسين الأزدي السلمي، محمد بن الحسن بن الفضل بن العباس أبويعلى البصري الصوفي 368هـ شيخ الخطيب البغدادي.
ـ ومن أهم السمات الأخرى لهذه الطبقة: بداية التمييز عن جمهور المسلمين والعلماء، وظهور مصطلحات تدل على ذلك بشكل مهَّد لظهور الطرق من بعد، مثل قول بعضهم: علمُنا، مذهبنا، طريقنا، قال الجنيد: (علمنا مشتبك مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو انتساب محرم شرعًا حيث يفضي إلى البدعة والمعصية بل وإلى الشرك أيضًا، وقد اشترطوا على من يريد السير معهم في طريقتهم أن يَخرُجَ من ماله، وأن يُقلَّ من غذائه وأن يترك الزواج مادام في سلوكه.
ـ كثر الاهتمام بالوعظ والقصص مع قلة العلم والفقه والتحذير من تحصيلهما في الوقت الذي اقتدى أكثرهم بسلوكيات رهبان ونُسَّاك أهل الكتاب حيث حدث الالتقاء ببعضهم، مما زاد في البعد عن سمت الصحابة وأئمة التابعين. ونتج عن ذلك اتخاذ دور للعبادة غير المساجد، يلتقون فيها للاستماع للقصائد الزهدية أو قصائد ظاهرها الغزل بقصد مدح النبي صلى الله عليه وسلم مما سبَّب العداء الشديد بينهم وبين الفقهاء، كما ظهرت فيهم ادعاءات الكشف والخوارق وبعض المقولات الكلامية. وفي هذه الفترة ظهرت لهم تصانيف كثيرة في مثل: كتب أبو طالب المكي قوت القلوب وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، وكتب الحارث المحاسبي. وقد حذر العلماء الأوائل من هذه الكتب لاشتمالها على الأحاديث الموضوعة والمنكرة، واشتمالها على الإسرائيليات وأقوال أهل الكتاب. سئل الإمام أبو زرعة عن هذه الكتب فقيل له: في هذه عبرة؟ قال: من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة.
ومن أهم هذه السمات المميزة لمذاهب التصوف والقاسم المشترك للمنهج المميز بينهم في تناول العبادة وغيرها ما يسمونه (الذوق)، والذي أدى إلى اتساع الخرق عليهم، فلم يستطيعوا أن يحموا نهجهم الصوفي من الاندماج أو التأثر بعقائد وفلسفات غير إسلامية، مما سهَّل على اندثار هذه الطبقة وزيادة انتشار الطبقة الثانية التي زاد غلوها وانحرافها.
· الطبقة الثانية: خلطت الزهد بعبارات الباطنية، وانتقل فيها الزهد من الممارسة العملية والسلوك التطبيقي إلى مستوى التأمل التجريدي والكلام النظري، ولذلك ظهر في كلامهم مصطلحات: الوحدة، والفناء، والاتحاد، والحلول، والسكر، والصحو، والكشف، والبقاء، والمريد، والعارف، والأحوال، والمقامات، وشاع بينهم التفرقة بين الشريعة والحقيقة، وتسمية أنفسهم أرباب الحقائق وأهل الباطن، وسموا غيرهم من الفقهاء أهل الظاهر والرسوم مما زاد العداء بينهما، وغير ذلك مما كان غير معروف عند السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة ولا عند الطبقة الأولى من المنتسبين إلى الصوفية، مما زاد في انحرافها، فكانت بحق تمثل البداية الفعلية لما صار عليه تيار التصوف حتى الآن.
ومن أهم أعلام هذه الطبقة: أبو اليزيد البسطامي ت263هـ، ذوالنون المصري ت245هـ، الحلاج ت309هـ، أبوسعيد الخزار 277ـ 286هـ، الحكيم الترمذي ت320هـ، أبو بكر الشبلي 334 هـ وسنكتفي هنا بالترجمة لمن كان له أثره البالغ فيمن جاء بعده إلى اليوم مثل:
ـ ذو النون المصري: وهو أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم، قبطي الأصل من أهل النوبة، من قرية أخميم بصعيد مصر، توفي سنة 245 هـ أخذ التصوف عن شقران العابد أو إسرائيل المغربي على حسب رواية ابن خلكان وعبد الرحمن الجامي. ويؤكد الشيعة في كتبهم ويوافقهم ابن النديم في الفهرست أنه أخذ علم الكيمياء عن جابر بن حيان، ويذكر ابن خلكان أنه كان من الملامتية الذين يخفون تقواهم عن الناس ويظهرون استهزاءهم بالشريعة، وذلك مع اشتهاره بالحكمة والفصاحة.
ويعدُّه كُتَّاب الصوفية المؤسسَ الحقيقي لطريقتهم في المحبة والمعرفة، وأول من تكلم عن المقامات والأحوال في مصر، وقال بالكشف وأن للشريعة ظاهرًا وباطنًا. ويذكر القشيري في رسالته أنه أول من عرَّف التوحيد بالمعنى الصوفي، وأول من وضع تعريفات للوجد والسماع، وأنه أول من استعمل الرمز في التعبير عن حاله، وقد تأثر بعقائد الإسماعيلية الباطنية وإخوان الصفا بسبب صِلاته القوية بهم، حيث تزامن مع فترة نشاطهم في الدعوة إلى مذاهبهم الباطلة، فظهرت له أقوال في علم الباطن، والعلم اللدني، والاتحاد، وإرجاع أصل الخلق إلى النور المحمدي، وكان لعلمه باللغة القبطية أثره على حل النقوش والرموز المرسومة على الآثار القبطية في قريته مما مكَّنه من تعلم فنون التنجيم والسحر والطلاسم الذي اشتغل بهم. ويعد ذو النون أول من وقف من المتصوفة على الثقافة اليونانية، ومذهب الأفلاطونية الجديدة، وبخاصة ثيولوجيا أرسطو في الإلهيات، ولذلك كان له مذهبه الخاص في المعرفة والفناء متأثرًا بالغنوصية.
ـ أبو يزيد البسطامي: طيفور بن عيسى بن آدم بن شروسان، ولد في بسطام من أصل مجوسي، وقد نسبت إليه من الأقوال الشنيعة؛ مثل قوله: (خرجت من الحق إلى الحق حتى صاح فيّ: يا من أنت أنا، فقد تحققت بمقام الفناء في الله)، (سبحاني ما أعظم شأني)، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يعده من أصحاب هذه الطبقة ويشكك في صدق نسبتها إليه حيث كانت له أقوال تدل على تمسكه بالسنة، ومن علماء أهل السنة والجماعة من يضعه مع الحلاج والسهروردي في طبقة واحدة.
ـ الحكيم الترمذي: أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسين الترمذي المتوفى سنة 320ه أول من تكلم في ختم الولاية وألف كتابًا في هذا أسماه ختم الولاية كان سببًا لاتهامه بالكفر وإخراجه من بلده ترمذ، يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: "تكلم طائفة من الصوفية في "خاتم الأولياء" وعظَّموا أمره كالحكيم الترمذي، وهو من غلطاته، فإن الغالب على كلامه الصحة بخلاف ابن عربي فإنه كثير التخليط). [مجموع الفتاوى [1/363] وينسب إليه أنه قال: "للأولياء خاتم كما أن للأنبياء خاتمًا"، مما مهد الطريق أمام فلاسفة الصوفية أمثال ابن عربي وابن سبعين وابن هود والتلمساني للقول بخاتم الأولياء، وأن مقامه يفضل مقام خاتم الأنبياء.
الطبقة الثالثة:
وفيها اختلط التصوف بالفلسفة اليونانية، وظهرت أفكار الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، على أن الموجود الحق هو الله وما عداه فإنها صور زائفة وأوهام وخيالات موافقة لقول الفلاسفة، كما أثرت في ظهور نظريات الفيض والإشراق على يد الغزالي والسهروردي. وبذلك تعد هذه الطبقة من أخطر الطبقات والمراحل التي مر بها التصوف والتي تعدت به مرحلة البدع العملية إلى البدع العلمية التي بها يخرج التصوف عن الإسلام بالكلية. ومن أشهر رموز هذه الطبقة: الحلاج ت309هـ، السهروردي 587هـ، ابن عربي ت638هـ، ابن الفارض 632هـ، ابن سبعين ت 667 هـ.
ـ الحـلاَّج: أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج 244 ـ 309هـ ولد بفارس حفيدًا لرجل زرادشتي، ونشأ في واسط بالعراق، وهو أشهر الحلوليين والاتحاديين، رمي بالكفر وقتل مصلوبًا لتهم أربع وُجِّهت إليه:
1ـ اتصاله بالقرامطة.
2ـ قوله "أنا الحق".
3ـ اعتقاد أتباعه ألوهيته.
4ـ قوله في الحج، حيث يرى أن الحج إلى البيت الحرام ليس من الفرائض الواجب أداؤها.
كانت في شخصيته كثير من الغموض، فضلًا عن كونه متشددًا وعنيدًا ومغاليًا، له كتاب الطواسين الذي أخرجه وحققه المستشرق الفرنسي ماسنيون.
يرى بعض الباحثين أن أفراد الطائفة في القرن الثالث الهجري كانوا على علم باطني واحد، منهم من كتمه ويشمل أهل الطبقة الأولى بالإضافة إلى الشبلي القائل: (كنت أنا والحسين بن منصور ـ الحلاج ـ شيئًا واحدًا إلا أنه أظهر وكتمت)، ومنهم من أذاع وباح به ويشمل الحلاج وطبقته فأذاقهم الله طعم الحديد، على ما صرَّحت به المرأة وقت صلبه بأمر من الجنيد حسب رواية المستشرق الفرنسي ماسنيون.
ظهور الفرق:
وضع أبو سعيد محمد أحمد الميهمي الصوفي الإيراني 357 ـ 430 هـ تلميذ أبي عبد الرحمن السلمي أوّل هيكل تنظيمي للطرق الصوفية بجعله متسلسلًا عن طريق الوراثة.
يعتبر القرن الخامس امتدادًا لأفكار القرون السابقة، التي راجت من خلال مصنفات أبي عبد الرحمن السلمي، المتوفى 412هـ والتي يصفها ابن تيمية بقوله: (يوجد في كتبه من الآثار الصحيحة والكلام المنقول ما ينتفع به في الدين، ويوجد فيه من الآثار السقيمة والكلام المردود ما يضر من لا خيرة له، وبعض الناس توقف في روايته) [مجموع الفتاوى 1/ 578]، فقد كان يضع الأحاديث لصالح الصوفية.
· ما بين النصف الثاني من القرن الخامس وبداية السادس في زمن أبي حامد الغزالي الملقَّب بحجَّة الإسلام ت505هـ أخذ التصوف مكانه عند من حسبوا على أهل السنة. وبذلك انتهت مرحلة الرواد الأوائل أصحاب الأصول غير الإسلامية، ومن أعلام هذه المرحلة التي تمتد إلى يومنا هذا:
ـ أبو حامد الغزالي: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي 450 ـ 505هـ ولد بطوس من إقليم خراسان، نشأ في بيئة كثرت فيها الآراء والمذاهب مثل: علم الكلام والفلسفة، والباطنية، والتصوف، مما أورثه ذلك حيرة وشكًّا دفعه للتقلُّب بين هذه المذاهب الأربعة السابقة أثناء إقامته في بغداد، رحل إلى جرجان ونيسابور، ولازم نظام الملك، درس في المدرسة النظامية ببغداد، واعتكف في منارة مسجد دمشق، ورحل إلى القدس ومنها إلى الحجاز ثم عاد إلى موطنه. وقد ألف عددًا من الكتب منها: تهافُت الفلاسفة، والمنقذ من الضلال، وأهمها إحياء علوم الدين. ويعد الغزالي رئيس مدرسة الكشف في المعرفة، التي تسلمت راية التصوف من أصحاب الأصول الفارسية إلى أصحاب الأصول السنية، ومن جليل أعماله هدمُه للفلسفة اليونانية وكشفه لفضائح الباطنية في كتابه المستظهري أو فضائح الباطنية. ويحكي تلميذه عبد الغافر الفارسي آخرَ مراحل حياته، بعدما عاد إلى بلده طوس، قائلًا: (وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين ـ البخاري ومسلم ـ اللذين هما حجة الإسلام) ا. هـ. وذلك بعد أن صحب أهل الحديث في بلده من أمثال: أبي سهيل محمد بن عبد الله الحفصي الذي قرأ عليه صحيح البخاري، والقاضي أبي الفتح الحاكمي الطوسي الذي سمع عليه سنن أبي داود [طبقات السبكي 4 / 110].
ـ وفي هذه المرحلة ألف كتابه إلجام العوام عن علم الكلام الذي ذم فيه علم الكلام وطريقته، وانتصر لمذهب السلف ومنهجهم فقال: (الدليل على أن مذهب السلف هو الحق: أن نقيضه بدعة، والبدعة مذمومة وضلالة، والخوض من جهة العوام في التأويل والخوض بهم من جهة العلماء بدعة مذمومة، وكان نقيضه هو الكف عن ذلك سنة محمودة) ص [96].
ـ وفيه أيضًا رجع عن القول بالكشف وإدراك خصائص النبوة وقواها، والاعتماد في التأويل أو الإثبات على الكشف الذي كان يراه من قبل غاية العوام.
يمثل القرن السادس الهجري البداية الفعلية للطرق الصوفية وانتشارها حيث انتقلت من إيران إلى المشرق الإسلامي، فظهرت الطريقة القادرية المنسوبة لعبد القادر الجيلاني، المتوفى سنة 561ه، وقد رزق بتسعة وأربعين ولدًا، حمل أحد عشر منهم تعاليمه ونشروها في العالم الإسلامي، ويزعم أتباعه أنه أخذ الخرقة والتصوف عن الحسن البصري عن الحسن بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ رغم عدم لقائه بالحسن البصري، كما نسبوا إليه من الأمور العظيمة فيما لا يقدر عليها إلا الله تعالى من معرفة الغيب، وإحياء الموتى، وتصرفه في الكون حيًّا أو ميتًا، بالإضافة إلى مجموعة من الأذكار والأوراد والأقوال الشنيعة. ومن هذه الأقوال أنه قال مرة في أحد مجالسه: "قدمي هذه على رقبة كل ولي لله"، وكان يقول: "من استغاث بي في كربة كشفت عنه، ومن ناداني في شدة فرجت عنه، ومن توسل بي في حاجة قضيت له)، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الشرك وادعاء الربوبية.
ـ يقول السيد محمد رشيد رضا: "يُنقل عن الشيخ الجيلاني من الكرامات وخوارق العادات ما لم ينقل عن غيره، والنقاد من أهل الرواية لا يحفلون بهذه النقول إذ لا أسانيد لها يحتج بها" [دائرة المعارف الإسلامية11/171].
· كما ظهرت الطريقة الرفاعية المنسوبة لأبي العباس أحمد بن أبي الحسين الرفاعي ت 540ه ويطلق عليها البطائحية نسبةً إلى مكان ولاية بالقرب من قرى البطائح بالعراق، وينسج حوله كُتَّاب الصوفية ـ كدأبهم مع من ينتسبون إليهم ـ الأساطير والخرافات، بل ويرفعونه إلى مقام الربوبية. ومن هذه الأقوال: (كان قطب الأقطاب في الأرض، ثم انتقل إلى قطبية السماوات، ثم صارت السماوات السبع في رجله كالخلخال) [طبقات الشعراني ص141، قلادة الجواهرص42].
ـ وقد تزوج الرفاعي العديد من النساء ولكنه لم يعقب، ولذلك خلفه على المشيخة من بعده علي بن عثمان ت584ه ثم خلفه عبد الرحيم بن عثمان ت604ه، ولأتباعه أحوال وأمور غريبة ذكرها الحافظ الذهبي ثم قال: "لكن أصحابه فيهم الجيد والرديء".
ـ وفي هذا القرن ظهرت شطحات وزندقة السهروردي شهاب الدين أبو الفتوح محيي الدين بن حسن 549-587ه، صاحب مدرسة الإشراق الفلسفية التي أساسها الجمع بين آراء مستمدة من ديانات الفرس القديمة ومذاهبها في ثنائية الوجود وبين الفلسفة اليونانية في صورتها الأفلاطونية الحديثة ومذهبها في الفيض أو الظهور المستمر، ولذلك اتهمه علماء حلب بالزندقة والتعطيل والقول بالفلسفة الإشراقية مما حدا بهم أن يكتبوا إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي محضرًا بكفره وزندقته فأمر بقتله ردة، وإليه تنسب الطريقة السهروردية ومذاهبها في الفيض أو الظهور المستمر. ومن كتبه: حكمة الإشراق، هياكل النور، التلويحات العرشية، والمقامات.
تحت تأثير تراكمات مدارس الصوفية في القرون السالفة أعاد ابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، بعثَ عقيدة الحلاج، وذي النون المصري، والسهروردي.
في القرن السابع الهجري دخل التصوف الأندلس وأصبح ابن عربي الطائي الأندلسي أحد رؤوس الصوفية حتى لُقِّب بالشيخ الأكبر.
ـ محيي الدين ابن عربي: الملقب بالشيخ الأكبر 560-638ه رئيس مدرسة وحدة الوجود، يعتبر نفسه خاتم الأولياء، ولد بالأندلس، ورحل إلى مصر، وحج، وزار بغداد، واستقر في دمشق حيث مات ودفن، وله فيها الآن قبر يُزار، طرح نظرية الإنسان الكامل التي تقوم على أن الإنسان وحده من بين المخلوقات يمكن أن تتجلّى فيه الصفات الإلهية إذا تيسر له الاستغراق في وحدانية الله، وله كتب كثيرة يوصلها بعضهم إلى 400 كتاب ورسالة ما يزال بعضها محفوظًا بمكتبة يوسف أغا بقونية ومكتبات تركيا الأخرى، وأشهر كتبه: روح القدس، وترجمان الأشواق وأبرزها: الفتوحات المكية وفصوص الحكم.
ـ أبو الحسن الشاذلي 593-656ه: صاحبَ ابن عربي مراحل الطلب ـ طلب العلم ـ ولكنهما افترقا حيث فضّل أبو الحسن مدرسة الغزالي في الكشف بينما فضل ابن عربي مدرسة الحلاج وذي النون المصري، وقد أصبح لكلتا المدرستين أنصارهما إلى الآن داخل طرق الصوفية، مع ما قد تختلط عند بعضهم المفاهيم فيهما، ومن أشهر تلاميذ مدرسة أبي الحسن الشاذلي ت656ه أبو العباس ت686ه، وإبراهيم الدسوقي، وأحمد البدوي ت675ه. ويلاحظ على أصحاب هذه المدرسة إلى اليوم كثرة اعتذارها وتأويلها لكلام ابن عربي ومدرسته.
وفي القرن السابع ظهر أيضًا جلال الدين الرومي صاحب الطريقة المولوية بتركيا ت672هـ.
أصبح القرن الثامن والتاسع الهجري ما هو إلا تفريع وشرح لكتب ابن عربي وابن الفارض وغيرهما، ولم تظهر فيه نظريات جديدة في التصوف. ومن أبرز سمات القرن التاسع هو اختلاط أفكار كلتا المدرستين. وفي هذا القرن ظهر محمد بهاء الدين النقشبندي مؤسس الطريقة النقشبندية ت791هـ. وكذلك القرن العاشر ما كان إلا شرحًا أو دفاعًا عن كتب ابن عربي، فزاد الاهتمام فيه بتراجم أعلام التصوف، والتي اتسمت بالمبالغة الشديدة. ومن كتّاب تراجم الصوفية في هذا القرن: عبد الوهاب الشعراني ت 973ه صاحب الطبقات الصغرى والكبرى.
وفي القرون التالية اختلط الأمر على الصوفية، وانتشرت الفوضى بينهم، واختلطت فيهم أفكار كلتا المدرستين وبدأت مرحلة الدراويش.
ـ ومن أهم ما تتميز به القرون المتأخرة ظهور ألقاب شيخ السجادة، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية، والخليفة والبيوت الصوفية التي هي أقسام فرعية من الطرق نفسها مع وجود شيء من الاستقلال الذاتي يمارس بمعرفة الخلفاء، كما ظهرت فيها التنظيمات والتشريعات المنظمة للطرق تحت مجلس وإدارة واحدة الذي بدأ بفرمان أصدره محمد علي باشا والي مصر يقضي بتعيين محمد البكري خلفًا لوالده شيخًا للسجادة البكرية وتفويضه في الإشراف على جميع الطرق والتكايا والزوايا والمساجد التي بها أضرحة كما له الحق في وضع مناهج التعليم التي تعطى فيها. وذلك كله في محاولة لتقويض سلطة شيخ الأزهر وعلمائه، وقد تطورت نظمه وتشريعاته ليعرف فيما بعد بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر.
من أشهر رموز القرون التأخرة:
ـ عبد الغني النابلسي 1050-1143ه.
ـ أبو السعود البكري المتوفى 1812م أول من عرف بشيخ مشايخ الطرق الصوفية في مصر بشكل غير رسمي.
ـ أبو الهدى الصيادي الرفاعي 1220-1287هـ.
ـ عمر الفوتي الطوري السنغالي الأزهري التيجاني ت 1281ه، ومما يحسن ذكره له أنه اهتم بنشر الإسلام بين الوثنيين، وكوَّن لذلك جيشًا، وخاض به حروبًا مع الوثنيين، واستولى على مملكة سيغو وعلى بلاد ماسينه. ومن مؤلفاته: سيوف السعيد، سفينة السعادة، رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم.
ـ محمد عثمان الميرغني ت1268ه. ستأتي ترجمة له في مبحث الختمية.
ـ أبو الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني، فقيه متفلسف، من أهل فاس بالمغرب، أسس الطريقة الكتانية 1290-1327ه، انتقد عليه علماء فاس بعض أقواله ونسبوه إلى فساد الاعتقاد. ومن كتبه: حياة الأنبياء، لسان الحجة البرهانية في الذب عن شعائر الطريقة الأحمدية الكتانية.
ـ أحمد التيجاني ت1230ه. ستأتي ترجمة له في مبحث التيجانية.
ـ حسن رضوان 1239-1310ه صاحب أرجوزة روض القلوب المستطاب في التصوف.
ـ صالح بن محمد بن صالح الجعفري الصادقي 1328-1399ه انتسب إلى الطريقة الأحمدية الإدريسية بعد ما سافر إلى مصر والتحق بالأزهر، وأخذ الطريقة عن الشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ حبيب الله الشنقيطي، والشيخ يوسف الدجوي، ومن كتبه: الإلهام النافع لكل قاصد، القصيدة التائية، الصلوات الجعفرية.
الأفكار والمعتقدات:
مصادر التلقي:
ـ الكشف: ويعتمد الصوفية الكشف مصدرًا وثيقًا للعلوم والمعارف، بل تحقيق غاية عبادتهم، ويدخل تحت الكشف الصوفي جملة من الأمور الشرعية والكونية منها:
1ـ النبي صلى الله عليه وسلم: ويقصدون به الأخذ عنه يقظةً أو منامًا.
2ـ الخضر عليه الصلاة السلام: قد كثرت حكايتهم عن لقياه، والأخذ عنه أحكامًا شرعية وعلومًا دينية، وكذلك الأوراد، والأذكار والمناقب.
3ـ الإلهام: سواء كان من الله تعالى مباشرة، وبه جعلوا مقام الصوفي فوق مقام النبي حيث يعتقدون أن الولي يأخذ العلم مباشرة عن الله تعالى حيث أخذه الملك الذي يوحي به إلى النبي أو الرسول.
4ـ الفراسة: التي تختص بمعرفة خواطر النفوس وأحاديثها.
5ـ الهواتف: من سماع الخطاب من الله تعالى، أو من الملائكة، أو الجن الصالح، أو من أحد الأولياء، أو الخضر، أو إبليس، سواء كان منامًا أو يقظةً أو في حالة بينهما بواسطة الأذن.
6ـ الإسراءات والمعاريج: ويقصدون بها عروج روح الولي إلى العالم العلوي، وجولاتها هناك، والإتيان منها بشتى العلوم والأسرار.
7ـ الكشف الحسي: بالكشف عن حقائق الوجود بارتفاع الحجب الحسية عن عين القلب وعين البصر.
8 ـ الرؤى والمنامات: وتعتبر من أكثر المصادر اعتمادًا عليها حيث يزعمون أنهم يتلقَّون فيها عن الله تعالى، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد شيوخهم لمعرفة الأحكام الشرعية.
ـ الذوق: وله إطلاقان:
1 ـ الذوق العام الذي ينظم جميع الأحوال والمقامات، ويرى الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال إمكان السالك أن يتذوَّق حقيقة النبوة، وأن يدرك خاصيتها بالمنازلة.
2ـ أما الذوق الخاص فتتفاوت درجاته بينهم حيث يبدأ بالذوق ثم الشرب.
ـ الوجد: وله ثلاثة مراتب:
1 ـ التواجد.
2 ـ الوجد.
3 ـ الوجود.
ـ التلقي عن الأنبياء غير النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشياخ المقبورين.
تتشابه عقائد الصوفية وأفكارهم وتتعدد بتعدد مدارسهم وطرقهم ويمكن إجمالها فيما يلي:
ـ يعتقد المتصوفة في الله تعالى عقائد شتى، منها الحلول كما هو مذهب الحلاج، ومنها وحدة الوجود حيث عدم الانفصال بين الخالق والمخلوق، ومنهم من يعتقد بعقيدة الأشاعرة والماتريدية في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته.
ـ والغلاة منهم يعتقدون في الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا عقائد شتى، فمنهم من يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصل إلى مرتبتهم وحالهم، وأنه كان جاهلًا بعلوم رجال التصوف كما قال البسطامي: "خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله". ومنهم من يعتقد أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو قبة الكون، وهو الله المستوي على العرش وأن السماوات والأرض والعرش والكرسي وكل الكائنات خُلقت من نوره، وأنه أول موجود؛ وهذه عقيدة ابن عربي ومن تبعه. ومنهم من لا يعتقد بذلك بل يرده ويعتقد ببشريته ورسالته ولكنهم مع ذلك يستشفعون ويتوسلون به صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى على وجه يخالف عقيدة أهل السنة والجماعة.
ـ وفي الأولياء يعتقد الصوفية عقائد شتى، فمنهم من يفضِّل الولي على النبي، ومنهم يجعلون الولي مساويًا لله في كل صفاته، فهو يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويتصرف في الكون. ولهم تقسيمات للولاية، فهناك الغوث، والأقطاب، والأبدال والنجباء حيث يجتمعون في ديوان لهم في غار حراء كل ليلة ينظرون في المقادير. ومنهم من لا يعتقد ذلك ولكنهم أيضًا يأخذونهم وسائط بينهم وبين ربهم سواءً كان في حياتهم أو بعد مماتهم.
وكل هذا بالطبع خلاف الولاية في الإسلام التي تقوم على الدين والتقوى، وعمل الصالحات، والعبودية الكاملة لله والفقر إليه، وأن الولي لا يملك من أمر نفسه شيئًا فضلًا عن أنه يملك لغيره، قال تعالى لرسوله: (قُل إنّي لا أملِكُ لكم ضَرًّا ولا رَشَدًا) [الجن: 21].
ـ يعتقدون أن الدين شريعة وحقيقة، والشريعة هي الظاهر من الدين وأنها الباب الذي يدخل منه الجميع، والحقيقة هي الباطن الذي لا يصل إليه إلا المصطفون الأخيار.
ـ التصوف في نظرهم طريقة وحقيقة معًا.
ـ لابد في التصوف من التأثير الروحي الذي لا يأتي إلا بواسطة الشيخ الذي أخذ الطريقة عن شيخه.
ـ لابد من الذكر والتأمل الروحي وتركيز الذهن في الملأ الأعلى، وأعلى الدرجات لديهم هي درجة الولي.
ـ يتحدث الصوفيون عن العلم الَّلدُنّي الذي يكون في نظرهم لأهل النبوة والولاية، كما كان ذلك للخضر عليه الصلاة والسلام، حيث أخبر الله تعالى عن ذلك فقال: (وعلَّمناهُ من لَدُنَّا عِلْمًا).
ـ الفناء: يعتبر أبو يزيد البسطامي أول داعية في الإسلام إلى هذه الفكرة، وقد نقلها عن شيخه أبي علي السندي حيث الاستهلاك في الله بالكلية، وحيث يختفي نهائيًّا عن شعور العبد بذاته ويفنى المشاهد فينسى نفسه وما سوى الله، ويقول القشيري: الاستهلاك بالكلية يكون (لمن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الغبار لا عينًا ولا أثرًا ولا رسمًا) "مقام جمع الجمع" وهو: "فناء العبد عن شهود فنائه باستهلاكه في وجود الحق".
إن مقام الفناء حالة تتراوح فيها تصورات السالك بين قطبين متعارضين هما التنزيه والتجريد من جهة والحلول والتشبيه من جهة أخرى.
درجات السلوك:
ـ هناك فرق بين الصوفي والعابد والزاهد إذ أن لكل واحد منهم أسلوبًا ومنهجًا وهدفًا.
وأول درجات السلوك حبُّ الله ورسوله، ودليله الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم الأسوة الحسنة: (لَقد كانَ لكُم في رَسُولِ الله أُسوةٌ حَسَنةٌ).
ثم التوبة: وذلك بالإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، وإبراء صاحبها إن كانت تتعلق بآدمي.
ـ المقامات: "هي المنازل الروحية التي يمر بها السالك إلى الله فيقف فترة من الزمن مجاهدًا في إطارها حتى ينتقل إلى المنزل الثاني" ولابد للانتقال من جهاد وتزكية. وجعلوا الحاجز بين المريد وبين الحق سبحانه وتعالى أربعة أشياء هي: المال، والجاه، والتقليد، والمعصية.
ـ الأحوال: "إنها النسمات التي تهب على السالك فتنتعش بها نفسه لحظات خاطفة ثم تمر تاركة عطرًاً تتشوق الروح للعودة إلى تنسُّم أريجه". قال الجنيد: "الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم".
والأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، ويعبِّرون عن ذلك بقولهم: (الأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود).
ـ الورع: أن يترك السالك كل ما فيه شبهة، ويكون هذا في الحديث والقلب والعمل.
ـ الزهد: وهو يعني أن تكون الدنيا على ظاهر يده، وقلبه معلق بما في يد الله. يقول أحدهم عن زاهد: (صدق فلان، قد غسل الله قلبه من الدنيا وجعلها في يده على ظاهره). قد يكون الإنسان غنيًّا وزاهدًا في ذات الوقت إذ أن الزهد لا يعني الفقر، فليس كل فقير زاهدًا، وليس كل زاهد فقيرًا، والزهد على ثلاث درجات:
1 ـ ترك الحرام، وهو زهد العوام.
2 ـ ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.
3 ـ ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى، وهو زهد العارفين.
ـ التوكل: يقولون: التوكل بداية، والتسليم واسطة، والتفويض نهاية إن كان للثقة في الله نهاية، ويقول سهل التستري: "التوكل: الاسترسال مع الله تعالى على ما يريد".
ـ المحبة: يقول الحسن البصري ت110ه: (فعلامة المحبة الموافقة للمحبوب والتجاري مع طرقاته في كل الأمور، والتقرب إليه بكل صلة، والهرب من كل ما لا يعينه على مذهبه).
ـ الرضا: يقول أحدهم: (الرضا بالله الأعظم، هو أن يكون قلب العبد ساكنًا تحت حكم الله عز وجل) ويقول آخر: (الرضا آخر المقامات، ثم يقتفي من بعد ذلك أحوال أرباب القلوب، ومطالعة الغيوب، وتهذيب الأسرار لصفاء الأذكار وحقائق الأحوال).
ـ يطلقون الخيال: لفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يصل السالك إلى اليقين وهو على ثلاث مراتب:
1 ـ علم اليقين: وهو يأتي عن طريق الدليل النقلي من آيات وأحاديث (كلاَّ لَوْ تَعلمُونَ عِلمَ اليَقين). [سورة التكاثر: 5].
2ـ عين اليقين: وهو يأتي عن طريق المشاهدة والكشف: (ثمَّ لَتَرونَّها عَينَ اليقين) [سورة التكاثر: 7].
3ـ حق اليقين: وهو ما يتحقق عن طريق الذوق: (إنَّ هذا لهو حقُّ اليَقين فسبِّح باسمِ ربِّك العظيم) [سورة الواقعة: 95، 96].
- وأما في الحكم والسلطان والسياسة فإن المنهج الصوفي هو عدم جواز مقاومة الشر ومغالبة السلاطين لأن الله في زعمهم أقام العباد فيما أراد.
ـ ولعل أخطر ما في الشريعة الصوفية هو منهجهم في التربية حيث يستحوذون على عقول الناس ويلغونها، وذلك بإدخالهم في طريق متدرج يبدأ بالتأنيس، ثم بالتهويل والتعظيم بشأن التصوف ورجاله، ثم بالتلبيس على الشخص، ثم بالرزق إلى علوم التصوف شيئًا فشيئًا، ثم بالربط بالطريقة وسد جميع الطرق بعد ذلك للخروج.
مدارس الصوفية:
ـ مدرسة الزهد: وأصحابها: من النُّسَّاك والزُّهَّاد والعُبَّاد والبكَّائين، ومن أفرادها: رابعة العدوية، وإبراهيم بن أدهم، ومالك بن دينار.
ـ مدرسة الكشف والمعرفة: وهي تقوم على اعتبار أن المنطق العقلي وحده لا يكفي في تحصيل المعرفة وإدراك حقائق الموجودات، إذ يتطور المرء بالرياضة النفسية حتى تنكشف عن بصيرته غشاوة الجهل وتبدو له الحقائق منطبقة في نفسه تتراءى فوق مرآة القلب، وزعيم هذه المدرسة: أبو حامد الغزالي.
ـ مدرسة وحدة الوجود: زعيم هذه المدرسة محيي الدين بن عربي: (وقد ثبت عن المحققين أنه ما في الوجود إلا الله، ونحن إن كنا موجودين فإنما كان وجودنا به، فما ظهر من الوجود بالوجود إلا الحق، فالوجود الحق وهو واحد، فليس ثم شيء هو له مثل، لأنه لا يصح أن يكون ثم وجودان مختلفان أو متماثلان).
ـ مدرسة الاتحاد والحلول: وزعيمها: الحلاج، ويظهر في هذه المدرسة التأثر بالتصوف الهندي والنصراني، حيث يتصور الصوفي عندها أن الله قد حل فيه وأنه قد اتحد هو بالله، فمن أقوالهم: (أنا الحق) و (ما في الجبة إلا الله) وما إلى ذلك من الشطحات التي تنطلق على ألسنتهم في لحظات السكر بخمرة الشهود على ما يزعمون.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
8-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (العلمانية-فلسفات ولدت في كنف الحضارة الغربية ومتأثرة بالنصرانية)
العلمانيةالتعريف:
العلمانية SECULArISM وترجمتها الصحيحة: اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيدًا عن الدين. وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر. أما بقية الدول العربية فقد انتقلت إليها في القرن العشرين، وقد اختيرت كلمة علمانية لأنها أقل إثارة من كلمة لا دينية.
ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيسًا في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما.
تتفق العلمانية مع الديانة النصرانية في فصل الدين عن الدولة حيث لقيصر سلطة الدولة ولله سلطة الكنيسة. وهذا واضح فيما يُنسب إلى السيد المسيح من قوله: "إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما الإسلام فلا يعرف هذه الثنائية والمسلم كله لله وحياته كلها لله {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام: آية: 162].
التأسيس وأبرز الشخصيات:
انتشرت هذه الدعوة في أوروبا وعمت أقطار العالم بحكم النفوذ الغربي والتغلغل الشيوعي. وقد أدت ظروف كثيرة قبل الثورة الفرنسية سنة 1789م وبعدها إلى انتشارها الواسع وتبلور منهجها وأفكارها وقد تطورت الأحداث وفق الترتيب التالي:
- تحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الإكليروس والرهبانية والعشاء الرباني وبيع صكوك الغفران.
- وقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها لمحاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة، مثل:
1- كوبرنيكوس: نشر سنة 1543م كتاب حركات الأجرام السماوية وقد حرمت الكنيسة هذا الكتاب.
2- جرادانو: صنع التلسكوب فعُذب عذابًا شديدًا وعمره سبعون سنة وتوفي سنة 1642م.
3- سبينوزا: صاحب مدرسة النقد التاريخي وقد كان مصيره الموت مسلولًا.
4- جون لوك طالب بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض.
ظهور مبدأ العقل والطبيعة: فقد أخذ العلمانيون يدعون إلى تحرر العقل وإضفاء صفات الإله على الطبيعة.
- الثورة الفرنسية: نتيجة لهذا الصراع بين الكنيسة من جهة وبين الحركة الجديدة من جهة أخرى، كانت ولادة الحكومة الفرنسية سنة 1789م وهي أول حكومة لا دينية تحكم باسم الشعب. وهناك من يرى أن الماسون استغلوا أخطاء الكنيسة والحكومة الفرنسية وركبوا موجة الثورة لتحقي
- جان جاك روسو سنة 1778م له كتاب العقد الاجتماعي الذي يعد إنجيل الثورة، مونتسكيو له روح القوانين، سبينوزا (يهودي) يعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجًا للحياة والسلوك وله رسالة في اللاهوت والسياسة، فولتير صاحب القانون الطبيعي كانت له الدين في حدود العقل و
- ميرابو الذي يعد خطيب وزعيم وفيلسوف الثورة الفرنسية.
- سارت الجموع الغوغائية لهدم الباستيل وشعارها الخبز ثم تحول شعارها إلى (الحرية والمساواة والإخاء) وهو شعار ماسوني و"لتسقط الرجعية" وهي كلمة ملتوية تعني الدين وقد تغلغل اليهود بهذا الشعار لكسر الحواجز بينهم وبين أجهزة الدولة وإذابة الفوارق الدينية وتحولت ا
- نظرية التطور: ظهر كتاب أصل الأنواع سنة 1859م لتشارلز دارون الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب وقد جعلت الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها. وهذه النظ
- ظهور نيتشة: وفلسفته التي تزعم بأن الإله قد مات وأن الإنسان الأعلى (السوبر مان) ينبغي أن يحل محله.
- دور كايم (اليهودي): جمع بين حيوانية الإنسان وماديته بنظرية العقل الجمعي.
- فرويد (اليهودي): اعتمد الدافع الجنسي مفسرًا لكل الظواهر. والإنسان في نظره حيوان جنسي.
- كارل ماركس (اليهودي): صاحب التفسير المادي للتاريخ الذي يؤمن بالتطور الحتمي وهو داعية الشيوعية ومؤسسها الأول الذي اعتبر الدين أفيون الشعوب.
- جان بول سارتر: في الوجودية وكولن ولسون في اللامنتمي: يدعوان إلى الوجودية والإلحاد.
- الاتجاهات العلمانية في العالم العربي والإسلامي نذكر نماذج منها:
1- في مصر: دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون بونابرت. وقد أشار إليها الجبرتي في تاريخه – الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر وأحداثها – بعبارات تدور حول معنى العلمانية وإن لم تذكر اللفظة صراحة. أما أول من استخدم هذا المصطلح العلمانية فهو نصراني يُدعى إلياس بقطر في معجم عربي فرنسي من تأليفه سنة 1827م. وأدخل الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م، وكان هذا الخديوي مفتونًا بالغرب، وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا.
2- الهند: حتى سنة 1791م كانت الأحكام وفق الشريعة الإسلامية ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة بتدبير الإنجليز وانتهت تمامًا في أواسط القرن التاسع عشر.
3- الجزائر: إلغاء الشريعة الإسلامية عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830م.
4- تونس: أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906م.
5- المغرب: أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.
6- تركيا: لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك، وإن كانت قد وجدت هناك إرهاصات ومقدمات سابقة.
7- العراق والشام: ألغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيهما.
8- معظم أفريقيا: فيها حكومات نصرانية امتلكت السلطة بعد رحيل الاستعمار.
9- أندونيسيا ومعظم بلاد جنوب شرقي آسيا: دول علمانية.
10- انتشار الأحزاب العلمانية والنزعات القومية: حزب البعث، الحزب القومي السوري، النزعة الفرعونية، النزعة الطورانية، القومية العربية.
11- من أشهر دعاة العلمانية في العالم العربي والإسلامي: أحمد لطفي السيد، إسماعيل مظهر، قاسم أمين، طه حسين، عبدالعزيز فهمي، ميشيل عفلق، أنطون سعادة، سوكارنو، سوهارتو، نهرو، مصطفى كمال أتاتورك، جمال عبد الناصر، أنور السادات صاحب شعار "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، د. فؤاد زكريا. د. فرج فودة وقد اغتيل بالقاهرة مؤخرًا، وغيرهم.
الأفكار والمعتقدات:
بعض العلمانيين ينكرون وجود الله أصلًا.
- وبعضهم يؤمنون بوجود الله لكنهم يعتقدون بعدم وجود أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان.
الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل والتجريب.
إقامة حاجز سميك بين عالمي الروح والمادة، والقيم الروحية لديهم قيم سلبية.
- فصل الدين عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي.
- تطبيق مبدأ النفعية Pragmatism على كل شيء في الحياة.
- اعتماد مبدأ الميكيافيلية في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق.
- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الإجتماعية.
- أما معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي والعربي التي انتشرت بفضل الاستعمار والتبشير فهي:
- الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة.
- الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية.
- الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذ عن القانون الروماني.
- الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.
- الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي.
- تشويه الحضارة الإسلامية وتضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي والزعم بأنها حركات إصلاح.
- إحياء الحضارات القديمة.
- اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها.
- تربية الأجيال تربية لا دينية.
إذا كان هناك عذر ما لوجود العلمانية في الغرب فليس هناك أي عذر لوجودها في بلاد المسلمين لأن النصراني إذا حكمه قانون مدني وضعي لا ينزعج كثيرًا ولا قليلًا لأنه لا يعطل قانونًا فرضه عليه دينه وليس في دينه ما يعتبر منهجًا للحياة، أما مع المسلم فالأمر مختلف حيث يوجب عليه إيمانه الاحتكام إلى شرع الله. ومن ناحية أخرى فإنه إذا انفصلت الدولة عن الدين بقى الدين النصراني قائمًا في ظل سلطته القوية الفتية المتمكنة وبقيت جيوشها من الرهبان والراهبات والمبشرين والمبشرات تعمل في مجالاتها المختلفة دون أن يكون للدولة عليهم سلطان بخلاف ما لو فعلت ذلك دولة إسلامية فإن النتيجة أن يبقى الدين بغير سلطان يؤيده ولا قوة تسنده حيث لا بابوية له ولا كهنوت ولا أكليروس، وصدق الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
الجذور الفكرية والعقائدية:
العداء المطلق للكنيسة أولًا، وللدين ثانيًا أيًّا كان، سواء وقف إلى جانب العلم أم عاداه.
لليهود دور بارز في ترسيخ العلمانية من أجل إزالة الحاجز الديني الذي يقف أمام اليهود حائلًا بينهم وبين أمم الأرض.
يقول ألفرد هوايت هيو: "ما من مسألة ناقض العلم فيها الدين إلا وكان الصواب بجانب العلم والخطأ حليف الدين" وهذا القول إن صح بين العلم واللاهوت في أوروبا فهو قول مردود ولا يصح بحال فيما يخص الإسلام حيث لا تعارض إطلاقًا بين الإسلام وبين حقائق العلم، ولم يقم بينهما أي صراع كما حدث في النصرانية. وقد نقل عن أحد الصحابة قوله عن الإسلام: "ما أمر بشيء، فقال العقل: ليته نهى عنه، ولانهى عن شيء، فقال العقل: ليته أمر به". وهذا القول تصدقه الحقائق العلمية والموضوعية وقد أذعن لذلك صفوة من علماء الغرب وأفصحوا عن إعجابهم وتصديقهم لتلك الحقيقة في مئات النصوص الصادرة عنهم.
- تعميم نظرية (العداء بين العلم من جهة والدين من جهة) لتشمل الدين الإسلامي على الرغم من أن الدين الإسلامي لم يقف موقف الكنيسة ضد الحياة والعلم بل كان الإسلام سباقًا إلى تطبيق المنهج التجريبي ونشر العلوم.
إنكار الآخرة وعدم العمل لها واليقين بأن الحياة الدنيا هي المجال الوحيد للمتع والملذات.
لماذا يرفض الإسلام العلمانية:
- لأنها تغفل طبيعة الإنسان البشرية باعتباره مكونًا من جسم وروح فتهتم بمطالب جسمه ولاتلقي اعتبارًا لأشواق روحه.
- لأنها نبتت في البيئة الغربية وفقًا لظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية وتعتبر فكرًا غريبًا في بيئتنا الشرقية.
- لأنها تفصل الدين عن الدولة فتفتح المجال للفردية والطبقية والعنصرية والمذهبية والقومية والحزبية والطائفية.
- لأنها تفسح المجال لانتشار الإلحاد وعدم الإنتماء والاغتراب والتفسخ والفساد والانحلال.
- لأنها تجعلنا نفكر بعقلية الغرب، فلا ندين العلاقات الحرة بين الجنسين وندوس على أخلاقيات المجتمع ونفتح الأبواب على مصراعيها للممارسات الدنيئة، وتبيح التعامل بالربا وتعلي من قدر الفن للفن، ويسعى كل إنسان لإسعاد نفسه ولو على حساب غيره.
- لأنها تنقل إلينا أمراض المجتمع الغربي من إنكار الحساب في اليوم الآخر ومن ثم تسعى لأن يعيش الإنسان حياة متقلبة منطلقة من قيد الوازع الديني، مهيجة للغرائز الدنيوية كالطمع والمنفعة وتنازع البقاء ويصبح صوت الضمير عدمًا.
- مع ظهور العلمانية يتم تكريس التعليم لدراسة ظواهر الحياة الخاضعة للتجريب والمشاهدة وتُهمل أمور الغيب من إيمان بالله والبعث والثواب والعقاب، وينشأ بذلك مجتمع غايته متاع الحياة وكل لهو رخيص.
الانتشار ومواقع النفوذ:
بدأت العلمانية في أوروبا وصار لها وجود سياسي مع ميلاد الثورة الفرنسية سنة 1789م. وقد عمت أوروبا في القرن التاسع عشر وانتقلت لتشمل معظم دول العالم في السياسة والحكم في القرن العشرين بتأثير الاستعمار والتبشر.
يتضح مما سبق:
أن العلمانية دعوة إلى إقامة الحياة على أسس العلم الوضعي والعقل بعيدًا عن الدين الذي يتم فصله عن الدولة وحياة المجتمع وحبسه في ضمير الفرد ولا يصرح بالتعبير عنه إلاَّ في أضيق الحدود. وعلى ذلك فإن الذي يؤمن بالعلمانية بديلًا عن الدين ولا يقبل تحكيم الشرعية الإسلامية في كل جوانب الحياة ولا يحرم ما حرم الله يعتبر مرتدًا ولا ينتمي إلى الإسلام. والواجب إقامة الحجة عليه واستتابته حتى يدخل في حظيرة الإسلام وإلا جرت عليه أحكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة.
(page)
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
9-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الإسلامية في الأدب-من المدارس الأدبية)
الإسلامية في الأدبالتعريف:
الإسلامية (في الأدب) هي انطلاق الأديب في العملية الإبداعية من رؤية أخلاقية تبرز مصداقيته في الالتزام بتوظيف الأدب لخدمة العقيدة والشريعة والقيم وتعاليم الإسلام ومقاصده، وتبين إيجابيته عند معالجة قضايا العصر والحياة، التي ينفعل بها الأديب انفعالًا مستمرًا، فلا يصدر عنه إلا نتاج أدبي متفق مع أخلاق الإسلام وتصوراته ونظرته الشاملة للكون والحياة والإنسان، في إطار من الوضوح الذي يبلور حقيقة علاقة الإنسان بالأديان، وعلاقته بسائر المخلوقات فرادى وجماعات، وبشكل لا يتصادم مع حقائق الإسلام، ولا يخالفها في أي جزئية من جزئياتها ودقائقها.
معيار الإسلامية:
- ينطوي التعريف المتقدم، على مجموعة معايير متكاملة، يؤدي توافرها إلى صيرورة العمل الأدبي متسمًا بالإسلامية، وبعض هذه المعايير موضوعي يتعلق بجوهر العمل وبعضها عضوي أو شكلي يتعلق بإطار التعبير عن العمل، بحيث يتفاعل كل منهما مع الغاية من العمل الأدبي الممثل
1- الالتزام:
ويعني وجوب تقيد الأديب بإشاعة الرؤية العقدية في تيار العمل الأدبي المتدفق خدمة للعقيدة والشريعة والقيم الإسلامية والأخلاق وكليات الإسلام ومقاصده، وأهدافه العامة وبشرط ألا يخالف الإحساس الفطري بحقائق الإسلام.
2- المصداقية:
وتعني قدرة الأديب على إعطاء المتلقي إحساسًا صادقًا في كافة أعماله الأدبية بأنها قد صدرت عن تصور إسلامي، ودعوة إلى مكارم الأخلاق، وإشاعة الخير والمعروف، ونأي عن كل ما هو منكر وغير مألوف في الوجدان الإسلامي، فإذا كانت بعض أعمال الأديب فقط هي التي تتسم بالمصداقية الإسلامية، فإن ذلك لا يكفي لرفعه إلى مصاف أنصار الإسلامية.
3- الوضوح:
الإسلامية جوهر ومظهر، أو مضمون وشكل، لذا يجب أن يكون مضمون العمل وشكله معًا من الوضوح، في الدلالة على الإسلامية، بحيث يتسنى لأي متلقٍ، أن يصنف الأديب، بسهولة، ضمن أنصار الإسلامية، بمجرد إطلاعه على مجمل أعماله.
4- الإيجابية:
وتعني أنه لا يكفي في الأديب المنتمي إلى الإسلامية، أن يلتزم بالتصور العقدي الإسلامي، ولا يخالفه، بل يجب عليه فضلًا عن ذلك، أن يكون إيجابيًا في توجهه، فيقف مع الإسلام، ويدافع عنه، ويتصدى لمناهضيه، فكرًا وقولًا وعملًا وسلوكًا، فالإسلامية تستلزم اتخاذ الأديب موقفًا لا تدع ظروف الحال شكًا في دلالته على دفاع صاحبه عن عقيدته في كل الظروف والأحوال.
5- القدرة:
وتعني قدرة الأديب على إفراغ العمل الأدبي في الإطار الشكلي الذي يخدم الموضوع، ويناسب المضمون، ويشد القارىء ويقنع المتلقي بوجه عام.
6- الاستمرارية:
وتعني وجوب قيام الأديب المنتمي للإسلامية بتعميق انتمائه باستمرار، فإن أصبح غير قادر على العطاء الإسلامي، فيجب ألا يصدر عنه ما يعارض صراحة أو ضمنًا أعماله السابقة التي تتسم بالإسلامية، وقد يكون للاستمرارية معنى أخص، بالنسبة لمن كانوا غير ملتزمين من قبل ثم انتموا للإسلامية، إذ تعني الاستمرارية عدم عودتهم إلى مثل ما كانوا عليه قبل التزامهم، وقد نلمح هذا عند كعب بن زهير وحسان بن ثابت وغيرهما من الشعراء المخضرمين.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
كعب بن زهير رضي الله عنه:
من الممكن توسيع دائرة الإسلامية في الأدب لتبدأ بكعب بن زهير، ذلك أن الإسلامية إطار عام، لا يمكن نسبته إلى شخص بعينه أو زمن بعينه في العالم الإسلامي، وعندما جاهد بعض علماء الإسلام في سبيل تكوين مدرسة للأدب الإسلامي فإنهم في الحقيقة، كانوا يريدون التعبير عن مضمون أعمق من مجرد الإطار الشخصي هو النزعة الإسلامية في الأدب أو في كلمة واحدة "الإسلامية Islamism" وهي نزعة يمكن أن نلمحها من لحظة إلقاء رسول الله r بردته على كعب بن زهير عندما أنشده قصيدته اللامية في مدحه r، فسر بالتزامه ومصداقيته، وصحح له الشطرة التي تقول: "مهند من سيوف الهند مسلول" إلى "مهند من سيوف الله مسلول" فهذا شعر ذو هدف نبيل وغاية شريفة في مجال الدعوة بلا غلوٍ ولا تجاوز، وهي نزعة حبذها الزمخشري في الكشاف بعبارات جلية.
حسان بن ثابت رضي الله عنه:
حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من الشعراء المخضرمين الذين حضروا الجاهلية والإسلام، وقد أسلم مع السابقين من الخزرجيين، ومنذ شرح الله صدره للإسلام وهو شاعر العقيدة الذي يسجل أحداث المسلمين، ويمجد غزوات الرسول، ويرد على شعراء المشركين بجزالة، قال النثر والنظر في بيان عظمة الإسلام والدعوة إلى التأدب بآدابه والعمل بأحكامه، وقد سفه قريشًا في أشعاره، ونوّه بالقرآن الكريم كمصدر أول للتشريع الإسلامي وأساسًا لشريعة الحق ونبي الهدى، وبين بجلاء دور الأدب في بيان حقائق الإسلام، وقال أفضل أشعاره يوم قريظة وفي غزوة الأحزاب وفي رثائه لنبينا محمد r بين أن قيمة الإسلام تكمن في التوحيد.
عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
كان أحد شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين نافحوا عن الرسالة، ورغم أنه استشهد في السنة الثامنة من الهجرة، وأن ما وصل إلينا من شعره كان قليلًا، إلا أن ما كتبه كان يجسد أهم قيم الإسلام كالشجاعة النابعة من أعماقه، والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحرص على التمسك بالدين والدفاع عنه، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا فقد كان عبد الله بن رواحة - بحق – رائد شعر الجهاد الإسلامي، تشهد على ذلك أشعاره. يقول الدكتور محمد بن سعد الشويعر: "من اللفتات النبوية الكريمة استمد عبد الله بن رواحة التوجه إلى الطريق الأمثل، الذي يجب أن يسلكه الشعر الإسلامي، والإطار الذي يحسن أن يبرز فيه: صدق في التعبير، وسلامة في المقصد، وعدم الفحش في ذكر المثالب، أو النيل من الأعراض، واعتدال في القول".
عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ربما كان العقاد من أكثر الكتاب التزامًا بالإسلامية في الأدب، في مواجهة تيار التغريب الذي قاده طه حسين، ولذا فإن كلام العقاد له وزنه في هذا الصدد ومما قاله في عبقرية عمر:
كان عمر بن الخطاب أديبًا مؤرخًا فقيهًا (ص 344) عظيم الشغف بالشعر والأمثال والطرف الأدبية، وكان يروي الشعر ويتمثل به، ولم يزل عمر الخليفة هو عمر الأديب طوال حياته، لم ينكر من الشعر إلا ما ينكره المسؤول عن دين، أو القاضي المتحرز الأمين، ولذا فقد نهى عن التشبيب بالمحصنات، ونهى عن الهجاء، وأعجبته الأشعار التي تنطوي على معان سامية، دعى إليها الإسلام، وكان يرى أن للشعر غاية تعليمية تربوية فقد كتب إلى أبي موسى الأشعري قائلًا: مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب.. وقال لابنه يا بني.. احفظ محاسن الشعر يحسن أدبك.. فإن من لم يحفظ محاسن الشعر لم يؤد حقًا ولم يقترف أدبًا.
وفي معايير الإسلامية قال: "ارووا من الشعر أعفه ومن الحديث أحسنه.. فمحاسن الشعر تدل على مكارم الأخلاق وتنهي عن مساويها".
ومما يؤكد تصور الإسلامية في الأدب عنده رضي الله عنه، أنه عزل النعمان بن عدي عندما تجاوز في شعره غايات الإسلام ومقاصده، بالرغم من أنه كان أحد ولاته، ولم يقبل اعتذاره وتعلله بأنه مجرد شاعر ولم يصنع شيئًا مما رواه في إحدى قصائده المبنية على الغزل الفاحش، كما سجن الحطيئة عندما هجا الزبرقان بن بدر، فلم يكن لمثل عمر أن يفعل غير ذلك فالإسلامية التزام إجباري إن صح التعبير، وإذا كانت الإسلامية التزام فإنها تستلزم المسؤولية.
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
يعتبر عمر بن عبد العزيز من أبرز مؤسسي الإسلامية على الإطلاق لأنه لم يكتف بالحديث عن وجوب الالتزام والتقيد التام بالإسلام عند مباشرة المعالجة الأدبية، بل قدم أسلوبًا عمليًّا لذلك، في موقف كان يمكن أن يتقبل فيه الناتج الأدبي المنطوي على مدحه ولكنه قدم درسًا تطبيقيًا في الحيلولة دون تخطي الأدب غاية الإسلامية فقد منع الشعراء أن يمدحوه، فلما ألح عليه كثير بن عبد الرحمن في إنشاده، وضع معيار الحقيقة كأساس لقبول سماع الإبداع الشعري، فقد قال لكثير: نعم. ولا تقل إلا حقًا.
ومما يؤكد عدم تساهل عمر بن عبد العزيز في التزام الأدب بالأخلاق والأهداف السامية قصته المشهورة مع الشعراء عندما تولى الخلافة وقيل له إنهم بالباب يريدون المثول بين يديه. وعندما توسط أحد جلسائه للشعراء وأخبره أن الرسول r، قد سمع الشعر وأجاز الشعراء سأل من بالباب من الشعراء، وعندما أخبر بأسمائهم رفضهم واحدًا تلو الآخر مع تبيان أسباب الرفض باستشهاد من أشعارهم ولم يدخل إلا جريرًا حيث وجده أقل المجموعة فحشًا.
ابن قتيبة وآخرون:
فضل ابن قتيبة الشعر الذي ينطوي على فائدة في المعنى، سواء تعلق هذا المعنى بالقيم الدينية أو الخلقية أو الحكم. ومثله كذلك مهلهل بن يموت بن المزرع وابن وكيع التنيئسي والثعالبي وعمرو بن عبيد، ومسكوية وابن شرف القيرواني وابن حزم الذي نهى عن الغزل وغالى في وضع القيود على الأدب لتحقيق الإسلامية حسبما تصورها، رغم أنه خرج على ذلك أحيانًا كثيرة في طوق الحمامة. ولا شك أن الشعر مجرد فن من فنون الأدب ولكن ضوابطه الإسلامية ومعاييرها بشأنه تصلح لكل فروع الأدب.
علي أحمد باكثير:
يوصف بأنه من طلائع الإسلامية في الأدب في مجال الشعر والقصة والمسرحية، وكان لنشأته وبنائه الفكري واتساع أفقه وتنوع مصادره الثقافية أكبر الأثر في تكوين شخصيته وقلمه، ولذا كتب المسرحية الحديثة عن فهم ووعي وعن دراسة وتعمق في معرفة أصول الصنعة المسرحية.
ولقد كان الموجه الرئيسي لباكثير في فنه الأدبي هو عقيدته الإسلامية وقيمها وتصوراتها الصائبة للحياة. يقول د. نجيب الكيلاني عن مسرحيته حبل الغسيل إنها كانت صرخة شجاعة أدانت فساد المنهج وعفن الإدارة وانحراف المؤسسات الشعبية حينما استبد الشيوعيون بمقاليد الأمور في مصر في النصف الأول من عقد الستينات، حيث صنعوا من الشعارات واجهة للبلاد بينما هم يستغلونه وينفذون مخططًا موحى به إليهم من سادتهم خارج البلاد وفي ذلك إدانة للفكر الماركسي وتجربته المشينة بمصر.
مصطفى صادق الرافعي:
كانت الإسلامية في أدبه تيارًا متدفقًا، فقرظ محمود سامي البارودي شعره الملتزم، وأثنى عليه مصطفى لطفي المنفلوطي، وحيَّاه الشيخ محمد عبده قائلًا: "أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا يمحق الباطل" وقد كان. ففي كافة مؤلفاته وأشعاره ودراساته ونثره، جعل الإسلام غايته وخدمة عقيدة التوحيد مقصده وبغيته. وقد وقف أمام مؤامرات الإنجليز ضد الإسلام ومؤامرات الصهيونية في فلسطين ومؤامرات الذين أرادوا إحياء العامية والقضاء على اللغة العربية، وأبرز قضايا الإسلامية عند الرافعي هي قضية إعجاز القرآن الكريم، وقضية البلاغة النبوية وقضية المقالات الإسلامية.
أحمد شوقي:
كانت الإسلامية واضحة في بعض أشعار أحمد شوقي، ولم يكن يلتزم في هذه الأشعار بالمقاصد الإسلامية فقط، بل إنه خاض بعض معارك الدفاع عن المبادىء الإسلامية وقضاياه، فقد بيَّن أن الحرب في الإسلام لم تكن حرب عدوان وإنما كانت حرب جهاد ودفاع، وبيَّن أن الإسراء كان بالروح والجسد معًا، وربط بين المفاهيم الدينية وبين قضايا النضال واليقظة والتحرر ودافع عن الفضائل الإسلامية والحرية والنظام والشورى، ويمكن القول كذلك أن حافظ إبراهيم رغم ثقافته الأزهرية المتواضعة وأحمد محرم شاعر العروبة والإسلام كانا يستظلان كذلك بظل الإسلامية في أدائهما الملتزم.
محمد إقبال:
وفكرة الإسلامية عند الشاعر محمد إقبال 1873م تستلزم توافر ثلاث مراحل: الأولى: الوقوف على المقاصد الشرعية التي بيَّنها الدين الإسلامي فهي حقائق أبدية لا تتغير، والثانية الجهاد الديني في سبيل تحقيقها كل في مجاله، وعلى الأديب أن يعتصم في سبيل ذلك بالصبر وهذا يستلزم الانقياد التام لأمر الله تعالى عن عقيدة ثابتة وإيمان راسخ، ومحاربة نوازع النفس. وثالثها: انطلاق الذوات الإسلامية كلها لتحقيق أهداف الأمة الإسلامية.
الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي:
في 2 ربيع الأول 1405هـ (24/11/1984م) أعلن الشيخ الأديب والمفكر الداعية أبو الحسن علي الحسني الندوي في لقاء ضم الكثير من مفكري وأدباء العالم الإسلامي عن ولادة رابطة الأدب الإسلامي، التي أعطت الأدب الإسلامي كيانًا متميزًا عن بقية المذاهب الأدبية الأخرى، على أنه يجب ملاحظة أن مفهوم الإسلامية سبق الإعلان عن الرابطة بسنين طويلة، فإنا نجد الدعوة للأدب الإسلامي في كتابات الداعية والأديب سيد قطب حينما كان يشرف على باب الأدب في الجريدة التي كان يرأس تحريرها في مصر عام 1952م. ونجدها أيضًا في كتابات أخيه محمد قطب عام 1961م وخاصة في كتابه منهج الفن الإسلامي، ونجدها أيضًا عند الدكتور نجيب الكيلاني سنة 1963م في كتابه: الإسلامية والمذاهب الأدبية، ونجدها أيضًا عند الدكتور عماد الدين خليل عام 1392هـ (1972م) في كتابه: النقد الإسلامي المعاصر وكتابه: محاولات جديدة في النقد الإسلامي الذي أصدره عام 1401هـ (1982م) وفي كتابه: فن الأدب الإسلامي المعاصر دراسة وتطبيق وفي كتاباته الأدبية التي سبقت نشر هذا الكتاب ومنذ عام 1961م في مجلة: حاضرة الإسلام الدمشقية.
ولذا فإن الشيخ أبا الحسن علي الحسني الندوي رئيس جامعة ندوة العلماء في الهند ورئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية يعتبر أحدث دعاة الإسلامية والمؤسسين لها، وإنه وإن كانت الرابطة لم تتشح باسم الإسلامية متخذة اسم الأدب الإسلامي، إلا أن الأمر مجرد اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاحات.
الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا:
- رحمه الله – نائب رئيس الرابطة للبلاد العربية، وكان أستاذًا للأدب والنقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ويعتبر من أوائل من نظر للإسلامية ودافع عن الأدب الإسلامي.
الدكتور عبد القدوس أبو صالح:
أستاذ الأدب والنقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ونائب رئيس الرابطة ورئيس مكتب البلاد العربية.
الشيخ محمد الرابع الندوي:
نائب رئيس الرابطة ورئيس مكتب الهند.
الأستاذ محمد حسن بريغش:
أمين سر الرابطة للبلاد العربية وعضو مجلس الإفتاء في الرابطة.
الدكتور عدنان رضا النحوي:
الشاعر والأديب السعودي وعضو مجلس أمناء رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
الأستاذ محمد قطب:
المفكر والداعية المعروف، والأستاذ في جامعة الملك عبد العزيز وعضو الشرف في الرابطة، فقد تابع جهود شقيقه سيد قطب – رحمه الله – في الإسلامية في الأدب.
الدكتور عبد الباسط بدر:
الأستاذ في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وأمين سر مجلس أمناء الرابطة.
الدكتور حسن الأمراني:
(مغربي): عضو رابطة الأدب الإسلامي ورئيس تحرير مجلة المشكاة التي تعني بالأدب الإسلامي.
الدكتور محمد مصطفى هدارة:
(مصري) عضو الرابطة والأستاذ في جامعة الإسكندرية.. وهو أول من أظهر حقيقة مذهب الحداثة الفكري والأدبي وأهدافه الهدامة.
الدكتور عبد الرحمن العشماوي:
وهو يعتبر أبرز الأصوات الشابة الملتزمة بالإسلام والمدافعة عن القضايا الإسلامية والتصور الإيماني.
الأفكار والمعتقدات:
جعل التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والكون والحياة، أهم أركان العمل الأدبي أيًّا كان نوعه.
الالتزام بالتصور الإسلامي، لا يعني التوجيه القسري على غرار ما يفرضه أصحاب التفسير المادي للتاريخ وإنما هو أخذ النفس البشرية بالتصور الإسلامي للحياة في سائر فنون الأدب، وبذا تتميز الإسلامية عن فكرة الالتزام عند كل من الواقعية والاشتراكية والوجودية، فالالتزام عند الأولى هو الالتزام بقضايا الجماهير حسب المفهوم الماركسي المنهار، والالتزام عند الثانية – في النثر فقط دون الشعر – بقضايا الحرية حسب المفهوم الوجودي فحسب.
التعبير المؤثر، له أهمية في مجال الأدب ولا يستغني عنه بحجة سلامة المضمون، وبذلك يتميز الأدب عن الكلام العادي، فذلك مما يحقق غاية الإسلامية.
وغاية الإسلامية هي وجود أدب هادف، فالأديب المسلم لا يجعل الأدب غاية لذاته كما يدعو أصحاب مذهب: (الفن للفن) وإنما يجعله وسيلة إلى غاية، وهذه الغاية تتمثل في ترسيخ الإيمان بالله عز وجل، وتأصيل القيم الفاضلة في النفوس.
حرية التفكير والتعبير من متطلبات الإبداع والصدق الأدبي وهي وسيلة لإثراء الأدب كمًا وكيفًا.
وقد وضع الإسلام حدودًا للحرية في كل مجالاتها، ومنها مجال الأدب إذ إنه لا يعترف بحرية القول التي منحت للأدباء وغيرهم إذ رأى فيها خطرًا يهدد سلامة المجتمع وأمنه العقدي أو الأخلاقي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.
الأدب طريق مهم من طرق بناء الإنسان الصالح والمجتمع الصالح وأداة من أدوات الدعوة إلى الله والدفاع عن الشخصية الإسلامية.
الإسلامية حقيقة قائمة قديمًا وحديثًا وهي تبدأ من القرآن الكريم والحديث النبوي، ومعركة شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، وتمتد إلى عصرنا الحاضر لتسهم في الدعوة إلى الله ومحاربة أعداء الإسلام والمنحرفين عنه.
الإسلامية هي أدب الشعوب الإسلامية على اختلاف أجناسها ولغاتها، وخصائصها هي الخصائص الفنية المشتركة بين آداب الشعوب الإسلامية كلها.
ترفض الإسلامية أي محاولة لقطع الصلة بين الأدب القديم والأدب الحديث بدعوى التطور أو الحداثة أو المعاصرة وترى أن الأدب الحديث مرتبط بجذوره القديمة.
ترفض الإسلامية المذاهب الأدبية التي تخالف التصور الإسلامي والأدب العربي المزور، والنقد الأدبي المبني على المجاملة المشبوهة أو الحقد الشخصي، كما ترفض اللغة التي يشوبها الغموض وتكثر فيها المصطلحات الدخيلة والرموز المشبوهة وتدعو إلى نقد واضح بناء.
تستفيد الإسلامية من الأجناس الأدبية جميعها شعرًا ونثرًا ولا ترفض أي شكل من أشكال التعبير، وتعني بالمضمون الذي يحدد طبيعة الشكل الملائم للأداء.
والإسلامية في الأدب تأبى الانحراف عن القيود الواردة في تعريف الإسلامية، فهي كما يقول أحد الباحثين تأبى مثلًا "تأليه الإنسان (كلاسيكيًا)، وإغراقه الذاتي الأناني (رومنسيًا)، وتمجيد لحظات الضعف البشري (واقعيًّا، وتصوير الانحراف الفكري أو النفسي أو الأخلاقي (وجوديًّا) " فليس ثمة عبث وليس ثمة حرية أخلاقية مطلقة من كل قيد كما يرى (سارتر) وليس ثمة تناقضات نفسية لا نهاية لها تنتهي دائمًا بالضياع كما يرى (ديستوفيسكي).
والإسلامية إطار واقعي للعمل الأدبي، فهي ليست مجالًا لتحقيق الخيال الجامح أو التعبير عن شطحات منبتة الصلة بالواقع، وواقع الإسلامية أنها فكرة غائية عقدية، وغايتها ليست تحقيق مصلحة ذاتية أو شخصية كإطار للبراجماتية وإنما تحقيق مصلحة العقيدة وكل من يتمسك بهذه العقيدة، فالإسلامية إطار للحقيقة لا الزيف والاستقامة لا الانحراف، ذلك أنها تدور مع وجود المسلم، وللوجود الإنساني غاية إسلامية كبرى هي الكدح والعمل والعبادة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وهذه الواقعية توجد في القرآن الكريم ذاته، فأحد معجزاته أنه قدم أمثلة عليا للأداء الفني المتجانس في القصة وغيرها وما قصة يوسف عليه السلام عنا ببعيد.
والإسلامية ليست قيدًا على الإبداع وإنما هي إطار موضوعي وشكلي لتحصين العمل الأدبي من الإسفاف الذي قد يقضي على الأديب، أما التحرر المطلق من كل القيم الذي ينهي وجود الأديب، أو الخروج عن منطق الأدب ذاته، فهذا أمر يفرغ العمل الأدبي من مضمونه، فمنطق الإسلامية، ينبثق من حضارة إسلامية، تتيح للأديب فرصة التعبير عن كل ما يجول بخاطره، فيطرح المضمون الذي يريد في الشكل الذي يريد طالما كان في إطار التصور الإسلامي.
وترتيبًا على ما تقدم فإن الإسلامية تختلف عن سائر المضمونات الدينية البعيدة عن العقيدة الإسلامية سواء كانت دينية سماوية أو دينية وضعية، ولذا فإن الانفتاح على الأعمال الأدبية يجب أن يتم من خلال وجدان إسلامي راق وحسّ إنساني مرهف، للتخفيف من هموم الإنسان ومعاناته لا دفعه في أتون الصراع اللانهائي بين العبث واللامعقول، والعدمية والوجودية، وغيرها من المذاهب التي لا تروي الظمأ الديني لدى المتلقي ولا تسمو بأحاسيسه ومشاعره، بل تلغي له الزمن في العمل الأدبي، وتفكك له الأحداث، وتلغي له الشخصيات، وتمس جوهر العمل، فمسخ العمل أو تشويهه ليس من طبيعة الإسلامية.
بل إن هذا العمل لا يمكن أن يرتطم بطبائع الأمور ولا النظرة الإسلامية للكون والحياة والوجود، ومن أجل هذا فإنه وإن كان لا يجوز دمج الإسلامية في غيرها من المذاهب إلا أن الإسلامية لا تأبى التعايش مع أي نتاج أدبي عالمي، طالما لم تهدم الحواجز بين الأمرين، فخصوصية الإسلامية أنها وليدة الزمن والمكان، وأنها نسيج لقاء العقيدة بالإنسان، ولذا فإنها عالمية الأثر، كونية الرؤية، شمولية النزعة، توفق بين المنظور الواقعي والغيب اللامرئي، وتوائم بين المادي والروحي، وتجانس بين الثابت والمتغير، ولا يوجد فيها أي تنافٍ لوجود المحدود مع المطلق، ومعالجة الجزئي مع الكلي، طالما أن الهدف الأساسي للإسلامية هو صنع عالم سعيد لبني البشر، يعينهم على تجاوز متاعبهم، ويزيل المتاريس التي تقف أمام انطلاق عقيدتهم. ومن أمثلة هذه المتاريس النتاج الأدبي المتأثر بالنصرانية والذي نجده عند لويس شيخو، وسلامة موسى، وغالي شكري، ولويس عوض، وإيليا حاوي، وخليل حاوي، وسعيد عقل، وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم، وقد تأثر بهم بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وغيرهم.
- والإسلامية كبنيان أدبي عقدي، تجد في الإسلام مجالًا رحبًا، يقدم الأدباء من خلاله فكرهم البناء، وسلوكهم الهادف، وتصورهم الصائب، وقضايا الإنسان التي تحتاج إلى معالجة. والإسلامية تجعل كل هذه الأمور ذات بنيان متجانس السمات، غير متنافر الأهداف والغايات، ولا ح
أماكن الانتشار:
أصبح للإسلامية أنصار في جميع أنحاء العالم.. ولها مكتبات في الهند وفي البلاد العربية وعقدت رابطة الأدب الإسلامية العالمية عدة مؤتمرات في الهند وتركيا ومصر، واشترك فيها عدد كبير من أدباء العالم الإسلامي.
ويتضح مما سبق:
أن الإسلامية ذات مدلول شامل في الزمان والمكان، فهي قديمة قدم الدعوة الإسلامية، وممتدة مع الإسلام عبر الأزمان. وهي لا تختص باللسان العربي المسلم دون سواه، بل تتعلق بكل مسلم أيًا كان مكان ولادته أو نشأته. والإسلامية ليست حبيسة صفحات الكتاب المتفرغين للأدب والمعنيين به، وإنما توجد في ثنايا كتابة تعرض لأي مسألة، حتى وإن كانت من مسائل العلم في شتى فروعه. ومن هذا المنطلق فإن المدرسة الأدبية الإسلامية الهندية أو الباكستانية أو الأندونيسية أو التشادية أو السنغالية أو غيرها تعتبر تجسيدًا للإسلامية في الأدب، كما تعتبر الكتابات العلمية ذات الأسس الجمالية والبنيانات الفنية من هذا القبيل أيضًا، فآداب الشعوب الإسلامية غير العربية هي رافد من روافد الإسلامية مادام أنها في إطار التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة ولا تعرض ما يرفض الإسلام أو يتعارض مع منهجه الفكري.
(page)
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
10-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الإلغاز)
الإلغاز:ألغز الكلام وألغز فيه: عمّى مراده وأضمره على خلاف ما أظهره، واللغز: ما ألغز من كلام فشبّه معناه، واللغز: الكلام الملبّس، وقد ألغز في كلامه يلغز إلغازا إذا ورّى فيه وعرّض ليخفى. واللغز واللغيزى والالغاز: حفرة يحفرها اليربوع في جحرة تحت الأرض.
وكان الخليل بن احمد الفراهيدي قد ذكره فقال: «رأيت أعرابيا يسأل أعرابيا عن البلصوص ما هو؟ فقال: طائر. قال: فكيف تجمعه؟ قال: البلنصى. قال الخليل: «فقد ألغز رجاز فقال: «فما البلصوص يتبع البلنصى» كان لغزا». وعقد الجاحظ بابا في اللغز والجواب، ولكنّ ذلك أقرب الى اسلوب الحكيم.
وقال الحاتمي: «وإنّما سمي اللغز لغزا؛ لأنّ اللغز والالغاز ما خفي مذهبه وبعد مطلبه مأخوذ من الارض اللغز واللغيزى وهي الخفية»، وهذا تعريف لغوي، ولكنّ ابن وهب قال عنه: «هو قول استعمل فيه اللفظ المتشابه طلبا للمعاياة والمحاجة. والفائدة في ذلك في العلوم الدنيوية رياضة الفكر في تصحيح المعاني واخراجها من المناقضة والفساد الى معنى الصواب والحق وقدح الفطنة في ذلك واستنجاد الرأي في استخراجها». وذلك مثل قول الشاعر:
«ربّ ثور رأيت في جحر نمل ***ونهار في ليلة ظلماء»
فالثور ههنا القطعة من الأقط وهي اللبن اليابس، والنهار فرخ الحبارى، فاذا استخرج هذا صحّ المعنى، واذا حمل على ظاهر لفظه كان محالا.
وقال الخفاجي: «إن الموضوع على وجه الالغاز قد قصد قائله إغماض المعنى وإخفاءه وجعل ذلك فنا من الفنون التي يستخرج بها أفهام الناس وتمتحن أذهانهم» وذكر أنّ شيخه أبا العلاء المعري كان يستحسن هذا الفن ويستعمله في شعره كثيرا، ومنه قوله:
«وجبت سرابيّا كأنّ إكامه ***جوار ولكن مالهنّ نهود»
«تمجّس حرباء الهجير وحوله ***رواهب خيط والنهار يهود»
فألغز بقوله: «جوار» عن الجواري من الناس، وهو يريد كأنهن يجرين في السراب. وبقوله: «نهود» عن نهود الجواري، وهو يريد بنهود «نهوض» أي كأنهنّ يجربن في السراب ومالهن على الحقيقة نهوض. وأراد بقوله: «تمجّس حرباء» أي صار لاستقباله الشمس كالمجوس التي تعبدها وتسجد لها وجعل الرواهب النعام لسوادها، ويهود: يرجع، وهو يلغز بذلك عن اليهود لمّا ذكر المجوس والرواهب.
والالغاز عند ابن الاثير الاغاليط من الكلام أو الأحاجي وقد يسمى المعمّى قال: «وأما اللغز والاحجية فانّهما شيء واحد، وهو كل معنى يستخرج بالحدس والحزر لا بدلالة اللفظ حقيقة ومجازا ولا يفهم من عرضه لأنّ قول القائل في الضرس:
«وصاحب لا أملّ الدهر صحبته ***يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد»
«ما إن رأيت له شخصا فمذ وقعت ***عيني عليه افترقنا فرقة الأبد»
لا يدلّ على أنّه الضرس لا من طريق الحقيقة ولا من طريق المجاز ولا من طريق المفهوم، وإنّما شيء يحدس ويحزر».
وسمّاه المصري «الالغاز والتعمية» وقال: إنّ الإلغاز يسمى المحاجاة، والتعمية أعم أسمائه وهو: «أن يريد المتكلم شيئا فيعبر عنه بعبارات يدل ظاهرها على غيره وباطنها عليه، وهو يكون في النثر والشعر».
والالغاز عند العلوي الأحجية قال: «وهو ميلك بالشيء عن وجهه، واشتقاقه من قولهم: «طريق لغز» إذا كان يلتوي ويشكل على سالكه ويقال له المعمّى أيضا وذكر البيتين السابقين في الضرس وعلّق عليهما بمثل تعليق ابن الاثير. ومن ذلك وصف المتنبي للسفن في قصيدته التي يمدح بها سيف الدولة عند ذكره لصورة الفرات:
«وحشاه عادية بغير قوائم ***عقم البطون حوالك الألوان »
«تأتي بما سبت الخيول كأنّها***تحت الحسان مرابض الغزلان »
وذكر بعضهم أنّ الالغاز وقع في القرآن الكريم وجعل منه ما جاء في أوائل السور من الحروف المفردة والمركبة، ومنه قوله تعالى في قصة ابراهيم ـ عليهالسلام ـ لما سئل عن كسر الأصنام وقيل له: أنت فعلته؟ فقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} قابلهم بهذه المعارضة ليقيم عليهم الحجة ويوضح لهم المحجة.
ولا يخرج كلام الحموي والسيوطي والمدني عما ذكره المتقدمون.
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
11-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (التعمية)
التّعمية:عمي عليه الأمر: التبس، والتعمية أن تعميّ على الانسان شيئا فتلبّسه عليه تلبيسا، والتعمية: الاخفاء، ويقال: عميت معنى البيت تعمية.
تحدث ابن رشيق عن التعمية في باب الإشارة وقال: «ومنها التعمية، وهذا مثل للطير وما شاكله، كقول أبي نواس: «واسم عليه خبن للصفا» وما أشبهه».
وتحدث عنها الحموي في باب «الالغاز» وقال: «هذا النوع أعني الالغاز يسمى المحاجاة والتعمية وهي أعم اسمائه، وهو أن يأتي المتكلم بعدة ألفاظ مشتركة من غير ذكر الموصوف ويأتي بعبارات يدل ظاهرها على غيره وباطنها عليه» كقول ابي العلاء في إبرة:
«سعت ذات سمّ في قميص فغادرت ***به أثرا والله شاف من السّم »
«كست قيصرا ثوب الجمال وتبّعا***وكسرى وعادت وهي عارية الجسم »
وأدخلها السجلماسي في انواع الاشارة.
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
12-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (جمع المؤتلف والمختلف)
جمع المؤتلف والمختلف:قال العسكري: «هو أن يجمع في كلام قصير أشياء كثيرة مختلفة أو متفقة»، كقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ}. ومنه قول امرئ القيس:
«سماحة ذا وبرّ ذا ووفاء ذا***ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر»
وقول أبي تمام:
«غدا الشّيب مختطّا بفوديّ خطّة***سبيل الردى منها الى النّفس مهيع »
«هو الزور يجفى والمعاشر يجتوي ***وذو الإلف يقلى والجديد يرقّع »
وسمّاه التّبريزي «جمع المؤتلفة والمختلفة» ولم يعرّفه واكتفى ببيت امرئ القيس مثالا. وفعل مثله البغدادي وقال: «ويقال إنّه لم يجمع واحد في بيت واحد جماعة أشياء قبله».
وسمّاه المصري «جمع المختلفة والمؤتلفة»، وقال: «والذي أقول في هذه التسمية إنّها عبارة عن أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فصل لا ينقص بها مدح الآخر فيأتي لأجل الترجيح بمعان تخالف معاني التسوية». ومنه قوله تعالى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وَعِلْمًا}.
ومنه قول الخنساء في أخيها وقد أرادت مساواته بأبيها مع مراعاة حقّ الوالد بزيادة فضل لا ينقص بها حق الولد:
«جارى أباه فأقبلا وهما***يتعاوران ملاءة الحضر»
«وهما وقد برزا كأنّهما***صقران قد حطّا الى وكر»
«حتى إذا نزت القلوب وقد***لزّت هناك العذر بالعذر»
«وعلا هتاف الناس أيّهما***قال المجيب هناك: لا أدري »
«برقت صحيفة وجه والده ***ومضى على غلوائه يجري »
«أولى فأولى أن يساويه ***لو لا جلال السنّ والكبر »
قال المصري: «وأول من فتح باب هذا المعنى فيما أظن زهير حيث قال:
«هو الجواد فإن يلحق بشأوهما***على تكاليفه فمثله لحقا»
«أو يسبقاه على ما كان من مهل ***فمثل ما قدّما من صالح سبقا»
لكنّ لشعر الخنساء من الفضل في هذا المعنى ما ليس لغيره وتداول الناس هذا المعنى بعدها وابتذله الشعراء» ومن جمع المختلفة والمؤتلفة ضرب يأتي الشاعر فيه بأسماء مؤتلفة ثم يصفها بصفات مختلفة كقول الشاعر:
«لله ليلتنا إذ صاحباي بها***بدر وبدر سماويّ وأرضيّ »
«إنّ الهوى والهواء الطّلق معتدلا***هذا وهذا ربيعيّ طبيعيّ »
«بتنا جميعا وكلّ في السماع وفي ***شرب المدام حجازيّ عراقيّ »
«أسقى وأسقي نديما غاب ثالثنا***فالدّور منا يمينيّ شماليّ »
ومن جمع المختلفة والمؤتلفة قول العباس بن الأحنف:
«وصالكم صرم وحبّكم قلى ***وعطفكم صدّ وسلمكم حرب »
فان الوصل والحب والعطف والسلم من المؤتلفة، والصرم والقلى والصد والحرب من المختلفة.
وسمّاه السبكي بتسمية المصري ونقل تعريفه، ورجع الحموي الى مصطلح العسكري وقال: «هذا النوع ـ أعني جمع المؤتلف والمختلف ـ ذكر المؤلفون فيه أقوالا كثيرة غير سديدة ومثلوه بأمثلة غير مطابقة، ولم يحرره ويطابقه بالامثلة اللائقة غير الشيخ زكي الدين بن أبي الاصبع» وذكر تعريفه وأمثلته.
وفعل مثله السيوطي، وقال المدني: «هذا النوع اختلفت فيه أقوال المؤلفين وعبّروا عنه بعبارات غير سديدة ومثّلوا له بأمثلة غير مطابقة» ثم ذكر تعريف المصري وأمثلته كما فعل الحموي.
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
13-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (المحاجاة)
المحاجاة:كلمة محجية: مخالفة المعنى للفظ وهي الأحجية والأحجوة، وقد حاجيته محاجاة وحجاء: فاطنته فحجوته. وحاجيته فحجوته: إذا ألقيت عليه كلمة محجية مخالفة المعنى للفظ. والاحجية: اسم المحاجاة.
والمحاجاة هي الإلغاز والتعمية وقد تقدّمت، وذلك أن يريد المتكلّم شيئا فيعبّر عنه بعبارات يدلّ ظاهرها على غيره وباطنها عليه.
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
14-موسوعة الفقه الكويتية (إبضاع)
إِبْضَاعالتَّعْرِيفُ:
1- الْإِبْضَاعُ مَصْدَرُ أَبْضَعَ، وَمِنْهُ الْبِضَاعَةُ. وَالْبِضَاعَةُ مِنْ مَعَانِيهَا الْقِطْعَةُ مِنَ الْمَالِ، أَوْ هِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَالِ تُبْعَثُ لِلتِّجَارَةِ. وَأَبْضَعَهُ الْبِضَاعَةَ: أَعْطَاهُ إِيَّاهَا. وَيُعَرِّفُ الْفُقَهَاءُ الْإِبْضَاعَ بِأَنَّهُ بَعْثُ الْمَالِ مَعَ مَنْ يَتَّجِرُ بِهِ تَبَرُّعًا، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ. هَذَا وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْإِبْضَاعُ تَبَرُّعًا مِنَ الْعَامِلِ. وَاعْتَبَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ إِبْضَاعًا وَلَوْ كَانَ بِأَجْرٍ.
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْبِضَاعَةِ عَلَى الْمَالِ الْمَبْعُوثِ لِلِاتِّجَارِ بِهِ، وَالْإِبْضَاعَ عَلَى الْعَقْدِ ذَاتِهِ، وَقَدْ يُطْلِقُونَ الْبِضَاعَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا الْعَقْدَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2- الْقِرَاضُ:
وَيُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْمُضَارَبَةَ، وَهُوَ دَفْعُ الرَّجُلِ مَالَهُ إِلَى آخَرَ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنَ الرِّبْحِ. فَالْقِرَاضُ شَرِكَةٌ فِي الرِّبْحِ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ، بَيْنَمَا الْإِبْضَاعُ لَا يَحْمِلُ صُورَةَ الْمُشَارَكَةِ، بَلْ صُورَةَ التَّبَرُّعِ مِنَ الْعَامِلِ فِي التِّجَارَةِ لِرَبِّ الْمَالِ دُونَ مُقَابِلٍ.
الْقَرْضُ: وَهُوَ لُغَةً الْقَطْعُ. وَعَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ دَفْعُ الْمَالِ إِرْفَاقًا لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَرُدُّ بَدَلَهُ. وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ السَّلَفِ، فَيَصِحُّ بِلَفْظِ قَرْضٍ وَسَلَفٍ.
الْوَكَالَةُ: وَهِيَ فِي اللُّغَةِ التَّفْوِيضُ. وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا إِقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِيمَا يَقْبَلُ الْإِنَابَةَ. وَالْوَكَالَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، لَكِنَّ الْإِبْضَاعَ قَاصِرٌ عَلَى مَا يَدْفَعُهُ رَبُّ الْمَالِ لِلْعَامِلِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، فَهُوَ وَكِيلٌ فِي هَذَا فَقَطْ.
صِفَةُ الْإِبْضَاعِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
3- الْإِبْضَاعُ عَقْدٌ جَائِزٌ لِأَنَّهُ يَتِمُّ عَلَى وَجْهٍ لَا غَرَرَ فِيهِ. وَإِذَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ، مَعَ مَا فِيهَا مِنْ شُبْهَةِ غَرَرٍ، جَائِزَةً فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ الْإِبْضَاعُ جَائِزًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْدُهُ مُسْتَقِلًّا أَمْ تَابِعًا لِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، كَأَنْ دَفَعَ الْعَامِلُ الْمَالَ بِضَاعَةً لِعَامِلٍ آخَرَ، فَهُوَ عَقْدٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْإِبْضَاعَ سَبِيلٌ لِإِنْمَاءِ الْمَالِ بِلَا أَجْرٍ، وَهَذَا مِمَّا يَرْتَضِيهِ رَبُّ الْمَالِ.
حِكْمَةُ تَشْرِيعِهِ:
4- الْإِبْضَاعُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَالْحَاجَةُ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ لَا يُحْسِنُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَى السُّوقِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ وَلَا يُحْسِنُ التِّجَارَةَ فِيهِ، وَقَدْ يُحْسِنُ وَلَا يَتَفَرَّغُ وَقَدْ لَا تَلِيقُ بِهِ التِّجَارَةُ، لِكَوْنِهِ امْرَأَةً، أَوْ مِمَّنْ يَتَعَيَّرُ بِهَا، فَيُوَكِّلُ غَيْرَهُ. وَمَا الْإِبْضَاعُ إِلاَّ تَوْكِيلٌ بِلَا جُعْلٍ، فَهُوَ حِينَئِذٍ سَبِيلٌ لِلْمَعْرُوفِ وَتَآلُفِ الْقُلُوبِ وَتَوْثِيقِ الرَّوَابِطِ، خُصُوصًا بَيْنَ التُّجَّارِ.
وَكَمَا أَنَّ عَقْدَ الْإِبْضَاعِ سَبِيلٌ لِإِنْمَاءِ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، فَقَدْ يَكُونُ سَبِيلًا لِإِنْمَاءِ مَالِ الْعَامِلِ الْمُتَبَرِّعِ، وَذَلِكَ إِذَا دَخَلَ الْعَامِلُ مَعَ رَبِّ الْمَالِ بِالنِّصْفِ مَثَلًا، كَأَنْ يُقَدِّمَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفًا وَالْعَامِلُ أَلْفًا، وَيَكُونَ الرِّبْحُ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، فَالْمُشَارَكَةُ هُنَا تَزِيدُ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَبِالتَّالِي تَزِيدُ الْأَرْبَاحُ، وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَامِلِ. فَيَكُونُ الْعَامِلُ هُنَا اسْتَخْدَمَ مَالَ رَبِّ الْمَالِ، وَهُوَ النِّصْفُ، وَرَدَّ لَهُ أَرْبَاحَهُ مُتَبَرِّعًا بِعَمَلِهِ، وَاسْتَفَادَ هُوَ مِنْ مُشَارَكَةِ مَالِ رَبِّ الْمَالِ فِي زِيَادَةِ رَأْسِ مَالِهِ، وَمِنْ ثَمَّ يَزِيدُ رِبْحُهُ.
صِيغَةُ الْإِبْضَاعِ:
5- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الصِّيغَةِ، وَهِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، رُكْنًا فِي كُلِّ عَقْدٍ. وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْعَقْدِ.
وَأَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِالْإِبْضَاعِ فَإِنَّ الصِّيغَةَ اللَّفْظِيَّةَ قَدْ تَكُونُ صَرِيحَةً بِلَفْظِ الْإِبْضَاعِ، أَوِ الْبِضَاعَةِ، وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ صَرِيحَةٍ، كَأَنْ يَقُولَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً، عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِي. وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ، وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «مُضَارَبَةً» يَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ، وَقَوْلَهُ: «الرِّبْحُ كُلُّهُ لِي» يَقْتَضِي عَدَمَهَا، فَتَنَاقَضَ قَوْلُهُ، فَفَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ، وَلِأَنَّهُ اشْتَرَطَ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِالرِّبْحِ، وَهَذَا شَرْطٌ يُنَاقِضُ الْعَقْدَ فَفَسَدَ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ فِي بَابِهِ لَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي غَيْرِهِ، فَالْمُضَارَبَةُ لَا تَنْقَلِبُ إِبْضَاعًا وَلَا قَرْضًا. وَعَلَى هَذَا اعْتَبَرُوا هَذَا الْعَقْدَ مُضَارَبَةً فَاسِدَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذَا إِبْضَاعٌ صَحِيحٌ، لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِبْضَاعِ هُنَا، فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: اتَّجِرْ بِهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا.
وَالْمَالِكِيَّةُ أَجَازُوا اشْتِرَاطَ رِبْحِ الْقِرَاضِ كُلِّهِ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، أَوْ لِغَيْرِهِمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ، لَكِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْعَقْدَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ إِبْضَاعٌ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ إِطْلَاقَ الْقِرَاضِ عَلَيْهِ مَجَازٌ. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ رَأْيُهُمْ كَرَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَ فِي التَّسْمِيَةِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ مَنِ اعْتَبَرَ مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ صَحِيحًا فَلَا يَرَى أَنَّ الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا بَلْ هُوَ مُتَبَرِّعٌ بِالْعَمَلِ. وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَهُ فَاسِدًا فَيُوجِبُ لَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ.
وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ اعْتَبَرَ حَالَ الْعَامِلِ، فَإِنْ كَانَ يَجْهَلُ حُكْمَ الْإِبْضَاعِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ لَهُ أَجْرًا وَلَا جُزْءًا مِنَ الرِّبْحِ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ لَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ. وَيُنْسَبُ هَذَا الرَّأْيُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَجَهْلُ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ مِمَّا يُعْذَرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِبْضَاعِ بِلَفْظِ الْمُضَارَبَةِ:
6- يَذْكُرُ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إِذَا قَالَ لِلْعَامِلِ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَلِي رِبْحُهُ كُلُّهُ، لَمْ يَصِحَّ مُضَارَبَةً. وَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْعَامِلَ رَضِيَ بِالْعَمَلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعَانَهُ فِي شَيْءٍ وَتَوَكَّلَ لَهُ بِغَيْرِ جُعْلٍ.
الْإِبْضَاعُ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى:
7- يَتَحَقَّقُ الْإِبْضَاعُ بِعِبَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ الْإِبْضَاعِ، مِنْهَا قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ: خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاتَّجِرْ فِيهِ، أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ، أَوْ خُذْهُ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي. فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ إِبْضَاعًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَحْتَمِلُ الْقِرَاضَ وَالْقَرْضَ وَالْإِبْضَاعَ، وَقَدْ قُرِنَ بِهِ حُكْمُ الْإِبْضَاعِ، وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، فَيَنْصَرِفُ إِلَى الْإِبْضَاعِ. وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ مَا إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا وَقَالَ: أَضِفْ إِلَيْهِ أَلْفًا مِنْ عِنْدِكَ، وَاتَّجِرْ فِيهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِبْضَاعًا عَلَى مَا سَبَقَ (ف 4)
اجْتِمَاعُ الْإِبْضَاعِ وَالْمُضَارَبَةِ:
8- إِذَا دَفَعَ نِصْفَ الْمَالِ بِضَاعَةً وَنِصْفَهُ مُضَارَبَةً فَقَبَضَ الْمُضَارِبُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْمَالُ عَلَى مَا سَمَّيَا مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْإِبْضَاعِ، وَالْخَسَارَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَنِصْفُهُ الْآخَرُ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمَالِ مُضَارَبَةً وَبِضَاعَةً، وَجَازَتِ الْمُضَارَبَةُ وَالْبِضَاعَةُ.
وَإِنَّمَا كَانَتِ الْخَسَارَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُبْضِعِ وَالْمُضَارِبِ فِي الْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَحِصَّةُ الْبِضَاعَةِ مِنَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً لِأَنَّ الْمُبْضَعَ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ.
شُرُوطُ الصِّحَّةِ:
9- شُرُوطُ صِحَّةِ الْإِبْضَاعِ لَا تَخْرُجُ فِي الْجُمْلَةِ عَمَّا اشْتُرِطَ فِي صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ مَا عَدَا الشُّرُوطَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرِّبْحِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (مُضَارَبَة).
مَنْ يَمْلِكُ إِبْضَاعَ الْمَالِ:
10- الَّذِي يَمْلِكُ إِبْضَاعَ الْمَالِ:
أ- الْمَالِكُ:
لِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ لِلْعَامِلِ بِضَاعَةً، وَهَذِهِ هِيَ الصُّورَةُ الْأَصْلِيَّةُ لِلْإِبْضَاعِ.
ب- الْمُضَارِبُ:
لِلْمُضَارِبِ (الْعَامِلِ) أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ بِضَاعَةً لآِخَرَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحُ، وَالْإِبْضَاعُ طَرِيقٌ إِلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِئْجَارَ، فَالْإِبْضَاعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ اسْتِعْمَالٌ فِي الْمَالِ بِعِوَضٍ، وَالْإِبْضَاعَ اسْتِعْمَالٌ فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَكَانَ أَوْلَى.
وَالْإِبْضَاعُ يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ عِنْدَ الْبَعْضِ عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَجَوَازُهُ لِلْمُضَارِبِ أَوْلَى مِنْ جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ج- الشَّرِيكُ:
لِلشَّرِيكِ أَنْ يُبْضِعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ، بِشَرْطِ إِذْنِ الشَّرِيكِ. الِاعْتِبَارُ الشَّرْعِيُّ لِلْمُبْضَعِ وَتَصَرُّفَاتِهِ:
11- الْمُبْضَعُ أَمِينٌ فِيمَا يَقْبِضُهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِبْضَاعِ عَقْدُ أَمَانَةٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالْإِهْمَالِ أَوِ التَّعَدِّي. وَهُوَ وَكِيلُ رَبِّ الْمَالِ فِي مَالِهِ، يَنُوبُ عَنْهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ التِّجَارِيَّةِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ مِمَّا فِيهِ إِنْمَاءٌ لِلْمَالِ، عَلَى مَا جَرَى بِهِ عُرْفُ التُّجَّارِ، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنٍ خَاصٍّ. لَكِنْ لَوْ أَبْضَعَهُ لآِخَرَ لِيَعْمَلَ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْضَاعِ، فَهَذَا الصَّنِيعُ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ رَبِّ الْمَالِ قِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ مَا كَانَ خَارِجًا مِنَ الْأَعْمَالِ عَنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، كَالْإِقْرَاضِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْهِبَاتِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ الْمُخَصَّصِ لِأَغْرَاضِ الْإِنْمَاءِ وَالتِّجَارَةِ.
شِرَاءُ الْمُبْضَعِ الْمَالَ لِنَفْسِهِ:
12- إِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ الْمَالَ لِلْعَامِلِ بِضَاعَةً، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ لِنَفْسِهِ، شَأْنُهُ شَأْنُ الْمُقَارِضِ (الْمُضَارِبِ)، فَإِنَّ الْمَالَ إِنَّمَا دُفِعَ لِلْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْإِبْضَاعِ عَلَى طَلَبِ الْفَضْلِ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ وَلَا لِلْمُبْضَعِ أَنْ يَجْعَلَا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمَا دُونَ رَبِّ الْمَالِ.
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُبْضَعَ (الْعَامِلَ) إِذَا ابْتَاعَ لِنَفْسِهِ، أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مَا ابْتَاعَ لِنَفْسِهِ، أَوْ يُضَمِّنَهُ رَأْسَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا دَفَعَ الْمَالَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنْهُ وَابْتِيَاعِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِمَا ابْتَاعَهُ. وَهَذَا إِذَا ظَفِرَ بِالْأَمْرِ قَبْلَ بَيْعِ مَا ابْتَاعَهُ، فَإِنْ فَاتَ مَا ابْتَاعَهُ فَإِنَّ رِبْحَهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَخَسَارَتَهُ عَلَى الْمُبْضِعِ مَعَهُ. وَمِثْلُهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي تَعَدِّي الْمُبْضَعِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ رِبْحٌ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ خَسَارَةٌ فَهِيَ عَلَى الْعَامِلِ لِتَعَدِّيهِ. وَقَوَاعِدُ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَأْبَى ذَلِكَ.
تَلَفُ الْمَالِ أَوْ خَسَارَتُهُ:
13- عَقْدُ الْإِبْضَاعِ مِنْ عُقُودِ الْأَمَانَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ إِنْ تَلِفَ أَوْ خَسِرَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَعَدٍّ، فَيُسْمَعُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ هَلَاكٍ أَوْ خَسَارَةٍ. بَلْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَضْمَنُ حَتَّى وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: وَعَلَيْكَ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ أَمَانَةً. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي شَأْنِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْهَلَاكِ إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ، وَاللِّصِّ الْكَاسِرِ، وَالْعَدُوِّ الْمُكَابِرِ، وَقَالَا: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ الِاسْتِحْسَانُ، لِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَأَفْتَى بِذَلِكَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ فِي شَأْنِ الصُّنَّاعِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِ الصُّنَّاعِ أَمَانَةٌ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي يَدِ الْمُبْضَعِ، فَلَا يَبْعُدُ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ.
اخْتِلَافُ الْعَامِلِ وَرَبِّ الْمَالِ:
14- إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ فَادَّعَى الْعَامِلُ أَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ مُضَارَبَةً، وَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ رِبْحِ الْقِرَاضِ، فَلَا يُعْطَى أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَى. وَبَيَّنُوا أَنَّ فَائِدَةَ كَوْنِ الْقَوْلِ قَوْلَهُ عَدَمُ غَرَامَةِ الْجُزْءِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْعَامِلُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ تَضَمَّنَتْ دَعْوَاهُ أَنَّ الْعَامِلَ تَبَرَّعَ لَهُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَدَّعِي أَنَّهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَبَرِّعًا.
وَإِنْ نَكَلَ رَبُّ الْمَالِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَانَ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُهُ فِي الْقِرَاضِ.
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْقَرَوِيِّينَ: إِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ أَنَّ لِلْإِبْضَاعِ أَجْرًا فَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَامِلِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ لَهُ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَحَالَفَا، وَيَكُونَ لِلْعَامِلِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الرِّبْحِ أَوْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الرِّبْحِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ أَجْرَ مِثْلِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قِرَاضًا، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ نَمَاءَ مَالِهِ تَبَعٌ لَهُ.
وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا مِنْ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ تَعَارَضَا، وَقُسِّمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ، وَيَكُونُ لِلْعَامِلِ أَجْرُ عَمَلِهِ.
وَلَا يَتَأَتَّى عَكْسُ هَذِهِ الصُّورَةِ، بِأَنْ يَدَّعِيَ الْعَامِلُ الْإِبْضَاعَ وَرَبُّ الْمَالِ الْقِرَاضَ، لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَادَةً، إِلاَّ أَنْ يَقْصِدَ مِنَّتَهُ عَلَى رَبِّهِ.
15- وَإِذَا ادَّعَى الْعَامِلُ الْقِرَاضَ، وَرَبُّ الْمَالِ الْإِبْضَاعَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ- وَهُوَ مَا سَمَّاهُ الْمَالِكِيَّةُ إِبْضَاعًا، وَجَعَلَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْإِجَارَةِ- فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَأْخُذُ الْجُزْءَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ لِلْمُضَارِبِ مِنَ الرِّبْحِ، وَالْمُصَدَّقُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الْجُزْءِ الْمُضَارِبُ.
وَلِهَذَا إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ مِثْلَ الْجُزْءِ الَّذِي ادَّعَاهُ فِي الْقِرَاضِ فَلَا يَمِينَ؛ لِأَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا فِي الْمَعْنَى، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُهُمَا فِي اللَّفْظِ.
وَلِضَبْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الْمُنَازَعَةُ بَعْدَ الْعَمَلِ الْمُوجِبِ لِلُزُومِ الْقِرَاضِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ يَعْمَلُ فِي قِرَاضٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِثْلُ الْمَالِ يُدْفَعُ قِرَاضًا.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ الْمُدَّعَى اشْتِرَاطُهُ مِنْ رِبْحِ الْقِرَاضِ أَزْيَدَ مِنَ الْأُجْرَةِ الْمُدَّعَى الِاتِّفَاقُ عَلَيْهَا.
الرَّابِعُ: أَنْ يُشْبِهَ أَنْ يُقَارِضَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ نِصْفِ الرِّبْحِ مَثَلًا، كَأَنْ تَقُومَ قَرَائِنُ عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَعْمَلُ إِلاَّ بِمِثْلِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الرِّبْحِ.
الْخَامِسُ: أَلاَّ يُطَابِقَ الْعُرْفُ دَعْوَى رَبِّ الْمَالِ.
16- وَإِذَا ادَّعَى الْعَامِلُ الْإِبْضَاعَ بِأَجْرٍ، وَرَبُّ الْمَالِ الْقِرَاضَ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الرِّبْحِ، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْعَامِلُ: الْمَالُ بِيَدِي بِضَاعَةٌ بِأَجْرٍ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: هُوَ بِيَدِكَ قِرَاضٌ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ.
وَتَجْرِي هُنَا الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.
17- وَإِذَا ادَّعَى الْعَامِلُ الْقِرَاضَ وَرَبُّ الْمَالِ الْإِبْضَاعَ، وَطَلَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الرِّبْحَ لَهُ وَحْدَهُ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُنْكِرٌ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ عَمَلِهِ فَقَطْ، وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ نَمَاءَ مَالِهِ تَابِعٌ لَهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فِي الْقِرَاضِ- أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِيَمِينِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ، وَالْمَالِكُ يُنْكِرُهُ.
انْتِهَاءُ عَقْدِ الْإِبْضَاعِ:
18- يَنْتَهِي عَقْدُ الْإِبْضَاعِ بِمَا يَنْتَهِي بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُمْكِنُ إِجْمَالُ أَسْبَابِ الِانْتِهَاءِ بِالْآتِي:
أ- انْقِضَاءُ الْعَقْدِ الْأَصْلِيِّ أَوِ الْمَتْبُوعِ، فَإِذَا كَانَ الْإِبْضَاعُ لِمُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ فَيَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لِعَقْدٍ آخَرَ كَالْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا.
ب- الْفَسْخُ: سَوَاءٌ كَانَ بِعَزْلِ رَبِّ الْمَالِ لِلْعَامِلِ أَوْ عَزْلِ الْعَامِلِ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
ج- الِانْفِسَاخُ: سَوَاءٌ كَانَ بِالْمَوْتِ، أَوْ زَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ، أَوْ هَلَاكِ الْمَحَلِّ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
15-موسوعة الفقه الكويتية (جنون 1)
جُنُونٌ -1التَّعْرِيف:
1- الْجُنُونُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ جُنَّ الرَّجُلُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، فَهُوَ مَجْنُونٌ: أَيْ زَالَ عَقْلُهُ أَوْ فَسَدَ، أَوْ دَخَلَتْهُ الْجِنُّ، وَجَنَّ الشَّيْءَ عَلَيْهِ: سَتَرَهُ.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا:
أَنَّهُ اخْتِلَالُ الْعَقْلِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ عَلَى نَهْجِهِ إِلاَّ نَادِرًا.
وَقِيلَ: الْجُنُونُ اخْتِلَالُ الْقُوَّةِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ الْمُدْرِكَةِ لِلْعَوَاقِبِ بِأَنْ لَا تَظْهَرَ آثَارُهَا، وَأَنْ تَتَعَطَّلَ أَفْعَالُهَا.
وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ الرَّائِقِ بِأَنَّهُ: اخْتِلَالُ الْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا إِدْرَاكُ الْكُلِّيَّاتِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الدَّهَش:
2- الدَّهَشُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ دَهِشَ، يُقَالُ دَهِشَ الرَّجُلُ أَيْ تَحَيَّرَ، أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ مِنْ ذَهْلٍ أَوْ وَلَهٍ، وَدُهِشَ أَيْضًا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَهُوَ مَدْهُوشٌ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى الْمُتَحَيِّرِ وَعَلَى ذَاهِبِ الْعَقْلِ، وَقَدْ جَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَدْهُوشَ الَّذِي ذَهَبَ عَقْلُهُ دَاخِلًا فِي الْمَجْنُونِ.
ب- الْعَتَه:
3- الْعَتَهُ فِي اللُّغَةِ: نُقْصَانُ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ دَهَشٍ.وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ آفَةٌ تُوجِبُ خَلَلًا فِي الْعَقْلِ فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ، فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلَامِهِ كَلَامَ الْعُقَلَاءِ، وَبَعْضُهُ كَلَامَ الْمَجَانِينِ، وَكَذَا سَائِرُ أُمُورِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ، أَنَّ الْمَعْتُوهَ قَلِيلُ الْفَهْمِ مُخْتَلِطُ الْكَلَامِ، فَاسِدُ التَّدْبِيرِ، لَكِنْ لَا يَضْرِبُ وَلَا يَشْتُمُ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ.
وَصَرَّحَ الْأُصُولِيُّونَ بِأَنَّ حُكْمَ الْمَعْتُوهِ حُكْمُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، إِلاَّ أَنَّ الدَّبُوسِيَّ قَالَ: تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ احْتِيَاطًا، وَقَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ: إِنَّ الْعَتَهَ نَوْعُ جُنُونٍ فَيَمْنَعُ أَدَاءَ الْحُقُوقِ جَمِيعًا.
ج- السَّفَه:
4- السَّفَهُ لُغَةً: نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ وَالتَّحَرُّكُ، يُقَالُ: تَسَفَّهَتِ الرِّيَاحُ الثَّوْبَ: إِذَا اسْتَخَفَّتْهُ، وَحَرَّكَتْهُ، وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ أَيْ خَفِيفٌ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: خِفَّةٌ تَبْعَثُ الْإِنْسَانَ عَلَى الْعَمَلِ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً.قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَالسَّفَهُ لَا يُوجِبُ خَلَلًا، وَلَا يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ.
وَقِيلَ السَّفَهُ صِفَةٌ لَا يَكُونُ الشَّخْصُ مَعَهَا مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ كَأَنْ يَبْلُغَ مُبَذِّرًا يُضَيِّعُ الْمَالَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ الْجَائِزِ، وَأَمَّا عُرْفًا: فَهُوَ بَذَاءَةُ اللِّسَانِ وَالنُّطْقُ بِمَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ.
وَفِي جَوَاهِرِ الْإِكْلِيلِ: السَّفِيهُ: الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الَّذِي لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ فَهُوَ خِلَافُ الرَّشِيدِ.
د- السُّكْر:
5- اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ السُّكْرِ:
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: السُّكْرُ نَشْوَةٌ تُزِيلُ الْعَقْلَ، فَلَا يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا الرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَصَرَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّ تَعْرِيفَ السُّكْرِ بِمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ فِي السُّكْرِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ، وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوبِ الْحَدِّ فَهُوَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ كُلِّهِمْ: اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ وَالْهَذَيَانُ.وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا تَعْرِيفُ الشَّافِعِيِّ لِلسَّكْرَانِ: بِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَلَطَ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ، وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ.
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْعَادَةِ، فَإِذَا انْتَهَى تَغَيُّرُهُ إِلَى حَالَةٍ يَقَعُ عَلَيْهِ فِيهَا عَادَةً اسْمُ السَّكْرَانِ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِالسَّكْرَانِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ الْأَقْرَبُ.
وَقِيلَ: السُّكْرُ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنِ امْتِلَاءِ دِمَاغِهِ مِنَ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، فَيَتَعَطَّلُ مَعَهُ الْعَقْلُ الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ.
هـ- الصَّرْع:
6- الصَّرْعُ لُغَةً: عِلَّةٌ تَمْنَعُ الدِّمَاغَ مِنْ فِعْلِهِ مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ، فَتَتَشَنَّجُ الْأَعْضَاءُ.
أَقْسَامُ الْجُنُونِ:
7- جَاءَ فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ: الْجُنُونُ يَكُونُ أَصْلِيًّا إِذَا كَانَ لِنُقْصَانٍ جُبِلَ عَلَيْهِ دِمَاغُهُ وَطُبِعَ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَمْ يَصْلُحْ لِقَبُولِ مَا أُعِدَّ لِقَبُولِهِ مِنَ الْعَقْلِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ.
وَيَكُونُ عَارِضًا: إِذَا زَالَ الِاعْتِدَالُ الْحَاصِلُ لِلدِّمَاغِ خِلْقَةً إِلَى رُطُوبَةٍ مُفْرِطَةٍ، أَوْ يُبُوسَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا يُرْجَى زَوَالُهُ بِالْعِلَاجِ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَدْوِيَةِ.وَالْجُنُونُ الْأَصْلِيُّ لَا يُفَارِقُ الْعَارِضَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ.
8- وَيَنْقَسِمُ الْجُنُونُ أَيْضًا إِلَى مُطْبِقٍ وَغَيْرِ مُطْبِقٍ:
وَالْمُرَادُ بِالْمُطْبِقِ الْمُلَازِمُ الْمُمْتَدُّ.وَالِامْتِدَادُ لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ عَامٌّ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَادَاتِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ قَدْرَ الِامْتِدَادِ الْمُسْقِطِ فِي الصَّلَوَاتِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبِصَيْرُورَتِهَا سِتًّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَفِي الصَّوْمِ بِاسْتِغْرَاقِ الشَّهْرِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَفِي الزَّكَاةِ بِاسْتِغْرَاقِ الْحَوْلِ كُلِّهِ فِي الْأَصَحِّ، وَغَيْرُ الْمُمْتَدِّ مَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.
فَالْجُنُونُ إِنْ كَانَ مُمْتَدًّا سَقَطَ مَعَهُ وُجُوبُ الْعِبَادَاتِ فَلَا تُشْغَلُ بِهَا ذِمَّتُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْتَدٍّ وَهُوَ طَارِئٌ لَمْ يَمْنَعِ التَّكْلِيفَ وَلَا يَنْفِي أَصْلَ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالذِّمَّةِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ، وَلِذَلِكَ يَرِثُ وَيَمْلِكُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْتَدٍّ، وَكَانَ أَصْلِيًّا فَحُكْمُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حُكْمُ الْمُمْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ نَاطَ الْإِسْقَاطَ بِالْكُلِّ مِنَ الِامْتِدَادِ وَالْأَصَالَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الطَّارِئِ فَيُنَاطُ الْإِسْقَاطُ بِالِامْتِدَادِ.
أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الْأَهْلِيَّةِ:
9- الْجُنُونُ مِنْ عَوَارِضِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ وَهُوَ يُزِيلُهَا مِنْ أَصْلِهَا، فَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ آثَارُهَا الشَّرْعِيَّةُ؛ لِأَنَّ أَسَاسَ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ فِي الْإِنْسَانِ التَّمْيِيزُ وَالْعَقْلُ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ.
وَلَا يُؤَثِّرُ الْجُنُونُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، فَكُلُّ إِنْسَانٍ أَيًّا كَانَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِلْوُجُوبِ هِيَ حَيَاتُهُ الْإِنْسَانِيَّةُ.
وَمَا وَجَبَ عَلَى الْمَجْنُونِ بِمُقْتَضَى أَهْلِيَّتِهِ لِلْوُجُوبِ مِنْ وَاجِبَاتٍ مَالِيَّةٍ يُؤَدِّيهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ.
فَإِذَا جَنَى عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ يُؤَاخَذُ مَالِيًّا لَا بَدَنِيًّا، فَفِي الْقَتْلِ يَضْمَنُ دِيَةَ الْقَتِيلِ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «عَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ» وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ:
أ- فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ:
10- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ.كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّ كُلَّ مَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ أَيْضًا.
ب- أَثَرُ الْجُنُونِ فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ:
11- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَجْنُونَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ جُنُونِهِ، فَلَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى مَجْنُونٍ لَا يُفِيقُ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ تَفُوتُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ.لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- مَرْفُوعًا: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ».
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا إِلَى أَنَّ مَنْ جُنَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ أَفَاقَ قَضَى الْخَمْسَ، وَإِنْ زَادَ الْجُنُونُ وَقْتَ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ لَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي التَّكْرَارِ فَسَقَطَ الْقَضَاءُ لِلْحَرَجِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ الْقَضَاءُ إِذَا صَارَتِ الصَّلَوَاتُ سِتًّا وَدَخَلَ فِي السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّكْرَارُ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فَأَقَامَا الْوَقْتَ فِي دُخُولِ الصَّلَوَاتِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ مَقَامَ الصَّلَاةِ تَيْسِيرًا، فَتُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ بِالسَّاعَاتِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجُنُونَ إِذَا ارْتَفَعَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ سَقَطَتِ الصَّلَاتَانِ، هَذَا إِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.وَإِنْ بَقِيَ مَا يَسَعُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ إِلَى تَمَامِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَتِ الْأَخِيرَةُ وَسَقَطَتِ الْأُولَى، وَإِنْ بَقِيَ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِمِقْدَارِ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى وَجَبَتِ الصَّلَاتَانِ، وَإِنِ ارْتَفَعَ فِي وَقْتٍ مُخْتَصٍّ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَتِ الْمُخْتَصَّةُ بِالْوَقْتِ.
وَقَدْ فَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ الْكَلَامَ فَقَالُوا: الْجُنُونُ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
1- لَا تَجِبُ عَلَى الْمَجْنُونِ الصَّلَاةُ وَلَا قَضَاؤُهَا إِذَا اسْتَغْرَقَ الْوَقْتَ جَمِيعًا، قَلَّ الْجُنُونُ أَوْ كَثُرَ.
2- أَنْ يُوجَدَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَيَخْلُوَ آخِرَهُ: فَيُنْظَرُ إِنْ بَقِيَ الْوَقْتُ قَدْرَ رَكْعَةٍ، وَامْتَدَّتِ السَّلَامَةُ مِنَ الْجُنُونِ قَدْرَ إِمْكَانِ الطَّهَارَةِ، وَتِلْكَ الصَّلَاةُ، لَزِمَهُ فَرْضُ الْوَقْتِ.
3- أَنْ يَخْلُوَ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَوْ أَوْسَطَهُ عَنِ الْجُنُونِ ثُمَّ يَطْرَأَ، فَفِي الْقَدْرِ الْمَاضِي مِنَ الْوَقْتِ: إِنْ كَانَ قَدْرًا يَسَعُ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَذْهَبِ.وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلاَّ إِذَا أَدْرَكَ جَمِيعَ الْوَقْتِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاضِي مِنَ الْوَقْتِ لَا يَسَعُ تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَا يَقْضِي الْمَجْنُونُ الصَّلَاةَ إِذَا أَفَاقَ لِعَدَمِ لُزُومِهَا لَهُ، إِلاَّ أَنْ يُفِيقَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيَصِيرُ كَالصَّبِيِّ يَبْلُغُ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ...» الْحَدِيثَ وَلِأَنَّ مُدَّتَهُ تَطُولُ غَالِبًا، فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ يَشُقُّ فَعُفِيَ عَنْهُ.
ج- أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الصَّوْمِ:
12- اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ مُسْقِطٌ لِلصَّوْمِ إِذَا كَانَ مُطْبِقًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْتَدَّ إِلَى أَنْ يَسْتَغْرِقَ شَهْرَ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدِ الشَّهْرَ، وَهُوَ السَّبَبُ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ، وَلِذَا فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى الْمَجْنُونِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ إِذَا أَفَاقَ فِي جُزْءٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ أَفَاقَ لَيْلًا أَمْ نَهَارًا؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ الشَّهْرَ، إِذِ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} شُهُودُ بَعْضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ شُهُودَ كُلِّهِ لَوَقَعَ الصَّوْمُ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.قَالَ فِي شَرْحِ كَشْفِ الْأَسْرَارِ: ذَكَرَ فِي الْكَامِلِ نَقْلًا عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ، إِنَّهُ إِنْ كَانَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَأَصْبَحَ مَجْنُونًا، وَاسْتَوْعَبَ الْجُنُونُ بَاقِيَ الشَّهْرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَا يُصَامُ فِيهِ، فَكَانَ الْجُنُونُ وَالْإِفَاقَةُ فِيهِ سَوَاءً، وَكَذَا لَوْ أَفَاقَ فِي لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ ثُمَّ أَصْبَحَ مَجْنُونًا.
وَفَرَّقَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي حُكْمِ الْجُنُونِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ أَصْلِيًّا وَمَا إِذَا كَانَ عَارِضًا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الشُّرُنْبُلَالِيَّةِ: لَيْسَ عَلَى الْمَجْنُونِ الْأَصْلِيِّ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنَ الْأَيَّامِ قَبْلَ إِفَاقَتِهِ فِي الْأَصَحِّ.
وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ إِذَا اسْتَوْعَبَ الْجُنُونُ الشَّهْرَ كُلَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ مُطْلَقًا، وَإِلاَّ فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ فِي الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا كَثُرَ مِنَ السِّنِينَ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ عِنْدَهُمْ وَهُوَ: أَنَّهُ إِنْ بَلَغَ مَجْنُونًا لَمْ يَقْضِ بِخِلَافِ مَنْ بَلَغَ صَحِيحًا ثُمَّ جُنَّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ لَوْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى كَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ، أَوِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْجُنُونَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِغْمَاءِ، أَيْ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ لَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهُ.
د- أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الْحَجِّ:
13- الْجُنُونُ كَمَا سَبَقَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ، فَالْمَجْنُونُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ أَدَاءُ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَهُوَ مَجْنُونٌ وَلَمْ يُفِقْ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا لَمْ يُجْزِئْهُ، ثُمَّ الْعَقْلُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْرِمَ الْوَلِيُّ عَنِ الْمَجْنُونِ، وَلَكِنْ لَوْ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَى الْمَجْنُونِ قَبْلَ طُرُوَّ جُنُونِهِ صَحَّ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَشَرْطُ الصِّحَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْإِسْلَامُ وَلَيْسَ الْعَقْلَ، فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ عَنِ الْمَجْنُونِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ).
هـ- أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الزَّكَاةِ:
14- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ وَيُخْرِجُهَا الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ، أَخْرَجَ الْمَجْنُونُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ زَكَاةَ مَا مَضَى، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ، فَلْيَتَّجِرْ لَهُ، وَلَا يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ- رضي الله عنه-، وَإِنَّمَا تَأْكُلُهُ الصَّدَقَةُ بِإِخْرَاجِهَا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إِخْرَاجُهَا إِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ؛ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ مِلْكَ النِّصَابِ سَبَبًا فِي الزَّكَاةِ وَالنِّصَابُ مَوْجُودٌ، وَالْخِطَابُ بِإِخْرَاجِهَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَلِيِّ.وَالْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ.
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَجَابِرٌ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي مَالِ.الْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالْعِبَادَةِ، وَالزَّكَاةُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ».
وَقَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو وَائِلٍ، وَالنَّخَعِيُّ.
وَحَدُّ امْتِدَادِ الْجُنُونِ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْحَوْلَ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْتِدَادَهُ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ بِأَكْثَرِ السَّنَةِ وَنِصْفِ السَّنَةِ مُلْحَقٌ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَقْتِهَا الْحَوْلُ، إِلاَّ أَنَّهُ مَدِيدٌ جِدًّا، فَقُدِّرَ بِأَكْثَرِ الْحَوْلِ عَمَلًا بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ أَكْثَرِ السَّنَةِ أَيْسَرُ وَأَخَفُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ مَجْنُونًا، وَهُوَ مَالِكٌ لِنِصَابٍ فَزَالَ جُنُونُهُ بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْبُلُوغِ وَهُوَ مُفِيقٌ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِ، وَلَا تَجِبُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، بَلْ يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي بَلَغَ الْآنَ عِنْدَهُ، وَلَوْ كَانَ الْجُنُونُ عَارِضًا فَزَالَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، تَجِبُ الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ عِنْدَ الْكُلِّ.
وَيُحْكَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحَالِ، لَكِنَّهُ لَا يُخْرِجُ حَتَّى يُفِيقَ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِفَاقَةٌ).
أَمَّا زَكَاةُ زَرْعِ الْمَجْنُونِ فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ فَيَضْمَنُهَا الْوَلِيُّ وَالْوَصِيُّ لَوْ أَدَّيَاهَا مِنْ مَالِهِ.
و- أَثَرُ الْجُنُونِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ:
15- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ كَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ، بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمَا فِي فَوَاتِ الِاخْتِيَارِ وَتَبْطُلُ عِبَارَاتُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ، كَالطَّلَاقِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالرِّدَّةِ، وَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ، فَبُطْلَانُهَا بِالْجُنُونِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَالْأَهْلِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» وَمِثْلُ ذَلِكَ كُلُّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ.
ز- أَثَرُ الْجُنُونِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ:
16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ يَصْدُرُ فِي حَالِ الْجُنُونِ فَهُوَ بَاطِلٌ، فَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ عُقُودُهُ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الضَّرَرِ نَظَرًا إِلَى سَفَهِهِ، وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ، وَعَدَمِ قَصْدِهِ الْمَصَالِحَ.
ح- أَثَرُ الْجُنُونِ فِي التَّبَرُّعَاتِ:
17- سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةَ لَا تَصِحُّ مِنَ الْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ بِالْجُنُونِ تُسْلَبُ الْوِلَايَاتُ، وَاعْتِبَارُ الْأَقْوَالِ، فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ وَلَا صَدَقَتُهُ، وَلَا وَقْفُهُ، وَلَا وَصِيَّتُهُ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهَا كَمَالُ الْعَقْلِ، وَالْمَجْنُونُ مَسْلُوبُ الْعَقْلِ أَوْ مُخْتَلُّهُ، وَعَدِيمُ التَّمْيِيزِ وَالْأَهْلِيَّةِ، وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.
ط- أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الْوِلَايَةِ:
18- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجُنُونَ يُزِيلُ الْوِلَايَةَ؛ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ إِنَّمَا ثَبَتَتْ نَظَرًا لِلْمُولَى عَلَيْهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يُمْكِنُهُ النَّظَرُ، وَأَيْضًا الْمَجْنُونُ لَا يَلِي نَفْسَهُ، فَلَا يَلِي غَيْرَهُ بِالْأَوْلَى.
ي- جُنُونُ الْقَاضِي:
19- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَلَا يَصِحُّ قَضَاءُ الْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وِلَايَةٌ، وَالْمَجْنُونُ لَا وِلَايَةَ لَهُ؛ وَلِأَنَّ بِالْجُنُونِ تُسْلَبُ الْوِلَايَاتُ وَاعْتِبَارُ الْأَقْوَالِ، وَكَذَلِكَ إِذَا جُنَّ الْقَاضِي فَيَنْعَزِلُ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ.
وَإِذَا زَالَ الْجُنُونُ لَا تَعُودُ وِلَايَتُهُ، إِلاَّ فِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ تَعُودُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ تَوْلِيَتِهِ.
ك- أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الْجِنَايَاتِ:
20- تَقَدَّمَ أَنَّ الْجُنُونَ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ يَطْرَأُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَذْهَبُ بِهِ، وَلِذَلِكَ تَسْقُطُ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْخِطَابُ لِعَدَمِ وُجُودِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةُ فَهْمِ دَلِيلِ التَّكْلِيفِ.
فَالْجُنُونُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى حَسَبَ الْبَيَانِ السَّابِقِ، وَلَا حَدَّ عَلَى الْمَجْنُونِ، لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْإِثْمُ فِي الْمَعَاصِي فَالْحَدُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ كَالضَّمَانِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَكْلِيفًا لَهُ، بَلْ هُوَ تَكْلِيفٌ لِلْوَلِيِّ بِأَدَاءِ الْحَقِّ الْمَالِيِّ الْمُسْتَحَقِّ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ، فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ جَرَائِمُ، أُخِذَ بِهَا مَالِيًّا لَا بَدَنِيًّا، وَإِذَا أَتْلَفَ مَالَ إِنْسَانٍ وَهُوَ مَجْنُونٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِذَا قَتَلَ فَلَا قِصَاصَ وَتَجِبُ دِيَةُ الْقَتِيلِ، كَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِحْصَانُ الرَّجْمِ وَالْقَذْفِ إِلاَّ بِالْعَقْلِ، فَالْمَجْنُونُ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا لِأَنَّهُ لَا خِطَابَ بِدُونِ الْعَقْلِ.
لَا جِزْيَةَ عَلَى الْمَجْنُونِ:
21- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى الْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ شُرِعَتْ جَزَاءً عَنِ الْكُفْرِ وَحَمْلًا لِلْكَافِرِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَتَجْرِي مَجْرَى الْقَتْلِ، فَمَنْ لَا يُعَاقَبُ بِالْقَتْلِ، لَا يُؤْخَذُ بِالْجِزْيَةِ، وَالْمَجْنُونُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (جِزْيَةٌ).
هَلْ يُعْتَبَرُ الْجُنُونُ عَيْبًا فِي النِّكَاحِ؟:
22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النِّكَاحِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ فِي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يُعْتَبَرُ عَيْبًا يُفْسَخُ بِهِ النِّكَاحُ مُطْبِقًا كَانَ أَوْ مُتَقَطِّعًا، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ جُنُونًا، يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ لِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، ثُمَّ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ كَوْنَ الْجُنُونِ مَوْجُودًا حِينَ عُقِدَ النِّكَاحُ، فَإِنْ حَدَثَ بَعْدَهُ فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ إِنِ ابْتُلِيَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ، وَلَهَا الْخِيَارُ إِنِ ابْتُلِيَ الزَّوْجُ بِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَى الْمَرْأَةِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْجُنُونِ حَالَ الْعَقْدِ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ، أَمَّا الْعَالِمُ بِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ لَا خِيَارَ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنِ زِيَادٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْخَطَّابِيِّ، وَفِي الْمَبْسُوطِ، أَنَّهُ مَذْهَبُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهم-، وَيَرَى مُحَمَّدٌ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنْتَظِمُ بَيْنَهُمَا الْمَصَالِحُ، فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا بِخِلَافِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ بِالطَّلَاقِ.
طُرُوءُ الْجُنُونِ عَلَى مَنْ صَحَّ تَصَرُّفُه:
23- سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةَ لَا تَصِحُّ مِنَ الْمَجْنُونِ، كَمَا أَنَّ الْعُقُوبَةَ الْبَدَنِيَّةَ تَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا ارْتَكَبَ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ أَوِ الْحَدَّ.
لَكِنْ إِذَا تَصَرَّفَ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ أَثْنَاءَ سَرَيَانِ التَّصَرُّفِ وَمُبَاشَرَتِهِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالشَّرِكَةِ مَثَلًا، أَوْ كَانَ ارْتَكَبَ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، أَوِ الْحَدَّ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ الْقِصَاصِ، أَوْ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ حُكْمِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ.
أَوَّلًا- فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ:
أ- الْوَصِيَّة:
24- لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْمَجْنُونِ ابْتِدَاءً وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.أَمَّا إِذَا أَوْصَى الْعَاقِلُ ثُمَّ جُنَّ فَقَدْ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ جَائِزٌ (أَيْ غَيْرُ لَازِمٍ) كَالْوَكَالَةِ فَيَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ كَالْوَكَالَةِ، فَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، وَنَصَّ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ جُنَّ، فَإِنْ أَطْبَقَ الْجُنُونُ حَتَّى بَلَغَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَطَلَتْ وَإِلاَّ فَلَا.وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِجُنُونِ الْمُوصِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ.فَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْمَجْنُونِ إِلاَّ حَالَ إِفَاقَتِهِ.وَفِي قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ: إِذَا جُنَّ الْمُوجِبُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بَطَلَ إِيجَابُهُ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا تَبْطُلَ بِمَا دُونَهُ.
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ مَنْ كَانَ يُفِيقُ أَحْيَانًا وَوَصَّى فِي إِفَاقَتِهِ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُوصِي.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْوَصِيِّ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَلِي أَمْرَ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي شُؤُونِ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.فَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ، تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَقْتِ الْمُعْتَبَرِ لِتَوَافُرِ الْعَقْلِ فِيهِ، وَذَلِكَ عَلَى الِاتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ:
أ- يُعْتَبَرُ اشْتِرَاطُ تَوَافُرِ الْعَقْلِ عِنْدَ الْإِيصَاءِ مِنَ الْمُوصِي وَعِنْدَ مَوْتِهِ دُونَ اعْتِبَارِ مَا بَيْنَهُمَا حَتَّى لَوْ أَوْصَى إِلَى الْعَاقِلِ ثُمَّ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ فَجُنَّ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ ثُمَّ عَادَ فَكَانَ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي عَاقِلًا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَوْجُودٌ حَالَ الْعَقْدِ وَحَالَ الْمَوْتِ فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ كَمَا لَوْ لَمْ تَتَغَيَّرْ حَالُهُ؛ وَلِأَنَّ حَالَ الْعَقْدِ حَالُ الْإِيجَابِ، وَحَالَ الْمَوْتِ حَالُ التَّصَرُّفِ فَاعْتُبِرَ فِيهِمَا.وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
ب- يُعْتَبَرُ اشْتِرَاطُ الْعَقْلِ فِي الْمُوصَى إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِيصَاءِ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ أَيِ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ جُنَّ الْمُوصِي بَعْدَ الْإِيصَاءِ إِلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ مِنْ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ التَّصَرُّفَ بِأَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي فَاعْتُبِرَتِ الشُّرُوطُ فِي الْجَمِيعِ، وَبِهَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَاحْتِمَالٌ لِلْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي.
ج- يُعْتَبَرُ اشْتِرَاطُ الْعَقْلِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى إِلَى مَجْنُونٍ فَأَفَاقَ قَبْلَ وَفَاةِ الْمُوصِي صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَاعْتُبِرَتِ الشُّرُوطُ عِنْدَهُ كَمَا تُعْتَبَرُ عَدَالَةُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، أَوِ الْحُكْمِ دُونَ التَّحَمُّلِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَإِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ عَلَى الْوَصِيِّ بَعْدَ انْتِقَالِ الْوِصَايَةِ إِلَيْهِ بِمَوْتِ الْمُوصِي انْعَزَلَ عَنِ الْوِصَايَةِ فَإِذَا أَفَاقَ فَلَا تَعُودُ الْوِصَايَةُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ يَنْعَزِلُ الْوَصِيُّ بِالْجُنُونِ وَلَا تَعُودُ الْوِلَايَةُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ إِلاَّ بِتَوْلِيَةٍ جَدِيدَةٍ.وَفِي الْمُغْنِي وَكَشَّافِ الْقِنَاعِ: إِنْ زَالَتِ الْوِصَايَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَانْعَزَلَ ثُمَّ عَادَتِ الصِّفَاتُ الْمُعْتَبَرَةُ لَمْ تَعُدْ وِصَايَتُهُ؛ لِأَنَّهَا زَالَتْ فَلَا تَعُودُ إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنْ أَمْكَنَ بِأَنْ قَالَ الْمُوصِي مَثَلًا: إِنِ انْعَزَلْتَ لِفَقْدِ صِفَةٍ ثُمَّ عُدْتَ إِلَيْهَا فَأَنْتَ وَصِيِّي.
لَكِنْ فِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ وَشَرْحِهِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ فِيهِ: إِنْ عَادَ الْوَصِيُّ إِلَى حَالِهِ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ عَادَ إِلَى عَمَلِهِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا يُفِيدُ بَقَاءَهُ إِنْ لَمْ يُعْزَلْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْخَانِيَّةِ: لَوْ جُنَّ الْوَصِيُّ مُطْبِقًا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُبَدِّلَهُ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَفَاقَ فَهُوَ عَلَى وِصَايَتِهِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَنْعَزِلُ الْوَصِيُّ بِالْجُنُونِ وَيُقِيمُ الْحَاكِمُ غَيْرَهُ مَقَامَهُ.
ب- طُرُوءُ الْجُنُونِ عَلَى الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ:
25- يُشْتَرَطُ فِي الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِ.
وَإِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ عَلَى مَنْ لَهُ وِلَايَةُ النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُطْبِقًا سُلِبَتْ وِلَايَتُهُ وَانْتَقَلَتْ لِمَنْ بَعْدَهُ، وَلَا يُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ، وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهَا مَنِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ الْوِلَايَةُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ الْجُنُونُ غَيْرَ مُطْبِقٍ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَدِيمُ زَوَالُ عَقْلِهِ فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ، فَلَا تُزَوَّجُ مُوَلِّيَتُهُ بَلْ تَنْتَظِرُ إِفَاقَتَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ لَا تُسْلَبُ وِلَايَةُ الْمَجْنُونِ وَلَوْ مُطْبِقًا، وَلَا تُزَوَّجُ ابْنَتُهُ لِأَنَّ بُرْأَهُ مَرْجُوٌّ، قَالَهُ التَّتَائِيُّ.
وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ الْجُنُونَ سَالِبٌ لِلْوِلَايَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُطْبِقًا أَمْ مُنْقَطِعًا.
وَلَوْ زَالَ الْجُنُونُ عَادَتِ الْوِلَايَةُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَإِنْ زَوَّجَهَا مَنِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ الْوِلَايَةُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: لَوْ زَوَّجَ الْأَبْعَدُ فَادَّعَى الْأَقْرَبُ أَنَّهُ زَوَّجَ بَعْدَ تَأَهُّلِهِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَلَا اعْتِبَارَ بِهِمَا، وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَهُمَا فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ غَيْرِهِمَا، وَجَزَمَ فِيمَا لَوْ زَوَّجَهَا بَعْدَ تَأَهُّلِ الْأَقْرَبِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ أَعَلِمَ بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْهُ.
وَفِي الْمُهَذَّبِ قَالَ: إِنْ زَوَّجَهَا مَنِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ الْوِلَايَةُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِعَوْدَةِ وِلَايَةِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَكِيلِ إِذَا بَاعَ مَا وُكِّلَ فِي بَيْعِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ زَوَّجَ مَنِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ الْوِلَايَةُ وَكَانَ الْأَقْرَبُ قَدْ صَارَ أَهْلًا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ التَّزْوِيجِ أَنَّهُ صَارَ أَهْلًا وَإِنَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ عَادَ أَهْلًا بَعْدَ تَزْوِيجِهَا لَمْ يُعَدِ الْعَقْدُ.وَكَذَا إِنْ زَالَ الْمَانِعُ وَصَارَ أَهْلًا بَعْدَ الْعَقْدِ لَمْ يُعَدِ الْعَقْدُ.
ج- طُرُوءُ الْجُنُونِ عَلَى الْحَاضِنِ:
26- يُشْتَرَطُ فِي الْحَاضِنِ الْعَقْلُ فَلَا حَضَانَةَ لِمَجْنُونٍ، وَإِذَا كَانَ الْحَاضِنُ عَاقِلًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ زَالَتْ وِلَايَةُ الْحَضَانَةِ وَانْتَقَلَتْ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ.وَتَعُودُ الْحَضَانَةُ بِزَوَالِ الْجُنُونِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يَعُودُ الْحَقُّ بِزَوَالِ مَانِعِهِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ عَدَدِ السَّاقِطِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ كَقَوْلِهِمْ: تَسْقُطُ الْوِلَايَةُ بِالْجُنُونِ ثُمَّ تَعُودُ بِزَوَالِ ذَلِكَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (حَضَانَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
16-موسوعة الفقه الكويتية (هجنة)
هُجْنَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْهُجْنَةِ فِي اللُّغَةِ: الْعَيْبُ وَالْقُبْحُ.يُقَالُ: فِي كَلَامِهِ هُجْنَةٌ.
وَالْهَجِينُ: مَا تَلِدُهُ بِرْذَوْنَةٌ مِنْ حِصَانٍ عَرَبِيٍّ.
وَالْهَجِينُ مِنَ النَّاسِ: الَّذِي وُلِدَ مِنْ أَبٍ عَرَبِيٍّ وَأُمٍّ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ، وَالْجَمْعُ هُجُنٌ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهُجْنَةِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْهُجْنَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ- الْهُجْنَةُ فِي الْكَلَامِ:
2- مِنْ آدَابِ الْكَلَامِ: أَنْ يَتَجَافَى الْمُتَكَلِّمُ هَجْرَ الْقَوْلِ وَمُسْتَقْبَحَ الْكَلَامِ، وَلْيَعْدِلْ إِلَى الْكِنَايَةِ عَمَّا يُسْتَقْبَحُ صَرِيحُهُ، وَيُسْتَهْجَنُ فَصِيحُهُ؛ لِيَبْلُغَ الْغَرَضَ، وَلِسَانُهُ نَزِهٌ، وَأَدَبُهُ مَصُونٌ فَيُعَبِّرُ- مَثَلًا- عَنِ الْعُيُوبِ الْمُسْتَهْجَنِ ذِكْرُهَا كَالْبَرَصِ وَالْبَخَرِ وَالصُّنَانِ- وَغَيْرِهَا بِعِبَارَاتٍ جَمِيلَةٍ يُفْهَمُ مِنْهَا الْغَرَضُ.
ب- سَهْمُ الْفَرَسِ الْهَجِينِ مِنَ الْغَنِيمَةِ:
3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَرَسَ الْهَجِينَ يُسْهَمُ لَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ مُسَاوِيًا لِمَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِأَنَّ الْإِرْهَابَ مُضَافٌ إِلَى جِنْسِ الْخَيْلِ فِي الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وَاسْمُ الْخَيْلِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَرَاذِينِ وَالْعِرَابِ وَالْهَجِينِ وَالْمُقْرِفِ إِطْلَاقًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الْعَرَبِيَّ إِنْ كَانَ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَقْوَى فَالْبِرْذَوْنُ أَصْبَرُ وَأَلْيَنُ عَطْفًا، فَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاسْتَوَيَا، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، وَمَنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى فَرَسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ رَاجِلٍ.
وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ سَهْمِ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ وَبَيْنَ سَهْمِ الْهَجِينِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخَيْلِ؛ حَيْثُ قَالُوا لِلْفَارِسِ عَلَى فَرَسٍ عَرَبِيٍّ (وَيُسَمَّى الْعَتِيقَ) ثَلَاثَةٌ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ».
وَلِلْفَارِسِ عَلَى فَرَسٍ هَجِينٍ وَهُوَ مَا أَبُوهُ عَرَبِيٌّ وَأُمُّهُ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ، أَوْ عَلَى فَرَسٍ مُقْرِفٍ- عَكْسُ الْهَجِينِ- وَهُوَ مَا أُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ وَأَبُوهُ غَيْرُ عَرَبِيٍّ، أَوْ عَلَى فَرَسٍ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ مَا أَبَوَاهُ نَبَطِيَّانِ سَهْمَانِ: سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمٌ لِفَرَسِهِ، لِحَدِيثِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: «أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْعَرَبِيِّ سَهْمَيْنِ وَلِلْهَجِينِ سَهْمًا».
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غَنِيمَة ف 24، وَخَيْل ف 5).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
17-المعجم الغني (تَلَفُّظٌ)
تَلَفُّظٌ- [لفظ]، (مصدر: تَلَفَّظَ)، "التَّلَفُّظُ بِعِباراتِ الشُّكْرِ": النُّطْقُ بِها.الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
18-المعجم الغني (صَدَمَ)
صَدَمَ- [صدم]، (فعل: ثلاثي. متعدٍّ، مزيد بحرف)، صَدَمْتُ، أَصْدِمُ، اِصْدِمْ، المصدر: صَدْمٌ.1- "صَدَمَ عَمُودًا": اِصْطَدَمَ، اِرْتَطَمَ بِهِ.
2- "صَدَمَتْهُ سَيَّارَةٌ": ضَرَبَتْهُ وَدَفَعَتْهُ.
3- "صَدَمَهُ بِعِبَارَاتٍ جَارِحَةٍ": آلَمَهُ، جَرَحَهُ، أَثَّرَ فِي نَفْسِهِ.
4- "صَدَمَتْهُ الْحَقِيقَةُ": فَزَعَتْهُ، فَجَأَتْهُ.
4- "صَدَمَ الشَّرَّ بِالشَّرِّ": دَفَعَهُ، صَكَّهُ.
5- "صَدَمَهُ بِالقَوْلِ": أَسْكَتَهُ.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
19-المعجم الغني (لَحَا)
لَحَا- [لحو]، (فعل: ثلاثي. متعدٍّ)، لَحَوْتُ، أَلْحُو، اُلْحُ، المصدر: لَحْوٌ.1- "لَحَا الشَّجَرَةَ": قَشَّرَهَا.
2- "لَحَاهُ بِعِبَارَاتٍ جَارِحَةٍ": شَتَمَهُ، أو لَامَهُ.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
20-القانون (تشهير؛ قذف)
تشهير؛ قذف: تعمد النيل من سمعة الغير أو اعتباره برميه بعبارات جارحة شفوية أو كتابية من شأنها أن تسيء إلى سمعته أو نحط من مقامه في أعين الناس أو تعرضه لبغضائهم أو سخريتهم أو احتقارهم أو تؤذيه في علمه ومهنته.والتشهير أو القذف على نوعين: (1) تشهير دائم الأثر libel يحصل بطرية الكتابة أو النشر أو الصور أو الرسوم أو الراديو أو التلفزيون، (2) تشهير أو قذف شفوي slander ويحصل بواسطة الكلام أو الإشارة.
المعجم القانوني (الفاروقي)