نتائج البحث عن (خَبَرِهِمَا)

1-المعجم المفصل في النحو العربي (الإضافة 2)

ثالثا: ومنها ما يضاف إلى اسم ظاهر، أو إلى ضمير، مع امتناع القطع عن الإضافة، مثل: «كلا»، «كلتا»، «عند»، «لدى»، «سوى»، «قصارى»، «حمادى». كقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها}. «كلتا»: مبتدأ مرفوع بالضّمّة المقدّرة على الألف للتّعذر وهو مضاف «الجنتين» مضاف إليه مجرور بالياء لأنّه مثنّى، وكقول الشاعر:

«كلانا غنيّ عن أخيه حياته ***ونحن، إذا متنا، أشّدّ تفانيا»

حيث وقعت «كلانا» مبتدأ مرفوع بالألف لأنّه ملحق بالمثنّى وهو مضاف و «نا» ضمير متّصل في محلّ جر بالإضافة، وكقول الشاعر:

«كلا أخي وخليلي واجدي عضدا***في النّائبات وإلمام الملمات»

حيث أن «كلا» أضيفت إلى الاسم الظّاهر المعطوف عليه، ومثل: «عند الشّدائد تعرف الإخوان»، ومثل: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ} حيث أضيفت «عند» إلى الاسم الظّاهر «الشّدائد» في المثل الأول و «عند» في الآية أضيفت إلى الضّمير ومثل: «لدى»: «لدى الأمين تحفظ الودائع». و «لديه تحفظ الأسرار»، ومثل: «قصارى جهد المنافق كسب مؤقّت» و «قصاراك ألا تنخدع بظاهره»، ومثل: «حمادى المنافق كسب سريع». و «حماداه ربح عاجل» ومثل: «لا أبتغي سوى مرضاة الله فكل شيء سواها تافه».

كلّ هذه الأسماء هي مثنّاة في الظّاهر أي: في اللّفظ دون المعنى. «أما كلا» «وكلتا» فإنهما مفردان لفظا ومثنّيان معنى، ويجوز في خبرهما مراعاة لفظهما، أو مراعاة معناهما فنقول: «كلا القائدين بطلان وكلاهما بطل» ومثل: «كلتا المدينتين وقفتا في وجه العدو، أو وقفت في وجه العدوّ».

و «كلا» و «كلتا» من الألفاظ الملازمة للإضافة لفظا ومعنى معا، ولا بدّ في المضاف إليه بعدهما أن يكون:

1 ـ دالّا على اثنين سواء أكان اسما ظاهرا، مثل: «كلا القائدين بطلان» أو ضميرا بارزا، كقوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ}.

2 ـ أن يكون المضاف إليه بعدهما كلمة واحدة، فلا تقول: «كلتا المجلّة والرّسالة قرأت» وقد وردت أمثله قليلة لم يوافق عليها كثير من النّحاة، كقول الشاعر:

«كلا أخي وخليلي وأجدي عضدا***في النّائبات وإلمام الملمات»

3 ـ أن يكون معرفة، فلا تقول: «حضر كلا رجلين» ولا: «جاءت كلتا امرأتين» وقد تكون الدّلالة على اثنين بلفظه الحقيقي ولكنّه مشترك اشتراكا معنويا بين المثنّى والجمع كالضمير «نا» في قول الشاعر:

«كلانا غنيّ عن أخيه حياته ***ونحن إذا متنا أشدّ تفانيا»

ومثل:

«كونوا كمن واسى أخاه بنفسه ***نعيش جميعا أو نموت كلانا»

وقد تكون بلفظه الذي دخله التّوسّع والمجاز، كقول الشاعر:

«إن للخير وللشّرّ مدى ***وكلا ذلك وجه وقبل “

حيث أضيفت «كلا» إلى لفظ مفرد «ذلك» ولكنّه مثنّى في المعنى بسبب عوده على اثنين هما: الخير والشّر.

رابعا: منها ما يضاف إلى اسم ظاهر مفرد أي، غير جملة ولا شبه جملة مع امتناع القطع عن الإضافة، مثل: «أولو»، «أولات»، «ذو»، «ذوات»، «ذوا»، «ذوو»، «ذواتا»،... فتقول: «الآباء أولو فضل» ومثل: «الأمهات أولات فضل»، ومثل: «ذو النصيحة أخ بارّ» «ذو» هي اسم موصول مبنيّ على الضّمّة المقّدرة على الواو في محل رفع مبتدأ، أو هي كلمة بمعنى صاحب تقع مبتدأ مرفوع بالواو لأنه من الأسماء السّتّة.

وكقوله تعالى: {وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ} وكقوله تعالى: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} وكقوله تعالى: {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ}.

خامسا: ومنها ما يضاف إلى الجمل وهو نوعان.

الأول: ما يضاف إلى الجمل الاسميّة والفعلية وهو «إذ» و «حيث». وأما «حيث» فهي ظرف مكان مبنيّ دائما على الضّمّ ولا يجوز قطعه عن الإضافة، كقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}، وكقول الشاعر:

«وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ***وينجو بإذن الله من حيث يحذر»

حيث أتى الظرف «حيث» مبني على الضّمّ في محل جر بـ «من» وهو مضاف وجملة «يحذر» مضاف إليه، ويجوز أن تضاف «حيث» إلى المفرد مع بقائها مبنيّة على الضّم فتقول: أنا مقيم حيث الأمن والسّلام.

وأمّا «إذ» فهي على الأغلب ظرف للزمان الماضي المبهم ومعناها، «زمن»، «وقت»، «حين» وتضاف إلى الجمل الاسميّة والفعليّة، فمن إضافتها إلى الجمل الاسميّة، قول الشاعر:

«فرحنا إذ قدمت قدوم سعد***وإذ رؤياك في الأيّام عيد»

حيث جمع هذا البيت بين إضافة «إذ» إلى الجملة الاسميّة وإلى الفعليّة. «إذ» الأولى أضيفت إلى الجملة الفعليّة «قدمت»، و «إذ» الثّانية إلى الجملة الاسميّة «رؤياك عيد»، وكقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} ويجوز قطع «إذ» عن الإضافة لفظا لا معنى فيحذف المضاف إليه ويعوّض التّنوين عنه، كقوله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} ويومئذ أصلها: «يوم» مضاف إلى «إذ» الظّرفية التي قطعت عن الإضافة لفظا وعوض التّنوين عن الجملة المحذوفة، وأكثر ما يقع إفراد «إذ» عند ما تقع مضافا إليه إلى ظرف زمان، كالآية السّابقة، ومن النّادر غير ذلك، كقول الشاعر:

«نهيتك عن طلابك أمّ عمرو***بعافية وأنت إذ... صحيح»

والثاني: ما يضاف إلى الجمل الفعليّة فقط مثل: «إذا»، «لمّا»، فأمّا «إذا» فهي ظرفيّة شرطيّة دالّة على الزّمان المستقبل، ووقوع الماضي بعدها لا يخرجها عن الدّلالة على المستقبل، ويجوز أن يحذف المضاف إليه بعدها ويعوّض منه بالتّنوين، فمن إضافتها إلى الجملة الفعليّة قول الشاعر:

«وإذا تباع كريمة أو تشترى ***فسواك بائعها وأنت المشتري»

حيث أتت «إذا» ظرفا لما يستقبل من الزّمان متضمّنا معنى الشّرط هو خافض لشرطه منصوب بجوابه مبنيّ علي السكون في محل نصب على الظّرفية، وهو مضاف وجملة «تباع كريمة» الفعليّة في محل جرّ بالإضافة، ومن وقوع الماضي بعدها تقول: «إذا غدر المرء بصاحبه كان بسواه أغدر» حيث أضيفت «إذا» إلى فعل ماض «غدر» ولكنّه يدلّ على الاستمرار فلم تخرج عن الدّلالة على المستقبل، وكقول الشاعر:

«إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ***ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي»

حيث أضيفت «إذا» إلى فعل ماض «كنت» ولكنّه يدل أيضا على المستقبل، وفي حذف المضاف إليه تقول: «من يجحد الفضل فليس إذا يعدّ من أهله» حيث أفردت «إذا» فحذف المضاف إليه بعدها، والتّقدير: فليس إذا يجحده يعدّ من أهله».

و «لمّا» هي ظرفيّة بمعنى «حين»، وتضاف دائما إلى الجمل الفعليّة، كقوله تعالى: ولما {جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} وكقول الشاعر:

«عتبت على عمرو فلما فقدته ***وجرّبت أقواما بكيت على عمرو»

حيث أتى الظّرف «لمّا» وقد أضيف إلى الجملة «فقدته».

ملاحظة: هناك أسماء بمعنى «إذ» أو بمعنى «إذا»، مثل: «حين»، «وقت»، «زمن»، «لحظة»، تحتفظ لنفسها بجواز البناء والإعراب عند إضافتها إلى الجملة: فهي مبنية عند إضافتها إلى جملة فعليّة فعلها ماض، كقول الشاعر:

«على حين عاتبت المشيب على الصّبا***فقلت: ألمّا تصح والشيب وازع»

حيث وقع الظّرف «حين» في محل جرّ بالإضافة وهو مبنيّ لأنه أضيف إلى جملة مبنيّة «عاتبت» وهو فعل ماض مبنيّ، أو تكون مبنيّة عند إضافتها إلى المضارع المبني، مثل:

«لاجتذبنّ منهنّ قلبي تحلّما***على حين يستصبين كلّ حليم»

حيث أضيف الظّرف «حين» إلى جملة مبنيّة هي جملة «يستصبين» وهو مضارع مبني...

ويجوز فيها الإعراب والبناء إذا أضيفت الى فعل معرب، كقول الشاعر:

«ولست أبالي حين أقتل مسلما***على أيّ حال كان في الله مصرعي»

حيث أضيف الظّرف «حين» إلى جملة مضارعية معربة «أقتل» وهو مضارع مرفوع أو إذا أضيفت إلى جملة اسميّة، كقول الشاعر:

«ألم تعلمي يا عمرك الله أنني ***كريم على حين الكرام قليل»

كما يجوز فيها الإعراب والبناء حتى ولو كانت إضافتها إلى جملة فعليّة فعلها مبنيّ، مثل: «مضى وقت وجاء آخر، وقت أكرم الناس فلانا لماله، وقت يصل الناس إلى كشف الفضاء”

فكلمة «وقت» ظرف يصحّ فيه البناء والإعراب رغم إضافته إلى فعل ماض مبنيّ هو فعل «أكرم». ومثل: «أين نحن من الأمس زمن كان العلم أملا بعيدا؟ وما شأنه في حاضرنا زمن يناله من يريده» حيث أتى الظّرف «زمن» الأولى التي أضيفت إلى الماضي «كان» ورغم ذلك يجوز فيها البناء والإعراب، وكلمة «زمن» الثّانية ظرف يصحّ فيه البناء والإعراب رغم أنّه أضيف إلى فعل مضارع معرب «يناله» لكنّ الأرجح أن تكون مبنيّة إذا تلاها فعل مبني، وأن تكون معربة، إذا تلاها فعل معرب.

سادسا: منها ما يضاف إلى المفرد وإلى الجمل بنوعيها، مثل: «لدن» وهو ظرف مبنيّ على السّكون، وهو مبهم يدلّ على مبدأ الغاية الزمانية أو المكانية، وقد يسبق «لدن» حرف الجرّ «من» الذي يدلّ على مبدأ الغاية، مثل: «مشيت من لدن الجبل» «لدن» ظرف مبنيّ على السّكون في محل جرّ بـ «من»، وحرّك بالكسر منعا من التقاء ساكنين وهو مضاف «الجبل» مضاف إليه، ومثل: «وتذكر نعمان لدن أنت يافع» حيث أضيف الظّرف «لدن» إلى الجملة الاسميّة «أنت يافع». وكقول الشاعر:

«صريع غوان شاقهنّ وشقنه ***لدن شبّ حتى شاب سود الذّوائب»

حيث أضيف الظّرف «لدن» إلى الجملة الفعليّة الماضويّة «شبّ».

وقد يقطع الظّرف «لدن» عن الإضافة وذلك قبل «غدوة»، مثل: «مكثت هنا لدن غدوة حتى المساء»، وكقول الشاعر:

«وما زال مهري مزجر الكلب منهم ***لدن غدوة حتى دنت لمغيب»

حيث أتى الظّرف «لدن» مبنّيا على السّكون وقد قطع عن الإضافة وأتى بعده «غدوة» يصحّ فيها الرّفع على أنّها فاعل لفعل محذوف تقديره «كان»، أو «ظهر»، أو «وجد» ويصحّ فيها النّصب على أنها خبر «كان» النّاقصة المحذوفة مع اسمها.

ويصحّ أن يحلّ الظّرف «عند» محلّ «لدن» لأنها تفيد معناها، مثل: «الصّبر عند الصّدمة الأولى»، ومثل: «السّفر عند السّاعة الثّامنة» وتختلف «لدن» و «عند» بأمور كثيرة منها:

1 ـ ان «لدن» تكاد تلازم الدّلالة على بدء الغاية الزمانيّة أو المكانيّة، وقد تدلّ على مجرّد الحضور، أما «عند» فإنها تستعمل للدّلالة على بدء الغاية وعلى الحضور المجرّد، مثل: «جلست عندك» فلا تدل «عند» في هذا المثل على بدء زمانيّ أو مكانيّ، ومن القليل النّادر أن تقول: «جلست من لدنك».

2 ـ تكون «لدن» مبنيّة دائما على السّكون، أما «عند» فهي معربة عند أكثر العرب.

3 ـ تكون «لدن» دائما ظرفا مبنيا على السّكون في محل نصب على الظرفيّة، وقليلا ما تخرج منها إلى «شبه الظّرفيّة» وذلك إذا كان قبلها «من» فتكون مبنيّة على السّكون في محل جر بـ «من».

أمّا «عند» فهي إما ظرف أو مجرورة بـ «من».

4 ـ تضاف «لدن» إلى الجملة بنوعيها كما تضاف إلى المفرد، فإن كان الاسم بعدها معربا فيكون مجرورا لفظا ومحلّا وإن كان مبنيّا فيكون مجرورا محلّا فقط، مثل: «مشيت من لدن الجبل إلى النهر» «الجبل» مضاف إليه مجرور لفظا ومحلّا.

وكقوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} أمّا «عند» فلا تضاف للجملة، والمضاف إليه بعدها يكون مجرورا لفظا ومحلّا إن كان معربا ومحلّا فقط إن كان مبنيّا، مثل: «جلست عند رفيقي» ومثل: «جلست عنده».

5 ـ قد تقطع «لدن» عن الإضافة إذا وقع بعدها «غدوة» من غير فاصل بينهما فتكون «غدوة» منصوبة أو مرفوعة أو مجرورة، وعلى هذا يكون الظّرف «لدن» مضافا للجملة لفظا وتقديرا وليس مفردا أي: غير مضاف، أما «غدوة» المنصوبة فيجوز إعرابها: تمييز صاحبه «لدن»، أو منصوبة على التّشبيه بالمفعول به، وعندئذ تكون «لدن» مقطوعة عن الإضافة ويصحّ فيها الرّفع على أنّها فاعل لفعل محذوف تقديره «كان» تامة، كما يجوز فيها الجرّ على اعتبار «لدن» مضاف «غدوة» مضاف إليه مجرور، أما «عند» فلا تقطع عن الإضافة إلّا إذا صارت اسما محضا، مثل: «إن قال شخص: عندي مال، فأجابه آخر: «وهل لك عند» فكلمة «عند» هنا مبتدأ مؤخّر مرفوع، ومثل: «الكتاب عندي» فيقال: «وهل يصونه عندك»، فتكون «عند» في هذا المثل: فاعلا للفعل «يصون».

6 ـ «لدن» هي ظرف متصرّف، ولا يكون إلّا فضلة. أمّا «عند» فقد تكون عمدة، مثل: «السّفر من عند البيت» فهي هنا عمدة لأنها جزء من الخبر.

ملحقات الأسماء الواجبة الإضافة: وهناك أسماء أخرى واجبة الإضافة منها:

أولا: «أي» وهي ستّة أنواع: خمسة منها تلازم الإضافة، ونوع واحد لا يضاف أبدا وهو «أي» التي تكون وصلة لنداء ما فيه «أل»، كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} «أيها» منادى مبنيّ على الضّمّ، و «الهاء» للتّنبيه، أمّا الأقسام الأخرى فهي:

أ ـ أيّ الاستفهاميّة الّتي تكون دائما بلفظ المفرد المذكّر، فان أضيفت إلى نكرة كانت بمعنى «كلّ»، والضّمير العائد إليها يكون إما مفردا مذكرا مراعاة للفظها، وإما مراعاة لمعناها من حيث الإفراد والتّذكير والتّثنية والجمع، فتقول: «أي زميلين أقبلا أو أقبل».

ب ـ «أي» الشّرطيّة. هي اسم شرط جازم فعلين يسمّى الأول فعل الشّرط والثاني جوابه، وهذا الاسم عام مبهم، ويزول إبهامه بالمضاف إليه، ومن الواجب إضافة «أي» الشّرطية لفظا ومعنى، مثل: «أي طالب يواظب على الدّرس والاجتهاد ينجح» ويجوز أن تضاف «أيّ» الشّرطيّة إلى نكرة فتكون عندئذ بمعنى «كل»، ويزيل إبهامها، المضاف إليه، مثل: «أي ضعيف يطلب مساعدتي أعاونه» أمّا إن أضيفت إلى معرفة فيكون المراد منها هو بعض المضاف إليه وتكون بمعنى: «بعض» مثل: «أيّ إنسان يكثر مزحه تضع هيبته». ومثل: «أيّ البنات تعرف؟».

ج ـ «أيّ» الموصولة هي اسم بمعنى: «الذي»، وهي معربة دائما إلّا في حالة واحدة حيث تكون مضافة، وصدر صلتها ضمير محذوف، مثل: «أحبّ من الأصدقاء أيّهم أصدق قيلا» والتّقدير: أيهم هو أصدق قيلا، و «أيّ» الموصولة تجب إضافتها لفظا ومعنى، أو معنى فقط، مثل: «أحبّ من الأصدقاء أيّا هو أشدّ عزما» والتّقدير: أيّهم هو أشد... ولا تضاف «أي» الموصولة إلى النّكرة، وإنّما تضاف إلى المعرفة الدّالّة على متعدّد حقيقيّ، أو تقديريّ، أو بالعطف بالواو، مثل: «يعجبني أيّهم هو أشدّ إخلاصا لوطنه» ومثل: «اشتر أيّ الثّوب وأيّ الحذاء هو أبدع».

د ـ «أي» التي تكون نعتا لنكرة، فهي اسم معرب مبهم يزيل المضاف إليه إبهامه مثل:

«دعوت امرءا أيّ امرىء فأجابني ***وكنت وإيّاه ملاذا وموئلا»

حيث وقعت «أي» نعتا منصوبا لكلمة «امرىء» وهو مضاف و «امرىء» مضاف إليه وتختص «أيّ» هذه بوجوب إضافتها لفظا ومعنى معا، وأن يكون المضاف إليه فكرة مماثلة للمنعوت في التّنكير واللّفظ والمعنى، مثل: «استمعت إلى قصيدة أي قصيدة»، «قصيدة» مضاف إليه نكرة مماثلة للمنعوت في التّنكير واللّفظ والمعنى.

ه ـ «أي» التي تقع حالا، فهي اسم معرب مبهم يدلّ على بيان هيئة صاحبها المعرفة ويزول إبهامه بالمضاف إليه الذي يجب أن يكون نكرة مذكورة ولا يجوز قطعها عن الإضافة، مثل: «لله استاذنا أيّ استاذ» «أيّ» حال منصوب وهو مضاف «أستاذ» مضاف إليه.

ثانيا: «مع» تكون على ثلاث حالات:

1 ـ ظرف مكان يدلّ على اجتماع اثنين، أو ظرف زمان، أو ظرفا متحمّلا الزّمان والمكان معا، مثل: «لا راحة لكريم مع دنيء»؛ «مع» تدلّ على المكان، ظرف مضاف «ودنيء» مضاف إليه، ومثل: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} «مع» ظرف يدلّ على الزّمان وهو مضاف «العسر» مضاف إليه، ولكن «مع» لا يدلّ على الاجتماع في هذا المثل إنّما يدل على التّقارب الحاصل بين الوقتين، إذ لا يجتمع العسر واليسر في زمن واحد؛ ومثل: «كرّمنا العلماء مع أساتذتنا»؛ «مع» تدل على اتّحاد الزّمان والمكان معا.

وكلمة «مع» هي ظرف ملازم للإضافة لفظا و «معنى»، وملازم للإعراب، فهو منصوب بالفتحة، وقد يبنى على السّكون، إلّا إذا وقع بعده حرف ساكن فيبنى على الكسر أو على الفتح، مثل: «لا راحة مع طغيان الحاكم»، وكقول الشاعر:

«قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ***وقد يكون مع المستعجل الزّلل»

حيث يجوز بناء «مع» على الفتح أو على الكسر لأنه تلاها ساكن.

2 ـ ظرفا بمعنى: «عند»، ولا يدلّ على اجتماع أو مصاحبة، معرب، واجب الإضافة ومجرور بـ «من» التي تدلّ على ابتداء الغاية، مثل: «الكريم هو الذي ينفق من معه لا من مع اليتيم»: «مع»: ظرف مجرور بـ «من» وهو مضاف «والهاء» في محل جر بالإضافة في الكلمة الأولى، و «اليتيم» مضاف إليه بعد «مع» الثانية.

3 ـ اسما لا ظرفا يدلّ على مجرّد اصطحاب اثنين أو أكثر، معربا منصوبا منوّنا مؤوّلا بالمشتقّ ومفردا، أي: غير مضاف ويعرب حالا، مثل: «أقبل الزميلان معا» فكلمة «معا» حال منصوب وغير مضاف، وكقول الشاعر:

«فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالكا***لطول اجتماع لم نبت ليلة معا»

ثالثا: «غير» هو اسم مختصّ لا ظرفيّة فيه، يدّل على مخالفة ما قبله لما بعده في حقيقة تكوينه، مثل: «الحيوان غير النّبات»، ويكون ملازما للإضافة لفظا ومعنى، مثل: «الانسان غير الحيوان»، أو معنى فقط، وذلك إذا حذف المضاف إليه وهو معلوم، وملحوظ لفظه في النّيّة والتّقدير، ومسبوق بـ «ليس»، أو بـ «لا» «النّافيتين، مثل: «زرعت شجرة ليس غير» أي: ليس غير شجرة ما زرعت، وتعرب «غير» اسم «ليس» مرفوع وخبرها محذوف، وقد يحذف المضاف ويلحظ معناه دون لفظه، مثل: «قرأت صحيفة ليس غيرها فقط» لوحظ معنى المضاف إليه دون لفظه، و «غير» اسم «ليس» وخبرها محذوف.

وقد يحذف المضاف إليه ولم ينو لفظه ولا معناه، فتكون «غير» معربة منوّنة نكرة، مثل: «زرعت شجرة ليس غيرا»، أي: ليس الزّرع غيرا أو مغايرا وتعرب «غيرا» خبر «ليس» واسم «ليس» تقديره «الزّرع». وقد يحذف المضاف إليه وقد لوحظ ونوي معناه دون لفظه، أي: نوي ولوحظ وجود لفظ آخر، ففي هذه الحالة تبنى «غير» على الضمّ، مثل: «أحسن الأصدقاء الباذل نفسه ليس غير»، وتعرب «غير» اسم «ليس» مبنيّ على الضّمّ في محل رفع وخبر «ليس» محذوف. وما ينطبق على «غير» ينطبق على «قبل» و «بعد»، مثل: «لله الأمر من قبل ومن بعد» فقد حذف المضاف إليه بعد «قبل» ونوي معناه دون لفظه، فهما مبنيّان على الضّمّ في محلّ جرّ بـ «من».

ومثل: «ما شربت قبلا» «قبلا»: ظرف منصوب وقد حذف المضاف إليه ولم ينو لفظه ولا معناه.

رابعا: «عل» كلمة هي ظرف مكان يفيد أن شيئا أعلى من آخر، فهو يبني على الضّم إذا كان معرفة ويدلّ على مكان معيّن، وحذف المضاف إليه ونوي معناه كقول الشاعر:

«ولقد سددت عليك كلّ ثنيّة***وأتيت نحو بني كليب من عل»

فكلمة «عل» تدلّ على ارتفاع معيّن والتّقدير: «من علهم» أي: من فوقهم. لذلك تعرب «عل»: ظرف مبنيّ على الضّمّ في محل جرّ بـ «من» وقد حذف المضاف إليه ونوي معناه ويكون معربا إذا كان دالّا على علوّ مجهول وليس مضافا لفظا ولا معنى، كقول الشاعر:

«مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا***كجلمود صخر حطّه السّيل من عل»

حيث وردت كلمة «عل» دون أن تدلّ على علوّ معيّن، وتعرب «عل» ظرف مجرور بـ «من»، وقد حذف المضاف إليه بعده.

وكلمة «عل» في حالتي البناء والإعراب هي ظرف لا يكون إلا مجرورا بـ «من» ويكون مضافا على الأغلب.

خامسا: «حسب». وهو اسم لا يدلّ على ظرف زمان أو مكان، ويكون مضافا لفظا ومعنى، كقول الشاعر:

«وما أبغي سوى وطني بديلا***فحسبي ذاك من وطن شريف»

حيث وردت كلمة «حسبي» لا تدلّ على زمان ولا على مكان وتعرب: مبتدأ مرفوع ومعناها: «كاف» وتكون مفردة نكرة جامدة معربة، وعند ما

تؤوّل بالمشتقّ يجوز عند استعمالها مراعاة لفظها، أي: تعامل معاملة الأسماء الجامدة من حيث الإعراب فهي إما مبتدأ، أو خبر... ومراعاة معناها، أي: معاملتها معاملة اسم الفاعل كاف ولا تقع إلا نعتا بعد نكرة، أو حالا بعد معرفة، مثل: «استمعت إلى طبيب حسبك من طبيب» «حسب» نعت لأنها وقعت بعد نكرة، ومثل: «استعملت إلى الشاعر شوقي حسبك من شاعر» «حسب» حال منصوب لأنها أتت بعد معرفة. وقد يحذف المضاف إليه بعد «حسب» وينوى معناه فقط، وفي هذه الحالة يكون لفظه جامدا مؤوّلا بالمشتق، مفردا، نكرة، مبنيّا على الضّم فيصير المعنى «ليس غير» ويكون نعتا لنكرة، أو حالا بعد معرفة، أو مبتدأ بشرط اقترانه بالفاء أو قد يكون خبرا، مثل: «إنّ لكلّ بلدة حاضرة فحسب» أي: لا غير وتعرب كلمة «حسب» نعتا مبنيا على الضّمّ في محل نصب. ومثل: «تسعت البناية حسب»، «حسب»: حال مبني على الضّم في محل نصب، ومثل: «اشتريت ثلاثة كتب فحسب» «فحسب» «الفاء»: زائدة. «حسب» مبتدأ مبنيّ على الضّمّ في محل رفع خبره محذوف.

سادسا: «أوّل». لهذه الكلمة استعمالات كثيرة منها:

1 ـ تكون اسما لا ظرفا ومعناه مبدأ الشّيء، كقول الشاعر:

«عرف الناس أنّ حاتم طيّء***أوّل في النّدى وأنت الثاني»

2 ـ يكون اسما جامدا، لا ظرفية فيه، مؤولا بالمشتقّ، ومعناه «أسبق» الدّالة على التّفضيل، وهو معرب ممنوع من الصّرف للوصفية ووزن الفعل، مثل: «أنت في الكرم أول من هذين الرّفيقين». «أول» خبر المبتدأ مرفوع.

3 ـ أن يكون ظرفا بمعنى «قبل» ويجري عليه حكم «قبل» و «غير»... ويعرب إذا كان مضافا لفظا ومعنى، مثل: «أسرعت للغريق أول القادمين» «أول» حال منصوب وهو مضاف «القادمين»: مضاف إليه مجرور «بالياء» لأنه جمع مذكّر سالم. ويعرب أيضا إذا حذف المضاف إليه ونوي لفظه نصّا، مثل: «أسرعت للغريق أول...» «أول» حال منصوب. وإذا حذف المصاف إليه ولم ينو لفظه ولا معناه، مثل: «أسرعت للغريق أولا»: «أولا»: حال منصوب.

ويبنى على الضم إذا حذف المضاف إليه ونوي معناه مثل: «أسرعت للغريق أوّل». «أول»: حال مبني على الضّمّ في محل نصب.

حذف المضاف: يجوز حذف المضاف بثلاثة شروط:

1 ـ إذا وجدت قرينة تدلّ على المضاف نصّا، أو بمعناه، بحيث لا يؤدي الحذف إلى لبس أو تغيير، كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} أي: اسأل أهل القرية.

2 ـ إذا صحّ أن يقوم المضاف إليه مقام المضاف المحذوف، فيكون فاعلا، كقوله تعالى: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} أي: وجاء أمر ربك، «ربّك»: فاعل جاء. أو مفعولا به كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} «القرية»: مفعول به وكقوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي: حبّ العجل. «العجل» مفعول به منصوب. أو مفعولا مطلقا كقول الشاعر:

«ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا***وبتّ كما بات السليم مسهّدا»

أي: ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة أرمدا. «ليلة» مفعول مطلق منصوب أو مبتدأ، كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} أي: زمن الحجّ: «الحجّ» مبتدأ مرفوع. أو خبرا للمبتدأ، مثل: «الدّنيا هي إقبال وإدبار» والتّقدير: هي ذات إقبال وإدبار. «إقبال»: خبر المبتدأ مرفوع، أو خبرا لناسخ، كقوله تعالى: {وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ} والتّقدير: ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله. «من» خبر «لكنّ» اسم موصول مبنيّ على السّكون في محل نّصب. أو ظرفا، مثل: «وصلت إلى المدرسة طلوع الشمس» أي: وقت طلوع الشمس. «طلوع» ظرف منصوب. أو مفعولا لأجله، مثل: «أطعت أمي رضاءها» أي لأجل رضائها. «رضاءها»: مفعول لأجله منصوب «والهاء» في محل جرّ بالإضافة، أو مفعولا معه، مثل: «رجعت للبيت والليل»، «الليل»: مفعول معه منصوب، أو حالا، مثل: «تفرّق الأعداء أيادي سبأ» أي: مثل «أيادي سبأ» «أيادي»: حال منصوب. أو صفة، مثل: «سخرت من أصحاب أيادي سبأ» أي من أصحاب مثل أيادي سبأ.

«أيادي»: نعت أصحاب مجرور بالفتحة عوضا عن الكسرة لأنه ممنوع من الصّرف، أو مجرورا، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} أي: فليس من مرضاة الله في شيء، فكلمة الجلالة «الله» اسم مجرور بـ «من»، ففي كل هذه الأمثلة يحلّ المضاف إليه محلّ المضاف في إعرابه وحركته.

ويجوز أن يحذف المضاف ويبقى المضاف إليه على حاله مجرورا، وذلك إذا كان المضاف المحذوف معطوفا على كلمة مضافة مذكورة مماثلة له في اللّفظ والمعنى، وأن يكون حرف العطف متّصلا بالمضاف إليه، أو منفصلا منه بـ «لا» النّافية، مثل: «ما كلّ سوداء فحمة ولا بيضاء شحمة» أي: ولا كلّ. فالمضاف «كل» محذوف وهو معطوف على كلمة مماثلة لفظا ومعنى وفصل بين «الواو» والمضاف إليه حرف النّفي «لا»، ومثل:

«أكلّ امرىء تحسبين امرءا***ونار توقّد بالليل نارا»

والتّقدير: وكل نار. وكقول الشاعر:

«ولم أر مثل الخير يتركه الفتى ***ولا الشّرّ يأتيه امرؤ وهو طائع»

أي: ولا مثل الشّر.

3 ـ إذا كان المضاف إليه ممّا يصلح أن يحلّ محلّ المضاف المحذوف في إعرابه. إذ لا يصحّ حذف المضاف إذا كان المضاف إليه جملة، كقوله تعالى: {فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}. «حين» ظرف وهو مضاف، والمضاف إليه هو جملة «تمسون» وجملة «تصبحون» لذلك لا يصحّ حذف المضاف.

وإذا لم يتحقق شرط من هذه الشروط الثّلاثة لا يصح حذف المضاف.

حذف المضاف إليه: ويحذف المضاف إليه في ثلاث حالات:

1 ـ أن يحذف المضاف إليه وينوى معناه فيبنى المضاف على الضّمّ وذلك عند ما يكون المضاف كلمة «غير»، أو «قبل»، أو «بعد»، أو «حسب»، مثل: «استشار الولد أباه ليس غير»، «ولم يستمع لأحد قبل ولا بعد»، «غير»: اسم «ليس» مبنيّ على الضّمّ في محل رفع وقد حذف المضاف إليه بعده ونوي معناه، وكذلك «قبل» و «بعد».

2 ـ أن يحذف المضاف إليه ولا ينوى لفظه ولا معناه فيرجع المضاف معربا كما كان قبل الحذف ويقبل التّنوين، كقوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى} والتّقدير وكلّ فريق. فقد حذف المضاف إليه ولم ينو لفظه ولا معناه لذلك نوّن المضاف.

3 ـ أن يحذف المضاف إليه وينوى ثبوت لفظه، فيبقى المضاف على إعرابه، ولا ينوّن، وتبقى أحكام الإضافة بعد الحرف كما كانت قبله، وذلك إذا كان المضاف اسما تامّا أي: لا يدل على الغايات مثل: «قبل، وبعد»، وأن يعطف عليه اسم عامل في لفظ مشابه للمضاف إليه المحذوف في صيغته ومعناه، كقول الشاعر:

«يا من رأى عارضا يسرّ به ***بين ذراعي وجبهة الأسد»

والتّقدير: بين ذراعي الأسد وجبهة الأسد. وقد يكون الاسم العامل في لفظ مشابه للمضاف إليه مضافا، كالبيت السّابق، أو غير مضاف، كقول الشاعر:

«علّقت آمالي فعمّت النّعم ***بمثل أو أنفع من وبل الدّيم»

والتّقدير بمثل وبل الديم أو بأنفع من وبل الدّيم، حيث عطف على المضاف كلمة «بأنفع» وهو غير مضاف إلى ما بعده.

نعت المضاف والمضاف إليه: إذا كان النعت بعد المركّب الإضافي مثل: «عبد العزيز، سيف الدين»، فيكون تابعا للمضاف، لأنه المقصود الأساسيّ بالحكم، إلا إذا قام دليل على أن المقصود بالنّعت هو المضاف إليه، أو أن المضاف هو كلمة «كل»، مثل: «جاء أبو عليّ الشجاع»: «الشجاع»: نعت «أبو» مرفوع بالضّمة، ومثل: «أسرع إلى بذل الجهود الصّادقة لإنقاذ الغريق». «الصادقة»: نعت «الجهود» وهو المضاف إليه، وذلك لإقامة القرينة التي تدل على أن المنعوت هو المضاف إليه، وهذه القرينة هي تأنيث كلمة «الصّادقة» تبعا للمنعوت «الجهود».

ومثل: «كلّ أمّ مخلصة هي دعامة الأسرة» «مخلصة» نعت للمضاف إليه «أم» بدليل تأنيث النّعت والمنعوت.

المضاف إلى ياء المتكلم: إضافة الاسم إلى ياء المتكلّم تستلزم أحكاما في ضبط آخر المضاف، وفي ضبط ياء المتكلم، ويتبيّن ذلك في ما يلي:

أولا: يجب كسر آخر المضاف، وبناء ياء المتكلّم على السّكون أو على الفتح في محل جرّ وذلك:

1 ـ إذا كان المضاف اسما مفردا صحيح الآخر، كقول الشاعر:

«أأكذب عامدا من أجل مال ***فليس بنافعي ما عشت مالي»

«مالي»: اسم صحيح الآخر، كسر آخره وياء المتكلّم مبنيّة على السّكون.

2 ـ إذا كان المضاف اسما مفردا معتلّا شبيها بالصّحيح أي: ما كان في آخره «واو» أو «ياء» متحرّكة، مثل كلمة: «شجو، وسقي» فتقول: «إن صديقي الحقّ من يبدّد شجوي ويزيد صفوي». فكلمة «صديقي» اسم صحيح الآخر كسر آخره وبنيت «الياء» على السّكون وكلمة «شجوي» شبيهة بالصّحيح ومنتهية بواو متحرّكة، لذلك كسر الآخر وبنيت «الياء» على السّكون، ومثلها كلمة «صفوي». ومثل: «صفوي يكدره بغيي».

3 ـ إذا كان المضاف جمع تكسير، مثل: «أحبّ رفاقي».

4 ـ إذا كان المضاف جمع مؤنث سالما، مثل: «تحبّ زميلاتي التسابق في العمل» ومثل: «أحبّ لزميلاتي ما أحبّ لنفسي» ومثل: «أحبّ زميلاتي لأنهنّ أهل لذلك» ويخضع المضاف إلى «ياء» المتكلّم لأحكام المنادى الصّحيح الآخر المضاف إلى ياء المتكلّم أي: يجوز حذف ياء المتكلّم مع بقاء الكسرة لتدلّ عليها، مثل قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وكقوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ} فقد حذفت «الياء» في الآية الأولى من كلمة «دين» وعوّض منها بالكسرة، كما حذفت، «الياء» في الآية الثّانية من الفعلين «أكرمن وأهانن» وعوّض منها بالكسرة، ومثل: «عاهدت نفس على التزام الأخلاق الفاضلة»، ويجوز قلب الياء «ألفا» مثل: «وقفت نفسا...» «نفسا»: مفعول به منصوب بالفتحة المقدّرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفا. و «الألف» المنقلبة عن «ياء» في محل جرّ بالإضافة. أو حذف «الياء» والتّعويض منها بـ «تاء» التّأنيث مبنيّة على الفتح، أو الكسر، أو الضّمّ بشرط أن يكون المضاف لفظة «أمّ» أو «أب»، مثل: يا أبت يا أبت، يا أمّت، يا أمّت، ويدخل في حكم المضاف الصّحيح الآخر عند إضافته إلى «ياء» المتكلّم الأسماء الخمسة أي: «أب»، «أخ»، «حم»، «فم»، «هن»، من دون «ذو»، وتعرب بحركات مقدّرة على ما قبل «ياء» المتكلّم.

ثانيا: يجب تسكين آخر المضاف وبناء «ياء» المتكلّم على الفتح وذلك:

1 ـ إذا كان المضاف اسما مقصورا أي: منتهيا بألف لازمة، مثل: «هدى»، «فتى»، «رضى» فتقول: «هداي يدلّني على الطّمأنينة»، ومن العرب من يقلب ألف المقصور «ياء» فتقول: «هديّ يدلّني على السّعادة» هديّ: مبتدأ مرفوع بالضّمّة المقدّرة على الألف المقصورة المنقلبة «ياء» والمدغمة في «ياء» المتكلّم وهذه «الياء» في محل جرّ بالإضافة.

إذا كان الاسم منقوصا منتهيا بياء لازمة مكسور ما قبلها غير مشدّدة مثل: «الهادي» «الوالي» «الداعي»، «القاضي»، فتدغم ياء المنقوص بياء المتكلّم المبنيّة على الفتح، فتقول: «يا أستادي أنت هاديّ إلى الرشاد»؛ «هاديّ»: خبر المبتدأ مرفوع بالضّمّة المقدّرة على «ياء» المنقوص وهو مضاف و «ياء» المتكلّم في محل جرّ بالإضافة وهي مبنيّة على الفتح.

3 ـ إذا كان المضاف مثنى أو شبهه، ففي حالة الرّفع تبقى الألف وتزاد بعدها ياء المتكلّم مبنيّة على الفتح بعد حذف «نون» المثنّى المضاف، فتقول: «حفظت يداي مال أخي» «يداي»: فاعل مرفوع بالألف لأنه مثنى وهو مضاف و «ياء» المتكلّم المبنيّة على الفتح في محلّ جرّ بالأضافة وكلمة «أخي» مضاف إليه مجرور بالكسرة قبل «ياء» المتكلّم وهو مضاف و «ياء» المتكلّم المبنيّة على السّكون في محلّ جرّ بالإضافة. وفي حالتي النّصب والجرّ تبقى «ياء» المثّنى وتدغم في «ياء» المتكلّم المبنيّة على الفتح بعد حذف نون الجمع مثل: «يا معلميّ الاخلاص والتّفاني»، «معلمي»: منادى منصوب «بالياء» لأنه جمع مذكر سالم وهو مضاف و «ياء» المتكلّم المبنيّة على الفتح في محل جرّ بالإضافة، وحذفت منه «النون» عند الإضافة.

ومثل: «أنا أحبّ معلميّ»؛ «معلمي»: مفعول به منصوب «بالياء» لأنه مثنّى وحذفت «نون» التّثنية للإضافة وهو مضاف و «ياء» المتكلّم المبنيّة على الفتح في محل جرّ بالإضافة، ومثل: «لمعلميّ فضل كبير في تعليمي أو لمعلميّ...».

4 ـ إذا كان المضاف جمع مذكر سالم أو شبهه، فشبه الجمع هو العقود من عشرين إلى تسعين، وشبه المثنّى اثنان وثنتان... ففي حالة الرّفع تقلب «واو» الجمع «ياء» ثم تدغم بياء المتكلّم بعد حذف نون الجمع عند الإضافة، كقول الشاعر:

«أودى بنيّ وأعقبوني حسرة***عند الرّقاد وعبرة لا تقلع»

حيث أتى شبيه الجمع «بني» وهو فاعل «أودى» مرفوعا بالواو المنقلبة «ياء»، وحذفت «النّون» للإضافة، و «ياء» المتكلّم، المدغمة بالياء الأولى، مبنيّة على الفتح في محل جرّ بالإضافة. وفي حالتي النّصب والجرّ تدغم ياؤه بياء المتكلّم المبنيّة على الفتح بعد حذف «النون» للإضافة، كقوله تعالى: {وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} «بمصرخي»: اسم مجرور بالباء وعلامة جرّه «الياء»؛ وحذفت نون الجمع للإضافة، و «ياء» المتكلّم، المدغمة، بياء الجمع، مبنيّة على الفتح في محل جرّ بالإضافة.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


2-المعجم المفصل في النحو العربي (إن وأخواتها)

إنّ وأخواتها

هي أحرف مشبّهة بالفعل، وسمّيت بهذا الاسم لأنها تشبه الفعل في خمسة أمور أولها: تضمنها معنى الفعل. وثانيها: بناؤها على الفتح كالفعل الماضي، وثالثها: قبولها «نون» الوقاية كالفعل، مثل: «كأنني»، «لكنني»، «ليتني»، «لعلّني». ورابعها: عملها الرّفع والنّصب كالفعل. وخامسها: تأليفها من ثلاثة أحرف فما فوق وقد تكون هذه التّسمية راجعة إلى أن هذه الأحرف يبطل عملها بالرّفع والنّصب إذا دخلها مثل، «ما» الكافّة. وهذه الأحرف هي من النّواسخ التي تدخل على المبتدأ والخبر فتنصب الأول وتسميه اسمها وترفع الثّاني وتسميه خبرها، مثل: «إنّ المطر غزير»، وهذه الحروف هي: «إنّ»، «أنّ»، «لكنّ»، «ليت»، «وكأنّ»، و «لعلّ»، ويلحق بها في العمل «عسى» التي بمعنى لعلّ و «لا» النّافية للجنس.

مقارنة «إنّ» بـ «كان»: تتّحد «إنّ» و «كان» في كونهما من النّواسخ، أي: بدخولهما على المبتدأ أو الخبر، ولكنهما يختلفان في أمور عدّة منها:

1 ـ «إنّ» وأخواتها تنصب المبتدأ اسما لها، وترفع الخبر خبرا لها، أمّا «كان» وأخواتها فترفع المبتدأ اسما لها وتنصب الخبر خبرا لها.

2 ـ «إنّ» وأخواتها حروف مشبّهة بالفعل، أمّا «كان» وأخواتها فمنها أفعال مثل: «كان»، و «أصبح»، و «أضحى»، و «ظلّ»، و «بات»...، ومنها حروف كالحروف المشبّهة بـ «ليس» أي: «ما»، و «لا»، و «لات»، و «إن».

ومنها أسماء وهي المشتقات كاسم الفاعل الذي يعمل عمل هذه الأفعال، مثل: كائن...

3 ـ «إنّ» وأخواتها لا بدّ أن تكون في صدر جملتها إلا «أنّ» المفتوحة الهمزة مع تشديد النّون فيجوز أن يسبقها شيء من جملتها، ويجب أن تكون مع معموليها جزءا من جملة أخرى في الإعراب، أمّا «كان» وأخواتها فليست لازمة التّصدير.

تشبيهها بالفعل: سمّيت هذه الأدوات حروفا مشبّهة بالفعل لأنها تعمل عمل الفعل كما سبق وهي تدخل على المبتدأ والخبر فتنصب الاسم وترفع الخبر. ويقول الكوفيّون الأصل في هذه الحروف ألّا تنصب الاسم، وإنّما نصبته لأنها شبّهت بالفعل فهي فرع عليه، وتقديم المنصوب على المرفوع فرع وليس أصلا، فألزموا الفرع الفرع، أو لأنّها أحطّ من الأصل. والحروف هذه لمّا أشبهت الفعل لفظا ومعنى ألزموا فيها تقديم المنصوب ليعلم أنها حروف وليست أفعالا، إنما شبّهت بها من ناحية العمل، وقد تكون تسميتها حروفا لأنها تتضمن معنى الفعل دون حروفه، وقد تكون هذه التّسمية راجعة إلى أن هذه

الأحرف يبطل عملها بالرّفع والنّصب إذا دخلتها «ما» الكافّة.

معانيها: إن الأحرف المشبّهة بالفعل تتضمّن معنى الفعل دون حروفه، فـ «إنّ» و «أنّ» معناهما التّوكيد، أؤكّد، «لكنّ» الاستدراك، أستدرك، «ليت» التّمني، أتمنى، «لعلّ» الترجّي أرجو، و «كأن» التّشبيه أشبّه ولكلّ منها أحكام خاصة بالمعنى وباللّفظ، أو بالعمل، أو ببطلانه.

يفيد «أن» وأنّ توكيد نسبة المبتدأ للخبر، وإزالة الشّكّ عنه، ويغنيان عن تكرار الجملة، ولا يستعملان إلّا في توكيد الإثبات، وقد تكون «أنّ» المفتوحة الهمزة للترجّي مثل «لعل» وذلك بشروط منها: أنه يجب أن تلزم الصّدارة، وأن تكون الجملة التي تدخل عليها اسميّة، ولا تؤوّل مع معموليها بمصدر، ولا أن يتقدّم أحد معموليها ولا معمول أحدهما عليها، مثل: «أنك بارع عندي».

«أنّ» بمعنى «لعلّ» والتّقدير: لعلك بارع عندي.

«أنك» «أنّ» حرف مشبّه بالفعل و «الكاف» ضمير متصّل مبنيّ على الفتح في محل نصب اسم «أنّ» «بارع»: خبر «أنّ» عندي: ظرف منصوب متعلق بـ «بارع» وهو مضاف. و «الياء» في محل جر بالإضافة. وقد تكون «إنّ» المكسورة الهمزة بمعنى «نعم»، فتعتبر حرف جواب، لا عمل لها، كقول الشاعر:

«قالوا: كبرت، فقلت: إنّ، وربّما***ذكر الكبير شبابه فتطرّبا»

حيث وردت «إنّ» بمعنى «نعم». وقد تلحقها «هاء» السّكت، كقول الشاعر:

«ويقلن شيب قد علا***ك، وقد كبرت، فقلت: إنّه»

حيث وردت «إنّه» بمعنى «نعم»، وقد اتصلت «بهاء» السّكت. ويجوز أن يقع المصدر المنسبك من «أنّ» ومعموليها اسما ل «إنّ» أو لإحدى أخواتها، بشرط أن يتأخّر الاسم ويتقدّم عليه خبرها شبه جملة، مثل: «إنّ عندي أنك مخلص» «إنّ»: حرف مشبه بالفعل. «عندي» ظرف متعلّق بخبرها المحذوف تقديره: موجود. و «الياء» في محل جرّ بالإضافة. و «أنك»: حرف مشبه بالفعل مع «الكاف» اسمه. «مخلص»: خبره. والمصدر المنسبك من «أنّ» واسمها وخبرها في محل نصب اسم «إنّ». ومثل: «كأنّك في قلبي أنّك عطوف» و «لعلّ في ذهنك أنّك أخلص النّاس إليّ».

ومن المعروف أن هذه الحروف تدخل على المبتدأ والخبر فتنصب الاوّل، وترفع الثّاني، لكن من العرب من ينصب بها الاثنين معا. كقول الشاعر:

«إذا اسودّ جنح اللّيل فلتأت ولتكن ***خطاك خفافا إنّ حراسنا أسدا»

حيث وردت «إنّ» وقد نصبت الاسم «حرّاسنا» كما نصبت الخبر «أسدا» على لغة من ينصب الجزأين بها. ولكن من العرب من يرفض هذا الحكم ويفسّر إعراب الجزأين في هذا البيت على الوجه التّالي: «أسدا»: مفعول به لفعل محذوف تقديره: يشبهون أسدا. والجملة الفعلية هي خبر «إنّ»، فيكون الخبر غير منصوب، لأنه غير موجود. وكقول الشاعر:

«كأنّ أذنيه إذا تشوّفا***قادمة أو قلما محرّفا»

حيث تعرب «أذنيه» اسم «كأنّ» منصوب بالياء لأنه مثنى و «الهاء» في محل جرّ بالإضافة.

«قادمة» «خبر» كأنّ، منصوب. وعلى الوجه الإعرابي الآخر: «قادمة»: مفعول به لفعل

محذوف، والتّقدير: كأنّ أذنيه تشبهان قادمة أو قلما. ومثل:

«قد طرقت ليلى بليل هاجعا***يا ليت أيّام الصّبا رواجعا»

حيث نصبت «ليت» الاسم «أيام» والخبر «رواجعا». وعلى الوجه الآخر. «رواجعا» مفعول به لفعل محذوف تقديره: يا ليت أيام الصّبا تعود رواجعا.

ويشترط في عمل «إنّ» و «أنّ» ألّا تدخل عليهما «ما» الزّائدة التي تسمى أيضا «ما» الكافّة، لأنها تكفّ النّاسخ عن العمل وتكفّ نفسها عن أن تكون موصولة، أو موصوفة، وهو يكفّها عن أن تكون غير الزّائدة، فلذلك تسمى «إنما» أو «أنّما» كافّة ومكفوفة، كقول تعالى: {إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ} وكقوله تعالى: {قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} وفي الآيتين بطل عمل «إنما» و «أنما» لدخول «ما» الزائدة عليهما. كما أن في الآية الثانية دخلت «إنّما» على الفعل المضارع «يوحى».

شروط اسمهما: يشترط في اسم «إنّ» و «أنّ» وفي اسم سائر أخواتهما أن لا يكون من الكلمات التي تلازم الابتداء، مثل: «طوبى»، ولا من الكلمات التي لها حق الصّدارة كأسماء الشّرط، والاستفهام، ولا من الكلمات المضافة إلى ما لها حقّ الصّدارة، مثل: «كتاب من قرأته» وأن لا يكون اسمها في الأصل مبتدأ وجب حذفه، مثل: «مررت بزيد المسكين العالم». فكلمة «العالم» نعت مقطوع على الرّفع وهو خبر المبتدأ محذوف تقديره: هو.

شروط الخبر: ويشترط في خبرهما أحكام عدّة منها:

1 ـ ألا يكون إنشائيا طلبيّا أو غير طلبيّ.

فالانشاء الطلبيّ هو الذي يشمل الأمر، والنّهي، والدّعاء، والاستفهام، والعرض، والتّحضيض، والتّمني، والتّرجي. أما الإنشاء غير الطّلبي فيشمل: التّعجب، وجملة المدح والذّم، وجملة القسم نفسه، و «كم» الخبريّة، وربّ، وألفاظ البيع، مثل: بعت لك ما حلبت، أو وهبت..

ويصحّ أن يكون هذا الخبر من الإنشاء المتضمّن «نعم» و «بئس»، مثل: «إنّ زيدا نعم الصّديق» فجملة «نعم الصديق» جملة فعليّة في محل رفع خبر «إنّ» ومثل: «إنّ الخائن بئس الرّجل».

فجملة «بئس الرجل» خبر إنّ. ولا يصحّ أن تقول: «إنّ الفقير أحسن إليه» ولا أن تقول: «إن الفقير لا تهنه».

2 ـ ويشترط التّرتيب بين الاسم والخبر، فلا يتقدّم الخبر على الاسم إذا كان مفردا مثل: «إنّ الموت حقّ». الموت اسم «إنّ»؛ «حقّ»: خبرها. أو إذا كان جملة اسمية كانت، مثل: «إنّ العلم فوائده جمّة» فالجملة الاسميّة «فوائده جمّة» هي خبر «إنّ» أو فعليّة، مثل: «إن العقلاء ينفرون من الجرائم» الجملة الفعليّة «ينفرون من الجرائم» في محلّ رفع خبر «إنّ». وكقول الشاعر:

«إنّ الأمين، إذا استعان بخائن ***كان الأمين شريكه في المأثم»

حيث وردت جملة «كان» واسمها وخبرها «خبرا» ل «إنّ» متأخّرا عن الاسم أما إذا كان الخبر شبه جملة فيجوز أن يتقدّم على الاسم فقط، كقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى، وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى} وكقوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيمًا} وكقول الشاعر:

«فلا تلمني فيها فإنّ بحبّها***أخاك مصاب القلب جمّ بلابله»

وفيه وردت شبه الجملة «بحبّها» خبرا ل «إنّ» متقدّما على الاسم، وكقول الشاعر:

«إنّ من الحلم ذلّا أنت عارفه ***والحلم عن قدرة فضل من الكرم»

حيث تقدّم الخبر شبه الجملة «من الحلم» على اسم «إنّ».

ويجب أيضا أن يتقدّم الخبر شبه الجملة على الاسم، إذا اشتمل على ضمير يعود على الخبر، مثل: «إنّ في الجامعة مديرها». «مديرها» اسم إنّ» متأخر عن الخبر لأنه يتضمن ضميرا يعود على الخبر. ومثل: «إن أمام البيت حارسه».

وقد يحذف خبر «إنّ» إذا سدّت مسدّه إمّا «واو» المعيّة، مثل: «إنّك وصدقا» أي: إنك مع الصّدق، أو مع صدق، أو يسدّ مسدّه المصدر المكرّر، مثل: «إن الطلاب صفّا صفّا»، أو الحال، كقول الشاعر:

«إن اختيارك ما تبغيه ذا ثقة***بالله مستظهرا بالحزم والجدّ»

حيث أتى الحال «ذا ثقة» سادا مسد الخبر وكذلك الحال «مستظهرا»: حال ثانية.

فتح همزة إنّ: يجب فتح «إنّ» في موضع واحد، هو أن يصحّ أن تسبك مع ما بعدها بمصدر يكون جزءا من جملة مفتقرة:

1 ـ إلى فاعل، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا}. «أن» وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع فاعل «يكفهم» والتّقدير: أو لم يكفهم نزول. وكقول الشاعر:

«لقد زادني حبّا لنفسي أنّني ***بغيض إلى كلّ امرىء غير طائل»

حيث وردت «أنّ» وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع فاعل «زادني». وقد يكون الفعل مقدّرا، مثل: «اصغ ما أنّ المحاضر يتكلّم» حيث وردت الجملة المكوّنة من «أنّ» ومعموليها في تأويل مصدر مرفوع فاعل لفعل مقدّر. والتّقدير: ما ثبت أن... ومثل: «لو أن الاستاذ حاضر لدخلنا إلى القاعة واستمعنا إليه» أي لو ثبت أن...

2 ـ إلى نائب فاعل، كقوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ} وفيها «أنّ» ومعموليها في تأويل مصدر يقع نائب فاعل للفعل المجهول «أوحي».

3 ـ إلى مبتدأ، كقوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً} وفيها «أنّ» ومعموليها في تأويل مصدر مرفوع يقع مبتدأ خبره شبه الجملة، «من آياته» وكقوله تعالى: {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} حيث أتت «كان» واسمها وخبرها في محل رفع خبر «أن». والجملة المؤلّفة من «أنّ» ومعموليها في تأويل مصدر مرفوع يقع مبتدأ بعد «لو لا» والتّقدير: لو لا تسبيحه. والخبر محذوف وجوبا.

4 ـ إلى خبر لمبتدأ، مثل: «المعروف أنك صائم». «أنّ» ومعموليها في تأويل مصدر مرفوع خبر للمبتدأ «المعروف». والتّقدير: المعروف صيامك.

5 ـ إلى خبر ل «كان»، مثل: «كان المعروف أنّك صائم». «أنك صائم» مؤوّل بمصدر يقع خبرا ل «كان». ويشترط في خبر المبتدأ، أو خبر «كان» أن يكون خبرا لمبتدأ هو اسم معنى، وغير قول، ومحتاجا للخبر المؤوّل.

6 ـ إلى مفعول لأجله، مثل: «كلّمتك أني أحبّك» والتّقدير: لأني أحبّك.

7 ـ إلى مفعول معه، مثل: «سرّني قدوم المحاضر وأنّه يحدّثنا» والتقدير: سرّني قدومه ومحادثته أو مع محادثته. «أنّ» ومعموليها: مفعول معه.

8 ـ إلى مستثنى، مثل: «تسرّني طباعك إلّا أنك لا ترضى بالقليل».

9 ـ إلى مضاف إليه إذا كان المضاف مما يختصّ بإضافته إلى الجمل، مثل: «تسرّني طباعك غير أنك تخلف الوعد» حيث وردت «أنّ» مع معموليها في محل جرّ بالإضافة. والمضاف هو «غير» التي لا تضاف إلّا إلى جملة في الأغلب وكقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} حيث وردت «أنّ» وما بعدها في محل جرّ بالإضافة والمضاف هو كلمة «مثل» التي تضاف إلى الجمل في الأغلب.

10 ـ إلى مجرور بحرف جر، كقوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ} حيث وردت الجملة الاسميّة «هو الحق» في محل رفع خبر «أن».

و «أنّ» مع معموليها في محل جر بحرف الجرّ «الباء».

11 ـ إلى اسم معطوف على ما سبق، كقوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ}.

12 ـ إلى بدل من شيء سبق، كقوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ} وفيها «أنّ» وما بعدها في تأويل مصدر هو بدل من «إحدى».

13 ـ إلى مفعول به، في قول غير محكيّ، كقوله تعالى: {وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ} وقد يسدّ المصدر المؤوّل من «أنّ» ومعموليها مسدّ المفعولين إذا لم يتوفّر في الجملة سواه، مثل: «ظننت أننا سنزور القمر»، «أنّ» وما بعدها في تأويل مصدر سدّ مسدّ مفعولي «ظنّ».

ويجب فتح همزة «إنّ» في أساليب وردت عن العرب منها: «أحقّا أن جيرتنا استقلّوا»، أي: أفي حقّ أنّ...، فالمصدر المنسبك من «أنّ» وما بعدها في تأويل مصدر هو مبتدأ مؤخّر خبره شبه الجملة «في الحقّ» والتقدير: استقلال...

وكقول الشاعر:

«أفي الحقّ أني مغرم بك هائم ***وأنّك لا خلّ هواك ولا خمر»

وأحيانا يستعملون هذا الأسلوب بلفظ آخر وهو: «أما أنّ جيرتنا استقلّوا»؛ ولكن إذا كانت «أما» حرف استفتاح فيجب كسر همزة «إنّ». و «أما» هنا مركّبة من كلمتين: همزة الاستفهام، و «ما» ظرف بمعنى «شيء» أو «حق» مبنيّ على السّكون في محلّ نصب ومعناها: أحقا. وهو متعلّق بخبر مقدّم، والمصدر المؤوّل من «أنّ» ومعموليها هو مبتدأ مؤخّر.

كسر همزة إنّ: ويجب كسر همزة «إنّ» حين لا يصح أن تسبك مع معموليها بمصدر، وذلك:

1 ـ إذا وقعت في ابتداء الكلام، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.

ومثل:

«إنّ إنّ الكريم يحلم ما لم ***يرين من أجاره قد ضيما»

2 ـ وتكسر همزة «إنّ» ولو كان عملها باطلا أي: ولو اتصلت بها «ما» الكافّة، مثل:

«وإنّما يرضي المنيب ربّه ***ما دام معنيا بذكر قلبه»

حيث وردت «إنّما» كافة ومكفوفة، وبطل عمل «إنّ» فكسرت همزتها، وكذلك تكسر إذا وقعت في كلام مستأنف، كقول الشّاعر:

«يخفي صنائعه والله يظهرها***إنّ الجميل إذا أخفيته ظهرا»

حيث وردت «إنّ» في صدر جملة استئنافيّة مكسورة الهمزة.

3 ـ وتكسر همزة «إنّ» إذا وقعت بعد حرف من حروف الاستفتاح التي تدل على بدء الكلام، وعرض جملة جديدة مهمّة ومؤكدة عند المتكلّم، مثل: «ألا إنّ المعروف واجب»، ومثل: «أما إنّ إنكار الأخوّة جريمة» وكقول الشاعر:

«وإنّي شقيّ باللّئام، ولا ترى ***شقيّا بهم إلّا كريم الشمائل»

وكقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}.

4 ـ إذا وقعت في أوّل جملة الصّلة، كقوله تعالى: {وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ}، حيث وردت «إنّ» مكسورة الهمزة لأنها وقعت في صدر صلة الموصول. أما إذا سبقها شيء من جملة الصّلة فتفتح مثل: «جاء الذي عندي أنّه كريم»، حيث فتحت همزة «أنّ» لأنها لم تقع في صدر صلة الموصول، إذ وقعت بعد الظّرف عندي. ومثل: لا أكرم الرجل ما أنّه كذّاب» أي: ما ثبت أنه...

5 ـ إذا وقعت في صدر جملة الصّفة التي يكون موصوفها اسم ذات، مثل: «جاء رجل إنه غنيّ»؛ «رجل»: اسم ذات وكسرت بعده همزة «إن»، وهي مع معموليها في محل رفع صفة ل «رجل»، ومثل: «مررت برجل إنه فقير» حيث كسرت همزة «إنّ» لأنها وقعت في صدر جملة الصّفة.

6 ـ إذا وقعت في صدر الجملة الحالية، مثل: «جاء الرجل إنه غنيّ»، «الرجل» اسم معرفة كسرت بعده همزة «إن»، فهي ومعمولاها في تأويل مصدر يقع حالا، وكقوله تعالى: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ} حيث كسرت همزة «إنّ» لوقوعها في صدر الجملة الحالية، وبعد «واو» الحال.

7 ـ إذا وقعت في صدر الجملة الواقعة جوابا للقسم، سواء أكانت جملة القسم اسميّة، مثل: «لعمرك إن العدل مطلوب» فجملة القسم اسميّة تقديرها: لعمرك قسمي. وكسرت همزة «إنّ» لأنها وقعت في صدر جواب القسم، أو كانت جملة القسم فعليّة، مثل: «أحلف بالله إن القول صادق» فجملة القسم «أحلف بالله» فعليّة، أو كانت فعليّة فعلها مقدّر، مثل: «والله إنّي مجتهد» فالجملة القسميّة فعلها مقدّر. والتقدير: أحلف بالله... وكقوله تعالى: {حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ}، وفيها القسم مقدّر دلّت عليه «واو» القسم وكقول الشاعر:

«فو الله إنّي ذلك المخلص الذي ***عزيز على الأيّام أن يتغيّرا»

حيث وردت جملة القسم «فو الله» فعلها مقدّر، وتقديره: أحلف بالله.

8 ـ إذا وقعت في صدر جملة محكيّة بالقول.

أما إذا كانت غير محكيّة بالقول أي: معمولة لغيره، لا تكسر، مثل: «أيّها الطّالب، أخصّك القول أنّك ناجح»، أي: لأنك ناجح. والمحكيّ بالقول لا يكون إلا جملة، اسميّة، مثل: «الزّهر يانع» أو فعلية، مثل: «جاد الله»، وذلك بشرط ألا يكون القول المحكيّ بمعنى الظّنّ، لأنه إذا كان بمعنى الظّنّ لا تكسر، مثل: «أتقول أن الطقس يثلج؟» أي: أتظنّ، وكقوله تعالى: {قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ}. ومثل قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: «إن الدّين يسر» وكقول الشاعر:

«تعيّرنا أنّا قليل عديدنا***فقلت لها: إنّ الكرام قليل»

فقد وردت «إنّ» مكسورة همزتها لأنها وقعت في صدر جملة محكيّة بالقول.

9 ـ إذا وقعت بعد فعل من أفعال القلوب علّق عن العمل بسبب وجود «لام» الابتداء في خبرها، كقوله تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ}، حيث ورد الفعل «علم» من أفعال القلوب وقد علّق عن العمل بسبب دخول لام الابتداء على خبر «إنّ». فإن لم تقع «اللام» في خبرها فيجوز فتح الهمزة أو كسرها، مثل: «علمت أن عاقبة الظلم وخيمة»، حيث يجوز في همزة «إن» الفتح والكسر، لأنها وقعت بعد فعل «علمت» ولم تدخل «اللّام» على خبرها.

10 ـ إذا وقعت «اللّام» في خبرها بدون وجود فعل معلّق قبلها، مثل: «إنّ ربك لرحيم».

11 ـ إذا وقعت خبرا لمبتدأ هو اسم ذات، مثل: «الصّادق إنه محترم» كسرت همزة «إن» لأنها مع معموليها خبرا لاسم ذات: «الصادق»: مبتدأ مرفوع وهو اسم ذات. وقد يدخل على هذا المبتدأ أحد النّواسخ، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ}.

12 ـ إذا وقعت بعد «كلّا» الاستفتاحيّة، كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى}.

13 ـ إذا وقعت بعد «حتى» الابتدائية، مثل: «الصحراء غنيّة حتى إنها لتجود بالمعادن».

14 ـ إذا كانت تابعة لشيء ممّا سبق، مثل: «قل: إن الله ربي وإن محمّدا رسول الله».

جواز فتح همزة إنّ وكسرها: يجوز فتح همزة «إنّ» وكسرها في مواضع عدّة، أشهرها:

1 ـ إذا وقعت بعد «فاء» الجزاء، كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. فالكسر على تقدير: فهو غفور رحيم، والفتح على تقدير: الحاصل بسبب التّوبة هو الغفران والرّحمة، وكقوله تعالى: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ}.

أي: فإنه يئوس، أو فهو يئوس. حيث قدّرت «إنّ» بعد فاء الجزاء مكسورة الهمزة «فإنه» أو مفتوحة.

2 ـ إذا وقعت بعد «إذا» الفجائيّة، مثل: «نمت فإذا إنّ الحلم مزعج» وقعت «إنّ» بعد «إذا» الفجائية فيجوز فتح الهمزة أو كسرها. وكقول الشاعر:

«وكنت أرى زيدا كما قيل سيّدا***إذا إنّه عبد القفا واللهازم»

حيث وقعت «إن» بعد «إذا» الفجائيّة فالكسر على معنى فإذا هو عبد القفا والفتح على تقديره فإذا العبوديّة، أي: حاصلة. «عبد»: خبر «إن»، ويجوز اعتبار إذا الفجائيّة ظرف زمان، أو ظرف مكان، متعلّق بخبر مقدّم، والمصدر المؤوّل من أن ومعموليها مبتدأ مؤخّر ففي مكان الحلم أو زمانه، أو في وقت العبوديّة أو زمانها.

3 ـ إذا وقعت في صدر جملة واقعة في جواب القسم، وليس خبر «إن» مقرونا بـ «اللام» بشرط أن تكون جملة القسم اسميّة، مثل: «لعمرك إن الظّلم عاقبته وخيمة» أو فعليّة، مثل: أقسم بالله إنّ الظّلم حرام، وكقول الشاعر:

«أو تحلفي بربّك العليّ ***إنّي أبو ذيّالك الصّبيّ»

حيث وردت جملة القسم فعليّة «أو تحلفي بربك» فيجوز فتح همزة «إن» وكسرها.

4 ـ إذا وقعت بعد فعل من أفعال القلوب وليس خبرها مقرونا بـ «اللام»، مثل، علمت أنّ الصبر من علامات الإيمان»، «أنّ» وما بعدها في تأويل مصدر سدّ مسدّ مفعولي «علمت» فجاز فتح همزة «إنّ» وكسرها.

5 ـ إذا وقعت بعد مبتدأ هو قول، أو في معناه، وخبرها قول، والقائل واحد مثل: «قولي: أنّي مقرّ لك بالفضل» «قولي»: مبتدأ مرفوع بالضّمة المقدّرة على ما قبل ياء المتكلم. و «الياء» في محل جرّ بالإضافة. والجملة المؤلفة من «أن» مع معموليها هي خبر المبتدأ لذلك جاز كسر همزة «إن» وفتحها «أنّ». ومثل: «كلامي: أني معترف بصنيعك» حيث وردت جملة الخبر بعد ما هو بمعنى القول وهو «كلامي». وإذا لم يكن المبتدأ قولا، أو ما في معناه وجب الفتح، مثل: «اعتقادي أن القناعة كنز لا يفنى». «اعتقادي»: مبتدأ ليس بمعنى القول. والخبر الجملة المؤلفة من «أنّ» وما بعدها.

6 ـ إذا وقعت بعد «حتى» الجارّة والعاطفة، مثل: «عرفت طباعك حتى إنّك محترم»، «حتى»، بمعنى «إلى» حرف جرّ وعطف في آن معا. فجاز فتح همزة «أن» وكسرها «إن» أما إذا كانت «حتى» ابتدائيّة فتكسر همزة «إنّ» بعدها، مثل: «مرض زيد حتى إنهم لا يرجونه».

7 ـ إذا وقعت في موضع التّعليل، كقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}، أي: لأنه هو البرّ الرّحيم. وكقوله تعالى: {صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}، أي: لأن صلاتك... ومثل: «لبّيك إن الحمد والنّعمة لك»، أي: لأن الحمد والنّعمة لك.

8 ـ إذا وقعت بعد «لا جرم»، كقوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ}، وفيها يقال في «جرم» أنّها فعل ماض والمصدر المؤوّل من «أنّ» وما بعدها فاعله، والتقدير: وجب أن الله يعلم.

وربّما تكون «لا جرم» بمنزلة «لا رجل» ومعناها: «لا بدّ» وبعدها تقدّر «من»، والتّقدير: لا بدّ من أن...، والكسر على معنى اليمين، والتّقدير: لا جرم لآتينّك.

9 ـ إذا وقعت بعد «أي» المفسّرة، مثل: «سرّني اختراعك: أي: إنّك تخترع ما ينفع النّاس». فالكسر باعتبار «إنّ» في صدر الجملة التّفسيريّة التي لا محل لها من الإعراب، والفتح باعتبار المصدر المؤوّل بدلا من المصدر «اختراعك».

10 ـ إذا وقعت بعد «حيث» الظّرفيّة، مثل: «اسكن حيث إنّ الأمن مستتبّ» فالفتح على اعتبار «حيث» داخلة على المفرد المضاف إليه والتّقدير: حيث استتباب الأمن. والكسر باعتبار الجملة مضاف إليه، والتّقدير: حيث الأمن مستتبّ...

11 ـ إذا وقعت «أنّ» مع معموليها معطوفة على مفرد لا يفسد المعنى بالعطف عليه مثل: «سرني اختراعك وإنّك فاضل». فالمصدر المؤوّل من «أن» ومعموليها معطوف على المصدر اختراعك.

والتّقدير: سرّني اختراعك وفضلك، فيستقيم المعنى. وأمّا القول: «لي كتاب وإنّ أخي ناجح» فلا تفتح فيه همزة «إنّ» لأن المصدر المؤوّل يكون معطوفا على كلمة «كتاب» فيكون التقدير: لي كتاب ونجاح أخي. فهذا فاسد في المعنى.

12 ـ إذا وقعت بعد «أما» المخفّفة، مثل: أما إنّك فاضل، وتكسر إذا كانت «أما» الاستفتاحيّة، وتفتح إذا كانت «أما» بمعنى: أحقّا، مثل: «أما أن جيرتنا استقلّوا»، والتقدير: أحقا استقلال جيرتنا، أي: رحيلهم. وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء، والظّرف حقا متعلق بخبر مقدم.

دخول لام الابتداء على «إنّ» المكسورة: لام الابتداء هي التي يؤتى بها لتوكيد مضمون الجملة المثبتة، فلا تدخل على حرف نفي، ولا على فعل النّفي، بل تدخل على الاسم المفيد للنّفي، مثل: «إن الكذب لغير مأمون النتائج». وهذه اللّام تسمّى أيضا «المزحلقة» وذلك لأنّ مكانها الأصليّ هو الصّدارة في الجملة الاسميّة، فلما دخل ناسخ مثل «إنّ» وله حقّ الصّدارة أيضا، وله عمله في المبتدأ والخبر، زحلقت «اللّام» من مكانها إلى الخبر، وتكون هذه «اللّام» مبنيّة دائما على الفتح، ولا محلّ لها من الإعراب ولا عمل لها فيما بعدها؛ أمّا إذا دخلت «لام الابتداء» على المضارع فإنها تخلص زمنه للحال، مثل: إنّ العلم لينير الأمّة» أي: إنه الآن ينير الأمة.

فالمضارع يفيد الزمن الحاضر بدخول لام الابتداء عليه. إلا إذا وجدت قرينة تدلّ على الاستقبال كقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} ففي كلمة «القيامة» قرينة تدلّ على الاستقبال، فدخول «اللّام» على المضارع لا يدلّ على الحاضر، بل يدلّ على المستقبل، لأن يوم القيامة لم يأت بعد.

شروط دخول لام الابتداء على خبرها: تدخل «اللام» على خبر «إن» المكسورة دون أخواتها، مثل: «إن الصيف لفصل الرّاحة» وكقول الشاعر:

«إنّا على البعاد والتّفرّق ***لنلتقي بالفكر إن لم نلتق»

حيث دخلت «لام الابتداء» على خبر «إنّ» المكسورة همزتها، وهو فعل مضارع. ويشترط في الخبر، بعد «إنّ» المكسورة همزتها، الذي تدخله لام الابتداء شروط:

1 ـ أن يكون متأخرا عن اسمها، مثل: «إن الشتاء لفصل الرّاحة» ولا يجوز القول: «إنّ لفصل الرّاحة الشتاء».

2 ـ أن يكون مثبتا فلا يجوز دخولها على الخبر المنفي، كقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ}.

3 ـ ألّا يكون الخبر جملة فعليّة، فعلها ماض متصرّف غير مقرون بـ «قد»، فلا يجوز القول: «إن السّيّارة لمشت» ولكن يجوز دخولها على الجملة التي فعلها ماض جامد بشرط ألّا يكون هذا الماضي الجامد الفعل النّاقص «ليس» لأنه بمعنى النّفي مثل: «إنّ الطائرة لنعم الاختراع» دخلت «اللّام» على الفعل الجامد «نعم» ومثل: «إن السرعة لبئست نتيجتها»، أو على الجملة التي فعلها ماض مقرون بـ «قد»، مثل: «إنّ الأمانة لقد رفعت من مكانة صاحبها». أما إذا كان الخبر جملة فعليّة فعلها مضارع مثبت فيجوز دخول لام الابتداء عليه سواء أكان متصرفا أم غير متصرف، فلام الابتداء لا تدخل على المضارع في حالة واحدة فقط هي عند ما يكون مقرونا بالسّين أو بسوف، فلا تقول: «إن الطّائرة لستمشي ولا لسوف تمشي» بل تقول كقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ}. وكقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ العجب ليأكل الحسنات كما تأكل النيران الحطب»، وكقول الشاعر:

«إن الكريم ليخفي عنك عسرته ***حتى تراه غنيّا وهو مجهود»

وكذلك تدخل لام الابتداء على خبر «إنّ» المكسورة إذا كان جملة اسميّة، أو شبه جملة، مثل: «إنّ المؤمن لفي مكانة عالية» دخلت «اللّام» على خبر «إنّ» شبه الجملة «لفي مكانة عالية»، ومثل: «إن العلم لنتائجه عميمة» دخلت «اللام» على الخبر المؤلف من الجملة الاسميّة «نتائجه عميمة».

4 ـ ألّا يكون الخبر جملة فعليّة شرطيّة، لأن لام الابتداء لا تدخل على أسلوب الشّرط، وألّا يكون الخبر منفيّا لذلك لا تدخل على قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} وأما قول الشاعر:

«وأعلم أن تسليما وتركا***للامتشابهان ولا سواء»

حيث دخلت «اللام» على «لا متشابهان» وهذا شاذّ.

5 ـ وتدخل لام الابتداء على ضمير الفصل، مثل قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ}. حيث دخلت «اللّام» على ضمير الفصل. وإعرابه: «هو»: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ. «القصص»: خبره. «الحق» نعت مرفوع. والجملة الاسمية خبر «إنّ» وله وجه إعرابي آخر: «هو» ضمير الفصل مبنيّ على الفتح لا محل له من الإعراب «القصص» خبر «إنّ» ففصل هذا الضمير بين اسم إنّ وخبرها، كما فصل بين نعت الاسم والخبر، إذ لو لا وجود هذا الضمير لاعتقد السّامع أن كلمة «القصص» هي «بدل» أو عطف بيان، أو نعت، بعد «هذا».

6 ـ تدخل «اللّام» على معمول خبر «إنّ» بشرط أن يكون المعمول متقدّما على الخبر صالحا لقبول «اللّام» أي: إذا كان جملة فعليّة ماضويّة مقرونة بـ «قد» وفعلها ماض غير متصرف.

ومثل: إنّ المصائب لأبطالا مظهرة» أي: إن المصائب لمظهرة أبطالا». دخلت «اللّام» على معمول الخبر المتقدّم «أبطالا» الواقع مفعولا به لاسم الفاعل «مظهرة». ولا يجوز دخولها على المعمول المتأخر، فلا يجوز القول: «إنّ المصائب مظهرة لأبطالا».

7 ـ لا تدخل «اللّام» على معمول الخبر إذا كان مشتملا عليها، مثل: «إنّ الكريم ليرفض الذلّ» فلا يجوز دخول «اللّام» على «الذلّ» لأن الخبر مقرون بها وهو جملة «ليرفض الذلّ» كذلك لا تدخل «اللّام» على معمول الخبر إذا كان غير صالح لقبولها، أي: إذا كان الخبر جملة فعليّة فعلها ماض متصرف غير مقرون بـ «قد»، مثل: «إنّ البطل جاهد كفاحا» فلا يصح القول: «إنّ البطل لكفاحا جاهد».

8 ـ وتدخل «اللّام» على اسم «إنّ» بشرط أن يتأخّر ويتقدّم عليه الخبر شبه الجملة مثل: «إنّ لنا لأملا كبيرا في النجاح» وكقول الشّاعر:

«إنّ من شيمتي لبذل بلادي ***دون عرضي فإن رضيت فكوني»

وإذا دخلت على الاسم المتقدّم لا تدخل على الخبر المتأخّر، لأنها لا تدخل على المبتدأ وخبره معا. وإذا لحقت الخبر بدون «أنّ» كانت زائدة، كقول الشاعر:

«أمّ الحليس لعجوز شهربه ***ترضى من اللّحم بعظم الرّقبه»

حكم الاسم المعطوف على اسم إنّ وأخواتها: تقسم الحروف المشبهة بالفعل من حيث المعطوف على اسمها إلى قسمين هما:

الأول: هو الذي يضمّ الحروف: «إنّ»، و «أنّ»، و «لكنّ». فإن المعطوف على اسمها يجوز فيه الرّفع والنّصب، سواء أكان المعطوف متقدما على الخبر، كقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ} وكقول الشاعر:

«إنّ الربيع الجود والخريفا***يدا أبي العبّاس والصّيوفا»

فقد ورد الاسم «الخريفا» معطوفا على اسم «إنّ» «الرّبيع» منصوبا مثله قبل مجيء الخبر «يدا». وكذلك ورد الاسم «والصيوفا» معطوفا على اسم «إنّ» ومنصوب مثله بعد إتمام الخبر.

ويجوز الرّفع والنّصب إذا كان متأخرا عن الخبر، كقوله تعالى: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} حيث ورد الاسم المعطوف و «رسوله» منصوبا أو مرفوعا بعد مجيء الخبر «بريء». فالرّفع على أنه معطوف على اسم «إنّ”

باعتبار أصله، مبتدأ مرفوع، قبل دخول النّاسخ.

أما النّصب فعلى اعتبار المعطوف على اسم «إنّ» وحدها والتّقدير: إن الله ورسوله بريئان من المشركين، وكقول الشاعر:

«فمن يك لم ينجب أبوه وأمّه ***فإنّ لنا الأمّ النجيبة والأب»

حيث تقدّم الخبر شبه الجملة «لنا» على الاسم، والمعطوف على الاسم «والأب» أتى بعده فيجوز في المعطوف الرّفع والنّصب. وكقول الشاعر:

«وما قصّرت بي في التّسامي خؤولة***ولكنّ عمّي الطيّب الأصل والخال»

حيث ورد الاسم المعطوف و «الخال» على اسم «إنّ» بعد إتمام الخبر فيجوز فيه الرّفع والنّصب. وكذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ} حيث أتى الاسم «والصّابئون» المعطوف على اسم «إن» «الذين» مرفوعا قبل إتمام الخبر، وكقول الشاعر:

«فمن يك أمسى بالمدينة رحله ***فإنّي وقيّار بها لغريب»

حيث أتى الاسم «وقيّار» معطوفا على اسم «إنّ» مرفوعا قبل استكمال الخبر «لغريب» وهو مرفوع على اعتبار أنّه معطوف على محلّ اسم «إنّ» الأصليّ ويفسّر بعضهم هذا البيت على وجه إعرابيّ آخر، وهو اعتبار و «قيّار»: مبتدأ خبره محذوف يدلّ عليه خبر «إنّ»، أو خبره هو المذكور «لغريب» وخبر «إنّ» محذوف، فيراعى في الكلام ما يناسبه. وفي هذا البيت يتعيّن أن يكون الخبر «لغريب» هو خبر «إنّ» لأنّه اقترن باللّام، وخبر المبتدأ محذوف. وكقول الشاعر:

«وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم ***بغاة ما بقينا في شقاق»

حيث أتى الضّمير المرفوع «أنتم» المعطوف على اسم «إنّ» قبل مجيء الخبر «بغاة». وكقول الشاعر:

«خليليّ هل طبّ؟ فإنّي وأنتما***وإن لم تبوحا بالهوى دنفان»

حيث ورد الضّمير «أنتما» معطوفا على محلّ اسم «إنّ» وهو «الياء» قبل مجيء الخبر «دنفان».

وبعضهم يقول: «أنتما» ضمير منفصل مبنيّ على السّكون في محل رفع مبتدأ خبره «دنفان»، وخبر «إنّ» محذوف يدلّ عليه خبر المبتدأ. والتّقدير: أني دنف وأنتما دنفان. وهذا هو الأصحّ لأنه لا يجوز أن يكون «دنفان» خبر «إنّ» لأن الاسم في صيغة الإفراد.

والثّاني: هو الذي يضمّ الحروف: «كأنّ»، و «ليت»، و «لعلّ». والمعطوف على اسم هذه الحروف لا يكون إلّا منصوبا سواء أوقع بعد الاسم وقبل الخبر، مثل: «لعلّ الصبر والسّلوان مفيدان» «السلوان» معطوف على اسم «إنّ» منصوب وأتى قبل الخبر. أو هو منصوب أيضا بعد استكمال الخبر، مثل: «لعلّ الصّبر مفيد والسلوان».

«السلوان» معطوف على اسم «إنّ» منصوب وقد أتى بعد الخبر «مفيد». وأجاز بعضهم الرّفع والنّصب، مثل: كأنّ الشّمس نار مضيئة والقمر وكقول الشاعر:

«يا ليتني وأنت يا لميس ***في بلدة ليس بها أنيس»

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


3-المعجم المفصل في النحو العربي (الحال السادة مسد الخبر)

الحال السّادّة مسدّ الخبر

اصطلاحا: هي الحال التي تقع بعد المبتدأ المصدر المضاف، أو بعد أفعل التفضيل المضاف إلى المصدر، وتسدّ مسدّ الخبر من غير أن تصلح أن تكون هي الخبر في المعنى. مثل: «احترامي التلميذ مجتهدا» والتقدير: احترامي التلميذ حاصل إذا كان مجتهدا، وهذا من باب حذف الخبر وجوبا ووجوب حذف العامل فلا يجوز ذكرهما، ومثل: «أفضل إنشادي الشعر مكتوبا» والتقدير: أفضل إنشادي الشعر حاصل إذا كان مكتوبا.

ملاحظة: لم يرد في الكلام الفصيح وقوع الحال سادّة مسدّ الخبر بعد «كان» و «إنّ» بغير فاصل من خبرهما، ولا بعد «لا» النّافية للجنس ولا بعد «أن» المصدريّة بنوعيها المخفّفة والنّاصبة للمضارع التي تكون مع ما بعدها مبتدأ يستغني عن الخبر بحال تسدّ مسدّه.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


4-المعجم المفصل في النحو العربي (ملاحظات)

ملاحظات:

1 ـ كلا وكلتا من الأسماء التي تلازم الإضافة إلى الاسم الظاهر أو إلى الضمير وهما مفردتان في الظّاهر، أي: في اللّفظ، ومثّنيتان في المعنى..

2 ـ يجوز في خبرهما مراعاة اللّفظ أي: يكون بلفظ المفرد، كقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها} «كلتا» مبتدأ مرفوع بالضمة المقدّرة على الألف للتعذر وهو مضاف «الجنتين»: مضاف إليه مجرور بالياء لأنه مثّنى «آتت» فعل ماض مبني على الفتحة المقدرة على الألف المحذوفة منعا من التقاء ساكنين و «التاء» للتأنيث. والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى «كلتا».

أو مراعاة المعنى أي: بلفظ المثّنى فتقول: «كلا القائدين بطلان».

3 ـ تعرب «كلا» و «كلتا» حسب ما تقتضيه الجملة فقد يأتيان فاعلا، مثل: «جاء كلا القائدين»، أو مفعولا به، مثل: «رأيت كلتا الطالبتين» أو اسما مجرورا بحرف الجرّ، مثل: «سلّمت على كلتا السيّدتين» وتعربان بالحركات المقدّرة على الألف للتعذر رفعا ونصبا وجرا.

4 ـ تعربان توكيدا لما قبلهما، مثل: «جاء الرجلان كلاهما» «كلا»: توكيد الرجلان مرفوع بالألف لأنه ملحق بالمثنّى. ومثل: «رأيت الفتاتين كلتيهما». «كلتيهما»: توكيد الفتاتين منصوب بـ «الياء» لأنه ملحق بالمثنّى. ومثل: «سلمت على الرّجلين كليهما» «كليهما»: توكيد «الرجلين» مجرور بـ «الياء» لأنه ملحق بالمثّنى.

5 ـ «كلا وكلتا» إذا سبقتا المؤكّد فهما يعربان حسب مقتضيات الجملة كما سبقت الإشارة. وإن سبقهما المؤكّد فيكونان توكيدا له ويطابقانه في التذكير والتأنيث ويضافان إلى ضمير المثنّى..

6 ـ تستعمل «كلا» للمذكّر في الحالتين سواء أكانت قبل المؤكد أو بعده. و «كلتا» للمؤنث.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


5-معجم البلدان (أجأ)

أَجأ:

بوزن فعل، بالتحريك، مهموز مقصور، والنسب إليه أجئيّ بوزن أجعيّ: وهو علم مرتجل لاسم رجل سمّي الجبل به، كما نذكره، ويجوز أن يكون منقولا.

ومعناه الفرار، كما حكاه ابن الأعرابي، يقال: أجأ الرجل إذا فرّ، وقال الزمخشري: أجأ وسلمى جبلان عن يسار سميراء، وقد رأيتهما، شاهقان. ولم يقل عن يسار القاصد إلى مكة أو المنصرف عنها، وقال أبو عبيد السكوني: أجأ أحد جبلي طيّء وهو غربي فيد، وبينهما مسير ليلتين وفيه قرى كثيرة، قال:

ومنازل طيّء في الجبلين عشر ليال من دون فيد إلى أقصى أجإ، إلى القريّات من ناحية الشام، وبين المدينة والجبلين، على غير الجادّة: ثلاث مراحل. وبين الجبلين وتيماء جبال ذكرت في مواضعها من هذا الكتاب، منها دبر وغريّان وغسل. وبين كل جبلين يوم. وبين الجبلين وفدك ليلة. وبينهما وبين خيبر خمس ليال. وذكر العلماء بأخبار العرب أن أجأ سمّي باسم رجل وسمّي سلمى باسم امرأة. وكان من خبرهما أن رجلا من العماليق يقال له أجأ بن عبد الحيّ، عشق امرأة من قومه، يقال لها سلمى. وكانت لها حاضنة يقال لها العوجاء. وكانا يجتمعان في منزلها

حتى نذر بهما إخوة سلمى، وهم الغميم والمضلّ وفدك وفائد والحدثان وزوجها. فخافت سلمى وهربت هي وأجأ والعوجاء، وتبعهم زوجها وإخوتها فلحقوا سلمى على الجبل المسمى سلمى، فقتلوها هناك، فسمّي الجبل باسمها. ولحقوا العوجاء على هضبة بين الجبلين، فقتلوها هناك، فسمّي

وأنفوا أن يرجعوا إلى قومهم، فسار كل واحد إلى مكان فأقام به فسمي ذلك المكان باسمه، قال عبيد الله الفقير إليه: وهذا أحد ما استدللنا به على بطلان ما ذكره النحويّون من أن أجأ مؤنثة غير مصروفة، لأنه جبل مذكّر، سمّي باسم رجل، وهو مذكر.

وكأنّ غاية ما التزموا به قول امرئ القيس:

«أبت أجأ أن تسلم العام جارها، *** فمن شاء فلينهض لها من مقاتل»

وهذا لا حجّة لهم فيه، لأن الجبل بنفسه لا يسلم أحدا، إنما يمنع من فيه من الرجال. فالمراد: أبت قبائل أجإ، أو سكّان أجإ، وما أشبهه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، يدلّ على ذلك عجز البيت، وهو قوله:

فمن شاء فلينهض لها من مقاتل

والجبل نفسه لا يقاتل، والمقاتلة مفاعلة ولا تكون من واحد، ووقف على هذا من كلامنا نحويّ من أصدقائنا وأراد الاحتجاج والانتصار لقولهم، فكان غاية ما قاله: أن المقاتلة في التذكير والتأنيث مع الظاهر وأنت تراه قال: أبت أجأ. فالتأنيث لهذا الظاهر ولا يجوز أن يكون للقبائل المحذوفة بزعمك، فقلت له: هذا خلاف لكلام العرب، ألا ترى إلى قول حسان بن ثابت:

«يسقون من ورد البريص عليهم *** بردى، يصفّق بالرحيق السّلسل»

لم يرو أحد قط يصفّق إلا بالياء آخر الحروف لأنه يريد يصفّق ماء بردى، فرده إلى المحذوف وهو الماء، ولم يردّه إلى الظاهر، وهو بردى. ولو كان الأمر على ما ذكرت، لقال: تصفّق، لأن بردى مؤنث لم يجيء على وزنه مذكّر قط. وقد جاء الردّ على المحذوف تارة، وعلى الظاهر أخرى، في قول الله، عز وجل: وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أوهم قائلون، ألا تراه قال: فجاءها فردّ على الظاهر، وهو القرية، ثم قال: أو هم قائلون فردّ على أهل القرية وهو محذوف، وهذا ظاهر، لا إشكال فيه. وبعد فليس هنا ما يتأوّل به التأنيث، إلا أن يقال: إنه أراد البقعة فيصير من باب التّحكّم، لأن تأويله بالمذكّر ضروريّ، لأنه جبل، والجبل مذكّر، وإنه سمي باسم رجل بإجماع كما ذكرنا، وكما نذكره بعد في رواية أخرى، وهو مكان وموضع ومنزل وموطن ومحلّ ومسكن. ولو سألت كل عربيّ عن أجإ لم يقل إلا أنه جبل، ولم يقل بقعة. ولا مستند إذا للقائل بتأنيثه البتة. ومع هذا فإنني إلى هذه الغاية لم أقف للعرب على شعر جاء فيه ذكر أجإ غير مصروف، مع كثرة استعمالهم لترك صرف ما ينصرف في الشعر، حتى إن أكثر النحويين قد رجّحوا أقوال الكوفيّين في هذه المسألة، وأنا أورد في ذلك من أشعارهم ما بلغني منها، البيت الذي احتجّوا به وقد مرّ، وهو قول امرئ القيس: أبت أجأ، ومنها قول عارق الطائي:

«ومن مبلغ عمرو بن هند رسالة، *** إذا استحقبتها العيس تنضى من البعد»

أيوعدني، والرمل بيني وبينه! تأمّل رويدا ما أمامة من هند ومن أجإ حولي رعان، كأنها قنابل خيل من كميت ومن ورد

قال العيزار بن الأخفش الطائي، وكان خارجيا:

«ألا حيّ رسم الدّار أصبح باليا، *** وحيّ، وإن شاب القذال، الغوانيا»

«تحمّلن من سلمى فوجّهن بالضّحى *** إلى أجإ، يقطعن بيدا مهاويا»

وقال زيد بن مهلهل الطائي:

«جلبنا الخيل من أجإ وسلمى، *** تخبّ نزائعا خبب الرّكاب»

«جلبنا كلّ طرف أعوجيّ، *** وسلهبة كخافية الغراب»

«نسوف للحزام بمرفقيها، *** شنون الصّلب صمّاء الكعاب»

وقال لبيد يصف كتيبة النّعمان:

«أوت للشباح، واهتدت بصليلها *** كتائب خضر ليس فيهنّ ناكل»

«كأركان سلمى، إذ بدت أو كأنّها *** ذرى أجإ، إذ لاح فيه مواسل»

فقال فيه ولم يقل فيها، ومواسل قنّة في أجإ، وأنشد قاسم بن ثابت لبعض الأعراب:

«إلى نضد من عبد شمس، كأنهم *** هضاب أجا أركانه لم تقصّف»

«قلامسة ساسوا الأمور، فأحكموا *** سياستها حتى أقرّت لمردف»

وهذا، كما تراه، مذكّر مصروف، لا تأويل فيه لتأنيثه.

فإنه لو أنّث لقال: أركانها، فإن قيل هذا لا حجّة فيه لأن الوزن يقوم بالتأنيث، قيل قول امرئ القيس أيضا، لا يجوز لكم الاحتجاج به لأن الوزن يقوم بالتذكير، فيقول: أبى أجأ لكنّا صدّقناكم فاحتججنا، ولا تأويل فيها، وقول الحيص بيص:

«أجأ وسلمى أم بلاد الزاب، *** وأبو المظفّر أم غضنفر غاب»

ثم إني وقفت بعد ما سطرته آنفا، على جامع شعر امرئ القيس، وقد نصّ الأصمعي على ما قلته، وهو: أن اجأ موضع، وهو أحد جبلي طيّء، والآخر سلمى. وإنما أراد أهل أجإ، كقول الله، عزّ وجل:

واسأل القرية، يريد أهل القرية، هذا لفظه بعينه. ثم وقفت على نسخة أخرى من جامع شعره، قيل فيه:

أرى أجأ لن يسلم العام جاره

ثم قال في تفسير الرواية الأولى: والمعنى أصحاب الجبل لم يسلموا جارهم. وقال أبو العرماس: حدثني أبو محمد أنّ أجأ سمّي برجل كان يقال له أجأ، وسمّيت سلمى بامرأة كان يقال لها سلمى، وكانا يلتقيان عند العوجاء، وهو جبل بين أجإ وسلمى، فسمّيت هذه الجبال بأسمائهم. ألا تراه قال: سمي أجأ برجل وسميت سلمى بامرأة، فأنّث المؤنث وذكّر المذكّر. وهذا إن شاء الله كاف في قطع حجاج من خالف وأراد الانتصار بالتقليد. وقد جاء أجا مقصورا غير مهموز في الشعر، وقد تقدّم له شاهد في البيتين اللذين على الفاء، قال العجّاج:

«والأمر ما رامقته ملهوجا *** يضويك ما لم يج منه منضجا»

«فإن تصر ليلى بسلمى أو أجا، *** أو باللوى أو ذي حسا أو يأججا»

وأما سبب نزول طيّء الجبلين، واختصاصهم بسكناهما دون غيرهم من العرب، فقد اختلفت الرّواة فيه. قال ابن الكلبي، وجماعة سواه: لما تفرق بنو سبا أيام سيل العرم سار جابر وحرملة ابنا أدد بن زيد بن الهميسع قلت: لا أعرف جابرا وحرملة وفوق كل ذي علم عليم، وتبعهما ابن أخيهما طيّء، واسمه جلهمة، قلت: وهذا أيضا لا أعرفه، لأن طيّئا عند ابن الكلبي، هو جلهمة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان. والحكاية عنه، وكان أبو عبيدة، قال زيد بن الهميسع: فساروا نحو تهامة وكانوا فيما بينها وبين اليمن، ثم وقع بين طيّء وعمومته ملاحاة ففارقهم وسار نحو الحجاز بأهله وماله وتتبّع مواقع القطر، فسمّي طيّئا لطيّه المنازل، وقيل إنه سمّي طيّئا لغير ذلك، وأوغل طيّء بأرض الحجاز، وكان له بعير يشرد في كل سنة عن إبله، ويغيب ثلاثة أشهر، ثم يعود إليه وقد عبل وسمن وآثار الخضرة بادية في شدقيه، فقال لابنه عمرو: تفقّد يا بنيّ هذا البعير فإذا شرد فاتبع أثره حتى تنظر إلى أين ينتهي. فلما كانت أيام الربيع وشرد البعير تبعه على ناقة له فلم يزل يقفر أثره حتى صار إلى جبل طيء، فأقام هنالك ونظر عمرو إلى بلاد واسعة كثيرة المياه والشجر والنخيل والريف، فرجع إلى أبيه وأخبره بذلك فسار طيء بإبله وولده حتى نزل الجبلين فرآهما أرضا لها شأن، ورأى فيها شيخا عظيما، جسيما، مديد القامة، على خلق العاديّين ومعه امرأة على خلقه يقال لها سلمى، وهي امرأته وقد اقتسما الجبلين بينهما بنصفين، فأجأ في أحد النصفين وسلمى في الآخر، فسألهما طيء عن أمرهما، فقال الشيخ: نحن من بقايا صحار غنينا بهذين الجبلين عصرا بعد عصر، أفنانا كرّ الليل والنهار، فقال له طيء:

هل لك في مشاركتي إياك في هذا المكان فأكون لك مؤنسا وخلّا؟ فقال الشيخ: إنّ لي في ذلك رأيا فأقم فإن المكان واسع، والشجر يانع، والماء طاهر، والكلأ غامر. فأقام معه طيء بإبله وولده بالجبلين، فلم يلبث الشيخ والعجوز إلا قليلا حتى هلكا وخلص المكان لطي فولده به إلى هذه الغاية.

قالوا: وسألت العجوز طيّئا ممّن هو، فقال طيء:

«إنّا من القوم اليمانيّينا *** إن كنت عن ذلك تسألينا»

«وقد ضربنا في البلاد حينا *** ثمّت أقبلنا مهاجرينا»

«إذ سامنا الضّيم بنو أبينا *** وقد وقعنا اليوم فيما شينا»

ريفا وماء واسعا معينا

ويقال إن لغة طيء هي لغة هذا الشيخ الصّحاري والعجوز امرأته. وقال أبو المنذر هشام بن محمد في كتاب افتراق العرب: لما خرجت طيء من أرضهم من الشحر ونزلوا بالجبلين، أجإ وسلمى، ولم يكن بهما أحد وإذا التمر قد غطّى كرانيف النخل، فزعموا أن الجنّ كانت تلقّح لهم النخل في ذلك الزمان، وكان في ذلك التمر خنافس، فأقبلوا يأكلون التمر والخنافس، فجعل بعضهم يقول: ويلكم الميّث أطيب من الحيّ. وقال أبو محمد الأعرابي أكتبنا أبو الندى قال: بينما طيء ذات يوم جالس مع ولده بالجبلين إذ أقبل رجل من بقايا جديس، ممتدّ القامة، عاري الجبلّة، كاد يسدّ الأفق طولا، ويفرعهم باعا، وإذا هو الأسود بن غفار بن الصّبور الجديسي،

وكان قد نجا من حسّان تبّع اليمامة ولحق بالجبلين، فقال لطي: من أدخلكم بلادي وإرثي عن آبائي؟

اخرجوا عنها وإلا فعلت وفعلت. فقال طيء:

البلاد بلادنا وملكنا وفي أيدينا، وإنما ادّعيتها حيث وجدتها خلاء. فقال الأسود: اضربوا بيننا وبينكم وقتا نقتتل فيه فأيّنا غلب استحقّ البلد. فاتّعدا لوقت، فقال طيء لجندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء وأمّه جديلة بنت سبيع بن عمرو ابن حمير وبها يعرفون، وهم جديلة طيء، وكان طيء لها مؤثرا، فقال لجندب: قاتل عن مكرمتك.

فقالت أمه: والله لتتركنّ بنيك وتعرضنّ ابني للقتل! فقال طيء: ويحك إنما خصصته بذلك.

فأبت، فقال طيء لعمرو بن الغوث بن طيء:

فعليك يا عمرو الرجل فقاتله. فقال عمرو: لا أفعل، وأنشأ يقول وهو أول من قال الشعر في طيء بعد طيء:

«يا طيء أخبرني، ولست بكاذب، *** وأخوك صادقك الذي لا يكذب»

«أمن القضيّة أن، إذا استغنيتم *** وأمنتم، فأنا البعيد الأجنب»

«وإذا الشدائد بالشدائد مرّة، *** أشجتكم، فأنا الحبيب الأقرب»

«عجبا لتلك قضيّتي، وإقامتي *** فيكم، على تلك القضيّة، أعجب»

«ألكم معا طيب البلاد ورعيها، *** ولي الثّماد ورعيهنّ المجدب»

«وإذا تكون كريهة أدعى لها، *** وإذا يحاس الحيس يدعى جندب»

«هذا لعمركم الصّغار بعينه، *** لا أمّ لي، إن كان ذاك، ولا أب»

فقال طيء: يا بنيّ إنها أكرم دار في العرب. فقال عمرو: لن أفعل إلا على شرط أن لا يكون لبني جديلة في الجبلين نصيب. فقال له طيء: لك شرطك.

فأقبل الأسود بن غفار الجديسي للميعاد ومعه قوس من حديد ونشّاب من حديد فقال: يا عمرو إن شئت صارعتك وإن شئت ناضلتك وإلا سايفتك.

فقال عمرو: الصّراع أحبّ إليّ فاكسر قوسك لأكسرها أيضا ونصطرع. وكانت لعمرو بن الغوث ابن طيء قوس موصولة بزرافين إذا شاء شدّها وإذا شاء خلعها، فأهوى بها عمرو فانفتحت عن الزرافين واعترض الأسود بقوسه ونشّابه فكسرها، فلما رأى عمرو ذلك أخذ قوسه فركّبها وأوترها وناداه: يا أسود استعن بقوسك فالرمي أحبّ إليّ. فقال الأسود: خدعتني. فقال عمرو: الحرب خدعة، فصارت مثلا، فرماه عمرو ففلق قلبه وخلص الجبلان لطي، فنزلهما بنو الغوث، ونزلت جديلة السهل منهما لذلك. قال عبيد الله الفقير إليه:

في هذا الخبر نظر من وجوه، منها أن جندبا هو الرابع من ولد طيء فكيف يكون رجلا يصلح لمثل هذا الأمر؟ ثم الشعر الذي أنشده وزعم أنه لعمرو ابن الغوث، وقد رواه أبو اليقظان وأحمد بن يحيى ثعلب وغيرهما من الرّواة الثقات لهانىء بن أحمر الكناني شاعر جاهليّ. ثم كيف تكون القوس حديدا وهي لا تنفذ السّهم إلّا برجوعها؟ والحديد إذا اعوجّ لا يرجع البتّة. ثم كيف يصحّ في العقل أن قوسا بزرافين؟

هذا بعيد في العقل إلى غير ذلك من النظر. وقد روى بعض أهل السير من خبر الأسود بن غفار ما هو أقرب إلى القبول من هذا، وهو أنّ الأسود لما أفلت

من حسّان تبّع، كما نذكره إن شاء الله تعالى في خبر اليمامة، أفضى به الهرب حتى لحق بالجبلين قبل أن ينزلهما طيء، وكانت طيء تنزل الجوف من أرض اليمن، وهي اليوم محلّة همدان ومراد، وكان سيّدهم يومئذ أسامة بن لؤي بن الغوث بن طيء وكان الوادي مسبعة وهم قليل عدده

«اجعل ظريبا كحبيب ينسى، *** لكلّ قوم مصبح وممسى»

وظريب اسم الموضع الذي كانوا ينزلون فيه قبل الجبلين، قال فهجمت طيء على النخل بالشّعاب على مواش كثيرة، وإذا هم برجل في شعب من تلك الشعاب وهو الأسود بن غفار، فهالهم ما رأوا من عظم خلقه وتخوّفوه، فنزلوا ناحية من الأرض فاستبرؤوها فلم يروا بها أحدا غيره. فقال أسامة بن لؤي لابن له يقال له الغوث: يا بنيّ إن قومك قد عرفوا فضلك في الجلد والبأس والرّمي، فاكفنا أمر هذا الرجل، فإن كفيتنا أمره فقد سدت قومك آخر الدهر، وكنت الذي أنزلتنا هذا البلد. فانطلق الغوث حتى أتى الرجل، فسأله، فعجب الأسود من صغر خلق الغوث، فقال له:

من أين أقبلتم؟ فقال له: من اليمن. وأخبره خبر البعير ومجيئهم معه، وأنهم رهبوا ما رأوا من عظم خلقه وصغرهم عنه، فأخبرهم باسمه ونسبه. ثم شغله الغوث ورماه بسهم فقتله، وأقامت طيء بالجبلين وهم بهما إلى الآن. وأما أسامة بن لؤي وابنه الغوث هذا فدرجا ولا عقب لهما.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


6-موسوعة الفقه الكويتية (رخصة)

رُخْصَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- تُطْلَقُ كَلِمَةُ رُخْصَةٍ- فِي لِسَانِ الْعَرَبِ- عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ نُجْمِلُ أَهَمَّهَا فِيمَا يَلِي:

أ- نُعُومَةُ الْمَلْمَسِ، يُقَالُ: رَخُصَ الْبَدَنُ رَخَاصَةً إِذَا نَعُمَ مَلْمَسُهُ وَلَانَ، فَهُوَ رَخْصٌ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- وَرَخِيصٌ، وَهِيَ رَخْصَةٌ وَرَخِيصَةٌ.

ب- انْخِفَاضُ الْأَسْعَارِ، يُقَالُ: رَخُصَ الشَّيْءُ رُخْصًا- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ- فَهُوَ رَخِيصٌ ضِدُّ الْغَلَاءِ.

ج- الْإِذْنُ فِي الْأَمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ: يُقَالُ: رَخَّصَ لَهُ فِي الْأَمْرِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَالِاسْمُ رُخْصَةٌ عَلَى وَزْنِ فُعْلَةٌ مِثْلُ غُرْفَةٍ، وَهِيَ ضِدُّ التَّشْدِيدِ، أَيْ أَنَّهَا تَعْنِي التَّيْسِيرَ فِي الْأُمُورِ، يُقَالُ: رَخَّصَ الشَّرْعُ فِي كَذَا تَرْخِيصًا، وَأَرْخَصَ إِرْخَاصًا إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ.قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ».

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ عَجَزَ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعَزِيمَةُ:

2- الْعَزِيمَةُ لُغَةً: الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ.

وَاصْطِلَاحًا عِبَارَةٌ عَمَّا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَلَا يُقَالُ رُخْصَةٌ بِدُونِ عَزِيمَةٍ تُقَابِلُهَا، فَهُمَا يَنْتَمِيَانِ مَعًا إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ، وَعَلَى الْمَرْجُوحِ مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ (أَوْ الِاقْتِضَاءَ) مَوْجُودٌ فِي الْعَزِيمَةِ كَمَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الرُّخْصَةِ إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْأُولَى أَصْلِيٌّ كُلِّيٌّ مُطَّرِدٌ وَاضِحٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ طَارِئٌ جُزْئِيٌّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ مَعَ خَفَائِهِ وَدِقَّتِهِ.وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّ الْأُولَى تُمَثِّلُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَأَنَّ الثَّانِيَةَ تُمَثِّلُ حَظَّ الْعِبَادِ مِنْ لُطْفِهِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَزِيمَة).

ب- الْإِبَاحَةُ:

3- الْإِبَاحَةُ هِيَ: تَخْيِيرُ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.فَالْإِبَاحَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا أَصْلِيٌّ.وَتَتَلَاقَى فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ الرُّخَصِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِبَاحَة).

ج- رَفْعُ الْحَرَجِ:

4- رَفْعُ الْحَرَجِ فِي الِاصْطِلَاحِ يَتَمَثَّلُ فِي إِزَالَةِ كُلِّ مَا يُؤَدِّي إِلَى مَشَقَّةٍ زَائِدَةٍ فِي الْبَدَنِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ الْمَالِ فِي الْبَدْءِ وَالْخِتَامِ، وَالْحَالِ وَالْمَآلِ.وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ثَبَتَ بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ لَا تَقْبَلُ الشَّكَّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرُّخْصَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ وُجُوهٍ:

1- أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ أَصْلٌ كُلِّيٌّ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَمَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِهَا- كَمَا سَبَقَ- أَمَّا الرُّخَصُ فَهِيَ فَرْعٌ يَنْدَرِجُ ضِمْنَ هَذَا الْأَصْلِ الْعَامِّ وَجُزْءٌ أُخِذَ مِنْ هَذَا الْكُلِّ، فَرَفْعُ الْحَرَجِ مُؤَدَّاهُ يُسْرُ التَّكَالِيفِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا، وَالرُّخَصُ مُؤَدَّاهَا تَيْسِيرُ مَا شَقَّ عَلَى بَعْضِ النُّفُوسِ عِنْدَ التَّطْبِيقِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْمُيَسَّرَةِ ابْتِدَاءً.

2- أَنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، بَيْنَمَا الرُّخَصُ تَشْمَلُ- عَادَةً- أَحْكَامًا مَشْرُوعَةً بِنَاءً عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ تَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا، وَأُخْرَى تُرَاعَى فِيهَا أَسْبَابٌ مُعَيَّنَةٌ تَتْبَعُهَا وُجُودًا وَعَدَمًا.

وَلَيْسَتِ الرُّخَصُ مُرَادِفَةً لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَإِلاَّ لَكَانَتْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا رُخَصًا بِدُونِ عَزَائِمَ.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَفْعُ الْحَرَجِ).

3- إِذَا رَفَعَ الْمُشَرِّعُ الْحَرَجَ عَنْ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ فَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الْفِعْلَ إِنْ وَقَعَ مِنَ الْمُكَلَّفِ لَا إِثْمَ وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى الْإِذْنُ فِي الْفِعْلِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ يُؤْذَنُ فِيهِ، بِخِلَافِ التَّرْخِيصِ فِي الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ- إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ- الْإِذْنَ فِيهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَفْعُ الْحَرَجِ).

د- النَّسْخُ:

5- النَّسْخُ اصْطِلَاحًا بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ مُتَرَاخٍ عَنْهُ.فَإِذَا كَانَ النَّسْخُ مِنَ الْأَشَدِّ لِلْأَخَفِّ فَإِنَّهُ يَشْتَرِكُ مَعَ الرُّخْصَةِ فِي الْتِمَاسِ التَّخْفِيفِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنْهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي سَبَقَ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْأَصْلِيَّ لَمْ يَعُدْ قَائِمًا.انْظُرْ: (نَسْخ).

الْحِكْمَةُ مِنْ تَشْرِيعِ الرُّخَصِ:

6- تَحْقِيقُ مَبْدَأِ الْيُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الْإِسْلَامِ تَحْقِيقًا عَمَلِيًّا تَطْبِيقِيًّا.قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.وَقَالَ- جَلَّ ذِكْرُهُ-: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}.وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ» وَقَالَ أَيْضًا: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا»

الصِّيَغُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الرُّخْصَةِ:

7- الرُّخْصَةُ تَكُونُ غَالِبًا بِمَا يَلِي:

أ- مَادَّتُهَا: مِثْلَ رَخَّصَ وَأَرْخَصَ وَرُخْصَةٍ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ» «وَنَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ..» وَفِيهِ- أَيْضًا- أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام-: «رَخَّصَ فِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ».

«وَرَخَّصَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ مِنَ الْأَوْعِيَةِ».«وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ طَوَافِ الْوَدَاعِ».«وَرَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا».

«وَرَخَّصَ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ..» وَفِي حَدِيثِ جَزَاءِ الصَّيْدِ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ».يَعْنِي عَلَيْكُمْ بِالصَّوْمِ إِذَا كَانَ فِي تَعْوِيضِهِ بِالْأَنْعَامِ عُسْرٌ مَهْمَا كَانَ مَأْتَاهُ.

ب- نَفْيُ الْجُنَاحِ:

وَرَدَ الْجُنَاحُ مَنْفِيًّا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ آيَةً يُسْتَفَادُ مِنْ أَغْلَبِهَا التَّرْخِيصُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}.

ج- نَفْيُ الْإِثْمِ:

مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَاأُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَاعَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

د- الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ حُكْمٍ عَامٍّ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: - فِي شَأْنِ الْإِكْرَاهِ-: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِإِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْأُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}

رَخَّصَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُكْرَهِ إِظْهَارَ الْكُفْرِ- إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ- فَلَهُ أَنْ يُظْهِرَ الْكُفْرَ بِشَيْءٍ مِنْ مَظَاهِرِهِ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كُفْرٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ رِفْقًا بِعِبَادِهِ، وَاعْتِبَارًا لِلْأَشْيَاءِ بِغَايَاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ- بَعْدَ أَنْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: إِنْ عَادُوا فَعُدْ».

أَقْسَامُ الرُّخْصَةِ:

8- تَنْقَسِمُ الرُّخْصَةُ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ أَهَمُّهَا:

أ- بِاعْتِبَارِ حُكْمِهَا:

الَّذِينَ قَسَّمُوا الرُّخَصَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُمُ الشَّافِعِيَّةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا حَيْثُ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهَا تَنْقَسِمُ- بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ- إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:

9- رُخَصٌ وَاجِبَةٌ: مِثْلُ أَكْلِ الْمُضْطَرِّ مِمَّا حُرِّمَ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، وَشُرْبِهِ مِمَّا حُرِّمَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَكْلَ الْمُضْطَرِّ أَوْ شُرْبَهُ مِمَّا ذُكِرَ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ يَتَنَافَى مَعَ التَّرْخِيصِ، وَلِذَلِكَ نَقَلُوا عَنْ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ، كَالْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ وَنَحْوِهِ هُرُوبًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي التَّنَاقُضِ.

وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إِلَى خِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَنَحْوِهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ- بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الْأَكْلِ وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا-: هَلْ تُرْفَعُ تِلْكَ الْحُرْمَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَيَصِيرُ أَكْلُهَا مُبَاحًا، أَوْ تَبْقَى وَيَرْتَفِعُ الْإِثْمُ فَقَطْ؟.

بَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ فِي الْفِعْلِ إِبْقَاءً عَلَى حَيَاةِ الشَّخْصِ- كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ اسْتَنَدَ إِلَى أَدِلَّةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

وَهَذَا الْخِلَافُ تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَتَانِ:

الْأُولَى: إِذَا صَبَرَ الْمُضْطَرُّ حَتَّى مَاتَ لَا يَكُونُ آثِمًا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ آثِمًا عَلَى الثَّانِي.

الثَّانِيَةُ: إِذَا حَلَفَ الْمُكَلَّفُ بِأَنْ لَا يَأْكُلَ حَرَامًا أَبَدًا، فَتَنَاوَلَ مِنْهُ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ يَحْنَثُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَا يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي.

الْقِسْمُ الثَّانِي:

10- رُخَصٌ مَنْدُوبَةٌ: مِثْلُ الْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِ سَفَرًا يَبْلُغُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَالْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ، وَمُخَالَطَةُ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمْ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمْ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}.حَيْثُ نَصَّ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَتَضَمَّنُ تَرْخِيصًا فِي خَلْطِ طَعَامِ الْيَتِيمِ بِطَعَامِ كَافِلِهِ، وَشَرَابِهِ بِشَرَابِهِ، وَمَاشِيَتِهِ بِمَاشِيَتِهِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، كَمَا أَكَّدُوا بِأَنَّهَا أَفَادَتْ حَثًّا عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَتَعْرِيضًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ احْتِقَارِ الْيَتِيمِ وَالتَّرَفُّعِ عَنْهُ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ:

11- رُخَصٌ مُبَاحَةٌ: وَقَدْ مَثَّلُوا لَهَا بِالْعُقُودِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، كَالسَّلَمِ، وَالْعَرِيَّةِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْجُعْلِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا أُبِيحَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ:

12- رُخَصٌ جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى: مِثْلُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مَشَقَّةً قَوِيَّةً، وَالتَّيَمُّمِ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَالْجَمْعِ الَّذِي لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةُ الْمُسَافِرِ.

وَالسُّؤَالِ عَنِ الْأَشْيَاءِ فِي وَقْتِهَا، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَسْخِهِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ.

ب- بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ:

تَقْسِيمُ الرُّخَصِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُمَثِّلُ وِجْهَةَ نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ تَوَاطَأَتْ كَلِمَتُهُمْ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى تَقْسِيمِهَا- بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ- إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: رُخَصٌ حَقِيقِيَّةٌ:

13- وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ عَزَائِمَ مَا يَزَالُ الْعَمَلُ بِهَا جَارِيًا لِقِيَامِ دَلِيلِهَا، وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ- بِدَوْرِهِ- إِلَى قِسْمَيْنِ:

1- مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ، وَالْحُرْمَةِ مَعًا، وَهُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الرُّخَصِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً مَعَ سَبَبِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ شَرَعَ لِلْمُكَلَّفِ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ مُؤَاخَذَةٍ بِنَاءً عَلَى عُذْرِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْإِقْدَامُ فِي أَكْمَلِ دَرَجَاتِهِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْجِنَايَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ.وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ أَيُّ غَرَابَةٍ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الرُّخَصِ بِكَمَالِ الْعَزَائِمِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً ثَابِتَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَانَتِ الرُّخْصَةُ فِي مُقَابَلَتِهَا كَذَلِكَ.وَقَدْ ذَكَرُوا- لِهَذَا الْقِسْمِ- أَمْثِلَةً مِنْهَا:

التَّرْخِيصُ فِي إِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْقَطْعِ؛ لِأَنَّ فِي امْتِنَاعِهِ عَنِ الْفِعْلِ إِتْلَافَ ذَاتِهِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَفِي إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ إِتْلَافَ حَقِّ الشَّرْعِ صُورَةً دُونَ مَعْنًى حَيْثُ إِنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ فِي الْإِيمَانِ- وَهُوَ التَّصْدِيقُ- بَاقٍ عَلَى حَالِهِ.وَمَعَ ذَلِكَ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَخْيِيرِهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، بَلْ رَجَّحَ الْحَنَفِيَّةُ مِنْهُمُ الْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْمِثَالِ بِالْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ إِحْيَاءَ النُّفُوسِ- هُنَا- يُقَابِلُهُ مَوْقِفٌ عَظِيمٌ مِنْ مَوَاقِفِ السُّمُوِّ وَالْإِبَاءِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ مَهْمَا اشْتَدَّتِ الْفِتْنَةُ وَعَظُمَ الْبَلَاءُ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ «أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَكْرَهَ رَجُلَيْنِ- مِنَ الْمُسْلِمِينَ- عَلَى الْكُفْرِ فَنَطَقَ أَحَدُهُمَا بِكَلِمَتِهِ فَنَجَا، وَأَصَرَّ الْآخَرُ عَلَى الْجَهْرِ بِالْحَقِّ فَهَلَكَ، فَقَالَ فِيهِمَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ خَبَرُهُمَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ صَدَعَ بِالْحَقِّ فَهَنِيئًا لَهُ».

2- مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَتَرَاخِي الْحُرْمَةِ: مِثْلُ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ، فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُحَرِّمَ لِلْإِفْطَارِ- وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ- قَائِمٌ، لَكِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ أَوْ حُرْمَةَ الْإِفْطَارِ غَيْرُ قَائِمَةٍ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ ثَابِتَةٌ عَلَى التَّرَاخِي بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَالْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيِ الصَّوْمُ أَوْلَى مِنَ الْإِفْطَارِ عِنْدَهُمْ.

أَوَّلًا: لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ- وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ- كَانَ قَائِمًا، وَتَرَاخِي الْحُكْمِ بِالْأَجَلِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ التَّعْجِيلِ، مِثْلَمَا هُوَ الْأَمْرُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، فَكَانَ الْمُؤَدِّي لِلصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَامِلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ، وَالْمُتَرَخِّصُ بِالْفِطْرِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّرْفِيهِ، فَقَدَّمَ حَقَّ اللَّهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ.

ثَانِيًا: لِأَنَّ فِي الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ نَوْعَ يُسْرٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ الصِّيَامِ أَيْسَرُ مِنَ التَّفَرُّدِ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ.هَذَا إِذَا لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ، فَإِذَا أَضْعَفَهُ كَانَ الْفِطْرُ أَوْلَى، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِمًا بِلَا خِلَافٍ.وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ فِي هَذَا الْمِثَالِ، وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ إِدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ رَمَضَانَ.وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ فَصَامَ فِي السَّفَرِ وَقَعَ صِيَامُهُ فِي الْفَرْضِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: رُخَصٌ مَجَازِيَّةٌ:

14- وَتُسَمَّى أَيْضًا- فِي اصْطِلَاحِهِمْ-: رُخَصُ الْإِسْقَاطِ، وَقَدْ قَسَّمُوهَا- كَذَلِكَ- إِلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ:

1- مَا وُضِعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ- رَحْمَةً بِهَا وَإِكْرَامًا لِنَبِيِّهَا- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِثْلُ:

- قَتْلِ النَّفْسِ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ

- قَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ.

2- مَا سَقَطَ عَنِ الْعِبَادِ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ: فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَقَطَ كَانَ مَجَازًا، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَبِيهًا بِالرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ، مِثْلَ السَّلَمِ وَمَا قَارَبَهُ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ، فَمِنْ حَيْثُ اسْتِثْنَاؤُهَا مِمَّا ذُكِرَ سَقَطَ الْمَنْعُ مِنْهَا فَشَابَهَتْ مَا وُضِعَ عَنَّا مِنَ الْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَكَانَتْ رُخَصًا مَجَازِيَّةً مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ إِذْ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا عَزَائِمُ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ أُصُولَهَا مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّ بَعْضَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَجَاوَزَ عَنْهَا الشَّرْعُ مِنْ أَجْلِ التَّخْفِيفِ وَالْمَصْلَحَةِ مَا زَالَتْ قَائِمَةً فِي تِلْكَ الْأُصُولِ أَشْبَهَتِ الرُّخَصَ الْحَقِيقِيَّةَ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ اعْتُبِرَ هَذَا الْقِسْمُ أَقْرَبَ إِلَى الرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ سَابِقِهِ، وَاعْتُبِرَ السَّابِقُ أَتَمَّ فِي الْمَجَازِيَّةِ مِنْ هَذَا.وَهَذَا الْقِسْمُ يُرَادِفُ الرُّخَصَ الْمُبَاحَةَ فِي تَقْسِيمِ الشَّافِعِيَّةِ.وَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ- الْحَاصِلَةُ بَعْدَ تَقْسِيمِ كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الرَّئِيسِيَّيْنِ إِلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ- لَا تَبْعُدُ كَثِيرًا عَنِ الْإِطْلَاقَاتِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّاطِبِيُّ.

ج- تَقْسِيمُ الرُّخَصِ حَسَبِ التَّخْفِيفِ:

تَنْقَسِمُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ- الَّذِي يَخُصُّ الْأَحْكَامَ الطَّارِئَةَ- إِلَى سِتَّةِ أَنْوَاعٍ:

15- الْأَوَّلُ: تَخْفِيفُ إِسْقَاطٍ، وَيَكُونُ حَيْثُ يُوجَدُ الْعُذْرُ أَوِ الْمُوجِبُ مِنْ ذَلِكَ.

1- إِسْقَاطُ الْخُرُوجِ إِلَى الْجَمَاعَةِ لِلْمَرَضِ أَوْ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، أَوْ لِلرِّيحِ وَالْمَطَرِ، فَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ وَفِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ أَنْ يُصَلُّوا فِي رِحَالِهِمْ». 2- إِسْقَاطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ لِلْأَعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ وَلِغَيْرِهَا مِمَّا وَقَعَ بَسْطُهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ وَالْأَحْكَامِ.

3- إِسْقَاطُ شَرْطِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ.

4- إِسْقَاطُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.

5- إِسْقَاطُ الْجِهَادِ عَنْ ذَوِي الْأَعْذَارِ، قَالَ الْمَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}.

6- إِسْقَاطُ الصَّلَاةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَوَافَقَهُمُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ.وَقَالَ مَالِكٌ- فِي رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ عَنْهُ-: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ إِسْقَاطُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ حُكْمُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَيُوجِبُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَ فِقْدَانِهِمَا.

7- إِسْقَاطُ الْقَضَاءِ عَمَّنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ».وَخَالَفَ مَالِكٌ فَقَالَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا مَتَى تَذَكَّرَهَا.

8- إِسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ بِالْإِعْسَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى خِلَافِ الْأَظْهَرِ وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِنَادًا إِلَى مَا جَاءَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ..«أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ». 9- إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ لِمَا تَقَرَّرَ- عَمَلًا بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ يُدَعِّمُ بَعْضُهَا الْبَعْضَ- مِنْ أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: تَخْفِيفُ تَنْقِيصٍ: مِثَالُهُ:

16- 1- قَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِلَى رَكْعَتَيْنِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الْقَصْرِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا.

2- تَنْقِيصُ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرِيضُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ: كَتَنْقِيصِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا إِلَى الْقَدْرِ الْمَيْسُورِ مِنْ ذَلِكَ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخْفِيفُ إِبْدَالٍ: مِثْلُ:

17- إِبْدَالِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ بِالتَّيَمُّمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْوَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَالْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءًفَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

الرَّابِعُ: تَخْفِيفُ تَقْدِيمٍ: مِثْلُ:

18- 1- تَقْدِيمُ الْعَصْرِ إِلَى الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ، وَنَصُّوا عَلَى جَوَازِهِ جُمْلَةً فِي عِدَّةِ حَالَاتٍ مِنْهَا: السَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَالْخَوْفُ.

2- تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ مُسَارَعَةً إِلَى الْخَيْرِ لِمَا رَوَاهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- مِنْ «أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- رضي الله عنه- سَأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ». الْخَامِسُ: تَخْفِيفُ تَأْخِيرٍ: مِثْلُ:

19- تَأْخِيرُ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى الْعِشَاءِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ بِجَمْعِ التَّأْخِيرِ، وَيَكُونُ فِي السَّفَرِ، وَفِي مُزْدَلِفَةَ، وَمِنْ أَجْلِ الْمَرَضِ وَالْمَطَرِ وَمَا إِلَيْهَا مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّأْخِيرِ.

السَّادِسُ: تَخْفِيفُ إِبَاحَةٍ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ: مِثْلُ:

20- 1- صَلَاةُ الْمُسْتَجْمِرِ مَعَ بَقِيَّةِ أَثَرِ النَّجَسِ الَّذِي لَا يَزُولُ تَمَامًا إِلاَّ بِالْمَاءِ.

2- الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ لِقِلَّتِهَا، أَوْ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهَا، أَوْ لِعُسْرِ إِزَالَتِهَا.

د- تَقْسِيمُ الرُّخَصِ بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهَا:

هَذَا التَّقْسِيمُ يُعَدُّ أَكْثَرَ ضَبْطًا لأُِصُولِ الرُّخَصِ، وَأَكْثَرَ جَمْعًا لِفُرُوعِهَا، وَهِيَ- بِحَسَبِهِ- تَنْقَسِمُ إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا:

21- رُخَصٌ سَبَبُهَا الضَّرُورَةُ:

قَدْ تَطْرَأُ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَالَةٌ مِنَ الْخَطَرِ أَوِ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ تَجْعَلُهُ يَخَافُ مِنْ حُدُوثِ أَذًى بِالنَّفْسِ، أَوْ بِالْعِرْضِ، أَوْ بِالْعَقْلِ، أَوْ بِالْمَالِ، أَوْ بِتَوَابِعِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ- عِنْدَئِذٍ- أَوْ يُبَاحُ لَهُ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ، أَوْ تَرْكُ الْوَاجِبِ، أَوْ تَأْخِيرُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فِي غَالِبِ الظَّنِّ ضِمْنَ قُيُودِ الشَّرْعِ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: ضَرُورَة).

وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ قَعَّدَ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةً هَامَّةً مِنْ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ الْقَرِيبَةِ نَصُّهَا: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.وَهِيَ تُعَدُّ مِنْ فُرُوعِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْكُلِّيَّتَيْنِ: إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ.وَالضَّرَرُ يُزَالُ.وَقَدْ فَرَّعُوا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا فُرُوعًا كَثِيرَةً تُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.

22- 2- رُخَصٌ سَبَبُهَا الْحَاجَةُ:

الْحَاجَةُ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ (انْظُرِ التَّفَاصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ: حَاجَة).

وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرَخَّصُ مِنْ أَجْلِهِ: فَالْعُقُودُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ وَقَعَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْجُعْلِ وَالْمُغَارَسَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقَرْضِ وَالْقِرَاضِ وَالِاسْتِصْنَاعِ وَدُخُولِ الْحَمَّامِ وَالْوَصِيَّةِ وَمَا شَابَهَهَا إِنَّمَا وَقَعَ التَّرْخِيصُ فِيهَا لِحَاجَةِ النَّاسِ عُمُومًا إِلَيْهَا، وَالتَّرْخِيصُ فِي التَّأْدِيبِ لِمَنْ جُعِلَ لَهُ، وَفِي التَّضْيِيقِ عَلَى بَعْضِ الْمُتَّهَمِينَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَفِي التَّلَفُّظِ بِالْفُحْشِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاضِي أَوِ الرَّاوِي أَوِ الشَّاهِدِ لِلدِّقَّةِ وَفِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَاسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ لِلْعِلَاجِ وَفِي التَّبَخْتُرِ بَيْنَ الصُّفُوفِ لِإِغَاظَةِ الْكُفَّارِ وَالنَّيْلِ مِنْهُمْ، وَفِي الْكَذِبِ لِلْإِصْلَاحِ، وَفِي الْغِيبَةِ عِنْدَ التَّظَلُّمِ أَوِ الِاسْتِفْتَاءِ وَنَحْوِهِمَا، وَفِي خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِقَضَاءِ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِهَا، أَوْ لِلتَّعَلُّمِ وَالْفَتْوَى وَالتَّقَاضِي وَسَفَرِهَا لِلْعِلَاجِ وَمَا إِلَى هَذِهِ الْحَالَاتِ إِنَّمَا وَقَعَ التَّرْخِيصُ فِيهَا مِنْ أَجْلِ حَاجَاتٍ تَمَسُّ طَوَائِفَ خَاصَّةً مِنَ الْمُجْتَمَعِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُبَاحُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ يُبَاحُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ تُثْبِتُ حُكْمًا مِثْلَ الْأُولَى إِلاَّ أَنَّ حُكْمَ الْحَاجَةِ مُسْتَمِرٌّ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ عَامَّةً وَحُكْمَ الضَّرُورَةِ مَوْقُوتٌ بِمُدَّةِ قِيَامِهَا إِذْ «الضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا» كَمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمَاتٌ لِذَاتِهَا، وَمُحَرَّمَاتٌ لِغَيْرِهَا، فَالْأُولَى لَا يُرَخَّصُ فِيهَا عَادَةً إِلاَّ مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَصْلَحَةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ يُرَخَّصُ فِيهَا حَتَّى مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَصْلَحَةٍ حَاجِيَّةٍ.عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تُعَامَلَ هَذِهِ مُعَامَلَةَ الْأُولَى وَلَوْ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ وَمَا قَبْلَهُ جَاءَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ: الْحَاجَةُ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ.وَقَدْ خَرَّجَ الْفُقَهَاءُ اعْتِمَادًا عَلَيْهَا جُزْئِيَّاتٍ مُتَفَرِّقَةً يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أُصُولًا يَلْحَقُ بِهَا مَا يُمَاثِلُهَا مِنْ نَظَائِرِهَا.

وَهُنَاكَ رُخَصٌ سَبَبُهَا السَّفَرُ أَوِ الْمَرَضُ أَوِ النِّسْيَانُ أَوِ الْجَهْلُ أَوِ الْخَطَأُ أَوِ النَّقْصُ أَوِ الْوَسْوَسَةُ أَوِ التَّرْغِيبُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَحَدَاثَةُ الدُّخُولِ فِيهِ أَوِ الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَيْسِير).

عَلَاقَةُ الرُّخْصَةِ بِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ:

23- الْمُتَتَبِّعُ لِلِاسْتِحْسَانِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَمُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَالتَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْجَوَابِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ يَظْفَرُ بِعَلَاقَةٍ وَطِيدَةٍ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَبَيْنَ الرُّخَصِ تَتَمَثَّلُ إِجْمَالًا فِي جَلْبِ الْيُسْرِ وَدَفْعِ الْعُسْرِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلْتُرَاجَعْ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ فِي مَحَالِّهَا مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.

الْقِيَاسُ عَلَى الرُّخَصِ:

24- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرُّخَصَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مِمَّا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي تُشَارِكُهَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ.فَقَدْ قَاسَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ صِحَّةَ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ عَلَى بَيْعِ الْعَرَايَا الْمُرَخَّصِ فِيهِ بِالنَّصِّ لِاتِّحَادِهِمَا فِي الْعِلَّةِ.كَمَا حَكَمُوا بِصِحَّةِ صَوْمِ مَنْ أَفْطَرَ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا قِيَاسًا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا الَّذِي ثَبَتَتْ صِحَّةُ صَوْمِهِ بِالنَّصِّ النَّبَوِيِّ.وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فَقَاسَ عَلَيْهِ كَلَامَ النَّاسِي فِي صَلَاتِهِ.

وَقَاسُوا الْإِقْطَارَ فِي الْعَيْنِ فِي رَمَضَانَ عَلَى الِاكْتِحَالِ الْمُرَخَّصِ فِيهِ نَصًّا.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ- بِاسْتِثْنَاءِ أَبِي يُوسُفَ- إِلَى مَنْعِ الْقِيَاسِ عَلَى الرُّخَصِ لِأَدِلَّةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

الْأَخْذُ بِالرُّخَصِ أَوِ الْعَزَائِمِ:

25- قَدْ يَرْفَعُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُكَلَّفِ الْحَرَجَ فِي الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ فِي الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ، أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ أَوْ بِتِلْكَ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا صَارَ بِمَثَابَةِ مَا بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ الَّذِي يُكْتَفَى فِيهِ بِالْإِتْيَانِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ كَانَ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا مَجَالٌ رَحْبٌ غَزِيرُ الْمَادَّةِ تَبَايَنَتْ فِيهِ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ حَيْثُ اخْتَلَفُوا بَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ- فِي هَذِهِ الْحَالَةِ- وَبَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ فِيهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ عَلَّلَ رَأْيَهُ بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمُبَرِّرَاتِ الْمَعْقُولَةِ تَكَفَّلَ الشَّاطِبِيُّ بِعَدِّهَا عَدًّا وَاضِحًا مُرَتَّبًا.

آرَاءُ الْعُلَمَاءِ فِي تَتَبُّعِ الرُّخَصِ:

26- الرُّخَصُ الشَّرْعِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ لَا بَأْسَ فِي تَتَبُّعِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ».

أَمَّا تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَالْجَرْيُ وَرَاءَهَا دُونَ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا وَنَحْوُهَا مِمَّا يُمَاثِلُهَا يُعْتَبَرُ هُرُوبًا مِنَ التَّكَالِيفِ، وَتَخَلُّصًا مِنَ الْمَسْئُولِيَّةِ، وَهَدْمًا لِعَزَائِمِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجُحُودًا لِحَقِّ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهَضْمًا لِحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَهُوَ يَتَعَارَضُ مَعَ مَقْصِدِ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى التَّخْفِيفِ عُمُومًا وَعَلَى التَّرَخُّصِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ» وَقَدِ اعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْعَمَلَ فِسْقًا لَا يَحِلُّ.وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.وَقَالَ نَقْلًا عَنْ غَيْرِهِ: لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ وَأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ كَانَ فَاسِقًا.

وَقَدْ دَخَلَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ- يَوْمًا- عَلَى الْمُعْتَضِدِ الْعَبَّاسِيِّ فَرَفَعَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ كِتَابًا وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ صَاحِبُهُ الرُّخَصَ مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ- بَعْدَ أَنْ تَأَمَّلَهُ-: مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيقٌ، فَقَالَ: أَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْغِنَاءَ وَالْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ.

فَالْأَخْذُ بِالرُّخَصِ لَا يَعْنِي تَتَبُّعَهَا وَالْبَحْثَ عَنْهَا لِلتَّحَلُّلِ مِنَ التَّكْلِيفِ وَإِنَّمَا يَعْنِي الِانْتِقَالَ مِنْ تَكْلِيفٍ أَشَدَّ إِلَى تَكْلِيفٍ أَخَفَّ لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ.

الرُّخَصُ إِضَافِيَّةٌ:

27- إِنَّ الرُّخَصَ عَلَى كَثْرَةِ أَدِلَّتِهَا أَوْ صِيَغِهَا، وَعَلَى مَا صَحَّ مِنْ حَثِّ الشَّرْعِ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبِهِ فِي الْأَخْذِ بِهَا- تَبْقَى فِي النِّهَايَةِ إِضَافِيَّةً: أَيْ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَقِيهُ نَفْسِهِ فِي الْأَخْذِ بِهَا أَوْ فِي عَدَمِهِ.وَيَكْفِي أَنْ نَعْلَمَ لِتَوْضِيحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ مَثَلًا الَّتِي تُعْتَبَرُ سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الرُّخَصِ تَخْتَلِفُ قُوَّةً وَضَعْفًا بِحَسَبِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَفِي التَّنَقُّلِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسَافِرِينَ، وَأَزْمِنَةِ السَّفَرِ، وَمُدَّتِهِ وَوَسَائِلِهِ، وَمَا إِلَى هَذَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ ضَبْطُهُ وَاطِّرَادُهُ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَلَمْ يُنَطِ الْحُكْمُ بِذَاتِ الْمَشَقَّةِ بَلْ أُسْنِدَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ مِمَّا يَدُلُّ غَالِبًا عَلَيْهَا وَهُوَ السَّفَرُ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ حُصُولِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (نسب 2)

نَسَبٌ -2

25- وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالثَّانِي فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ.أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ هَلْ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنَ الْمَيِّتِ؟ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ وَارِثٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ شَهَادَةً وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ.وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مَقْبُولًا فِي حَقِّ النَّسَبِ كَإِقْرَارِ الْجَمَاعَةِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ.وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَإِقْرَارُ الْوَارِثِ الْوَاحِدِ بِوَارِثٍ يَصِحُّ وَيَصْدُقُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأَخٍ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إِقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ: النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِأَنَّهُ دَعْوَى فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ شَهَادَةٌ، وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ الْوَاحِدُ مَقْبُولًا بِجِهَةٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى.

وَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأُخْتٍ أَخَذَتْ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ قَدْ صَحَّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَهَا مَعَ الْأَخِ ثُلُثُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ فَلَهَا ثُمُنُ مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِجَدَّةٍ هِيَ أُمُّ الْمَيِّتِ فَلَهَا سُدُسُ مَا فِي يَدِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُقِرَّ فِيمَا فِي يَدِهِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَا لَوْ ثَبَتَ النَّسَبُ.

وَلَوْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَيِّتِ بِابْنِ ابْنٍ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُ، لَكِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إِنَّمَا اسْتَفَادَ الْمِيرَاثَ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَوْ بَطَلَ إِقْرَارُهُ لَبَطَلَتْ وِرَاثَتُهُ، وَفِي بُطْلَانِ وِرَاثَتِهِ بُطْلَانُ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ وَالْمَالُ كُلُّهُ لَهُ مَا لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّسَبِ، لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى إِثْبَاتِ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَاخْتَلَفَا فِي وِرَاثَةِ الْمُقِرِّ، فَيَثْبُتُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَيَقِفُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ

26- وَالْمَالِكِيَّةُ يُسَمُّونَ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ بِالِاسْتِلْحَاقِ فَقَالُوا: إِنَّمَا يَسْتَلْحِقُ الْأَبُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ بِابْنٍ جَازَ إِقْرَارُهُ وَلَحِقَ بِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، أَنْكَرَ الِابْنُ أَوْ أَقَرَّ.وَإِنَّمَا يَسْتَلْحِقُ الْأَبَ مَجْهُولُ النَّسَبِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَالِكٍ: مَنِ ادَّعَى وَلَدًا لَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ فِيهِ لَحِقَ بِهِ إِنْ لَمْ يُكَذِّبْهُ الْعَقْلُ أَوِ الْحِسُّ أَوِ الْعَادَةُ أَوِ الشَّرْعُ صَغِيرًا كَانَ الْمُسْتَلْحَقُ أَوْ كَبِيرًا، حَيًّا أَوْ مَيِّتًا.وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ نَفَى وَلَدًا بِلِعَانٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَنْ مَالٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ضُرِبَ الْحَدَّ وَلَحِقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي مِيرَاثِهِ وَيُحَدُّ وَلَا يَرِثُهُ.

27- وَإِذَا اسْتَلْحَقَ مَيِّتًا وَرِثَ الْمُسْتَلْحِقُ- بِالْكَسْرِ- الْمُسْتَلْحَقَ- بِالْفَتْحِ- إِنْ وَرِثَهُ أَيِ الْمُسْتَلْحَقَ- بِالْفَتْحِ- ابْنٌ، قَالَ الْحَطَّابُ: ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ إِنَّمَا هُوَ فِي إِرْثِهِ مِنْهُ.وَأَمَّا نَسَبُهُ فَلَاحِقٌ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِثْهُ ابْنٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ.وَإِنِ اسْتَلْحَقَ شَخْصٌ شَخْصًا وَارِثًا غَيْرَ وَلَدٍ لِمُسْتَلْحِقِهِ- بِالْكَسْرِ- كَأَخٍ وَعَمٍّ وَأَبٍ وَأُمٍّ، فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ لَهُ، وَلَا يَرِثُ الْمُسْتَلْحَقُ- بِالْفَتْحِ- الْمُسْتَلْحِقَ- بِالْكَسْرِ- إِنْ وُجِدَ وَارِثٌ لِلْمُسْتَلْحِقِ- بِالْكَسْرِ-، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَارِثٌ فَفِي إِرْثِهِ خِلَافٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ لَا إِرْثَ بِإِقْرَارٍ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ الْإِرْثُ بِالْإِقْرَارِ، وَعَزَاهُ الْبَاجِيُّ لِمَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ.

وَخَصَّ الْخِلَافَ فِي إِرْثِ الْمُقَرِّ بِهِ مِنَ الْمُقِرِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ بِمَا إِذَا لَمْ يَطُلِ الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ، وَأَمَّا مَعَ الطُّولِ فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُ فِي الْإِرْثِ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِهِ، قَالَ اللَّخْمِيُّ، إِنْ قَالَ: هَذَا أَخِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو نَسَبٍ ثَابِتٍ يَرِثُهُ فَقِيلَ: الْمَالُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَقِيلَ: الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى وَهَذَا أَحْسَنُ، لِأَنَّ لَهُ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ.

وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ وَطَالَتِ الْمُدَّةُ وَهُمَا عَلَى ذَلِكَ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: أَخِي، أَوْ يَقُولُ: هَذَا عَمِّي، وَيَقُولُ الْآخَرُ: ابْنُ أَخِي، وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنُونَ وَلَا أَحَدَ يَدَّعِي بُطْلَانَ ذَلِكَ لَكَانَ حَوْزًا.

وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلَانِ مِنْ وَرَثَةِ مَيِّتٍ- كَابْنَيْنِ أَوْ أَخَوَيْنِ أَوْ عَمَّيْنِ- بِثَالِثٍ مُسَاوٍ لَهُمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَابْنٍ أَوْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ ثَبَتَ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ غَيْرُ عَدْلَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، وَهُوَ كَذَلِكَ إِجْمَاعًا.

وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلٌ وَاحِدٌ يَحْلِفُ الْمُقَرُّ بِهِ مَعَهُ أَيِ الْعَدْلُ الْمُقِرُّ، وَيَرِثُ الْمَيِّتُ مَعَ الْمُقِرِّ، وَالْحَالُ لَا نَسَبَ ثَابِتٌ لَهُ بِإِقْرَارِ الْعَدْلِ وَحَلِفِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقِرُّ عَدْلًا فَحِصَّةُ الشَّخْصِ الْمُقِرِّ بِوَارِثٍ كَالْمَالِ الْمَتْرُوكِ أَيْ كَأَنَّهَا جَمِيعُ التَّرِكَةِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَا وَلَدَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِثَالِثٍ وَكَذَّبَهُ أَخُوهُ فَحِصَّةُ الْمُقِرِّ النِّصْفُ فَيُقَدَّرُ أَنَّهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ وَيُقْسَمُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَيَنُوبُ الْمُقَرُّ بِهِ ثُلُثَهُ فَيَأْخُذُهُ وَثُلُثَاهُ لِلْمُقِرِّ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُ عَاصِبِي مَيِّتٍ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ: هَذَا أَخِي وَأَنْكَرَهُ أَخُوهُ ثُمَّ أَضْرَبَ الْمُقِرُّ عَنْ إِقْرَارِهِ لِهَذَا الثَّالِثِ وَقَالَ لِشَخْصٍ آخَرَ رَابِعٍ: بَلْ هَذَا أَخِي، فَلِلْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ نِصْفُ إِرْثِ أَبِ الْمُقِرِّ لِاعْتِرَافِهِ لَهُ بِهِ، وَإِضْرَابُهُ عَنْهُ لَا يُسْقِطُهُ لِأَنَّهُ يَعُدُّ نَدَمًا، وَلِلْمُقَرِّ بِهِ الثَّانِي نِصْفُ مَا بَقِيَ بِيَدِ الْمُقِرِّ لِاعْتِرَافِهِ لَهُ بِهِ

28- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ مُكَلَّفٌ بِنَسَبِ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُهُ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُولَدَ لِمِثْلِ الْمُقِرِّ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ أَكْبَرَ مِنْهُ بِعَشْرِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ كَمَا نَصَّ الْحَنَابِلَةُ، وَلَمْ يُنَازِعْهُ مُنَازِعٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّخْصَ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ.

وَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ أَوِ الْمَجْنُونُ الْمُقَرُّ بِهِ مَيِّتًا وَرِثَهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ، لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مَعَ الْحَيَاةِ الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا، لِفَوَاتِ التَّصْدِيقِ.

وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ كَبِيرًا عَاقِلًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنَ الْمُقِرِّ حَتَّى يُصَدِّقَهُ، لِأَنَّ لَهُ قَوْلًا صَحِيحًا فَاعْتُبِرَ تَصْدِيقُهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ، وَلِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي نَسَبِهِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلَّفَهُ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَثَبَتَ نَسَبُهُ، وَلَوْ سَكَتَ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَضِيَّةُ اعْتِبَارِ التَّصْدِيقِ.

وَإِنْ كَانَ الْكَبِيرُ الْعَاقِلُ الْمُقَرُّ بِهِ مَيِّتًا ثَبَتَ إِرْثُهُ وَنَسَبُهُ، لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ أَشْبَهَ الصَّغِيرَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا، لِفَوَاتِ التَّصْدِيقِ.

وَعَلَى الْأَوَّلِ يَرِثُ الْمَيِّتَ الْمُسْتَلْحِقُ وَلَا يُنْظَرُ إِلَى التُّهْمَةِ.

وَإِنِ ادَّعَى نَسَبَ مُكَلَّفٍ فِي حَيَاتِهِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ حَتَّى مَاتَ الْمُقِرُّ ثُمَّ صَدَّقَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، لِأَنَّ بِتَصْدِيقِهِ حَصَلَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى التَّوَارُثِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا.

وَإِنِ اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا أَثْبَتَ نَسَبَهُ فَلَوْ بَلَغَ وَكَذَّبَهُ لَمْ يَبْطُلْ نَسَبُهُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ فَلَا يَنْدَفِعُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَبْطُلُ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْإِنْكَارِ وَقَدْ صَارَ أَهْلًا لَهُ وَأَنْكَرَ.

وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا اسْتَلْحَقَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ وَأَنْكَرَ.

وَلَوِ اسْتَلْحَقَ اثْنَانِ بَالِغًا ثَبَتَ نَسَبُهُ لِمَنْ صَدَّقَهُ مِنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ وَاحِدًا مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ 29- وَمَنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَهُ أُمٌّ فَجَاءَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ تَدَّعِي زَوْجِيَّتَهُ لَمْ تَثْبُتِ الزَّوْجِيَّةُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّةِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ.

وَكَذَا لَوِ ادَّعَتْ أُخْتُهُ الْبُنُوَّةَ، ذَكَرَهُ فِي التَّبْصِرَةِ، قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ: وَمَنْ أَنْكَرَ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا كَانَ لَهَا طَلَبُهُ بِحَقِّهَا

30- وَإِنْ قَدِمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَمَعَهَا طِفْلٌ، فَأَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُهُ مَعَ إِمْكَانِهِ وَلَا مُنَازِعَ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ وَعَدَمِ الْمُنَازِعِ، وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ وَلَدَتِ امْرَأَةُ رَجُلٍ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْبَتِهِ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلرَّجُلِ قُدُومٌ إِلَيْهَا وَلَا عُرِفَ لَهَا خُرُوجٌ مِنْ بَلَدِهَا

31- وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ أَخٍ أَوْ عَمٍّ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ لَمْ يُقْبَلْ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.

وَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِنَسَبِ الْأَخِ أَوِ الْعَمِّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَالْمُقِرُّ هُوَ الْوَارِثُ وَحْدَهُ صَحَّ إِقْرَارُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَلِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ مُورِثِهِ فِي حُقُوقِهِ وَهَذَا مِنْهَا

وَلَا يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ نَفَاهُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَجُوزُ إِلْحَاقُهُ بِهِ بَعْدَ نَفْيِهِ إِيَّاهُ كَمَا لَوِ اسْتَلْحَقَهُ هُوَ بَعْدَ أَنْ نَفَاهُ بِلِعَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ نَفَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، لِأَنَّ فِي إِلْحَاقِ مَنْ نَفَاهُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلْحَاقَ عَارٍ بِنَسَبِهِ

32- وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُقِرِّ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ بِغَيْرِهِ وَارِثًا حَائِزًا لِتَرِكَةِ الْمُلْحَقِ بِهِ، وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، كَابْنَيْنِ أَقَرَّا بِثَالِثٍ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيَرِثُ مَعَهُمَا، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ أَنَّ الْمُسْتَلْحِقَ لَا يَرِثُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلَا يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَرِثُ بِأَنْ يُشَارِكَ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ عَدَمُ الْمُشَارَكَةِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، أَمَّا فِي الْبَاطِنِ إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ صَادِقًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا يَرِثُهُ فِي الْأَصَحِّ بِثُلُثِهِ، وَقِيلَ: بِنِصْفِهِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَالِغَ مِنَ الْوَرَثَةِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِقْرَارِ، بَلْ يَنْتَظِرُ بُلُوغَ الصَّبِيِّ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَنْفَرِدُ بِهِ وَيُحْكَمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ خَطِيرٌ لَا يُجَاوِزُ فِيهِ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ وَمَاتَ وَلَمْ يَرِثْهُ إِلاَّ الْمُقِرُّ ثَبَتَ النَّسَبُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ صَارَ لَهُ.

وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا يَثْبُتُ نَظَرًا إِلَى إِنْكَارِ الْمُورِثِ الْأَصْلَ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ابْنٌ حَائِزٌ بِأُخُوَّةِ مَجْهُولٍ فَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ نَسَبَ الْمُقِرِّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِنْكَارُهُ، وَيَثْبُتُ أَيْضًا نَسَبُ الْمَجْهُولِ، وَالثَّانِي: يُؤَثِّرُ الْإِنْكَارُ فَيَحْتَاجُ الْمُقِرُّ إِلَى الْبَيِّنَةِ عَلَى نَسَبِهِ، وَالثَّالِثُ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْمَجْهُولِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْمُقِرَّ لَيْسَ بِوَارِثٍ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَارِثُ الظَّاهِرُ يَحْجُبُهُ الْمُسْتَلْحِقُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ النَّسَبُ لِلِابْنِ وَلَا إِرْثَ لَهُ.

وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ الْإِرْثُ، وَلَوْ وَرِثَ الِابْنُ لَحَجَبَ الْأَخَ فَيَخْرُجُ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِقْرَارِ، فَيَنْتَفِي نَسَبُ الِابْنِ وَالْمِيرَاثُ.

وَالثَّالِثُ: يَثْبُتَانِ، وَلَا يَخْرُجُ الْأَخُ بِالْحَجْبِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ كَوْنُ الْمُقِرِّ حَائِزًا لِلتَّرِكَةِ لَوْلَا إِقْرَارُهُ

33- وَإِنْ أَقَرَّ بِأَبٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ مَوْلًى أَعْتَقَهُ قَبْلَ إِقْرَارِهِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَلَوْ أَسْقَطَ بِهِ وَارِثًا مَعْرُوفًا، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَارِثِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ بِشُرُوطٍ:

أَوَّلُهَا: خُلُوُّهُ مِنْ مُسْقِطٍ، إِذَا أَمْكَنَ صِدْقُ الْمُقِرِّ بِأَنْ لَا يُكَذِّبَهُ فِيهِ ظَاهِرُ حَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صِدْقُهُ كَإِقْرَارِ الْإِنْسَانِ بِمَنْ فِي سِنِّهِ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ.

وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَدْفَعَ بِإِقْرَارِهِ نَسَبًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ دَفَعَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ.

وَثَالِثُهَا: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُقِرُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ وَإِلاَّ لَمْ يُقْبَلْ، أَوْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ مَيِّتًا، إِلاَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ فَلَا يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُهُمَا لِمَا مَرَّ، فَإِنْ كَبِرَا وَعَقَلَا وَأَنْكَرَا النَّسَبَ لَمْ يُسْمَعْ إِنْكَارُهُمَا لِأَنَّهُ نَسَبٌ حُكِمَ بِثُبُوتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِرَدِّهِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَلَوْ طَلَبَا إِحْلَافَ الْمُقِرِّ لَمْ يُسْتَحْلَفْ، لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ النَّسَبَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ بِخِلَافِ الْمَالِ.

وَيَكْفِي فِي تَصْدِيقِ وَالِدٍ بِوَلَدِهِ وَعَكْسِهِ كَتَصْدِيقِ وَلَدٍ بِوَالِدِهِ، سُكُوتُهُ إِذَا أَقَرَّ بِهِ، لِأَنَّهُ يَغْلِبُ فِي ذَلِكَ ظَنُّ التَّصْدِيقِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا أَيِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ وَعَكْسِهِ تَكْرَارُ التَّصْدِيقِ، فَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ بِنَسَبِهِمَا بِدُونِ تَكْرَارِ التَّصْدِيقِ وَمَعَ السُّكُوتِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ سَكَتَ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، وَفَارِقُ السُّكُوتِ فِي الْأَمْوَالِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي النَّسَبِ.نَعَمْ إِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ التَّصْدِيقِ ثَبَتَ النَّسَبُ

34- وَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُ مَنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمُ: الْأَبُ وَالِابْنُ وَالزَّوْجُ وَالْمَوْلَى، وَكَجَدٍّ يُقِرُّ بِابْنِ ابْنِهِ وَعَكْسِهِ، وَكَأَخٍ يُقِرُّ بِأَخٍ، وَالْعَمِّ يُقِرُّ بِابْنِ أَخٍ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى غَيْرِهِ نَسَبًا فَلَمْ يُقْبَلْ، إِلاَّ وَرَثَةً أَقَرُّوا لِمَنْ لَوْ أَقَرَّ بِهِ مُورِثُهُمْ ثَبَتَ نَسَبُهُ فَيَصِحُّ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ.

وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ مُكَلَّفَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُنْكِرُ وَالْمُقِرُّ وَحْدَهُ وَارِثٌ لِلْمُنْكِرِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْهُمَا لِانْحِصَارِ الْإِرْثِ فِيهِ، فَلَوْ مَاتَ الْمُقِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ بَنِي عَمٍّ وَعَنِ الْأَخِ الْمُقَرِّ بِهِ وَرِثَهُ الْأَخُ الْمُقَرُّ بِهِ دُونَ بَنِي الْعَمِّ، لِأَنَّ الْأَخَ يَحْجُبُهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ وَلَوْ أَقَرَّتْ زَوْجَةٌ بِوَلَدٍ لَحِقَهَا لِإِقْرَارِهَا دُونَ زَوْجِهَا لِعَدَمِ إِقْرَارِهِ بِهِ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِامْرَأَتِهِ

ثُبُوتُ نَسَبِ الشَّخْصِ بِإِقْرَارِهِ:

35- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: نَسَبُ الشَّخْصِ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، لِقَوْلِهِمْ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فِيمَا إِذَا شَهِدَ شُهُودُ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسَمَّى فِيهِ لَا عَلَى عَيْنِهِ، فَاعْتَرَفَ الْمُحْضَرُ بِأَنَّ ذَلِكَ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ أَوْ أَنْكَرَ وَنَكَلَ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى ذَلِكَ تَوَجَّهَ لَهُ الْحُكْمُ، وَلِأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يُسْأَلُ عَنِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى أَنْسَابِهِمْ، وَمَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ رُجِعَ إِلَيْهِ فِيمَا عَلَيْهِ لَا فِيمَا لَهُ.

إِقْرَارُ السَّفِيهِ بِالنَّسَبِ:

36- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ السَّفِيهُ بِنَسَبٍ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِذَلِكَ وَأُخِذَ بِهِ فِي الْحَالِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ إِجْمَاعُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي نَفْسِهِ وَالْحَجْرُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ. وَيُنْفَقُ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْتَلْحَقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ:

37- الْإِقْرَارُ الصَّحِيحُ بِالْبُنُوَّةِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ كَلَامِ الْمُكَلَّفِ بِلَا مُقْتَضٍ وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي (إِقْرَار ف 67).

نَسَبُ اللَّقِيطِ:

38- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ شَخْصٌ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا مُسْلِمًا حُرًّا لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ تَتَحَقَّقَ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِلْحَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحْضُ نَفْعٍ لِلطِّفْلِ لِاتِّصَالِ نَسَبِهِ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ، فَقُبِلَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيط ف 11- 14).

ز- الْقُرْعَةُ:

39- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قُرْعَة ف 19).

ح- السَّمَاعُ:

40- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ بِالسَّمَاعِ لِلضَّرُورَةِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَمَّا النَّسَبُ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لَاسْتَحَالَتْ مَعْرِفَةُ الشَّهَادَةِ بِهِ؛ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ قَطْعًا بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمْكُنُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهِ، وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْمُشَاهَدَةُ لَمَا عَرَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ وَلَا أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ أَنْ يَكُونَ النَّسَبُ مَشْهُورًا، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الشَّهَادَةُ بِالشُّهْرَةِ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِهِ بِطَرِيقَتَيْنِ: الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمِيَّةُ.فَالْحَقِيقَةُ: أَنْ تُشْتَهَرَ وَتُسْمَعَ مِنْ قَوْمٍ كَثِيرٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَا تُشْتَرَطُ فِي

هَذِهِ الْعَدَالَةُ، وَلَا لَفْظُ الشَّهَادَةِ بَلْ يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ.

وَالْحُكْمِيَّةُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عُدُولٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، هَذَا إِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْهَادِ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ إِذَا لَقِيَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَهُ عَلَى نَسَبِهِ وَعَرَفَا حَالَهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ أَقَامَ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى نَسَبِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَشْهَدَ.

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمٍ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ وَقَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى نَسَبِهِ حَتَّى يَلْقَوْا مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَيَشْهَدَانِ عِنْدَهُمْ عَلَى نَسَبِهِ، قَالَ الْجَصَّاصُ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: وَلَا يَشْهَدُ أَحَدٌ بِمَا لَمْ يُعَايِنْهُ بِالْإِجْمَالِ إِلاَّ فِي عَشَرَةٍ مِنْهَا النَّسَبُ، فَلَهُ الشَّهَادَةُ بِهِ إِذَا أَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ يَثِقُ الشَّاهِدُ بِهِ مِنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بِلَا شَرْطِ عَدَالَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ.

41- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ جَائِزَةٌ فِي النَّسَبِ الْمَشْهُورِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ نَسَبٌ، إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَالُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُشْتَهَرًا مِثْلَ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ.

42- وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الِاسْتِفَاضَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ أَمْرٌ لَا مَدْخَلَ لِلرُّؤْيَةِ فِيهِ، وَغَايَةُ الْمُمْكِنِ رُؤْيَةُ الْوِلَادَةِ عَلَى الْفِرَاشِ، لَكِنَّ النَّسَبَ إِلَى الْأَجْدَادِ الْمُتَوَفَّيْنَ وَالْقَبَائِلِ الْقَدِيمَةِ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الرُّؤْيَةُ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى اعْتِمَادِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَلَوْ مِنَ الْأُمِّ قِيَاسًا عَلَى الْأَبِ.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ- وَهُوَ الِاسْتِفَاضَةُ- النَّسَبُ، وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِالتَّسَامُعِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ ابْنُ فُلَانٍ، أَوْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ- إِذَا عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا- بِنْتُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَّهُمَا مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا.وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنَ الْأُمِّ بِالتَّسَامُعِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: قَطْعًا كَالْأَبِ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ إِمْكَانُ رُؤْيَةِ الْوِلَادَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ فِي صِفَةِ التَّسَامُعِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ بِنَسَبِهِ، فَيُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَوِ الْقَبِيلَةِ، وَالنَّاسُ يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ التَّكْرَارُ وَامْتِدَادُ مُدَّةِ السَّمَاعِ؟ قَالَ كَثِيرُونَ: نَعَمْ، وَبِهَذَا أَجَابَ الصَّيْمَرِيُّ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا، بَلْ لَوْ سَمِعَ انْتِسَابَ الشَّخْصِ وَحَضَرَ جَمَاعَةً لَا يَرْتَابُ فِي صِدْقِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِنَسَبِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، جَازَ لَهُ الشَّهَادَةُ، وَرَأَى ابْنُ كَجٍّ الْقَطْعَ بِهَذَا، وَبِهِ أَجَابَ الْبَغَوِيُّ فِي انْتِسَابِهِ.

وَيُعْتَبَرُ مَعَ انْتِسَابِ الشَّخْصِ وَنِسْبَةِ النَّاسِ أَلاَّ يُعَارِضَهُمَا مَا يُورِثُ تُهْمَةً وَرِيبَةً، فَلَوْ كَانَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ حَيًّا وَأَنْكَرَ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا جَازَتْ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا لَوْ كَانَ مَيِّتًا.وَلَوْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ النَّسَبِ، هَلْ يُمْنَعُ جَوَازُ الشَّهَادَةِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِاخْتِلَافِ الظَّنِّ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِفَاضَةِ أَوْجُهٌ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقَعُ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ الْقَوِيُّ بِخَبَرِهِمْ وَيُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ.

وَالثَّانِي: يَكْفِي عَدْلَانِ، اخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ.

وَالثَّالِثُ: يَكْفِي خَبَرُ وَاحِدٍ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبُ إِلَيْهِ، حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ.فَعَلَى الْأُولَى يَنْبَغِي أَلاَّ يُشْتَرَطَ الْعَدَالَةُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ وَلَا الذُّكُورَةُ.

وَلَوْ سَمِعَ رَجُلًا لآِخَرَ: هَذَا ابْنِي وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ أَوْ قَالَ: أَنَا ابْنُ فُلَانٍ، وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ: يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَلَى النَّسَبِ، وَكَذَا لَوِ اسْتَلْحَقَ صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا وَسَكَتَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي النَّسَبِ كَالْإِقْرَارِ، وَفِي الْمُهَذَّبِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عِنْدَ السُّكُوتِ إِلاَّ إِذَا تَكَرَّرَ عِنْدَهُ الْإِقْرَارُ وَالسُّكُوتُ، وَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْغَزَالِيُّ: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِذَلِكَ، بَلْ يَشْهَدُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَهَذَا قِيَاسٌ ظَاهِرٌ.

43- وَيُوَافِقُ الْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ كَذَلِكَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ أَوِ الِاسْتِفَاضَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّسَبِ.جَاءَ فِي الْمُغْنِي: وَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي قَلْبِهِ شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ مَا يَعْلَمُهُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ الشَّهَادَةِ بِهَا فِي النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ.

وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَلاَّ يَشْهَدَ بِالِاسْتِفَاضَةِ حَتَّى تَكْثُرَ بِهِ الْأَخْبَارُ وَيَسْمَعَهُ مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، يَقُولُ الْخِرَقِيُّ: فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقَلْبِ، يَعْنِي حَصَلَ الْعِلْمُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي «الْمُجَرَّدِ» أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَسْمَعَ مِنَ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ وَيَسْكُنَ قَلْبُهُ إِلَى خَبَرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الِاسْتِفَاضَةِ، فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ فَيْضِ الْمَاءِ لِكَثْرَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اكْتَفَى فِيهِ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ، وَإِذَا سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِصَبِيٍّ: هَذَا ابْنِي، جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِنَسَبِهِ، وَإِنْ سَمِعَ الصَّبِيَّ يَقُولُ: هَذَا أَبِي، وَالرَّجُلُ يَسْمَعُهُ فَسَكَتَ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الْأَبِ إِقْرَارٌ لَهُ، وَالْإِقْرَارُ يُثْبِتُ النَّسَبَ فَجَازَتِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ السُّكُوتُ هَهُنَا مَقَامَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى الِانْتِسَابِ الْبَاطِلِ جَائِزٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوِي، وَلِأَنَّ النَّسَبَ يَغْلِبُ فِيهِ الْإِثْبَاتُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ فِي النِّكَاحِ؟ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَلاَّ يَشْهَدَ مَعَ السُّكُوتِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ حَقِيقِيٍّ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَهُ، فَاعْتُبِرَتْ تَقْوِيَتُهُ بِالتَّكْرَارِ، كَمَا اعْتُبِرَتْ تَقْوِيَةُ الْيَدِ فِي الْعَقَارِ بِالِاسْتِمْرَارِ.

ط- حُكْمُ الْقَاضِي:

44- يُعَدُّ حُكْمُ الْقَاضِي بِالنَّسَبِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ لَا يُذْكَرُ فِيهِ مُسْتَنَدُ الْحُكْمِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي حُكْمِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَصْلُهُ قَوْلُ سُحْنُونٍ: يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاضِي فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَجْلِسُ حُكْمِهِ، وَلِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَلِفًا فِي اعْتِبَارِهِ مُسْتَنَدًا، فَإِذَا حَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَكَانَ الْحُكْمُ طَرِيقَ الثُّبُوتِ.

وَفِي الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ يَكْثُرُ التَّنْبِيهُ فِي نَوَازِلِ النَّسَبِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِالْإِرْثِ لِمُدَّعِي النَّسَبِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا يُمْضَى، فَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِظْهَارُ بِحُكْمِ قَاضٍ بِثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدٍ غَيْرِهِ مَذْكُورٍ فِيهِ مُسْتَنَدُ الْحَاكِمِ لَمْ يَسَعِ الْقَاضِي- الْمُسْتَظْهَرُ لَدَيْهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ- إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: ثَبَتَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْقَاضِي فُلَانٍ.

قَالَ الْجَزِيرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا انْصَرَمَتِ الْآجَالُ وَعَجَزَ الطَّالِبُ عَجَّزَهُ الْقَاضِي وَأَشْهَدَ بِذَلِكَ، وَيَصِحُّ التَّعْجِيزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُدْعَى فِيهِ إِلاَّ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ: الدِّمَاءَ، وَالْأَحْبَاسَ، وَالْعِتْقَ، وَالطَّلَاقَ، وَالنَّسَبَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ وَهْبٍ.

وَضَابِطُهُ كُلُّ حَقٍّ لَيْسَ لِمُدَّعِيهِ إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَمِنْهَا دَعْوَى نَسَبٍ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِبَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا بَعْدَ التَّلَوُّمِ، فَلَا يُعَجَّزُ، فَمَتَى أَقَامَهَا

حُكِمَ عَلَى مُقْتَضَاهَا وَفَصَّلَ الدُّسُوقِيُّ فَقَالَ: فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَجِّزَ طَالِبَ إِثْبَاتِ النَّسَبِ سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ أَوِ ادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً، وَطَلَبَ الْإِمْهَالَ لَهَا وَأُنْظِرَ فَلَمْ يَأْتِ بِهَا، فَإِنْ عَجَّزَهُ كَانَ حُكْمُهُ بِالتَّعْجِيزِ غَيْرَ مَاضٍ، فَإِذَا قَالَ مُدَّعِي النَّسَبِ: لِي بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، وَأُمْهِلَ لِلْإِتْيَانِ بِهَا فَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ، حَكَمَ الْحَاكِمُ بِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلَا يَحْكُمُ بِتَعْجِيزِ ذَلِكَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَكَمَ بِعَجْزِهِ كَانَ حُكْمُهُ غَيْرَ مَاضٍ، وَأَمَّا طَالِبُ نَفْيِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يُمْضِي حُكْمَهُ بِتَعْجِيزِهِ فِي النَّسَبِ، فَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِمُدَّعِي النَّسَبِ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: عِنْدِي بَيِّنَةٌ تَجْرَحُ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي، فَإِذَا أُمْهِلَ وَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ حَكَمَ الْقَاضِي بِثُبُوتِ النَّسَبِ وَتَعْجِيزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِذَا عَجَّزَهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ الْجِيزِيُّ وَارْتَضَاهُ الْبُنَانِيُّ، وَقَالَ عَلِيٌّ الْأَجْهُورِيُّ: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَالْمُدَّعِي فِي النَّسَبِ لَيْسَ لِلْقَاضِي تَعْجِيزُهُ أَصْلًا فِيهَا.

وَحُكْمُ الْقَاضِي بِثُبُوتِ النَّسَبِ يَنْفُذُ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْحَاضِرِ حُكْمٌ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا النَّسَبُ.

وَالْمُرَادُ بِالْغَائِبِ: مَنْ لَمْ يُخَاصِمْ فِي النَّازِلَةِ الْمَقْضِيِّ فِيهَا أَصْلًا، أَوْ لَمْ يَحْضُرْ عِنْدَ صُدُورِ الْحُكْمِ مِنَ الْقَاضِي، وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ مَنْ ثَبَتَتْ غَيْبَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، سَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا وَقْتَ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ التَّزْكِيَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ عَنِ الْبَلَدِ، وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْبَيِّنَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْإِقْرَارِ عِنْدَ الْقَاضِي.

ي- ثُبُوتُ النَّسَبِ بِدَعْوَى الْحِسْبَةِ:

45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ بِدَعْوَى الْحِسْبَةِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّسَبِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّسَبَ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، وَحَقُّهُ لَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ صَغِيرًا فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يُنَصِّبِ الْقَاضِي خَصْمًا عَنِ الصَّغِيرِ لِيَدَّعِيَ النَّسَبَ لَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا؛ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ إِحْيَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْقَاضِي نُصِبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً عَلَى خَصْمٍ أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى نَسَبِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهَا النَّسَبُ؛ لِأَنَّ فِي وَصْلِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.

التَّحْكِيمُ فِي النَّسَبِ:

46- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي نَسَبٍ لِأَبٍ؛ لِخَطَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِ الْخَصْمَيْنِ بِهَا وَهُوَ الْآدَمِيُّ، لَكِنَّهُ إِنْ حَكَمَ فِي نَسَبٍ مَضَى حُكْمُهُ إِنْ كَانَ صَوَابًا، فَلَا يَنْقُضُهُ الْإِمَامُ وَلَا الْقَاضِي قَالَ أَصْبَغُ: وَلَا يَنْبَغِي التَّحْكِيمُ فِي النَّسَبِ لِأَنَّهُ لِلْإِمَامِ، زَادَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَصْبَغَ: فَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي ذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ.

التَّحْلِيفُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ:

47- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَنَّهُ لَا تَحْلِيفَ فِي نَسَبٍ، بِأَنِ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وَبِالْعَكْسِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

وَقِيلَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يُحَلِّفُهُ وَيَأْخُذُهُ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا لَا يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (ولوغ)

وُلُوغٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْوُلُوغُ فِي اللُّغَةِ: شُرْبُ السِّبَاعِ بِأَلْسِنَتِهَا يُقَالُ: وَلَغَ الْكَلْبُ يَلَغُ وَلْغًا مِنْ بَابِ نَفَعَ، وَوُلُوغًا: شَرِبَ مَا فِي الْإِنَاءِ بِأَطْرَافِ لِسَانِهِ أَوْ أَدْخَلَ فِيهِ لِسَانِهِ فَحَرَّكَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» أَيْ شَرِبَ مِنْهُ بِلِسَانِهِ.وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ يُقَالُ: أَوْلَغْتُهُ إِذَا سَقَيْتَهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- السُّؤْرُ:

2- السُّؤْرُ فِي اللُّغَةِ: الْبَقِيَّةُ وَالْفَضْلَةُ مِنْ سَأَرَ وَجَمْعُهُ أَسْآرٌ، وَأَسْأَرَ مِنْهُ شَيْئًا: أَبْقَى، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا شَرِبْتُمْ فَأَسْئِرُوا» أَيْ أَبْقُوا شَيْئًا مِنَ الشَّرَابِ فِي قَعْرِ الْإِنَاءِ.

وَالسُّؤْرُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ بَقِيَّةُ الْمَاءِ الَّتِي يُبْقِيهَا الشَّارِبُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِبَقِيَّةِ الطَّعَامِ غَيْرُهُ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ السُّؤْرِ وَالْوُلُوغُ أَنَّ السُّؤْرَ هُوَ الْبَاقِي مِنَ الشُّرْبِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ وُلُوغٍ أَوْ غَيْرِهِ.

ب- الشُّرْبُ:

3- الشُّرْبُ فِي اللُّغَةِ جَرْعُ كُلِّ مَائِعٍ: مَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.

يُقَالُ: شَرِبَ الْمَاءَ وَنَحْوَهُ شُرْبًا: جَرَعَهُ فَهُوَ شَارِبٌ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوُلُوغِ وَالشُّرْبِ أَنَّ الشُّرْبَ أَعَمُّ مِنَ الْوُلُوغِ فَكُلُّ وُلُوغٍ شُرْبٌ وَلَا يَلْزَمُ الْعَكْسُ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوُلُوغِ

يَتَعَلَّقُ بِالْوُلُوغِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَوَّلًا: وُلُوغُ الْكَلْبِ

أـ نَجَاسَةُ إِنَاءٍ يَلْغُ فِيهِ الْكَلْبُ:

4 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ وُلُوغَ الْكَلْبِ فِي الْإِنَاءِ يُنَجِّسُهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ وُلُوغَ الْكَلْبِ لَا يُنَجِّسُ الْإِنَاءَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (سُؤْر ف 3 ـ 6، وَكَلْب ف 15، 18).

وَأَمَّا وُلُوغُ سَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فِي الْإِنَاءِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فِي مُصْطَلَحِ (سُؤْر ف 3 ـ 6).

ب ـ عَدَدُ الْغَسَلَاتِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ:

5 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَفِي عَدَدِ الْغَسَلَاتِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب ف 18، وَتَتْرِيب ف 2).

6 ـ وَأَمَّا غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ سَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ فِي عَدَدِ غَسَلَاتِهِ:

ـ فَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْكَلْبِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فِي تَطْهِيرِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهَا وَعَدَدِ الْغَسَلَاتِ، إِذْ يُغْسَلُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَسَبْعًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ غَسْلُهَا ثَلَاثًا وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عِنْدَهُمْ: تُكَاثَرُ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ.

ـ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ وُجُوبِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِنَّمَا قَالُوا بِنَدْبِ غَسْلِ الْإِنَاءِ، مِنْ وُلُوغِهِمَا سَبْعًا بِلَا تَتْرِيبٍ.

- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذْ وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ عَدَا الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ.

جـ ـ تَعَدُّدُ الْوُلُوغِ:

7 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْغَسْلِ بِسَبَبِ تَعَدُّدِ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ.فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ) عَدَمَ تَعَدُّدِ الْغَسْلِ بِسَبَبِ وُلُوغِ كَلْبٍ وَاحِدٍ مَرَّاتٍ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ وُلُوغِ كِلَابٍ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ قَبْلَ غَسْلِهِ لِتَدَاخُلِ مُسَبِّبَاتِ الْأَسْبَابِ الْمُتَّفِقَةِ فِي الْمُسَبِّبِ كَنَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَمُوجِبَاتِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَتَعَدَّدُ الْغَسْلُ بِوُلُوغِ كَلْبٍ أَوْ كِلَابٍ.

وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ عِنْدِ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ لِكُلِّ وَلْغَةٍ سَبْعٌ.

وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ: يَكْفِي لِوَلْغَاتِ الْكَلْبِ الْوَاحِدِ سَبْعٌ، وَيَجِبُ لِكُلِّ كَلْبٍ سَبْعٌ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (كَلْب ف 19).

د- شَهَادَةُ ثِقَةٍ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ:

8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَهُ رَجُلٌ ثِقَةٌ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ فِي أَحَدِ الْإِنَائَيْنِ بِعَيْنِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ إِنَاءَانِ يَعْلَمُ أَنَّ الْكَلْبَ وَلَغَ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يَعْلَمُ عَيْنَهُ، فَيَجِبُ قَبُولُ خَبَرِهِ وَيُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ وَطَهَارَةِ الْآخَرِ وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا إِذَا أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِوُلُوغِهِ فِي هَذَا، وَثِقَةٌ بِوُلُوغِهِ فِي ذَاكَ فَيُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِمَا مِنَ احْتِمَالِ الْوُلُوغِ فِي وَقْتَيْنِ، وَمَتَى أَمْكَنَ صِدْقُ الْخَبَرَيْنِ الثِّقَتَيْنِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِمَا.

وَإِذَا أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِوُلُوغِهِ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ حِينَ بَدَأَ حَاجِبُ الشَّمْسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ مَثَلًا، فَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ وَلَغَ فِي ذَاكَ دُونَ ذَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيهَا، فَقَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِيهِمَا وَيَسْتَعْمِلُ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى نَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا فَلَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ قَوْلِهِمَا.

وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجُمْهُورُ الْخُرَاسَانِيِّينَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ تُبْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا، أَصَحُّهَمَا تَسْقُطَانِ.

وَالثَّانِي يُسْتَعْمَلَانِ.وَفِي الِاسْتِعْمَالِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: بِالْقُرْعَةِ، وَالثَّانِي: بِالْقِسْمَةِ، وَالثَّالِثُ: يُوقَفُ حَتَّى يَصْطَلِحَ الْمُتَنَازِعَانِ.

وَقَالَ: إِنْ قُلْنَا يَسْقُطَانِ سَقَطَ خَبَرُ الثِّقَتَيْنِ وَبَقِيَ الْمَاءُ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ فَيَتَوَضَّأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِمَا جَمِيعًا، قَالُوا: لِأَنَّ تَكَاذُبَهُمَا وَهَّنَ خَبَرَهُمَا، وَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِمَا لِلتَّعَارُضِ فَسَقَطَ، قَالُوا: وَإِنْ قُلْنَا تُسْتَعْمَلَانِ لِمَ يَجِئْ قَوْلُ الْقِسْمَةِ بِلَا خِلَافٍ وَامْتِنَاعُهُ وَاضِحٌ، وَأَمَّا الْقُرْعَةُ فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهَا لَا تَجِيءُ أَيْضًا كَمَا قَطَعَ بِهِ الشِّيرَازِيُّ، وَحَكَىَ صَاحِبُ الْمُذْهَبِ وَجْهًا: أَنَّهُ يُقْرِعُ وَيَتَوَضَّأُ بِمَا اقْتَضَتِ الْقَرْعَةُ طَهَارَتَهُ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ.وَأَمَّا الْوَقْفُ فَقَدْ جَزَمَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَجِيءُ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مَجِيءُ الْوَقْفِ.

فَعَلَى هَذَا يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مَاءٌ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ، وَوَجْهُ جَرَيَانِ الْوَقْفِ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا مَا يَمْنَعُهُ بِخِلَافِ الْقِسْمَةِ وَالْقُرْعَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِ الشِّيرَازِيِّ: لَا يَجِيءُ الْوَقْفُ، الْقِيَاسُ عَلَى مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِنَاءَانِ وَاجْتَهَدَ وَتَحَيَّرَ فِيهِمَا فَإِنَّهُ يُرِيقُهُمَا وَيُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ بِلَا إِعَادَةٍ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي الْإِرَاقَةِ وَلَمْ يَقُولُوا بِالْوَقْفِ، فَكَذَا هُنَا.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ أَخَبْرَهُ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ لَزِمَ قَبُولُ خَبَرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَصِيرًا أَوْ ضَرِيرًا؛ لِأَنَّ لِلضَّرِيرِ طَرِيقًا إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَالْحِسِّ.وَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ وَلَمْ يَلْغُ فِي هَذَا.وَقَالَ آخَرُ: لَمْ يَلْغُ فِي الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا وَلَغَ فِي الثَّانِي، وَجَبَ اجْتِنَابُهُمَا، فَيُقْبَلُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا خَفِيَ عَلَى الْآخَرِ، إِلاَّ أَنْ يُعِيِّنَا وَقْتًا مُعَيَّنًا وَكَلْبًا وَاحِدًا يَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ شُرْبِهِ مِنْهُمَا فَيَتَعَارَضُ قَوْلَاهُمَا وَيَسْقُطَانِ.وَيُبَاحُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: شَرِبَ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ، وَقَالَ الْآخَرُ: نَزَلَ وَلَمْ يَشْرَبْ.قُدِّمَ قَوْلُ الْمُثْبِتِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَحَقَّقْ شُرْبُهُ مِثْلُ الضَّرِيرِ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ حِسِّهِ، فَيُقَدَّمُ قَوْلُ الْبَصِيرِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ قَبُولُ خَبَرِ مُسْلِمٍ عَدْلٍ ـ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً ـ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ فِيهِ، وَأَمَّا الْفَاسِقُ وَالْمَسْتُورُ فَيَتَحَرَّى الْمُسْلِمُ فِي خَبَرِهِ.

وَلَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَعَدْلٌ بِنَجَاسَتِهِ حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-تاج العروس (أي)

[أَيّ]: أَيُّ كَتَبَه بالحُمْرةِ، وهو في الصِّحاحِ، فالأَوْلى كتبه بالسَّوادِ: حَرْفُ اسْتِفْهامٍ عمَّا يَعْقِلُ وما لا يَعْقِلُ.

هكذا هو في المحْكَم.

وقالَ شيْخُنا: لا قَائِل بحَرْفِيَّتها بَلْ هي اسمٌ تُسْتَعْملُ في كلامِ العَرَبِ على وُجُوهٍ مَبْسوطَةٍ في المُغْني وشُرُوحِه، وكَلامُ المصنِّفِ فيها كُلّه غَيْر مُحَرَّر.

ثم قالَ ابنُ سِيدَه: وقَوْلُ الشاعِرِ:

وأَسْماءُ ما أَسْماءُ لَيْلَةَ أَدْلَجَتْ *** إليَّ وأَصْحابي بأَيِّ وأَيْنَما

فإنَّه جعَلَ أَيَّ اسْمًا للجهَةِ، فلمَّا اجْتَمَعَ فيه التَّعْريفُ والتأْنِيثُ مَنَعَه الصَّرْف.

وقالوا: لأَضْرِبَنَّ أَيُّهم أَفْضَلُ؛ أَيِّ مَبْنِيَّةٌ عنْدَ سِيْبَوَيْه، فلذلِكَ لم يَعمل فيها الفِعْلُ؛ كما في المُحْكَم وفي الصِّحاحِ.

وقالَ الكِسائيّ: تقولُ: لأَضْرِبَنَّ أَيَّهم في الدارِ، ولا يَجوزُ أَن تقولَ ضَرَبْت أَيُّهم في الدارِ، ففرق بينَ الوَاقِعِ والمُنْتَظَرِ.

وقالَ شَيْخُنا: أَيّ لا تُبْنى إلَّا في حالَةٍ مِن أَحْوالِ المَوْصولِ، أَو إذا كانتْ مُنادَاة، وفي أَحْوالِ الاسْتِفهامِ كُلّها مُعْرَبَة، وكَذلِكَ حالُ الشَّرْطِيَّة وغَيْر ذلِكَ، ولا يعتمد على شي‌ءٍ مِن كَلامِ المصنِّف انتَهَى.

* قُلْتُ: وقد عَرَفْت أنَّه قَوْلُ سِيْبَوَيْه على ما نَقَلَه ابنُ سِيدَه. فقوْل شيْخنا أَنَّه لا يُعْتَمد إلى آخِرِه مَحلُّ نَظَرٍ.

ثم قالَ بعضٌ: لعلَّ قَوْله مَبْنِيَّة مُحَرَّفَة عن مُبَيِّنَةَ بتقْدِيم التّحْتِيَّة على النونِ مِن البَيَانِ؛ أَي مُعْرَبَة، وقيلَ: أرادَ بالبِناءِ التَّشْديد وكُلّه خِلافُ الظاهِرِ، انتَهى.

* قُلْتُ: وهو مِثْل ما ذكرَ وحيثُ ثبتَ أنه قَوْلُ سِيْبَوَيْه فلا يحتاجُ إلى هذه التَّكْلِفاتِ البَعِيدَةِ ومن حفظ حجَّة على مَنْ لم يَحْفظ.

وقد تُخَفَّفُ لضَرُورَةِ الشِّعْرِ، كقَوْلِه؛ أَي الفَرَزْدَق:

تَنَظَّرْتُ نَسْرًا والسِّماكَيْنِ أَيْهُما *** عليَّ من الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مواطِرُهْ

إنما أَرادَ أَيُّهما، فاضْطَرَّ فحذَفَ.

ووَقَعَ في كتابِ المُحْتَسب لابنِ جنِّي تَنَظَّرْتُ نَصْرًا، وقالَ: اضْطَرَّ إلى تَخْفِيفِ الحَرْفِ فحذَفَ الياءَ الثانِيَة وكانَ يَنْبَغِي أن يردَّ الياء الأُولى إلى الواوِ لأنَّ أَصْلَها الواو.

وقد تَدْخُلُه الكافُ فيُنْقَلُ إلى تكْثيرِ العددِ بمعْنَى كمِ الخَبَرِيَّةِ ويُكْتَبُ تَنْوِينه نونًا، وفيها؛ كذا في النسخ، والأَوْلى وفيه، لُغاتٌ يقالُ: كأَيِّنْ، مِثَالُ كعَيِّن، وكَيْيِنْ، بفتحِ الكافِ وسكونِ الياءِ، الأُوْلى وكسْرِ الياءِ الثانِيَةِ، وكائِنْ، مثَالُ كَاعِنٍ، وكأَيَ بوزْنِ رَمَي، وكَاءٍ، مثلُ كَاعٍ، كذا في النسخ والصَّوابُ بوزْنِ عَمٍ.

قالَ ابنُ جنِّي: حَكَى ذلِكَ ثَعْلَب. اقْتَصَرَ الجَوْهرِيُّ منها على الأُوْلى والثالثَةِ؛ وما عَدَاهُما عن ابنِ جنِّي، قالَ: تَصَرَّفتِ العَرَبُ في هذه الكَلِمَةِ لكثْرَةِ اسْتِعْمالِها إيَّاها فقَّدَّمَتِ الياءَ المُشَدَّدَة وأَخَّرَتِ الهَمْزَةَ، كما فَعَلَتْ ذلِكَ في عدَّةِ مَوَاضِع، فصارَ التَّقديرُ كَيِّئٌ، ثم إنَّهم حَذَفُوا الياءَ الثانِيَةَ تَخْفِيفًا كما حَذَفُوها في مَيِّت وهَيِّن، فصارَ التَّقْدير كَيْئٌ، ثم إنَّهم قَلَبُوا الياءَ أَلِفًا لانْفِتاحِ ما قَبْلها، فصارَتْ كائِنْ: فمَنْ قالَ: كأَيِّنْ فهي أَيُّ أُدْخِلَتْ عليها الكافُ، ومَنْ قالَ: كائِنْ فقد بيَّنَّا أَمْرَه، ومَنْ قالَ: كأْي بوزْنِ رَمْي فأَشْبَه ما فيه أنَّه لما أَصارَه التَّغَير على ما ذَكَرْنا إلى كَيْئٍ قدَّمَ الهَمْزَةَ وأَخّر الياءَ ولم يَقْلبِ الياءَ أَلِفًا، ومَنْ قالَ: كي‌ءٍ بوزْنِ عَمٍ فإنَّه حذَفَ الياءَ مِن كَيْئٍ تَخْفِيفًا أَيضًا.

وقالَ الجَوْهرِيُّ: تقولُ كأَيِّنْ رجُلًا لَقِيتَ، تَنْصبُ ما بَعْد كأَيِّنْ على التَّمْييزِ؛ وتقولُ أَيْضًا كأَيِّنْ من رجُلٍ لَقِيتَ، وإدْخال مِن بَعْد كأَيِّنْ أَكْثَر مِنَ النَّصْبِ بها وأَجْوَد؛ وتقولُ: بكأَيِّنْ تَبِيعُ هذا الثَّوْبَ؟ أَي بكَم تَبِيع؛ قالَ ذو الرُّمَّة:

وكائِنْ ذَعَرْنا مِن مَهَاةٍ ورامِحٍ *** بِلادُ العِدَا لَيْسَتْ له ببِلادِ

هذا نَصُّ الجَوْهرِيِّ.

قالَ سِيْبَوَيْه: وقالوا كأَيِّنْ رجُلًا قد رأَيت، زَعَمَ ذلِكَ يونُس، وكأَيِّنْ قد أَتاني رجُلًا، إلَّا أَنَّ أَكْثَر العَرَبِ إنَّما يتَكَّلمُونَ مع مِنْ قالَ: ومعْنَى كأَيِّنْ رُبَّ.

وقالَ الخَلِيلُ: إن جَرَّها أَحدٌ مِنَ العَرَبِ فَعَسى أَن يجرَّها بإضْمارِ مِن، كما جازَ ذلِكَ في كَمْ؛ وقالَ أَيْضًا: كأَيِّنْ عَمِلَتْ فيمَا بَعْدَها كعَمَلِ أَفْضَلَ في رجُلٍ فصارَ أَيّ بمنْزِلَةِ التَّنْوين، كما كانَ هم مِنَ قَوْلِهم أَفْضَلهم بمنْزِلَةِ التَّنْوين. قالَ: وإنَّما يَجِي‌ءُ الكافُ للتَّشبيهِ فتَصيِر هي وما بَعْدَها بمنْزِلَةِ شي‌ء واحِدٍ.

وأَيٌّ أَيْضًا اسمٌ صِيغَ ليُتَوَصَّلُ بها؛ كذا في النسخ والصَّوابُ به؛ إلى نداءِ ما دَخَلَتْه أَلْ كَيَا أَيُّها الرَّجُلُ ويا أَيُّها الرَّجُلانِ ويا أَيُّها الرِّجال، ويا أَيَّتُها المَرْأَةُ ويا أَيَّتُها المَرْأَتانِ ويا أَيَّتُها النِّسْوَةُ، ويا أَيُّها المَرْأَة ويا أَيُّها المَرْأَتانِ ويا أَيُّها النِّسْوة. وأَمَّا قَوْلُه، عزّ وجلّ: {يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ}، فقد يكونُ على قَوْلِكَ يا أَيّها المَرْأَة ويا أَيّها النِّسْوة. وأَمَّا ثَعْلَب فقالَ: إنَّما خاطَبَ النَّمْلَ بيا أَيّها لأنَّه جَعَلَهم كالنَّاسِ، ولم يَقُل ادْخُلي لأنَّها كالناسِ في المُخاطَبَةِ، وأَمَّا قَوْلُه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فيأتي بنِداءٍ مُفْردٍ مُبْهِمِ، والذين في مَوْضِع رَفْعِ صفَةٍ لأيّها، هذا مَذْهَبُ الخَلِيلِ وسِيْبَوَيْه وأَمَّا مَذْهَبُ الأَخْفَش: فالذين صفَةٌ لأيّ، ومَوْضِعُ الذين رَفْع بإضْمارِ الذَّكَرِ العائِدِ على أَيَّ، كأَنَّه على مَذْهَبِ الأَخْفَش بمنْزِلَةِ قَوْلِكَ: يا مَنْ الذين أَي يا من هم الذين، وها لازِمَةٌ لأيِّ عِوَضًا ممَّا حُذِفَ منها للإِضافَةِ وزِيادَةً في التَّنْبِيهِ.

وفي الصِّحاح، وإذا نادَيْتَ اسْمًا فيه الأَلِفُ والَّلامُ أَدْخَلْتَ بَيْنه وبينَ حَرْفِ النِّداءِ أَيّها فتَقولُ: يا أَيّها الرَّجُلُ ويا أَيَّتُها المَرْأَة، فأَيّ اسمٌ مُفْردٌ مُبْهم مَعْرِفَة بالنِّداءِ مَبْنِيٌّ على الضمِّ، وها حَرْفُ تَنْبيهٍ، وهي عِوَض ممَّا كانتْ أَيّ تُضَافُ إليه، وتَرْفَع الرَّجُل لأنَّه صفَةٌ أَيّ؛ انتَهَى.

وقالَ ابنُ بَرِّي: أَيّ وُصْلَة إلى نداء ما فيه الألِف واللام في قَوْلِكَ يا أَيُّها الرَّجُل، كما كانتْ إِيًّا وُصْلَةَ المُضْمَرِ في إيّاه وإيّاك في قَوْلِ مَنْ جَعَل إِيَّا اسْمًا ظاهِرًا مضافًا على نَحْو ما سمعَ مِنْ قَوْلِ العَرَبِ: إذا بَلَغَ الرَّجُلُ السِّتِّيْن فإِيَّاه وإِيَّا الشَّوابِّ، انتَهَى.

وقالَ الزجَّاجُ: أَيّ اسمٌ مُبْهمٌ مَبْنِيٌّ على الضمِّ مِن أَيُّها الرَّجُل، لأنَّه مُنادَى مُفْرَد، والرَّجُل صِفَة لأَيّ لازِمَه، تقولُ: أَيّها الرَّجُل أَقْبِل، ولا يجوزُ يا الرَّجُل؛ لأنَّ يا تَنْبِيهٌ بمنْزِلَةِ التَّعْريفِ في الرَّجُل فلا يجمعُ بينَ يا وبينَ الأَلفِ واللامِ، وها لازِمَةٌ لأيّ للتَّنْبيهِ، وهي عِوَضٌ مِن الإِضافَةِ في أَيّ، لأنَّ أَصْلَ أَيّ أن تكونَ مُضافَةً إلى الاسْتِفْهامِ والخَبَرِ، والمُنادَى في الحَقيقَةِ الرَّجُلُ، وأَيّ وُصْلَة إليه؛ وقالَ الكُوفِيّون: إذا قُلْتَ يا أَيّها الرَّجُل، فيا نِدَاء، وأَيّ اسمٌ مُنادَى، وها تَنْبيه، والرَّجُل صِفَة، قالوا: ووُصِلَتْ أَيّ بالتَّنْبِيه فصارَ اسْمًا تامًّا لأنَّ أَيا وما ومن والذي أَسْماءٌ ناقِصَةٌ لا تتمُّ إلَّا بالصِّلاتِ، ويقالُ: الرَّجُل تَفْسِير لمَنْ نُودِي.

وأُجِيزَ نَصْبُ صِفَةِ أَيِّ فتَقولُ: يا أَيُّها الرَّجُلَ أَقْبِلْ؛ أَجازَهُ المازِنيُّ وهو غَيْرُ مَعْروفٍ.

وأَيْ، كَكَيْ: حَرْفٌ لنداءِ القرِيبِ دونَ البَعِيدِ، تقولُ: أَيْ زيدُ أَقْبِلْ. وهي أَيْضًا كَلمةٌ تتقدَّمُ التَّفْسيرَ بمعْنَى العبارَةِ، تقولُ: أَي كذا، بمعْنَى يُريدُ كذا؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.

وقالَ أَبو عَمْروٍ: سَأَلْتُ المبرِّدَ عن أَيْ مَفْتُوحَة ساكِنَة الآخرِ ما يكونُ بَعْدَها فقالَ: يكونُ الذي بَعْدها بَدَلًا، ويكونُ مُسْتأْنفًا، ويكونُ مَنْصوبًا؛ قالَ: وسَأَلْتُ أَحمدَ بن يَحْيَى فقالَ: يكونُ ما بَعْدَها مُتَرْجِمًا، ويكونُ نصبًا بفعْلٍ مُضْمَرٍ، تقولُ: جاءَني أَخُوكَ أَي زيدٌ، ورأَيْتُ أَخَاكَ أَي زيدًا، ومَرَرْتُ بأَخِيكَ أَي زيدٍ، وتقولُ: جاءَني أَخُوكَ فيجوزُ فيه أَي زيدٌ وأَي زيدًا، ومَرَرْتُ بأَخِيكَ فيجوزُ فيه أَي زيدٍ؛ أَي زيدًا؛ أَي زيدٌ، ويقالُ: رأَيْتُ أَخَاك أَي زيدًا، ويَجوزُ أَي زيدٌ.

وإِيْ، بالكسْرِ، بمعْنَى نَعَم، وتُوصَلُ باليَمِينَ. فيُقالُ: إي والله، وتُبْدَلُ منها هاءٌ فيُقالُ هِي، كما في المُحْكَم.

وفي الصِّحاحِ: إيْ كلمةٌ تتقدَّمُ القَسَمَ مَعْناها بلى، تقُولُ: إي ورَبِّي، وإي والله.

وقالَ اللّيْثُ: إيْ يمينٌ؛ ومنه قَوْلُه تعالى {قُلْ إِي وَرَبِّي}، والمعْنَى إي والله.

وقالَ الزجَّاجُ: المعْنَى نَعْم ورَبِّي.

وقالَ الأزْهرِيُّ: وهذا هو القَوْلُ الصَّحِيحُ، وقد تكرَّرَ في الحدِيثِ إي واللهِ وهي بمعْنَى نَعَم، إلَّا أَنَّها تَخْتصُّ بالمجي‌ءِ مع القَسَم إِيجابًا لمَا سَبَقَه مِنَ الاسْتِعْلامِ.

وابنُ أَيَّا، كَرَيَّا مُحدِّثٌ.

* قُلْتُ: الصَّوابُ فيه التَّخْفيفُ كما ضَبَطَه الحافِظُ قالَ: وهو عليُّ بنُ محمدِ بنِ الحُسَيْن بنِ عَبْدوس بنِ إِسْماعيل بنِ أَيَّا بنِ سَيْبُخت، شيخٌ ليَحْيَى الحَضْرميّ.

وأَيَا، مُخَفَّفًا: حَرْفُ نداءٍ للقَرِيبِ والبَعِيدِ؛ تقولُ: أَيا زيْد أَقْبِلْ، كما في الصِّحاحِ؛ كَهَيَا بقَلْبِ الهَمْزَةِ هاء، قالَ الشاعِرُ:

فانْصَرَفَتْ وهي حَصانٌ مُغْضَيَهْ *** ورَفَعَتْ بصوتِها هَيَا أَيَهْ

قالَ ابنُ السِّكِّيت: أَرادَ أَيا أَيَهْ، ثم أَبْدَلَ الهَمْزَة هاءً، قالَ: وهذا صَحيحٌ لأنَّ أَيا في النداءِ أَكْثَر مِن هَيَا.

* تَذْنيب* وفي هذا الحَرْفِ فَوائِدُ أَخل عنها المصنِّف ولا بأْسَ أن نَلُمَّ ببعضِها: قالَ سَيْبَوَيْه: سَأَلْتُ الخَلِيلَ عن قَوْلِهم: أَيِّي وأَيُّك كانَ شرًّا فأَخْزاهُ اللهُ، فقالَ: هذا كقَوْلِكَ أخزَى اللهُ الكاذِبَ منِّي ومنْكَ، إنَّما يُريدُ منَّا، فإنَّما أَرادَ أَيُّنا كانَ شرًّا، إِلَّا أنَّهما لم يَشْتركَا في أَيِّ، ولكنَّهما أَخْلَصاهُ لكلِّ واحد منهما. وفي التهْذِيبِ: قالَ سِيْبَوَيْه: سألْتُ الخَليلَ عن قوْله:

فأَيِّي ما وأَيُّكَ كانَ شرًّا *** فسِيقَ إلى المقامَةِ لا يَراها

فقالَ: هذا بمنْزِلَةِ قَوْل: الرَّجلُ: الكاذِبُ منِّي ومنْكَ فَعَلَ اللهُ به.

وقالَ غيرُهُ: إنَّما يُريدُ أنَّك شرٌّ ولكنَّه دَعا عليه بلَفْظٍ هو أَحْسَن من التَّصْريحِ كما قالَ اللهُ تعالى: {وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.

وقَوْلُه: فأيّي ما، أَيّ مَوْضِعُ رَفْع لأنَّه اسمُ كان، وأيك نسق عليه، وشرًّا خَبَرُهما.

وقالَ أَبو زَيْدٍ: يقالُ: صَحِبَه اللهُ أَيَّامَّا تَوَجَّه، يُريدُ أَيْنَما تَوَجَّه.

وفي الصِّحاحِ: وأَيٌّ اسمٌ مُعْرَبٌ يُسْتَفْهمُ بها ويُجازَى فيمنْ يَعْقِل وفيمَا لا يَعْقِل، تقولُ: أَيُّهم أَخُوك، وأَيُّهم يكْرِمْني أُكْرِمْه، وهو مَعْرفَة للإِضافَةِ، وقد تترك الإِضَافَة وفيه مَعْناها، وقد تكونُ بمنْزِلَةِ الذي فتَحْتاج إلى صِلَةٍ تقولُ: أَيُّهم في الدارِ أَخُوك؛ وقد تكونُ نَعْتًا للنّكِرَةِ تقولُ: مَرَرْتُ برَجُلٍ أَيِّ رجلٍ وأَيِّما رجلٍ، ومَرَرْتُ بامْرأَةٍ أَيَّةِ امْرأَةٍ وبامْرأَتَيْن أَيَّتُما امْرَأَتَيْن، وهذه امْرأَةٌ أَيَّةُ امْرأَةٍ وامْرَأَتانِ أَيَّتُما امْرَأَتَيْنِ، وما زَائِدَة. وتقولُ في المَعْرفَةِ: هذا زَيْدٌ أَيَّما رجلٍ، فتَنْصب أَيًّا على الحالِ، وهذه أَمَةُ اللهِ أَيَّتُما جارِيَةٍ، وتقولُ: أَيُّ امْرأَةٍ جاءَك، وأَيَّةُ امْرأَةٍ جاءَتْكَ، ومَرَرْت بجارِيَةٍ أَيِّ جارِيَةٍ، وجِئْتُك بمُلأَةٍ أَيِّ مُلأَةٍ وأَيَّةِ مُلأَةٍ، كُلُّ جائِزٌ. قالَ اللهُ تعالى: {وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، وأَيُّ قَدْ يُتَعَجَّبُ بها، قالَ جميلٌ:

بُثَيْنَ الْزَمِي لا إنَّ لا إِنْ لَزِمْتِهِ *** على كَثْرَةِ الواشِينَ أَيُّ مَعُونِ

وقالَ الفرَّاءُ: أَيُّ يعْمَلُ فيه ما بَعْده ولا يَعْمَلُ فيه ما قَبْله، كقَوْلِه تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى}، فرَفَعَ، ومنه أَيْضًا: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} فَنَصَبَه بما بَعْدِه؛ وأَمَّا قَوْلُ الشاعِر:

تَصِيحُ بنا حَنِيفَةُ إِذْ رأَتْنَا *** وأَيَّ الأَرْضِ نَذْهَبُ للصِّياحِ

فإنَّما نَصَبَه لنَزْعِ الخافِضِ، يُريدُ إلى أَيِّ الأَرْضِ، انتَهَى نَصُّ الجَوْهرِيّ.

وفي التَّهْذِيبِ: رُوِي عن أَحمدِ بنِ يَحْيَى والمبرِّدِ قالا: لأَيّ ثلاثَةُ أَحْوالٍ: تكونُ اسْتِفْهامًا، وتكونُ تعجُّبًا، وتكونُ شَرْطًا: وإذا كانتِ اسْتِفْهامًا لم يَعْمَل فيها الفِعْلُ الذي قَبْلها، وإنَّما يَرْفَعها أَو يَنْصِبُها ما بَعْدَها، كقَوْلِ اللهِ تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى}، قالا: عَمِلَ الفِعْلُ في المعْنَى لا في اللّفْظِ كأَنَّه قالَ: لنَعْلَم أَيًّا مِن أَيِّ، وسيعلم أَحَد هذين، قالا: وأَمَّا المَنْصوبَةُ بما بَعْدها فكقَوْله تعالى: {سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} وقالَ الفرَّاءُ: أَيُّ إذا أَوْقَعْتَ الفِعْلَ المُتَقَدِّم عليها خَرَجَتْ مِن مَعْنى الاسْتِفهامِ، وذلكَ إن أَرَدْته جائِز، يقولونَ: لأَضْرِبَنّ أَيُّهم يقولُ ذلكَ. وقالَ الفرَّاءُ: وأَيّ إِذا كانتْ جَزاءً فهو على مَذْهبِ الذي قالَ: وإذا كانتْ تعجُّبًا لم يُجازَ بها، لأنَّ التَّعجُّبَ لا يُجازَى به، وهو كقَوْلِكَ: أَيُّ رجلٍ زيدٌ وأَيُّ جارِيَةٍ زينبُ، قالَ: والعَرَبُ تقولُ: أَيّ وأَيّانِ وأَيُّونَ، إذا أَفْرَدُوا أَيًّا ثَنُّوْها وجَمَعُوها وأَنَّثُوها فقالوا أَيَّة وأَيَّتان وأَيَّاتٌ، وإذا أَضافُوا إلى ظاهِرٍ أَفْرَدُوها وذكَّرُوها فقالوا أَيّ الرَّجُلَيْن وأَيُّ المَرْأَتَيْن. وأَيّ الرِّجال وأَيّ النِّساءِ، وإذا أَضافُوا إلى المَكْنِيِّ المُوءَنَّثِ ذكَّرُوا وأَنَّثُوا فقالوا أَيّهما وأَيَّتهما للمرْأَتَيْن؛ وقالَ زهيرٌ في لُغَةِ مَنْ أَنَّثَ:

وزَوَّدُوكَ اشْتِياقًا أَيَّةً سَلَكوا

أَرادَ أَيَّةَ وُجْهَةٍ سَلَكُوا، فأنَّثها حينَ لم يصفْها.

وفي الصِّحاحِ: وقد يُحْكَى بأَيِّ النكراتُ ما يَعْقِلُ وما لا يَعْقِلُ، ويُسْتَفْهمُ بها، وإذا اسْتَفْهَمتَ بها عن نَكِرَةٍ أَعْرَبْتها بإعْرابِ الاسم الذي هو اسْتِثْباتٌ عنه، فإذا قيلَ لكَ: مَرَّ بي رجُلٌ، قُلْتَ: أَيٌّ يا فتى؟ تَعْربها في الوَصْل وتُشِيرُ إلى الإعْرابِ في الوقْفِ، فإن قالَ: رأَيْت رجلًا، قلْتَ: أَيًّا يا فتى؟ تعربُ وتنوِّنُ إذا وَصَلْتَ وتَقِفُ على الألفِ فتقولُ أَيًّا، وإذا قالَ: مَرَرْتُ برجُلٍ قلْتَ: أَيِّ يا فتى؟ تحكِي كَلامَه في الرفْعِ والنَّصْبِ والجرِّ في حالِ الوَصْلِ والوَقْف، وتقولُ في التَّثْنيةِ والجَمْعِ والتأْنِيثِ كما قُلْناه في من، إذا قالَ: جاءَني رِجالٌ، قلْتَ: أيُّونْ، ساكِنَةَ النونِ، وأَيَّيِّن في النصْبِ والجرِّ، وأَيَّة للمُؤَنَّثِ: فإنْ وَصَلْتَ وقلْتَ: أَيَّة يا هذا، وآيَّات يا هذا نؤَّنْتَ، فإن كانَ الاسْتِثْباتُ عن مَعْرِفَةٍ رَفَعْتَ أَيًّا لا غَيْر على كلِّ حالٍ، ولا تحكي في المَعْرفَة فليسَ في أَيِّ مع المَعْرفَةِ إلَّا الرَّفْعُ، انتَهَى.

قالَ ابنُ بَرِّي عنْدَ قَوْل الجَوْهرِيّ في حالِ الوَصْلِ والوَقْفِ: صَوابُه في الوَصْلِ فقط، فأمَّا في الوَقْفِ فإنَّه يُوقَفُ عليه في الرَّفْعِ والجرِّ بالسكونِ لا غَيْر، وإنَّما يَتْبَعُه في الوَصْلِ والوَقْفِ إذا ثَنَّاه وجَمَعَه؛ وقالَ أَيْضًا عنْدَ قَوْلِه: ساكِنَة النونِ الخ: صَوابُه أَيُّونَ بفتْحِ النونِ، وأَيَّينَ بفتْحِ النونِ أَيْضًا، ولا يَجوزُ سكون النونِ إلَّا في الوَقْفِ خاصَّة، وإنَّما يَجوزُ ذلِكَ في مَنْ خاصّةً، تقولُ: مَنُونُ ومَنِينْ بالإِسْكانِ لا غَيْر، انتَهَى.

وقالَ اللَّيْثُ: أَيَّان هي بمنْزِلَةِ مَتَى، ويُخْتَلَفُ في نونِها فيُقالُ أَصْلِيَّةٌ، ويقالُ زائِدَةٌ.

وقالَ ابنُ جنِّي في المُحْتسب، يَنْبَغي أَنْ يكونَ أَيَّان من لَفْظِ أَيّ لا مِن لَفْظِ أَيْنَ لوَجْهَيْن: أَحَدُهما: إِنَّ أَيْن مَكانٌ وأَيَّان زَمان، والآخر قلَّةُ فعال في الأسْماءِ مع كَثْرَةِ فعلان، فلو سَمَّيْتَ رجُلًا بأيّان لم تَصْرفْه لأنَّه كحمدان؛ ثم قالَ: ومعْنَى أَيّ أَنّها بعضٌ مِن كلِّ، فهي تَصْلحُ للأَزْمِنَةِ صَلاحها لغَيْرِها إذا كانَ التَّبْعيضُ شامِلًا لذلِكَ كُلِّه؛ قالَ أُمَيَّة:

والناسُ راثَ عليهم أَمْرُ يَومَهم *** فَكُلُّهم قائلٌ للدينِ أَيَّانا

فإن سَمّيت بأَيَّان سَقَطَ الكَلامُ في حسنِ تَصْرِيفها للحاقِها بالتّسْمِيةِ ببَقِيَّةِ الأَسْماءِ المُتَصَرِّفَةِ، انتَهَى.

وقالَ الفرَّاءُ: أَصْلُ أَيَّان أَيَّ أَوانٍ، حَكَاه عن الكِسائي، وقد ذُكِرَ في أَين بأَبْسطَ من هذا.

وقالَ ابنُ بَرِّي: ويقالُ لا يَعْرِفُ أَيًّا مِن أَيِّ إذا كانَ أَحْمَقَ.

وفي حدِيثِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ: «فتَخَلَّفْنا أَيَّتُها الثَّلاثَة»، هذه اللَّفْظَةُ تُقالُ في الاخْتِصاصِ وتَخْتصُّ بالمُخْبرِ عن نَفْسِه وبالمُخَاطَبِ، تقولُ: أَمَّا أَنَا فأَفْعَل كذا أَيُّها الرَّجُلُ يَعْنِي نَفْسَه، فمعْنَى قَوْلِ كَعْب أَيَّتُها الثَّلاثَة؛ أَي المَخْصُوصِين بالتَّخلّفِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


10-لسان العرب (عمم)

عمم: العَمُّ: أَخو الأَب.

وَالْجَمْعُ أَعْمام وعُمُوم وعُمُومة مِثْلُ بُعُولة؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَدخلوا فِيهِ الْهَاءَ لِتَحْقِيقِ التأْنيث، وَنَظِيرُهُ الفُحُولة والبُعُولة.

وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي فِي أَدنى الْعَدَدِ: أَعُمٌّ، وأَعْمُمُونَ، بِإِظْهَارِ التَّضْعِيفِ: جَمْعُ الْجَمْعِ، وَكَانَ الْحُكْمُ أَعُمُّونَ لَكِنْ هَكَذَا حَكَاهُ؛ وأَنشد:

تَرَوَّح بالعَشِيِّ بِكُلِّ خِرْقٍ ***كَرِيم الأَعْمُمِينَ وكُلِّ خالِ

وَقَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:

وقُلْتُ: تَجَنَّبَنْ سُخْطَ ابنِ عَمّ، ***ومَطْلَبَ شُلَّةٍ وَهِيَ الطَّرُوحُ

أَرَادَ: ابْنَ عَمِّكَ، يُرِيدُ ابْنَ عَمِّهِ خَالِدَ بْنَ زُهَيْرٍ، ونَكَّره لأَن خَبَرهما قَدْ عُرِف، وَرَوَاهُ الأَخفش بْنُ عَمْرٍو؛ وَقَالَ: يَعْنِي ابْنَ عُوَيْمِرٍ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ خَالِدٌ:

أَلَمْ تَتَنَقَّذْها مِنِ ابنِ عُوَيْمِرٍ، ***وأنْتَ صَفِيُّ نَفْسِهِ وسَجِيرُها

والأُنثى عَمَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ العُمُومة.

وَمَا كُنْتَ عَمًّا وَلَقَدْ عَمَمْتَ عُمُومةً.

وَرَجُلٌ مُعِمٌّ ومُعَمٌّ: كَرِيمُ الأَعْمام.

واسْتَعَمَّ الرجلَ عَمًّا: اتَّخذه عَمًّا.

وتَعَمَّمَه: دَعاه عَمًّا، وَمِثْلُهُ تَخَوَّلَ خَالًا.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: رَجُلٌ مُعَمٌّ مُخْوَلٌ إِذَا كَانَ كَرِيمَ الأَعْمام والأَخْوال كثيرَهم؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: " بِجِيدٍ مُعَمّ فِي العَشِيرةِ مُخْوَلِ "قَالَ اللَّيْثُ: وَيُقَالُ فِيهِ مِعَمٌّ مِخْوَلٌ، قَالَ الأَزهري: وَلَمْ أَسْمَعْهُ لِغَيْرِ اللَّيْثِ وَلَكِنْ يُقَالُ: مِعَمٌّ مِلَمٌّ إِذَا كَانَ يَعُمُّ الناسَ ببرِّه وَفَضْلِهِ، ويَلُمُّهم أَيْ يُصْلِحُ أَمْرَهُمْ وَيَجْمَعُهُمْ.

وتَعَمَّمَتْه النساءُ: دَعَوْنَه عَمًّا، كَمَا تَقُولُ تَأَخَّاه وتَأَبَّاه وتَبَنَّاه؛ أَنْشَدَ ابْنُ الأَعرابي:

عَلامَ بَنَتْ أُخْتُ اليَرابِيعِ بَيْتَها ***عَلَيَّ، وقالَتْ لِي: بِلَيْلٍ تَعَمَّمِ؟

مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمَّا رأَت الشيبَ قَالَتْ لَا تَأْتِنا خِلْمًا وَلَكِنِ ائْتِنَا عَمًّا.

وَهُمَا ابْنَا عَمّ: تُفْرِدُ العَمَّ وَلَا تُثَنِّيه لأَنك إِنَّمَا تُرِيدُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافٌ إِلَى هَذِهِ الْقَرَابَةِ، كَمَا تَقُولُ فِي حَدِّ الْكُنْيَةِ أبوَا زَيْدٍ، إِنَّمَا تُرِيدُ أَن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافٌ إِلَى هَذِهِ الْكُنْيَةِ، هَذَا كَلَامُ سِيبَوَيْهِ.

وَيُقَالُ: هُمَا ابْنا عَمّ وَلَا يُقَالُ هُمَا ابْنا خالٍ، وَيُقَالُ: هُمَا ابْنا خَالَةٍ وَلَا يُقَالُ ابْنا عَمَّةٍ، وَيُقَالُ: هُمَا ابْنا عَمّ لَحّ وَهُمَا ابْنا خَالَةٍ لَحًّا، وَلَا يُقَالُ هُمَا ابْنا عَمَّةٍ لَحًّا وَلَا ابْنا خالٍ لَحًّا لأَنهما مُفْتَرِقَانِ، قَالَ: لأَنهما رَجُلٌ وامرأَة؛ وأَنشد:

فإنَّكُما ابْنا خالةٍ فاذْهَبا مَعًا، ***وإنيَ مِنْ نَزْعٍ سِوى ذَاكَ طَيِّب

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يُقَالُ ابْنا عَمّ لأَن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يَا ابنَ عَمِّي، وَكَذَلِكَ ابْنا خالةٍ لأَن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يَا ابْنَ خَالَتِي، وَلَا يَصِحُّ أَن يُقَالُ هُمَا ابْنا خالٍ لأَن أَحدهما يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يَا ابْنَ خَالِي وَالْآخِرَ يَقُولُ لَهُ يَا ابْن عَمَّتي، فَاخْتَلَفَا، وَلَا يَصِحُّ أَن يُقَالَ هُمَا ابْنَا عَمَّةٍ لأَن أَحَدَهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يَا ابْنَ عَمَّتي وَالْآخِرَ يَقُولُ لَهُ يَا ابنَ خَالِي.

وَبَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ عُمُومة كَمَا يُقَالُ أُبُوَّةٌ وخُؤُولةٌ.

وَتَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّي وَيَا ابنَ عَمِّ وَيَا ابنَ عَمَّ، ثَلَاثُ لُغَاتٍ، وَيَا ابنَ عَمِ، بِالتَّخْفِيفِ؛ وَقَوْلِ أَبي النَّجْمِ:

يَا ابْنَةَ عَمَّا، لَا تَلُومي واهْجَعِي، ***لَا تُسْمِعِيني مِنْكِ لَوْمًا واسْمَعِي

أَراد عَمّاهُ بهاء النُّدْبة؛ وهكذا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ عَمّاهُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ عَمَّاهُ، بِتَسْكِينِ الْهَاءِ؛ وأَما الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: « استأْذَنتِ النبيَّ، صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فِي دُخُولِ أَبِي القُعَيْس عَلَيْهَا فَقَالَ: ائْذَني لَهُ فإنَّه عَمُّجِ »، فَإِنَّهُ يُرِيدُ عَمُّك مِنَ الرَّضَاعَةِ، فأَبدل كَافَ الْخِطَابِ جِيمًا، وَهِيَ لُغَةُ قَوْمٍ مِنَ الْيَمَنِ؛ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا جَاءَ هَذَا مِنْ بَعْضِ النَّقَلة، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِاللُّغَةِ الْعَالِيَةِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِكَثِيرٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ مِنْهَا قَوْلُهُ: " لَيْسَ مِنَ امْبِرّ امْصِيامُ فِي امْسَفَرِ "وَغَيْرُ ذَلِكَ.

والعِمامةُ: مِنْ لِبَاسِ الرأْس مَعْرُوفَةٌ، وَرُبَّمَا كُنِيَ بِهَا عَنِ البَيْضة أَو المِغْفَر، وَالْجَمْعُ عَمائِمُ وعِمامٌ؛ الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لَمّا وَضَعوا عِمامَهم عَرَفْناهم، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْع عِمامَة جَمْعَ التَّكْسِيرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ طَلْحةٍ وطَلْحٍ، وَقَدِ اعْتَمَّ بِهَا وتَعَمَّمَ بِمَعْنًى؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ثَعْلَبٌ:

إِذَا كَشَفَ اليَوْمُ العَماسُ عَنِ اسْتِهِ، ***فَلَا يَرْتَدِي مِثْلي وَلَا يَتَعَمَّمُ

قِيلَ: مَعْنَاهُ أَلْبَسُ ثِيابَ الْحَرْبِ وَلَا أَتجمل، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ يَرْتَدي أَحد بِالسَّيْفِ كَارْتِدَائِي وَلَا يَعْتَمُّ بِالْبَيْضَةِ كاعْتِمامي.

وعَمَّمْتُه: أَلبسته العِمامةَ، وَهُوَ حَسَنُ العِمَّةِ أَيِ التَّعَمُّمِ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: " واعْتَمَّ بالزَّبَدِ الجَعْدِ الخَراطِيمُ "وأَرْخَى عِمامتَه: أَمِنَ وتَرَفَّهَ لأَن الرَّجُلَ إِنَّمَا يُرْخي عِمامَتَه عِنْدَ الرَّخَاءِ؛ وأَنشد ثَعْلَبٌ:

أَلْقى عَصاهُ وأَرْخى مِنْ عِمامَته ***وَقَالَ: ضَيْفٌ، فَقُلْتُ: الشَّيْبُ؟ قَالَ: أَجَلْ

قَالَ: أَراد وَقُلْتُ الشَّيْبُ هَذَا الَّذِي حَلَّ.

وعُمِّمَ الرجلُ: سُوِّدَ لأَن تِيجَانَ الْعَرَبِ العَمائم، فَكُلَّمَا قِيلَ فِي الْعَجَمِ تُوِّجَ مِنَ التَّاجِ قِيلَ فِي الْعَرَبِ عُمِّمَ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " وَفيهمُ إذْ عُمِّمَ المُعَمَّمُ "وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا سُوِّد: قَدْ عُمِّمَ، وَكَانُوا إِذَا سَوَّدُوا رَجُلًا عَمَّمُوه عِمامةً حَمْرَاءَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

رَأَيْتُكَ هَرَّيْتَ العِمامةَ بَعْدَ ما ***رَأَيْتُكَ دَهْرًا فاصِعًا لَا تَعَصَّب

وَكَانَتِ الفُرْسُ تُتَوِّجُ مُلُوكَهَا فَيُقَالُ لَهُ مُتَوَّج.

وشاةٌ مُعَمَّمةٌ: بَيْضَاءُ الرأْس.

وفرَسٌ مُعَمَّمٌ: أَبيض الهامَةِ دُونَ الْعُنُقِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْخَيْلِ الَّذِي ابيضَّتْ ناصيتُه كُلُّهَا ثُمَّ انْحَدَرَ الْبَيَاضُ إِلَى مَنْبِت النَّاصِيَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ القَوْنَس.

وَمِنْ شِياتِ الْخَيْلِ أَدْرَعُ مُعَمَّم: وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بَيَاضُهُ فِي هَامَتِهِ دُونَ عُنُقِهِ.

والمُعَمَّمُ مِنَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا: الَّذِي ابيضَّ أُذناه ومنيت نَاصِيَتِهِ وَمَا حَوْلَهَا دُونَ سَائِرِ جَسَدِهِ؛ وَكَذَلِكَ شاةٌ مُعَمَّمة: فِي هامَتِها بَيَاضٌ.

والعامَّةُ: عِيدانٌ مَشْدُودَةٌ تُرْكَبُ فِي الْبَحْرِ ويُعْبَرُ عَلَيْهَا، وخَفَّفَ ابْنُ الأَعرابي الْمِيمَ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ فَقَالَ: عامَةٌ مِثْلُ هامَة الرأْس وقامةَ العَلَق وَهُوَ الصَّحِيحُ.

والعَمِيمُ: الطَّوِيلُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنَّبَاتِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الرُّؤْيَا: " فأَتينا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ "أَيْ وَافِيَةِ النَّبَاتِ طَوِيلَتِهِ، وكلُّ مَا اجْتَمَعَ وكَثُرَ عَمِيمٌ، وَالْجَمْعُ عُمُمٌ؛ قَالَ الْجَعْدِيُّ يَصِفُ سَفِينَةَ نُوحٌ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:

يَرْفَعُ، بالقارِ والحَديدِ مِنَ الْجَوْزِ، ***طِوالًا جُذُوعُها، عُمُما

وَالِاسْمُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ العَمَمُ.

والعَمِيمُ يَبِيسُ البُهْمى.

وَيُقَالُ: اعْتَمَّ النبتُ اعْتِمامًا إِذَا التفَّ وَطَالَ.

وَنَبْتٌ عَمِيمٌ؛ قَالَ الأَعشى: " مُؤَزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ "واعْتَمَّ النبتُ: اكْتَهَلَ.

وَيُقَالُ لِلنَّبَاتِ إِذَا طَالَ: قَدِ اعْتَمَّ.

وَشَيْءٌ عَمِيمٌ أَيْ تَامٌّ، وَالْجَمْعُ عُمُمٌ مِثْلُ سَرير وسُرُر.

وَجَارِيَةٌ عَمِيمَةٌ وعَمَّاءُ: طَوِيلَةٌ تامةُ القَوامِ والخَلْقِ،، وَالذَّكَرُ أَعَمُّ.

وَنَخْلَةٌ عَمِيمةٌ: طَوِيلَةٌ، وَالْجَمْعُ عُمٌّ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَلزموه التَّخْفِيفَ إِذْ كَانُوا يُخَفِّفُونَ غَيْرَ الْمُعْتَلِّ، ونظيرهُ بونٌ، وَكَانَ يَجِبُ عُمُم كَسُرُر لأَنه لَا يُشْبِهُ الْفِعْلَ.

ونخلةٌ عُمٌّ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: إِمَّا أَن يَكُونَ فُعْلًا وَهِيَ أَقل، وَإِمَّا أَن يَكُونَ فُعُلًا أَصْلُهَا عُمُمٌ، فَسَكَنَتِ الْمِيمُ وأُدغمت، وَنَظِيرُهَا عَلَى هَذَا نَاقَةٌ عُلُطٌ وَقَوْسٌ فُرُجٌ وَهُوَ بابإِلَى السَّعَة.

وَيُقَالُ: نَخْلَةٌ عَمِيمٌ وَنَخْلٌ عُمٌّ إِذَا كَانَتْ طِوالًا؛ قَالَ: " عُمٌّ كَوارِعُ فِي خَلِيج مُحَلِّم وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنه اختَصم إِلَيْهِ رَجُلَانِ فِي نَخْلٍ غَرَسَه أَحَدُهُمَا فِي غَيْرِ حَقِّهِ مِنَ الأَرض، قَالَ الرَّاوِي: فَلَقَدْ رأَيت النخل يُضرب في أُصولها بالفُؤُوس وإنَّها لَنَخْلٌ عُمٌ "؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: العُمُّ التَّامَّةُ فِي طُولِهَا وَالْتِفَافِهَا؛ وأَنشد لِلَبِيدٍ يَصِفُ نَخْلًا:

سُحُقٌ يُمَتِّعُها الصَّفا، وسَرِيُّهُ ***عُمٌّ نَواعِمُ، بَيْنهنّ كُرُومُ

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَكْرِموا عَمَّتَكم النَّخْلَةَ »؛ سماها عَمَّة لِلْمُشَاكَلَةِ فِي أَنَّهَا إِذَا قُطِعَ رأْسها يَبِستْ كُمَّا إِذَا قُطِعَ رأْس الإِنسان مَاتَ، وَقِيلَ: لأَن النَّخْلَ خَلْقٌ مِنْ فَضْلةِ طِينَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

ابْنُ الأَعرابي: عُمَّ إِذَا طُوِّلَ، وعَمَّ إِذَا طَالَ.

ونبْتٌ يَعْمومٌ: طَوِيلٌ؛ قَالَ:

ولقَدْ رَعَيْتُ رِياضَهُنَّ يُوَيْفِعًا، ***وعُصَيْرُ طَرَّ شُوَيرِبي يَعْمومُ

والعَمَمُ: عِظَم الخَلْق فِي النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ.

والعَمَم: الْجِسْمُ التامُّ.

يُقَالُ: إِنَّ جِسمه لعَمَمٌ وَإِنَّهُ لعَممُ الْجِسْمِ.

وجِسم عَمَم: تامٌّ.

وأَمر عَمَم: تامٌّ عامٌّ وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ؛ قَالَ عَمْرٌو ذُو الْكَلْبِ الْهُذَلِيُّ:

يَا ليتَ شِعْري عَنْك، والأَمرُ عَمَمْ، ***مَا فَعَل اليومَ أُوَيْسٌ فِي الغَنَمْ؟

ومَنْكِب عَمَمٌ: طَوِيلٌ؛ قَالَ عَمْرُو بْنُ شَأْسٍ:

فإنَّ عِرارًا إنْ يَكُنْ غَيرَ واضِحٍ، ***فَإِنِّي أُحِبُّ الجَوْنَ ذَا المَنْكِب العَمَمْ

وَيُقَالُ: اسْتَوى فُلَانٌ عَلَى عَمَمِه وعُمُمِه؛ يُرِيدُونَ بِهِ تَمَامَ جِسْمِهِ وَشَبَابِهِ وَمَالِهِ؛ وَمِنْهُ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ ذَكَرَ أُحَيحة بْنَ الجُلاح وَقَوْلَ أَخواله فِيهِ: كُنَّا أَهلَ ثُمِّه ورُمِّه، حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى عُمُمِّه "، شَدَّدَ لِلِازْدِوَاجِ، أَراد عَلَى طُولِهِ وَاعْتِدَالِ شَبَابِهِ؛ يُقَالُ لِلنَّبْتِ إِذَا طَالَ: قَدِ اعتَمَّ، وَيَجُوزُ عُمُمِه، بِالتَّخْفِيفِ، وعَمَمِه، بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ، فأَما بِالضَّمِّ فَهُوَ صِفَةٌ بِمَعْنَى العَمِيم أَوْ جَمْعُ عَمِيم كسَرير وسُرُر، وَالْمَعْنَى حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى قَدّه التَّامِّ أَو عَلَى عِظَامِهِ وأَعضائه التَّامَّةِ، وَأَمَّا التَّشْدِيدَةُ فِيهِ عِنْدَ مَنْ شَدَّدَهُ فَإِنَّهَا الَّتِي تُزَادُ فِي الْوَقْفِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: هَذَا عُمَرّْ وَفَرَجّْ، فأُجري الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَمَّا مَنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ فَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَنْكِب عَمَمٌ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" لُقْمَانَ: يَهَبُ الْبَقَرَةَ العَمِيمة "أَيِ التَّامَّةَ الخَلق.

وعَمَّهُم الأَمرُ يَعُمُّهم عُمومًا: شَمِلهم، يُقَالُ: عَمَّهُمْ بالعطيَّة.

والعامّةُ: خِلَافُ الخاصَّة؛ قَالَ ثعلب: سميت بذلك لأَنها تَعُمُّ بِالشَّرِّ.

والعَمَمُ: العامَّةُ اسْمٌ لِلْجَمْعِ؛ قَالَ رُؤْبَةُ: " أنتَ رَبِيعُ الأَقرَبِينَ والعَمَمْ وَيُقَالُ: رجلٌ عُمِّيٌّ وَرَجُلٌ قُصْرِيٌّ، فالعُمِّيُّ العامُّ، والقُصْرِيُّ الخاصُّ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « كَانَ إِذَا أَوى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلَاثَةَ أَجزاء: جُزْءًا لِلَّهِ، وَجُزْءًا لأَهله، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جُزْءًا جزَّأَه بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ، أَراد أَن الْعَامَّةَ كَانَتْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَكَانَتِ الخاصَّة تُخْبِرُ العامَّة بِمَا سَمِعَتْ مِنْهُ، فكأَنه أَوْصَلَ الْفَوَائِدَ إِلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى مِنْ، » أَي يَجْعَلُ وَقْتَ الْعَامَّةِ بَعْدَ وَقْتِ الْخَاصَّةِ وَبَدَلًا مِنْهُمْ كَقَوْلِ الأَعشى:

عَلَى أَنها، إذْ رَأَتْني أُقادُ، ***قالتْ بِمَا قَدْ أَراهُ بَصِيرا

أَي هَذَا العَشا مَكَانُ ذَاكَ الإِبصار وَبَدَلٌ مِنْهُ.

وَفِي حَدِيثِ عَطَاءٍ: « إِذَا توَضَّأْت وَلَمْ تَعْمُمْ فتَيَمَّمْ »أَي إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَاءِ وُضُوءٌ تامٌّ فتَيمَّمْ، وأَصله مِنَ العُموم.

وَرَجُلٌ مِعَمٌّ: يَعُمُّ الْقَوْمَ بِخَيْرِهِ.

وَقَالَ كُرَاعٌ: رَجُلٌ مُعِمٌّ يَعُمُّ النَّاسَ بِمَعْرُوفِهِ أَي يَجْمَعُهُمْ، وَكَذَلِكَ مُلِمٌّ يَلُمُّهم أَي يَجْمَعُهُمْ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فَعَلَ فَهُوَ مُفْعِل غَيْرُهُمَا.

وَيُقَالُ: قَدْ عَمَّمْناك أَمْرَنا أَي أَلزمناك، قَالَ: والمُعَمَّم السَّيِّدُ الَّذِي يُقلِّده القومُ أُمُورَهم ويلجأُ إِلَيْهِ العَوامُّ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

ومِنْ خَيرِ ما جَمَعَ النَّاشِئُ الْمُعَمِّمُ ***خِيرٌ وزَنْدٌ وَرِي

والعَمَمُ مِنَ الرِّجَالِ: الْكَافِي الَّذِي يَعُمُّهم بِالْخَيْرِ؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:

بَحْرٌ، جَريرُ بنُ شِقّ مِنْ أُرومَتهِ، ***وخالدٌ مِنْ بَنِيهِ المِدْرَهُ العَمَمُ

ابْنُ الأَعرابي: خَلْقٌ عَمَمٌ أَي تامٌّ، والعَمَمُ فِي الطُّولِ وَالتَّمَامِ؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ: " وقَصَب رُؤْد الشَّبابِ عَمَمه "الأَصمعي فِي سِنِّ الْبَقَرِ إِذَا استَجْمَعَتْ أَسنانُه قِيلَ: قد اعتَمَّ عَمَمٌ، فَإِذَا أَسَنَّ فَهُوَ فارِضٌ، قَالَ: وَهُوَ أَرْخٌ، وَالْجَمْعُ آرَاخٌ، ثُمَّ جَذَعٌ، ثُمَّ ثَنِيٌّ، ثُمَّ رَباعٌ، ثُمَّ سدَسٌ، ثُمَّ التَّمَمُ والتَّمَمةُ، وَإِذَا أَحالَ وفُصِلَ فَهُوَ دَبَبٌ، والأُنثى دَبَبةٌ، ثُمَّ شَبَبٌ والأُنثى شَبَبةٌ.

وعَمْعَمَ الرجلُ إِذَا كَثُرَ جيشُه بَعْدَ قِلَّة.

وَمِنْ أَمثالهم: عَمَّ ثُوَباءُ النَّاعِس؛ يُضْرَبُ مَثَلًا للحَدَث يَحْدُث بِبَلْدَةٍ ثُمَّ يَتَعَدَّاهَا إِلَى سَائِرِ الْبُلْدَانِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « سَأَلْتُ رَبِّي أَن لَا يُهْلِكَ أُمتي بسَنةٍ بِعامَّةٍ »أَي بِقَحْطٍ عَامٍّ يَعُمُّ جميعَهم، وَالْبَاءُ فِي بِعامَّةٍ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ}؛ وَيَجُوزُ أَن لَا تَكُونَ زَائِدَةً، وَقَدْ أَبدل عامَّة مِنْ سنَةٍ بِإِعَادَةِ الجارِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {قالَ (الْمَلَأُ) الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا (مِنْ قَوْمِهِ) لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}.

وَفِي الْحَدِيثِ: « بادِرُوا بالأَعمال سِتًّا »: كَذَا وَكَذَا وخُوَيْصَّة أَحدِكم وأَمرَ العامَّةِ؛ أَراد بِالْعَامَّةِ الْقِيَامَةَ لأَنها تَعُمُّ الناسَ بِالْمَوْتِ أَي بَادَرُوا بالأَعمال مَوْتَ أَحدكم والقيامةَ.

والعَمُّ: الْجَمَاعَةُ، وَقِيلَ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الحَيّ؛ قَالَ مُرَقِّش:

لَا يُبْعِدِ اللهُ التَّلَبُّبَ والغاراتِ، ***إذْ قَالَ الخَميسُ نَعَمْ

والعَدْوَ بَينَ المجْلِسَيْنِ، إِذَا ***آدَ العَشِيُّ وتَنادَى العَمّ

تَنادَوْا: تَجالَسوا فِي النَّادِي، وَهُوَ الْمَجْلِسُ؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

يُرِيغُ إِلَيْهِ العَمُّ حاجةَ واحِدٍ، ***فَأُبْنا بحاجاتٍ ولَيْسَ بِذي مالِ

قَالَ: العَمُّ هُنَا الخَلق الْكَثِيرُ، أَراد الحجرَ الأَسود فِي رُكْنِ الْبَيْتِ، يَقُولُ: الْخَلْقُ إِنَّمَا حَاجَتُهُمْ أَن يَحُجُّوا ثُمَّ إِنَّهُمْ آبَوْا مَعَ ذَلِكَ بِحَاجَاتٍ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ فأُبْنا بِحَاجَاتٍ أَي بِالْحَجِّ؛ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الأَعرابي، وَالْجَمْعُ العَماعِم.

قَالَ الْفَارِسِيُّ: لَيْسَ بِجَمْعٍ لَهُ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ سِبَطْرٍ ولأآلٍ.

والأَعَمُّ: الْجَمَاعَةُ أَيضًا؛ حَكَاهُ الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبي زَيْدٍ قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ أَفْعَلُ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ غَيْرُ هَذَا إِلَّا أَن يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ كالأَرْوَى والأَمَرِّ الَّذِي هُوَ الأَمعاء؛ وأَنشد:

ثُمَّ رَماني لَا أَكُونَنْ ذَبِيحةً، ***وَقَدْ كَثُرَتْ بَيْنَ الأَعَمّ المَضائِضُ

قَالَ أَبو الْفَتْحِ: لَمْ يأْت فِي الْجَمْعِ المُكَسَّر شَيْءٌ عَلَى أَفْعلَ مُعْتَلًّا وَلَا صَحِيحًا إِلَّا الأَعَمّ فِيمَا أَنشده أَبو زَيْدٍ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: ثُمَّ رَآنِي لَا أَكُونَنَّ ذَبِيحَةً "الْبَيْتُ بِخَطِّ الأَرزني رَآنِي؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَرَوَاهُ الْفَرَّاءُ بَيْنَ الأَعُمِّ، جَمْعُ عَمّ بِمَنْزِلَةِ صَكّ وأصُكّ وضَبّ وأَضُبّ.

والعَمُّ: العُشُبُ؛ كُلُّهُ عَنْ ثَعْلَبٍ؛ وأَنشد: " يَرُوحُ فِي العَمِّ ويَجْني الأُبْلُما "والعُمِّيَّةُ، مِثَالُ العُبِّيَّةِ: الكِبْرُ: وَهُوَ مِنْ عَمِيمهم أَيْ صَمِيمِهم.

والعَماعِمُ: الجَماعات الْمُتَفَرِّقُونَ؛ قَالَ لَبِيدٌ:

لِكَيْلا يَكُونَ السَّنْدَرِيُّ نَدِيدَتي، ***وأَجْعَلَ أَقْوامًا عُمُومًا عماعِما

السَّندَرِيُّ: شَاعِرٌ كَانَ مَعَ عَلْقمة بْنِ عُلاثة، وَكَانَ لَبِيدٌ مَعَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ فَدُعِي لَبِيدٌ إِلَى مُهَاجَاتِهِ فأَبى، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَيْ أَجعل أَقوامًا مُجْتَمَعَيْنِ فِرَقًا؛ وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبو قَيْسِ بْنُ الأَسلت:

ثُمَّ تَجَلَّتْ، ولَنا غايةٌ، ***مِنْ بَيْنِ جَمْعٍ غَيْرِ جُمَّاعِ

وعَمَّمَ اللَّبنُ: أَرْغَى كأَن رَغْوَتَه شُبِّهت بالعِمامة.

وَيُقَالُ لِلَّبَنِ إِذَا أَرْغَى حِينَ يُحْلَب: مُعَمِّمٌ ومُعْتَمٌّ، وَجَاءَ بقَدَحٍ مُعَمِّمٍ.

ومُعْتَمٌّ: اسْمُ رَجُلٍ؛ قَالَ عُرْوَةُ:

أَيَهْلِكُ مُعْتَمٌّ وزَيْدٌ، ولَمْ أُقِمْ ***عَلى نَدَبٍ يَوْمًا، وَلِي نَفْسُ مُخْطِرِ؟

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: مُعْتَمٌّ وَزَيْدٌ قَبِيلَتَانِ، والمُخْطِرُ: المُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ، يَقُولُ: أَتهلك هَاتَانِ الْقَبِيلَتَانِ وَلَمْ أُخاطر بِنَفْسِي لِلْحَرْبِ وأَنا أَصلح لِذَلِكَ؟ وَقَوْلُهُ تعالى: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ}؛ أَصله عَنْ مَا يَتَسَاءَلُونَ، فأُدغمت النُّونُ فِي الْمِيمِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا وَشُدِّدَتْ، وَحُذِفَتِ الأَلف فَرْقًا بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ فِي هَذَا الْبَابِ، والخبرُ كَقَوْلِكَ: عَمَّا أَمرتك بِهِ، الْمَعْنَى عَنِ الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ.

وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: « فَعَمَّ ذَلِكَ »أَي لِمَ فَعَلْتَه وَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وأَصله عَنْ مَا فَسَقَطَتْ أَلف مَا وأُدغمت النُّونُ فِي الْمِيمِ كَقَوْلِهِ تعالى: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ}؛ وأَما قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:

بَرَاهُنَّ عمَّا هُنَّ إِمَّا بَوَادِئٌ ***لِحاجٍ، وإمَّا راجِعاتٌ عَوَائِدُ

قَالَ الْفَرَّاءُ: مَا صِلَةٌ وَالْعَيْنُ مُبْدَلَةٌ مِنْ أَلف أَنْ، الْمَعْنَى بَرَاهُنَّ أَنْ هُنَّ إمَّا بِوَادِئٌ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، يَقُولُونَ عَنْ هُنَّ؛ وأَما قَوْلُ الْآخَرِ يُخَاطِبُ امْرَأَةً اسْمُهَا عَمَّى:

فَقِعْدَكِ، عَمَّى، اللهَ هَلَّا نَعَيْتِهِ ***إِلَى أَهْلِ حَيّ بالقَنافِذِ أَوْرَدُوا؟

عَمَّى: اسْمُ امْرَأَةٍ، وأَراد يا عَمَّى، وقِعْدَكِ واللهَ يَمِينَانِ؛ وَقَالَ المسيَّب بْنِ عَلَس يَصِفُ نَاقَةً:

وَلَها، إِذَا لَحِقَتْ ثَمائِلُها، ***جَوْزٌ أعَمُّ ومِشْفَرٌ خَفِقُ

مِشْفَرٌ خفِقٌ أَهْدَلُ يَضْطَرِبُ، والجَوْزُ الأَعَمُّ: الْغَلِيظُ التَّامُّ، والجَوْزُ: الوَسَطُ.

والعَمُّ: مَوْضِعٌ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:

أَقْسَمْتُ أُشْكِيك مِنْ أَيْنٍ وَمِنْ وَصَبٍ، ***حَتَّى تَرَى مَعْشَرًا بالعَمِّ أَزْوَالا

وَكَذَلِكَ عَمَّان؛ قَالَ مُلَيْح:

وَمِنْ دُونِ ذِكْرَاها الَّتي خَطَرَتْ لَنا ***بِشَرْقِيِّ عَمَّانَ، الثَّرى فالمُعَرَّفُ

وَكَذَلِكَ عُمَان، بِالتَّخْفِيفِ.

والعَمُّ: مُرَّة بْنَ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلة، وَهُمُ العَمِّيُّون.

وعَمٌّ: اسْمُ بَلَدٍ.

يُقَالُ: رَجُلٌ عَمِّيٌّ؛ قَالَ رَبْعان:

إِذَا كُنْتَ عَمِّيًّا فَكُنْ فَقْعَ قَرْقَرٍ، ***وإلَّا فَكُنْ، إنْ شِئْتَ، أَيْرَ حِمارِ

وَالنِّسْبَةُ إِلَى عَمّ عَمَوِيٌّ كأَنه مَنْسُوبٌ إِلَى عَمىً؛ قاله الأَخفش.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com