نتائج البحث عن (ثَوَابُهَا)
1-العربية المعاصرة (جرى)
جرَى يَجري، اجْرِ، جَرْيًا، فهو جارٍ.* جرَى الفرسُ وغيرُه: اندفع في السَّير، عدا، ركض (جرَى المتسابقون حول الجامعة- فاز في بطولة الجَرْي- كان يجري إلى مساعدة الضعيف والمحتاج) (*) تجري الرِّياحُ بما لا تشتهي السُّفُنُ [مثل]: يُضرب لمجيء الأمور على غير ما تريده النَّفْسُ- تجري على الأيتام: تعولهم- جرَى على باله: تذكّره، فكّر فيه- جرَى على كل لسان: ذاع، انتشر خبُره، صار متداولًا وشائعًا- جرَى له العطاءُ: دام واستمرّ- ما يجري عليه العرفُ: ما يُطبَّق من أحكام مصدرها العرف- يجري إلى نجدة المحتاج: لا يتوانى ولا يبخل بمجهود لمساعدته.
* جرَتِ السَّفينةُ ونحوُها: سارت، انتقلت من مكان إلى آخر {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [قرآن] - جرتِ الرِّيحُ: هبَّت- جرتِ العادةُ: أصبح عُرْفًا، درجت وقُبلَت- جرتِ الكلمات على لسانه: دارت وجاءت سلسة- جرَى مثلًا: اشتُهر حتى صار كالأمثال- جرَى مَجْراه: احتذاه وسار على منواله، أخذ طريقه وتبعه، كان حاله كحاله- جرَى معه: جاراه وسايره.
جرَى/جرَى إلى/جرَى ل يَجرِي، اجْرِ، جَرْيًا وجَرَيانًا، فهو جارٍ، والمفعول مجريٌّ إليه.
* جرَى الماءُ ونحوه: سال مُندفعًا (جرَى الدَّمُ في وجهه- {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [قرآن]) (*) جرَى دَمْعُه: بكى- ما جرى دمٌ في عروقي: ما دمت حيًّا.
* جرَى الأمرُ: تمَّ، مضَى، نفذ (جرت الأحداثُ/الانتخابات- جرت الأمورُ في أعنّتها- جرى العرضُ على المسرح) - جرَى به العمل: نُفِّذ.
* جرَى إلى البيت: قصده وأسرع إليه.
* جرَى له مكروهٌ: وقع، حدث.
أجرى يُجري، أَجْرِ، إجراءً، فهو مُجْرٍ، والمفعول مُجْرًى.
* أجرى الماءَ ونحوَه: أساله، جعله يجري (أجرى دمًا) (*) أجرى الرِّيقَ: أسال اللعابَ وأثار الرغبةَ في شيء ما.
* أجرى بحثًا: قام به (أجرى عمليّة جراحيّة- أجرى تجارب على الدَّواء الجديد- أجرى الرَّئيسُ مباحثاتٍ/اتّصالًا هاتفيًّا مع نظيره الأمريكيّ- أجرى تحقيقًا في الأمر) - أجرى عادة: أوجد عُرفًا وأشاعه.
* أجرى الأمرَ: أمضاه وأنفذه، وضعه في حيِّز التَّنفيذ (أجرتِ الوزارةُ إصلاحات واسعة في الطُّرق: - أجرى معجزات: أحدثها) - أجراه مُجراه: أعطاه حكمه- أجرى الحق: أنصف كل واحد، نفّذ الحقَّ- أجرى القوانين عليه: طبَّقها عليه.
* أجرى السَّفينةَ: سيَّرها (أجرى اللهُ السَّحابَ).
* أجرى فرسًا: جعله يعدو.
* أجرى عليه موردًا: أدامه له وأفاضه عليه، زوّده بما يحتاج إليه (أجرتِ لجنة الزَّكاةُ مساعدات ماليّة لفقراء الحيّ) - أجرى عليه حسابًا: قيَّده عليه- أجرى له إعانة: منحه مساعدة- أجرى له حسابًا: قيَّده لصالحه.
* أجرى فلانًا في حاجته: أرسله فيها.
تجارى في يتجارَى، تَجارَ، تَجاريًا، فهو مُتجارٍ، والمفعول مُتجارًى فيه.
* تجارى القومُ في الحديث: تناظروا فيه.
جارى يجاري، جارِ، جِرَاءً ومُجاراةً، فهو مُجارٍ، والمفعول مُجارًى.
* جارى الشَّخصَ: سايره وجرَى معه، وافقه واتّفق معه (تحاول الدُّولُ النّامية مجاراة الدُّول المتقدّمة- جارى الأوضاعَ السائدة- كان إمَّعَة يجاري ويُدَاري- أُعجِب بالشِّعر الغربيّ وأخذ في مجاراته) (*) جاراه الكلامَ: حادثه- جارى التيّارَ: سار معه، تكيَّف معه- مجاراةً له: مسايرةً له.
* جاراه في تخصُّصه: باراه، شابهه أو بلغ منزلته فيه (شاعرٌ لا يُجارَى في شعره- جاراه في الكرم).
جرَّى يجرِّي، جَرِّ، تجريةً، فهو مُجَرٍّ، والمفعول مُجرَّى.
* جَرَّى الماءَ: جعله يجري.
إجراء [مفرد]: جمعه إجراءات (لغير المصدر):
1 - مصدر أجرى (*) إجراء القصاص: تنفيذه.
2 - تدبير أو خطوة تُتَّخذ لأمر ما (إجراءات احتياطيَّة/تحفُّظيَّة: تدبير وقائيّ، احتراز، اتِّقاء، حذر، حيطة- إجراءات وقائيَّة/أمنيَّة/إداريّة/تجاريّة- إجراء مُسْتَعجَل: لا يقبل التأجيل- إجراء انتخابات حُرَّة) (*) إجراءات تأديبيّة: مجموعة الأصول والأوضاع الواجبة الاتّباع في التَّحقيق مع الموظَّف المتَّهم ومحاكمته تأديبيًّا- إجراءات قانونيَّة: تدبيرات قانونيَّة تتعلَّق بأحكام شرعيَّة كالبيع والشِّراء ونحوهما، توضع لحماية حقوق الأفراد القانونيّة.
إجرائيَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى إجراء: (مراحل إجرائيَّة) (*) السُّلطة الإجرائيّة: السلطة التنفيذيّة.
تجرية [مفرد]: مصدر جرَّى.
جارٍ [مفرد]:
1 - اسم فاعل من جرَى وجرَى/جرَى إلى/جرَى ل (*) نهرٌ جارٍ: سائل لا يجفّ.
2 - مستمرّ، لم ينتهِ بعدُ (دراسة جارية- جاري التنفيذ) (*) الشَّهرُ الجاري: الحالي، الحاضر.
* ثمنٌ جارٍ: [في الاقتصاد] مايتعيّنُ في المنافسة الحرَّة بنقطة توازن العرض والطلب.
* حسابٌ جارٍ: [في الاقتصاد] حساب مصرفيّ يقوم على تمكين العملاء من إيداع أموالهم في المصرف والحصول على دفتر شيكات أو دفتر ادّخار بما أودعوه.
جارِية [مفرد]: جمعه جاريات وجوارٍ:
1 - صيغة المؤنَّث لفاعل جرَى وجرَى/جرَى إلى/جرَى ل (*) الأحداث الجارية: الحادثة، الواقعة- صدقة جارية: متَّصلة، يستمر ثوابها حتى بعد وفاة صاحبها إلى يوم القيامة.
2 - خادِمة، أَمَة (جارية أمينة).
3 - فتيَّة من النِّساء.
4 - سفينة، باخرة {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [قرآن].
* الجواري الكُنَّس: الكواكب السّيّارة، أو هي النُّجوم كلّها {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [قرآن].
جَرَاء [مفرد].
* فعلت ذلك من جَرَائك: من جرَّائك، من أجلك، بسببك.
جِراية [مفرد]: جمعه جِرايات: حصّة الجنديّ من الطعام اليوميّ.
جَرْي [مفرد]: مصدر جرَى وجرَى/جرَى إلى/جرَى ل (*) جَرْيًا على العادة: حسب المتَّبع- جَرْيًا وراءه: سَعْيًا وراءه.
جَرَيان [مفرد]: مصدر جرَى/جرَى إلى/جرَى ل.
مَجْرى [مفرد]: جمعه مَجْريات ومَجارٍ:
1 - اسم مكان من جرَى وجرَى/جرَى إلى/جرَى ل: (مَجْرى الماء) (*) مجاري التَّنفّس: أي ما يتَّصل بالجهاز التَّنفّسيّ- مجرى المراكب: ميناء، مرفأ- مجرى الهواء: حيث يمر الهواء.
2 - مصدر ميميّ من جرَى وجرَى/جرَى إلى/جرَى ل.
3 - جدول، قناة الماء (مَجْرى رئيسيّ/مفتوح).
4 - فتحة أو قناة يجري فيها الماء الوَسِخ والأقذار.
5 - مسار أو اتِّجاه أو تسلسل أشياء مرتبط بعضها ببعض (مَجْرَى السَّفينة- مَجْرَى الأحداث الأخيرة) (*) أخَذ مَجْراه: سار سيره الطَّبيعيّ- جرَى مَجْراه: احتذاه وسار على منواله، أخذ طريقه وتبعه، كان حاله كحاله- عادت المياهُ إلى مجاريها: عادت الأمورُ إلى أوضاعها السَّابقة، صلَح الأمرُ بعد فساد، زال سوء التفاهم- مَجْرَى الحديث: اتّجاهه- مَجريات الأحداث بالمنطقة: اتِّجاهاتها.
* المجرى:
1 - [في العروض] حركة حرف الرَّويّ المُطْلَق.
2 - [في النحو والصرف] أحوال أواخر الكَلم وأحكامها والصور التي تتشكَّل بها.
* المجرى الكهربائيّ: [في الطبيعة والفيزياء] القوّة التي تسري في الأسلاك الكهربائيّة.
* مجرى البول: [في التشريح] القناة التي يخرج من خلالها البول من المثانة عند معظم الثدييّات.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-العربية المعاصرة (ختم)
ختَمَ/ختَمَ على/ختَمَ ل يَختِم، خَتْمًا وخِتامًا، فهو خاتِم، والمفعول مَخْتوم.* ختَم البحثَ ونحوَه: أتمّه وأنهاه، فرغ منه، بلغ آخرَه (ختم الاجتماعَ/العملَ: - ختم الصَّبيُّ القرآنَ: أتمَّ حفظه أو قراءته- ختمت الصَّلاة).
* ختَم الرِّسالةَ/ختَم على الرِّسالة: أثّر فيها بنقش الخاتم، وضع عليها الخاتم (ختم عَقْدًا/الورقةَ: وضع ختمًا في آخره) (*) ختَمَ على بياضٍ: أعطى تفويضًا مطلقًا.
* ختَم اللهُ له بخير: أتمّ عليه نعمتَه وجعل له عاقبة حسنة (ختم له بخاتمة السعادة).
* ختَم على الطَّعام والشَّراب: غطّى فوّهة إنائه بمادّة عازلة، أحكم غطاء الإناء الذي يحويه ({يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [قرآن]: مصون غير ممسوس) - ختَمَ بالشَّمْع الأحمر: أغلق بصورة محكمة.
* ختَم على فمه: منعه من الكلام ({الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} [قرآن]: نربط ونمنع).
* ختَم على قلبه: جعله لا يفهم شيئا كأنّه غطّاه، طبع عليه ({خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [قرآن]: صرفها عن الحقّ ووسمها بسِمَة الكفر) - ختَمَ فلان عليك بابه: إذا أعرض عنك.
أختمَ يختم، إختامًا، فهو مُختِم، والمفعول مُختَم.
* أختم الشَّيءَ: رسم، وضع عليه علامة ليميِّزه عن غيره.
اختتمَ يختتم، اختتامًا، فهو مختتِم، والمفعول مختتَم.
* اختتم المؤتمرُ أعمالَه: ختَمها، أتمَّها وأنهاها، نقيض افتتحها (حضر اختتام الدَّورة البرلمانيّة- اختتم المناظرةَ/الندوةَ ببعض التعليقات).
انختمَ ينختم، انختامًا، فهو مُنختِم.
* انختم الجُرحُ: انسدّ، أغلق، التحم، التأم، اندمل.
تختَّمَ/تختَّمَ ب يتختّم، تختُّمًا، فهو متختِّم، والمفعول متَختَّمٌ به.
* تختَّم فلانٌ: مُطاوع ختَّمَ: لبس الخاتَم (تزيَّنتِ المرأةُ وتختَّمت).
* تختَّم بالذَّهب: اتّخذه خاتمًا.
ختَّمَ يختِّم، تختيمًا، فهو مختِّم، والمفعول مختَّم.
* ختَّم عقَدَ إيجار: ختَمه، طبعه بخاتم، بالغ في ختمه (ختَّم طرودًا بريديّة).
* ختَّم الطَّائرَ: وضع خاتمًا في رِجله (ختّم حمامَ الزّاجل).
* ختَّم الشَّخصَ:
1 - ألبسه الخاتمَ.
2 - جعله يطبع بخاتَمه على شيءٍ (ختَّم الشاهِدَ على أقواله- ختَّم البائعَ على عقد البيع).
خاتَم/خاتِم [مفرد]: جمعه خَواتِمُ:
1 - حَلْقة ذات فَصٍّ تُلبس في الإصبع (كالخاتم في إصبع زوجته- خاتم الخطوبة/الزواج- فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) [حديث] (*) خاتم المُلك: يضرب مثلا في النفاسة والشرف- خاتم سليمان: يضرب به المثل في الشَّرف والعلوّ ونفاذ الأمر- فصّ الخاتم: الحجر المركّب فيه.
2 - ما يُختم به (بصمه بخاتمه- ختم الوثيقةَ بخاتم شعار الجمهوريّة- {خَاتَمُهُ مِسْكٌ} [قرآن]).
3 - بصمة أو طبعة خاتم، أثر نقش الخاتم (وثيقة تحمل خاتم وزير الماليّة).
4 - بَكارة (زُفَّت إليه بخاتمها) (*) ما زالت بخاتم ربِّها: ما زالت بكرًا.
5 - نقرة القفا (احتجم في خاتم قفاه).
خاتَم/خاتِم [مفرد]: جمعه خَواتِمُ وخَواتِيمُ:
1 - آخِر (اللَّهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها- {وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتِمَ النَّبِيِّينَ} [قرآن]).
2 - من أسماء نبيّ المسلمين محمد صلَّى الله عليه وسلَّم أي: آخر النبيين (محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم خاتم النَّبيّين).
خاتِمة [مفرد]: جمعه خاتمات وخَواتِمُ وخَواتِيمُ:
1 - عاقبة كلّ شيء وآخِرته ونهايته، عكسه: بدايته (خواتيم الأعمال- العبرة بالخواتم) (*) الأعمال بخواتيمها/الأمور بخواتيمها: الأمور مرهونة بنتائجها وعواقبها- خاتمة الحكاية: مثل أو حكمة يُختم بها السرد القصصيّ- خاتمة السورة: نهايتها، آخرها- خاتمة المطاف: النهاية، وما ينجلي عنه الأمر.
2 - إمضاء، توقيع.
* خاتمة حِكْمِيَّة: [في البلاغة] جملة محتوية على حكمة ينتهي بها شرح أو خطاب.
خِتام [مفرد]:
1 - مصدر ختَمَ/ختَمَ على/ختَمَ ل.
2 - طين أو شمع يُختم به على الشَّيء (ختامٌ على وصيَّة- {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [قرآن]).
3 - خاتمة، آخر، نهاية، عاقبة (حضر خِتام المؤتمر- {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [قرآن]: آخر شُرْبه ونهايته) (*) جَلْسَة الختام: الجلسة الأخيرة- ختامًا: لفظ تُنْهى به الرسائلُ والخطبُ والمحاضرات ونحوها، أخيرًا، في النهاية- في الختام/وفي الختام: ختامًا، في آخر الأمر- مِسْك الخِتام: خاتمة حسنة، خلاصةُ الكلام وخاتمته وأجمل ما فيه.
4 - خاتم1، بكارة (فضَّ خِتامها في الحلال).
خِتاميّ [مفرد]: اسم منسوب إلى خِتام: نهائيّ، أخير (حضر الجلسة الختاميّة لأعمال المؤتمر).
خَتْم [مفرد]: جمعه أختام (لغير المصدر) وختوم (لغير المصدر)، جج ختومات (لغير المصدر):
1 - مصدر ختَمَ/ختَمَ على/ختَمَ ل.
2 - خاتم1، ما يُختم به على الأوراق، يصنع عادة من المعدن أو المطاط، وله مِقْبَض (خَتْم الشهادةِ بخَتْم شعار الدولة) (*) خَتْمُ البريد.
3 - خاتم1، أثر نقش الخاتم، علامته المميّزة، بصمة أو طبعة خاتم (وثيقة تحمل خَتْمًا جمهوريًّا) (*) نَزْعُ الأختام: إنهاء وضعها بأمر من المحكمة، إزالة الأختام الرسميّة الموضوعة على باب أو أثاث- وضعُ الأختام: وَضْع بصمة أو طبعة خاتم رسميّ على باب أو على شيء منقول بحيث لا يمكن أخذ شيء دون كسر الأختام.
4 - حفلة يختم فيها القرآن الكريم.
خَتْمة [مفرد]: جمعه خَتَمات وخَتْمات:
1 - اسم مرَّة من ختَمَ/ختَمَ على/ختَمَ ل.
2 - قراءة القرآن الكريم ثوابًا للمتوفّي (قرأ الخَتْمةَ ووهب ثوابها لوالده).
3 - رسمٌ يأخذه المعلِّم من التلميذ إذا ختم القرآن الكريم.
4 - مصحف، نسخة من القرآن الكريم (*) والخَتْمة الشريفة/وحياة الخَتْمة: قَسَمٌ بالقرآن الكريم.
5 - جلسة يقرأ فيها التلميذُ على معلِّمه كلَّ القرآن أو جزءًا منه.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
3-موسوعة الفقه الكويتية (اختصاص 2)
اخْتِصَاصٌ -2ز- نَسَبُ أَوْلَادِ بَنَاتِهِ إِلَيْهِ:
45- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ النَّاسِ جَمِيعًا أَنَّ أَوْلَادَ بَنَاتِهِ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ فِي الْكَفَاءَةِ وَغَيْرِهَا.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ»، وَلِمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْخَصَائِصِ الصُّغْرَى مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا قَطُّ إِلاَّ جَعَلَ ذُرِّيَّتَهُ فِي صُلْبِهِ غَيْرِي، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذُرِّيَّتِي مِنْ صُلْبِ عَلِيٍّ».
ح- لَا يُورَثُ:
46- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ- عليه الصلاة والسلام- دُونَ أُمَّتِهِ أَنَّهُ لَا يُورَثُ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ».
وَمَا تَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُنْفَقُ مِنْهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ صَدَقَةٌ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ».وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ، وَفِي الْوَاضِحِ مُشَارَكَةُ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ فِي ذَلِكَ.
ط ـ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ:
47- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ أَنَّ أَزْوَاجَهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُنْكَحْنَ بَعْدَهُ، وَلَا تُرَى أَشْخَاصُهُنَّ لِغَيْرِ الْمَحَارِمِ، وَعَلَيْهِنَّ الْجُلُوسُ فِي بُيُوتِهِنَّ، لَا يَخْرُجْنَ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ- عليه الصلاة والسلام-.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ «أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ».
الْفَصْلُ الثَّانِي
اخْتِصَاصُ الْأَزْمِنَةِ
هُنَاكَ أَزْمِنَةٌ اخْتُصَّتْ بِأَحْكَامٍ دُونَ غَيْرِهَا هِيَ:
أ- لَيْلَةُ الْقَدْرِ:
48- اخْتُصَّتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ بِاسْتِحْبَابِ تَحَرِّيهَا وَقِيَامِ لَيْلِهَا- كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي «لَيْلَةِ الْقَدْرِ» «وَقِيَامِ اللَّيْلِ».
ب- شَهْرُ رَمَضَانَ:
49- اخْتُصَّ شَهْرُ رَمَضَانَ بِافْتِرَاضِ صِيَامِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وَسُنِّيَّةِ قِيَامِهِ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
ج- يَوْمَا الْعِيدَيْنِ:
50- اخْتُصَّتْ لَيْلَتَا الْعِيدَيْنِ بِنَدْبِ إِحْيَائِهِمَا؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدِ مُحْتَسِبًا لِلَّهِ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ»، كَمَا اخْتُصَّ يَوْمَاهُمَا بِصَلَاةٍ خَاصَّةٍ- هِيَ صَلَاةُ الْعِيدِ- وَحُرْمَةِ الصِّيَامِ فِيهِمَا، وَبِالتَّكْبِيرِ فِي صُبْحِيَّتِهِمَا.
د- أَيَّامُ التَّشْرِيقِ:
51- اخْتُصَّتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِبَ صَلَاةِ الْفَرَائِضِ وَجَوَازِ ذَبْحِ الْأُضْحِيَةِ، وَتَحْرِيمِ الصِّيَامِ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي «أَيَّامِ التَّشْرِيقِ».
وَانْظُرْ كَذَلِكَ مُصْطَلَحَ «أُضْحِيَةٌ».
هـ- يَوْمُ الْجُمُعَةِ:
52- اخْتُصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِوُجُوبِ صَلَاةٍ خَاصَّةٍ فِيهِ تَقُومُ مَقَامَ صَلَاةِ الظُّهْرِ هِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَاسْتِنَانِ الْغُسْلِ فِيهِ، وَاسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ فِيهِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» وَكَرَاهَةِ إِفْرَادِهِ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ.
و- الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ:
53- اخْتُصَّ يَوْمُ عَرَفَةَ بِوُجُوبِ وُقُوفِ الْحُجَّاجِ فِيهِ فِي عَرَفَةَ وَكَرَاهَةِ صَوْمِهِ لِلْحَاجِّ.
ز- يَوْمُ نِصْفِ شَعْبَانَ وَلَيْلَتُهُ:
54- اخْتُصَّتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِاسْتِحْبَابِ قِيَامِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ فِي فَضْلِهَا مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلَا مُسْتَرْزِقٍ فَأَرْزُقَهُ، أَلَا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهِ أَلَا كَذَا..أَلَا كَذَا..حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ».
ح- أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ:
55- اخْتُصَّتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَجَبٍ بِاسْتِحْبَابِ قِيَامِهَا، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ اللَّيَالِيِ الَّتِي لَا يُرَدُّ فِيهَا الدُّعَاءُ.
ط- يَوْمَا عَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ:
56- اخْتُصَّ يَوْمَا تَاسُوعَاءَ وَعَاشُورَاءَ بِاسْتِحْبَابِ صِيَامِهِمَا، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْقَابِلُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- صُمْتُ الْيَوْمَ التَّاسِعَ، فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِحْبَابِ قِيَامِ لَيْلَةِ عَاشُورَاءَ.
ي- يَوْمُ الشَّكِّ:
57- يَوْمُ الشَّكِّ، وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِذَا غُمَّ عَلَى النَّاسِ فَلَمْ يَرَوُا الْهِلَالَ اخْتُصَّ بِتَحْرِيمِ صِيَامِهِ، لِمَا رَوَاهُ صِلَةُ بْنُ زُفَرَ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَأَتَى بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ، فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقَالَ عَمَّارٌ: مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ».
ك- الْأَيَّامُ الْبِيضُ:
58- اخْتُصَّتِ الْأَيَّامُ الْبِيضُ بِاسْتِحْبَابِ صِيَامِهَا، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مِلْحَانَ الْقَيْسِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ قَالَ: وَقَالَ: هُنَّ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ».
ل- الْعَشْرُ الْأَوَائِلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ:
59- اخْتُصَّتْ بِاسْتِحْبَابِ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ.وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ».هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، لِمَا وَرَدَ مِنْ حُكْمٍ خَاصٍّ بِهِ.
م- شَهْرُ الْمُحَرَّمِ:
60- اخْتُصَّ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ بِاسْتِحْبَابِ صَوْمِهِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ».
ن- شَهْرُ شَعْبَانَ:
61- اخْتُصَّ شَعْبَانُ بِاسْتِحْبَابِ الصِّيَامِ فِيهِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ».وَاخْتُصَّ آخِرُهُ بِكَرَاهَةِ الصِّيَامِ فِيهِ.قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ».
س- وَقْتُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:
62- اخْتُصَّ وَقْتُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}.
ع- أَوْقَاتٌ أُخْرَى:
63- وَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتُ اسْتِوَائِهَا، وَوَقْتُ غُرُوبِهَا وَبَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ: اخْتُصَّتْ هَذِهِ الْأَوْقَاتُ بِمَنْعِ الصَّلَاةِ فِيهَا، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلٍ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ مِنْهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ عَدَمِ الصِّحَّةِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُولَى مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا.
اخْتِصَاصُ الْأَمَاكِنِ
أ- الْكَعْبَةُ الْمُشَرَّفَةُ:
64- اخْتُصَّتِ الْكَعْبَةُ الْمُشَرَّفَةُ بِمَا يَلِي: أَوَّلًا- افْتِرَاضِ إِحْيَائِهَا بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَتَفْصِيلُهُ فِي «إِحْيَاءُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ».
ثَانِيًا- تَكُونُ تَحِيَّتُهَا بِالطَّوَافِ عِنْدَ الْبَعْضِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ غَيْرُهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الطَّوَافُ هُوَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
ثَالِثًا- الْمُصَلُّونَ حَوْلَهَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْهُمُ الْمَأْمُومُ عَلَى الْإِمَامِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جَانِبِهِ، عَلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَجَازُوا تَقَدُّمَ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ مُطْلَقًا، وَكَرِهُوهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ.وَقَدْ فَصَّلَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
رَابِعًا- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا، فَلَمْ يُجِزْهَا ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَمَنَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْفَرْضَ، وَأَجَازَ النَّفْلَ، وَمَنَعَ الْإِمَامُ مَالِكٌ الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ وَأَجَازَ التَّطَوُّعَ، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ جَمِيعًا وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ سَيَأْتِي فِي الصَّلَاةِ.فَإِنْ صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا اتَّجَهَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ.
خَامِسًا- افْتِرَاضُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهَا قِبْلَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ، وَتَفْصِيلُهُ فِي «اسْتِقْبَالٌ».
سَادِسًا- كَرَاهَةُ اسْتِقْبَالِهَا فِي بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ (أَيْ حِينَ التَّخَلِّي).وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ «قَضَاءُ الْحَاجَةِ».
ب- حَرَمُ مَكَّةَ:
65- اخْتُصَّ حَرَمُ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ بِمَا يَلِي:
أَوَّلًا: عَدَمُ جَوَازِ دُخُولِ الْكُفَّارِ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وَقَدْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْهُ، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لَهُمْ دُخُولَهُ دُونَ الْإِقَامَةِ فِيهِ كَالْحِجَازِ.ثَانِيًا: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ دُخُولِهِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ).
ثَالِثًا: إِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي ثَوَابِهَا لَا فِي إِسْقَاطِ الْفَرَائِضِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» وَحَرَمُ مَكَّةَ كَمَسْجِدِهَا فِي مُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ.
رَابِعًا: عَدَمُ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ؛ لِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ».
خَامِسًا: تَحْرِيمُ صَيْدِهِ، فَمَنْ صَادَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَمَا Cهُوَ مُفَصَّلٌ فِي بَحْثِ «إِحْرَامٌ».
سَادِسًا: تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَحَمْلِ السِّلَاحِ وَكَذَلِكَ إِقَامَةُ الْحُدُودِ، عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ مُوجِبَاتِهَا خَارِجَ الْحَرَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ أَجَازُوا إِقَامَتَهَا فِيهِ مُطْلَقًا.أَمَّا مَنِ ارْتَكَبَ ذَلِكَ دَاخِلَ الْحَرَمِ فَيَجُوزُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا» وَقَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ السِّلَاحَ بِمَكَّةَ».
سَابِعًا: تَغْلِيظُ دِيَةِ الْجِنَايَةِ فِيهِ، فَقَدْ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فِيمَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، بِالدِّيَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُغَلَّظُ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ).
ثَامِنًا: قَطْعُ أَشْجَارِهِ: وَلَا يَجُوزُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ أَشْجَارِ حَرَمِ مَكَّةَ بِالِاتِّفَاقِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرَةً».
تَاسِعًا: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا كَلُقَطَةِ الْحِلِّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنِ الْتَقَطَ لُقَطَةً مِنَ الْحَرَمِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهَا أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهَا؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا».
عَاشِرًا: لَا يَصِحُّ ذَبْحُ الْهَدْيِ إِلاَّ فِيهِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْحَجِّ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ تُرَابِهِ.
ج- مَسْجِدُ مَكَّةَ:
66- يَخْتَصُّ مَسْجِدُ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ حَرَمُهَا لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ حَرَمِهَا، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ مَا يَلِي: أَوَّلًا: جَوَازُ قَصْدِهِ بِالزِّيَارَةِ وَشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»
ثَانِيًا: تَقَدُّمُ الْمَأْمُومِ فِيهِ عَلَى الْإِمَامِ- وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا تَخْتَصُّ بِهِ الْكَعْبَةُ الْمُشَرَّفَةُ، Cكَمَا اخْتَصَّتْ مَوَاطِنُ بِأَعْمَالٍ فِي الْحَجِّ تَتَعَيَّنُ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، كَعَرَفَةَ، وَمِنًى، وَمُزْدَلِفَةَ، وَالْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ لِلْإِحْرَامِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيِ: (الْحَجُّ- وَالْإِحْرَامُ).
د- الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ:
67- أَوَّلًا: الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ حَرَمٌ، مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، لَا يَحِلُّ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا كَمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ».
خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، فَقَالُوا: لَيْسَ لِلْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ حَرَمٌ، وَلَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا، وَمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِحَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ تَحْرِيمَهَا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بَقَاءَ زِينَتِهَا لِيَأْلَفَهَا النَّاسُ، لِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَهْدِمُوا الْآطَامَ فَإِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ» وَلِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» وَالنُّغَيْرُ صَيْدٌ.
ثَانِيًا: يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنَ الِاسْتِيطَانِ بِهَا وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهَا.
ثَالِثًا: قَدَّمَ الْإِمَامُ مَالِكٌ الْعَمَلَ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فِي عَصْرِهِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ.
رَابِعًا: الْإِقَامَةُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَحَبُّ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِهَا وَلَوْ كَانَتْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا مُهَاجَرُ الْمُسْلِمِينَ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّامُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».
خَامِسًا: يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤْمِنِ الِانْقِطَاعُ بِهَا لِيُحَصِّلَ الْمَوْتَ فِيهَا، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدْعُو اللَّهَ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي Cبَلَدِ رَسُولِكَ وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا، فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا».
هـ- مَسْجِدُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:
68- يَخْتَصُّ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ».وَيَخْتَصُّ بِجَوَازِ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثِ مَسَاجِدَ» وَذَكَرَ مِنْهَا مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
و- مَسْجِدُ قُبَاءَ:
69- يَخْتَصُّ مَسْجِدُ قُبَاءٍ بِأَنَّ مَنْ أَتَاهُ فَصَلَّى فِيهِ كَانَتْ لَهُ كَعُمْرَةٍ، لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ- مَسْجِدَ قُبَاءَ- فَصَلَّى فِيهِ كَانَ لَهُ عَدْلَ عُمْرَةٍ» وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَعُمْرَةٍ» وَلِذَلِكَ اسْتُحِبَّ إِتْيَانُ هَذَا الْمَسْجِدِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ.
ز- الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى:
70- يَخْتَصُّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى بِجَوَازِ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.وَاخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَانَ قِبْلَةً، وَأَبَاحَهُ آخَرُونَ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ حَدِيثِهِمْ عَنْ آدَابِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.
ح- بِئْرُ زَمْزَمَ:
71- اخْتُصَّ مَاءُ زَمْزَمَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمِيَاهِ بِأَنَّ لِشُرْبِهِ آدَابًا خَاصَّةً، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَوَاضِعِ الِامْتِهَانِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ «آبَارٌ» (ف 33- 35) (فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ).
الِاخْتِصَاصُ بِالْوِلَايَةِ أَوِ الْمِلْكِ
72- الْمُخَصِّصُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ، وَقَدْ سَبَقَ Cبَيَانُهُ، أَوِ الشَّخْصُ بِمِلْكٍ أَوْ وِلَايَةٍ.وَهَذَا الْأَخِيرُ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يَلِي:
شُرُوطُ الشَّخْصِ الْمُخَصِّصِ:
73- أ- أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ.
ب- أَنْ يَكُونَ ذَا وِلَايَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ وِلَايَةً عَامَّةً كَالْأَمِيرِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا، أَمْ وِلَايَةً خَاصَّةً كَالْأَبِ وَنَحْوِهِ.
ج- أَنْ يَكُونَ ذَا مِلْكٍ، إِذْ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ أَنْ يَخْتَصَّ بِمِلْكِهِ مَنْ يَشَاءُ بِشُرُوطِهِ.
اخْتِصَاصُ ذِي الْوِلَايَةِ:
74- إِذَا كَانَ الْمُخَصِّصُ صَاحِبَ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الِاخْتِصَاصِ أَنْ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِمَصْلَحَةِ الْمُولَى عَلَيْهِ، وَمِنْ هُنَا قَالُوا: تَصَرُّفُ ذِي الْوِلَايَةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ أَمَانَةٌ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا».وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ: «إِنَّ وَصِيَّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لَهُ بِالْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ».
وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِصَاصُ بَعْضِ الْقُضَاةِ بِالْقَضَاءِ فِي بَلَدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ فِي جَانِبٍ مُعَيَّنٍ مِنْ بَلَدٍ دُونَ الْجَوَانِبِ الْأُخْرَى، أَوْ فِي مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، أَوِ النَّظَرِ فِي نَوْعٍ مِنَ الدَّعَاوَى دُونَ الْأَنْوَاعِ الْأُخْرَى كَالْمُنَاكَحَاتِ أَوِ الْحُدُودِ أَوِ الْمَظَالِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، وَفِي كُتُبِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ.وَيَجِبُ مُرَاعَاةُ الْمَصْلَحَةِ فِي اخْتِصَاصِ الرِّجَالِ، فِي الْوِلَايَاتِ أَوْ مَنْحِ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا، كَالْحِمَى، وَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ اخْتِصَاصُ أَرْضٍ مُعَيَّنَةٍ لِتَرْعَى فِيهَا أَنْعَامُ الصَّدَقَةِ، أَوْ خَيْلُ الْجِهَادِ، وَاخْتِصَاصُ بَعْضِ الْأَرَاضِي بِإِقْطَاعِهَا لِلْإِحْيَاءِ، وَاخْتِصَاصُ بَعْضِ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ بِإِقْطَاعِهَا إِقْطَاعَ إِرْفَاقٍ كَالطُّرُقَاتِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاخْتِصَاصُ بَعْضِ الْمَوَادِّ الضَّرُورِيَّةِ بِرَفْعِ الْعُشُورِ عَنْهَا، أَوْ تَخْفِيضِ الْعُشُورِ عَنْهَا؛ لِيَكْثُرَ جَلْبُهَا إِلَى أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- يَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نِصْفَ الْعُشْرِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ الْحَمْلَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَيَأْخُذُ مِنَ الْقُطْنِيَّةِ- الْحِمَّصَ وَالْعَدَسَ- الْعُشْرَ.
اخْتِصَاصُ الْمَالِكِ:
75- أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُخَصِّصُ صَاحِبَ مِلْكٍ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِاخْتِصَاصِهِ بَعْضَ مِلْكِهِ بِشَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ أَلاَّ يَنْشَأَ عَنِ اخْتِصَاصِهِ هَذَا ضَرَرٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ وَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْوَرَثَةِ، وَمُنِعَ مِنْ إِعْطَاءِ بَعْضِ أَوْلَادِهِ عَطِيَّتَهُ لِغَيْرِ سَبَبٍ مَشْرُوعٍ دُونَ بَاقِيهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيغَارِ صُدُورِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
4-موسوعة الفقه الكويتية (تطوع 2)
تَطَوُّعٌ -2حُصُولُ التَّطَوُّعِ بِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَعَكْسُهُ:
20- هُنَاكَ صُوَرٌ يَحْصُلُ التَّطَوُّعُ فِيهَا بِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَلَكِنَّ ثَوَابَ التَّطَوُّعِ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِنِيَّتِهِ.جَاءَ فِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ (فِي الْجَمْعِ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ) قَالُوا: لَوِ اغْتَسَلَ الْجُنُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْجُمُعَةِ وَلِرَفْعِ الْجَنَابَةِ، ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ، وَحَصَلَ لَهُ ثَوَابُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ.
وَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: مَنْ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ نَسِيَهَا وَاغْتَسَلَ لِلْجُمُعَةِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ ضِمْنًا، وَلَا يُثَابُ ثَوَابَ الْفَرْضِ، وَهُوَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ مَا لَمْ يَنْوِهِ، لِأَنَّهُ لَا ثَوَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: تَتَأَدَّى تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ فَيَسْقُطُ طَلَبُ التَّحِيَّةِ بِصَلَاتِهِ، فَإِنْ نَوَى الْفَرْضَ وَالتَّحِيَّةَ حَصَلَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ التَّحِيَّةَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ثَوَابُهَا؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَالْجَنَابَةِ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ مَعَ نِيَّةِ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ.
وَفِي الْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ: لَوْ طَافَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ طَوَافًا يَنْوِي بِهِ الزِّيَارَةَ وَالْوَدَاعَ، فَقَالَ الْخِرَقِيُّ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي: يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا.
(ثَانِيًا) مَا يَشْمَلُ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرَهَا مِنْ أَحْكَامٍ:
أ- قَطْعُ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ:
21- إِذَا كَانَ التَّطَوُّعُ عِبَادَةً كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِذَا شَرَعَ فِيهِ وَجَبَ إِتْمَامُهُ، وَإِذَا فَسَدَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ مُضِيًّا وَقَضَاءً.وَلِأَنَّ الْمُؤَدَّى عِبَادَةٌ، وَإِبْطَالُ الْعِبَادَةِ حَرَامٌ، لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ- رضي الله عنهما- وَقَدْ أَفْطَرَتَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ».
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَا يُوجِبُونَ الْقَضَاءَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْفَسَادُ مُتَعَمِّدًا، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلَا قَضَاءَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ الْإِتْمَامُ إِذَا شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ وَلَا يَجِبُ، كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقَضَاءُ إِذَا فَسَدَ، إِلاَّ فِي تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ نَفْلَهُمَا كَفَرْضِهِمَا نِيَّةً وَفِدْيَةً وَغَيْرَهُمَا.
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْإِتْمَامِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ».
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيلُ فِي (نَفْلٌ، صَلَاةٌ، صِيَامٌ، حَجٌّ).
22- أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ الْمَعْرُوفَةِ كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، فَلِكُلِّ عَقْدٍ حُكْمُهُ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ أَوْ عَدَمِ جَوَازِهِ.فَفِي الْوَصِيَّةِ مَثَلًا: يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا دَامَ الْمُوصِي حَيًّا.وَفِي الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ: يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِطَلَبِ رَدِّ الشَّيْءِ الْمُسْتَعَارِ وَاسْتِرْدَادِ بَدَلِ الْقَرْضِ فِي الْحَالِ بَعْدَ الْقَبْضِ.وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، بَلْ قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْمُقْرِضَ إِذَا أَجَّلَ الْقَرْضَ لَا يَلْزَمُهُ التَّأْجِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ فِيهِ الْأَجَلُ لَمْ يَبْقَ تَبَرُّعًا.
وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِذَا تَمَّ الْقَبْضُ فَلَا رُجُوعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ فِيمَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ.
وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهِ.وَفِي (تَبَرُّعٌ).
أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ كَالصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى فَلَا رُجُوعَ فِيهِ، مَا دَامَ ذَلِكَ قَدْ تَمَّ بِنِيَّةِ التَّبَرُّعِ.
يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الثَّوَابُ لَا الْعِوَضُ.وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُتَصَدِّقِ الرُّجُوعُ فِي صَدَقَتِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ فِي حَدِيثِهِ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا.وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ التَّبَرُّعِ فَلَا رُجُوعَ فِيهِ.
يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا أَنْفَقَ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَلِلصَّبِيِّ مَالٌ غَائِبٌ، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ اسْتِحْسَانًا، إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ قَرْضٌ، أَوْ أَنَّهُ يُرْجَعُ بِهِ عَلَيْهِ.وَيَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْمَقَاصِدُ تُغَيِّرُ أَحْكَامَ التَّصَرُّفَاتِ، فَالنِّيَّةُ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَضَى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا، أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ- يَنْوِي التَّبَرُّعَ وَالْهِبَةَ- لَمْ يَمْلِكِ الرُّجُوعَ بِالْبَدَلِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَهُ الرُّجُوعُ.عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَخِلَافًا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَثَلًا: أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُجِيزُونَ لِلْأَبِ وَلِسَائِرِ الْأُصُولِ الرُّجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ الْمُتَطَوَّعِ بِهَا عَلَى الْوَلَدِ، أَمَّا الْوَاجِبَةُ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا.وَلَا يُجِيزُونَ لِلْأَبِ الرُّجُوعَ فِي الْإِبْرَاءِ لِوَلَدِهِ عَنْ دَيْنِهِ.بَيْنَمَا يُجِيزُ الْحَنَابِلَةُ رُجُوعَ الْأَبِ فِيمَا أَبْرَأَ ابْنَهُ مِنْهُ مِنَ الدُّيُونِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (تَبَرُّعٌ، صَدَقَةٌ، إِبْرَاءٌ، هِبَةٌ، نَفَقَةٌ).
23- أَمَّا مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ الصَّدَقَةِ.فَأَخْرَجَ بَعْضَهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ بِبَاقِيهِ.
يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ، وَشَرَعَ فِي الصَّدَقَةِ بِهِ، فَأَخْرَجَ بَعْضَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّدَقَةُ بِبَاقِيهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ رَجَبٍ ذَكَرَ خِلَافًا فِي ذَلِكَ.
وَالْحَطَّابُ عَدَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَهِيَ سَبْعٌ: الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالِاعْتِكَافُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالِائْتِمَامُ وَالطَّوَافُ.ثُمَّ ذَكَرَ مَا لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِقَطْعِهِ، وَهُوَ: الصَّدَقَةُ وَالْقِرَاءَةُ وَالْأَذْكَارُ وَالْوَقْفُ وَالسَّفَرُ لِلْجِهَادِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (تَبَرُّعٌ، صَدَقَةٌ).
ب- نِيَّةُ التَّطَوُّعِ:
24- التَّطَوُّعُ- إِنْ كَانَ عِبَادَةً- فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النِّيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَهِيَ مَقْصُودَةٌ بِهَا تَمْيِيزُ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ، وَتَمْيِيزُ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ عَنْ بَعْضٍ.فَالْغُسْلُ قَدْ يَكُونُ تَبَرُّدًا وَعِبَادَةً، وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ قَدْ يَكُونُ حَمِيَّةً أَوْ تَدَاوِيًا، وَدَفْعُ الْمَالِ يَكُونُ صَدَقَةً شَرْعِيَّةً وَصِلَةً مُتَعَارَفَةً..وَهَكَذَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الْعِبَادَاتِ بِاتِّفَاقٍ إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي النِّيَّةِ فِي تَطَوُّعِ الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعْيِينِ أَوِ الْإِطْلَاقِ.
25- وَالتَّطَوُّعُ فِي الْعِبَادَاتِ، مِنْهُ مَا هُوَ مُطْلَقٌ كَالتَّهَجُّدِ وَالصَّوْمِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُقَيَّدٌ كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَكَصِيَامِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ.
أَمَّا التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ، فَيَصِحُّ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ أَدَاؤُهُ دُونَ تَعْيِينِهِ بِالنِّيَّةِ، وَتَكْفِي نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ أَوْ مُطْلَقِ الصَّوْمِ.
أَمَّا التَّطَوُّعُ الْمُعَيَّنُ كَالرَّوَاتِبِ وَالْوِتْرِ وَالتَّرَاوِيحِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُهُ بِالنِّيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ حَدَّدُوا الْمُعَيَّنَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ: الْوِتْرُ وَالْعِيدَانِ وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَرَغِيبَةِ الْفَجْرِ، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْمُطْلَقِ عِنْدَهُمْ.وَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ التَّطَوُّعَ الْمُعَيَّنَ أَوَ الْمُقَيَّدَ يَصِحُّ دُونَ تَعْيِينِهِ، وَأَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ مُطْلَقُ النِّيَّةِ كَالتَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ.
26- أَمَّا غَيْرُ الْعِبَادَاتِ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ، فَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلنِّيَّةِ فِيهَا، إِلاَّ أَنَّ نِيَّةَ الْقُرْبَةِ فِيهَا- امْتِثَالًا لِأَوَامِرِ الشَّرْعِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الْمَعْرُوفِ- مَطْلُوبَةً لِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ، إِذْ إِنَّهَا لَا تَتَمَحَّضُ قُرْبَةً إِلاَّ بِهَذِهِ النِّيَّةِ.يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ: الْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْعَادِيَّةُ- وَإِنْ لَمْ تَفْتَقِرْ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهَا إِلَى نِيَّةٍ- فَلَا تَكُونُ عِبَادَاتٍ وَلَا مُعْتَبَرَاتٍ فِي الثَّوَابِ إِلاَّ مَعَ قَصْدِ الِامْتِثَالِ، وَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ: لَا يَتَوَقَّفُ الْوَقْفُ وَلَا الْهِبَةُ وَلَا الْوَصِيَّةُ عَلَى النِّيَّةِ، فَالْوَصِيَّةُ إِنْ قُصِدَ التَّقَرُّبُ بِهَا وَإِلاَّ فَهِيَ صَحِيحَةٌ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ إِنْ نَوَى الْقُرْبَةَ فَلَهُ الثَّوَابُ فَلَهُ الثَّوَابُ، وَإِلاَّ فَلَا، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْقُرَبِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ، بِمَعْنَى تَوَقُّفِ حُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: الْهِبَةُ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ الْمَنْدُوبَةِ كَالصَّدَقَةِ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ الْقَصْدُ، وَإِنِ اسْتَحْضَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا رَغَّبَ فِيهِ الشَّرْعُ فَإِنَّهُ يُثَابُ.وَفِي الْمَنْثُورِ فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيِّ: عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ وَرَدُّ السَّلَامِ قُرْبَةٌ، لَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
ج- النِّيَابَةُ فِي التَّطَوُّعِ:
27- التَّطَوُّعُ إِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَلَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ، لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا تَجُوزُ فِي نَفْلِهِ.وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْهُمَا كَالْحَجِّ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ مُعْتَمَدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّطَوُّعَاتِ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ، كَالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا.
كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَتَطَوَّعَ الْإِنْسَانُ بِجَعْلِ ثَوَابِ عَمَلِهِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ وَصَدَقَةٍ وَعِتْقٍ وَطَوَافٍ وَعُمْرَةٍ وَقِرَاءَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ.بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَنْهُ، وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ».وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا عَامٌّ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ عَمَلُ بِرٍّ وَطَاعَةٍ فَوَصَلَ نَفْعُهُ وَثَوَابُهُ كَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ.«عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَتَصَدَّقُ عَنْ مَوْتَانَا، وَنَحُجُّ عَنْهُمْ، وَنَدْعُو لَهُمْ، فَهَلْ يَصِلُ ذَلِكَ لَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ لَيَصِلُ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّهُمْ لَيَفْرَحُونَ بِهِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالطَّبَقِ إِذَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ» وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنَ الْبِرِّ بَعْدَ الْمَوْتِ أَنْ تُصَلِّيَ لِأَبَوَيْكَ مَعَ صَلَاتِكَ، وَأَنْ تَصُومَ لَهُمَا مَعَ صَوْمِكَ»
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ فِيمَا عَدَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (نِيَابَةٌ- وَكَالَةٌ- نَفْلٌ- صَدَقَةٌ- صَلَاةٌ- وَصَوْمٌ).
د- الْأُجْرَةُ عَلَى التَّطَوُّعِ:
28- الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، كَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ.لِمَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: «إِنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنِ اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا» وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى حَصَلَتْ وَقَعَتْ عَنِ الْعَامِلِ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّتُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَيَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: تُكْرَهُ إِجَارَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ فِي عَمَلٍ لِلَّهِ تَعَالَى، حَجًّا أَوْ غَيْرَهُ، كَقِرَاءَةٍ وَإِمَامَةٍ وَتَعْلِيمِ عِلْمٍ، وَصِحَّتُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.كَمَا تُكْرَهُ الْإِجَارَةُ عَلَى الْأَذَانِ، قَالَ مَالِكٌ: لأَنْ يُؤَاجِرَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ فِي عَمَلِ اللَّبِنِ وَقَطْعِ الْحَطَبِ وَسَوْقِ الْإِبِلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لِلَّهِ بِأُجْرَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَا تَصِحُّ إِجَارَةُ مُسْلِمٍ لِجِهَادٍ وَلَا لِعِبَادَةٍ يَجِبُ لَهَا نِيَّةٌ، وَأَلْحَقُوا بِذَلِكَ الْإِمَامَةَ وَلَوْ لِنَفْلٍ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لِنَفْسِهِ.أَمَّا مَا لَا تَجِبُ لَهُ نِيَّةٌ كَالْأَذَانِ فَيَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، وَاسْتُثْنِيَ مِمَّا فِيهِ نِيَّةٌ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا عَنْ عَاجِزٍ أَوْ مَيِّتٍ، وَتَقَعُ صَلَاةُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ تَبَعًا لَهُمَا، وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَنْ تَفْرِقَةِ زَكَاةٍ وَكَفَّارَةٍ وَأُضْحِيَّةٍ وَهَدْيٍ وَذَبْحٍ وَصَوْمٍ عَنْ مَيِّتٍ وَسَائِرِ مَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى النِّيَّةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ شَائِبَةِ الْمَالِ.وَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ لِكُلِّ مَا لَا تَجِبُ لَهُ نِيَّةٌ.وَتَصِحُّ لِتَجْهِيزِ مَيِّتٍ وَدَفْنِهِ وَتَعْلِيمِ قُرْآنٍ وَلِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقَبْرِ أَوْ مَعَ الدُّعَاءِ.
وَفِي الِاخْتِيَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ: لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةً مِنْ شَخْصٍ لِيَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ ذِي أَمْرٍ، أَوْ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ مَظْلَمَةً، أَوْ يُوصِلَ إِلَيْهِ حَقَّهُ أَوْ يُوَلِّيَهُ وِلَايَةً يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ يَسْتَخْدِمُهُ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ، وَإِذَا امْتَنَعَتِ الْهَدِيَّةُ امْتَنَعَتِ الْأُجْرَةُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَخَذَ أَجْرًا عَلَى عَمَلِ تَطَوُّعٍ- مِمَّا يَجُوزُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ- فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ أَجِيرًا، وَلَيْسَ مُتَطَوِّعًا بِالْقُرُبَاتِ؛ لِأَنَّ الْقُرَبَ وَالطَّاعَاتِ إِذَا وَقَعَتْ بِأُجْرَةٍ لَمْ تَكُنْ قُرْبَةً وَلَا عِبَادَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّشْرِيكُ فِي الْعِبَادَةِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ وَقْفٍ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ نَفَقَةً فِي الْمَعْنَى، وَلَا يُعْتَبَرُ أَجْرًا.
جَاءَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ: الْأَعْمَالُ الَّتِي يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، هَلْ يَجُوزُ إِيقَاعُهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ؟ فَمَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لَمْ يُجِزِ الْإِجَارَةَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا بِالْعِوَضِ تَقَعُ غَيْرَ قُرْبَةٍ «وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَمَنْ جَوَّزَ الْإِجَارَةَ جَوَّزَ إِيقَاعَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَقَالَ: تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا لَا فِيهَا مِنْ نَفْعِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَأَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَيْسَ عِوَضًا وَأُجْرَةً، بَلْ رِزْقٌ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ لِلَّهِ أُثِيبَ.وَكَذَلِكَ الْمَالُ الْمَوْقُوفُ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْمُوصَى بِهِ كَذَلِكَ، وَالْمَنْذُورُ كَذَلِكَ، لَيْسَ كَالْأُجْرَةِ.وَيَقُولُ الْقَرَافِيُّ: بَابُ الْأَرْزَاقِ أَدْخَلُ فِي بَابِ الْإِحْسَانِ وَأَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ، وَبَابُ الْإِجَارَةِ أَبْعَدُ مِنْ بَابِ الْمُسَامَحَةِ وَأَدْخَلُ فِي بَابِ الْمُكَايَسَةِ ثُمَّ يَقُولُ: الْأَرْزَاقُ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهَا، لِأَنَّهَا إِحْسَانٌ وَمَعْرُوفٌ وَإِعَانَةٌ لَا إِجَارَةٌ.
انْقِلَابُ التَّطَوُّعِ إِلَى وَاجِبٍ:
29- يَنْقَلِبُ التَّطَوُّعُ إِلَى وَاجِبٍ لِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا:
أ- الشُّرُوعُ:
30- التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ يَصِيرُ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ فِيهِ، بِحَيْثُ إِذَا فَسَدَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ.وَمِثْلُ ذَلِكَ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
ب- التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ مِمَّنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ:
31- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ أَحْرَمَ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ- مِمَّنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ- وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ، فَوَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ كَالْمُطْلَقِ.وَلَوْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ وَعَلَيْهِ مَنْذُورَةٌ وَقَعَتْ عَنِ الْمَنْذُورَةِ، وَلِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَهِيَ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ.وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِيمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهَا أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، فَأَشْبَهَتِ الْآخَرَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا نَوَى حَجَّةَ نَفْلٍ- وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ- وَقَعَ عَمَّا نَوَاهُ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ يُشْبِهُ وَقْتَ الصَّلَاةِ (ظَرْفٌ) وَوَقْتُ الصَّوْمِ (مِعْيَارٌ) فَأُعْطِيَ حُكْمَهُمَا، فَيَتَأَدَّى فَرْضُهُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَيَقَعُ عَنِ النَّفْلِ إِذَا نَوَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: لَوْ طَافَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَقَعَ عَنِ الْفَرْضِ.
وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى فَقِيرٍ، وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ أَجْزَأَهُ عَنِ الزَّكَاةِ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ النِّيَّةِ.وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ دَلَالَةً، وَعَلَى هَذَا إِذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ مِنَ الْفَقِيرِ، أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا، وَلَوْ أَدَّى مِائَةً لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ، وَنَوَى تَطَوُّعًا، لَا تَسْقُطُ زَكَاةُ الْمِائَةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْكُلَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ مَا تَصَدَّقَ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْبَاقِي.
ج- الِالْتِزَامُ أَوِ التَّعْيِينُ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ:
32- جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِمَكَّةَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ عَلَى فُلَانٍ، فَخَالَفَ، جَازَ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فَلَوْ خَالَفَ فِي بَعْضِهَا أَوْ كُلِّهَا، بِأَنْ تَصَدَّقَ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِبَلَدٍ آخَرَ بِدِرْهَمٍ آخَرَ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ جَازَ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ النَّذْرِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ، وَهُوَ أَصْلُ التَّصَدُّقِ دُونَ التَّعْيِينِ، فَبَطَلَ التَّعْيِينُ وَلَزِمَهُ الْقُرْبَةُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ لِمَا فِي الْبَدَائِعِ: لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ هَذَا الْمِسْكِينَ شَيْئًا سَمَّاهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُ لِلَّذِي سَمَّى؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْمَنْذُورَ صَارَ تَعْيِينُ الْفَقِيرِ مَقْصُودًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ.
وَفِي الِاخْتِيَارِ: لَا تَجِبُ الْأُضْحِيَّةُ عَلَى الْفَقِيرِ، لَكِنَّهَا تَجِبُ بِالشِّرَاءِ، وَيَتَعَيَّنُ مَا اشْتَرَاهُ لِلْأُضْحِيَّةِ.فَإِنْ مَضَتْ أَيَّامُ الْأُضْحِيَّةِ وَلَمْ يَذْبَحْ، تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْفَقِيرِ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ تَعَيَّنَتْ لِلْوُجُوبِ، وَالْإِرَاقَةُ إِنَّمَا عُرِفَتْ قُرْبَةً فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ فَاتَ فَيَتَصَدَّقُ بِعَيْنِهَا.
وَإِنْ كَانَ الْمُضَحِّي غَنِيًّا، وَفَاتَ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ، تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا، اشْتَرَاهَا أَوْ لَا؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَاتَ وَقْتُ الْقُرْبَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ تَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ إِخْرَاجًا لَهُ عَنِ الْعُهْدَةِ.
وَجَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: الْأُضْحِيَّةُ سُنَّةٌ، وَلَكِنَّهَا تَجِبُ بِالِالْتِزَامِ، كَقَوْلِهِ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً كَسَائِرِ الْقُرَبِ.
وَفِي تَحْرِيرِ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الِالْتِزَامِ لِلْحَطَّابِ: الِالْتِزَامُ الْمُطْلَقُ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْمُلْتَزِمِ، مَا لَمْ يُفْلِسْ أَوْ يَمُتْ أَوْ يَمْرَضْ.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي نَوَازِلِهِ فِيمَنْ عَزَلَ لِمِسْكِينٍ مُعَيَّنٍ شَيْئًا، وَبَتَّلَهُ لَهُ بِقَوْلٍ أَوْ نِيَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ إِنْ فَعَلَ.وَلَوْ نَوَى أَنْ يُعْطِيَهُ وَلَمْ يُبَتِّلْهُ لَهُ بِقَوْلٍ وَلَا نِيَّةٍ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى غَيْرِهِ.وَمَعْنَى بَتَّلَهُ: جَعَلَهُ لَهُ مِنَ الْآنَ.
وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: مَنْ أَخْرَجَ كِسْرَةً لِسَائِلٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ذَهَبَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ.وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: يُحْمَلُ كَلَامُ غَيْرِ مَالِكٍ عَلَى مَا إِذَا أَخْرَجَهَا لِمُعَيَّنٍ، فَيَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِ قَبُولِهِ، وَحُمِلَ كَلَامُ مَالِكٍ عَلَى إِخْرَاجِهَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا بَلْ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ الَّذِي يَأْخُذُهَا.
وَفِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ لِابْنِ رَجَبٍ: الْهَدْيُ وَالْأُضْحِيَّةُ يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ بِالْقَوْلِ بِلَا خِلَافٍ.وَفِي تَعْيِينِهِ بِالنِّيَّةِ وَجْهَانِ، فَإِذَا قَالَ: هَذِهِ صَدَقَةٌ، تَعَيَّنَتْ وَصَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَنْذُورَةِ، وَإِذَا عَيَّنَ بِنِيَّتِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا صَدَقَةً- وَعَزَلَهَا عَنْ مَالِهِ- فَهُوَ كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَاةً يَنْوِي التَّضْحِيَةَ.
د- النَّذْرُ:
33- النَّذْرُ بِالْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: النَّذْرُ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ.وَفِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: النَّذْرُ الْمُطْلَقُ: هُوَ الْتِزَامُ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ.
هـ- اسْتِدْعَاءُ الْحَاجَةِ:
34- قَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي قَوَاعِدِهِ: مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ- وَلَا ضَرَرَ فِي بَذْلِهِ لِتَيَسُّرِهِ، وَكَثْرَةِ وُجُودِهِ- أَوِ الْمَنَافِعِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا يَجِبُ بَذْلُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي الْأَظْهَرِ، وَمِنْ ذَلِكَ وَضْعُ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ الْجَارِ إِذَا لَمْ يَضُرَّ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ بَذْلِ الْمَاعُونِ، وَهُوَ مَا خَفَّ قَدْرُهُ وَسَهُلَ (وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِبَذْلِهِ)،
وَمِنْهَا: الْمُصْحَفُ تَجِبُ إِعَارَتُهُ لِمُسْلِمٍ احْتَاجَ الْقِرَاءَةَ فِيهِ.وَفِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: الْعَارِيَّةُ مَنْدُوبَةٌ، وَقَدْ يَعْرِضُ وُجُوبُهَا، كَغَنِيٍّ عَنْهَا لِمَنْ يَخْشَى بِعَدَمِهَا هَلَاكَهُ.وَفِي الْقَرْضِ قَالَ: الْقَرْضُ مَنْدُوبٌ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُوجِبُهُ كَالْقَرْضِ لِتَخْلِيصِ مُسْتَهْلِكٍ.
و- الْمِلْكُ:
35- الْأَصْلُ فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ مُرَغَّبٌ فِيهِ، لَكِنْ يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ مَلَكَ أَصْلَهُ أَوْ فَرْعَهُ، حَيْثُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْمِلْكِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
5-موسوعة الفقه الكويتية (ثواب)
ثَوَابٌالتَّعْرِيفُ:
1- الثَّوَابُ: الْعِوَضُ: وَاللَّهُ يَأْجُرُ عَبْدَهُ، أَيْ يُثِيبُهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ ثَابَ أَيْ رَجَعَ، كَأَنَّ الْمُثِيبَ يُعَوِّضُ الْمُثَابَ مِثْلَ مَا أَسْدَى إِلَيْهِ
وَالثَّوَابُ: الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ يَعُودُ إِلَى الْمَجْزِيِّ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْإِثَابَةِ أَوِ التَّثْوِيبِ، مِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْهِبَةِ: مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ.
وَالثَّوَابُ: جَزَاءُ الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَثُوبَةُ، قَالَ تَعَالَى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} وَأَعْطَاهُ ثَوَابَهُ وَمَثُوبَتَهُ، أَيْ جَزَاءَ مَا عَمِلَهُ.
وَفِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ: الثَّوَابُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّفَاعَةَ مِنَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَقِيلَ: الثَّوَابُ هُوَ إِعْطَاءُ مَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ.
وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: الثَّوَابُ مِقْدَارٌ مِنَ الْجَزَاءِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ لِعِبَادِهِ فِي نَظِيرِ أَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ الْمَقْبُولَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْحَسَنَةُ:
2- الْحَسَنَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَدْحُ فِي الْعَاجِلِ وَالثَّوَابُ فِي الْآجِلِ.وَهِيَ بِذَلِكَ تَكُونُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ.
ب- الطَّاعَةُ:
3- الطَّاعَةُ: الِانْقِيَادُ فَإِذَا كَانَتْ فِي الْخَيْرِ كَانَتْ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمَعْصِيَةِ كَانَتْ سَبَبًا فِي الْعِقَابِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ مِنْ أَحْكَامٍ.
لِلثَّوَابِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِطْلَاقَانِ:
أ- الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ جَزَاءَ طَاعَتِهِ.
ب- الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ (أَيْ الْعِوَضِ الْمَالِيِّ).
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلًا:
الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:
4- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، بَلِ الثَّوَابُ فَضْلُهُ وَالْعِقَابُ عَدْلُهُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} وَالتَّكَالِيفُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الْكُلِّ، لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ الطَّائِعِينَ، وَلَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِينَ.، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَامَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَسْبَابٍ رَبَطَهَا بِهَا، لِيَعْرِفَ الْعِبَادُ بِالْأَسْبَابِ أَحْكَامَهَا، فَيُسَارِعُوا بِذَلِكَ إِلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، إِذَا وَقَفُوا عَلَى الْأَسْبَابِ، فَأَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ كُلَّهُمْ وَنَهَاهُمْ، وَقَدْ وَعَدَ مَنْ أَطَاعَهُ بِالثَّوَابِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ عَصَاهُ بِالْعِقَابِ.
مَنْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ:
5- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُثَابُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى الْمَعَاصِي إِلاَّ أَنْ يَشْمَلَهُ اللَّهُ بِعَفْوِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.
6- أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ لِمَا لَهُ مِنْ قُدْرَةٍ قَاصِرَةٍ، وَتَصِحُّ عِبَادَتُهُ مِنْ صَلَاةٍ، وَصَوْمٍ، وَاعْتِكَافٍ، وَحَجٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ مَا يَعْمَلُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِبَادَتِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ» وَحَدِيثُ صَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ» وَحَدِيثُ تَصْوِيمِ الصَّحَابَةِ الصِّبْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.فَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ.قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ.فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ» وَقَدْ رَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ تَعَلُّقَ النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ بِالصَّبِيِّ دُونَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْبُلُوغُ، وَذَلِكَ لِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ مِنَ الشَّارِعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ أَمْرٌ بِالشَّيْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُسْلِمًا بَعْدَ الْجُنُونِ وَالْمُسْلِمُ يُثَابُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ: (صَبِيٌّ، جُنُونٌ، أَهْلِيَّةٌ).
7- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ثُمَّ يُسْلِمُ، هَلْ يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ السَّابِقُ أَوْ لَا يَنْفَعُهُ؟ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ «حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَمِنْ صِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ».
قَالَ الْحَرْبِيُّ: مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ لَكَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي عَمِلْتَهُ هُوَ لَكَ.وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي أَسْلَفَهُ، كُتِبَ لَهُ، لَكِنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَقَلَ عَنِ الْمَازِرِيِّ رِوَايَةً أُخْرَى فِي مَكَانٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّقَرُّبُ، فَلَا يُثَابُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الصَّادِرِ مِنْهُ فِي شِرْكِهِ...وَتَابَعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَلَى ذَلِكَ.
وَاسْتَضْعَفَ النَّوَوِيُّ رَأْيَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الثَّوَابِ وَقَالَ: الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ بَلْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ، وَقَدْ جَزَمَ بِمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْمُنِيرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
أَمَّا مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ثُمَّ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا قَالَ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يُطْعَمُ فِي الدُّنْيَا بِمَا عَمِلَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا».
مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَشُرُوطُهُ:
8- مِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُثَابُ- بِفَضْلِ اللَّهِ- عَلَى مَا يُؤَدِّي مِنْ طَاعَاتٍ، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ مَنْدُوبَةً، وَعَلَى مَا يَتْرُكُ مِنْ مُحَرَّمَاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ.يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وَيَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ» لَكِنَّ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ لَيْسَ سَبَبًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ- لِلثَّوَابِ- مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُجْزِئًا وَمُبْرِئًا لِلذِّمَّةِ وَالتَّرْكُ كَافِيًا لِلْخُرُوجِ مِنَ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِحُصُولِ الثَّوَابِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ نِيَّةُ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.بَلْ إِنَّ الْمُبَاحَاتِ رَغْمَ أَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، لَكِنْ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّوَابُ بِجَعْلِهَا وَسِيلَةً لِلْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ افْتَقَرَتْ إِلَى نِيَّةٍ.
قَالَ الشَّاطِبِيُّ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَالْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا تَنْحَصِرُ، مِنْهَا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: لَا ثَوَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: قَرَّرَ الْمَشَايِخُ فِي حَدِيثِ.«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى، إِذْ لَا يَصِحُّ بِدُونِ تَقْدِيرٍ لِكَثْرَةِ وُجُودِ الْأَعْمَالِ بِدُونِهَا فَقَدَّرُوا مُضَافًا أَيْ حُكْمَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ الثَّوَابُ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ، وَدُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ، وَقَدْ أُرِيدَ الْأُخْرَوِيُّ بِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَسَاقَ ابْنُ نُجَيْمٍ الْأَمْثِلَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا تُشْتَرَطُ لِلثَّوَابِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ، بَلْ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً بِغَيْرِ تَعَمُّدِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى مُحْدِثًا عَلَى ظَنِّ طَهَارَتِهِ.
9- بَلْ إِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُثَابُ عَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْ، وَيَكُونُ الثَّوَابُ عَلَى النِّيَّةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً» وَقَوْلِهِ: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّيَ فِي اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
وَيُثَابُ كَذَلِكَ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الْمُنَاسِبَ، فَفِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثُ الْمُتَصَدِّقِ الَّذِي وَقَعَتْ صَدَقَتُهُ فِي يَدِ زَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ وَسَارِقٍ.وَحَدِيثُ «مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ الَّذِي أَخَذَ صَدَقَةَ أَبِيهِ مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي وُضِعَتْ عِنْدَهُ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقُرُبَاتِ الَّتِي لَا لُبْسَ فِيهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِيَّةٌ).
مَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِمَّا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ:
لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الثَّوَابَ يَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ وَاكْتِسَابِهِ، أَمَّا ثَوَابُ مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ.وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ:
أَوَّلًا- فِيمَا يَهَبُهُ الْإِنْسَانُ لِغَيْرِهِ مِنَ الثَّوَابِ:
10- يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ ثَوَابَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ صَلَاةً، أَمْ صَوْمًا، أَمْ حَجًّا، أَمْ صَدَقَةً، أَمْ قِرَاءَةً وَذِكْرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ لِظَاهِرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَدْ «ضَحَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْهُ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ» وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ». وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فَمَعْنَاهُ لَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ فِيمَا عَدَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا عَدَا الصَّلَاةَ، وَفِي الصِّيَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خِلَافٌ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
11- وَاخْتُلِفَ فِي إِهْدَاءِ الثَّوَابِ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَهُ الْآخَرُونَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي بَعْضِ فَتَاوِيهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الشَّارِعِ، لَكِنَّ الْحَطَّابَ قَالَ: التَّصَرُّفُ الْمَمْنُوعُ مَا يَكُونُ بِصِيغَةِ جَعَلْتُهُ لَهُ، أَوْ أَهْدَيْتُهُ لَهُ، أَمَّا الدُّعَاءُ بِجَعْلِ ثَوَابِهِ لَهُ فَلَيْسَ تَصَرُّفًا بَلْ سُؤَالٌ لِنَقْلِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ أَدَاءٌ (ف 14).
(الْمَوْسُوعَةُ 2 334).
ثَانِيًا- ثَوَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ:
12- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، لَكِنْ هَلْ يَحْصُلُ ثَوَابُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ؟
قَالَ الْفُقَهَاءُ: الثَّوَابُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَحْصُلُ لِفَاعِلِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ ثَوَابُ الْفِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ لِفَاعِلِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْفَاعِلِ فَيَسْتَوِي مَعَ الْفَاعِلِ فِي سُقُوطِ التَّكْلِيفِ، لَا فِي الثَّوَابِ وَعَدَمِهِ، نَعَمْ إِنْ كَانَ نَوَى الْفِعْلَ فَلَهُ الثَّوَابُ عَلَى نِيَّتِهِ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِغَيْرِ مَنْ رَدَّ السَّلَامَ- أَيْ بَعْدَ رَدِّ غَيْرِهِ- إِذَا نَوَى الرَّدَّ وَتَرَكَهُ لِأَجْلِ رَدِّ الْغَيْرِ، وَإِلاَّ فَلَا.وَنُقِلَ عَنِ الْأَبِيِّ أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ مُطْلَقًا قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: وَفِيهِ تَعَسُّفٌ.
ثَالِثًا- الْمَصَائِبُ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْإِنْسَانِ هَلْ يُثَابُ عَلَيْهَا أَمْ لَا
13- الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».
قَالَ الشَّاطِبِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ، كَفَّرَ بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وَأَخَذَ بِهَا مِنْ أَجْرِ غَيْرِهِ، وَحَمَلَ غَيْرُهُ وِزْرَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- فِي الْمُفْلِسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: فَهِيَ كَفَّارَاتٌ فَقَطْ، أَوْ كَفَّارَاتٌ وَأُجُورٌ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْمَصَائِبُ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ قَطْعًا، سَوَاءٌ أَسَخِطَ، أَمْ رَضِيَ، غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ صَبَرَ وَرَضِيَ اجْتَمَعَ مَعَ التَّكْفِيرِ الثَّوَابُ، فَالْمَصَائِبُ لَا ثَوَابَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُصِيبَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ، وَالتَّكْفِيرُ بِالْمُصِيبَةِ يَقَعُ بِالْمُكْتَسَبِ وَغَيْرِ الْمُكْتَسَبِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةٌ لِذَنْبٍ يُوَازِيهَا، وَبِالرِّضَا يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَابِ ذَنْبٌ عُوِّضَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ بِمَا يُوَازِيهِ.
وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: مَا وَرَدَ بِهِ السَّمْعُ مِنْ وَعْدِ الرِّزْقِ، وَوَعْدِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَلَى أَلَمِ الْمُؤْمِنِ، وَأَلَمِ طِفْلِهِ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا مَحْضُ فَضْلٍ وَتَطَوُّلٍ مِنْهُ تَعَالَى لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ لِوَعْدِهِ الصَّادِقِ.
تَفَاوُتُ الثَّوَابِ:
يَتَفَاوَتُ الثَّوَابُ قِلَّةً وَكَثْرَةً بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلِي:
أ- مِنْ حَيْثُ الْمَشَقَّةُ:
14- الْأَصْلُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَلَكِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْجُمْلَةِ مُثَابٌ عَلَيْهَا إِذَا لَحِقَتْ فِي أَثْنَاءِ التَّكْلِيفِ، وَيَخْتَلِفُ أَجْرُ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ بِشِدَّةِ الْمَشَاقِّ وَخِفَّتِهَا، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ إِذَا اتَّحَدَا فِي الشَّرَفِ، وَالشَّرَائِطِ، وَالسُّنَنِ، وَالْأَرْكَانِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَا عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ، وَذَلِكَ كَالِاغْتِسَالِ فِي الصَّيْفِ وَالرَّبِيعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاغْتِسَالِ فِي شِدَّةِ بَرْدِ الشِّتَاءِ، فَيَزِيدُ أَجْرُ الِاغْتِسَالِ فِي الشِّتَاءِ لِأَجْلِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْبَرْدِ، وَكَذَلِكَ مَشَاقُّ الْوَسَائِلِ فِي مَنْ يَقْصِدُ الْمَسَاجِدَ، وَالْحَجَّ، وَالْغَزْوَ، مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، وَمَنْ يَقْصِدُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَإِنَّ ثَوَابَهَا يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْوَسِيلَةِ، وَيَتَسَاوَى مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ بِسُنَنِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا، فَإِنَّ الشَّرْعَ يُثِيبُ عَلَى الْوَسَائِلِ إِلَى الطَّاعَاتِ، كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْمَقَاصِدِ مَعَ تَفَاوُتِ أُجُورِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا الْمُصَلِّي إِلَى إِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ رَفْعَ دَرَجَةٍ وَحَطَّ خَطِيئَةٍ، وَجَعَلَ أَبْعَدَهُمْ مَمْشًى إِلَى الصَّلَاةِ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ أَقْرَبِهِمْ مَمْشًى إِلَيْهَا، وَجَعَلَ لِلْمُسَافِرِينَ إِلَى الْجِهَادِ بِمَا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الظَّمَأِ، وَالنَّصَبِ، وَالْمَخْمَصَةِ، وَالنَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَقَطْعِ الْأَوْدِيَةِ، وَبِمَا يَنَالُونَهُ مِنَ الْأَعْدَاءِ أَجْرَ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشَقَّاتٌ مُثَابًا عَلَيْهَا زِيَادَةً عَلَى مُعْتَادِ التَّكْلِيفِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لَهُ، وَإِلاَّ فَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ.
ب- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ:
15- مِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، وَتَفْضِيلُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَيَّامِ، وَتَفْضِيلُ الْعَمَلِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللَّيَالِيِ مَعَ مُسَاوَاتِهَا لِقِيَامِ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَتَفْضِيلُ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ.وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ.
مِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.
ج- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ:
16- تَفَضَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَضْعِيفِ الْأُجُورِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، فَجَعَلَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهِ، وَكَتَفْضِيلِ عَرَفَةَ، وَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَمُزْدَلِفَةَ، وَمِنًى، وَمَرْمَى الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِقَاعِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا.يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ». د- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْفِعْلِ:
17- مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالْخُلُوصُ مِنَ النَّارِ.
وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً.
بُطْلَانُ الثَّوَابِ:
18- لَا تَلَازُمَ بَيْنَ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَإِجْزَائِهَا وَبَيْنَ بُطْلَانِ ثَوَابِهَا، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً مُجْزِئَةً لِاسْتِكْمَالِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَلَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الثَّوَابَ، لِمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ الَّتِي تُبْطِلُ ثَمَرَتَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
وَمِنْ ذَلِكَ الرِّيَاءُ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
19- وَقَدْ يَصِحُّ الْعَمَلُ وَيَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الثَّوَابَ وَلَكِنْ يُتْبِعُهُ بِمَا يُبْطِلُ هَذَا الثَّوَابَ، فَالْمَنُّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ أَجْرَ الصَّدَقَةِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَمَثَلُ صَاحِبِهَا وَبُطْلَانِ عَمَلِهِ {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} وَمِنَ الْمَعَاصِي مَا يُبْطِلُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً».
قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُ.
20- وَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ يُبْطِلُ صِحَّةَ الْعَمَلِ وَثَوَابَهُ لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (رِدَّةٌ).
ثَانِيًا:
الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ:
21- الْمَقْصُودُ بِالثَّوَابِ فِي الْهِبَةِ الْعِوَضُ الْمَالِيُّ، وَالْأَصْلُ فِي الْهِبَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا عِوَضٌ مَادِّيٌّ، لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَلَيْسَتْ مُعَاوَضَةً، إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْوِيضُ فِيهَا وَتُسَمَّى هِبَةَ الثَّوَابِ، وَهِيَ الْهِبَةُ الَّتِي يَتِمُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ إِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَا:
فَإِنِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ وَكَانَ مَعْلُومًا صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ نَظَرًا لِلْمَعْنَى عِنْدَهُمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ لِتَنَاقُضِهِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ يَقْتَضِي التَّبَرُّعَ.
وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ اعْتُبِرَ بَيْعًا أَوْ كَالْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ.وَيَكُونُ لَهُ أَحْكَامُ الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْخِيَارِ، وَحَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الرُّجُوعِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِإِسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ التَّقَابُضَ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُغَلَّبَ فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ فَلَا تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ.
22- وَإِذَا اشْتُرِطَ الْعِوَضُ وَكَانَ مَجْهُولًا صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ هِبَةً ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمُ الَّذِي يُجِيزُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دَفْعُ الْقِيمَةِ أَوْ رَدُّ الْهِبَةِ، فَإِذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ أُلْزِمَ الْوَاهِبُ قَبُولَهَا، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ كَانَ لِلْوَاهِبِ الرَّدُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بُطْلَانُ الْعَقْدِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
23- وَإِنْ وَهَبَ مُطْلَقًا دُونَ تَقْيِيدٍ بِثَوَابٍ أَوْ عَدَمِهِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا ثَوَابَ إِنْ وَهَبَ الشَّخْصُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا الْأَعْلَى مِنْهُ فِي الْأَظْهَرِ وَلِنَظِيرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُصَدَّقُ الْوَاهِبُ فِي قَصْدِهِ مَا لَمْ يَشْهَدِ الْعُرْفُ بِضِدِّهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا تَقْتَضِي ثَوَابًا، أَيْ عِوَضًا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ هُوَ قِيمَةُ الْمَوْهُوبِ أَوْ مَا يُعْتَبَرُ ثَوَابًا لِمِثْلِهِ عَادَةً.
24- وَمِنْ أَحْكَامِ هِبَةِ الثَّوَابِ- غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، وَالْخِيَارِ، وَإِسْقَاطِ الرُّجُوعِ- أَنَّ وَلِيَّ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُعَاوَضَةً انْتِهَاءً، وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ فَلَمْ يَنْعَقِدْ هِبَةً، فَلَا يُتَصَوَّرُ صَيْرُورَتُهَا مُعَاوَضَةً يَمْلِكُهَا الْوَلِيُّ كَالْبَيْعِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْأَبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ؛ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ فِيهَا فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ، كَالْبَيْعِ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (هِبَةٌ- شُفْعَةٌ- خِيَارٌ).
- رحمهم الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
6-موسوعة الفقه الكويتية (جنائز 4)
جَنَائِزُ -4التَّعْزِيَةُ، وَالرِّثَاءُ، وَزِيَارَةُ الْقُبُورِ وَنَحْوُ ذَلِكَ:
45- قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: إِذَا فَرَغُوا مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ (الْمُكْثُ) عِنْدَ قَبْرِهِ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهُ، (فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي) يَتْلُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ لِلْمَيِّتِ.فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ».
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتَهَا.
وَالتَّلْقِينُ بَعْدَ الدَّفْنِ لَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ.
وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الدَّفْنِ وَحَالِهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ حَالَ الِاحْتِضَارِ فَقَطْ، وَاسْتَحَبَّهُ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: وَالتَّلْقِينُ هُنَا أَنْ يَقُولَ الْمُلَقِّنُ مُخَاطِبًا لِلْمَيِّتِ: يَا فُلَانُ بْنُ فُلَانَةَ، إِنْ كَانَ يَعْرِفُ اسْمَ أُمِّهِ وَإِلاَّ نَسَبَهُ إِلَى حَوَّاءَ ((، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ اذْكُرِ الْعَهْدَ الَّذِي خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا، شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِخْوَانًا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: اسْتَحَبَّ الْأَكْثَرُ تَلْقِينَهُ، فَيَقُومُ عِنْدَ رَأْسِهِ بَعْدَ تَسْوِيَةِ التُّرَابِ فَيَقُولُ: «وَذَكَرُوا نَحْوَ مَا ذَكَرَتْهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ كَلِمَاتِ التَّلْقِينِ».
46- قَالَ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ: يُكْرَهُ الِاجْتِمَاعُ عِنْدَ صَاحِبِ الْمَيِّتِ حَتَّى يَأْتِيَ إِلَيْهِ مَنْ يُعَزِّي بَلْ إِذَا رَجَعَ النَّاسُ مِنَ الدَّفْنِ لِيَتَفَرَّقُوا وَيَشْتَغِلُوا بِأُمُورِهِمْ، وَصَاحِبُ الْمَيِّتِ بِأَمْرِهِ.وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى بَابِ الدَّارِ لِلْمُصِيبَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَمَلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَنَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ.وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ لِلتَّعْزِيَةِ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: اسْتِعْمَالُ لَا بَأْسَ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى صَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ.أَمَّا فِي مَسْجِدٍ فَيُكْرَهُ كَمَا فِي الْبَحْرِ عَنِ الْمُجْتَبَى، وَجَزَمَ بِهِ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ وَالْفَتْحِ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْجُلُوسُ مَعَ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ، وَاتِّخَاذِ الْأَطْعِمَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَإِلاَّ كَانَتْ بِدْعَةً مُسْتَقْبَحَةً، كَمَا فِي مَرَاقِي الْفَلَاحِ وَحَوَاشِيهِ.
وَنُقِلَ فِي النَّهْرِ عَنِ التَّجْنِيسِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ لَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَوْنَهُ عَلَى بَابِ الدَّارِ مَعَ فَرْشِ بُسُطٍ عَلَى قَوَارِعِ الطَّرِيقِ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بِالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، حَتَّى إِذَا فَرَغُوا قَامَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ وَعَزَّاهُ النَّاسُ كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا لِكَوْنِ الْجُلُوسِ مَقْصُودًا لِلتَّعْزِيَةِ لَا لِلْقِرَاءَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ هَذَا الِاجْتِمَاعُ وَالْجُلُوسُ فِي الْمُصِيبَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَاءَتِ الرُّخْصَةُ فِيهِ، وَلَا تَجْلِسُ النِّسَاءُ قَطْعًا.وَفَرَّقَ صَاحِبُ الظَّهِيرِيَّةِ بَيْنَ الْجُلُوسِ فِي الْبَيْتِ أَوِ الْمَسْجِدِ وَالْجُلُوسِ عَلَى بَابِ الدَّارِ، فَحَكَمَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ فِي الثَّانِي: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى بَابِ الدَّارِ لِلتَّعْزِيَةِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ، وَمَا يُصْنَعُ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ، وَالْقِيَامِ عَلَى قَوَارِعِ الطَّرِيقِ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ، وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَنَفِيَّةَ فِي كَرَاهِيَةِ الْجُلُوسِ لِلتَّعْزِيَةِ.
وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ قَالُوا: كُرِهَ جُلُوسُ مُصَابٍ لَهَا، وَجُلُوسُ مُعَزِّيَةٍ كَذَلِكَ، لَا بِقُرْبِ دَارِ الْمَيِّتِ لِيَتْبَعَ الْجِنَازَةَ، أَوْ لِيَخْرُجَ وَلِيُّهُ فَيُعَزِّيَهُ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاحُ الْجُلُوسُ لِقَبُولِ التَّعْزِيَةِ.
47- وَيُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ اللاَّتِي لَا يَفْتِنَّ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ عَزَّى أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».وَتَفْصِيلُ بَاقِي أَحْكَامِ التَّعْزِيَةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِيَةٌ).
صُنْعُ الطَّعَامِ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ:
48- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِجِيرَانِ الْمَيِّتِ وَالْأَبَاعِدِ مِنْ قَرَابَتِهِ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ يُشْبِعُهُمْ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اصْنَعُوا لآِلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» وَيُلِحُّ عَلَيْهِمْ فِي الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ الْحُزْنَ يَمْنَعُهُمْ فَيُضْعِفُهُمْ، وَبِهِ قَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ، إِلاَّ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى مُحَرَّمٍ مِنْ نَدْبٍ وَلَطْمٍ وَنِيَاحَةٍ، فَلَا يُنْدَبُ تَهْيِئَةُ الطَّعَامِ لَهُمْ.
وَيُسَنُّ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ثَلَاثًا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ لَا لِمَنْ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُمْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا ضُيُوفًا.وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الضِّيَافَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي السُّرُورِ لَا فِي الشُّرُورِ، وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ، وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُعْقَرُ عِنْدَ الْقَبْرِ مِنْ إِبِلٍ، أَوْ بَقَرٍ، أَوْ شَاءٍ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ تَرِكَةٍ وَفِي مُسْتَحِقِّيهَا مَحْجُورٌ عَلَيْهِ حُرِّمَ فِعْلُهُ وَالْأَكْلُ مِنْهُ، وَكُرِهَ الذَّبْحُ وَالْأُضْحِيَّةُ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَالْأَكْلُ مِنْهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، بِأَنَّهُ يَحْرُمُ تَهْيِئَةُ الطَّعَامِ لِنَائِحَاتٍ؛ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الطَّعَامِ فِي أَيَّامٍ مُتَعَارَفٍ عَلَيْهَا كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثِ، وَبَعْدَ الْأُسْبُوعِ.وَنَقْلُ الطَّعَامِ إِلَى الْقَبْرِ فِي الْمَوَاسِمِ، وَاتِّخَاذُ الدَّعْوَةِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَجَمْعُ الصُّلَحَاءِ وَالْقُرَّاءِ لِلْخَتْمِ، أَوْ لِقِرَاءَةِ سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالْإِخْلَاصِ.
عَلَى أَنَّهُ إِذَا اتُّخِذَ الطَّعَامُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ حَسَنًا، وَقَالَ فِي الْمِعْرَاجِ: هَذِهِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، فَيُحْتَرَزُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى.وَفِي غَايَةِ الْمُنْتَهَى لِلْحَنَابِلَةِ: وَمِنَ الْمُنْكَرِ وَضْعُ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ عَلَى الْقَبْرِ لِيَأْخُذَهُ النَّاسُ.
وُصُولُ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ لِلْغَيْرِ:
49- وَمَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ وَجَعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ جَازَ، وَيَصِلُ ثَوَابُهَا إِلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ الْمَحْضَةَ، كَالصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ، فَلَا يَصِلُ ثَوَابُهَا إِلَى الْمَيِّتِ عِنْدَهُمَا، وَمُقْتَضَى تَحْرِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ انْتِفَاعُ الْمَيِّتِ بِالْقِرَاءَةِ لَا حُصُولُ ثَوَابِهَا لَهُ.
وَلِلْعَلاَّمَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ كَلَامٌ مُشْبِعٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَرَاجِعْ كِتَابَ الرُّوحِ «لَهُ».
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ تَصِلُ لِلْمَيِّتِ وَأَنَّهَا عِنْدَ الْقَبْرِ أَحْسَنُ مَزِيَّةٌ
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَيُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَمَّا الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالصَّدَقَةُ وَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إِذَا كَانَتِ الْوَاجِبَاتُ مِمَّا يَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَدَعَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي سَلَمَةَ حِينَ مَاتَ، وَلِلْمَيِّتِ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ وَلِكُلِّ مَيِّتٍ صَلَّى عَلَيْهِ، «وَسَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ فَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، «وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ
اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى»
وَقَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ «إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ».
وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِسَائِرِ الْقُرَبِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ وَالدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ وَقَدْ أَوْصَلَ اللَّهُ نَفْعَهَا إِلَى الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ مَا سِوَاهَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحَدِيثِ فِي ثَوَابِ مَنْ قَرَأَ «يس»، وَتَخْفِيفِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْمَقَابِرِ بِقِرَاءَتِهِ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «لَوْ كَانَ أَبُوكَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ، بَلَغَهُ ذَلِكَ» وَهَذَا عَامٌّ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ عَمَلُ بِرٍّ وَطَاعَةٍ، فَوَصَلَ نَفْعُهُ وَثَوَابُهُ، كَالصَّدَقَةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا عَدَا الْوَاجِبَ وَالصَّدَقَةَ وَالدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ لَا يُفْعَلُ عَنِ الْمَيِّتِ، وَلَا يَصِلُ ثَوَابُهُ إِلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» وَلِأَنَّ نَفْعَهُ لَا يَتَعَدَّى فَاعِلَهُ، فَلَا يَتَعَدَّى ثَوَابُهُ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ عِنْدَ الْمَيِّتِ أَوْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ ثَوَابُهُ كَانَ الثَّوَابُ لِقَارِئِهِ، وَيَكُونُ الْمَيِّتُ كَأَنَّهُ حَاضِرُهَا وَتُرْجَى لَهُ الرَّحْمَةُ.
- رحمه الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
7-موسوعة الفقه الكويتية (ذكر 3)
ذِكْرٌ -3ز- تَجَنُّبُ الذِّكْرِ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ:
34- وَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
1- حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
2- حَالَ الْجِمَاعِ.قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: الذِّكْرُ عِنْدَ نَفْسِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوِ الْجِمَاعِ لَا يُكْرَهُ بِالْقَلْبِ بِالْإِجْمَاعِ.وَأَمَّا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ حِينَئِذٍ فَلَيْسَ مِمَّا شُرِعَ لَنَا وَلَا نَدَبَنَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ يَكْفِي فِي هَذِهِ الْحَالِ الْحَيَاءُ وَالْمُرَاقَبَةُ.
أَمَّا عِنْدَ إِرَادَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوِ الْجِمَاعِ فَهُنَاكَ أَذْكَارٌ مَأْثُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
3- حَالَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ يَسْمَعُ صَوْتَ الْخَطِيبِ، لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وَلِأَنَّ الْإِنْصَاتَ إِلَى الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَمِثَالُهُ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ.لَكِنْ إِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ لِبُعْدِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مِنَ الْكَلَامِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ، قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرَخَّصَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ عَطَاءٌ وَسَعِيدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ.وَاحْتَجَّ لِهَذَا بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ «النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو، فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ» الْحَدِيثَ.
وَإِنْ كَانَ لِلذِّكْرِ سَبَبٌ كَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَرَدِّ السَّلَامِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ- وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا كَتَحْذِيرِ ضَرِيرٍ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِلَى أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَلَامًا وَلَا يُشَمِّتُ عَاطِسًا إِنْ كَانَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ، وَيَفْعَلُهُ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ وَكَالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَاءِ الْخَطِيبِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالتَّعَوُّذِ عِنْدَ ذِكْرِ مَا يَسْتَدْعِيهِ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي أَنَّهُ يُسِرُّهُ أَوْ يَجْهَرُ بِهِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ عَطَسَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ حَمِدَ اللَّهَ سِرًّا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَحِلَّ التَّحْرِيمِ لِلذِّكْرِ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ هُوَ فِي حَالَةِ كَوْنِ الْخَطِيبِ فِي ذِكْرِ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ دُونَ مَا عَدَاهَا، فَلَا يَحْرُمُ قَبْلَهَا وَلَا بَيْنَهَا وَلَا بَعْدَهَا وَلَا يُكْرَهُ.
ح- اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ:
35- مِنْ آدَابِ الذِّكْرِ اسْتِقْبَالُ الذَّاكِرِ الْقِبْلَةَ.قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا الْجِهَةُ الَّتِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا الْعَابِدُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالدَّاعُونَ لَهُ وَالْمُتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَيِّدًا وَإِنَّ سَيِّدَ الْمَجَالِسِ قُبَالَةُ الْقِبْلَةِ».
وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ».
ط- الرَّغْبَةُ وَالْخُشُوعُ وَالتَّدَبُّرُ:
36- مِنْ آدَابِ الذِّكْرِ أَنْ يَجْلِسَ الذَّاكِرُ مُتَذَلِّلًا مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَوْ ذَكَرَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ جَازَ وَلَا كَرَاهَةَ، وَيَكُونُ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ.ا هـ.
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: قَوْلُهُ مُتَخَشِّعًا أَيْ ذَا خُشُوعٍ فِي الْبَاطِنِ وَلَوْ بِتَكَلُّفِهِ، وَقِيلَ الْخُشُوعُ فِي الْجَوَارِحِ وَالْخُضُوعُ فِي الْقَلْبِ.وَمِمَّا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيِ اذْكُرِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَبِالْقَوْلِ.وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: أَيْ يَذْكُرُهُ بِالْقَوْلِ الْخَفِيِّ الَّذِي يُشْعِرُ بِالتَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ كَمَا يُنَاجِي الْمُلُوكَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الذَّاكِرُ مُتَدَبِّرًا مُتَعَقِّلًا لِمَا يَذْكُرُ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَذِكْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَإِنْ جَهِلَ شَيْئًا مِمَّا يَذْكُرُ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَبَيَّنَهُ وَلَا يَحْرِصَ عَلَى تَحْصِيلِ الْكَثْرَةِ بِالْعَجَلَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَدَاءِ الذِّكْرِ مَعَ الْغَفْلَةِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَطْلُوبِ، وَقَلِيلُ الذِّكْرِ مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ الْجَهْلِ وَالْفُتُورِ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: التَّدَبُّرُ لِلذِّكْرِ أَكْمَلُ لِأَنَّ الذَّاكِرَ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُخَاطِبِ وَالْمُنَاجِي.ثُمَّ قَالَ: وَيَكُونُ أَجْرُهُ أَتَمَّ وَأَوْفَى، وَلَا يُنَافِي ثُبُوتَ مَا وَرَدَ الْوَعْدُ بِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ لِمَنْ جَاءَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ تَقْيِيدُ مَا وَعَدَ بِهِ مِنْ ثَوَابِهَا بِالتَّدَبُّرِ وَالْفَهْمِ.وَوَافَقَهُ الشَّيْخُ صِدِّيق حَسَن خَان.
أَمَّا ابْنُ عَلاَّنَ فَقَالَ: نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَهْمِ مَعْنَى التَّهْلِيلَةِ، وَإِلاَّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا صَاحِبُهَا فِي الْإِنْقَاذِ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، قَالَ: وَمِثْلُهَا بَاقِي الْأَذْكَارِ لَا بُدَّ فِي حُصُولِ ثَوَابِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَلَوْ بِوَجْهٍ.
ي- الْحِرْصُ عَلَى الذِّكْرِ فِي الْعُزْلَةِ وَالِانْفِرَادِ عَنِ النَّاسِ:
37- الذِّكْرُ فِي حَالِ الْعُزْلَةِ عَنِ النَّاسِ وَالِانْفِرَادِ عَنْهُمْ وَحَيْثُ لَا يَعْلَمُ بِهِ إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنَ الذِّكْرِ فِي الْمَلَأِ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ فَضْلُهُ، لقوله تعالى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُمْ».قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الذِّكْرَ الْخَفِيَّ أَفْضَلُ مِنَ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ بِثَوَابٍ لَا أُطْلِعُ عَلَيْهِ أَحَدًا.وَفِي الْحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ فَذَكَرَ مِنْهُمْ: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلَاءٍ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ.
وَسَيَأْتِي حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ (ف 40).
حُكْمُ إِخْفَاءِ الذِّكْرِ:
38- لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِمَّا رَتَّبَ الشَّارِعُ الْأَجْرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ الْوَاجِبَةِ أَوِ الْمُسْتَحَبَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ الذَّاكِرُ وَيُسْمِعَ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي أَكْثَرَ مِنْ مُنَاسَبَةٍ بِأَنَّ مَنْ قَالَ كَذَا كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ كَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ الْأَجْرُ إِلاَّ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالتَّلَفُّظِ بِاللِّسَانِ.وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِمُجَرَّدِ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِغَيْرِ صَوْتٍ أَصْلًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ صَوْتٍ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ شَفَتَاهُ».
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: لَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ بَلْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَوْلٌ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ وَهُوَ تَحْرِيكُ اللِّسَانِ وَإِنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ.
وَمَعَ هَذَا فَالْإِسْرَارُ بِالذِّكْرِ بِالْقَلْبِ بِدُونِ تَلَفُّظٍ وَلَا تَحْرِيكٍ لِلِّسَانِ بَلْ بِإِمْرَارِ الْكَلَامِ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَهْلِيلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ جَائِزٌ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي».
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الذِّكْرِ جَائِزٌ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ، كَحَالِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْجِمَاعِ وَعِنْدَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ إِمْرَارُ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَلْبِ لِلْجُنُبِ أَوِ الْحَائِضِ، قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: وَمِنْ ذَلِكَ الْهَمْسُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِقِرَاءَةٍ فَلَا يَشْمَلُهَا النَّهْيُ.
رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ:
39- يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِقْدَارُ رَفْعِ الصَّوْتِ الْمَأْذُونِ بِهِ فِي الذِّكْرِ، فَالْأَصْلُ أَنَّ الذَّاكِرَ يُنَاجِي رَبَّهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْهَرَ بِالذِّكْرِ فَوْقَ مَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِلْخُشُوعِ وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} وَقَالَ: {ادْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَيِ الْمُعْتَدِينَ بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فِي الدُّعَاءِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ».
قَالَ فِي نُزُلِ الْأَبْرَارِ: الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَجْهَرَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْجَهْرُ، وَيُسِرَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْإِسْرَارُ، وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْجَهْرِ أَوِ السِّرِّ فَالذَّاكِرُ فِيهِ بِالْخِيَارِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ لِلذَّاكِرِ فِيهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ ( (: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} لِئَلاَّ يَتَجَاوَزَ الْحُدُودَ الْمَضْرُوبَةَ لَهُ وَلِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ مَعَ الْجِنَازَةِ.
وَقَدِ اضْطَرَبَ كَلَامُ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَنُقِلَ عَنِ الْقَاضِي أَنَّ الْجَهْرَ بِالذِّكْرِ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَرَامٌ لِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أَخْرَجَ جَمَاعَةً مِنَ الْمَسْجِدِ يُهَلِّلُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- جَهْرًا، وَقَالَ لَهُمْ: مَا أَرَاكُمْ إِلاَّ مُبْتَدِعِينَ.وَقَالَ فِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَالْإِسْرَارُ أَفْضَلُ حَيْثُ خِيفَ الرِّيَاءُ أَوْ تَأَذِّي الْمُصَلِّينَ أَوِ النِّيَامِ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ حَيْثُ خَلَا مِمَّا ذُكِرَ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْأَصْلِ مَوَاضِعُ يَنْبَغِي فِيهَا الْجَهْرُ بِالذِّكْرِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّرْعُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهَا:
1- مَا قُصِدَ بِهِ الْإِسْمَاعُ وَالتَّبْلِيغُ، كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَتَكْبِيرَاتِ الْإِمَامِ وَقِرَاءَتِهِ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَتَكْبِيرَاتِ الْمُبَلِّغِ وَإِلْقَاءِ السَّلَامِ وَجَوَابِهِ.وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَجْهَرُ فِي ذَلِكَ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِسْرَار، جَهْر).
2- بَعْضُ أَنْوَاعِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ فِيهَا بِالْجَهْرِ كَالْبَسْمَلَةِ، وَالتَّأْمِينِ، وَالْقُنُوتِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَالتَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ خِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ، وَفِي مُصْطَلَحَيْ: (إِسْرَار، وَجَهْر).
3- بَعْضُ الْأَذْكَارِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّنْبِيهُ أَوِ التَّعْلِيمُ، أَوْ فَائِدَةٌ أُخْرَى كَأَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ حَتَّى يُنَبِّهَ غَيْرَهُ، أَوْ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ لِيُسْمِعَ أَهْلَهُ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَرَفْعُ صَوْتِ مُرَابِطٍ وَحَارِسِ بَحْرٍ بِالتَّكْبِيرِ فِي حَرَسِهِمْ لِأَنَّهُ شِعَارُهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا.
الِاجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ:
40- أَوْرَدَ صَاحِبُ نُزُلِ الْأَبْرَارِ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» ثُمَّ قَالَ: فِي الْحَدِيثِ تَرْغِيبٌ عَظِيمٌ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْخَصَائِصَ الْأَرْبَعَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَا يُثِيرُ رَغْبَةَ الرَّاغِبِينَ، وَيُقَوِّي عَزِيمَةَ الصَّالِحِينَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطَّرِيقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا».الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ «فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ لَهُمْ.فَيَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ».
وَمِنْ هُنَا مَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ فِي حِلَقِ الذِّكْرِ.وَأَوْرَدَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا.إِلَى أَنْ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ». وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ حَسَنٌ إِذَا لَمْ يُتَّخَذْ سُنَّةً رَاتِبَةً وَلَا اقْتَرَنَ بِهِ مُنْكَرٌ مِنْ بِدْعَةٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: «مَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ مَجَالِسُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَيْ مَجَالِسُ الْعِلْمِ» وَلَا يَعْنِي ذَلِكَ انْحِصَارَ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعَةِ بِهَا، بَلْ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عَطَاءٌ التَّنْصِيصَ عَلَى أَخَصِّ أَنْوَاعِهِ، وَلَيْسَتْ مَجَالِسَ الْبِدَعِ وَمَزَامِيرَ الشَّيْطَانِ.
وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: لَوِ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ لِقِرَاءَةٍ وَدُعَاءٍ وَذِكْرٍ فَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْهُ، وَعَنْهُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.وَعَنْهُ: أَنَّهُ مُحْدَثٌ.
وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ: مَا أَكْرَهُهُ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى غَيْرِ وَعْدٍ إِلاَّ أَنْ يُكْثِرُوا.قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ يَعْنِي يَتَّخِذُوهُ عَادَةً.وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ جُمُوعِ أَهْلِ وَقْتِنَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ فِي لَيَالٍ يُسَمُّونَهَا إِحْيَاءً.وَكَرِهَهُ مَالِكٌ.
الذِّكْرُ الْجَمَاعِيُّ:
41- وَهُوَ مَا يَنْطِقُ بِهِ الذَّاكِرُونَ الْمُجْتَمِعُونَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ يُوَافِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّاطِبِيُّ إِذَا الْتُزِمَ بِدْعَةً إِضَافِيَّةً تُجْتَنَبُ قَالَ: إِذَا نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فَالْتَزَمَ قَوْمٌ الِاجْتِمَاعَ عَلَيْهِ عَلَى لِسَانٍ وَاحِدٍ وَصَوْتٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ فِي نَدْبِ الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ الْمُلْتَزَمِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْأُمُورِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ يُفْهَمُ عَلَى أَنَّهُ تَشْرِيعٌ، وَخُصُوصًا مَعَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ كَالْمَسَاجِدِ، فَإِذَا أُظْهِرَتْ هَذَا الْإِظْهَارَ وَوُضِعَتْ فِي الْمَسَاجِدِ كَسَائِرِ الشَّعَائِرِ كَالْأَذَانِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ، فُهِمَ مِنْهَا بِلَا شَكٍّ أَنَّهَا سُنَّةٌ إِنْ لَمْ تُفْهَمْ مِنْهَا الْفَرْضِيَّةُ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا الدَّلِيلُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ، فَصَارَتْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بِدَعًا مُحْدَثَةً.وَنَحْوُهُ لِابْنِ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ. حَالُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الذِّكْرِ:
42- ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الذِّكْرِ، فَنَعَتَهُمْ تَارَةً بِالْوَجَلِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وَبِالْخُشُوعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وَنَعَتَهُمْ تَارَةً أُخْرَى بِالطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ كَمَا فِي قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
وَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَأَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمِنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
فَأَمَّا الْوَجَلُ فَهُوَ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنَ الرَّهْبَةِ عِنْدَ ذِكْرِ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَنَظَرِهِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَذِكْرِ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، فَيَقْشَعِرُّ الْجَلْدُ بِسَبَبِ الْخَوْفِ الْآخِذِ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، وَخَاصَّةً عِنْدَ تَذَكُّرِهِمْ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالتَّفْرِيطِ فِي جَنْبِ اللَّهِ.
وَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَهِيَ مَا يَحْصُلُ مِنْ لِينِ الْقَلْبِ وَرِقَّتِهِ وَسُكُونِهِ، وَذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا مَا أُعِدَّ لِلْمُتَّقِينَ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، وَذَكَرُوا رَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَصِدْقَ وَعْدِهِ لِمَنْ فَعَلَ الطَّاعَاتِ وَاسْتَقَامَ عَلَى شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ يَصْحَبُ الْخَشْيَةَ الْبُكَاءُ وَفَيْضُ الدَّمْعِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ».وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ» فَذَكَرَ مِنْهُمْ: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».
أَمَّا مَا يَتَكَلَّفُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ التَّغَاشِي وَالصَّعْقِ وَالصِّيَاحِ وَالشَّطْحِ فَقَدْ قَالَ الشَّاطِبِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ بِدَعٌ مُسْتَنْكَرَةٌ.وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ قَتَادَةُ فِي قوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}.
هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا هَذَا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَقَدْ مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَاقِطٍ، وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوْ سَمِعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُذْكَرُ، خَرَّ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنَخْشَى اللَّهَ وَلَا نَسْقُطُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ أَحَدِهِمْ، مَا كَانَ هَذَا صَنِيعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-.قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَهَذَا إِنْكَارٌ.
وَقِيلَ لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّ نَاسًا هَاهُنَا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَأْخُذُهُمْ غَشْيَةٌ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ «ر وَقِيلَ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: إِنَّ قَوْمًا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ يُغْشَى عَلَيْهِمْ.فَقَالَتْ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تُنْزَفَ عَنْهُ عُقُولُ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الْآيَةَ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقَوْمِ يُقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فَيُصْعَقُونَ، قَالَ: » ذَلِكَ فِعْلُ الْخَوَارِجِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنْهُ- رضي الله عنه- إِلَى أَنَّ هَذَا فِعْلُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنَ الدِّينِ إِلاَّ ظَاهِرَهُ، وَلَمْ يَفْقَهْ حُدُودَهُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَانَ فِي الْخَوَارِجِ فَاشِيًا، كَمَا قَالَ أَبُو حَمْزَةَ الشَّارِي يَمْدَحُ أَصْحَابَهُ مِنَ الشُّرَاةِ «كُلَّمَا مَرُّوا بِآيَةِ خَوْفٍ شَهِقُوا خَوْفًا مِنَ النَّارِ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةِ رَحْمَةٍ شَهِقُوا شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
وَعَنِ «ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: جِئْتُ أَبِي، فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: وَجَدْتُ أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَيُرْعَدُ أَحَدُهُمْ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَقَعَدْتُ مَعَهُمْ.فَقَالَ: لَا تَقْعُدْ بَعْدَهَا.فَرَآنِي كَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ فِيَّ.فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَتْلُوَانِ الْقُرْآنَ، فَلَا يُصِيبُهُمْ هَذَا، أَفَتَرَاهُمْ أَخْشَعَ لِلَّهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَرَأَيْتُ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَرَكْتُهُمْ»
الرَّقْصُ وَالدَّوَرَانُ وَالطَّبْلُ وَالزَّمْرُ عِنْدَ الذِّكْرِ:
43- يَزِيدُ بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ عِنْدَ الذِّكْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أُمُورًا أُخْرَى، قَالَ الشَّاطِبِيُّ: يَا لَيْتَهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ الْمَذْمُومِ، وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الرَّقْصَ وَالزَّمْرَ وَالدَّوَرَانَ وَالضَّرْبَ عَلَى الصُّدُورِ، وَبَعْضُهُمْ يَضْرِبُ عَلَى رَأْسِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ الْمُضْحِكِ لِلْحَمْقَى، لِكَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، الْمُبْكِي لِلْعُقَلَاءِ، رَحْمَةً لَهُمْ، إِذْ لَمْ يُتَّخَذْ مِثْلُ هَذَا طَرِيقًا إِلَى اللَّهِ وَتَشَبُّهًا بِالصَّالِحِينَ.
وَقَالَ الْآجُرِّيُّ: يُقَالُ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا: اعْلَمْ أَنَّ أَصْدَقَ النَّاسِ مَوْعِظَةً، وَأَنْصَحَ النَّاسِ لأُِمَّتِهِ، وَأَرَقَّ النَّاسِ قَلْبًا، وَخَيْرَ النَّاسِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ- أَيْ بَعْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ، مَا صَرَخُوا عِنْدَ مَوْعِظَةٍ، وَلَا زَعَقُوا، وَلَا رَقَصُوا، وَلَا زَفَنُوا، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانُوا أَحَقَّ بِهِ أَنْ يَفْعَلُوهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَكِنَّهُ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ.ا هـ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي الْمُلْتَقَى عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَرِهَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْجِنَازَةِ وَالزَّحْفِ وَالتَّذْكِيرِ، فَمَا ظَنُّكَ عِنْدَ الْغِنَاءِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ وَجْدًا وَمَحَبَّةً فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الدِّينِ.
قَسْوَةُ الْقَلْبِ عِنْدَ الذِّكْرِ:
44- هَذِهِ حَالٌ مُقَابِلَةٌ لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُشَابِهَةٌ لِحَالِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فَكَانَ وَجَلُ الْقُلُوبِ عِنْدَ الذِّكْرِ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِ إِيمَانِهِمْ وَإِنَابَتِهِمْ، وَقَالَ فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} وَفِي شَأْنِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الذِّكْرِ بِسَبَبِ طُولِ الْأَمَدِ وَالِانْشِغَالِ بِمَا يَصْرِفُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ فَقَالَ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إِلاَّ أَرْبَعَ سِنِينَ.
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: اسْتَبْطَأَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}.
الْإِكْثَارُ مِنَ الذِّكْرِ:
45- الْإِكْثَارُ مِنَ الذِّكْرِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وَقَوْلِهِ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِأَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ».«وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ؟ فَقَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ».
وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا} وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الذِّكْرِ الْكَثِيرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَغُدُوًّا وَعَشِيًّا وَفِي الْمَضَاجِعِ وَكُلَّمَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَكُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى.وَيُوَضِّحُهُ مَا قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ عَمَّا يَصِيرُ بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، قَالَ: إِذَا وَاظَبَ عَلَى الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ الْمُثْبَتَةِ صَبَاحًا وَمَسَاءً فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا كَانَ مِنْهُمْ.أَيْ لِأَنَّهُ إِنْ وَاظَبَ عَلَيْهَا فَهِيَ تَشْمَلُ الْأَوْقَاتَ وَالْأَحْوَالَ.وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِحُقُوقِهَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا، أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا فِي الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ».
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: صِدْقُ كَثْرَةِ الذِّكْرِ عَلَى مَنْ وَاظَبَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَلَوْ قَلِيلًا أَكْمَلُ مِنْ صِدْقِهِ عَلَى مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ مُوَاظَبَةٍ.وَفِي الْحَدِيثِ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ».
وَيَتَعَلَّقُ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ أُمُورٌ مِنْهَا:
أ- التَّحْزِيبُ وَالْأَوْرَادُ وَقَضَاءُ مَا يَفُوتُ:
46- قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحِزْبُ مِنَ الْقُرْآنِ الْوِرْدُ، وَهُوَ شَيْءٌ يَفْرِضُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ يَقْرَؤُهُ كُلَّ يَوْمٍ.ا هـ.وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُرَتِّبُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ.وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ».وَهَذَا وَارِدٌ فِي الْحِزْبِ مِنَ الْقُرْآنِ، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ لَهُ وَظِيفَةٌ مِنَ الذِّكْرِ فِي وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، أَوْ عَقِبَ صَلَاةٍ، أَوْ حَالَةً مِنَ الْأَحْوَالِ، فَفَاتَتْهُ، أَنْ يَتَدَارَكَهَا وَيَأْتِيَ بِهَا إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَلَا يُهْمِلُهَا، فَإِنَّهُ إِذَا اعْتَادَ عَلَيْهَا لَمْ يُعَرِّضْهَا لِلتَّفْوِيتِ وَإِذَا تَسَاهَلَ فِي قَضَائِهَا سَهُلَ عَلَيْهِ تَضْيِيعُهَا فِي وَقْتِهَا.قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ ( (يَقْضُونَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ أَذْكَارِهِمُ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: الْمُرَادُ بِالْأَحْوَالِ: الْأَحْوَالُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَوْقَاتِ، لَا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَسْبَابِ كَالذِّكْرِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَسَمَاعِ الرَّعْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُنْدَبُ تَدَارُكُهُ عِنْدَ فَوَاتِ سَبَبِهِ.وَمَنْ تَرَكَ الْأَوْرَادَ بَعْدَ اعْتِيَادِهَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ.
ب- تَكْرَارُ الْأَذْكَارِ وَعَدُّهَا:
47- تَكْرَارُ الذِّكْرِ مَشْرُوعٌ.وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ بِتَرْتِيبِ الْأَجْرِ عَلَى أَذْكَارٍ تُكَرَّرُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ» الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: «وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ».
وَالتَّكْرَارُ لِعَدَدٍ مَحْدُودٍ يَقْتَضِي عَدَّ الذِّكْرِ بِشَيْءٍ يَحْسِبُهُ بِهِ، وَوَرَدَ عَنْ يَسِيرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ» يَعْنِي أَنَّ الْأَنَامِلَ تَشْهَدُ لِلذَّاكِرِ، فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَعْقِدْنَ عَدَدَ التَّسْبِيحِ مُسْتَعِينَاتٍ بِالْأَنَامِلِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ».وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ بِيَمِينِهِ».
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ الْعَقْدُ بِنَفْسِ الْأَنَامِلِ، أَوْ بِجُمْلَةِ الْأَصَابِعِ.قَالَ: وَالْعَقْدُ بِالْمَفَاصِلِ أَنْ يَضَعَ إِبْهَامَهُ فِي كُلِّ ذِكْرٍ عَلَى مِفْصَلٍ، وَالْعَقْدُ بِالْأَصَابِعِ أَنْ يَعْقِدَهَا ثُمَّ يَفْتَحَهَا.وَفِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: الْعَقْدُ هُنَا بِمَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ.
وَيَجُوزُ التَّسْبِيحُ بِالْحَصَى وَالنَّوَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ عَقَدَ أَبُو دَاوُدَ بَابًا بِعِنْوَانِ: بَابُ التَّسْبِيحِ بِالْحَصَى.أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أَوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ، فَقَالَ: أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ».
اسْتِخْدَامُ السُّبْحَةِ فِي عَدَدِ الْأَذْكَارِ:
48- السُّبْحَةُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ هِيَ الْخَرَزَاتُ الَّتِي يَعُدُّ بِهَا الْمُسَبِّحُ تَسْبِيحَهُ قَالَ: وَهِيَ كَلِمَةٌ مُوَلَّدَةٌ، وَقَدْ قَالَ: الْمِسْبَحَةُ.
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ شَمْسُ الْحَقِّ شَارِحُ السُّنَنِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ حَدِيثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَدِّ التَّسْبِيحِ بِالنَّوَى وَالْحَصَى، وَكَذَا بِالسُّبْحَةِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ، لِتَقْرِيرِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمَرْأَةِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ إِنْكَارِهِ، وَالْإِرْشَادُ إِلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ لَا يُنَافِي الْجَوَازَ.قَالَ: وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ.وَجَرَى صَاحِبُ الْحِرْزِ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَنَقَلَ ابْنُ عَلاَّنَ عَنْ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ لِابْنِ حَجَرٍ قَوْلَهُ: فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ نَدْبُ اتِّخَاذِ السُّبْحَةِ، وَزَعْمُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِلاَّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي اخْتَرَعَهَا بَعْضُ السُّفَهَاءِ، مِمَّا يُمَحِّضُهَا لِلزِّينَةِ أَوِ الرِّيَاءِ أَوِ اللَّعِبِ.ا هـ.
وَرَدَّ ابْنُ عَلاَّنَ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا بِدْعَةٌ بِأَنَّ إِقْرَارَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تِلْكَ الْمَرْأَةَ عَلَى الْعَدِّ بِالْحَصَى أَوِ النَّوَى يَنْفِي أَنَّهَا بِدْعَةٌ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ هُوَ مِنَ السُّنَّةِ، وَالسُّبْحَةُ فِي مَعْنَى الْعَدِّ بِالْحَصَى، إِذْ لَا يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ مِنْ كَوْنِهَا مَنْظُومَةً- أَيْ مَنْظُومَةً بِخَيْطٍ- أَوْ مَنْثُورَةً.قَالَ: وَقَدْ أَفْرَدْتُ السُّبْحَةَ بِجُزْءٍ لَطِيفٍ سَمَّيْتُهُ «إِيقَادُ الْمَصَابِيحِ لِمَشْرُوعِيَّةِ اتِّخَاذِ الْمَسَابِيحِ» أَوْرَدْتُ فِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ وَالِاخْتِلَافِ فِي تَفَاضُلِ الِاشْتِغَالِ بِهَا أَوْ بِعَقْدِ الْأَصَابِعِ.وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَقْدَ بِالْأَنَامِلِ أَفْضَلُ لَا سِيَّمَا مَعَ الْأَذْكَارِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، أَمَّا فِي الْأَعْدَادِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يُلْهِي الِاشْتِغَالُ بِعَدِّهَا عَنِ التَّوَجُّهِ لِلذِّكْرِ فَالْأَفْضَلُ اسْتِعْمَالُ السُّبْحَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
8-موسوعة الفقه الكويتية (صدقة 2)
صَدَقَةٌ -2التَّصَدُّقُ بِكُلِّ مَالِهِ:
23- يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ بِفَاضِلٍ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَا يُنْقِصُ مُؤْنَةَ مَنْ يَمُونُهُ أَثِمَ.وَمَنْ أَرَادَ التَّصَرُّفَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ حُسْنَ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَلَا يَجُوزُ.
وَيُكْرَهُ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى الضِّيقِ أَنْ يُنْقِصَ نَفَقَةَ نَفْسِهِ عَنِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ.
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ صَحِيحًا رَشِيدًا لَهُ التَّبَرُّعُ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَحَبَّ.قَالَ فِي الرِّسَالَةِ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِلَّهِ.لَكِنْ قَالَ النَّفْرَاوِيُّ: مَحَلُّ نَدْبِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ طَيِّبَ النَّفْسِ بَعْدَ الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ، لَا يَنْدَمُ عَلَى الْبَقَاءِ بِلَا مَالٍ.وَأَنَّ مَا يَرْجُوهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُمَاثِلٌ لِمَا تَصَدَّقَ بِهِ فِي الْحَالِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، أَوْ يُنْدَبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ لَمْ يُنْدَبْ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِنْ تَحَقَّقَ الْحَاجَةَ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، أَوْ يُكْرَهُ إِنْ تَيَقَّنَ الْحَاجَةَ لِمَنْ يُنْدَبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ، وَمُؤْنَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ.
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنَ الْفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ عَلَى الدَّوَامِ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» وَلِأَنَّ نَفَقَةَ مَنْ يَمُونُهُ وَاجِبَةٌ وَالتَّطَوُّعُ نَافِلَةٌ، وَتَقْدِيمُ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ غَيْرُ جَائِزٍ.
فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَا عِيَالَ لَهُ، فَأَرَادَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَكَانَ ذَا مَكْسَبٍ، أَوْ كَانَ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ يُحْسِنُ التَّوَكُّلَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَحَسَنٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قُلْتُ: مِثْلَهُ.قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقُلْتُ لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهُ أَبَدًا» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَهَذَا كَانَ فَضِيلَةً فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- لِقُوَّةِ يَقِينِهِ، وَكَمَالِ إِيمَانِهِ، وَكَانَ أَيْضًا تَاجِرًا ذَا مَكْسَبٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُتَصَدِّقِ أَحَدُ هَذَيْنِ كُرِهَ لَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ.فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ، وَيَقُولُ هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى»؛ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَالِهِ لَا يَأْمَنُ فِتْنَةَ الْفَقْرِ، وَشِدَّةَ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَيَنْدَمُ، فَيَذْهَبُ مَالُهُ، وَيَبْطُلُ أَجْرُهُ، وَيَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ.
وَاتَّفَقَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ مَعَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي: أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِعِيَالِهِ وَدَيْنِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الْفَاضِلِ؟ فِيهِ عِنْدَهُمْ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: إِنْ صَبَرَ عَلَى الضِّيقِ فَنَعَمْ، وَإِلاَّ فَلَا بَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْأَخْبَارُ الْمُخْتَلِفَةُ الظَّاهِرِ
رَابِعًا- النِّيَّةُ:
24- الصَّدَقَةُ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ، لِأَجْلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَيُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَنْوِيَ الْمُتَصَدِّقُ ثَوَابَهَا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى بِعِبَادَةٍ مَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَلَاةً أَمْ صَوْمًا أَمْ صَدَقَةً أَمْ قِرَاءَةً، لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ وَإِنْ نَوَاهَا لِنَفْسِهِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْأَفْضَلُ لِمَنْ يَتَصَدَّقُ نَفْلًا أَنْ يَنْوِيَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ.
وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ النِّيَّةِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّةٌ).
إِخْفَاءُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ:
25- الْأَفْضَلُ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَنْ تَكُونَ سِرًّا، وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْعَلَنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ».
وَلِأَنَّ الْإِسْرَارَ بِالتَّطَوُّعِ يَخْلُو عَنِ الرِّيَاءِ وَالْمَنِّ، وَإِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ سِرًّا يُرَادُ بِهِ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ.وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَوْلُهُ: صَدَقَةُ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْحَالَ فِي الصَّدَقَةِ يَخْتَلِفُ بِحَالِ الْمُعْطِي لَهَا وَالْمُعْطَى إِيَّاهَا وَالنَّاسِ الشَّاهِدِينَ لَهَا.
أَمَّا الْمُعْطِي فَلَهُ فَائِدَةُ إِظْهَارِ السُّنَّةِ وَثَوَابِ الْقُدْوَةِ، وَآفَتُهَا الرِّيَاءُ، وَالْمَنُّ، وَالْأَذَى.وَأَمَّا الْمُعْطَى إِيَّاهَا فَإِنَّ السِّرَّ أَسْلَمُ لَهُ مِنَ احْتِقَارِ النَّاسِ لَهُ، أَوْ نِسْبَتِهِ إِلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الْغِنَى وَتَرْكِ التَّعَفُّفِ.
وَأَمَّا حَالُ النَّاسِ فَالسِّرُّ عَنْهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ لَهُمْ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا طَعَنُوا عَلَى الْمُعْطِي لَهَا بِالرِّيَاءِ، وَعَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالِاسْتِغْنَاءِ، وَلَهُمْ فِيهَا تَحْرِيكُ الْقُلُوبِ إِلَى الصَّدَقَةِ.لَكِنَّ هَذَا الْيَوْمَ قَلِيلٌ وَيَقُولُ الْخَطِيبُ: إِنْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَأَظْهَرَهَا لِيُقْتَدَى بِهِ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ، فَهُوَ أَفْضَلُ.
أَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ إِظْهَارَهَا أَفْضَلُ كَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَسَائِرِ الْفَرَائِضِ.
تَرْكُ الْمَنِّ وَالْأَذَى:
26- يَحْرُمُ الْمَنُّ وَالْأَذَى بِالصَّدَقَةِ، وَيَبْطُلُ الثَّوَابُ بِذَلِكَ، فَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَجَعَلَهُمَا مُبْطِلَيْنِ لِلصَّدَقَاتِ حَيْثُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} وَحَثَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِعَدَمِ إِتْبَاعِ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى فَقَالَ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فِي أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى فِي الصَّدَقَةِ حَرَامٌ يُبْطِلُ الثَّوَابَ.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَبَّرَ تَعَالَى عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ وَحِرْمَانِ الثَّوَابِ بِالْإِبْطَالِ.
وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ: الْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ حَرَامٌ مُبْطِلٌ لِلْأَجْرِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَ مِرَارٍ.قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ».
وَجَعَلَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَالَ: وَيَحْرُمُ الْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مِنَ الْكَبِيرَةِ وَيَبْطُلُ الثَّوَابَ بِذَلِكَ.
وَهَلْ تُبْطِلُ الْمَعْصِيَةُ الطَّاعَةَ؟ فِيهِ خِلَافٌ.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْعَقِيدَةُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُبْطِلُ الْحَسَنَاتِ، وَلَا تُحْبِطُهَا.فَالْمَنُّ وَالْأَذَى فِي صَدَقَةٍ لَا يُبْطِلُ صَدَقَةً أُخْرَى
التَّصَدُّقُ فِي الْمَسْجِدِ:
27- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّصَدُّقِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَبَعْضُهُمْ بَيَّنُوا لَهُ شُرُوطًا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِهَا.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا يَحِلُّ أَنْ يَسْأَلَ شَيْئًا مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ، كَالصَّحِيحِ الْمُكْتَسِبِ، وَيَأْثَمُ مُعْطِيهِ إِنْ عَلِمَ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْمُحَرَّمِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ السَّائِلَ إِذَا كَانَ لَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، وَلَا يَتَخَطَّى الرِّقَابَ، وَلَا يَسْأَلُ إِلْحَافًا، بَلْ لِأَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَا بَأْسَ بِالسُّؤَالِ وَالْإِعْطَاءِ.ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: وَلَا يَجُوزُ الْإِعْطَاءُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ.وَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مِنْ تَعْلِيقِ رَجُلٍ قِنْوَ حَشَفٍ فِي الْمَسْجِدِ يَدُلُّ كَذَلِكَ عَلَى مُطْلَقِ الْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَخَذْتُهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ».
وَيَقُولُ الْبُهُوتِيُّ: يُكْرَهُ سُؤَالُ الصَّدَقَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالتَّصَدُّقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ يَقُولُ: «وَلَا يُكْرَهُ التَّصَدُّقُ عَلَى غَيْرِ السَّائِلِ وَلَا عَلَى مَنْ سَأَلَ لَهُ الْخَطِيبُ».وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ)
الْأَحْوَالُ وَالْأَمَاكِنُ الَّتِي تُفَضَّلُ فِيهَا الصَّدَقَةُ:
28- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْحَالَاتِ وَالْأَمَاكِنَ الَّتِي تُفَضَّلُ فِيهَا الصَّدَقَةُ، وَيَكُونُ أَجْرُهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ وَالْأَمَاكِنِ مَا يَأْتِي:
قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا فِي غَيْرِهِ، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ».وَلِأَنَّ الْفُقَرَاءَ فِيهِ يَضْعُفُونَ وَيَعْجِزُونَ عَنِ الْكَسْبِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ.وَتَتَأَكَّدُ فِي الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ كَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامِ الْعِيدِ، وَكَذَا فِي الْأَمَاكِنِ الشَّرِيفَةِ، كَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَفِي الْغَزْوِ، وَالْحَجِّ، وَعِنْدَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، كَالْكُسُوفِ وَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ.
ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْأَذْرَعِيِّ قَوْلَهُ: وَلَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِصَدَقَةٍ، أَوْ بِرٍّ فِي رَجَبٍ، أَوْ شَعْبَانَ مَثَلًا، أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إِلَى رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، بَلِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ بِلَا شَكٍّ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ التَّصَدُّقَ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِمَّا يَقَعُ فِي غَيْرِهَا.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: وَفِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا لقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}.
وَعَلَّلَ الْحَنَابِلَةُ فَضْلَ الصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ تُضَاعَفُ فِيهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى أَدَاءِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ، وَمَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا، التَّوْسِيعُ عَلَى الْعِيَالِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ- لَا سِيَّمَا فِي عَشَرَةٍ آخِرَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّا عَدَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ الْأُخْرَى
الرُّجُوعُ فِي الصَّدَقَةِ:
29- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَرْجِعَ فِي صَدَقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّدَقَةِ الثَّوَابُ، وَقَدْ حَصَلَ، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ يَكُونُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَمَا يَقُولُ السَّرَخْسِيُّ.وَيَسْتَوِي أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ عَلَى غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فِي أَنْ لَا رُجُوعَ فِيهَا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعَمَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ فَقَالُوا: كُلُّ مَا يَكُونُ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ لَا رُجُوعَ فِيهَا، وَلَوْ مِنْ وَالِدٍ لِوَلَدِهِ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: لِلْوَالِدِ أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ فِي (هِبَةٌ).
وَنُصُوصُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَتَّفِقُ مَعَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ رُجُوعِ الْمُتَصَدِّقِ فِي صَدَقَتِهِ أَمَّا الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ فَتُذْكَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (هِبَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
9-موسوعة الفقه الكويتية (ظهار 2)
ظِهَارٌ -2الشَّرْطُ السَّابِعُ:
21- التَّكْلِيفُ:
يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُلِ لِكَيْ يَكُونَ ظِهَارُهُ صَحِيحًا أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِأُمُورٍ:
أ- الْبُلُوغُ: فَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الصَّبِيِّ وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ التَّحْرِيمُ، وَخِطَابُ التَّحْرِيمِ مَرْفُوعٌ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَعْقِلَ».
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الظِّهَارِ تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ، فَهُوَ كَالطَّلَاقِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَطَلَاقُ الصَّبِيِّ لَا يُعْتَبَرُ، فَكَذَلِكَ ظِهَارُهُ لَا يُعْتَبَرُ.
ب- الْعَقْلُ: فَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْمَجْنُونِ حَالَ جُنُونِهِ، وَلَا مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَدَاةُ التَّفْكِيرِ وَمَنَاطُ التَّكْلِيفِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْعَاقِلِ.
وَمِثْلُ الْمَجْنُونِ فِي الْحُكْمِ: الْمَعْتُوهُ وَالْمُبَرْسَمُ وَالْمَدْهُوشُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ.
وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ ظِهَارَهُ لَا يُعْتَبَرُ إِنْ كَانَ سُكْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا شَرِبَ الْمُسْكِرَ لِلضَّرُورَةِ أَوْ تَحْتَ ضَغْطِ الْإِكْرَاهِ، لِأَنَّ السَّكْرَانَ لَا وَعْيَ عِنْدَهُ، وَلَا إِدْرَاكَ فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ أَوْ كَالنَّائِمِ، فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ الظِّهَارُ الصَّادِرُ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ الظِّهَارُ الصَّادِرُ مِنَ السَّكْرَانِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ سُكْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ مُحَرَّمٍ، بِأَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ حَتَّى سَكِرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ ظِهَارِهِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي اعْتِبَارِ طَلَاقِهِ، فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ طَلَاقِهِ قَالَ بِاعْتِبَارِ ظِهَارِهِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا تَنَاوَلَ الْمُحَرَّمَ بِاخْتِيَارِهِ كَانَ مُتَسَبِّبًا فِي زَوَالِ عَقْلِهِ، فَيُجْعَلُ عَقْلُهُ مَوْجُودًا حُكْمًا عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ.
وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ قَالَ لَا يُعْتَبَرُ ظِهَارُهُ، وَهُمْ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ تَعْتَمِدُ عَلَى الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالسَّكْرَانُ قَدْ غَلَبَ السُّكْرُ عَلَى عَقْلِهِ فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ قَصْدٌ وَلَا إِرَادَةٌ صَحِيحَةٌ، فَلَا يُعْتَدُّ بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ، كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
ج- الْإِسْلَامُ: فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مُسْلِمٍ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ سَوَاءٌ كَانَ كِتَابِيًّا أَمْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِسْلَامُ الزَّوْجِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الظِّهَارِ، فَيَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِ.
وَحُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَإِنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ.
وَالْأَزْوَاجُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} لَا يُرَادُ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ بَلِ الْمُرَادُ بِهِمُ الْأَزْوَاجُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ حُكْمِ الظِّهَارِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ الظِّهَارُ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الظِّهَارَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ تَحْرِيمًا يَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِنْهُ.
وَحُجَّةُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَإِنَّهُ عَامٌّ، فَيَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الْأَصْلُ فِي التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ تَابِعٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَثْبُتُ التَّخْصِيصُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الدَّلِيلُ هُنَا.
وَالْكَافِرُ يَصِحُّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الصِّيَامُ، وَامْتِنَاعُ صِحَّةِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْكَافِرِ لَا يَجْعَلُهُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلظِّهَارِ، قِيَاسًا عَلَى الرَّقِيقِ، فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِلظِّهَارِ مَعَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْهُ الْإِعْتَاقُ.
أَثَرُ الظِّهَارِ:
إِذَا تَحَقَّقَ الظِّهَارُ وَتَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْآثَارُ الْآتِيَةُ:
22- أ- حُرْمَةُ الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنِ الظِّهَارِ، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَشْمَلُ حُرْمَةَ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ مِنْ تَقْبِيلٍ أَوْ لَمْسٍ أَوْ مُبَاشَرَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ.
أَمَّا حُرْمَةُ الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لِاتِّفَاقِهِمْ، عَلَى إِرَادَةِ الْوَطْءِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ»
أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الْوِقَاعِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الذَّنْبِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، كَمَا «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- نَهَاهُ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى الْوِقَاعِ حَتَّى يُكَفِّرَ»، وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى حُرْمَةِ الْوِقَاعِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا حُرْمَةُ دَوَاعِي الْوَطْءِ فَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فَإِنَّهُ أَمَرَ الْمُظَاهِرَ بِالْكَفَّارَةِ قَبْلَ «التَّمَاسِّ» وَالتَّمَاسُّ يَصْدُقُ عَلَى الْمَسِّ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْوَطْءُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَالْمَسُّ بِالْيَدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَكُونُ حَرَامًا مِثْلَهُ، وَلِأَنَّ الْمَسَّ وَالتَّقْبِيلَ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ تَدْعُو إِلَى الْوَطْءِ، وَمَتَى كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا كَانَتِ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ حَرَامًا أَيْضًا، بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ: «مَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ».
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى إِبَاحَةِ الدَّوَاعِي فِي الْوَطْءِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} الْجِمَاعُ: وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} فَلَا يَحْرُمُ مَا عَدَاهُ مِنَ التَّقْبِيلِ وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ يُشْبِهُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالْحَيْضِ، مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَطْءٌ مُحَرَّمٌ وَلَا يُخِلُّ بِالنِّكَاحِ، وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ وَطِئَ الْمُظَاهِرُ الْمَرْأَةَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ أَوِ اسْتَمْتَعَ بِهَا بِغَيْرِ الْوَطْءِ عَصَى رَبَّهُ، لِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ الْوَارِدِ فِي قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَلَا يَلْزَمُهُ إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَبْقَى زَوْجَتُهُ حَرَامًا عَلَيْهِ كَمَا كَانَتْ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ ظَاهَرْتُ مِنْ زَوْجَتِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، قَالَ: فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ».
فَالْحَدِيثُ وَاضِحُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِذَا وَطِئَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَأَنَّ زَوْجَتَهُ تَبْقَى حَرَامًا كَمَا كَانَتْ حَتَّى يُكَفِّرَ.
23- ب- إِنَّ لِلْمَرْأَةِ الْحَقَّ فِي مُطَالَبَةِ الزَّوْجِ بِالْوَطْءِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنَ الْوَطْءِ حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ كَانَ لَهَا أَنْ تَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالتَّكْفِيرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ بِمَا يَمْلِكُ مِنْ وَسَائِلِ التَّأْدِيبِ حَتَّى يُكَفِّرَ أَوْ يُطَلِّقَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الزَّوْجَ قَدْ أَضَرَّ بِزَوْجَتِهِ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ، حَيْثُ مَنَعَهَا حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ مَعَ قِيَامِ الزَّوَاجِ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَالزَّوْجُ فِي وُسْعِهِ إِيفَاءُ حَقِّ الزَّوْجَةِ بِإِزَالَةِ الْحُرْمَةِ بِالْكَفَّارَةِ، فَيَكُونُ مُلْزَمًا بِذَلِكَ شَرْعًا، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْقِيَامِ بِذَلِكَ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى التَّكْفِيرِ أَوِ الطَّلَاقِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا عَجَزَ الْمُظَاهِرُ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَانَ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي الطَّلَاقَ، لِتَضَرُّرِهَا مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ الزَّوْجَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَإِنْ قَدَرَ الزَّوْجُ عَلَى الْكَفَّارَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَفَّرَ وَرَاجَعَهَا.
وَإِذَا كَانَ الْمُظَاهِرُ قَادِرًا عَلَى الْكَفَّارَةِ وَامْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ، فَلِلزَّوْجَةِ طَلَبُ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَبَتِ الطَّلَاقَ مِنَ الْقَاضِي لَا يُطَلِّقُهَا إِلاَّ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ كَمَا فِي الْإِيلَاءِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ أَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ بِالطَّلَاقِ أَوِ التَّكْفِيرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا.
وَتَأْجِيلُ الطَّلَاقِ إِلَى مُضِيِّ أَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، فَفِي قَوْلٍ تَبْدَأُ مِنْ يَوْمِ الظِّهَارِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرَاذِعِيُّ فِي اخْتِصَارِهِ لِلْأَقْوَالِ بِالْمُدَوَّنَةِ، وَفِي قَوْلٍ تَبْدَأُ مِنْ يَوْمِ الْحُكْمِ وَهُوَ لِمَالِكٍ أَيْضًا وَالْأَرْجَحُ عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ تَبَيُّنِ الضَّرَرِ، وَهُوَ يَوْمُ الِامْتِنَاعِ مِنَ التَّكْفِيرِ وَعَلَيْهِ تُؤُوِّلَتِ الْمُدَوَّنَةُ.
24- ج- وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُظَاهِرِ قَبْلَ وَطْءِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَدَوَاعِي الْوَطْءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُظَاهِرِينَ بِالْكَفَّارَةِ إِذَا عَزَمُوا عَلَى مُعَاشَرَةِ زَوْجَاتِهِمُ اللاَّتِي ظَاهَرُوا مِنْهُنَّ فِي قَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَالْأَمْرُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ مَعْصِيَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُظَاهِرِ حَتَّى يُغَطِّيَ ثَوَابُهَا وِزْرَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ. وَالْكَلَامُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ يَتَنَاوَلُ الْأُمُورَ الْآتِيَةَ:
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ- سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ:
25- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: سَبَبُ وُجُوبِهَا الظِّهَارُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّهَا تَجِبُ بِالظِّهَارِ، وَالْعَوْدُ شَرْطٌ لِتَقْرِيرِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَوَجْهٌ أَنَّ السَّبَبَ يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِهِ، وَالْكَفَّارَةُ تُكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الظِّهَارِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى وَطْءِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالْعَوْدِ وَقَبْلَ التَّمَاسِّ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَوْدَ غَيْرُ التَّمَاسِّ الَّذِي هُوَ الْوَطْءُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ هُوَ السَّبَبُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَصَدَ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ بِالظِّهَارِ، فَالْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا عَوْدٌ فِيمَا قَصَدَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْأَوْجُهِ، رَجَّحَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ مَعًا، وَوَجْهُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِأَمْرَيْنِ: ظِهَارٍ وَعَوْدٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَلَا تَثْبُتُ الْكَفَّارَةُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.الْأَمْرُ الثَّانِي- اسْتِقْرَارُ الْكَفَّارَةِ فِي الذِّمَّةِ:
26- كَفَّارَةُ الظِّهَارِ تَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمُظَاهِرِ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا سَقَطَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا فَتَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ عِنْدَهُمَا.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِنْ أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ وَهَذَا إِنْ لَمْ يَطَأْ، فَإِنْ وَطِئَ فَلَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، بَلْ يُؤَدِّيهَا الْوَارِثُ عَنِ الْمَيِّتِ مِنَ التَّرِكَةِ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ- شُرُوطُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:
27- يُشْتَرَطُ لِإِجْزَاءِ الْكَفَّارَةِ عَنِ الظِّهَارِ أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِالْكَفَّارَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى سَبَبِهِ، وَتَأْسِيسًا عَلَى هَذَا: لَوْ أَطْعَمَ رَجُلٌ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقَالَ: هَذَا الْإِطْعَامُ عَنْ ظِهَارِي إِنْ ظَاهَرْتُ، ثُمَّ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ ظِهَارِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى سَبَبِ وُجُوبِهَا، وَالْحُكْمُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى سَبَبِ وُجُوبِهِ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَنِ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحَلِفِ، أَوْ كَفَّرَ عَنِ الْقَتْلِ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلْتُ دَارَ فُلَانٍ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ زَوْجَتُهُ تِلْكَ الدَّارَ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ دُخُولُ الدَّارِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ لَا يُوجَدُ قَبْلَ وُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ.
الثَّانِي: النِّيَّةُ: وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدَ الْإِعْتَاقَ أَوِ الصِّيَامَ أَوِ الْإِطْعَامَ عَنِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَصْدُ مُقَارِنًا لِفِعْلِ أَيِّ نَوْعٍ مِنْهَا، أَوْ سَابِقًا عَلَى فِعْلِهِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
وَلِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْوَاجِبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهِ لِلتَّكْفِيرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ التَّكْفِيرُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُظَاهِرُ أَوْ صَامَ أَوْ أَطْعَمَ بِدُونِ نِيَّةٍ، ثُمَّ نَوَى أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ أَوِ الصَّوْمُ أَوِ الْإِطْعَامُ عَنِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ فَلَا يُجْزِئُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى الصِّيَامَ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ الَّتِي عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي صَامَ فِيهِ يَصْلُحُ لِلصِّيَامِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَعَنْ غَيْرِهَا، مِثْلُ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَلَا يَتَعَيَّنُ الصَّوْمُ لِلْكَفَّارَةِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
الْأَمْرُ الرَّابِعُ- خِصَالُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:
28- خِصَالُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْآتِي: أ- الْإِعْتَاقُ.
ب- الصِّيَامُ.
ج- الْإِطْعَامُ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
«وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ حِينَ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ: يُعْتِقُ رَقَبَةً، قِيلَ لَهُ: لَا يَجِدُ قَالَ: يَصُومُ».
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَة)
انْتِهَاءُ الظِّهَارِ:
29- يَنْتَهِي الظِّهَارُ بَعْدَ انْعِقَادِهِ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأُمُورِ الْآتِيَةِ: أ- الْكَفَّارَةُ.
ب- الْمَوْتُ.
ج- مُضِيُّ الْمُدَّةِ.
أ- انْتِهَاءُ الظِّهَارِ بِالْكَفَّارَةِ:
30- إِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَتَحَقَّقَ رُكْنُ الظِّهَارِ، وَتَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَلَا يَنْتَهِي هَذَا التَّحْرِيمُ إِلاَّ بِالْكَفَّارَةِ مَتَى كَانَ الظِّهَارُ مُطْلَقًا عَنِ التَّقْيِيدِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَذَلِكَ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» إِذْ نَهَاهُ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى وَطْئِهَا، وَجَعَلَ لِهَذَا النَّهْيِ غَايَةً هِيَ التَّكْفِيرُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَنْتَهِي حُكْمُهُ إِلاَّ بِالْكَفَّارَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَفَارَقَهَا بِطَلَاقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، سَوَاءٌ رَجَعَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ أَوْ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَتَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ، لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَعَلَّلَ ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ بِأَنَّ الظِّهَارَ قَدِ انْعَقَدَ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ إِذَا انْعَقَدَ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَتَى كَانَ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ مُحْتَمَلَةٌ، وَاحْتِمَالُ عَوْدَةِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ قَائِمٌ، فَيَبْقَى الظِّهَارُ، وَإِذَا بَقِيَ فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ الَّتِي تَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ.
ب- انْتِهَاءُ الظِّهَارِ بِالْمَوْتِ:
31- وَيَنْتَهِي الظِّهَارُ أَيْضًا بِمَوْتِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَلَوْ ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ انْتَهَى الظِّهَارُ وَانْتَهَى حُكْمُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَالرَّجُلُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا، وَالْمَرْأَةُ عَلَيْهَا أَلاَّ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْحُكْمِ بِدُونِ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلظِّهَارِ وَأَثَرِ الْمَوْتِ فِيهِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّارَةِ وَالْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ ف 26.
ج- مُضِيُّ الْمُدَّةِ:
32- وَيَنْحَلُّ الظِّهَارُ الْمُؤَقَّتُ بِمُضِيِّ مُدَّتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ التَّوْقِيتِ وَالتَّأْبِيدِ فِي الظِّهَارِ فِي فِقْرَةِ (6).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
10-موسوعة الفقه الكويتية (عبادة)
عِبَادَةالتَّعْرِيفُ:
1- الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخُضُوعُ، وَالتَّذَلُّلُ لِلْغَيْرِ لِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ وَلَا يَجُوزُ فِعْلُ ذَلِكَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الطَّاعَةِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: ذَكَرُوا لَهَا عِدَّةَ تَعْرِيفَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ: مِنْهَا:
(1) - هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ، وَالتَّذَلُّلُ لَهُ.
(2) - هِيَ الْمُكَلَّفُ عَلَى خِلَافِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ.
(3) - هِيَ فِعْلٌ لَا يُرَادُ بِهِ إِلاَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ بِأَمْرِهِ.
(4) - هِيَ اسْمٌ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْقُرْبَةُ:
2- الْقُرْبَةُ هِيَ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ فَقَطْ، أَوْ مَعَ الْإِحْسَانِ لِلنَّاسِ كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسَاجِدِ، وَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
ب- الطَّاعَةُ:
3- الطَّاعَةُ هِيَ: مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ بِامْتِثَالِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ اللَّهِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ قَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
4- قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ (الْعِبَادَةُ- الْقُرْبَةُ- الطَّاعَةُ) عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ.
فَالْعِبَادَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَتَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ، وَالْقُرْبَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ، وَالطَّاعَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّةٍ أَمْ لَا، عَرَفَ مَنْ يَفْعَلُهُ لِأَجْلِهِ، أَمْ لَا.
فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالصَّوْمُ، وَالزَّكَاةُ، وَكُلُّ مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ: عِبَادَةٌ، وَطَاعَةٌ، وَقُرْبَةٌ.
وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالْوَقْفُ، وَالْعِتْقُ، وَالصَّدَقَةُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ: قُرْبَةٌ، وَطَاعَةٌ، لَا عِبَادَةٌ.
وَالنَّظَرُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى: طَاعَةٌ، لَا قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَحْصُلُ بَعْدَهَا، وَلَا عِبَادَةَ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى نِيَّةٍ وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْعِبَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعَبُّدِ، وَعَدَمُ النِّيَّةِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْعَمَلِ عِبَادَةً، وَقَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْعِبَادَةَ، وَالْقُرْبَةَ، وَالطَّاعَةَ تَكُونُ فِعْلًا وَتَرْكًا، وَالْعَمَلُ الْمَطْلُوبُ شَرْعًا يُسَمَّى عِبَادَةً إِذَا فَعَلَهُ الْمُكَلَّفُ تَعَبُّدًا، أَوْ تَرَكَهُ تَعَبُّدًا أَمَّا إِذَا فَعَلَهُ لَا بِقَصْدِ التَّعَبُّدِ، بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ، أَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ التَّعَبُّدِ فَلَا يَكُونُ عِبَادَةً لقوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ}
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِبَادَةِ:
الْعِبَادَةُ لَا تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ وَحْيٍ:
5- الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادَةِ: تَهْذِيبُ النَّفْسِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ، وَالِانْقِيَادِ لِأَحْكَامِهِ بِالِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ، فَلَا تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ بِنَوْعَيْهِ: الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.
أَوْ بِمَا يُقِرُّهُ اللَّهُ مِنِ اجْتِهَادِهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أَمَّا الْأُمُورُ الْعَادِيَّةُ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ لِتَنْظِيمِ مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا: التَّوْجِيهُ إِلَى إِقَامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ، فَيَجُوزُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، لِتَحْقِيقِ الْعَدْلِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ:
6- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ لِخَبَرِ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَالْحِكْمَةُ فِي إِيجَابِ النِّيَّةِ فِيهَا: تَمَيُّزُ الْعِبَادَةِ عَنِ الْعَادَةِ، وَتَمْيِيزُ رُتَبِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: تَجِبُ النِّيَّةُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي تَلْتَبِسُ بِعَادَةٍ، فَالْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ يَتَرَدَّدَانِ بَيْنَ التَّنْظِيفِ وَالتَّبَرُّدِ وَالْعِبَادَةِ، وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ قَدْ يَكُونُ لِلَّحْمِيَّةِ وَالتَّدَاوِي، وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ يَكُونُ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَيَكُونُ لِلِاعْتِكَافِ، وَدَفْعُ الْمَالِ لِلْغَيْرِ قَدْ يَكُونُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ الزَّكَاةِ، فَشُرِعَتِ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَةِ عَنْ غَيْرِهَا، وَالصَّلَاةُ قَدْ تَكُونُ فَرْضًا، أَوْ نَفْلًا، فَشُرِعَتِ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْفَرْضِ عَنِ النَّفْلِ.
أَمَّا الَّتِي لَا تَلْتَبِسُ بِعَادَةٍ، كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ فَلَا تَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ لِأَنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ بِصُورَتِهَا.
النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
7- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعِبَادَةَ فِي هَذَا الصَّدَدِ إِلَى أَقْسَامِ ثَلَاثَةٍ:
1- عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ.
2- عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ.
3- عِبَادَةٌ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَهُمَا.
فَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ: كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ..فَالْأَصْلُ فِيهَا امْتِنَاعُ النِّيَابَةِ، إِلاَّ مَا أُخْرِجَ بِدَلِيلٍ، كَالصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكَالِيفِ الْبَدَنِيَّةِ الِابْتِلَاءُ، وَالْمَشَقَّةُ، وَهِيَ تَحْصُلُ بِإِتْعَابِ النَّفْسِ وَالْجَوَارِحِ بِالْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ نَائِبِهِ، فَلَمْ تُجْزِئِ النِّيَابَةُ، إِلاَّ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ تَبَعًا لِلنُّسُكِ، وَلَوِ اسْتَنَابَ فِيهِمَا وَحْدَهُمَا لَمْ يَصِحَّ.
أَمَّا الصَّوْمُ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَدْ أُخْرِجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لِدَلِيلٍ وَرَدَ فِيهِ: فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدَّى عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ»: (ر: صَوْم).
الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ: أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّدَقَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنَّذْرِ، وَالْأُضْحِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ، لِأَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ إِمَّا وَاجِبٌ، أَوْ مَنْدُوبٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ النِّيَابَةِ.
وَأَمَّا الْعِبَادَةُ الْمُتَرَدِّدَةُ بَيْنَ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ عِنْدَ الْعَجْزِ الدَّائِمِ إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ كَالْحَجِّ.
وَصْفُ الْعِبَادَةِ بِالْأَدَاءِ، أَوِ الْقَضَاءِ، أَوِ الْإِعَادَةِ:
8- الْعِبَادَةُ: إِنْ كَانَ لَهَا وَقْتٌ مَحْدُودُ الطَّرَفَيْنِ، وَوَقَعَتْ فِي الْوَقْتِ، وَلَمْ يَسْبِقْ فِعْلُهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي الْوَقْتِ فَأَدَاءٌ، وَإِنْ سَبَقَ فِعْلُهَا فِيهِ فَإِعَادَةٌ، وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ الْوَقْتِ فَقَضَاءٌ، أَوْ قَبْلَهُ فَتَعْجِيلٌ، فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَالْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ، وَالنَّوَافِلُ الْمُؤَقَّتَةُ كُلُّهَا تُوصَفُ بِالْأَدَاءِ، وَبِالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتٌ مَحْدُودُ الطَّرَفَيْنِ، كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّوْبَةِ عَنِ الذُّنُوبِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، فَلَا تُوصَفُ بِأَدَاءٍ، وَلَا قَضَاءٍ وَكَذَا الْوُضُوءُ، وَالْغُسْلُ لَا يُوصَفَانِ بِأَدَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ، وَالزَّكَاةُ إِنْ أَخْرَجَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ يُسَمَّى تَعْجِيلًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
جَعْلُ ثَوَابِ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ لِغَيْرِهِ:
9- ذَهَبَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إِلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ مَا فَعَلَهُ مِنْ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ فِي الْعِبَادَاتِ غَيْرِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالصَّدَقَةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْوَقْفِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَنْهُ، وَالْحَجِّ عَنْهُ، إِذَا فَعَلَهَا وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ لقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وَقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَدُعَاءُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: لِكُلِّ مَيِّتٍ صَلَّى عَلَيْهِ، «وَسَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ».
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عِبَادَتِهِ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ صَحَّتْ فِيهَا النِّيَابَةُ، أَمْ لَمْ تَصِحَّ فِيهَا، كَالصَّلَاةِ، وَالتِّلَاوَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ، وَقَالُوا: وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، فِي الصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ وَهِيَ: عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ أَوْصَلَ اللَّهُ نَفْعَهَا إِلَى الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ مَا سِوَاهَا، مَعَ مَا رُوِيَ فِي التِّلَاوَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: مَا عَدَا الصَّدَقَةَ، وَنَحْوَهَا مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ كَالدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، لَا يُفْعَلُ عَنِ الْمَيِّتِ كَالصَّلَاةِ عَنْهُ قَضَاءً، أَوْ غَيْرِهَا، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْإِمَامِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.
وَلَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالْأَذْكَارِ وَجْهًا أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ.
وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَصَاحِبُ الذَّخَائِرِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ وَ «مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ».
هَلْ يَكُونُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِإِتْيَانِ الْعِبَادَةِ؟:
10- قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الْأَصْلُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَتَى بِعِبَادَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ؛ لَا يَكُونُ بِهَا مُسْلِمًا كَالصَّلَاةِ، مُنْفَرِدًا، وَالصَّدَقَةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ الَّذِي لَيْسَ بِكَامِلٍ، وَإِنْ أَتَى مَا يَخْتَصُّ بِشَرْعِنَا، وَلَوْ مِنَ الْوَسَائِلِ كَالتَّيَمُّمِ، أَوْ مِنَ الْمَقَاصِدِ، أَوْ مِنَ الشَّعَائِرِ كَالصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ، وَالْحَجِّ الْكَامِلِ، وَالْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ السَّجْدَةِ، يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْلَام).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
11-موسوعة الفقه الكويتية (قراءة 2)
قِرَاءَةٌ -2قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَإِهْدَاءُ ثَوَابِهَا لَهُ:
18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَإِهْدَاءِ ثَوَابِهَا لَهُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْبَدَائِعِ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْعُولُ لَهُ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ عِنْدَ الْفِعْلِ لِلْغَيْرِ أَوْ يَفْعَلَهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْعَلُ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الْمَيِّتُ يَصِلُ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ، لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ مِصْرٍ وَيَقْرَءُونَ يُهْدُونَ لِمَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا، قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَعَدَمِ وُصُولِ ثَوَابِهَا إِلَيْهِ، لَكِنِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَجَعْلِ الثَّوَابِ لِلْمَيِّتِ وَيَحْصُلُ لَهُ الْأَجْرُ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فِي آخِرِ نَوَازِلِ ابْنِ رُشْدٍ فِي السُّؤَالِ عَنْ قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} قَالَ: وَإِنْ قَرَأَ الرَّجُلُ وَأَهْدَى ثَوَابَ قِرَاءَتِهِ لِلْمَيِّتِ جَازَ ذَلِكَ وَحَصَلَ لِلْمَيِّتِ أَجْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ هِلَالٍ: الَّذِي أَفْتَى بِهِ ابْنُ رُشْدٍ وَذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْأَنْدَلُسِيِّينَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَيَصِلُ إِلَيْهِ نَفْعُهُ وَيَحْصُلُ لَهُ أَجْرُهُ إِذَا وَهَبَ الْقَارِئُ ثَوَابَهُ لَهُ، وَبِهِ جَرَى عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَوَقَّفُوا عَلَى ذَلِكَ أَوْقَافًا، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ سَالِفَةٍ.
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِلُ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ إِلَى الْمَيِّتِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ.
قَالَ سُلَيْمَانُ الْجَمَلُ: ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ- لِلْقَارِئِ، وَيَحْصُلُ مِثْلُهُ أَيْضًا لِلْمَيِّتِ لَكِنْ إِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ، أَوْ بِنِيَّتِهِ، أَوْ يَجْعَلُ ثَوَابَهَا لَهُ بَعْدَ فَرَاغِهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي ذَلِكَ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ ثَوَابُ الْقَارِئِ لِمُسْقِطٍ كَأَنْ غَلَبَ الْبَاعِثُ الدُّنْيَوِيُّ كَقِرَاءَتِهِ بِأُجْرَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ مِثْلُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتُؤْجِرَ لِلْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ وَلَمْ يَنْوِهِ وَلَا دَعَا لَهُ بَعْدَهَا وَلَا قَرَأَ لَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ وَاجِبِ الْإِجَارَةِ.
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلِاسْتِشْفَاءِ:
19- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِجَوَازِ الِاسْتِشْفَاءِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَرِيضِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَعَلَى الْجَوَازِ عَمَلُ النَّاسِ الْيَوْمَ وَبِهِ وَرَدَتِ الْآثَارُ، فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي».
قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ الْمَرِيضِ بِالْفَاتِحَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ».
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} مَعَ النَّفْثِ فِي الْيَدَيْنِ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
الِاجْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
20- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبٌّ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».
وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنه- كَانَ يَدْرُسُ الْقُرْآنَ مَعَ نَفَرٍ يَقْرَءُونَ جَمِيعًا.
قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَكَرِهَ أَصْحَابُنَا قِرَاءَةَ الْإِدَارَةِ، وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَ قَارِئٌ ثُمَّ يَقْطَعَ، ثُمَّ يَقْرَأَ غَيْرُهُ بِمَا بَعْدَ قِرَاءَتِهِ، وَأَمَّا لَوْ أَعَادَ مَا قَرَأَهُ الْأَوَّلُ وَهَكَذَا فَلَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُدَارِسُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- الْقُرْآنَ بِرَمَضَانَ.
حَكَى ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِدَارَةِ حَسَنَةٌ كَالْقِرَاءَةِ مُجْتَمِعِينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ قِرَاءَةِ الْإِدَارَةِ: هَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ، قَدْ سُئِلَ مَالِكٌ- رحمه الله- (عَنْهُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَصَوَّبَهُ الْبُنَانِيُّ وَالدُّسُوقِيُّ.
لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ مَعًا بِصَوْتٍ وَاحِدٍ لِتَضَمُّنِهَا تَرْكَ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَلِلُزُومِ تَخْلِيطِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
قَالَ صَاحِبُ غُنْيَةِ الْمُتَمَلِّي: يُكْرَهُ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقْرَءُوا الْقُرْآنَ جُمْلَةً لِتَضَمُّنِهَا تَرْكَ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ، وَقِيلَ: لَا بَأْسَ بِهِ.
الْأَمَاكِنُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ:
21- يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي مَكَانٍ نَظِيفٍ مُخْتَارٍ، وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِكَوْنِهِ جَامِعًا لِلنَّظَافَةِ وَشَرَفِ الْبُقْعَةِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ.
وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الْآيَاتِ الْيَسِيرَةَ لِلتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْلَخِ وَالْمُغْتَسَلِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَتِهَا إِلاَّ الْآيَاتِ الْيَسِيرَةَ لِلتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْقِرَاءَةُ فِي الْحَمَّامِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَكَانَ الْحَمَّامُ طَاهِرًا تَجُوزُ جَهْرًا وَخُفْيَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنْ قَرَأَ فِي نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَيُكْرَهُ الْجَهْرُ.
وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقُبُورِ، وَأَجَازَهَا مُحَمَّدٌ وَبِقَوْلِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ لِوُرُودِ الْآثَارِ بِهِ، مِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- اسْتَحَبَّ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّلُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتُهَا.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ بِأَسْوَاقٍ يُنَادَى فِيهَا بِبَيْعٍ، وَيَحْرُمُ رَفْعُ صَوْتِ الْقَارِئِ بِهَا، لِمَا فِيهِ مِنَ الِامْتِهَانِ لِلْقُرْآنِ.
الْأَحْوَالُ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالَّتِي تُكْرَهُ:
22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الطَّرِيقِ إِذَا لَمْ يَلْتَهِ عَنْهَا صَاحِبُهَا، فَإِنِ الْتَهَى صَاحِبُهَا عَنْهَا كُرِهَتْ.
قَالَ فِي غُنْيَةِ الْمُتَمَلِّي: الْقِرَاءَةُ مَاشِيًا أَوْ وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلًا إِنْ كَانَ مُنْتَبِهًا لَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ الْمَشْيُ وَالْعَمَلُ جَائِزَةٌ وَإِلاَّ تُكْرَهْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمَاشِي فِي الطَّرِيقِ وَالرَّاكِبِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ لِلْمَاشِي مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ أَوْ إِلَى حَائِطِهِ، وَكَرِهُوا الْقِرَاءَةَ لِلْمَاشِي إِلَى السُّوقِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَاشِيَ لِلسُّوقِ فِي قِرَاءَتِهِ ضَرْبٌ مِنَ الْإِهَانَةِ لِلْقُرْآنِ بِقِرَاءَتِهِ فِي الطُّرُقَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِي مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ؛ لِأَنَّ قِرَاءَتَهُ مُعِينَةٌ لَهُ عَلَى طَرِيقِهِ.
وَأَجَازَ الْفُقَهَاءُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لِلْمُضْطَجِعِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِي».
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَيَضُمُّ رِجْلَيْهِ لِمُرَاعَاةِ التَّعْظِيمِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْقَارِئِ احْتِرَامُ الْقُرْآنِ بِأَنْ لَا يَقْرَأَهُ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ الِاشْتِغَالِ، فَإِذَا قَرَأَهُ فِيهِمَا كَانَ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِحُرْمَتِهِ فَيَكُونُ الْإِثْمُ عَلَيْهِ دُونَ أَهْلِ الِاشْتِغَالِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فِي إِلْزَامِهِمْ تَرْكَ أَسْبَابِهِمُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، فَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَبِجَنْبِهِ رَجُلٌ يَكْتُبُ الْفِقْهَ وَلَا يُمْكِنُ الْكَاتِبَ الِاسْتِمَاعُ فَالْإِثْمُ عَلَى الْقَارِئِ لِقِرَاءَتِهِ جَهْرًا فِي مَوْضِعِ اشْتِغَالِ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَاتِبِ، وَلَوْ قَرَأَ عَلَى السَّطْحِ فِي اللَّيْلِ جَهْرًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ يَأْثَمُ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ مِنْ كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ بِأَسْوَاقٍ يُنَادَى فِيهَا بِبَيْعٍ، وَمُحَرَّمٌ عَلَى الْقَارِئِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا.
وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِكَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ لِلنَّاعِسِ، قَالَ: كَرِهَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْقِرَاءَةَ لِلنَّاعِسِ مَخَافَةً مِنَ الْغَلَطِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ حَالَ خُرُوجِ الرِّيحِ، فَإِذَا غَلَبَهُ الرِّيحُ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يُخْرِجَهُ ثُمَّ يَشْرَعَ بِهَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَتَكَامَلَ خُرُوجُهُ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ أَدَبٌ حَسَنٌ، وَإِذَا تَثَاءَبَ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَنْقَضِيَ التَّثَاؤُبُ ثُمَّ يَقْرَأَ.
آدَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
23- يُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ مِنْ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ، وَيَجْلِسَ مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تِلَاوَة ف 6).
الِاسْتِئْجَارُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَإِذَا قَرَأَ جُنُبًا وَلَوْ نَاسِيًا لَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقِرَاءَةِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى التِّلَاوَةِ وَإِنْ صَارَ مُتَعَارَفًا، فَالْعُرْفُ لَا يُجِيزُهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، وَهُوَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَئِمَّتُنَا مِنْ قَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَلَا تَسْتَكْبِرُوا بِهِ»، وَالْعُرْفُ إِذَا خَالَفَ النَّصَّ يُرَدُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَالَّذِي أَفْتَى بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لَا عَلَى تِلَاوَتِهِ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ.
لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْجَعَالَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ بِلَا شَرْطٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
ثَانِيًا: قِرَاءَةُ غَيْرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
قِرَاءَةُ كُتُبِ الْحَدِيثِ:
25- سُئِلَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ عَنِ الْجُلُوسِ لِسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَقِرَاءَتِهِ هَلْ فِيهِ ثَوَابٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: إِنْ قَصَدَ بِسَمَاعِهِ الْحِفْظَ وَتَعَلُّمَ الْأَحْكَامِ أَوِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوِ اتِّصَالِ السَّنَدِ فَفِيهِ ثَوَابٌ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ مُتُونِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: إِنَّ قِرَاءَةَ مُتُونِهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ثَوَابٌ خَاصٌّ لِجَوَازِ قِرَاءَتِهَا وَرِوَايَتِهَا بِالْمَعْنَى.قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ: وَهُوَ ظَاهِرٌ إِذْ لَوْ تَعَلَّقَ بِنَفْسِ أَلْفَاظِهَا ثَوَابٌ خَاصٌّ لَمَا جَازَ تَغْيِيرُهَا وَرِوَايَتُهَا بِالْمَعْنَى لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ مُعْجِزٌ، وَإِذَا كَانَتْ قِرَاءَتُهُ الْمُجَرَّدَةُ لَا ثَوَابَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِمَاعِهِ الْمُجَرَّدِ عَمَّا مَرَّ ثَوَابٌ بِالْأَوْلَى، وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِالثَّوَابِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ عِنْدِي؛ لِأَنَّ سَمَاعَهَا لَا يَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ عَوْدُ بَرَكَتِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُمْ إِنَّ سَمَاعَ الْأَذْكَارِ مُبَاحٌ لَا سُنَّةٌ.
قِرَاءَةُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ:
26- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- غَضِبَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً مِنَ التَّوْرَاةِ.
وَمِثْلُ الْحَنَابِلَةِ الشَّافِعِيَّةُ حَيْثُ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَعَدُّوهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.
قِرَاءَةُ كُتُبِ السِّحْرِ بِقَصْدِ تَعَلُّمِهِ:
27- لِلْفُقَهَاءِ فِي قِرَاءَةِ كُتُبِ السِّحْرِ بِقَصْدِ التَّعَلُّمِ أَوِ الْعَمَلِ تَفْصِيلَاتٌ اتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سِحْر ف 13).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
12-موسوعة الفقه الكويتية (قربة 1)
قُرْبَة -1التَّعْرِيفُ:
1- الْقُرْبَةُ- بِسُكُونِ الرَّاءِ وَالضَّمِّ لِلْإِتْبَاعِ- فِي اللُّغَةِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجَمْعُ قُرَبٌ وَقُرُبَاتٌ.
وَالْقُرْبَانُ- بِالضَّمِّ- مَا قُرِّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، تَقُولُ مِنْهُ: قَرَّبْتُ لِلَّهِ قُرْبَانًا، وَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ، أَيْ طَلَبَ بِهِ الْقُرْبَةَ عِنْدَهُ تَعَالَى، قَالَ اللَّيْثُ: الْقُرْبَانُ: مَا قَرَّبْتَ إِلَى اللَّهِ تَبْتَغِي بِذَلِكَ قُرْبَةً وَوَسِيلَةً.
وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الْقُرْبَةَ بِتَعْرِيفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: الْقُرْبَةُ: فِعْلُ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: الْقُرْبَةُ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، أَوْ مَعَ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعِبَادَةُ:
2- الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فُلَانٌ عَابِدٌ، وَهُوَ الْخَاضِعُ لِرَبِّهِ الْمُسْتَسْلِمُ الْمُنْقَادُ لِأَمْرِهِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ.
أَوْ هِيَ: فِعْلٌ لَا يُرَادُ بِهِ إِلاَّ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ هِيَ أَنَّ الْقُرْبَةَ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَقَدْ تَكُونُ الْقُرْبَةُ عِبَادَةً وَقَدْ لَا تَكُونُ، كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ، وَالْقُرْبَةُ الَّتِي لَيْسَتْ عِبَادَةً لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ.
ب- الطَّاعَةُ:
3- الطَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ: الِانْقِيَادُ وَالْمُوَافَقَةُ، يُقَالُ: أَطَاعَهُ إِطَاعَةً، أَيِ انْقَادَ لَهُ، وَالِاسْمُ: طَاعَةٌ.
وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِعِدَّةِ تَعْرِيفَاتٍ، مِنْهَا مَا جَاءَ فِي الْكُلِّيَّاتِ: الطَّاعَةُ: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَلَوْ نَدْبًا وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ وَلَوْ كَرَاهَةً.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ هِيَ: أَنَّ الْقُرْبَةَ أَخَصُّ مِنَ الطَّاعَةِ، لِاعْتِبَارِ مَعْرِفَةِ الْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ فِي الْقُرْبَةِ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، أَنَّ الْقُرْبَةَ: فِعْلُ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ.
وَالْعِبَادَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ.
وَالطَّاعَةُ: فِعْلُ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ، تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّةٍ أَوْ لَا، عَرَفَ مَنْ يَفْعَلُهُ لِأَجْلِهِ أَوْ لَا، فَنَحْوُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ مِنْ كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْوَقْفُ وَالْعِتْقُ وَالصَّدَقَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ لَا عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَاعَةٌ لَا قُرْبَةٌ وَلَا عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ لَيْسَ قُرْبَةً، لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَحْصُلُ بَعْدَهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- مِنَ الْقُرَبِ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ كَالْفَرَائِضِ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ، فَهِيَ عِبَادَاتٌ مَقْصُودَةٌ شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا، وَعُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ الِاهْتِمَامُ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ إِيقَاعَهَا عِبَادَةً.
وَمِنَ الْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ الْقُرَبُ الَّتِي يُلْزِمُ الْإِنْسَانُ بِهَا نَفْسَهُ بِالنَّذْرِ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مَنْدُوبٌ، كَالنَّوَافِلِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مُبَاحٌ، إِذْ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ تَكُونُ قُرْبَةً بِنِيَّةِ إِرَادَةِ الثَّوَابِ بِهَا، كَالْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْقُرْبَةُ، كَالطَّعَامِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ.
وَمِنَ الْقُرُبَاتِ مَا هُوَ حَرَامٌ، وَذَلِكَ كَالْقُرُبَاتِ الْمَالِيَّةِ، كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ إِذَا فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِمَّا لَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَاجِبٌ فَلَا يَحِلُّ تَرْكُهُ لِسُنَّةٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قُرْبَةٌ، فَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ- رضي الله عنه- الْتِزَامَهُ قِيَامَ اللَّيْلِ وَصِيَامَ النَّهَارِ وَاجْتِنَابَ النِّسَاءِ، وَقَالَ لَهُ: {أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِي؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ.قَالَ: فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ»، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ سَرْدِ الصَّوْمِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالِاخْتِصَاءِ، وَكَانُوا قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْفِطْرَ وَالنَّوْمَ ظَنًّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّهِمْ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غُلُوٌّ فِي الدِّينِ وَاعْتِدَاءٌ عَلَى مَا شَرَعَ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
وَقَدْ تَكُونُ الْقُرْبَةُ مَكْرُوهَةً، وَذَلِكَ كَالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا، وَكَالْوَصِيَّةِ مِنَ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ وَرَثَةٌ
مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الْقُرْبَةُ:
5- الْقُرُبَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَادَةً كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، أَوْ غَيْرَ عِبَادَةٍ كَالتَّبَرُّعَاتِ مِنْ صَدَقَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَوَقْفٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْقُرُبَاتُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَلَا تَصِحُّ قُرُبَاتُ الْعِبَادَةِ مِنَ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: يُكْتَبُ لِلصَّبِيِّ ثَوَابُ مَا يَعْمَلُهُ مِنَ الطَّاعَاتِ: كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْقِرَاءَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ»، وَحَدِيثُ صَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَحَدِيثُ تَصْوِيمِ الصَّحَابَةِ الصِّبْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ.قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ».
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِهِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صِغَر ف 32) وَمُصْطَلَحِ (جُنُون ف 11).
وَإِنْ كَانَتِ الْقُرُبَاتُ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ، كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَا هُوَ مَالِيٌّ مِنْهَا أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ وَرُشْدٍ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ وَعِتْقَهُ وَوَصِيَّتَهُ وَصَدَقَتَهُ صَحِيحَةٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ عُقُودٌ مَالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ قُرُبَاتٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ.
نِيَّةُ الْقُرْبَةِ:
6- مِنَ الْقُرُبَاتِ مَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَمِنْهَا مَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ.
أَوَّلًا: الْقُرُبَاتُ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ هِيَ كَمَا يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا، كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْ نِقَمِهِ، وَالرَّجَاءِ لِنِعَمِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى كَرَمِهِ، وَالْحَيَاءِ مِنْ جَلَالِهِ، وَالْمَحَبَّةِ لِجَمَالِهِ، وَالْمَهَابَةِ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، فَإِنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ لِجَنَابِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثَانِيًا: الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، وَهِيَ: الْعِبَادَاتُ، مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ مَنْدُوبَةً، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ تَعْظِيمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِفِعْلِهَا، وَالْخُضُوعُ لَهُ فِي إِتْيَانِهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قُصِدَتْ مِنْ أَجْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّ التَّعْظِيمَ بِالْفِعْلِ بِدُونِ الْمُعَظَّمِ مُحَالٌ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ فِيهِ الشَّرْعُ بِالنِّيَّاتِ وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ فِي الْعِبَادَاتِ هِيَ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.
وَنِيَّةُ الْقُرْبَةِ إِنَّمَا هِيَ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ، لِيَتَمَيَّزَ مَا لِلَّهِ عَنْ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ تَمْيِيزِ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، لِتَتَمَيَّزَ مُكَافَأَةُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ، وَيَظْهَرَ قَدْرُ تَعْظِيمِهِ لِرَبِّهِ.
فَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا تَكُونُ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ فِيهِ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَةِ عَنِ الْعَادَةِ: الْغُسْلُ، يَكُونُ تَبَرُّدًا وَعِبَادَةً، وَدَفْعُ الْأَمْوَالِ، يَكُونُ صَدَقَةً شَرْعِيَّةً وَمُوَاصَلَةً عُرْفِيَّةً، وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ، يَكُونُ عِبَادَةً وَحَاجَةً، وَحُضُورُ الْمَسَاجِدِ، يَكُونُ مَقْصُودًا لِلصَّلَاةِ وَتَفَرُّجًا يَجْرِي مَجْرَى اللَّذَّاتِ، وَالذَّبْحُ، قَدْ يَكُونُ بِقَصْدِ الْأَكْلِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، فَشُرِعَتِ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْقُرَبِ مِنْ غَيْرِهَا.
أَمَّا نِيَّةُ الْقُرْبَةِ فِي الْعِبَادَاتِ، فَهِيَ لِتَمْيِيزِ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ فِي نَفْسِهَا، لِتَتَمَيَّزَ مُكَافَأَةُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: الصَّلَاةُ، تَنْقَسِمُ إِلَى فَرْضٍ وَمَنْدُوبٍ، وَالْفَرْضُ يَنْقَسِمُ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَضَاءً وَأَدَاءً، وَالْمَنْدُوبُ يَنْقَسِمُ إِلَى رَاتِبٍ كَالْعِيدَيْنِ وَالْوِتْرِ، وَغَيْرِ رَاتِبٍ كَالنَّوَافِلِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قُرُبَاتِ الْمَالِ وَالصَّوْمِ وَالنُّسُكِ.
ثَالِثًا: الْأَعْمَالُ الْوَاجِبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لَا تُعْتَبَرُ قُرُبَاتٍ فِي ذَاتِهَا، لَكِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تُصْبِحَ قُرُبَاتٍ إِذَا نَوَى بِهَا الْقُرْبَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الَّتِي تَكُونُ صُوَرُ أَفْعَالِهَا كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهَا، كَدَفْعِ الدُّيُونِ، وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ، وَالْأَقَارِبِ، وَعَلَفِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ انْتِفَاعُ أَرْبَابِهَا، وَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الْفَاعِلِ لَهَا، فَيَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا، فَمَنْ دَفَعَ دَيْنَهُ غَافِلًا عَنْ قَصْدِ التَّقَرُّبِ أَجْزَأَ عَنْهُ، أَمَّا إِنْ قَصَدَ الْقُرْبَةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ، وَإِلاَّ فَلَا.
وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنْ عُهْدَتِهِ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ فَإِنْ نَوَى بِتَرْكِهَا وَجْهَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، فَإِنَّ التَّرْكَ يَصِيرُ قُرْبَةً وَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ الثَّوَابُ لِأَجْلِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ.
وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَإِنَّ صِفَتَهَا تَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ مَا قُصِدَتْ لِأَجْلِهِ، فَإِذَا قَصَدَ بِهَا التَّقَوِّيَ عَلَى الطَّاعَاتِ، أَوِ التَّوَصُّلَ إِلَيْهَا كَانَتْ عِبَادَةً وَقُرْبَةً يُثَابُ عَلَيْهَا.
وَفِي الْمَنْثُورِ: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ وَرَدُّ السَّلَامِ قُرْبَةٌ لَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَقَطْعُ السَّرِقَةِ وَاسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ مِنَ الْإِمَامِ قُرْبَةٌ، وَلَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يُثَبْ.
الثَّوَابُ عَلَى الْقُرُبَاتِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:
7- يُثَابُ الْإِنْسَانُ وَيُعَاقَبُ عَلَى كَسْبِهِ وَاكْتِسَابِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ بِتَسَبُّبٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} أَيْ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ جَزَاءُ سَعْيِهِ، وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَالْغَرَضُ بِالتَّكَالِيفِ تَعْظِيمُ الْإِلَهِ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابُ مَعْصِيَتِهِ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِفَاعِلِيهِ.
وَالثَّوَابُ عَلَى الْعَمَلِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ، وَلَا اسْتِحْقَاقَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى عَمَلٍ لِأَجْلِهِ بِجَعْلِ الثَّوَابِ لَهُ، كَمَا لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِإِعْطَاءِ الثَّوَابِ عَلَى غَيْرِ عَمَلٍ رَأْسًا.
أَثَرُ الْقَصْدِ فِي الثَّوَابِ عَلَى الْقُرْبَةِ:
8- قَسَّمَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا تَمَيَّزَ لِلَّهِ بِصُورَتِهِ، فَهَذَا يُثَابُ عَلَيْهِ مَهْمَا قَصَدَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْقُرْبَةَ كَالْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْأَذَانِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ مِنَ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ بِصُورَتِهِ، فَهَذَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِنِيَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: نِيَّةُ إِيجَادِ الْفِعْلِ، وَالثَّانِيَةُ: نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ جَلَّ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ أُثِيبَ عَلَى أَجْزَائِهِ الَّتِي لَا تَقِفُ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ كَالتَّسْبِيحَاتِ وَالتَّكْبِيرَاتِ وَالتَّهْلِيلَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْفَاسِدَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا شُرِعَ لِلْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الْأُخْرَوِيَّةُ إِلاَّ تَبَعًا، كَإِقْبَاضِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، وَفُرُوضِ الْكِفَايَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَالصَّنَائِعِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا بَقَاءُ الْعَالَمِ، فَهَذَا لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ جَلَّ.
وَقَدْ يَقُومُ الْإِنْسَانُ بِعَمَلٍ وَيَسْتَوْفِي شُرُوطَهُ وَأَرْكَانَهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ثَوَابًا لِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنَّوَايَا، وَلِذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
كَمَا قَدْ يُتْبِعُ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ الصَّحِيحَ بِمَا يُضَيِّعُ ثَوَابَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَنُّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ ثَوَابَ الصَّدَقَةِ لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}.
وَقَدْ يَعْمَلُ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الصَّحِيحَ، فَقَدْ وَرَدَ حَدِيثَانِ يُؤَيِّدَانِ هَذَا الْمَعْنَى، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ الْمُتَصَدِّقِ الَّذِي وَقَعَتْ صَدَقَتُهُ فِي يَدِ سَارِقٍ وَزَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ وَفِي نِهَايَةِ الْحَدِيثِ «أَنَّ الرَّجُلَ أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ».
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ الَّذِي أَخَذَ صَدَقَةَ أَبِيهِ مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي وُضِعَتْ عِنْدَهُ، وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ.
نَقْلُ ثَوَابِ الْقُرْبَةِ لِلْغَيْرِ:
9- تَنْقَسِمُ الْقُرُبَاتُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ حَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي ثَوَابِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ نَقْلَهُ لِغَيْرِهِمْ، كَالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَهَبَ قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إِيمَانَهُ لِيَدْخُلَ الْجَنَّةَ دُونَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ هِبَةُ ثَوَابِ مَا سَبَقَ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ، لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ.
وَقِسْمٌ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي نَقْلِ ثَوَابِهِ، وَهُوَ الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ.
وَقِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ نَقْلِ ثَوَابِ مَا أَتَى بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: مَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ جَعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ جَازَ، وَيَصِلُ ثَوَابُهُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- {أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَيَذْبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ شَهِدَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ، وَذَبَحَ الْآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَآلِ مُحَمَّدٍ»
وَوَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، تَصَدَّقْ عَنْهَا».
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَعَلَى ذَلِكَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا، وَالتَّكْفِينِ وَالصَّدَقَاتِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَجَعْلِ ثَوَابِهَا لِلْأَمْوَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَيَّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: كَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَاجِبَاتِ الَّتِي تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَجُوزُ نَقْلُ ثَوَابِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَى الْغَيْرِ، وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ثَوَابِ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ، لقوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» وَيَجُوزُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَالصَّدَقَاتِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: تَنْفَعُ الْمَيِّتَ صَدَقَةٌ عَنْهُ، وَوَقْفٌ وَبِنَاءُ مَسْجِدٍ، وَحَفْرُ بِئْرٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَدُعَاءٌ لَهُ مِنْ وَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ غَيْرُ ذَلِكَ كَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَكِنْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالْأَذْكَارِ وَجْهًا، أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ.
الْأَجْرُ عَلَى الْقُرُبَاتِ:
10- الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَلَا يَتَعَدَّى نَفْعُهَا فَاعِلَهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضُ الِانْتِفَاعِ وَلَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ هَاهُنَا انْتِفَاعٌ؛ وَلِأَنَّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أُجْرَةً، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الصَّفَّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا لِلْغَيْرِ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ كَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْفِقْهِ وَالْفَرَائِضِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ كَوْنَهَا قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا.
لَكِنْ أَجَازَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ اسْتِحْسَانًا وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِمَامَةُ وَالْأَذَانُ لِلْحَاجَةِ.
أَمَّا مَا يَقَعُ تَارَةً قُرْبَةً وَتَارَةً غَيْرَ قُرْبَةٍ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، فَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ.
وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْقُرُبَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا كَالْقَضَاءِ، لَا يُعْتَبَرُ أَجْرًا، يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَيْسَ عِوَضًا وَأُجْرَةً، بَلْ رِزْقٌ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ لِلَّهِ أُثِيبَ، وَمَا يَأْخُذُهُ فَهُوَ رِزْقٌ لِلْمَعُونَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَالُ الْمَوْقُوفُ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَالْمُوصَى بِهِ كَذَلِكَ وَالْمَنْذُورُ كَذَلِكَ، لَيْسَ كَالْأُجْرَةِ.
وَذَهَبَ الْقَرَافِيُّ إِلَى أَنَّ بَابَ الْأَرْزَاقِ أَدْخَلُ فِي بَابِ الْإِحْسَانِ وَأَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ، وَبَابُ الْإِجَارَةِ أَبْعَدُ مِنْ بَابِ الْمُسَامَحَةِ وَأَدْخَلُ فِي بَابِ الْمُكَايَسَةِ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا: الْقُضَاةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَرْزَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْقَضَاءِ إِجْمَاعًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرُوا عَلَى الْقَضَاءِ بِسَبَبِ أَنَّ الْأَرْزَاقَ إِعَانَةٌ مِنَ الْإِمَامِ لَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ، لَا أَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَجِ وَنُهُوضِهَا، وَلَوِ اسْتُؤْجِرُوا عَلَى ذَلِكَ لَدَخَلَتِ التُّهْمَةُ فِي الْحُكْمِ بِمُعَاوَضَةِ صَاحِبِ الْعِوَضِ، وَيَجُوزُ فِي الْأَرْزَاقِ الَّتِي تُطْلَقُ لِلْقَاضِي الدَّفْعُ وَالْقَطْعُ وَالتَّقْلِيلُ وَالتَّكْثِيرُ وَالتَّغْيِيرُ، وَلَوْ كَانَ إِجَارَةً لَوَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ.
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: الْقَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ وَالْإِمَامَةُ يُؤْخَذُ عَلَيْهِ الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ نَفَقَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا.
النِّيَابَةُ فِي الْقُرْبَةِ:
11- مِنَ الْقُرُبَاتِ مَا لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ فِي الْحَيَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ ذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ، مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ عَنِ الْحَيِّ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعُهْدَةِ لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ.
وَمِنَ الْقُرُبَاتِ مَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِبْرَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِنْسَانُ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ بِنَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَالِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ.
أَمَّا الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ النَّاحِيَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ كَالْحَجِّ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لَكِنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِالْعُذْرِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَعْضُوبِ كَالزَّمِنِ وَالْهَرَمِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ أَجَّرَ صَحِيحٌ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لَزِمَهُ لِلْخِلَافِ.
أَمَّا بَعْدَ الْمَمَاتِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ، كَذَلِكَ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَنْهُ إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِالْحَجِّ عَنْهُ فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِإِحْجَاجِ رَجُلٍ عَنْهُ جَازَ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عَنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ، أَمَّا الصَّوْمُ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِمَنْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الْأَظْهَرُ، أَمَّا الْحَجُّ فَمَنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ وَلَمْ يُؤَدِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَالَ: «أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: حُجِّي عَنْهَا».
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ أَوِ الصِّيَامِ الْوَاجِبَيْنِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ- أَيِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ- لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ، أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ، سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْلُ النَّذْرِ عَنْهُ.
الْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ:
12- قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فِي حَاشِيَةِ الْأَشْبَاهِ لِلْحَمَوِيِّ عَنِ الْمُضْمِرَاتِ عَنِ النِّصَابِ: وَإِنْ سَبَقَ أَحَدٌ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَدَخَلَ رَجُلٌ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ أَهْلُ عِلْمٍ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَهُ تَعْظِيمًا لَهُ.ا هـ
فَهَذَا يُفِيدُ جَوَازَ الْإِيثَارِ بِالْقُرَبِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَنَقَلَ الْعَلاَّمَةُ الْبِيرِيُّ فُرُوعًا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وَمَا وَرَدَ مِنْ «أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا وَاللَّهِ، لَا أُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي يَدِهِ»، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُقْتَضَى طَلَبِ الْإِذْنِ مَشْرُوعِيَّةُ ذَلِكَ بِلَا كَرَاهَةٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ.أ هـ.
أَقُولُ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا إِذَا عَارَضَ تِلْكَ الْقُرْبَةَ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، كَاحْتِرَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَشْيَاخِ كَمَا أَفَادَهُ الْفَرْعُ السَّابِقُ وَالْحَدِيثُ..، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مَا فِي النَّهْرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ الْإِيثَارَ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَلَمَّا أُقِيمَتْ آثَرَ بِهِ، وَقَوَاعِدُنَا لَا تَأْبَاهُ.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: الْإِيثَارُ فِي الْقُرَبِ مَكْرُوهٌ، وَفِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا إِيثَارَ فِي الْقُرُبَاتِ، فَلَا إِيثَارَ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ، وَلَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلَا بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْعِبَادَاتِ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ، فَمَنْ آثَرَ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ إِجْلَالَ الْإِلَهِ وَتَعْظِيمَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ: لَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ- وَمَعَهُ مَاءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ- فَوَهَبَهُ لِغَيْرِهِ لِيَتَوَضَّأَ بِهِ لَمْ يَجُزْ، لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْإِيثَارَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ، لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ: لَا يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيُجْلَسَ فِي مَوْضِعِهِ.فَإِنْ قَامَ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يُكْرَهْ، فَإِنِ انْتَقَلَ إِلَى أَبْعَدَ مِنَ الْإِمَامِ كُرِهَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لِأَنَّهُ آثَرَ بِالْقُرْبَةِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَمَعَهُ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ، وَهُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُهُ لِلطَّهَارَةِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِيثَارُ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُضْطَرُّ إِيثَارَ غَيْرِهِ بِالطَّعَامِ لِاسْتِبْقَاءِ مُهْجَتِهِ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّهَارَةِ لِلَّهِ فَلَا يَسُوغُ فِيهِ الْإِيثَارُ، وَالْحَقُّ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُهْجَتَيْنِ عَلَى شَرَفِ التَّلَفِ إِلاَّ وَاحِدَةً تُسْتَدْرَكُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ، فَحَسُنَ إِيثَارُ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ: كَرِهَ قَوْمٌ إِيثَارَ الطَّالِبِ غَيْرَهُ بِنَوْبَتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْعِلْمِ وَالْمُسَارَعَةَ إِلَيْهِ قُرْبَةٌ وَالْإِيثَارَ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
13-موسوعة الفقه الكويتية (قربة 2)
قُرْبَة -2مَرَاتِبُ الْقُرُبَاتِ:
13- أ- أَفْضَلُ الْقُرُبَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ»، جَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْإِيمَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ، لِجَلْبِهِ لِأَحْسَنِ الْمَصَالِحِ وَدَرْئِهِ لِأَقْبَحِ الْمَفَاسِدِ مَعَ شَرَفِهِ فِي نَفْسِهِ وَشَرَفِ مُتَعَلَّقِهِ، وَثَوَابُهُ الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ، وَالْخُلُوصُ مِنَ النِّيرَانِ وَغَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ.
ب- ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ الْفَرَائِضُ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».
جَاءَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاحْتِرَامُ الْآمِرِ، وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَلِ.
ج- وَبَعْدَ مَنْزِلَةِ الْفَرَائِضِ فِي الْقُرْبَةِ تَكُونُ مَنْزِلَةُ النَّوَافِلِ، بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: إِذَا أَدَّى الْعَبْدُ الْفَرَائِضَ وَدَاوَمَ عَلَى إِتْيَانِ النَّوَافِلِ، نَالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ فَرِيضَةٍ تُقَدَّمُ عَلَى نَوْعِهَا مِنَ النَّوَافِلِ كَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا، وَفَرَائِضِ الصِّيَامِ عَلَى نَوَافِلِهِ وَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا، وَهَكَذَا.
د- وَإِذَا كَانَتْ قُرَبُ الْفَرَائِضِ تَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَفْضَلِ هَذِهِ الْفَرَائِضِ، فَقِيلَ: إِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ» وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: إِنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: إِنَّ الصِّيَامَ أَفْضَلُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ.
هـ- وَالْقُرَبُ فِي فَرْضِ الْعَيْنِ تُقَدَّمُ عَلَى الْقُرَبِ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ يَقْتَضِي أَرْجَحِيَّتَهُ عَلَى مَا طُلِبَ مِنَ الْبَعْضِ فَقَطْ؛ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَعْتَمِدُ عَدَمَ تَكْرَارِ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ، وَفَرْضُ الْأَعْيَانِ يَعْتَمِدُ تَكَرُّرَ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ الَّذِي تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ أَقْوَى فِي اسْتِلْزَامِ الْمَصْلَحَةِ مِنَ الَّذِي لَا تُوجَدُ الْمَصْلَحَةُ مَعَهُ إِلاَّ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ.
و- عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْقُرَبِ عَلَى بَعْضٍ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ حَالِ الْإِنْسَانِ، فَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، وَسُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَسُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ»، وَهَذَا جَوَابٌ لِسُؤَالِ السَّائِلِ، فَيَخْتَصُّ بِمَا يَلِيقُ بِالسَّائِلِ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهما- مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْأَفْضَلِ إِلاَّ لِيَتَقَرَّبُوا بِهِ إِلَى ذِي الْجَلَالِ، فَكَأَنَّ السَّائِلَ قَالَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ لِي فَقَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، لِمَنْ لَهُ وَالِدَانِ يَشْتَغِلُ بِبِرِّهِمَا، وَقَالَ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَقَالَ لِمَنْ يَعْجِزُ عَنِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ: «الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا».
ز- وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَرَاتِبِ النَّوَافِلِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ نَوَافِلَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرُبَاتِ، لِجَمْعِهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا تُجْمَعُ فِي غَيْرِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَفْضَلُ تَطَوُّعَاتِ الْبَدَنِ الْجِهَادُ لقوله تعالى {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} ثُمَّ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ.
ح- أَمَّا الْقُرَبُ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، فَمَرْتَبَتُهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ: مَرَاتِبُ الْقُرَبِ تَتَفَاوَتُ، فَالْقُرْبَةُ فِي الْهِبَةِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْقَرْضِ، وَفِي الْوَقْفِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ دَائِمٌ يَتَكَرَّرُ، وَالصَّدَقَةُ أَتَمُّ مِنَ الْكُلِّ، لِأَنَّ قَطْعَ حَظِّهِ مِنَ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ فِي الْحَالِ وَقِيلَ: إِنَّ الْقَرْضَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «رَأَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ: دِرْهَمُ الْقَرْضِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمٍ، وَدِرْهَمُ الصَّدَقَةِ بِعَشْرٍ، فَسَأَلَ جِبْرِيلَ: مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ أَيْ مَا يَكْفِيهِ وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ»
وَتَكَسُّبُ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ- لِمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ أَوْ مُجَازَاةِ الْقَرِيبِ- أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْلِ تَخُصُّهُ وَمَنْفَعَةَ الْكَسْبِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ».
وَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ: بِنَاءُ الرِّبَاطِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ.
وَاخْتَارَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ: أَنَّ فَضْلَ الطَّاعَاتِ عَلَى قَدْرِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا، فَتَصَدُّقُ الْبَخِيلِ بِدِرْهَمٍ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَصِيَامِ أَيَّامٍ.
نَذْرُ الْقُرْبَةِ:
14- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نَذْرِ مَا يُعْتَبَرُ قُرْبَةً مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ بِالشَّرْعِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ الِاهْتِمَامُ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ إِيقَاعَهَا عِبَادَةً، فَهَذَا النَّذْرُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقُرْبَةِ الْمَنْذُورَةِ أَنْ لَا تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الْإِنْسَانِ ابْتِدَاءً، كَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ، وَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ لَازِمٌ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ مُوَضِّحًا مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: نَذْرُ الْوَاجِبِ كَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ لَا يَنْعَقِدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْعَقِدَ نَذْرُهُ مُوجِبًا كَفَّارَةَ يَمِينٍ إِنْ تَرَكَهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ.
لَكِنْ جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي الْوَاجِبِ، كَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَنَحْوُهُ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدَ الْأَكْثَرِ لَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي وَاجِبٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَذْرِ الْقُرَبِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْفُرُوضِ كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي رَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ نَذْرِ هَذِهِ الْقُرَبِ وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَصِحُّ هَذَا النَّذْرُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْفُرُوضِ لَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ.
وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِ مِثْلِ هَذِهِ الْقُرَبِ.
الْوَصِيَّةُ بِالْقُرْبَةِ:
15- تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ بِالْقُرْبَةِ بِاتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ خَتْمُ عَمَلِهِ بِالْقُرْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرَبِ السَّابِقَةِ، فَتَزِيدُ بِهَا حَسَنَاتُهُ، وَقَدْ تَكُونُ تَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِيُدْرِكَ بِهَا مَا فَاتَ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ»، وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ كَوَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَنِيسَةِ.
وَقَدْ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إِذَا كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ قُرَبٌ وَاجِبَةٌ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ.
وَرَغْمَ أَنَّ التَّبَرُّعَاتِ لَا تَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَجَازُوا وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِالْقُرَبِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ تَمَحَّضَ نَفْعًا لِلصَّبِيِّ، فَصَحَّ مِنْهُ كَالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ صَدَقَةٌ يَحْصُلُ ثَوَابُهَا لَهُ بَعْدَ غِنَاهُ عَنْ مِلْكِهِ وَمَالِهِ، فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُ وَلَا أُخْرَاهُ.
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْقُرَبِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتِ الْفَرَائِضُ مِنْهَا، سَوَاءٌ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا مِثْلَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنَ النَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ، فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إِذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالزَّكَاةِ وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْحَجِّ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْحَجَّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ عَلَى الْكَفَّارَاتِ لِمَزِيَّتِهِمَا عَلَيْهَا فِي الْقُوَّةِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْقُرْآنِ دُونَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ حَيْثُ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ، وَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا.
فَمَا أَصَابَ الْقُرَبَ صُرِفَ إِلَيْهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذُكِرَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَمَّا أَوْصَى بِهِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ فَكُّ أَسِيرٍ، ثُمَّ مُدَبَّرٍ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، ثُمَّ صَدَاقُ مَرِيضٍ، ثُمَّ زَكَاةٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ مَالِهِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَاقِي ثُلُثِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِ مَا تَقَدَّمَ، إِلاَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِحُلُولِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ بِتَمَامِ الْحَوْلِ فَتَخْرُجَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ إِنْ مَاتَ الْمَالِكُ بَعْدَ إِفْرَاكِ الْحَبِّ وَطِيبِ الثَّمَرِ وَمَجِيءِ السَّاعِي، فَتَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ بَاقِي الثُّلُثِ زَكَاةَ الْفِطْرِ الَّتِي فَرَّطَ فِي إِخْرَاجِهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَقَتْلِ خَطَأٍ، ثُمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، ثُمَّ كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَصَّى بِشَيْءٍ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ صُرِفَ فِي الْقُرَبِ جَمِيعِهَا، لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَعَدَمِ الْمُخَصِّصِ، وَيَبْدَأُ مِنْهَا بِالْغَزْوِ نَصًّا، لِقَوْلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: إِنَّهُ أَفْضَلُ الْقُرَبِ، وَلَوْ قَالَ الْمُوصِي لِوَصِيِّهِ: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَيْثُ يُرِيكَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَهُ صَرْفُهُ فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرَبِ رَأَى وَضْعَهُ فِيهَا عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ، وَالْأَفْضَلُ صَرْفُهُ إِلَى فُقَرَاءِ أَقَارِبِ الْمُوصِي غَيْرِ الْوَارِثِينَ؛ لِأَنَّهُ فِيهِمْ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ.
الْقُرْبَةُ فِي الْوَقْفِ:
16- الْأَصْلُ فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، إِذْ هُوَ حَبْسُ الْأَصْلِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، قَالَ «أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوَّلٍ فِيهِ».
وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ لَيْسَتْ جَارِيَةً.
وَالْوَقْفُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ هُوَ مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْقُرْبَةُ، وَالْقُرْبَةُ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَ بِوَقْفِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: الْوَقْفُ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلتَّعَبُّدِ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ أَصْلًا، بَلِ التَّقَرُّبُ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، فَهُوَ بِدُونِهَا مُبَاحٌ.
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: الْوَقْفُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ فِي وَقْفٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقِفُ عَلَى غَيْرِهِ تَوَدُّدًا، أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِ خَشْيَةَ بَيْعِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِتْلَافِ ثَمَنِهِ، أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فَيُبَاعَ فِي دَيْنِهِ، أَوْ رِيَاءً وَنَحْوَهُ، فَهَذَا وَقْفٌ لَازِمٌ لَا ثَوَابَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَغِ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ وَمَعْرُوفٍ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِيهِ، جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: إِنْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالْأَغْنِيَاءِ صَحَّ فِي الْأَصَحِّ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ.وَالثَّانِي: لَا، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْفُسَّاقِ.
وَيَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: يُشْتَرَطُ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَى ذَاتِهِ وَصُورَتِهِ قُرْبَةً، وَالْمُرَادُ أَنْ يَحْكُمَ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ لَوْ صَدَرَ مِنْ مُسْلِمٍ يَكُونُ قُرْبَةً حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي وَقْفِ الْمُسْلِمِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
14-موسوعة الفقه الكويتية (منيحة)
مَنِيحَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمَنِيحَةُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: مَنَحْتُهُ مَنْحًا مِنْ بَابِ نَفَعَ وَضَرَبَ: أَعْطَيْتُهُ وَالِاسْمُ الْمَنِيحَةُ وَالْمَنِيحَةُ كَالْمِنْحَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ: هِيَ الشَّاةُ أَوِ النَّاقَةُ يُعْطِيهَا صَاحِبُهَا رَجُلًا يَشْرَبُ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا إِذَا انْقَطَعَ اللَّبَنُ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ عَطَاءٍ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ مَا يُعْطَى مِنَ النَّخْلِ وَالنَّاقَةِ وَالشَّاةِ وَغَيْرِهَا لِيَتَنَاوَلَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ كَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَهِيَ عَارِيَةٌ وَقَدْ تَكُونُ تَمْلِيكًا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعَارِيَةُ:
2- الْعَارِيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَارَ: ذَهَبَ وَجَاءَ بِسُرْعَةٍ أَوْ مِنَ التَّعَاوُرِ: أَيِ التَّنَاوُبِ.
وَالْعَارِيَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: هِيَ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ لِيَرُدَّهُ.
وَالثَّانِي: هِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَنِيحَةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَارِيَةِ.
ب- الْعُمْرَى:
3- الْعُمْرَى هِيَ: تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ شَيْءٍ مَمْلُوكٍ- عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ- إِنْسَانًا أَوْ غَيْرَهُ فِي حَيَاةِ الْمُعْطَى- بِفَتْحِ الطَّاءِ- بِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمَنِيحَةَ خَاصَّةٌ بِلَبَنِ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ نَاقَةٍ وَتُرَدُّ لِصَاحِبِهَا أَمَّا الْعُمْرَى فَتَكُونُ مَنْفَعَتُهَا مُدَّةَ الْعُمُرِ.
ج- الْهِبَةُ:
4- الْهِبَةُ: تَمْلِيكُ عَيْنٍ بِلَا عِوَضٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ تَطَوُّعًا.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَنِيحَةِ: أَنَّ الْهِبَةَ أَعَمُّ مِنَ الْمَنِيحَةِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَنِيحَةِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمَنِيحَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ- التَّرْغِيبُ فِي الْمَنِيحَةِ:
5- إِعْطَاءُ الْمَنِيحَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ رَغَّبَ الشَّارِعُ إِلَيْهَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ إِعْطَاءِ الْمَنِيحَةِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «نِعْمَ الْمَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ».
ب- صِيغَةُ إِعْطَاءِ الْمَنِيحَةِ
6- قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: صِيغَةُ الْمَنِيحَةِ أَنْ يَقُولَ: مَنَحْتُكَ هَذِهِ الشَّاةَ أَوِ النَّاقَةَ لِأَنَّ الْمَنْحَ صَرِيحٌ فِي الْعَارِيَةِ فَتُنَفَّذُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى نِيَّةٍ وَمَجَازٍ فِي الْهِبَةِ إِذَا نَوَى انْعَقَدَتْ بِهِ.
وَفَضَّلَ أَبُو بَكْرٍ الْمَعْرُوفُ بِخَوَاهَرْ زَادَهْ وَقَالَ: إِذَا قَالَ: مَنَحْتُكَ أَرْضِي وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَى مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ يَكُونُ عَارِيَةً، وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالطَّعَامِ تَكُونُ هِبَةً لِأَنَّ الْمِنْحَةَ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْعَارِيَةُ وَفِي الْحَدِيثِ: «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ» وَأَرَادَ- عليه السلام-: الْعَارِيَةَ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَكُونُ مَرْدُودَةً وَإِنَّمَا الْمَرْدُودَةُ الْعَارِيَةُ.
وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْهِبَةُ يُقَالُ: فُلَانٌ مَنَحَ فُلَانًا أَيْ: وَهَبَ لَهُ وَإِذَا كَانَتِ اللَّفْظَةُ صَالِحَةً لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَالْعَمَلُ بِهِمَا مُتَعَذِّرٌ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ- لِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلَّيْنِ: هِبَةٍ وَعَارِيَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ- عَمِلْنَا بِهِمَا مُخْتَلِفَيْنِ فَقُلْنَا: إِذَا أُضِيفَتِ الْمِنْحَةُ إِلَى عَيْنٍ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ جُعِلَ عَارِيَةً، وَإِنْ أُضِيفَتْ إِلَى عَيْنٍ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا جُعِلَتْ هِبَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمَنْحَ مِنْ صَرَائِحِ صِيَغِ الْهِبَةِ وَعَلَيْهِ إِذَا قَالَ: مَنَحْتُكَ هَذِهِ النَّاقَةَ أَوِ الشَّاةَ تَكُونُ هِبَةً عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّهِ وَنَافِذٌ فِي مَوْضِعِهِ، فَلَا يَكُونُ صَرِيحًا فِي غَيْرِهِ وَلَا مَجَازًا.
وَطَرِيقَةُ إِعَارَةِ ذَوَاتِ الْأَلْبَانِ أَنْ يَقُولَ: أَعَرْتُكَ هَذِهِ الشَّاةَ أَوِ النَّاقَةَ- وَهِيَ الْمَنِيحَةَ- لِأَخْذِ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا كَإِبَاحَةِ مَا ذُكِرَ وَصَحَّتِ الْعَارِيَةُ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ: إِعَارَةَ أَصْلِهَا وَهُوَ الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ وَالْفَوَائِدُ إِنَّمَا جُعِلَتْ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّبَعِ وَلَيْسَتْ مُسْتَفَادَةً بِالْعَارِيَةِ بَلْ بِالْإِبَاحَةِ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ بِالْمَنَافِعِ لَا بِالْأَعْيَانِ وَاللَّبَنُ وَالنَّسْلُ أَعْيَانٌ وَالْمُعَارُ هُوَ الشَّاةُ أَوِ النَّاقَةُ.
جَاءَ فِي الْحَاوِي الْكَبِيرِ: وَمَا كَانَتْ مَنَافِعُهُ عَيْنًا كَذَوَاتِ اللَّبَنِ مِنَ الْمَوَاشِي كَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَارَ وَلَا أَنْ يُؤَجَّرَ لِاخْتِصَاصِ الْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ بِالْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُمْنَحَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمِنْحَةُ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ نَاقَتَهُ أَوْ شَاتَهُ لِرَجُلٍ لِيَحْلُبَهَا ثُمَّ يَرُدَّهَا، فَيَكُونُ اللَّبَنُ مَمْنُوحًا وَلَا يَنْتَفِعُ بِغَيْرِ اللَّبَنِ.
وَإِنْ أَعَارَ شَاةً أَوْ دَفَعَهَا لَهُ وَمَلَّكَهُ دَرَّهَا وَنَسْلَهَا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِهِبَةٍ فَاسِدَةٍ لِأَنَّ اللَّبَنَ وَالنَّسْلَ مَجْهُولَانِ غَيْرُ مَقْدُورَيِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُمَا وَيَضْمَنُ الشَّاةَ بِحُكْمِ الْعَارِيَةِ الْفَاسِدَةِ وَلِلْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ حُكْمُ صَحِيحِهَا فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ.
ج- ضَمَانُ الْمَنِيحَةِ
7- الْمَنِيحَةُ عَارِيَةٌ يَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْعَارِيَةِ فَيَجِبُ رَدُّهَا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بِغَيْرِ خِلَافٍ.
وَيَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ إِنْ تَلِفَتْ بِتَعَدٍّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ تَلِفَتْ بِلَا تَعَدٍّ فَمَضْمُونَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا لَمْ تَتْلَفْ بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ، وَغَيْرُ مَضْمُونَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِعَارَةٌ ف 5).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
15-موسوعة الفقه الكويتية (نفل 1)
نَفْلٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي النَّفْلِ- بِسُكُونِ الْفَاءِ وَقَدْ تُحَرَّكُ- فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ، وَالنَّفْلُ وَالنَّافِلَةُ: مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَدْ عَرَّفَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ الْحَنَفِيُّ بِأَنَّهُ: الْعِبَادَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَلَا وَاجِبٍ، فَهِيَ الْعِبَادَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى مَا هُوَ لَازِمٌ، فَتَعُمُّ السُّنَنَ الْمُؤَكَّدَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ وَالتَّطَوُّعَاتِ غَيْرَ الْمُؤَقَّتَةِ.
وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: النَّفْلُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ، أَيْ يَتْرُكُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَيَفْعَلُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: النَّفْلُ هُوَ مَا عَدَا الْفَرَائِضَ- أَيْ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا كَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ- وَهُوَ: مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسُّنَّةِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْحَسَنِ وَالْمُرَغَّبِ فِيهِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَالتَّطَوُّعِ، فَهِيَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِتَرَادُفِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السُّنَّةُ:
2- السُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ وَالسِّيرَةُ، يُقَالُ: سُنَّةُ فُلَانٍ كَذَا؛ أَيْ طَرِيقَتُهُ وَسِيرَتُهُ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ سَيِّئَةً.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ عَرَّفَهَا إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ بِأَنَّهَا الطَّرِيقَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاظَبَةِ.
وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: السُّنَّةُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَظْهَرَهُ حَالَةَ كَوْنِهِ فِي جَمَاعَةٍ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ.
وَأَمَّا الصِّلَةُ بَيْنَ النَّفْلِ وَالسُّنَّةِ فَقَدْ قَالَ الشُّرُنْبُلَالِيُّ: النَّفْلُ أَعَمُّ، إِذْ كُلُّ سُنَّةٍ نَافِلَةٌ وَلَا عَكْسَ.
فَضْلُ النَّفْلِ:
3- تَدُلُّ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِدَامَةَ النَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ تُفْضِي إِلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ وَصَيْرُورَتِهِ مِنْ جُمْلَةِ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ».
فَقَدْ قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ تَقَرَّبِ إِلَيْهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ.
وَالثَّانِي: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ بِالنَّوَافِلِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّوَافِلِ: كَثْرَةُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَسَمَاعِهِ بِتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ، قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ- رضي الله عنه- لِرَجُلٍ: تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَسْتَ تَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ.وَمِنْ ذَلِكَ: كَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي يَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ فَقَدْ وَرَدَ «عَنْ مُعَاذٍ- رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ».وَتَدُلُّ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُكْمِلُ لِلْعَبْدِ مَا تَرَكَ مِنَ الْفَرَائِضِ بِفَضْلِ النَّوَافِلِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكْمِلُ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ».
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْتَقَصَهُ مِنَ السُّنَنِ وَالْهَيْئَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ ذَلِكَ فِي الْفَرِيضَةِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِيهَا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ فِي التَّطَوُّعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْتَقَصَ أَيْضًا مِنْ فُرُوضِهَا وَشُرُوطِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَا تَرَكَ مِنَ الْفَرَائِضِ رَأْسًا فَلَمْ يُصَلِّهِ فَيُعَوَّضُ عَنْهُ مِنَ التَّطَوُّعِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ الصَّحِيحَةِ عَنِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُكْمِلُ لَهُ مَا نَقَصَ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَأَعْدَادِهَا بِفَضْلِ التَّطَوُّعِ، وَيُحْتَمَلُ مَا نَقَصَهُ مِنَ الْخُشُوعِ، وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ- «ثُمَّ الزَّكَاةُ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ» وَلَيْسَ فِي الزَّكَاةِ إِلاَّ فَرْضٌ أَوْ فَضْلٌ فَكَمَا يَكْمُلُ فَرْضُ الزَّكَاةِ بِفَضْلِهَا كَذَلِكَ الصَّلَاةُ، وَفَضْلُ اللَّهِ أَوْسَعُ وَوَعْدُهُ أَنْفَذُ وَعَزْمُهُ أَعَمُّ.
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْفَرْضَ أَفْضَلُ مِنَ النَّفْلِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَحْكِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ».وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَالَ الْأَئِمَّةُ: خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بِإِيجَابِ أَشْيَاءَ لِتَعْظِيمِ ثَوَابِهِ، فَإِنَّ ثَوَابَ الْفَرَائِضِ يَزِيدُ عَلَى ثَوَابِ الْمَنْدُوبَاتِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةٍ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ، وَالْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ، وَصِدْقُ النِّيَّةِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خُطْبَتِهِ: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ.
5- وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْلِ أَفْضَلِيَّةِ الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ أُمُورًا، وَذَكَرُوا صُوَرًا لِلنَّوَافِلِ الَّتِي فَضَّلَهَا الشَّرْعُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ مِنْهَا:
أ- إِبْرَاءُ الْمُعْسِرِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ إِنْظَارِهِ، وَإِنْظَارُهُ وَاجِبٌ، وَإِبْرَاؤُهُ مُسْتَحَبٌّ.
هَذِهِ الصُّورَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيمٍ وَابْنُ السُّبْكِيِّ وَالْقَرَافِيُّ.
ب- ابْتِدَاءُ السَّلَامِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ، وَالرَّدُّ وَاجِبٌ وَالِابْتِدَاءُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ».
ج- الْوُضُوءُ قَبْلَ الْوَقْتِ مَنْدُوبٌ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْوُضُوءِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَهُوَ الْفَرْضُ.
وَذَكَرَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ، وَهُوَ عَلَى مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْإِمَامَةِ وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَوْ عَيْنٍ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ الصُّوَرَ الْآتِيَةَ:
أ- صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، أَيْ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَثُوبَةً مِثْلَ مَثُوبَةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، وَهَذِهِ السَّبْعُ وَالْعِشْرُونَ مَثُوبَةً هِيَ مُضَافَةٌ لِوَصْفِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ خَاصَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ حَصَلَتْ لَهُ، مَعَ أَنَّ الْإِعَادَةَ فِي جَمَاعَةٍ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَصَارَ وَصْفُ الْجَمَاعَةِ الْمَنْدُوبُ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنْ ثَوَابِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ فَضُلَ وَاجِبًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَصْلَحَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ.
ب- الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ بِأَلْفِ مَثُوبَةٍ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَقَدْ فَضُلَ الْمَنْدُوبُ الَّذِي هُوَ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ.
ج- الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَقَدْ فَضُلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ.
د- الصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَقَدْ فَضُلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ.
هـ- رُوِيَ أَنَّ صَلَاةً بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ، مَعَ أَنَّ وَصْفَ السِّوَاكِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَقَدْ فَضُلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ.
و- الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لَا يَأْثَمُ تَارِكُهُ.فَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ «عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ.قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا».
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّمَا أَمَرَ بِعَدَمِ الْإِفْرَاطِ فِي السَّعْيِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَدِمَ عَلَى الصَّلَاةِ عَقِيبَ شِدَّةِ السَّعْيِ يَكُونُ عِنْدَهُ انْبِهَارٌ وَقَلَقٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْخُشُوعِ اللاَّئِقِ بِالصَّلَاةِ، فَأَمَرَه- عليه الصلاة والسلام- بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَاجْتِنَابِ مَا يُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْخُشُوعِ وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَاتُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ وَصْفِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ مَعَ أَنَّ الْجُمُعَةَ وَاجِبَةٌ، فَقَدْ فَضُلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَهِيَ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهَا الَّتِي شَهِدَ لَهَا الْحَدِيثُ فِي قوله تعالى: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ».
لُزُومُ النَّفْلِ بِالشُّرُوعِ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى لُزُومِ إِتْمَامِ حَجِّ النَّفْلِ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ، وَشَرَعَ فِي الصَّدَقَةِ بِهِ، فَأَخْرَجَ بَعْضَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّدَقَةُ بِبَاقِيهِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ إِتْمَامِ النَّفْلِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ أَوْ فِي صَوْمِ النَّفْلِ يُؤَاخَذُ بِالْمُضِيِّ فِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَمْضِ يُؤَاخَذُ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ صَارَ مُسَلَّمًا بِالْأَدَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ كَانَ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْ إِبْطَالِهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَهَذَا التَّحَرُّزُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِالْإِتْمَامِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي عِبَادَةً، فَيَجِبُ الْإِتْمَامُ لِهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ نَفْلًا، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ إِذَا أَفْسَدَهُ لِوُجُودِ التَّعَدِّي فِيمَا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْذُورِ، فَالْمَنْذُورُ فِي الْأَصْلِ مَشْرُوعٌ نَفْلًا، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُسْتَدَامًا كَالنَّوَافِلِ، إِلاَّ أَنَّهُ لِمُرَاعَاةِ التَّسْمِيَةِ بِالنَّذْرِ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْمَشْرُوعِ نَفْلًا، فَإِذَا وَجَبَ الِابْتِدَاءُ لِمُرَاعَاةِ التَّسْمِيَةِ فَلأَنْ يَجِبَ الْإِتْمَامُ لِمُرَاعَاةِ مَا وُجِدَ مِنْهُ الِابْتِدَاءُ ابْتِدَاءً كَانَ أَوْلَى، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَجِّ فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ مِنْهُ نَفْلًا يَصِيرُ وَاجِبَ الْأَدَاءِ لِمُرَاعَاةِ التَّسْمِيَةِ حَقًّا لِلشَّرْعِ، فَكَذَلِكَ الْإِتْمَامُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَدَاءِ يَجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الصَّلَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، فَإِنَّ الْأَثْرَمَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يُصْبِحُ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ، وَالرَّجُلُ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَشَدُّ؛ أَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا يَقْطَعُهَا، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ قَطَعَهَا قَضَاهَا؟ قَالَ: فَإِنْ قَضَاهَا فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَمَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجَوْزَجَانِيُّ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ: الصَّلَاةُ ذَاتُ إِحْرَامٍ وَإِحْلَالٍ فَلَزِمَتْ بِالشُّرُوعِ فِيهَا.
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا افْتَتَحَ التَّنَفُّلَ بِالصَّلَاةِ حَالَةَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَالِانْتِصَافِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَلَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَالصَّلَاةُ إِنَّمَا هِيَ أَرْكَانٌ مِثْلُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَابْتِدَاءُ الِافْتِتَاحِ لَيْسَ بِصَلَاةٍ، فَلَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّوْمُ لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَابْتِدَاءُ الصَّوْمِ صَوْمٌ، لِأَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ الْإِمْسَاكَ، فَوُجِدَ الْفِعْلُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمُهُ وَلَا يُؤْمَرَ بِإِتْمَامِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَلَبَّسَ بِنَفْلٍ- غَيْرَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ- فَلَهُ قَطْعُهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي صَوْمِ النَّفْلِ: «الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِينُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» وَقَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَغَيْرِهِمْ..
وَقَاسُوا الصَّلَاةَ عَلَى الصَّوْمِ وَقَالُوا: يُقَاسُ بِذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّوَافِلِ غَيْرَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَاعْتِكَافٍ وَطَوَافٍ وَوُضُوءٍ وَقِرَاءَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا، وَالتَّسْبِيحَاتِ عَقِبَ الصَّلَاةِ، وَلِئَلاَّ يُغَيِّرَ الشُّرُوعُ حُكْمَ الْمَشْرُوعِ فِيهِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنَ النَّفْلِ غَيْرَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِلَا عُذْرٍ، لِظَاهِرِ قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ إِتْمَامَهُ.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: لَيْسَ لَنَا نَفْلٌ مُطْلَقٌ يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ إِلاَّ مَنْ شَرَعَ فِي نَفْلِ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ ثُمَّ أَفْسَدَهُ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ قَضَاؤُهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ شَرَعَ فِي النَّفْلِ إِتْمَامُهُ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ اسْتُحِبَّ قَضَاؤُهُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ وَعَمَلًا بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ الْمُخَالِفُونَ.
تَنَفُّلُ مَنْ عَلَيْهِ فَرْضٌ مَنْ جِنْسِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ:
7- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ بِالصَّلَاةِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْفَوَائِتُ، وَأَمَّا التَّنَفُّلُ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
وَقَالُوا: مَنْ نَوَى الْحَجَّ وَعَيَّنَهُ نَفْلًا فَيَقَعُ نَفْلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَّ لِلْفَرْضِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الْحَجَّ عَنِ الْغَيْرِ أَوِ النَّذْرِ كَانَ عَمَّا نَوَى وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ لِلْفَرْضِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ الْمَنْقُولُ الصَّرِيحُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَرُوِيَ عَنِ الثَّانِي وُقُوعُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ كَأَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الصِّيَامِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ التَّنَفُّلُ لِمَنْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِمَّا عَلَيْهِ، لِاسْتِدْعَائِهِ التَّأْخِيرِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْحُكْمِ السُّنَنَ كَوَتْرٍ وَعِيدٍ وَالشَّفْعِ الْمُتَّصِلِ بِالْوَتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.
وَقَالُوا: يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ لِمَنْ عَلَيْهِ صَوْمٌ وَاجِبٌ كَالْمَنْذُورِ وَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، وَذَلِكَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ وَعَدَمِ فَوْرِيَّتِهِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ نَوَى وَقْتَ إِحْرَامِهِ لِلْحَجِّ النَّفْلَ وَقَعَ نَفْلًا وَالْفَرْضُ بَاقٍ عَلَيْهِ.
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ نَقْلًا عَنِ الْجُرْجَانِيِّ: يُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَيْسَ لَهُ التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَدَاءِ الْفَرْضِ، فَلَوْ فَعَلَ انْصَرَفَ إِلَى الْفَرْضِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: لَا يَجُوزُ لِمَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَنْ يَصْرِفَ زَمَنًا لِغَيْرِ قَضَائِهَا كَالتَّطَوُّعِ، قَالَ الشَّرَوَانِيُّ: وَيَصِحُّ التَّطَوُّعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَعَ الْإِثْمِ خِلَافًا لِلزَّرْكَشِيِّ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ كَرَاهَةَ التَّنَفُّلِ قَبْلَ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الْفَائِتَةِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْحُكْمِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ حَيْثُ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ قَضَائِهِمَا قَبْلَ الْفَرِيضَةِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ مِمَّنْ عَلَيْهِ صَوْمُ فَرْضٍ، فَنَقَلَ عَنْهُ حَنْبَلٌ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ مِنَ الْفَرْضِ حَتَّى يَقْضِيَهُ، يَبْدَأُ بِالْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ صَامَهُ، يَعْنِي بَعْدَ الْفَرْضِ.
وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَيْءٌ لَمْ يَقْضِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ حَتَّى يَصُومَهُ».
ثُمَّ قَالَ: وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّطَوُّعُ بِهَا قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِهَا كَالْحَجِّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّطَوُّعُ، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِوَقْتٍ مُوَسَّعٍ فَجَازَ التَّطَوُّعُ فِي وَقْتِهَا قَبْلَ فِعْلِهَا، كَالصَّلَاةِ يُتَطَوَّعُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ أَوْ نَذْرٍ مَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ فَوَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ كَالْمُطْلَقِ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ وَعَلَيْهِ مَنْذُورَةٌ وَقَعَتْ عَنِ الْمَنْذُورَةِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَهِيَ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ.
وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ النُّسُكَيْنِ فَأَشْبَهَتِ الْآخَرَ، وَالنَّائِبُ كَالْمَنُوبِ عَنْهُ فِي هَذَا، فَمَتَى أَحْرَمَ النَّائِبُ بِتَطَوُّعٍ أَوْ نَذْرٍ عَمَّنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَقَعَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ النَّائِبَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنُوبِ عَنْهُ.
نَفْلُ الصَّلَاةِ:
8- الصَّلَاةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: فَرْضٌ وَنَفْلٌ.
فَالْفَرْضُ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَسَبَقَ تَفْصِيلُ أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (الصَّلَوَات الْخَمْس الْمَفْرُوضَة).
وَأَمَّا النَّوَافِلُ فَتَنْقَسِمُ إِلَى مُعَيَّنَةٍ وَمُطْلَقَةٍ:
أ- النَّوَافِلُ الْمُعَيَّنَةُ:
9- النَّوَافِلُ الْمُعَيَّنَةُ تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ أَوْ بِوَقْتٍ.
فَأَمَّا النَّوَافِلُ الْمُعَيَّنَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ، فَهِيَ: الْكُسُوفَانِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ، وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ، وَرَكْعَتَا الْإِحْرَامِ، وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْوُضُوءِ، وَصَلَاةُ الِاسْتِخَارَةِ، وَصَلَاةُ الْحَاجَةِ.
وَأَمَّا النَّوَافِلُ الْمُعَيَّنَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْوَقْتِ فَهِيَ: الْعِيدَانِ وَالتَّرَاوِيحُ، وَالْوَتْرُ، وَالضُّحَى، وَصَلَاةُ الْأَوَّابِينَ، وَصَلَاةُ التَّهَجُّدِ، وَالسُّنَنُ الرَّوَاتِبُ.
وَمِنْ هَذَا الصِّنْفِ: إِحْيَاءُ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِحْيَاءُ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، وَلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى إِحْيَاءِ لَيْلَةٍ مِنْ هَذِهِ اللَّيَالِي فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ: إِنَّ كُلًّا مِنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ لَيْلَةَ أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَصَلَاةِ الْبَرَاءَةِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَصَلَاةِ الْقَدْرِ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ بِالْجَمَاعَةِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ.
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذِهِ النَّوَافِلِ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا وَفِي (إِحْيَاء اللَّيْلِ ف 6).
وَأَمَّا حُكْمُ الْجَمَاعَةِ فِي النَّوَافِلِ فَيُنْظَرُ فِي (صَلَاة الْجَمَاعَةِ ف 8).
ب- النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ:
10- هِيَ النَّوَافِلُ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ وَلَا وَقْتٍ وَلَا حَصْرٍ لِأَعْدَادِهَا.
عَدَدُ رَكَعَاتِ النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ:
11- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْأَفْضَلَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْ يَكُونَ مَثْنَى.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا شَرَعَ فِي نَفْلٍ وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَةٍ وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَصَاعِدًا، وَلَوْ صَلَّى عَدَدًا لَا يَعْلَمُهُ ثُمَّ سَلَّمَ صَحَّ، وَلَوْ نَوَى رَكْعَةً أَوْ عَدَدًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا فَلَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا نَوَى عَدَدًا فَلَهُ أَنْ يَزِيدَ وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ، فَمَنْ أَحْرَمَ بِرَكْعَةٍ فَلَهُ جَعْلُهَا عَشْرًا، أَوْ بِعَشْرٍ فَلَهُ جَعْلُهَا وَاحِدَةً بِشَرْطِ تَغْيِيرِ النِّيَّةِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلَوْ زَادَ أَوْ نَقَصَ قَبْلَ تَغَيُّرِ النِّيَّةِ عَمْدًا بَطُلَتْ صَلَاتُهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ نَهَارًا فَلَا بَأْسَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ» وَكَوْنُ الْأَرْبَعِ بِتَشَهُّدَيْنِ أَوْلَى مِنْ سَرْدِهَا لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا، وَإِنْ زَادَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ نَهَارًا، أَوْ زَادَ عَلَى اثْنَتَيْنِ لَيْلًا، وَلَوْ جَاوَزَ ثَمَانِيًا نَهَارًا أَوْ لَيْلًا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ صَحَّ ذَلِكَ وَكُرِهَ.
وَقَالُوا: يَصِحُّ التَّنَفُّلُ بِرَكْعَةٍ وَنَحْوِهَا، كَثَلَاثٍ وَخَمْسٍ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ مَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ» وَعَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَحِقَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا رَكَعْتَ إِلاَّ رَكْعَةً وَاحِدَةً.قَالَ: هُوَ التَّطَوُّعُ فَمَنْ شَاءَ زَادَ وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ فِي النَّوَافِلِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْ تَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ نَقْلًا عَنِ التَّلْقِينِ وَالِاخْتِيَارِ فِي النَّفْلِ مَثْنَى مَثْنَى.
وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ فِي بَابِ النَّافِلَةِ مَا نَصُّهُ: وَصَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى قَالَ ابْنُ نَاجِي: هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ بِاتِّفَاقٍ، وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: السُّنَّةُ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَرَفَةَ التَّنَفُّلَ بِأَرْبَعٍ، وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأَفْضَلُ فِي نَوَافِلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ رِبَاعٌ لِمَا وَرَدَ «أَنَّ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- سُئِلَتْ: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا» «وَكَانَ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ»
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْأَفْضَلُ فِي النَّهَارِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَرْبَعٌ وَأَرْبَعٌ، وَفِي اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، قَالَ فِي الدِّرَايَةِ وَفِي الْعُيُونِ: وَبِقَوْلِهِمَا يُفْتَى اتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُه- عليه الصلاة والسلام-: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى».
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ: تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ بِتَسْلِيمَةٍ فِي نَفْلِ النَّهَارِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ثَمَانٍ لَيْلًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ.
قَالَ حَسَنٌ الشُّرُنْبُلَالِيُّ: هَذَا اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ، وَفِي الْمِعْرَاجِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ وَصْلِ الْعِبَادَةِ، وَكَذَا صَحَّحَ السَّرَخْسِيُّ عَدَمَ كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا.
وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الرُّبَاعِيَّاتِ الْمُؤَكَّدَةِ وَالرُّبَاعِيَّاتِ الْمَنْدُوبَةِ إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَامَ لِلشَّفْعِ الثَّانِي مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ لَا يَأْتِي فِي ابْتِدَاءِ الثَّالِثَةِ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ؛ لِأَنَّهَا لِتَأَكُّدِهَا أَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ، بِخِلَافِ الرُّبَاعِيَّاتِ الْمَنْدُوبَةِ فَيَسْتَفْتِحُ وَيَتَعَوَّذُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ شَفْعٍ مِنْهَا.
وَقَالُوا: إِذَا صَلَّى نَافِلَةً أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ كَأَرْبَعٍ فَأَتَمَّهَا وَلَمْ يَجْلِسْ إِلاَّ فِي آخِرِهَا فَالْقِيَاسُ فَسَادُهَا، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهَا صَارَتْ صَلَاةً وَاحِدَةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَفِيهَا الْفَرْضُ الْجُلُوسُ آخِرُهَا، وَيُجْبَرُ تَرْكُ الْقُعُودِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ سَاهِيًا بِالسُّجُودِ، وَيَجِبُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ بِتَذَكُّرِهِ بَعْدَ الْقِيَامِ مَا لَمْ يَسْجُدْ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ طُولِ الْقِيَامِ وَبَيْنَ كَثْرَةِ الرَّكَعَاتِ فِي النَّافِلَةِ:
12- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنَ الْقَلِيلِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الطُّولِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ طُولِ الْقِيَامِ وَبَيْنَ كَثْرَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ اسْتِوَاءِ الزَّمَانِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ- فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ تَطْوِيلَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» أَيِ الْقِيَامِ، وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَكْثُرُ بِطُولِ الْقِيَامِ، وَبِكَثْرَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَكْثُرُ التَّسْبِيحُ، وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ، فَكَانَ اجْتِمَاعُ أَجْزَائِهِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنِ اجْتِمَاعِ رُكْنٍ وَسُنَّةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ.وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، مَعَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ كَثْرَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ- أَيْ كَثْرَةَ الرَّكَعَاتِ- أَفْضَلُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ رَكَعَ رَكْعَةً أَوْ سَجَدَ سَجْدَةً رُفِعَ بِهَا دَرَجَةً وَحُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ».
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: أَمَّا فِي النَّهَارِ فَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ، وَأَمَّا بِاللَّيْلِ فَتَطْوِيلُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ جُزْءٌ بِاللَّيْلِ يَأْتِي عَلَيْهِ، فَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ يَقْرَأُ جُزْءَهُ وَيَرْبَحُ كَثْرَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا قَالَ إِسْحَاقُ هَذَا لِأَنَّهُمْ وَصَفُوا صَلَاةَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِاللَّيْلِ بِطُولِ الْقِيَامِ وَلَمْ يُوصَفْ مِنْ تَطْوِيلِهِ بِالنَّهَارِ مَا وُصِفَ بِاللَّيْلِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنَ اللَّيْلِ بِقِرَاءَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُكْثِرَ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ، وَإِلاَّ فَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِي الْأَوَّلِ لَا يَخْتَلِفُ وَيُضَمُّ إِلَيْهِ زِيَادَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
الْفَصْلُ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ:
13- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ «لِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ- رضي الله عنه-: إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَنَا أَنْ لَا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ».
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ- فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ النَّوَوِيُّ- أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاضْطِجَاعِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ- الْفَصْلُ بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ، فَيَحْصُلُ بِالِاضْطِجَاعِ وَالتَّحَدُّثِ أَوِ التَّحَوُّلِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الِاضْطِجَاعُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي وَالْمُنْفَرِدِ وَصْلُ السُّنَّةِ بِالْمَكْتُوبَةِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، إِلاَّ أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ أَشَدُّ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ تَأْخِيرُهُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلاَّ مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».
بِخِلَافِ الْمُقْتَدِي وَالْمُنْفَرِدِ.
وَقَالُوا: إِذَا تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ انْحَرَفَ عَنْ يَسَارِهِ وَإِنْ شَاءَ انْحَرَفَ عَنْ يَمِينِهِ، وَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ إِلَى حَوَائِجِهِ وَإِنْ شَاءَ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الَّتِي أَتَمَّهَا تَطَوُّعٌ كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَفِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَا تَطَوُّعَ بَعْدَهَا كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ يُكْرَهُ الْمُكْثُ قَاعِدًا فِي مَكَانِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ تَطَوُّعٌ يَقُومُ إِلَى التَّطَوُّعِ بِلَا فَصْلٍ إِلاَّ مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ السُّنَّةِ عَنْ حَالِ أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ الْقَدْرِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلاَّ مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».
وَقَالُوا: إِذَا قَامَ الْإِمَامُ إِلَى التَّطَوُّعِ لَا يَتَطَوَّعُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ، بَلْ يَتَقَدَّمُ أَوْ يَتَأَخَّرُ أَوْ يَنْحَرِفُ يَمِينًا أَوْ شَمَالًا، أَوْ يَذْهَبُ إِلَى بَيْتِهِ فَيَتَطَوَّعُ ثَمَّةَ.
وَأَضَافُوا: لَوْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْفَرْضِ لَا تَسْقُطُ السُّنَّةُ لَكِنَّ ثَوَابَهَا أَقَلُّ.
وَقِيلَ فِي الْكَلَامِ أَنَّهُ يُسْقِطُ السُّنَّةَ.
قَالَ الْحَلَبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ وَالْمُنْفَرِدَ إِنْ لَبِثَا فِي مَكَانِهِمَا الَّذِي صَلَّيَا فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ جَازَ، وَإِنْ قَامَا إِلَى التَّطَوُّعِ فِي مَكَانِهِمَا ذَلِكَ جَازَ أَيْضًا، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَتَطَوَّعَا فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرَ مَكَانِ الْمَكْتُوبَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّفْلِ بِالذِّكْرِ الْوَارِدِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
16-موسوعة الفقه الكويتية (نيابة 1)
نِيَابَة -1التَّعْرِيف:
1- النِّيَابَةُ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْأَمْرِ.
وَيُقَالُ: نَابَ عَنْهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ نِيَابَةً: إِذَا قَامَ مَقَامَهُ.
وَالنَّائِبُ: مَنْ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي أَمْرٍ أَوْ عَمَلٍ.
وَالنِّيَابَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: قِيَامُ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْلِ أَمْرٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْوِلَايَةُ:
2- الْوِلَايَةُ فِي اللُّغَةِ، بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ: الْقُدْرَةُ، وَالنُّصْرَةُ، وَالتَّدْبِيرُ، يُقَالُ: هُمْ عَلَى وِلَايَةٍ أَيْ مُجْتَمِعُونَ فِي النُّصْرَةِ.
وَالْوَلِيُّ هُوَ: الْمُحِبُّ، وَالصَّدِيقُ، وَالنَّصِيرُ أَوِ النَّاصِرُ.
وَقِيلَ: الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ الْعَالَمِ وَالْخَلَائِقِ الْقَائِمُ بِهَا.
وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ: الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِكِفَايَتِهِ.
وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ: الَّذِي يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، وَلَا يَدَعُهَا تَسْتَبِدُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ دُونَهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْوِلَايَةُ: تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَمْ لَا.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالْوِلَايَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ أُمُورِ الْغَيْرِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ.
ب- الْإِيصَاءُ:
3- الْإِيصَاءُ فِي اللُّغَةِ- مَصْدَرُ أَوْصَى- يُقَالُ: أَوْصَى فُلَانٌ بِكَذَا يُوصِي إِيصَاءً، وَالِاسْمُ الْوِصَايَةُ (بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا) وَهُوَ: أَنْ يَعْهَدَ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقِيَامُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ فِي حَالِ حَيَاةِ الطَّالِبِ أَمْ كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، فَالْإِيصَاءُ بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ إِقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، أَوْ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَرِعَايَتِهِمْ، وَذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُقَامُ يُسَمَّى الْوَصِيَّ.
أَمَّا إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرٍ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَلَا يُقَالُ لَهُ فِي الِاصْطِلَاحِ إِيصَاءٌ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ وِكَالَةٌ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالْإِيصَاءِ، أَنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ مِنَ الْإِيصَاءِ.
ج- الْقِوَامَةُ:
4- الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الْقِيَامُ عَلَى الْأَمْرِ أَوِ الْمَالِ أَوْ وِلَايَةُ الْأَمْرِ.وَالْقَيِّمُ: هُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى شُئُونِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَيَلِيهِ، وَيَرْعَاهُ، وَيُصْلِحُ مِنْ شَأْنِهِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالْقِوَامَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ أُمُورِ الْغَيْرِ.
د- الْوِكَالَةُ:
5- الْوَكَالَةُ بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ، فِي اللُّغَة أَنْ يَعْهَدَ إِلَى غَيْرِهِ لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا.
وَالتَّوْكِيلُ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إِلَى غَيْرِهِ، وَسُمِّيَ الْوَكِيلُ وَكِيلًا لِأَنَّ مُوكِلَهُ قَدْ وَكَلَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ، فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ الْأَمْرُ.
وَالْوَكَالَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: إِقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَ نَفْسِهِ تَرَفُّهًا أَوْ عَجْزًا فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالْوِكَالَةِ أَنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوِكَالَةِ.
أَنْوَاعُ النِّيَابَةِ:
تَتَنَوَّعُ النِّيَابَةُ إِلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ (اتِّفَاقِيَّةٌ)، وَنَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْعًا لَا بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ (شَرْعِيَّةٌ).
أَوَّلًا: النِّيَابَةُ الِاتِّفَاقِيَّةُ (وَهِيَ الْوَكَالَةُ):
6- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}.وَمِنْهَا: حَدِيثُ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ».
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ مُنْذُ عَصْرِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.وَانْظُرْ تَفْصِيلَ أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ فِي مُصْطَلَحِ (وَكَالَة).
ثَانِيًا: النِّيَابَةُ الشَّرْعِيَّةُ:
7- النِّيَابَةُ الشَّرْعِيَّةُ- وَهِيَ الْوِلَايَةُ- ثَابِتَةٌ شَرَعًا عَلَى الْعَاجِزِينَ عَنِ التَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ وَرَدَتْ مِنْهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْوِلَايَةِ، مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (5) {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ}.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْمَالِ وَالنَّفْسِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَرَدَتْ فِي شَرْعِيَّةِ الْوِلَايَةِ، مِنْهَا: قَوْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ».
وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ».
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَإِنَّ ثُبُوتَ وِلَايَةِ النَّظَرِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنِ النَّظَرِ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ، وَمِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ، وَمِنْ بَابِ إِعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ عَقْلًا وَشَرْعًا.
وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْقُدْرَةِ، إِذْ شُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ عَلَى حَسَبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ مَعُونَةُ الْعَاجِزِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا فَضْلًا عَنِ الْجَوَازِ.
أَنْوَاعُ النِّيَابَةِ الشَّرْعِيَّةِ:
8- النِّيَابَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الْوِلَايَةُ، وَالْوِلَايَةُ تَتَنَوَّعُ إِلَى نَوْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا: وِلَايَةٌ عَلَى الْمَالِ، وَوِلَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ.
فَالْوِلَايَةُ عَلَى الْمَالِ هِيَ سُلْطَةُ الْوَلِيِّ عَلَى أَنْ يَعْقِدَ الْعُقُودَ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَمْوَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَتَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ وَعُقُودُهُ نَافِذَةً دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ.
وَالْوِلَايَةُ عَلَى النَّفْسِ هِيَ السُّلْطَةُ عَلَى شُئُونِ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِشَخْصِهِ وَنَفْسِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا تَزْوِيجُهُ.
وَتُنْظَرُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ وَعَلَى النَّفْسِ فِي مُصْطَلَحِ (وِلَايَة).
النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
تَتَنَوَّعُ الْعِبَادَاتُ فِي الشَّرْعِ إِلَى أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ:
مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَمُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَالِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ
9- الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِبَادَاتِ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، أَوْ لَا.وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَالْمَعْقُولِ:
فَمِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَوَّزَ الْعَمَلَ عَلَى الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا.قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمُ الْجُبَاةُ، وَالسُّعَاةُ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا قِسْطًا عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنَ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ أَحَادِيثُ مِنْهَا:
مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقَلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ».
وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْخَازِنُ الْمُسْلِمُ الْأَمِينُ الَّذِي يُنْفِذُ- وَرُبَّمَا قَالَ: يُعْطِي- مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبًا بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «وَكَّلَنِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ» وَحَدِيثُ: «أَعْطَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ غَنَمًا يُقَسِّمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ- رضي الله عنه- حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ».
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ».
وَمِنَ الْمَعْقُولِ: أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ إِخْرَاجُ الْمَالِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ.
وَأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ فَجَازَ أَنْ يُوَكَّلَ فِي أَدَائِهِ كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.
النَّوْعُ الثَّانِي: الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ:
10- الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَالْمَعْقُولِ:
أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}.إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ».
أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ، فَإِنَّ مَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ وَجَعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَاتِ أَوِ الْأَحْيَاءِ جَازَ.وَيَصِلُ ثَوَابُهَا إِلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (ثَوَاب ف 10).
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهَا وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ وَإِتْعَابُ النَّفْسِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّوْكِيلِ.
وَأَمَّا النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاء ف 15).
النَّوْعُ الثَّالِثِ: الْعِبَادَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَالِ:
11- الْعِبَادَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَالِ هِيَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ، وَقَابِلِيَّتِهِ لِلنِّيَابَةِ لِلْعُذْرِ الْمَيْئُوسِ مِنْ زَوَالِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ، وَذَهَبَ مَالِكٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِ، إِلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ لَا عَنِ الْحَيِّ وَلَا عَنِ الْمَيِّتِ، مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 114 وَمَا بَعْدَهَا، وَأَدَاءٍ ف 16، وَعِبَادَةٍ ف 7).أَمَّا الْعُمْرَةُ فَتَقْبَلُ النِّيَابَةَ فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عُمْرَةٍ ف 38).
أَوَّلًا: النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ:
مَنْ يَقَعُ عَنْهُ حَجُّ النَّائِبِ:
12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ.لِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ حَيْثُ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «حُجِّي عَنْ أَبِيكِ» فَقَدْ أَمَرَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْحَجِّ عَنْ أَبِيهَا، وَلَوْلَا أَنَّ حَجَّهَا يَقَعُ عَنْ أَبِيهَا لَمَا أَمَرَهَا بِالْحَجِّ عَنْهُ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَاسَ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَيْنِ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ».وَذَلِكَ تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَابَةُ، وَيَقُومُ فِعْلُ النَّائِبِ مَقَامَ فِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ كَذَا هَذَا.لِأَنَّ الْحَاجَّ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَذَا الْإِحْرَامُ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ نَفْسُ الْحَجِّ عَنْهُ لَكَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّتِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنِ الْحَاجِّ، وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَالْبَدَنَ لِلْحَاجِّ، وَالْمَالَ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ، فَمَا كَانَ مِنَ الْبَدَنِ لِصَاحِبِ الْبَدَنِ، وَمَا كَانَ بِسَبَبِ الْمَالِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ.وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوِ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَكَفَّارَتُهُ فِي مَالِهِ لَا فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَكَذَا لَوْ أَفْسَدَ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ لَهُ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ ثَوَابَ نَفَقَةِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، مَقَامَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ نَظَرًا لَهُ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهِ.
شَرَائِطُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ:
13- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ عَاجِزًا عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ مَالٌ يَسْتَنِيبُ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، بِأَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ وَلَهُ مَالٌ.فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِبَدَنِهِ وَلَهُ مَالٌ يَحُجُّ بِهِ، فَالْفَرْضُ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ لَا بِمَالِهِ، بَلِ الْمَالُ يَكُونُ شَرْطًا، وَإِذَا تَعَلَّقَ الْفَرْضُ بِبَدَنِهِ لَا تُجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ كَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ فَقِيرًا صَحِيحَ الْبَدَنِ لَا يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ؛ لأَنَّ الْمَالَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَصْلًا، فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَلَا وَاجِبَ.
14- الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ مِنْ وَقْتِ الْإِحْجَاجِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، بِأَنْ يَمُوتَ عَلَى مَرَضِهِ فَإِذَا عُوفِيَ الْمَرِيضُ بَعْدَ أَنْ حُجَّ عَنْهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُوفِيَ بَعْدَ حَجِّ النَّائِبِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُوفِيَ قَبْلَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُوفِيَ قَبْلَ إِحْرَامِ النَّائِبِ.
15- الْحَالَةُ الْأُولَى: إِذَا عُوفِيَ الْمَرِيضُ بَعْدَ مَا حُجَّ عَنْهُ:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ.وَلِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِأَمْرِ الشَّارِعِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ حَجٌّ ثَانٍ كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ.وَالْمُعْتَبَرُ لِجَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ الْيَأْسُ ظَاهِرًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ حَجٌّ ثَانٍ وَلَمْ يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ لِأَنَّ هَذَا بَدَلُ إِيَاسٍ فَإِذَا بَرَأَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَيْئُوسًا مِنْهُ، فَلَزِمَهُ الْأَصْلُ، كَالْآيِسَةِ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثُمَّ حَاضَتْ لَا تُجْزِئُهَا تِلْكَ الْعِدَّةُ.
كَمَا أَنَّ جَوَازَ حَجِّ الْغَيْرِ عَنِ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ.
16- الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا عُوفِيَ قَبْلَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ:
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَالْمُتَمَتِّعِ إِذَا شَرَعَ فِي الصِّيَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ، وَالْمُكَفِّرِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَلِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَنْبَغِي أَلاَّ يُجْزِئَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْبَدَلِ فَلَزِمَهُ كَالصَّغِيرَةِ وَمَنِ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا إِذَا حَاضَتَا قَبْلَ إِتْمَامِ عَدَّتِهِمَا بِالشُّهُورِ، وَكَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ.
17- الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا عُوفِيَ قَبْلَ إِحْرَامِ النَّائِبِ:
لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ.لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْمُبْدَلِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَلِ.
النِّيَابَةُ عَنِ الْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ:
18- وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجَّ عَنْهُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ، وَالْمَحْبُوسَ وَنَحْوَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِئْهُ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ؛ لِأَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ وَلَا تُجْزِئُهُ إِنْ فَعَلَ كَالْفَقِيرِ.
كَمَا أَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَجِّ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ.
فَعَلَى هَذَا: إِذَا اسْتَنَابَ مَنْ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ صَارَ مَيْئُوسًا مِنْ بُرْئِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي حَالٍ لَا تَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا فَأَشْبَهَ الصَّحِيحَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَوَازَ مَوْقُوفٌ إِنْ مَاتَ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ جَازَ، وَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ أَوِ الْحَبْسُ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ.
19- الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
لَا يَجُوزُ الْحَجُّ عَنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، وَالنِّيَابَةُ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْأَمْرِ.
وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ، أَمَّا الْمَيِّتُ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 117).
20- الشَّرْطُ الرَّابِعُ: النِّيَّةُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ: ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَحُجُّ عَنْهُ لَا عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّتِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ: لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ، كَمَا إِذَا حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ.
وَيَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ النَّائِبُ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لَفْظًا.وَإِنْ نَسِيَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ نَوَى مَنْ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ لِيَحُجَّ عَنْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا تَكْفِي نِيَّةُ الْمُسْتَنِيبِ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِي الْحَجِّ فِعْلُ النَّائِبِ فَوَجَبَتِ النِّيَّةُ مِنْهُ.
21- الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ حَجُّ الْمَأْمُورِ بِمَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ:
إِنْ تَطَوَّعَ الْحَاجُّ عَنِ الْغَيْرِ بِمَالِ نَفْسِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنْهُ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 117).
22- الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا:
وَهَذَا الشَّرْطُ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ وَقَعَ إِحْرَامُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ نَفْسِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَابَةَ تَصِحُّ، سَوَاءٌ كَانَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ لَا، إِلاَّ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ وَيُسَمَّى حَجَّ الصَّرُورَةِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، هُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَثْلُ ذَلِكَ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَجَازَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهُ عَنْ نَفْسِهِ، كَالزَّكَاةِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَقَعُ الْحَجُّ بَاطِلًا، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ، فَمَتَى نَوَاهُ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَنْوِ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَقَعْ عَنْ نَفْسِهِ، كَذَا الطَّوَافُ حَامِلًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَقَعْ عَنْ نَفْسِهِ وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 116).
نِيَابَةُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَجِّ:
23- تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ النَّائِبُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَهَذَا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ.
أَمَّا الْجَوَازُ، فَلِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ، فَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي حَجِّهَا ضَرْبُ نُقْصَانٍ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَوْفِي سُنَنَ الْحَجِّ، فَإِنَّهَا لَا تَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة، وَلَا تَحْلِقُ.
النِّيَابَةُ فِي حَجَّةِ الْفَرْضِ وَحَجَّةِ النَّذْرِ مَعًا:
24- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَحَجَّةُ النَّذْرِ، فَاسْتَأْجَرَ رَجُلَيْنِ يَحُجَّانِ عَنْهُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَدْ نَصَّ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدِّمِ النَّذْرَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحُجُّ بِنَفْسِهِ حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
النِّيَابَةُ فِي حَالَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ:
25- الْحَجُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا.
فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْقَادِرِ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَكَذَا الْحَجُّ الْمَنْذُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ كَرَاهَتَهُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَجُّ حَجَّ تَطَوُّعٍ، وَكَانَ الْمُسْتَنِيبُ قَدْ أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ كَرَاهَةَ الِاسْتِنَابَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 118).
الْعَجْزُ عَنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ عَجْزًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ:
26- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَاجِزًا عَنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ عَجْزًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ، كَالْمَرِيضِ مَرَضًا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالْمَحْبُوسِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَجٌّ لَا يَلْزَمُهُ عَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَجِّ الْفَرْضِ، أَنَّ الْفَرْضَ عِبَادَةُ الْعُمْرِ فَلَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ هَذَا الْعَامِ، وَالتَّطَوُّعُ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ عَامٍ فَيَفُوتُ حَجُّ هَذَا الْعَامِ بِتَأْخِيرِهِ، وَلِأَنَّ حَجَّ الْفَرْضِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ فُعِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَحَجُّ التَّطَوُّعِ لَا يُفْعَلُ فَيَفُوتَ.
مَا يَصِيرُ بِهِ النَّائِبُ مُخَالِفًا وَحُكْمُهُ إِذَا خَالَفَ:
أ- أَمَرَهُ بِالْإِفْرَادِ فَقَرَنَ:
27- إِذَا أُمِرَ النَّائِبُ بِالْإِفْرَادِ فَقَرَنَ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا يَضْمَنُ، وَوَقَعَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَزَادَ خَيْرًا، فَكَانَ مَأْذُونًا فِي الزِّيَادَةِ دَلَالَةً، فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَصَحَّ وَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ تُسَاوِي إِحْدَاهُمَا دِينَارًا.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُخَالِفًا وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، إِذْ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَصْرِفُهُ إِلَى الْحَجِّ لَا غَيْرَ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ، فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ فَضَمِنَ.
ب- أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ أَوِ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ:
28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أُمِرَ النَّائِبُ بِحَجٍّ فَتَمَتَّعَ، أَوِ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ حَجَّ: فَإِنْ خَرَجَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ بِالْحَجِّ جَازَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، لِتَرْكِ مِيقَاتِهِ وَيَرُدُّ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ فِيمَا بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ فَقَدْ أَتَى بِالْحَجِّ صَحِيحًا مِنْ مِيقَاتِهِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ فَمَا أَخَلَّ إِلاَّ بِمَا يَجْبُرُهُ الدَّمُ، فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهُ كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ فَأَحْرَمَ دُونَهُ.وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَاعْتَمَرَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ خَالَفَ، وَلَوِ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ يَضْمَنُ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ فَيَكُونُ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِ كُلِّ السَّفَرِ إِلَى الْحَجِّ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى بِالسَّفَرِ حَجًّا عَنِ الْآمِرِ وَعُمْرَةً عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ مُخَالِفًا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
ج- أَمَرَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ:
29- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ فَقَدْ زَادَ خَيْرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْرَمَ بِالنُّسُكَيْنِ مِنَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ إِنْ عَدَّدَ الْأَفْعَالَ لِلنُّسُكَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَدِّدْ فَيَحُطَّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ لِاخْتِصَارِهِ فِي الْأَفْعَالِ فِي وَجْهٍ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ، وَقَعَ عَنِ الْآمِرِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِمَا، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ النَّفَقَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ لِأَنَّ غَرَضَهُ فِي عُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ وَتَحْصِيلُ فَضِيلَةِ التَّمَتُّعِ، وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَفَوَّتَهُ عَلَيْهِ.
د- أَمَرَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَأَفْرَدَ:
30- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصًا لِلتَّمَتُّعِ فَأَفْرَدَ يُنْظَرُ:
إِنْ قَدَّمَ الْعُمْرَةَ وَعَادَ لِلْحَجِّ إِلَى الْمِيقَاتِ فَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَإِنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ، فَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ انْفَسَخَتْ فِي الْعُمْرَةِ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ فَيَرُدُّ حِصَّتَهَا مِنَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ وَعَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ خِلَافٌ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالتَّمَتُّعِ فَأَفْرَدَ وَقَعَ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ وَيَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِهِ، وَإِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ زِيَادَةٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا.
هـ- أَمَرَهُ بِالْقِرَانِ فَأَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ:
31- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِرَانِ فَعَدَلَ يُنْظَرُ: إِنْ عَدَلَ إِلَى الْإِفْرَادِ فَحَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ حِصَّةَ الْعُمْرَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي «الْمَنَاسِكِ الْكَبِيرِ» لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ عَنِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ نُظِرَ: إِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْرِنْ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَعَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ لِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ لِلْعُمْرَةِ.
وَهَلْ يَحُطُّ شَيْءٌ مِنَ الْأُجْرَةِ أَمْ تَنْجَبِرُ الْإِسَاءَةُ بِالدَّمِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ:
أَصَحُّهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَنْجَبِرُ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لَا مُخَالَفَةَ فَتَجِبُ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ، وَأَظْهَرُهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ: يَحُطُّ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْحَطِّ.
وَإِنْ عَدَلَ إِلَى التَّمَتُّعِ، فَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ لَمْ يَقَعِ الْحَجُّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا هُوَ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ نُظِرَ: إِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْحَجِّ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِلاَّ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يُجْعَلُ مُخَالِفًا لِتَقَارُبِ الْجِهَتَيْنِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَا لَوِ امْتَثَلَ، وَفِي كَوْنِ الدَّمِ عَلَى الْأَجِيرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ الْوَجْهَانِ، وَأَصَحُّهَا يُجْعَلُ مُخَالِفًا فَيَجِبُ الدَّمُ عَلَى الْأَجِيرِ لِإِسَاءَتِهِ، وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ الْخِلَافُ السَّابِقُ.وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دَمٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ يَتَضَمَّنُهُ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالْقِرَانِ فَأَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ، صَحَّ وَوَقَعَ النُّسُكَانِ عَنِ الْآمِرِ، وَيرُدُّ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْ إِحْرَامِ النُّسُكِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِذَا أَمَرَهُ بِالنُّسُكَيْنِ فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ رَدَّ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ وَوَقَعَ الْمَفْعُولُ عَنِ الْآمِرِ، وَلِلنَّائِبِ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِهِ.
و- أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَحَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ:
32- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالْحَجِّ فَحَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَمَرَ بِعُمْرَةٍ فَاعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ صَحَّ، وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنَ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ.
ز- أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنْ بَلَدِهِ فَخَالَفَ:
33- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالْإِحْرَامِ مِنْ بَلَدِهِ، فَأَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ جَازَ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ.
وَإِنْ أَمَرَ بِالْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْ بَلَدِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَا تَضُرُّ.
ح- أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَخَالَفَ:
34- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالْحَجِّ فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ بِالِاعْتِمَارِ فِي شَهْرٍ مُعَيَّنٍ فَفَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَدَّمَ الْأَجِيرُ الْحَجَّ عَلَى السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ جَازَ وَقَدْ زَادَ خَيْرًا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
17-موسوعة الفقه الكويتية (نية 1)
نِيَّةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- النِّيَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ نَوَى، وَالِاسْمُ النِّيَّةُ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عِنْدَ أَكْثَرِ اللُّغَوِيِّينَ، وَالتَّخْفِيفُ فِيهَا لُغَةٌ مَحْكِيَّةٌ.
وَتَأْتِي النِّيَّةُ لِمَعَانٍ، مِنْهَا: الْقَصْدُ، فَيُقَالُ: نَوَى الشَّيْءَ يَنْوِيهِ نِيَّةً: قَصَدَهُ، كَانْتَوَاهُ وَتَنَوَّاهُ، وَمِنْهَا: الْحِفْظُ، فَيُقَالُ: نَوَى اللَّهُ فُلَانًا: حَفِظَهُ.
وَالنِّيَّةُ: الْوَجْهُ الَّذِي يُذْهَبُ فِيهِ، وَالْأَمْرُ الَّذِي تَنْوِيهِ، وَتَوْجِيهُ النَّفْسِ نَحْوَ الْعَمَلِ.
وَالنِّيَّةُ اصْطِلَاحًا: عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مِنْهَا تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا قَصْدُ الطَّاعَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إِيجَابِ الْفِعْلِ.وَدَخَلَ فِي التَّعْرِيفِ الْمَنْهِيَّاتُ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ كَفُّ النَّفْسِ.
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا قَصْدُ الْإِنْسَانِ بِقَلْبِهِ مَا يُرِيدُهُ بِفِعْلِهِ، فَهِيَ مِنْ بَابِ الْعُزُومِ وَالْإِرَادَاتِ لَا مِنْ بَابِ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ.
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ.
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: عَزْمُ الْقَلْبِ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ اللَّهَ تَعَالَى دُونَ شَيْءٍ آخَرَ، مِنْ تَصَنُّعٍ لِمَخْلُوقٍ، أَوِ اكْتِسَابِ مَحْمَدَةٍ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ مَحَبَّةِ مَدْحٍ مِنْهُمْ، أَوْ نَحْوِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعَزْمُ:
2- الْعَزْمُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ عَزَمَ، مِنْ بَابِ ضَرَبَ، يُقَالُ: عَزَمَ عَلَى الشَّيْءِ وَعَزَمَهُ عَزْمًا: عَقَدَ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}.
وَالْعَزْمُ فِي الِاصْطِلَاحِ: جَزْمُ الْإِرَادَةِ بَعْدَ تَرَدُّدٍ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْعَزْمِ: أَنَّهُمَا مَرْحَلَتَانِ مِنْ مَرَاحِلِ الْإِرَادَةِ، وَالْعَزْمُ اسْمٌ لِلْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالنِّيَّةُ اسْمٌ لِلْمُقْتَرِنِ بِالْفِعْلِ مَعَ دُخُولِهِ تَحْتَ الْعِلْمِ بِالْمَنْوِيِّ.
ب- الْإِرَادَةُ:
3- الْإِرَادَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَرَادَ، وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي اللُّغَةِ: الطَّلَبُ وَالِاخْتِيَارُ وَالْمَشِيئَةُ.وَيُقَالُ: أَرَادَ الشَّيْءَ: شَاءَهُ وَأَحَبَّهُ.
وَالْإِرَادَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: صِفَةٌ تُوجِبُ لِلْحَيِّ حَالًا يَقَعُ مِنْهُ الْفِعْلُ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ: أَنَّ النِّيَّةَ مَرْحَلَةٌ مِنْ مَرَاحِلِ الْإِرَادَةِ.
الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنِّيَّةِ:
يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّةِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، مِنْهَا أَحْكَامٌ عَامَّةٌ وَأُخْرَى تَفْصِيلِيَّةٌ:
أَوَّلًا: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ لِلنِّيَّةِ:
مَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَا لَا يَفْتَقِرُ:
4- أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ إِمَّا مَطْلُوبَةٌ أَوْ مُبَاحَةٌ:
وَلَمَّا كَانَ الْمُبَاحُ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ الْمُكَلَّفُ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ.
وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِمَّا مَطْلُوبَةُ التَّرْكِ أَوْ مَطْلُوبَةُ الْفِعْلِ.فَالْمَطْلُوبَةُ التَّرْكِ- وَهِيَ النَّوَاهِي- فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا، فَضْلًا عَنِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، إِلاَّ إِذَا شَعَرَ الْمُكَلَّفُ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَنَوَى تَرْكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مَعَ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ الثَّوَابُ لِأَجْلِ النِّيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الثَّوَابِ لَا فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ.
وَالْمَطْلُوبَةُ الْفِعْلِ- وَهِيَ الْأَوَامِرُ- فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْ حَيْثُ افْتِقَارُهَا إِلَى النِّيَّةِ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا تَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ، كَأَدَاءِ الدَّيْنِ وَالْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ، فَإِنَّ الْمُحَصِّلَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ انْتِفَاعُ أَرْبَابِهَا، وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الْفَاعِلِ لَهَا، فَيَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ لَيْسَتْ كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، كَالصَّلَوَاتِ وَالطَّهَارَاتِ وَالصِّيَامِ وَالنُّسُكِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْظِيمُهُ تَعَالَى بِفِعْلِهَا وَالْخُضُوعِ لَهُ فِي إِتْيَانِهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قُصِدَتْ مِنْ أَجْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ فِيهِ الشَّرْعُ بِالنِّيَّاتِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي افْتِقَارِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ إِلَى النِّيَّةِ، بَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أ- افْتِقَارُ الْعِبَادَاتِ إِلَى النِّيَّةِ:
5- الْعِبَادَةُ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُلْتَبِسَةٍ بِالْعَادَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْرِفَةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، لِأَنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِصُورَتِهَا، وَلَا تَلْتَبِسُ بِغَيْرِهَا.
وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَلْتَبِسُ بِالْعَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالضَّحَايَا وَالصَّدَقَةِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْجِهَادِ وَالْعِتْقِ؛ فَإِنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ.
ب- افْتِقَارُ الْعُقُودِ إِلَى نِيَّةٍ:
6- الْعَقْدُ إِذَا كَانَ يَسْتَقِلُّ بِهِ الشَّخْصُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرَّجْعَةِ وَالظِّهَارِ وَالْفُسُوخِ، فَإِنَّ انْعِقَادَهُ بِالْكِنَايَةِ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا فِي انْعِقَادِهِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الشَّخْصُ، بِأَنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَهُوَ ضَرْبَانِ:
الْأَوَّلُ: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ كَالنِّكَاحِ وَبَيْعِ الْوَكِيلِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْإِشْهَادُ، فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَعْلَمُ النِّيَّةَ.
الثَّانِي: مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَقْبَلُ مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
حُكْمُ النِّيَّةِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ هَلْ هِيَ فَرْضٌ أَوْ رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ؟
فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْأَظْهَرِ- كَمَا قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ- وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُقَابِلَ الْأَكْثَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَيَرَى أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا رُكْنٌ فِيهَا.وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا فَرْضٌ فِي الْوُضُوءِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: عَلَى الْأَشْهَرِ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: عَلَى الْأَصَحِّ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي مَوْطِنِهِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.
فَضِيلَةُ النِّيَّةِ:
8- النِّيَّةُ هِيَ مَحَطُّ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَبْدِ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ النِّيَّةِ، وَهَذَا هُوَ سِرُّ اهْتِمَامِ الشَّارِعِ بِالنِّيَّةِ فَأَنَاطَ قَبُولَ الْعَمَلِ وَرَدَّهُ وَتَرْتِيبَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِالنِّيَّةِ وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- قَالَ الْغَزَالِيُّ إِنَّ الْمَرْءَ يُشْرِكُ فِي مَحَاسِنِ الْعَمَلِ وَمَسَاوِيهِ بِالنِّيَّةِ، وَاسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» وَبِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ.فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ».
ب- إِنَّ الْهَمَّ بِفِعْلِ الْحَسَنَةِ حَسَنَةٌ فِي ذَاتِهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» فَالنِّيَّةُ فِي نَفْسِهَا خَيْرٌ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعَائِقٍ.
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ عَنِ الْجَمَاعَةِ لِعُذْرٍ مِنْ أَعْذَارِهَا- إِذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ حُضُورَهَا لَوْلَا الْعُذْرُ- يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهَا.
ج- إِنَّ النِّيَّةَ تُعَظِّمُ الْعَمَلَ وَتُصَغِّرُهُ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: رُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ تُعَظِّمُهُ النِّيَّةُ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَبِيرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ».
د- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِينُ الْعَبْدَ وَيُوَفِّقُهُ لِلْعَمَلِ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، فَقَدْ كَتَبَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: اعْلَمْ أَنَّ عَوْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، فَمَنْ تَمَّتْ نِيَّتُهُ تَمَّ عَوْنُ اللَّهِ لَهُ، وَإِنْ نَقَصَتْ نَقَصَ بِقَدْرِهِ.
هـ- قَالَ الْغَزَالِيُّ: عِمَادُ الْأَعْمَالِ النِّيَّاتُ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فَالْمَرْءُ يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ يُرَدُّ عَمَلُهُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ.
كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إِلَيْهَا فَهُوَ زَانٍ، وَمَنِ ادَّانَ دَيْنًا وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إِلَى صَاحِبِهِ- أَحْسَبُهُ قَالَ-: فَهُوَ سَارِقٌ».
ز- إِنَّ النِّيَّةَ تَقْلِبُ الْمُبَاحَاتِ إِلَى وَاجِبَاتٍ وَمَنْدُوبَاتٍ لِيَنَالَ النَّاوِي عَلَيْهَا الثَّوَابَ بِنِيَّتِهِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ لُبْسَ الثِّيَابِ هُوَ مُبَاحٌ، فَإِذَا أَرَادَ الشَّخْصُ أَنْ يُحَوِّلَ هَذَا الْمُبَاحَ إِلَى وَاجِبٍ نَوَى بِلُبْسِهِ الثِّيَابَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ.فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ فَإِنَّهُ يَضُمُّ إِلَى نِيَّةِ الْوَاجِبِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي إِظْهَارِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» فَيَنْوِي بِذَلِكَ مُبَادَرَتَهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا لَا يُتَزَيَّنُ بِهِ فَيَنْوِي بِلُبْسِهِ التَّوَاضُعَ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِانْكِسَارَ وَالتَّذَلُّلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِظْهَارَ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ إِلَيْهِ، وَامْتِثَالَ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ- وَهُوَ يُقْدِرُ عَلَيْهِ- دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا».
ثَوَابُ النِّيَّةِ وَحْدَهَا، وَمَعَ الْعَمَلِ:
9- نَاوِي الْقُرْبَةِ يُثَابُ عَلَى مُجَرَّدِ نِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ الْعَمَلِ، وَلَا يُثَابُ عَلَى أَكْثَرِ الْأَعْمَالِ إِلاَّ إِذَا نَوَى؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ مُنْصَرِفَةٌ بِنَفْسِهَا وَصُورَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ يُثَابُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا، وَأَمَّا الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ عَنِ النِّيَّةِ فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ لِغَيْرِهِ، أَيْ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالْعِبَادَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ بِنَفْسِهِ وَصُورَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: يُسَنُّ نِيَّةُ قِيَامِ اللَّيْلِ عِنْدَ النَّوْمِ لِيَفُوزَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَرْءَ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَحْدَهَا حَسَنَةً وَاحِدَةً، فَإِنِ اتَّصَلَ بِهَا الْفِعْلُ أُثِيبَ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْوِيَّ تَتَحَقَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَجْرُهُ- أَيْ مَعَ النِّيَّةِ- أَعْظَمَ وَثَوَابُهُ أَوْفَرَ، وَلِأَنَّ الْأَفْعَالَ هِيَ الْمَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتِ وَسَائِلُ.
مَحَلُّ النِّيَّةِ:
10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ مِنَ الْمُكَلَّفِ الْقَلْبُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْمَيْلِ وَالنُّفْرَةِ وَالِاعْتِقَادِ، وَلِأَنَّ حَقِيقَتَهَا الْقَصْدُ، وَمَحَلُّ الْقَصْدِ الْقَلْبُ، وَلِأَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ مَحْضُ النِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ أَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} وَقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} وَلَمْ يُضِفِ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إِلَى الدِّمَاغِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافٌ فَصَّلَهُ الْحَطَّابُ فَقَالَ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَقَلُّ الْمُتَشَرِّعِينَ وَأَكْثَرُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الدِّمَاغِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّمَاغِ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الدِّمَاغِ لَا فِي الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ وَالْمَيْلَ وَالنُّفْرَةَ وَالِاعْتِقَادَ كُلَّهَا أَعْرَاضُ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ، فَحَيْثُ وُجِدَتِ النَّفْسُ وُجِدَ الْجَمِيعُ قَائِمًا بِهَا، فَالْعَقْلُ سَجِيَّتُهَا، وَالْعُلُومُ وَالْإِرَادَاتُ صِفَاتُهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا أُصِيبَ الدِّمَاغُ فَسَدَ الْعَقْلُ وَبَطَلَتِ الْعُلُومُ وَالْفِكْرُ وَأَحْوَالُ النَّفْسِ.
ثُمَّ قَالَ الْحَطَّابُ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ لَزِمَ أَنَّ النَّفْسَ فِي الْقَلْبِ، عَمَلًا بِظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَإِذَا كَانَتِ النَّفْسُ فِي الْقَلْبِ كَانَتِ النِّيَّةُ وَأَنْوَاعُ الْعُلُومِ وَجَمِيعُ أَحْوَالِ النَّفْسِ فِي الْقَلْبِ.
وَأَضَافَ الْمَازِرِيُّ قَوْلَهُ: وَهَذَا أَمْرٌ لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ، وَظَوَاهِرُ السَّمْعِ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ..أَيْ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ.
وَقَالَ الْحَطَّابُ: يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْجِرَاحِ، وَهِيَ: مَنْ شُجَّ فِي رَأْسِهِ مَأْمُومَةً أَوْ مُوضِحَةً خَطَأً فَذَهَبَ عَقْلُهُ.قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: فَلَهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ دِيَةُ الْعَقْلِ وَدِيَةُ الْمَأْمُومَةِ أَوِ الْمُوضِحَةِ، لَا يَدْخُلُ بَعْضُ ذَلِكَ فِي بَعْضٍ، إِذْ لَيْسَ الرَّأْسُ عِنْدَهُ مَحَلُّ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَلْبُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الشَّرْعِ، فَهُوَ كَمَنْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ وَأَذْهَبَ سَمْعَهُ فِي ضَرْبَةٍ.وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: إِنَّمَا لَهُ دِيَةُ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الرَّأْسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفَلَاسِفَةِ، وَهُوَ كَمَنْ أَذْهَبَ بَصَرَ رَجُلٍ وَفَقَأَ عَيْنَهُ فِي ضَرْبَةٍ، وَهَذَا فِي الْخَطَأِ، وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَيَقْتَصُّ مِنْهُ مِنَ الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ ذَهَبَ عَقْلُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ فَدِيَةُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْجَانِي، وَفِي الْمَأْمُومَةِ لَهُ دِيَتُهَا وَدِيَةُ الْعَقْلِ.
التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ:
11- يَتَرَتَّبُ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ، أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: لَا يَكْفِي اللَّفْظُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ اللِّسَانُ وَالْقَلْبُ فَالْعِبْرَةُ بِمَا فِي الْقَلْبِ، فَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ الظُّهْرَ وَبِلِسَانِهِ الْعَصْرَ، أَوْ بِقَلْبِهِ الْحَجَّ وَبِلِسَانِهِ الْعُمْرَةَ أَوْ عَكْسَهُ، صَحَّ لَهُ مَا فِي الْقَلْبِ.
قَالَ الدَّرْدِيرُ: إِنْ خَالَفَ لَفْظُهُ نِيَّتَهُ فَالْعِبْرَةُ النِّيَّةُ بِالْقَلْبِ لَا اللَّفْظُ، إِنْ وَقَعَ سَهَوَا، وَأَمَّا عَمْدًا فَمُتَلَاعِبٌ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعَ نِيَّةِ الْقَلْبِ التَّلَفُّظُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ.
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِلتَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ سُنَّةٌ لِيُوَافِقَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ مَكْرُوهٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ، إِلاَّ الْمُوَسْوَسَ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ التَّلَفُّظُ لِيَذْهَبَ عَنْهُ اللَّبْسُ.
شُرُوطُ النِّيَّةِ:
12- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- لِلنِّيَّةِ مَا يَلِي:
أ- الْإِسْلَامُ، فَلَا تَصِحُّ الْعِبَادَاتُ مِنَ الْكَافِرِ.
ب- التَّمْيِيزُ، فَلَا تَصِحُّ عِبَادَةُ صَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ وَلَا مَجْنُونٍ.
ج ـ الْعِلْمُ بِالْمَنْوِيِّ، فَمَنْ جَهِلَ فَرِيضَةَ الصَّلَاةِ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ، وَاسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَّ فَإِنَّهُمْ صَحَّحُوا الْإِحْرَامَ الْمُبْهَمَ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا أَحْرَمَ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.
د- أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَافٍ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْمَنْوِيِّ، فَلَوِ ارْتَدَّ النَّاوِي فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوِ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ بَطُلَ.
وَمِنَ الْمُنَافِي نِيَّةُ الْقَطْعِ، فَلَوْ نَوَى قَطْعَ الْإِيمَانِ صَارَ مُرْتَدًّا فِي الْحَالِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ نِيَّةِ الْقَطْعِ عَلَى الْعِبَادَاتِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِيَّةَ الْقَطْعِ لَا تُبْطِلُ الْعِبَادَاتِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَطْعَ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ، وَكَذَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمَ وَالِاعْتِكَافَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلَا يُبْطِلُ قَطْعُ النِّيَّةِ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِيَّةَ الْقَطْعِ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ دُونَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ قَطْعَ النِّيَّةِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْوُضُوءِ وَنَحْوِهَا يُبْطِلُهَا؛ لِأَنَّ اسْتِصْحَابَ حُكْمِ النِّيَّةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا.
وَمِنَ الْمُنَافِي التَّرَدُّدُ وَعَدَمُ الْجَزْمِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ، فَلَوْ نَوَى يَوْمَ الشَّكِّ إِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ لَيْسَ بِصَائِمٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ صَائِمًا لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَمِنَ الْمُنَافِي: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْوِيِّ إِمَّا عَقْلًا وَإِمَّا شَرْعًا وَإِمَّا عَادَةً.
فَمِنَ الْأَوَّلِ: نَوَى بِوُضُوئِهِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةً وَأَنْ لَا يُصَلِّيَهَا، لَمْ تَصِحَّ لِتَنَاقُضِهَا.
وَمِنَ الثَّانِي: نَوَى بِهِ الصَّلَاةَ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنِ الْبَحْرِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ.
وَمِنَ الثَّالِثِ: نَوَى بِهِ صَلَاةَ الْعِيدِ وَهُوَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، أَوِ الطَّوَافَ وَهُوَ بِالشَّامِ، فَفِي صِحَّتِهِ خِلَافٌ.
هـ- أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُنَجَّزَةً، فَلَا تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً، فَلَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ أَوْ أَطْلَقَ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ تَصِحَّ.
وَإِنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ صَحَّتْ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ عَقَّبَ النِّيَّةَ بِالْمَشِيئَةِ فَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّاتِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ.وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَقْوَالِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بَطُلَ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِلنِّيَّةِ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ، هِيَ:
أ- أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمُكْتَسَبِ النَّاوِي، فَإِنَّهَا مُخَصِّصَةٌ، وَتَخْصِيصُ غَيْرِ الْمَعْقُولِ لِلْمُخَصِّصِ مُحَالٌ.
ب- أَنْ يَكُونَ الْمَنَوِيُّ مَعْلُومَ الْوُجُوبِ أَوْ مَظْنُونَهُ، فَإِنَّ الْمَشْكُوكَ تَكُونُ فِيهِ النِّيَّةُ مُتَرَدِّدَةً فَلَا تَنْعَقِدُ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ وُضُوءُ الْكَافِرِ وَلَا غُسْلُهُ قَبْلَ انْعِقَادِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مَعْلُومَيْنِ وَلَا مَظْنُونَيْنِ.
ج- أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْمَنْوِيِّ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْعِبَادَةِ لَوْ عَرَا عَنِ النِّيَّةِ لَكَانَ أَوَّلُهَا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا، وَآخِرُ الصَّلَاةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهَا وَتَبَعٌ لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ أَوَّلَهَا إِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً كَانَ آخِرُهَا كَذَلِكَ، فَلَا تَصِحُّ.
وَقْتُ النِّيَّةِ:
13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ هُوَ أَوَّلُ الْعِبَادَاتِ، أَوْ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا أَوَّلُ الْعِبَادَاتِ، فَيَجِبُ- كَمَا عَبَّرَ بَعْضُهُمْ- أَنْ تَقْتَرِنَ النِّيَّةُ بِأَوَّلِ كُلِّ عِبَادَةٍ إِلاَّ أَنْ يَشُقَّ مُقَارَنَتُهَا إِيَّاهَا.
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا مِنَ الْعِبَادَاتِ خَرَجَتْ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَأَضَافُوا أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالْأَوَّلِ الْحَقِيقِيِّ وَالنِّسْبِيِّ أَوِ الْحُكْمِيِّ لِلْعِبَادَاتِ، وَبِاشْتِرَاطِ بَقَاءِ النِّيَّةِ أَثْنَاءَ الْعِبَادَاتِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِاسْتِصْحَابِهَا مِنْ أَوَّلِ الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا وَغَيْرُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ- بَعْدَ ذَلِكَ- تَفْصِيلٌ:
14- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: الْأَصْلُ أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ أَوَّلُ الْعِبَادَاتِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ، فَقَالُوا فِي الصَّلَاةِ: لَوْ نَوَى قَبْلَ الشُّرُوعِ..فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَوْ نَوَى عِنْدَ الْوُضُوءِ أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ مَعَ الْإِمَامِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بَعْدَ النِّيَّةِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ...جَازَتْ صَلَاتُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ...كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَفِي التَّجْنِيسِ: إِذَا تَوَضَّأَ فِي مَنْزِلِهِ لِيُصَلِّيَ الظُّهْرَ ثُمَّ حَضَرَ الْمَسْجِدَ فَافْتَتَحَ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَكْفِيهِ ذَلِكَ- هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الرُّقَيَّاتِ- لِأَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ يُبْقِيهَا إِلَى وَقْتِ الشُّرُوعِ حُكْمًا- كَمَا فِي الصَّوْمِ- إِذَا لَمْ يُبَدِّلْهَا بِغَيْرِهَا.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَوْ سُئِلَ: أَيَّةُ صَلَاةٍ يُصَلِّي؟ يُجِيبُ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ..فَهُوَ نِيَّةٌ تَامَّةٌ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى التَّأَمُّلِ لَا تَجُوزُ.
وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: فَقَدْ شَرَطُوا عَدَمَ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ لِصِحَّةِ تِلْكَ النِّيَّةِ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوعِ الْمَشْيُ إِلَى مَقَامِ الصَّلَاةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ، بِخِلَافِ مَا لَوِ اشْتَغَلَ بِكَلَامٍ أَوْ أَكْلٍ، أَوْ نَقُولُ: عَدُّ الْمَشْيِ إِلَيْهَا مِنْ أَفْعَالِهَا غَيْرُ قَاطِعٍ لِلنِّيَّةِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِلشُّرُوعِ، وَلَا يَكُونَ شَارِعًا بِمُتَأَخِّرَةٍ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى لَمْ يَقَعْ عِبَادَةً لِعَدَمِ النِّيَّةِ، فَكَذَا الْبَاقِي لِعَدَمٍ التَّجَزِّي...وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقِرَانِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
وَأَمَّا النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ: فَمَحَلُّهَا عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي أَوَّلِ السُّنَنِ عِنْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ لِيَنَالَ ثَوَابَ السُّنَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ.
وَقَالُوا: الْغُسْلُ كَالْوُضُوءِ فِي السُّنَنِ.
وَفِي التَّيَمُّمِ: يَنْوِي عِنْدَ الْوَضْعِ عَلَى الصَّعِيدِ.
وَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ فِي الزَّكَاةِ، فَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ: وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ، أَوْ مُقَارِنَةٍ لِعَزْلِ مِقْدَارِ مَا وَجَبَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، وَالْأَصْلُ فِيهَا الِاقْتِرَانُ إِلاَّ أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ، فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَالَ الْعَزْلِ تَيْسِيرًا، كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ.
وَهَلْ تَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الْأَدَاءِ؟ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ: لَوْ دَفَعَهَا بِلَا نِيَّةٍ ثُمَّ نَوَى بَعْدَهُ: فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا فِي يَدِ الْفَقِيرِ جَازَ، وَإِلاَّ فَلَا.
وَأَمَّا الصَّوْمُ: فَإِنْ كَانَ فَرْضًا- هُوَ أَدَاءُ رَمَضَانَ- جَازَ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبِمُقَارِنَةٍ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَبِمُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الشُّرُوعِ إِلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ؛ تَيْسِيرًا عَلَى الصَّائِمِينَ.وَإِنْ كَانَ فَرْضًا غَيْرَ أَدَاءِ رَمَضَانَ- مِنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ- فَيَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْقِرَانُ.وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ نَفْلًا فَكَرَمَضَانَ أَدَاءً.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
18-الغريبين في القرآن والحديث (بقى)
(بقى)قوله تعالى: {أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض} قال ابن عرفة: أي أولوا تمييز وأولو طاعة، يقال: إنه لذو بقية: إذا كان فيه خير.
المعنى: فهلا كان من القرون من قبلكم من فيه خير ينهي عن الفساد.
وقال الأزهري: البقية: الاسم من الإبقاء، كأنه أراد: أولو إبقاء على أنفسهم لتمسكهم بالدين المرضى، والعرب تقول للعدو إذا غل: البقية، أي أبقوا علينا، ولا تستأصلونا.
وقال ابن عرفة: يقال: في فلان بقية: أي فضل مما يمدح به. وقال القتيبي: قوم لهم بقية: أي مسكة، وفيهم خير.
وقوله تعالى: {بقيت الله خير لكم} قال مجاهد: طاعة الله.
وقيل: ما أبقى الله من الحلال خير لكم، ويجوز أن يكون الحال التي يبقى لكم معها الخير خيرًا لكم، وقيل في قوله تعالى: {وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون} إنه فضاض الألواح التي كتب الله لموسى فيها.
وقوله: {والباقيات الصالحات} يعني الأعمال التي يبقى ثوابها.
وفي الحديث: (بقينا رسول الله) أي انتظرناه، يقال: بقيته أبقيه بقيًا.
وفي الحديث: (تبقه وتوقه) أي استبق النفس ولا تعرضها للهلاك.
وتوقه: أي تحرز من الآفات: قال الله تعالى: {خذوا حذركم}.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
19-الغريبين في القرآن والحديث (خرف)
(خرف)وفي الحديث: (عائد المريض في خرافة) قال ابن الأنباري: أي في اجتناء ثمر الجنة، يقال: خرقت النخلة أتخرفها، فشبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يحوز عائد المريض من الثواب ما يحوزه المخترف من الثمر، قال: والمخرف النخلة التي يخترف منها، والمخرف: المكتل يلتقط فيه الرطب.
ومنه الحديث (أخذ مخرفًا فأتى عذقًا) والعذق: النخلة.
قال: ويقال للرطب أيضًا مخرف.
ومنه الحديث (عائد المريض على مخارف الجنة حتى يرجع).
قال أبو عبيد: قال الأصمعي، واحد المخاوف مخرف ومن جني النحل سمى بذلك لأنه يخترف، أي بجتنى، وقال شممر: المخرقة سكة بين صفين من نخل
يخترف من أيهما شاء، وقال في غيره: المخرقة الطريق فمعنى الحديث أنه على طريق تؤديه إلى طق الجنة.
ومنه قول عمر: (تركتم على مثل مخرفة النعم) أي على مثل طرقها.
وفي حديث أبي طلحة: (إن لي مخرفًا، وإني قد جعلته صدقة) قال أبو بكر: رد هذا ابن قتيبة على أبي عبيد والأصمعي، ةقال: المخاوف لا يكون جني النخل، وإما هي النخل، والجني مخروف وليس بمخرف واحتج بحديث أب طلحة قال ومعنى الحديث: عائد المريض في بساتين الجنة، قال: ويجوز أن يكون على طريق الجنة لأن العبادة ثوابها الجنة. قال أبو بكر: بل هو المخطئ لأن المخرف يقع على النخل ويقع على المخروف من النخل كما يقع المشرب على السرب وعلى الموضع، وعلى الماء المشرب وكذلك المطعم يقع على الطعام المأكول، والمركب يقع على المركوب فإذا جاز ذلك أن يقع المخارف على الرطب المخروف ولا يجل هذا إلا القليل التفتيش عن كلام العرب قال نصيب:
«وقد عاد عذب الماء بحرًا فزادني *** إلى ظمني أن أبحر المشرب العذب»
وقال آخر:
«وأعرض عن مطاعن قد أراها *** تعرض لي وفي البطن انطواء»
أراد بالمطاعم الأطعمة.
وقوله: (وعائد المريض على بساتين الجنة) خطأ لأن "علي" لا يكون [195 أ] بمعنى (في)، ولا يجوز أن يقال الكسر على كمي، بمعنى (في) كمي، والصفات لا تحمل على أخواتها إلا بأثر، وما روي لغوي قط أنهم يضعون (على) موضع
(في) وروي في حديث آخر: (على خرفة الجنة) والخرفة: ما تخترف من النخل حين يدرك ثمره.
وفي الحديث: (إن أهل النار يدعون مالكًا أربعين خريفًا) أي سنة.
وفي الحديث: (ما بين منكبي الخازن من خزنة جهنم خريف) أراد ما بين الخريف إلى الخريف وهو السنة وفي قول بعض الزجر:
«لم يغذها مد ولا نصيف *** ولا تميزات ولا نعجيف»
لكن غذاها اللبن الخريف
الرواية اللبن الخريف فيشبه أنه أجرى اللبن مجرى الثمار التي تخترف وتجتني على الاستعارة، قال أبو منصورٍ: الخريف: أحد فصول السنة، واللبن فيه يكون أدسم منه في سائر الأزمان.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
20-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين المحق والإذهاب)
الْفرق بَين المحق والإذهابأَن المحق يكون للأشياء وَلَا يكون فِي الشَّيْء الْوَاحِد يُقَال محق الدَّنَانِير وَلَا يُقَال محق الدِّينَار إِذا أذهبه بِعَيْنِه وَلَكِن تَقول محق الدِّينَار إِذا أردْت قِيمَته من الْوَرق فَأَما قَوْله تَعَالَى (يمحق الله الرِّبَا) فَأَنَّهُ أَرَادَ أَن ثَوَاب عاملة يمحق وَالثَّوَاب أَشْيَاء كَثِيرَة وَالشَّاهِد قَوْله تَعَالَى (ويربي الصَّدقَات) لَيْسَ أَنه يُربي نَفسهَا وَإِنَّمَا يُربي ثَوَابهَا فَلذَلِك يمحق ثَوَاب فَاعل الرِّبَا وَنحن نعلم أَنا المَال يزِيد بالربا فِي العاجل.
الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م
21-الأفعال المتداولة (أَرْبَى)
أَرْبَاهُ: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ} (ينمّيها، يضاعف ثوابها)الأفعال المتداولة-محمد الحيدري-صدر: 1423هـ/2002م
22-تاج العروس (حوج)
[حوج]: الحَوْجُ: السَّلامَةُ، ويُقال للعاثِر: حَوْجًا لكَ؛ أَي سَلَامَةً.والحَوْجُ: الطَّلَب، والاحْتِياج وقد حاجَ واحْتَاجَ وأَحْوَجَ [وأَحْوَجْتُه.
وفي المحكم: حُجْتُ إِليك أَحُوجُ حَوْجًا، وحِجْتُ، الأَخيرةُ عن اللِّحيانيّ وأَنشد للكُمَيْتِ بنِ مَعْرِوفٍ الأَسَدِيّ:
غَنيِت فلم أَرْدُدْكُمُ عندَ بُغْيَةِ *** وحُجْتُ فلم أَكْدُدْكُمُ بالأَصابعِ
قال: ويُرْوى وحِجْتُ؛ وإِنما ذَكرتُها هنا لأَنها من الواو، وستُذْكَر أَيضًا في الياءِ.
واحْتَجْتُ وأَحْوَجْتُ، كحُجْتُ.
وعن اللِّحْيَانِيّ: حاجَ الرّجُلُ يَحُوج ويَحِيجُ، وقد حُجْتُ وحِجْتُ؛ أَي احْتَجْتُ.
والحُوجُ بالضَّمّ: الفَقْرُ، وقد حاجَ الرجلُ، واحْتَاجَ، إِذا افْتَقَرَ.
والحَاجَةُ والحائِجَةُ: المَأْرَبَةُ معروف أَي معروفة. وقوله تعالى {لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} قال ثعلب: يَعني الأَسفارَ.
وعن شيخنا: وقيل: إِنّ الحاجَةَ تُطْلَقُ على نَفْسِ الافْتِقَار، وعلى الشيْءِ الذي يُفْتَقَرُ إِليه. وقال الشيخ أَبو هلالٍ العَسكريّ في فُروقه: الحاجَة: القُصُورُ عن المَبْلَغِ المطلوبِ، يقال: الثَّوْبُ يَحْتَاجُ إِلى خِرْقَة، والفَقْرُ وخِلافُ الغِنَى والفَرْقُ بين النّقْصِ والحاجَة: أَن النَّقصَ سَبَبُها، والمُحْتَاجُ يَحْتَاجُ إِلى نقْصِه، والنَّقْصُ أَعَمُّ منها؛ لاستعماله في المحتاجِ وغيرِه.
ثم قال: قُلت: وغيرُه فَرَّقَ بأَن الحاجَةَ أَعَمَّ من الفقرِ، وبعضٌ بالعُمُوم والخُصُوصِ الوَجْهِيّ، وبه تَبَيَّن عَطْف الحاجة على الفقر، هل هو تفسيريّ؟ أَو عَطْفُ الأَعمِّ؟ أَو الأَخصّ؟ أَو غير ذلك؟ فتأَمَّلْ. انتهى.
قلت: صريحُ كلامِ شيخِنا أَنّ الحَاجَةَ مَعطوفٌ على الفَقْر، وليس كذلك، بل قولُه: «والحَاجَةُ» كلامٌ مُسْتَقلٌّ مبْتَدَأٌ، وخبرُه قولُه: مَعْرُوفٌ، كما هو ظاهرٌ، فلا يَحتاجُ إِلى ما ذَكرَ من الوجوه.
كالحَوْجَاءِ، بالفتْح والمَدّ.
وقد تَحَوَّجَ إِذا طَلَبَهَا أَي الحاجَةَ بَعْدَ الحَاجَةِ. وخَرَجَ يَتَحَوَّجُ: يَتَطَلَّبُ مَا يَحْتَاجُه مِنْ معِيشَتِه.
وفي اللّسان: تَحَوَّجَ إِلى الشَّيْءِ: احْتَاجَ إِليه وأَرَادَهُ.
ج: حَاجٌ، قال الشاعر:
وأُرْضِعُ حَاجَةً بِلِبان أُخْرَى *** كَذَاكَ الحَاجُ تُرْضَعُ بِاللِّبَانِ
وفي التهذيب: وأَنشد شَمِرٌ:
والشَّحْطُ قَطَّاعٌ رَجَاءَ مَنْ رَجَا *** إِلَّا احْتِضَارَ الحَاجِ مَنْ تَحَوَّجَا
قال شَمِرٌ: يقول: إذا بَعُدَ مَن تُحبّ انقطعَ الرَّجَاءُ إِلَّا أَنْ تكونَ حاضرًا لحاجتِك قريبًا منها، قال: وقال «رجِاءَ مَنْ رَجَا»، ثم استثنى فقال: إِلَّا احْتضَارَ الحَاج أَنْ يَحْضُرَه.
وتُجْمع الحاجَةُ على حَاجَات جمْعَ سَلَامةٍ، وحِوَج، بكسر ففتح، قاله ثعلب، قال الشاعر:
لَقَدْ طَالَمَا ثَبَّطْتَنِي عَنْ صَحَابَتِي *** وعَنْ حِوَجٍ قِضَّاؤُهَا مِنْ شِفَائِيَا
وَحَوائِجُ غيرُ قِيَاسِيٍّ، وهو رأْي الأَكثَرِ أَو مُوَلَّدَةٌ، وكان الأَصمعيّ يُنكرِه ويقول: هو مُوَلَّدٌ، قال الجَوهريّ، وإِنما أَنكَره بخُروجه عن القياس، وإِلّا فهو في كَثيرٍ من كلامِ العرب، وينشد:
نَهَارُ المَرْءِ أَمْثَلُ حِينَ تُقْضَى *** حَوَائجُهُ مِنَ اللَّيْلِ الطَّوِيلِ
أَوْ كَأَنَّهمْ جَمَعُوا حَائِجَةً، ولم يُنْطَقْ به، قال ابن بَرِّيّ، كما زعمه النّحويُّونَ، قال: وذَكر بعضُهم أَنه سُمعَ حائِجةٌ لُغَةً في الحاجَة، قال: وأَمّا قولُه: إِنّه مُولَّد، فإِنه خَطأٌ منه، لأَنَّهُ قد جاءَ ذلك في حديثِ سيِّدِنا رسولِ الله، صلى الله عليه وسلم، وفي أَشعارِ العربِ الفُصحاءِ.
فممّا جاءَ في الحديث، ما رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال «إِن للهِ عِبادًا خَلَقَهم لحَوائِجِ النَّاسِ، يَفْزَعُ الناسُ إِليهم في حوائِجهم، أُولئكَ الآمِنُونَ يوم القِيامةِ» وفي الحديث أَيضًا أَنّ رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «اطْلُبُوا الحَوائِجَ عِنْدَ حِسَان الوُجوهِ» وقال صلى الله عليه وسلم «اسْتَعِينوا علَى نَجاحِ الحَوائجِ بالكِتْمَانِ لها».
ومما جاءَ في أَشعارِ الفُصحاءِ قول أَبي سَلَمَةَ المُحارِبِيّ:
ثَمَمْتُ حَوَائِجي وَوَذَأْتُ بِشْرًا *** فَبِئْسَ مُعَرِّسُ الرَّكْبِ السِّغَابِ
وقال الشمّاخ:
تَقَطَّعُ بَيْنَنَا الحَاجَاتُ إِلَّا *** حَوَائِجَ يَعْتَسِفْنَ مَعَ الجَرِيءِ
وقال الأَعشى:
النَّاسُ حَوْلَ قِبَابِهِ *** أَهْلُ الحَوَائِجِ والمَسَائِلْ
وقال الفَرزدق
وَلِيَ بِبِلَادِ السِّنْدِ عِنْدَ أَمِيرِهَا *** حَوَائجُ جَمَّاتٌ وعِنْدِي ثَوَابُهَا
وقال هِمْيَانُ بنُ قُحَافَةَ:
حَتَّى إِذَا ما قَضَتِ الحَوَائِجَا *** وَمَلأَتْ حُلَّابُها الخَلَانِجَا
قال ابنُ بَرِّيّ: وكنت قد سُئِلت عن قَوْلِ الشيخِ الرَّئِيس أَبي محمد القَاسِمِ بن عليٍّ الحَرِيريّ في كتابِه دُرَّة الغَوّاص: إِن لَفظَةَ حَوَائجَ ممّا تَوهّمَ في استعمالِها الخَوَاصّ، وقال الحَريريُّ: لم أَسمع شاهدًا على تَصحيح لفظةِ حَوائجَ إِلَّا بيتًا واحدًا لبدِيع الزّمانِ، وقد غَلِطَ فيه، وهو قوله:
فَسِيَّانِ بَيْتُ العَنْكَبُوتِ وجَوْسَقٌ *** رَفِيعٌ إِذا لمْ تُقْضَ فِيه الحَوَائجُ
فأَكثرْتُ الاستشهادَ بشعْرِ العَرِبِ والحَدِيث، وقد أَنشدَ أَبو عمرِو بْنُ العلاءِ أَيضًا:
صَرِيعَيْ مُدَامٍ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَنَا *** حَوائجُ مِنْ إِلْقَاحِ مَالٍ ولا نَخْلٍ
وأَنشد ابن الأَعرابيّ أَيضًا:
مَنْ عَفَّ خَفَّ عَلَى الوُجوهِ لِقَاؤُهُ *** وأَخُو الحَوائجِ وَجْهُهُ مَبذُولُ
وأَنشد ابنُ خَالَوَيه:
خَلِيلِيَّ إِنْ قَامَ الهَوَى فَاقْعَدَا بِهِ *** لَعَنَّا نُقَضِّي مِنْ حَوَائِجِنا رَمَّا
وقال: وممّا يَزِيد ذلك أَيضاحًا مَا قاله العُلماءُ قال الخليلُ في العينِ في فصل «راح»: يقال: يَوْمٌ رَاحٌ عَلَى التخفيفِ مِن رائحٍ بِطْرح الهمزةِ وكما خَفَّفُوا الحَاجَةَ مِن الحائِجةِ، أَلَا تَرَاهم جَمعوهَا على حَوائِجَ، فأَثبَت صِحَّةَ حَوَائِج، وأَنها من كلامِ العَربِ وأَن حَاجَةً مَحْذُوفَةٌ من حائجةٍ، وإِن كان لمْ يُنْطَق بها عِنْدَهم، قال: وكذلك ذَكَرَهَا عُثْمَانُ بْنُ جِنّي في كتابه الّلمع، وحكى المُهَلَّبِيّ عن ابن دُرَيْد أَنه قال حاجَةٌ وحائِجةٌ، وكذلك حكى عن أَبي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ أَنه يُقَال: في نَفْسِي حاجَةٌ، وحَائجَةٌ وحَوْجَاءٌ، والجمع حَاجَاتٌ وحَوَائِجُ وحَاجٌ وحِوَجٌ، وذَكَرَ ابنُ السّكّيت في كتابِه الأَلفاظ: باب الحَوَائِج، يقال في جمعِ حَاجَةٍ حَاجَات وحاجٌ وحِوَجٌ وحَوَائِجُ.
وذهب قومٌ مِن أَهلِ اللُّغَةِ إِلى أَن حَوائجَ يَجوزُ أَن يكونَ جَمْعَ حَوْجاءَ وقِيَاسُهَا حَوَاج مثلُ صَحارٍ ثم قُدِّمت الياءُ على الجيمِ فصارَ حَوائِجَ، والمَقْلُوبُ في كلامِ العَرَبِ كثيرٌ والعربُ تقول: بُدَاءَاتُ حَوَائِجكَ، في كَثِيرٍ مِن كلامِهم، وكثيرًا ما يقول ابنُ السِّكّيت: إِنهم كانوا يَقْضُون حَوائِجَهم في البَسَاتِينِ والرَّاحَات، وإِنما غَلَّطَ الأَصمعيُّ في هذه اللَّفْظَةِ كما حُكِيَ عنه، حتّى جَعَلَهَا مُوَلَّدَة، كَوْنُها خَارِجَةً عن القياسِ، لأَنّ ما كان عَلَى مِثْلِ الحَاجَةِ مِثْل غَارَةٍ وحَارَةٍ، لا يُجْمَع على غَوَائِرَ وحَوَائِرَ، فقطع بِذلك على أَنّهَا مُوَلَّدةٌ غيرُ فَصِيحَة، على أَنه قد حَكَى الرَّقَاشيُّ والسِّجِسْتَانيُّ، عن عبد الرَّحمن عن الأَصمعيّ أَنه رَجَعَ عن هذا القَوْل وإِنما هو شَيءٌ كانَ عَرَضَ له من غير بَحْثٍ ولا نَظَرٍ، قال: وهذا الأَشْبهُ بهِ، لأَن مِثلَه لا يَجْهَلُ ذلك إِذْ كَانَ مَوْجُودًا في كلامِ النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وكلامِ العربِ الفُصْحَاءِ، وكأَنّ الحَرِيريّ لم يَمُرَّ به إِلَّا القَولُ الأَوّلُ عن الأَصمعيّ دونَ الثاني، والله أَعلم. انتهى من لسان العرب، وقد أَخذَه شيخُنَا بعينه في الشرح.
والحَاجُ: شَوْكٌ، أَورَدَهُ الجَوْهَرِيّ هنا، وتَبعه المصنّف، وأَورده ابنُ منظورٍ وغيرُه في ح ي ج، كما سيأْتي بيانُه هُناك.
وحَوَّجَ به عن الطَّرِيق تَحْوِيجًا: عَوَّجَ، كأَنّ الحاءَ لُغَةٌ في العين.
ويقال ما فِي صَدْرِي حَوْجَاءُ ولا لوْجاءُ ولا مِرْيَةٌ ولا شَكٌّ، بمعنًى واحِدٍ، عن ثعلب، ويقال: ليس في أَمْرِك حُوَيْجَاءُ ولا لُوَيْجَاءُ ولا رُوَيْغَة.
وعن الَّلحْيَانيّ: ما لِي فيه حَوْجَاءُ ولا لَوْجَاءُ، ولا حُوَيْجَاءُ ولا لُوَيْجَاءُ؛ أَي حاجَةٌ وما بَقِيَ في صدرِه حَوْجَاءُ ولا لَوْجَاءُ إِلَّا قَضَاهَا، قال قَيْسُ بن رِفَاعَةَ:
مَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ حَوْجَاءُ يَطْلُبُهَا *** عِنْدِي فإِني لَهُ رَهْنٌ بِإِصْحارِ
ويقال: كَلَّمْتُه فَمَا رَدَّ عَلَيَّ حَوْجَاءَ ولا لَوْجَاءَ؛ أَي ما رَدَّ عَلَيَّ كَلِمةً قَبِيحَةً ولا حَسَنَةً، وهذا كقولهم: فما رَدَّ عَليَّ سَوْدَاءَ ولا بَيْضَاءَ.
ويقال: خُذْ حُوَيْجَاءَ مِن الأَرْضِ؛ أَي طَرِيقًا مُخَالفًا مُلْتَوِيًا.
وحَوَّجْتُ لَهُ تَحوِيجًا: تَرَكْتُ طَرِيقي فِي هَواهُ.
واحْتَاجَ إِليه: افْتَقَرَ، و: انْعَاجَ وذُو الحَاجَتَيْنِ لَقَبُ مُحَمَّد بن إِبراهِيمَ بْنِ مُنْقِذٍ، وهو أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ أَبا العَبَّاسِ عبدَ الله العَبّاسيَّ السَّفَّاحَ، وهو أَوَّلُ العَبَّاسِيِّينَ.
* ومِمّا يُسْتَدرَكُ عَليْه:
حاجَةٌ حائِجَةٌ، على المُبَالغةِ، وقالوا: حَاجَةٌ حَوْجَاءُ.
والمُحْوِجُ المُعْدِمُ، من قَوْمٍ مَحَاوِيجَ. قال ابنُ سِيدَه: وعندي أَن مَحَاوِيجَ إِنما هو جمعُ مِحْوَاجٍ إِن كان قِيلَ، وإِلّا فلا وَجْهَ للواو.
وأَحْوَجَه إِلى غيره.
وأَحْوَجَ ـ أَيضًا ـ احتاجَ.
وفي الحديث: «قال له رجلٌ يا رَسُولَ اللهِ، ما تَرَكْتُ مِن حاجَةٍ ولا دَاجَةٍ إِلّا أَتَيْتُ» أَي ما تَرَكْتُ شيئًا من المعاصي ودَعتْنِي إِليه نَفْسِي إِلّا وقد رَكِبْتُه. ودَاجَةٌ إِتباعٌ لحاجَة، والأَلفُ فيها مُنْقَلِبَةٌ عن الواو.
وحكَى الفارِسيُّ عن ابن دِريد: حُجْ حُجَيَّاكَ. قال:
كأَنَّه مقلوبُ موضعِ اللامِ إِلى العَيْنِ.
* قال شيخنا: وبَقيَ عليه وعلى الجَوْهريّ التنّبيهُ عَلى أَنّ أَحْوَجَ وأَحْوَجْتُه على خِلاف القِيَاس في وروده غير معتلٍّ، نَظير:
صَدَدْتِ فَأَطْوَلْتِ الصُّدُودَ
البيت، وكان القياس الإِعلال، كأَطاعَ وأَقامَ، ففيه أَنه وَردَ من باب فَعلَ وأَفعَل بمعنًى، وأَنه استُعْمِلَ صحيحًا وقياسُه الإِعلالُ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
23-المصباح المنير (نفل)
النَّفَلُ الْغَنِيمَةُ قَالَإنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَل
أَيْ خَيْرُ غَنِيمَةٍ وَالْجَمْعُ أَنْفَالٌ مِثْلُ سَبَبٍ وَأَسْبَابٍ وَمِنْهُ النَّافِلَةُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْفَرِيضَةِ وَالْجَمْعُ نَوَافِلُ وَالنَّفَلُ مِثْلُ فَلْسٍ مِثْلُهَا وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ نَافِلَةٌ أَيْضًا وَأَنْفَلْتُ الرَّجُلَ وَنَفَّلْتُهُ بِالْأَلِفِ وَبِالتَّثْقِيلِ وَهَبْتُ لَهُ النَّفَلَ وَغَيْرَهُ وَهُوَ عَطِيَّةٌ لَا تُرِيدُ ثَوَابَهَا مِنْهُ وَتَنَفَّلْتُ فَعَلْتُ النَّافِلَةَ وَتَنَفَّلْتُ عَلَى أَصْحَابِي أَخَذْتُ نَفْلًا عَنْهُمْ أَيْ زِيَادَةً عَلَى مَا أَخَذُوا.
المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م
24-لسان العرب (حوب)
حوب: الحَوْبُ والحَوْبَةُ: الأَبَوانِ والأُخْتُ والبِنْتُ.وَقِيلَ: لِي فِيهِمْ حَوْبَةٌ وحُوبَةٌ وحِيبَةٌ أَي قَرَابَةٌ مِنْ قِبَلِ الأُمِّ، وَكَذَلِكَ كلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ.
وَإِنَّ لِي حَوْبَةً أَعُولُها أَي ضَعَفَة وعِيالًا.
ابْنُ السِّكِّيتِ: لِي فِي بَني فُلان حَوْبَةٌ، وبعضُهم يَقُولُ حِيبَةٌ، فَتَذْهَبُ الواوُ إِذَا انْكَسَر مَا قَبْلَها، وَهِيَ كلُّ حُرْمةٍ تَضِيع مِنْ أُمٍّ أَو أُخْت أَو بِنتٍ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ كُلِّ ذاتِ رَحِمٍ.
وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: لِي فِيهِمْ حَوْبَة إِذَا كَانَتْ قَرَابَةٌ مِنْ قِبَلِ الأُمّ، وَكَذَلِكَ كلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «اتَّقُوا اللهَ فِي الحَوْبَاتِ»؛ يريدُ النِّساءَ المُحْتاجات، اللَّاتي لَا يَسْتَغْنِينَ عَمَّنْ يقومُ عليهِنَّ، ويَتَعَهَّدُهُنَّ؛ وَلَا بُدَّ فِي الكلامِ مِنْ حذفِ مُضافٍ تَقْدِيرُه ذَاتُ حَوْبَةٍ، وَذَاتُ حَوْباتٍ.
والحَوْبَةُ: الحاجَة.
وَفِي حَدِيثِ الدعاءِ: «إِلَيْكَ أَرْفَعُ حَوْبَتي»؛ أي حاجَتي.
وَفِي رِوَايَةٍ: نَرْفَعُ حَوْبَتَنا إِلَيْكَ
أَي حاجَتَنا.
والحَوْبَة رِقَّةُ فُؤَادِ الأُمِّ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
فهَبْ لِي خُنَيْسًا، واحْتَسِبْ فِيهِ مِنَّةً ***لحَوْبَةِ أُمٍّ، مَا يَسُوغُ شَرَابُها
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَالسَّبَبُ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ هَذَا الْبَيْتَ، أَن امرأَةً عاذتْ بِقَبْرِ أَبيه غالبٍ، فَقَالَ لَهَا: مَا الَّذِي دَعاكِ إِلَى هَذَا؟ فَقَالَتْ: إِنَّ لِي ابْنًا بالسِّنْدِ، فِي اعْتِقالِ تَمِيمِ بْنِ زَيْدٍ القَيْنيِّ، وَكَانَ عامِلَ خالدٍ القَسْرِيِّ عَلَى السِّنْدِ؛ فكتَبَ مِنْ ساعتِه إِلَيْهِ:
كَتَبْتُ وعَجَّلْتُ البِرَادَةَ إنَّنِي، ***إِذَا حاجَة حاوَلْتُ، عَجَّتْ رِكابُها
ولِي، بِبِلادِ السِّنْدِ، عِنْدَ أَميرِها، ***حَوائِجُ جَمَّاتٌ، وعندِي ثوابُها
أَتتْنِي، فعاذَتْ ذاتُ شَكْوَى بغالِبٍ، ***وبالحرَّةِ، السَّافِي عَلَيْهِ تُرابُها
فقُلْتُ لَها: إيهِ؛ اطْلُبِي كُلَّ حاجةٍ ***لَدَيَّ، فخَفَّتْ حاجةٌ وطِلَابُها
فقالَتْ بِحُزْنٍ: حاجَتِي أَنَّ واحِدِي ***خُنَيْسًا، بأَرْضِ السِّنْدِ، خَوَّى سَحابُها
فَهَبْ لِي خُنَيْسًا، واحْتَسِبْ فِيهِ مِنَّةً ***لِحَوْبَةِ أُمٍّ، مَا يَسُوغُ شَرابُهَا
تَمِيمَ بنَ زَيْدٍ، لَا تَكُونَنَّ حاجَتِي، ***بِظَهْرٍ، وَلَا يَعيا، عَلَيْكَ، جَوابُها
وَلَا تَقْلِبَنْ، ظَهْرًا لِبَطْنٍ، صَحِيفَتِي، ***فَشَاهِدُهَا، فِيها، عَلَيْكَ كِتابُها
فَلَمَّا وَرَدَ الكِتابُ عَلَى تَميمٍ، قَالَ لِكَاتِبِهِ: أَتَعْرِفُ الرَّجُلَ؟ فَقَالَ: كَيفَ أَعْرِفُ مَنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى أبٍ وَلَا قَبِيلَةٍ، وَلَا تحَقَّقْت اسْمَه أَهُو خُنَيْسٌ أَو حُبَيْشٌ؟ فَقَالَ: أَحْضِرْ كُلَّ مَن اسْمُه خُنَيْسٌ أَو حُبَيْشٌ؛ فأَحْضَرَهم، فوجَدَ عِدَّتَهُم أَرْبَعِين رجُلًا، فأَعْطَى كلَّ واحِدٍ منهُم مَا يَتَسَفَّرُ بهِ، وَقَالَ: اقْفُلُوا إِلَى حَضْرة أَبي فِراسٍ.
والحَوْبَة والحِيبَة: الهَمُّ والحاجَة؛ قَالَ أَبو كَبِير الهُذلي:
ثُمَّ انْصَرَفْتُ، وَلَا أَبُثُّكَ حِيبَتِي، ***رَعِشَ البَنانِ، أَطِيشُ، مَشْيَ الأَصْورِ
وَفِي الدعاءِ عَلَى الإِنْسانِ: أَلْحَقَ اللهُ بِهِ الحَوْبَة أَي الحاجَةَ والمَسْكَنَة والفَقْرَ.
والحَوْبُ: الجَهْدُ والحاجَة؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:
وصُفَّاحَة مِثْل الفَنِيقِ، مَنَحْتها ***عِيالَ ابنِ حَوْبٍ، جَنَّبَتْه أَقارِبُهْ
وَقَالَ مرَّة: ابنُ حَوْبٍ رجلٌ مَجْهودٌ مُحْتاجٌ، لَا يَعْنِي فِي كلِّ ذَلِكَ رجُلًا بعَيْنِه، إِنَّمَا يريدُ هَذَا النوعَ.
ابْنُ الأَعرابي: الحُوبُ: الغَمُّ والهَمُّ والبَلاءُ.
وَيُقَالُ: هَؤُلاءِ عيالُ ابنِ حَوْبٍ.
قَالَ: والحَوْبُ: الجَهْدُ والشِّدَّة.
الأَزهري: والحُوبُ: الهَلاكُ؛ وَقَالَ الْهُذَلِيُّ:
وكُلُّ حِصْنٍ، وإنْ طَالَتْ سَلامَتُه، ***يَومًا، ستُدْرِكُه النَّكْراءُ والحُوبُ
أَي يَهْلِكُ.
والحَوْبُ والحُوبُ: الحُزنُ؛ وَقِيلَ: الوَحْشة؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
إنَّ طَريقَ مِثْقَبٍ لَحُوبُ أَي وَعْثٌ صَعْبٌ.
وَقِيلَ فِي قَوْلِ أَبي دُوَاد الإِيادي: يَوْمًا سَتُدْرِكه النَّكْراءُ والحُوبُ
أَي الوَحْشَة؛ وَبِهِ فَسَّرَ الهَرَوِيُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبي أَيُّوب الأَنصاري، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى طَلاق أُمِّ أَيُّوبَ: إنَّ طَلاقَ أُمِّ أَيُّوبَ لَحُوبٌ.
التَّفْسِيرُ عَنْ شَمِرٍ، قَالَ ابْنُ الأَثير: أَي لَوَحْشَة أَو إثْمٌ.
وَإِنَّمَا أَثَّمَه بطلاقِها لأَنَّها كَانَتْ مُصْلِحةً لَهُ فِي دِينِهِ.
والحَوْبُ: الْوَجَعُ.
والتَّحَوُّبُ: التَّوَجُّعُ، والشَّكْوَى، والتَّحَزُّنُ.
وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَتَحَوَّب مِنْ كَذَا أَي يَتَغَيَّظُ مِنْهُ، ويَتَوَجَّعُ.
وحَوْبَةُ الأُمِّ عَلى وَلَدِها وتَحَوُّبُها: رِقَّتُها وتَوَجُّعُها.
وَفِيهِ: مَا زَالَ صَفْوانُ يَتَحَوَّبُ رِحَالَنَا مُنْذ
اللَيْلَة؛ التَّحَوُّبُ: صَوْتٌ مَعَ تَوَجعٍ، أَراد بِهِ شدَّةَ صِياحِهِ بالدُّعاءِ؛ ورِحَالَنَا منصوبٌ عَلَى الظَّرْفِ.
والحَوْبَةُ والحِيبَة: الهَمُّ والحُزْنُ.
وَفِي حَدِيثِ عُرْوَة لمَّا ماتَ أَبُو لَهَبٍ: «أُرِيَه بعضُ أَهْلِه بشَرِّ حِيبَةٍ»أَي بشَرِّ حالٍ.
والحِيبَةُ والحَوْبَة: الهَمُّ والحُزْنُ.
والحِيبَة أَيضًا: الحاجَةُ والمَسْكَنة؛ قَالَ طُّفَيْل الغَنَوي:
فَذُوقُوا كَمَا ذُقْنا، غَداةَ مُحَجَّرٍ، ***مِنَ الغَيْظِ، فِي أَكْبادِنا، والتَّحَوُّبِ
وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: التَّحَوُّبُ فِي غَيْرِ هَذَا التَّأَثُّم مِنَ الشيءِ، وَهُوَ مِنَ الأَوَّلِ، وبعضُه قريبٌ مِنْ بَعْضٍ.
وَيُقَالُ لابنِ آوَى: هُوَ يَتَحَوَّبُ، لأَنَّ صَوْتَه كَذَلِكَ، كأَنه يَتَضَوَّرُ.
وتحَوَّبَ فِي دُعَائِهِ: تَضَرَّعَ.
والتَّحَوُّب أَيضًا: البكاءُ فِي جَزَعٍ وصِياحٍ، ورُبَّما عَمَّ بِهِ الصِّياحَ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ:
وصَرَّحَتْ عَنْهُ، إِذَا تحوَّبا، ***رواجبُ الجوفِ السحيلَ الصُّلَّبا
وَيُقَالُ: تحَوَّبَ إِذَا تَعَبَّد، كأَنه يُلْقِي الحُوبَ عَنْ نَفسِه، كَمَا يُقَالُ: تَأَثَّمَ وتحَنَّثَ إِذَا أَلْقَى الحِنْثَ عَنْ نَفْسِه بالعِبادةِ؛ وَقَالَ الكُمَيْت يَذْكُرُ ذِئْبًا سَقاهُ وأَطْعَمَه:
وصُبَّ لَهُ شَوْلٌ، مِن الماءِ، غائرٌ ***بِهِ كَفَّ عَنْهُ، الحِيبةَ، المُتَحَوِّبُ
والحِيبة: ما يُتَأَثَّم مِنْهُ.
وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اقْبَلْ تَوْبَتِي، وارْحَمْ حَوْبَتِي»؛ فحَوْبَتِي، يَجُوزُ أَن تَكُونَ هُنَا توَجُّعِي، وأَن تكونَ تَخَشُّعِي وتَمَسْكُنِي لَكَ.
وَفِي التَّهْذِيبِ:
رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي واغْسِلْ حَوْبَتِي.
قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: حَوْبَتِي يَعْنِي المَأْثمَ، وتُفْتَح الْحَاءُ وتُضَم، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا}.
قَالَ: وَكُلُّ مَأْثَمٍ حُوبٌ وحَوْبٌ، وَالْوَاحِدَةُ حَوْبةٌ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَن رجُلًا أَتَى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أَتيتُك لأُجاهِدَ مَعَكَ؛ فَقَالَ: أَلَكَ حَوْبةٌ؟ قَالَ: نعم.
قال: فَفِيها فجاهِدْ.
قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: يَعْنِي مَا يَأْثَمُ بِهِ إنْ ضَيَّعه مِنْ حُرْمةٍ.
قَالَ: وبعضُ أَهلِ العِلْمِ يَتَأَوّلُه عَلَى الأُمِّ خاصَّةً.
قَالَ: وَهِيَ عِنْدِي كلُّ حُرْمةٍ تَضِيعُ إِنْ تَركَها، مَن أُمٍّ أَو أُخْتٍ أَو ابْنةٍ أَو غَيْرِهَا.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّمَا فلانٌ حَوْبةٌ أَي لَيْسَ عِنْدَهُ خيرٌ وَلَا شرٌّ.
وَيُقَالُ: سمعتُ مِنْ هَذَا حَوْبَيْنِ، ورأَيتُ مِنْهُ حَوْبَيْن أَي فَنَّيْن وضَرْبَيْن؛ وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
تَسْمَعُ، مِنْ تَيْهائهِ الأَفْلالِ، ***حَوْبَينِ مِنْ هَماهِمِ الأَغْوالِ
أَي فنَّيْن وضَرْبَين، وَقَدْ رُوِيَ بيتُ ذِي الرُّمَّة بِفَتْحِ الْحَاءِ.
والحَوْبَة والحُوبة: الرجُلُ الضَّعيفُ، وَالْجَمْعُ حُوَب، وَكَذَلِكَ المرأَة إِذَا كَانَتْ ضعِيفة زَمِنة.
وَبَاتَ فلانٌ بِحيبةِ سُوءٍ وحَوبةِ سوءٍ أَي بحالِ سُوءٍ؛ وَقِيلَ: إِذَا باتَ بِشِدَّةٍ وحالٍ سَيِّئةٍ لَا يُقَالَ إِلَّا فِي الشَّر؛ وَقَدِ استُعمل مِنْهُ فعْلٌ قَالَ:
وَإِنْ قَلُّوا وحابُوا
ونزَلنا بِحيبةٍ مِنَ الأَرض وحُوبةٍ أَي بأَرض سوءٍ.
أَبو زَيْدٍ: الحُوبُ: النَّفْسُ، والحَوْباءُ: النَّفْسُ، ممدودةٌ ساكنةُ الْوَاوِ، وَالْجَمْعُ حَوْباواتٌ؛ قَالَ رؤْبة:
وقاتِلٍ حَوْباءَهُ مِنْ أَجْلي، ***لَيْسَ لَهُ مِثْلي، وأَينَ مِثْلي؟
وَقِيلَ: الحَوْباءُ رُوعُ القَلْبِ؛ قَالَ:
ونَفْسٍ تَجُودُ بحَوْبائها وَفِي حَدِيثِ ابنِ الْعَاصِ: «فَعَرَفَ أَنه يريدُ حَوْباءَ نَفْسه».
والحَوْبُ والحُوبُ والحابُ: الإِثْمُ، فالحَوْبُ، بِالْفَتْحِ، لأَهْلِ الْحِجَازِ، والحُوبُ، بِالضَّمِّ، لتَميمٍ، والحَوْبةُ: المَرَّة الْوَاحِدَةُ مِنْهُ؛ قَالَ الْمُخَبَّلُ:
فَلا يَدْخُلَنَّ، الدَّهْرَ، قَبرَكَ، حَوْبَةٌ ***يَقُومُ، بِهَا، يَومًا، عَليْكَ حَسيبُ
وَقَدْ حَابَ حَوبًا وحِيبَةً.
قَالَ الزَّجَّاجُ: الحُوبُ الإِثْمُ، والحَوْبُ فِعْلُ الرَّجُلِ؛ تقولُ: حابَ حَوْبًا، كَقَوْلِكَ: قَدْ خانَ خَونًا.
وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنّ النبي، صلى الله عليه وَسَلَّمَ، قَالَ: «الرِّبا سَبْعُونَ حَوبًا»، أَيْسَرُها مِثْلُ وُقُوعِ الرجُلِ عَلَى أُمِّهِ، وأَرْبَى الرِّبا عِرْض المُسْلِمِ.
قَالَ شَمِرٌ: قَوْلُهُ سَبْعون حَوْبًا، كأَنَّه سَبْعُونَ ضَرْبًا مِنَ الإِثْمِ.
الفرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ كانَ حُوبًا: الحُوبُ الإِثم الْعَظِيمُ.
وقرأَ الْحَسَنُ: إنَّه كَانَ حَوْبًا؛ وَرَوَى سَعْدٌ عَنْ قَتادة أَنه قَالَ: إِنَّهُ كانَ حُوبًا أَي ظُلْمًا.
وَفُلَانٌ يَتَحوَّب مِنْ كذَا أَي يتَأَثَّم.
وتَحَوَّب الرجُل: تَأَثَّمَ.
قَالَ ابْنُ جِنِّي: تَحَوَّبَ تَرَكَ الحُوبَ، مِنْ بَابِ السَّلْبِ، ونَظِيرُه تأَثَّمَ أَي تَرَكَ الإِثْمَ، وَإِنْ كانَ تَفَعَّل لِلإِثباتِ أَكْثرَ مِنْهُ، لِلسَّلْبِ، وَكَذَلِكَ نَحْوُ تَقَدَّم وتأَخَّر، وتعَجَّل وتأَجَّل.
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ إِذَا دَخَلَ إِلَى أَهْلِه قَالَ: تَوْبًا تَوْبًا، لَا يُغادِرُ عَلَيْنا حَوْبًا».
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: إنَّ الجَفاءَ والحَوْبَ فِي أَهْلِ الوبرِ والصُّوفِ.
وتَحَوَّب مِنَ الإِثمِ إِذَا تَوَقَّاه، وأَلقى الحَوْبَ عَنْ نفسِه.
وَيُقَالُ: حُبْتَ بِكَذَا أَي أَثِمْتَ، تَحوبُ حَوْبًا وحَوْبَة وحِيابَةً؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
صَبْرًا، بَغِيض بنَ رَيْثٍ؛ إنَّها رَحِمٌ ***حُبْتُمْ بِهَا، فأَناخَتْكُمْ بجَعْجَاعِ
وفلانٌ أَعَقُّ وأَحْوَبُ.
قَالَ الأَزهري: وَبَنُو أَسد يَقُولُونَ: الحائِبُ للقاتِل، وَقَدْ حَاب يحُوبُ.
والمُحَوِّب والمُتَحَوِّبُ الَّذِي يَذْهَب مالُه ثُمَّ يَعودُ.
اللَّيْثُ: الحَوْبُ الضَّخمُ مِنَ الجِمالِ؛ وأَنشد:
وَلَا شَرِبَتْ فِي جِلْدِ حَوْب مُعَلَّبِ قَالَ: وسُمِّيَ الجَمَلُ حَوْبًا بزَجْره، كَمَا سُمِّيَ البَغْلُ عَدَسًا بزَجْرِه، وسُمِّيَ الغُراب غَاقًا بصَوْتِهِ.
غَيْرُهُ: الحَوْبُ الجَمَلُ، ثُمَّ كَثُر حَتَّى صارَ زجْرًا لَهُ.
قَالَ اللَّيْثُ: الحَوْبُ زَجْرُ البَعير ليَمْضِيَ، وللنَّاقةِ: حَلْ، جَزْمٌ، وحَلٍ وحَلي.
يقال للبَعير إِذَا زُجِرَ: حَوْبَ، وحوبِ، وحَوْبُ، وحابِ.
وحَوَّبَ بالإِبِلِ: قَالَ لَهَا حَوْب، والعَرَبُ تَجُرُّ ذَلِكَ، وَلَوْ رُفِعَ أَو نُصِبَ، لكان جائِزًا، لأَنَّ الزَّجْرَ والحِكاياتِ تُحَرَّك أَواخِرُها، عَلَى غيرِ إعرابٍ لازمٍ، وَكَذَلِكَ الأَدواتُ الَّتِي لَا تَتَمَكَّن فِي التَّصْريفِ، فَإِذَا حُوِّلَ مِنْ ذَلِكَ شيءٌ إِلَى الأَسماءِ، حُمِلَ عَلَيْهِ الأَلف وَاللَّامُ، فأُجْريَ مُجْرَى الأَسْماءِ، كَقَوْلِهِ: والحَوْبُ لمَّا يُقَلْ والحَلُ وحَوَّبْت بالإِبل: مِنَ الْحُوبِ.
وحَكَى بَعْضُهُمْ: حَبْ لَا مَشَيْتَ، وحَبٍ لَا مَشَيْتَ، وحَابِ لا مَشَيْت، وحَابٍ لَا مَشَيْتَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ قَالَ: آيِبُون تائِبُون، لرَبِّنا حامدُون، حَوْبًا حَوْبًا».
قَالَ: كأَنه لَمَّا فَرَغَ مِنْ كَلَامِهِ، زَجَر بَعِيرَه.
والحَوْبُ: زَجْرٌ لذكُور الإِبِلِ.
ابْنُ الأَثير: حَوْبُ زَجْرٌ لِذُكُورة الإِبل، مثلُ حَلْ لإِناثِها، وَتُضَمُّ الْبَاءُ وَتُفْتَحُ وَتُكْسَرُ، وَإِذَا نُكِّر دَخَلَهُ التَّنْوِينُ، فَقَوْلُهُ: حَوْبًا حَوْبًا، بمنزلةِ قَوْلِكَ: سَيْرًا سَيْرًا؛ فأَما قَوْلُهُ:
هِيَ ابْنَةُ حَوْبٍ، أُمُّ تِسْعينَ، آزَرَتْ ***أَخا ثِقَةٍ، تَمْري، جَباها، ذَوائِبُهْ
فَإِنَّهُ عَنى كِنانَةً عُمِلَت مِنْ جِلْدِ بعيرٍ، وَفِيهَا تِسْعونَ سَهْمًا، فَجَعَلَهَا أُمًّا لِلسِّهَامِ، لأَنها قَدْ جَمَعَتْهَا، وَقَوْلُهُ: أَخَا ثِقَةٍ، يَعْنِي سَيْفًا، وجَباها: حَرْفُها، وَذَوائِبُه: حَمَائِلُهُ أَي إِنَّهُ تَقَلَّد السَّيْفَ، ثُمَّ تَقَلَّدَ بَعْدَهُ الكِنانةَ تَمْرِي حَرْفَها، يُرِيدُ حرفَ الكِنانَة.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي كَلَامٍ لَهُ: حَوْبُ حَوْبُ، [حَوْبِ حَوْبِ] إِنَّهُ يومُ دَعْقٍ وشَوْب، لَا لَعًا لبَني الصَّوبِ.
الدَّعْق: الوَطْءُ الشدِيدُ، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ الحوأَب هُنَا.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَحَقُّهُ أَن يُذْكر فِي حأَب، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
25-لسان العرب (حوج)
حوج: الحاجَةُ والحائِجَةُ: المَأْرَبَةُ، مَعْرُوفَةٌ.وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ}؛ قَالَ ثَعْلَبٌ: يَعْنِي الأَسْفارَ، وجمعُ الْحَاجَةِ حاجٌ وحِوَجٌ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
لَقَدْ طالَ مَا ثَبَّطْتَني عَنْ صَحابَتي، ***وعَنْ حِوَجٍ، قَضَاؤُها مِنْ شِفَائِيَا
وَهِيَ الحَوْجاءُ، وَجَمْعُ الحائِجَة حوائجُ.
قَالَ الأَزهري: الحاجُ جمعُ الحاجَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَوَائِجُ وَالْحَاجَاتُ؛ وأَنشد شَمِرٌ:
والشَّحْطُ قَطَّاعٌ رَجاءَ مَنْ رَجا، ***إِلَّا احْتِضارَ الحاجِ مَنْ تَحَوَّجا
قَالَ شَمِرٌ: يَقُولُ إِذا بَعُدَ مَنْ تُحِبُّ انْقَطَعَ الرَّجَاءُ إِلَّا أَن تَكُونَ حَاضِرًا لِحَاجَتِكَ قَرِيبًا مِنْهَا.
قَالَ: وَقَالَ رجاء من رجاء، ثُمَّ اسْتَثْنَى، فَقَالَ: إِلا احْتِضَارَ الْحَاجِ، أَن يَحْضُرَهُ.
وَالْحَاجُ: جَمْعُ حَاجَةٍ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
وأُرْضِعُ حاجَةً بِلِبانِ أُخْرى، ***كَذَاكَ الحاجُ تُرْضَعُ باللِّبانِ
وتَحَوَّجَ: طَلَبَ الحاجَةَ؛ وَقَالَ الْعَجَّاجُ:
إِلَّا احْتِضارَ الحاجِ مَنْ تَحَوَّجا
والتَحَوُّجُ: طَلَبُ الْحَاجَةِ بَعْدَ الْحَاجَةِ.
والتَحَوُّج: طلبُ الحاجَةِ.
غَيْرُهُ: الحاجَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، الأَصل فِيهَا حائجَةٌ، حَذَفُوا مِنْهَا الْيَاءَ، فَلَمَّا جَمَعُوهَا رَدُّوا إِليها مَا حَذَفُوا مِنْهَا فَقَالُوا: حاجةٌ وحوائجُ، فَدَلَّ جَمْعُهُمْ إِياها عَلَى حَوَائِجَ أَن الْيَاءَ مَحْذُوفَةٌ مِنْهَا.
وحاجةٌ حائجةٌ، عَلَى الْمُبَالَغَةِ.
اللَّيْثُ: الحَوْجُ، مِنَ الحاجَة.
وَفِي التَّهْذِيبِ: الحِوَجُ الحاجاتُ.
وَقَالُوا: حاجةٌ حَوْجاءُ.
ابْنُ سِيدَهْ: وحُجْتُ إِليك أَحُوجُ حَوْجًا وحِجْتُ، الأَخيرةُ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ؛ وأَنشد لِلْكُمَيْتِ بْنِ مَعْرُوفٍ الأَسدي:
غَنِيتُ، فَلَم أَرْدُدْكُمُ عِنْدَ بُغْيَةٍ، ***وحُجْتُ، فَلَمْ أَكْدُدْكُمُ بِالأَصابِع
قَالَ: وَيُرْوَى وحِجْتُ؛ قَالَ: وإِنما ذَكَرْتُهَا هُنَا لأَنها مِنَ الْوَاوِ، قَالَ: وَسَنَذْكُرُهَا أَيضا فِي الْيَاءِ لِقَوْلِهِمْ حِجْتُ حَيْجًا.
واحْتَجْتُ وأَحْوَجْتُ كَحُجْتُ.
اللِّحْيَانِيُّ: حاجَ الرجلُ يَحُوجُ ويَحِيجُ، وَقَدْ حُجْتُ وحِجْتُ أَي احْتَجْتُ.
والحَوْجُ: الطَّلَبُ.
والحُوجُ: الفَقْرُ؛ وأَحْوَجَه اللَّهُ.
والمُحْوِجُ: المُعْدِمُ مِنْ قَوْمٍ مَحاويجَ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَن مَحاويجَ إِنما هُوَ جَمْعُ مِحْواجٍ، إِن كَانَ قِيلَ، وإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِلْوَاوِ.
وتَحَوَّجَ إِلى الشَّيْءِ: احْتَاجَ إِليه وأَراده.
غَيْرُهُ: وَجَمْعُ الحاجةِ حاجٌ وحاجاتٌ وحَوائِجُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كأَنهم جَمَعُوا حائِجَةً، وَكَانَ الأَصمعي يُنْكِرُهُ وَيَقُولُ هُوَ مولَّد؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وإِنما أَنكره لِخُرُوجِهِ عَنِ الْقِيَاسِ، وإِلَا فَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ وَيَنْشُدُ:
نَهارُ المَرْءِ أَمْثَلُ، حِينَ تُقْضَى ***حَوائِجُهُ، مِنَ اللَّيْلِ الطَّويلِ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: إِنما أَنكره الأَصمعي لِخُرُوجِهِ عَنْ قِيَاسِ جَمْعِ حَاجَةٍ؛ قَالَ: وَالنَّحْوِيُّونَ يَزْعُمُونَ أَنه جَمْعٌ لِوَاحِدٍ لَمْ يُنْطَقْ بِهِ، وَهُوَ حَائِجَةٌ.
قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنه سُمِعَ حائِجَةٌ لُغَةٌ فِي الحاجةِ.
قَالَ: وأَما قَوْلُهُ إِنه مُوَلَّدٌ فإِنه خطأٌ مِنْهُ لأَنه قَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَشعار الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ، فَمِمَّا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَن رَسُولَ اللَّهِ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِن لِلَّهِ عِبَادًا خَلَقَهُمْ لِحَوَائِجِ النَّاسِ، يَفْزَعُ الناسُ إِليهم فِي حَوَائِجِهِمْ، أُولئك الْآمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيضًا: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اطْلُبُوا الحوائجَ إِلى حِسانِ الْوُجُوهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَعِينُوا عَلَى نَجاحِ الْحَوَائِجِ بالكِتْمانِ لَهَا؛ وَمِمَّا جَاءَ فِي أَشعار الْفُصَحَاءِ قَوْلُ أَبي سَلَمَةَ الْمُحَارِبِيِّ:
ثَمَمْتُ حَوائِجِي ووَذَأْتُ بِشْرًا، ***فبِئْسَ مُعَرِّسُ الرَّكْبِ السِّغابُ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: ثَمَمْتُ أَصلحت؛ وَفِي هَذَا الْبَيْتِ شَاهِدٌ عَلَى أَن حَوَائِجَ جَمْعُ حَاجَةٍ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ جَمْعُ حَائِجَةٍ لُغَةٌ فِي الحاجةِ؛ وَقَالَ الشَّمَّاخِ:
تَقَطَّعُ بَيْنَنَا الحاجاتُ إِلَّا ***حوائجَ يَعْتَسِفْنَ مَعَ الجَريء
وَقَالَ الأَعشى:
الناسُ حَولَ قِبابِهِ: ***أَهلُ الْحَوَائِجِ والمَسائلْ
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَلِي ببلادِ السِّنْدِ، عندَ أَميرِها، ***حوائجُ جمَّاتٌ، وعِندي ثوابُها
وَقَالَ هِمْيانُ بنُ قُحَافَةَ:
حَتَّى إِذا مَا قَضَتِ الحوائِجَا، ***ومَلأَتْ حُلَّابُها الخَلانِجَا
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَكُنْتُ قَدْ سُئِلْتُ عَنْ قَوْلِ الشَّيْخِ الرَّئِيسِ أَبي مُحَمَّدٍ الْقَاسِمِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَرِيرِيِّ فِي كِتَابِهِ دُرَّة الغَوَّاص: إِن لَفْظَةَ حَوَائِجَ مِمَّا توهَّم فِي اسْتِعْمَالِهَا الْخَوَاصُّ؛ وَقَالَ الْحَرِيرِيُّ: لَمْ أَسمع شَاهِدًا عَلَى تَصْحِيحِ لَفْظَةِ حَوَائِجَ إِلا بَيْتًا وَاحِدًا لِبَدِيعِ الزَّمَانِ، وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ:
فَسِيَّانِ بَيْتُ العَنْكَبُوتِ وجَوْسَقٌ ***رَفِيعٌ، إِذا لَمْ تُقْضَ فِيهِ الحوائجُ
فأَكثرت الِاسْتِشْهَادَ بِشِعْرِ الْعَرَبِ وَالْحَدِيثِ؛ وَقَدْ أَنشد أَبو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ أَيضًا:
صَرِيعَيْ مُدامٍ، مَا يُفَرِّقُ بَيْنَنا ***حوائجُ مِنْ إِلقاحِ مالٍ، وَلَا نَخْلِ
وأَنشد ابْنُ الأَعرابي أَيضًا:
مَنْ عَفَّ خَفَّ، عَلَى الوُجُوهِ، لِقاؤُهُ، ***وأَخُو الحَوائِجِ وجْهُه مَبْذُولُ
وأَنشد أَيضًا:
فإِنْ أُصْبِحْ تُخالِجُني هُمُومٌ، ***ونَفْسٌ فِي حوائِجِها انْتِشارُ
وأَنشد ابْنُ خَالَوَيْهِ:
خَلِيلَيَّ إِنْ قامَ الهَوَى فاقْعُدا بِهِ، ***لَعَنَّا نُقَضِّي مِنْ حَوائِجِنا رَمّا
وأَنشد أَبو زَيْدٍ لِبَعْضِ الرُّجّاز:
يَا رَبَّ، رَبَّ القُلُصِ النَّواعِجِ، ***مُسْتَعْجِلاتٍ بِذَوِي الحَوائِجِ
وَقَالَ آخَرُ:
بَدَأْنَ بِنا لَا راجِياتٍ لخُلْصَةٍ، ***وَلَا يائِساتٍ مِنْ قَضاءِ الحَوائِجِ
قَالَ: وَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ إِيضاحًا مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ؛ قَالَ الْخَلِيلُ فِي الْعَيْنِ فِي فَصْلِ [رَاحَ] يُقَالُ: يَوْمٌ راحٌ وكَبْشٌ ضافٌ، عَلَى التَّخْفِيفِ، مِن رَائِحٍ وَضَائِفٍ، بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ، كَمَا قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:
وسَوَّدَ ماءُ المَرْدِ فَاهَا، فَلَوْنهُ ***كَلَوْنِ النَّؤُورِ، وهْي أَدْماءُ سارُها
أَي سَائِرُهَا.
قَالَ: وَكَمَا خَفَّفُوا الْحَاجَةَ مِنَ الْحَائِجَةِ، أَلا تَرَاهُمْ جَمَعُوهَا عَلَى حَوَائِجَ؟ فأَثبت صِحَّةَ حَوَائِجَ، وأَنها مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وأَن حَاجَةً مَحْذُوفَةٌ مِنْ حَائِجَةٍ، وإِن كَانَ لَمْ يُنْطَقْ بِهَا عِنْدَهُ.
قَالَ: وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي فِي كِتَابِهِ اللُّمَعِ، وَحَكَى الْمُهَلَّبِيُّ عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ أَنه قَالَ حَاجَةٌ وَحَائِجَةٌ، وَكَذَلِكَ حُكِيَ عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنه يُقَالُ: فِي نَفْسِي حاجَةٌ وَحَائِجَةٌ وحَوْجاءُ، وَالْجَمْعُ حاجاتٌ وحوائجُ وحاجٌ وحِوَجٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِي كِتَابِهِ الأَلفاظ بَابُ الْحَوَائِجِ: يُقَالُ فِي جَمْعِ حاجةٍ حاجاتٌ وحاجٌ وحِوَجٌ وحَوائجُ.
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ، فِيمَا جَاءَ فِيهِ تَفَعَّلَ واسْتَفْعَلَ، بِمَعْنًى، يُقَالُ: تَنَجَّزَ فلانٌ حوائِجَهُ واسْتَنْجَزَ حوائجَهُ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهل اللُّغَةِ إِلى أَن حَوَائِجَ يَجُوزُ أَن يَكُونَ جَمْعَ حَوْجَاءَ، وَقِيَاسُهَا حَواجٍ، مِثْلُ صَحارٍ، ثُمَّ قُدِّمَتِ الْيَاءُ عَلَى الْجِيمِ فَصَارَ حَوائِجَ؛ وَالْمَقْلُوبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بُداءَاتُ حَوائجك، فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ.
وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ ابْنُ السِّكِّيتِ: إِنهم كَانُوا يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ فِي الْبَسَاتِينِ وَالرَّاحَاتِ، وإِنما غَلِطَ الأَصمعي فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ كَمَا حُكِيَ عَنْهُ حَتَّى جَعَلَهَا مُوَلَّدَةً كونُها خَارِجَةً عَنِ الْقِيَاسِ، لأَن مَا كَانَ عَلَى مِثْلِ الْحَاجَةِ مِثْلَ غارةٍ وحارَةٍ لَا يُجْمَعُ عَلَى غَوَائِرَ وَحَوَائِرَ، فَقَطَعَ بِذَلِكَ عَلَى أَنها مُوَلَّدَةٌ غَيْرُ فَصِيحَةٍ، عَلَى أَنه قَدْ حَكَى الرَّقَاشِيُّ وَالسِّجِسْتَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الأَصمعي أَنه رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وإِنما هُوَ شَيْءٌ كَانَ عَرَضَ لَهُ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا نَظَرٍ، قَالَ: وَهَذَا الأَشبه بِهِ لأَن مِثْلَهُ لَا يَجْهَلُ ذَلِكَ إِذ كَانَ مَوْجُودًا فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ؛ وكأَن الْحَرِيرِيَّ لَمْ يَمُرَّ بِهِ إِلا الْقَوْلُ الأَول عَنِ الأَصمعي دُونَ الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعلم.
والحَوْجاءُ: الحاجةُ.
وَيُقَالُ مَا فِي صَدْرِي بِهِ حَوْجَاءُ وَلَا لَوْجاءُ، وَلَا شَكٌّ وَلَا مِرْيَةٌ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَيُقَالُ: لَيْسَ فِي أَمرك حُوَيْجاءُ وَلَا لُوَيْجاءُ وَلَا رُوَيْغَةٌ، وَمَا فِي الأَمر حَوْجاء وَلَا لَوْجاء أَي شَكٌّ؛ عَنْ ثَعْلَبٍ.
وحاجَ يَحوجُ حَوْجًا أَي احْتَاجَ.
وأَحْوَجَه إِلى غَيْرِهِ وأَحْوَجَ أَيضًا: بِمَعْنَى احْتَاجَ.
اللِّحْيَانِيُّ: مَا لِي فِيهِحَوْجاءُ وَلَا لَوْجَاءُ وَلَا حُوَيجاء وَلَا لُوَيجاء؛ قَالَ قَيْسُ بْنُ رِفَاعَةَ:
مَنْ كانَ، فِي نَفْسِه، حَوْجاءُ يَطْلُبُها ***عِندي، فَإِني لَهُ رَهْنٌ بإِصْحارِ
أُقِيمُ نَخْوَتَه، إِنْ كَانَ ذَا عِوَجٍ، ***كَمَا يُقَوِّمُ، قِدْحَ النَّبْعَةِ، البارِي
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ: أُقِيمُ عَوْجَتَه إِن كَانَ ذَا عِوَجٍ وَهَذَا الشِّعْرُ تَمَثَّلَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بَعْدَ قَتْلِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْكُوفَةِ، فَقَالَ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ: وَمَا أَظنكم تَزْدَادُونَ بعدَ المَوْعظةِ إِلَّا شَرًّا، وَلَنْ نَزْدادَ بَعد الإِعْذار إِليكم إِلّا عُقُوبةً وذُعْرًا، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَن يَعُودَ إِليها فَلْيَعُدْ، فإِنما مَثَلي ومَثَلكم كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ رِفَاعَةَ:
مَنْ يَصْلَ نارِي بِلا ذَنْبٍ وَلَا تِرَةٍ، ***يَصْلي بنارِ كريمٍ، غَيْرِ غَدَّارِ
أَنا النَّذِيرُ لَكُمْ مِنِّي مُجاهَرَةً، ***كَيْ لَا أُلامَ عَلَى نَهْيي وإِنْذارِي
فإِنْ عَصِيْتُمْ مَقَالِي، اليومَ، فاعْتَرِفُوا ***أَنْ سَوْفَ تَلْقَوْنَ خِزْيًا، ظاهِرَ العارِ
لَتَرْجِعُنَّ أَحادِيثًا مُلَعَّنَةً، ***لَهْوَ المُقِيمِ، ولَهْوَ المُدْلِجِ السارِي
مَنْ كانَ، فِي نَفْسِه، حَوْجاءُ يَطْلُبُها ***عِندي، فإِني لَهُ رَهْنٌ بإِصْحارِ
أُقِيمُ عَوْجَتَه، إِنْ كانَ ذَا عِوَجٍ، ***كَمَا يُقَوِّمُ، قِدْحَ النَّبْعَةِ، البارِي
وصاحِبُ الوِتْرِ لَيْسَ، الدَّهْرَ، مُدْركَهُ ***عِندي، وَإِنِّي لَدَرَّاكٌ بِأَوْتارِي
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه كَوَى سَعْدَ بنَ زُرارَةَ وَقَالَ: لَا أَدع فِي نَفْسِي حَوْجاءَ مِنْ سَعْدٍ»؛ الحَوْجاءُ: الْحَاجَةُ، أَي لَا أَدع شَيْئًا أَرى فِيهِ بُرْأَة إِلّا فَعَلْتُهُ، وَهِيَ فِي الأَصل الرِّيبَةُ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلى إِزالتها؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ قَتَادَةَ قَالَ فِي سَجْدَةِ حم: أَن تَسْجُدَ بالأَخيرة مِنْهُمَا، أَحْرى أَنْ لَا يَكُونَ فِي نَفْسِكَ حَوْجاءُ أَي لَا يَكُونُ فِي نَفْسِكَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَذَلِكَ أَن مَوْضِعَ السُّجُودِ مِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، هَلْ هُوَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الأُولى أَو آخِرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، فَاخْتَارَ الثَّانِيَةَ لأَنه أَحوط؛ وأَن يَسْجُدَ فِي مَوْضِعِ المبتدإِ، وأَحرى خَبَرُهُ.
وكَلَّمه فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ حَوْجاء وَلَا لَوْجاء، مَمْدُودٌ، وَمَعْنَاهُ: مَا ردَّ عَلَيْهِ كَلِمَةً قَبِيحَةً وَلَا حَسَنَةً، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: فَمَا رَدَّ عليَّ سَوْدَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ أَي كَلِمَةً قَبِيحَةً وَلَا حَسَنَةً.
وَمَا بَقِيَ فِي صَدْرِهِ حَوْجَاءُ وَلَا لَوْجَاءُ إِلا قَضَاهَا.
وَالْحَاجَةُ: خَرَزَةٌ لَا ثَمَنَ لَهَا لِقِلَّتِهَا وَنَفَاسَتِهَا؛ قَالَ الْهُذَلِيُّ:
فَجاءَت كخاصِي العَيْرِ لَمْ تَحْلَ عاجَةً، ***وَلَا حاجَةٌ مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَرَكْتُ مِنْ حاجَةٍ وَلَا داجَةٍ إِلا أَتَيْتُ»؛ أَي مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي دَعَتْنِي نَفْسِي إِليه إِلا وَقَدْ رَكِبْتُهُ؛ وداجَةٌ إِتباع لِحَاجَةٍ، والأَلف فِيهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ.
وَيُقَالُ لِلْعَاثِرِ: حَوْجًا لَكَ أَي سلامَةً وَحَكَى الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبي زَيْدٍ: حُجْ حُجَيَّاكَ، قَالَ: كأَنه مقلوبٌ مَوْضِعُ اللَّام إِلى الْعَيْنِ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
26-لسان العرب (أثر)
أثر: الأَثر: بَقِيَّةُ الشَّيْءِ، وَالْجَمْعُ آثَارٌ وأُثور.وَخَرَجْتُ فِي إِثْره وَفِي أَثَره أَي بَعْدَهُ.
وأْتَثَرْتُه وتَأَثَّرْته: تَتَبَّعْتُ أَثره؛ عَنِ الْفَارِسِيِّ.
وَيُقَالُ: آثَرَ كَذَا وَكَذَا بِكَذَا وَكَذَا أَي أَتْبَعه إِياه؛ وَمِنْهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ يَصِفُ الْغَيْثَ:
فَآثَرَ سَيْلَ الوادِيَيْنِ بِدِيمَةٍ، ***تُرَشِّحُ وَسْمِيًّا، مِنَ النَّبْتِ، خِرْوعا
أَي أَتبع مَطَرًا تَقَدَّمَ بِدِيمَةٍ بَعْدَهُ.
والأَثر، بِالتَّحْرِيكِ: مَا بَقِيَ مِنْ رَسْمِ الشَّيْءِ.
والتأْثير: إِبْقاءُ الأَثر فِي الشَّيْءِ.
وأَثَّرَ فِي الشَّيْءِ: تَرَكَ فِيهِ أَثرًا.
والآثارُ: الأَعْلام.
والأَثِيرَةُ مِنَ الدَّوَابِّ: الْعَظِيمَةُ "الأَثَر فِي الأَرض بِخُفِّهَا أَو حَافِرِهَا بَيّنَة الإِثارَة.
وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: مَا يُدْرى لَهُ أَيْنَ أَثرٌ وَمَا يُدْرَى لَهُ مَا أَثَرٌ أَي مَا يُدْرَى أَين أَصله وَلَا مَا أَصله.
والإِثارُ: شِبْهُ الشِّمال يُشدّ عَلَى ضَرْع الْعَنْزِ شِبْه كِيس لِئَلَّا تُعانَ.
والأُثْرَة، بِالضَّمِّ: أَن يُسْحَى بَاطِنُ خُفِّ الْبَعِيرِ بِحَدِيدَةٍ ليُقْتَصّ أَثرُهُ.
وأَثَرَ خفَّ الْبَعِيرِ يأْثُرُه أَثْرًا وأَثّرَه: حَزَّه.
والأَثَرُ: سِمَة فِي بَاطِنِ خُفِّ الْبَعِيرِ يُقْتَفَرُ بِهَا أَثَرهُ، وَالْجَمْعُ أُثور.
والمِئْثَرَة والثُّؤْرُور، عَلَى تُفعول بِالضَّمِّ: حَدِيدَةٌ يُؤْثَرُ بِهَا خُفُّ الْبَعِيرِ لِيُعْرَفَ أَثرهُ فِي الأَرض؛ وَقِيلَ: الأُثْرة والثُّؤْثور والثَّأْثور، كُلُّهَا: عَلَامَاتٌ تَجْعَلُهَا الأَعراب فِي بَاطِنِ خُفِّ الْبَعِيرِ؛ يُقَالُ مِنْهُ: أَثَرْتُ البعيرَ، فَهُوَ مأْثور، ورأَيت أُثرَتَهُ وثُؤْثُوره أَي مَوْضِعَ أَثَره مِنَ الأَرض.
والأَثِيرَةُ مِنَ الدَّوَابِّ: الْعَظِيمَةُ الأَثرِ فِي الأَرض بِخُفِّهَا أَو حَافِرِهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ سَرّه أَن يَبْسُطَ اللهُ فِي رِزْقِهِ ويَنْسَأَ فِي أَثَرِه فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»؛ الأَثَرُ: الأَجل، وَسُمِّيَ بِهِ لأَنه يَتْبَعُ الْعُمْرَ؛ قَالَ زُهَيْرٌ:
والمرءُ مَا عَاشَ ممدودٌ لَهُ أَمَلٌ، ***لَا يَنْتَهي العمْرُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الأَثَرُ
وأَصله مَنْ أَثَّرَ مَشْيُه فِي الأَرض، فإِنَّ مَنْ مَاتَ لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ وَلَا يُرى لأَقدامه فِي الأَرض أَثر؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ لِلَّذِي مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي: قَطَع صلاتَنا قَطَعَ اللَّهُ أَثره؛ دَعَا عَلَيْهِ بِالزَّمَانَةِ لأَنه إِذا زَمِنَ انْقَطَعَ مَشْيُهُ فَانْقَطَعَ أَثَرُه.
وأَما مِيثَرَةُ السَّرْجِ فَغَيْرُ مَهْمُوزَةٍ.
والأَثَر: الْخَبَرُ، وَالْجَمْعُ آثَارٌ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ}؛ أَي نَكْتُبُ مَا أَسلفوا مِنْ أَعمالهم وَنَكْتُبُ آثَارَهُمْ أَي مَن سَنَّ سُنَّة حَسَنة كُتِب لَهُ ثوابُها، ومَن سنَّ سُنَّة سَيِّئَةً كُتِبَ عَلَيْهِ عِقَابُهَا، وَسُنَنُ النبي، صلى الله عليه وَسَلَّمَ، آثَارُهُ.
والأَثْرُ: مَصْدَرُ قَوْلِكَ أَثَرْتُ الْحَدِيثَ آثُرُه إِذا ذَكَرْتُهُ عَنْ غَيْرِكَ.
ابْنُ سِيدَهْ: وأَثَرَ الحديثَ عَنِ الْقَوْمِ يأْثُرُه ويَأْثِرُه أَثْرًا وأَثارَةً وأُثْرَةً؛ الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: أَنبأَهم بِمَا سُبِقُوا فِيهِ مِنَ الأَثَر؛ وَقِيلَ: حَدَّثَ بِهِ عَنْهُمْ فِي آثَارِهِمْ؛ قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَن الأُثْرة الِاسْمُ وَهِيَ المَأْثَرَةُ والمَأْثُرَةُ.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي دُعَائِهِ عَلَى الْخَوَارِجِ: «وَلَا بَقِيَ مِنْكُمْ آثِرٌ»أَي مُخْبِرٌ يَرْوِي الْحَدِيثَ؛ وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيضًا بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ أَبي سُفْيَانَ فِي حَدِيثِ قَيْصَرَ: " لَوْلَا أَن يَأْثُرُوا عَنِّي الْكَذِبَ؛ أي يَرْوُون وَيَحْكُونَ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنه حَلَفَ بأَبيه فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ: فَمَا حَلَفْتُ بِهِ ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا»؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: أَما قَوْلُهُ ذَاكِرًا فَلَيْسَ مِنَ الذِّكْرِ بَعْدَ النِّسْيَانِ إِنما أَراد مُتَكَلِّمًا بِهِ كَقَوْلِكَ ذَكَرْتُ لِفُلَانٍ حَدِيثَ كَذَا وَكَذَا، وَقَوْلُهُ وَلَا آثِرًا يُرِيدُ مُخْبِرًا عَنْ غَيْرِي أَنه حَلَفَ بِهِ؛ يَقُولُ: لَا أَقول إِن فُلَانًا قَالَ وأَبي لَا أَفعل كَذَا وَكَذَا؛ أي مَا حَلَفْتُ بِهِ مُبْتَدِئًا مِنْ نَفْسِي، وَلَا رَوَيْتُ عَنْ أَحد أَنه حَلَفَ بِهِ؛ وَمِنْ هَذَا قِيلَ: حَدِيثٌ مأْثور؛ أي يُخْبِر الناسُ بِهِ بعضُهم بَعْضًا؛ أي يَنْقُلُهُ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ؛ يُقَالُ مِنْهُ: أَثَرْت الْحَدِيثَ، فَهُوَ مَأْثور وأَنا آثَرُ؛ قَالَ الأَعشى:
إِن الَّذِي فِيهِ تَمارَيْتُما ***بُيِّنَ للسَّامِعِ والآثِرِ
وَيُرْوَى بَيَّنَ.
وَيُقَالُ: إِن المأْثُرة مَفْعُلة مِنْ هَذَا يَعْنِي الْمَكْرُمَةَ، وإِنما أُخذت مِنْ هَذَا لأَنها يأْثُرها قَرْنٌ عَنْ قَرْنٍ أَي يَتَحَدَّثُونَ بِهَا.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «ولَسْتُ بمأْثور فِي دِينِي»أَي لَسْتُ مِمَّنْ يُؤْثَرُ عَنِّي شَرٌّ وَتُهْمَةٌ فِي دِينِي، فَيَكُونُ قَدْ وُضِعَ المأْثور مَوْضع المأْثور عَنْهُ؛ وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وأُثْرَةُ العِلْمِ وأَثَرَته وأَثارَتُه: بَقِيَّةٌ مِنْهُ تُؤْثَرُ أَي تُرْوَى وَتُذْكَرُ؛ وَقُرِئَ:.
أَو أَثْرَةٍ مِنْ عِلْم وأَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ وأَثارَةٍ، والأَخيرة أَعلى؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَثارَةٌ فِي مَعْنَى عَلَامَةٍ وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ عَلَى مَعْنَى بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ عَلَى مَا يُؤْثَرُ مِنَ الْعِلْمِ.
وَيُقَالُ: أَو شَيْءٌ مأْثور مِنْ كُتُبِ الأَوَّلين، فَمَنْ قرأَ: أَثارَةٍ، فَهُوَ الْمَصْدَرُ مِثْلَ السَّمَاحَةِ، وَمَنْ قرأَ: أَثَرةٍ فإِنه بَنَاهُ عَلَى الأَثر كَمَا قِيلَ قَتَرَةٌ، وَمَنْ قرأَ: أَثْرَةٍ فكأَنه أَراد مِثْلَ الخَطْفَة والرَّجْفَةِ.
وسَمِنَتِ الإِبل وَالنَّاقَةُ عَلَى أَثارة أَي عَلَى عَتِيقِ شَحْمٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ قَالَ الشَّمَّاخُ:
وذاتِ أَثارَةٍ أَكَلَتْ عَلَيْهِ ***نَباتًا فِي أَكِمَّتِهِ فَفارا
قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَيَحْتَمِلُ أَن يَكُونَ قَوْلُهُ أَو أَثارة مِنْ عِلْمٍ مِنْ هَذَا لأَنها سَمِنَتْ عَلَى بَقِيَّةِ شَحْم كَانَتْ عَلَيْهَا، فكأَنها حَمَلَت شَحْمًا عَلَى بَقِيَّةِ شَحْمِهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَو أَثارة مِنْ عِلْمٍ إِنه عِلْمُ الْخَطِّ الَّذِي كَانَ أُوتيَ بعضُ الأَنبياء.
وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَطِّ فَقَالَ: قَدْ كَانَ نَبِيٌّ يَخُط فَمَنْ وَافَقَهُ خَطّه أَي عَلِمَ مَنْ وافَقَ خَطُّه مِنَ الخَطَّاطِين خَطَّ ذَلِكَ النَّبِيِّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَدْ علِمَ عِلْمَه.
وغَضِبَ عَلَى أَثارَةٍ قَبْلَ ذَلِكَ "أَي قَدْ كَانَ.
قَبْلَ ذَلِكَ مِنْهُ غَضَبٌ ثُمَّ ازْدَادَ بَعْدَ ذَلِكَ غَضَبًا؛ هَذِهِ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
والأُثْرَة والمأْثَرَة والمأْثُرة، بِفَتْحِ الثَّاءِ وَضَمِّهَا: الْمَكْرَمَةُ لأَنها تُؤْثر أَي تُذْكَرُ ويأْثُرُها قَرْنٌ عَنْ قَرْنٍ يَتَحَدَّثُونَ بِهَا، وَفِي الْمُحْكَمِ: المَكْرُمة الْمُتَوَارَثَةُ.
أَبو زَيْدٍ: مأْثُرةٌ وَمَآثِرُ وَهِيَ الْقَدَمُ فِي الْحَسَبِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلا إِنَّ كُلَّ دَمٍ ومأْثُرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فإِنها تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ»؛ مآثِرُ الْعَرَبِ: مكارِمُها ومفاخِرُها الَّتِي تُؤْثَر عَنْهَا أَي تُذْكَر وَتُرْوَى، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ.
وآثَرَه: أَكرمه.
وَرَجُلٌ أَثِير: مَكِينٌ مُكْرَم، وَالْجَمْعُ أُثَرَاءُ والأُنثى أَثِيرَة.
وآثَرَه عَلَيْهِ: فَضَّلَهُ.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا}.
وأَثِرَ أَن يَفْعَلَ كَذَا أَثَرًا وأَثَر وآثَرَ، كُلُّهُ: فَضّل وقَدّم.
وآثَرْتُ فُلَانًا عَلَى نَفْسِي: مِنَ الإِيثار.
الأَصمعي: آثَرْتُك إِيثارًا أَي فَضَّلْتُك.
وَفُلَانٌ أَثِيرٌ عِنْدَ فُلَانٍ وذُو أُثْرَة إِذا كَانَ خَاصًّا.
وَيُقَالُ: قَدْ أَخَذه بِلَا أَثَرَة وبِلا إِثْرَة وَبِلَا اسْتِئثارٍ أَي لَمْ يستأْثر عَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يأْخذ الأَجود؛ وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ يَمْدَحُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
مَا آثَرُوكَ بها إِذ قَدَّموكَ لَهَا، ***لكِنْ لأَنْفُسِهِمْ كانَتْ بِهَا الإِثَرُ
أَي الخِيَرَةُ والإِيثارُ، وكأَنَّ الإِثَرَ جَمْعُ الإِثْرَة وَهِيَ الأَثَرَة؛ وَقَوْلُ الأَعرج الطَّائِيِّ:
أَراني إِذا أَمْرٌ أَتَى فَقَضَيته، ***فَزِعْتُ إِلى أَمْرٍ عليَّ أَثِير
قَالَ: يُرِيدُ المأْثور الَّذِي أَخَذَ فِيهِ؛ قَالَ: وَهُوَ مِنْقَوْلِهِمْ خُذْ هَذَا آثِرًا.
وَشَيْءٌ كَثِيرٌ أَثِيرٌ: إِتباع لَهُ مِثْلَ بَثِيرٍ.
واسْتأْثَرَ بِالشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ: خصَّ بِهِ نَفْسَهُ واستبدَّ بِهِ؛ قَالَ الأَعشى:
اسْتَأْثَرَ اللهُ بالوفاءِ و ***بالعدْلِ، ووَلَّى المَلامَة الرَّجُلَا
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذا اسْتأْثر اللَّهُ بِشَيْءٍ فَالْهَ عَنْهُ».
وَرَجُلٌ أَثُرٌ، عَلَى فَعُل، وأَثِرٌ: يسْتَأْثر عَلَى أَصحابه فِي القَسْم.
وَرَجُلٌ أَثْر، مِثَالُ فَعْلٍ: وَهُوَ الَّذِي يَسْتَأْثِر عَلَى أَصحابه، مُخَفَّفٌ؛ وَفِي الصِّحَاحِ أَي يَحْتَاجُ.
لِنَفْسِهِ أَفعالًا وأَخلاقًا حَسَنَةً.
وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالَ للأَنصار: إِنكم ستَلْقَوْنَ بَعْدي أَثَرَةً فاصْبروا»؛ الأَثَرَة، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ: الِاسْمُ مِنْ آثَرَ يُؤْثِر إِيثارًا إِذا أَعْطَى، أَراد أَنه يُسْتَأْثَرُ عَلَيْكُمْ فَيُفَضَّل غيرُكم فِي نَصِيبِهِ مِنَ الْفَيْءِ.
والاستئثارُ: الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ؛ ومنه حديث عمر: «فو الله مَا أَسْتَأْثِرُ بِهَا عَلَيْكُمْ وَلَا آخُذُها دُونَكُمْ»، وَفِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ لَمَّا ذُكر لَهُ عُثْمَانُ لِلْخِلَافَةِ فَقَالَ: «أَخْشَى حَفْدَه وأَثَرَتَه» أَي إِيثارَه وَهِيَ الإِثْرَةُ، وَكَذَلِكَ الأُثْرَةُ والأَثْرَة؛ وأَنشد أَيضًا:
ما آثروك بها إِذ قدَّموك لَهَا، ***لَكِنْ بِهَا استأْثروا، إِذ كَانَتِ الإِثَرُ
وَهِيَ الأُثْرَى؛ قَالَ:
فَقُلْتُ لَهُ: يَا ذِئْبُ هَل لكَ فِي أَخٍ ***يُواسِي بِلا أُثْرَى عَلَيْكَ وَلَا بُخْلِ؟
وَفُلَانٌ أَثيري أَي خُلْصاني.
أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ قَدْ آثَرْت أَن أَقول ذَلِكَ أُؤَاثرُ أَثْرًا.
وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: إِن آثَرْتَ أَنْ تأْتينا فأْتنا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، أَي إِن كَانَ لَا بُدَّ أَن تأْتينا فأْتنا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا.
وَيُقَالُ: قَدْ أَثِرَ أَنْ يَفْعلَ ذَلِكَ الأَمر أَي فَرغ لَهُ وعَزَم عَلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ لَقَدْ أَثِرْتُ بأَن أَفعل كَذَا وَكَذَا وَهُوَ هَمٌّ فِي عَزْمٍ.
وَيُقَالُ: افْعَلْ هَذَا يَا فُلَانُ آثِرًا مَّا؛ إِن اخْتَرْتَ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَافْعَلْ هَذَا إِمَّا لَا.
واسْتَأْثرَ اللَّهُ فُلَانًا وَبِفُلَانٍ إِذا مَاتَ، وَهُوَ مِمَّنْ يُرجى لَهُ الْجَنَّةُ ورُجِيَ لَهُ الغُفْرانُ.
والأَثْرُ والإِثْرُ والأُثُرُ، عَلَى فُعُلٍ، وَهُوَ وَاحِدٌ لَيْسَ بِجَمْعٍ: فِرِنْدُ السَّيفِ ورَوْنَقُه، وَالْجَمْعُ أُثور؛ قَالَ عُبَيْدُ بْنُ الأَبرص:
ونَحْنُ صَبَحْنَا عامِرًا يَوْمَ أَقْبَلوا ***سُيوفًا، عَلَيْهِنَّ الأُثورُ، بَواتِكا
وأَنشد الأَزهري:
كأَنَّهم أَسْيُفٌ بِيضٌ يَمانِيةٌ، ***عَضْبٌ مَضارِبُها باقٍ بِهَا الأُثُرُ
وأَثْرُ السَّيْفِ: تَسَلْسُلُه وديباجَتُه؛ فأَما مَا أَنشده ابْنُ الأَعرابي مِنْ قَوْلِهِ:
فإِنِّي إِن أَقَعْ بِكَ لَا أُهَلِّكْ، ***كَوَقْع السيفِ ذِي الأَثَرِ الفِرِنْدِ
فإِن ثَعْلَبًا قَالَ: إِنما أَراد ذِي الأَثْرِ فَحَرَّكَهُ لِلضَّرُورَةِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا عِنْدِي لأَنه لَوْ قَالَ ذِي الأَثْر فَسَكَّنَهُ عَلَى أَصله لَصَارَ مفاعَلَتُن إِلى مفاعِيلن، وَهَذَا لَا يَكْسِرُ الْبَيْتَ، لَكِنَّ الشَّاعِرَ إِنما أَراد تَوْفِيَةَ الْجُزْءِ فَحَرَّكَ لِذَلِكَ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وأَبدل الفرنْدَ مِنَ الأَثَر.
الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ يَعْقُوبُ لَا يَعْرِفُ الأَصمعي الأَثْر إِلا بِالْفَتْحِ؛ قَالَ: وأَنشدني عِيسَى بْنُ عُمَرَ لِخِفَافِ بْنِ نُدْبَةَ وَنُدْبَةُ أُمّه:
جَلاهَا الصيْقَلُونَ فأَخْلَصُوها خِفافًا، ***كلُّها يَتْقي بأَثْر
أَي كُلُّهَا يَسْتَقْبِلُكَ بِفَرِنَدِهِ، ويَتْقِي مُخَفَّفٌ مِنْ يَتَّقي، أَي إِذا نَظَرَ النَّاظِرُ إِليها اتَّصَلَ شُعَاعُهَا بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ النَّظَرِ إِليها، وَيُقَالُ تَقَيْتُه أَتْقيه واتَّقَيْتُه أَتَّقِيه.
وَسَيْفٌ مأْثور: فِي مَتْنِهِ أَثْر، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُقَالُ إِنه يَعْمَلُهُ الْجِنُّ وَلَيْسَ مِنَ الأَثْرِ الَّذِي هُوَ الْفِرِنْدُ؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
إِني أُقَيِّدُ بالمأْثُورِ راحِلَتي، ***وَلَا أُبالي، وَلَوْ كنَّا عَلَى سَفَر
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَنَّ المَأْثور مَفْعول لَا فِعْلَ لَهُ كَمَا ذَهَبَ إِليه أَبو عَلِيٍّ في المَفْؤُود الَّذِي هُوَ الْجَبَانُ.
وأُثْر الْوَجْهِ وأُثُرُه: مَاؤُهُ ورَوْنَقُه وأَثَرُ السَّيْفِ: ضَرْبَته.
وأُثْر الجُرْح: أَثَرهُ يبقى بعد ما يبرأُ.
الصِّحَاحُ: والأُثْر، بِالضَّمِّ، أَثَر الْجُرْحِ يَبْقَى بَعْدَ البُرء، وَقَدْ يُثَقَّلُ مِثْلَ عُسْرٍ وعُسُرٍ؛ وأَنشد: " عَضْبٌ مَضَارِبُهَا باقٍ بِهَا الأُثر هَذَا الْعَجُزُ أَورده الْجَوْهَرِيُّ: بيضٌ مَضَارِبُهَا باقٍ بِهَا الأَثر "وَالصَّحِيحُ مَا أَوردناه؛ قَالَ: وَفِي النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُ هَذَا عَلَى الْفِرِنْدِ.
والإِثْر والأُثْر: خُلاصة السمْن إِذا سُلِئَ وَهُوَ الخَلاص والخِلاص، وَقِيلَ: هُوَ اللَّبَنُ إِذا فَارَقَهُ السَّمْنُ؛ قَالَ: " والإِثْرَ والضَّرْبَ مَعًا كالآصِيَه "الآصِيَةُ: حُساءٌ يُصْنَعُ بِالتَّمْرِ؛ وَرَوَى الإِيادي عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ أَنه كَانَ يَقُولُ الإِثر، بِكَسْرَةِ الْهَمْزَةِ، لِخُلَاصَةِ السَّمْنِ؛ وأَما فِرِنْدُ السَّيْفِ فَكُلُّهُمْ يَقُولُ أُثْر.
ابْنُ بُزُرج: جَاءَ فُلَانٌ عَلَى إِثْرِي وأَثَري؛ قَالُوا: أُثْر السَّيْفِ، مَضْمُومٌ: جُرْحه، وأَثَرُه، مَفْتُوحٌ: رَوْنَقُهُ الَّذِي فِيهِ.
وأُثْرُ الْبَعِيرِ فِي ظَهْرِهِ، مَضْمُومٌ؛ وأَفْعَل ذَلِكَ آثِرًا وأَثِرًا.
وَيُقَالُ: خَرَجْتُ فِي أَثَرِه وإِثْرِه، وَجَاءَ فِي أَثَرِهِ وإثِرِه، وَفِي وَجْهِهِ أَثْرٌ وأُثْرٌ؛ وَقَالَ الأَصمعي: الأُثْر، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، مِنَ الْجُرْحِ وَغَيْرِهِ فِي الْجَسَدِ يبرأُ وَيَبْقَى أَثَرُهُ.
قَالَ شَمِرٌ: يُقَالُ فِي هَذَا أَثْرٌ وأُثْرٌ، وَالْجَمْعُ آثَارٌ، وَوَجْهُهُ إِثارٌ، بِكَسْرِ الأَلف.
قَالَ: وَلَوْ قُلْتَ أُثُور كُنْتَ مُصِيبًا.
وَيُقَالُ: أَثَّر بِوَجْهِهِ وَبِجَبِينِهِ السُّجُودُ وأَثَّر فِيهِ السَّيْفُ والضَّرْبة.
الْفَرَّاءُ: ابدَأْ بِهَذَا آثِرًا مَّا، وآثِرَ ذِي أَثِير، وأَثيرَ ذِي أَثيرٍ أَي ابدَأْ بِهِ أَوَّل كُلِّ شَيْءٍ.
وَيُقَالُ: افْعَلْه آثِرًا مَا وأَثِرًا مَا أَي إِن كُنْتَ لَا تَفْعَلُ غَيْرَهُ فَافْعَلْهُ، وَقِيلَ: افْعَلْهُ مُؤثرًا له على غيره، وما زَائِدَةٌ وَهِيَ لَازِمَةٌ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا، لأَن مَعْنَاهُ افْعَلْهُ آثِرًا مُخْتَارًا لَهُ مَعْنيًّا بِهِ، مِنْ قَوْلِكَ: آثَرْتُ أَن أَفعل كَذَا وَكَذَا.
ابْنُ الأَعرابي: افْعَلْ هَذَا آثِرَا مَّا وَآثِرًا، بِلَا مَا، وَلَقِيتُهُ آثِرًا مَّا، وأَثِرَ ذاتِ يَدَيْن وَذِي يَدَيْن وآثِرَ ذِي أَثِير أَي أَوَّل كُلِّ شَيْءٍ، وَلَقِيتُهُ أَوَّل ذِي أَثِيرٍ، وإِثْرَ ذِي أَثِيرٍ؛ وَقِيلَ: الأَثير الصُّبْحُ، وَذُو أَثيرٍ وَقْتُه؛ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الْوَرْدِ:
فَقَالُوا: مَا تُرِيدُ؟ فَقُلْت: أَلْهُو ***إِلى الإِصْباحِ آثِرَ ذِي أَثِير
وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: إِثْرَ ذِي أَثِيرَيْن وأَثَرَ ذِي أَثِيرَيْن وإِثْرَةً مَّا.
الْمُبَرِّدُ فِي قَوْلِهِمْ: خُذْ هَذَا آثِرًا مَا، قَالَ: كأَنه يُرِيدُ أَن يأْخُذَ مِنْهُ وَاحِدًا وَهُوَ يُسامُ عَلَى آخَرَ فَيَقُولُ: خُذْ هَذَا الْوَاحِدَ آثِرًا أَي قَدْ آثَرْتُك بِهِ وَمَا فِيهِ حَشْوٌ ثُمَّ سَلْ آخَرَ.
وَفِي نَوَادِرِ الأَعراب: يُقَالُ أَثِرَ فُلانٌ بقَوْل كَذَا وَكَذَا وطَبِنَ وطَبِقَ ودَبِقَ ولَفِقَ وفَطِنَ، وَذَلِكَ إِذا أَبصر الشَّيْءَ وضَرِيَ بِمَعْرِفَتِهِ وحَذِقَه.
والأُثْرَة: الْجَدْبُ وَالْحَالُ غَيْرُ الْمَرْضِيَّةِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذا خافَ مِنْ أَيْدِي الحوادِثِ أُثْرَةً، ***كفاهُ حمارٌ، مِنْ غَنِيٍّ، مُقَيَّدُ
وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنكم ستَلْقَوْن بَعْدي أُثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوني عَلَى الْحَوْضِ.
وأَثَر الفَحْلُ النَّاقَةَ يَأْثُرُها أَثْرًا: أَكثَرَ ضِرابها.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
27-لسان العرب (حفا)
حفا: الحَفا: رِقَّة القَدم والخُفِّ وَالْحَافِرِ، حَفِيَ حَفًا فَهُوَ حافٍ وحَفٍ، وَالِاسْمُ الحِفْوَة والحُفْوة.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَافٍ بيِّنُ الحُفْوة والحِفْوة والحِفْية والحِفَاية، وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ فِي رِجْله من خُفّ ولا نَعْل، فأَما الَّذِي رقَّت قَدماه مِنْ كَثْرَةِ المَشْي فَإِنَّهُ حَافٍ بَيِّنُ الحَفَا.
والحَفَا: المَشْيُ بغير خُفّ ولا نَعْلٍ.
الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ الْكِسَائِيُّ رَجُلٌ حافٍ بيّنُ الحُفْوَة والحِفْيَة والحِفَايَة والحفاءِ، بِالْمَدِّ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ والحَفَاء، بِفَتْحِ الْحَاءِ، قَالَ: كَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ حَفِيَ يَحْفَى وأَحْفَاه غَيْرُهُ.
والحِفْوة والحَفا: مَصْدَرُ الحَافي.
يُقَالُ: حَفِيَ يَحْفَى حَفًا إِذَا كَانَ بِغَيْرِ خفّ ولا نَعْل، وَإِذَا انْسَحَجَتِ الْقَدَمُ أَو فِرْسِنُ الْبَعِيرِ أَو الحافرُ مِنَ المَشْيِ حَتَّى رَقَّت قِيلَ حَفِيَ يَحْفَى حَفًا، فَهُوَ حَفٍ؛ وأَنشد: " وَهُوَ منَ الأَيْنِ حَفٍ نَحِيتُ وحَفِيَ مِنْ نَعْليه وخُفِّه حِفْوة وحِفْية وحَفاوة، ومَشَى حَتَّى حَفِيَ حَفًا شَدِيدًا وأَحْفاه اللَّهُ، وتَوَجَّى مِنَ الحَفَا وَوَجِيَ وَجىً شَدِيدًا.
والاحْتِفَاء: أَن تَمْشِيَ حَافِيًا فَلَا يُصيبَك الحَفَا.
وَفِي حَدِيثِ الِانْتِعَالِ: « ليُحْفِهِما جَمِيعًا أَو لِيَنْعَلْهما جَمِيعًا »؛ قَالَ ابْنُ الأَثير:؛ أي ليمشِ حافيَ الرِّجلين أَو مُنْتَعِلَهما لأَنه قَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ، فإنَّ وضْعَ إحْدى الْقَدَمَيْنِ حَافِيَةً إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ التَّوَقِّي مِنْ أَذىً يُصيبها، وَيَكُونُ وَضْعُ الْقَدَمِ المُنْتَعِلة عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَيَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ مَشْيُهُ الَّذِي اعْتَادَهُ فَلَا يأْمَنُ العِثارَ، " وَقَدْ يتَصَوَّر فاعلُه عِنْدَ النَّاسِ بِصُورَةِ مَنْ إحْدى رِجْلَيْهِ أَقصرُ مِنَ الأُخرى.
الْجَوْهَرِيُّ: أَما الَّذِي حَفِيَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَشْيِ أَي رَقَّت قدَمُه أَو حافِره فَإِنَّهُ حَفٍ بَيِّنُ الحَفَا، مَقْصُورٌ، وَالَّذِي يَمْشِي بِلَا خُفّ وَلَا نَعْل: حافٍ بَيِّنُ الحَفَاءِ، بِالْمَدِّ.
الزَّجَّاجُ: الحَفَا، مَقْصُورٌ، أَن يَكْثُرَ عَلَيْهِ الْمَشْيُ حَتَّى يُؤلِمَه المَشْيُ، قَالَ: والحَفَاءُ، مَمْدُودٌ، أَن يَمْشِيَ الرَّجُلُ بِغَيْرِ نَعْل، حافٍ بَيِّن الحَفَاء، مَمْدُودٌ، وحَفٍ بَيِّنُ الحَفَا، مَقْصُورٌ، إِذَا رَقَّ حَافِرُهُ.
وأَحْفَى الرجلُ: حَفِيت دَابَّتُهُ.
وحَفِيَ بالرجُل حَفَاوة وحِفاوَة وحِفَاية وتَحَفَّى بِهِ واحْتَفَى: بالَغَ فِي إكْرامه.
وتَحَفَّى إِلَيْهِ فِي الوَصِيَّة: بالغَ.
الأَصمعي: حَفِيتُ إِلَيْهِ فِي الْوَصِيَّةِ وتَحَفَّيْت بِهِ تَحَفِّيًا، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي إكْرامه.
وحَفِيت إِلَيْهِ بِالْوَصِيَّةِ أَي بَالَغْتُ.
وحَفِيَ اللهُ بِكَ: فِي مَعْنَى أَكرمك اللَّهُ.
وأَنا بِهِ حَفِيٌّ أَي بَرٌّ مُبَالِغٌ فِي الْكَرَامَةِ.
والتَّحَفِّي: الكلامُ واللِّقاءُ الحَسَن.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا}؛ مَعْنَاهُ لَطِيفًا.
وَيُقَالُ: قَدْ حَفِيَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ حِفْوة إِذَا بَرَّه وأَلْطَفه.
وَقَالَ اللَّيْثُ: الحَفِيُّ هُوَ اللَّطِيفُ بِكَ يَبَرُّكَ ويُلْطِفك ويَحْتَفِي بِكَ.
وَقَالَ الأَصمعي: حَفِيَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ يَحْفَى بِهِ حَفَاوَة إِذَا قَامَ فِي حَاجَتِهِ وأَحْسَن مَثْواه.
وحَفا اللَّهُ بِهِ حَفْوًا: أَكرمه.
وحَفَا شارِبَه حَفْوًا وأَحْفَاه: بالَغَ فِي أَخْذه وألْزَقَ حَزَّه.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمر أَن تُحْفَى الشواربُ وتُعْفَى اللِّحَى» أَي يُبالَغ فِي قَصِّها.
وَفِي التَّهْذِيبِ: أَنه أَمر بإحْفَاءِ الشَّوَارِبِ وإعْفاء اللِّحَى.
الأَصمعي: أَحْفَى شارِبَه ورأْسَه إِذَا أَلزق حَزَّه، قَالَ: وَيُقَالُ فِي قولِ فلانٍ إحْفَاءٌ، وَذَلِكَ إِذَا أَلْزَق بِك مَا تَكْرَهُ وأَلَحَّ فِي مَسَاءَتِك كَمَا يُحْفَى الشيءُ أَي يُنْتَقَص.
وَفِي الْحَدِيثِ: « إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِآدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَخْرِجْ نَصِيبَ جَهَنَّمَ منْ ذُرِّيَّتِكَ، فيقولُ: يَا رَبّ كَمْ؟ فَيَقُولُ: مِن كلِّ مِائَةٍ تسْعَةً وتسعينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْتُفِينا إِذًا فَماذا يَبْقى؟ أَيِ اسْتُؤْصِلْنَا، مِنْ إحْفَاءِ الشَّعْرِ».
وكلُّ شيءٍ اسْتُؤْصِلَ فَقَد احْتُفِيَ.
وَمِنْهُ حَدِيثُ الْفَتْحِ: أَنْ يَحْصُدُوهم حَصْدًا، وأَحْفَى بيَدِه أَي أَمالَها وصْفًا للحَصْدِ والمُبالَغة فِي القَتْل.
وحَفَاهُ مِنْ كُلِّ خَيْر يَحْفُوه حَفْوًا: مَنَعَه.
وحَفَاه حَفْوًا: أَعطاه.
وأَحْفَاه: أَلَحَّ عَلَيْهِ فِي المَسْأَلة.
وأَحْفَى السُّؤالَ: رَدَّده.
اللَّيْثُ: أَحْفَى فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا بَرَّح بِهِ فِي الإِلْحاف عَلَيْهِ أَو سَأَلَه فأَكْثَر عَلَيْهِ فِي الطَّلَبِ.
الأَزهري: الإِحْفَاء فِي المسأَلة مثلُ الإِلْحاف سَواءً وَهُوَ الإِلْحاحُ.
ابْنُ الأَعرابي: الحَفْوُ المَنْعُ، يُقَالُ: أَتاني فحَفَوْته أَي حَرَمْتُه، وَيُقَالُ: حَفَا فُلَانٌ فُلَانًا مَنْ كُلِّ خَيْرٍ يَحْفُوه إِذَا مَنَعه مَنْ كُلِّ خَيْرٍ.
وعَطَس رجلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْقَ ثلاثٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَفَوْتَ، يَقُولُ مَنَعْتَنا أَنْ نُشمِّتَكَ بعدَ الثلاثِ لأَنَّه إِنِّمَّا يُشَمَّتُ فِي الأُولى والثَّانية، وَمَنْ رَوَاهُ حَقَوْتَ فَمَعْنَاهُ سَدَدْت عَلَيْنَا الأَمْرَ حَتَّى قَطَعْتَنا، مأْخوذٌ مِنَ الحَقْوِ لأَنه يَقْطَعُ البطنَ ويَشُدُّ الظَّهْرَ.
وَفِي حَدِيثِ خَلِيفَةَ: « كتبتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَن يَكْتُب إليَّ ويُحْفِيَ عَنِّي» أَي يُمْسِكَ عَنِّي بعضَ مَا عِنْدَهُ مِمَّا لَا أَحْتَمِلُه، وَإِنْ حُمِلَ الإِحفاء بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فَيَكُونُ عَنِّي بِمَعْنَى عليَّ، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي البِرِّ بِهِ والنصيحةِ لَهُ، وَرُوِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَن رَجُلًا سلَّم عَلَى بَعْضِ السَّلَفِ فَقَالَ وَعَلَيْكُمُ السلامُ ورحمةُ اللَّهِ وبَرَكاتُه الزَّاكِيات، فَقَالَ: أَراك قَدْ حَفَوْتَنا ثَوابَها» أَي مَنَعتَنا ثَوَابَ السَّلَامِ حَيْثُ استَوْفَيت عَلَيْنَا فِي الردِّ، وَقِيلَ: أَراد تَقَصَّيْتَ ثوابَها وَاسْتَوْفَيْتَهُ عَلَيْنَا.
وحَافَى الرجلَ مُحَافَاةً: مارَاه ونازَعه فِي الْكَلَامِ.
وحَفِيَ بِهِ حِفَايةً، فَهُوَ حَافٍ وحَفِيٌّ، وتَحَفَّى واحْتَفَى: لَطَفَ بِهِ وأَظهر السرورَ والفَرَحَ بِهِ وأَكثر السُّؤَالَ عَنْ حَالِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنَّ عَجُوزًا دخلَت عَلَيْهِ فسَأَلها فأَحْفَى وَقَالَ: إنَّها كَانَتْ تَأْتِينا فِي زَمَن خَدِيجَة وإنَّ كَرَم العَهْدِ مِنَ الإِيمان».
يُقَالُ: أَحْفَى فُلَانٌ بصاحبه وحَفِيَ به وتَحَفَّى بِهِ أَي بالَغَ فِي بِرِّهِ وَالسُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: « فَأَنْزَلَ أُوَيْسًا القَرَنيَّ فَاحْتَفَاهُ وأَكْرَمَه».
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ: إنَّ الأَشْعَثَ سَلَّم عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ بغَيْر تَحَفّ "أَي غيرَ مُبالِغٍ فِي الرَّدِّ والسُّؤَالِ.
والحَفَاوَة، بِالْفَتْحِ: المُبالَغةُ فِي السؤَال عَنِ الرَّجُلِ والعنايةُ فِي أَمرهِ.
وَفِي الْمَثَلِ: مَأْرُبَةٌ لَا حَفاوةٌ؛ تَقُولُ مِنْهُ: حَفِيت، بِالْكَسْرِ، حَفاوةً.
وتَحَفَّيْت بِهِ أَي بالَغْت فِي إكْرامِه وإلْطافِه وحَفِيَ الفرسُ: انْسَحَجَ حافِرهُ.
والإِحْفاء: الاسْتِقْصاء فِي الْكَلَامِ والمُنازَعَةُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الحرث بْنِ حِلِّزة:
إِنَّ إخْوانَنَا الأَراقِمَ يَعْلُونَ ***عَلَيْنا، فِي قيلِهِم إحْفَاءُ
أَي يَقَعون فِينَا.
وحَافَى الرجلَ: نازَعَه فِي الْكَلَامِ وَمَارَاهُ.
الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا}؛ أَي يُجْهِدْكُم.
وأَحْفَيْتُ الرجلَ إِذَا أَجْهَدْتَه.
وأَحْفَاه: بَرَّحَ بِهِ فِي الإِلحاحِ عَلَيْهِ، أَو سأَله فأَكْثَر عَلَيْهِ فِي الطَّلَبِ، وأَحْفَى السؤالَ كَذَلِكَ.
وَفِي حَدِيثِ أَنس: « أَنهم سأَلوا النبي»، صلى الله عليه وَسَلَّمَ، حَتَّى أَحْفَوْه أَي اسْتَقْصَوْا فِي السؤالِ.
وَفِي حَدِيثِ السِّواكِ: « لَزِمْتُ السِّواكَ حَتَّى كِدْتُ أُحْفِي فَمِي»؛ أي أَسْتَقْصِي عَلَى أَسناني فأُذْهِبُها بالتَّسَوُّكِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: يسأَلونك عَنْ أَمر الْقِيَامَةِ كأَنك فرحٌ بِسُؤَالِهِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كأَنك أَكثرت المسأَلة عَنْهَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وتأْخير، مَعْنَاهُ يسأَلونك عَنْهَا كأَنك حفِيٌّ بِهَا؛ قَالَ: وَيُقَالُ فِي التَّفْسِيرِ كأَنك حَفِيٌّ عَنْهَا كأَنك عَالِمٌ بِهَا، مَعْنَاهُ حافٍ عَالِمٌ.
وَيُقَالُ: تحافَيْنا إِلَى السُّلْطَانِ فَرَفَعَنَا إِلَى الْقَاضِي، وَالْقَاضِي يُسَمَّى الحَافِيَ.
وَيُقَالُ: تَحَفَّيْتُ بِفُلَانٍ فِي المسأَلة إِذَا سأَلت بِهِ سُؤَالًا أَظهرت فِيهِ المحَبَّةَ والبِرَّ، قَالَ: وَقِيلَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها" كأَنك أَكثرت المسأَلة عَنْهَا، وَقِيلَ: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها كأَنك مَعْنِيٌّ بِهَا، وَيُقَالُ: الْمَعْنَى يسأَلونك كأَنك سَائِلٌ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا "؛ مَعْنَاهُ كَانَ بِي مَعْنِيًّا؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ كَانَ بِي عَالِمًا لَطِيفًا يُجِيبُ دَعْوَتِي إِذَا دَعَوْتُهُ.
وَيُقَالُ: تحَفَّى فلان بفلان مَعْنَاهُ أَنه أَظهر العِناية فِي سؤَاله إِيَّاهُ.
يُقَالُ: فُلَانٌ بِي حَفِيٌّ إِذَا كَانَ مَعْنِيًّا؛ وأَنشد للأَعشى:
فَإِنْ تَسْأَلي عنِّي، فَيَا رُبَّ سائِلٍ ***حَفِيّ عَنِ الأَعْشى بِهِ حَيْثُ أَصعَدا
مَعْنَاهُ: مَعْنِيٌّ بالأَعْشى وبالسؤَال عَنْهُ.
ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ لَقِيتُ فُلَانًا فَحَفِيَ بِي حَفَاوَة وتَحَفَّى بِي تَحَفِّيًا.
الْجَوْهَرِيُّ: الحَفِيُّ الْعَالِمُ الَّذِي يَتَعَلَّم الشيءَ باسْتِقْصاء.
والحَفِيُّ: المُسْتَقْصي فِي السُّؤَالِ.
واحْتَفَى البَقْلَ: اقْتَلعَه مِنْ وَجْهِ الأَرض.
وَقَالَ أَبو حَنِيفَة: الاحْتِفَاء أَخذُ البقلِ بالأَظافير مِنَ الأَرض.
وَفِي حَدِيثِ المضْطَرّ الَّذِي سأَل النبيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَتى تَحِلُّ لَنَا المَيْتَةُ؟ فَقَالَ: مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَو تَغْتَبِقُوا أَوْ تَحْتَفِيُوا بِهَا بَقْلًا فشَأْنَكُم بِهَا »؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: هُوَ مِنَ الحَفا، مَهْمُوزٌ مَقْصُورٌ، وَهُوَ أَصل البَرْدي الأَبيض الرَّطبِ مِنْهُ، وَهُوَ يُؤْكَل، فتأَوَّله فِي قَوْلِهِ تَحْتَفِيُوا، يَقُولُ: مَا لَمْ تَقْتَلِعُوا هَذَا بعَيْنه فتأْكلوه، وَقِيلَ:؛ أي إِذَا لَمْ تَجِدُوا فِي الأَرض مِنَ الْبَقْلِ شَيْئًا، وَلَوْ بأَن تَحْتَفُوه فتَنْتِفُوه لِصغَرِه؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَإِنَّمَا قَضَينا عَلَى أَنّ اللَّامَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَاءٌ لَا وَاوٌ لِمَا قِيلَ مِنْ أَن اللَّامَ يَاءٌ أَكثر مِنْهَا وَاوًا.
الأَزهري: وَقَالَ أَبو سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ أَو تَحْتَفِيُوا بَقْلًا فشَأْنَكُم بِهَا؛ صَوَابُهُ تَحْتَفُوا، بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ.
وكلُّ شَيْءٍ اسْتُؤْصل فَقَدِ احْتُفِيَ، وَمِنْهُ إحْفاءُ الشَّعَرِ.
قَالَ: واحْتَفَى البَقْلَ إِذَا أَخَذَه مِنْ وَجْهِ الأَرض بأَطراف أَصابعه مِنْ قِصَرِهِ وقِلَّته؛ قَالَ: وَمَنْ قَالَ تَحْتَفِئُوا بِالْهَمْزِ مِنَ الحَفإ البَرْدِيّ فَهُوَ بَاطِلٌ لأَن البَرْدِيَّ لَيْسَ مِنَ الْبَقْلِ، والبُقُول مَا نَبَتَ مِنَ العُشْب عَلَى وَجْهِ الأَرض مِمَّا لَا عِرْق لَهُ، قَالَ: وَلَا بَرْدِيَّ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَيُرْوَى: " مَا لَمْ تَجْتَفِئُوا، بِالْجِيمِ، قَالَ: والاجْتِفاء أَيضًا بِالْجِيمِ بَاطِلٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لأَن الاجْتِفاء كبُّكَ الآنِيَةَ إِذَا جَفَأْتَها، وَيُرْوَى: مَا لَمْ تَحْتَفُّوا "، بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، مِنَ احْتَفَفْت الشَّيْءَ إِذَا أَخذتَه كُلَّهُ كَمَا تَحُفُّ المرأَة وَجْهَهَا مِنَ الشَّعْرِ، وَيُرْوَى بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ كُلْثُومٍ: احْتَفَى القومُ المَرْعى إِذَا رَعَوْهُ فَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْهُ شَيْئًا؛ وَقَالَ فِي قَوْلِ الْكُمَيْتِ: " وشُبِّه بالحِفْوة [بالحَفْوة] المُنْقَلُ "قَالَ: المُنْقَلُ أَن يَنْتَقِلَ القومُ مِنْ مَرْعىً احْتَفَوْه إِلَى مَرْعىً آخَرَ.
الأَزهري: وَتَكُونُ الحَفْوَة [الحِفْوَة] مِنَ الحَافِي الَّذِي لَا نَعْلَ لَهُ وَلَا خُفَّ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " وشُبِّه بالِحفْوَة المُنْقَلُ "وَفِي حَدِيثِ السِّباق ذَكَرَ الحَفْيَاء، بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: « هُوَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَميال»، وَبَعْضُهُمْ يُقَدِّمُ الْيَاءَ عَلَى الْفَاءِ، وَاللَّهُ أَعلم.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
28-مقاييس اللغة (علو)
(عَلَوَ) الْعَيْنُ وَاللَّامُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ يَاءً كَانَ أَوْ وَاوًا أَوْ أَلِفًا، أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى السُّمُوِّ وَالِارْتِفَاعِ، لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ.وَمِنْ ذَلِكَ الْعَلَاءُ وَالْعُلُوُّ.
وَيَقُولُونَ: تَعَالَى النَّهَارُ، أَيِ ارْتَفَعَ.
وَيُدْعَى لِلْعَاثِرِ: لَعًا لَكَ عَالِيًا! أَيِ ارْتَفِعْ فِي عَلَاءٍ وَثَبَاتٍ.
وَعَالَيْتُ الرَّجُلَ فَوْقَ الْبَعِيرِ: عَالَيْتُهُ.
قَالَ:
وَإِلَّا تَجَلَّلْهَا يُعَالُوكَ فَوْقَهَا *** وَكَيْفَ تَوَقَّى ظَهْرَ مَا أَنْتَ رَاكِبُهْ
قَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُ هَذَا الْبِنَاءِ الْعُلُوُّ.
فَأَمَّا الْعَلَاءُ فَالرِّفْعَةُ.
وَأَمَّا الْعُلُوُّ فَالْعَظَمَةُ وَالتَّجَبُّرُ.
يَقُولُونَ: عَلَا الْمَلِكُ فِي الْأَرْضِ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4]، وَيَقُولُونَ: رَجُلٌ عَالِي الْكَعْبِ، أَيْ شَرِيفٌ.
قَالَ:
لَمَّا عَلَا كَعْبُكَ لِي عَلِيتُ.
وَيُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ يَعْلُو: عَلَا يَعْلُو.
فَإِنْ كَانَ فِي الرِّفْعَةِ وَالشَّرَفِ قِيلَ عَلِيَ يَعْلَى.
وَمَنْ قَهَرَ أَمْرًا فَقَدِ اعْتَلَاهُ وَاسْتَعْلَى عَلَيْهِ وَبِهِ، كَقَوْلِكَ اسْتَوْلَى.
وَالْفَرَسُ إِذَا جَرَى فِي الرِّهَانِ فَبَلَغَ الْغَايَةَ قِيلَ: اسْتَعْلَى عَلَى الْغَايَةِ وَاسْتَوْلَى.
وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: إِنَّهُ لَمُعْتَلٍ بِحَمْلِهِ، أَيْ مُضْطَلِعٌ بِهِ.
وَقَدِ اعْتَلَى بِهِ.
وَأَنْشَدَ:
إِنِّي إِذَا مَا لَمْ تَصِلْنِي خُلَّتِي *** وَتَبَاعَدَتْ مِنِّي اعْتَلَيْتُ بِعَادَهَا
يُرِيدُ عَلَوْتُ بِعَادَهَا.
وَقَدْ عَلَوْتُ حَاجَتِي أَعْلُوهَا عُلُوًّا، إِذَا كُنْتُ ظَاهِرًا عَلَيْهَا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ فِي قَوْلِ أَوْسٍ:
جَلَّ الرُّزْءُ وَالْعَالِي.
أَيِ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَقْهَرُ الصَّبْرَ وَيَغْلِبُهُ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي قَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو الَّذِي قَدْ أَرَى *** مِنَ النَّائِبَاتِ بِعَافٍ وِعَالِ
أَيْ بِعَفْوِي وَجَهْدِي، مِنْ قَوْلِكَ عَلَاهُ كَذَا، أَيْ غَلَبَهُ.
وَالْعَافِي: السَّهْلُ.
وَالْعَالِي: الشَّدِيدُ.
قَالَ الْخَلِيلُ: الْمَعْلَاةُ: كَسْبُ الشَّرَفِ، وَالْجَمْعُ الْمَعَالِي.
وَفُلَانٌ مِنْ عِلْيَةِ النَّاسِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الشَّرَفِ.
وَهَؤُلَاءِ عِلْيَةُ قَوْمِهِمْ، مَكْسُورَةُ الْعَيْنِ عَلَى فِعْلَةٍ مُخَفَّفَةٍ.
وَالسِّفْلُ وَالْعِلُوُّ: أَسْفَلُ الشَّيْءِ وَأَعْلَاهُ.
"وَيَقُولُونَ: عَالِ عَنْ ثَوْبِي، وَاعْلُ عَنْ ثَوْبِي، إِذَا أَرَدْتَ قُمْ عَنْ ثَوْبِي وَارْتَفِعْ عَنْ ثَوْبِي; وَعَالِ عَنْهَا، أَيْ تَنَحَّ; وَاعْلُ عَنِ الْوِسَادَةِ."
قَالَ أَبُو مَهْدِيٍّ: أَعْلِ عَلَيَّ وِعَالِ عَلَيَّ، أَيِ احْمِلْ عَلَيَّ.
وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ تَعْلُوهُ الْعَيْنُ وَتَعْلُو عَنْهُ الْعَيْنُ، أَيْ لَا تَقْبَلُهُ تَنْبُو عَنْهُ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَاحِدٌ.
"وَيُقَالُ عَلَا الْفَرَسَ يَعْلُوهُ عُلُوًّا، إِذَا رَكِبَهُ; وَأَعْلَى عَنْهُ، إِذَا نَزَلَ."
"وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ بَعِيدًا مِنَ الْقِيَاسِ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى صَحِيحٌ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَزَلَ عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ بَايَنَهُ وَعَلَا عَنْهُ فِي الْحَقِيقَةِ، لَكِنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ."
قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَلْيَاءُ: رَأَسُ كُلِّ جَبَلٍ أَوْ شَرَفٍ.
قَالَ زُهَيْرٌ:
تَبَصَّرْ خَلِيلِي هَلْ تَرَى مِنْ ظَعَائِنٍ *** تَحَمَّلْنَ بِالْعَلْيَاءِ مِنْ فَوْقِ جُرْثُمِ
وَيُسَمَّى أَعْلَى الْقَنَاةِ: الْعَالِيَةُ، وَأَسْفَلُهَا: السَّافِلَةُ، وَالْجَمْعُ الْعَوَالِي.
قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَالِيَةُ مِنْ مَحَالِّ الْعَرَبِ مِنَ الْحِجَازِ وَمَا يَلِيهَا، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا عَلَى الْأَصْلِ عَالِيٌّ، وَالْمُسْتَعْمَلُ عُلْوِيٌّ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، عَالَى الرَّجُلُ، إِذَا أَتَى الْعَالِيَةَ.
وَزَعَمَ ابْنُ دُرَيْدٍ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْعَالِيَةِ عُلُوٌّ: اسْمٌ لَهَا، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: قَدِمَ فُلَانٌ مِنْ عُلُوٍّ.
وَزَعَمَ أَنَّ النَّسَبَ إِلَيْهِ عُلْوِيٌّ.
قَالُوا: وَالْعُلِّيَّةُ: غُرْفَةٌ، عَلَى بِنَاءِ حُرِّيَّةٍ.
وَهِيَ فِي التَّصْرِيفِ فُعْلِيَّةٌ، وَيُقَالُ فُعْلُولَةٌ.
قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] قَالُوا: إِنَّمَا هُوَ ارْتِفَاعٌ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ إِلَى مَا لَا حَدَّ لَهُ.
وَإِنَّمَا جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا جَمَعَتْ جَمْعًا لَا يَذْهَبُونَ فِيهِ إِلَى أَنَّ لَهُ بِنَاءً مِنْ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ، قَالُوهُ فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ نَحْوَ عِلِّيِّينَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ، لَا يُقْصَدُ بِهِ وَاحِدٌ وَلَا اثْنَانِ، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ: أَطْعِمْنَا مَرَقَةَ مَرَقِينَ.
وَقَالَ:
قُلَيِّصَاتٍ وَأَبَيْكَرِينَا.
فَجَمَعَ بِالنُّونِ لَمَّا أَرَادَ الْعَدَدَ الَّذِي لَا يَحُدُّهُ.
وَقَالَ آخَرُ فِي هَذَا الْوَزْنِ:
فَأَصْبَحَتِ الْمَذَاهِبُ قَدْ أَذَاعَتْ *** بِهَا الْإِعْصَارُ بَعْدَ الْوَابِلِينَا
أَرَادَ الْمَطَرَ بَعْدَ الْمَطَرِ، شَيْئًا غَيْرَ مَحْدُودٍ.
وَقَالَ أَيْضًا:
يُقَالُ عُلْيَا مُضَرَ وَسُفْلَاهَا، *** وَإِذَا قُلْتَ سُفْلٌ قُلْتَ عُلْيٌ
وَالسَّمَاوَاتُ الْعُلَى الْوَاحِدَةُ عُلْيَا.
فَأَمَّا الَّذِي يُحْكَى عَنْ أَبِي زَيْدٍ: جِئْتُ مِنْ عَلَيْكَ، أَيْ مِنْ عِنْدِكَ، وَاحْتِجَاجُهُ بِقَوْلِهِ:
غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَا *** تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيْزَاءَ مَجْهَلِ
وَالْمُسْتَعْلِي مِنَ الْحَالِبَيْنِ: الَّذِي فِي يَدِهِ الْإِنَاءُ وَيَحْلُبُ بِالْأُخْرَى.
وَيُقَالُ الْمُسْتَعْلِي: الَّذِي يَحْلُبُ النَّاقَةَ مِنْ شِقِّهَا الْأَيْسَرِ.
وَالْبَائِنُ: الَّذِي يَحْلِبُهَا مِنْ شِقِّهَا الْأَيْمَنِ.
وَأَنْشَدَ:
يُبَشِّرُ مُسْتَعْلِيًا بَائِنٌ *** مِنَ الْحَالِبَيْنِ بِأَنْ لَا غِرَارَا
وَيُقَالُ: جِئْتُكَ مِنْ أَعْلَى، وَمِنْ عَلَا، وَمِنْ عَالٍ، وَمِنْ عَلِ.
قَالَ أَبُو النَّجْمِ:
أَقَبُّ مِنْ تَحْتُ عَرِيضٌ مِنْ عَلِ.
وَقَدْ رَفَعَهُ بَعْضُ الْعَرَبِ عَلَى الْغَايَةِ، قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ:
شَهِدْتُ فَلَمْ أَكْذِبْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا *** رَسُولُ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ مَنْ عَلُ
وَقَالَ آخَرُ فِي وَصْفِ فَرَسٍ:
ظَمْأَى النَّسَا مِنْ تَحْتُ رَيَّا مِنْ عَالْ *** فَهْيَ تُفَدَّى بِالْأَبْيَنَ وَالْخَالْ
فَأَمَّا قَوْلُ الْأَعْشَى:
إِنِّي أَتَتْنِي لِسَانٌ لَا أُسَرُّ لَهَا *** مِنْ عَلْوَ لَا عَجَبٌ فِيهَا وَلَا سَخَرُ
فَإِنَّهُ يَنْشُدُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مَضْمُومًا، وَمَفْتُوحًا، وَمَكْسُورًا.
وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ:
فَهِيَ تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشًا مِنْ عَلَا *** نَوْشًا بِهِ تَقْطَعُ أَجْوَازَ الْفَلَا
قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: أَتَيْتُهُ مِنْ مُعَالٍ.
وَأَنْشَدَ:
فَرَّجَ عَنْهُ حَلَقَ الْأَغْلَالِ *** جَذْبُ الْبُرَى وَجِرْيَةُ الْجِبَالِ
وَنَغَضَانُ الرَّحْلِ مِنْ مُعَالِ.
وَيُقَالُ: عُولِيَتِ الْفَرَسُ، إِذَا كَانَ خَلْقُهَا مُعَالًى.
وَيُقَالُ نَاقَةٌ عِلْيَانٌ، أَيْ طَوِيلَةٌ جَسِيمَةٌ.
وَرَجُلٌ عِلْيَانٌ: طَوِيلٌ.
وَأَنْشَدَ:
أَنْشَدَ مِنْ خَوَّارَةِ عِلْيَانِ *** أَلْقَتْ طَلًّا بِمُلْتَقَى الْحَوْمَانِ
قَالَ الْفَرَّاءُ: جَمَلٌ عِلْيَانٌ، وَنَاقَةٌ عِلْيَانٌ.
وَلَمْ نَجِدِ الْمَكْسُورَ أَوَّلُهُ جَاءَ نَعْتًا فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ غَيْرَهُمَا.
وَأَنْشَدَ:
حَمْرَاءُ مِنْ مُعَرِّضَاتِ الْغِرْبَانْ *** تَقْدُمُهَا كُلُّ عَلَاةٍ عِلْيَانْ
وَيُقَالُ لِمُعَالِي الصَّوْتِ عِلْيَانٌ أَيْضًا.
فَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلذَّكَرِ عِلْيَانٌ، إِنَّمَا يَقُولُونَ جَمَلٌ نَبِيلٌ.
"فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: تَعَالَ، فَهُوَ مِنَ الْعُلُوِّ، كَأَنَّهُ قَالَ اصْعَدْ إِلَيَّ; ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قَالَهُ الَّذِي بِالْحَضِيضِ لِمَنْ هُوَ فِي عُلُوِّهِ."
وَيُقَالُ تَعَالَيَا، وَتَعَالَوْا، لَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا إِلَّا فِي الْأَمْرِ خَاصَّةً، وَأُمِيتَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.
وَيُقَالُ لِرَأْسِ الرَّجُلِ وَعُنُقِهِ عِلَاوَةٌ.
وَالْعِلَاوَةُ: مَا يُحْمَلُ عَلَى الْبَعِيرِ بَعْدَ تَمَامِ الْوِقْرِ.
وَقَوْلُهُ:
أَلَا أَيُّهَا الْغَادِي تَحَمَّلْ رِسَالَةً *** خَفِيفًا مُعَلَّاهَا جَزِيلًا ثَوَابُهَا
مُعَلَّاهَا: مَحْمِلُهَا.
وَيُقَالُ: قَعَدَ فِي عُلَاوَةِ الرِّيحِ وَسُفَالَتِهَا.
وَأَنْشَدَ:
تُهْدِي لَنَا كُلَّمَا كَانَتْ عُلَاوَتَنَا *** رِيحَ الْخُزَامَى فِيهَا النَّدَى وَالْخَضْلُ
قَالَ: الْخَلِيلُ الْمُعَلَّى: السَّابِعُ مِنَ الْقِدَاحِ، وَهُوَ أَفْضَلُهَا، وَإِذَا فَازَ حَازَ سَبْعَةَ أَنْصِبَاءَ مِنَ الْجَزُورِ، وَفِيهِ سَبْعُ فُرَضٍ: عَلَامَاتٌ.
وَالْمُعَلِّي: الَّذِي يَمُدُّ الدَّلْوَ إِذَا مَتَحَ.
قَالَ:
هَوِيُّ الدَّلْوِ نَزَّاهَا الْمُعَلُّ.
وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ نِفَاسِهَا: قَدْ تَعَلَّتْ، وَهِيَ تَتَعَلَّى.
وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا لِلنُّفَسَاءِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهَا.
قَالَ جَرِيرٌ:
فَلَا وَلَدَتْ بَعْدَ الْفَرَزْدَقِ حَامِلٌ *** وَلَا ذَاتَ حِمْلٍ مِنْ نِفَاسٍ تَعَلَّتِ
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ: عَلِّ رِشَاءَكَ، أَيْ أَلْقِهِ فَوْقَ الْأَرْشِيَةِ كُلِّهَا.
وَيُقَالُ إِنَّ الْمُعَلَّى: الَّذِي إِذَا زَاغَ الرِّشَاءُ عَنِ الْبَكَرَةِ عَلَاهُ فَأَعَادَهُ إِلَيْهَا.
قَالَ الْعُجَيْرُ:
وَلِي مَائِحٌ لَمْ يُورِدِ الْمَاءَ قَبْلَهُ *** مُعَلٍّ وَأَشْطَانُ الطَّوِيِّ كَثِيرُ
وَيَقُولُونَ فِي رَجُلٍ خَاصَمَهُ [آخَرُ]: إِنَّ لَهُ مَنْ يُعَلِّيهِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا عُلْوَانُ الْكِتَابِ فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ غَلَطٌ، إِنَّمَا هُوَ عُنْوَانٌ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ غَلَطًا، وَاللُّغَتَانِ صَحِيحَتَانِ وَإِنْ كَانَتَا مُوَلَّدَتَيْنِ لَيْسَتَا مِنْ أَصْلِ كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا عُنْوَانٌ فَمِنْ عَنَّ.
وَأَمَّا عُلْوَانٌ فَمِنَ الْعُلُوِّ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْكِتَابِ وَأَعْلَاهُ.
وَمِنَ الْبَابِ الْعَلَاةُ، وَهِيَ السَّنْدَانُ، وَيُشَبِّهُ بِهِ النَّاقَةَ الصُّلْبَةَ.
قَالَ:
وَمُبْلِدٍ بَيْنَ مَوْمَاةٍ بِمَهْلَكَةٍ *** جَاوَزْتُهُ بِعَلَاةِ الْخَلْقِ عِلْيَانِ
قَالَ الْخَلِيلُ: عَلِيٌّ عَلَى فَعِيلٍ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهِ عَلَوِيٌّ.
وَبَنُو عَلِيٍّ: بَطْنٌ مِنْ كِنَانَةَ، يُقَالُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ سُودٍ الْغَسَّانِيُّ، تَزَوَّجَ بِأُمِّهِمْ بَعْدَ أَبِيهِمْ وَرَبَّاهُمْ فَنُسِبُوا إِلَيْهِ.
قَالَ:
وَقَالَتْ رَبَايَانَا أَلَا يَالَ عَامِرٍ *** عَلَى الْمَاءِ رَأْسٌ مِنْ عَلِيٍّ مُلَفَّفُ
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: يُقَالُ مَا أَنْتَ إِلَّا عَلَى أَعْلَى وَأَرْوَحَ، أَيْ فِي سَعَةٍ وَارْتِفَاعٍ.
وَيُقَالُ أَعْلَى: السَّمَاوَاتُ.
وَأَمَّا أَرَوْحَ فَمَهَبُّ الرِّيَاحِ مِنْ آفَاقِ الْأَرْضِ.
قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
غَدَا الْجُودُ يَبْغِي مَنْ يُؤَدِّي حُقُوقَهُ *** فَرَاحَ وَأَسْرَى بَيْنَ أَعْلَى وَأَرْوَحَا
أَيْ رَاحَ وَأَسْرَى بَيْنَ أَعْلَى مَالِهِ وَأَدْوَنِهِ، فَاحْتَكَمَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م
