نتائج البحث عن (بِعِبَارَتِهِ)

1-التوقيف على مهمات التعاريف (الحديث القدسي)

الحديث القدسي: ما أخبر الله نبيه بإلهام أو منام. فأخبر عن ذلك المعنى بعبارته، فالقرآن مفضل عليه بإنزال لفظه أيضًا.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


2-القاموس المحيط (بلغ)

بَلَغَ المكانَ بُلوغًا: وَصَلَ إليه، أو شارَفَ عليه،

وـ الغُلامُ: أدْرَكَ.

وثَناءٌ أبْلَغُ: مُبالَغٌ فيه.

وشيءٌ بالِغٌ: جَيِّدٌ، وقد بَلَغَ مَبْلَغًا.

وجارِيَةٌ بالِغٌ وبالِغَةٌ: مُدْرِكَةٌ.

وبُلِغَ الرجُلُ، كعُنِيَ: جُهِدَ.

والتَّبْلِغَةُ: حَبْلٌ يُوصَلُ به الرِشاءُ إلى الكَرَبِ، ج: تَبالِغُ.

وأحْمَقُ بَلْغٌ، ويُكسَرُ،

وبَلْغَةٌ، أي: مَعَ حَماقَتِهِ يَبْلُغُ ما يُريدُ، أو نهايَةٌ في الحُمقِ.

واللَّهُمَّ سَمْعٌ لا بَلْغٌ، وسَمْعًا لا بَلْغًا، ويُكْسرانِ، أي: نَسْمَعُ به ولا يَتمُّ، أو يقولهُ مَن سَمِعَ خَبَرًَا لا يُعْجِبُه.

وأمْرُ اللهِ بَلْغٌ، أي: بالغٌ نافذٌ، يَبْلُغُ أينَ أُريدَ به،

وجَيْشٌ بَلْغٌ: كذلك.

ورجُلٌ بِلْغٌ مِلْغٌ، بكسرهما: خَبيثٌ.

والبَلْغُ، ويكسرُ، وكعِنَبٍ وسَكارَى وحُبارَى: البَليغُ الفَصيحُ، يَبْلُغُ بِعِبارَتِهِ كُنْهَ ضَميره، بَلُغَ ككَرُمَ.

والبَلاغُ، كسَحابٍ: الكِفايَةُ،

والاسمُ من الإِبْلاغِ والتبليغِ، وهما: الإِيصالُ. وفي الحديثِ: "كلُّ رافِعَةٍ رَفَعَتْ علينا مِن البَلاغِ"، أي: ما بَلَغَ من القرآنِ والسُّنَنِ، أو المَعْنَى من ذَوِي البَلاغِ، أي: التَّبْليغِ، أقامَ الاسمَ مُقامَ المَصْدَرِ، ويُرْوَى بالكسر، أي: من المُبالِغِينَ في التَّبْليغِ،

من بالَغَ مُبالَغَةً وبِلاغًا: إذا اجْتَهَدَ ولم يُقَصِّر.

والبَالِغاءُ: الأَكارِعُ، مُعَرَّبُ "بايْهَا".

والبَلاغاتُ: الوِشاياتُ.

والبُلْغَةُ، بالضم: ما يُتَبَلَّغُ به مِنَ العَيْشِ.

والبِلَغِينُ، في قولِ عائشةَ، رضي اللهُ تعالى عنها، لِعَلِيٍّ، رضي الله تعالى عنه: بَلَغْتَ مِنَّا البِلَغِينَ، ويضم أوّلُهُ: الداهِيَةُ، أرَادَتْ: بَلَغْتَ مِنَّا كلَّ مَبْلَغٍ، وقد يُجْرَى إعرابُهُ على النونِ، والياءُ يُقَرُّ بِحَالِهِ، أو تُفْتَحُ النونُ ويُعْرَبُ ما قَبْلَهُ.

وبَلَّغَ الفارِسُ تَبْليغًا: مَدَّ يَدَهُ بِعِنانِ فَرَسِهِ لِيَزيدَ في جَرْيِهِ.

وتَبَلَّغَ بكذا: اكتَفَى به،

وـ المَنزِلَ: تَكَلَّفَ إليه البُلوغَ حتى بَلَغَ،

وـ به العلَّةُ: اشْتَدَّتْ.

وبالَغَ في أمري: لم يُقَصِّرْ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


3-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الإباضية-الفرق العقائدية في الإسلام)

الإباضية

التعريف:

الإباضية إحدى فرق الخوارج، وتنسب إلى مؤسسها عبد الله بن إباض التميمي، ويدعي أصحابها أنهم ليسوا خوارج وينفون عن أنفسهم هذه النسبة، والحقيقة أنهم ليسوا من غلاة الخوارج كالأزارقة مثلًا، لكنهم يتفقون مع الخوارج في مسائل عديدة منها: أن عبد الله بن إباض يعتبر نفسه امتدادًا للمحكمة الأولى من الخوارج، كما يتفقون مع الخوارج في تعطيل الصفات والقول بخلق القرآن وتجويز الخروج على أئمة الجور.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

مؤسسها الأول عبد الله بن إباض من بني مرة بن عبيد بن تميم، ويرجع نسبه إلى إباض وهي قرية العارض باليمامة، وعبد الله عاصر معاوية وتوفي في أواخر أيام عبد الملك بن مروان.

·يذكر الإباضية أن أبرز شخصياتهم جابر بن زيد (22ـ93ه‍) الذي يعد من أوائل المشتغلين بتدوين الحديث آخذًا العلم عن عبد الله بن عباس وعائشة و أنس بن مالك وعبد الله بن عمر وغيرهم من كبار الصحابة. مع أن جابرًا قد تبرأ منهم. (انظر تهذيب التهذيب 2/38).

أبو عبيدة مسلمة بن أبي كريمة: من أشهر تلاميذ جابر بن زيد، وقد أصبح مرجع الإباضية بعده مشتهرًا بلقب القفاف توفي في ولاية أبي جعفر المنصور 158هـ‍.

الربيع بن حبيب الفراهيدي الذي عاش في منتصف القرن الثاني للهجرة وينسبون له مسندًا خاصًا به مسند الربيع بن حبيب وهو مطبوع ومتداول.

من أئمتهم في الشمال الإفريقي أيام الدولة العباسية: الإمام الحارث بن تليد، ثم أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري، ثم أبو حاتم يعقوب بن حبيب ثم حاتم الملزوزي.

ومنهم الأئمة الذين تعاقبوا على الدولة الرستمية في تاهرت بالمغرب: عبد الرحمن، عبد الوهاب، أفلح، أبو بكر، أبو اليقظان، أبو حاتم.

من علمائهم:

سلمة بن سعد: قام بنشر مذهبهم في أفريقيا في أوائل القرن الثاني.

ـ ابن مقطير الجناوني: تلقى علومه في البصرة وعاد إلى موطنه في جبل نفوسه بليبيا ليسهم في نشر المذهب الإباضي.

ـ عبد الجبار بن قيس المرادي: كان قاضيًا أيام إمامهم الحارث بن تليد.

ـ السمح أبو طالب: من علمائهم في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، كان وزيرًا للإمام عبد الوهاب بن رستم ثم عاملًا له على جبل نفوسه ونواحيه بليبيا.

ـ أبو ذر أبان بن وسيم: من علمائهم في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة، وكان عاملًا للإمام أفلح بن عبد الوهاب على حيز طرابلس.

الأفكار والمعتقدات:

يظهر من خلال كتبهم تعطيل الصفات الإلهية، وهم يلتقون إلى حد بعيد مع المعتزلة في تأويل الصفات، ولكنهم يدعون أنهم ينطلقون في ذلك من منطلق عقدي، حيث يذهبون إلى تأويل الصفة تأويلًا مجازيًا بما يفيد المعنى دون أن يؤدي ذلك إلى التشبيه، ولكن كلمة الحق في هذا الصدد تبقى دائمًا مع أهل السنة والجماعة المتبعين للدليل، من حيث إثبات الأسماء والصفات العليا لله تعالى كما أثبتها لنفسه، بلا تعطيل ولا تكييف ولا تحريف ولا تمثيل.

ينكرون رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة؛ رغم ثبوتها في القرآن: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).

يؤولون بعض مسائل الآخرة تأويلًا مجازيًا كالميزان والصراط.

أفعال الإنسان خلق من الله واكتساب من الإنسان، وهم بذلك يقفون موقفًا وسطًا بين القدريَّة والجبرية.

صفات الله ليست زائدة على ذات الله ولكنها هي عين ذاته.

القرآن لديهم مخلوق، وقد وافقوا الخوارج في ذلك، يقول الأشعري "والخوارج جميعًا يقولون بخلق القرآن"، مقالات الإسلاميين 1/203 طـ 2 ـ 1389هـ/1969م.

مرتكب الكبيرة ـ عندهم ـ كافر كفر نعمة أو كفر نفاق.

الناس في نظرهم ثلاثة أصناف:

ـ مؤمنون أوفياء بإيمانهم.

ـ مشركون واضحون في شركهم.

ـ قوم أعلنوا كلمة التوحيد وأقروا بالإسلام لكنهم لم يلتزموا به سلوكًا وعبادة، فهم ليسوا مشركين لأنهم يقرون بالتوحيد، وهم كذلك ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم لا يلتزمون بما يقتضيه الإيمان، فهم إذن مع المسلمين في أحكام الدنيا لإقرارهم بالتوحيد وهم مع المشركين في أحكام الآخرة لعدم وفائهم بإيمانهم ولمخالفتهم ما يستلزمه التوحيد من عمل أو ترك.

للدار وحكمها عند محدثي الإباضية صور متعددة، ولكن محدثيهم يتفقون مع القدامى في أن دار مخالفيهم من أهل الإسلام هي دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي.

يعتقدون بأن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والخيل وكل ما فيه من قوة الحرب حلال وما سواه حرام.

مرتكب الكبيرة كافر ولا يمكن في حال معصيته وإصراره عليها أن يدخل الجنة إذا لم يتب منها، فإن الله لا يغفر الكبائر لمرتكبيها إلا إذا تابوا منها قبل الموت.

ـ الذي يرتكب كبيرة من الكبائر يطلقون عليه لفظة (كافر) زاعمين بأن هذا كفر نعمة أو كفر نفاق لا كفر ملة، بينما يطلق عليه أهل السنة والجماعة كلمة العصيان أو الفسوق، ومن مات على ذلك ـ في نظر أهل السنة ـ فهو في مشيئة الله، إن شاء غفر له بكرمه وإن شاء عذبه بعدله حتى يطهر من عصيانه ثم ينتقل إلى الجنة، أما الإباضية فيقولون بأن العاصي مخلد في النار. وهي بذلك تتفق مع بقية الخوارج والمعتزلة في تخليد العصاة في جهنم.

ينكرون الشفاعة لعصاة الموحدين؛ لأن العصاة ـ عندهم ـ مخلدون في النار فلا شفاعة لهم حتى يخرجوا من النار.

ينفون شرط القرشية في الإمام إذ أن كل مسلم صالح لها، إذا ما توفرت فيه الشروط، والإمام الذي ينحرف ينبغي خلعه وتولية غيره.

يتهجم بعضهم على أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعلى معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص رضي الله عنهم.

ـ الإمامة بالوصية باطلة في مذهبهم، ولا يكون اختيار الإمام إلا عن طريق البيعة، كما يجوز تعدد الأئمة في أكثر من مكان.

ـ لا يوجبون الخروج على الإمام الجائر ولا يمنعونه، وإنما يجيزونه، فإذا كانت الظروف مواتية والمضار فيه قليلة فإن هذا الجواز يميل إلى الوجوب، وإذا كانت الظروف غير مواتية والمضار المتوقعة كثيرة والنتائج غير مؤكدة فإن هذا الجواز يميل إلى المنع. ومع كل هذا فإن الخروج لا يمنع في أي حال، والشراء (أي الكتمان) مرغوب فيه على جميع الأحوال ما دام الحاكم ظالما.

- لا يجوز لديهم أن يدعو شخص لآخر بخير الجنة وما يتعلق بها إلا إذا كان مسلمًا موفيًا بدينه مستحقًا الولاية بسبب طاعته، أما الدعاء بخير الدنيا وبما يحول الإنسان من أهل الدنيا إلى أهل الآخرة فهو جائز لكل أحد من المسلمين تقاة وعصاة.

لديهم نظام اسمه (حلقة العزابة) وهي هيئة محدودة العدد تمثل خيرة أهل البلد علمًا وصلاحًا وتقوم بالإشراف الكامل على شؤون المجتمع الإباضي الدينية والتعليمية والإجتماعية والسياسية، كما تمثل مجلس الشورى في زمن الظهور الدفاع، أما في زمن الشراء والكتمان فإنها تقوم بعمل الإمام وتمثله في مهامه.

ـ لديهم منظمة اسمها (ايروان) تمثل المجلس الاستشاري المساعد للعزابة وهي القوة الثانية في البلد بعدها.

ـ يشكلون من بينهم لجانًا تقوم على جمع الزكاة وتوزيعها على الفقراء، كما تمنع منعًا باتًا طلب الزكاة أو الاستجداء وما إلى ذلك من صور انتظار العطاء.

ـ انشق عن الإباضية عدد من الفرق التي اندثرت وهي:

ـ الحفصية: أصحاب حفص بن أبي المقدام.

ـ الحارثية: أصحاب الحارث الإباضي.

ـ اليزيدية: أصحاب يزيد بن أنيسة. الذي زعم أن الله سيبعث رسولًا من العجم، وينـزل عليه كتابًا من السماء، ومن ثم ترك شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد تبرأ سائر الإباضية من أفكارهم وكفروهم لشططهم وابتعادهم عن الخط الإباضي الأصلي، الذي ما يزال إلى يومنا هذا.

الجذور الفكرية والعقائدية:

الإباضيون يعتمدون في السنة على ما يسمونه (مسند الربيع بن حبيب) - وهو مسند غير ثابت كما بين ذلك العلماء المحققون -.

ولقد تأثروا بمذهب أهل الظاهر، إذا أنهم يقفون عند بعض النصوص الدينية موقفًا حرفيًّا ويفسرونها تفسيرًا ظاهريًا.

وتأثروا كذلك بالمعتزلة في قولهم بخلق القرآن.

·يعتبر كتاب النيل وشفاء العليل ـ الذي شرحه الشيخ محمد بن يوسف إطْفَيِّش المتوفى سنة 1332ه‍ ـ من أشهر مراجعهم. جمع فيه فقه المذهب الإباضي وعقائده.

الانتشار ومواقع النفوذ:

كانت لهم صولة وجولة في جنوبي الجزيرة العربية حتى وصلوا إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، أما في الشمال الإفريقي فقد انتشر مذهبهم بين البربر وكانت لهم دولة عرفت باسم الدولة الرستمية وعاصمتها تاهرت.

حكموا الشمال الإفريقي حكمًا متصلًا مستقلًا زهاء مائة وثلاثين سنة حتى أزالهم الرافضة (العبيديون).

قامت للإباضية دولة مستقلة في عُمان وتعاقب على الحكم فيها إلى العصر الحديث أئمة إباضيون.

من حواضرهم التاريخية جبل نفوسة بليبيا، إذ كان معقلًا لهم ينشرون منه المذهب الإباضي، ومنه يديرون شؤون الفرقة الإباضية.

ما يزال لهم وجود إلى وقتنا الحاضر في كل من عُمان بنسبة مرتفعة وليبيا وتونس والجزائر وفي واحات الصحراء الغربية وفي زنجبار التي ضُمت إلى تانجانيقا تحت اسم تنـزانيا.

ويتضح مما تقدم:

الإباضية إحدى فرق الخوارج، وتنسب إلى مؤسسها عبد الله بن إباض التميمي، ويدعي أصحابها أنهم ليسوا خوارج وينفون عنهم هذه النسبة، والحقيقة أنهم ليسوا من غلاة الخوارج كالأزارقة مثلًا، لكنهم يتفقون مع الخوارج في مسائل عديدة منها: أن عبد الله بن إباض يعتبر نفسه امتدادًا للمحكمة الأولى من الخوارج، كما يتفقون مع الخوارج في تعطيل الصفات والقول بخلق القرآن، وتجويز الخروج على أئمة الجور.

المعتزلة

التعريف:

المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

اختلفت رؤية العلماء في ظهور الاعتزال، واتجهت هذه الرؤية وجهتين:

ـ الوجهة الأولى: أن الاعتزال حصل نتيجة النقاش في مسائل عقدية دينية كالحكم على مرتكب الكبيرة، والحديث في القدر، بمعنى هل يقدر العبد على فعله أو لا يقدر، ومن رأي أصحاب هذا الاتجاه أن اسم المعتزلة أطلق عليهم لعدة أسباب:

1 ـ أنهم اعتزلوا المسلمين بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين

2 ـ أنهم عرفوا بالمعتزلة بعد أن اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري وشكل حقلة خاصة به لقوله بالمنزلة بين المنزلتين فقال الحسن: "اعتزلنا واصل".

3 ـ أو أنهم قالوا بوجوب اعتزال مرتكب الكبيرة ومقاطعته.

ـ والوجهة الثانية: أن الاعتزال نشأ بسبب سياسي حيث أن المعتزلة من شيعة علي رضي الله عنه اعتزلوا الحسن عندما تنازل لمعاوية، أو أنهم وقفوا موقف الحياد بين شيعة علي ومعاوية فاعتزلوا الفريقين.

أما القاضي عبد الجبار الهمذاني ـ مؤرخ المعتزلة ـ فيزعم أن الاعتزال ليس مذهبًا جديدًا أو فرقة طارئة أو طائفة أو أمرًا مستحدثًا، وإنما هو استمرار لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وقد لحقهم هذا الاسم بسبب اعتزالهم الشر لقوله تعالى: (وأعتزلكم وما تدعون) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من اعتزل الشر سقط في الخير).

والواقع أن نشأة الاعتزال كان ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية والعقائد اليهودية والنصرانية لما سنرى في فقرة (الجذور الفكرية والعقائدية).

قبل بروز المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء، كان هناك جدل ديني فكري بدأ بمقولات جدلية كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي وهذه المقولات نوجزها مع أصحابها بما يلي:

ـ مقولة أن الإنسان حر مختار بشكل مطلق، وهو الذي يخلق أفعاله بنفسه قالها: معبد الجهني، الذي خرج على عبد الملك بن مروان مع عبد الرحمن بن الأشعث.. وقد قتله الحجاج عام 80هـ بعد فشل الحركة.

ـ وكذلك قالها غيلان الدمشقي في عهد عمر بن عبد العزيز وقتله هشام بن عبد الملك.

ـ ومقولة خلق القرآن ونفي الصفات، قالها الجهم بن صفوان، وقد قتله سلم بن أحوز في مرو عام 128هـ.

ـ وممن قال بنفي الصفات أيضًا: الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري والي الكوفة.

ثم برزت المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الغزال (80هـ ـ 131هـ) الذي كان تلميذًا للحسن البصري، ثم اعتزل حلقة الحسن بعد قوله بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين (أي ليس مؤمنًا ولا كافرًا) وأنه مخلد في النار إذا لم يتب قبل الموت، وقد عاش في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك، والفرقة المعتزلية التي تنسب إليه تسمى: الواصيلة.

ولاعتماد المعتزلة على العقل في فهم العقائد وتقصيهم لمسائل جزئية فقد انقسموا إلى طوائف مع اتفاقهم على المبادئ الرئيسة الخمسة ـ التي سنذكرها لاحقًا ـ وكل طائفة من هذه الطوائف جاءت ببدع جديدة تميزها عن الطائفة الأخرى.. وسمت نفسها باسم صاحبها الذي أخذت عنه.

وفي العهد العباسي برز المعتزلة في عهد المأمون حيث اعتنق الاعتزال عن طريق بشر المريسي وثمامة بن أشرس وأحمد بن أبي دؤاد وهو أحد رؤوس بدعة الاعتزال في عصره ورأس فتنة خلق القرآن، وكان قاضيًا للقضاة في عهد المعتصم.

ـ في فتنة خلق القرآن امتحن الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الرضوخ لأوامر المأمون والإقرار بهذه البدعة، فسجن وعذب وضرب بالسياط في عهد المعتصم بعد وفاة المأمون وبقي في السجن لمدة عامين ونصف ثم أعيد إلى منزله وبقي فيه طيلة خلافة المعتصم ثم ابنه الواثق.

ـ لما تولى المتوكل الخلافة عام 232هـ انتصر لأهل السنة وأكرم الإمام أحمد وأنهى عهد سيطرة المعتزلة على الحكم ومحاولة فرض عقائدهم بالقوة خلال أربعة عشر عامًا.

في عهد دولة بني بويه عام 334 هـ في بلاد فارس ـ وكانت دولة شيعية ـ توطدت العلاقة بين الشيعة والمعتزلة وارتفع شأن الاعتزال أكثر في ظل هذه الدولة فعين القاضي عبد الجبار رأس المعتزلة في عصره قاضيًا لقضاء الري عام 360هـ بأمر من الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي، وهو من الروافض المعتزلة، يقول فيه الذهبي: " وكان شيعيًّا معتزليًّا مبتدعًا " ويقول المقريزي: " إن مذهب الاعتزال فشا تحت ظل الدولة البويهية في العراق وخراسان وما وراء النهر ". وممن برز في هذا العهد: الشريف المرتضى الذي قال عنه الذهبي: " وكان من الأذكياء والأولياء المتبحرين في الكلام والاعتزال والأدب والشعر لكنه إمامي جلد ".

بعد ذلك كاد أن ينتهي الاعتزال كفكر مستقل إلا ما تبنته منه بعض الفرق كالشيعة وغيرهم.

عاد فكر الاعتزال من جديد في الوقت الحاضر، على يد بعض الكتاب والمفكرين، الذين يمثلون المدرسة العقلانية الجديدة وهذا ما سنبسطه عند الحديث عن فكر الاعتزال الحديث.

ومن أبرز مفكري المعتزلة منذ تأسيسها على يد واصل بن عطاء وحتى اندثارها وتحللها في المذاهب الأخرى كالشيعة والأشعرية والماتريدية ما يلي:

ـ أبو الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف (135 ـ226 هـ) مولى عبد القيس وشيخ المعتزلة والمناظر عنها. أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء، طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة، فقد تأثر بأرسطو وأنبادقليس من فلاسفة اليونان، وقال بأن " الله عالم بعلم وعلمه ذاته، وقادر بقدرة وقدرته ذاته … " انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 76. وتسمى طائفة الهذيلية.

ـ إبراهيم بن يسار بن هانئ النظام (توفي سنة 231هـ) وكان في الأصل على دين البراهمة وقد تأثر أيضًا بالفلسفة اليونانية مثل بقية المعتزلة.. وقال: بأن المتولدات من أفعال الله تعالى، وتسمى طائفته النظامية.

ـ بشر بن المعتمر (توفي سنة 226 هـ) وهو من علماء المعتزلة، وهو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه فقال: إن كل المتولدات من فعل الإنسان فهو يصح أن يفعل الألوان والطعوم والرؤية والروائح وتسمى طائفته البشرية.

ـ معمر بن عباد السلمي (توفي سنة 220 هـ) وهو من أعظم القدرية فرية في تدقيق القول بنفي الصفات ونفي القدر خيره وشره من الله وتسمى طائفته: المعمرية.

ـ عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار (توفي سنة 226هـ) وكان يقال له: راهب المعتزلة، وقد عرف عنه التوسع في التكفير حتى كفر الأمة بأسرها بما فيها المعتزلة، وتسمى طائفته المردارية.

ـ ثمامة بن أشرس النميري (توفي سنة 213هـ)، كان جامعًا بين قلة الدين وخلاعة النفس، مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة. وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين. وكان زعيم القدرية في زمان المأمون والمعتصم والواثق وقيل إنه الذي أغرى المأمون ودعاه إلى الاعتزال، وتسمى طائفته الثمامية.

ـ عمرو بن بحر: أبو عثمان الجاحظ (توفي سنة 256هـ) وهو من كبار كتاب المعتزلة، ومن المطلعين على كتب الفلاسفة، ونظرًا لبلاغته في الكتابة الأدبية استطاع أن يدس أفكاره المعتزلية في كتاباته كما يدس السم في الدسم مثل، البيان والتبيين، وتسمى فرقته الجاحظية.

ـ أبو الحسين بن أبي عمر الخياط (توفي سنة 300هـ) من معتزلة بغداد و بدعته التي تفرد بها قوله بأن المعدوم جسم، والشيء المعدوم قبل وجوده جسم، وهو تصريح بقدم العالم، وهو بهذا يخالف جميع المعتزلة وتسمى فرقته الخياطية.

ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني (توفي سنة 414هـ) فهو من متأخري المعتزلة، قاضي قضاة الري وأعمالها، وأعظم شيوخ المعتزلة في عصره، وقد أرخ للمعتزلة وقنن مبادئهم وأصولهم الفكرية والعقدية.

المبادئ والأفكار:

جاءت المعتزلة في بدايتها بفكرتين مبتدعتين:

ـ الأولى: القول بأن الإنسان مختار بشكل مطلق في كل ما يفعل، فهو يخلق أفعاله بنفسه، ولذلك كان التكليف، ومن أبرز من قال ذلك غيلان الدمشقي، الذي أخذ يدعو إلى مقولته هذه في عهد عمر بن عبد العزيز. حتى عهد هشام بن عبد الملك، فكانت نهايته أن قتله هشام بسبب ذلك.

ـ الثانية: القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا ولا كافرًا ولكنه فاسق فهو بمنزلة بين المنزلتين، هذه حاله في الدنيا أما في الآخرة فهو لا يدخل الجنة لأنه لم يعمل بعمل أهل الجنة بل هو خالد مخلد في النار، ولا مانع عندهم من تسميته مسلمًا باعتباره يظهر الإسلام وينطق بالشهادتين ولكنه لا يسمى مؤمنًا.

ثم حرر المعتزلة مذهبهم في خمسة أصول:

1 ـ التوحيد.

2 ـ العدل.

3 ـ الوعد والوعيد.

4 ـ المنزلة بين المنزلتين.

5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

1 ـ التوحيد: وخلاصته برأيهم، هو أن الله تعالى منزه عن الشبيه والمماثل (ليس كمثله شيء) ولا ينازعه أحد في سلطانه ولا يجري عليه شيء مما يجري على الناس. وهذا حق ولكنهم بنوا عليه نتائج باطلة منها: استحالة رؤية الله تعالى لاقتضاء ذلك نفي الصفات، وأن الصفات ليست شيئًا غير الذات، وإلا تعدد القدماء في نظرهم، لذلك يعدون من نفاة الصفات وبنوا على ذلك أيضاَ أن القرآن مخلوق لله سبحانه وتعالى لنفيهم عنه سبحانه صفة الكلام.

2 ـ العدل: ومعناه برأيهم أن الله لا يخلق أفعال العباد، ولا يحب الفساد، بل إن العباد يفعلون ما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركبها فيهم وأنه لم يأمر إلا بما أراد ولم ينه إلا عما كره، وأنه ولي كل حسنة أمر بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم ما لا يطيقون ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه. وذلك لخلطهم بين إرادة الله تعالى الكونية وإرادته الشرعية.

3 ـ الوعد والوعيد: ويعني أن يجازي الله المحسن إحسانًا ويجازي المسيء سوءًا، ولا يغفر لمرتكب الكبيرة إلا أن يتوب.

4 ـ المنزلة بين المنزلتين: وتعني أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر فليس بمؤمن ولا كافر. وقد قرر هذا واصل بن عطاء شيخ المعتزلة.

5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فقد قرروا وجوب ذلك على المؤمنين نشرًا لدعوة الإسلام وهداية للضالين وإرشادًا للغاوين كل بما يستطيع: فذو البيان ببيانه، والعالم بعلمه، وذو السيف بسيفه وهكذا. ومن حقيقة هذا الأصل أنهم يقولون بوجوب الخروج على الحاكم إذا خالف وانحرف عن الحق.

ومن مبادئ المعتزلة الاعتماد على العقل كليًّا في الاستدلال لعقائدهم وكان من آثار اعتمادهم على العقل في معرفة حقائق الأشياء وإدراك العقائد، أنهم كانوا يحكمون بحسن الأشياء وقبحها عقلًا فقالوا كما جاء في الملل والنحل للشهرستاني: " المعارف كلها معقولة بالفعل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع أي قبل إرسال الرسل، والحسن والقبيح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح ".

ـ ولاعتمادهم على العقل أيضًا أوَّلوا الصفات بما يلائم عقولهم الكلية، كصفات الاستواء واليد والعين وكذلك صفات المحبة والرضى والغضب والسخط ومن المعلوم أن المعتزلة تنفي كل الصفات لا أكثرها.

ـ ولاعتمادهم على العقل أيضًا، طعن كبراؤهم في أكابر الصحابة وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب، فقد زعم واصل بن عطاء: أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة، إما طائفة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصاري أو طائفة عائشة والزبير، وردوا شهادة هؤلاء الصحابة فقالوا: لا تقبل شهادتهم.

ـ وسبب اختلاف المعتزلة فيما بينهم وتعدد طوائفهم هو اعتمادهم على العقل فقط ـ كما نوهنا ـ وإعراضهم عن النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة، ورفضهم الإتباع بدون بحث واستقصاء وقاعدتهم التي يستندون إليها في ذلك:

كل مكلف مطالب بما يؤديه إليه اجتهاده في أصول الدين، فيكفي وفق مذهبهم أن يختلف التلميذ مع شيخه في مسألة ليكون هذا التلميذ صاحب فرقة قائمة، وما هذه الفرق التي عددناها آنفًا إلا نتيجة اختلاف تلاميذ مع شيوخهم، فأبو الهذيل العلاف له فرقة، خالفه تلميذه النظام فكانت له فرقة، فخالفه تلميذه الجاحظ فكانت له فرقة، والجبائي له فرقة، فخالفه ابنه أبو هاشم عبد السلام فكانت له فرقة أيضاَ وهكذا.

ـ وهكذا نجد أن المعتزلة قد حولوا الدين إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية، وذلك لتأثرهم بالفلسفة اليونانية عامة وبالمنطق الصوري الأوسطي خاصة.

وقد فند علماء الإسلام آراء المعتزلة في عصرهم، فمنهم أبو الحسن الأشعري الذي كان منهم، ثم خرج من فرقتهم ورد عليهم متبعًا أسلوبهم في الجدال والحوار.. ثم جاء الإمام أحمد بن حنبل الذي اكتوى بنار فتنتهم المتعلقة بخلق القرآن ووقف في وجه هذه الفتنة بحزم وشجاعة نادرتين.

ـ ومن الردود قوية الحجة، بارعة الأسلوب، رد شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عليهم في كتابه القيم: درء تعارض العقل والنقل فقد تتبع آراءهم وأفكارهم واحدة واحدة ورد عليها ردًّا مفحمًا.. وبين أن صريح العقل لا يكمن أن يكون مخالفًا لصحيح النقل.

وقد ذُكر في هذا الحديث أكثر من مرة أن المعتزلة اعتمدوا على العقل في تعاملهم مع نصوص الموحي، وقد يتوهم أحد أن الإسلام ضد العقل ويسعى للحجر عليه. ولكن هذا يرده دعوة الإسلام إلى التفكر في خلق السموات والأرض والتركيز على استعمال العقل في اكتشاف الخير والشر وغير ذلك مما هو معروف ومشهور مما دعا العقاد إلى أن يؤلف كتابًا بعنوان: التفكر فريضة إسلامية، ولهذا فإن من انحرافات المعتزلة هو استعمالهم العقل في غير مجاله: في أمور غيبية مما تقع خارج الحس ولا يمكن محاكمتها محاكمة عقلية صحيحة، كما أنهم بنوا عددًا من القضايا على مقدمات معينة فكانت النتائج ليست صحيحة على إطلاقها وهو أمر لا يسلّم به دائمًا حتى لو اتبعت نفس الأساليب التي استعملوها في الاستنباط والنظر العقلي: مثل نفيهم الصفات عن الله اعتمادًا على قوله تعالى: (ليس كمثله شيء). وكان الصحيح أن لا تنفى عنه الصفات التي أثبتها لنفسه سبحانه وتعالى ولكن تفهم الآية على أن صفاته سبحانه وتعالى لا تماثل صفات المخلوقين.

وقد حدد العلماء مجال استعمال العقل بعدد من الضوابط منها:

ـ أن لا يتعارض مع النصوص الصحيحة.

ـ أن لا يكون استعمال العقل في القضايا الغيبية التي يعتبر الوحي هو المصدر الصحيح والوحيد لمعرفتها.

ـ أن يقدم النقل على العقل في الأمور التي لم تتضح حكمتها " وهو ما يعرف بالأمور التوقيفية".

ولا شك أن احترام الإسلام للعقل وتشجيعه للنظر والفكر لا يقدمه على النصوص الشرعية الصحيحة. خاصة أن العقول متغيرة وتختلف وتتأثر بمؤثرات كثيرة تجعلها لا تصلح لأن تكون الحكم المطلق في كل الأمور. ومن المعروف أن مصدر المعرفة في الفكر الإسلامي يتكون من:

1 ـ الحواس وما يقع في مجالها من الأمور الملموسة من الموجودات.

2 ـ العقل وما يستطيع أن يصل إليه من خلال ما تسعفه به الحواس والمعلومات التي يمكن مشاهدتها واختبارها وما يلحق ذلك من عمليات عقلية تعتمد في جملتها على ثقافة الفرد ومجتمعه وغير ذلك من المؤثرات.

3 ـ الوحي من كتاب وسنة حيث هو المصدر الوحيد والصحيح للأمور الغيبية، وما لا تستطيع أن تدركه الحواس، وما أعده الله في الدار الآخرة، وما أرسل من الرسل إلخ …

وهكذا يظهر أنه لا بد من تكامل العقل والنقل في التعامل مع النصوص الشرعية كل فيما يخصه وبالشروط التي حددها العلماء.

الجذور الفكرية والعقائدية:

هناك رواية ترجع الفكر المعتزلي في نفي الصفات إلى أصول يهودية فلسفية فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي.

وقيل: إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية ـ وهي فرقة هندية تؤمن بالتناسخ ـ قد أدت إلى تشكيكه في دينه وابتداعه لنفي الصفات.

إن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تعد موردًا من موارد الفكر الاعتزالي، إذ أنه كان يقول بالأصلح ونفي الصفات الأزلية حرية الإرادة الإنسانية.

ـ ونفي القدر عند المعتزلة الذي ظهر على يد الجهني وغيلان الدمشقي، قيل إنهما أخذاه عن نصراني يدعى أبو يونس سنسويه وقد أخذ عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء فكرة نفي القدر عن معبد الجهني.

ـ تأثر المعتزلة بفلاسفة اليونان في موضوع الذات والصفات، فمن ذلك قول أنبادقليس الفيلسوف اليوناني: "إن الباري تعالى لم يزل هويته فقط وهو العلم المحض وهو الإرادة المحضة وهو الجود والعزة، والقدرة والعدل والخير والحق، لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء بل هي هو، وهو هذه كلها" انظر الملل والنحل ج 2/ ص58.

وكذلك قول أرسطوطاليس في بعض كتبه "إن الباري علم كله، قدره كله، حياة كله، بصر كله".

فأخذ العلاف وهو من شيوخ المعتزله هذه الأفكار وقال: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته، حي بحياة وحياته ذاته.

ـ وأخذ النظام من ملاحدة الفلاسفة قوله بإبطال الجزء الذي لا يتجرأ، ثم بنى عليه قوله بالطفرة، أي أن الجسم يمكن أن يكون في مكان (أ) ثم يصبح في مكان (ج) دون أن يمر في (ب).

وهذا من عجائبه حتى قيل: إن من عجائب الدنيا: " طفرة النظام وكسب الأشعري ".

ـ وإن أحمد بن خابط والفضل الحدثي وهما من أصحاب النظام قد طالعا كتب الفلاسفة ومزجا الفكر الفلسفي مع الفكر النصراني مع الفكر الهندي وقالا بما يلي:

1 ـ إن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة.

2 ـ إن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة المتجسدة.

3 ـ القول بالتناسخ.

4 ـ حملا كل ما ورد في الخبر عن رؤية الله تعالى على رؤية العقل الأول هو أول مبتدع وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات.

يؤكد العلماء تأثير الفلسفة اليونانية على فكر المعتزلة بما قام به الجاحظ وهو من مصنفي المعتزلة ومفكريهم فقد طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة وتمذهب بمذهبهم ـ حتى إنه خلط وروج كثيرًا من مقالاتهم بعبارته البليغة.

ـ ومنهم من يرجع فكر المعتزلة إلى الجذور الفكرية والعقدية في العراق ـ حيث نشأ المعتزلة ـ الذي يسكنه عدة فرق تنتهي إلى طوائف مختلفة، فبعضهم ينتهي إلى الكلدان وبعضهم إلى الفرس وبعضهم نصارى وبعضهم يهود وبعضهم مجوس. وقد دخل هؤلاء في الإسلام وبعضهم قد فهمه على ضوء معلوماته القديمة وخلفيته الثقافية والدينية.

الفكر الاعتزالي الحديث:

يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد.. فألبسوه ثوبًا جديدًا، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل … العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي..

ـ وقد قوّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل الإنساني.. فلجأوا إلى التأويل كما لجأت المعتزلة من قبل ثم أخذوا يتلمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات المادية.. وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل.. إلا من هذا القبيل.

وأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو ذاك الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر.

وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي.. محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة.. مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد، والحدود، وغير ذلك.. فضلًا عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات، والطلاق والإرث.. إلخ.. وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله.. وتحكيم العقل في هذه المواضيع. ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر.

ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة و المرأة الجديدة، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه: " أستاذ الجيل " وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي " وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا. هذا في البلاد العربية.

أما في القارة الهندية فظهر السير أحمد خان، الذي منح لقب سير من قبل الاستعمار البريطاني. وهو يرى أن القرآن الكريم لا السنة النبوية هو أساس التشريع وأحلّ الربا البسيط في المعاملات التجارية. ورفض عقوبة الرجم والحرابة، ونفى شرعية الجهاد لنشر الدين، وهذا الأخير قال به لإرضاء الإنجليز لأنهم عانوا كثيرًا من جهاد المسلمين الهنود لهم.

ـ وجاء تلميذه سيد أمير علي الذي أحلّ زواج المسلمة بالكتابي وأحل الاختلاط بين الرجل والمرأة.

ـ ومن هؤلاء أيضًا مفكرون علمانيون، لم يعرف عنهم الالتزام بالإسلام.. مثل زكي نجيب محمود صاحب (الوضعية المنطقية) وهي من الفلسفة الوضعية الحديثة التي تنكر كل أمر غيبي.. فهو يزعم أن الاعتزال جزء من التراث ويجب أن نحييه، وعلى أبناء العصر أن يقفوا موقف المعتزلة من المشكلات القائمة (انظر كتاب تجديد الفكر العربي ص 123).

ـ ومن هؤلاء أحمد أمين صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية مثل فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام، فهو يتباكى على موت المعتزلة في التاريخ القديم وكأن من مصلحة الإسلام بقاؤهم، ويقول في كتابه: ضحى الإسلام: " في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة " (ج3 ص207).

ـ ومن المعاصرين الأحياء الذين يسيرون في ركب الدعوة الإسلامية من ينادي بالمنهج العقلي الاعتزالي في تطوير العقيدة والشريعة مثل الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابه الفكر الإسلامي والتطور.. والدكتور حسن الترابي في دعوته إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: " إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير، وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهادًا في الفروع وحدها وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضًا " (انظر كتاب المعتزلة بين القديم والحديث ص 138).

ـ وهناك كتاب كثيرون معاصرون، ومفكرون إسلاميون يسيرون على المنهج نفسه ويدعون إلى أن يكون للعقل دور كبير في الاجتهاد وتطويره، وتقييم الأحكام الشرعية، وحتى الحوادث التاريخية.. ومن هؤلاء فهمي هويدي ومحمد عمارة ـ صاحب النصيب الأكبر في إحياء تراث المعتزلة والدفاع عنه ـ وخالد محمد خالد و محمد سليم العوا، وغيرهم. ولا شك بأهمية الاجتهاد وتحكيم العقل في التعامل مع الشريعة الإسلامية ولكن ينبغي أن يكون ذلك في إطار نصوصها الثابتة وبدوافع ذاتية وليس نتيجة ضغوط أجنبية وتأثيرات خارجية لا تقف عند حد، وإذا انجرف المسلمون في هذا الاتجاه ـ اتجاه ترويض الإسلام بمستجدات الحياة والتأثير الأجنبي بدلًا من ترويض كل ذلك لمنهج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ فستصبح النتيجة أن لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من الشريعة إلا رسمها ويحصل للإسلام ما حصل للرسالات السابقة التي حرفت بسبب إتباع الأهواء والآراء حتى أصبحت لا تمت إلى أصولها بأي صلة.

ويتضح مما سبق:

أن حركة المعتزلة كانت نتيجة لتفاعل بعض المفكرين المسلمين في العصور الإسلامية مع الفلسفات السائدة في المجتمعات التي اتصل بها المسلمون. وكانت هذه الحركة نوع من ردة الفعل التي حاولت أن تعرض الإسلام وتصوغ مقولاته العقائدية والفكرية بنفس الأفكار والمناهج الوافدة وذلك دفاعًا ع الإسلام ضد ملاحدة تلك الحضارات بالأسلوب الذي يفهمونه. ولكن هذا التوجه قاد إلى مخالفات كثيرة وتجاوزات مرفوضة كما فعل المعتزلة في إنكار الصفات الإلهية تنزيهًا لله سبحانه عن مشابهة المخلوقين.

ومن الواضح أيضًا أن أتباع المعتزلة الجدد وقعوا فيما وقع فيه أسلافهم، وذلك أن ما يعرضون الآن من اجتهادات إنما الهدف منها أن يظهر الإسلام بالمظهر المقبول عند أتباع الحضارة الغربية والدفاع عن نظامه العام قولًا بأنه إنْ لم يكن أحسن من معطيات الحضارة الغربية فهو ليس بأقل منها.

ولذا فلا بد أن يتعلم الخلف من أخطاء سلفهم ويعلموا أن عزة الإسلام وظهوره على الدين كله هي في تميز منهجه وتفرد شريعته واعتباره المرجع الذي تقاس عليه الفلسفات والحضارات في الإطار الذي يمثله الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح في شمولهما وكمالهما.

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


4-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (البلاغة)

البلاغة:

البلاغة الانتهاء والوصول، يقال: بلغ الشيء يبلغ بلوغا وبلاغا: وصل وانتهى، وتبلغ بالشيء وصل الى مراده، والبلاغ: ما يتبلغ به ويتوصل الى الشيء المطلوب. والبلاغة: الفصاحة، ورجل بليغ: حسن الكلام فصيحه يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه. وقد بلغ بلاغة: صار بليغا.

ولعل أول ما تردد من معنى البلاغة في سؤال معاوية بن أبي سفيان لصحار ابن عياش، فقد قال له: «ما هذه البلاغة التي فيكم؟» قال: «شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا». وقال له معاوية: «ما تعدّون البلاغة فيكم؟» قال: «الايجاز». قال له معاوية: «وما الايجاز؟» قال: «أن تجيب فلا تبطيء وتقول فلا تخطىء».

وفي كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ تعريفات كثيرة للبلاغة عند العرب وغيرهم وفسرها عمرو بن عبيد في أول الأمر تفسيرا دينيا ثم قال: «فكأنك تريد تخير اللفظ في حسن الافهام: وقال: «إنّك اذا أوتيت تقرير حجة الله في عقول المكلفين وتخفيف المؤونة على المستمعين وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالالفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند الاذهان رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسّنّة كنت قد أوتيت فصل الخطاب واستحققت على الله جزيل الثواب».

وقال الاصمعي عن البليغ إنّه «من طبق المفصل وأغناك عن المفسر».

وقال العتابي إنّ «كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ، فإن أردت اللسان الذي يروق الألسنة ويفوق كل خطيب فاظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل في صورة الحق».

واكتفى الجاحظ بذكر قول بعضهم وهو من أحسن ما اجتباه ودوّنه: «لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظة ولفظه معناه فلا يكون لفظه الى سمعك أسبق من معناه الى قلبك».

وقال المبرد: «إنّ حق البلاغة إحاطة القول بالمعنى واختيار الكلام وحسن النظم حتى تكون الكلمة مقارنة أختها ومعاضدة شكلها وأن يقرب بها البعيد ويحذف منها الفضول».

وقال العسكري: «البلاغة من قولهم: بلغت الغاية إذا انتهيت اليها وبلغتها غيري ومبلغ الشيء منتهاه.

والمبالغة في الشيء الانتهاء الى غايته فسميت البلاغة بلاغة لأنّها تنهي المعنى الى قلب السامع فيفهمه وسميت البلغة بلغة لانك تتبلغ بها فتنتهي بك الى ما فوقها وهي البلاغ أيضا». وأبدى رأيه في تعريفها وحدّها بقوله: «البلاغة كل ما تبلغ به قلب السامع فتمكنه في نفسه كتمكنه في نفسك، مع صورة مقبولة ومعرض حسن». والبلاغة عنده من صفة الكلام لا من صفة المتكلم ولذلك لا يجوز أن يسمى الله ـ سبحانه ـ بليغا إذ لا يصح أن يوصف بصفة موضوعها الكلام.

ولم يعرّف الخفاجي البلاغة تعريفا دقيقا واكتفى بالاشارة الى اضطراب القوم في حدّها، وفرّق بينها وبين الفصاحة فقال: «والفرق بين الفصاحة والبلاغة أنّ الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لا تكون إلا وصفا للالفاظ مع المعاني. لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها فصيحة، وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغا».

ولم يعرّفها عبد القاهر، والفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان عنده بمعنى واحد لأنّه يعبر بها عن «فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد، وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم».

ولم تأخذ البلاغة دلالتها المعروفة عند الرازي وهي عنده. «بلوغ الرجل بعبارته كنه ما في قلبه مع الاحتراز المخل والاطالة المملة».

وقال ابن الاثير إنّ الكلام يسمّى بليغا لأنّه بلغ الأوصاف اللفظية والمعنوية، والبلاغة شاملة للالفاظ والمعاني وهي أخص من الفصاحة كالانسان من الحيوان فكل إنسان حيوان وليس كل حيوان إنسانا، وكذلك يقال: «كل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغا» وفرّق بينها وبين الفصاحة من وجه آخر غير الخاص والعام، وهي أنّها لا تكون إلا في اللفظ والمعنى بشرط التركيب، فان اللفظة المفردة لا تنعت بالبلاغة وتنعت بالفصاحة إذ يوجد فيها الوصف المختص بالفصاحة وهو الحسن وأما وصف البلاغة فلا يوجد فيها لخلوها من المعنى المفيد الذي ينتظم كلاما».

وحينما قسّم السكاكي البلاغة ووضع معالمها في كتابه «مفتاح العلوم» عرّفها تعريفا دقيقا فقال: «هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدّا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها وايراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها».

وبهذا التعريف أدخل مباحث علم المعاني وعلم البيان وأخرج مباحث البديع لأنّه وجوه يؤتي بها لتحسين الكلام وهي ليست من مرجعي البلاغة.

وللبلاغة طرفان: أعلى وأسفل متباينان تباينا لا يتراءى لأحد ناراهما، وبينهما مراتب متفاوتة تكاد تفوت الحصر، فمن الأسفل تبتديء البلاغة وهو القدر الذي إذا نقص منه شيء التحق ذلك الكلام بأصوات الحيوانات ثم تأخذ في التزايد متصاعدة الى أن تبلغ حد الاعجاز، وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه.

وكان القزويني آخر من وقف عند البلاغة من المتأخرين وميّز بين بلاغة الكلام وبلاغة المتكلم فقال عن الأولى: «وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته» ومقتضى الحال مختلف ومقامات الكلام متفاوتة فمقام التنكير يباين مقام التعريف، ومقام الاطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الايجاز يباين مقام الاطناب والمساواة، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام، وتطبيق الكلام على مقتضى الحال هو الذي يسميه عبد القاهر النظم. وقال عن الثانية: «وأمّا بلاغة المتكلم فهي ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ».

وقال إنّ كل بليغ ـ كلاما كان أم متكلما ـ فصيح، وليس كل فصيح بليغا، وإنّ البلاغة في الكلام مرجعها الى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، والى تمييز الكلام الفصيح من غيره.

وقسّم البلاغة الى ثلاثة أقسام فكان ما يحترز به عن الخطأ علم المعاني، وما يحترز به عن التعقيد المعنوي علم البيان، وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته علم البديع. فالبلاغة عنده ثلاثة أقسام: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع.

ولم يخرج المتأخرون عن هذا التعريف والتقسيم واصبح مصطلح البلاغة يضم هذه العلوم الثلاثة.

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


5-موسوعة الفقه الكويتية (إقرار 1)

إِقْرَارٌ -1

التَّعْرِيفُ

1- مِنْ مَعَانِي الْإِقْرَارِ فِي اللُّغَةِ: الِاعْتِرَافُ.يُقَالُ: أَقَرَّ بِالْحَقِّ إِذَا اعْتَرَفَ بِهِ.وَأَقَرَّ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ فِي الْمَكَانِ: أَثْبَتَهُ وَجَعَلَهُ يَسْتَقِرُّ فِيهِ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، الْإِقْرَارُ: هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَهَذَا تَعْرِيفُ الْجُمْهُورِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْشَاءٌ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ.

وَالْإِقْرَارُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ هُوَ: عَدَمُ الْإِنْكَارِ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ صَدَرَ أَمَامَهُ.وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَقْرِير)، وَالْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاعْتِرَافُ:

2- الِاعْتِرَافُ لُغَةً: مُرَادِفٌ لِلْإِقْرَارِ.يُقَالُ: اعْتَرَفَ بِالشَّيْءِ: إِذَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ.وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.

يَقُولُ قَاضِي زَادَهْ: رُوِيَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- « رَجَمَ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا، وَالْغَامِدِيَّةَ بِاعْتِرَافِهَا »، « وَقَالَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ».فَأَثْبَتَ الْحَدَّ بِالِاعْتِرَافِ.فَالِاعْتِرَافُ إِقْرَارٌ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْمُرَادِفِ.

ب- الْإِنْكَارُ:

3- الْإِنْكَارُ: ضِدُّ الْإِقْرَارِ.يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: أَنْكَرْتُ حَقَّهُ: إِذَا جَحَدْتُهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (ر: مُصْطَلَحَ: إِنْكَار).

وَالْمُنْكِرُ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَنْ يَتَمَسَّكُ بِبَقَاءِ الْأَصْلِ.

ج- الدَّعْوَى:

4- الدَّعْوَى فِي الِاصْطِلَاحِ: مُبَايِنَةٌ لِلْإِقْرَارِ، فَهِيَ قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَلَ الْغَيْرِ، أَوْ دَفْعُ الْخَصْمِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ.

د- الشَّهَادَةُ:

5- الشَّهَادَةُ هِيَ: الْإِخْبَارُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لِإِثْبَاتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ.

فَيَجْمَعُ كُلًّا مِنَ الْإِقْرَارِ وَالدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ أَنَّهَا إِخْبَارَاتٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الْإِخْبَارَ إِنْ كَانَ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ عَلَى الْمُخْبِرِ وَيَقْتَصِرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ فَإِقْرَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ: فَإِمَّا أَلاَّ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ فِيهِ نَفْعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ نَفْعٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لَهُ، فَهُوَ الدَّعْوَى.

كَمَا تَفْتَرِقُ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ يَصِحُّ بِالْمُبْهَمِ وَيَلْزَمُ تَعْيِينُهُ.

أَمَّا الدَّعْوَى بِالْمُبْهَمِ فَإِنْ كَانَتْ بِمَا يَصِحُّ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مُبْهَمًا كَالْوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ.

وَأَمَّا الدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُبْهَمِ فَلَا تَصِحُّ، وَلَا تُسْمَعُ.

وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْمُبْهَمِ فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ يَصِحُّ مُبْهَمًا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ بِهِ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَإِلاَّ لَمْ تَصِحَّ، لَا سِيَّمَا الشَّهَادَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ بِدُونِ دَعْوَى.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- الْأَصْل فِي الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ الْوُجُوبُ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ الثَّابِتِ لِئَلاَّ تَضِيعَ الْأَنْسَابُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « قَالَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ: أَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَضَحَهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ »

وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْغَيْرِ إِذَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لِإِثْبَاتِهِ، لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّةِ الْإِقْرَارِ:

7- ثَبَتَتْ حُجِّيَّةُ الْإِقْرَارِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} أَمَرَهُ بِالْإِمْلَالِ، فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ إِقْرَارَهُ لَمَّا كَانَ لِإِمْلَالِهِ مَعْنًى.

وقوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} أَيْ شَاهِدٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- « رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارِهِمَا »، فَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَالْمَالُ أَوْلَى أَنْ يَجِبَ.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ، حَتَّى أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ بِإِقْرَارِهِ، وَالْمَالُ أَوْلَى.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، فَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الصِّدْقِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَكَمَالِ الْوِلَايَةِ.

أَثَرُ الْإِقْرَارِ:

8- أَثَرُ الْإِقْرَارِ ظُهُورُ مَا أَقَرَّ بِهِ، أَيْ ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي الْمَاضِي، لَا إِنْشَاءُ الْحَقِّ ابْتِدَاءً، فَلَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ كَاذِبٌ فِي إِقْرَارِهِ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الْمَالِ عَنْ كُرْهٍ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِيَّاهُ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَيَكُونَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ: حُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ.

حُجِّيَّةُ الْإِقْرَارِ:

9- الْإِقْرَارُ خَبَرٌ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِهِ، وَلَكِنَّهُ جُعِلَ حُجَّةً لِظُهُورِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ، إِذِ الْمُقِرُّ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ يَلْزَمُ قَبُولُهُ بِلَا خِلَافٍ.

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ لِثُبُوتِ الْحَقِّ بِهِ إِلَى الْقَضَاءِ، فَهُوَ أَقْوَى مَا يُحْكَمُ بِهِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَيِّنَةِ.وَلِهَذَا يَبْدَأُ الْحَاكِمُ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ قَبْلَ السُّؤَالِ عَنِ الشَّهَادَةِ.قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ لِلْمُدَّعِي ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حُكِمَ بِالْإِقْرَارِ وَبَطَلَتِ الشَّهَادَةُ.وَلِذَا قِيلَ: إِنَّهُ سَيِّدُ الْحُجَجِ.

عَلَى أَنَّ حُجِّيَّتَهُ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَحْدَهُ لِقُصُورِ وِلَايَةِ الْمُقِرِّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ.فَلَا يَصِحُّ إِلْزَامُ أَحَدٍ بِعُقُوبَةٍ نَتِيجَةَ إِقْرَارِ آخَرَ بِأَنَّهُ شَارَكَهُ فِي جَرِيمَتِهِ.وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-.فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ « رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى بِامْرَأَةٍ- سَمَّاهَا- فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَرْأَةِ فَدَعَاهَا فَسَأَلَهَا عَمَّا قَالَ، فَأَنْكَرَتْ فَحَدَّهُ وَتَرَكَهَا ».

غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ حَالَاتٍ لَا بُدَّ فِيهَا لِلْحُكْمِ بِمُقْتَضَى الْإِقْرَارِ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَيْضًا.وَهَذَا إِذَا مَا طَلَبَ تَعَدِّيَ الْحُكْمِ إِلَى الْغَيْرِ.فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى مَدِينِ الْمَيِّتِ أَنَّهُ وَصِيُّهُ فِي التَّرِكَةِ، وَصَدَّقَهُ الْمَدِينُ فِي دَعْوَى الْوِصَايَةِ وَالدَّيْنِ، فَإِنَّ الْوِصَايَةَ لَا تَثْبُتُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ بِالنِّسْبَةِ لِمَدِينٍ آخَرَ يُنْكِرُ الْوِصَايَةَ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ.

وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: أَحَدُ الْوَرَثَةِ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ الْمُدَّعَى بِهِ عَلَى مُورَثِهِ، وَجَحَدَهُ الْبَاقُونَ، يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ كُلُّهُ إِنْ وَفَّتْ حِصَّتُهُ مِنَ الْمِيرَاثِ بِهِ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ إِلاَّ حِصَّتُهُ مِنَ الدَّيْنِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَقَرَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ التَّرِكَةِ.

وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، وَلَوْ شَهِدَ هَذَا الْمُقِرُّ مَعَ آخَرَ أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَخُصُّهُ.

وَبِهَذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الدَّيْنُ فِي نَصِيبِهِ بِمُجَرَّدِ إِقْرَارِهِ، بَلْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ.يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ أَقَرَّ مَنْ عِنْدَهُ الْعَيْنُ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِقَبْضِهَا لَا يَكْفِي إِقْرَارُهُ، وَيُكَلَّفُ الْوَكِيلُ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ قَبْضُ ذَلِكَ.

ثُمَّ الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ فِي النَّسَبِ، وَيَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ إِلاَّ إِذَا كَذَّبَهُ الْوَاقِعُ، كَأَنْ يُقِرَّ بِنَسَبِ مَنْ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ.

سَبَبُ الْإِقْرَارِ:

10- سَبَبُ الْإِقْرَارِ كَمَا يَقُولُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: إِرَادَةُ إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ بِإِخْبَارِهِ وَإِعْلَامِهِ، لِئَلاَّ يَبْقَى فِي تَبَعَةِ الْوَاجِبِ.

رُكْنُ الْإِقْرَارِ:

11- أَرْكَانُ الْإِقْرَارِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعَةٌ: مُقِرٌّ، وَمُقَرٌّ لَهُ، وَمُقَرٌّ بِهِ، وَصِيغَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّكْنَ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا لَا يَتِمُّ الشَّيْءُ إِلاَّ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ جُزْءًا مِنْهُ أَمْ لَازِمًا لَهُ.وَزَادَ بَعْضُهُمْ كَمَا يَقُولُ الرَّمْلِيُّ: الْمُقَرُّ عِنْدَهُ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ شَاهِدٍ، وَقَالَ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مَحَلُّ نَظَرٍ، إِذْ لَوْ تَوَقَّفَ تَحَقُّقُ الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ خَالِيًا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ شَاهِدٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَامَ قَاضٍ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي يَوْمِ كَذَا، لَمْ يُعْتَدَّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ، لِعَدَمِ وُجُودِ هَذَا الرُّكْنِ الزَّائِدِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلِذَا فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ.

وَأَمَّا رُكْنُ الْإِقْرَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، صَرَاحَةً كَانَتْ أَوْ دَلَالَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّكْنَ عِنْدَهُمْ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّتِهِ.

الْمُقِرُّ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ:

الْمُقِرُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْإِخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَتُشْتَرَطُ فِيهِ أُمُورٌ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْمَعْلُومِيَّةُ.

12- أَوَّلُ مَا يُشْتَرَطُ لِاعْتِبَارِ الْإِقْرَارِ وَالْأَخْذِ بِهِ أَنْ Bيَكُونَ الْمُقِرُّ مَعْلُومًا حَتَّى لَوْ قَالَ رَجُلَانِ: لِفُلَانٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَا يَتَمَكَّنُ الْمُقَرُّ لَهُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا: غَصَبَ وَاحِدٌ مِنَّا، أَوْ زَنَا، أَوْ سَرَقَ، أَوْ شَرِبَ، أَوْ قَذَفَ، لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَيُجْبَرَانِ عَلَى الْبَيَانِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْلُ:

13- وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُقِرِّ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا.فَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالنَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ.

إِقْرَارُ الْمَعْتُوهِ:

14- لَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَعْتُوهِ وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، فَلَا يَلْتَزِمُ بِشَيْءٍ فِيهِ ضَرَرٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالْمَالِ، لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ: كَالدُّيُونِ، وَالْوَدَائِعِ، وَالْعَوَارِيِّ، وَالْمُضَارَبَاتِ، وَالْغُصُوبِ، فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ.لِالْتِحَاقِهِ فِي حَقِّهَا بِالْبَالِغِ الْعَامِلِ.بِخِلَافِ مَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ: كَالْمَهْرِ، وَالْجِنَايَةِ، وَالْكَفَالَةِ، حَيْثُ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِهَا لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ.

إِقْرَارُ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ:

15- النَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إِقْرَارُهُمَا كَإِقْرَارِ الْمَجْنُونِ، Cلِأَنَّهُمَا حَالَ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ، وَهُمَا شَرْطَانِ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ.

إِقْرَارُ السَّكْرَانِ:

16- السَّكْرَانُ مَنْ فَقَدَ عَقْلَهُ بِشُرْبِ مَا يُسْكِرُ، وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ جَائِزٌ بِالْحُقُوقِ كُلِّهَا إِلاَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ، وَالرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي ثَوْرٍ إِذَا كَانَ سُكْرُهُ بِطَرِيقٍ مَحْظُورٍ، لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْخِطَابَ، إِلاَّ إِذَا أَقَرَّ بِمَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ كَالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ السَّكْرَانَ يَكَادُ لَا يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ فَأُقِيمَ السُّكْرُ مَقَامَهُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.

وَإِنْ سَكِرَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، كَمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ مُكْرَهًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَكَذَا مَنْ شَرِبَ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْكِرٌ فَسَكِرَ بِذَلِكَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ السَّكْرَانَ لَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا إِلاَّ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ.وَكَمَا لَا يَلْزَمُهُ إِقْرَارُهُ- لَا تَلْزَمُهُ الْعُقُودُ، بِخِلَافِ جِنَايَاتِهِ فَإِنَّهَا تَلْزَمُهُ.

وَقَالَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ: إِقْرَارُ السَّكْرَانِ صَحِيحٌ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي كُلِّ مَا أَقَرَّ بِهِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الِاعْتِدَاءُ فِيهَا عَلَى حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ، لِأَنَّ Bالْمُتَعَدِّيَ بِسُكْرِهِ يَجِبُ أَنْ يَتَحَمَّلَ نَتِيجَةَ عَمَلِهِ، تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَجَزَاءً لِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُذْهِبُ عَقْلَهُ.

17- أَمَّا مَنْ تَغَيَّبَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ فَلَا يُلْزَمُ بِإِقْرَارِهِ، سَوَاءٌ أَقَرَّ بِمَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ خَالِصًا أَوْ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ أَيْضًا.

وَكَذَا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُ السَّكْرَانِ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ ابْنُ مُنَجَّا: إِنَّهَا الْمَذْهَبُ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ.وَجَاءَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِي أَقْوَالِ السَّكْرَانِ وَأَفْعَالِهِ خَمْسَ رِوَايَاتٍ أَوْ سِتَّةً، وَأَنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِعِبَارَتِهِ.

إِقْرَارُ السَّفِيهِ:

18- السَّفِيهُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالْمَالِ، لِأَنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَإِنَّمَا قُبِلَ الْإِقْرَارُ مِنَ الْمَأْذُونِ لِلضَّرُورَةِ.

وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا أَوْ ذَا غَفْلَةٍ وَحُجِرَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَوِ اعْتُبِرَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الْمَالِيَّةِ الضَّارَّةِ يَأْخُذُ حُكْمَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ وَأَقَرَّ بِأَنَّ الْمَهْرَ الَّذِي قَرَّرَهُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ، وَهَكَذَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَرُدُّ كُلَّ تَصَرُّفَاتِهِ الْمَالِيَّةِ الضَّارَّةِ.

وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ وَلَا يَكُونُ تِلْقَائِيًّا بِسَبَبِ السَّفَهِ فَإِنَّ السَّفِيهَ الْمُهْمَلَ- أَيِ الَّذِي لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ- يَصِحُّ إِقْرَارُهُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِنِكَاحٍ، وَلَا بِدَيْنٍ أَسْنَدَ وُجُوبَهُ إِلَى مَا قَبْلَ الْحَجْرِ، أَوْ إِلَى مَا بَعْدَهُ، وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ فِي حَالِ الْحَجْرِ، وَكَذَا بِإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، أَوْ جِنَايَةٍ تُوجِبُ الْمَالَ فِي الْأَظْهَرِ.وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ يُقْبَلُ، لِأَنَّهُ إِذَا بَاشَرَ الْإِتْلَافَ يَضْمَنُ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ قُبِلَ إِقْرَارُهُ، وَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِمَا بِالْمَالِ، وَسَائِرُ الْعُقُوبَاتِ مِثْلُهُمَا لِبُعْدِ التُّهْمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْحَدُّ سَرِقَةً قُطِعَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ.

وَذَكَرَ الْأَدَمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ السَّفِيهَ إِنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ أَوْ قَوَدٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ طَلَاقٍ لَزِمَ- وَيُتْبَعُ بِهِ فِي الْحَالِ- وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ أُخِذَ بِهِ بَعْدَ رَفْعِ الْحَجْرِ عَنْهُ.

وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: صِحَّةُ إِقْرَارِ السَّفِيهِ بِالْمَالِ سَوَاءٌ لَزِمَهُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ لَا، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَهُوَ احْتِمَالٌ ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُقْنِعِ فِي بَابِ الْحَجْرِ، وَاخْتَارَهُ هُوَ وَالشَّارِحُ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ الْبُلُوغُ.

19- أَمَّا الْبُلُوغُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ إِقْرَارُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ، وَيَصِحُّ Bإِقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ دُونَ مَا زَادَ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِحَالٍ لِعُمُومِ الْخَبَرِ: « رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ » وَلِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ إِلاَّ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ.إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ.وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الصَّبِيِّ بِبُلُوغِهِ الِاحْتِلَامَ فِي وَقْتِ إِمْكَانِهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَا ادِّعَاءُ الصَّبِيَّةِ الْبُلُوغَ بِرُؤْيَةِ الْحَيْضِ.وَلَوِ ادَّعَى الْبُلُوغَ بِالسِّنِّ قُبِلَ بِبَيِّنَةٍ، وَقِيلَ: يُصَدَّقُ فِي سِنٍّ يُبْلَغُ فِي مِثْلِهَا، وَهِيَ تِسْعُ سِنِينَ، وَقِيلَ: عَشْرُ سِنِينَ، وَقِيلَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَيَلْزَمُهُ بِهَذَا الْبُلُوغِ مَا أَقَرَّ بِهِ.

وَأَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فِيمَنْ أَسْلَمَ أَبُوهُ، فَادَّعَى أَنَّهُ بَالِغٌ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَمْ يُقِرَّ بِالْبُلُوغِ إِلَى حِينِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ بِالْبُلُوغِ.وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بَعْدَ أَنِ ارْتَجَعَهَا، وَقَالَ: هَذَا يَجِيءُ فِي كُلِّ مَنْ أَقَرَّ Cبِالْبُلُوغِ بَعْدَ حَقٍّ ثَبَتَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ، مِثْلَ الْإِسْلَامِ، وَثُبُوتِ أَحْكَامِ الذِّمَّةِ تَبَعًا لِأَبِيهِ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: فَهْمُ الْمُقِرِّ لِمَا يُقِرُّ بِهِ.

20- لَا بُدَّ لِلُزُومِ الْإِقْرَارِ وَاعْتِبَارِهِ- أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ مَفْهُومَةً لِلْمُقِرِّ فَلَوْ لُقِّنَ الْعَامِّيُّ كَلِمَاتٍ عَرَبِيَّةً لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْرِفْ مَدْلُولَهَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ قَصْدُهَا، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ- غَيْرَ الْمُخَالِطِ لِلْفُقَهَاءِ- يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِمَدْلُولِ كَثِيرٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلَافِ الْمُخَالِطِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِيمَا لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ مَعْنَاهُ.وَبِالْأَوْلَى لَوْ أَقَرَّ الْعَرَبِيُّ بِالْعَجَمِيَّةِ أَوِ الْعَكْسِ وَقَالَ: لَمْ أَدْرِ مَا قُلْتُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّهُ أَدْرَى بِنَفْسِهِ، وَالظَّاهِرُ مَعَهُ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الِاخْتِيَارُ.

21- وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُقِرِّ الِاخْتِيَارُ، مَدْعَاةً لِلصِّدْقِ، فَيُؤَاخَذُ بِهِ الْمُكَلَّفُ بِلَا حَجْرٍ، أَيْ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ.فَإِذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ طَوَاعِيَةً بِحَقٍّ لَزِمَهُ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ بِمَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْتِزَامُهُ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ بِيَدِهِ وَوِلَايَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ، وَلَوْ عَلَى مُوَكِّلِهِ أَوْ مُورَثِهِ أَوْ مُوَلِّيهِ.

الشَّرْطُ السَّادِسُ: عَدَمُ التُّهْمَةِ.

22- وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فِي إِقْرَارِهِ، لِأَنَّ التُّهْمَةَ تُخِلُّ بِرُجْحَانِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي إِقْرَارِهِ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةٌ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وَالشَّهَادَةُ عَلَى نَفْسِهِ إِقْرَارٌ.وَالشَّهَادَةُ تَرِدُ بِالتُّهْمَةِ.وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَا لَوْ أَقَرَّ لِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ صَدَاقَةٌ أَوْ مُخَالَطَةٌ.

23- وَمِمَّنْ يُتَّهَمُ فِي إِقْرَارِهِ الْمَدِينُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، لِإِحَاطَةِ الدَّيْنِ بِمَالِهِ الَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُفْلِسِ.

بَلْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ- أَلاَّ يَكُونَ مُتَّهَمًا- إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ وَالصَّحِيحِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لِإِحَاطَةِ الدَّيْنِ بِمَالِهِ الَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْمُفْلِسَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فَلَّسَ فِيهِ مُتَّهَمٌ فِي إِقْرَارِهِ، فَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ لِأَحَدٍ، حَيْثُ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي فَلَّسَ فِيهِ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ عَلَى ضَيَاعِ مَالِ الْغُرَمَاءِ، وَلَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ، بَلْ هُوَ لَازِمٌ يُتْبَعُ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ الْمُقِرُّ فِيمَا يَجِدُّ لَهُ مِنْ مَالٍ فَقَطْ، وَلَا يُحَاصُّ الْمُقَرُّ لَهُ الْغُرَمَاءَ بِالدَّيْنِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْمُفْلِسُ.

وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُفْلِسَ إِذَا أَقَرَّ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بِبَيِّنَةٍ، يَبْدَأُ بِالدَّيْنِ الَّذِي بِالْبَيِّنَةِ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِتَرِكَتِهِ، فَوَجَبَ أَلاَّ يُشَارِكَ الْمُقَرُّ لَهُ مَنْ ثَبَتَ دَيْنُهُ بِبَيِّنَةٍ، كَغَرِيمِ الْمُفْلِسِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ، فَقَالُوا: لَوْ أَقَرَّ الْمُفْلِسُ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ وَجَبَ قَبْلَ الْحَجْرِ، فَالْأَظْهَرُ قَبُولُهُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ الظَّاهِرَةِ، وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، لِئَلاَّ يَضُرَّهُمْ بِالْمُزَاحَمَةِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا وَاطَأَ الْمُقَرَّ لَهُ.

وَإِنْ أَسْنَدَ وُجُوبَهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْحَجْرِ لَمْ يُقْبَلْ فِي حَقِّهِمْ، بَلْ يُطَالَبُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ.وَلَوْ لَمْ يُسْنِدْ وُجُوبَهُ إِلَى مَا قَبْلَ الْحَجْرِ وَلَا لِمَا بَعْدَهُ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ- عَلَى مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ- تَنْزِيلُهُ عَلَى الْأَقَلِّ، وَهُوَ جَعْلُهُ كَالْمُسْنَدِ إِلَى مَا بَعْدَ الْحَجْرِ.

إِقْرَارُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ:

24- وَمِمَّنْ يُتَّهَمُ فِي إِقْرَارِهِ: الْمَرِيضُ مَرَضَ مَوْتٍ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مَرَضِ الْمَوْتِ) وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ فِي الْجُمْلَةِ.

إِذِ الصِّحَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ، لِأَنَّ صِحَّةَ إِقْرَارِ الصَّحِيحِ بِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ، وَحَالُ الْمَرِيضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ، فَكَانَ إِقْرَارُهُ أَوْلَى Bبِالْقَبُولِ.غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي صِحَّتِهِ: بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، أَوِ الدَّيْنِ، أَوِ الْبَرَاءَاتِ، أَوْ قَبْضِ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ، فَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ جَائِزٌ، لَا تَلْحَقُهُ فِيهِ تُهْمَةٌ، وَلَا يُظَنُّ فِيهِ تَوْلِيجٌ، وَالْأَجْنَبِيُّ وَالْوَارِثُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَالْعَدُوُّ وَالصَّدِيقُ.

وَيَقُولُ الْحَطَّابُ: مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي صِحَّتِهِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ، قُدِّمَ الْمُقَرُّ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِقْرَارِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: هَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ، الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ.وَوَقَعَ فِي الْمَبْسُوطِ لِابْنِ كِنَانَةَ وَالْمَخْزُومِيِّ وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ فِي صِحَّتِهِ إِذَا لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَيِّنَةً حَتَّى هَلَكَ إِلاَّ أَنْ يُعْرَفَ سَبَبُ ذَلِكَ، فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ فَبِهَا وَإِلاَّ فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ سَبَبٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يُتَّهَمُ أَنْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ فِي صِحَّتِهِ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ عَلَى أَلاَّ يَقُومَ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ.وَقِيلَ: إِنَّهُ نَافِذٌ وَيُحَاصُّ بِهِ الْغُرَمَاءَ فِي الْفَلَسِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَا يُحَاصُّ بِهِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ إِنْ ثَبَتَ مَيْلُهُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْيَمِينِ، وَاخْتَارَ ابْنُ رُشْدٍ إِبْطَالَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ مُرَاعَاةً لِقَوْلِ الْمَدَنِيِّينَ.

وَعَلَى هَذَا فَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ مَرَضَ مَوْتٍ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصُ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إِقْرَارُهُ بِدَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ كُلِّ مَالِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ أَقَرَّ بِهَا فِي حَالِ صِحَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، Cوَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ إِبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ وَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى مِنَ الْوَرَثَةِ، لِقَوْلِ عُمَرَ: إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ، وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ.وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُمْ لَا يَصِحُّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِهِ لِغَيْرِ وَارِثٍ جَائِزٌ، وَحَكَى أَصْحَابُنَا رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَشْبَهَ الْإِقْرَارَ لِوَارِثٍ.وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ عَطِيَّةِ ذَلِكَ الْأَجْنَبِيِّ، كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ عَطِيَّةِ الْوَارِثِ، فَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِمَا لَا يُمْلَكُ عَطِيَّتُهُ بِخِلَافِ الثُّلُثِ فَمَا دُونَ.وَالْمَقْصُودُ بِالْأَجْنَبِيِّ هُنَا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَارِثٍ فِي الْمُقِرِّ فَيَشْمَلُ الْقَرِيبَ غَيْرَ الْوَارِثِ.وَيُصَرِّحُ الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ: إِنْ أَقَرَّ لِقَرِيبٍ غَيْرِ وَارِثٍ كَالْخَالِ أَوْ لِصِدِّيقٍ مُلَاطِفٍ أَوْ مَجْهُولٍ حَالُهُ- لَا يُدْرَى هَلْ هُوَ قَرِيبٌ أَمْ لَا- صَحَّ الْإِقْرَارُ إِنْ كَانَ لِذَلِكَ الْمُقِرِّ وَلَدٌ وَإِلاَّ فَلَا، وَقِيلَ: يَصِحُّ.

وَأَمَّا لَوْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ غَيْرِ صَدِيقٍ كَانَ الْإِقْرَارُ لَازِمًا Bكَانَ لَهُ وَلَدٌ أَمْ لَا.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِلْوَارِثِ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ.

وَأَمَّا إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ يَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:

إِنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي إِقْرَارِهِ كَأَنْ يُقِرَّ لِوَارِثٍ قَرِيبٍ مَعَ وُجُودِ الْأَبْعَدِ أَوِ الْمُسَاوِي، كَمَنْ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ عَمٍّ فَأَقَرَّ لِابْنَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ وَإِنْ أَقَرَّ لِابْنِ عَمِّهِ قُبِلَ، لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي أَنَّهُ يُزْرِي ابْنَتَهُ وَيُوَصِّلُ الْمَالَ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ.وَعِلَّةُ مَنْعِ الْإِقْرَارِ التُّهْمَةُ، فَاخْتَصَّ الْمَنْعُ بِمَوْضِعِهَا.

وَأَطَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَصْوِيرِ ذَلِكَ وَالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ.

وَقَالُوا: مَنْ مَرِضَ بَعْدَ الْإِشْهَادِ فِي صِحَّتِهِ لِبَعْضِ وَلَدِهِ فَلَا كَلَامَ لِبَقِيَّةِ أَوْلَادِهِ إِنْ كَتَبَ الْمُوَثِّقُ أَنَّ الصَّحِيحَ قَبَضَ مِنْ وَلَدِهِ ثَمَنَ مَا بَاعَهُ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ فَقِيلَ: يَحْلِفُ مُطْلَقًا.وَقِيلَ: يَحْلِفُ إِنِ اتُّهِمَ الْأَبُ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِ.

قَالَ الْمَوَّاقُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ.وَسُئِلَ الْمَازِرِيُّ عَمَّنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ Cاعْتَرَفَ بِدَنَانِيرَ لِمُعَيَّنٍ: فَأَجَابَ إِنِ اعْتَرَفَ فِي صِحَّتِهِ حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ يَمِينُ الْقَضَاءِ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلَا إِقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ » وَبِالْأَثَرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ غَيْرِ وَارِثٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ أَحَاطَ بِمَالِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ.وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ.وَلَمْ يُعْرَفْ لِابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ عَلَى الْوَارِثِ أَصْلًا، فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ.

وَفِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِأَنَّهَا لَا مَهْرَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا لَمْ يَصِحَّ، إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً أَنَّهَا أَخَذَتْهُ.

إِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالْإِبْرَاءِ:

25- إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ أَبْرَأَ فُلَانًا مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فِي صِحَّتِهِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِنْشَاءَ الْإِبْرَاءِ لِلْحَالِ، فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ إِنْشَاءَ الْقَبْضِ فَيَمْلِكُ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِالْإِقْرَارِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ إِذْ يَقُولُونَ: إِذَا أَبْرَأ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ أَحَدَ مَدْيُونَيْهِ، وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالدُّيُونِ، لَمْ يَنْفُذْ إِبْرَاؤُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ.بَيْنَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ: وَإِنْ أَبْرَأَ إِنْسَانٌ شَخْصًا مِمَّا قَبْلَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَ بَرِئَ مُطْلَقًا مِمَّا فِي الذِّمَّةِ وَغَيْرِهَا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا.وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ بِإِطْلَاقِهَا شَامِلَةٌ لِلْمَرِيضِ وَلِلصَّحِيحِ، وَشَامِلَةٌ لِلْإِبْرَاءِ مِنْ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَغَيْرِهِ.

الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُقَرُّ لَهُ، وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ:

الْمُقَرُّ لَهُ مَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ الْمُقَرُّ بِهِ، وَيَحِقُّ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ أَوِ الْعَفْوُ عَنْهُ

وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ مَا يَأْتِي:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَلاَّ يَكُونَ الْمُقَرُّ لَهُ مَجْهُولًا:

26- فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ Cيُطَالِبَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ حَمْلًا.كَأَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَلْفٌ لِفُلَانٍ، أَوْ عَلَيَّ أَلْفٌ لِحَمْلِ فُلَانَةَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْإِقْرَارِ لِلْحَمْلِ.أَوْ يَكُونُ مَجْهُولًا جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ، كَأَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ مَالٌ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةِ، أَوْ لِأَحَدِ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَكَانُوا مَحْصُورِينَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالنَّاطِفِيِّ وَخُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

الْإِقْرَارُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ:

27- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَهَالَةَ الْفَاحِشَةَ بِالْمُقَرِّ لَهُ لَا يَصِحُّ مَعَهَا الْإِقْرَارُ، لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا، إِذْ لَا يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى الْبَيَانِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ، فَلَا يُفِيدُ الْإِقْرَارُ شَيْئًا.

وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجَهَالَةُ غَيْرَ فَاحِشَةٍ بِأَنْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ لِأَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ الْعَشْرِ: أَوْ لِأَحَدِ أَهْلِ الْبَلَدِ وَكَانُوا مَحْصُورِينَ، فَهُنَاكَ اتِّجَاهَانِ:

الْأَوَّلُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ النَّاطِفِيُّ وَخُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ وُصُولَ الْحَقِّ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ بِتَحْلِيفِ الْمُقِرِّ لِكُلِّ مَنْ حَصَرَهُمْ، أَوْ بِتَذَكُّرِهِ، لِأَنَّ الْمُقِرَّ قَدْ يَنْسَى، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مُغْنِي ابْنِ قُدَامَةَ، لِأَنَّهُ مَثَّلَ بِالْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ.

وَالثَّانِي: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ: مِنْ أَنَّ أَيَّ جَهَالَةٍ تُبْطِلُ الْإِقْرَارَ، لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحَقًّا، وَلَا يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى الْبَيَانِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمُدَّعِي.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لِلْمُقِرِّ لَهُ أَهْلِيَّةُ اسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ بِهِ حِسًّا وَشَرْعًا:

28- فَلَوْ أَقَرَّ لِبَهِيمَةٍ أَوْ دَارٍ، بِأَنَّ لَهَا عَلَيْهِ أَلْفًا وَأَطْلَقَ لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ.

أَمَّا لَوْ ذَكَرَ سَبَبًا يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ كَذَا لِهَذِهِ الدَّابَّةِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا، أَوْ لِهَذِهِ الدَّارِ بِسَبَبِ غَصْبِهَا أَوْ إِجَارَتِهَا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ صَحِيحٌ، وَيَكُونُ الْإِقْرَارُ فِي الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَوِ الدَّارِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمِرْدَاوِيِّ، كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ، وَابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْفُرُوعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.لَكِنَّ جُمْهُورَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ وَقَعَ لِلدَّارِ وَلِلدَّابَّةِ، وَهُمَا لَيْسَتَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


6-موسوعة الفقه الكويتية (أهلية 2)

أَهْلِيَّةٌ -2

ثَالِثًا: النِّسْيَانُ:

29- النِّسْيَانُ فِي اللُّغَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الشَّيْءِ عَلَى ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ، وَهُوَ خِلَافُ التَّذَكُّرِ.

وَثَانِيهِمَا: التَّرْكُ عَنْ تَعَمُّدٍ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَدَمُ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.وَالنِّسْيَانُ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَلَا يُؤَثِّرُ أَيْضًا فِي أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ لِكَمَالِ الْعَقْلِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النِّسْيَانَ عُذْرٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْإِثْمِ وَعَدَمِهِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ»...

وَلِلنِّسْيَانِ أَحْكَامٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (نِسْيَانٍ).

رَابِعًا: النَّوْمُ:

30- النَّوْمُ: غَشْيَةٌ ثَقِيلَةٌ تَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ فَتَقْطَعُهُ عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَشْيَاءِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: فُتُورٌ يَعْرِضُ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ.

وَالنَّوْمُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ إِخْلَالِهِ بِالذِّمَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُوجِبُ تَأْخِيرَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِالْأَدَاءِ إِلَى حَالِ الْيَقِظَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ النَّوْمِ عَاجِزٌ عَنِ الْفَهْمِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا انْتَبَهَ مِنَ النَّوْمِ أَمْكَنَهُ الْفَهْمُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ النَّائِمَ مُطَالَبٌ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي أَثْنَاءِ نَوْمِهِ، وَأَمَّا عِبَارَاتُ النَّائِمِ مِنَ الْأَقَارِيرِ وَغَيْرِهَا فَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (نَوْمٍ).

خَامِسًا: الْإِغْمَاءُ:

31- الْإِغْمَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْخَفَاءُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: آفَةٌ فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ تُعَطِّلُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ وَالْحَرَكَةَ عَنْ أَفْعَالِهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ مَغْلُوبًا.

وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْمَرَضِ، وَلِذَا لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ النَّبِيُّ- عليه الصلاة والسلام-.

وَتَأْثِيرُ الْإِغْمَاءِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِ النَّوْمِ عَلَى النَّائِمِ، وَلِذَا اعْتُبِرَ فَوْقَ النَّوْمِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ، وَسَبَبُهُ شَيْءٌ لَطِيفٌ سَرِيعُ الزَّوَالِ، وَالْإِغْمَاءُ عَلَى خِلَافِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّنْبِيهَ وَالِانْتِبَاهَ مِنَ النَّوْمِ فِي غَايَةِ السُّرْعَةِ، وَأَمَّا التَّنْبِيهُ مِنَ الْإِغْمَاءِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ.

وَحُكْمُ الْإِغْمَاءِ فِي كَوْنِهِ عَارِضًا مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ حُكْمُ النَّوْمِ، فَلَزِمَهُ مَا لَزِمَ النَّوْمُ، وَلِكَوْنِهِ يَزِيدُ عَنْهُ جَعَلَهُ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (إِغْمَاءٍ).

سَادِسًا: الرِّقُّ:

32- الرِّقُّ فِي اللُّغَةِ بِكَسْرِ الرَّاءِ: الْعُبُودِيَّةُ.وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهُوَ: حَجْزٌ حُكْمِيٌّ عَنِ الْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَمِلْكِيَّةِ الْمَالِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِهَا.

هَذَا وَالْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالرَّقِيقِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (رِقٍّ).

سَابِعًا: الْمَرَضُ:

33- الْمَرَضُ فِي اللُّغَةِ: حَالَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ بِالْفِعْلِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ فَيُخْرِجُهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ الْخَاصِّ.

وَهُوَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفَاتِ، أَيْ ثُبُوتُهُ وَوُجُوبُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْعَقْلِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، فَيَصِحُّ مَا تَعَلَّقَ بِعِبَارَتِهِ مِنَ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبُ الْمَوْتِ بِتَرَادُفِ الْآلَامِ، وَأَنَّهُ- أَيِ الْمَوْتَ- عَجْزٌ خَالِصٌ، كَانَ الْمَرَضُ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ، فَشُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ مَعَهُ بِقَدْرِ الْمُكْنَةِ؛ لِئَلاَّ يَلْزَمَ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، فَيُصَلِّي قَاعِدًا إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ، وَمُضْطَجِعًا إِنْ عَجَزَ عَنْهُ، وَيُعْتَبَرُ الْمَرَضُ سَبَبًا لِلْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ حِفْظًا لِحَقِّ الْوَارِثِ وَحَقِّ الْغَرِيمِ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرَضَ الْمُمِيتَ هُوَ سَبَبُ الْحَجْرِ لَا نَفْسُ الْمَرَضِ.

هَذَا، وَتَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْمَرَضِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (مَرَضٍ)

ثَامِنًا: الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ:

34- الْحَيْضُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: السَّيَلَانُ، وَمِنْهُ الْحَوْضُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الدَّمُ الْخَارِجُ مِنَ الرَّحِمِ لَا لِوِلَادَةٍ وَلَا لِعِلَّةٍ.

وَأَمَّا النِّفَاسُ فَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْوِلَادَةُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِبَ فَرَاغِ الرَّحِمِ مِنَ الْحَمْلِ.

وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ لَا يُؤَثِّرَانِ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَلَا فِي أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُمَا اعْتُبِرَا مِنَ الْعَوَارِضِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْهُمَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ كُلِّ عِبَادَةٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الطَّهَارَةُ كَالصَّلَاةِ مَثَلًا.

وَتَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ مَحَلُّهُ (حَيْضٌ، وَنِفَاسٌ).

تَاسِعًا: الْمَوْتُ:

35- الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْتِ تَتَلَخَّصُ فِي أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ، وَالدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفُ حُكْمُهَا السُّقُوطُ إِلاَّ فِي حَقِّ الْمَأْتَمِ، أَوْ مَا شُرِعَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ لِحَاجَةِ غَيْرِهِ.

وَالْأُخْرَوِيَّةُ حُكْمُهَا الْبَقَاءُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاجِبَةً لَهُ عَلَى الْغَيْرِ، أَمْ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ، مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَظَالِمِ، أَوْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَوَابٍ بِوَاسِطَةِ الطَّاعَاتِ، أَوْ عِقَابٍ بِوَاسِطَةِ الْمَعَاصِي.

هَذَا، وَمَحَلُّ تَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُصْطَلَحُ (مَوْتٍ)

الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ:

36- الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ إِمَّا مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

أَوَّلًا: الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ الَّتِي مِنَ الْإِنْسَانِ هِيَ:

أ- الْجَهْلُ:

37- مَعْنَى الْجَهْلِ فِي اللُّغَةِ: خِلَافُ الْعِلْمِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَدَمُ الْعِلْمِ مِمَّنْ شَأْنُهُ الْعِلْمُ.

وَالْجَهْلُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَهْلِيَّةِ مُطْلَقًا، وَلَهُ أَقْسَامٌ بَعْضُهَا يَصْلُحُ عُذْرًا، وَبَعْضُهَا لَا يَصْلُحُ عُذْرًا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَهْلٍ) ب- السُّكْرُ:

38- مِنْ مَعَانِي السُّكْرِ: زَوَالُ الْعَقْلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَسْكَرَهُ الشَّرَابُ: أَيْ أَزَالَ عَقْلَهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ تَنَاوُلِ الْمُسْكِرِ، يَتَعَطَّلُ مَعَهَا عَقْلُهُ، فَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ.

وَالسُّكْرُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَخَاصَّةً إِنْ كَانَ طَرِيقُهُ مُحَرَّمًا، كَأَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُسْكِرَ مُخْتَارًا عَالِمًا بِأَنَّ مَا يَشْرَبُهُ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ.

وَخُلَاصَةُ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي السُّكْرِ هُوَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا الْمُسْكِرَ مُسْقِطًا لِلتَّكْلِيفِ وَلَا مُضَيِّعًا لِلْحُقُوقِ، وَلَا مُخَفِّفًا لِمِقْدَارِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَصْدُرُ مِنَ السَّكْرَانِ، لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ، وَالْجِنَايَةُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهَا صَاحِبُهَا.وَتَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالسُّكْرِ مَحَلُّهَا مُصْطَلَحُ: (سُكْرٍ).

ج- الْهَزْلُ:

39- الْهَزْلُ: ضِدُّ الْجِدِّ، أَوْ هُوَ اللَّعِبُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنْ هَزَلَ فِي كَلَامِهِ هَزْلًا: إِذَا مَزَحَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: أَلاَّ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ وَلَا الْمَجَازِيَّ، بَلْ يُرَادُ بِهِ غَيْرُهُمَا.

وَالْهَزْلُ لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْهَازِلِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (هَزْلٍ).

د- السَّفَهُ:

40- السَّفَهُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: خِفَّةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَبْعَثُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، مَعَ عَدَمِ الِاخْتِلَالِ فِي الْعَقْلِ.

وَإِنَّمَا كَانَ السَّفَهُ مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ بِاخْتِيَارِهِ يَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّفَهِ وَالْعَتَهِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمَعْتُوهَ يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، بِخِلَافِ السَّفِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ لَكِنْ تَعْتَرِيهِ خِفَّةٌ، فَيُتَابِعُ مُقْتَضَاهَا فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَرَوِيَّةٍ فِي عَوَاقِبِهَا؛ لِيَقِفَ عَلَى أَنَّ عَوَاقِبَهَا مَحْمُودَةٌ أَوْ مَذْمُومَةٌ.

وَالسَّفَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَهْلِيَّةِ بِقِسْمَيْهَا، وَلَا يُنَافِي شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالسَّفِيهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّرِيعَةَ رَاعَتْ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، فَقَرَّرَتْ أَنْ يُمْنَعَ السَّفِيهُ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ صِيَانَةً لَهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (سَفَهٍ).

هـ- السَّفَرُ:

41- السَّفَرُ- بِفَتْحَتَيْنِ- مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ لِلِارْتِحَالِ أَوْ لِقَصْدِ مَوْضِعٍ فَوْقَ مَسَافَةِ الْعَدْوَى؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يُسَمُّونَ مَسَافَةَ الْعَدْوَى سَفَرًا.

وَفِي الشَّرْعِ: الْخُرُوجُ بِقَصْدِ الْمَسِيرِ مِنْ مَحَلِّ الْإِقَامَةِ إِلَى مَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَمَا فَوْقَهَا بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ.عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.

وَالسَّفَرُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَهْلِيَّةِ بِقِسْمَيْهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مِنَ الْعَوَارِضِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ فِي الْعِبَادَاتِ، كَقَصْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَالْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (سَفَرٍ).

و- الْخَطَأُ:

42- الْخَطَأُ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ: مَا قَابَلَ الصَّوَابَ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ: مَا قَابَلَ الْعَمْدَ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ بِهِ فِي عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنَ الْإِنْسَانِ بِلَا قَصْدٍ إِلَيْهِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ سِوَاهُ.

وَالْخَطَأُ لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ بِنَوْعَيْهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مَوْجُودٌ مَعَهُ، وَالْجِنَايَةُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّثَبُّتِ، وَلِذَا يُؤَاخَذُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَلَا تُقَدَّرُ الْعُقُوبَةُ فِيهِ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا بِقَدْرِ عَدَمِ التَّثَبُّتِ الَّذِي أَدَّى إِلَى حُصُولِهَا.

وَالْخَطَأُ يُعْذَرُ بِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِذَا اجْتَهَدَ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَاعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْعُقُوبَةَ عَنِ الْمُخْطِئِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْخَطَأُ عُذْرًا فِيهَا، وَلِذَا فَإِنَّ الْمُخْطِئَ يَضْمَنُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى خَطَئِهِ مِنْ ضَرَرٍ أَوْ تَلَفٍ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (خَطَأٍ).

ثَانِيًا: الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ الَّتِي مِنْ غَيْرِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ:

43- وَهِيَ عَارِضٌ وَاحِدٌ فَقَطْ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ: وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْحَمْلُ عَلَى الْأَمْرِ قَهْرًا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى مَا لَا يَرْضَاهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَلَا يَخْتَارُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْ تُرِكَ وَنَفْسَهُ.

وَهُوَ مُعْدِمٌ لِلرِّضَى لَا لِلِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَصْدُرُ عَنِ الْمُكْرَهِ بِاخْتِيَارِهِ، لَكِنَّهُ قَدْ يَفْسُدُ الِاخْتِيَارُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَنِدًا إِلَى اخْتِيَارٍ آخَرَ، وَقَدْ لَا يُفْسِدُهُ بِأَنْ يَبْقَى الْفَاعِلُ مُسْتَقِلًّا فِي قَصْدِهِ.

هَذَا، وَالْإِكْرَاهُ سَوَاءٌ أَكَانَ مُلْجِئًا أَمْ غَيْرَ مُلْجِئٍ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ- أَوْ إِكْرَاهًا بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ- كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ- لَا يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لِبَقَاءِ الذِّمَّةِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ لِبَقَاءِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ عَدُّوهُ مِنَ الْعَوَارِضِ؛ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ، وَيُجْعَلُ الْمُكْرَهُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- فِي بَعْضِ صُوَرِهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ- بِكَسْرِ الرَّاءِ-

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (إِكْرَاهٍ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (رعاف)

رُعَافٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الرُّعَافُ لُغَةً: اسْمٌ مِنْ رَعَفَ رَعْفًا، وَهُوَ خُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الْأَنْفِ، وَقِيلَ: الرُّعَافُ الدَّمُ نَفْسُهُ، وَأَصْلُهُ السَّبْقُ وَالتَّقَدُّمُ، وَفَرَسٌ رَاعِفٌ أَيْ سَابِقٌ، وَسُمِّيَ الرُّعَافُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَسْبِقُ عِلْمَ الشَّخْصِ الرَّاعِفِ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرُّعَافِ:

انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِالرُّعَافِ:

2- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَدَمِ الْفَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ، وَالْقَيْءِ، وَالرُّعَافِ، سَوَاءٌ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- احْتَجَمَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ».وَبِهَذَا قَالَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَجَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الرُّعَافَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِلاَّ إِذَا كَانَ فَاحِشًا كَثِيرًا.أَمَّا كَوْنُ الْكَثِيرِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَلِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ: إِنَّمَا ذَلِكَ «عِرْقٌ، وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ.»

وَلِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنَ الْبَدَنِ أَشْبَهَتِ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلِ.وَأَمَّا كَوْنُ الْقَلِيلِ لَا يَنْقُضُ فَلِمَفْهُومِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدَّمِ إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.قَالَ أَحْمَدُ: عِدَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَابْنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ الدَّمُ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى عَصَرَ دُمَّلًا، وَذَكَرَ أَحْمَدُ غَيْرَهُمَا، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِسَيَلَانِ الدَّمِ عَنْ مَوْضِعِهِ أَنَّ الرُّعَافَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَكَذَا لَوْ نَزَلَ الدَّمُ مِنَ الرَّأْسِ إِلَى مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى الْأَرْنَبَةِ نَقَضَ الْوُضُوءَ.وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ»

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْوُجُوبُ.

كَمَا احْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ.»

وَنَقَلَ الْعَيْنِيُّ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ وَالْجَوَازُ، وَلَا جَوَازَ لِلْبِنَاءِ إِلاَّ بَعْدَ الِانْتِقَاضِ، فَدَلَّ بِعِبَارَتِهِ عَلَى الْبِنَاءِ وَعَلَى الِانْتِقَاضِ بِمُقْتَضَاهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَبَاحَ الِانْصِرَافَ، وَهُوَ لَا يُبَاحُ بَعْدَ الشُّرُوعِ إِلاَّ بِهِ.

هَذَا وَمَنْ يَرَى أَنَّ الرُّعَافَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَعْتَبِرُ الرُّعَافَ الدَّائِمَ عُذْرًا مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ الْعِبَادَةَ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ.

3- وَشَرْطُ اعْتِبَارِ الرُّعَافِ عُذْرًا ابْتِدَاءً عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ اسْتِمْرَارُهُ وَقْتَ الصَّلَاةِ كَامِلًا.بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ الرُّعَافُ وَاسْتَمَرَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَوَّلَ صَلَاةٍ إِلاَّ فِي آخِرِ وَقْتِهَا؛ لِعَدَمِ ثُبُوتِ حُكْمِ دَائِمِ الْحَدَثِ لَهُ، وَاحْتِمَالِ انْقِطَاعِهِ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ الْحَدَثُ إِلَى آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ دَائِمِ الْحَدَثِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَ الثَّانِيَةَ أَوْ مَا بَعْدَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا.

كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَمْضِيَ عَلَى الرَّاعِفِ وَقْتُ صَلَاةٍ إِلاَّ وَالرُّعَافُ فِيهِ مَوْجُودٌ، حَتَّى لَوِ انْقَطَعَ الرُّعَافُ وَقْتًا كَامِلًا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ عُذْرٍ مِنْ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ.

4- وَمَنْ بِهِ رُعَافٌ دَائِمٌ يَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَتَوَضَّأُ عِنْدَهُمْ.

وَيُنْتَقَضُ وُضُوءُ الرَّاعِفِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُنْتَقَضُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِأَيِّهِمَا كَانَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يَعْلَى.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ رَعَفَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ لآِخِرِ الْوَقْتِ الِاخْتِيَارِيِّ إِذَا كَانَ يَرْجُو انْقِطَاعَ الرُّعَافِ، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَأْخِيرِهِ، ثُمَّ إِنِ انْقَطَعَ فِي وَقْتِهِ لَيْسَتْ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ

بِنَاءُ الرَّاعِفِ عَلَى صَلَاتِهِ:

5- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الرُّعَافَ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَيَجُوزُ لِلرَّاعِفِ الْبِنَاءُ عَلَى صَلَاتِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ» وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- فَرَعَفَ فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ.

وَنَقَلَ الْبَاجِيُّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الرُّعَافَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الدَّمُ مِنَ الْخَبَثِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَهُ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ.فَمَنْ رَعَفَ فِي الصَّلَاةِ وَظَنَّ دَوَامَهُ لآِخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ تَمَادَى فِي صَلَاتِهِ وُجُوبًا عَلَى حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا، وَلَا فَائِدَةَ فِي الْقَطْعِ مَا لَمْ يَخْشَ مِنْ تَمَادِيهِ تَلَطُّخَ فُرُشِ الْمَسْجِدِ وَلَوْ خَشِيَهُ وَلَوْ بِقَطْرَةٍ قَطَعَ صَوْنًا لِلْمَسْجِدِ مِنَ النَّجَاسَةِ.وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ دَوَامَهُ لآِخِرِ الْمُخْتَارِ بَلْ ظَنَّ انْقِطَاعَهُ فِيهِ أَوْ شَكَّ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِلًا، أَوْ قَاطِرًا، أَوْ رَاشِحًا.

فَإِذَا كَانَ الدَّمُ سَائِلًا، أَوْ قَاطِرًا وَلَمْ يُلَطِّخْهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ فَتْلُهُ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالْقَطْعِ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْقَطْعَ، فَقَالَ: هُوَ أَوْلَى، وَهُوَ الْقِيَاسُ.

قَالَ زَرُّوقٌ: إِنَّ الْقَطْعَ أَنْسَبُ بِمَنْ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْعِلْمِ، وَاخْتَارَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ (الْمَالِكِيَّةُ) الْبِنَاءَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: هُمَا سِيَّانِ، وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ مَا يُفِيدُ وُجُوبَ الْبِنَاءِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّمُ رَاشِحًا بِأَنْ لَمْ يَسِلْ وَلَمْ يَقْطُرْ بَلْ لَوَّثَ طَاقَتَيِ الْأَنْفِ وَجَبَ تَمَادِي الرَّاعِفِ فِي الصَّلَاةِ وَفَتْلُ الدَّمِ إِنْ أَمْكَنَ بِأَنْ لَمْ يَكْثُرْ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ لِكَثْرَتِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ السَّائِلِ وَالْقَاطِرِ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْبِنَاءِ.

6- وَيَخْرُجُ مُرِيدُ الْبِنَاءِ لِغَسْلِ الدَّمِ حَالَ كَوْنِهِ مُمْسِكًا أَنْفَهُ مِنْ أَعْلَاهُ وَهُوَ مَارِنُهُ، لَا مِنْ أَسْفَلِهِ مِنَ الْوَتْرَةِ لِئَلاَّ يَبْقَى الدَّمُ فِي طَاقَتَيْ أَنْفِهِ، فَإِذَا غَسَلَهُ بَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ:

1- أَنْ لَا يَتَلَطَّخَ بِالدَّمِ بِمَا يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ.أَمَّا إِذَا تَلَطَّخَ بِمَا زَادَ عَلَى دِرْهَمٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَطْعُ الصَّلَاةِ وَيَبْتَدِئُهَا مِنْ أَوَّلِهَا بَعْدَ غَسْلِ الدَّمِ.

2- أَنْ لَا يُجَاوِزَ أَقْرَبَ مَكَانٍ مُمْكِنٍ لِغَسْلِ الدَّمِ فِيهِ، فَإِنْ جَاوَزَ الْأَقْرَبَ مَعَ الْإِمْكَانِ إِلَى أَبْعَدَ مِنْهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

3- أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ الَّذِي يَغْسِلُ الدَّمَ فِيهِ قَرِيبًا فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

4- أَنْ لَا يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَإِنِ اسْتَدْبَرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ.وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِذَا اسْتَدْبَرَ الرَّاعِفُ الْقِبْلَةَ لِطَلَبِ الْمَاءِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ.وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَجَمَاعَةٌ: يَخْرُجُ كَيْفَ أَمْكَنَهُ.

5- أَنْ لَا يَطَأَ فِي مَشْيِهِ عَلَى نَجَاسَةٍ، وَظَاهِرُهُ مُطْلَقًا، وَإِلاَّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ النَّجَاسَةُ رَطْبَةً أَمْ يَابِسَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، أَمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَوَطِئَهَا عَمْدًا أَمْ سَهْوًا.

6- أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي مُضِيِّهِ لِلْغَسْلِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ جَاهِلًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

7- ثُمَّ الرَّاعِفُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ إِمَامًا، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ؛ لِأَنَّ مَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ وَمَا لَا يَمْنَعُهُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفَذُّ وَغَيْرُهُ، كَالسَّلَامِ مِنَ اثْنَتَيْنِ فِيمَا طَالَ وَفِيمَا قَصُرَ- وَالْمَأْمُومُ لَهُ الْبِنَاءُ بِاتِّفَاقِ الْمَالِكِيَّةِ- وَلِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ شَيْئًا مِنَ الصَّلَاةِ فَلَا يُبْطِلُهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ حَازَ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَا يَفُوتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الرَّاعِفَ لَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ حَيْثُ هُوَ فَقَدْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ عَنِ الْمَشْيِ، لَكِنَّهُ صَلَّى وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ، وَإِنْ عَادَ إِلَى مُصَلاَّهُ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيُخَيَّرُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، وَلَوْ أَتَى الْمَسْجِدَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ مَشْيٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.

وَعَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا: لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ إِلَى الْمَاءِ وَالْعَوْدَ إِلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا.

وَإِنْ كَانَ الرَّاعِفُ مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ إِمَامُهُ مِنَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بَعْدُ، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ صَلَّى مُقْتَدِيًا بِإِمَامِهِ لَا يَصِحُّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الِاقْتِدَاءِ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ بَيْتُهُ قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، وَإِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فِي بَيْتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ فِي حَالِ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ تَغَايُرًا، وَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ مُقْتَدِيًا، وَمَا أَدَّى وَهُوَ الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا لَمْ يُوجَدْ لَهُ ابْتِدَاءُ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ بَعْضُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْتَقِلًا عَمَّا كَانَ هُوَ فِيهِ إِلَى هَذَا فَيَبْطُلُ ذَلِكَ، وَمَا حَصَلَ فِيهِ بَعْضُ الصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كُلِّ الصَّلَاةِ بِأَدَاءِ هَذَا الْقَدْرِ.

وَالْمَالِكِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَبْنِي فِي الرُّعَافِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَفْضَلَ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَقْطَعَ الْمُقْتَدِي الرَّاعِفُ الصَّلَاةَ بِكَلَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيَغْسِلَ عَنْهُ الدَّمَ، ثُمَّ يَبْتَدِئَ الصَّلَاةَ كَيْ يَخْرُجَ مِنَ الْخِلَافِ وَيُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقٍ.وَإِذَا عَادَ الرَّاعِفُ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ فِي حَالِ تَشَاغُلِهِ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَسَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فَكَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَيَقُومُ مِقْدَارَ قِيَامِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَمِقْدَارَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَلَا يَضُرُّهُ إِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَقُولُونَ عَلَى الْمَذْهَبِ فِيمَا إِذَا اجْتَمَعَ لِلرَّاعِفِ الْقَضَاءُ وَالْبِنَاءُ: أَنْ يُقَدِّمَ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ إِكْمَالِ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ بَعْدَ دُخُولِهِ مَعَهُ.وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوْ تَابَعَ إِمَامَهُ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ جَازَتْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قَضَاءُ الْفَوَائِتِ).

8- أَمَّا إِذَا كَانَ الرَّاعِفُ إِمَامًا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالِاسْتِخْلَافِ فَيَتَوَضَّأُ، أَوْ يَغْسِلُ الدَّمَ- كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ- وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُقْتَدِي، لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْلَافِ تَحَوَّلَتِ الْإِمَامَةُ إِلَى الثَّانِي، وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِينَ.

(ر: اسْتِخْلَاف).

أَثَرُ الرُّعَافِ عَلَى الصَّوْمِ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ رَعَفَ فَأَمْسَكَ أَنْفَهُ فَخَرَجَ الدَّمُ مِنْ فِيهِ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى حَلْقِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَذَ الْأَنْفِ إِلَى الْفَمِ دُونَ الْجَوْفِ، فَهُوَ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَوْفِ لَا شَيْءَ فِيهِ، وَمَنْ دَخَلَ دَمُ رُعَافِهِ حَلْقَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ.أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّ مَا يَصِلُ إِلَى جَوْفِ الصَّائِمِ بِلَا قَصْدٍ لَا يُفْطِرُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: صَوْم).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (طلاق 1)

طَلَاقٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الطَّلَاقُ فِي اللُّغَةِ: الْحَلُّ وَرَفْعُ الْقَيْدِ، وَهُوَ اسْمٌ مَصْدَرُهُ التَّطْلِيقُ، وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْمَصْدَرِ، وَأَصْلُهُ: طَلُقَتِ الْمَرْأَةُ تَطْلُقُ فَهِيَ طَالِقٌ بِدُونِ هَاءٍ، وَرُوِيَ بِالْهَاءِ (طَالِقَةٌ) إِذَا بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا، وَيُرَادِفُهُ الْإِطْلَاقُ، يُقَالُ: طَلَّقْتُ وَأَطْلَقْتُ بِمَعْنَى سَرَّحْتُ، وَقِيلَ: الطَّلَاقُ لِلْمَرْأَةِ إِذَا طَلُقَتْ، وَالْإِطْلَاقُ لِغَيْرِهَا إِذَا سُرِّحَ، فَيُقَالُ: طَلَّقْتُ الْمَرْأَةَ، وَأَطْلَقْتُ الْأَسِيرَ، وَقَدِ اعْتَمَدَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْفَرْقَ، فَقَالُوا: بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَكُونُ صَرِيحًا، وَبِلَفْظِ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ كِنَايَةً.

وَجَمْعُ طَالِقٍ طُلَّقٌ، وَطَالِقَةٌ تُجْمَعُ عَلَى طَوَالِقَ، وَإِذَا أَكْثَرَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ كَانَ مِطْلَاقًا وَمِطْلِيقًا، وَطَلِقَةً.وَالطَّلَاقُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ أَوِ الْمَآلِ بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.

وَالْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ هُنَا: النِّكَاحُ الصَّحِيحُ خَاصَّةً، فَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَصِحَّ فِيهِ الطَّلَاقُ، وَلَكِنْ يَكُونُ مُتَارَكَةً أَوْ فَسْخًا.

وَالْأَصْلُ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ مِلْكُ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَقَدْ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ بِإِنَابَتِهِ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالتَّفْوِيضِ، أَوْ بِدُونِ إِنَابَةٍ، كَالْقَاضِي فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ فِي تَعْرِيفِ الطَّلَاقِ نَقْلًا عَنِ التَّهْذِيبِ: تَصَرُّفٌ مَمْلُوكٌ لِلزَّوْجِ يُحْدِثُهُ بِلَا سَبَبٍ، فَيَقْطَعُ النِّكَاحَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْفَسْخُ:

2- الْفَسْخُ فِي اللُّغَةِ: النَّقْضُ وَالْإِزَالَةُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَلُّ رَابِطَةِ الْعَقْدِ وَبِهِ تَنْهَدِمُ آثَارُ الْعَقْدِ وَأَحْكَامُهُ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهُ.

وَبِهَذَا يُقَارِبُ الطَّلَاقَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي أَنَّ الْفَسْخَ نَقْضٌ لِلْعَقْدِ الْمُنْشِئِ لِهَذِهِ الْآثَارِ، أَمَّا الطَّلَاقُ فَلَا يَنْقُضُ الْعَقْدَ، وَلَكِنْ يُنْهِي آثَارَهُ فَقَطْ.

الْمُتَارَكَةُ:

3- الْمُتَارَكَةُ فِي اللُّغَةِ: الرَّحِيلُ وَالْمُفَارَقَةُ مُطْلَقًا، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ لِلْإِسْقَاطِ فِي الْمَعَانِي، يُقَالُ: تَرَكَ حَقَّهُ إِذَا أَسْقَطَهُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَرْكُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَالتَّرْكُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْقَوْلِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ، أَوْ تَرَكْتُكِ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْأَصَحِّ.

وَالْمُتَارَكَةُ تُوَافِقُ الطَّلَاقَ مِنْ وَجْهٍ وَتُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ، تُوَافِقُهُ فِي حَقِّ إِنْهَاءِ آثَارِ النِّكَاحِ، وَفِي أَنَّهَا حَقُّ الرَّجُلِ وَحْدَهُ، وَتُخَالِفُهُ فِي أَنَّهَا لَا تُحْسَبُ عَلَيْهِ وَاحِدَةً، وَأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، أَمَّا الطَّلَاقُ فَمَخْصُوصٌ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ.

الْخُلْعُ:

4- الْخُلْعُ فِي اللُّغَةِ: النَّزْعُ، وَخَالَعَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مُخَالَعَةً وَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ إِذَا افْتَدَتْ مِنْهُ وَطَلَّقَهَا عَلَى الْفِدْيَةِ، وَالْمَصْدَرُ الْخَلْعُ، وَالْخُلْعُ اسْمٌ.وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِزَالَة

ُ مِلْكِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مُقَابِلَ عِوَضٍ تَلْتَزِمُ بِهِ الزَّوْجَةُ أَوْ غَيْرُهَا لِلزَّوْجِ.وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَشْهَرِ مَا يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ.

التَّفْرِيقُ:

5- التَّفْرِيقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ فَرَّقَ، وَفِعْلُهُ الثُّلَاثِيُّ فَرَقَ، يُقَالُ: فَرَقْتُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَيْ فَصَلْتُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ فِي الْمَعَانِي بِالتَّخْفِيفِ، يُقَالُ: فَرَقْتُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، وَبِالتَّشْدِيدِ فِي الْأَعْيَانِ، يُقَالُ: فَرَّقْتُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالْخَطَّابِيُّ.وَقَالَ غَيْرُهُمَا: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ.وَالتَّفْرِيقُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: إِنْهَاءُ الْعَلَاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِحُكْمِ الْقَاضِي بِنَاءً عَلَى طَلَبِ أَحَدِهِمَا لِسَبَبٍ، كَالشِّقَاقِ وَالضَّرَرِ وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ..أَوْ بِدُونِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ حِفْظًا لِحَقِّ الشَّرْعِ، كَمَا إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ.

وَمَا يَقَعُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي: طَلَاقٌ بَائِنٌ فِي أَحْوَالٍ، وَفَسْخٌ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، وَهُوَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.

الْإِيلَاءُ:

6- الْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ الْحَلِفُ، مِنْ آلَى يُؤْلِي إِيلَاءً، يُجْمَعُ عَلَى أَلَايَا.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَلِفُ الزَّوْجِ عَلَى تَرْكِ قُرْبِ زَوْجَتِهِ مُدَّةً مَخْصُوصَةً.وَقَدْ حَدَّدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فَإِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ بِغَيْرِ قُرْبٍ مِنْهُ لَهَا طَلُقَتْ مِنْهُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَحَقَّتِ الطَّلَاقَ مِنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، حَيْثُ تَرْفَعُهُ الزَّوْجَةُ لِلْقَاضِي لِيُخَيِّرَهُ بَيْنَ الْقُرْبِ وَالْفِرَاقِ، فَإِنْ قَرِبَهَا انْحَلَّ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ رَفَضَ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ.

اللِّعَانُ:

7- اللَّعْنُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمِسَبَّةُ، يُقَالُ: لَعَنَهُ لَعْنًا، وَلَاعَنَهُ مُلَاعَنَةً، وَلِعَانًا، وَتَلَاعَنُوا، إِذَا لَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: عَرَّفَهُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: بِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الشَّهَادَاتِ بِالْأَلْفَاظِ الْمَعْرُوفَةِ.وَقَدْ سُمِّيَ بِاللِّعَانِ لِمَا فِي قَوْلِ الزَّوْجِ فِي الْأَيْمَانِ: إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَذَلِكَ وَفْقًا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}.وَالتَّحْرِيمُ بَعْدَ اللِّعَانِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ يَكُونُ عَلَى التَّأْبِيدِ، أَمَّا الطَّلَاقُ فَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ كَذَلِكَ.

الظِّهَارُ:

8- الظِّهَارُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي»، وَكَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ ضَرْبًا مِنَ الطَّلَاقِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَشْبِيهُ الْمُسْلِمِ زَوْجَتَهُ أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ كَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ، بِخِلَافِ زَوْجَةِ الْغَيْرِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا مُؤَقَّتَةٌ، وَيُسَمَّى الظِّهَارُ بِذَلِكَ لِمَا غَلَبَ عَلَى الْمُظَاهِرَيْنِ مِنَ التَّشْبِيهِ بِظَهْرِ الْمُحَرَّمِ، كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي» وَإِنْ كَانَ الظِّهَارُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالتَّشْبِيهِ بِالظَّهْرِ.

وَلَا تَفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الظِّهَارِ، وَلَكِنْ يَحْرُمُ بِهِ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ حَتَّى يُكَفِّرَ الْمُظَاهِرُ، فَإِنْ كَفَّرَ حَلَّتْ لَهُ زَوْجَتُهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلطَّلَاقِ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَصْلِ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلَاقِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا:

1- قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.

2- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.

3- قَوْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ».

4- حَدِيثُ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا».

5- حَدِيثُ «ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي حَيْضِهَا، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِارْتِجَاعِهَا ثُمَّ طَلَاقِهَا بَعْدَ طُهْرِهَا، إِنْ شَاءَ».

6- إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ- لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِلطَّلَاقِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهَا فِي أَحْوَالٍ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَظْرُ، وَيَخْرُجُ عَنِ الْحَظْرِ فِي أَحْوَالٍ.وَعَلَى كُلٍّ فَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ؛ فَيَكُونُ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ وَاجِبًا، كَمَا يَكُون مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا وَذَلِكَ بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي تُرَافِقُهُ، بِحَسَبِ مَا يَلِي: -

1- فَيَكُونُ وَاجِبًا كَالْمُولِي إِذَا أَبَى الْفَيْئَةَ إِلَى زَوْجَتِهِ بَعْدَ التَّرَبُّصِ، عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنَّهُمْ يُوقِعُونَ الْفُرْقَةَ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ حُكْمًا، وَكَطَلَاقِ الْحَكَمَيْنِ فِي الشِّقَاقِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَرَأَيَا الطَّلَاقَ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالتَّفْرِيقِ لِذَلِكَ.

2- وَيَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ إِذَا فَرَّطَتِ الزَّوْجَةُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهَا- مِثْلِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا- وَكَذَلِكَ يُنْدَبُ الطَّلَاقُ لِلزَّوْجِ إِذَا طَلَبَتْ زَوْجَتُهُ ذَلِكَ لِلشِّقَاقِ.

3- وَيَكُونُ مُبَاحًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِدَفْعِ سُوءِ خُلُقِ الْمَرْأَةِ وَسُوءِ عِشْرَتِهَا، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُحِبُّهَا.

4- وَيَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مِنْ دَاعٍ إِلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: هُوَ حَرَامٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ إِلَيْهِ.

5- وَيَكُونُ حَرَامًا وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الْبِدْعِيُّ، وَسَوْفَ يَأْتِي بَيَانُهُ.قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ جَائِزٌ، وَقَدْ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ: مِنْ حُرْمَةٍ وَكَرَاهَةٍ، وَوُجُوبٍ وَنَدْبٍ.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الطَّلَاقِ:

10- لَقَدْ نَبَّهَ الْإِسْلَامُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إِلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الشَّرِيكِ وَالشَّرِيكَةِ فِي الزَّوَاجِ عِنْدَ الْخِطْبَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ».وَقَالَ: «لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ، فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ فَلَعَلَّ أَمْوَالَهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، وَلأَمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ، أَفْضَلُ» وَقَالَ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك» «وَقَالَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عِنْدَمَا خَطَبَ امْرَأَةً: انْظُرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا».وَقَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ»، وَقَالَ لِأَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ».

إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ- عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ- قَدْ لَا يَضْمَنُ اسْتِمْرَارَ السَّعَادَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَرُبَّمَا قَصَّرَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْأَخْذِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَرُبَّمَا أَخَذَا بِهِ، وَلَكِنْ جَدَّ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ الْهَانِئَيْنِ مَا يُثِيرُ بَيْنَهُمَا الْقَلَاقِلَ وَالشِّقَاقَ، كَمَرَضِ أَحَدِهِمَا أَوْ عَجْزِهِ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ عَنَاصِرَ خَارِجَةٍ عَنِ الزَّوْجَيْنِ أَصْلًا، كَالْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ انْصِرَافَ الْقَلْبِ وَتَغَيُّرَهُ، فَيُبْدَأُ بِنُصْحِ الزَّوْجَيْنِ وَإِرْشَادِهِمَا إِلَى الصَّبْرِ وَالِاحْتِمَالِ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ التَّقْصِيرُ مِنَ الزَّوْجَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}.

إِلاَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّبْرِ قَدْ لَا يَتَيَسَّرُ لِلزَّوْجَيْنِ أَوْ لَا يَسْتَطِيعَانِهِ، فَرُبَّمَا كَانَتْ أَسْبَابُ الشِّقَاقِ فَوْقَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ كَانَا فِي حَالَةٍ نَفْسِيَّةٍ لَا تُسَاعِدُهُمَا عَلَى الصَّبْرِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ: إِمَّا أَنْ يَأْمُرَ الشَّرْعُ بِالْإِبْقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مَعَ اسْتِمْرَارِ الشِّقَاقِ الَّذِي قَدْ يَتَضَاعَفُ وَيُنْتَجُ عَنْهُ فِتْنَةٌ، أَوْ جَرِيمَةٌ، أَوْ تَقْصِيرٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ تَفْوِيتُ الْحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَ النِّكَاحُ، وَهِيَ الْمَوَدَّةُ وَالْأُلْفَةُ وَالنَّسْلُ الصَّالِحُ، وَإِمَّا أَنْ يَأْذَنَ بِالطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ، وَهُوَ مَا اتَّجَهَ إِلَيْهِ التَّشْرِيعُ الْإِسْلَامِيُّ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ يَتَمَحَّضُ طَرِيقًا لِإِنْهَاءِ الشِّقَاقِ وَالْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِيَسْتَأْنِفَ الزَّوْجَانِ بَعْدَهُ حَيَاتَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ مُرْتَبِطَيْنِ بِرَوَابِطَ زَوْجِيَّةٍ أُخْرَى، حَيْثُ يَجِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَنْ يَأْلَفُهُ وَيَحْتَمِلُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}

وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: بِوُجُوبِ الطَّلَاقِ فِي أَحْوَالٍ، وَبِنَدْبِهِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى- كَمَا تَقَدَّمَ- عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ تَقْدِيمًا لِلضَّرَرِ الْأَخَفِّ عَلَى الضَّرَرِ الْأَشَدِّ، وَفْقًا لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ «يُخْتَارُ أَهْوَنُ الشَّرَّيْنِ».وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْقَائِلَةُ: «الضَّرَرُ الْأَشَدُّ يُزَالُ بِالضَّرَرِ الْأَخَفِّ» وَيُسْتَأْنَسُ فِي ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ زَوْجَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنَّنِي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً».

مَنْ لَهُ حَقُّ الطَّلَاقِ:

11- الطَّلَاقُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَرْقِ وَهُوَ مِلْكٌ لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ يَمْلِكُ مُفَارَقَةَ زَوْجَتِهِ إِذَا وَجَدَ مَا يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِعِبَارَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، كَمَا تَمْلِكُ الزَّوْجَةُ طَلَبَ إِنْهَاءِ عَلَاقَتِهَا الزَّوْجِيَّةِ إِذَا وُجِدَ مَا يُبَرِّرُ ذَلِكَ، كَإِعْسَارِ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ، وَغَيْبَةِ الزَّوْجِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا تَوْسِعَةً وَتَضْيِيقًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِعِبَارَتِهَا، وَإِنَّمَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، إِلاَّ أَنْ يُفَوِّضَهَا الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ تَمْلِكُهُ بِقَوْلِهَا أَيْضًا.

فَإِذَا اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْفِرَاقِ، جَازَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى قَضَاءٍ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي، فَإِنَّ لَهُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا قَامَ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَدْعُوهُ لِذَلِكَ، حِمَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي رِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى- أَوْ إِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمَجُوسِيَّيْنِ وَامْتِنَاعِ الْآخَرِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ..إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يُسَمَّى طَلَاقًا سِوَى الْأَوَّلِ الَّذِي يَكُونُ بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ الْخَاصَّةِ وَعِبَارَتِهِ.وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ هَذَا حَقُّ الزَّوْجِ خَاصَّةً قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ».ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ الْمُطَلِّقَ لَا يُسْأَلُ عَنْ سَبَبِ الطَّلَاقِ عِنْدَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:

1- حِفْظُ أَسْرَارِ الْأُسْرَةِ.

2- حِفْظُ كَرَامَةِ الزَّوْجَةِ وَسُمْعَتِهَا.

3- الْعَجْزُ عَنْ إِثْبَاتِ الْكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَكُونُ خَفِيَّةً يَصْعُبُ إِثْبَاتُهَا، فَإِذَا كَلَّفْنَاهُ بِذَلِكَ نَكُونُ قَدْ كَلَّفْنَاهُ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَوْ يُحْرِجُهُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.

4- ثُمَّ إِنَّ فِي إِقْدَامِ الزَّوْجِ عَلَى الطَّلَاقِ وَتَحَمُّلِهِ الْأَعْبَاءَ الْمَالِيَّةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ، مِنْ مَهْرٍ مُؤَجَّلٍ، وَنَفَقَةٍ وَمُتْعَةٍ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا- وَأُجْرَةِ حَضَانَةٍ لِلْأَوْلَادِ..لَقَرِينَةٌ كَافِيَةٌ عَلَى قِيَامِ أَسْبَابٍ مَشْرُوعَةٍ تَدْعُوهُ لِلطَّلَاقِ.

5- وَلِكَوْنِ الطَّلَاقِ مُبَاحًا أَصْلًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ، إِبَاحَةً مُطْلَقَةً عَنْ أَيِّ شَرْطٍ أَوْ قَيْدٍ.

مَحَلُّ الطَّلَاقِ:

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الطَّلَاقِ الزَّوْجَةُ فِي زَوْجِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، حَصَلَ فِيهَا دُخُولٌ أَمْ لَا، فَلَوْ كَانَ الزَّوَاجُ بَاطِلًا أَوْ فَاسِدًا، فَطَلَّقَهَا، لَمْ تَطْلُقْ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الزَّوَاجِ الصَّحِيحِ خَاصَّةً.وَهَلْ يُعَدُّ لَفْظُ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُتَارَكَةً؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، لَكِنْ لَا يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ طَلَاقًا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: طَلَّقَ الْمَنْكُوحَةَ فَاسِدًا ثَلَاثًا، لَهُ تَزَوُّجُهَا بِلَا مُحَلِّلٍ..لِكَوْنِ الطَّلَاقِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْفَاسِدِ، وَلِذَا كَانَ غَيْرَ مُنْقِصٍ لِلْعَدَدِ، بَلْ مُتَارَكَةً.وَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بَعْدَ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، لِانْعِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ أَصْلًا.وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- إِلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، حَتَّى لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لَهَا فِي عِدَّتِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثَانِيَةً، كَانَتَا طَلْقَتَيْنِ، مَا لَمْ يُرِدْ تَأْكِيدَ الْأُولَى، فَإِنْ أَرَادَ تَأْكِيدَ الْأُولَى لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ، مَا لَمْ تَكُنْ قَرَائِنُ الْحَالِ تَمْنَعُ صِحَّةَ إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُنْهِي الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، بِدَلَالَةِ جَوَازِ رُجُوعِهِ إِلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ دُونَ عَقْدٍ جَدِيدٍ.أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ بَائِنًا وَالْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا إِذَا طَلَّقَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْبَيْنُونَةُ صُغْرَى أَمْ كُبْرَى، وَكَذَلِكَ الْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا، وَذَلِكَ لِانْقِضَاءِ النِّكَاحِ بِالْبَيْنُونَةِ وَالْفَسْخِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَانَةَ بَيْنُونَةً صُغْرَى فِي عِدَّتِهَا زَوْجَةٌ مِنْ وَجْهٍ بِدَلَالَةِ جَوَازِ عَوْدِهَا إِلَى زَوْجِهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ، وَلَا يَجُوزُ زَوَاجُهَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهَا مَحَلٌّ لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُولَ بِهَا بَائِنًا مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا أُخْرَى فِي عِدَّتِهَا كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، هَذَا مَا لَمْ يَقْصِدْ تَأْكِيدَ الْأُولَى، فَإِنْ قَصَدَ تَأْكِيدَ الْأُولَى لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ.

وَأَمَّا الْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا فَلَمْ يَرَ الْحَنَفِيَّةُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي عِدَّتِهَا إِذَا كَانَ سَبَبُ الْفَسْخِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، كَتَقْبِيلِهَا ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْحُرْمَةُ غَيْرَ مُؤَبَّدَةٍ كَانَتْ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ فِي أَحْوَالٍ، وَغَيْرَ مَحَلٍّ لَهُ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ فَقَالَ: وَمَحَلُّهُ الْمَنْكُوحَةُ، أَيْ وَلَوْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ غَيْرِ ثَلَاثٍ فِي حُرَّةٍ وَثِنْتَيْنِ فِي أَمَةٍ، أَوْ عَنْ فَسْخٍ بِتَفْرِيقٍ لِإِبَاءِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْإِسْلَامِ أَوْ بِارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا..بِخِلَافِ عِدَّةِ الْفَسْخِ بِحُرْمَةٍ مُؤَبَّدَةٍ كَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ، أَوْ غَيْرِ مُؤَبَّدَةٍ، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ عِتْقٍ، وَبُلُوغٍ، وَعَدَمِ كَفَاءَةٍ، وَنُقْصَانِ مَهْرٍ، وَسَبْيِ أَحَدِهِمَا، وَمُهَاجَرَتِهِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهَا كَمَا حَرَّرَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْفَتْحِ.

رُكْنُ الطَّلَاقِ:

13- رُكْنُ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الصِّيغَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ.أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: فَإِنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي مَعْنَى الرُّكْنِ، وَيُدْخِلُونَ فِيهِ مَا يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ أَطْرَافَ التَّصَرُّفِ.وَالطَّلَاقُ بِالِاتِّفَاقِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ، فَرُكْنُ الطَّلَاقِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: الصِّيغَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لِلطَّلَاقِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، هِيَ: أَهْلٌ، وَقَصْدٌ، وَمَحَلٌّ، وَلَفْظٌ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَرْكَانٌ خَمْسَةٌ: مُطَلِّقٌ، وَصِيغَةٌ، وَمَحَلٌّ، وَوِلَايَةٌ، وَقَصْدٌ.وَالْأَصْلُ فِي الصِّيغَةِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الطَّلَاقِ الْكَلَامُ، وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ الْكِتَابَةُ أَوِ الْإِشَارَةُ، وَلَا يَنْعَقِدُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ نَوَى الطَّلَاقَ دُونَ لَفْظٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ لَمْ يَكُنْ مُطَلِّقًا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَمَرَ زَوْجَتَهُ بِحَلْقِ شَعْرِهَا بِقَصْدِ الطَّلَاقِ، لَا يَكُونُ مُطَلِّقًا أَيْضًا.

شُرُوطُ الطَّلَاقِ:

14- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ لَدَى الْفُقَهَاءِ شُرُوطٌ مُوَزَّعَةٌ عَلَى أَطْرَافِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثَةِ، فَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُطَلِّقِ، وَبَعْضُهَا بِالْمُطَلَّقَةِ، وَبَعْضُهَا بِالصِّيغَةِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُطَلِّقِ:

يُشْتَرَطُ فِي الْمُطَلِّقِ لِيَقَعَ طَلَاقُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ صَحِيحًا شُرُوطٌ، هِيَ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ- أَنْ يَكُونَ زَوْجًا:

15- وَالزَّوْجُ: هُوَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ عَقْدُ زَوَاجٍ صَحِيحٍ.

الشَّرْطُ الثَّانِي- الْبُلُوغُ:

16- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ الصَّغِيرِ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، مُرَاهِقًا أَوْ غَيْرَ مُرَاهِقٍ، أُذِنَ لَهُ بِذَلِكَ أَمْ لَا، أُجِيزَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَلِيِّ أَمْ لَا، عَلَى سَوَاءٍ، ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ ضَرَرٌ مَحْضٌ، فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ وَلَا يَمْلِكُهُ وَلِيُّهُ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ».وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الطَّلَاقَ، فَقَالُوا: إِنَّ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ.أَمَّا مَنْ لَا يَعْقِلُ فَوَافَقُوا الْجُمْهُورَ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ.قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَأَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا طَلَاقَ لَهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَعْقِلُ الطَّلَاقَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَتَهُ تَبِينُ مِنْهُ بِهِ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ: فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ طَلَاقَهُ يَقَعُ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَالْخِرَقِيُّ وَابْنُ حَامِدٍ..وَرَوَى أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ..وَرَوَى أَبُو الْحَارِثِ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا عَقَلَ الطَّلَاقَ جَازَ طَلَاقُهُ مَا بَيْنَ عَشْرٍ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ لِدُونِ الْعَشْرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّ الْعَشْرَ حَدُّ الضَّرْبِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إِذَا أَحْصَى الصَّلَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ جَازَ طَلَاقُهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَلَغَ أَنْ يُصِيبَ النِّسَاءَ وَعَنِ الْحَسَنِ: إِذَا عَقَلَ وَحَفِظَ الصَّلَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا جَاوَزَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ- الْعَقْلُ:

17- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ طَلَاقِ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ لِفِقْدَانِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ فِي الْأَوَّلِ، وَنُقْصَانِهَا فِي الثَّانِي، فَأَلْحَقُوهُمَا بِالصَّغِيرِ غَيْرِ الْبَالِغِ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُمَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ.

وَهَذَا فِي الْجُنُونِ الدَّائِمِ الْمُطْبِقِ، أَمَّا الْجُنُونُ الْمُتَقَطِّعُ فَإِنَّ حُكْمَ طَلَاقِ الْمُبْتَلَى بِهِ مَنُوطٌ بِحَالِهِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَ وَهُوَ مَجْنُونٌ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ طَلَّقَ فِي إِفَاقَتِهِ وَقَعَ لِكَمَالِ أَهْلِيَّتِهِ.وَقَدْ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِالْمَجْنُونِ النَّائِمَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمُبَرْسَمَ وَالْمَدْهُوشَ، وَذَلِكَ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ لَدَيْهِمْ وَلِحَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ...» وَحَدِيثِ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ».

18- وَأَمَّا السَّكْرَانُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِسُكْرِهِ، كَمَا إِذَا سَكِرَ مُضْطَرًّا، أَوْ مُكْرَهًا أَوْ بِقَصْدِ الْعِلَاجِ الضَّرُورِيِّ إِذَا تَعَيَّنَ بِقَوْلِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ ثِقَةٍ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْكِرٌ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ بِالِاتِّفَاقِ، لِفِقْدَانِ الْعَقْلِ لَدَيْهِ كَالْمَجْنُونِ دُونَ تَعَدٍّ، هَذَا إِذَا غَابَ عَقْلُهُ أَوِ اخْتَلَّتْ تَصَرُّفَاتُهُ، وَإِلاَّ وَقَعَ طَلَاقُهُ.

وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ، كَأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَةَ طَائِعًا بِدُونِ حَاجَةٍ، وَقَعَ طَلَاقُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ رَغْمَ غِيَابِ عَقْلِهِ بِالسُّكْرِ، وَذَلِكَ عِقَابًا لَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ: الْأُولَى: بِوُقُوعِ طَلَاقِهِ كَالْجُمْهُورِ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ الْخَلاَّلُ وَالْقَاضِي.وَالثَّانِيَةُ: بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِهِ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمِ، وَطَاوُسٍ، وَرَبِيعَةَ، وَغَيْرِهِمْ.

وَقَدِ اسْتُدِلَّ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ جَعَلُوا السَّكْرَانَ كَالصَّاحِي فِي الْحَدِّ بِالْقَذْفِ.

كَمَا اسْتُدِلَّ لِعَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِهِ بِأَنَّهُ فَاقِدُ الْعَقْلِ كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ، وَبِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ زَوَالِ الْعَقْلِ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ كُسِرَ سَاقَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا، وَأَنَّ امْرَأَةً لَوْ ضَرَبَتْ بَطْنَ نَفْسِهَا فَنَفِسَتْ، سَقَطَتْ عَنْهَا الصَّلَاةُ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ- الْقَصْدُ وَالِاخْتِيَارُ:

19- الْمُرَادُ بِهِ هُنَا: قَصْدُ اللَّفْظِ الْمُوجِبِ لِلطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ طَلَاقِ الْهَازِلِ، وَهُوَ: مَنْ قَصَدَ اللَّفْظَ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ ذُو خَطَرٍ كَبِيرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَحَلَّهُ الْمَرْأَةُ، وَهِيَ إِنْسَانٌ، وَالْإِنْسَانُ أَكْرَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِي أَمْرِهِ الْهَزْلُ، وَلِأَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلَّفْظِ الَّذِي رَبَطَ الشَّارِعُ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِهِ مُطْلَقًا.

أَمَّا الْمُخْطِئُ، وَالْمُكْرَهُ، وَالْغَضْبَانُ، وَالسَّفِيهُ، وَالْمَرِيضُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ طَلَاقِهِمْ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي.

أ- الْمُخْطِئُ:

20- الْمُخْطِئُ هُنَا: مَنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّلَفُّظَ بِالطَّلَاقِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا قَصَدَ لَفْظًا آخَرَ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ: يَا جَمِيلَةُ، فَإِذَا بِهِ يَقُولُ لَهَا خَطَأً: يَا طَالِقُ وَهُوَ غَيْرُ الْهَازِلِ، لِأَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلَفْظِ الطَّلَاقِ، إِلاَّ أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْفُرْقَةِ بِهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلَاقِ الْمُخْطِئِ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِهِ قَضَاءً وَدِيَانَةً، هَذَا إِذَا ثَبَتَ خَطَؤُهُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ خَطَؤُهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ قَضَاءً، وَلَمْ يَقَعْ دِيَانَةً، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَلَا يُقَاسُ حَالُهُ عَلَى الْهَازِلِ؛ لِأَنَّ الْهَازِلَ ثَبَتَ وُقُوعُ طَلَاقِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ طَلَاقَ الْمُخْطِئِ وَاقِعٌ قَضَاءً، ثَبَتَ خَطَؤُهُ أَمْ لَا، وَلَا يَقَعُ دِيَانَةً، وَذَلِكَ لِخُطُورَةِ مَحَلِّ الطَّلَاقِ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ، وَلِأَنَّ فِي عَدَمِ إِيقَاعِ طَلَاقِهِ فَتْحَ بَابِ الِادِّعَاءِ بِذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَهُوَ خَطِيرٌ، وَذَرِيعَةٌ يَجِبُ سَدُّهَا.

ب- الْمُكْرَهُ:

21- الْإِكْرَاهُ هُنَا مَعْنَاهُ: حَمْلُ الزَّوْجِ عَلَى الطَّلَاقِ بِأَدَاةٍ مُرْهِبَةٍ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ إِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ شَدِيدًا، كَالْقَتْلِ، وَالْقَطْعِ، وَالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» وَلِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ مُنْعَدِمُ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ، فَكَانَ كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ، فَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ ضَعِيفًا، أَوْ ثَبَتَ عَدَمُ تَأَثُّرِ الْمُكْرَهِ بِهِ، وَقَعَ طَلَاقُهُ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لَهُ بِدَفْعِ غَيْرِهِ عَنْهُ بِهِ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ.وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْإِكْرَاهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ بِحَقٍّ، كَالْمُولِي إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ بِدُونِ فَيْءٍ فَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الطَّلَاقِ فَطَلَّقَ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِالْإِجْمَاعِ.

ج- الْغَضْبَانُ:

22- الْغَضَبُ: حَالَةٌ مِنْ الِاضْطِرَابِ الْعَصَبِيِّ، وَعَدَمِ التَّوَازُنِ الْفِكْرِيِّ، تَحِلُّ بِالْإِنْسَانِ إِذَا عَدَا عَلَيْهِ أَحَدٌ بِالْكَلَامِ أَوْ غَيْرِهِ.وَالْغَضَبُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ الْقَوْلِيَّةِ، وَمِنْهَا الطَّلَاقُ، إِلاَّ أَنْ يَصِلَ الْغَضَبُ إِلَى دَرَجَةِ الدَّهَشِ، فَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ يُصْبِحُ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.وَالْمَدْهُوشُ هُوَ: مَنْ غَلَبَ الْخَلَلُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَتِهِ بِسَبَبِ غَضَبٍ اعْتَرَاهُ.

وَقَسَّمَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْغَضَبَ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً نَقَلَهَا عَنْهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَعَلَّقَ عَلَيْهَا فَقَالَ: طَلَاقُ الْغَضْبَانِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَبَادِئُ الْغَضَبِ بِحَيْثُ لَا يَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ، وَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَيَقْصِدُهُ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَبْلُغَ النِّهَايَةَ، فَلَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَلَا يُرِيدُهُ، فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِ.

الثَّالِثُ: مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ بِحَيْثُ لَمْ يَصِرْ كَالْمَجْنُونِ، فَهَذَا مَحَلُّ النَّظَرِ وَالْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نُفُوذِ أَقْوَالِهِ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَدْهُوشِ وَالْغَضْبَانِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، بَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِغَلَبَةِ الْهَذَيَانِ وَاخْتِلَاطِ الْجِدِّ بِالْهَزْلِ كَمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي السَّكْرَانِ..ثُمَّ قَالَ: فَاَلَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الْمَدْهُوشِ وَنَحْوِهِ: إِنَاطَةُ الْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْخَلَلِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَتِهِ، فَمَا دَامَ فِي حَالِ غَلَبَةِ الْخَلَلِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُهَا وَيُرِيدُهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِرَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِعَدَمِ حُصُولِهَا عَنْ إِدْرَاكٍ صَحِيحٍ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ مِنَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ.

د- السَّفِيهُ:

23- السَّفَهُ: خِفَّةٌ فِي الْعَقْلِ تَدْعُو إِلَى التَّصَرُّفِ بِالْمَالِ عَلَى غَيْرِ وَفْقِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُقُوعِ طَلَاقِ السَّفِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مَالِكٌ لِمَحَلِّ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ السَّفَهَ مُوجِبٌ لِلْحَجْرِ فِي الْمَالِ خَاصَّةً، وَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَإِنْ نَشَأَ عَنْ طَلَاقِ السَّفِيهِ آثَارٌ مَالِيَّةٌ كَالْمَهْرِ فَهِيَ تَبَعٌ لَا أَصْلٌ.

وَخَالَفَ عَطَاءٌ، وَقَالَ بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ السَّفِيهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (كفالة 1)

كَفَالَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْكَفَالَةُ لُغَةً: مِنْ كَفَلَ الْمَالَ وَبِالْمَالِ: ضَمِنَهُ وَكَفَلَ بِالرَّجُلِ يَكْفُلُ وَيَكْفِلُ كَفْلًا وَكُفُولًا، وَكَفَالَةً، وَكَفُلَ وَكَفِلَ وَتَكَفَّلَ بِهِ كُلِّهِ: ضَمِنَهُ، وَأَكْفَلَهُ إِيَّاهُ وَكَفَّلَهُ: ضَمَّنَهُ، وَكَفَلْتُ عَنْهُ الْمَالَ لِغَرِيمِهِ وَتَكَفَّلَ بِدَيْنِهِ تَكَفُّلًا.

وَفِي التَّهْذِيبِ: وَأَمَّا الْكَافِلُ فَهُوَ الَّذِي كَفَلَ إِنْسَانًا يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: {الرَّبِيبُ كَافِلٌ» وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ الْيَتِيمِ، كَأَنَّهُ كُفِّلَ نَفَقَةَ الْيَتِيمِ، وَالْمُكَافِلُ: الْمُعَاقِدُ الْمُحَالِفُ، وَالْكَفِيلُ مِنْ هَذَا أُخِذَ.

وَأَمَّا الْكَفَالَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْكَفَالَةِ تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَثَرٍ.

فَعَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا: ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِنَفْسٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ.

وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا: ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي الدَّيْنِ.

قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكَفَالَةَ هِيَ: أَنْ يَلْتَزِمَ الرَّشِيدُ بِإِحْضَارِ بَدَنِ مَنْ يَلْزَمُ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ.

فَالْحَنَفِيَّةُ يُطْلِقُونَ الْكَفَالَةَ عَلَى كَفَالَةِ الْمَالِ وَالْوَجْهِ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقْسِمُونَ الضَّمَانَ إِلَى ضَمَانِ الْمَالِ وَضَمَانِ الْوَجْهِ، وَيُطْلِقُ الشَّافِعِيَّةُ الْكَفَالَةَ عَلَى ضَمَانِ الْأَعْيَانِ الْبَدَنِيَّةِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَالضَّمَانُ يَكُونُ الْتِزَامَ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ، وَالْكَفَالَةُ الْتِزَامٌ بِحُضُورِ بَدَنِهِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ.

وَيُسَمَّى الْمُلْتَزِمُ بِالْحَقِّ ضَامِنًا وَضَمِينًا وَحَمِيلًا وَزَعِيمًا وَكَافِلًا وَكَفِيلًا وَصَبِيرًا وَقَبِيلًا وَغَرِيمًا، غَيْرَ أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ الضَّمِينَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْحَمِيلَ فِي الدِّيَاتِ، وَالزَّعِيمَ فِي الْأَمْوَالِ الْعِظَامِ، وَالْكَفِيلَ فِي النُّفُوسِ، وَالْقَبِيلَ وَالصَّبِيرَ فِي الْجَمْعِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِبْرَاءُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْإِبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.

فَالْإِبْرَاءُ عَكْسُ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ خُلُوَّ الذِّمَّةِ، وَهِيَ تُفِيدُ انْشِغَالَهَا (ر: إِبْرَاءٌ ف 1).

ب- الْحَمَالَةُ:

3- الْحَمَالَةُ بِالْفَتْحِ: مَا يَتَحَمَّلُهُ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ.

وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَ الْحَمَالَةِ وَالْكَفَالَةِ: أَنَّ الْعُرْفَ خَصَّ الْحَمَالَةَ بِالدِّيَةِ وَالْغُرْمِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَأَطْلَقَ الْكَفَالَةَ عَلَى ضَمَانِ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَالنَّفْسِ.

ج- الْحَوَالَةُ:

4- الْحَوَالَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّحَوُّلُ وَالِانْتِقَالُ

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: نَقْلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ أَوِ الضَّمَانِ: أَنَّ الْحَوَالَةَ نَقْلٌ لِلدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى، أَمَّا الْكَفَالَةُ أَوِ الضَّمَانُ فَهُوَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الِالْتِزَامِ بِالْحَقِّ، فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ؛ لِأَنَّ بِالْحَوَالَةِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ، وَفِي الْكَفَالَةِ لَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَكْفُولِ.

د- الْقَبَالَةُ:

5- الْقَبَالَةُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَبِلَ بِهِ إِذَا كَفَلَ، وَقَبِلَ إِذَا صَارَ كَفِيلًا، وَتَقَبَّلَ لَهُ: تَكَفَّلَ، وَالْقَبِيلُ: الْكَفِيلُ.

وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَسْتَعْمِلُ لَفْظَ الْقَبَالَةِ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ وَوَزْنِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ خَصَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ أَوِ الْعَيْنِ، وَعَمَّمَ الْقَبَالَةَ فِي الْمَالِ وَالدِّيَةِ وَالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ.

وَالْقَبَالَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَعَمُّ مِنَ الْكَفَالَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- الْكَفَالَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}.أَيْ كَفِيلٌ: ضَامِنٌ وقوله تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} أَيْ: كَفِيلٌ.

وَمِنَ السُّنَّةِ: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: الزَّعِيمُ الْكَفِيلُ، وَالزَّعَامَةُ الْكَفَالَةُ وَمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَإِنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هُوَ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: بِالْوَفَاءِ؟ قَالَ: بِالْوَفَاءِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ».

وَقَدْ نَقَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ- وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ- لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَدِينِ قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ: «بُعِثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ يَتَكَفَّلُونَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ»، وَعَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ لَدُنِ الْمَصْدَرِ الْأَوَّلِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.

وَلِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ رَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الضَّمَانَ الشَّامِلَ لِلْكَفَالَةِ مَنْدُوبٌ لِقَادِرٍ وَاثِقٍ بِنَفْسِهِ أَمِنَ غَائِلَتَهُ.

أَرْكَانُ الْكَفَالَةِ وَشُرُوطُهَا:

أَرْكَانُ الْكَفَالَةِ: الصِّيغَةُ، وَالْكَفِيلُ، وَالْمَكْفُولُ لَهُ، وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ، وَالْمَكْفُولُ بِهِ

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ- صِيغَةُ الْكَفَالَةِ:

7- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْكَفَالَةِ تَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ وَحْدَهُ، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ مِنَ الْكَفِيلِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ لَا مُعَاوَضَةَ فِيهِ، بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ يَنْشَأُ بِعِبَارَتِهِ وَحْدَهُ، فَيَكْفِي فِيهِ إِيجَابُ الْكَفِيلِ.

وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُشْتَرَطُ الرِّضَا ثُمَّ الْقَبُولُ، وَالثَّالِثُ يُشْتَرَطُ الرِّضَا دُونَ الْقَبُولِ لَفْظًا.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْكَفَالَةِ تَتَرَكَّبُ مِنْ إِيجَابٍ يَصْدُرُ مِنَ الْكَفِيلِ، وَقَبُولٍ يَصْدُرُ عَنِ الْمَكْفُولِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمَكْفُولُ لَهُ حَقَّ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ أَوْ حَقًّا ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَتِمُّ بِعِبَارَةِ الْكَفِيلِ وَحْدَهُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَالِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ.

وَإِيجَابُ الْكَفِيلِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعَهُّدُ وَالاْلْتِزَامُ وَالضَّمَانِ، صَرَاحَةً أَوْ ضِمْنًا، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ تَعْبِيرٍ عَنِ الْإِرَادَةِ يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى.

8- قَدْ تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنَجَّزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً أَوْ مُضَافَةً إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ وَقَدْ تُوصَفُ بِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ أَوْ مُؤَقَّتَةٌ أَوْ مُقْتَرِنَةٌ بِشَرْطٍ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- الْكَفَالَةُ الْمُنَجَّزَةُ:

9- وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ صِيغَتُهَا خَالِيَةً مِنَ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ أَوِ الْإِضَافَةِ لِأَجَلٍ، فَمَعْنَى التَّنْجِيزِ: أَنْ تَتَرَتَّبَ آثَارُ الْكَفَالَةِ فِي الْحَالِ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الصِّيغَةِ مُسْتَوْفِيَةٍ شُرُوطَهَا، فَإِذَا قَالَ شَخْصٌ لآِخَرَ: أَنَا كَفِيلٌ بِدَيْنِكَ عَلَى فُلَانٍ وَقَبِلَ الدَّائِنُ الْكَفَالَةَ- عَلَى رَأْيِ مَنْ يُوجِبُ لِتَمَامِ الصِّيغَةِ قَبُولَ الدَّائِنِ- فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَصِيرُ مُطَالَبًا بِأَدَاءِ الدَّيْنِ فِي الْحَالِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا.

أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ أَوِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بِصِفَتِهِ مِنَ الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ مَتَى كَانَتْ صِيغَةُ الْكَفَالَةِ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقْتَرِنَةٍ بِشَرْطٍ يُغَيِّرُ مِنْ وَصْفِ الدَّيْنِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكَفَالَةَ إِذَا أُطْلِقَتِ انْعَقَدَتْ حَالَّةً؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَدْخُلُهُ الْحُلُولُ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ.

ب- الْكَفَالَةُ الْمُعَلَّقَةُ:

10- وَهِيَ الَّتِي يُعَلَّقُ وُجُودُهَا عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ آخَرَ، كَمَا إِذَا قَالَ شَخْصٌ لِلْمُشْتَرِي: أَنَا كَفِيلٌ لَكَ بِالثَّمَنِ إِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ الْكَفَالَةُ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْعَقِدُ مُنَجَّزَةً، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْكَفِيلُ لِلدَّائِنِ: إِذَا أَفْلَسَ فُلَانٌ فَأَنَا كَفِيلٌ لَكَ بِهَذَا الدَّيْنِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ فُلَانًا هَذَا كَانَ قَدْ أَفْلَسَ فِعْلًا وَقْتَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ.

11- وَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ خِلَافٌ يُمْكِنُ إِيجَازُهُ فِيمَا يَلِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى شَرْطٍ مُلَائِمٍ، وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ، كَقَوْلِ الْكَفِيلِ لِلْمُشْتَرِي: إِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ فَأَنَا ضَامِنُ الثَّمَنِ، أَوِ الشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ، كَقَوْلِ الْكَفِيلِ لِلدَّائِنِ: إِذَا قَدِمَ فُلَانٌ- أَيِ الْمَكْفُولُ عَنْهُ- فَأَنَا كَفِيلٌ بِدَيْنِكَ عَلَيْهِ، أَوِ الشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ، كَقَوْلِ الْكَفِيلِ لِلدَّائِنِ: إِذَا غَابَ فُلَانٌ- الْمَدِينُ- عَنِ الْبَلَدِ فَأَنَا كَفِيلٌ بِالدَّيْنِ.

وَذَهَبُوا كَذَلِكَ إِلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِشَرْطٍ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، كَمَا لَوْ قَالَ الْكَفِيلُ: إِنْ لَمْ يُؤَدِّ فُلَانٌ مَا لَكَ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ فَصَحَّ.

فَأَمَّا إِذَا عُلِّقَتِ الْكَفَالَةُ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلَائِمٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ هَبَّتِ الرِّيحُ أَوْ إِنْ نَزَلَ الْمَطَرُ أَوْ إِنْ دَخَلَتُ الدَّارَ فَأَنَا كَفِيلٌ، فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلَائِمٍ لَا يَظْهَرُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ إِذَا مَا عُلِّقَتْ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلَائِمٍ، وَيَلْغُو التَّعْلِيقُ.

وَيَبْدُو مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ فُرُوعٍ: أَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً إِذَا عُلِّقَتْ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُلَائِمَةِ، وَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً إِذَا عُلِّقَتْ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلَائِمٍ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ تَعْلِيقِ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ عَقْدٌ كَالْبَيْعِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: جَوَازُ تَعْلِيقِ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا، فَجَازَ تَعْلِيقُهُمَا كَالطَّلَاقِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَمْتَنِعُ تَعْلِيقُ الضَّمَانِ دُونَ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَاجَةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ تَذْهَبُ أُولَاهُمَا إِلَى بُطْلَانِ الْكَفَالَةِ مَعَ التَّعْلِيقِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ فِي التَّعْلِيقِ خَطَرًا فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَالْكَفَالَةُ تُثْبِتُ حَقًّا لآِدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ ثُبُوتِهِ عَلَى شَرْطٍ.

وَتَذْهَبُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى إِلَى صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْكَفَالَةِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ عَلَى شَرْطٍ صَحِيحٍ كَضَمَانِ الْعُهْدَةِ وَقَدْ مَالَ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ: الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الضَّمَانَ إِلَى سَبَبِ الْوُجُودِ فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ كَضَمَانِ الدَّرَكِ.

ج- الْكَفَالَةُ الْمُضَافَةُ:

12- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ إِلَى أَجَلٍ مُسْتَقْبَلٍ كَأَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ: أَنَا ضَامِنٌ لَكَ هَذَا الْمَالَ أَوْ هَذَا الدَّيْنَ ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الْقَادِمِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَكُونُ كَفِيلًا إِلاَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَمَّا قَبْلَهُ فَلَا يُعَدُّ كَفِيلًا وَلَا يُطَالَبُ بِالْمَالِ، وَإِذَا تُوُفِّيَ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَا يُؤْخَذُ الدَّيْنُ مِنْ تَرِكَتِهِ.

وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ وَتَأْجِيلِ الدَّيْنِ الْمَكْفُولِ بِهِ، فَالْكَفَالَةُ الْمُضَافَةُ هِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِدَيْنٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ عِنْدَ إِنْشَائِهَا، وَلَكِنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِهِ بِسَبَبِ إِضَافَتِهَا إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْكَفِيلُ لِلدَّائِنِ: أَنَا كَفِيلٌ بِمَا سَتُقْرِضُهُ لِفُلَانٍ مِنَ الْمَالِ، أَوْ بِسَبَبِ تَعْلِيقِهَا بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ أَقْرَضْتُ فُلَانًا مَبْلَغَ كَذَا فَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَفَالَةِ لَا يَنْعَقِدُ إِلاَّ بَعْدَ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ بِهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ إِلاَّ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُولُ مَوْجُودًا عِنْدَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ، فَقَدْ يَكُونُ حَالًّا وَقَدْ يَكُونُ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُولُ حَالًّا، وَأُضِيفَتْ كَفَالَتُهُ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَأَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلدَّائِنِ: كَفَلْتُ لَكَ دَيْنَكَ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الْآتِي، فَلَا يَكُونُ لِلْكَفَالَةِ أَثَرٌ إِلاَّ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الْآتِي، وَيَتَأَجَّلُ الدَّيْنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَفِيلِ وَحْدَهُ بِسَبَبِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينِ فَلَا يَتَغَيَّرُ وَصْفُ الدَّيْنِ بَلْ يَظَلُّ حَالًّا؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْجِيلِ الدَّيْنِ عَلَى الْكَفِيلِ بِسَبَبِ كَفَالَتِهِ الْمُضَافَةِ تَأْجِيلُهُ عَلَى الْمَدِينِ الْأَصِيلِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنْعَقِدَةً فِي الْحَالِ، وَلَكِنَّ آثَارَهَا لَا تَظْهَرُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ.

وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُولُ مُؤَجَّلًا عِنْدَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ، وَكَانَتِ الْكَفَالَةُ مُطْلَقَةً بِأَنْ قَالَ الْكَفِيلُ: كَفَلْتُ لَكَ دَيْنَكَ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ، فَإِنَّ مُطَالَبَةَ الْكَفِيلِ تُرْجَأُ إِلَى وَقْتِ حُلُولِ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْمُطْلَقَةَ بِدَيْنٍ تَلْزَمُ بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ مِنَ الْحُلُولِ أَوِ التَّأْجِيلِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنْعَقِدَةً فِي الْحَالِ، وَلَكِنَّ آثَارَهَا لَا تَظْهَرُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ.

وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ جُمْهُورَ الْحَنَفِيَّةِ يُجِيزُ إِضَافَةَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ إِضَافَتَهَا إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ.أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي ذُكِرَ، وَذَلِكَ كَإِضَافَتِهَا إِلَى الْحَصَادِ أَوْ إِلَى الْمِهْرَجَانِ أَوْ إِلَى النَّيْرُوزِ، أَمَّا إِضَافَةُ الْكَفَالَةِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً فَاحِشَةً- كَنُزُولِ الْمَطَرِ- فَلَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْآجَالِ الْمُتَعَارَفَةِ أَوِ الْمُنْضَبِطَةِ، وَإِذَا بَطَلَ الْأَجَلُ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ فِيهِ وَعَدَمِ تَعَارُفِهِ، صَحَّتِ الْكَفَالَةُ، وَكَانَتْ مُنَجَّزَةً.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ مَعْلُومٍ، وَحِينَئِذٍ لَا يُطَالَبُ الْكَفِيلُ إِلاَّ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ، كَخُرُوجِ الْعَطَاءِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلًا بِقَدْرِ مَا يَرَى، وَعِنْدَئِذٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْكَفَالَةِ أَثَرُهَا إِلاَّ بِحُلُولِ الْأَجَلِ الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَفَلَ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ فِيهِ وَهَكَذَا الضَّمَانُ، وَإِنْ جَعَلَهُ إِلَى الْحَصَادِ وَالْجُزَازِ وَالْعَطَاءِ خَرَجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، كَالْأَجَلِ فِي الْبَيْعِ، وَالْأَوْلَى صِحَّتُهَا هُنَا، لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ جَعَلَ لَهُ عِوَضًا لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فَصَحَّ، كَالنَّذْرِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَجْهُولٍ لَا يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْكَفَالَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَجَّزَ الْكَفَالَةَ وَشَرَطَ تَأْخِيرَ الْمَكْفُولِ بِهِ شَهْرًا كَضَمِنْتُ إِحْضَارَهُ، وَأَحْضَرَهُ بَعْدَ شَهْرٍ جَازَ، لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِعَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، فَكَانَ كَعَمَلِ الْإِجَارَةِ يَجُوزُ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا.

وَخَرَجَ بِشَهْرٍ مَثَلًا التَّأْجِيلُ بِمَجْهُولٍ، كَالْحَصَادِ فَلَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ إِلَيْهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْحَالِّ مُؤَجَّلًا أَجَلًا مَعْلُومًا؛ إِذْ الضَّمَانُ تَبَرُّعٌ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَيْهِ، فَكَانَ عَلَى حَسَبِ مَا الْتَزَمَهُ وَيَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّ الضَّامِنِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَلَا يُطَالَبُ إِلاَّ كَمَا الْتَزَمَ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: لَا يَصِحُّ الضَّمَانُ لِلْمُخَالَفَةِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُحَرَّرِ تَصْحِيحُهُ، قَالَ فِي الدَّقَائِقِ: وَالْأَصَحُّ مَا فِي بَقِيَّةِ النُّسَخِ وَالْمِنْهَاجِ، وَلَوْ ضَمِنَ الْمُؤَجَّلَ مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ أَطْوَلَ مِنَ الْأَوَّلِ فَكَضَمَانِ الْحَالِّ مُؤَجَّلًا.

د- الْكَفَالَةُ الْمُؤَقَّتَةُ:

13- تَوْقِيتُ الْكَفَالَةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَكْفُلَ الْكَفِيلُ الدَّيْنَ مُدَّةً مَعْلُومَةً مُحَدَّدَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ يَبْرَأُ بَعْدَهَا مِنَ الْتِزَامِهِ وَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْكَفِيلِ: أَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ بِدِيَتِهِ مِنَ الْيَوْمِ إِلَى نِهَايَةِ هَذَا الشَّهْرِ، فَإِذَا انْقَضَى الشَّهْرُ بَرِئْتُ مِنَ الْكَفَالَةِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، فَمَنْ رَأَى أَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيلِ لَا تُشْغَلُ بِالدَّيْنِ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ فَقَطْ بِأَدَائِهِ، أَجَازَ الْكَفَالَةَ الْمُؤَقَّتَةَ، وَقَيَّدَ الْمُطَالَبَةَ بِالْمُدَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيلِ تَصِيرُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ إِلَى جَانِبِ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، فَلَمْ يُجِزْ تَوْقِيتَ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ الذِّمَّةَ إِذَا شُغِلَتْ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهَا لَا تَبْرَأُ مِنْهُ إِلاَّ بِالْأَدَاءِ أَوِ الْإِبْرَاءِ، وَقَبُولُ الْكَفَالَةِ لِلتَّوْقِيتِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سُقُوطُ الدَّيْنِ عَنِ الْكَفِيلِ دُونَ أَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، وَتَطْبِيقًا عَلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَغْلَبُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ لَوْ قَالَ: كَفَلْتُ فُلَانًا مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَى شَهْرٍ، تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ قَالَ: كَفَلْتُ فُلَانًا شَهْرًا أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ..مِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَفِيلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُطَالَبُ فِي الْمُدَّةِ وَيَبْرَأُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ..وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ كَفِيلًا أَبَدًا وَيَلْغُو التَّوْقِيتُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُوسِرًا وَلَوْ فِي أَوَّلَ الْأَجَلِ فَقَطْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا وَالْعَادَةُ أَنَّهُ لَا يُوسِرُ فِي الْأَجَلِ الَّذِي ضَمِنَ الضَّامِنُ إِلَيْهِ، بَلْ بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْأَجَلِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنْ لَمْ يُعْسِرْ فِي جَمِيعِهِ، بَلْ أَيْسَرَ فِي أَثْنَائِهِ كَبَعْضِ أَصْحَابِ الْغَلاَّتِ وَالْوَظَائِفِ، كَأَنْ يَضْمَنَهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَادَتُهُ الْيَسَارُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ الْمُتَأَخِّرَ عَنِ ابْتِدَاءِ يَسَارِهِ يُعَدُّ فِيهِ صَاحِبُ الْحَقِّ مُسَلِّفًا، لِقُدْرَةِ رَبِّ الْحَقِّ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ عِنْدَ الْيَسَارِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَسَارَ الْمُتَرَقَّبَ كَالْمُحَقَّقِ، وَأَجَازَهُ أَشْهَبُ لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِصْحَابُ عُسْرِهِ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَوْقِيتُ الْكَفَالَةِ، كَأَنَا كَفِيلٌ بِزَيْدٍ إِلَى شَهْرٍ وَأَكُونُ بَعْدَهُ بَرِيئًا، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَجُوزُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَسْلِيمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْأَدَاءُ؛ فَلِهَذَا امْتَنَعَ تَأْقِيتُ الضَّمَانِ قَطْعًا.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي صِحَّةِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً، وَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي عَيَّنَهَا وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا وَفَاءٌ.

وَالثَّانِي: عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِي الدُّيُونِ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَنِ.

تَقْيِيدُ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ:

14- إِنْ قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِشَرْطٍ، فَقَدْ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَالشَّرْطُ، وَقَدْ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ، وَقَدْ تَلْغُو الْكَفَالَةُ وَالشَّرْطُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ وَأَثَرِ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى الْكَفَالَةِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ هَذَا الْعَبْدَ رَهْنًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَى الطَّالِبِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَتَخَيَّرُ الْكَفِيلُ بَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ فِي الْكَفَالَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ شَرْطَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَرَى بَيْنَ الْكَفِيلِ وَبَيْنَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى الطَّالِبِ بِأَنْ قَالَ لِلطَّالِبِ: أَكْفُلُ لَكَ بِهَذَا الْمَالِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَنِي الْمَطْلُوبُ بِهَذَا الْمَالِ عَبْدَهُ هَذَا رَهْنًا، فَكَفَلَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَأَبَى الْمَطْلُوبُ أَنْ يُعْطِيَهُ الرَّهْنَ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَتَخَيَّرُ.

وَلَوْ ضَمِنَهَا عَلَى أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الدَّارِ، فَبَاعَ الدَّارَ بِعَبْدٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ فِي الضَّمَانِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَنَّهُ يَغْرَمُ الْمَالَ إِنْ فَاتَ التَّسْلِيمُ، كَقَوْلِهِ: كَفَلْتُ بَدَنَهُ بِشَرْطِ الْغُرْمِ، أَوْ عَلَى أَنِّي أَغْرَمُ، بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَاهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى مُقَابِلِهِ أَيْ إِنَّهُ يَغْرَمُ الْمَالَ.

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ لِمُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.

الثَّانِي: يَصِحُّ الضَّمَانُ وَالشَّرْطُ، لِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ فِي قِصَّةِ أَبِي قَتَادَةَ لِلْمَيِّتِ، قَالَ: «فَجَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: هُمَا عَلَيْكَ وَفِي مَالِكَ وَالْمَيِّتُ مِنْهُمَا بَرِيءٌ فَقَالَ: نَعَمْ.فَصَلَّى عَلَيْهِ» وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَصِحُّ الضَّمَانُ فَقَطْ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَالَ: كَفَلْتُ بِبَدَنِ فُلَانٍ عَلَى أَنْ يَبْرَأَ فُلَانٌ الْكَفِيلُ أَوْ عَلَى أَنْ تُبْرِئَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا، وَتَفْسُدُ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ شَرْطُ تَحْوِيلِ الْوَثِيقَةِ الَّتِي عَلَى الْكَفِيلِ إِلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَالَةُ إِلاَّ أَنْ يُبْرِئَ الْمَكْفُولُ لَهُ الْكَفِيلَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَفَلَ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَلَا تَثْبُتُ كَفَالَتُهُ بِدُونِ شَرْطِهِ.

وَإِنْ قَالَ: كَفَلْتُ لَكَ بِهَذَا الْغَرِيمِ عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنَ الْكَفَالَةِ بِفُلَانٍ، أَوْ ضَمِنْتُ لَكَ هَذَا الدَّيْنَ بِشَرْطِ أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ ضَمَانِ الدَّيْنِ الْآخَرِ، أَوْ عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنَ الْكَفَالَةِ بِفُلَانٍ، خَرَجَ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَالْأَوْلَى: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فَسْخَ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ فَسْخِ بَيْعٍ آخَرَ.

وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَوِ الضَّمَانِ أَنْ يَتَكَفَّلَ الْمَكْفُولُ لَهُ، أَوِ الْمَكْفُولُ بِهِ بِآخَرَ، أَوْ يَضْمَنَ دَيْنًا عَلَيْهِ، أَوْ يَبِيعَهُ شَيْئًا عَيْنَهُ أَوْ يُؤَجِّرَهُ دَارَهُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِمَا ذُكِرَ.

الرُّكْنُ الثَّانِي- الْكَفِيلُ:

15- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَفِيلِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ وَعَلَى ذَلِكَ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ أَوِ الْمَعْتُوهِ أَوِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا مَأْذُونًا أَوْ أَجَازَهَا الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ.

إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ قَالَ: إِلاَّ إِذَا اسْتَدَانَ لَهُ وَلِيُّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ الْمَالَ عَنْهُ فَتَصِحُّ، وَيَكُونُ إِذْنًا فِي الْأَدَاءِ، وَمُفَادُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ يُطَالَبُ بِهَذَا الْمَالِ بِمُوجِبِ الْكَفَالَةِ، وَلَوْلَاهَا لَطُولِبَ الْوَلِيُّ، وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنْ مَرِيضٍ إِلاَّ مِنَ الثُّلُثِ.

أَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ وَلَا كَفَالَتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ إِلَى أَنَّ كَفَالَةَ السَّفِيهِ تَقَعُ صَحِيحَةً غَيْرَ نَافِذَةٍ وَيُتْبَعُ بِهَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، كَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ وَكَذَلِكَ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا تَلْزَمُ الْكَفِيلَ الْمُكْرَهَ.

أَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِلدَّيْنِ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ-، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْفُلَ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَالْحَجْرُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ لَا بِذِمَّتِهِ، فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ الْآنَ، وَلَا يُطَالَبُ إِلاَّ إِذَا انْفَكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ وَأَيْسَرَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَرِيضِ مِنْ مَرَضِ الْمَوْتِ، بِحَيْثُ لَا يَتَجَاوَزُ- مَعَ سَائِرِ تَبَرُّعَاتِهِ- ثُلُثَ التَّرِكَةِ، فَإِنْ جَاوَزَتْهُ تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يَأْخُذُ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمَرِيضِ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إِلاَّ إِذَا ضَمِنَ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَاسْتَمَرَّ إِعْسَارُهُ إِلَى وَقْتِ وَفَاتِهِ، أَوْ ضَمِنَ ضَمَانًا لَا يَسْتَوْجِبُ رُجُوعَهُ عَلَى الْمَدِينِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَإِذَا اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مَالَ الْمَرِيضِ- وَقَضَى بِهِ- بَطَلَ الضَّمَانُ إِلاَّ إِذَا أَجَازَهُ الدَّائِنُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الضَّمَانِ.

كَفَالَةُ الْمَرْأَةِ:

16- لَا يُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ ضَمَانَ الْمَرْأَةِ- إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ- يَنْفُذُ فِي حُدُودِ ثُلُثِ مَالِهَا، أَمَّا إِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيَصِحُّ وَلَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الزَّوْجِ.أَمَّا الْمَرْأَةُ الْأَيِّمُ غَيْرُ ذَاتِ الزَّوْجِ- إِذَا كَانَتْ لَا يُوَلَّى عَلَيْهَا- فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ فِي الْكَفَالَةِ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ- الْمَكْفُولُ لَهُ:

يُشْتَرَطُ فِي الْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْكَفِيلِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ بَالِغًا عَاقِلًا، وَفِي اشْتِرَاطِ رِضَاهُ بِالْكَفَالَةِ وَقَبُولِهِ لَهَا، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

1- كَوْنُ الْمَكْفُولِ لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيلِ:

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَكْفُولِ لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيلِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ مُنَجَّزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً أَوْ مُضَافَةً، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنَا كَفِيلٌ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ هَذَا الدَّلاَّلِ مِنْ ضَرَرٍ عَلَى النَّاسِ، لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ؛ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ تَشْدِيدًا وَتَسْهِيلًا وَلِيَعْلَمَ الضَّامِنُ هَلْ هُوَ أَهْلٌ لِإِسْدَاءِ الْجَمِيلِ إِلَيْهِ أَوْ لَا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا يَشْتَرِطَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ لَهُ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ- بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ- فَلَوْ كَفَلَ الْكَفِيلُ لِشَخْصٍ غَائِبٍ عَنِ الْمَجْلِسِ، وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ، لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عِنْدَهُمَا إِذَا لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ حَاضِرٌ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوَافُرِهِ لِإِتْمَامِ صِيغَةِ الْعَقْدِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: الرَّاجِحَةُ مِنْهُمَا تُجِيزُ الْكَفَالَةَ لِلْغَائِبِ عَنِ الْمَجْلِسِ وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبُولِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدِ اشْتَرَطَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ لِتَوْثِيقِ الدَّيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْمَكْفُولُ لَهُ مَجْهُولًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الْكَفَالَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَدَا الْقَاضِي مِنْهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ لَا تَضُرُّ، وَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ، فَإِذَا قَالَ الضَّامِنُ: أَنَا ضَامِنُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى زَيْدٍ لِلنَّاسِ- وَهُوَ لَا يَعْرِفُ عَيْنَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ- صَحَّتِ الْكَفَالَةُ، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُتَقَدِّمِ فَقَدْ كَفَلَ أَبُو قَتَادَةَ دَيْنَ الْمَيِّتِ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْفُولَ لَهُ.

2- اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فِي الْمَكْفُولِ لَهُ:

18- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فِي الْمَكْفُولِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَنْعَقِدُ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى قَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْقَبُولِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ لَهُ بَالِغًا عَاقِلًا؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَحْتَاجُ إِلَى إِيجَابٍ مِنَ الْكَفِيلِ وَقَبُولٍ مِنَ الْمَكْفُولِ لَهُ.

وَيَجُوزُ قَبُولُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالسَّفِيهِ، لِأَنَّ ضَمَانَ حَقِّهِمَا نَفْعٌ مَحْضٌ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِمَا.

3- قَبُولُ الْمَكْفُولِ لَهُ:

19- تَقَدَّمَ فِي صِيغَةِ الْكَفَالَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا يَرَيَانِ أَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَأَنَّ قَبُولَ الْمَكْفُولِ لَهُ رُكْنٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمَكْفُولُ لَهُ حَقَّ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ أَوْ حَقًّا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَجَبَ قَبُولُ الْمَكْفُولِ لَهُ، إِذْ لَا يَمْلِكُ إِنْسَانٌ حَقًّا رَغْمَ أَنْفِهِ، فَكَانَتْ كَالْبَيْعِ تُفِيدُ مِلْكًا، فَلَا تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ.

وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَيْضًا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ الْكَفَالَةَ تَتِمُّ وَتَتَحَقَّقُ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ وَحْدَهُ، فَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ صَادِرٍ مِنَ الْكَفِيلِ بِأَنْ يُوَفِّيَ مَا وَجَبَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَكْفُولِ لَهُ عَلَى حَقِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينِ، وَذَلِكَ الْتِزَامٌ لَا مُعَاوَضَةَ فِيهِ، وَلَا يَضُرُّ بِحَقِّ أَحَدِهِمَا أَوْ يَنْقُصُ مِنْهُ، بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ مِنَ الْكَفِيلِ فَيَتِمُّ بِعِبَارَتِهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ- رضي الله عنه- كَفَلَ الْمَيِّتَ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ الدَّائِنَ أَوْ أَنْ يَطْلُبَ قَبُولَهُ فَأَقَرَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- كَفَالَتَهُ وَصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ بِنَاءً عَلَيْهَا».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-تاج العروس (بلغ)

[بلغ]: بَلَغَ المَكَانَ، بُلُوغًا، بالضَّمِّ: وَصَلَ إِلَيْهِ وَانْتَهَى، ومِنْهُ قَوْلُه تَعَالَى: {لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ}.

أَو بَلَغَه: شارَفَ عَلَيْهِ، ومِنْهُ قَوْلُه تَعَالَى: {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}.

أي: قارَبْنَهُ، وقالَ أَبُو القاسِمِ في المُفْرَداتِ: البُلُوغُ وَالإِبْلاغُ: الانْتِهَاءُ إلى أَقْصَى المَقْصِدِ وَالمنْتَهَى، مَكَانًا كان، أو زَمانًا، أو أَمْرًا مِنَ الأُمُورِ المُقَدَّرَةِ. ورُبَّمَا يُعَبَّرُ بهِ عن المُشَارَفَةِ عليهِ، وإِن لَم يُنْتَهَ إِلَيْهِ، فمِنَ الانْتِهَاءِ: {حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} و {ما هُمْ بِبالِغِيهِ} و {فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} و {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ} و (أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ) أي مُنْتَهِيَةٌ في التَّوْكِيدِ، وأَمّا قوله: (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) فلِلْمُشارَفَةِ؛ فإِنّهَا إذا انْتَهَتْ إلى أَقْصَى الأَجَلِ لا يَصِحُّ للزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا وَإِمْسَاكُها.

وبَلَغَ الغُلامُ: أَدْرَكَ، وَبَلَغَ في الجَوْدَةِ مَبْلَغًا، كما في العُبَابِ، وفي المُحْكَمِ: أي احْتَلَمَ، كأَنَّهُ بَلَغَ وَقْتَ الكِتابِ عَلَيْهِ وَالتَّكْلِيفِ، وكَذلِكَ: بَلَغَتِ الجارِيَةُ، وفي التَّهْذِيبِ: بَلَغَ الصَّبِيُّ، والجارِيَةُ: إذا أَدْرَكَا، وهُمَا بالِغَانِ.

وثَنَاءٌ أَبْلَغُ: مُبَالِغٌ فِيهِ قال رُؤْبَةُ يَمْدَحُ المُسَبِّحَ بن الحَوَارِيِّ بنِ زِيَادِ بنِ عَمْرٍو العَتَكِيُّ:

بَلْ قُلْ لِعَبْدِ اللهِ بَلِّغْ وَابْلُغِ *** مُسَبِّحًا حُسْنَ الثَّنآءِ الأَبْلَغِ

وشيىْ‌ءٌ بالِغٌ، أي: جَيِّدٌ، وقَدْ بَلَغ في الجَوْدَةِ مَبْلَغًا.

وقال الشّافِعِيُّ ـ رحمه ‌الله ـ في كِتَابِ النِّكَاحِ: جارِيَةٌ بالِغٌ، بغَيْرِ هاءٍ، هكَذَا رَوَى الأَزْهَرِيُّ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْهُ، قال الأَزْهَرِيُّ: والشّافِعِيُّ فَصِيحٌ [وقوله] حُجَّةٌ في اللُّغَةِ، قال: وسَمِعْتُ فُصَحاءَ العَرَبِ يَقُولُونَ: جارِيَةٌ بالِغٌ، وهكذا قَوْلُهُمْ: امْرَأَةٌ عاشِقٌ، وَلِحْيَةٌ ناصِلٌ، قال: ولَوْ قال قائِلٌ: جارِيَةٌ بالِغَةٌ لمْ يَكُنْ خَطَأً؛ لأَنَّهُ الأَصْلُ، أي: مُدْرِكَةٌ وقَدْ بَلَغَتْ.

ويُقَال: بُلِغَ الرَّجُلُ، كعُنِيَ: جُهِدَ وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْدٍ:

إنَّ الضِّبابَ خَضَعَتْ رِقَابُها *** للسَّيْفِ لَمّا بُلِغَتْ أَحْسَابُها

أي: مَجْهُودُهَا، وأَحْسَابُها: شَجَاعَتُها وَقُوَّتُهَا وَمَنَاقِبُهَا.

والتَبْلِغَةُ: حَبْلٌ يُوصَلُ بهِ الرِّشَاءُ إلَى الكَرَبِ، ومِنْهُ قَوْلُهم: وَصَلَ رِشَاءَهُ بتَبْلِغَةٍ، قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وهُوَ حَبْلٌ يُوصَلُ بهِ حَتَّى يَبْلُغَ الماءَ. ج: تَبَالِغُ يُقَالُ: لا بُدَّ لأَرْشِيَتِكُمْ مِنْ تَبالِغَ.

وقال الفَرّاءُ: يُقَالُ: أَحْمَقُ بَلْغٌ، بالفَتْحِ، ويُكْسَرُ، وَبَلْغَةٌ، بالفَتْحِ، أي: هُوَ مَعَ حَماقَتِه يَبْلُغُ ما يُرِيدُ، أَو المُرادُ: نِهَايَةٌ في الحُمْقِ، بالِغٌ فِيهِ.

قال: ويُقَالُ: اللهُمَّ سَمْعٌ لا بَلْغٌ، وسَمْعًا لا بَلْغًا، ويُكْسَرانِ، أي: نَسْمَعُ بهِ وَلا يَتِمُّ، كمَا في العُبَابِ، وفي اللسَانِ: وَلا يَبْلُغُنَا، يُقَالُ ذلِكَ إذا سَمِعُوا أَمْرًا مُنْكَرًا، أَو يَقُولُه مَنْ سَمِعَ خَبَرًا لا يُعْجِبُه، قالَهُ الكِسَائِيُّ، أَوْ للخَبَرِ يَبْلُغُ واحِدَهُمْ وَلا يُحَقِّقُونَهُ.

وأَمْرُ اللهِ بَلْغٌ بالفَتْحِ أي: بالِغٌ نافِذٌ، يَبْلُغُ أَيْنَ أُرِيدَ بهِ، قال الحارِثُ بنُ حِلِّزَةَ:

فَهَدَاهُمْ بالأَسْوَدَيْنِ وَأَمْرُ ال *** لّهِ بَلْغٌ تَشْقَى بهِ الأشْقِيَاءُ

وهو من قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ}.

وجَيْشٌ بَلْغٌ كَذلِكَ، أي: بالِغٌ.

وقال الفَرّاءُ: رَجُلٌ بِلْغٌ مِلْغٌ، بكَسْرِهِمَا: إِتْباعٌ، أي خَبِيثٌ مُتَنَاهٍ في الخَباثَةِ.

والبَلْغُ بالفَتْحِ، ويُكْسَرُ، والبِلَغُ كعِنَبٍ، والبَلاغَى مثل: سَكَارَى وَحُبَارَى ومِثْلُ الثّانِيَةِ: أَمْرٌ بِرَحٌ، أي: مُبَرِّحٌ، وَلَحْمٌ زِيَمٌ، ومَكانٌ سِوًى، ودِينٌ قِيَمٌ، وهو: البَلِيغُ الفَصِيحُ الَّذِي يَبْلُغُ بِعِبَارَتِه كُنْهَ ضَمِيرِه، وَنِهَايَةَ مُرَادِه، وجَمعُ البَلِيغِ، بُلَغاءَ، وقَدْ بَلُغَ الرَّجُلُ كَكَرُمَ بَلاغَةً، قال شَيْخُنا: وَأَغْفَلَهُ المُصَنِّفُ تَقْصِيرًا، أي: ذِكْرَ المَصْدَرِ، والمَعْنَى: صارَ بَلِيغًا.

قُلْتُ: والبَلاغَةُ عَلَى وَجْهَيْن: أَحَدُهُما: أَنْ يَكُونَ بِذَاتِه بَلِيغًا وَذلِكَ بأَنْ يَجْمَعَ ثَلاثَةَ أَوْصَافٍ: صَوَابًا في مَوْضوعِ لُغَتِه، وطِبْقًا للمَعْنَى المَقْصُودِ بِهِ، وصِدْقًا في نَفْسِهِ، ومَتَى اخْتُرِمَ وَصْفٌ مِنْ ذلِكَ كانَ نَاقِصًا في البَلاغَة.

وَالثاني: أَنْ يَكُونَ بَلِيغًا بِاعْتِبَارِ القائِلِ وَالمَقُولِ لَهُ، وهُو أَنْ يَقْصِدَ القائِلُ بهِ أَمْرًا مَا، فيُورِدَهُ عَلَى وَجْهٍ حَقِيقٍ أَنْ يَقْبَلَهُ المَقُولُ لَهُ.

وَقَوْلُه تَعالَى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}، يَحْتَمِل المَعْنَييْنِ، وقولُ مَنْ قالَ: مَعْناهُ: قُلْ لَهُمْ إِنْ أَظْهَرْتُمْ ما في أَنْفُسِكُمْ قُتِلْتُمْ، وقَوْلُ من قالَ: خَوِّفْهُمْ بمَكارِهَ تَنْزِلُ بِهِمْ، فإِشَارَةٌ إلى بَعْضِ ما يَقْتَضِيه عُمُومُ اللَّفْظِ، قالَهُ الرّاغِبُ.

وَقَرَأْتُ في مُعْجَمِ الذَّهَبِيِّ، في تَرْجَمَةِ صُحارِ بنِ عَيّاشٍ العبْدِيِّ رضي ‌الله‌ عنه سَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنِ البَلَاغَةِ، فقَال: «لا تُخْسِئْ وَلا تُبْطِئْ».

والبَلاغُ كسَحابٍ: الكِفَايَةُ، وهُوَ: ما يُتَبَلَّغُ بهِ وَيُتَوَصَّلُ إلَى الشَّي‌ءِ المَطْلُوبِ، ومِنْهُ قَوْلُه تَعالَى: {إِنَّ فِي هذا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عابِدِينَ} أي: كِفَايَةً، وكَذا قَوْلُ الرّاجِزِ:

تَزَجَّ مِنْ دُنْيَاكَ بالبَلاغِ *** وباكِرِ المِعْدَةَ بالدِّباغِ

بِكِسْرَةٍ جَيِّدَةِ المِضاعِ *** بالمِلْحِ أو ما خَفَّ مِن صِباغِ

والبَلاغُ: الاسْمُ مِنَ الإِبْلاغٍ وَالتَّبْلِيغِ؛ وهُمَا:

الإيصالُ، يُقَال: أَبْلَغَهُ الخَبَرَ إِبْلاغا، وبَلَّغَهُ تَبْلِيغًا، والثّانِي أَكْثَرُ، قالَهُ الرّاغِبُ، وقَوْلُ أَبِي قَيْسِ بنِ الأَسْلَتِ السُّلَمي:

قالَتْ وَلَم تَقْصِدْ لِقِيلِ الخَنَا: *** مَهْلًا لَقَدْ أَبْلَغْتَ أَسْمَاعِي

هُوَ مِنْ ذلِكَ، أي: قَد انْتَهَيْتَ فِيه، وأَوْصَلْتَ، وأَنْعَمْتَ.

وَقَوْلُه تَعَالَى: {هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ} أي: هذا القُرْآن ذُو بَلاغٍ، أي: بَيَانٍ كافٍ.

وَقولُه تَعَالَى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، أي: الإِبْلاغُ.

وفي الحَدِيثِ: «كُلُّ رافِعَةٍ رَفَعَتْ عَلَيْنَا كذا في العُبَابِ، وَفي اللّسَانِ: عَنّا مِنَ البَلاغِ فَقَدْ حَرَّمْتُهَا أَنْ تُعْضَدَ، أَو تُخْبَطَ، إلّا لِعُصْفُورِ قَتَبٍ، أو مَسَدِّ مَحَالَةٍ، أو عَصَا حَدِيدَةٍ» يَعْنِي المَدِينَةَ عَلَى ساكِنِها أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ، ويُرْوَى بفَتْح الباءِ وَكَسْرِهَا، فإِنْ كانَ بالفَتْحِ فلَهُ وَجْهَانِ، أَحَدُهُما: أي ما بَلَغَ مِن القُرْآنِ وَالسُّنَنِ، أو المَعْنَى: مِنْ ذَوِي البَلاغِ، أي: الَّذِينَ بَلَّغُونا، أيْ: مِنْ ذَوِي التَّبْلِيغِ وقد أَقامَ الاسْمَ مُقامَ المَصْدَرِ الحَقِيقِيِّ، كما تَقُول: أَعْطَيْتُ عَطاءً، كذا في التهْذِيبِ وَالعُبَاب، ويُرْوَى بالكَسْرِ، قال الهَرَوِيُّ: أي: مِنْ المُبَالِغِينَ في التَّبْلِيغِ، مِنْ بالَغَ يُبَالِغُ مُبَالَغَةً وَبِلاغًا، بالكَسْرِ: إذا اجْتَهَدَ في الأمْر ولَم يُقَصِّرْ، وَالمَعْنَى: كُلُّ جَماعَةٍ أَوْ نَفْسٍ تُبَلِّغُ عَنّا وَتُذِيعُ ما نَقُولَهُ، فلْتُبَلِّغْ ولْتَحْكِ. قلتُ: وقدْ ذُكِرَ هذا الحَدِيثُ في «ر ف ع» ويُرْوَى أَيْضًا: «مِنَ البُلّاغ» مِثَال الحُدّاثِ، بمَعْنَى المُحَدِّثِينَ، وقد أَسْبَقْنَا الإِشَارَةَ إِلَيْهِ، وكانَ عَلَى المُصَنِّفِ أَنْ يُوردَهُ هُنَا؛ لتَكْمُلَ لَه الإِحَاطَةُ.

والبالِغَاءُ: الأَكَارِعُ بلُغَةِ أَهْلِ المَدِينَةِ المُشَرَّفَةِ، قال أَبو عُبَيْدٍ: مُعَرَّبُ يايْهَا، أي: أنَّ الكَلِمَةَ فارِسِيَّةٌ عُرِّبَتْ، فإِنّ بايْ بالفَتْحِ وَإِسْكَانِ الياءِ: الرِّجْلُ، وهَا: علامَةُ الجَمْعِ عِنْدَهُمْ، ومَعْنَاهُ: الأَرْجُلُ، ثم أُطْلِقَ عَلَى أَكارِعِ الشّاةِ وَنَحْوِهَا، ويُسَمُّونَهَا أَيْضًا: باجْهَا، وهذا هُوَ المَشهُورُ عِنْدَهُم، وهذا التَّعْرِيبُ غَرِيبٌ، فَتَأَمَّلْ.

والبَلاغاتُ: مِثْلُ الوِشايات.

والبُلْغَةُ، بالضَّمِّ: الكِفَايَةُ وما يُتَبَلَّغُ بهِ مِنَ العَيْشِ، زادَ الأَزْهَرِي: ولا فَضْلَ فِيه، تَقُولُ: في هذَا بَلاغٌ، وبُلْغَةٌ، أي: كِفَايَةٌ.

والبِلَغِينَ بكَسْرِ أَوَّلهِ وَفَتْح ثانِيَه وَكَسْرِ الغَيْن في قَوْلِ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهَا لِعَليٍّ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ حِينَ ظفِرَ بِهَا « [قد] بَلَغْتَ مِنّا البِلَغِينَ هكَذا رُوِيَ، ويُضَمُّ أَوَّلُه أي: مَع فَتْحِ الّلام، ومَعْنَاهُ: الدّاهِيَةُ وهُوَ مَثَلٌ أَرادَتْ: بَلَغْتَ مِنّا كُلَّ مَبْلَغٍ وقِيلَ: مَعْنَاهُ أنَّ الحَرْبَ قَدْ جَهِدَتْها، وَبَلَغَتْ مِنْهَا كُلَّ مَبْلَغٍ، وقالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ مِثْل قَوْلِهِمْ: لَقِيتَ مِنّا البِرَحِينَ وَالأَقْوَرِينَ، وكُلُّ هذَا مِنَ الدَّوَاهِي، قال ابنُ الأَثِيرِ: والأَصْلُ فِيهِ كأَنَّهُ قِيلَ: خَطْبٌ بِلْغٌ، أي: بَلِيغٌ، وَأَمْرٌ بِرَحٌ، أي: مُبَرِّحٌ، ثُمَّ جُمِعَا عَلَى السَّلامَةِ إِيذانًا بأَنَّ الخُطُوبَ في شِدَّةِ نكايَتِهَا بمَنْزِلَةِ العُقلاءِ الّذِينَ لَهُمْ قَصْدٌ وَتَعَمُّدٌ، وقَدْ نُقِلَ في إِعْرَابِهَا طَرِيقانِ، أَحَدُهُما: أَنْ يُجْرَى إعْرَابُه عَلَى النُّونِ، والياءُ يُقَرُّ بحالِهِ، أَوْ تُفْتَح النُّونُ أَبَدًا، ويُعْرَب ما قَبْلَه، فيُقَالُ: هذِه البِلَغُونَ، ولَقِيتُ البِلَغِينَ، وَأَعُوذُ باللهِ مِنَ البِلَغِينَ، كما في العُبَابِ.

وبَلَّغَ الفارِسُ تَبْلِيغًا: مَدَّ يَدَهُ بِعِنانِ فَرَسِه؛ ليَزِيدَ في جَرْيِه، وفي الأساس: في عَدْوِهِ.

وتَبَلَّغَ بِكَذا: اكْتَفَى بهِ، ووَصَلَ مُرَادَه، قال:

تَبَلَّغْ بأَخْلاقِ الثِّيَابِ جَدِيدَها *** وَبالقَضْمِ حَتَّى يُدْرَكَ الخَضْمُ بالقَضْمِ

وَيُقَالُ: هذا تَبَلُّغٌ، أي: بُلْغَةٌ.

وتَبَلَّغَ المَنْزِلَ: إذا تَكَلَّفَ إِلَيْهِ البُلُوغَ حَتّى بَلَغَ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بنِ ذَرِيحٍ:

شَقَقْتِ القَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ *** هَوَاكِ فَلِيمَ فالْتَأَمَ الفُطُورُ

تَبَلَّغَ حَيْثُ لَم يَبْلُغْ شَرابٌ *** وَلا حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ

أي: تَكَلَّفَ البُلُوغَ حَتَّى بَلَغَ.

وتَبَلَّغَتْ بِهِ العِلَّةُ، أي: اشْتَدَّتْ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، والصّاغَانِيُّ.

وبالَغَ في أَمْرِي مُبَالَغَةً، وبِلاغًا: اجْتَهَدَ ولَم يُقَصِّرْ، وَهذا قَدْ تَقَدَّمَ بِعَيْنِه، فهُوَ تَكْرارٌ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليهِ:

البَلاغُ: الوُصُولُ إِلَى الشَّيْ‌ءِ.

وَبَلَغَ فُلانٌ مَبْلَغَتَه، كمَبْلَغِه.

وَبَلَغَ النَّبْتُ: انْتَهَى.

وَتَبَالَغَ الدِّباغُ في الجِلْدِ: انْتَهَى فِيهِ، عن أَبِي حَنِيفَةَ.

وَبَلَغَتِ النَّخْلَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الشَّجَرِ: حانَ إِدْرَاكُ ثَمَرِهَا، عَنْهُ أَيْضا.

وَفي التَّنْزِيلِ: {بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ} وفي مَوْضِعٍ: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}، قال الرّاغِبُ: وَذلِكَ مِثلُ: أَدْرَكَنِي الجَهْدُ، وأَدْرَكْتُ [الجَهْدَ]، ولا يَصِحُّ بَلَغَنِي المَكَانُ، وأَدْرَكَنِي.

وَالمَبَالِغُ: جَمْعُ المَبْلَغِ، يُقَال: بَلَغَ في العِلْمِ المَبَالِغَ.

وَالمَبْلَغُ، كمَقْعَدٍ: النَّقْدُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنانِيرِ، مُوَلَّدَةٌ.

وَبَلَغَ اللهُ بِه، فهو مَبْلُوغٌ بِه.

وَأَبْلَغْتُ إِلَيْهِ: فَعَلْتُ بهِ ما بَلَغَ بهِ الأَذَى وَالمَكْرُوهَ البَلِيغَ.

وَتَبَالَغَ فيهِ الهَمُّ وَالمَرَضُ: تَنَاهَى.

وَتَبَالَغَ في كَلامِه: تَعَاطَى البَلاغَةَ، ـ أي: الفَصَاحَةَ ـ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِها، يُقَال: ما هُوَ بِبَلِيغٍ ولكِن يَتَبَالَغُ.

وَقوله تَعَالَى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ} قال ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ مُوجَبَةٌ أَبَدًا، قَدْ حَلَفْنَا لَكُمْ أَنْ نَفيَ بِهَا، وقالَ مَرَّةً: أي قَد انْتَهَتْ إلى غايتِها، وقِيلَ: يَمِينٌ بالِغَةٌ، أي: مُؤكَّدَةٌ.

والمُبَالَغَةُ: أَنْ تَبْلُغَ في الأَمْرِ جَهْدَكَ.

وَالبِلَغْنُ، بكَسْرٍ ففَتْحٍ: البَلاغَةُ، عن السِّيرافيِّ، ومَثّلَ بهِ سِيبَوَيْهٌ.

وَالبِلَغْنُ أَيْضًا: النَّمّامُ، عن كُراع. وقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُبَلِّغُ للنّاسِ بَعْضِهِمْ حَدِيثَ بَعْضٍ.

وَبَلَغَ بهِ البِلَغِينَ، بكَسْره الباءِ وفَتْحِ الّلامِ، وتَخْفِيفِها، عن ابْنِ الأَعْرابِيِّ: إذا اسْتَقْصَى في شَتْمِه وَأَذاهُ.

وَالبُلّاغُ، كرُمّانٍ: الحُدّاثُ.

وَفي نَوَادِرِ الأَعْرَابِ، لابْنِ الأَعْرَابِيِّ: بَلَّغَ الشَّيْبُ في رَأْسِه تَبْلِيغًا: ظَهَرَ أَوَّلَ ما يَظْهَرُ، وكَذلِكَ بَلَّعَ بالعَيْنِ المُهْمَلَةِ، وزَعَمَ البَصْرِيُّونَ أنَّ الغَيْنَ المُعْجَمَةَ تَصْحِيفٌ منَ ابْنِ الأَعْرابيِّ، ونَقَلَ أَبُو بَكْرٍ [الصولي] ـ عَنْ ثَعْلَبٍ: بَلَّغَ، بالغَيْنِ مُعْجَمَةً، سَماعًا، وهُوَ حاضِرٌ في مَجْلِسِه.

وَالتَّبْلِغَةُ: سَيْرٌ يُدْرَجُ عَلَى السِّيَةِ حَيْثُ انْتَهَى طَرَفُ الوَتَرِ ثَلاثَ مِرارٍ، أَوْ أَرْبَعًا؛ لِكَيْ يَثْبُتَ الوَتَرُ، حَكَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَجَعَلَه اسْمًا؛ كالتَّوْدِيَةِ، والتَّنْهِيَةِ.

وَالبُلْغَةُ، بالضَّمِّ: مَداسُ الرجلِ، مِصْرِيَّةٌ مُوَلَّدَةٌ.

وَحَمْقَاءُ بِلْغَةٌ، بالكَسْرِ: تأْنِيثُ قَوْلِهِمْ: أَحْمَقُ بِلْغٌ.

وَأَبُوا البَلاغِ جِبْرِيلُ، كسَحابٍ: مُحَدِّثٌ، ذَكَرَهُ ابنُ نُقْطَةَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com