نتائج البحث عن (سُقُوطُهُ)

1-العربية المعاصرة (آل)

آلَ إلى يئُول، أُلْ، أوْلًا وإيالًا وأيلولةً، فهو آيل، والمفعول مئول إليه.

* آل إليه الأمرُ: رجع أو انتهى إليه (آلت إليه السُّلطةُ/التّرِكة) (*) آيل إلى الزَّوال: يوشك أن يزول.

* آل الشَّيءُ إلى كذا: صار وتحوّل (آل مصيرُه إلى السجن- آل المنزل من الأب إلى الابن- آل الماءُ إلى بخار- آل بها الحال إلى التسوُّل) - آيل للسُّقوط: محتمل سقوطه.

أوَّلَ يُئوِّل، تأويلًا، فهو مئوِّل، والمفعول مئوَّل.

* أوَّل الكلامَ: فسَّره ووضَّح ما هو غامض منه {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [قرآن].

* أوَّل الموقفَ أو العملَ: فسَّره وردَّه إلى الغاية المرجوّة منه.

* أوَّل الرُّؤيا: عبَّرها، حاول أن يفسِّرها {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [قرآن].

تأوَّلَ يتأوَّل، تأوُّلًا، فهو متأوِّل، والمفعول متأوَّل (للمتعدِّي).

* تأوَّل الكلامَ: أوّله، فسَّره ووضَّح ما هو غامض منه.

آل [مفرد]: سراب يلمع بالضُّحى، وقيل: هو خاصٌّ بما في أوّل النهار وآخره (يذكّر ويؤنّث).

آل [جمع].

* آلُ الرَّجل: أهله وأنصاره، ولا يُستعمل إلاّ فيما فيه شرف (اللّهم صلِّ على محمدٍ وآله- {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ} [قرآن]) (*) آل البيت: أهل البيت، وهم أهل محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وأقاربه- آل محمد صلّى الله عليه وسلّم: أهل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعياله وذريّته، أو المسلمون عامّة.

* آل عمران: اسم سورة من سور القرآن الكريم، وهي السُّورة رقم 3 في ترتيب المصحف، مدنيَّة، عدد آياتها مائتا آية.

آلاتيّ [مفرد]: جمعه آلاتيّون وآلاتيّة:

1 - اسم منسوب إلى آلات: على غير قياس.

2 - عازف على آلة موسيقيّة (يعمل آلاتيًّا في الفرقة).

3 - مؤلف الألحان للآلات الموسيقيّة (وضع الآلاتيُّ اللحنَ).

آلة [مفرد]: جمعه آلات:

1 - مُعِدَّة، أداة تستعمل لغرض من الأغراض (آلات زراعيَّة/صناعيَّة) (*) آلة التَّنبيه: بوق في مركبة يُستعمل لتنبيه السائر أو الغافل- آلة العود: آلة موسيقيّة- آلة تصوير: كاميرا- آلة حاسبة: كمبيوتر- هو آلة في أيديهم: منقاد بغير إرادته.

2 - [في الطبيعة والفيزياء] جهاز يؤدِّي عملًا بتحويل القوى المحرِّكة المختلفة كالحرارة والبخار والكهرباء إلى قوى آليّة مثل الآلات التي تحرِّك السُّفن، والتي تجرّ القطر والتي تدير الرَّوافع وغيرها (*) آلة بخاريّة: آلة تحرّك بالبخار- آلة كهربائيّة: آلة تحرّك بالكهرباء.

* آلة العيش: وسائله وأسبابُه (آلة العيش الصِّحَّة والشَّباب- آلات الإنتاج).

* اسم الآلة: [في النحو والصرف] أحد المشتقَّات من الفعل، وهو اسم للوسيلة التي يتمّ بها الحدث، وله من الفعل الثلاثيّ المتعدِّي صيغ قياسيّة ثلاث هي مِفعال، ومِفْعَل، ومِفْعَلة.

* آلة كاتبة: جهاز له أزرار عليها الحروف الهجائيّة يُضرب عليها لاستنساخ النصوص.

آليّ [مفرد]:

1 - اسم منسوب إلى آلة.

2 - ما يصدر تلقائيًّا عن الجسم، بدون توجيه شعوريّ أو استجابة لمؤثّر خارجيّ (حركة آليَّة) (*) حَرَكة آليَّة: تلقائيّة غير موجّهة أو مقصودة.

3 - مصنوع بواسطة آلة (خُبْز آليّ).

4 - ما يُدار بمحرّك، ذاتيّ الحركة (محراث/منشار آليّ) (*) إنسان آليّ: جهاز يشبه الإنسان ويكون مبرمجًا على القيام بأعمال معقّدة كنزع الألغام ونحوها.

آليَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى آلة: (حركة آليَّة- الهندسة الآليَّة).

2 - مصدر صناعيّ من آلة: فن اختراع الآلات واستعمالها.

3 - مصنوعة بواسطة الآلة (حياكة آليَّة).

4 - وسيلة، إمكانيّة (يجب الالتزام بآليّات فضّ النِّزاع).

* قوّة آليَّة: وحدة في الجيش مُجهَّزة بعربات نقل لاستعمال الآلات الحربيَّة.

أَوْل [مفرد]: مصدر آلَ إلى.

أُولى [مفرد]: جمعه أُولَيات وأُوَل: مؤنَّث أوَّلُ: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [قرآن].

* الأولى: الدُّنيا {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} [قرآن].

أوَّلُ [مفرد]: جمعه أوَّلون وأوائلُ وأوالٍ، والمؤنث أُولَى، والجمع المؤنث أُولَيات وأُوَل:

1 - مَن أو ما يأتي قبل غيره في الوقت أو الترتيب، عكس آخِر (انظر: و أ ل - أوَّلُ) (كان أوَّل التلاميذ في المدرسة- بدأ عمله أوَّل الشهر- {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [قرآن]).

2 - بداية كلِّ شيء (أوّلُ الغيث قطرة- أوّل النَّهار) (*) أوائل الخمسينيَّات: بدايتُها- أوَّل ما حدث كذا: حالما، في أوّل لحظةٍ من حدوثه- مِنْ أوَّله إلى آخِره: من بدايته إلى نهايته.

3 - سابق، قديم (الأوّلون والآخرون: القُدامى والمحدثون- أجدادنا الأوّلون- الإنسان الأوّل- {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [قرآن]) (*) أوّل أمس/أوّل من أمس/أمس الأوّل: ما قبل البارحة- أوَّلًا: أوّل شيء، ويستعمل عند ذكر عددٍ من الأمور- أوَّلًا بأوّل: لا تدع شيئًا يتراكم- أوَّلًا فأوَّل: بالتّرتيب، الواحد بعد الآخر- أوَّلًا وأخيرًا/أوَّلًا وآخِرًا: أساسًا- الوزير الأوّل: رئيس الوزراء- منذ الزَّمن الأوّل: منذ العهد القديم، قديم الزمان.

* الأوَّل: اسم من أسماء الله الحُسنى، ومعناه: القديم الأزليّ الَّذي لا يسبقه عدم وليس له سابقٌ من خلقه {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [قرآن].

* أكسيد أوَّل: [في الكيمياء والصيدلة] أكسيد أحاديّ.

* ملازم أوَّل: [في العلوم العسكرية] إحدى الرّتب العسكريَّة في الجيش والشَّرطة، فوق الملازم ودون النقيب.

أوَّليّ [مفرد]:

1 - اسم منسوب إلى أوَّلُ.

2 - ابتدائيّ أو أساسيّ (*) ألوان أوَّليّة: الأزرق والأخضر والأحمر- تعليم أوَّليّ: المرحلة الأولى من التعليم.

3 - تمهيديّ أو مبدئيّ (*) انتخابات أوّليّة: تُعْقَد لانتخاب مُرشَّحٍ ما لمنصب قبل دخوله مرحلة الانتخابات النهائيّة- عقد أوَّليّ: ما يُتَّفق عليه مبدئيًّا قبل اتِّخاذه الشكل النهائيّ.

* عَدَدٌ أوَّليّ: [في الجبر والإحصاء] عدد لا يقبل القسمة إلاّ على نفسه أو على الواحد الصحيح مثل: 1، 3، 5. إلخ.

* موادّ أوَّليّة: موادّ خام رئيسيّة توجد في التُّربة أو تنتجها الزِّراعة، وتستعمل في البناء والصِّناعة وغيرها.

أوَّليَّة [مفرد]: جمعه أوّليَّات:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى أوَّلَ: صفة الشَّيء الذي يحتلّ المكان الأوّل بقوّته أو قيمته أو خطورته (العناية بالاقتصاد من الأمور الأوّليّة).

2 - مصدر صناعيّ من أوَّل: ابتدائيّة.

* أوَّليَّة الإنسان: ما كان لآبائه في الزَّمن القديم من مكارم وغيرها.

إيال [مفرد]: مصدر آلَ إلى.

أيلولة [مفرد]: مصدر آلَ إلى.

* رسم الأيلولة: [في الاقتصاد] ضريبة تفرضها الحكومة على انتقال الملكيَّة بعد وفاة المورِّث ونحوه.

تأويل [مفرد]: جمعه تأويلات (لغير المصدر) وتآويلُ (لغير المصدر):

1 - مصدر أوَّلَ.

2 - تفسير ما في نصٍّ ما من غموض، بحيث يبدو واضحًا جليًّا (تأويل النصوص) (*) تأويل الكلام: تفسيره وبيان معناه.

3 - إعطاء معنًى لحدث أو قول أو نصّ لا يبدو فيه المعنى واضحًا لأوّلِ وَهْلة (تأويل الخبر) (*) تأويل الرُّؤيا: تفسيرها.

4 - [في الفقه] بيان أحد محتملات اللفظ على وجه التقدير والظّن.

مآل [مفرد]: مصدر ميميّ من آلَ إلى (*) في الحال وفي المآل: في الحاضر والمستقبل- مآل الكلام: مَفَاده، مقصده، مغزاه، مضمونه.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-العربية المعاصرة (دعم)

دعَمَ يَدعَم، دَعْمًا، فهو داعِم، والمفعول مَدْعوم.

* دعَم الشَّخصَ: أعانَه وقوَّاه وسانده (دعَم مرشَّح الحكومة في الانتخابات- مُرَشَّح مَدْعومٌ من حِزبه).

* دعَم الحائِطَ وغيرَه: أَسْنده بشيءٍ يمنع سقوطَه أو مَيْلَه (دعَم شجرةً/نبتةً).

* دعَمتِ الحكومةُ السِّلْعةَ: تحمّلت جزءًا من ثمنها (سِلْعَةٌ مَدْعومةٌ).

دعَّمَ يدعِّم، تَدْعِيمًا، فهو مُدَعِّم، والمفعول مُدَعَّم.

* دعَّم الحائِطَ وغيرَه: دعَمه، قوَّاه وثبّتَه (دعَّم موقِفَه).

تدعيم [مفرد]:

1 - مصدر دعَّمَ.

2 - [في علوم النفس] عمليَّة تستخدم في تعديل السلوكيّات، وهي عمليّة تنشِّط وتقوِّي ردّ الفعل المطلوب تأكيده على الحدوث مرَّة أخرى.

دَعامة/دِعامة [مفرد]: جمعه دعامات ودعائِمُ: [في الزراعة] غُصْنٌ أو فَرْعٌ يُغْرزُ في الأرض لتتسلَّق عليه النَّباتات المُعْترِشة.

* دِعامةُ القومِ: مُعينهم، سيّدُهُم وسندُهم (كان عمر بن الخطاب دِعامة الضَّعيف- القاضي دِعامة المظلوم) (*) هو دعامة قومه: سيّدهم وسندهم.

* دِعامةُ الشَّيءِ: عِمادُه الذي يقوم عليه، وسنده وركيزته (دِعامة البيت- أقام دَعائِمَ الإسلام) - دعامةُ العقل الحِلْم: الحثّ على الحِلْم.

دَعْم [مفرد]:

1 - مصدر دعَمَ.

2 - مبلغٌ من المال تتحمّله الدَّولةُ لتخفيض ثمن سلعة ما (دعمُ السِّلع الغذائيّة/الكُتُب).

3 - مساعدة ماليّة أو عينيَّة تقدِّمها دولةٌ لدولة أخرى (أموال الدّعم- الدّعم العسكرِيّ).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


3-العربية المعاصرة (سقط)

سقَطَ/سقَطَ عن/سقَطَ في/سقَطَ من يَسقُط، سَقْطًا وسُقوطًا، فهو ساقِط وسقيط، والمفعول مسقوطٌ فيه.

* سقَط الشَّيءُ/سقَط الشَّيءُ عن كذا/سقَط الشَّيءُ من كذا:

1 - وقَع من أعلى إلى أسفل (سقَط القلمُ من يده- سقَطتِ المدينةُ بعد مقاومة طويلة- {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا} [قرآن]) (*) سقَط أرضًا: فقد توازنه ووقع على الأرض- سقَط النجم: غاب- سقَطتِ الحكومةُ: أقيلت- سقَط صريعًا: مات- سقَط على ضالّته: وقع عليها وعثر عليها- سقَط من عيني: فقَد احترامَه ومكانتَه عندي- يسقط الاستعمار: دعاء بزوال الاستعمار.

2 - تهدّمَ وانهار (سقط سقف المنزل- تداعى الحائُط للسقوط: آذن بالانهدام).

3 - تناثرَ (سقَط ورقُ الشّجر).

4 - نزل وهطَل (سقَط المطرُ).

* سقَطتِ القضيَّةُ أو الخصومةُ: [في القانون] انتهى الحقّ في متابعتها (سقَطتِ الدعوى: أصبحت لاغية لبُطلانها وعدم قانونيّتها).

* سقَط الحرُّ أو البردُ: أقبل.

* سقَط في كلامه: أخطأ وزلّ (سقط في الامتحان: رسب).

* سقَط في يده: ندم {وَلَمَّا سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [قرآن]).

* سقَط الجنينُ من بطن أمّه: نزلَ قبل تمامه.

سُقطَ في يُسقَط، سُقوطًا، والمفعول مَسْقوطٌ فيه.

* سُقط في يده: زلَّ وأخطأ، ندِم وتحيَّر {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [قرآن].

أسقطَ يُسقِط، إسقاطًا، فهو مُسْقِط، والمفعول مُسْقَط.

* أسقط الشَّيءَ: أوقَعه من أعلى إلى أسفل، ألقاه، أنزله (أسقط طائرةً- أسقطت قذائفُ العدُوّ مواقعَ مدنية: تسببت في انهيارها- {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [قرآن]) (*) أسقط حقّه: تنازل عنه- أُسقط في يده: تحيّر وشعر بفشله في تحقيق هدفه.

* أسقطتِ الحاملُ الجنينَ: ألقته قبل تمامه.

* أسقط القضيَّةَ أو الدَّعوَى: [في القانون] توقّف عن متابعتها، تنازل عنها.

* أسقط الوزارةَ: سحب الثِّقةَ منها وأرغمها على الاستقالة.

* أسقط كذا من كذا: طرحه، اقتطعه منه ونقصه (أسقط عددًا من عددٍ) - أسقطه من حسابه: أهمله، لم يعتدّ به.

أُسقِطَ يُسقَط، إسقاطًا، والمفعول مُسقَط.

* أُسقط في يده: سُقِط؛ زلّ وأخطأ، ندم وتحيّر، شعر بالفشل في تحقيق هدفه {وَلَمَّا أُسْقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [قرآن]).

اسّاقطَ يسّاقط، فهو مُسّاقِط.

* اسَّاقطَ الشَّيءُ: تساقط، تتابع سُقوطُه {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تَسَّاقَطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [قرآن]: وفي قراءة أخرى (يسّاقط)).

تساقطَ يَتساقط، تَساقُطًا، فهو مُتَساقِط.

* تساقط الشَّيءُ: اسّاقَط؛ تتابع سقوطُه (تساقَط المطرُ/ورقُ الأشجار- {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تَتَسَاقَطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [قرآن]).

* تساقط الشَّخصُ: انهارَ (تساقط من الإرهاق).

تسقَّطَ يتسقَّط، تسقُّطًا، فهو مُتسقِّط، والمفعول مُتسقَّط.

* تسقَّط الأخبارَ: تلقَّفها، ترقّبها ليأخذها شيئًا بعد شيء.

ساقطَ يساقط، مُساقَطةً وسِقاطًا، فهو مُساقِط، والمفعول مُساقَط.

* ساقط الشَّيءَ: أوقعه، وتابع إنزالَه (ساقَطتِ الشجرةُ ثمارَها- {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [قرآن]).

إسْقاط [مفرد]:

1 - مصدر أسقطَ (*) إسقاط الحكومة: سحب الثّقة منها وإرغامها على الاستقالة- إسقاط جويّ: إنزال وتوصيل الموادّ أو الجنود بالمظلات.

2 - [في الآداب] خلع الشّاعر مشاعره على الحيوانات والأشياء الطبيعيّة وغيرها.

3 - [في الآداب] تأليف عمل أدبيّ يتناول أحداثًا ماضية وتضمينه رموزًا تدلّ على إرادة الحاضر.

4 - [في الرياضة والتربية البدنية] حركة في المصارعة أو الفنون القتاليّة يُلقى فيها الخصم الواقف أرضًا.

5 - [في الطب] إلقاءُ المرأة جنينَها بين الشّهريْن الرّابع والسّابع.

6 - [في علوم النفس] نسبة الإنسان لا شعوريًّا حوافزه وأفكاره إلى الآخرين، كأن ينسب الكذَّابُ الكذبَ إلى غيره.

7 - [في الهندسة] موقع عمود أُنزل من نقطة على مستقيم أو على مستوٍ أو سطح.

ساقط [مفرد]: جمعه ساقطون وسُقّاط، والمؤنث ساقطة، والجمع المؤنث ساقطات وسواقِطُ:

1 - اسم فاعل من سقَطَ/سقَطَ عن/سقَطَ في/سقَطَ من (*) ساقط قَيْد: لم يسجّل اسمه في سجل المواليد- شعاع ساقِط: واقع على سطح عاكس.

2 - دنيء، لئيم في حسبِه ونفسِه.

3 - متأخِّر عن غيره في الفضائل.

4 - من يثير الاحتقار بسلوكه الشاذّ (امرأة ساقطة) (*) لكلِّ ساقطةٍ لاقطة: لكلّ رديءٍ حقيرٍ طالبٌ.

ساقط [مفرد]: [في التشريح] غشاء مُبطِّن للرَّحم تطرأ عليه بعضُ التغيّرات استعدادًا لاستقبال البيضة الملقّحة.

* السَّاقط المُبطِّن: [في التشريح] الغشاء المبطِّن للرَّحم فيما عدا ما انغرست فيه البيضة.

* السَّاقط القاعديّ: [في التشريح] جزء من غشاء الرَّحم بين البيضة المطمورة وجدار الرَّحم في الحمل.

سُقاط [مفرد]: كُلّ ما سَقَط من الشّيء (سُقاط الشّجر).

* سُقاط ذرِّيّ: [في الكيمياء والصيدلة] غبار ذرِّيّ؛ جسيمات دقيقة، بطيئة السّقوط في الغلاف الجويّ، تلي انفجارًا خاصّة انفجارًا نوويًّا.

سِقاط [مفرد]:

1 - مصدر ساقطَ.

2 - ما سقط من النَّخل من البُسْر.

3 - خطأ، عثرة، زَلَّة (العاقل قليل السِّقاط).

* سِقَاط الشَّيء: ناحيته وجانبه (*) سِقاطا اللّيل: ناحيتا ظلامه.

سُقاطة [مفرد]: كُلّ ما سقَط من الشّيء (جمَع سُقاطة الشّجر).

سَقْط [مفرد]: مصدر سقَطَ/سقَطَ عن/سقَطَ في/سقَطَ من.

سَقْط/سَقَط [مفرد]: جمعه أسْقاط:

1 - لئيم، حقير (*) أسقاط النَّاس: أوباشهم وأسافلهم.

2 - ما لا خير فيه من كلِّ شيء (سَقَطُ المتاع: أشياء وأغراض متنوعة يتمّ تخزينها).

3 - خطأ في القول أو الفعل (ارتكب سقَطًا).

4 - أحشاء الدابة بعد ذبحها كالمُصْران والكرش والكبد وما أشبهها.

سُقْط/سِقْط [مفرد]: جمعه أسْقاط:

1 - كلّ ما يسقط.

2 - جنين يسقط من بطن أمّه قبل تمامه، ذكرًا كان أو أنثى.

سَقْطَة [مفرد]: جمعه سَقَطات وسَقْطات وسِقاط:

1 - اسم مرَّة من سقَطَ/سقَطَ عن/سقَطَ في/سقَطَ من: (سقَط سَقْطتين).

2 - عَثْرة وزلَّة، خطأ عفويّ (كان كثير السَّقَطات- الكامل من عُدَّت سَقَطاتُه- يُعرَف الصّديق من العدوّ بسَقَطات اللِّسان ولَحَظات العيون).

سُقَّاطة [مفرد]:

1 - أداة تُوضع خلف الباب من أعلى لإحكام إغلاقه.

2 - ما يُطرق به الباب.

سُقوط [مفرد]: مصدر سُقطَ في وسقَطَ/سقَطَ عن/سقَطَ في/سقَطَ من (*) آيل للسُّقوط: محتمل سقوطه- سقوط الشّعر: ذهابه- سقوط النَّدى: تشكّل أو تكوُّن النَّدى.

* سُقوط الرَّحِم: [في الطب] هبوطه عن مستواه الطبيعيّ.

* سُقوط الذِّراع: [في الطب] انزلاقها من الرّحم قبل الرأس أثناء الولادة.

* سُقوط الخصومة: [في القانون] انتهاء الخصومة قبل الفصل فيها بعد انقضاء سنة على الأقل من عدم السّير فيها.

* سقوط الحَقّ: [في القانون] زوال الحقّ من يد صاحبه لأنّه لم يستعمله في مدّة معيَّنة؛ كسقوط حقّ المحكوم عليه في استئناف الحكم إذا لم يستأنفه في الآجال الموقوتة قانونًا.

* سقوط الدَّعوى: [في القانون] محو آثار كلِّ إجراء في الدَّعوى يتذرّع به المدَّعَى عليه بعد انقضاء مدَّة معلومة.

* سقوط حُرّ/سقوط طليق:

1 - [في العلوم العسكرية] سقوط جنديّ المظلاَّت قبل فتح المظلَّة.

2 - [في الطبيعة والفيزياء] سقوط جسم في الفضاء أو في الجوّ دون مؤثِّر كابح أو موجِّه.

سَقيط [مفرد]: جمعه سُقُط: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من سقَطَ/سقَطَ عن/سقَطَ في/سقَطَ من: دنيء، لئيم في حسَبه ونفسه.

مِسْقاط [مفرد]: جمعه مَساقيطُ: صيغة مبالغة من سقَطَ/سقَطَ عن/سقَطَ في/سقَطَ من: امرأة من عادتها سقوط حملها.

مَسْقَط/مَسْقِط [مفرد]: جمعه مَساقِطُ: اسم مكان من سقَطَ/سقَطَ عن/سقَطَ في/سقَطَ من (*) مساقِط الغيث: أماكن نزوله- مَسْقَط النّور في البيت: فُرجة يقع منها الضّوء- مَسْقَط رأسِه: مكان الولادة.

* مسقط رأسيّ: [في الهندسة] مسافة السُّقوط؛ المسافة الرَّأسيّة من أعلى إلى أسفل.

* مسقط ماء: [في البيئة والجيولوجيا] سيل الماء فوق منحدر شديد، أو فوق انفصال عموديّ في قاع النهر.

مَسْقَطة [مفرد]: جمعه مَساقِطُ: مدعاة السقوط وسببه (كانت مصاحبته لرفاق السّوء مَسْقَطته).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


4-العربية المعاصرة (عرم)

عرَمَ يَعرُم، عَرْمًا، فهو عارِم، والمفعول معروم (للمتعدِّي).

* عرَم فلانٌ:

1 - اشتدَّ وخرَج عن الحدِّ.

2 - خبُث، وكان شرِّيرًا.

* عرَم فلانًا: أصابه بشراسةٍ وأذًى.

عارم [مفرد]: جمعه عَرَمَة:

1 - اسم فاعل من عرَمَ.

2 - شديد، شَرِس، مُؤذٍ (حربٌ عارمة- أدَّت موجة عارمة من الرَّأي العامّ إلى سقوطه) (*) حُبٌّ عارم: جارف- خُلُق عارم: شكِس- شهوةٌ عارمة: لا تُقاوم، شديدة مضطرمة- نهارٌ عارم: نهاية في البرد- يَوْمٌ عارِم: شديد البرودة.

عُرام [مفرد]: شراسَة وأذى.

عَرامَة [مفرد].

* عَرامَة العواطف: اشتدادُها وخروجُها عن الحَدِّ.

عَرْم [مفرد]: مصدر عرَمَ.

عَرِم [مفرد].

* العَرِمُ:

1 - السَّيْلُ الشَّديدُ الجارِف الذي لا يُحتمل {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [قرآن].

2 - السَّدُّ أو كلُّ ما يمسك الماء {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [قرآن].

عُرْمَة [مفرد]: جمعه عُرُمات وعُرْمات وعُرَم: كَوْمَة من القمح المدروس، حُزْمة، كُدْس من الطَّعام يُداس ثم يُذَرَّى (عُرْمةُ غلالٍ/حشيشٍ- عُرْمةٌ صغيرةٌ).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


5-العربية المعاصرة (قال)

قالَ يَقِيل، قِلْ، قَيْلًا وقَيْلولةً، فهو قائِل.

* قال الشَّخصُ: نام في منتصف النّهار {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [قرآن].

أقالَ يُقيل، أَقِلْ، إقالةً، فهو مُقِيل، والمفعول مُقَال.

* أقال البيعَ: فَسَخَهُ، نكثه (من أقال نادمًا أقاله اللهُ من نار جهنَّم: وافقه على نقض البيع وأجابه إليه).

* أقال فلانًا من وظيفته: نحّاه عنها (أقال الرَّئيسُ الوزيرَ- {فَأَقِيلُوا أَنْفُسَكُمْ} [قرآن]: المراد أبعدوا أنفسكم عن المعاصي).

* أقال اللهُ عثْرَتَهُ: صفح عنه وترك ذنْبَه، أنهضه من سقوطه، ساعده في محنته.

استقالَ من يَسْتقيل، اسْتَقِلْ، اسْتِقالةً، فهو مُستقِيل، والمفعول مستقالٌ منه.

* استقال من عمله: طلب أن يُعفى منه (استقال من إدارة الشَّرِكة- استقال لأسباب صحيّة).

تقيَّلَ يتقيّل، تقيُّلًا، فهو مُتقيِّل.

* تقيَّل الشَّخصُ: قالَ؛ نام في الظَّهيرة.

قيَّلَ يقيِّل، تَقْييلًا، فهو مُقَيِّل، والمفعول مُقَيَّل.

* قيَّله في المكان: جعله يقيل فيه، أي يستريح وقت الظَّهيرة (قيّلهُ في منزله الصيفيّ على شاطئ البحر).

إقالة [مفرد]:

1 - مصدر أقالَ.

2 - فسخ البيع وإعادة الشيء المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري إذا ندم أحدهما أو كلاهما.

3 - لجوء صاحب العمل إلى طرد الموظّف بالأسلوب القانونيّ.

استقالة [مفرد]:

1 - مصدر استقالَ من.

2 - طلب إعفاء من العمل (استقالة موظَّف).

قائِل [مفرد]: جمعه قائلون وقالَة وقُيَّال وقُيَّل، والمؤنث قائلة، والجمع المؤنث قائلات وقُوَّل وقُيَّل: اسم فاعل من قالَ.

قائِلَة [مفرد]:

1 - صيغة المؤنَّث لفاعل قالَ.

2 - منتصف النّهار من الحرّ، ويقال أيضًا: الظهيرة (ينام فلانٌ في القائِلة).

قَيْل [مفرد]: مصدر قالَ.

قَيْلولة [مفرد]: مصدر قالَ.

مُسْتقيل [مفرد]: اسم فاعل من استقالَ من.

مَقيل [مفرد]:

1 - مصدر ميميّ من قالَ.

2 - موضع القيلولة، مكان الراحة وقت القيلولة {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [قرآن].

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


6-العربية المعاصرة (هال)

هالَ يهيل، هِلْ، هَيْلًا، فهو هايل، والمفعول مَهِيل.

* هال عليه التُّرابَ: صبَّه، نثره {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [قرآن].

* هال الرَّملَ: دفعه وأرسله من غير أن يرفع عنه يدَه.

أهالَ يُهيل، أَهِلْ، إهالةً، فهو مُهيل، والمفعول مُهال.

* أهال الرَّملَ عليه: دفعه من أعلى إلى أسفل.

انهالَ على ينهال، انْهَلْ، انهيالًا، فهو مُنْهال، والمفعول مُنهال عليه.

* انهال التُّرابُ عليه: مُطاوع هالَ: انصبّ (انهالتِ القنابلُ على المدينة: سقطت) (*) انهيال أرضيّ: انزلاق كتلة جافّة من الصُّخور أو التُّربة.

* انهال القومُ عليه شتمًا وضربًا: تتابعوا عليه يسبُّونه ويؤذونه.

تهيَّلَ يتهيّل، تهيُّلًا، فهو مُتهيِّل.

* تهيَّل التُّرابُ: سقط وتتابع سقوطه من أعلى إلى أسفل.

هيَّلَ يهيِّل، تَهييلًا، فهو مُهيِّل، والمفعول مُهيَّل.

* هيَّل عليه التُّرابَ: هالَه، صبَّه عليه (هيَّلتِ البنتُ الرّملَ على لُعْبتها).

إهالة [مفرد]: مصدر أهالَ.

انهيال [مفرد]: مصدر انهالَ على.

مُهيل [مفرد]: اسم فاعل من أهالَ.

هال [مفرد]: رَمْلٌ منهالٌ في تتابع.

هالة [مفرد]: جمعه هالات: (انظر: ه و ل - هالة).

هَيْل [مفرد]: مصدر هالَ.

هَيُول [مفرد]: هباء منبثّ، وهو ما تراه في البيت من ضوء الشَّمس يدخل من كُوَّة البيت.

هَيُولَى [مفرد]:

1 - جوهر قابل لما يَعْرِض للجسم من أشكال.

2 - [في الفلسفة والتصوُّف] مادّة الشَّيء التي يُصنع منها كالخشب للكرسيِّ وكالحديد للمسمار.

3 - [في الثقافة والفنون] تخطيط مبدئيّ للصُّورة أو التِّمثال.

هَيُّولَى [مفرد]: هَيُولَى.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


7-المعجم الوسيط (أَرزَحَ)

[أَرزَحَ] الكَرْمَ: رفعه عند سقوطه.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


8-المعجم الوسيط (تَسَاقَطَ)

[تَسَاقَطَ]: سَقَطَ.

و- تَتَابَعَ سُقُوطُهُ.

و- عليه: أَلْقَى نَفْسَهُ.

ويقال: اسَّاقَطَ.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


9-شمس العلوم (بَغْرَة)

الكلمة: بَغْرَة. الجذر: بغر. الوزن: فَعْلَة.

[بَغْرَة] النجم: سقوطُه.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


10-معجم متن اللغة (تروح الماء)

تروح الماء: أخذ ريخ غيره: فاحت ريحه: تغيرت رائحته.

و- النبت والشجر: طال.

و- القوم: ساروا في الرواح.

و- أهله: جاءهم رواحًا.

و- الشجر: تفظر بورقٍ بعد إدبار الصيف وقبل المطر.

و- ريحًا طيبةً: وجدها.

و- بالمروحة: أدارها يتقي بها الحر.

و- الغصن: نبت ورقه بعد سقوطه.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


11-معجم متن اللغة (تسقطه)

تسقطه: طلب سقوطه أو سقطه.

و– الخبر: أخذه قليلًا قليلًا (ز)

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


12-معجم متن اللغة (تساقط على)

تساقط على الشيء: ألقى عليه نفسه.

و– الشيء: تتابع سقوطه

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


13-معجم متن اللغة (استسقطه)

استسقطه: طلب سقوطه أو سقطه: عالجه أن يسقط فيخطئ أو يكذب أو يبوح بما عنده (ز).

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


14-معجم متن اللغة (مسقط)

مسقط الشيء: موضع سقوطه "وتكسر القاف على الشذوذ" و– الرأس: موضع ولادته (ز) و– الطائر: جناحه.

و– من الرمل: "

منتهاه.

و– من الغيث: موقعه.

و– من النجم: مغيبة (ز) ج مساقط.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


15-معجم متن اللغة (أقاله البيع)

أقاله البيع: فسخه له.

و- الإبل: أوردها وقت القائلة.

و- هـ عثرته: صفح عنها: رفعه من سقوطه.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


16-جمهرة اللغة (طرر طر)

(ر-ط-ط) استُعمل من معكوسه؛ طَر شاربُ الغلام يَطُر طُرُورًا وطَرًّا: إذا بدا فهو طار.

وطُرّ وَبَرُ البعير، إذا نبت بعد سقوطه، طَرُّا وطُرورًا.

وطُرة كل شْيء: حَرْفه.

وطر الثوب: موضع هُدْبه.

وأطرار الطريق: نواحيه، الواحد: طِرّ.

والمثل السّائر: " أطِرّي فإنك ناعِلة "، أي اركبي أطرار الطريق، وهو أغلظه.

وقال قوم: بل رُدّي الإبلَ من أطرارها، أي من نواحيها.

وقال قوم: أظِرّي، بالظاء المعجمة، أي اركبي الظرَرَ، وهي الحجارة المحددة التي يصعب المشيُ عليها.

ويقال: شاب طرير، أي مستقبِل الشباب، والجمع أطرار.

وسنان طَرير، أي محدَّد.

وبَدَت طُرة الفجر.

ويُجمع الطُرة أطِرَةً وطُررًا.

والطَّرِير يُجمع أطرةً.

قال عدي بن زيد العبادي - جاهلي:

«شَدتِ الحرب شَدَّةً فَحَشَتْهُ*** لَهذَمًا ذا سَفاسقٍ مَطْرورا»

وأنشد أيضًا لكُثَير عَزةَ:

«ويُعْجِبُكَ الطَريرُ فتَبْـتَـلـيه*** فيُخْلِف ظنَّكَ الرَّجُلُ الطريرُ»

وأطَر الغضب، إذا جاوز المقدار.

وأنشد:

«غضبتم علينا أن ثَأرْنا بـخـالـدٍ*** بني عمنا ها إنَ ذا غَضب مُطِر»

البيت للحطيئة.

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


17-العباب الزاخر (فرغ)

فرغ

فَرَغْتُ من الشغل أفْرُغُ فُرُوْغًا وفَرَاغًا، وفَرعَ يَفْرَغُ -مثال سَمعَ يَسْمَعُ- لغة فيه، وكذلك فَرغَ -بالكسر- يَفْرُغُ -بالضم- مركب من لغتين. وقال يونس في كتاب اللغات: فَرَغَ يَفْرَغُ -بالفتح فيهما- لغة أيضًا. وقرأ قتادة وسعيد بن جبير والأعرج وعُمارة الدّارعُ: (سَنَفْرَغُ لكم) بفتح الراء، على فَرِغَ يَفْرَغُ وفَرَغَ يَفْرَغُ، وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر وأبو السمال: "سَنِفْرِغُ" بكسر النون وفتح الراء على لغة من يكسر أول المستقبل، وقرأ أبو عمرو أيضًا: "سَنِفْرغُ" بكسر الراء مع كسر النون، وزعم أن تميما تقول: نعلم.

ورجل فَرِغٌ: أي فارغٌ، كَفَرِهٍ وفارِهٍ وفَكِهٍ وفاكِهٍ، ومنه قراءة أبي الهذيل: (وأصبح فؤاد أُمِّ موسى فَرِغًا)، وقرأ الخليل: فُرُغًا -بضمتين- بمعنى مُفَرَّغٍ، كذُلُلٍ بمعنى مُذَللٍ. وقوله تعالى: (وأصبح فؤاد أُمِّ موسى فارغًا) أي خاليا من الصبر، ومنه يقال: إناء فارغ، وقيل: خاليًا من كل شيء إلا من ذكر موسى -صلوات الله عليه-، وقيل: فارغًا من الاهتمام به لأن الله تعالى وعدها أن يرده إليها بقوله عز وجل: (إنا رادوه إليك).

والفراغ في اللغة على وجهين: الفَرَاغُ من الشغل معروف، والآخر: القصد للشيء، والله تعالى لا يشغله شيء عن شيء، ومنه قيل في قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لكم) أي سنقصد. ويقال -أيضًا-: فَرَغَ إليه، قال جرير:

«ألاَنَ وقد فَرَغْتُ إلى نُمير *** فهذا حين كنت لهم عِقابا»

وقال جرير -أيضًا- يرد على البعيث ويهجو الفرزدق:

«ولما اتقى القين العراقي بـاسـتـهِ *** فَرَغْتُ إلى القين المقيد في الحجل»

ويقال: فَرَغَ فُرُوْغًا: أي مات.

والفَرْغُ: مخرج الماء من الدلو من بين العَرَاقي، ومنه سمي الفَرْغانِ؛ فَرْغُ الدلو المقدم وفَرْغُ الدلو المؤخر، وهما من منازل القمر، قال أمية بن أبي عائذ الهذلي يصف الحَمير:

«وذكرها فيح نجم الـفُـرُوْغِ *** من صيهد الحر برد الشمال»

ويروى: "فأوْرَدَها"، ويروى: "من صَيْهَدِ الصيف". وقال ابن قتيبة في كتاب الأنواء: غَلِطَ هذا الشاعر، لأن الفَرْغَ لا يكون في طلوعه ولا في سقوطه صيهد وهو شدة الحر.

وقال أبو خراش الهذلي:

«وظـل لـنـا يوم كــأن أواره *** ذكا النار من فيح الفُرُوْغ طويل»

ويروى: "الفُرُوْغ" بالعين المهملة: أي من أعاليه، وإنما جمع الفُروغَ بما حول الفَرْغَيْنِ من الكواكب.

وقال الجمحي: الجوزاء تسمى الفُرُوْغَ، وقال الكُميت:

«يا أرضنا هـذا أوان تـحـيين *** كيف بغير العَتَكِـيِّ تَـرْوَيْنْ»

«أم كـيف إلا بـنـداه تَـنْـدَيْنْ *** قد طالما حُرِمْتِ نوء الفَرْغَيْنْ»

العتكي: هو مخلد بن يزيد بن المهلب.

وكل واحد منهما كوكبان بين كل كوكبين قدر خمس أذرع في رأي العين.

والفَرغُ -أيضا-: الإناء الذي فيه الصقر؛ وهو الدبس، وقال أعرابي: تبصروا الشَّيفان فإنه يصوك على شَعَفِةِ المصاد كانه قرشام على فَرْغِ صقر. الشَّيِّفانُ: الطليعة؛ وأصله شَيْوفانٌ، والمصاد: الجبل، والقِرشامُ: القُرادُ.

وفَرْغُ القبة وفَرْغُ الحفر: بلدان لتميم.

وفَرْغانَةُ: ناحية بالمشرق تشتمل على أربع مدن وقصبات كثيرة، فالمدن: أوشُ وأوزْجَنْدُ وكاسَانُ ومَرْغِبْنان، وليست فَرْغانَةُ بلدة بعينها.

وفَرْغانَة -ويقال: فَرْغانُ-: من قرى فارس.

وفَرْغانُ: بلد باليمن من مخلاف بني زبيد.

وأبو الحسن احمد بن الفتح بن عبد الله بن فَرْغَانَ الموصلي: من أصحاب الحديث.

والأفْرَاغُ: مواضع حول مكة -حرسها الله تعالى-.

وأفْرَاغَةُ: مدينة بالأندلس.

وفَرُغَتِ الضربة تَفْرُغُ -مثال كَرُمَتْ تَكْرُمُ-. أي اتسعت، فهي فَرِيْغَةٌ -بالهاء-، قال لبيد -رضي الله عنه-:

«وكل فَرِيْغَةٍ عجلى رمـوحٍ *** كان رشاشها لهب الضِّرَامِ»

والفَرِيغَةُ -أيضا-: المَزَادَةُ الكثيرة الأخذ للماء.

والفَرِبْغُ: مستوى من الأرض كأنه طريق، وقيل له: فَرِيْغٌ كأنه قد أثر فيه لطول ما وطئ، قال أبو كبير الهذلي:

«فأجَزْتُهُ بأفل تحسـب أثـره *** نهجا أبان بذي فَرِيْغٍ مخرف»

شبه بياض الفرند بوضوح هذا الطريق، ويروى: "فأجَزْتَه" أي أجزت هذا المرثي ومعك سيف، وروى ابن حبيب: "مِجْرَفِ" أي يجرف كل شيء.

وفرس فَرِيْغٌ وفِرَاغٌ: واسع المشي هملاج.

والفِرَاغُ -بالكسر-: ناحية الدلو التي تصب الماء منه، قال:

«يسقي به ذاة فِرَاغٍ عثجلا»

وقال أبو عمرو: الفِرَاغُ: العِدُلُ من الأحمال بلغة طيئ.

وقال ابن الأعرابي: كل إناء عند العرب فِرَاغٌ.

وقال الأصمعي: الفِرَاغُ: حوض من أدم واسع ضخم، قال أبو النجم:

«تهدي بها كل نِيَافٍ عنـدل *** طاويةٍ جنبي فِرَاغ عَثْجَل»

ويقال: عنى بالفِرَاغُ ضرعها أنه قد جف ما فيه من اللبن فتغضن.

وقال أبو زيد: الفِرَاغُ من النوق: الغزيرة الواسعة جراب الضرع.

والفِرَاغُ: في قول امرئ القيس:

«ونحت له عن أزر تألبةٍ *** فلق فِرَاغِ معابل طُحْلِ»

القوس الواسعة جرح النصل نحتْ: تحرفتْ؛ أي: رمته عن قوس، وله: لامرئ القيس، وأزر: قوة وزيادة، وقيل: الفِرَاغُ النصال العريضة، وقيل: الفِرَاغُ: القوس البعيدة السهم، ويروى: "فِرَاغَ -بالنصب-؛ أي: نحت فِرَاغَ؛ والمعنى: كأن هذه المرأة رمته بسهم في قلبه.

وقال ابن عباد: الفِرَاغُ: القدح الضخم الذي لا يطاق حمله، وجمعه: أفْرِغَةٌ. وفَرِغَ الماء -بالكسر-: أي انصب.

والفَرَاغَةُ: الجزع، قال:

«يكاد من الفَراغَةِ يُسْتَطارُ»

والفِرْغُ -بالكسر- الفُرّاغُ، قال طليحة بن خويلد الأسدي في قتل ابن أخيه حبال بن سلمة بن خويلد:

«فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونهـم *** أليسوا وإن لم يُسلموا برجالِ»

«فإن تكُ أذواد أُصِبْنَ ونسـوة *** فلن تذهبوا فِرْغًا بقتل حبال»

ويقال: ذهب دمه فِرْغًا وفَرْغًا: أي هدرا لم يطلب به.

والافْرَغُ: الفارغ، قال رؤبة:

«لو كنت أسطيعك لم يُشَـغْـشَـغِ *** شربي وما المشغول مثل الأفْرَغِ»

والطعنة الفَرْغاءُ: ذاة الفَرْغِ وهو السعة.

والأفْرَاغُ: الصب، وقوله تعالى: (ربنا أفْرِغْ علينا صبرًا) أي اصبب؛ كما تفرغ الدلو: أي تصب.

وحلقة مُفْرَغَةٌ: أي مصمتة الجوانب.

ويروى قول رؤبة:

«بمدفق الغرب رحيب المَفْرَغِ»

بضم الميم وفتحها، فالضم بمعنى الإفْرَاغِ، والفتح بمعنى الموضع، وقال أبو وجزة السعدي:

«أفْرِغْ لجوف وردها أفراد *** عباهل عبهلها الـذُّوّادُ»

وأفْرَغْتُ الدماء: أرقتها.

وفَرَّغْتُه تَفْرِيْغًا: أي صببته. وتَفْرِيغُ الظروف: إخلاؤها.

ويزيد بن ربيعة بن مُفَرِّغٍ الحميري الشاعر، وقيل له مُفَرِّغ لأنه راهن على أن يشرب عسًا من لبن ففَرَّغَه شربا. وقال ابن الكلبي في نسب حمير: هو يزيد بن زياد بن ربيعة مُفَرِّغ، وكان حليفًا لآل خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، قال: وله اليوم عَقِبٌ بالبصرة.

وقرأ الحسن البصري وأبو رجاءٍ والنخعي وعمران بن جرير: (حتى إذا فُرِّغَ عن قلوبهم).

والمُسْتفرِغَةُ من الإبل: الغزيرة.

والإسْتِفْرَاغُ في اصطلاح الأطباء: تكلف القيىء.

واسْتَفْرَغَ فلان مجهوده: إذا لم يبق من جهده وطاقته شيئًا. وفرس مُسْتَفْرغٌ: لا يدخر من حُضْرِه شيئًا.

وافْتَرَغْتُ: أي صببت على نفسي. وافْتَرَغْتُ من المزادة لنفسي ماء: إذا اصطَبَبْتَه.

وتَفَرَّغَ: تخلى من الشغل، ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: تَفَرَّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم.

والتركيب يدل على خُلُو ذرعٍ.

العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م


18-القاموس المحيط (سقط)

سَقَطَ سُقوطًا ومَسْقَطًا: وَقَعَ،

كاسَّاقَطَ، فهو ساقِطٌ وسَقوطٌ. والموضِعُ: كمَقْعَدٍ ومَنْزِلٍ،

وـ الوَلَدُ من بَطْنِ أمه: خَرَجَ، ولا يقالُ: وَقَعَ،

وـ الحَرُّ: أقَبَلَ، ونَزَلَ،

وـ عَنَّا: أقْلَعَ، ضِدٌّ،

وـ في كَلامِهِ: أخْطأ،

وـ القومُ إليَّ: نَزَلُوا. وهذا مَسْقَطَةٌ له من أعْيُنِ الناسِ.

ومَسْقَطُ الرأسِ: المَوْلِدُ.

وتَساقَطَ: تَتَابَعَ سُقوطُه.

وساقَطَه مُساقَطةً وسِقاطًا: تابَعَ إسْقاطَه.

والسَّقْطُ، مُثَلَّثَةً: الوَلَدُ لغيرِ تَمامٍ، وقد أسْقَطَتْهُ أمُّه، وهي مُسْقِطٌ.

ومُعْتادَتُه: مِسْقاطٌ، وما سَقَطَ بين الزَّنْدَيْنِ قَبْلَ استِحكامِ الوَرْيِ، ويُؤَنَّثُ، وحيثُ انْقَطَعَ مُعْظَمُ الرَّمْلِ ورَقَّ،

كمَسْقَطِهِ، وبالفتح: الثَّلْجُ، وما يَسْقُطُ من النَّدَى، ومن لا يُعَدُّ في خِيارِ الفِتْيانِ،

كالساقِطِ، وبالكسر: ناحيةُ الخِباءِ، وجَناحُ الطائرِ،

كسِقاطِه، بالكسر،

ومَسْقَطِه، كمَقْعَدِه، وطَرَفُ السحابِ، وبالتحريك: ما أُسْقِطَ من الشيءِ، وما لا خيرَ فيه

ج: أسْقاطٌ، والفضِيحةُ، ورَدِيءُ المَتاعِ، وبائعُه:

السَّقَّاطُ والسَّقَطِيُّ، والخَطَأ في الحِسابِ والقولِ، وفي الكِتابِ،

كالسِّقاطِ، بالكسر.

والسُّقاطةُ والسُّقاطُ، بضمهما: ما سَقَطَ من الشيء.

وسُقِطَ في يدِه،

وأُسْقِطَ، مضمومتينِ: زَلَّ، وأخْطأ، ونَدِمَ، وتَحَيَّرَ.

والسَّقيطُ: الناقِصُ العقْلِ،

كالسَّقيطةِ، والبَرَدُ، والجَليدُ،

وما سَقَطَ من النَّدَى على الأرضِ.

وما أسْقَطَ كلمةً،

وـ فيها: ما أخْطأ.

وأسْقَطَه: عالَجَه على أن يَسْقُطَ، فَيُخْطِئَ أو يَكْذبَ أو يَبوحَ بما عندَه،

كتَسَقَّطَه.

والسَّواقِطُ: الذينَ يَرِدونَ اليمامةَ لامْتِيارِ التَّمْرِ. وككتابٍ: ما يَحْمِلونَه من التَّمْرِ.

والساقِطُ: المُتَأخِّرُ عن الرِّجالِ.

وساقطَ الشيءَ مُسَاقَطَةً وسِقاطًا: أسْقَطَه، أو تابَعَ إسْقاطَه،

وـ الفرسُ العَدْوَ سِقاطًا: جاءَ مُسْتَرْخِيًا،

وـ فلانٌ فلانًا الحديث: سَقَطَ من كُلٍّ على الآخَرِ، بأَن يَتَحَدَّثَ الواحدُ ويُنْصِتَ الآخَرُ، فإذا سَكَتَ، تَحَدَّثَ الساكِتُ.

وكشدَّادٍ وسَحابٍ: السيفُ يَسْقُطُ وراءَ الضَّريبةِ، ويَقْطَعُها حتى يَجوزَ إلى الأرضِ، أو يَقْطَعَ الضَّريبةَ ويَصِلَ إلى ما بعدَها. وككِتابٍ: ما سَقَطَ من النَّخْلِ من البُسْرِ، والعَثْرَةُ، والزَّلَّةُ، أو هي جَمْعُ سَقْطةٍ، أو هُما بمَعْنًى.

وكمَقْعَدٍ: د بساحِلِ بَحْرِ عُمانَ، ورُسْتاقٌ بساحلِ بحرِ الخَزَرِ، ووادٍ بين البَصْرَةِ والنِّباجِ.

وتَسَقَّطَ الخَبَرَ: أخَذَه قليلًا قليلًا،

وـ فلانًا: طَلَبَ سَقَطَه.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


19-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (سمك)

(سمك) - في حديث ابن عمر: "أنه نظر فإذا هو بالسِّماك فقال: قد دَنَا طُلوعُ الفَجْر، فأوتَر بركْعَةٍ".

قال الحربي: إنما يكون هذا في أول تَشْرين الأول، لأنَّ السِّماك يَطلُعُ في عشرين منه مع الفَجْر فيمكث، يطَلعُ مع الفَجْر عَشْر ليال وخَمسَ عَشْرة ليلة مع الصَّبَا، [والسِّماك]، ثم يتقدم طُلوعه فَيُرى في كل درجة عَشْرًا أو خَمْسَ عَشْرة حتى يُرَى مع المَغْرب وهما سماكان: السِّماكُ الرامحُ: وهو الذي يتوسَّط الفَلَك، والسِّماكُ الأَعزلُ أَسفلَ منه، مِمّا يلى القِبْلة، وهو كوكب أَزْهَر، ويقال لسُقوطه بالغَداة نَوْءُ لَيلة: أي ما كان فيه من مطر نُسِب إليه، وله بَارِحُ لَيلة: أي ما كان من ريح فمنسوب إليه. وأكثر العرب يُعجِبهم المطَرُ بنَوءِ السِّماكِ ويستَحِبُّونه ويَسْتَسْقُون به، وكَرِهَه بعضُهم لا للمطر ولكن لِما

ينبُت عنه من المَرْعى، لأن نَوْءه يَجِىءُ وقد هاجَت الأَرضُ: أي يَبِس نَباتُها إلا أن في عِرْقِه بقيةً من النَّدَى، فيُصِيب المَطرُ العِرقَ، فينبت فيه الرُّطْبُ، فيَتَّصِل بالنَّبتِ القديم فتَأكُلهُ الماشيةُ، وذلك السُّمُّ، ويصيب الماشيةَ منه السُّهَامُ؛ وهو داء يصيب الإبل، لأن سقوطه في سبعٍ من نَيْسان.

وسُمِّى السِّماكَان بارتفاعهما، وسَمَك الله السماءَ: رفعها.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


20-المعجم الاشتقاقي المؤصل (ردأ)

(ردأ): {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص: 34]

ردأ الحائط ببناء: أَلْزقه به. دَعَمه بخَشَب أو كَبْش يدفعه (خشية) أن يسقط.

° المعنى المحوري

دفع المرتفع الذي يُخْشَى سقوطه (من جانبه) بقوة تجعله يتماسك ويتجمع (لا يتفكك) كما في ردْء الحائط. ومنه "الردء -بالكسر: العون والناصر (لأنه يُسْند صاحبه)، وردأت فلانًا بكذا وكذا: جعلته له قوة وعمادًا كالحائط تردَؤُه (ببناء تُلزِقه به)، وأردأته أي ردأته وصرت له رِدءًا أي معينًا. {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} والرِدْءُ كذلك: العِدْل "-بالكسر فيهما. (يُسْنِد العِدْلَ المقابل لئلا يسقط) ومنه "رَدَأه بحجر: رماه به وكذا رَدَاه (دفعه نحوه فأثبته أي أعجزه عن الحركة أو الهرب مثلًا).

ومنه "الرديء: المنكر المكروه (يُدْفَع لرداءته كقولهم "بضاعة مزجاة ". ردؤ الشيء (كرم): فسد. وأردأته: أفسدته، وأردأ الرجلُ: أتى شَيئًا رديئًا أو أصابه ". فهذا تفسير ما زعمه ابن فارس من تباين شديد فقد ظهرَ أن الأصل واحد لا تباين فيه.

أما "أردأ الرجل على الستين: زاد عليها، وأردأ الأمرُ على غيره: أرْبَى "، فهو من معنى الدعم في الأصل، لأن المعنى هنا هو من باب التمكين في السن والقَدْر فحسب، فالذي أَرْبىَ على الستين يكون في الحادية أو الثانية والستين لا في الخامسة أو السابعة والستين.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


21-المعجم الاشتقاقي المؤصل (سجر)

(سجر): {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6]

الساجر: الموضع الذي يمر به السيل/ يأتي عليه السيل/ فيملؤه. سُجرت الثِماد: مُلِئَتْ من المطر. بئر سَجْر - بالفتح: ممتلئة. والمسجور: المملوء. غدير أسجر: يضرب ماؤه إلى الحمرة وذلك إذا كان حديث عهد بالسماء قبل أن يصفو.. وقيل سُجرة الماء كدرته وهو من ذلك. سَجَرْت الماءَ في حَلْقه: صببته. المسجور: اللبن الذي ماؤه أكثر من لبنه. شَعْر مُنْسَجِر ومسجور: مسترسل. اللؤلؤ المسجور المنظوم المسترسل. انْسَجَرت الإبلُ في السير: تتابعت. السَجْر: ضرب من سير الإبل بين الخَبَب والهَمْلجة.

° المعنى المحوري

توالي انحدار المائع ونحوه إلى الحيّز حتى يتجمع فيه ويمتلئ الحيّز به - كما يملأ السيل الموضع، والمطرُ الثِمادَ (الثِمادُ حُفَر أو ركايا تحفر في الأماكن التي يمر بها ماء المطر ليتجمع فيها الماء ويتخزن). والأصل في الساجر والثماد المذكورة أنها تمتلئ بتوالي انحدار الماء فيها. وكتوالي صب الماء في اللبن حتى يصير أكثر منه، وصب الماء في الحلق يكون شيئًا بعد شيء أي متواليًا، وكانحدار الشعر المسترسل، وتوالي نظم اللؤلؤ في سلكه، وتوالي سير الإبل بسرعة اندفاعًا كالانحدار.

هذا، وتوالي نظم انحدار المائع قد يتأتى منه فراغ مصدره كما يتأتى منه امتلاء مورده. ومن ذلك قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] فهذا معناه المملوء [قر 17/ 58] لأن الإقسام هنا بواقع وهو البحر، وهو مملوء فعلًا، فلا يتأتى أن يفسّر هنا بالفارغ حسب ما في [ل]، كما أنهم لم يوردوا شاهدًا لمعنى

الفراغ هذا. وقوله تعالى: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 72] معناه يطرحون فيها وَقُودًا لها [قر 15/ 333] أي تسجر بهم، وهذا من قولهم "سجر التنُّورَ: أوقده وأحماه، وقيل أشبع وقوده. والسَجُور - كصبور: ما أوقد به "فتوالي إمداد النار بوقودها من باب توالي (الانحدار) إلى الحيز والتجمع فيه. أما قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] فمعناه ملئت وفاضت.. وقيل صارت بحرًا واحدًا من الحميم من سجرت التنور، أو فُجّر بعضها في بعض واختلط الملح بالعذب. [قر 19/ 230 والكشاف 3/ 325] وكل جائز لغويًّا - من حيث إن التفجير يؤدي إلى اندفاع الماء بانحداره إلى الأعمق واحتباسه فيه. والتفجير من قولهم "سَجَّر هذا الماء أي فجّره حيث تريد "فتفجير المائع المحتبس يلزمه توالي خروجه كالمنحدر إلى حيّز آخر. وكأن أصل هذا المعنى من إصابة الممتليء. فهو من المعنى المحوري. ولا أستريح إلى تفسير (سُجّرت) بـ (ذهب ماؤها) كما في [ل]. أو (تيبس فلا يبقى من مائها قطرة) قول في [قر 19/ 230].

وقد قالوا "لؤلؤ مسجور إذا انتثر من نظامه ". المقصود سقوطه من خيط نظمه انحدارًا متواليًا كما في قوله:

كاللؤلؤ المنثور أُغفِلَ في... سِلك النظام فخانه النظمُ

قال "أي كأن عيني أصابتها طَرْفة، فسالت دموعها منحدرة كدُرًّ في سلك انقطع، فتحدر دُرّه "فهو من الانحدار في المعنى المحوري، ولا شاهد فيه لتفسيره (سُجِّرت) بـ (ذهب ماؤها).

ومن الاستعمالات المادية للتركيب "سَجَر الكلبَ: طوّقه بالساجور، وهو طوق من حديد مسمّر بمسامير حديدة الأطراف " [الأساس] فهذا حبس

كالجمع والامتلاء. وقالوا "عين سَجْراء وهي التي خالط بياضَها حمرة "قالوا إن هذا مُشَبّه بالغدير الأسجر، لكنه يتأتى أيضًا من الأصل مباشرة لاجتماع الحمرة والبياض في العين. وقالوا "سَجَرت الناقة (قعد): حَنَّت فطرّبت في إِثْر ولدها ومدّتْ حنينها "فهذا من الامتلاء بالحنين، كما أن الحنين انجذاب كالانحدار، أو أن الملحظ هو امتداد الصوت. وأخيرًا قالوا "سجير الرجل: خليله، وساجَرَه: صاحَبه وصافاه "فهذه المصاحبة من التجمع في المعنى المحوري.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


22-المعجم المفصل في النحو العربي (ملاحظات)

ملاحظات

يعرب المضاف بحسب مقتضيات الجملة ويكون دائما مضافا إلى ما بعده. والاسم الذي بعده يكون دائما مجرورا بالإضافة إليه. فالمضاف هو إذن عامل الجرّ في المضاف إليه.

2 ـ تحذف من المضاف نون المثنى ونون الجمع المذكّر السّالم ونون ملحقاتهما، مثل: «يقام كلّ سنة احتفال يضم مؤلّفي الكتب التّراثيّة» «مؤلفي» مفعول به لفعل «يضمّ» منصوب بالياء لأنه جمع مذكّر سالم وحذفت منه «النّون» للإضافة وهو مضاف «الكتب»: مضاف إليه.

ومثل: «مؤلّفو الكتب التراثيّة قليلون» «مؤلّفو»: مبتدأ مرفوع بالواو لأنه جمع مذكّر سالم وهو مضاف. وحذفت منه «النّون» للإضافة «الكتب» مضاف إليه ومثل: «حضر مؤلّفا كتب اللغة إلى مدرستهما» «مؤلفا» فاعل مرفوع بالألف لأنه مثنّى وحذفت منه «النّون» للإضافة وهو مضاف «كتب»: مضاف إليه.

3 ـ تحذف من المضاف «أل» التّعريف إلّا إذا كان المضاف مثنى، وفي الإضافة اللّفظية، والمضاف إليه مقرون بها أيضا، مثل قول الشاعر:

«ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر***للحرب دائرة على ابني ضمضم»

«الشاتمي عرضي ولم أشتمهما***والنّاذرين إذا لم ألقهما دمي»

«الشاتمي» نعت للاسم في البيت السابق وهو «ابني» مجرور بالياء لأنه مثنّى وحذفت منه «النّون» للإضافة «عرضي» مضاف إليه مفعول به لاسم الفاعل. ولم تحذف «أل» من المضاف في الإضافة اللفظيّة لأنّه مثّنى.

4 ـ لا تحذف «أل» من المضاف جمع المذكر السّالم أو العدد، مثل: «أقبل الراكبو السيّارة للسّفر» «الرّاكبو» فاعل مرفوع «بالواو» لأنه جمع مذكّر سالم وحذفت منه النون للإضافة و «السيّارة» مضاف إليه. لم تحذف «أل» من المضاف جمع المذكّر السالم ومثل: «طالعت الخمسة الكتب» «الخمسة»: مفعول به منصوب وهو مضاف.

«الكتب»: مضاف إليه. ولم تحذف «أل» من المضاف لأنه من العدد. ويشترط بعض النّحاة في اقتران العدد المضاف بـ «أل» كون المضاف إليه هو المميّز.

5 ـ قد تحذف تاء التّأنيث من آخر المضاف كقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ} والتّقدير: وإقامة الصّلاة.

6 ـ قد يتعرّف المضاف بالمضاف إليه إذا كان معرفة، مثل: «جاء غلام زيد» وقد يتخصّص المضاف بالمضاف إليه إذا كان المضاف إليه نكرة مثل: «رأيت غلام رجل».

7 ـ إذا أضيف المضاف العلم إلى نكرة تنكر، مثل: «جاء زيد رجل».

8 ـ يستفيد المضاف من المضاف إليه وجوب التّصدير، إذا كان المضاف إليه مما له حقّ الصّدارة لذلك يجب تصدير المبتدأ، في مثل: «رسالة من أرسلتها؟» والخبر في مثل: «صباح أي يوم امتحانك؟» والمفعول به في مثل: «رسالة من أرسلت؟».

9 ـ قد يكتسب المضاف المذكّر تأنيثا من المضاف إليه المؤنّث، بشرط أن يكون المضاف صالحا للاستغناء عنه عند سقوطه بالمضاف إليه، مثل: «جاءت بعض الفتيات» وكقول الشاعر: «لما أتى خبر الزّبير تواضعت ***سور المدينة والجبال الخشّع»

«سور» فاعل «تواضعت». «المدينة» مضاف إليه. اكتسب المضاف «سور» التأنيث من المضاف إليه «المدينة» بدليل تأنيث الفعل «تواضعت».

10 ـ قد يكتسب المضاف المؤنّث، من المضاف إليه المذكر، تذكيرا، كقول الشاعر:

«إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ***وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا»

«إنارة» مبتدأ مرفوع بالضّمّة وهو مضاف «العقل»: مضاف إليه. اكتسب المضاف «إنارة» التّذكير من المضاف إليه المذكّر، بدليل عود الضمير المذكّر في «مكسوف»، إليه.

11 ـ قد يكتسب المضاف الجمعية من المضاف إليه، كقول الشاعر:

«وما حبّ الدّيار شغفن قلبي ***ولكن حبّ من سكن الدّيارا»

«حبّ» مبتدأ مرفوع وهو مضاف «الدّيار» مضاف إليه وهو جمع تكسير يعامل إما معاملة المفرد المؤنث أو جمع المؤنث. فاكتسب «حب» المذكّر منه الجمع والتأنيث بدليل اقتران الفعل «شغفن» بنون الإناث.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


23-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (مجاز الزيادة)

مجاز الزّيادة:

وهو المجاز الذي يكون بزيادة، وحكمه كحكم مجاز الحذف أي ليست كل زيادة تعدّ مجازا. وقد أوضح عبد القاهر ذلك بقوله: «واذا صحّ امتناع أن يكون مجرد الحذف مجازا او تحقّ صفة باقي الكلام بالمجاز من أجل حذف كان على الإطلاق دون أن يحدث هناك بسبب ذلك الحكم تغيّر حكم على وجه من الوجوه، علمت منه أنّ الزيادة في هذه القضية كالحذف فلا يجوز أن يقال إن زيادة «ما» في نحو: {فَبِما رَحْمَةٍ} مجاز، أو أنّ جملة الكلام تصير مجازا من أجل زيادته فيه، وذلك أنّ حقيقة الزيادة في الكلمة أن تعرى من معناها وتذكر ولا فائدة لها سوى الصلة ويكون سقوطها وثبوتها سواء.

ومحال أن يكون ذلك مجازا لأنّ المجاز أن يراد بالكلمة غير ما وضعت له في الأصل أو يزاد فيها أو يوهم شيء ليس من شأنها كايهامك بظاهر النصب في القرية أنّ السؤال واقع عليها، والزائد الذي سقوطه كثبوته لا يتصور فيه ذلك. فأما غير الزائد من أجزاء الكلام الذي زيد فيه فيجب أن ينظر فيه، فان حدث هناك بسبب ذلك الزائد حكم تزول به الكلمة عن أصلها جاز حينئذ أن يوصف ذلك الحكم أو ما وقع فيه بأنّه مجاز كقولك في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إنّ الجر في «المثل» مجاز لأنّ أصله النصب، والجر حكم عرض من أجل زيادة الكاف ولو كانوا إذ جعلوا الكاف مزيدة لم يعملوها لما كان لحديث المجاز سبيل على هذا الكلام. ويزيده وضوحا أنّ الزيادة على الاطلاق لو كانت تستحق الوصف بأنّها مجاز لكان ينبغي أن يكون كل ما ليس بمزيد من الكلام مستحقا الوصف بأنّه حقيقة حتى يكون الأسد في قولك: «رأيت أسدا» وأنت تريد رجلا حقيقة».

ونقل الرازي هذا الكلام وتبعهما في ذلك البلاغيون.

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


24-موسوعة الفقه الكويتية (إبراء 3)

إِبْرَاء -3

التَّعْلِيقُ وَالتَّقْيِيدُ وَالْإِضَافَةُ فِي الْإِبْرَاءِ:

47- مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ التَّعْلِيقَ هُوَ رَبْطُ وُجُودِ الشَّيْءِ بِوُجُودِ غَيْرِهِ، فَهُوَ مَانِعٌ لِلِانْعِقَادِ مَا لَمْ يَحْصُلِ الشَّرْطُ.

أَمَّا التَّقْيِيدُ فَلَا صِلَةَ لَهُ بِالِانْعِقَادِ، بَلْ هُوَ لِتَعْدِيلِ آثَارِ الْعَقْدِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيُسَمَّى الِاقْتِرَانَ بِالشَّرْطِ. وَأَمَّا الْإِضَافَةُ فَهِيَ لِتَأْخِيرِ بَدْءِ الْحُكْمِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ.

وَقَدْ جَاءَتْ بَعْضُ الصُّوَرِ الْمُتَشَابِهَةِ مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهَا بِسَبَبِ اعْتِبَارِهَا تَعْلِيقًا أَوْ تَقْيِيدًا لِلتَّجَوُّزِ فِي تَسْمِيَتِهَا عَلَى الْحَالَيْنِ تَعْلِيقًا عَلَى الشَّرْطِ نَظَرًا لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِيهِمَا.

أ- التَّعْلِيقُ عَلَى شَرْطٍ:

48- تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ إِنْ كَانَ عَلَى شَرْطٍ كَائِنٍ بِالْفِعْلِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُنَجَّزِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْتِ فَهُوَ كَالْإِضَافَةِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَسَيَأْتِي حُكْمُهَا. وَإِنْ كَانَ عَلَى شَرْطٍ مُلَائِمٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ كَانَ لِي عَلَيْكَ دَيْنٌ، أَوْ: إِنْ مِتُّ فَأَنْتَ بَرِيءٌ، فَهَذَا جَائِزٌ اتِّفَاقًا. وَقَدِ احْتُجَّ لِجَوَازِهِ بِأَنَّ أَبَا الْيُسْرِ الصَّحَابِيَّ قَالَ لِغَرِيمِهِ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِ، وَإِلاَّ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ، وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَهَذَا مُتَّجِهٌ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا (يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ).

وَأَمَّا التَّعْلِيقُ عَلَى شَرْطٍ مِنْ غَيْرِ مَا سَبَقَ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الْإِبْرَاءِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ آرَاءٌ:

أَحَدُهَا: عَدَمُ الْجَوَازِ وَلَوْ كَانَ الشَّرْطُ مُتَعَارَفًا عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الْمَنْصُوصَةُ عَنْ أَحْمَدَ، لِمَا فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالتَّعْلِيقُ مَشْرُوعٌ فِي الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ لَا فِي التَّمْلِيكَاتِ، فَإِنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ.

الثَّانِي: جَوَازُ التَّعْلِيقِ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مُتَعَارَفًا عَلَيْهِ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ فِي عَكْسِهِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.

الثَّالِثُ: جَوَازُ التَّعْلِيقِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لِمَا فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ.

ب- التَّقْيِيدُ بِالشَّرْطِ:

49- أَوْرَدَ الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ضَابِطًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا فِيهِ تَقْيِيدٌ بِالشَّرْطِ عَمَّا فِيهِ تَعْلِيقٌ عَلَيْهِ، مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَهُوَ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالشَّرْطِ لَا تَظْهَرُ فِيهِ صُورَةُ الشَّرْطِ (عَلَى غَيْرِ مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اسْمُهُ) فَلَا تَأْتِي فِيهِ أَدَاةُ الشَّرْطِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ: أَبْرَأْتُكَ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ كَذَا... أَمَّا التَّعْلِيقُ عَلَى الشَّرْطِ فَتُسْتَعْمَلُ فِيهِ أَدَاةُ شَرْطٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَأَنْتَ بَرِيءٌ.

وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَفِي التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ عَلَى عَرْضِيَّةِ الزَّوَالِ إِنْ لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ، وَفِي التَّعْلِيقِ: الْحُكْمُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ، وَهُوَ بِعَرْضِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْكَاسَانِيُّ بِمَا هُوَ أَوْجَزُ قَائِلًا: التَّعْلِيقُ هُوَ تَعْلِيقُ الْعَقْدِ، وَالتَّقْيِيدُ هُوَ تَعْلِيقُ الْفَسْخِ بِالشَّرْطِ.

وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى صِحَّةِ تَقْيِيدِ الْإِبْرَاءِ بِالشَّرْطِ فِي الْجُمْلَةِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَبَعًا لِتَفْصِيلِ كُلِّ مَذْهَبٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْحُكْمِ عَلَى الشَّرْطِ بِالصِّحَّةِ، عَلَى مَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي الْكَلَامِ عَنِ (الشَّرْطِ).

ج- الْإِضَافَةُ:

50- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ إِضَافَةَ الْإِبْرَاءِ (إِلَى غَيْرِ الْمَوْتِ)، وَلَوْ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، تُبْطِلُهُ. وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى تَصْرِيحٍ لِغَيْرِهِمْ بِقَبُولِ الْإِبْرَاءِ لِلْإِضَافَةِ، مَعَ إِفَادَةِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِبْرَاءِ هُوَ التَّنْجِيزُ. عَلَى أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مَنْعُ إِضَافَةِ الْإِبْرَاءِ مِنْ تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لِلْإِسْقَاطِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ لِلْوَقْتِ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي تَصْحِيحِ إِضَافَةِ الْإِبْرَاءِ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالْإِبْرَاءِ.

الْإِبْرَاءُ بِشَرْطِ أَدَاءِ الْبَعْضِ:

51- تَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: إِمَّا أَنْ تَحْصُلَ مُطْلَقَةً عَنِ الشَّرْطِ، كَأَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَقُولُ الدَّائِنُ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ نِصْفِهِ- أَوْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُ- فَأَعْطِنِي الْبَاقِيَ، فَالْإِبْرَاءُ صَحِيحٌ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ مُنَجَّزٌ غَيْرُ مُعَلَّقٍ وَلَا مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ، وَالْمُبْرِئُ مُتَطَوِّعٌ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَاسْتُدِلَّ بِالْأَحَادِيثِ فِي الْوَضْعِ عَنْ جَابِرٍ وَعَنِ الَّذِي أُصِيبَ فِي حَدِيقَتِهِ وَعَنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ حَيْثُ «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِكَعْبٍ: ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ».

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْإِبْرَاءُ عَنِ الْبَعْضِ مُعَلَّقًا عَلَى أَدَاءِ الْبَاقِي، وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُ تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْإِبْرَاءُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ أَدَاءِ الْبَاقِي، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفٌ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ، بِشَرْطِ أَنْ تُعْطِيَنِي مَا بَقِيَ.

52- وَلِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ آرَاءٌ: أَحَدُهَا: الصِّحَّةُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ الْبَعْضِ وَإِبْرَاءٌ عَنِ الْبَاقِي. وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْجَمْعَ بَيْنَ لَفْظَيِ الْإِبْرَاءِ وَالصُّلْحِ، لِيَكُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ لِقَبُولٍ؛ نَظَرًا لِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنْ لَمْ يُقَيِّدْ أَدَاءَ الْبَعْضِ الْمُعَجَّلِ بِيَوْمٍ مُعَيَّنٍ، بَرِئَ أَعْطَاهُ الْبَاقِيَ أَوْ لَمْ يُعْطِ، وَإِنْ قَيَّدَ أَدَاءَ الْبَعْضِ الْمُعَجَّلِ بِيَوْمٍ، قَائِلًا لَهُ: إِنْ لَمْ تَنْقُدْنِي فِيهِ فَالْمَالُ عَلَى حَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُدْهُ، لَمْ يَبْرَأْ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ وَاكْتَفَى بِتَحْدِيدِ الْيَوْمِ، فَفِيهِ خِلَافٌ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ قَالَهَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: حُكْمُهُ كَالْأَوَّلِ الْمُطْلَقِ عَنِ التَّحْدِيدِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطِ أَدَاءِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ إِلاَّ لِيُوَفِّيَهُ بَقِيَّتَهُ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ بَعْضَ حَقِّهِ بِبَعْضٍ.

هَذَا كُلُّهُ إِنْ كَانَ الشَّرْطُ أَدَاءَ الْبَاقِي، أَمَّا إِنْ أَبْرَأَهُ عَنِ الْبَعْضِ بِشَرْطِ تَعْجِيلِ الْبَاقِي فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنْ عَجَّلَ ذَلِكَ الْبَعْضَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَأَبْرَأَهُ مِمَّا بَقِيَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ.

الْإِبْرَاءُ بِعِوَضٍ:

53- تَعَرَّضَ الشَّافِعِيَّةُ لِمَسْأَلَةِ بَذْلِ الْعِوَضِ عَلَى الْإِبْرَاءِ، فَذَهَبُوا إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، كَأَنْ يُعْطِيَهُ ثَوْبًا مَثَلًا فِي مُقَابَلَةِ الْإِبْرَاءِ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَمْلِكُ الدَّائِنُ الْعِوَضَ الْمَبْذُولَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ، وَيَبْرَأُ الْمَدِينُ.

وَقَالُوا: أَمَّا لَوْ أَعْطَاهُ بَعْضَ الدَّيْنِ عَلَى أَنْ يُبْرِئَهُ مِنَ الْبَاقِي، فَلَيْسَ مِنَ التَّعْوِيضِ فِي شَيْءٍ، بَلْ مَا قَبَضَهُ بَعْضُ حَقِّهِ، وَالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ، لَكِنَّهُمْ صَوَّرُوا وُقُوعَ ذَلِكَ بِالْمُوَاطَأَةِ مِنْهُمَا قَبْلَ الْعَقْدِ، ثُمَّ دَفْعُ ذَلِكَ قَبْلَ الْبَرَاءَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَلَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا، فَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ بِالْبُطْلَانِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُخَرِّجُونَ مَسْأَلَةَ الْإِبْرَاءِ عَلَى عِوَضٍ، عَلَى أَنَّهَا صُلْحٌ بِمَالٍ. وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى رَأْيِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ مَا جَاءَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ بِأَدَاءِ بَعْضِهِ يُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُهَا إِذَا كَانَ الْعِوَضُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهِيَ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.

الرُّجُوعُ عَنِ الْإِبْرَاءِ:

54- قَدْ يَرْجِعُ الْمُبْرِئُ عَنِ الْإِبْرَاءِ بَعْدَ صُدُورِ الْإِيجَابِ فَقَطْ، أَوْ بَعْدَهُ وَبَعْدَ الْقَبُولِ وَعَدَمِ الرَّدِّ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ. فَفِي أَثَرِ هَذَا الْعُدُولِ رَأْيَانِ لِلْفُقَهَاءِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ رُجُوعِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مَا كَانَ لَهُ سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ، وَلَا بَقَاءَ لِلدَّيْنِ بَعْدَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَهَبَهُ شَيْئًا فَتَلِفَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُ فِيهِ الرُّجُوعُ، وَذَلِكَ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى التَّمْلِيكِ فِي الْإِبْرَاءِ وَاشْتِرَاطِ الْقَبُولِ لَهُ، حَيْثُ إِنَّ لِلْمُوجِبِ فِي عُقُودِ التَّمْلِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إِيجَابِهِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبُولُ... لَكِنَّ النَّوَوِيَّ اخْتَارَ عَدَمَ الرُّجُوعِ وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهُ تَمْلِيكٌ.

وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِالرُّجُوعِ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا تَجْرِي فِيهِ الْإِقَالَةُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ، فَيَسْقُطُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الذِّمَّةِ، وَمَتَى سَقَطَ لَا يَعُودُ، طِبْقًا لِلْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ (السَّاقِطُ لَا يَعُودُ).

بُطْلَانُ الْإِبْرَاءِ وَفَسَادُهُ:

55- الْإِبْرَاءُ إِمَّا أَنْ يَبْطُلَ أَصَالَةً لِتَخَلُّفِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ تِلْكَ الْأَرْكَانِ، وَإِمَّا أَنْ يَفْسُدَ لِاقْتِرَانِهِ بِشَرْطٍ مُفْسِدٍ، عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ. وَبَيَانُهُ فِي (الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ). وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبُطْلَانُ لِتَضَمُّنٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ ضِمْنَ عَقْدٍ فَيَرْتَبِطُ مَصِيرُهُ بِهِ، فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ الْعَقْدُ بَطَلَ الْإِبْرَاءُ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِبْرَاءُ إِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ خَاصًّا بِذَلِكَ الْعَقْدِ وَبُنِيَ عَلَيْهِ الْإِبْرَاءُ- أَوْ بِتَعْبِيرِ الشَّافِعِيَّةِ: ارْتَبَطَ بِهِ- سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْدَ بَيْعٍ أَمْ صُلْحٍ، لِمَا عُرِفَ فِي الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ: إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ، أَوْ: إِذَا بَطَلَ الْمُتَضَمِّنُ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) بَطَلَ الْمُتَضَمَّنُ (بِالْفَتْحِ).

أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ عَامًّا عَنْ كُلِّ حَقٍّ وَدَعْوَى فَلَا يَبْطُلُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ خَاصًّا لَكِنَّهُ لَمْ يُبْنَ عَلَى الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، بِأَنْ قَالَ الْمُبْرِئُ: أَبْرَأْتُهُ عَنْ تِلْكَ الدَّعْوَى إِبْرَاءً غَيْرَ دَاخِلٍ تَحْتَ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْإِبْرَاءُ بِبُطْلَانِ الصُّلْحِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.

أَثَرُ الْإِبْرَاءِ:

56- يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِبْرَاءِ الْمُسْتَوْفِي أَرْكَانَهُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ شُرُوطٍ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمَدِينِ الْمُبْرَإِ عَمَّا أُبْرِئَ مِنْهُ بِحَسَبِ الصِّيغَةِ عُمُومًا أَوْ خُصُوصًا.

وَبِذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ وَلَا يَبْقَى لِلدَّائِنِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْإِبْرَاءُ، وَذَلِكَ إِلَى حِينِ وُقُوعِهِ، دُونَ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ بِحَقٍّ مُسْتَنِدًا إِلَى نِسْيَانٍ أَوْ جَهْلٍ.

وَلَا يَقْتَصِرُ تَصْوِيرُ الْأَثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْإِبْرَاءِ بِسُقُوطِ الدَّيْنِ أَوِ الْحَقِّ وَعَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، بَلْ قَدْ يُرَافِقُ ذَلِكَ أَثَرٌ خَاصٌّ مُنَاسِبٌ لِمَوْضُوعِ الْإِبْرَاءِ. يَتَّضِحُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ التَّالِيَةِ لِمَذْهَبٍ أَوْ آخَرَ: فَفِي الرَّهْنِ مَثَلًا يَنْفَكُّ بِالْإِبْرَاءِ، وَيَسْتَرِدُّهُ الرَّاهِنُ كَمَا لَوْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، أَمَّا إِبْرَاءُ الْمُرْتَهِنِ لِلْجَانِي فَلَا أَثَرَ لَهُ، لِعَدَمِ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ، وَمَعَ هَذَا لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهُ مِنَ الْوَثِيقَةِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

هَذَا وَإِنَّ لِلْإِبْرَاءِ مِنَ الْأَثَرِ مَا لِقَبْضِ الْحَقِّ الْمُبْرَإِ مِنْهُ، فَمَثَلًا لَوْ أُحِيلَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى مَدِينٍ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ أَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ قَبْلَ الْفَسْخِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَقَبْضِهِ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ إِعَادَةُ الْمَقْبُوضِ بِسَبَبِ الْفَسْخِ، فَهُنَا لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِمِثْلِ الْمُحَالِ بِهِ الَّذِي أُبْرِئَ مِنْهُ.

57- وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْأَثَرِ التَّبَعِيِّ لِلْإِبْرَاءِ، وَهُوَ عَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَهُ، الْمَسَائِلَ التَّالِيَةَ:

1- ادِّعَاءُ ضَمَانِ الدَّرَكِ فِي الْبَيْعِ السَّابِقِ لِلْإِبْرَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِبْرَاءِ وَمَشْمُولًا بِأَثَرِهِ، فَإِنَّ ضَمَانَ الدَّرَكِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ.

2- ظُهُورُ شَيْءٍ مِنَ الْحُقُوقِ لِلْقَاصِرِ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ، فَأَبْرَأَ وَصِيَّهُ إِبْرَاءً عَامًّا بِأَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ تَرِكَةَ وَالِدِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ مِنْهَا إِلاَّ اسْتَوْفَاهُ، فَإِنِ ادَّعَى فِي يَدِ الْوَصِيِّ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ وَبَرْهَنَ يُقْبَلُ.

3- ادِّعَاءُ الْوَصِيِّ عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا لِلْمَيِّتِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَا لَهُ عَلَى النَّاسِ.

4- ادِّعَاءُ الْوَارِثِ عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا لِلْمُوَرِّثِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ عَلَى النَّحْوِ السَّابِقِ.

وَوَجْهُ اسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّ مَوْضُوعَ الْإِبْرَاءِ فِيهَا قَدِ اكْتَنَفَهُ خَفَاءٌ يُعْذَرُ بِهِ الْمُبْرِئُ فِي دَعْوَاهُ مَعَ صُدُورِ الْإِبْرَاءِ الْعَامِّ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الصُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ هُمَا مِنْ إِبْرَاءِ الِاسْتِيفَاءِ؛ أَيِ الْإِقْرَارِ بِالْبَرَاءَةِ.

58- هَذَا، وَأَنَّ سُقُوطَ الْمُبْرَإِ مِنْهُ- كَأَثَرٍ لِلْإِبْرَاءِ- إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَضَاءِ، أَيْ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا الْأَثَرُ الْأُخْرَوِيُّ، أَيْ فِي الدِّيَانَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ فِي سُقُوطِهِ، فَقِيلَ: تَسْقُطُ بِهِ الدَّعْوَى قَضَاءً لَا دِيَانَةً، وَقِيلَ: تَسْقُطُ دِيَانَةً أَيْضًا، فَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ فِي الصُّلْحِ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ إِنَّمَا يَبْرَأُ عَنْ بَاقِيهِ فِي الْحُكْمِ لَا فِي الدِّيَانَةِ، فَلَوْ ظَفِرَ بِهِ أَخَذَهُ. وَأَنَّهُ فِي الْإِبْرَاءِ الْعَامِّ مَعَ جَهْلِ الْمُبْرَإِ مِنْهُ يَبْرَأُ مِنَ الْكُلِّ قَضَاءً، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَبْرَأُ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يَظُنُّ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ فِي الْأَثَرِ الْأُخْرَوِيِّ لِلْإِبْرَاءِ مَعَ الْإِنْكَارِ.

أَوَّلُهُمَا: وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَيْضًا فِي اسْتِحْلَالِ الْغَاصِبِ: أَنَّهُ يَبْرَأُ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِحَقٍّ جَحَدَهُ وَأَبْرَأَهُ صَاحِبُهُ مِنْهُ. وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الِاتِّجَاهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ (الَّذِي لَمْ يُصَحِّحُوهُ) مِنْ أَنَّهُ يَبْرَأُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْمُبْرِئَ رَاضٍ بِذَلِكَ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ: لَا تَسْقُطُ عَنْهُ مُطَالَبَةُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ بِحَقِّ خَصْمِهِ.

سَمَاعُ الدَّعْوَى بَعْدَ الْإِبْرَاءِ الْعَامِّ:

59- سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْأَثَرَ التَّبَعِيَّ لِلْإِبْرَاءِ هُوَ مَنْعُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ التَّفْصِيلَ التَّالِيَ الَّذِي لَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِهِمْ عَلَى مِثْلِهِ: إِنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ الْعَامُّ عَنِ الدَّيْنِ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بَعْدَهُ إِلاَّ عَنْ دَيْنٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ عَنْ عَيْنٍ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بَعْدَهُ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْكِرًا كَوْنَ الْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِالْإِبْرَاءِ بَلْ بِالْإِنْكَارِ، فَيَكُونُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمُدَّعِي مُوَافَقَةً عَلَى ذَلِكَ الْإِنْكَارِ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا بِأَنَّ الْعَيْنَ لِلْمُدَّعِي، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِالْإِبْرَاءِ الصَّادِرِ عَنْهُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِهَا بَعْدَ الْإِبْرَاءِ عَنْهَا. (أَمَّا إِنْ كَانَتْ هَالِكَةً فَهُوَ إِبْرَاءٌ عَنْ ضَمَانِهَا، وَذَلِكَ كَالدَّيْنِ، فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِهِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ).

أَثَرُ الْإِقْرَارِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ:

60- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ- عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ- إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَبْرَأَ الْمُدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرَ مِنَ الدَّيْنِ إِبْرَاءً عَامًّا، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُبْرَأُ بِالدَّيْنِ لِلْمُدَّعِي، لَمْ يُعْتَبَرِ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ.

وَهُنَاكَ اتِّجَاهٌ ثَانٍ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي أَفْتَى بِهِ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ وَأَخُوهُ الشَّمْسُ اللَّقَانِيُّ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إِقْرَارٍ جَدِيدٍ.

وَاسْتَثْنَى ابْنُ نُجَيْمٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَقَرَّ لِزَوْجَتِهِ بِمَهْرِهَا بَعْدَ هِبَتِهَا إِيَّاهُ لَهُ، عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ، فَيُجْعَلُ زِيَادَةً إِنْ قَبِلَتْ، وَالْأَشْبَهُ خِلَافُهُ لِعَدَمِ قَصْدِ الزِّيَادَةِ. وَيَخْتَلِفُ أَثَرُ الْإِقْرَارِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْعَيْنِ فِيهَا لَوْ أَقَرَّ الْمُبْرَأُ لِلْمُبْرِئِ بِالْعَيْنِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ، سَلَّمَهَا إِلَيْهِ وَلَا يَمْنَعُ الْإِبْرَاءُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى لِلْمُبْرِئِ تَصْحِيحًا لِلْإِقْرَارِ، لِتَجَدُّدِ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


25-موسوعة الفقه الكويتية (إجبار)

إِجْبَار

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِجْبَارُ لُغَةً: الْقَهْرُ وَالْإِكْرَاهُ. يُقَالُ: أَجْبَرْتُهُ عَلَى كَذَا: حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ قَهْرًا وَغَلَبْتُهُ، فَهُوَ مُجْبَرٌ. وَفِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ: جَبَرْتُهُ جَبْرًا وَجُبُورًا، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: جَبَرْتُهُ وَأَجْبَرْتُهُ، لُغَتَانِ جَيِّدَتَانِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ: جَبَرْتُهُ عَلَى الْأَمْرِ وَأَجْبَرْتُهُ.

وَلَمْ نَقِفْ لِلْفُقَهَاءِ عَلَى تَعْرِيفٍ خَاصٍّ لِلْإِجْبَارِ. وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُمْ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ السَّابِقِ، فَمَنْ تَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الزَّوَاجِ يَمْلِكُ الِاسْتِبْدَادَ بِتَزْوِيجِ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ، وَمَنْ تَثْبُتُ لَهُ الشُّفْعَةُ يَتَمَلَّكُ الْمَشْفُوعَ فِيهِ جَبْرًا عَنِ الْمُشْتَرِي.

وَقَالُوا: إِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُجْبِرَ الْمَدِينَ الْمُمَاطِلَ عَلَى سَدَادِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ الْمَنْثُورَةِ فِي مُخْتَلَفِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2- هُنَاكَ أَلْفَاظٌ اسْتَعْمَلَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعَانِي ذَاتِ الصِّلَةِ بِلَفْظِ إِجْبَارٍ وَذَلِكَ كَالْإِكْرَاهِ وَالتَّسْخِيرِ وَالضَّغْطِ.

فَالْإِكْرَاهُ، كَمَا يُعَرِّفُهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، هُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْلَا الْحَمْلُ عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ وَيُعَرِّفُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ الْإِلْزَامُ وَالْإِجْبَارُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا، فَيُقْدِمُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الرِّضَا لِيَدْفَعَ عَنْهُ مَا هُوَ أَضَرُّ بِهِ.

وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَنَّ التَّصَرُّفَ الْمَطْلُوبَ يَقُومُ بِهِ الْمُكْرَهُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- دُونَ رِضَاهُ. وَلِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مُعْدِمًا لِلرِّضَا وَمُفْسِدًا لِلِاخْتِيَارِ أَوْ مُبْطِلًا لَهُ، فَيَبْطُلُ التَّصَرُّفُ، أَوْ يَثْبُتُ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ حَقُّ الْخِيَارِ، عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْضِعُ بَيَانِهِ مُصْطَلَحُ «إِكْرَاه».

3- وَالتَّسْخِيرُ لُغَةً:

اسْتِعْمَالُ الشَّخْصِ غَيْرَهُ فِي عَمَلٍ بِالْمَجَّانِ. وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.

4- وَالضَّغْطُ لُغَةً: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالْإِكْرَاهُ 6. وَأَمَّا فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفِقْهِيِّ فَقَدْ قَالَ الْبُرْزُلِيُّ: سُئِلَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنِ الْمَضْغُوطِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ مَنْ أُضْغِطَ فِي بَيْعِ رُبُعِهِ أَوْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ فِي مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ ظُلْمًا فَبَاعَ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَضْغُوطَ هُوَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ ظُلْمًا فَبَاعَ لِذَلِكَ، فَقَطْ. بَيْنَمَا الْإِجْبَارُ أَعَمُّ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ. إِذْ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَيَتَضَمَّنُ الْإِكْرَاهَ وَالتَّسْخِيرَ وَالضَّغْطَ، وَقَدْ يَكُونُ الْإِجْبَارُ مَشْرُوعًا بَلْ مَطْلُوبًا، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِهِ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، وَلَا أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ بِفِعْلِ الشَّخْصِ الْمُجْبَرِ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- وَإِنَّمَا قَدْ يَكُونُ أَيْضًا بِفِعْلِ الْمُجْبِرِ- بِكَسْرِ الْبَاءِ- أَوْ قَوْلِهِ، كَمَا فِي تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ الْمُجْبِرِ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ إِجْبَارٍ كَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، وَكَمَا فِي نَزْعِ الْمِلْكِيَّةِ جَبْرًا عَنِ الْمَالِكِ لِلْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ. وَقَدْ يَكُونُ تِلْقَائِيًّا دُونَ تَلَفُّظٍ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ طَلَبٍ كَمَا فِي الْمُقَاصَّةِ الْجَبْرِيَّةِ الَّتِي يَقُولُ بِهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ غَيْرُ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْإِجْبَارَ الْمَشْرُوعَ لَا يُؤَثِّرُ عَلَى صِحَّةِ التَّصَرُّفِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ تَسْخِيرًا بِغَيْرِ مُقَابِلٍ وَإِنَّمَا الْعِوَضُ فِيهِ قَائِمٌ، كَمَا أَنَّ الْإِجْبَارَ لَا يَقْتَصِرُ وُقُوعُهُ عَلَى الْبَيْعِ فَقَطْ كَمَا فِي الضَّغْطِ، بَلْ صُوَرُهُ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ.

صِفَةُ الْإِجْبَارِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

5- الْإِجْبَارُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا، كَإِجْبَارِ الْقَاضِي الْمَدِينَ الْمُمَاطَلَ عَلَى الْوَفَاءِ، أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، كَإِجْبَارِ ظَالِمٍ شَخْصًا عَلَى بَيْعِ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقْتَضٍ شَرْعِيٍّ.

مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِجْبَارِ:

6- قَدْ يَكُونُ الْإِجْبَارُ مِنَ الشَّارِعِ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ إِرَادَةٌ فِيهِ كَالْمِيرَاثِ، وَقَدْ يَثْبُتُ الْإِجْبَارُ مِنَ الشَّارِعِ لِأَحَدِ الْأَفْرَادِ عَلَى آخَرَ بِسَبَبٍ يُخَوِّلُ لَهُ هَذِهِ السُّلْطَةَ، كَالْقَاضِي وَوَلِيِّ الْأَمْرِ، مَنْعًا لِلظُّلْمِ وَمُرَاعَاةً لِلصَّالِحِ الْعَامِّ. وَسَنَعْرِضُ لِكَثِيرٍ مِنْ صُوَرِ هَذِهِ الْحَالَاتِ تَارِكِينَ التَّفْصِيلَ وَبَيَانَ آرَاءِ الْمَذَاهِبِ لِمَوَاضِعِهَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَمُصْطَلَحَاتِ الْمَوْسُوعَةِ.

الْإِجْبَارُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ:

7- يَثْبُتُ الْإِجْبَارُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَيَلْتَزِمُ الْأَفْرَادُ بِالتَّنْفِيذِ دِيَانَةً وَقَضَاءً كَمَا فِي أَحْكَامِ الْإِرْثِ الَّتِي هِيَ فَرِيضَةٌ مِنَ اللَّهِ أَوْصَى بِهَا، وَيَلْتَزِمُ كُلُّ وَارِثٍ بِهَا جَبْرًا عَنْهُ. وَيَثْبُتُ مِلْكُ الْوَارِثِ فِي تَرِكَةِ مُوَرِّثِهِ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ كُلٌّ مِنْهُمَا.

وَكَذَلِكَ مَا يُفْرَضُ مِنَ الْعُشُورِ وَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ مَنْ مَنَعَهَا بُخْلًا أَوْ تَهَاوُنًا تُؤْخَذُ مِنْهُ جَبْرًا. وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَى بَهَائِمِهِ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهَا أَوْ إِجَارَتِهَا أَوْ ذَبْحِ الْمَأْكُولِ مِنْهَا، فَإِنْ أَبَى فَعَلَ الْحَاكِمُ الْأَصْلَحَ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ حَيَوَانًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ. وَيَرِدُ الْجَبْرُ أَيْضًا فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ.

كَمَا قَالُوا: إِنَّ الْأُمَّ تُجْبَرُ عَلَى إِرْضَاعِ وَلَدِهِ وَحَضَانَتِهِ إِنْ تَعَيَّنَتْ لِذَلِكَ وَاقْتَضَتْهُ مَصْلَحَةُ الصَّغِيرِ، كَمَا يُجْبَرُ الْأَبُ عَلَى أَجْرِ الْحَضَانَةِ وَالرَّضَاعَةِ. وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى الرَّضَاعِ إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ، أَوِ الْفِطَامِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى الْفِطَامِ بَعْدَ حَوْلَيْنِ.

كَمَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ قَدْ يُجْبِرُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ عَلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا مَحْظُورًا لِيُزِيلَ بِهِ غُصَّةً أَوْ يَدْفَعَ مَخْمَصَةً كَيْ لَا يُلْقِيَ بِنَفْسِهِ فِي التَّهْلُكَةِ. فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ مَصْدَرُ الْإِجْبَارِ فِيهَا: الشَّرْعُ مُبَاشَرَةً، وَمَا وَلِيُّ الْأَمْرِ إِلاَّ مُنَفِّذٌ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَى تَدَخُّلِهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خِيَارٌ.

الْإِجْبَارُ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ:

8- قَدْ يَكُونُ الْإِجْبَارُ حَقًّا لِوَلِيِّ الْأَمْرِ بِتَخْوِيلٍ مِنَ الشَّارِعِ دَفْعًا لِظُلْمٍ أَوْ تَحْقِيقًا لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ مِنْ جَبْرِ الْمَدِينِ الْمُمَاطَلِ عَلَى دَفْعِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ لِلْغَيْرِ وَلَوْ بِالضَّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالسَّجْنِ، وَإِلاَّ بَاعَ عَلَيْهِ الْقَاضِي جَبْرًا. كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ خِلَافًا لِلْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَأَى جَبْرَهُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ دُونَ بَيْعِ مَالِهِ جَبْرًا عَنْهُ. وَتَفْصِيلُهُ فِي الْحَجْرِ.

كَمَا قَالُوا: إِذَا امْتَنَعَ أَرْبَابُ الْحِرَفِ الضَّرُورِيَّةِ لِلنَّاسِ، وَلَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمْ، أَجْبَرَهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ اسْتِحْسَانًا.

9- كَمَا أَنَّ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَيْضًا أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَ الْمَاءِ عَلَى بَيْعِ مَا يَفِيضُ عَنْ حَاجَتِهِ لِمَنْ بِهِ عَطَشٌ أَوْ فَقَدَ مَوْرِدَ مَائِهِ كَمَا أَثْبَتُوا لِلْغَيْرِ حَقَّ الشَّفَةِ فِي مِيَاهِ الْقَنَوَاتِ الْخَاصَّةِ وَالْعُيُونِ الْخَاصَّةِ، وَمِنْ حَقِّ النَّاسِ أَنْ يُطَالِبُوا مَالِكَ الْمَجْرَى أَوِ النَّبْعِ أَنْ يُخْرِجَ لَهُمُ الْمَاءَ لِيَسْتَوْفُوا حَقَّهُمْ مِنْهُ أَوْ يُمَكِّنَهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ لِذَلِكَ، وَإِلاَّ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ إِذَا تَعَيَّنَ هَذَا الْمَاءُ لِدَفْعِ حَاجَتِهِمْ.

ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ: أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوهُ أَهْلَهُ فَمَنَعُوهُمْ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَالُوا: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تَتَقَطَّعُ مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: هَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلَاحَ؟

10- وَلَمَّا كَانَ الِاحْتِكَارُ مَحْظُورًا لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ»، فَإِنَّ فُقَهَاءَ الْمَذَاهِبِ قَالُوا بِأَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرِينَ بِالْبَيْعِ بِسِعْرِ وَقْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا أُجْبِرُوا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ جُزَيٍّ ذَكَرَ أَنَّ فِي الْجَبْرِ خِلَافًا. وَنَقَلَ الْكَاسَانِيُّ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا أَيْضًا، لَكِنْ نَقَلَ الْمَرْغِينَانِيُّ وَغَيْرُهُ قَوْلًا اتِّفَاقِيًّا فِي الْمَذْهَبِ- هُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّ الْإِمَامَ يَبِيعُ عَلَى الْمُحْتَكِرِ جَبْرًا عَنْهُ إِذَا لَمْ يَسْتَجِبْ لِأَمْرِهِ بِالْبَيْعِ. كَمَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ إِذَا أَرَادَ تَوْلِيَةَ أَحَدٍ أَحْصَى مَا بِيَدِهِ فَمَا وَجَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ زَائِدًا عَلَى مَا كَانَ عِنْدَهُ وَمَا كَانَ يُرْزَقُ بِهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ بِجَاهِ الْوِلَايَةِ، أَخَذَهُ مِنْهُ جَبْرًا. وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ- رضي الله عنه- مَعَ عُمَّالِهِ لَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَا اكْتَسَبُوهُ فِي مُدَّةِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ، فَقَدْ شَاطَرَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا مُوسَى مَعَ عُلُوِّ مَرَاتِبِهِمَا.

11- وَيَدْخُلُ فِي الْإِجْبَارِ مِنْ قِبَلِ وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُ عُمَرَ كِبَارَ الصَّحَابَةِ مِنْ تَزَوُّجِ الْكِتَابِيَّاتِ، فَقَدْ مَنَعَهُمْ وَقَالَ: أَنَا لَا أُحَرِّمُهُ وَلَكِنِّي أَخْشَى الْإِعْرَاضَ عَنِ الزَّوَاجِ بِالْمُسْلِمَاتِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ كُلٍّ مِنْ طَلْحَةَ وَحُذَيْفَةَ وَزَوْجَتَيْهِمَا الْكِتَابِيَّتَيْنِ.

الْإِجْبَارُ مِنَ الْأَفْرَادِ

12- خَوَّلَ الشَّارِعُ بَعْضَ الْأَفْرَادِ فِي حَالَاتٍ خَاصَّةٍ سُلْطَةَ إِجْبَارِ الْغَيْرِ، كَمَا فِي الشُّفْعَةِ فَقَدْ أَثْبَتَ الشَّارِعُ لِلشَّفِيعِ حَقَّ تَمَلُّكِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ بِمَا قَامَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ ثَمَنٍ وَمُؤْنَةٍ جَبْرًا عَنْهُ. وَهُوَ حَقٌّ اخْتِيَارِيٌّ لِلشَّفِيعِ.

13- كَمَا خَوَّلَ الشَّارِعُ لِلْمُطَلِّقِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا حَقَّ مُرَاجَعَةِ مُطَلَّقَتِهِ وَلَوْ جَبْرًا عَنْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، إِذِ الرَّجْعَةُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا صَدَاقٍ وَلَا رِضَا الْمَرْأَةِ. وَهَذَا الْحَقُّ ثَبَتَ لِلرَّجُلِ مِنَ الشَّارِعِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ دُونَ نَصٍّ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّعَاقُدِ أَوِ اشْتِرَاطِهِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَ حَقِّهِ فِيهِ، عَلَى مَا بَيَّنَهُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الرَّجْعَةِ.

كَمَا أَعْطَى الشَّارِعُ الْأَبَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ كَوَكِيلِهِ وَوَصِيِّهِ حَقَّ وِلَايَةِ الْإِجْبَارِ فِي النِّكَاحِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوْطِنِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ.

14- وَفِي إِجْبَارِ الْأُمِّ عَلَى الْحَضَانَةِ إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ لَهَا تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْحَضَانَةَ حَقٌّ لِلْحَاضِنَةِ قَالَ: إِنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَيْهَا إِذَا مَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَا يُجْبَرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا حَقٌّ لَلْمَحْضُونَ نَفْسِهِ، قَالَ: إِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُجْبِرَ الْحَاضِنَةَ، عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ تَفْصِيلًا عِنْدَ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْحَضَانَةِ.

وَمِنْ هَذَا مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْمُفَوِّضَةَ- وَهِيَ الَّتِي عُقِدَ نِكَاحُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيَّنَ لَهَا مَهْرٌ- لَوْ طَالَبَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِأَنْ يُفْرَضَ لَهَا مَهْرٌ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا

15- وَقَالَ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ- وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- إِنَّ لِلزَّوْجِ إِجْبَارَ زَوْجَتِهِ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ مَمْلُوكَةً؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لَهُ، فَمَلَكَ إِجْبَارَهَا عَلَى إِزَالَةِ مَا يَمْنَعُ حَقَّهُ، وَلَهُ إِجْبَارُ زَوْجَتِهِ الْمُسْلِمَةِ الْبَالِغَةِ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَهُ إِجْبَارُهَا. وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ.

16- كَمَا قَالُوا بِالنِّسْبَةِ لِلْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَطَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْقِسْمَةَ. فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُجْبِرُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ؛ وَالْمُبَادَلَةُ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنَّ الْمَدِينَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَضَاءِ مَعَ أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، فَصَارَ مَا يُؤَدِّي بَدَلًا عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ. وَهَذَا جَبْرٌ فِي الْمُبَادَلَةِ قَصْدًا وَقَدْ جَازَ، فَلأَنْ يَجُوزَ بِلَا قَصْدٍ إِلَيْهِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَتِ الْأَعْيَانُ الْمُشْتَرَكَةُ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَا يُجْبِرُ الْقَاضِي الْمُمْتَنِعَ عَلَى قِسْمَتِهَا لِتَعَذُّرِ الْمُبَادَلَةِ، وَلَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهَا جَازَ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ.

17- وَيَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا لَا ضَرَرَ فِي قِسْمَتِهِ كَالْبُسْتَانِ وَالدَّارِ الْكَبِيرَةِ وَالدُّكَّانِ الْوَاسِعَةِ، وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَنَحْوِهَا، إِذَا طَلَبَ الشَّرِيكُ قِسْمَتَهُ أُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَيْهَا. وَالضَّرَرُ الْمَانِعُ مِنْ قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ نَقَصَ قِيمَةُ الْمَقْسُومِ بِهَا، وَقِيلَ: عَدَمُ النَّفْعِ بِهِ مَقْسُومًا. وَإِنْ تَضَرَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَحْدَهُ وَطَلَبَ الْمُتَضَرِّرُ الْقِسْمَةَ أُجْبِرَ الْآخَرُ، وَإِلاَّ فَلَا إِجْبَارَ. وَقِيلَ: أَيُّهُمَا طَلَبَ لَمْ يُجْبَرِ الْآخَرُ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَالشَّرِكَةِ.

18- كَمَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ لَهُ حَقُّ السُّفْلِ مَعَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْعُلْوِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ ذُو السُّفْلِ عَلَى الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّ ذِي الْعُلْوِ فَائِتٌ إِذْ حَقُّهُ قَرَارُ الْعُلْوِ عَلَى السُّفْلِ الْقَائِمِ. وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَالْعُلْوُ لآِخَرَ فَانْهَدَمَ السَّقْفُ الَّذِي بَيْنَهُمَا فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْمُبَانَاةَ مِنَ الْآخَرِ فَامْتَنَعَ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنِ انْهَدَمَتْ حِيطَانُ السُّفْلِ فَطَالَبَهُ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِإِعَادَتِهَا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ: يُجْبَرُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يُجْبَرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِنَاءَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ طَالَبَ صَاحِبُ السُّفْلِ بِالْبِنَاءِ وَأَبَى صَاحِبُ الْعُلْوِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

الْأُولَى: لَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ وَلَا مُسَاعَدَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ،

وَالثَّانِيَةُ: يُجْبَرُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ لِأَنَّهُ حَائِطٌ يَشْتَرِكَانِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي حَقِّ التَّعَلِّي ضِمْنَ حُقُوقِ الِارْتِفَاقِ.

19- وَقَالُوا فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ: لَوِ انْهَدَمَ وَعَرْصَتُهُ عَرِيضَةٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا بِنَاءَهُ، يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ إِضْرَارًا فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ إِذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا وَعَلَى النَّقْضِ إِذَا خِيفَ سُقُوطُهُ. وَغَيْرُ الصَّحِيحِ فِي الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يُجْبَرْ مَالِكُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ بِنَاءُ حَائِطٍ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ كَالِابْتِدَاءِ. وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَكَانُ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَيَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ بِنَاءِ سَدٍّ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يُجْبَرْ، وَإِلاَّ أُجْبِرَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


26-موسوعة الفقه الكويتية (أجل 4)

أَجَلٌ -4

الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ:

89- إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى شَهْرٍ، وَيَدَّعِي الْمُشْتَرِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الْأَقَلَّ، لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ، وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ يُثْبِتُ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَالْبَيِّنَاتُ لِإِثْبَاتِ خِلَافِ الظَّاهِرِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى) أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ؛ وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُدَّعًى عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ مُدَّعٍ، فَإِذَا تَحَالَفَا فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فُسِخَ الْعَقْدُ إِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً- عَلَى الْمَشْهُورِ- إِنْ حَكَمَ بِالْفَسْخِ حَاكِمٌ، أَوْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، وَتَعُودُ السِّلْعَةُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ حَقِيقَةً، ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا.وَقِيلَ يَحْصُلُ الْفَسْخُ بِمُجَرَّدِ التَّحَالُفِ، كَاللِّعَانِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمٍ.وَحَلَفَ الْمُشْتَرِي إِنْ فَاتَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ، فَإِنْ فَاتَ الْبَعْضُ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُمَا إِذَا تَحَالَفَا فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنَ الْيَمِينِ، وَلَوْ أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً لَمْ يَنْفَسِخْ فَبِالتَّحَالُفِ أَوْلَى، بَلْ إِنْ تَرَاضَيَا عَلَى مَا قَالَ أَحَدُهُمَا أُقِرَّ الْعَقْدُ وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا بِأَنِ اسْتَمَرَّ نِزَاعُهُمَا فَيَفْسَخَانِهِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، أَوِ الْحَاكِمُ لِقَطْعِ النِّزَاعِ، وَحَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ التَّحَالُفِ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَوْ لَمْ يَفْسَخَا فِي الْحَالِ كَانَ لَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ لِبَقَاءِ الضَّرَرِ الْمُحْوِجِ لِلْفَسْخِ.وَقِيلَ إِنَّمَا يَفْسَخُهُ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَلَا يَفْسَخُ أَحَدُهُمَا.وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ بِالتَّحَالُفِ وَتَعُودُ الْحَالُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ.

الِاخْتِلَافُ فِي انْتِهَاءِ الْأَجَلِ:

90- إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي مُضِيِّ الْأَجَلِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى التَّأْجِيلِ- كَمَا إِذَا قَالَ الْبَائِعُ بِعْتُكَهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى شَهْرٍ أَوَّلُهُ هِلَالُ رَمَضَانَ، وَقَدِ انْقَضَى، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي بَلْ أَوَّلُهُ نِصْفُ رَمَضَانَ فَانْتِهَاءُ الْأَجَلِ نِصْفُ شَوَّالٍ- فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ:

فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْقَوْلَ وَالْبَيِّنَةَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى الْأَجَلِ، فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي فِي عَدَمِ مُضِيِّهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ تَوَجُّهَ الْمُطَالَبَةِ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ بَيِّنَتِهِ عَلَى بَيِّنَةِ الْبَائِعِ فَلِكَوْنِهَا أَكْثَرَ إِثْبَاتًا.وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَوْلَ لِمُنْكِرِ التَّقَضِّي بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْأَجَلِ، «أَيْ أَنَّ الْقَوْلَ لِمَنِ ادَّعَى بَقَاءَ الْأَجَلِ، وَأَنْكَرَ انْقِضَاءَهُ، سَوَاءٌ كَانَ بَائِعًا أَوْ مُشْتَرِيًا، كَانَ مُكْرِيًا أَوْ مُكْتَرِيًا، إِذَا لَمْ تُوجَدْ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُمِلَ بِهَا، وَهَذَا إِنْ أَشْبَهَ قَوْلُهُ عَادَةَ النَّاسِ فِي الْأَجَلِ- أَشْبَهَ الْآخَرُ أَمْ لَا- فَإِنْ لَمْ يُشْبِهَا مَعًا عَادَةَ النَّاسِ حَلَفَا، وَفُسِخَ إِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً، وَإِلاَّ فَالْقِيمَةُ، وَيُقْضَى لِلْحَالِفِ عَلَى النَّاكِلِ..».

مُسْقِطَاتُ الْأَجَلِ

91- الْأَجَلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَجَلَ إِضَافَةٍ، وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَحَقُّقِهِ تَرَتُّبُ أَحْكَامِ التَّصَرُّفِ.أَوْ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَحَقُّقِهِ حُلُولُ الدَّيْنِ أَوْ حُلُولُ الْعَيْنِ فِيمَا يَصِحُّ إِضَافَتُهُ مِنَ الْأَعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ، أَوْ يَكُونَ أَجَلَ تَوْقِيتٍ وَهُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى تَحَقُّقِهِ انْتِهَاءُ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ لَهُ.وَالْمُسْقِطَاتُ- بِوَجْهٍ عَامٍّ- إِمَّا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ السُّقُوطِ.

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:

أَوَّلًا: إِسْقَاطُ الْأَجَلِ

أ- إِسْقَاطُ الْأَجَلِ مِنْ قِبَلِ الْمَدِينِ:

92- لَمَّا كَانَ الْأَجَلُ قَدْ شُرِعَ رِفْقًا بِالْمَدِينِ وَتَمْكِينًا لَهُ مِنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، وَرِعَايَةً لِحَالَةِ الْعَدَمِ الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا، كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُسْقِطَ أَجَلَ الدَّيْنِ، وَيُصْبِحَ الدَّيْنُ حَالًّا، وَعَلَى الدَّائِنِ قَبْضُ الدَّيْنِ.وَهَذَا هُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِذَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى الْإِضْرَارِ بِالدَّائِنِ كَأَنْ كَانَ الْأَدَاءُ فِي مَكَانٍ مَخُوفٍ، أَوْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ أَوْ كَانَ فِي وَقْتِ كَسَادٍ) عَلَى تَفْصِيلٍ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوَاطِنِهِ.

ب- إِسْقَاطُ الْأَجَلِ مِنْ قِبَلِ الدَّائِنِ:

93- تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَإِذَا كَانَ حَقًّا لَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَبِدُّ بِإِسْقَاطِهِ، طَالَمَا أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي هَذَا الْإِسْقَاطُ إِلَى ضَرَرٍ بِالدَّائِنِ.أَمَّا الدَّائِنُ فَإِنَّ إِسْقَاطَهُ الْأَجَلَ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ أَجَلٍ لَحِقَ الْعَقْدَ وَقْتَ صُدُورِهِ- كَمَا لَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ- فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْأَجَلُ لَازِمًا لِلدَّائِنِ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِصُلْبِ الْعَقْدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَبَيْنَ أَجَلٍ أَرَادَهُ الدَّائِنُ وَالْمَدِينُ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ بِثَمَنٍ حَالٍّ، وَهَذَا النَّوْعُ قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُزُومِهِ لِلدَّائِنِ، أَيْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِإِسْقَاطِهِ دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (غَيْرَ زُفَرَ) وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ، ثُمَّ أَجَّلَهُ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ أَنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مُؤَجَّلًا، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ابْتِدَاءً، وَيُصْبِحُ الْأَجَلُ لَازِمًا لِلدَّائِنِ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْهُ دُونَ رِضَا الْمَدِينِ.أَمَّا التَّأْجِيلُ فَلِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّهُ، فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ تَيْسِيرًا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ إِثْبَاتُ بَرَاءَةٍ مُؤَقَّتَةٍ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْبَرَاءَةَ الْمُطْلَقَةَ بِالْإِبْرَاءِ عَنِ الثَّمَنِ فَلأَنْ يَمْلِكَ الْبَرَاءَةَ الْمُؤَقَّتَةَ أَوْلَى، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَازِمًا لَهُ فَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ عَنْ إِسْقَاطِهِ بِالْبَرَاءَةِ الْمُطْلَقَةِ السُّقُوطَ، وَالتَّأْجِيلُ الْتِزَامُ الْإِسْقَاطِ إِلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَيَثْبُتُ شَرْعًا السُّقُوطُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَمَا ثَبَتَ شَرْعًا سُقُوطُهُ بِإِسْقَاطِهِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ زُفَرُ (مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ) وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ كُلَّ دَيْنٍ حَالٍّ لَا يَصِيرُ مُؤَجَّلًا بِالتَّأْجِيلِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَالًّا لَيْسَ إِلاَّ وَعْدًا بِالتَّأْخِيرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ شَرْطِ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَوْنَ تَأْجِيلَهُ، حَتَّى لَوِ اشْتُرِطَ فِيهِ التَّأْجِيلُ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَاللَّيْثِ الَّذِينَ يَرَوْنَ لُزُومَهُ حَسَبَ التَّفْصِيلِ الَّذِي سَبَقَ بَيَانُهُ.

ج- إِسْقَاطُ الْأَجَلِ بِتَرَاضِي الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ:

94- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا تَرَاضَى الدَّائِنُ وَالْمَدِينُ عَلَى إِسْقَاطِ شَرْطِ التَّأْجِيلِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَصَحِيحٌ.

ثَانِيًا: سُقُوطُ الْأَجَلِ

تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ عِدَّةَ أَسْبَابٍ إِذَا وَقَعَتْ أَدَّتْ إِلَى سُقُوطِ شَرْطِ التَّأْجِيلِ، وَمِنْهَا الْمَوْتُ وَالتَّفْلِيسُ وَالْإِعْسَارُ، وَالْجُنُونُ وَالْأَسْرُ.

أ- سُقُوطُ الْأَجَلِ بِالْمَوْتِ:

95- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْأَجَلِ بِمَوْتِ الْمَدِينِ أَوِ الدَّائِنِ: فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْأَجَلَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَدِينِ لِخَرَابِ ذِمَّتِهِ، وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الدَّائِنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْتًا حَقِيقِيًّا، أَمْ حُكْمِيًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ فَائِدَةَ التَّأْجِيلِ أَنْ يَتَّجِرَ فَيُؤَدِّيَ الثَّمَنَ مِنْ نَمَاءِ الْمَالِ، فَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ تَعَيَّنَ الْمَتْرُوكُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا يُفِيدُ التَّأْجِيلُ؛ وَلِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَدِينِ، لَا حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ، فَتُعْتَبَرُ حَيَاتُهُ وَمَوْتُهُ فِي الْأَجَلِ وَبُطْلَانِهِ.

وَمِثْلُ الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ الْمَوْتُ الْحُكْمِيُّ، وَذَلِكَ كَمَا.لَوْ لَحِقَ مُرْتَدًّا بِدَارِ الْحَرْبِ- كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ- أَوْ كَالرِّدَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَوْتِ أَوِ اسْتِرْقَاقِ الْحَرْبِيِّ- كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ.وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ ثَلَاثَ حَالَاتٍ.جَاءَ فِي شَرْحِ الْخَرَشِيِّ إِنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ عَلَى الشَّخْصِ يَحِلُّ بِفَلَسِهِ أَوْ مَوْتِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ لِأَنَّ الذِّمَّةَ فِي الْحَالَتَيْنِ قَدْ خَرِبَتْ، وَالشَّرْعُ قَدْ حَكَمَ بِحُلُولِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحِلَّ لَلَزِمَ إِمَّا تَمْكِينُ الْوَارِثِ مِنَ الْقَسْمِ، أَوْ عَدَمِهِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَلِلضَّرُورَةِ الْحَاصِلَةِ بِوَقْفِهِ.

وَعَلَى الْمَشْهُورِ: لَوْ طَلَبَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ بَقَاءَهُ مُؤَجَّلًا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ «وَأَمَّا لَوْ طَلَبَ الْكُلُّ لَكَانَ لَهُمْ ذَلِكَ».وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْمَوْتِ مَنْ قَتَلَ مَدِينَهُ (عَمْدًا) فَإِنَّ دَيْنَهُ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ، لِحَمْلِهِ عَلَى اسْتِعْجَالِ مَا أَجَّلَ.وَأَمَّا الدَّيْنُ الَّذِي لَهُ فَلَا يَحِلُّ بِفَلَسِهِ وَلَا بِمَوْتِهِ، وَلِغُرَمَائِهِ تَأْخِيرُهُ إِلَى أَجَلِهِ، أَوْ بَيْعُهُ الْآنَ، وَمَحَلُّ حُلُولِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْفَلَسِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ مَنْ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ عُمِلَ بِشَرْطِهِ. قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي الْمَوْتِ، وَأَمَّا إِنْ شَرَطَ مَنْ لَهُ أَنَّهُ يَحِلُّ بِمَوْتِهِ عَلَى الْمَدِينِ فَهَلْ يُعْمَلُ بِشَرْطِهِ، أَوْ لَا؟ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ (أَيْ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِشَرْطِهِ) حَيْثُ كَانَ الشَّرْطُ غَيْرَ وَاقِعٍ فِي صُلْبِ عَقْدِ الْبَيْعِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي صُلْبِ عَقْدِ الْبَيْعِ فَالظَّاهِرُ فَسَادُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ آلَ أَمْرُهُ إِلَى الْبَيْعِ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ بِمَوْتِ الدَّائِنِ، وَأَمَّا مَوْتُ الْمَدِينِ فَلَهُمْ رَأْيَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمَدِينِ كَمَا هُوَ رَأْيُ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْفُقَهَاءِ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِمَوْتِهِ إِذَا وَثِقَ الْوَرَثَةُ، فَقَدْ جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ «أَنَّهُ إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ لَمْ يَحِلَّ الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ إِذَا وَثِقَ الْوَرَثَةُ، أَوْ وَثِقَ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ، عَلَى أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ: مِنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ»، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ، فَوُرِثَ عَنْهُ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَكَمَا لَا تَحِلُّ الدُّيُونُ الَّتِي لَهُ بِمَوْتِهِ، فَتَخْتَصُّ أَرْبَابُ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ بِالْمَالِ، وَيَتَقَاسَمُونَهُ بِالْمُحَاصَّةِ، وَلَا يُتْرَكُ مِنْهُ لِلْمُؤَجَّلِ شَيْءٌ، وَلَا يَرْجِعُ رَبُّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ حُلُولِهِ بَلْ عَلَى مَنْ وَثَّقَهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ التَّوَثُّقُ لِعَدَمِ وَارِثٍ، بِأَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَارِثٍ، حَلَّ، وَلَوْ ضَمِنَهُ الْإِمَامُ، أَوْ «تَعَذَّرَ التَّوَثُّقُ» لِغَيْرِ عَدَمِ وَارِثٍ، بِأَنْ خَلَفَ وَارِثًا لَكِنَّهُ لَمْ يُوثَقْ، حَلَّ الدَّيْنُ لِغَلَبَةِ الضَّرَرِ، فَيَأْخُذُهُ رَبُّهُ كُلَّهُ إِنِ اتَّسَعَتِ التَّرِكَةُ أَوْ يُحَاصِصْ بِهِ الْغُرَمَاءَ، وَلَا يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي مُقَابَلَةِ الْأَجَلِ.وَإِنْ ضَمِنَهُ ضَامِنٌ وَحَلَّ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَحِلَّ عَلَى الْآخَرِ.وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِالْمَوْتِ إِذَا وَثَّقَ الْوَرَثَةَ، فَقَالُوا: إِنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمَدِينِ فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ مَا جُعِلَ مُبْطِلًا لِلْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيقَاتٌ لِلْخِلَافَةِ وَعَلَامَةٌ عَلَى الْوِرَاثَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَرَكَ حَقًّا أَوْ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ» وَمَا قِيلَ بِسُقُوطِهِ بِالْمَوْتِ هُوَ حُكْمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَلَا يَشْهَدُ لَهَا شَاهِدُ الشَّرْعِ بِاعْتِبَارٍ، وَلَا خِلَافَ فِي فَسَادِ هَذَا، فَعَلَى هَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ وَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمُفْلِسِ عِنْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ أَدَاءَ الدَّيْنِ، وَالْتِزَامَهُ لِلْغَرِيمِ، عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي الْمَالِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الْغَرِيمُ، أَوْ يُوَثِّقُوا الْحَقَّ بِضَمِينٍ مَلِيءٍ، أَوْ رَهْنٍ يَثِقُ بِهِ لِوَفَاءِ حَقِّهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ لَا يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ.

وَيَرَى طَاوُسٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالزُّهْرِيُّ وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمَدِينِ، وَيَبْقَى إِلَى أَجَلِهِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ. ب- سُقُوطُ الْأَجَلِ بِالتَّفْلِيسِ:

96- إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمَدِينِ لِلْإِفْلَاسِ، فَهَلْ تَحِلُّ دُيُونُ الْمُفْلِسِ الْمُؤَجَّلَةُ؟ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (فِي الْأَظْهَرِ) وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَحِلُّ دُيُونُ الْمُفْلِسِ الْمُؤَجَّلَةُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُفْلِسِ، فَلَا يَسْقُطُ بِفَلَسِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُلُولَ مَالِهِ، فَلَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا عَلَيْهِ- كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ- وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ عَلَى حَيٍّ، فَلَمْ يَحِلَّ قَبْلَ أَجَلِهِ، كَغَيْرِ الْمُفْلِسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَلَسِ وَالْمَوْتِ أَنَّ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ خَرِبَتْ وَبَطَلَتْ بِخِلَافِ الْمُفْلِسِ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَرَأْيٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يَحِلُّ بِالْإِفْلَاسِ الْأَخَصِّ (أَيِ الشَّخْصُ الَّذِي حَكَمَ الْحَاكِمُ بِخَلْعِ مَالِهِ لِلْغُرَمَاءِ) لِخَرَابِ ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، مَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْمَدِينُ عَدَمَ حُلُولِهِ بِالتَّفْلِيسِ، وَمَا لَمْ يَتَّفِقِ الْغُرَمَاءُ جَمِيعًا عَلَى بَقَاءِ دُيُونِهِمْ مُؤَجَّلَةً.أَمَّا حُقُوقُ الْمُفْلِسِ الْمُؤَجَّلَةُ قِبَلَ الْغَيْرِ فَبِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ تَبْقَى عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْغَيْرِ، فَلَيْسَ لِغَيْرِ صَاحِبِهِ الْحَقُّ فِي إِسْقَاطِهِ.

ج- سُقُوطُ الْأَجَلِ بِالْجُنُونِ:

97- إِذَا جُنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ أَوْ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَهَلْ يَسْقُطُ الْأَجَلُ بِجُنُونِهِ؟ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ جُنُونَ الْمَدِينِ لَا يُوجِبُ حُلُولَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ لِإِمْكَانِ التَّحْصِيلِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ بِوَاسِطَةِ وَلِيِّهِ، فَالْأَجَلُ بَاقٍ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ مُطَالَبَةُ وَلِيِّهِ بِمَالِهِ.وَلِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمَجْنُونِ فَلَا يَسْقُطُ بِجُنُونِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا لَهُ قِبَلَ الْغَيْرِ، فَلَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يَحِلُّ بِالْفَلَسِ وَالْمَوْتِ مَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْمَدِينُ عَدَمَ حُلُولِهِ بِهِمَا وَمَا لَمْ يَقْتُلِ الدَّائِنُ الْمَدِينَ عَمْدًا، وَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى الْجُنُونِ مَعَهُمَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ عِنْدَهُمْ لَا يُحِلُّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ.

د- سُقُوطُ الْأَجَلِ بِالْأَسْرِ أَوِ الْفَقْدِ:

98- يَرَى الْفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْأَسِيرَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ إِذَا عُلِمَ خَبَرُهُ وَمَكَانُهُ، كَانَ حُكْمُهُ كَالْغَائِبِ، وَالْغَائِبُ تَبْقَى دُيُونُهُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَأْجِيلٍ أَوْ حُلُولٍ، سَوَاءٌ كَانَ دَائِنًا أَمْ مَدِينًا.أَمَّا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ وَلَا مَكَانُهُ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَفْقُودِ لِأَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، مَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ دُيُونَهُ تَبْقَى عَلَى حَالِهَا مِنْ تَأْجِيلٍ أَوْ حُلُولٍ، كَالْغَائِبِ- وَلَا يَأْخُذُ حُكْمَ الْمَفْقُودِ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ أُسِرَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ أَمْوَالُ الْمَفْقُودِ تَبْقَى كَمَا هِيَ، فَهُوَ أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ.

أَمَّا إِذَا عُلِمَ مَوْتُ الْأَسِيرِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمَيِّتِ، وَكَذَا إِذَا عُلِمَ رِدَّتُهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ، وَهُوَ مَوْتٌ حُكْمًا كَمَا سَبَقَ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّ الْآجَالَ تَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمَدِينِ مَوْتًا حَقِيقِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا.

هـ- سُقُوطُ الْأَجَلِ بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ:

99- لَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَجَلِ يُحَدِّدُ لَنَا الْمَدَى الزَّمَنِيَّ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، فَالْعَقْدُ أَوِ التَّصَرُّفُ الْمُقْتَرِنُ بِأَجَلِ التَّوْقِيتِ، أَوِ الْمُؤَقَّتِ، إِذَا انْقَضَى أَجَلُهُ انْتَهَى بِذَلِكَ الْعَقْدِ وَعَادَ الْحَقُّ إِلَى صَاحِبِهِ، كَمَا كَانَ أَوَّلًا، فَيَكُونُ عَلَى الْمُتَعَاقِدِ رَدُّ الْعَيْنِ إِلَى مَالِكِهَا إِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَيْنًا، وَيَكُونُ عَلَيْهِ عَدَمُ التَّصَرُّفِ إِذَا كَانَ الْعَقْدُ يُجِيزُ لِلشَّخْصِ تَصَرُّفًا مَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ.

وَالْعَقْدُ الْمُؤَقَّتُ- إِذَا لَمْ يَكُنْ مُضَافًا وَلَا مُعَلَّقًا- هُوَ عَقْدٌ نَاجِزٌ يَتِمُّ تَرَتُّبُ آثَارِهِ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ صُدُورِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ لَهُ شَرْعًا أَوِ اتِّفَاقًا.فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى زَمَنٍ- وَكَانَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ فَمُدَّةُ التَّوْقِيتِ تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ حُلُولِ أَجَلِ الْإِضَافَةِ.وَكَذَلِكَ إِذَا عُلِّقَ عَلَى شَرْطٍ- وَكَانَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ- فَمُدَّةُ التَّوْقِيتِ تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ الْعَقْدُ.

وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَجَلَ يَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ الْعَقْدِ نَفْسِهِ الَّذِي اقْتُرِنَ بِهِ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ وَصْفٌ لِلْعَقْدِ وَشَرْطٌ لِاعْتِبَارِهِ شَرْعًا، فَإِذَا انْتَهَى الْمَوْصُوفُ انْتَهَى الْوَصْفُ.

اسْتِمْرَارُ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُنْقَضِي أَجَلُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ:

100- قَدْ يَنْقَضِي الْعَقْدُ الْمُؤَقَّتُ.وَحِينَئِذٍ عَلَى الْمُنْتَفَعِ رَدُّ الْعَيْنِ إِلَى صَاحِبِهَا، وَلَكِنْ قَدْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى ضَرَرٍ، وَمِنْ ثَمَّ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ تَأْخِيرَ الرَّدِّ إِلَى الْوَقْتِ الْمُلَائِمِ، الَّذِي لَا يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرٍ، مَعَ ضَمَانِ حُقُوقِ الطَّرَفِ الْآخَرِ.وَلِذَلِكَ تَطْبِيقَاتٌ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ تَنْظُرُ فِيهِمَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


27-موسوعة الفقه الكويتية (استثناء 1)

اسْتِثْنَاءٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِثْنَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَثْنَى، تَقُولُ: اسْتَثْنَيْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ إِذَا أَخْرَجْتَهُ، وَيُقَالُ: حَلَفَ فُلَانٌ يَمِينًا لَيْسَ فِيهَا ثُنْيَا، وَلَا مَثْنَوِيَّةً، وَلَا اسْتِثْنَاءَ، كُلُّهُ وَاحِدٌ.

وَذَكَرَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ يُطْلَقُ عَلَى: التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ وَمِنْهُ قوله تعالى {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} أَيْ لَا يَقُولُونَ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ».

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا، فَالِاسْتِثْنَاءُ اللَّفْظِيُّ هُوَ: الْإِخْرَاجُ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِإِلاَّ، أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا وَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ الْإِخْرَاجُ بِأَسْتَثْنِي وَأُخْرِجُ وَنَحْوِهِمَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَعَرَّفَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُ: الْإِخْرَاجُ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ.

وَعَرَّفَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ الْحَنَفِيُّ بِأَنَّهُ: الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، فَعَرَّفَهُ بِالْمَنْعِ، وَلَمْ يُعَرِّفْهُ بِالْإِخْرَاجِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، إِذْ لَمْ يَدْخُلِ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلًا حَتَّى يَكُونَ مُخْرَجًا.فَالِاسْتِثْنَاءُ لِمَنْعِهِ مِنَ الدُّخُولِ وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ أَيْضًا بِمَعْنَى قَوْلِ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فِي كَلَامٍ إِنْشَائِيٍّ أَوْ خَبَرِيٍّ.

وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا بَلْ هُوَ مِنْ مُتَعَارَفِ النَّاسِ.فَإِنْ كَانَ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ، أَوِ «اسْتِثْنَاءٌ وَضْعِيٌّ»، كَأَنْ يَقُولَ: لَا أَفْعَلُ كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ: لأَفْعَلَنَّ كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَمِنَ الْعُرْفِيِّ قَوْلُ النَّاسِ: إِنْ يَسَّرَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ أَعَانَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ.

وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا التَّعْلِيقُ- وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِلاَّ- اسْتِثْنَاءً لِشِبْهِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ فِي صَرْفِهِ الْكَلَامَ السَّابِقَ لَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَعْنَوِيُّ هُوَ: الْإِخْرَاجُ مِنَ الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ أَدَاةِ اسْتِثْنَاءٍ، كَقَوْلِ الْمُقِرِّ: «لَهُ الدَّارُ، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي».وَإِنَّمَا أَعْطَوْهُ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: «لَهُ جَمِيعُ الدَّارِ إِلاَّ هَذَا الْبَيْتِ».

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْحُكْمِيُّ يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يُرِدَ التَّصَرُّفَ مَثَلًا عَلَى عَيْنٍ فِيهَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ، كَبَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِذَلِكَ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، فَكَأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى الْعَيْنِ بِاسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهَا مُدَّةَ الْإِجَارَةِ.

وَهَذَا الْإِطْلَاقُ قَلِيلٌ فِي مُتَعَارَفِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ لِلسُّيُوطِيِّ وَالْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ إِلاَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، وَلِذَا فَلَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا يَلِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّخْصِيصُ:

2- التَّخْصِيصُ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ فَهُوَ يُبَيِّنُ كَوْنَ اللَّفْظِ قَاصِرًا عَنِ الْبَعْضِ.وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُفَارِقُ التَّخْصِيصَ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ، وَأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إِلَى الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ جَمِيعًا، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ ثَلَاثَةً، كَمَا يَقُولُ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلاَّ زَيْدًا، وَالتَّخْصِيصُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ أَصْلًا، وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِقَوْلٍ، وَيَكُونُ التَّخْصِيصُ بِقَوْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ.

هَذَا وَإِنَّ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنِ اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي التَّخْصِيصِ، لَا يَجْرِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ اتِّصَالِ الْمُخَصِّصَاتِ أَيْضًا.

ب- النَّسْخُ:

3- النَّسْخُ: رَفْعُ الشَّارِعِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ بِدَلِيلٍ لَاحِقٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِمَا دَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ فَيَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ اللَّفْظِ مَا كَانَ يَدْخُلُ لَوْلَاهُ، فَالنَّسْخُ قَطْعٌ وَرَفْعٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مَنْعٌ أَوْ إِخْرَاجٌ، وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَالنَّسْخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا.

ج- الشَّرْطُ:

4- يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا الشَّرْطَ (التَّعْلِيقَ)، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكَلَامِ مِنْ إِثْبَاتِ مُوجِبِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ الْكُلَّ، وَالِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ الْبَعْضَ.

وَيُشَابِهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ الشَّرْطَ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكُلِّ وَذِكْرِ أَدَاةِ التَّعْلِيقِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ لَا إِلَى غَايَةٍ، وَالشَّرْطُ مَنْعٌ إِلَى غَايَةِ تَحَقُّقِهِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا دَارِي.وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا يَدْخُلُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ فِي بَحْثِ التَّعْلِيقِ وَالشَّرْطِ.وَلَا يُورِدُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ، لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الِاسْمِ.

5- الْقَاعِدَةُ الْأَصِيلَةُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ:

الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَنَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ، وَنَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْهُ،

وَفِي هَذَا خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.

فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ قِيلَ: خِلَافُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.وَقِيلَ: بَلْ فِي الثَّانِيَةِ فَقَطْ، فَقَدْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، فَزَيْدٌ فِي الْمِثَالِ الْمُتَقَدِّمِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِقِيَامِهِ وَلَا بِعَدَمِهِ.

وَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِي نَحْوِ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: إِنَّ زَيْدًا بِالِاسْتِثْنَاءِ دَخَلَ فِي عَدَمِ الْقِيَامِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْتَقَلَ إِلَى عَدَمِ الْحُكْمِ.وَعِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ مُخْرَجٌ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ.

وَأَمَّا مَالِكٌ فَيُوَافِقُ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ، أَمَّا فِي الْأَيْمَانِ فَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتًا.

فَمَنْ حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ الْيَوْمَ ثَوْبًا إِلاَّ الْكَتَّانَ، يَحْنَثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا قَعَدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَارِيًّا فَلَمْ يَلْبَسْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّفْيُ إِثْبَاتًا فَقَدْ حَلَفَ أَنْ يَلْبَسَ الْكَتَّانَ، فَإِذَا لَمْ يَلْبَسْهُ وَقَعَدَ عَارِيًّا حَنِثَ.

أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلَا يَحْنَثُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجَّهَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ (إِلاَّ) فِي هَذَا الْمِثَالِ وَنَحْوِهَا صِفَةٌ، فَهِيَ بِمَعْنَى غَيْرُ، فَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ عَلَى أَلاَّ يَلْبَسَ ثِيَابًا مُغَايِرَةً لِلْكَتَّانِ.

وَوَجَّهَهُ أَيْضًا بِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ جَمِيعَ الثِّيَابِ مَحْلُوفٌ عَلَيْهَا غَيْرَ الْكَتَّانِ.

أَنْوَاعُ الِاسْتِثْنَاءِ:

6- الِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ وَإِمَّا مُنْفَصِلٌ.

فَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ: مَا كَانَ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا.

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ: (وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِلُ أَيْضًا) مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مِثْلُ قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} فَإِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ لَيْسَ عِلْمًا.

وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ أَصْلًا.هَذَا وَلَا بُدَّ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فِيمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ.وَالْفَائِدَةُ فِيهِ دَفْعُ هَذَا التَّوَهُّمِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِ (لَكِنَّ)، فَإِنَّهُ لِلِاسْتِدْرَاكِ، أَيْ دَفْعِ التَّوَهُّمِ مِنَ السَّابِقِ.وَأَشْهَرُ صُوَرِ الْمُخَالَفَةِ: أَنْ يَنْفِيَ عَنِ الْمُسْتَثْنَى الْحُكْمَ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَنِي الْمُدَرِّسُونَ إِلاَّ طَالِبًا، فَقَدْ نَفَيْنَا الْمَجِيءَ عَنِ الطَّالِبِ بَعْدَمَا أَثْبَتْنَاهُ لِلْمُدَرِّسِينَ.

وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ مَجَازٌ.

قَالَ الْمَحَلِّيُّ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الْمُتَّصِلُ دُونَ الْمُنْقَطِعِ.

وَعَلَى هَذَا جَاءَ حَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا سَبَقَ، فَقَدْ عُرِّفَ بِمَا لَا يَشْمَلُ الْمُنْقَطِعَ وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا كُتُبُ الْأُصُولِ.

صِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ:

أ- أَلْفَاظُ الِاسْتِثْنَاءِ:

7- يَذْكُرُ اللُّغَوِيُّونَ وَالْأُصُولِيُّونَ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ الْأَلْفَاظَ التَّالِيَةَ: إِلاَّ، وَغَيْرَ، وَسِوَى، وَخَلَا، وَعَدَا، وَحَاشَا، وَبَيْدَ، وَلَيْسَ، وَلَا يَكُونُ.

ب- الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا:

8- شَرَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَقَدْ قَالَ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم-: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عليه الصلاة والسلام- عَلَى قَوْلِهِ لِلْكُفَّارِ حِينَ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَالْفِتْيَةِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ: (ائْتُونِي غَدًا) وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي ذَلِكَ.فَاحْتُبِسَ الْوَحْيُ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَرْجَفَ الْكُفَّارُ بِهِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْكَهْفِ، وَأُمِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا: أَلاَّ يَقُولَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ: إِنِّي أَفْعَلُ غَدًا كَذَا وَكَذَا إِلاَّ أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى لَا يَكُونَ مُحَقِّقًا لِحُكْمِ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: لأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْ كَانَ كَاذِبًا، وَإِذَا قَالَ لأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ إِلاَّ أَنْ تَقُولَ: إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.أَوْ: إِلاَّ أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَالَ: وَالْآيَةُ لَيْسَتْ فِي الْأَيْمَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي سُنَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ وَأَوْضَحَ كَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ، وَهُوَ قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}.يَدُلُّ- عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِهَا- أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَقُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَذَكَّرَهُ.

فَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَنَتَيْنِ.فَيُحْمَلُ عَلَى تَدَارُكِ التَّبَرُّكِ بِالِاسْتِثْنَاءِ.

فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفِيدُ حُكْمًا- يَعْنِي فِي الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا- فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ مُتَّصِلًا.هَذَا، وَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِ النَّاسِ فِي الْأَخْبَارِ، وَالْأَيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْوَعْدِ، وَالْعَقْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.ثُمَّ يَكُونُ لَهُ أَثَرُهُ فِي حِلِّ الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا.

اسْتِثْنَاءُ عَدَدَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الشَّكِّ:

9- إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلاَّ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحَاصِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ؛ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا شَكَكْنَا فِي الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ شَغْلِ الذِّمَمِ، فَثَبَتَ الْأَقَلُّ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ «خُرُوجٌ بَعْدَ دُخُولٍ». يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْأَلْفُ صَارَ الشَّكُّ فِي الْمُخْرَجِ، فَيَخْرُجُ الْأَقَلُّ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ وَالْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ:

10- إِذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ بِالْوَاوِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْفَخْرِ الرَّازِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ.وَعِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْكُلِّ.

وَقَالَ الْبَاقِلاَّنِيُّ بِالتَّوَقُّفِ فِي عَوْدِهِ إِلَى مَا عَدَا الْأَخِيرَ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ بِالتَّوَقُّفِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُعْتَزِلِيُّ: إِنْ ظَهَرَ الْإِضْرَابُ عَنِ الْأُولَى، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَ بِالْإِنْشَائِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ، أَوِ الْأَمْرِيَّةِ وَالنَّهْيِيَّةِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ اشْتِرَاكٌ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، فَإِنَّهُ يَعُودُ لِلْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَإِلاَّ فَلِلْجَمِيعِ.

وَالنِّزَاعُ كَمَا تَرَى فِي الظُّهُورِ.وَلَا تَتَأَتَّى دَعْوَى النُّصُوصِيَّةِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ.وَلَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ أَيْضًا فِي إِمْكَانِ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْأَخِيرَةِ وَحْدَهَا، وَإِمْكَانِ عَوْدِهِ إِلَى الْكُلِّ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ فَالْخِلَافُ قَائِمٌ أَيْضًا، لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ- كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيِّ- إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ حِينَئِذٍ إِلَى الْأَخِيرِ.

وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ حُكْمَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، ظَاهِرٌ فِي الثُّبُوتِ عُمُومًا، وَرَفْعُهُ عَنِ الْبَعْضِ بِالِاسْتِثْنَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِلْأَخِيرَةِ فَقَطْ، فَلَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُعَارِضُهُ الْمَشْكُوكُ.بِخِلَافِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّ حُكْمَهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ ظَاهِرٌ فِيهَا فِيمَا لَا صَارِفَ لَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِهَا.

وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا بِأَنَّ الِاتِّصَالَ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاتِّصَالُ ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، أَمَّا فِيمَا قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْعَطْفِ، إِلاَّ أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْعَطْفِ فَقَطْ ضَعِيفٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُوجِبٍ لِاعْتِبَارِ هَذَا الِاتِّصَالِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمُ احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا رَجَعَ إِلَيْهَا اتِّفَاقًا.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْعَطْفَ يَجْعَلُ الْمُتَعَدِّدَ كَالْمُفْرَدِ، فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْوَاحِدِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْكُلِّ.وَبِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ، فَإِمَّا أَنْ يُكَرَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ كُلِّ جُمْلَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْجَمِيعِ.فَالتَّكْرَارُ مُسْتَهْجَنٌ، فَبَطَلَ الْأَوَّلُ وَفِي الثَّانِي تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَبَقِيَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، فَيَلْزَمُ الظُّهُورُ فِيهِ.

11- وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}...قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْقَاذِفِينَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ عَلَى الْحُكْمِ بِفِسْقِهِمْ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ عَلَى الْجُمَلِ الثَّلَاثِ. أَمَّا الْجَلْدُ فَاتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ لِأَجْلِ الدَّلِيلِ الْمَانِعِ مِنْ تَعَلُّقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَالْمَانِعُ هُوَ كَوْنُ الْجَلْدِ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الْمُفْرَدَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ:

12- إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ فَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي الْجُمَلِ، وَلَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِعَوْدِهِ لِلْكُلِّ مِنَ الْوَارِدِ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْمُفْرَدَاتِ.نَحْوُ: تَصَدَّقْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِلاَّ الْفَسَقَةَ مِنْهُمْ.

الِاسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بَعْدَ الْمُتَعَاطِفَاتِ:

13- أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا نَحْوَ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ اتِّفَاقًا.وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ مِنْ حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلَامِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، فَيَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُقَارِنٌ لَهُ تَقْدِيرًا.بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مُؤَخَّرٌ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ:

14- هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَعَاطِفَةُ نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ أَرْبَعَةً، وَإِلاَّ ثَلَاثَةً، وَإِلاَّ اثْنَيْنِ.

وَحُكْمُهَا أَنْ تَعُودَ كُلُّهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهَا.فَيَلْزَمُهُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَاحِدٌ فَقَطْ.

الثَّانِي: الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَوَالِيَةُ بِدُونِ عَاطِفٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهُ.فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سَبْعَةً، إِلاَّ خَمْسَةً إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ، صَحَّ، وَكَانَ مُقِرًّا بِسِتَّةٍ، فَإِنَّ خَمْسَةَ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ عِبَارَةُ عَنْ ثَلَاثَةٍ اسْتَثْنَاهَا مِنْ سَبْعَةٍ بَقِيَ أَرْبَعَةٌ، اسْتَثْنَاهَا مِنْ عَشَرَةٍ بَقِيَ سِتَّةٌ.

وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الِاسْتِثْنَاءَاتِ مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ، بَلْ تَعُودُ جَمِيعُهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلَافٌ.

شُرُوطُ الِاسْتِثْنَاءِ

15- شُرُوطُ الِاسْتِثْنَاءِ عَامَّةٌ، مَا عَدَا شَرْطَ الِاسْتِغْرَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّمْلِيُّ وَسَيَأْتِي أَيْضًا أَنَّ شَرْطَ الْقَصْدِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ.

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ:

16- يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بِأَلاَّ يَكُونَ مَفْصُولًا بِمَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ فَاصِلًا.فَلَوْ كَانَ مَفْصُولًا بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا لَمْ يَمْنَعِ الِاتِّصَالَ، وَكَذَلِكَ إِنْ حَالَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلَامٌ غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ، وَمِنْهُ النِّدَاءُ؛ لِأَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّأْكِيدُ.أَمَّا إِنْ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، أَوْ فَصَلَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ عَدَلَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى فَلَمْ يَرْتَفِعْ، بِخِلَافِ مَا لَا يُمْكِنُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ آخِذٌ بِفَمِهِ فَمَنَعَهُ الْكَلَامَ.هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الِاتِّصَالِ أَنْ يَنْوِيَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْعُمْدَةُ مُجَرَّدُ الِاتِّصَالِ سَوَاءٌ نَوَى أَوَّلَ الْكَلَامِ، أَوْ أَثْنَاءَهُ، أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.

وَقَدْ نُقِلَ خِلَافُ هَذَا عَنْ قَوْمٍ.فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى شَهْرٍ، وَقِيلَ أَبَدًا.وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: يَجُوزُ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إِلَى سَنَتَيْنِ.وَقِيلَ: مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي كَلَامٍ آخَرَ.وَقِيلَ:

إِنْ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ جَازَ التَّأْخِيرُ بَعْدَهُ.وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَقِيلَ: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً.

وَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- لَمَّا حَرَّمَ مَكَّةَ، وَقَالَ: «لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ: إِلاَّ الْإِذْخِرَ» فَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْفَصِلٌ.فَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ.

فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ الْقَوْلَ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا

وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الِاتِّصَالِ؛ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرِ الْمُتَّصِلِ يَسْتَلْزِمُ أَلاَّ يَجْزِمَ بِصِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ لِاحْتِمَالِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، وَلِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاتِّصَالِ.فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ زَادَ بَعْدَ شَهْرٍ: إِلاَّ ثَلَاثَةً يُعَدُّ لَغْوًا.

وَلَعَلَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ قَالَ شِبْهَ قَوْلِهِ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ أَنَّ مَنْ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» يَقُولُهَا مَتَى تَذَكَّرَ ذَلِكَ، وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، امْتِثَالًا لِلْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُوجِبِ رَفْعُ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى كَمَا تَقَدَّمَ.الشَّرْطُ الثَّانِي:

17- وَيُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَلاَّ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مُسْتَغْرِقًا لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُسْتَغْرِقَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، إِلاَّ عِنْدَ مَنْ شَذَّ.

وَادَّعَى الْبَعْضُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.فَلَوْ قَالَ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ عَشَرَةً» لَغَا قَوْلُهُ «إِلاَّ عَشَرَةً» وَلَزِمَهُ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ.وَمِمَّنْ شَذَّ ابْنُ طَلْحَةَ الْمَالِكِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، نَقَلَ عَنْهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: «أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ ثَلَاثًا»: لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، فَهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ إِنْ كَانَ بِعَيْنِ لَفْظِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ إِلاَّ عَبِيدِي، أَوْ بِلَفْظٍ مُسَاوٍ لَهُ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ إِلاَّ زَوْجَاتِي.

أَمَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ: ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ إِلاَّ أَلْفًا، وَالثُّلُثُ أَلْفٌ.فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا يَسْتَحِقُّ زَيْدٌ شَيْئًا.

فَالشَّرْطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِيهَامُ الْبَقَاءِ لَا حَقِيقَتُهُ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا سِتًّا إِلاَّ أَرْبَعًا صَحَّ، وَوَقَعَ ثِنْتَانِ.وَإِنْ كَانَتِ السِّتَّةُ لَا صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَزِيدُ عَنْ ثَلَاثٍ، وَمَعَ هَذَا لَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ أَرْبَعًا، فَكَأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ أَوْلَى.

وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: «لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَدِرْهَمَانِ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ» فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَهُوَ فِي مِثَالِنَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ.

اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ:

18- أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا كَمَا تَقَدَّمَ، نَحْوُ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سِتَّةً أَوْ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ خَمْسَةً».وَنَسَبَ صَاحِبُ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ، وَالْأَكْثَرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

قِيلَ: إِنَّمَا يَمْنَعُ الْحَنَابِلَةُ اسْتِثْنَاءَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، وَيُجِيزُونَ اسْتِثْنَاءَ النِّصْفِ.وَقِيلَ: يَمْنَعُونَ النِّصْفَ أَيْضًا.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَمْنَعُ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَدَدًا صَرِيحًا.قِيلَ وَبِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْبَاقِلاَّنِيُّ آخِرًا.

وَقَدْ احْتَجَّ لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ فِي غَيْرِ الْعَدَدِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْغَاوِينَ} وَالْغَاوُونَ هُمْ الْأَكْثَرُ لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وَاحْتَجَّ لِجَوَازِهِ أَيْضًا فِي الْعَدَدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا عَلَى لُزُومِ وَاحِدٍ فِي الْإِقْرَارِ بِلَفْظِ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً» وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ جَائِزًا لُغَةً، مِنْهُمُ ابْنُ جِنِّي، وَالزَّجَّاجُ، وَالْقُتَيْبِيُّ.قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَأْتِ الِاسْتِثْنَاءُ إِلاَّ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَثِيرِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ:

19- وَيُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَاقِلاَّنِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.وَمِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ إِلاَّ فَرَسًا.

وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ فَرَسٌ إِلاَّ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ الْمُقَرَّ بِهِ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ.وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ بِتَمَامِهَا.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا اسْتِثْنَاءُ الْمُقَدَّرِ مِنَ الْمُقَدَّرِ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ، وَالْمَعْدُودِ الَّذِي لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ، كَالْفُلُوسِ وَالْجَوْزِ، مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَاعْتُبِرَتْ جِنْسًا وَاحِدًا، فَكَانَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.وَتُطْرَحُ قِيمَةُ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا أَقَرَّ بِهِ.

وَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ جَمِيعَ مَا أَقَرَّ بِهِ، لِاسْتِغْرَاقِهِ بِغَيْرِ الْمُسَاوِي.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.وَهُوَ الْقِيَاسُ.

أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُقَدَّرَاتِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَمِيعًا، قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا يَصِحُّ إِلاَّ أَنْ يُسْتَثْنَى الدَّرَاهِمُ مِنَ الدَّنَانِيرِ، أَوِ الدَّنَانِيرُ مِنَ الدَّرَاهِمِ.وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا.

وَحُجَّةُ الْمُجِيزِينَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْهُ قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَم فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}.وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}.

وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَرْفُ اللَّفْظِ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْلَاهُ.

وَغَيْرُ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْكَلَامِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ فَمَا صَرَفَ الْكَلَامَ عَنْ صَوْبِهِ، وَلَا ثَنَاهُ عَنْ وَجْهِ اسْتِرْسَالِهِ، فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ اسْتِثْنَاءً مَجَازًا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ (ف: 6) وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاكٌ، وَتَكُونُ إِلاَّ بِمَعْنَى لَكِنَّ، فَإِذَا ذَكَرَ الِاسْتِدْرَاكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، كَأَنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا لِي عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ، مُدَّعِيًا لِشَيْءٍ سِوَاهُ، فَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ، وَتَبْطُلُ دَعْوَاهُ وَهِيَ الِاسْتِثْنَاءُ.

وَحُجَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا أَنَّ قَدْرَ الدَّنَانِيرِ مِنَ الدَّرَاهِمِ مَعْلُومٌ، وَيُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِذَا اسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْبِيرَ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِنَّ قَوْمًا يُسَمُّونَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا، وَفِي بِلَادٍ أُخْرَى يُسَمُّونَ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: التَّلَفُّظُ بِالِاسْتِثْنَاءِ

20- ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ تَحْرِيكُ الشَّفَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْلَفًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحْلَفًا لَمْ يُجْزِئْهُ إِلاَّ الْجَهْرُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَنْفَعُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ الْمَحْلُوفُ لَهُ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِلِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ غَيْرَهُ، وَإِلاَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ فِي النَّفْيِ، وَحَكَمَ بِالْوُقُوعِ إِذَا حَلَفَ الْخَصْمُ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِثْنَاءِ.

هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، أَمَّا فِيمَا عَدَاهُ فَيَكْفِي أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، إِنِ اعْتَدَلَ سَمْعُهُ وَلَا عَارِضَ، وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْحَنَابِلَةِ تَعَرُّضٌ لِصِفَةِ النُّطْقِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا فِي نِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْقَلْبِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَنْطُوقُ بِهِ عَامًّا، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ وَاحِدَةً، فَيَكُونُ لَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ «نِسَائِي» اسْمٌ عَامٌّ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ كَالْعَدَدِ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِالنِّيَّةِ مَا ثَبَتَ بِاللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي الْأَرْبَعُ أَوِ الثَّلَاثُ طَوَالِقُ، فَلَا يُقْبَلُ اسْتِثْنَاؤُهُ ظَاهِرًا، وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ وَلَا بَاطِنًا.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ وَاسْتَثْنَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاؤُهُ مَسْمُوعًا، وَالْمُرَادُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُسْمَعَ، بِحَيْثُ لَوْ قَرَّبَ شَخْصٌ أُذُنَهُ إِلَى فَمِهِ يَسْمَعُ اسْتِثْنَاءَهُ، وَلَوْ حَالَ دُونَ سَمَاعِ الْمُنْشِئِ لِلْكَلَامِ صَمَمٌ أَوْ كَثْرَةُ أَصْوَاتٍ.وَفِي قَوْلِ الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظٍ مَسْمُوعٍ وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْكِتَابَةِ صَحِيحٌ، حَتَّى لَوْ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ وَكَتَبَ الِاسْتِثْنَاءَ مَوْصُولًا، أَوْ عَكَسَ، أَوْ أَزَالَ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ.

وَجَاءَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا سَمِعَتِ الطَّلَاقَ وَلَمْ تَسْمَعِ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَسَعُهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْوَطْءِ، وَيَلْزَمُهَا مُنَازَعَتُهُ.

21- وَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي صُدُورِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ.وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُقْبَلُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ وَالْفَتْوَى احْتِيَاطًا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ، إِذْ قَدْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ حِيلَةً بَعْضُ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلِأَنَّ دَعْوَى الزَّوْجِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ بِدَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ يَدَّعِي إِبْطَالَ الْمُوجِبِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهِ.

فَالظَّاهِرُ خِلَافُ قَوْلِهِ، وَإِذَا عَمَّ الْفَسَادُ يَنْبَغِي الرُّجُوعُ إِلَى الظَّاهِرِ.وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الْمُحِيطِ إِنْ عُرِفَ الزَّوْجُ بِالصَّلَاحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَإِنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ أَوْ جُهِلَ حَالُهُ فَلَا؛ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ.وَأَيَّدَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى نُصُوصٍ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


28-موسوعة الفقه الكويتية (إسقاط 3)

إِسْقَاطٌ -3

حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

53- حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا- وَهِيَ فِيمَا يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِيمَا يَهَبُهُ الْإِنْسَانُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- حَقٌّ ثَابِتٌ شَرْعًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً، فَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلاَّ الْوَالِدَ بِمَا يُعْطِي وَلَدَهُ».وَهَذَا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ.قَالُوا: وَالْعِوَضُ فِيمَا وُهِبَ لِذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ هُوَ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَقَدْ حَصَلَ.

وَمَا دَامَ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ- فِيمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ- ثَابِتًا شَرْعًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الرُّجُوعَ حَقُّهُ، وَهُوَ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ، إِلاَّ إِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا، أَوْ شَرَطَ عَدَمَ الِاعْتِصَارِ (أَيِ الرُّجُوعِ)، فَلَا رُجُوعَ لَهُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (هِبَة).

مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:

سَبَقَ أَنَّ كُلَّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ بَعْضِ مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنَ الْحُقُوقِ اتِّفَاقًا أَوْ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، إِمَّا لِفَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَحَلِّ، أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْإِسْقَاطِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ:

54- الْإِسْقَاطُ إِذَا كَانَ مَسَّ حَقًّا لِغَيْرِ مَنْ يُبَاشِرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، إِذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْغَيْرِ كَحَقِّ الصَّغِيرِ، أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ كَالْوَارِثِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي: حَقُّ الْحَضَانَةِ:

55- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ خِلَافُ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- أَنَّ لِلْحَاضِنِ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ بِإِسْقَاطِهِ، وَيَنْتَقِلَ الْحَقُّ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَ وَلَمْ يُوجَدْ حَاضِنٌ غَيْرُهُ، ثُمَّ إِنْ عَادَ الْحَاضِنُ فَطَلَبَ الْحَضَانَةَ عَادَ الْحَقُّ إِلَيْهِ.

وَخَالَفَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: إِنَّ الْحَاضِنَةَ إِذَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مِنَ الْحَضَانَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، بَعْدَ وُجُوبِهَا لَهَا، ثُمَّ أَرَادَتِ الْعَوْدَ فَلَا تَعُودُ.وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (حَضَانَة).

نَسَبُ الصَّغِيرِ:

56- النَّسَبُ حَقُّ الصَّغِيرِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ إِسْقَاطُ هَذَا الْحَقِّ، فَمَنْ أَقَرَّ بِابْنٍ، أَوْ هُنِّئَ بِهِ فَسَكَتَ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ، أَوْ أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ إِمْكَانِ النَّفْيِ فَقَدِ الْتَحَقَ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ إِسْقَاطُ نَسَبِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا، وَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَتْ عَنِ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لَا حَقُّهَا.

عَزْلُ الْوَكِيلِ:

57- الْأَصْلُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَجُوزُ لَهُ عَزْلُ الْوَكِيلِ مَتَى شَاءَ، لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، لَكِنْ لَوْ تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ، لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إِبْطَالُ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ كَالْوَكِيلِ فِي الْخُصُومَةِ لَا يَجُوزُ عَزْلُهُ مَا دَامَتِ الْخُصُومَةُ مُسْتَمِرَّةً.وَكَالْعَدْلِ الْمُتَسَلِّطِ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ.وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ فِي شُرُوطِ الْعَزْلِ وَشُرُوطِ الْوَكَالَةِ فِي الْخُصُومَةِ، وَتُنْظَرُ فِي: (وَكَالَة، رَهْن).

تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ:

58- الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ، يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ تَصَرُّفًا مُسْتَأْنَفًا، كَوَقْفٍ، وَعِتْقٍ، وَإِبْرَاءٍ، وَعَفْوٍ مَجَّانًا فِيمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِيهِ، أَشْبَهَ الرَّاهِنَ يَتَصَرَّفُ فِي الرَّهْنِ.ر: (حَجْر، فَلَس).

إِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَبَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ:

59- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ بِالْفِعْلِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُ الْإِسْقَاطِ عَلَيْهِ، فَإِسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَلَا جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ لَا يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِسْقَاطُ مُسْتَقْبَلًا، كَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَإِسْقَاطِ الْحَاضِنَةِ حَقَّهَا فِي الْحَضَانَةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا، فَكُلُّ هَذَا لَا يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا هُوَ امْتِنَاعٌ عَنِ الْحَقِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ وَالْعَوْدُ إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِالْحَقِّ.

60- أَمَّا إِذَا لَمْ يَجِبِ الْحَقُّ، وَلَكِنْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ، فَفِي صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ حِينَئِذٍ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَقَبْلَ الْوُجُوبِ.

فَقَدْ جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ جَائِزٌ، كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ.وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْإِبْرَاءُ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ.

وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ، وَمِثْلُهُ فِي الْمُغْنِي: إِنْ عَفَا مَجْرُوحٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَنْ قَوَدِ نَفْسِهِ أَوْ دِيَتِهَا صَحَّ عَفْوُهُ، لِإِسْقَاطِهِ حَقَّهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ.

وَفِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ وَرَدَتْ عِدَّةُ مَسَائِلَ: كَإِبْرَاءِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا مِنَ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا، وَإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَعَفْوِ الْمَجْرُوحِ عَمَّا يَئُولُ إِلَيْهِ الْجُرْحُ.ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْإِسْقَاطُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ وُجِدَ أَوْ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ رُشْدٍ

وَفِي الدُّسُوقِيِّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ لُزُومُ الْإِسْقَاطِ لِجَرَيَانِ السَّبَبِ.وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَإِنْ جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ.

جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَنِ الضَّمَانِ لَمْ يُبَرَّأْ فِي الْأَظْهَرِ، إِذْ هُوَ إِبْرَاءٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ وُجِدَ سَبَبُهُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُبَرَّأُ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ صُورَةً يَصِحُّ فِيهَا الْإِسْقَاطُ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَهِيَ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ، وَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ، وَرَضِيَ بِبَقَائِهَا، فَإِنَّهُ يُبَرَّأُ مِمَّا وَقَعَ فِيهَا.

إِسْقَاطُ الْمَجْهُولِ:

61- إِسْقَاطُ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَجْهُولِ، كَالدَّيْنِ، وَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، وَحِصَّةٍ فِي تَرِكَةٍ، وَمَا مَاثَلَ ذَلِكَ.فَهَذَا النَّوْعُ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ إِسْقَاطِهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، هَلْ هُوَ تَمْلِيكٌ أَوْ إِسْقَاطٌ؟

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمَجْهُولِ، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ قَدْ دَرَسَتْ: اسْتَهِمَا، وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ، وَلِيُحْلِلْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ».وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ لَا تَسْلِيمَ فِيهِ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ، لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: صِحَّةُ الصُّلْحِ عَمَّا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ مِنَ الدَّيْنِ، لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى ضَيَاعِ الْمَالِ.

وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمَجْهُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهِ.

وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ بَيْنَ مَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ.

وَيَسْتَثْنِي الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ صُورَتَيْنِ: الْأُولَى: الْإِبْرَاءُ مِنْ إِبِلِ الدِّيَةِ، فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا مَعَ الْجَهْلِ بِصِفَتِهَا، لِاغْتِفَارِهِمْ ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِهَا فِي ذِمَّةِ الْجَانِي.وَكَذَا الْأَرْشُ وَالْحُكُومَةُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُمَا مَعَ الْجَهْلِ بِصِفَتِهِمَا.

الثَّانِيَةُ: إِذَا ذَكَرَ قَدْرًا يَتَحَقَّقُ أَنَّ حَقَّهُ أَقَلُّ مِنْهُ.

وَأُضِيفَ إِلَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ عَمَّا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ.

كَذَلِكَ الْجَهْلُ الْيَسِيرُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِسْقَاطِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَالْإِبْرَاءِ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ مُوَرِّثِهِ فِي التَّرِكَةِ، إِنْ عَلِمَ قَدْرَ التَّرِكَةِ، وَجَهِلَ قَدْرَ حِصَّتِهِ.

وَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ وَصِيَّةَ مُوَرِّثِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَجَزْتُ لِأَنِّي ظَنَنْتُ الْمَالَ قَلِيلًا، وَأَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ، وَقَدْ بَانَ أَنَّهُ كَثِيرٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا زَادَ عَلَى ظَنِّهِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَالُ ظَاهِرًا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُجِيزِ، أَوْ تَقُومُ بَيِّنَةٌ بِعِلْمِهِ وَبِقَدْرِهِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

62- أَمَّا الْإِبْرَاءُ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَالْحُكْمِ فِي الدَّيْنِ، مَعَ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْحَادِثِ وَالْقَائِمِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْأَشْهَرُ فِيهِ عَدَمُ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ.وَالرَّأْيُ الثَّانِي: يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ فِيهِ.وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِصِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَقَوْلٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يُبَرَّأُ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْعَيْبُ الْبَاطِنُ فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ بِهِ الْبَائِعُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُ مَا سِوَاهُ، وَقَلَّمَا يُبَرَّأُ مِنْ عَيْبٍ يَظْهَرُ أَوْ يَخْفَى، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّبَرِّي مِنَ الْعَيْبِ الْبَاطِنِ فِيهِ.

هَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِمَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ مَعَ الِاخْتِلَافِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَحَلِّ أَوْ شُرُوطِ الْإِسْقَاطِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ.

63- وَهُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنَ الْعَسِيرِ حَصْرُ هَذِهِ الْحُقُوقِ لِتَشَعُّبِهَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: حَقُّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ.

وَهُنَاكَ مَا لَا يَسْقُطُ لِقَاعِدَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهِيَ: أَنَّ صِفَاتِ الْحُقُوقِ لَا تُفْرَدُ بِالْإِسْقَاطِ كَالْأَجَلِ وَالْجَوْدَةِ، بَيْنَمَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجًا عَنْ قَاعِدَةِ «التَّابِعُ تَابِعٌ».

كَذَلِكَ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ وَلَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، فَلَوْ قَالَ رَبُّ السَّلَمِ: أَسْقَطْتُ حَقِّي فِي التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوِ الْبَلَدِ لَمْ يَسْقُطْ.وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِيمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ لَا لِأَحَدٍ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاطَ لَهُ صَارَ لَازِمًا كَلُزُومِ الْوَقْفِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَيُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ.

تَجَزُّؤُ الْإِسْقَاطِ:

64- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ يَرِدُ عَلَى مَحَلٍّ، وَالْمَحَلُّ هُوَ الْأَسَاسُ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّجَزُّؤِ، فَإِذَا كَانَ الْمَحَلُّ يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ فِي بَعْضِهِ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ، قِيلَ: إِنَّ الْإِسْقَاطَ يَتَجَزَّأُ.وَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِسْقَاطِ فِي بَعْضِهِ، بَلْ يَثْبُتُ فِي الْكُلِّ، قِيلَ: إِنَّ الْإِسْقَاطَ لَا يَتَجَزَّأُ.

وَمِنَ الْقَوَاعِدِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ وَالْأَتَاسِيُّ شَارِحُ الْمَجَلَّةِ: «ذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ».فَإِذَا طَلَّقَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، أَوْ طَلَّقَ نِصْفَ الْمَرْأَةِ طُلِّقَتْ، وَمِنْهَا الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ: إِذَا عَفَا عَنْ بَعْضِ الْقَاتِلِ كَانَ عَفْوًا عَنْ كُلِّهِ، وَكَذَا إِذَا عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ سَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا.وَخَرَجَ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْعِتْقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ لَمْ يَعْتِقْ كُلُّهُ.وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ لَا يَتَجَزَّأُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلُّهُ».وَأَدْخَلَ شَارِحُ الْمَجَلَّةِ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا: الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ، وَالشُّفْعَةَ، وَوِصَايَةَ الْأَبِ، وَالْوِلَايَةَ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِتَوْضِيحٍ أَكْثَر فَقَالُوا: مَا لَا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ يَكُونُ اخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ.وَذَكَرُوا تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمَسَائِلَ الَّتِي سَبَقَ إِيرَادُهَا عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ، وَهِيَ: الطَّلَاقُ وَالْقِصَاصُ وَالْعِتْقُ وَالشُّفْعَةُ.فَإِذَا عَفَا الشَّفِيعُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ سَقَطَ الْكُلُّ.وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ حَدَّ الْقَذْفِ، فَالْعَفْوُ عَنْ بَعْضِهِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْهُ.قَالَهُ الرَّافِعِيُّ.وَزَادَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: التَّعْزِيرَ، فَلَوْ عَفَا عَنْ بَعْضِهِ لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ.

وَالْمَسَائِلُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي وَرَدَتْ مِنْ طَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَقِصَاصٍ هِيَ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فِي أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُبَعَّضَ أَوِ الْمُضَافَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الزَّوْجَةِ، أَوِ الْعِتْقَ الْمُضَافَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، أَوْ عَفْوَ أَحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنِ الْقِصَاصِ، كُلُّ هَذَا يَسْرِي عَلَى الْكُلِّ، وَلَا يَتَبَعَّضُ الْمَحَلُّ، فَتُطَلَّقُ الْمَرْأَةُ، وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فِي الْأَصْلِ الْعَامِّ، إِلاَّ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعِتْقِ كَمَا سَبَقَ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي فُرُوعِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ.فَمَثَلًا إِضَافَةُ الطَّلَاقِ أَوِ الْعِتْقِ إِلَى الظُّفُرِ وَالسِّنِّ وَالشَّعَرِ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَزُولُ وَيَخْرُجُ غَيْرُهَا فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ.

وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الشَّعَرِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيَقَعُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالشُّفْعَةُ أَيْضًا الْأَصْلُ الْعَامُّ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ، حَتَّى لَا يَقَعَ ضَرَرٌ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.فَالشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يَتْرُكَ، وَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْبَعْضِ سَقَطَ الْكُلُّ.لَكِنْ وَقَعَ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذْ قِيلَ: إِنَّ إِسْقَاطَ بَعْضِ الشُّفْعَةِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْهَا.

وَلَيْسَ مِنْ تَبْعِيضِ الشُّفْعَةِ مَا إِذَا كَانَ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِذَا تَعَدَّدَ الشُّفَعَاءُ فَالشُّفْعَةُ عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ.

وَالدَّيْنُ مِمَّا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ، فَلِلدَّائِنِ أَخْذُ بَعْضِهِ وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ.

السَّاقِطُ لَا يَعُودُ

65- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلَاشَى، وَيُصْبِحُ كَالْمَعْدُومِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِعَادَتِهِ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ يَصِيرُ مِثْلَهُ لَا عَيْنَهُ، فَإِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ دَيْنٌ، إِلاَّ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ جَدِيدٌ، وَكَالْقِصَاصِ لَوْ عُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ وَسَلِمَتْ نَفْسُ الْقَاتِلِ، وَلَا تُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا.وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ، ثُمَّ رَجَعَتِ الدَّارُ إِلَى صَاحِبِهَا بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ، أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ لِلْمُشْتَرِي، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ بَطَلَ، فَلَا يَعُودُ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.

وَالْإِسْقَاطُ يَقَعُ عَلَى الْكَائِنِ الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا سَقَطَ لَا يَعُودُ، أَمَّا الْحَقُّ الَّذِي يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، أَيْ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِسْقَاطُ، لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ يُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ.وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي خَبَايَا الزَّوَايَا: لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِتَرْكِ الْفَسْخِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ، يُمَكَّنُ مِنَ الْفَسْخِ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَالْإِسْقَاطُ يُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ دُونَ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ بَعْدُ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ أَسْقَطَتِ الزَّوْجَةُ نَوْبَتَهَا لِضَرَّتِهَا فَلَهَا الرُّجُوعُ، لِأَنَّهَا أَسْقَطَتِ الْكَائِنَ، وَحَقُّهَا يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَا يَسْقُطُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا يَرِدُ أَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ، لِأَنَّ الْعَائِدَ غَيْرُ السَّاقِطِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا.وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ قَاعِدَةً فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُكْمِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَالْحُكْمُ مَعْدُومٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَانِعِ، وَإِنْ عُدِمَ الْمُقْتَضِي فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّاقِطِ.

فَهُنَاكَ فَرْقٌ إِذَنْ بَيْنَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، ثُمَّ سَقَطَ الْحُكْمُ لِمَانِعٍ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي عَادَ الْحُكْمُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عُدِمَ الْمُقْتَضِي فَلَا يَعُودُ الْحُكْمُ.

وَمِنْ ذَلِكَ حَقُّ الْحَضَانَةِ.جَاءَ فِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ لَا حَضَانَةَ لِفَاسِقٍ، وَلَا لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلَا تَزْوِيجَ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْ مَحْضُونٍ.وَبِمُجَرَّدِ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ فِسْقٍ أَوْ كُفْرٍ، أَوْ تَزَوُّجٍ بِأَجْنَبِيٍّ، وَبِمُجَرَّدِ رُجُوعِ مُمْتَنِعٍ مِنْ حَضَانَةٍ يَعُودُ الْحَقُّ لَهُ فِي الْحَضَانَةِ، لِقِيَامِ سَبَبِهَا مَعَ زَوَالِ الْمَانِعِ.

هَذَا مَعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، هَلِ الْحَضَانَةُ حَقُّ الْحَاضِنِ أَوْ حَقُّ الْمَحْضُونِ.وَفِي الدُّسُوقِيِّ: إِذَا انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ لِشَخْصٍ لِمَانِعٍ، ثُمَّ زَالَ الْمَانِعُ فَإِنَّهَا تَعُودُ لِلْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتِ الْأُمُّ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ، وَأَخَذَتِ الْجَدَّةُ الْوَلَدَ، ثُمَّ فَارَقَ الزَّوْجُ الْأُمَّ، وَقَدْ مَاتَتِ الْجَدَّةُ، أَوْ تَزَوَّجَتْ، وَالْأُمُّ خَالِيَةٌ مِنَ الْمَوَانِعِ، فَهِيَ أَحَقُّ مِمَّنْ بَعْدَ الْجَدَّةِ، وَهِيَ الْخَالَةُ وَمَنْ بَعْدَهَا.كَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (الدَّرْدِيرُ)، وَهُوَ ضَعِيفٌ.وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْجَدَّةَ إِذَا مَاتَتِ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ لِمَنْ بَعْدَهَا كَالْخَالَةِ، وَلَا تَعُودُ لِلْأُمِّ وَلَوْ كَانَتْ مُتَأَيِّمَةً (لَا زَوْجَ لَهَا).

وَفِي الْجُمَلِ عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ: لَوْ أَسْقَطَتِ الْحَاضِنَةُ حَقَّهَا انْتَقَلَتْ لِمَنْ يَلِيهَا، فَإِذَا رَجَعَتْ عَادَ حَقُّهَا.وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ.

وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَفَرَّعْتُ عَلَى «وَقَوْلُهُمْ: السَّاقِطُ لَا يَعُودُ» قَوْلَهُمْ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِرَدِّ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ، لِفِسْقٍ أَوْ لِتُهْمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ.

وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيْمٍ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا هُوَ مُسْقِطٌ وَمَا هُوَ مَانِعٌ قَوْلُهُ: لَا يَعُودُ التَّرْتِيبُ بَعْدَ سُقُوطِهِ بِقِلَّةِ الْفَوَائِتِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَقَطَ بِالنِّسْيَانِ فَإِنَّهُ يَعُودُ بِالتَّذَكُّرِ، لِأَنَّ النِّسْيَانَ كَانَ مَانِعًا لَا مُسْقِطًا، فَهُوَ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ.وَلَا تَصِحُّ إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ، لِأَنَّهُ دَيْنٌ سَاقِطٌ فَلَا يَعُودُ.أَمَّا عَوْدُ النَّفَقَةِ- بَعْدَ سُقُوطِهَا بِالنُّشُوزِ- بِالرُّجُوعِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ، لَا مِنْ بَابِ عَوْدِ السَّاقِطِ.وَتُنْظَرُ الْفُرُوعُ فِي أَبْوَابِهَا.

أَثَرُ الْإِسْقَاطِ:

66- يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ آثَارٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ.وَمِنْ ذَلِكَ:

(1) إِسْقَاطُ رَجُلٍ الِانْتِقَاعَ بِالْبُضْعِ بِالطَّلَاقِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ، كَالْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَجَوَازِ الرَّجْعَةِ، إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَعَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ بَائِنًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ.ر: (طَلَاق).

(2) الْإِعْتَاقُ وَهُوَ: إِزَالَةُ الرِّقِّ عَنِ الْمَمْلُوكِ وَإِثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ لَهُ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكُهُ لِمَالِهِ وَكَسْبِهِ، وَإِطْلَاقُ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَإِثْبَاتُ حَقِّ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتَقِ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ.ر: (عِتْق).

(3) قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ إِثْبَاتُ حُقُوقٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ، كَإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اسْتِقْرَارُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، وَإِسْقَاطُ حَقِّ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لُزُومُ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ.وَإِجَازَةُ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا لُزُومُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (بَيْع- خِيَار- شُفْعَة- فُضُولِيّ).

(4) وَمِنَ الْآثَارِ مَا يَرِدُ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْفَرْعُ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْأَصْلِ، كَمَا إِذَا أُبْرِئَ الْمَضْمُونُ أَوِ الْمَكْفُولُ عَنِ الدَّيْنِ بُرِّئَ الضَّامِنُ وَالْكَفِيلُ، لِأَنَّ الضَّامِنَ وَالْكَفِيلَ فَرْعٌ، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ الْفَرْعُ وَلَا عَكْسَ، فَلَوْ أُبْرِئَ الضَّامِنُ لَمْ يُبَرَّأِ الْأَصِيلُ، لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ وَثِيقَةٍ فَلَا يَسْقُطُ بِهَا الدَّيْنُ.ر: (كَفَالَة- ضَمَان).

(5) وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ الْحُصُولُ عَلَى حَقٍّ كَانَ صَاحِبُهُ مَمْنُوعًا مِنْهُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ مِثْلُ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ، بِنَحْوِ وَقْفٍ أَوْ هِبَةٍ، إِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّ مَنْعَهُ كَانَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِإِذْنِهِ.

(6) الْغَرِيمُ إِذَا وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمُفْلِسِ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ بِشُرُوطٍ مِنْهَا: أَلاَّ يَتَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ كَشُفْعَةٍ وَرَهْنٍ.فَإِذَا أَسْقَطَ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ حُقُوقَهُمْ، بِأَنْ أَسْقَطَ الشَّفِيعُ شُفْعَتَهُ، أَوْ أَسْقَطَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ فِي الرَّهْنِ فَلِرَبِّ الْعَيْنِ أَخْذُهَا.

(7) إِذَا أَجَّلَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بَعْدَ الْعَقْدِ سَقَطَ حَقُّ الْحَبْسِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ، لِأَنَّهُ أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَلَا يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ.

(8) لَوْ أَجَّلَتِ الزَّوْجَةُ الْمَهْرَ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بِالتَّأْجِيلِ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّ نَفْسِهَا، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجِ.وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمَهْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ تَسْلِيمُهُ عَلَى تَسْلِيمِ النَّفْسِ، فَلَمَّا قَبِلَ الزَّوْجُ التَّأْجِيلَ كَانَ ذَلِكَ رِضًا بِتَأْخِيرِ حَقِّ نَفْسِهَا فِي الْقَبْضِ، بِخِلَافِ الْبَائِعِ.وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْوَصِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ فِي: (إِفْلَاسٌ- بَيْعٌ- حَبْس- رَهْن).

(9) إِسْقَاطُ الشَّارِعِ الْعِبَادَاتِ بِسَبَبِ الْأَعْذَارِ قَدْ يَسْقُطُ الطَّلَبُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ، كَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.وَقَدْ يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ، كَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ.

(10) الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ مِنَ الْحَقِّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُبَرَّأِ مَتَى اسْتَوْفَى الْإِبْرَاءُ شُرُوطَهُ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ حَقٍّ خَاصٍّ أَمْ حَقٍّ عَامٍّ، بِحَسَبِ مَا يَرِدُ فِي صِيغَةِ الْمُبَرِّئِ.

وَيَتَرَتَّبُ كَذَلِكَ سُقُوطُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ، فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْإِبْرَاءُ إِلَى حِينِ وُقُوعِهِ، دُونَ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ.وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ بِحُجَّةِ الْجَهْلِ أَوِ النِّسْيَانِ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِبْرَاءُ مَعَ الصُّلْحِ.فَإِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ مَعَ الصُّلْحِ، أَوْ وَقَعَ بَعْدَ الصُّلْحِ إِبْرَاءٌ عَامٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُهُ فَلَهُ نَقْضُهُ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ عَلَى دَوَامِ صِفَةِ الصُّلْحِ لَا إِبْرَاءٌ مُطْلَقٌ، إِلاَّ إِذَا الْتَزَمَ فِي الصُّلْحِ عَدَمَ الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِبَيِّنَةٍ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى.هَذَا، مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْإِبْرَاءِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ، كَضَمَانِ الدَّرَكِ (اسْتِحْقَاقُ الْمَبِيعِ)، وَكَدَعْوَى الْوَكَالَةِ وَالْوِصَايَةِ، وَكَادِّعَاءِ الْوَارِثِ دَيْنًا لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي (إِبْرَاءٌ- دَعْوَى).

(11) الْإِبْرَاءُ الْعَامُّ يَمْنَعُ الدَّعْوَى بِالْحَقِّ قَضَاءً لَا دِيَانَةً، إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ بِمَالِهِ مِنَ الْحَقِّ لَمْ يُبَرِّئْهُ، كَمَا فِي الْفَتَاوَى الْوَلْوَالَجِيَّةِ.لَكِنْ فِي خِزَانَةِ الْفَتَاوَى: الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ يُبَرَّأُ قَضَاءً وَدِيَانَةً وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَبْرَأَهُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ بُرِّئَ فِيهِمَا، لِأَنَّ أَحْكَامَ الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، ذَكَرَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ.

بُطْلَانُ الْإِسْقَاطِ

67- لِلْإِسْقَاطِ أَرْكَانٌ، وَلِكُلِّ رُكْنٍ شُرُوطُهُ الْخَاصَّةُ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطٌ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا بَطَلَ الْإِسْقَاطُ، أَيْ بَطَلَ حُكْمُهُ، فَلَا يَنْفُذُ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْقِطِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، فَإِذَا كَانَ الْمُتَصَرِّفُ بِالْإِسْقَاطِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ وَلَا يَنْفُذُ.

وَلَوْ كَانَ التَّصَرُّفُ بِالْإِسْقَاطِ مُنَافِيًا لِلْمَشْرُوعِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَصَرُّفًا بَاطِلًا وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، كَإِسْقَاطِ الْوِلَايَةِ، أَوْ إِسْقَاطِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ.

وَكَذَلِكَ الْإِسْقَاطُ لَا يَرِدُ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَيُعْتَبَرُ إِسْقَاطُهَا بَاطِلًا.وَلِذَلِكَ خَرَّجَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِسْقَاطِ الضَّمَانِ.

وَقَدْ يَقَعُ الْإِسْقَاطُ صَحِيحًا، لَكِنْ يَبْطُلُ إِذَا رَدَّهُ الْمُسْقَطُ عَنْهُ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالْحَنَفِيَّةِ. فِي قَاعِدَةٍ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ هِيَ: أَنَّهُ إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ، فَلْو أَبْرَأَهُ ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَسَدَ الْإِبْرَاءُ.

وَأَغْلَبُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَرَدَتْ فِيمَا سَبَقَ فِي الْبَحْثِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


29-موسوعة الفقه الكويتية (إشهاد 2)

إِشْهَادٌ -2

وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اسْتِحْبَابُ الْإِشْهَادِ.

وَيَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى مَا مَعَ اللَّقِيطِ تَبَعًا لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلِئَلاَّ يَتَمَلَّكَهُ.وَقَيَّدَ الْمَاوَرْدِيُّ وُجُوبَ الْإِشْهَادِ عَلَى اللَّقِيطِ وَعَلَى مَا مَعَهُ بِحَالَةِ مَا إِذَا كَانَ هُوَ الْمُلْتَقِطُ.

أَمَّا مَنْ سَلَّمَهُ الْحَاكِمُ لَهُ لِيَكْفُلَهُ فَالْإِشْهَادُ مُسْتَحَبٌّ لَهُ قَطْعًا.

الْإِشْهَادُ عَلَى نَفَقَةِ اللَّقِيطِ:

35- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ اشْتَرَطُوا لِجَوَازِ الرُّجُوعِ بِمَا يُنْفِقُهُ الْمُلْتَقِطُ عَلَى اللَّقِيطِ الْإِشْهَادُ عَلَى إِرَادَتِهِ الرُّجُوعَ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُنْفِقُ مِنِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ.وَوُجُوبُ الْإِشْهَادِ هُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُشْتَرَطُ.

وَلَا يَتَأَتَّى الْقَوْلُ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَالْمُلْتَقِطُ يُنْفِقُ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى اللَّقِيطِ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُ بِالِالْتِقَاطِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ.

الْإِشْهَادُ بِالْبَاطِلِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الْحَقِّ:

36- فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِشْهَادُ بِالْبَاطِلِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الْحَقِّ فِي صُوَرٍ ذَكَرُوهَا.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي يُزَوِّجُهَا وَلِيٌّ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَيَثْبُتُ لَهَا شَرْعًا خِيَارُ الْبُلُوغِ فِي النِّكَاحِ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنَّهَا إِذَا رَأَتِ الْحَيْضَ فِي اللَّيْلِ وَاخْتَارَتِ الْفَسْخَ فَوْرًا، فَإِنَّهَا حِينَ تُشْهِدُ فِي الصَّبَاحِ عَلَى الْبُلُوغِ تَقُولُ: بَلَغْتُ الْآنَ، ضَرُورَةُ إِحْيَاءِ الْحَقِّ، لِأَنَّ خِيَارَ الْبُلُوغِ يَسْقُطُ بِالتَّرَاخِي، فَلَوْ أَخْبَرَتْ عَنِ اخْتِيَارِهَا مُتَبَاعِدًا عَنِ الْإِشْهَادِ لَمْ تَسْتَفِدْ مِنَ الْخِيَارِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ، وَلَمْ يَنْتَظِمْ بَيْتُ الْمَالِ أَنْ يَتَحَيَّلَ عَلَى إِخْرَاجِ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِمَّتِهِ، كَزَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَاتٍ وَجَبَ إِخْرَاجُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَوْ أَتَى عَلَى جَمِيعِهِ بَعْدَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَيْنِ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ عِدَّةَ صُوَرٍ مِنْهَا: مَا يُسَمَّى بِمَسْأَلَةِ إِيدَاعِ الشَّهَادَةِ، كَأَنْ يَقُولَ لَهُ الْخَصْمُ: لَا أُقِرُّ لَكَ حَتَّى تُبْرِئَنِي مِنْ نِصْفِ الدَّيْنِ أَوْ ثُلُثِهِ، وَأَشْهَدُ عَلَيْكَ إِنَّكَ لَا تَسْتَحِقُّ عَلَى بُعْدِ ذَلِكَ شَيْئًا، فَيَأْتِي صَاحِبُ الْحَقِّ إِلَى رَجُلَيْنِ فَيَقُولُ: اشْهَدَا أَنِّي عَلَى طَلَبِ حَقِّي كُلِّهِ مِنْ فُلَانٍ، وَأَنِّي لَمْ أُبْرِئْهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُظْهِرَ مُصَالَحَتَهُ عَلَى بَعْضِهِ، لِأَتَوَصَّلَ بِالصُّلْحِ إِلَى أَخْذِ بَعْضِ حَقِّي، وَأَنِّي إِذَا أَشْهَدْتُ أَنِّي لَا أَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ سِوَى مَا صَالَحَنِي عَلَيْهِ فَهُوَ إِشْهَادٌ بَاطِلٌ، وَأَنِّي إِنَّمَا أَشْهَدْتُ عَلَى ذَلِكَ تَوَصُّلًا إِلَى أَخْذِ بَعْضِ حَقِّي، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بَقَاءَهُ عَلَى حَقِّهِ، وَيُقِيمَ الشَّهَادَةَ بِذَلِكَ.فَالْإِنْسَانُ لَهُ التَّوَصُّلُ إِلَى حَقِّهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ جَائِزٍ، وَقَدْ تَوَصَّلَ الْمَظْلُومُ إِلَى حَقِّهِ بِطَرِيقٍ لَمْ يُسْقِطْ بِهَا حَقًّا لِأَحَدٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ، فَلَا خَرَجَ بِهَا مِنْ حَقٍّ، وَلَا دَخَلَ بِهَا فِي بَاطِلٍ.

وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَيَجْحَدُهُ، وَيَأْبَى أَنْ يُقِرَّ بِهِ حَتَّى تُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ، فَتَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهَا أَنَّهَا لَيْسَتِ امْرَأَةَ فُلَانٍ، وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ إِقْرَارًا كَاذِبًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ لِأَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى أَخْذِ مَالِي عِنْدَهُ، فَاشْهَدُوا أَنَّ إِقْرَارِي بِالزَّوْجِيَّةِ بَاطِلٌ أَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى أَخْذِ حَقِّي.

وَمِثْلُهُ أَيْضًا: أَنْ يُنْكِرَ نَسَبَ أَخِيهِ، وَيَأْبَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِهِ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ شَيْئًا، وَأَنَّهُ قَدْ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ فِي ذِمَّتِهِ مِنْهَا، أَوْ أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ مَا يَخُصُّهُ مِنْهَا، أَوْ أَنَّهُ قَبَضَهُ، أَوِ اعْتَاضَ عَنْهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيُودِعُ الشَّهَادَةَ عَدْلَيْنِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حَقِّهِ، وَأَنَّهُ يُظْهِرُ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ تَوَصُّلًا إِلَى إِقْرَارِ أَخِيهِ بِنَسَبِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ شَيْئًا وَلَا أَبْرَأَ أَخَاهُ وَلَا عَاوَضَهُ وَلَا وَهَبَهُ.

الْإِشْهَادُ عَلَى كِتَابَةِ الْوَصِيَّةِ:

37- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَفَاذِ الْوَصِيَّةِ إِنْ كَتَبَ الْمُوصِي وَصِيَّتَهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَى الْشُّهُودِ.

وَيَخْتَلِفُونَ إِنْ كَتَبَهَا وَلَمْ يَعْلَمِ الشُّهُودُ بِمَا فِيهَا، سَوَاءٌ أَكَتَبَهَا وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا أَمْ كَتَبَهَا فِي غَيْبَةِ الشُّهُودِ، ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَيْهَا.

فَإِنْ كَتَبَهَا مُبْهَمَةً ثُمَّ دَعَا الشُّهُودَ، وَقَالَ: هَذِهِ وَصِيَّتِي فَاشْهَدُوا عَلَى مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي نَفَاذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَعَدَمِهِ رَأْيَانِ:

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ النَّفَاذِ، وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو قِلَابَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ.إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَطْلَقَتْ هَذَا الْقَوْلَ، وَبَعْضُهَا قَيَّدَهُ بِمَا إِذَا لَمْ يُعْرَفْ خَطُّ الْكَاتِبِ، وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ النَّفَاذِ: إِنَّ الْحُكْمَ لَا يَجُوزُ بِرُؤْيَةِ خَطِّ الشَّاهِدِ بِالشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا هُنَا.

الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْإِشْهَادَ يَصِحُّ وَيَنْفُذُ بِهِ الْوَصِيَّةُ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهَا عَلَى الشُّهُودِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ الْمَرْوَزِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَالِمٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ.

فَإِنْ كَتَبَهَا بِحَضْرَتِهِمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهَا، دُونَ عِلْمٍ بِمَا فِيهَا فَإِنَّهَا تَنْفُذُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِذَا أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ إِنْ عُرِفَ خَطُّهُ.وَالْعَمَلُ حِينَئِذٍ بِالْخَطِّ لَا بِالْإِشْهَادِ.وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى وَمَكْحُولٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقُ، وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ بِكَتْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى عُمَّالِهِ وَأُمَرَائِهِ فِي أَمْرِ وِلَايَتِهِ وَأَحْكَامِ سُنَنِهِ، ثُمَّ مَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ بَعْدَهُ مِنْ كَتْبِهِمْ إِلَى وُلَاتِهِمُ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَحْكَامًا فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ، يَبْعَثُونَ بِهَا مَخْتُومَةً لَا يَعْلَمُ حَامِلُهَا مَا فِيهَا، وَأَمْضَوْهَا عَلَى وُجُوهِهَا.وَذَكَرَ اسْتِخْلَافَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ وَخَتَمَ عَلَيْهِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ مَعَ شُهْرَتِهِ فِي عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فَكَانَ إِجْمَاعًا.

وَلَا تَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَوَجْهُهُ أَنَّهُ كِتَابٌ لَا يَعْلَمُ الشَّاهِدُ مَا فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ، كَكِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي.

الْإِشْهَادُ عَلَى النِّكَاحِ:

38- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ إِلاَّ بِإِشْهَادٍ عَلَى الْعَقْدِ، لِقَوْلِهِ «- صلى الله عليه وسلم-: لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ.

وَالْمَعْنَى فِيهِ صِيَانَةُ الْأَنْكِحَةِ عَنِ الْجُحُودِ، وَالِاحْتِيَاطِ لِلْأَبْضَاعِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْإِشْهَادُ عَلَى الْعَقْدِ مُسْتَحَبٌّ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ الْإِشْهَادُ عِنْدَ الدُّخُولِ، فَإِنْ أَشْهَدَا قَبْلَ الدُّخُولِ صَحَّ النِّكَاحُ مَا لَمْ يَقْصِدَا الِاسْتِسْرَارَ بِالْعَقْدِ.فَإِنْ قَصَدَاهُ لَمْ يُقِرَّا عَلَى النِّكَاحِ عَلَيْهِ، لِنَهْيِهِ- عليه الصلاة والسلام- عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ، وَيُؤْمَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْعَقْدَ.

وَإِنْ دَخَلَا بِلَا إِشْهَادٍ فُسِخَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ، وَحُدَّا فِي الْحَالَتَيْنِ، مَا لَمْ يَكُنِ النِّكَاحُ فَاشِيًّا.

وَهُنَاكَ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلَاتٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِشْهَادِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحٌ).

الْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ:

39- لِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ رَأْيَانِ:

أَوَّلُهُمَا: نَدْبُ الْإِشْهَادِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ.وَالْإِشْهَادُ عِنْدَهُمْ يَكُونُ عَلَى صِيغَةِ الرَّجْعَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ بِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَثَانِيهِمَا: وُجُوبُ الْإِشْهَادِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ بُكَيْرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَدَلَّ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ مَطْلُوبٌ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.

فَحَمَلَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ الْأَمْرَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَبُولٍ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى شَهَادَةٍ، كَسَائِرِ حُقُوقِ الزَّوْجِ، وَلِأَنَّهَا اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ وَهَذَا لَا يَتَطَلَّبُ الْإِشْهَادَ.وَحَمَلَ الْفَرِيقُ الثَّانِي الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ.

ثُمَّ مَنْ أَوْجَبَ الْإِشْهَادَ إِذَا رَاجَعَهَا بِدُونِهِ هَلْ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ؟

مَنِ اعْتَبَرَ الْإِشْهَادَ شَرْطًا قَالَ: لَا تَصِحُّ، وَمَنِ اعْتَبَرَهُ وَاجِبًا دِيَانَةً فَقَطْ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ مَعَ الْإِثْمِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَبْحَثِ الرَّجْعَةِ.

إِشْهَادُ الْمُنْفِقِ عَلَى الصَّغِيرِ:

40- نَفَقَةُ الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ فَيُلْزَمُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِشْهَادٍ.

وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِهِمَا بِقَصْدِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ لِجَوَازِ الرُّجُوعِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ مِنَ الْإِشْهَادِ.

وَكَذَلِكَ إِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ).

الْإِشْهَادُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ لِيَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ:

41- مَنْ أَنْفَقَ عَلَى مَنْ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ حَتَّى يَرْجِعَ بِمَا يُنْفِقُ، وَذَلِكَ إِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِئْذَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ أَوِ الْحَاكِمُ.وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاكْتَفَى الْمَالِكِيَّةُ بِيَمِينِ الْمُنْفِقِ: أَنَّهُ أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ.وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ قَيِّمَ الْوَقْفِ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى الْوَقْفِ مِنْ مَالِهِ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشْهَادِ.وَيُمْكِنُ التَّخْرِيجُ عَلَى هَذِهِ عِنْدَهُمْ فِيمَا يُشْبِهُ الْوَقْفَ.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (الْوَقْفِ الْوَدِيعَةِ وَالرَّهْنِ وَالنَّفَقَةِ وَاللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ).

الْإِشْهَادُ عَلَى الْحَائِطِ الْمَائِلِ لِلضَّمَانِ:

42- إِذَا سَقَطَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ، فَتَلِفَ بِسُقُوطِهِ شَيْءٌ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ، إِلاَّ إِذَا طُلِبَ إِلَيْهِ إِزَالَةُ الْحَائِطِ قَبْلَ سُقُوطِهِ، وَأَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ.وَيَتَحَقَّقُ الطَّلَبُ مِنْ أَيِّ عَاقِلٍ وَلَوْ صَبِيًّا.وَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ الضَّرَرُ وَاقِعًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي هَلَاكِ النَّفْسِ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ إِلْحَاقًا بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْإِشْهَادَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ مِنَ الْقَاضِي أَوْ مِمَّنْ لَهُ النَّظَرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ كَالْبَلَدِيَّةِ الْآنَ.وَأَمَّا طَلَبُ النَّاسِ وَإِشْهَادُهُمْ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي مَكَانٍ لَيْسَ بِهِ قَاضٍ وَلَا مَسْئُولٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا.وَيَكُونُ الضَّمَانُ عِنْدَهُمْ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ إِنْ قَصَّرَ.

وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَا يُوجِبُونَ الْإِشْهَادَ عَلَى الطَّلَبِ، وَإِنَّمَا يَكْفِي عِنْدَهُمُ الطَّلَبُ وَحْدَهُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ.

وَأَمَّا شُرُوطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَرْجِعُ إِلَيْهَا فِي مَوْضُوعِ الضَّمَانِ وَالْجِنَايَاتِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


30-موسوعة الفقه الكويتية (إغماء)

إِغْمَاءٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِغْمَاءُ: مَصْدَرُ (أُغْمِيَ عَلَى الرَّجُلِ) مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَالْإِغْمَاءُ مَرَضٌ يُزِيلُ الْقُوَى وَيَسْتُرُ الْعَقْلَ، وَقِيلَ: فُتُورٌ عَارِضٌ لَا بِمُخَدِّرٍ يُزِيلُ عَمَلَ الْقُوَى.

وَلَا يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ هَذَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- النَّوْمُ:

2- عَرَّفَ الْجُرْجَانِيُّ النَّوْمَ بِأَنَّهُ: حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَتَعَطَّلُ مَعَهَا الْقُوَى مَعَ سَلَامَتِهَا.

فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِغْمَاءِ اشْتِرَاكٌ وَاخْتِلَافٌ فِي تَعَطُّلِ الْقُوَى، وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ الْإِغْمَاءَ مِنَ الْمَرَضِ، وَالنَّوْمَ مَعَ السَّلَامَةِ.

ب- الْعَتَهُ:

3- الْعَتَهُ: عِلَّةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ الذَّاتِ، تُوجِبُ خَلَلًا فِي الْعَقْلِ، فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْعَقْلِ، فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلَامِهِ كَلَامَ الْعُقَلَاءِ، وَبَعْضُهُ كَلَامَ الْمَجَانِينِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِغْمَاءِ: أَنَّ الْإِغْمَاءَ مُؤَقَّتٌ، وَالْعَتَهُ مُسْتَمِرٌّ غَالِبًا، وَالْإِغْمَاءُ يُزِيلُ الْقُوَى كُلَّهَا، وَالْعَتَهُ يُضْعِفُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ.

ج- الْجُنُونُ:

4- الْجُنُونُ: مَرَضٌ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَيَزِيدُ الْقُوَى غَالِبًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِغْمَاءِ أَنَّ الْجُنُونَ يَسْلُبُ الْعَقْلَ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مَنْ وَقَعَ بِهِ مَغْلُوبًا لَا مَسْلُوبَ الْعَقْلِ.

وَهُنَاكَ أَلْفَاظٌ أُخْرَى ذَاتُ صِلَةٍ بِالْإِغْمَاءِ، كَالسُّكْرِ وَالصَّرْعِ وَالْغَشْيِ، تُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهَا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ، وَيَتَكَلَّمُ عَنْهَا الْفُقَهَاءُ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَالْجِنَايَاتِ، وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْعُقُودِ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي الْأَهْلِيَّةِ.

5- الْإِغْمَاءُ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ مَنَاطَهَا الْإِنْسَانِيَّةُ، أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ فَإِنَّهُ يُنَافِيهَا، لِأَنَّ مَدَارَهَا الْعَقْلُ، وَهُوَ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ:

أ- فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ:

6- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِغْمَاءَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ قِيَاسًا عَلَى النَّوْمِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى، لِأَنَّ النَّائِمَ إِذَا أُوقِظَ اسْتَيْقَظَ بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.

وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ.

ب- أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ:

7- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ إِلاَّ أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا، مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الرَّجُلِ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءٌ، إِلاَّ أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيُفِيقَ فِي وَقْتِهَا فَيُصَلِّيَهَا».

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ قَضَاهَا، وَإِنْ زَادَتْ سَقَطَ فَرْضُ الْقَضَاءِ فِي الْكُلِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي التَّكْرَارِ فَأَسْقَطَ الْقَضَاءَ كَالْجُنُونِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ الْقَضَاءُ إِذَا صَارَتِ الصَّلَوَاتُ سِتًّا وَدَخَلَ فِي السَّابِعَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّكْرَارُ.

لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ أَقَامَا الْوَقْتَ مَقَامَ الصَّلَوَاتِ تَيْسِيرًا فَتُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ بِالسَّاعَاتِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي حَالِ إِغْمَائِهِ، مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارًا غُشِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا لَا يُصَلِّي، ثُمَّ اسْتَفَاقَ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ (أَيْ عَمَّارٌ): هَلْ صَلَّيْتُ؟ فَقَالُوا: مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: أَعْطُونِي وُضُوءًا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى تِلْكَ اللَّيْلَةَ.وَرَوَى أَبُو مِجْلَزٍ أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ قَالَ: الْمُغْمَى عَلَيْهِ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ يُصَلِّي مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ صَلَاةً مِثْلَهَا قَالَ: قَالَ عِمْرَانُ: زَعَمَ، وَلَكِنْ لِيُصَلِّهِنَّ جَمِيعًا، وَرَوَى الْأَثْرَمُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي سُنَنِهِ وَهَذَا فِعْلُ الصَّحَابَةِ وَقَوْلُهُمْ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا.وَلِأَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الصِّيَامِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ النَّوْمَ.

ج- أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي الصِّيَامِ:

8- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُسْقِطُ قَضَاءَ الصِّيَامِ، فَلَوْ أُغْمِيَ عَلَى شَخْصٍ جَمِيعَ الشَّهْرِ، ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّهِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ، وَهُوَ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ، إِلاَّ عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي حَقِّهِ لِزَوَالِ عَقْلِهِ بِالْإِغْمَاءِ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَبْتَنِي عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ.

وَاسْتَدَلَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ بِأَنَّ الْإِغْمَاءَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ الصَّوْمِ إِلَى زَوَالِهِ لَا فِي إِسْقَاطِهِ، لِأَنَّ سُقُوطَهُ يَكُونُ بِزَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ أَوْ بِالْحَرَجِ، وَلَا تَزُولُ الْأَهْلِيَّةُ بِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ بِهِ، لِأَنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ، وَامْتِدَادُهُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ نَادِرٌ، لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.وَحَيَاةُ الْإِنْسَانِ شَهْرًا بِدُونِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ نَادِرًا فَلَا يَصْلُحُ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.

9- وَمَنْ نَوَى الصَّوْمَ مِنَ اللَّيْلِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَمْ يُفِقْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ لِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ مَعَ النِّيَّةِ.قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي» فَأَضَافَ تَرْكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ.فَإِذَا كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ الْإِمْسَاكُ إِلَيْهِ فَلَمْ يُجْزِهِ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ صَوْمُهُ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَدْ صَحَّتْ وَزَوَالُ الِاسْتِشْعَارِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ كَالنَّوْمِ.

وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ نَوَى الصِّيَامَ وَأَفَاقَ لَحْظَةً فِي النَّهَارِ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ، أَيَّ لَحْظَةٍ كَانَتْ، اكْتِفَاءً بِالنِّيَّةِ مَعَ الْإِفَاقَةِ فِي جُزْءٍ، لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْعَقْلِ فَوْقَ النَّوْمِ وَدُونَ الْجُنُونِ.فَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْمُسْتَغْرِقَ مِنْهُ لَا يَضُرُّ لأُلْحِقَ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ.وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ اللَّحْظَةَ مِنْهُ تَضُرُّ كَالْجُنُونِ لأُلْحِقَ الْأَضْعَفُ بِالْأَقْوَى فَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.وَقِيلَ: إِنَّ الْإِفَاقَةَ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ كَافِيَةٌ.وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْإِغْمَاءَ يَضُرُّ مُطْلَقًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ.

د- أَثَرُهُ فِي الْحَجِّ:

10- الْإِغْمَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ.فَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ أَدَاءُ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَلَكِنْ هَلْ يَصِحُّ إِحْرَامُ الْغَيْرِ عَنْهُ بِدُونِ إِذْنٍ مِنْهُ؟ وَهَلْ إِذَا أَنَابَ أَحَدًا تُقْبَلُ الْإِنَابَةُ؟

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يُحْرِمُ عَنْهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَائِلِ الْعَقْلِ وَبُرْؤُهُ مَرْجُوٌّ عَلَى الْقُرْبِ.وَلَوْ أَيِسَ مِنْ بُرْئِهِ بِأَنْ زَادَ إِغْمَاؤُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُحْرِمُ الْوَلِيُّ عَنْهُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَقَاسُوا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ.

وَمَنْ يُرْجَى بُرْؤُهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ، وَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ وَلَا تُجْزِئُهُ إِنْ وَقَعَتْ، وَفَارَقَ الْمَيْئُوسَ مِنْ بُرْئِهِ، لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ آيِسٌ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ فَأَشْبَهَ الْمَيِّتَ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ جَازَ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: لَا يَجُوزُ.وَلَوْ أَمَرَ إِنْسَانًا بِأَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوْ نَامَ فَأَحْرَمَ الْمَأْمُورُ عَنْهُ صَحَّ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى إِذَا أَفَاقَ أَوِ اسْتَيْقَظَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ جَازَ.اسْتَدَلَّ الصَّاحِبَانِ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ، وَالدَّلَالَةُ تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ وَجَوَازُ الْإِذْنِ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ؟ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَ رُفَقَاءَهُ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدِ اسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْإِحْرَامُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ، فَكَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً، وَالْعِلْمُ ثَابِتٌ نَظَرًا إِلَى الدَّلِيلِ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ عَنِ الْمُغْمَى.

عَلَيْهِ وَلَوْ خِيفَ فَوَاتُ الْحَجِّ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ عَدَمِ الطَّوْلِ ثُمَّ إِنْ أَفَاقَ فِي زَمَنٍ يُدْرِكُ الْوُقُوفَ فِيهِ أَحْرَمَ وَأَدْرَكَ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي عَدَمِ إِحْرَامِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ.

11- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَالْكُلُّ مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَفَاقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْوُقُوفِ وَلَوْ لَحْظَةً أَجْزَأَهُ.وَإِنْ لَمْ يُفِقْ مِنْ إِغْمَائِهِ إِلاَّ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ فَاتَهُ الْحَجُّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِحْرَامِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ وَوُقُوفِهِمْ فِي عَرَفَةَ.وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ فِي إِجْزَاءِ وُقُوفِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَوْ عَدَمِهِ.

وَالْحَنَفِيَّةُ يَكْتَفُونَ بِالْكَيْنُونَةِ فِي مَحَلِّ الْوُقُوفِ وَزَمَنِهِ مَعَ سَبْقِ الْإِحْرَامِ، فَوُقُوفُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مُجْزِئٌ.

أَمَّا أَثَرُ الْإِغْمَاءِ عَلَى بَاقِي أَعْمَالِ الْحَجِّ فَيُنْظَرُ فِي الْحَجِّ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ عَلَى الزَّكَاةِ:

12- الْمُغْمَى عَلَيْهِ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَتَجِبُ فِي مَالِهِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِهَا فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْأَدَاءُ، وَعَلَيْهِ إِذَا أَفَاقَ قَضَاؤُهَا وَلَوِ امْتَدَّ بِهِ الْإِغْمَاءُ، إِذِ امْتِدَادُهُ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ:

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْإِغْمَاءَ كَالنَّوْمِ بَلْ أَشَدَّ مِنْهُ فِي فَوْتِ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ النَّوْمَ يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِالتَّنْبِيهِ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ.وَتَبْطُلُ عِبَادَاتُ النَّائِمِ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.فَبُطْلَانُهَا بِالْإِغْمَاءِ أَوْلَى.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلاَّ طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ» وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَّقَ فِي حَالِ نَوْمِهِ لَا طَلَاقَ لَهُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ أَشَدُّ حَالًا مِنَ النَّائِمِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا طَلَّقَ فَلَمَّا أَفَاقَ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِذَلِكَ قَالَ: إِذَا كَانَ ذَاكِرًا لِذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ، يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَمِثْلُ مَا ذُكِرَ كُلُّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ:

14- كُلُّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ يَصْدُرُ فِي حَالِ الْإِغْمَاءِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لَكِنْ إِذَا تَمَّ التَّصَرُّفُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ ثُمَّ طَرَأَ الْإِغْمَاءُ لَا يَنْفَسِخُ لِتَمَامِهِ فِي حَالٍ تَصِحُّ فِيهَا.

وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْإِغْمَاءِ الْمُؤَقَّتِ، وَلَا الْمُغْمَى عَلَيْهِ الَّذِي يَئِسَ مِنْ إِفَاقَتِهِ.

إِغْمَاءُ وَلِيِّ النِّكَاحِ:

15- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أُغْمِيَ عَلَى وَلِيِّ النِّكَاحِ الْأَقْرَبِ فَنُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ إِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً كَيَوْمٍ وَيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ، لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ عَدَمَ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ مَعَ جَمْعِ وُجُودِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ، وَقِيلَ: تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى الْأَبْعَدِ.

قَالُوا: الْأَحْسَنُ فِي هَذَا مَا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْإِغْمَاءِ بِحَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهَا إِذْنُ الْوَلِيِّ الْغَائِبِ ذَهَابًا وَإِيَابًا انْتُظِرَ وَإِلاَّ قَامَ الْحَاكِمُ بِالتَّزْوِيجِ.قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لِأَنَّهُ إِذَا زَوَّجَ الْحَاكِمُ مَعَ صِحَّةِ عِبَارَةِ الْغَائِبِ فَمَعَ تَعَذُّرِ ذَلِكَ بِإِغْمَائِهِ أَوْلَى.

إِغْمَاءُ الْقَاضِي:

16- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ عَنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَإِذَا أَفَاقَ لَا تَعُودُ وِلَايَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ حَالَ إِغْمَائِهِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ تَعُودُ وِلَايَتُهُ إِذَا أَفَاقَ.

أَمَّا غَيْرُ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى ذَلِكَ صَرَاحَةً، إِلاَّ أَنَّ مَفْهُومَ النُّصُوصِ عِنْدَهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْإِغْمَاءِ، فَقَدْ جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: لَوْ فَسَقَ الْقَاضِي أَوِ ارْتَدَّ أَوْ عَمِيَ ثُمَّ صَلُحَ وَأَبْصَرَ فَهُوَ عَلَى قَضَائِهِ.

وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: لَا يُعْزَلُ الْقَاضِي إِلاَّ بِالْكُفْرِ فَقَطْ.

وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: يَتَعَيَّنُ عَزْلُ الْقَاضِي مَعَ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقَضَاءِ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى إِقَامَةِ غَيْرِهِ. أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي التَّبَرُّعَاتِ:

17- سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةَ كُلَّهَا لَا تَصِحُّ مِنَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ وَلَا صَدَقَتُهُ وَلَا وَقْفُهُ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مَغْلُوبُ الْعَقْلِ فَلَا يَتَوَفَّرُ فِيهِ شَرْطُ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ.وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهَا كَمَالُ الْعَقْلِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَيْسَ كَذَلِكَ.

أَثَرُ الْإِغْمَاءِ فِي الْجِنَايَاتِ:

18- تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِغْمَاءَ عَارِضٌ وَقْتِيٌّ تَسْقُطُ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ وَفَهْمُ الْخِطَابِ، فَإِنَّ حَالَةَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ هِيَ سَتْرٌ لِلْعَقْلِ يَنْشَأُ عَنْهُ فَقْدٌ لِلْوَعْيِ وَفَقْدٌ لِلِاخْتِيَارِ، لِذَلِكَ كَانَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى حَسَبَ الْبَيَانِ السَّابِقِ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ.فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ جَرَائِمُ أُخِذَ بِهَا.فَإِذَا انْقَلَبَ النَّائِمُ عَلَى غَيْرِهِ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُخْطِئِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ.وَإِذَا أَتْلَفَ مَالَ إِنْسَانٍ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَ.

هَلْ يُعْتَبَرُ إِغْمَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْبًا؟

19- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِغْمَاءَ إِذَا تَبَيَّنَ فِي الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ عَقِيبَ عَقْدِ النِّكَاحِ يُبِيحُ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَسْخَ النِّكَاحِ إِذَا قَرَّرَ الْأَطِبَّاءُ الْيَأْسَ مِنَ الْإِفَاقَةِ، وَعِلَّتُهُ أَنَّ الْإِغْمَاءَ الْمُسْتَدِيمَ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَقْصُودِ مِنَ النِّكَاحِ.

قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ (الْجُنُونُ مُطْبِقًا أَوْ مُتَقَطِّعًا...) وَمِثْلُهُ الْإِغْمَاءُ الْمَيْئُوسُ مِنْهُ بِقَوْلِ الْأَطِبَّاءِ.

وَإِذَا كَانَ الْإِغْمَاءُ الْمَيْئُوسُ مِنْهُ عَيْبًا يُفْسَخُ بِهِ النِّكَاحُ وَيُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ فَهُوَ فِي الْإِجَارَةِ أَوْلَى.هَذَا مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لَا تَأْبَاهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


31-موسوعة الفقه الكويتية (إقالة)

إِقَالَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِقَالَةُ فِي اللُّغَةِ: الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ إِذَا رَفَعَهُ مِنْ سُقُوطِهِ.

وَمِنْهُ الْإِقَالَةُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ.

وَهِيَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ الْعَقْدِ، وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَيْعُ:

2- تَخْتَلِفُ الْإِقَالَةُ عَنِ الْبَيْعِ فِي أُمُورٍ مِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْإِقَالَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا فَسْخٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ بَيْعٌ، وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا.وَمِنْهَا أَنَّ الْإِقَالَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا الْإِيجَابُ بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ كَقَوْلِ أَحَدِهِمَا: أَقِلْنِي، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلاَّ بِلَفْظِ الْمَاضِي، لِأَنَّ لَفْظَةَ الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُسَاوَمَةِ حَقِيقَةً، وَالْمُسَاوَمَةُ فِي الْبَيْعِ مُعْتَادَةٌ، فَكَانَتِ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ تَقَعْ إِيجَابًا، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ، لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ فِيهَا لَيْسَتْ مُعْتَادَةً، فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ فِيهَا عَلَى الْإِيجَابِ.

ب- الْفَسْخُ:

3- تَخْتَلِفُ الْإِقَالَةُ عَنِ الْفَسْخِ فِي أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ رَفْعُ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَآثَارِهِ وَاعْتِبَارِهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ.وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَقَدِ اعْتَبَرَهَا بَعْضُهُمْ فَسْخًا، وَاعْتَبَرَهَا آخَرُونَ بَيْعًا.

حُكْمُ الْإِقَالَةِ التَّكْلِيفِيِّ:

4- الْإِقَالَةُ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّدْبِ وَالْوُجُوبِ بِحَسَبِ حَالَةِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا إِذَا نَدِمَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَرْوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ».وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِقَالَةِ، وَعَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، لِوَعْدِ الْمُقِيلِينَ بِالثَّوَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وَأَمَّا كَوْنُ الْمُقَالِ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ حُكْمًا أَغْلَبِيًّا، وَإِلاَّ فَثَوَابُ الْإِقَالَةِ ثَابِتٌ فِي إِقَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ: «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا...».وَتَكُونُ الْإِقَالَةُ وَاجِبَةً إِذَا كَانَتْ بَعْدَ عَقْدٍ مَكْرُوهٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ، لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ فَاسِدًا أَوْ مَكْرُوهًا وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ صَوْنًا لَهُمَا عَنِ الْمَحْظُورِ، لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِقَالَةِ أَوْ بِالْفَسْخِ.كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْإِقَالَةُ وَاجِبَةً إِذَا كَانَ الْبَائِعُ غَارًّا لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ الْغَبْنُ يَسِيرًا، وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْغَبْنُ بِالْيَسِيرِ هُنَا، لِأَنَّ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ يُوجِبُ الرَّدَّ إِنْ غَرَّهُ الْبَائِعُ عَلَى الصَّحِيحِ.

رُكْنُ الْإِقَالَةِ:

5- رُكْنُ الْإِقَالَةِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الدَّالاَّنِ عَلَيْهَا.فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْقَبُولُ مِنَ الْآخَرِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ، وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ، نَصًّا بِالْقَوْلِ أَوْ دَلَالَةً بِالْفِعْلِ.وَيَأْتِي الْقَبُولُ مِنَ الْآخَرِ بَعْدَ الْإِيجَابِ، أَوْ تَقَدَّمَ السُّؤَالُ، أَوْ قَبَضَ الْآخَرُ مَا هُوَ لَهُ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ أَوْ مَجْلِسِ عِلْمِهَا، لِأَنَّ مَجْلِسَ الْعِلْمِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ كَمَجْلِسِ اللَّفْظِ فِي الْحَاضِرِ، فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْحَاضِرِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهَا.

الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْإِقَالَةُ:

6- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِقَالَةَ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، كَمَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَاضِي.وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَاضِيًا وَالْآخَرُ مُسْتَقْبَلًا.فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تَصِحُّ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْتَقْبَلٌ وَالْآخَرُ مَاضٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَقِلْنِي: فَقَالَ، أَقَلْتُكَ، أَوْ قَالَ لَهُ: جِئْتُكَ لِتُقِيلَنِي، فَقَالَ: أَقَلْتُكَ، فَهِيَ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ كَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ.

وَمَعَ أَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطِ الْإِقَالَةَ حُكْمَهُ، لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تَجْرِي فِي الْإِقَالَةِ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى التَّحْقِيقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَاضِي، لِأَنَّهَا كَالْبَيْعِ فَأُعْطِيَتْ بِسَبَبِ الشَّبَهِ حُكْمَ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: أَقَلْتُ، وَالْآخَرُ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ، أَوْ هَوَيْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.وَتَنْعَقِدُ بِفَاسَخْتُكَ وَتَارَكْتُ، كَمَا تَصِحُّ بِلَفْظِ «الْمُصَالَحَةِ» وَتَصِحُّ بِلَفْظِ «الْبَيْعِ» وَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُعَاطَاةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، وَكُلُّ مَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ أَجْزَأَ.خِلَافًا لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ مَا يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ لَا يَصْلُحُ لِلْحَلِّ، وَمَا يَصْلُحُ لِلْحَلِّ لَا يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ.وَتَنْعَقِدُ الْإِقَالَةُ بِالتَّعَاطِي كَالْبَيْعِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَقَلْتُكَ فَرَدَّ إِلَيْهِ الثَّمَنَ، وَتَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ.شُرُوطُ الْإِقَالَةِ:

7- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ مَا يَلِي:

أ- رِضَى الْمُتَقَايِلَيْنِ: لِأَنَّهَا رَفْعُ عَقْدٍ لَازِمٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَى الطَّرَفَيْنِ.

ب- اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ: لِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِيهَا، فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْمَجْلِسُ، كَمَا يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ.

ج- أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ قَابِلًا لِلنَّسْخِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ.

د- بَقَاءُ الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِقَالَةِ، فَإِنْ كَانَ هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ لَمْ تَصِحَّ، فَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ.

هـ- تَقَابُضُ بَدَلَيِ الصَّرْفِ فِي إِقَالَةِ الصَّرْفِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا بَيْعٌ، لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْحَقُّ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ.و- أَلاَّ يَكُونَ الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ فِي بَيْعِ الْوَصِيِّ، فَإِنْ كَانَ لَمْ تَصِحَّ إِقَالَتُهُ.

حَقِيقَتُهَا الشَّرْعِيَّةُ:

8- لِلْفُقَهَاءِ فِي تَكْيِيفِ الْإِقَالَةِ اتِّجَاهَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فَسْخٌ يَنْحَلُّ بِهِ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّفْعِ، يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ أَقِلْنِي عَثَرَاتِي، أَيِ ارْفَعْهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ شَرْعًا مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً، وَرَفْعُ الْعَقْدِ فَسْخُهُ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقَالَةَ اخْتَلَفَا اسْمًا، فَتَخَالَفَا حُكْمًا، فَإِذَا كَانَتْ رَفْعًا لَا تَكُونُ بَيْعًا، لِأَنَّ الْبَيْعَ إِثْبَاتٌ وَالرَّفْعُ نَفْيٌ، وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ، فَكَانَتِ الْإِقَالَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَسْخًا مَحْضًا، فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ.

الثَّانِي: أَنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهَا بَيْعًا فَإِنَّهَا تَكُونُ فَسْخًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالْإِمَامِ مَالِكٍ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنْ تَقَعَ الْإِقَالَةُ فِي الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَهُوَ أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ، وَقَدْ وُجِدَ، فَكَانَتِ الْإِقَالَةُ بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهَا، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.

الثَّالِثُ: أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْفَسْخِ وَالْإِزَالَةِ، فَلَا تَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ نَفْيًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَالْأَصْلُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ فِيهَا نَقْلَ مِلْكٍ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ، فَجُعِلَتْ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْإِسْقَاطِ، إِذْ لَا يَمْلِكُ الْعَاقِدَانِ إِسْقَاطَ حَقِّ غَيْرِهِمَا.

آثَارُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الْإِقَالَةِ:

يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الْإِقَالَةِ آثَارٌ فِي التَّطْبِيقِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي: أَوَّلًا- الْإِقَالَةُ بِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ:

9- إِذَا تَقَايَلَ الْمُتَبَايِعَانِ وَلَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ، أَوْ سَمَّيَا زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ سَمَّيَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى الْجِنْسِ الْأَوَّلِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، أَوْ أَجَّلَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ، فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالْأَجَلِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ بَاطِلَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ مَنْقُولًا أَمْ غَيْرَ مَنْقُولٍ، لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفْعُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَالْعَقْدُ وَقَعَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ فَسْخُهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَحُكْمُ الْفَسْخِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ، وَبَيْنَ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِ الْمَنْقُولِ، وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ وَالْأَجَلِ، وَتَبْقَى الْإِقَالَةُ صَحِيحَةً، لِأَنَّ تَسْمِيَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْإِقَالَةِ وَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ رَفْعُ مَا كَانَ لَا رَفْعُ مَا لَمْ يَكُنْ، حَيْثُ إِنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ.وَتَكُونُ الْإِقَالَةُ أَيْضًا بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الْمُسَمَّى، لَا بِمَا يُدْفَعُ بَدَلًا عَنْهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ عِوَضًا عَنْهَا، ثُمَّ تَقَايَلَا- وَقَدْ رُخِّصَتِ الدَّنَانِيرُ- رَجَعَ بِالدَّنَانِيرِ لَا بِمَا دَفَعَ، لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَتِ الْإِقَالَةُ فَسْخًا، وَالْفَسْخُ يُرَدُّ عَلَى عَيْنِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، كَانَ اشْتِرَاطُ خِلَافِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ بَاطِلًا.ثَانِيًا- الشُّفْعَةُ فِيمَا يُرَدُّ بِالْإِقَالَةِ:

10- يَقْتَضِي الْقِيَاسُ أَلاَّ يَكُونَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِيمَا رُدَّ بِالْإِقَالَةِ إِذَا اعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْإِقَالَةُ فَسْخًا مُطْلَقًا، وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَسْخًا فَتُجْعَلُ بَيْعًا.وَعَنْ زُفَرَ: هِيَ فَسْخٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً.أَمَّا سَائِرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهَا تُعْطِي الشَّفِيعَ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِيمَا رُدَّ بِالْإِقَالَةِ.فَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّهِمَا، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ تَقَايُلِ الْبَيْعِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَمَنِ اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ، فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، أَوِ اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَكُنْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ بُنِيَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ.وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ الْإِقَالَةُ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ، وَالشَّفِيعُ غَيْرُهُمَا، فَتَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ فَيَسْتَحِقُّ.وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ تُعَدُّ الْإِقَالَةُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَلِهَذَا الشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، إِنْ شَاءَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ شَاءَ بِالْبَيْعِ الْحَاصِلِ بِالْإِقَالَةِ، أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ: مِنَ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ الشِّرَاءِ، أَوْ مِنَ الْبَائِعِ لِشِرَائِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي بِالْإِقَالَةِ، حَيْثُ تَكُونُ الْإِقَالَةُ بَيْعًا مِنَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، وَحَيْثُ تَكُونُ فَسْخَ بَيْعٍ فَتُؤْخَذُ مِنَ الْمُشْتَرِي فَقَطْ، وَلَا يَتِمُّ فَسْخُهُ إِلاَّ إِنْ رَضِيَ الشَّفِيعُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَهُ.

إِقَالَةُ الْوَكِيلِ:

11- مَنْ مَلَكَ الْبَيْعَ مَلَكَ الْإِقَالَةَ، فَصَحَّتْ إِقَالَةُ الْمُوَكِّلِ بَيْعَ وَكِيلِهِ، وَتَصِحُّ إِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إِذَا تَمَّتْ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ.فَإِنْ أَقَالَ بَعْدَ قَبْضِهِ يَضْمَنُ الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ، إِذْ تُعْتَبَرُ الْإِقَالَةُ مِنَ الْوَكِيلِ حِينَئِذٍ شِرَاءً لِنَفْسِهِ.وَبِإِقَالَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيَلْزَمُ الْمَبِيعُ الْوَكِيلَ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي أَصْلًا.وَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ مِنَ الْوَكِيلِ بِالسَّلَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَالْإِبْرَاءِ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.وَالْمُرَادُ بِإِقَالَةِ الْوَكِيلِ بِالسَّلَمِ: الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ السَّلَمِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ الْعَيْنِ.وَإِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا تَجُوزُ إِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا.وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ التَّوْكِيلِ فِي حَقِّ كُلِّ آدَمِيٍّ مِنَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ.وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْإِقَالَةِ عِنْدَهُمُ ابْتِدَاءً، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: إِنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا أَمْ بَيْعٌ.هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِقَالَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سِوَى الْوَرَثَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ.أَمَّا حُكْمُ الْإِقَالَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَلَمْ يَتَطَرَّقُوا لَهُ.وَالْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنَّ إِقَالَتَهُ لَا تَصِحُّ.

مَحَلُّ الْإِقَالَةِ:

12- مَحَلُّ الْإِقَالَةِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ فِي حَقِّ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا يُمْكِنُ فَسْخُهَا إِلاَّ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِقَالَةَ تَصِحُّ فِي الْعُقُودِ الْآتِيَةِ: الْبَيْعِ- الْمُضَارَبَةِ- الشَّرِكَةِ- الْإِجَارَةِ- الرَّهْنِ (بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاهِنِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ الرَّاهِنِ دَيْنَهُ) - السَّلَمِ- الصُّلْحِ.وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَصِحُّ فِيهَا الْإِقَالَةُ فَهِيَ الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ، كَالْإِعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْجِعَالَةِ، أَوِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، مِثْلُ الْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْخِيَارِ.

أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْإِقَالَةِ:

13- إِذَا اعْتَبَرْنَا الْإِقَالَةَ فَسْخًا، فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بَلْ تَكُونُ هَذِهِ الشُّرُوطُ لَغْوًا، وَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ.فَفِي الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، إِذَا شَرَطَ أَكْثَرَ مِمَّا دَفَعَ، فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لِمُتَعَذِّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَتُبْطِلُ الشَّرْطَ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الرِّبَا، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ خَالٍ عَنِ الْعِوَضِ.وَكَذَا إِذَا شَرَطَ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الْأَقَلِّ، لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَالْفَسْخُ عَلَى الْأَقَلِّ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهُوَ مُحَالٌ.وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَرَفْعُهُ يَكُونُ مُحَالًا، إِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ بِالْأَقَلِّ، لِأَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الْعَيْبِ.وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَرَوْنَ الْإِقَالَةَ فَسْخًا، وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَإِذَا زَادَ كَانَ قَاصِدًا بِهَذَا ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ، وَإِذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ فَكَذَلِكَ.

الْإِقَالَةُ فِي الصَّرْفِ:

14- الْإِقَالَةُ فِي الصَّرْفِ كَالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، أَيْ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِ الصَّرْفِ.فَلَوْ تَقَايَلَا الصَّرْفَ، وَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، مَضَتِ الْإِقَالَةُ عَلَى الصِّحَّةِ.وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَتِ الْإِقَالَةُ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ بَيْعًا أَمْ فَسْخًا.فَعَلَى اعْتِبَارِهَا بَيْعًا كَانَتِ الْمُصَارَفَةُ مُبْتَدَأَةً، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّقَابُضِ يَدًا بِيَدٍ، مَا دَامَتِ الْإِقَالَةُ بَيْعًا مُسْتَقِلًّا يُحِلُّهَا مَا يُحِلُّ الْبُيُوعَ، وَيُحَرِّمُهَا مَا يُحَرِّمُ الْبُيُوعَ، فَلَا تَصْلُحُ الْإِقَالَةُ إِذْ حَصَلَ الِافْتِرَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ.عَلَى اعْتِبَارِهَا فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ حَقٌّ لِلشَّرْعِ، وَهُوَ هُنَا ثَالِثٌ، فَيُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ.وَهَلَاكُ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ لَا يُعَدُّ مَانِعًا مِنَ الْإِقَالَةِ، لِأَنَّهُ فِي الصَّرْفِ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، بَلْ رَدُّهُ أَوْ رَدُّ مِثْلِهِ، فَلَمْ تَتَعَلَّقِ الْإِقَالَةُ بِعَيْنِهِمَا، فَلَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِهِمَا.

إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ:

15- إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ إِلْغَاءٌ لَهَا وَالْعَوْدَةُ إِلَى أَصْلِ الْعَقْدِ، وَهِيَ تَصِحُّ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْإِقَالَةَ، ارْتَفَعَتِ الْإِقَالَةُ وَعَادَ الْبَيْعُ.وَقَدِ اسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ إِقَالَةِ الْإِقَالَةِ إِقَالَةَ الْمُسْلِمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ الْأُولَى، فَلَوِ انْفَسَخَتْ لَعَادَ الْمُسْلَمُ فِيهِ الَّذِي سَقَطَ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ.

مَا يُبْطِلُ الْإِقَالَةَ:

16- مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَبْطُلُ فِيهَا الْإِقَالَةُ بَعْدَ وُجُودِهَا مَا يَأْتِي: أ- هَلَاكُ الْمَبِيعِ: فَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَتْ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا بَقَاءَ الْمَبِيعِ، لِأَنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ وَهُوَ مَحَلُّهُ، بِخِلَافِ هَلَاكِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْإِقَالَةَ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ، وَلِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ دُونَ الثَّمَنِ.وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ قِيَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا فَهَلَكَ بَطَلَتِ الْإِقَالَةُ.وَلَكِنْ لَا يُرَدُّ عَلَى اشْتَرَطَ قِيَامَ الْمَبِيعِ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ إِقَالَةَ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، لِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا أَمْ دَيْنًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَمْ هَالِكًا.لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا حَقِيقَةً فَلَهُ حُكْمُ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

ب- تَغَيُّرُ الْمَبِيعِ: كَأَنْ زَادَ الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً، كَمَا لَوْ وَلَدَتِ الدَّابَّةُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَصَبْغِ الثَّوْبِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَبْطُلُ الْإِقَالَةُ بِتَغَيُّرِ ذَاتِ الْمَبِيعِ مَهْمَا كَانَ.كَتَغَيُّرِ الدَّابَّةِ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ، بِخِلَافِ الْحَنَابِلَةِ.

اخْتِلَافُ الْمُتَقَايِلَيْنِ:

17- قَدْ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُتَقَايِلَيْنِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، أَوْ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ، أَوْ عَلَى الثَّمَنِ، أَوْ عَلَى الْإِقَالَةِ مِنْ أَسَاسِهَا.فَإِنَّهُمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّتِهِ تَحَالَفَا، فَيَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى نَفْيِ قَوْلِ صَاحِبِهِ وَإِثْبَاتِ قَوْلِهِ.وَيُسْتَثْنَى مِنَ التَّحَالُفِ مَا لَوْ تَقَايَلَا الْعَقْدَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ، بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ.وَلَوِ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْتُهُ مِنَ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ نَقْدِهِ

(وَفَسَدَ الْبَيْعُ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْبَائِعُ: بَلْ تَقَايَلْنَاهُ، فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ فِي إِنْكَارِهِ الْإِقَالَةَ.فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْإِقَالَةَ يَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


32-موسوعة الفقه الكويتية (أنقاض)

أَنْقَاضٌ

التَّعْرِيفُ:

1- أَنْقَاضٌ: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ نِقْضٌ.وَالنِّقْضُ- بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا- الْمَنْقُوضُ أَيِ الْمَهْدُومُ.

وَالنِّقْضُ: اسْمٌ لِبِنَاءِ الْمَنْقُوضِ إِذَا هُدِمَ، وَالنَّقْضُ- بِالْفَتْحِ- الْهَدْمُ.

وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ.

الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ.

أَوَّلًا: حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي أَنْقَاضِ الْوَقْفِ:

2- مَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِأَنْقَاضِهِ فِي عِمَارَتِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ إِعَادَةُ عَيْنِهِ بِيعَ وَصُرِفَ الثَّمَنُ فِي عِمَارَتِهِ.

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا انْهَدَمَ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَسْجِدِ وَلَا إِعَادَةُ بِنَائِهِ انْتَفَعَ بِأَنْقَاضِهِ أَوْ بِثَمَنِهَا فِي مَسْجِدٍ آخَرَ.

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ غَيْرِ مُحَمَّدٍ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَابْنِ زَرْبٍ وَابْنِ لُبَابَةَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يُنْتَفَعْ بِأَنْقَاضِ الْمَسْجِدِ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُحْفَظُ وَلَا يُبَاعُ.وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ يَعُودُ إِلَى الْبَانِي أَوْ إِلَى الْوَرَثَةِ.وَقَالَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ وَالشَّيْخُ عُلَيْشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ نَقْضِ الْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ.

ثَانِيًا: حُكْمُ نَقْضِ الْأَبْنِيَةِ الْمُقَامَةِ:

الْأَبْنِيَةُ إِمَّا أَنْ يُقِيمَهَا الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.

مَا يُقِيمُهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ:

3- مَا يُقِيمُهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْغَيْرِ يَجِبُ نَقْضُهُ، وَذَلِكَ كَمَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا إِلَى الطَّرِيقِ وَكَانَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَقْضُهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ سُقُوطِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى صَاحِبِهِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: (ر: جِنَايَةٌ- تَلَفٌ- ضَمَانٌ).

مَا يُقِيمُهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ:

4- مَا يُقِيمُهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ.

أ- مَا يُقِيمُهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ كَمَنْ يَسْتَعِيرُ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا.فَإِنْ كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أَوْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ، وَشَرَطَ الْمُعِيرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ نَقْضَ الْبِنَاءِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْوَقْتِ أَوْ عِنْدَ الرُّجُوعِ، فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ يُلْزَمُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ».

وَإِنْ كَانَ الْمُعِيرُ لَمْ يَشْتَرِطِ النَّقْضَ، فَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَعِيرُ بِالنَّقْضِ نَقَضَ، وَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ لِمَفْهُومِ حَدِيثِ: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»؛ وَلِأَنَّهُ بُنِيَ بِإِذْنِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ قَلْعَهُ، وَفِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِنَقْصِ قِيمَتِهِ بِذَلِكَ.وَيَكُونُ- فِي هَذِهِ الْحَالَةِ- الْخِيَارُ لِلْمُعِيرِ بَيْنَ أَخْذِ الْبِنَاءِ بِقِيمَتِهِ، وَبَيْنَ قَلْعِهِ مَعَ ضَمَانِ نُقْصَانِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، أَوْ يُبْقِيهِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ.

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أَوْ مُؤَقَّتَةً وَانْتَهَى وَقْتُهَا فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُجْبِرَ الْمُسْتَعِيرَ عَلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ فِي التَّرْكِ ضَرَرًا بِالْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا غَرَرَ مِنْ جِهَتِهِ.

وَإِنْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً وَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ فَلَا يُجْبَرُ الْمُسْتَعِيرُ عَلَى النَّقْضِ بَلْ يَكُونُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ ضَمَّنَ صَاحِبَ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ قَائِمًا سَلِيمًا وَتَرَكَهُ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِنَاءَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ.

ثُمَّ إِنَّمَا يَثْبُتُ نَقْضُ الْبِنَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّقْضُ مُضِرًّا بِالْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِهَا فَالْخِيَارُ لِلْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالْبِنَاءَ تَابِعٌ، فَكَانَ الْمَالِكُ صَاحِبَ أَصْلٍ فَلَهُ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْبِنَاءَ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِالنَّقْضِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِعَارَةِ الْمُشْتَرَطَةِ أَوِ الْمُعْتَادَةِ وَفِي الْأَرْضِ بِنَاءٌ، فَالْمُعِيرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِلْزَامِ الْمُسْتَعِيرِ بِالْهَدْمِ، وَبَيْنَ أَخْذِ الْبِنَاءِ وَدَفْعِ قِيمَتِهِ مَنْقُوضًا.

ب- مَا يُقِيمُهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، كَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا وَبَنَى فِيهَا، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يُجْبَرُ عَلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ مَتَى طَالَبَهُ رَبُّ الْأَرْضِ بِذَلِكَ، وَيُلْزَمُ بِتَسْوِيَتِهَا وَأَرْشِ نَقْصِهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِالنَّقْضِ فَلِلْمَالِكِ أَخْذُ الْبِنَاءِ وَضَمَانُ قِيمَتِهِ مَنْقُوضًا، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ الْمَجْدِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ أَكْثَرَ فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْأَرْضِ وَلَا يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِ الْبِنَاءِ وَدَفْعِ قِيمَتِهِ مَنْقُوضًا، وَبَيْنَ أَمْرِ الْغَاصِبِ بِهَدْمِهِ وَتَسْوِيَةِ أَرْضِهِ.

وَمَنْ غَصَبَ لَبِنًا أَوْ آجُرًّا أَوْ خَشَبَةً فَأَدْخَلَهَا فِي الْبِنَاءِ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُلْزَمُ الْغَاصِبُ بِرَدِّهَا، وَإِنِ انْتَقَضَ الْبِنَاءُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَمْلِكُ الْمَالِكُ الِاسْتِرْدَادَ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالْإِدْخَالِ فِي الْبِنَاءِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ لَا يُنْقَضُ الْبِنَاءُ.وَقَالَ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ: لَا يُنْقَضُ الْبِنَاءُ إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ حَوْلَ الْخَشَبَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْبِنَاءِ، أَمَّا إِذَا بَنَى عَلَيْهَا يُنْقَضُ الْبِنَاءُ،

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ هَدْمِ الْبِنَاءِ وَأَخْذِ مَا غُصِبَ مِنْهُ، وَبَيْنَ إِبْقَائِهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْغَصْبِ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

5- نَقْضُ الْبِنَاءِ يَأْتِي فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَهُوَ يَرِدُ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِ الْإِمَامِ وَفِي الشُّفْعَةِ فِيمَنِ اشْتَرَى أَرْضًا وَبَنَى فِيهَا ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَقَضَى لَهُ بِشُفْعَةِ الْأَرْضِ وَفِي بَابِ الْإِجَارَةِ فِيمَا إِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ وَانْتَهَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الشَّرِكَةِ إِذَا طَلَبَ الشَّرِيكُ نَقْضَ حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ وَفِي الصُّلْحِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


33-موسوعة الفقه الكويتية (تخيير 2)

تَخْيِيرٌ -2

عَاشِرًا: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَالْعَفْوِ:

33- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ مُخَيَّرٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ بَيْنَ ثَلَاثِ خِصَالٍ: فَإِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْقَاتِلِ، أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ أَوْ بَعْضِهَا، أَوْ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَالٍ مُقَابِلِ الْعَفْوِ، أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ مُطْلَقًا.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} الْآيَةَ، وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} الْآيَةَ: أَيْ كَفَّارَةٌ لِلْعَافِي بِصَدَقَتِهِ عَلَى الْجَانِي.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مِنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُودِيَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ»

وَعَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ».

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُمْ هَذَا الرَّجُلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَإِنِّي عَاقِلُهُ، فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ».

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوَقُّفِ تَخْيِيرِ وَلِيِّ الدَّمِ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ عَلَى رِضَا الْجَانِي.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الدَّمِ إِلَى الدِّيَةِ إِلاَّ بِرِضَا الْجَانِي، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّ الدَّمِ جَبْرُ الْجَانِي عَلَى دَفْعِ الدِّيَةِ إِذَا سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلْقِصَاصِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ، وَأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْهُ عِنْدَ سُقُوطِهِ.فَإِذَا عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ وَاخْتَارَ الدِّيَةَ وَجَبَتْ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الْجَانِي.وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَيَتَخَيَّرُ وَلِيُّ الدَّمِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا.

34- أَمَّا دَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فَهُوَ مَا وَرَدَ مِنْ نُصُوصٍ تُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} مِمَّا يُعَيِّنُ الْقِصَاصَ.فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِ الْقِصَاصِ هُوَ الْوَاجِبَ، وَهَذَا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الدِّيَةَ وَاجِبَةٌ كَذَلِكَ.وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ لَا يُقَابَلُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، كَانَ الْقِصَاصُ هُوَ عَيْنَ حَقِّ الْوَلِيِّ، وَالدِّيَةُ بَدَلَ حَقِّهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَعْدِلَ مِنْ عَيْنِ الْحَقِّ إِلَى بَدَلِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اخْتِيَارُ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ.

وَأَمَّا دَلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ جَوَازِ الْعَفْوِ إِلَى الدِّيَةِ؛ وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فَأَوْجَبَ سُبْحَانَهُ عَلَى الْقَاتِلِ أَدَاءَ الدِّيَةِ إِلَى الْوَلِيِّ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الرِّضَا، دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ.

وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَشْرِيعِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ هُوَ الزَّجْرَ، فَكَانَ يَنْبَغِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي شُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَفِي الْقِصَاصِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ كَمَا فِي قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَالْبَاءُ تُفِيدُ الْبَدَلِيَّةَ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَخُيِّرَ وَلِيُّ الدَّمِ بَيْنَهُمَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


34-موسوعة الفقه الكويتية (تعلي)

تَعَلِّي

التَّعْرِيفُ:

1- التَّعَلِّي فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعَانٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ: الِارْتِفَاعُ وَعُلُوُّ كُلِّ شَيْءٍ وَعُلْوُهُ وَعِلْوُهُ: أَرْفَعُهُ.وَعَلَا الشَّيْءُ عُلُوًّا فَهُوَ عَلِيٌّ: ارْتَفَعَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: فَإِذَا هُوَ يَتَعَلَّى عَنِّي: أَيْ يَتَرَفَّعُ عَلَيَّ.وَتَعَالَى: تَرَفَّعَ.وَتَعَلَّى: أَيْ عَلَا فِي مُهْلَةٍ.

وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا، إِذْ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ بِنَاءٍ فَوْقَ بِنَاءٍ آخَرَ.

أَحْكَامُ حَقِّ التَّعَلِّي:

2- حَقُّ التَّعَلِّي: إِمَّا أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ، وَإِمَّا يَبِيعُهُ لِغَيْرِهِ.

أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ لِنَفْسِهِ: فَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1198) مِنْ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ: كُلَّ أَحَدٍ لَهُ التَّعَلِّي عَلَى حَائِطِهِ الْمِلْكِ، وَبِنَاءُ مَا يُرِيدُ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ مَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرًا فَاحِشًا.

وَقَالَ الْأَتَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ: وَلَا عِبْرَةَ بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ، كَمَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ.وَفِي الْأَنْقِرَوِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حَائِطِ نَفْسِهِ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ وَإِنْ بَلَغَ عَنَانَ السَّمَاءِ.

وَأَمَّا بَيْعُهُ لِغَيْرِهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ): إِلَى جَوَازِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

أَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ مَتَى كَانَ الْمَبِيعُ قَدْرًا مُعَيَّنًا، كَعَشْرَةِ أَذْرُعٍ مَثَلًا مِنْ مَحَلِّ هَوَاءٍ، فَوْقَ مَحَلٍّ مُتَّصِلٍ بِأَرْضٍ أَوْ بِنَاءٍ، بِأَنْ كَانَ لِشَخْصٍ أَرْضٌ خَالِيَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ أَرَادَ الْبِنَاءَ بِهَا، أَوْ كَانَ لَهُ بِنَاءٌ أَرَادَ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ، فَيَشْتَرِي شَخْصٌ مِنْهُ قَدْرًا مُعَيَّنًا مِنَ الْفَرَاغِ الَّذِي يَكُونُ فَوْقَ الْبِنَاءِ الَّذِي أَرَادَ إِحْدَاثَهُ، فَيَجُوزُ مَتَى وَصَفَ الْبِنَاءَ الَّذِي أُرِيدَ إِحْدَاثُهُ أَسْفَل وَأَعْلَى، لِيَقِلَّ الضَّرَرُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَسْفَلِ رَغْبَتُهُ فِي خِفَّةِ الْأَعْلَى، وَصَاحِبُ الْأَعْلَى رَغْبَتُهُ فِي مَتَانَةِ الْأَسْفَلِ، وَلِصَاحِبِ الْبِنَاءِ الْأَعْلَى الِانْتِفَاعُ بِمَا فَوْقَ بِنَائِهِ بِغَيْرِ الْبِنَاءِ، إِذْ يَمْلِكُ جَمِيعَ الْهَوَاءِ الَّذِي فَوْقَ بِنَاءِ الْأَسْفَلِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ الِانْتِفَاعُ بِمَا فَوْقَ بِنَاءِ الْأَعْلَى، لَا بِالْبِنَاءِ وَلَا بِغَيْرِهِ.

وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ، مَتَى كَانَ الْمَبِيعُ حَقَّ الْبِنَاءِ

أَوِ الْعُلْوِ: بِأَنْ قَالَ لَهُ: بِعْتُكَ حَقَّ الْبِنَاءِ أَوِ الْعُلْوِ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا بَاعَهُ وَشَرَطَ أَنْ لَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ.لَكِنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا عَدَا الْبِنَاءَ مِنْ مُكْثٍ وَغَيْرِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيُّ، تَبَعًا لِلْمَاوَرْدِيِّ.

وَأَجَازَهُ الْحَنَابِلَةُ، وَلَوْ قَبْلَ بِنَاءِ الْبَيْتِ الَّذِي اشْتَرَى عُلْوَهُ، إِذَا وَصَفَ الْعُلْوَ وَالسُّفْلَ لِيَكُونَا مَعْلُومَيْنِ، لِيَبْنِيَ الْمُشْتَرِي أَوْ يَضَعُ عَلَيْهِ بُنْيَانًا أَوْ خَشَبًا مَوْصُوفَيْنِ، وَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعُلْوَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ، فَكَانَ لَهُ بَيْعُهُ، وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، كَالْقَرَارِ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ بَيْعَ حَقِّ التَّعَلِّي غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا هُوَ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ، بَلْ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْهَوَاءِ (أَيِ الْفَرَاغِ) وَلَيْسَ الْهَوَاءُ مَا لَا يُبَاعُ، إِذِ الْمَالُ مَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ وَإِحْرَازُهُ.وَصُورَتُهُ: أَنْ يَكُونَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ، وَعُلْوُهُ لآِخَرَ، فَسَقَطَا أَوْ سَقَطَ الْعُلْوُ وَحْدَهُ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ عُلْوَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ حِينَئِذٍ لَيْسَ إِلاَّ حَقُّ التَّعَلِّي.

وَعَلَى هَذَا: فَلَوْ بَاعَ الْعُلْوَ قَبْلَ سُقُوطِهِ جَازَ، فَإِنْ سَقَطَ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ، لِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُوَ بَعْدَ سُقُوطِهِ بَيْعٌ لِحَقِّ التَّعَلِّي، وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ.فَلَوْ كَانَ الْعُلْوُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ فَقَالَ: بِعْتُك عُلْوَ هَذَا السُّفْلِ بِكَذَا صَحَّ، وَيَكُونُ سَطْحُ السُّفْلِ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْقَرَارِ، حَتَّى لَوِ انْهَدَمَ الْعُلْوُ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ عُلْوًا آخَرَ، مِثْلُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السُّفْلَ اسْمٌ لِمَبْنًى مُسَقَّفٍ، فَكَانَ سَطْحُ السُّفْلِ سَقْفًا لِلسُّفْلِ.

أَحْكَامُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي الِانْهِدَامِ وَالْبِنَاءِ:

3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ السُّفْلَ إِنِ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ بِلَا صُنْعِ صَاحِبِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبِنَاءِ، لِعَدَمِ التَّعَدِّي، فَلَوْ هَدَمَهُ يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ، وَهُوَ قَرَارُ الْعُلْوِ، وَلِذِي الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ ثُمَّ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ إِنْ بَنَى بِإِذْنِهِ أَوْ إِذْنِ قَاضٍ، وَإِلاَّ فَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ يَوْمَ بَنَى.

وَمَتَى بَنَى صَاحِبُ الْعُلْوِ السُّفْلَ: كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنَ السُّكْنَى، حَتَّى يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِثْلَ مَا أَنْفَقَهُ فِي بِنَاءِ سُفْلِهِ لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا.

فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي مِلْكِ الْآخَرِ: لِذِي الْعُلْوِ حَقُّ قَرَارِهِ، وَلِذِي السُّفْلِ حَقُّ دَفْعِ الْمَطَرِ وَالشَّمْسِ عَنِ السُّفْلِ، وَلَوْ هَدَمَ ذُو السُّفْلِ سُفْلَهُ وَذُو الْعُلْوِ عُلْوَهُ، أُلْزِمَ ذُو السُّفْلِ بِبِنَاءِ سُفْلِهِ، إِذْ فَوَّتَ عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ حَقًّا أُلْحِقَ بِالْمِلْكِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ فَوَّتَ عَلَيْهِ مِلْكًا.

فَإِذَا بَنَى ذُو السُّفْلِ سُفْلَهُ وَطَلَب مِنْ ذِي الْعُلْوِ بِنَاءَ عُلْوِهِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ لِذِي السُّفْلِ حَقًّا فِي الْعُلْوِ، وَأَمَّا لَوِ انْهَدَمَ الْعُلْوُ بِلَا صُنْعِهِ فَلَا يُجْبَرُ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ، كَمَا لَوِ انْهَدَمَ السُّفْلُ بِلَا تَعَدٍّ، وَسَقْفُ السُّفْلِ لِذِي السُّفْلِ.

4- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ السُّفْلَ إِنْ وَهَى وَأَشْرَفَ عَلَى السُّقُوطِ وَخِيفَ سُقُوطُ بِنَاءٍ عَلَيْهِ لآِخَرَ غَيْرِ صَاحِبِ السُّفْلِ- فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يُعَمِّرَ سُفْلَهُ فَإِنْ أَبَى قُضِيَ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ لِمَنْ يُعَمِّرُهُ، فَإِنْ سَقَطَ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ فَهَدَمَهُ أُجْبِرَ رَبُّ الْأَسْفَلِ عَلَى الْبِنَاءِ، أَوِ الْبَيْعِ مِمَّنْ يَبْنِي، لِيَبْنِيَ رَبُّ الْعُلْوِ عُلْوَهُ عَلَيْهِ.وَعَلَى ذِي السُّفْلِ التَّعْلِيقُ لِلْأَعْلَى- أَيْ حَمْلُهُ عَلَى خَشَبٍ وَنَحْوِهِ- حَتَّى يَبْنِيَ السُّفْلَ، وَعَلَيْهِ السَّقْفُ السَّاتِرُ لِسُفْلِهِ، إِذْ لَا يُسَمَّى السُّفْلُ بَيْتًا إِلاَّ بِهِ، وَلِذَا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ السُّفْلِ عِنْدَ التَّنَازُعِ.وَأَمَّا الْبَلَاطُ الَّذِي فَوْقَهُ: فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى.

وَيُقْضَى عَلَى ذِي الْعُلْوِ بِعَدَمِ زِيَادَةِ بِنَاءِ الْعُلْوِ عَلَى السُّفْلِ؛ لِأَنَّهَا تَضُرُّ السُّفْلَ، إِلاَّ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ الَّذِي لَا يَضُرُّ السُّفْلَ حَالًا وَمَآلًا، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ.

5- وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ لَوِ انْهَدَمَ حِيطَانُ السُّفْلِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَ الْعُلْوِ عَلَى الْبِنَاءِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ حِيطَانَ السُّفْلِ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، فَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْعُلْوِ عَلَى بِنَائِهِ.

وَهَلْ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ إِجْبَارُ صَاحِبِ السُّفْلِ عَلَى الْبِنَاءِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، فَإِنْ قِيلَ: يُجْبَرُ، أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ- وَلَهُ مَالٌ- بَاعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَالَهُ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ.فَإِذَا بَنَى الْحَائِطَ كَانَ الْحَائِطُ مِلْكًا لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّهُ بُنِيَ لَهُ، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُعِيدُ صَاحِبُ الْعُلْوِ غُرْفَتَهُ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ نَفَقَةُ الْغُرْفَةِ وَحِيطَانُهَا مِنْ مِلْكِ صَاحِبِ الْعُلْوِ دُونَ صَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، لَا حَقَّ لِصَاحِبِ السُّفْلِ فِيهِ.

وَأَمَّا السَّقْفُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ مَالِهِمَا، فَإِنْ تَبَرَّعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ، وَبَنَى مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ، لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُ الْعُلْوِ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ بِشَيْءٍ.ثُمَّ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ قَدْ بَنَاهَا بِآلَتِهَا كَانَتِ الْحِيطَانُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، لِأَنَّ الْآلَةَ كُلَّهَا لَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ مَنْعُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلَا يَمْلِكُ نَقْضُهَا؛ لِأَنَّهَا لِصَاحِبِ السُّفْلِ، وَلَهُ أَنْ يُعِيدَ حَقَّهُ مِنَ الْغُرْفَةِ.وَإِنْ بَنَاهَا بِغَيْرِ آلَتِهَا كَانَتِ الْحِيطَانُ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِ الْعُلْوِ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِي قَرَارِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ الْقَرَارَ لَهُ، وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَنْقُضَ مَا بَنَاهُ مِنَ الْحِيطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهَا، فَإِنْ بَذَلَ صَاحِبُ السُّفْلِ الْقِيمَةَ لِيَتْرُكَ نَقْضَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِنَاؤُهَا قَوْلًا وَاحِدًا، فَلَا يَلْزَمُهُ تَبْقِيَتُهَا بِبَذْلِ الْعِوَضِ.

6- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَالْعُلْوُ لآِخَرَ، فَانْهَدَمَ السَّقْفُ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْمُبَانَاةَ مِنَ الْآخَرِ، فَامْتَنَعَ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ.

وَإِنِ انْهَدَمَتْ حِيطَانُ السُّفْلِ فَطَالَبَهُ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِإِعَادَتِهَا، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: يُجْبَرُ.فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يُجْبَرُ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِنَاءَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ بَنَاهُ بِآلَتِهِ فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ، وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ السُّفْلِ، يَعْنِي حَتَّى يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَسْكُنَ، لِأَنَّ الْبَيْتَ إِنَّمَا يُبْنَى لِلسَّكَنِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ كَغَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِالْحِيطَانِ خَاصَّةً مِنْ طَرْحِ الْخَشَبِ وَسَمْرِ الْوَتَدِ وَفَتْحِ الطَّاقِ، وَيَكُونُ لَهُ السُّكْنَى مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى إِنَّمَا هِيَ إِقَامَتُهُ فِي الْفِنَاءِ بَيْنَ الْحِيطَانِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهَا، فَأَشْبَهَ الِاسْتِظْلَالَ بِهَا مِنْ خَارِجٍ.

فَأَمَّا إِنْ طَالَبَ صَاحِبُ السُّفْلِ بِالْبِنَاءِ، وَأَبَى صَاحِبُ الْعُلْوِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ، وَلَا مُسَاعَدَتِهِ لِأَنَّ الْحَائِطَ مِلْكُ صَاحِبِ السُّفْلِ مُخْتَصٌّ بِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ غَيْرُهُ عَلَى بِنَائِهِ وَلَا الْمُسَاعَدَةِ فِيهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُلْوٌ.

وَالثَّانِيَةُ: يُجْبَرُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ وَالْبِنَاءِ مَعَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ؛ لِأَنَّهُ حَائِطٌ يَشْتَرِكَانِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، أَشْبَهَ الْحَائِطَ بَيْنَ الدَّارَيْنِ.

جَعْلُ عُلْوِ الدَّارِ مَسْجِدًا:

7- أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ جَعْلَ عُلْوِ الدَّارِ مَسْجِدًا، دُونَ سُفْلِهَا، وَالْعَكْسُ؛ لِأَنَّهُمَا عَيْنَانِ يَجُوزُ وَقْفُهُمَا، فَجَازَ وَقْفُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَالْعَبْدَيْنِ.

وَمَنْ جَعَلَ مَسْجِدًا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ، وَجَعَلَ بَابَ الْمَسْجِدِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَعَزْلُهُ عَنْ مِلْكِهِ، فَلَا يَكُونُ مَسْجِدًا، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَإِنْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى، لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَلَوْ كَانَ السِّرْدَابُ لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ جَازَ، كَمَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ.وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَجُوزُ جَعْلُ السُّفْلِ مَسْجِدًا وَعَلَيْهِ مَسْكَنٌ، وَلَا يَجُوزُ الْعَكْسُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مِمَّا يَتَأَبَّدُ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: عَكْسُ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ، وَإِذَا كَانَ فَوْقَهُ مَسْكَنٌ أَوْ مُسْتَغِلٌّ فَيَتَعَذَّرُ تَعْظِيمُهُ.وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ، وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ، فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ.

أَمَّا لَوْ تَمَّتِ الْمَسْجِدِيَّةُ ثُمَّ أَرَادَ الْبِنَاءَ مُنِعَ.

نَقْبُ كُوَّةِ الْعُلْوِ أَوِ السُّفْلِ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ عُلْوٍ تَحْتَهُ سُفْلٌ لآِخَرَ أَنْ يَنْقُبَ كُوَّةً فِي عُلْوِهِ، وَكَذَا الْعَكْسُ، إِلاَّ بِرِضَا الْآخَرِ.وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ: إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِعْلُ مَا لَا يَضُرُّ بِالْآخَرِ، فَإِنْ أَضَرَّ بِهِ مُنِعَ مِنْهُ، كَأَنْ يُشْرِفَ مِنَ الْكُوَّةِ عَلَى جَارِهِ وَعِيَالِهِ فَيَضُرُّ بِهِمْ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِذَا أَشْكَلَ أَنَّهُ يَضُرُّ أَمْ لَا؟ لَا يَمْلِكُ فَتْحَهَا، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ يَمْلِكُ فَتْحَهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى مَنْ أَحْدَث فَتْحَهَا بِسَدِّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عَالِيَةً، وَيُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى جَارِهِ.وَأَمَّا الْقَدِيمَةُ فَلَا يُقْضَى بِسَدِّهَا، وَيُقَالُ لِلْجَارِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ شِئْت، فَقَدْ قَالَ الدُّسُوقِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْكُوَّةَ الَّتِي أُحْدِثَ فَتْحُهَا يُقْضَى بِسَدِّهَا، وَإِنْ أُرِيدَ سَدُّ خَلْفِهَا فَقَطْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِسَدِّهَا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِسَدِّ جَمِيعِهَا، وَيُزَالُ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا.

وَهَذَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ عَالِيَةٍ لَا يَحْتَاجُ فِي كَشْفِ الْجَارِ مِنْهَا إِلَى صُعُودٍ عَلَى سُلَّمٍ وَنَحْوِهِ، وَإِلاَّ فَلَا يُقْضَى بِسَدِّهَا.

وَإِذَا سَكَتَ مَنْ حَدَثَ عَلَيْهِ فَتْحُ الْكُوَّةِ وَنَحْوِهَا عَشْرَ سِنِينَ- وَلَمْ يُنْكِرْ- جُبِرَ عَلَيْهِ، وَلَا مَقَالَ لَهُ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ (الِادِّعَاءِ) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبِهِ الْقَضَاءُ.

تَعَلِّي الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْبِنَاءِ:

9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ: فِي أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ أَنْ تَعْلُوَ أَبْنِيَتُهُمْ عَلَى أَبْنِيَةِ جِيرَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَّهُ قَالَ «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ رُتْبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ ذَلِكَ.عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ ذَهَبَ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّعَلِّي لِلْحِفْظِ مِنَ اللُّصُوصِ فَإِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ مُقَيَّدَةٌ بِالتَّعَلِّي فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ- بَلْ لِلتَّحَفُّظِ- فَلَا يُمْنَعُونَ.

10- وَأَمَّا مُسَاوَاتُهُمْ فِي الْبِنَاءِ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:

مَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ.فَقَدْ أَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.وَمَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ مُسَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَرُكُوبِهِمْ، كَذَلِكَ فِي بِنَائِهِمْ.

وَأَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَنْعُ، تَمْيِيزًا بَيْنَهُمْ؛ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ أَنْ يَعْلُوَ الْإِسْلَامُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ الْمُسَاوَاةِ.

11- أَمَّا لَوِ اشْتَرَى الذِّمِّيُّ دَارًا عَالِيَةً مُجَاوِرَةً لِدَارِ مُسْلِمٍ دُونَهَا فِي الْعُلْوِ، فَلِلذِّمِّيِّ سُكْنَى دَارِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ هَدْمُ مَا عَلَا دَارَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلُ عَلَيْهِ شَيْئًا، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِشْرَافُ مِنْهَا عَلَى دَارِ الْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ صِبْيَانَهُ مِنْ طُلُوعِ سَطْحِهَا إِلاَّ بَعْدَ تَحْجِيرِهِ.أَيْ بِنَاءِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ.

فَإِنِ انْهَدَمَتْ دَارُ الذِّمِّيِّ الْعَالِيَةِ ثُمَّ جَدَّدَ بِنَاءَهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُعَلِّيَ بِنَاءَهَا عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِ.وَإِنِ انْهَدَمَ مَا عَلَا مِنْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ إِعَادَتُهُ.هَذَا مَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ: الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

12- وَأَمَّا تَعْلِيَةُ بِنَائِهِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مُجَاوِرًا لَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ- فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عُلْوَهُ إِنَّمَا يَكُونُ ضَرَرًا عَلَى الْمُجَاوِرِ لِبِنَائِهِ دُونَ غَيْرِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، مَا لَمْ يُشْرِفْ مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْمَنْعِ، وَهُوَ أَصَحُّهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ مَعَ الْبُعْدِ بَيْنَ الْبِنَاءَيْنِ أَنْ يَعْلُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ.

وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّجَمُّلِ وَالشَّرَفِ؛ وَلِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَطَاوَلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


35-موسوعة الفقه الكويتية (تقادم)

تَقَادُمٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّقَادُمُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَقَادَمَ يُقَالُ: تَقَادَمَ الشَّيْءُ أَيْ: صَارَ قَدِيمًا.وَقَدْ عَبَّرَتْ مَجَلَّةُ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةُ عَنِ التَّقَادُمِ بِمُرُورِ الزَّمَانِ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ فِي الْجُمْلَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.التَّقَادُمُ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى:

2- لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُ الْقُضَاةِ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى فِي أَحْوَالٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْعُ سَمَاعِ الدَّعْوَى فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ بَعْدَ مُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَمَعَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَسْقُطُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ، إِلاَّ أَنَّ وَجْهَ هَذَا الْمَنْعِ هُوَ تَلَافِي التَّزْوِيرِ وَالتَّحَايُلِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الدَّعْوَى زَمَانًا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِقَامَتِهَا، يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَقِّ ظَاهِرًا.

وَعَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى سُقُوطِ الْحَقِّ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَنْعِ الْقُضَاةِ عَنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ كَانَ التَّقَادُمُ مُسْقِطًا لِلْحَقِّ لَمْ يَلْزَمْهُ

مُدَّةُ التَّقَادُمِ الْمَانِعِ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى:

3- فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ مُخْتَلِفُونَ فِي تَعْيِينِ الْمُدَّةِ الَّتِي لَا تُسْمَعُ بَعْدَهَا الدَّعْوَى فِي الْوَقْفِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَالْغَائِبِ وَالْإِرْثِ، فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَبَعْضُهُمْ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَبَعْضُهُمْ ثَلَاثِينَ فَقَطْ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَدُ طَوِيلَةً اسْتَحْسَنَ أَحَدُ السَّلَاطِينِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ جَعْلَهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَطْ، وَحَيْثُ كَانَ الْقَضَاءُ يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْخُصُومَةِ، وَيَقْبَلُ التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ، فَقَدْ نُهِيَ قُضَاةُ ذَلِكَ السُّلْطَانِ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَى تَرَكَهَا الْمُدَّعِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِلَا عُذْرٍ، لَكِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْمَنْعِ بَعْضَ مَسَائِلَ، وَعَلَى هَذَا النَّهْيِ اسْتَقَرَّ خُلَفَاؤُهُ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ التَّقَادُمَ بِمُرُورِ الزَّمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: حُكْمٌ اجْتِهَادِيٌّ، نَصَّ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ.

وَالثَّانِي: أَمْرٌ سُلْطَانِيٌّ يَجِبُ عَلَى الْقُضَاةِ فِي زَمَنِهِ اتِّبَاعُهُ، لِأَنَّهُمْ بِمُقْتَضَاهُ مَعْزُولُونَ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَى مَضَى عَلَيْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِدُونِ عُذْرٍ، وَالْقَاضِي وَكِيلٌ عَنِ السُّلْطَانِ، وَالْوَكِيلُ يَسْتَمِدُّ التَّصَرُّفَ مِنْ مُوَكِّلِهِ، فَإِذَا خَصَّصَ لَهُ تَخَصَّصَ، وَإِذَا عَمَّمَ تَعَمَّمَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا.

وَقَدْ فَرَّقَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِأَنَّ مَنْعَ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَبْنِيٌّ عَلَى النَّهْيِ السُّلْطَانِيِّ، فَمَنْ نَهَى عَنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِسَمَاعِهَا، وَأَمَّا عَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ الْفُقَهَاءِ، فَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَنْقُضَهُ، لِأَنَّ أَمْرَ السُّلْطَانِ إِنَّمَا يَنْفُذُ إِذَا وَافَقَ الشَّرْعَ وَإِلاَّ فَلَا.

وَدَعَاوَى الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَقَارِ الْمَمْلُوكِ وَالْمِيرَاثِ وَمَا لَا يَعُودُ مِنَ الدَّعَاوَى إِلَى الْعَامَّةِ وَلَا إِلَى أَصْلِ الْوَقْفِ فِي الْعَقَارَاتِ الْمَوْقُوفَةِ بَعْدَ أَنْ تُرِكَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِلَا عُذْرٍ لَا تُسْمَعُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى تَعُودُ إِلَى أَصْلِ الْوَقْفِ فَتُسْمَعُ، وَلَوْ تُرِكَتِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ بِلَا عُذْرٍ.

4- وَمُدَّةُ الْمَنْعِ مَعَ سَمَاعِ الدَّعْوَى تُحْسَبُ بِالتَّارِيخِ الْقَمَرِيِّ (الْهِجْرِيِّ) كَمَا قَرَّرَتْ ذَلِكَ جَمْعِيَّةُ الْمَجَلَّةِ اتِّبَاعًا لِلْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ إِلاَّ إِذَا اتُّفِقَ عَلَى خِلَافِهِ وَعَيَّنَا تَارِيخًا شَمْسِيًّا، وَالْمَنْعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِنَّمَا هُوَ لِلْقُضَاةِ، أَمَّا الْمُحَكَّمُونَ فَلَا يَشْمَلُهُمُ النَّهْيُ، فَلَوْ حَكَّمَ اثْنَانِ شَخْصًا فِي نِزَاعٍ مَضَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ فَإِنَّ الْمُحَكَّمَ يَسَعُهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي النِّزَاعِ.

وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّزَاعِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ (وَهُوَ كُلُّ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْوَقْفِ) فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ حَتَّى سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّزَاعِ فِي غَيْرِ أَصْلِ الْوَقْفِ كَأُجْرَةِ النَّاظِرِ وَاَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْوَقْفِ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ حَتَّى خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَطْ.

الْأَعْذَارُ الْمُبِيحَةُ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً:

5- أَوْرَدَتْ مَجَلَّةُ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي يُبَاحُ مَعَهَا سَمَاعُ الدَّعْوَى بَعْدَ مُدَّةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، الصِّغَرُ، وَالْجُنُونُ، وَالْغَيْبَةُ عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ مَوْضُوعُ النِّزَاعِ مُدَّةَ السَّفَرِ، أَوْ كَوْنُ خَصْمِهِ مِنَ الْمُتَغَلِّبَةِ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُهَا:

1- الصِّغَرُ: إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ صَغِيرًا وَسَكَتَ عَنِ الدَّعْوَى الْمُدَّةَ الْمُقَرَّرَةَ فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ عَلَيْهِ مِنْ تَارِيخِ بُلُوغِهِ رَشِيدًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ أَوْ وَصِيٌّ بِاتِّفَاقٍ، وَمَعَ الْخِلَافِ فِي حَالِ وُجُودِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ، وَرَجَّحَتْ لَجْنَةُ الْمَجَلَّةِ الْإِطْلَاقَ لِمَصْلَحَةِ الصَّغِيرِ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَصِيٌّ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَجْنُونُ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ لَا تُحْسَبُ إِلاَّ مِنْ تَارِيخِ إِفَاقَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ مِنْ تَارِيخِ زَوَالِ الْعَتَهِ.

2- غَيْبَةُ صَاحِبِ الْحَقِّ عَنِ الْبَلَدِ مُدَّةَ السَّفَرِ وَهِيَ مُدَّةُ الْقَصْرِ.

3- إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُتَغَلِّبَةِ بِأَنْ كَانَ أَمِيرًا جَائِرًا مَثَلًا فَذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ لِلْمُدَّعِي السُّكُوتَ عَنْ رَفْعِ الدَّعْوَى، وَلَا تَبْتَدِئُ الْمُدَّةُ حَتَّى يَزُولَ الْجَوْرُ وَلَوْ طَالَ الزَّمَنُ.

مَتَى تَبْتَدِئُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَقِّ؟

6- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ مُرُورُ الزَّمَانِ مِنْ تَارِيخِ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْمُدَّعِي بِإِقَامَةِ الدَّعْوَى بِالْمُدَّعَى بِهِ، فَمُرُورُ الزَّمَانِ فِي دَعْوَى دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ إِنَّمَا يَبْتَدِئُ مِنْ تَارِيخِ حُلُولِ الْأَجَلِ لِأَنَّهُ قَبْلَ حُلُولِهِ لَا يَمْلِكُ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى وَالْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ الدَّيْنِ، فَمَثَلًا لَوِ ادَّعَى وَاحِدٌ عَلَى آخَرَ فَقَالَ: لِي عَلَيْكَ كَذَا دَرَاهِمَ مِنْ ثَمَنِ الشَّيْءِ الَّذِي بِعْتُهُ لَكَ قَبْلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مُؤَجَّلًا ثَمَنُهُ لِثَلَاثِ سِنِينَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ مَرَّ اعْتِبَارًا مِنْ حُلُولِ الْأَجَلِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً لَا غَيْرُ، وَمَثَلًا لَوْ وَقَفَ وَاقِفٌ وَقْفَهُ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِحْقَاقُ لِذُرِّيَّتِهِ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي إِلاَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ وَقَفَ رَجُلٌ عَقَارًا وَشَرَطَ وِلَايَتَهُ وَغَلَّتَهُ لِأَوْلَادِهِ ثُمَّ لِأَحْفَادِهِ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ فَقَامَ أَحَدُ أَوْلَادِهِ لِصُلْبِهِ «أَيْ مِنَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ» وَبَاعَ ذَلِكَ الْعَقَارَ لآِخَرَ وَظَلَّ الْآخَرُ مُتَصَرِّفًا فِيهِ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَبَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ تُوُفِّيَ الْبَائِعُ فَقَامَ أَحَدُ أَبْنَائِهِ يَدَّعِي ذَلِكَ الْعَقَارَ عَلَى الْمُشْتَرِي اسْتِنَادًا عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا يَمْنَعُهُ مُضِيُّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ حَقَّ إِقَامَةِ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ لِلْحَفِيدِ إِلاَّ بَعْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ بِمُقْتَضَى شَرْطِ الْوَاقِفِ، فَلَا يَبْتَدِئُ مُرُورُ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ لِحَقِّهِ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ وَفَاةِ أَبِيهِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ وَقَفَ وَاقِفٌ عَقَارًا وَشَرَطَ غَلَّتَهُ لِأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ وَبَعْدَ انْقِطَاعِهِمْ عَلَى بَنَاتِهِ، فَبَاعَ أَوْلَادُهُ الذُّكُورُ، ذَلِكَ الْعَقَارَ لِرَجُلٍ وَسَلَّمُوهُ إِيَّاهُ وَبَعْدَ سِتِّينَ سَنَةً مَثَلًا انْقَطَعَتْ ذُرِّيَّةُ الْوَاقِفِ الذُّكُورِ فَقَامَتْ بَنَاتُهُ يَدَّعِينَ ذَلِكَ الْعَقَارَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ الْوَقْفِ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُنَّ وَلَا يَمْنَعُ مُرُورُ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُنَّ، لِأَنَّ حَقَّ إِقَامَةِ الدَّعْوَى لَمْ يَثْبُتْ لَهُنَّ إِلاَّ بَعْدَ انْقِطَاعِ ذُرِّيَّةِ الْوَاقِفِ الذُّكُورِ.

وَيَبْتَدِئُ مُرُورُ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ لِمُؤَجَّلِ الصَّدَاقِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ أَوْ مِنْ تَارِيخِ مَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَصِيرُ مُعَجَّلًا إِلاَّ مِنْ تَارِيخِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ أَوِ الْوَفَاةِ.

7- وَتَبْتَدِئُ مُطَالَبَةُ الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ مِنْ تَارِيخِ زَوَالِ الْإِفْلَاسِ كَأَنْ كَانَ لِدَائِنٍ عَلَى مَدِينٍ مَبْلَغٌ مِنَ الْمَالِ مَثَلًا وَكَانَ الْمَدِينُ مُفْلِسًا مُدَّةَ عَشْرِ سَنَوَاتٍ مَثَلًا فَإِنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ لَا تَدْخُلُ فِي الزَّمَنِ وَتَبْتَدِئُ مُدَّةُ الْمُطَالَبَةِ مِنْ تَارِيخِ يَسَارِ الْمُفْلِسِ لِأَنَّ تَرْكَ الدَّعْوَى بِسَبَبِ إِفْلَاسِ الْمَدِينِ كَانَ بِعُذْرٍ إِذْ لَا يَتَأَتَّى لَهُ إِقَامَةُ الدَّعْوَى مَا دَامَ الْمَدِينُ مُفْلِسًا.

وَنَصَّتِ الْمَادَّةُ (1669) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّهُ «إِذَا تَرَكَ وَاحِدٌ دَعْوَاهُ بِلَا عُذْرٍ وَمَرَّ عَلَيْهَا الزَّمَانُ عَلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا فَكَمَا لَا تُسْمَعُ تِلْكَ الدَّعْوَى فِي حَيَاتِهِ لَا تُسْمَعُ أَيْضًا مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ».وَجَاءَ فِي شَرْحِهَا: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَمَا يَمْنَعُ سَمَاعَ دَعْوَى الْمُوَرِّثِ يَمْنَعُ سَمَاعَ دَعْوَى الْوَارِثِ.وَلَكِنَّ هَذَا إِذَا ادَّعَى الْوَارِثُ ذَلِكَ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ عَنْ مُوَرِّثِهِ، أَمَّا لَوِ ادَّعَاهُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَكُونُ تَرْكُ مُوَرِّثِهِ لِلدَّعْوَى مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُ، لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَدَّعِي تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ مُوَرِّثِهِ فَلَا يَكُونُ قَائِمًا مَقَامَهُ، فَمَثَلًا لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِعَقَارٍ لِابْنِ زَيْدٍ الْقَاصِرِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَامَ ابْنُ زَيْدٍ الَّذِي بَلَغَ رَشِيدًا وَادَّعَى ذَلِكَ الْعَقَارَ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَارِثِ الْمُوصِي تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهَا تَرْكُ أَبِيهِ ذَلِكَ الْعَقَارَ فِي يَدِ وَارِثِ الْمُوصِي لِأَنَّهُ هَاهُنَا لَا يَدَّعِي الْمِلْكَ بِسَبَبِ الْإِرْثِ عَنْ أَبِيهِ بَلْ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُوصِي قَدْ تَرَكَ الدَّعْوَى بِهَذَا الْعَقَارِ وَهُوَ فِي يَدِ آخَرَ مُدَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَا تُسْمَعُ بِهِ دَعْوَى الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فَمَا مُنِعَ عَنْهُ الْمُوصِي مُنِعَ عَنْهُ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَمِثْلُ الْوَصِيَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ. وَإِذَا تَرَكَ الْمُوَرِّثُ الدَّعْوَى مُدَّةً وَتَرَكَهَا الْوَارِثُ مُدَّةً أُخْرَى وَبَلَغَ مَجْمُوعُ الْمُدَّتَيْنِ حَدَّ مُرُورِ الزَّمَانِ فَلَا تُسْمَعُ تِلْكَ الدَّعْوَى، لِأَنَّهُ حَيْثُ كَانَ الْوَارِثُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُوَرِّثِ كَانَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ حُكْمًا، فَلَوْ تَرَكَ الْمُوَرِّثُ الدَّعْوَى ثَمَانِيَ سِنِينَ مَثَلًا وَتَرَكَهَا الْوَارِثُ سَبْعَ سِنِينَ صَارَ كَأَنَّ الْوَارِثَ تَرَكَ الدَّعْوَى خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَمِثْلُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي كَالْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُ، فَلَوْ كَانَ وَاحِدٌ مُتَصَرِّفًا فِي عَرْصَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِدَارٍ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَصَاحِبُ الدَّارِ سَاكِتٌ، ثُمَّ أَوْصَى صَاحِبُ الدَّارِ بِدَارِهِ هَذِهِ إِلَى رَجُلٍ، فَقَامَ الْمُوصَى لَهُ يَدَّعِي أَنَّ الْعَرْصَةَ طَرِيقٌ خَاصٌّ لِلدَّارِ الْمُوصَى لَهُ بِهَا لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ.

وَإِذَا مَاتَ أَحَدٌ وَفِي وَرَثَتِهِ بَالِغٌ وَقَاصِرٌ، فَإِنَّ الْبَالِغَ إِذَا تَرَكَ الدَّعْوَى الْمُدَّةَ الْمُقَرَّرَةَ بِلَا عُذْرٍ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَأَمَّا الْقَاصِرُ فَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ مُرُورُ الزَّمَانِ إِلاَّ مِنْ تَارِيخِ بُلُوغِهِ رَشِيدًا، مَعَ مُلَاحَظَةِ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي وُجُودِ الْوَصِيِّ وَعَدَمِهِ.

8- وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ بِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى لِمُرُورِ الزَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِذَا اعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ لِلْمُدَّعِي تُسْمَعُ دَعْوَى الْمُدَّعِي مَهْمَا طَالَ الزَّمَانُ، وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ الْإِنْكَارِ أَمَامَ الْقَاضِي فَلَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ الْإِنْكَارِ خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِوُجُودِ شُبْهَةِ التَّزْوِيرِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَنْعُ مِنْ سَمَاعِ أَصْلِ الدَّعْوَى فَفَرْعُهَا وَهُوَ ادِّعَاءُ الْإِقْرَارِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ السَّمَاعِ لِأَنَّ النَّهْيَ يَشْمَلُهَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ الْإِقْرَارُ الْمُدَّعَى بِهِ قَدْ أُيِّدَ بِسَنَدٍ جَاءَ بِخَطِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ خَتْمِهِ الْمَعْرُوفَيْنِ وَلَمْ تَمُرَّ مُدَّةُ التَّقَادُمِ مِنْ تَارِيخِ السَّنَدِ إِلَى وَقْتِ رَفْعِ الدَّعْوَى فَعِنْدَ ذَلِكَ تُسْمَعُ دَعْوَى الْإِقْرَارِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ.

وَالْأَحْكَامُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْخَاصَّةُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ إِنَّمَا هِيَ لِلْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِقْرَارِ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ كَالطَّرِيقِ وَنَحْوِهَا فَلَا تَسْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ مُرُورِ الزَّمَانِ، فَتُسْمَعُ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ خُلَاصَةُ أَحْكَامِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمُرُورِ الزَّمَانِ.

9- أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُعَبِّرُونَ عَنْ مُرُورِ الزَّمَانِ بِالْحَوْزِ وَالْحِيَازَةِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هُنَاكَ دَعَاوَى لَا تُسْمَعُ مُطْلَقًا، وَهِيَ الدَّعَاوَى الَّتِي تُوجِبُ مَعَرَّةً كَالدَّعَاوَى الَّتِي تُرْفَعُ عَلَى مَنْ عُرِفَ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالشَّرَفِ فِي الْمُعَامَلَةِ كَأَنْ يَدَّعِي شَخْصٌ مَعْرُوفٌ بِالْفَقْرِ وَالتَّجَنِّي عَلَى النَّاسِ عَلَى شَخْصٍ يُطَالِبُهُ بِعَقَارٍ فِي يَدِهِ.

وَالْحِيَازَةُ عِنْدَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ:

1- حِيَازَةٌ مَعَ جَهْلِ أَصْلِ الْمِلْكِ لِمَنْ هُوَ؟.

2- حِيَازَةٌ مَعَ عِلْمِ أَصْلِ الْمِلْكِ لِمَنْ هُوَ؟.

فَالْأُولَى تَكْفِي فِيهَا الْحِيَازَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى لِمُدَّةِ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَحُوزُ عَقَارًا أَمْ غَيْرَهُ.

وَالثَّانِيَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ فِي الْعَقَارِ، أَوْ عَامَيْنِ فِي الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا، وَيُشْتَرَطُ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى فِي كُلٍّ مِنَ الْحِيَازَتَيْنِ أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِذِكْرِ الْيَدِ، وَتَصَرُّفُ الْحَائِزِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ، وَالنِّسْبَةُ، وَعَدَمُ الْمُنَازَعِ، وَطُولُ الْمُدَّةِ عَشْرَةُ أَشْهُرٍ فِي الْأُولَى وَعَشَرُ سِنِينَ فِي الثَّانِيَةِ، وَعَدَمُ عِلْمِهِمْ بِمَا يُفَوِّتُ عَلَى الْمَالِكِ الْأَصْلِيِّ حَقَّهُ فِي اسْتِرْجَاعِ مِلْكِهِ، فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ مَعَ فَقْدِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ صِيغَةِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْمُدَّعِي، وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الشَّاهِدِ ذِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ.

10- وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَنْ مَصْدَرِ حِيَازَتِهِ فَلَا يُقَالُ لَهُ: كَيْفَ حُزْتَ مَا تَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهِ؟ خِلَافًا لِابْنِ رُشْدٍ، فَإِنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سُؤَالِ الْحَائِزِ عَنْ مَصْدَرِ حِيَازَتِهِ، هَلْ هُوَ الْمِيرَاثُ مَثَلًا أَوِ الشِّرَاءُ أَوِ الْهِبَةُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ دَعْوَى الْمِلْكِ دُونَ أَنْ يَدَّعِيَ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ الْحِيَازَةِ إِذَا ثَبَتَ أَصْلُ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ.

وَرَأَى ابْنُ رُشْدٍ خِلَافَ رَأْيِ الْجُمْهُورِ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ هُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْحَائِزُ مَعْرُوفًا بِالتَّسَلُّطِ وَالْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي، فَلَا بُدَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يُبَيِّنَ بِأَيِّ وَجْهٍ صَارَ إِلَيْهِ وَلَا يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ اشْتَرَيْتُهُ مِنَ الْقَائِمِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ وَرَثَتِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ فَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ بِيَدِهِ بِمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ.

وَإِنْ عُرِفَ أَنَّ حِيَازَتَهُ كَانَتْ بِبَاطِلٍ لَمْ يَنْفَعْهُ طُولُ الْحِيَازَةِ وَإِنِ ادَّعَى شِرَاءَهُ، إِلاَّ أَنْ يَطُولَ ذَلِكَ نَحْوَ الْخَمْسِينَ سَنَةً وَنَحْوَهَا وَالْقَائِمُ حَاضِرٌ لَا يُغَيِّرُ وَلَا يَدَّعِي شَيْئًا، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْحَائِزَ إِذَا حَازَ الْعَقَارَ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ مَعَ وُجُودِ الْمُدَّعِي وَسُكُوتِهِ بِلَا عُذْرٍ فَإِنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ يَمْنَعُ سَمَاعَ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَمَا قَارَبَ عَشْرَ سِنِينَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْعَشْرِ فَإِذَا نَقَصَتْ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ أَخَذَتْ حُكْمَ الْعَشْرِ، وَأَمَّا إِذَا قَامَتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْحَائِزِ أَمَامَ الْقَضَاءِ أَوْ غَيْرِهِ كَالْمُحَكِّمِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ الْمُدَّةَ، وَفِي غَيْرِ الْعَقَارِ يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ مُضِيُّ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَهُنَاكَ خِلَافَاتٌ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَالتَّخَاصُمُ يَقْطَعُ مُضِيَّ الْمُدَّةِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ تَكْرَارَ التَّخَاصُمِ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ سَلْمُونٍ عَنْ سَحْنُونٍ، وَإِذَا سَكَتَ بَعْدَ الْمُنَازَعَةِ عَشْرَ سِنِينَ فَإِنَّ سُكُوتَهُ يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا سَكَتَ الْمُدَّعِي عَنْ مُخَاصَمَةِ الْحَائِزِ عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ رَفَعَ الْمُدَّعِي أَمْرَهُ لِيَقْضِيَ لَهُ وَعَلَّلَ سُكُوتَهُ بِأَنَّ بَيِّنَتَهُ كَانَتْ غَائِبَةً ثُمَّ جَاءَتْ، فَقِيلَ: يُقْبَلُ عُذْرُهُ وَقِيلَ: لَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُنْتُ فَاقِدًا مُسْتَنَدِي ثُمَّ وَجَدْتُهُ، وَكَذَلِكَ جَهْلُ الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ جَهْلَهُ أَنَّ الْحِيَازَةُ تَمَلُّكُ الْحَائِزِ لَيْسَ عُذْرًا وَسُكُوتُ الْمُوَرِّثِ ثُمَّ الْوَارِثِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ تُحْسَبُ مُدَّةُ الْمُوَرِّثِ وَحْدَهَا وَمُدَّةُ الْوَارِثِ وَحْدَهَا فَلَا يُجْمَعَانِ مَعًا.

11- وَنَفَقَةُ غَيْرِ الزَّوْجَةِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَلَا تَصِيرُ بِفَوْتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِاقْتِرَاضِ قَاضٍ بِنَفْسِهِ أَوْ مَأْذُونِهِ لِغَيْبَةٍ أَوْ مَنْعٍ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ احْتِيَاجُ الْفَرْعِ وَغِنَى الْأَصْلِ مَثَلًا.

أَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ فَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ بَلْ تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفَقَةِ هُنَا مَا سِوَى الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لِلِاسْتِمْتَاعِ وَالتَّمْكِينِ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ، بَلْ يَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ وَيُسْتَحَقُّ بِالْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَيَصِيرُ مَأْمُونًا مِنْ سُقُوطِهِ.

12- وَيُبَيِّنُ أَيْضًا مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ يَكَادُونَ يَتَّفِقُونَ عَلَى إِبَاحَةِ سَمَاعِ الدَّعْوَى لِلْأَعْذَارِ، وَهِيَ عَلَى الْجُمْلَةِ الصِّغَرُ وَالْغَيْبَةُ الْبَعِيدَةُ وَالْجُنُونُ وَالْعَتَهُ وَكُلُّ عُذْرٍ يَمْنَعُ الْمُدَّعِيَ مِنْ رَفْعِ الدَّعْوَى كَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا سَطْوَةٍ وَيُخَافُ مِنْهُ- عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.

التَّقَادُمُ فِي الْحُدُودِ:

أ- تَقَادُمُ الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ:

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَى وَالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ تُقْبَلُ وَلَوْ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانٍ طَوِيلٍ مِنَ الْوَاقِعَةِ لِعُمُومِ آيَةِ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَمْ يَثْبُتْ مَا يُبْطِلُهُ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا صَارَتْ حُجَّةً بِاعْتِبَارِ وَصْفِ الصِّدْقِ، وَتَقَادُمُ الْعَهْدِ لَا يُخِلُّ بِالصِّدْقِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً كَالْإِقْرَارِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: التَّقَادُمُ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّأْخِيرُ لِعُذْرٍ كَبُعْدِ الْمَسَافَةِ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَحَدُّ الزِّنَى وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ رُجُوعُ الْمُقَرِّ عَنْهَا فَيَكُونُ التَّقَادُمُ فِيهَا مَانِعًا.وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَالتَّقَادُمُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَلِهَذَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ، وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْ إِقْرَارِهِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ، فَلَا يُتَّهَمُ الشُّهُودُ فِي ذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: رَدَّ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ الْقَدِيمَةِ. ب- تَقَادُمُ الْإِقْرَارِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّقَادُمَ فِي الْإِقْرَارِ لَا أَثَرَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِتِلْكَ الْحُدُودِ مَا عَدَا حَدَّ الشُّرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيُقْبَلُ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَى وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


36-موسوعة الفقه الكويتية (جنائز 1)

جَنَائِزُ -1

التَّعْرِيف:

1- الْجَنَائِزُ جَمْعُ جَنَازَةٍ بِالْفَتْحِ الْمَيِّتُ، وَبِالْكَسْرِ السَّرِيرُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ، وَقِيلَ عَكْسُهُ، أَوْ بِالْكَسْرِ: السَّرِيرُ مَعَ الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ فَهُوَ سَرِيرٌ وَنَعْشٌ وَقِيلَ: فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لُغَتَانِ.

أَوَّلًا: أَحْكَامُ الْمُحْتَضَرِ:

تَعْرِيفُ الْمُحْتَضَرِ وَتَوْجِيهُهُ وَتَلْقِينُه:

2- الْمُحْتَضَرُ هُوَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَمَلَائِكَتُهُ، وَالْمُرَادُ مَنْ قَرُبَ مَوْتُهُ، وَعَلَامَةُ الِاحْتِضَارِ- كَمَا أَوْرَدَهَا ابْنُ عَابِدِينَ- أَنْ تَسْتَرْخِيَ قَدَمَاهُ فَلَا تَنْتَصِبَانِ، وَيَعْوَجَّ أَنْفُهُ، وَيَنْخَسِفَ صُدْغَاهُ، وَيَمْتَدَّ جِلْدُ خُصْيَتَيْهِ لِانْشِمَارِ الْخُصْيَتَيْنِ بِالْمَوْتِ، وَتَمْتَدَّ جِلْدَةُ وَجْهِهِ فَلَا يُرَى فِيهَا تَعَطُّفٌ.

وَلِلْمُحْتَضَرِ أَحْكَامٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (احْتِضَارٌ).

حَالَةُ الْمَوْتِ:

مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُه:

مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ:

3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ شُدَّ لَحْيَاهُ، وَغُمِّضَتْ عَيْنَاهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ وَقَالَ: «إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ»

وَيَتَوَلَّى أَرْفَقُ أَهْلِهِ بِهِ إِغْمَاضَهُ بِأَسْهَلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيَشُدُّ لَحْيَاهُ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ يَشُدُّهَا فِي لَحْيِهِ الْأَسْفَلِ وَيَرْبِطُهَا فَوْقَ رَأْسِهِ.

وَيَقُولُ مُغْمِضُه: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ.اللَّهُمَّ يَسِّرْ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَسَهِّلْ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ.وَأَسْعِدْهُ بِلِقَائِكَ، وَاجْعَلْ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ.

وَيُلَيِّنُ مَفَاصِلَهُ، وَيَرُدُّ ذِرَاعَيْهِ إِلَى عَضُدَيْهِ، وَيَرُدُّ أَصَابِعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ يَمُدُّهَا، وَيَرُدُّ فَخِذَيْهِ إِلَى بَطْنِهِ، وَسَاقَيْهِ إِلَى فَخِذَيْهِ، ثُمَّ يَمُدُّهَا، وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا اتُّفِقَ عَلَيْهِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَيُسَجَّى جَمِيعُ بَدَنِهِ بِثَوْبٍ «فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ» وَيُتْرَكُ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ مِنْ لَوْحٍ أَوْ سَرِيرٍ، لِئَلاَّ تُصِيبَهُ نَدَاوَةُ الْأَرْضِ فَيَتَغَيَّرَ رِيحُهُ.وَيُجْعَلُ عَلَى بَطْنِهِ حَدِيدٌ، أَوْ طِينٌ يَابِسٌ، لِئَلاَّ يَنْتَفِخَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ.

الْإِعْلَامُ بِالْمَوْتِ:

4- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْلَمَ جِيرَانُ الْمَيِّتِ وَأَصْدِقَاؤُهُ حَتَّى يُؤَدُّوا حَقَّهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ النَّخَعِيِّ: لَا بَأْسَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ أَنْ يُؤْذَنَ صَدِيقُهُ وَأَصْحَابُهُ، إِنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يُطَافَ فِي الْمَجْلِسِ فَيُقَالُ: أَنْعِي (فُلَانًا) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ بِاخْتِصَارٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.

وَكَرِهَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ النِّدَاءَ فِي الْأَسْوَاقِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إِنْ كَانَ عَالِمًا، أَوْ زَاهِدًا، أَوْ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِهِ، فَقَدِ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ النِّدَاءَ فِي الْأَسْوَاقِ لِجِنَازَتِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ التَّفْخِيمِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِنَحْوِ: مَاتَ الْفَقِيرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُؤْذِنُ بِالْجِنَازَةِ فَيَمُرُّ بِالْمَسْجِدِ فَيَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ دُعِيَ فَأَجَابَ، أَوْ أَمَةُ اللَّهِ دُعِيَتْ فَأَجَابَتْ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا بَأْسَ بِإِعْلَامِ أَقَارِبِهِ وَإِخْوَانِهِ مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ:

الْأُولَى: إِعْلَامُ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ فَهَذَا سُنَّةٌ.

وَالثَّانِيَةُ: الدَّعْوَةُ لِلْمُفَاخَرَةِ بِالْكَثْرَةِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ.

وَالثَّالِثَةُ: الْإِعْلَامُ بِنَوْعٍ آخَرَ كَالنِّيَاحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مُحَرَّمٌ.

وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ كُرِهَ صِيَاحٌ بِمَسْجِدٍ أَوْ بِبَابِهِ بِأَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ قَدْ مَاتَ فَاسْعَوْا إِلَى جِنَازَتِهِ مَثَلًا، إِلاَّ الْإِعْلَامَ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ أَيْ مِنْ غَيْرِ صِيَاحٍ فَلَا يُكْرَهُ.

فَالنَّعْيُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ اتِّفَاقًا، وَهُوَ أَنْ يَرْكَبَ رَجُلٌ دَابَّةً يَصِيحُ فِي النَّاسِ أَنْعِي فُلَانًا، أَوْ كَمَا مَرَّ عَنِ النَّخَعِيِّ، أَوْ أَنْ يُنَادَى بِمَوْتِهِ، وَيُشَادَ بِمَفَاخِرِهِ.وَبِهِ يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَعْيٌ).

قَضَاءُ الدَّيْنِ:

5- يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَارَعَ إِلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ أَوْ إِبْرَائِهِ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ».

قَالَ السُّيُوطِيُّ: سَوَاءٌ تَرَكَ الْمَيِّتُ وَفَاءً أَمْ لَا، وَشَذَّ الْمَاوَرْدِيُّ فَقَالَ: إِنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُخَلِّفُ وَفَاءً.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ اسْتُحِبَّ لِوَارِثِهِ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَتَكَفَّلَ عَنْهُ، وَالْكَفَالَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ قَالَ بِصِحَّتِهَا أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ عِنْدَهُ الْكَفَالَةُ بِدَيْنٍ عَلَى مَيِّتٍ مُفْلِسٍ، وَإِنْ وَعَدَ أَحَدٌ بِأَدَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ صَحَّ عِنْدَهُ عِدَةً لَا كَفَالَةً.وَذَهَبَ الطَّحْطَاوِيُّ إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ.

تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تُيُقِّنَ الْمَوْتُ يُبَادَرُ إِلَى التَّجْهِيزِ وَلَا يُؤَخَّرُ» لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَهْلِهِ» وَتَشْهَدُ لَهُ أَحَادِيثُ الْإِسْرَاعِ بِالْجِنَازَةِ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ حَمْلِ الْجِنَازَةِ.

فَإِنْ مَاتَ فَجْأَةً تُرِكَ حَتَّى يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ، وَهُوَ مُفَادُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ.وَفِي الْغَايَةِ سُنَّ إِسْرَاعُ تَجْهِيزِهِ إِنْ مَاتَ غَيْرَ فَجْأَةٍ، وَيُنْتَظَرُ مَنْ مَاتَ فَجْأَةً بِنَحْوِ صَعْقَةٍ، أَوْ مَنْ شُكَّ فِي مَوْتِهِ، حَتَّى يُعْلَمَ بِانْخِسَافِ صُدْغَيْهِ إِلَخْ.

وَبِهِ يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ فَفِي مُقَدِّمَاتِ ابْنِ رُشْدٍ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ دَفْنُ الْغَرِيقِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ غَمَرَهُ فَلَا تَتَبَيَّنَ حَيَاتُهُ.

مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ:

قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْمَيِّتِ:

7- تُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْمَيِّتِ حَتَّى يُغَسَّلَ وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا «اقْرَءُوا سُورَةَ يس عَلَى مَوْتَاكُمْ» فَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْمُرَادُ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُقْرَأُ عِنْدَهُ يس إِلاَّ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَخَالَفَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمُحَقِّقِينَ، فَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ وَقَالَ: بَلْ يُقْرَأُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ مُسَجًّى، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْحَاصِلُ أَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَلَا كَرَاهَةَ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا كُرِهَ.وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا أَيْضًا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ مُسَجًّى بِثَوْبٍ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ، وَكَذَا يَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْكَرَاهَةِ بِمَا إِذَا قَرَأَ جَهْرًا.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ عِنْدَ الْمَيِّتِ قَبْلَ الدَّفْنِ لِئَلاَّ تَشْغَلَهُمُ الْقِرَاءَةُ عَنْ تَعْجِيلِ تَجْهِيزِهِ، خِلَافًا لِابْنِ الرِّفْعَةِ وَبَعْضِهِمْ، وَجَوَّزَهُ الرَّمْلِيُّ بَحْثًا.أَمَّا بَعْدَ الدَّفْنِ فَيُنْدَبُ عِنْدَهُمْ.

وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى تَصْرِيحٍ لِلْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ الْمُحْتَضَرِ.

النَّوْحُ وَالصِّيَاحُ عَلَى الْمَيِّتِ:

8- يُكْرَهُ النَّوْحُ، وَالصِّيَاحُ، وَشَقُّ الْجُيُوبِ، فِي مَنْزِلِ الْمَيِّتِ، وَفِي الْجَنَائِزِ، أَوْ فِي مَحَلٍّ آخَرَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا بَأْسَ بِالْبُكَاءِ بِدَمْعٍ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ.

فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ».وَأَخْرَجَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ».

وَأَمَّا الْبُكَاءُ بِغَيْرِ صَوْتٍ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رُفِعَ إِلَيْهِ ابْنٌ لِابْنَتِهِ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَقَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ».

وَقَوْلُ عُمَرَ: - فِي حَقِّ نِسَاءِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ- دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.

وَفِي الصَّبْرِ رَوَى الْبُخَارِيُّ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي».وَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ السَّرَّاجُ: قَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّوْحِ، وَالدَّعْوَى بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، ذَكَرَهُ الطَّحْطَاوِيُّ.

وَالْمُرَادُ بِالْبُكَاءِ فِي حَدِيثِ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» النَّدْبُ، وَالنِّيَاحَةُ، وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ.

وَفِي غَايَةِ الْمُنْتَهَى مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ لَا يُكْرَهُ بُكَاءٌ عَلَى مَيِّتٍ قَبْلَ مَوْتٍ وَلَا بَعْدَهُ، بَلِ اسْتِحْبَابُ الْبُكَاءِ رَحْمَةً لِلْمَيِّتِ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَحَرُمَ نَدْبٌ وَهُوَ بُكَاءٌ مَعَ تَعْدِيدِ مَحَاسِنِهِ، وَنَوْحٌ وَهُوَ رَفْعُ صَوْتٍ بِذَلِكَ بِرِقَّةٍ وَشَقِّ ثَوْبٍ، وَكُرِهَ اسْتِدَامَةُ لُبْسِ مَشْقُوقٍ، وَحَرُمَ لَطْمُ خَدٍّ، وَخَمْشُهُ، وَصُرَاخٌ، وَنَتْفُ شَعْرٍ وَنَشْرُهُ وَحَلْقُهُ، وَعَدَّ فِي (الْفُصُولِ) مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِظْهَارَ الْجَزَعِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّظَلُّمَ مِنَ الظَّالِمِ، وَهُوَ عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.

قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: (وَيُتَّجَهُ) وَمِثْلُهُ إِلْقَاءُ تُرَابٍ عَلَى الرَّأْسِ، وَدُعَاءٌ بِوَيْلٍ وَثُبُورٍ، وَيُبَاحُ يَسِيرُ نُدْبَةٍ لَمْ تَخْرُجْ مَخْرَجَ نَوْحٍ، نَحْوَ يَا أَبَتَاهُ يَا وَلَدَاهُ، فَإِنْ زَادَ يَصِيرُ نَدْبًا وَيَجِبُ مَنْعُهُ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ.

شَقُّ بَطْنِ الْمَيِّتَةِ لِإِخْرَاجِ الْجَنِينِ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ وَالْوَلَدُ يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِهَا يُشَقُّ بَطْنُهَا وَيُخْرَجُ الْوَلَدُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَا يَسَعُ إِلاَّ ذَلِكَ.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُتَّجَهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يُشَقُّ لِلْوَلَدِ إِنْ كَانَ تُرْجَى حَيَاتُهُ.فَإِنْ كَانَ لَا تُرْجَى حَيَاتُهُ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشَقُّ.وَعِنْدَ أَحْمَدَ حَرُمَ شَقُّ بَطْنِهَا وَأَخْرَجَ نِسَاءٌ لَا رِجَالٌ مَنْ تُرْجَى حَيَاتُهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ لَمْ تُدْفَنْ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نِسَاءٌ لَمْ يَسْطُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتَةِ، وَيُتْرَكُ حَتَّى يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ.وَعَنْهُ يَسْطُو عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَالْأَوْلَى بِذَلِكَ الْمَحَارِمُ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُبْقَرُ بَطْنُ الْمَيِّتَةِ إِذَا كَانَ جَنِينُهَا يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِهَا.وَقَالَ سَحْنُونٌ مِنْهُمْ: سَمِعْتُ أَنَّ الْجَنِينَ إِذَا اسْتُيْقِنَ بِحَيَاتِهِ وَكَانَ مَعْرُوفَ الْحَيَاةِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبْقَرَ بَطْنُهَا وَيُسْتَخْرَجَ الْوَلَدُ.

وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ لَا يُشَقُّ بَطْنُ الْمَرْأَةِ عَنْ جَنِينٍ وَلَوْ رُجِيَ حَيَاتُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَلَكِنْ لَا تُدْفَنُ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ وَلَوْ تَغَيَّرَتْ.وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ إِخْرَاجُهُ بِحِيلَةٍ غَيْرِ الشَّقِّ وَجَبَتْ.

غُسْلُ الْمَيِّتِ:

9 م- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَغْسِيلَ الْمَيِّتِ وَاجِبُ كِفَايَةٍ بِحَيْثُ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ: «تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ»

تَكْفِينُ الْمَيِّتِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَكْفِينَ الْمَيِّتِ بِمَا يَسْتُرُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.

وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْفِينٌ).

حَمْلُ الْجِنَازَةِ:

حُكْمُ الْحَمْلِ وَكَيْفِيَّتُه:

11- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَمْلَ الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى حَمْلِ الْجِنَازَةِ.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ حَمْلِ الْجِنَازَةِ وَعَدَدُ حَامِلِيهَا فَيُسَنُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ، فَإِذَا حَمَلُوا الْمَيِّتَ عَلَى سَرِيرٍ أَخَذُوهُ بِقَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ وَبِهِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «مَنِ اتَّبَعَ جِنَازَةً فَلْيَحْمِلْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ فَلْيَتَطَوَّعْ وَإِنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ».

12- ثُمَّ إِنَّ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ شَيْئَيْنِ: نَفْسَ السُّنَّةِ، وَكَمَالَهَا، أَمَّا نَفْسُ السُّنَّةِ فَهِيَ أَنْ تَأْخُذَ بِقَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ عَلَى طَرِيقِ التَّعَاقُبِ بِأَنْ يَحْمِلَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشْرَ خُطُوَاتٍ.

وَأَمَّا كَمَالُ السُّنَّةِ، فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ الْحَامِلُ بِحَمْلِ الْجِنَازَةِ مِنْ جَانِبِ يَمِينِ مُقَدَّمِ الْمَيِّتِ وَهُوَ يَسَارَ الْجِنَازَةِ...فَيَحْمِلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْمُؤَخَّرَ الْأَيْمَنَ لِلْمَيِّتِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْمُقَدَّمَ الْأَيْسَرَ لِلْمَيِّتِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ الْمُؤَخَّرَ الْأَيْسَرَ لِلْمَيِّتِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ.

وَيُكْرَهُ حَمْلُهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ، بِأَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يَحْمِلُ مُقَدَّمَهَا وَالْآخَرُ مُؤَخَّرَهَا؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَى الْحَامِلَيْنِ، وَلَا يُؤْمَنُ مِنْ سُقُوطِ الْجِنَازَةِ.إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، مِثْلُ ضِيقِ الْمَكَانِ (أَوْ قِلَّةِ الْحَامِلِينَ) أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ مَا رُوِيَ مِنَ الْحَمْلِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْأَفْضَلُ أَنْ يُجْمَعَ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ بَيْنَ التَّرْبِيعِ وَالْحَمْلِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ وَسَالِمٍ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدَهُمَا فَالْحَمْلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ أَفْضَلُ، وَالتَّرْبِيعُ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعَةِ، وَالْحَمْلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ أَنْ يَحْمِلَهَا ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، أَحَدُهُمْ يَكُونُ فِي مُقَدَّمِهَا، يَضَعُ الْخَشَبَتَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ عَلَى عَاتِقَيْهِ وَالْمُعْتَرِضَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى كَتِفَيْهِ، وَالْآخَرَانِ يَحْمِلَانِ مُؤَخَّرَهَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَشَبَةً عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُتَقَدِّمُ عَنْ حَمْلِ الْمُقَدَّمَ وَحْدَهُ أَعَانَهُ رَجُلَانِ خَارِجَ الْعَمُودَيْنِ فَيَصِيرُونَ خَمْسَةً.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُسْتَحَبُّ التَّرْبِيعُ فِي حَمْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَضَعَ قَائِمَةَ السَّرِيرِ الْيُسْرَى الْمُقَدَّمَةَ (عِنْدَ السَّيْرِ) عَلَى كَتِفِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَنْتَقِلَ إِلَى الْمُؤَخَّرَةِ، ثُمَّ يَضَعَ الْقَائِمَةَ الْيُمْنَى عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَنْتَقِلَ إِلَى الْمُؤَخَّرَةِ، وَإِنْ حَمَلَ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ فَحَسَنٌ.

وَفِي غَايَةِ الْمُنْتَهَى: كَرِهَ الْآجُرِّيُّ وَغَيْرُهُ التَّرْبِيعَ مَعَ زِحَامٍ، وَلَا يُكْرَهُ الْحَمْلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى عَاتِقٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: حَمْلُ الْمَيِّتِ لَيْسَ لَهُ كَيْفِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَهُ أَرْبَعَةُ أَشْخَاصٍ، وَثَلَاثَةٌ، وَاثْنَانِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْبَدْءُ بِنَاحِيَةٍ مِنَ السَّرِيرِ (النَّعْشِ).

13- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ السَّرِيرَ بِيَدِهِ أَوْ يَضَعَ عَلَى الْمَنْكِبِ (يَعْنِي بَعْدَ أَخْذِ قَائِمَةِ السَّرِيرِ بِالْيَدِ لَا ابْتِدَاءً كَمَا تُحْمَلُ الْأَثْقَالُ)، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِحُرْمَةِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ عَلَى هَيْئَةٍ مُزْرِيَةٍ، كَحَمْلِهِ فِي قُفَّةٍ، وَغِرَارَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَحْرُمُ كَذَلِكَ حَمْلُهُ عَلَى هَيْئَةٍ يُخَافُ مِنْهَا سُقُوطُهُ.وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَضَعَ نِصْفَهُ عَلَى الْمَنْكِبِ وَنِصْفَهُ عَلَى أَصْلِ الْعُنُقِ، وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَمْلُهُ عَلَى الظَّهْرِ وَالدَّابَّةِ بِلَا عُذْرٍ.أَمَّا إِذَا كَانَ عُذْرٌ بِأَنْ كَانَ الْمَحَلُّ بَعِيدًا يَشُقُّ حَمْلُ الرِّجَالِ لَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَامِلُ إِلاَّ وَاحِدًا، فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَلَا كَرَاهَةَ إِذَنْ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا لَا يُكْرَهُ حَمْلُهَا عَلَى دَابَّةٍ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّبِيَّ الرَّضِيعَ، أَوِ الْفَطِيمَ، أَوْ مَنْ جَاوَزَ ذَلِكَ قَلِيلًا، إِذَا مَاتَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى يَدَيْهِ، وَيَتَدَاوَلَهُ النَّاسُ بِالْحَمْلِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى يَدَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ حَمْلُ الطِّفْلِ عَلَى الْيَدَيْنِ بَلْ يُنْدَبُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ حَمْلُ جِنَازَةِ الْكَبِيرِ بِأَعْمِدَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ.

وَيُسْرَعُ بِالْمَيِّتِ وَقْتَ الْمَشْيِ بِلَا خَبَبٍ وَحَدُّهُ أَنْ يُسْرَعَ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَضْطَرِبُ الْمَيِّتُ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَيُكْرَهُ بِخَبَبٍ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ» أَيْ مَا دُونَ الْخَبَبِ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، «سَأَلْنَا رَسُولَ- صلى الله عليه وسلم- اللَّهِ عَنِ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا مَا يُحْكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِسْرَاعُ الشَّدِيدُ، فَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: مَالَ عِيَاضٌ إِلَى نَفْيِ الْخِلَافِ فَقَالَ: مَنِ اسْتَحَبَّهُ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ، وَمَنْ كَرِهَهُ أَرَادَ الْإِفْرَاطَ فِيهِ كَالرَّمَلِ.

وَكَذَا يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَاعُ بِتَجْهِيزِهِ كُلِّهِ مِنْ حِينِ مَوْتِهِ، فَلَوْ جُهِّزَ الْمَيِّتُ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ، وَلَوْ خَافُوا فَوْتَ الْجُمُعَةِ بِسَبَبِ دَفْنِهِ يُؤَخَّرُ الدَّفْنُ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا، بِالْإِسْرَاعِ بِتَجْهِيزِهِ إِلاَّ إِذَا شُكَّ فِي مَوْتِهِ، وَيُقَدَّمُ رَأْسُ الْمَيِّتِ فِي حَالِ الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ)

تَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ:

14- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَشْيِيعَ الرِّجَالِ لِلْجِنَازَةِ سُنَّةٌ؛ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ» وَالْأَمْرُ هُنَا لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ لِلْإِجْمَاعِ، وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْكِفَايَةِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ مَرْعِي الْحَنْبَلِيُّ: اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ سُنَّةٌ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ أَفْضَلُ مِنَ النَّوَافِلِ إِذَا كَانَ لِجِوَارٍ وَقَرَابَةٍ، أَوْ صَلَاحٍ مَشْهُورٍ، وَالْأَفْضَلُ لِمُشَيِّعِ الْجِنَازَةِ الْمَشْيُ خَلْفَهَا، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ عَلَى مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ لِحَدِيثِ «الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَا تُتْبَعُ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا» إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خَلْفَهَا نِسَاءٌ فَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَحْسَنُ، وَلَكِنْ إِنْ تَبَاعَدَ عَنْهَا (بِحَيْثُ يُعَدُّ مَاشِيًا وَحْدَهُ أَوْ تَقَدَّمَ الْكُلُّ، وَتَرَكُوهَا خَلْفَهُمْ لَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ) أَوْ رَكِبَ أَمَامَهَا كُرِهَ، وَأَمَّا الرُّكُوبُ خَلْفَهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ، وَالْمَشْيُ عَنْ يَمِينِهَا أَوْ يَسَارِهَا خِلَافُ الْأَوْلَى، لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ وَهُوَ اتِّبَاعُهَا.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْمَشْيُ أَمَامَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ».وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ فَضْلَ الْمَاشِي خَلْفَهَا عَلَى الَّذِي يَمْشِي أَمَامَهَا كَفَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ.وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كُلُّ ذَلِكَ فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ.

15- وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُنَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْجِنَازَةِ، فَفِي الدُّرِّ يُكْرَهُ خُرُوجُهُنَّ تَحْرِيمًا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ».وَلِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ: «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا».«وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ: لَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى» (الْمَقَابِرَ) وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَفَسَّرَ قَوْلَ أُمِّ عَطِيَّةَ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْهُ نَهْيَ كَرَاهِيَةِ تَنْزِيهٍ، لَا نَهْيَ عَزِيمَةٍ وَتَحْرِيمٍ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: جَازَ خُرُوجُ مُتَجَالَّةٍ (كَبِيرَةُ السِّنِّ) لِجِنَازَةٍ مُطْلَقًا، وَكَذَا شَابَّةٌ لَا تُخْشَى فِتْنَتُهَا، لِجِنَازَةِ مَنْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُهُ عَلَيْهَا، كَأَبٍ، وَأُمٍّ، وَزَوْجٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ، وَأَخٍ، وَأُخْتٍ، أَمَّا مَنْ تُخْشَى فِتْنَتُهَا فَيَحْرُمُ خُرُوجُهَا مُطْلَقًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: كُرِهَ أَنْ تَتْبَعَ الْجِنَازَةَ امْرَأَةٌ وَحَكَى الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أُمِنَ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالتَّبَرُّجِ وَمَا يَنْشَأُ مِنَ الصِّيَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنَ الْإِذْنِ لَهُنَّ، ثُمَّ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: هَذَا الْكَلَامُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ نَائِحَةٌ أَوْ صَائِحَةٌ زُجِرَتْ، فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْشِيَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ سُنَّةٌ فَلَا يَتْرُكُهُ لِبِدْعَةٍ مِنْ غَيْرِهِ (لَكِنْ يَمْشِي أَمَامَ الْجِنَازَةِ كَمَا تَقَدَّمَ).

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: حَرُمَ أَنْ يَتْبَعَهَا الْمُشَيِّعُ مَعَ مُنْكَرٍ، نَحْوَ صُرَاخٍ، وَنَوْحٍ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ إِزَالَتِهِ، وَيَلْزَمُ الْقَادِرَ إِزَالَتُهُ.

مَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ مَعَ الْجِنَازَةِ وَمَا لَا يَنْبَغِي:

اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ بِمِبْخَرَةٍ أَوْ نَارٍ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَازَةَ لَا تُتْبَعُ بِنَارٍ فِي مِجْمَرَةٍ (مِبْخَرَةٍ) وَلَا شَمْعٍ، وَفِي مَرَاقِي الْفَلَاحِ: لَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ، وَيُكْرَهُ تَجْمِيرُ الْقَبْرِ.

إِلاَّ لِحَاجَةِ ضَوْءٍ أَوْ نَحْوِهِ.لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا: «لَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ».

الْجُلُوسُ قَبْلَ وَضْعِ الْجِنَازَةِ:

17- يُكْرَهُ لِمُتَّبِعِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَجْلِسَ قَبْلَ وَضْعِهَا لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ.فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَلَا يَقْعُدَنَّ حَتَّى تُوضَعَ» قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: إِنَّ فِي الْجُلُوسِ قَبْلَ وَضْعِهَا ازْدِرَاءً بِهَا، قَالَ الْحَازِمِيُّ: وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الشَّامِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَذَكَرَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ.ذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اسْتِحْبَابُ الْقِيَامِ مَعَ الْجِنَازَةِ حَتَّى تُوضَعَ، قَالَ الْحَازِمِيُّ: وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ، وَرَأَوُا الْجُلُوسَ أَوْلَى، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَجِبُ الْقِيَامُ.

فَإِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ الْقَبْرِ فَلَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ.

وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَجْلِسُوا مَا لَمْ يُسَوُّوا عَلَيْهِ التُّرَابَ لِرِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ» وَخَالَفَهُ الثَّوْرِيُّ وَهُوَ أَحْفَظُ فَقَالَ: «فِي الْأَرْضِ».

وَنَقَلَ حَنْبَلٌ (مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ) لَا بَأْسَ بِقِيَامِهِ عَلَى الْقَبْرِ حَتَّى تُدْفَنَ جَبْرًا وَإِكْرَامًا، وَكَانَ أَحْمَدُ إِذَا حَضَرَ جِنَازَةً وَلِيَهَا لَمْ يَجْلِسْ حَتَّى تُدْفَنَ.

الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ:

18- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدَ لَا يَقُومُ لِلْجِنَازَةِ (إِذَا مَرَّتْ بِهِ) إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْهَدَهَا، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْقَوْمُ فِي الْمُصَلَّى، وَجِيءَ بِجِنَازَةٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَقُومُونَ إِذَا رَأَوْهَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ عَنِ الْأَعْنَاقِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تَخْلُفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ» مَنْسُوخٌ بِمَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَعَدَ»، قَالَ الْحَازِمِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ الْقِيَامُ لِجِنَازَةٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ مَنْسُوخٌ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: كُرِهَ قِيَامٌ لَهَا (أَيْ لِلْجِنَازَةِ) لَوْ جَاءَتْ أَوْ مَرَّتْ بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَرْكُ الْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ»، وَالْأَخْذُ بِآخِرِ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا.وَقَالُوا: هُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَارَ الْمُتَوَلِّي مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِيَامَ مُسْتَحَبٌّ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِهِ لِلنَّدْبِ، وَالْقُعُودُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَلَا يَصِحُّ دَعْوَى النَّسْخِ فِي مِثْلِ هَذَا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ.قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ حَبِيبٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيِّينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ مُخَيَّرٌ.

الصَّمْتُ فِي اتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ:

19- يَنْبَغِي لِمَنْ تَبِعَ الْجِنَازَةَ أَنْ يُطِيلَ الصَّمْتَ، وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِمَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلَاثَةٍ: عِنْدَ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ، وَالذِّكْرِ.

وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ قِيلَ: كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَقِيلَ: تَرْكُ الْأَوْلَى.فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى فَفِي نَفْسِهِ، أَيْ سِرًّا بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، وَفِي السِّرَاجِ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَبِعَ الْجِنَازَةَ أَنْ يَكُونَ مَشْغُولًا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ التَّفَكُّرِ فِيمَا يَلْقَاهُ الْمَيِّتُ، وَأَنَّ هَذَا عَاقِبَةُ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَلْيَحْذَرْ عَمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ هَذَا وَقْتُ ذِكْرٍ وَمَوْعِظَةٍ، فَتَقْبُحُ فِيهِ الْغَفْلَةُ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى فَيَلْزَمِ الصَّمْتَ، وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَلَا بِالذِّكْرِ، وَلَا يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّالُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْجِنَازَةِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَالتَّمْطِيطِ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَمْشِي خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَيَقْرَأُ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فَسُئِلَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَهُ وَلَا يَسَعُ أَحَدًا يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِهِ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَلَا يُنْكِرَ عَلَيْهِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَمْشِي مَعَهَا: اسْتَغْفِرُوا لَهُ يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا كَانَ هَذَا فِي الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فَمَا ظَنُّكَ بِالْغِنَاءِ الْحَادِثِ فِي زَمَانِنَا.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ مَنْ يَتْبَعُ جِنَازَةً حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ كَانَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا، فَلَا يَرْجِعُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَبَعْدَمَا صَلَّى لَا يَرْجِعُ إِلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِ الْجِنَازَةِ قَبْلَ الدَّفْنِ، وَبَعْدَ الدَّفْنِ يَسَعُهُ الرُّجُوعُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ.

وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَزَادُوا أَنَّ الِانْصِرَافَ قَبْلَ الصَّلَاةِ يُكْرَهُ وَلَوْ أَذِنَ أَهْلُهَا، وَبَعْدَ الصَّلَاةِ لَا يُكْرَهُ إِذَا طَوَّلُوا وَلَمْ يَأْذَنُوا.فَإِذَا وَضَعُوهَا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَضَعُوهَا عَرْضًا لِلْقِبْلَةِ، هَكَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: كُرِهَ صِيَاحٌ خَلْفَهَا بِاسْتَغْفِرُوا لَهَا وَنَحْوِهِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: يَكُونُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ بِدْعَةً، وَقَالُوا: يُكْرَهُ اللَّغَطُ فِي الْجِنَازَةِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ مَرْعِي الْحَنْبَلِيُّ: وَقَوْلُ الْقَائِلِ مَعَهَا: اسْتَغْفِرُوا لَهُ وَنَحْوُهُ بِدْعَةٌ، وَحَرَّمَهُ أَبُو حَفْصٍ، وَسُنَّ كَوْنُ تَابِعِهَا مُتَخَشِّعًا مُتَفَكِّرًا فِي مَآلِهِ، مُتَّعِظًا بِالْمَوْتِ وَمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْمَيِّتُ.

الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ:

20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَشَهَرَهُ الْفَاكِهَانِيُّ، وَقَالَ أَصْبَغُ: سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَإِنَّمَا هِيَ سُنَّةٌ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا الْجَمَاعَةُ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنْ صُلِّيَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِمَامٍ أُعِيدَتِ الصَّلَاةُ مَا لَمْ يَفُتْ ذَلِكَ.

21- وَأَرْكَانُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: التَّكْبِيرَاتُ وَالْقِيَامُ، فَلَا تَصِحُّ مِنَ الْقَاعِدِ أَوِ الرَّاكِبِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَلَوْ تَعَذَّرَ النُّزُولُ عَنِ الدَّابَّةِ لِطِينٍ وَنَحْوِهِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا رَاكِبًا اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ مَرِيضًا فَأَمَّ قَاعِدًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ أَجْزَأَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تُجْزِئُ الْإِمَامَ فَقَطْ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: أَرْكَانُهَا خَمْسَةٌ: أَوَّلُهَا: النِّيَّةُ: ثَانِيهَا: أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ، ثَالِثُهَا: دُعَاءٌ بَيْنَهُنَّ، وَأَمَّا بَعْدَ الرَّابِعَةِ فَإِنْ أَحَبَّ دَعَا وَإِنْ أَحَبَّ لَمْ يَدْعُ، رَابِعُهَا: تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ يَجْهَرُ بِهَا الْإِمَامُ بِقَدْرِ التَّسْمِيعِ، خَامِسُهَا: قِيَامٌ لَهَا لِقَادِرٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَرْكَانُهَا النِّيَّةُ، وَالتَّكْبِيرَاتُ وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ، وَأَدْنَى الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ، وَالتَّسْلِيمَةُ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقِيَامِ عَلَى الْمَذْهَبِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَلَوْ صَلَّوْا جُلُوسًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَوْ رُكْبَانًا أَعَادُوا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: أَرْكَانُهَا قِيَامٌ لِقَادِرٍ فِي فَرْضِهَا، وَتَكْبِيرَاتٌ أَرْبَعٌ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى غَيْرِ الْمَأْمُومِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ، وَأَدْنَى دُعَاءٍ لِمَيِّتٍ (وَيُتَّجَهُ) يَخُصُّهُ بِهِ بِنَحْوِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ (فَلَا يَكْفِي قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا) وَسَلَامٌ، وَتَرْتِيبٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


37-موسوعة الفقه الكويتية (جهة)

جِهَةٌ

التَّعْرِيف:

1- الْجِهَةُ وَالْوُجْهَةُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا: الْمَوْضِعُ الَّذِي تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَتَقْصِدُهُ.وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: ضَلَّ وُجْهَةَ أَمْرِهِ، أَيْ قَصْدَهُ، وَقُلْتُ كَذَا عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ وَفَعَلْتُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْعَدْلِ، وَالْقِبْلَةُ جِهَةٌ، فَالْجِهَةُ كُلُّ مَكَانٍ اسْتَقْبَلْتَهُ وَأَخَذْتَ فِيهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْحَيِّز:

2- مَعْنَى الْحَيِّزِ فِي اللُّغَةِ- كَمَا جَاءَ فِي الْمِصْبَاحِ- النَّاحِيَةُ كَالْحَوْزِ وَيُجْمَعُ عَلَى أَحْيَازٍ وَالْقِيَاسُ أَحْوَازٌ، وَأَحْيَازُ الدَّارِ نَوَاحِيهَا وَمَرَافِقُهَا.وَجَاءَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الْحَوْزَ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ، وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِهِ بَعْضُ النَّوَاحِي كَالْبَيْتِ مِنَ الدَّارِ مَثَلًا.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْجِهَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي عَدَدٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي: أ- اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:

3- مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لِلْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ؛ لقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ (اسْتِقْبَالٌ، قِبْلَةٌ).

ب- تَرْكُ اسْتِقْبَالِ وَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ:

4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمَبَانِي أَمْ فِي الصَّحْرَاءِ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ أَشْرَفُ الْجِهَاتِ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إِنَّ الِاسْتِدْبَارَ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِلْقِبْلَةِ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْمَبَانِي إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ عَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ أَدَبًا إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ.وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْمَبَانِي مَرَاحِيضَ السُّطُوحِ، وَفَضَاءَ الْمَنَازِلِ، وَفَضَاءَ الْمُدُنِ عِنْدَ وُجُودِ السَّاتِرِ.

وَأَمَّا الِاسْتِقْبَالُ وَالِاسْتِدْبَارُ فِي الصَّحْرَاءِ بِلَا سَاتِرٍ فَهُوَ حَرَامٌ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ السَّاتِرِ فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى الْجَوَازِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ إِلَى عَدَمِهِ.وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ بَحْثَ: (قَضَاءُ الْحَاجَةِ).

ج- اخْتِلَافُ الْقَابِضِ وَالدَّافِعِ فِي الْجِهَةِ:

5- يَرْجِعُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ وَهِيَ إِذَا اخْتَلَفَ الْقَابِضُ وَالدَّافِعُ فِي الْجِهَةِ أَيْ سَبَبِ الدَّفْعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ، وَمِنْ فُرُوعِهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنَانِ بِأَحَدِهِمَا رَهْنٌ ثُمَّ دَفَعَ الْمُدَايِنُ دَرَاهِمَ وَقَالَ: أَقْبَضْتُهَا عَنِ الدَّيْنِ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ، وَأَنْكَرَهُ الْقَابِضُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي نِيَّتِهِ أَوْ فِي لَفْظِهِ.وَالِاعْتِبَارُ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ بِقَصْدِ الْمُؤَدِّي حَتَّى لَوْ ظَنَّ الْمُسْتَحِقُّ أَنَّهُ يُودِعُهُ عِنْدَهُ وَنَوَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَصَارَ الْمَدْفُوعُ مِلْكًا لِلْقَابِضِ.

6- وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ فِي اخْتِلَافِ الْقَابِضِ وَالدَّافِعِ فِي الْجِهَةِ أَنَّهُ لَوْ بَعَثَ لِامْرَأَتِهِ شَيْئًا فَقَالَتْ: هُوَ هَدِيَّةٌ، وَقَالَ: هُوَ مِنَ الْمَهْرِ، فَالْقَوْلُ لَهُ فِي غَيْرِ الْمُهَيَّأِ لِلْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ الْمُمَلَّكُ فَكَانَ أَعْرَفَ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ، كَمَا إِذَا قَالَ: أَوْدَعْتُكِ هَذَا الشَّيْءَ، فَقَالَتْ: بَلْ وَهَبْتَهُ لِي، وَكَذَا الظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي إِسْقَاطِ مَا فِي ذِمَّتِهِ إِلاَّ فِي الطَّعَامِ الْمُهَيَّأِ لِلْأَكْلِ كَالشِّوَاءِ، وَاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ، وَالْفَوَاكِهِ الَّتِي لَا تَبْقَى، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِيهِ اسْتِحْسَانًا لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِإِهْدَائِهَا، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُهَيَّأً لِلْأَكْلِ كَالْعَسَلِ وَالسَّمْنِ، وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَسَائِلِ الرَّهْنِ أَنَّ الْمَرْهُونَ إِذَا وُجِدَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ وَادَّعَى الرَّاهِنُ أَنَّهُ دَفَعَ الدَّيْنَ الْمَرْهُونَ فِيهِ وَاسْتَلَمَ الرَّهْنَ مِنْ مُرْتَهِنِهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ وَادَّعَى سُقُوطَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلرَّاهِنِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ الْمَرْهُونِ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ إِنْ طَالَ الزَّمَانُ كَعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَإِلاَّ فَالْقَوْلُ لِلْمُرْتَهِنِ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ، أَوْ عَيْنِهِ، أَوْ صِفَتِهِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ الزَّوْجُ إِلَيْهَا أَلْفًا، أَوْ دَفَعَ إِلَيْهَا عَرَضًا، وَاخْتَلَفَا فِي نِيَّتِهِ، فَقَالَ: دَفَعْتُهُ صَدَاقًا، وَقَالَتْ: هِبَةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِلَا يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ.وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي لَفْظِهِ فَقَالَتْ: قَدْ قُلْتَ لِي: خُذِي هَذَا هِبَةً أَوْ هَدِيَّةً، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّهُ مِنَ الْمَهْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ عَقْدًا عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ يُنْكِرُهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ بَيْعَ مِلْكِهِ لَهَا.

د- الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ:

7- يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ اتِّفَاقًا، كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَكَلَفْظِ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ، وَكَمَوْقُوفَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَمَوْقُوفَةٍ عَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الْجِهَةُ الَّتِي تَنْقَطِعُ فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِغَيْرِ تَمْلِيكٍ، وَأَنَّهُ بِالتَّأْبِيدِ كَالْعِتْقِ، وَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ كَالتَّوْقِيتِ فِي الْبَيْعِ.

وَقَالَ مَنْ عَدَاهُمَا مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِذَا سَمَّى فِيهِ جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ.وَاخْتَلَفُوا فِي مَالِهِ إِذَا انْقَطَعَتِ الْجِهَةُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ).

هـ- الْجِهَةُ فِي الْمِيرَاثِ:

8- تُطْلَقُ الْجِهَةُ فِي الْمِيرَاثِ وَيُرَادُ بِهَا السَّبَبُ مِنْ أَسْبَابِ الْإِرْثِ، وَهِيَ الْقَرَابَةُ، أَوِ النِّكَاحُ، أَوِ الْوَلَاءُ، وَاخْتُلِفَ فِي التَّوْرِيثِ بِجِهَةِ الْإِسْلَامِ.

وَتُطْلَقُ الْجِهَةُ وَيُرَادُ بِهَا الِانْتِسَابُ إِلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِرْثِ، كَجِهَةِ الْفَرْضِ، أَوْ جِهَةِ التَّعْصِيبِ.

وَتُطْلَقُ الْجِهَةُ وَيُرَادُ بِهَا الِانْتِسَابُ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْعُصُوبَةِ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ سِتٌّ: وَهِيَ الْبُنُوَّةُ، ثُمَّ الْأُبُوَّةُ، ثُمَّ الْأُخُوَّةُ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ، ثُمَّ الْعُمُومَةُ، ثُمَّ الْوَلَاءُ.وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خَمْسٌ بِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِجِهَةِ بَنِي الْإِخْوَةِ.

وَتُطْلَقُ الْجِهَةُ وَيُرَادُ بِهَا الِانْتِسَابُ إِلَى جِهَةِ الْأَبِ أَوْ جِهَةِ الْأُمِّ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (إِرْثٌ).

و- الْوَصِيَّةُ لِجِهَةٍ:

9- تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِجِهَةٍ مَشْرُوعَةٍ، كَجِهَةِ الْقُرْبَى، أَوْ عِمْرَانِ الْمَسَاجِدِ مَثَلًا، وَأَمَّا جِهَةُ الْمَعْصِيَةِ فَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهَا.

ز- جِهَاتُ التَّبَعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ:

10- جِهَاتُ التَّبَعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ اثْنَتَانِ: أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ أَبَوَيِ الصَّغِيرِ، وَتَبَعِيَّتُهُ لِلدَّارِ بِأَنْ سُبِيَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَبَوَيْهِ إِذَا أَدْخَلَهُ السَّابِي إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ اللَّقِيطُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ مُسْلِمًا وَلَوْ كَانَ مُلْتَقِطُهُ ذِمِّيًّا.

وَعِنْدَ ابْنِ الْقَيِّمِ: الْيَتِيمُ الَّذِي مَاتَ أَبَوَاهُ وَكَفَلَهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ يَتْبَعُ كَافِلَهُ وَحَاضِنَتَهُ فِي الدِّينِ (ر: إِسْلَامٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


38-موسوعة الفقه الكويتية (حائط)

حَائِطٌ

التَّعْرِيفُ

1- الْحَائِطُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَارُ، وَالْبُسْتَانُ، وَجَمْعُهُ حِيطَانٌ وَحَوَائِطُ.وَالْفُقَهَاءُ أَيْضًا يُطْلِقُونَ: «الْحَائِطَ» بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَائِطِ:

أَوَّلًا- الْحَائِطُ بِمَعْنَى الْجِدَارِ:

2- الْجِدَارُ قِسْمَانِ: خَاصٌّ وَمُشْتَرَكٌ.

أَمَّا الْجِدَارُ الْخَاصُّ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ (وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ) وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْجَارِ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، وَلَا يُجْبَرُ الْمَالِكُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُنْدَبُ لَهُ لِخَبَرِ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ ((: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِهِ».

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ».

وَإِذَا انْهَدَمَ الْجِدَارُ الْخَاصُّ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ مَالِكُهُ عَلَى بِنَائِهِ، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ شِئْتَ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي بَابِ الصُّلْحِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.

وَأَمَّا الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:

الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: الِانْتِفَاعُ بِهِ:

3- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يُمْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِمَّا يُغَيِّرُ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ كَغَرْزِ وَتَدٍ، وَفَتْحِ كَوَّةٍ، أَوْ وَضْعِ خَشَبَةٍ لَا يَتَحَمَّلُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ، وَتَصَرُّفٌ فِيهِ بِمَا يَضُرُّ بِهِ، فَلَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالِانْتِفَاعِ.

وَأَمَّا الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ وَإِسْنَادُ شَيْءٍ إِلَيْهِ لَا يَضُرُّهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ.وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى مَوَاطِنِهِ فِي أَبْوَابِ الصُّلْحِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.

الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قِسْمَةُ الْجِدَارِ:

4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِلَا ضَرَرٍ فَأَرَادَ الشُّرَكَاءُ قِسْمَتَهُ جَازَ.وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْقِسْمَةَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ وَأَبَاهَا الْآخَرُ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ وَآرَاءٍ يُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ).

الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: الْعِمَارَة:

5- إِذَا تَهَدَّمَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ فَطَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ تَعْمِيرَهُ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُجْبَرُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي عِمَارَتِهِ إِذَا تَعَذَّرَ قِسْمَةُ أَسَاسِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ يَحْتَمِلُ أَسَاسُهُ الْقِسْمَةَ بِأَنْ كَانَ عَرِيضًا جَازَ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْقَدِيمُ لَدَى الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ إِضْرَارًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءُ حَائِطٍ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ كَالِابْتِدَاءِ.

التَّلَفُ بِسُقُوطِ الْحَائِطِ:

6- إِذَا مَالَ الْحَائِطُ إِلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطُولِبَ صَاحِبُهُ بِنَقْضِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ فِيهَا حَتَّى سَقَطَ ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَالَ إِلَى الطَّرِيقِ فَقَدِ اشْتَغَلَ هَوَاءُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِمِلْكِهِ، وَدَفْعُهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا تُقُدِّمَ إِلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ صَارَ مُتَعَدِّيًا.بِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا ثُمَّ مَالَ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُخْتَصًّا كَهَوَاءِ جَارِهِ، أَوْ مُشْتَرَكًا كَالطَّرِيقِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى أَتْلَفَ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ وَطُولِبَ بِهِ؛ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ بِفِعْلِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيَلَانٍ.وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيلُ فِي أَبْوَابِ الضَّمَانِ وَالدِّيَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ أَحْكَامِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ.

تَنْقِيشُ حَائِطِ الْقِبْلَةِ:

7- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَةَ النُّقُوشِ عَلَى الْمِحْرَابِ وَحَائِطِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي، كَمَا أَنَّهُ إِخْرَاجٌ لِلْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ.

وَقِيلَ: لَا بَأْسَ بِتَنْقِيشِ الْمَسْجِدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ.هَذَا إِذَا فَعَلَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَمَّا تَنْقِيشُ الْمَسْجِدِ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ فَغَيْرُ جَائِزٍ، وَيَغْرَمُ الَّذِي يُخْرِجُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ نَاظِرًا أَمْ غَيْرَهُ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: مَسْجِدٌ).

كِتَابَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْحَائِطِ:

8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ نَقْشِ الْحِيطَانِ بِالْقُرْآنِ مَخَافَةَ السُّقُوطِ تَحْتَ أَقْدَامِ النَّاسِ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ حُرْمَةَ نَقْشِ الْقُرْآنِ وَاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحِيطَانِ لِتَأْدِيَتِهِ إِلَى الِامْتِهَانِ.وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: قُرْآنٌ).

إِجَارَةُ الْحَائِطِ:

9- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) جَوَازَ إِجَارَةِ حَائِطٍ لِحَمْلِ خَشَبٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَفْعًا مُبَاحًا، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي قَوْلٍ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ إِجَارَةِ الْحَائِطِ أَنْ تَكُونَ لِحَمْلِ خَشَبٍ مَعْلُومٍ وَلِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ فَلَا يَشْتَرِطُونَ فِيهَا بَيَانَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى دَوَامِهِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَالنِّكَاحِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجَارَةِ الْحَائِطِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الْمُسْتَأْجِرُ بِنَاءً أَوْ يَضَعَ عَلَيْهِ خَشَبًا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْجِذْعِ وَبِنَاءَ السُّتْرَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ وَالضَّرَرُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْعَقْدِ دَلَالَةً.وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْمُضِرِّ حَدٌّ مَعْلُومٌ فَيَصِيرُ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ كَانَ لَهُ وَضْعُ خَشَبَةٍ عَلَى جِدَارِ غَيْرِهِ لَمْ يَمْلِكْ إِعَارَتَهُ وَلَا إِجَارَتَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ الْمَاسَّةِ إِلَى وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى وَضْعِ خَشَبِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا الْمُصَالَحَةَ عَنْهُ لِلْمَالِكِ وَلَا لِغَيْرِهِ.

وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ إِعَارَةَ الْحَائِطِ أَوْ إِجَارَتَهُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى مَنْعِ ذِي الْحَقِّ مِنْ حَقِّهِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ كَمَنْعِهِ.

وَمَنْ مَلَكَ وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ فَزَالَ بِسُقُوطِهِ أَوْ قَلْعِهِ أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ، ثُمَّ أُعِيدَ فَلَهُ إِعَادَةُ خَشَبِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُجَوِّزَ لِوَضْعِهِ مُسْتَمِرٌّ فَاسْتَمَرَّ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ.وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ مِثْلُ أَنْ يَخْشَى عَلَى الْحَائِطِ مِنْ وَضْعِهِ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتَغْنَى عَنْ وَضْعِهِ لَمْ تَجُزْ إِعَادَتُهُ لِزَوَالِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ.

الدَّعْوَى فِي الْحَائِطِ:

10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَدَاعَيَا حَائِطًا بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا وَتَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا اتِّصَالًا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْحَائِطِ، مِثْلُ اتِّصَالِ الْبِنَاءِ بِالطِّينِ، أَوْ تَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مَحْلُولًا مِنْ بِنَائِهِمَا، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا.وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَهُوَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا خَشَبٌ مَوْضُوعٌ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا تُرَجَّحُ دَعْوَاهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَسْمَحُ بِهِ الْجَارُ، وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمَنْعِ مِنْهُ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا أَنَّهُ لَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِالْجِذْعِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لَهُ، وَيُرَجَّحُ بِالْجِذْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى بِهِمَا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُرَجَّحُ بِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ بِوَضْعِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَانِيَ عَلَيْهِ، وَالزَّارِعَ فِي الْأَرْضِ.

وَكَذَا لَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِكَوْنِ الدَّوَاخِلِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا بِكَوْنِ الْآجُرِّ الصَّحِيحِ مِمَّا يَلِي مِلْكَ أَحَدِهِمَا، وَإِقْطَاعُ الْآجُرِّ إِلَى مِلْكِ الْآخَرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ بِهِ لِمَنْ إِلَيْهِ وَجْهُ الْحَائِطِ وَمَعَاقِدُ الْقُمُطِ؛ لِمَا رَوَى نِمْرَانُ بْنُ جَارِيَةَ التَّمِيمِيُّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ «قَوْمًا اخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي خُصٍّ فَبَعَثَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَحَكَمَ بِهِ لِمَنْ تَلِيهِ مَعَاقِدُ الْقُمُطِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ» وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.وَلِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا جَعَلَ وَجْهَ الْحَائِطِ إِلَيْهِ.

هَدْمُ الْحَائِطِ:

11- مَتَى هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا: فَإِنْ خِيفَ سُقُوطُهُ وَوَجَبَ هَدْمُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى هَادِمِهِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوِ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَأَزَالَ الضَّرَرَ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ بِسُقُوطِهِ.وَإِنْ هَدَمَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ سَوَاءٌ هَدَمَهُ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.وَسَوَاءٌ الْتَزَمَ إِعَادَتَهُ أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ فَلَزِمَ إِعَادَتُهُ.وَمَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ ضَمِنَ نُقْصَانَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْبِنَاءِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ.وَاسْتَثْنَى بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَائِطَ الْمَسْجِدِ.

بِنَاءُ الْحَائِطِ الْجَدِيدِ:

12- إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مِلْكَيِ الشَّرِيكَيْنِ حَائِطٌ قَدِيمٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ مُبَانَاتَهُ حَائِطًا يَحْجِزُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا فَامْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْبِنَاءَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ إِلاَّ فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ جَارِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ مَا لَهُ فِيهِ رَسْمٌ، وَهَذَا لَا رَسْمَ لَهُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.

وَضْعُ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ:

13- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْقَافِهِ وَلَوْ دَفَعَ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، لَكِنَّهُ تُرِكَ فِي حَقِّ الْجَارِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِي غَيْرِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ فِي مِلْكِ الْجَارِ مَعَ أَنَّ حَقَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ، فَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ أَوْلَى.

الْإِحْيَاءُ بِتَحْوِيطِ الْأَرْضِ:

14- يُعْتَبَرُ تَحْوِيطُ الْحَائِطِ عَلَى الْأَرْضِ، مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَيُمْلَكُ بِذَلِكَ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 24 ص 248 ج 2)

ثَانِيًا- الْحَائِطُ (الْبُسْتَانُ):

مَعْلُومِيَّةُ الْحَائِطِ فِي الْمُسَاقَاةِ:

15- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ فِي الْحَائِطِ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهَا- أَنْ يَكُونَ شَجَرُ الْحَائِطِ مَعْلُومًا إِمَّا بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالْوَصْفِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى بُسْتَانٍ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ، أَوْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لَمْ تَصِحَّ الْمُسَاقَاةُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ فَلَمْ تَجُزْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ.بِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ مَنْ يَرَى جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ وُرُودُهَا عَلَى مُعَيَّنٍ مَرْئِيٍّ لِلْمَالِكِ وَالْعَامِلِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى مُبْهَمٍ لَمْ يَصِحَّ أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمَرْئِيِّ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ.وَالْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: مُسَاقَاةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


39-موسوعة الفقه الكويتية (حسبة 3)

حِسْبَةٌ -3

أَقْسَامُ الْمَعْرُوفِ:

23- يَنْقَسِمُ الْمَعْرُوفُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.وَالثَّالِثُ: مَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا.

وَمَعْنَى حَقِّ اللَّهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، وَحَقِّ الْعَبْدِ مَصَالِحُهُ.لِأَنَّ التَّكَالِيفَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ كَالْإِيمَانِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ، وَقِسْمٌ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَقَطْ كَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ، وَقِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ أَوْ حَقُّ الْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا كَانَ حَقًّا مَحْضًا لِلْعَبْدِ وَبَيْنَ حَقِّ اللَّهِ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ الْمَحْضَ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، وَإِلاَّ فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيُوجَدُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقِّ الْعَبْدِ، وَلَا يُوجَدُ حَقُّ الْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْإِسْقَاطِ، فَكُلُّ مَا لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ خُصُومٌ فِي إِثْبَاتِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى نِيَابَةً عَنْهُ تَعَالَى لِكَوْنِهِمْ عَبِيدَهُ، أَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَنْتَصِبُ أَحَدٌ خَصْمًا عَنْ أَحَدٍ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ انْتِصَابَهُ خَصْمًا.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَرْبَانِ:

24- أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:

الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَتَلْزَمُ فِي وَطَنٍ مَسْكُونٍ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدِ اتُّفِقَ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ كَالْأَرْبَعِينَ فَمَا زَادَ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَأْخُذَهُمُ الْمُحْتَسِبُ بِإِقَامَتِهَا، وَيَأْمُرَهُمْ بِفِعْلِهَا وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدِ اخْتُلِفَ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ فَلَهُ فِيهِمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:

إِحْدَاهَا: أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُ الْمُحْتَسِبِ وَرَأْيِ الْقَوْمِ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ الْعَدَدِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُسَارِعُوا إِلَى أَمْرِهِ بِهَا، وَيَكُونُ فِي تَأْدِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِهَا أَلْيَنَ مِنْهُ فِي تَأْدِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا وَهُوَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا لَوْ أُقِيمَتْ أَحَقُّ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرَى الْقَوْمُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ وَلَا يَرَاهُ الْمُحْتَسِبُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَارِضَهُمْ فِيهَا، وَلَا يَأْمُرَ بِإِقَامَتِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا وَيَمْنَعَهُمْ مِمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ.

الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرَى الْمُحْتَسِبُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ وَلَا يَرَاهُ الْقَوْمُ، فَهَذَا مِمَّا فِي اسْتِمْرَارِ تَرْكِهِ تَعْطِيلُ الْجُمُعَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَزِيَادَتِهِ، فَهَلْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ لِئَلاَّ يَنْشَأَ الصَّغِيرُ عَلَى تَرْكِهَا، فَيَظُنَّ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا تَسْقُطُ بِنُقْصَانِهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْرِهِمْ بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَلَا يَقُودُهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَهُمْ فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِ مَعَ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ يَمْنَعُ مِنْ إِجْزَاءِ الْجُمُعَةِ.

الْمِثَالُ الثَّانِي: صَلَاةُ الْعِيدِ وَهَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا مِنَ الْحُقُوقِ اللاَّزِمَةِ، أَوْ مِنَ الْحُقُوقِ الْجَائِزَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَسْنُونَةٌ قَالَ: يُنْدَبُ الْأَمْرُ بِهَا، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ قَالَ: الْأَمْرُ بِهَا يَكُونُ حَتْمًا.

الْمِثَالُ الثَّالِثُ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ:

صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِقَامَةُ الْأَذَانِ فِيهَا لِلصَّلَوَاتِ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَامَاتِ مُتَعَبَّدَاتِهِ الَّتِي فَرَّقَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الشِّرْكِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ مَحَلَّةٍ أَوْ بَلَدٍ عَلَى تَعْطِيلِ الْجَمَاعَاتِ فِي مَسَاجِدِهِمْ، وَتَرْكِ الْأَذَانِ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ، كَانَ الْمُحْتَسِبُ مَنْدُوبًا إِلَى أَمْرِهِمْ بِالْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي اتِّفَاقِ أَهْلِ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهَلْ يَلْزَمُ السُّلْطَانَ مُحَارَبَتُهُمْ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟

فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مِنْ آحَادِ النَّاسِ أَوْ تَرَكَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لِصَلَاتِهِ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَجْعَلْهُ عَادَةً وَإِلْفًا، لِأَنَّهَا مِنَ النَّدْبِ الَّذِي يَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ، إِلاَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ اسْتِرَابَةٌ، أَوْ يَجْعَلَهُ إِلْفًا وَعَادَةً وَيَخَافُ تَعَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَيُرَاعِي حُكْمَ الْمَصْلَحَةِ بِهِ فِي زَجْرِهِ عَمَّا اسْتَهَانَ بِهِ مِنْ سُنَنِ عِبَادَتِهِ، وَيَكُونُ وَعِيدُهُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ، كَاَلَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَانِي أَنْ يَسْتَعِدُّوا إِلَيَّ بِحُزَمٍ مِنْ حَطَبٍ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ تُحَرَّقُ بُيُوتٌ عَلَى مَنْ فِيهَا».

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَأْمُرُ بِهِ آحَادَ النَّاسِ وَأَفْرَادَهُمْ كَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، فَيُذَكِّرُ بِهَا وَيَأْمُرُ بِفِعْلِهَا، وَيُرَاعِي جَوَابَهُ عَنْهَا، فَإِنْ قَالَ: تَرَكْتُهَا لِنِسْيَانٍ، حَثَّهُ عَلَى فِعْلِهَا بَعْدَ ذِكْرِهِ وَلَمْ يُؤَدِّبْهُ، وَإِنْ تَرَكَهَا لِتَوَانٍ أَدَّبَهُ زَجْرًا وَأَخَذَهُ بِفِعْلِهَا جَبْرًا، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى مَنْ أَخَّرَهَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي فَضْلِ التَّأْخِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ، وَلَكِنْ لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ عَلَى تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْجَمَاعَاتِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَالْمُحْتَسِبُ يَرَى فَضْلَ تَعْجِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ لَا؟

مَنْ رَأَى أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ رَاعَى أَنَّ اعْتِيَادَ تَأْخِيرِهَا وَإِطْبَاقَ جَمِيعِ النَّاسِ عَلَيْهِ مُفْضٍ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَنْشَأُ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْوَقْتُ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَلَوْ عَجَّلَهَا بَعْضُهُمْ تَرَكَ الْمُحْتَسِبُ مَنْ أَخَّرَهَا مِنْهُمْ وَمَا يَرَاهُ مِنَ التَّأْخِيرِ.

فَأَمَّا الْأَذَانُ وَالْقُنُوتُ فِي الصَّلَوَاتِ إِذَا خَالَفَ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ، فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَإِنْ كَانَ يَرَى خِلَافَهُ، إِذَا كَانَ مَا يُفْعَلُ مُسَوَّغًا فِي الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ إِذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ يُخَالِفُ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ مِنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ، وَالْوُضُوءِ بِمَاءٍ تَغَيَّرَ بِالْمَذْرُورَاتِ الطَّاهِرَاتِ، أَوِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَسْحِ أَقَلِّ الرَّأْسِ، وَالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ.

الْقِسْمُ الثَّانِي مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ:

25- الْمَعْرُوفُ الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ضَرْبَانِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ.

فَأَمَّا الْعَامُّ فَكَالْبَلَدِ إِذَا تَعَطَّلَ شِرْبُهُ، أَوِ اسْتُهْدِمَ سُورُهُ، أَوْ كَانَ يَطْرُقُهُ بَنُو السَّبِيلِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ فَكَفُّوا عَنْ مَعُونَتِهِمْ، نَظَرَ الْمُحْتَسِبُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِبُ، لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ مَصْرُوفٌ إِلَى سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِمْ فِيهِ ضَرَرٌ أَمَرَ بِإِصْلَاحِ شِرْبِهِمْ، وَبِنَاءِ سُورِهِمْ وَبِمَعُونَةِ بَنِي السَّبِيلِ فِي الِاجْتِيَازِ بِهِمْ، لِأَنَّهَا حُقُوقٌ تَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ دُونَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتُهْدِمَتْ مَسَاجِدُهُمْ وَجَوَامِعُهُمْ، فَأَمَّا إِذَا أُعْوِزَ بَيْتُ الْمَالِ كَانَ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ سُورِهِمْ، وَإِصْلَاحِ شِرْبِهِمْ، وَعِمَارَةِ مَسَاجِدِهِمْ وَجَوَامِعِهِمْ، وَمُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ فِيهِمْ مُتَوَجِّهًا إِلَى كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمْ فِي الْأَمْرِ بِهِ، فَإِنْ شَرَعَ ذَوُو الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِمْ وَفِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ، وَبَاشَرُوا الْقِيَامَ بِهِ، سَقَطَ عَنِ الْمُحْتَسِبِ حَقُّ الْأَمْرِ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِئْذَانُ فِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ، وَلَا فِي بِنَاءِ مَا كَانَ مَهْدُومًا، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادُوا هَدْمَ مَا يُرِيدُونَ بِنَاءَهُ مِنَ الْمُسْتَرَمِّ وَالْمُسْتَهْدَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى هَدْمِهِ إِلاَّ بِاسْتِئْذَانِ وَلِيِّ الْأَمْرِ دُونَ الْمُحْتَسِبِ، لِيَأْذَنَ لَهُمْ فِي هَدْمِهِ بَعْدَ تَضْمِينِهِمُ الْقِيَامَ بِعِمَارَتِهِ، هَذَا فِي السُّورِ وَالْجَوَامِعِ، وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الْمُخْتَصَرَةُ فَلَا يَسْتَأْذِنُونَ فِيهَا.

وَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِبِنَاءِ مَا هَدَمُوهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِإِتْمَامِ مَا اسْتَأْنَفُوهُ.فَأَمَّا إِذَا كَفَّ ذَوُو الْمُكْنَةِ عَنْ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ وَعِمَارَةِ مَا اسْتَرَمَّ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَامُ فِي الْبَلَدِ مُمْكِنًا وَكَانَ الشِّرْبُ، وَإِنْ فَسَدَ أَوْ قَلَّ مُقْنِعًا تَرَكَهُمْ وَإِيَّاهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمُقَامُ فِيهِ لِتَعَطُّلِ شِرْبِهِ وَانْدِحَاضِ سُورِهِ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا يَضُرُّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ تَعْطِيلُهُ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُفْسِحَ فِي الِانْتِقَالِ عَنْهُ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النَّوَازِلِ إِذَا حَدَثَتْ فِي قِيَامِ كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ بِهِ، وَكَانَ تَأْثِيرُ الْمُحْتَسِبِ فِي مِثْلِ هَذَا إِعْلَامُ السُّلْطَانِ وَتَرْغِيبُ أَهْلِ الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَلَدُ ثَغْرًا مُضِرًّا بِدَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ أَمْرُهُ أَيْسَر وَحُكْمُهُ أَخَفَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَهْلَهُ جَبْرًا بِعِمَارَتِهِ، لِأَنَّ السُّلْطَانَ أَحَقُّ أَنْ يَقُومَ بِعِمَارَتِهِ، وَإِنْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ فَيَقُولُ لَهُمُ الْمُحْتَسِبُ مَا دَامَ عَجَزَ السُّلْطَانُ عَنْهُ: أَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الِانْتِقَالِ عَنْهُ أَوِ الْتِزَامِ مَا يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعَهَا دَوَامُ اسْتِيطَانِهِ.فَإِنْ أَجَابُوا إِلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ كَلَّفَ جَمَاعَتَهُمْ مَا تَسْمَحُ بِهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ وَيَقُولُ: لِيُخْرِجْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ وَتَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ، وَمَنْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ أَعَانَ بِالْعَمَلِ حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَتْ كِفَايَةُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ تَعَيَّنَ اجْتِمَاعُهَا بِضَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُكْنَةِ قَدْرًا طَابَ بِهِ نَفْسًا، شَرَعَ الْمُحْتَسِبُ حِينَئِذٍ فِي عَمَلِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ، وَإِنْ عَمَّتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِالْقِيَامِ بِهَا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ السُّلْطَانَ فِيهَا، لِئَلاَّ يَصِيرَ بِالتَّفَرُّدِ مُفْتَاتًا عَلَيْهِ، إِذْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ مِنْ مَعْهُودِ حِسْبَتِهِ، وَإِنْ قَلَّتْ وَشَقَّ اسْتِئْذَانُ السُّلْطَانِ فِيهَا أَوْ خِيفَ زِيَادَةُ الضَّرَرِ لِبُعْدِ اسْتِئْذَانِهِ جَازَ شُرُوعُهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ.

وَأَمَّا الْخَاصُّ فَكَالْحُقُوقِ إِذَا مُطِلَتْ، وَالدُّيُونِ إِذَا أُخِّرَتْ، فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا مَعَ الْمُكْنَةِ إِذَا اسْتَعْدَاهُ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْحُبْسَ حُكْمٌ وَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلَازِمَ وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ لِافْتِقَارِ ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ فَرَضَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَدَائِهَا، وَكَذَلِكَ كَفَالَةُ مَنْ تَجِبُ كَفَالَتُهُ مِنَ الصِّغَارِ لَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهَا حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ، وَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْقِيَامِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِيهَا.فَأَمَّا قَبُولُ الْوَصَايَا وَالْوَدَائِعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا أَعْيَانَ النَّاسِ وَآحَادَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ حَثًّا عَلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ تَكُونُ أَوَامِرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. 26- الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَأَخْذِ الْأَوْلِيَاءِ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى مِنْ أَكْفَائِهِنَّ إِذَا طَلَبْنَ، وَإِلْزَامِ النِّسَاءِ أَحْكَامَ الْعِدَدِ إِذَا فُورِقْنَ، وَلَهُ تَأْدِيبُ مَنْ خَالَفَ فِي الْعِدَّةِ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْدِيبُ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَنْ نَفَى وَلَدًا قَدْ ثَبَتَ فِرَاشُ أُمِّهِ وَلُحُوقُ نَسَبِهِ أَخَذَهُ بِأَحْكَامِ الْآبَاءِ أَوْ عَزَّرَهُ عَلَى النَّفْيِ أَدَبًا، وَيَأْخُذُ أَرْبَابَ الْبَهَائِمِ بِعَلَفِهَا إِذَا قَصَّرُوا فِيهَا، وَأَلاَّ يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ، وَمَنْ أَخَذَ لَقِيطًا فَقَصَّرَ فِي كَفَالَتِهِ أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِ الْتِقَاطِهِ مِنَ الْتِزَامِ كَفَالَتِهِ أَوْ تَسْلِيمِهِ إِلَى مَنْ يَلْتَزِمُهَا وَيَقُومُ بِهَا، وَكَذَلِكَ وَاجِدُ الضَّوَالِّ إِذَا قَصَّرَ فِيهَا أَخَذَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْقِيَامِ بِهَا أَوْ تَسْلِيمِهَا إِلَى مَنْ يَقُومُ بِهَا، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِلضَّالَّةِ بِالتَّقْصِيرِ وَلَا يَكُونُ بِهِ ضَامِنًا لِلَّقِيطِ، وَإِذَا سَلَّمَ الضَّالَّةَ إِلَى غَيْرِهِ ضَمِنَهَا وَلَا يَضْمَنُ اللَّقِيطَ بِالتَّسْلِيمِ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ عَلَى نَظَائِرِ هَذَا الْمِثَالِ يَكُونُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.

مَعْنَى الْمُنْكَرِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ

27- الْمُنْكَرُ ضِدُّ الْمَعْرُوفِ وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِ مَعْنَاهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ شَامِلًا لِمُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِ وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ.وَاسْتَعْمَلَهُ آخَرُونَ فِي كُلِّ مَا عُرِفَ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ قُبْحُهُ وَقَالَ غَيْرُهُمْ هُوَ أَشْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، هُوَ مَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ السَّلِيمَةُ وَتَتَأَذَّى بِهِ مِمَّا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ وَنَافَرَهُ الطَّبْعُ وَتَعَاظَمَ اسْتِكْبَارُهُ وَقَبُحَ غَايَةَ الْقُبْحِ اسْتِظْهَارُهُ فِي مَحَلِّ الْمَلأَِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ».

وَالْمُنْكَرُ مِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَحْظُورٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِمْ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ يُسَاوِي الْمُحَرَّمَ، وَيُسَمَّى أَيْضًا مَعْصِيَةً وَذَنْبًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ وَالْمَحْظُورِ، أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْمُنْكَرِ الْمَكْرُوهِ مُسْتَحَبٌّ، وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْفَاعِلُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَجَبَ ذِكْرُهُ لَهُ، فَإِنَّ لِلْكَرَاهَةِ حُكْمًا فِي الشَّرْعِ يَجِبُ تَبْلِيغُهُ إِلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ.أَمَّا الْمَحْظُورُ فَالنَّهْيُ عَنْهُ وَاجِبٌ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ إِذَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ، وَبِهَذَا اشْتَرَطَ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ يَكُونَ مُدْرَكُ عَدَمِ التَّحْرِيمِ فِيهِ ضَعِيفًا.

شُرُوطُ الْمُنْكَرِ:

28- يُشْتَرَطُ فِي الْمُنْكَرِ الْمَطْلُوبِ تَغْيِيرُهُ مَا يَلِي: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا فِي الشَّرْعِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمُنْكَرُ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، إِذْ مَنْ رَأَى صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيقَ خَمْرَهُ وَيَمْنَعَهُ، وَكَذَا إِنْ رَأَى مَجْنُونًا يَزْنِي بِمَجْنُونَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَهَذَا لَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ، إِذْ مَعْصِيَةٌ لَا عَاصِيَ بِهَا مُحَالٌ، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبَا الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ عَاصِيَيْنِ، بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ وَالْآخَرُ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ التَّحْصِيلِ، وَسَاقَا جُمْلَةَ أَمْثِلَةٍ لِلْمُنْكَرِ الَّذِي يَجِبُ تَغْيِيرُهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ.

أَحَدُهَا: أَمْرُ الْجَاهِلِ بِمَعْرُوفٍ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهُ، وَنَهْيُهُ عَنْ مُنْكَرٍ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَهُ كَنَهْيِ الْأَنْبِيَاءِ- عليهم السلام- أُمَمَهُمْ أَوَّلَ بَعْثِهِمْ.

الثَّانِي: قِتَالُ الْبُغَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي بَغْيِهِمْ لِتَأَوُّلِهِمْ.

الثَّالِثُ: ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْفَوَاحِشِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ.

الرَّابِعُ: قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ إِذَا صَالُوا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُمْ إِلاَّ بِقَتْلِهِمْ.

الْخَامِسُ: إِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي الْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ أَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِالْعَفْوِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَأَرَادَ الِاقْتِصَاصَ، فَلِلْفَاسِقِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْقَتْلِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ إِلاَّ بِهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ.

السَّادِسُ: ضَرْبُ الْبَهَائِمِ فِي التَّعْلِيمِ وَالرِّيَاضَةِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الشِّرَاسِ وَالْجِمَاحِ، وَكَذَلِكَ ضَرْبُهَا حَمْلًا عَلَى الْإِسْرَاعِ لِمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالْقِتَالِ. وَلَا يَقْتَصِرُ الْإِنْكَارُ عَلَى الْكَبِيرَةِ، بَلْ يَجِبُ النَّهْيُ عَنِ الصَّغَائِرِ أَيْضًا.

الشَّرْطُ الثَّانِي

29- أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ بِأَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مُسْتَمِرًّا عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ تَرْكُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ إِنْكَارُ مَا وَقَعَ عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنِ الْحِسْبَةِ عَلَى مَنْ فَرَغَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَاحْتِرَازٌ عَمَّا سَيُوجَدُ، كَمَنْ يَعْلَمُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الشُّرْبِ فِي لَيْلَةٍ فَلَا حِسْبَةَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالْوَعْظِ، وَإِنْ أَنْكَرَ عَزْمَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ وَعْظُهُ أَيْضًا، فَإِنَّ فِيهِ إِسَاءَةَ ظَنٍّ بِالْمُسْلِمِ، وَرُبَّمَا صُدِّقَ فِي قَوْلِهِ، وَرُبَّمَا لَا يُقْدِمُ عَلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ لِعَائِقٍ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَانِ

الْحَالَةُ الْأُولَى: الْإِصْرَارُ عَلَى فِعْلِ الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ تَوْبَةٍ فَهَذَا يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَفِي رَفْعِهِ إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ السَّتْرِ وَاسْتِحْبَابِهِ وَعَلَى سُقُوطِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ وَعَدَمِهِ، أَمَّا عَنْ وُجُوبِ السَّتْرِ وَاسْتِحْبَابِهِ فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ أَقَاوِيلَ نُوجِزُهَا فِي الْآتِي:

ذَهَبَ الْأَحْنَافُ إِلَى أَنَّ الشَّاهِدَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ (أَسْبَابُ الْحُدُودِ) مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ}

وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَقَدْ نَدَبَهُ الشَّرْعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ الْحِسْبَةِ فَأَقَامَهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ السَّتْرِ فَيَسْتُرُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَالسَّتْرُ أَوْلَى.

وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ الْحُدُودِ نَحْوُ طَلَاقٍ وَإِعْتَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ تَلْزَمُهُ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى إِقَامَتِهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ إِنِ اسْتَدَامَ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّضَاعِ وَالْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَنْقَضِي بِالْفَرَاغِ مِنْ مُتَعَلَّقِهِ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الرَّفْعِ وَعَدَمِهِ، وَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ فِي غَيْرِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ.وَفِي الْمَوَّاقِ أَنَّ سَتْرَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَاجِبٌ حِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَرْكُ الرَّفْعِ وَاجِبًا.

وَذَكَرَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَفْصِيلًا خُلَاصَتُهُ أَنَّ الزَّوَاجِرَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ زَاجِرٌ عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ حَاضِرٍ، أَوْ مَفْسَدَةٍ مُلَابِسَةٍ لَا إِثْمَ عَلَى فَاعِلِهَا وَهُوَ مَا قُصِدَ بِهِ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ الْمَوْجُودَةِ وَيَسْقُطُ بِانْدِفَاعِهَا.

30- النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَقَعُ زَاجِرًا عَنْ مِثْلِ ذَنْبٍ مَاضٍ مُنْصَرِمٍ أَوْ عَنْ مِثْلِ مَفْسَدَةٍ مَاضِيَةٍ مُنْصَرِمَةٍ وَلَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَجِبُ إِعْلَامُ مُسْتَحِقِّهِ لِيَبْرَأَ مِنْهُ أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ، وَذَلِكَ كَالْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَكَحَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مُسْتَحِقَّهُ لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا الْأَوْلَى بِالْمُتَسَبِّبِ إِلَيْهِ سَتْرُهُ كَحَدِّ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ.ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الشُّهُودُ عَلَى هَذِهِ الْجَرَائِمِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِهَا وَأَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَرْبَابَهَا وَإِنْ كَانَتْ زَوَاجِرُهَا حَقًّا مَحْضًا لِلَّهِ فَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِهَا، فَيَشْهَدُوا بِهَا مِثْلَ أَنْ يَطَّلِعُوا مِنْ إِنْسَانٍ عَلَى تَكَرُّرِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى شُرْبِ الْخُمُورِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي السَّتْرِ عَلَيْهِ مِثْلَ زَلَّةٍ مِنْ هَذِهِ الزَّلاَّتِ تَقَعُ نُدْرَةً مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ ثُمَّ يُقْلِعُ عَنْهَا وَيَتُوبُ مِنْهَا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِهَزَّالٍ: يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ»

وَحَدِيثِ: «وَأَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» وَحَدِيثِ: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»

وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: عَدَمُ الْإِنْكَارِ وَالتَّبْلِيغُ عَلَى الذَّنْبِ الْمَاضِي مَبْنِيٌّ عَلَى سُقُوطِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنِ اعْتَقَدَ الشَّاهِدُ سُقُوطَهُ لَمْ يَرْفَعْهُ وَإِلاَّ رَفَعَهُ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْمُحَرَّمِ لَمْ يَتُبْ، فَهَذَا يَجِبُ إِنْكَارُ فِعْلِهِ الْمَاضِي وَإِنْكَارُ إِصْرَارِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


40-موسوعة الفقه الكويتية (حوالة 6)

حَوَالَةٌ -6

ج- حَقُّ الْمُحِيلِ فِي مُطَالَبَةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ:

125- يُقَرِّرُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَدِينًا لِلْمُحِيلِ أَوْ عِنْدَهُ لَهُ عَيْنٌ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ:

(أ) فَإِنْ كَانَ: طُولِبَ بَعْدَ الْحَوَالَةِ بِدَيْنَيْنِ، أَوْ دَيْنٍ وَعَيْنٍ.

1- دَيْنُ الْحَوَالَةِ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِمُقْتَضَاهَا وَنَشَأَ مَعَهُ لِلْمُحَالِ حَقُّ مُطَالَبَةٍ لَمْ تَكُنْ.

2- وَدَيْنُ الْمُحِيلِ الْقَائِمُ بِذِمَّتِهِ مِنْ قَبْلُ، أَوْ مَالُهُ الَّذِي عِنْدَهُ، مُقْتَرِنًا بِحَقِّ مُطَالَبَةٍ قَدِيمَةٍ، فَإِنَّ هَذَا الْحَقَّ الْقَدِيمَ لَا يَنْقَطِعُ بِسَبَبِ الْحَوَالَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تُقَيَّدْ بِالدَّيْنِ السَّابِقِ وَلَا بِالْعَيْنِ فَبَقِيَا كَمَا كَانَا بِحُقُوقِهِمَا كَامِلَةً، وَمِنْهَا حَقُّ الْمُحِيلِ فِي مُطَالَبَتِهِ وَالْقَبْضِ مِنْهُ.

وَيَظَلُّ الْمُحَالُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الْمُحَالِ، فَإِذَا أَدَّى سَقَطَ مَا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ لَكِنَّهَا مُقَاصَّةُ دَيْنٍ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ بِعَيْنٍ لِلْمُحِيلِ فَتَتَوَقَّفُ عَلَى التَّرَاضِي.

(ب) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عِنْدَهُ شَيْءٌ، فَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ دَيْنُ الْحَوَالَةِ لَا غَيْرَهُ، ثُمَّ إِذَا أَدَّاهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ إِنْ كَانَتِ الْحَوَالَةُ بِرِضَاهُ، وَإِلاَّ فَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ.

وَالطَّالِبُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ الْمُحَالُ وَحْدَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْحَوَالَةِ الْمُؤَجَّلَةِ لَا تُسْتَحَقُّ مُطَالَبَتُهُ أَثْنَاءَ الْأَجَلِ، فَهِيَ إِذَنْ لَا تَحِلُّ عَلَيْهِ إِلاَّ بِمَوْتِهِ هُوَ، لَا بِمَوْتِ الْمُحِيلِ- وَإِنْ كَانَ تَأْجِيلُهُ تَابِعًا لِتَأْجِيلِ الْمُحِيلِ- لِأَنَّ حُلُولَ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ، إِنَّمَا هُوَ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْأَجَلِ بِمَوْتِهِ، فَإِذَا مَاتَ هُوَ فَإِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مَا زَالَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، وَفِي حَاجَةٍ إِلَى الْأَجَلِ، فَلَا وَجْهَ لِحُلُولِهِ عَلَيْهِ بِحُلُولِهِ عَلَى الْأَصِيلِ، لِأَنَّ الْأَصِيلَ بَرِئَ عَنِ الدَّيْنِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْتَحَقَ بِالْأَجَانِبِ.

وَبَقَاءُ الْمُحِيلِ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حُلُولِ الْأَجَلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ هُوَ، لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ الْأَجَلِ بِمَوْتِهِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَرِكَتِهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ، اسْتَحَقَّ الطَّالِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ إِلَى أَجَلِهِ الْأَصْلِيِّ، لِأَنَّ هَذَا الْأَجَلَ لَمْ يَكُنْ سَقَطَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا سَقَطَ فِي ضِمْنِ الْحَوَالَةِ حُكْمًا، وَقَدِ انْتُقِضَتِ الْحَوَالَةُ بِمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَيُنْتَقَضُ مَا تَضَمَّنَتْهُ، أَعْنِي سُقُوطَ الْأَجَلِ.نَظِيرُهُ: مَا لَوْ أَنَّ الْمَدِينَ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ بَاعَ بِهِ سِلْعَةً مِنْ دَائِنِهِ ثُمَّ اسْتُحِقَّتِ السِّلْعَةُ، فَإِنَّ الْأَجَلَ يَعُودُ، لِأَنَّ سُقُوطَهُ إِنَّمَا كَانَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ، وَقَدِ انْتُقِضَ الْبَيْعُ.

نَعَمْ إِنْ كَانَ الْأَجَلُ بَاقِيًا لَكِنْ الْمُحَالُ عَلَيْهِ نَزَلَ عَنْهُ فَذَاكَ، إِذْ الْأَجَلُ حَقُّهُ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ. (نَظِيرُهُ مَا لَوْ أَسْقَطَ الْأَصِيلُ الْأَجَلَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ) ثُمَّ إِنْ أَدَّى قَبْلَ الْمَوْعِدِ الْأَصْلِيِّ لِحُلُولِ الْأَجَلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ حَتَّى يَحِلَّ ذَاكَ الْمَوْعِدُ، إِذْ إِسْقَاطُ الْأَجَلِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ، لَا فِي حَقِّ الْمُحِيلِ.

126- وَيُقَرِّرُ الْحَنَفِيَّةُ كَذَلِكَ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ أَنَّ الْمُحِيلَ لَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ الَّذِي قُيِّدَ وَفَاؤُهَا بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحَالِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا رَضِيَ بِنَقْلِ حَقِّهِ إِلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ حَقَّهُ مِمَّا لِلْمُحِيلِ عِنْدَهُ، فَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اسْتِيفَائِهِ، فَلَوْ أَخَذَهُ الْمُحِيلُ لَبَطَلَ هَذَا الْحَقُّ، فَلَا يُسَلَّطُ عَلَى أَخْذِهِ، وَإِلاَّ فَاتَ الرِّضَا، وَبَطُلَتِ الْحَوَالَةُ.

وَبِعِبَارَةٍ أَوْجَزَ: لَمَّا قُيِّدَتِ الْحَوَالَةُ بِشَيْءٍ تَعَلَّقَ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ بِهِ كَالرَّهْنِ، فَلَا يُزَاحِمُ فِيهِ الْمُسْتَحِقَّ، وَلَا يَدْفَعُ إِلَى غَيْرِهِ.فَإِذَا اتَّفَقَ أَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ دَفَعَهُ إِلَى الْمُحِيلِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ لِلْمُحَالِ، لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ، كَمَا لَوِ اسْتَهْلَكَ الرَّهْنَ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ لِصَاحِبِ حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ.

127- وَهَذَانِ الْأَثَرَانِ لَيْسَا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ مُجَرَّدَ سُقُوطِ مُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ وَمَنْعِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ صَارَ كَالْمَرْهُونِ، بَلْ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ يَبْرَأُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْمُحِيلِ، وَمِنْ ثَمَّ يَمْتَنِعُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُحَالِ، وَلِذَا إِذَا تَوِيَ فَإِنَّمَا يَتْوَى عَلَى الْمُحَالِ نَفْسِهِ.

انْتِهَاءُ الْحَوَالَةِ:

128- انْتِهَاءُ الْحَوَالَةِ قَدْ يَكُونُ بِأَدَاءِ مَالِهَا إِلَى الْمُحَالِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَا يُسَاوِي هَذَا الْأَدَاءَ، وَقَدْ يَكُونُ بِدُونِ هَذَا وَذَاكَ، وَيُمْكِنُ تَرْتِيبُ ذَلِكَ.فِي فَرْعَيْنَ

أَوَّلًا- انْتِهَاءُ الْحَوَالَةِ بِالتَّنْفِيذِ:

129- إِذَا أَدَّى الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَالَ الْحَوَالَةِ- بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ عَيْنًا، وَبِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ دَيْنًا- إِلَى الْمُحَالِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ مَنَابَهُ فَهَذِهِ هِيَ غَايَتُهَا الْمَنْشُودَةُ.

وَمَتَى انْتَهَتْ إِلَى غَايَتِهَا فَلَا بَقَاءَ لَهَا.بَلْ لَوْ تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْغَايَةُ لَا عَنْ طَرِيقِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةً، بَلْ عَنْ طَرِيقِ مُتَبَرِّعٍ بِالْوَفَاءِ- وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلاَّ مُتَبَرِّعًا عَنِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِخِلَافِهِ- فَإِنَّ هَذَا الْوَفَاءَ وَالَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءٌ، مِنْ حَيْثُ إِنْهَاءُ الْحَوَالَةِ.

وَقَدْ لَا يُؤَدِّي الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْعَيْنَ نَفْسَهَا الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا الْحَوَالَةُ، وَلَا مِثْلُ دَيْنِهَا- مُطْلَقَةً كَانَتْ أَوْ مُقَيَّدَةً- وَمَعَ ذَلِكَ تَنْتَهِي الْحَوَالَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مَا يُسَاوِي هَذَا الْأَدَاءَ، كَمَا فِي الْحَالَتَيْنِ التَّالِيَتَيْنِ: (أ) أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ عَنْ تَرَاضٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَالِ: كَمَا لَوْ كَانَتِ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِوَدِيعَةٍ- كَكِتَابٍ أَوْ أَكْثَرَ- فَيُؤْثِرُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الِاحْتِفَاظَ لِنَفْسِهِ بِالْوَدِيعَةِ لِرَغْبَتِهِ فِيهَا وَيُعِيضُ الْمُحَالَ مِنْهَا قِيمَتَهَا نَقْدًا، أَوْ كَانَ الْمُحَالُ بِهِ دَيْنًا عَلَى الْمُحِيلِ، مِقْدَارُهُ أَلْفُ دِينَارٍ مَثَلًا، فَيَرْغَبُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَاجِرٌ أَنْ يُبَايِعَ بِهَا الْمُحَالَ فَيَعْرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيضَهُ مِنْ دَنَانِيرِهِ، بَضَائِعَ كَثِيَابٍ أَوْ غَيْرِهَا.

(ب) أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ، وَيَرِثَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَالَ الْحَوَالَةِ: لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَلْكِ فَيَمْلِكُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الدَّيْنَ فِي هَذِهِ الْحَالِ.

وَهَذَا يُعَادِلُ تَمَامًا مَا لَوْ كَانَ قَدْ وَفَّاهُ دَيْنَهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ الْمَالُ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ.

وَفِي مَعْنَى الْإِرْثِ أَنْ يَهَبَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ دَيْنَ الْحَوَالَةِ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ فَيَقْبَلُ أَوْ لَا يَرُدُّ.

ثَانِيًا: انْتِهَاءُ الْحَوَالَةِ دُونَ تَنْفِيذٍ:

130- تَنْتَهِي الْحَوَالَةُ دُونَ تَنْفِيذٍ فِي حَالَتَيْنِ:

الْأُولَى: الِانْتِهَاءُ الرِّضَائِيُّ.

الثَّانِيَةُ: الِانْتِهَاءُ غَيْرُ الرِّضَائِيِّ.الْأُولَى الِانْتِهَاءُ الرِّضَائِيُّ: وَذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ: (الْأَوَّلُ) الِانْتِهَاءُ بِطَرِيقِ التَّقَايُلِ (التَّرَاضِي عَلَى الْفَسْخِ).

(الثَّانِي) الِانْتِهَاءُ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ.

أ- الِانْتِهَاءُ بِطَرِيقِ التَّقَايُلِ (التَّرَاضِي عَلَى الْفَسْخِ).

131- الْفَسْخُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ إِنْهَاءُ الْعَقْدِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ غَايَتَهُ، وَعِبَارَةُ ابْنِ نُجَيْمٍ: (الْفَسْخُ حَلُّ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ).

فَإِذَا أَرَادَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَطْرَافِ الْحَوَالَةِ- دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ- أَنْ يَرْجِعَ فِي الْحَوَالَةِ، فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: (إِنَّ الْمُحِيلَ وَالْمُحَالَ يَمْلِكَانِ النَّقْضَ) أَيْ نَقْضَ الْحَوَالَةِ.وَظَاهِرٌ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ بَيْنَهُمَا، لَا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْإِرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحِيلَ لَا يَمْلِكُ إِبْطَالَ الْحَوَالَةِ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّتِهَا.

أَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَرَاضَى مَعَ بَقِيَّةِ أَطْرَافِ الْعَقْدِ عَلَى نَقْضِهِ فَذَاكَ.وَإِذَا تَرَاضَى الطَّرَفَانِ الْآخَرَانِ وَاعْتَرَضَ هُوَ، فَلَا قِيمَةَ لِاعْتِرَاضِهِ هَذَا، لِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّهُمَا، وَلِصَاحِبِ الْعَقْدِ إِسْقَاطُهُ.أَمَّا أَنْ يَسْتَبِدَّ هُوَ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَهَذَا مَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. 132- وَمُفَادُ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْحَوَالَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَقْبَلُ التَّفَاسُخَ وَالتَّقَايُلَ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِيهِ وَالْمُحِيلُ وَالْمُحَالُ فَقَطْ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ.

وَقَدْ نَقَلَ الْخَطِيبُ عَنِ الرَّافِعِيِّ (عَدَمَ صِحَّةِ التَّقَايُلِ فِي الْحَوَالَةِ، كَمَا أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ الْحَوَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، وَأَنَّهَا لَوْ فُسِخَتْ لَا تَنْفَسِخُ).

وَالَّذِي ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّ الْبُلْقِينِيَّ حَكَى فِي صِحَّةِ إِقَالَتِهَا خِلَافًا، نَقْلًا عَنِ الْخُوَارَزْمِيِّ، وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ أَنَّهُ رَجَّحَ الصِّحَّةَ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهَا بَيْعٌ، كَمَا أَنَّهُ يُوجَدُ بِإِزَاءِ نَصِّ الْمُتَوَلِّي الْعَامِّ نَصٌّ عَامٌّ يُقَابِلُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: (فَسْخُ الْحَوَالَةِ انْقِطَاعٌ مِنْ حِينِهِ) وَإِذَنْ فَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِي الْمَذْهَبِ.

133- وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ التَّرَاضِي عَلَى الْفَسْخِ إِلَى غَيْرِ بَدِيلٍ، أَوْ إِلَى بَدِيلٍ.وَمِنَ النَّوْعِ الثَّانِي تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّ (الْحَوَالَةَ إِذَا تَعَدَّدَتْ عَلَى رَجُلَيْنِ كَانَتِ الثَّانِيَةُ نَقْضًا لِلْأُولَى) فَهَذِهِ كَأَنَّهَا اسْتِعَاضَةٌ عَنْ حَوَالَةٍ بِحَوَالَةٍ.

فَإِذَا كَانَ الرَّجُلَانِ الْمُحَالُ عَلَيْهِمَا بِمَثَابَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُمَا أَصِيلٌ وَكَفِيلُهُ، وَإِنَّمَا التَّعَدُّدُ الْحَقِيقِيُّ فِي جَانِبِ الْمُحَالِ، فَإِنَّ الثَّانِيَةَ لَا تَكُونُ نَقْضًا لِلْأُولَى، بَلْ إِمَّا أَنْ تَصِحَّ الْحَوَالَتَانِ، وَإِمَّا أَنْ تَصِحَّ الْأُولَى، وَتَلْغُوَ الثَّانِيَةُ.وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى الْكَفِيلِ لَا تَقْتَضِي بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ مِنْ حَقِّ الْمُحِيلِ، فَيَتَسَنَّى لِلْمُحِيلِ أَنْ يُحِيلَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَحَالَ عَلَى الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، إِذْ إِنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى الْأَصِيلِ تَقْتَضِي بَرَاءَتَهُ وَبَرَاءَةَ الْكَفِيلِ كِلَيْهِمَا مِنْ حَقِّ الْمُحِيلِ بَرَاءَةَ مُرَاعَاةٍ- وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ: تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ- فَلَا يَسَعُهُ بَعْدَ أَنْ أَحَالَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يُحِيلَ عَلَى الثَّانِي، وَقَدْ أَصْبَحَ بَرِيئًا.

ب- الِانْتِهَاءُ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ:

134- إِبْرَاءُ الْمُحَالِ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْحَوَالَةِ يَقَعُ تَحْتَ احْتِمَالَيْنِ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِبْرَاءَ اسْتِيفَاءٍ، أَوْ إِبْرَاءَ إِسْقَاطٍ.

135- (أ) فَإِذَا كَانَ إِبْرَاءَ اسْتِيفَاءٍ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ.وَعِنْدَئِذٍ تَنْتَهِي الْحَوَالَةُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْإِبْرَاءُ مِنْ وُقُوعِ الْوَفَاءِ فِعْلًا.وَتُصْبِحُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ قَبِيلِ النِّهَايَةِ بِطَرِيقِ الْأَدَاءِ، وَيَتَرَتَّبُ فِيهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَدَاءِ الْحَوَالَةِ مِنْ حَقِّ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ عَلَى الْمُحِيلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَدِينًا لَهُ بِمِثْلِهِ.فَإِنْ كَانَ مَدِينًا لَهُ وَقَعَ التَّقَاصُّ بَيْنَهُمَا.

136- (ب) وَأَمَّا إِذَا كَانَ إِبْرَاءُ الْمُحَالِ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ إِبْرَاءَ إِسْقَاطٍ قَبْلَ الْوَفَاءِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَوَالَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ وَغَيْرُهُ.وَعِنْدَئِذٍ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُحَالِ فِي دَيْنِ الْحَوَالَةِ سُقُوطًا نِهَائِيًّا، وَلَوْ كَانَتِ الْحَوَالَةُ عَلَى كَفِيلِ الْمَدِينِ وَمُقَيَّدَةً بِدَيْنِ الْكَفَالَةِ.

ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْمُحَالِ قَدْ تَحَوَّلَ عَنِ الْمُحِيلِ بِمُقْتَضَى الْحَوَالَةِ نَفْسِهَا حَيْثُ يَبْرَأُ بِهَا الْمُحِيلُ وَيَحِلُّ مَحَلَّهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فِي الْتِزَامِ الْأَدَاءِ.

فَإِذَا أُبْرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُحَالِ حَقٌّ تُجَاهَ أَحَدٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَدِينًا أَصْلِيًّا لِلْمُحِيلِ أَمْ كَفِيلًا أَمْ غَيْرَ مَدِينٍ أَصْلًا، بِأَنْ كَانَتِ الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

137- (ج) وَقَدْ يَقَعُ هَذَا الْإِبْرَاءُ- إِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ- مِنَ الْمُحَالِ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَدَّى هَذَا إِلَيْهِ دَيْنَ الْحَوَالَةِ، وَيَكُونُ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِبْرَاءً صَحِيحًا، بِنَاءً عَلَى نَظَرِيَّتِهِمْ فِي أَنَّ إِيفَاءَ الدُّيُونِ لَا يُسْقِطُهَا مِنَ الذِّمَمِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُقَاصَّةِ وَامْتِنَاعِ الْمُطَالَبَةِ: فَإِنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَفَاءِ يَكُونُ قَائِمًا بِذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَبِالْأَدَاءِ يَقُومُ دَيْنُ نَظِيرِهِ فِي ذِمَّةِ الدَّائِنِ الْمُسْتَوْفِي، أَيْ يُصْبِحَ الْمَدِينُ دَائِنًا أَيْضًا لِدَائِنِهِ فَيَصِيرُ كُلٌّ مِنْهُمَا دَائِنًا وَمَدِينًا لِلْآخَرِ، فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا، وَهَذِهِ هِيَ الْمُقَاصَّةُ.

فَالْإِبْرَاءُ بَعْدَ الْأَدَاءِ الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاءَ اسْتِيفَاءٍ، لَكِنْ إِذَا صَرَّحَ الْمُبَرِّئُ أَوْ دَلَّتِ الْقَرَائِنُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْإِسْقَاطُ فَإِنَّهُ يُصَادِفُ دَيْنًا قَائِمًا فَيُسْقِطُهُ، وَلَكِنْ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَوَالَةِ الَّتِي تَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ الْأَدَاءِ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَى أَنْ يُصْبِحَ لِلَّذِي أُبْرِئَ- أَيِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ- حَقُّ مُطَالَبَةِ الْمُحَالِ الَّذِي أَبْرَأهُ بِمَا كَانَ قَدْ أَدَّاهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ أَصْبَحَ الْمَقْبُوضُ بِلَا مُقَابِلٍ، فَتُنْتَقَضُ الْمُقَاصَّةُ السَّابِقَةُ التَّقْدِيرِ.

هَذَا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ يَقُولُ بِمَا يَقُولُ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، أَيْ بِصِحَّةِ الْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْوَفَاءِ، بِنَاءً عَلَى نَظَرِيَّتِهِمُ الْآنِفَةِ الذِّكْرِ.

الثَّانِيَةُ- الِانْتِهَاءُ غَيْرُ الرِّضَائِيِّ:

وَذَلِكَ فِي أَرْبَعِ حَالَاتٍ:

1- الِانْتِهَاءُ بِمَوْتِ الْمُحِيلِ:

138- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ انْفِسَاخِ الْحَوَالَةِ بِمَوْتِ الْمُحِيلِ، لِأَنَّ الْمَالَ قَدْ تَحَوَّلَ مِنْ مِلْكِ الْمُحِيلِ إِلَى مِلْكِ الْمُحَالِ (ر: ف 127) وَمَا تَأْثِيرُ مَوْتِ الْمُحِيلِ فِي الْحَوَالَةِ بَعْدَ صِحَّتِهَا وَلُزُومِهَا إِلاَّ كَتَأْثِيرِ مَوْتِ بَائِعِ السِّلْعَةِ بَعْدَ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَلُزُومِهِ، بَلْ بَعْدَ إِقْبَاضِهِ إِيَّاهَا فَضْلًا عَنِ الصِّحَّةِ وَاللُّزُومِ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ عِنْدَهُمْ بِمَثَابَةِ الْإِقْبَاضِ وَالتَّسْلِيمِ.نَعَمْ تَتَأَثَّرُ الْحَوَالَةُ بِمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، إِذْ يَحِلُّ بِهِ دَيْنُهَا الْمُؤَجَّلُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ صَاحِبُ نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: (لَوْ أَحَالَ بِمُؤَجَّلٍ عَلَى مِثْلِهِ حَلَّتِ الْحَوَالَةُ بِمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَا تَحِلُّ بِمَوْتِ الْمُحِيلِ، لِبَرَاءَتِهِ بِالْحَوَالَةِ).

وَيُؤْخَذُ مِثْلُهُ مِنْ نَصِّ الْمَالِكِيَّةِ فِي الضَّمَانِ، وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلْحَنَابِلَةِ: (فَإِنْ مَاتَ الْمُحِيلُ أَوِ الْمُحَالُ فَالْأَجَلُ بَاقٍ بِحَالِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ انْبَنَى عَلَى (قَاعِدَةِ) حُلُولِ الدَّيْنِ بِالْمَوْتِ- أَيْ بِمَوْتِ الْمَدِينِ) -

وَفِيهِ رِوَايَتَانِ (وَلَا يُعْلَمُ فِي حُلُولِ الدَّيْنِ بِمَوْتِ الْمَدِينِ خِلَافٌ لِأَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ سِوَى أَحْمَدَ فِي إِحْدَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ).

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَا قَبَضَهُ الْمُحَالُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ- قَبْلَ مَوْتِ الْمُحِيلِ أَوْ بَعْدَهُ، فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ- كُلُّ ذَلِكَ هُوَ لَهُ خَاصَّةً لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ، كَمَا لَا يَشْرَكُونَهُ فِي سِلْعَةٍ كَانَ اشْتَرَاهَا فِي حَالِ الصِّحَّةِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُحِيلُ حَوَالَةً مُطْلَقَةً لَا تَنْفَسِخُ هَذِهِ الْحَوَالَةُ.

ثُمَّ إِنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ مَالٌ (بِالْمَعْنَى الشَّامِلِ لِلدَّيْنِ تَوَسُّعًا، فَإِنَّهُ مَالٌ حُكْمِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) فَلَا شَأْنَ لِلْمُحَالِ بِهَذَا الْمَالِ وَلَا تَعَلُّقَ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَالُ تَرِكَةٌ لِلْمُحِيلِ، فَيَئُولُ إِلَى وَرَثَتِهِ، بَعْدَ أَنْ تُقْضَى مِنْهُ الْحُقُوقُ الْمُقَدَّمَةُ، كَالدُّيُونِ الْأُخْرَى غَيْرِ دَيْنِ الْمُحَالِ، لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ عَلَى الْمُحِيلِ مَا دَامَتِ الْحَوَالَةُ قَائِمَةً، وَمَوْتُ الْمُحِيلِ لَا يُبْطِلُ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ.

139- وَأَمَّا فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، فَقَدْ يَمُوتُ الْمُحِيلُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ، لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ قَدِ اسْتُحِقَّ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَدَخَلَ فِي تَرِكَةِ الْمُحِيلِ، وَعَلَى هَذِهِ التَّرِكَةِ يَعُودُ الْمُحَالُ بِدَيْنِهِ، وَيَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ، هَكَذَا عَلَّلَ صَاحِبُ- الْبَدَائِعِ- ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَوَالَةِ وَالرَّهْنِ، بِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ اخْتَصَّ بِغُرْمِ الرَّهْنِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا هَلَكَ سَقَطَ دَيْنُهُ خَاصَّةً، وَلَمَّا اخْتَصَّ بِغُرْمِهِ اخْتَصَّ بِغُنْمِهِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ.وَأَمَّا الْمُحَالُ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِغُرْمِ ذَلِكَ الْمَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَوِيَ لَا يَسْقُطُ دَيْنُهُ عَنِ الْمُحِيلِ.

فَلَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بِغُرْمِهِ لَمْ يَخْتَصَّ بِغُنْمِهِ، وَيَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ.

140- وَمِنْ نَتَائِجِ الْقَوْلِ بِالِانْفِسَاخِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

(أ) إِنَّ الْمُحَالَ إِذَا رَجَعَ إِلَى تَرِكَةِ الْمُحِيلِ وَعَرَفَ نَصِيبَهُ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ نَصِيبَهُ هَذَا مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بَدَلًا مِنَ التَّرِكَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ.

(ب) لَوْ نَقَصَتْ حِصَّةُ الْمُحَالِ فِي الْمُقَاسَمَةِ عَنِ الْوَفَاءِ بِدَيْنِهِ، لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ صَارَ تَاوِيًا فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ.

(ج) إِنْ كَانَ الْمُحَالُ قَدْ قَبَضَ شَيْئًا مِنْ دَيْنِ الْحَوَالَةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُحِيلِ- وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ مَرَضِهِ- فَلَهُ مَا قَبَضَهُ، ثُمَّ يُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ فِي الْبَاقِي.لَكِنْ فِي حَالَةِ الْقَبْضِ، وَالْمُحِيلُ مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ، يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ قَبْضِ الدَّيْنِ وَقَبْضِ الْعَيْنِ.

1- فَفِي قَبْضِ الدَّيْنِ يُسَلَّمُ لِلْمُحَالِ مَا أَخَذَهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ، لَكِنْ يَكُونُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ- بِأَدَائِهِ الدَّيْنَ- غَرِيمًا لِلْمُحِيلِ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِئْثَارَ بِمَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ لِيَقَعَ التَّقَاصُّ، بَلْ يُشَارِكُهُ فِيهِ الْغُرَمَاءُ، وَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مِنْهُ إِلاَّ حِصَّتُهُ فِي الْمُحَاصَّةِ.

2- أَمَّا فِي قَبْضِ الْعَيْنِ- كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ- فَبِالْعَكْسِ: أَيْ لَا سَبِيلَ حِينَئِذٍ لِغُرَمَاءِ الْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا تُسَلَّمُ الْعَيْنُ الْمَأْخُوذَةُ لِلْمُحَالِ، بَلْ يُحَاصُّهُ فِيهَا الْغُرَمَاءُ.

2- الِانْتِهَاءُ بِمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ:

141- نَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ لَا تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ مَاتَ مَدِينًا أَمْ غَيْرَ مَدِينٍ.إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ مُفْلِسًا، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ حِينَئِذٍ تَنْتَهِي فِي الدَّيْنِ كُلِّهِ- إِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِشَيْءٍ مِنْهُ- أَوْ تَنْتَهِيَ فِي بَاقِيهِ، إِنْ تَرَكَ وَفَاءً بِبَعْضِهِ، وَيَرْجِعُ الْبَاقِي إِنْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، وَسَيَجِيءُ فِي التَّوَى (ر: ف 164): ذَلِكَ أَنَّ التَّرِكَةَ خَلَفٌ عَنْ صَاحِبِهَا فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ.

3- الِانْتِهَاءُ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّ:

(أ) ارْتِفَاعُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ أَصَالَةً:

142- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى ثَالِثٍ، ثُمَّ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُحِيلَ- وَهُوَ الْمُشْتَرِي- غَيْرَ مَدِينٍ لِلْمُحَالِ- الْبَائِعِ- وَمَدْيُونِيَّةُ الْمُحِيلِ لِلْمُحَالِ شَرِيطَةٌ لِانْعِقَادِ الْحَوَالَةِ لَا تَقُومُ بِدُونِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ (ف (59) ).

(ب) ارْتِفَاعُ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَصَالَةً:

143- فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ: لَوْ كَانَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عَيْنٌ هِيَ أَمَانَةٌ أَوْ مَضْمُونَةٌ، فَاسْتُحِقَّتْ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّيْنَ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، كَمَا لَوْ كَانَ ثَمَنُ مَبِيعٍ فَاسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ تَبْقَى كَمَا هِيَ صَحِيحَةً نَافِذَةً، لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا بُطْلَانٌ أَوِ انْفِسَاخٌ، لِأَنَّ دَيْنَ الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ- كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ- وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ، فَلَا يَتَأَثَّرُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَقَدْ سَبَقَ بَحْثُ ذَلِكَ (ر: ف 66)

144- أَمَّا فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ: فَيُقَرِّرُ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي تُقَيَّدُ الْحَوَالَةُ بِإِيفَاءِ دَيْنِهَا بِهِ أَوْ مِنْهُ، إِذَا كَانَ عَيْنًا- أَمَانَةً كَانَتْ أَوْ مَضْمُونَةً كَالْمَغْصُوبَةِ- ثُمَّ تَبَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهَا لِغَيْرِ الْمُحِيلِ، أَوْ كَانَ دَيْنًا ثُمَّ تَبَيَّنَ انْعِدَامُهُ مِنَ الْأَصْلِ لَا بِسَبَبٍ عَارِضٍ، أَيْ إِنَّ الذِّمَّةَ لَمْ تُشْغَلْ بِهِ أَصْلًا، لَا أَنَّهَا شُغِلَتْ ثُمَّ فَرَغَتْ بِسَبَبٍ طَارِئٍ: فَهُنَا يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْحَوَالَةِ، بِمَعْنَى عَدَمِ انْعِقَادِهَا بَتَاتًا.

مِثَالُ ذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ: رَجُلٌ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ أَلْفُ دِينَارٍ.بِطَرِيقِ الْوَدِيعَةِ أَوِ الْغَصْبِ، فَأَحَالَ عَلَيْهِ بِهَا دَائِنًا لَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ لَيْسَتْ مِلْكًا لِلْمُحِيلِ، وَلَا لَهُ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ بِطَرِيقِ السَّرِقَةِ، أَوْ ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةً لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ تَبْطُلُ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِمَعْدُومٍ حُكْمًا.

وَمِثَالُهُ فِي الدُّيُونِ: رَجُلٌ بَاعَ آخَرَ مَنْزِلًا أَوْ خَلًّا، فَأَحَالَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ دَائِنًا لَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَلَّ خَمْرٌ، فَتَبْطُلُ الْحَوَالَةُ، لِأَنَّهَا قُيِّدَتْ بِدَيْنٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ قَطُّ.

وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ مَتَى بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَعُودُ عَلَى الْمَدِينِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْمُحِيلُ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِمْ: مَا لَوْ بَاعَ مَنْزِلًا، وَأَحَالَ عَلَى ثَمَنِهِ، أَوْ أُحِيلَ هُوَ بِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَنْزِلَ مَوْقُوفٌ، إِمَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِمَّا بِإِقْرَارِ الْأَطْرَافِ الثَّلَاثَةِ- الْمُحِيلِ وَالْمُحَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ- وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَوْ أَحَالَ عَلَى أُجْرَةِ شَهْرٍ لِدَارٍ لَهُ، فَمَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ خِلَالَهُ، إِذْ قَالُوا: تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ فِي مُقَابِلِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، لِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ فِيهَا.

قَالَ الْبَاجِيُّ فِي تَعْلِيلِ الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْحَوَالَةَ بَاطِلَةٌ، وَالدَّيْنُ كَمَا كَانَ، وَلَوْ دَفَعَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ إِلَى الْمُحَالِ لَرَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ، فَهُوَ أَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَيْسَ طَرَفًا فِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ الْمُحِيلِ- مُبَاشَرَةً، أَوْ بِوَاسِطَةٍ كَالْمُحَالِ- لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ بِعَقْدٍ آخَرَ، فَإِذَا سَقَطَ اسْتِحْقَاقُهُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ مَثَلًا قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ فَلَا يُكَلَّفُ أَدَاءَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهُ حُقَّ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَى الْمُحِيلِ فَإِذَا انْتَفَى الشَّرْطُ انْتَفَى الْمَشْرُوطُ.قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: هَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ كُلِّهِمْ.

يَرَى ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْحَوَالَةَ مَعْرُوفٌ، وَأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِتَبَيُّنِ أَنْ لَا دَيْنَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُ بَعْدَ أَدَائِهِ عَلَى الْمُحِيلِ.وَعَلَّلَ الْبَاجِيُّ تَعْلِيلَ كِلَا الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ.

أَمَّا تَعْلِيلُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ فَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا يَنْتَقِصُ فِي حَقِّ الْمُحَالِ بِاسْتِحْقَاقِ سِلْعَةٍ لَمْ يُعَاوِضْ هُوَ عَلَيْهَا بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَمْ لَمْ يَقْبِضْهُ بَعْدُ.

ج- ارْتِفَاعُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ عُرُوضًا:

145- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى ثَالِثٍ، حَوَالَةً مُقَيَّدَةً (أَوْ مُطْلَقَةً)، ثُمَّ هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْبَائِعِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي أَوْ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُحِيلَ وَهُوَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ مَدِينٍ د- ارْتِفَاعُ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عُرُوضًا:

146- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَالَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الِارْتِفَاعُ لَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ.

(الْحَالَةُ الْأُولَى) - ارْتِفَاعُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عُرُوضًا فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ:

147- إِذَا كَانَ لِلْمُحِيلِ مَالٌ عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْحَوَالَةَ صَدَرَتْ مُطْلَقَةً لَمْ يُقَيَّدْ فِيهَا الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْمَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَبْطُلُ بِفَوَاتِ الْمَالِ الَّذِي لِلْمُحِيلِ عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِخُلُوِّ يَدِهِ مِنَ الْعَيْنِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ بِهَلَاكٍ، أَمْ كَانَ بِاسْتِرْدَادِ الْمُحِيلِ مَالَهُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، إِذْ إِنَّ حَقَّ الطَّالِبِ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لَا بِشَيْءٍ، عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ.فَلِلْمُحِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ بِمَا لَهُ عِنْدَهُ، كَمَا أَنَّ لِلْمُحَالِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ.فَإِذَا أَدَّى هَذَا الدَّيْنَ الْأَخِيرَ، سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ الْأَوَّلُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ بَيْنَ دَيْنِ الْحَوَالَةِ الَّذِي أَدَّاهُ وَدَيْنِ الْمُحِيلِ.

وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ مَدِينٍ بَاعَ دَائِنَهُ شَيْئًا بِمِثْلِ دَيْنِهِ، ثُمَّ أَحَالَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ أَوْ بِنَظِيرِهِ، هَلْ تَصِحُّ الْحَوَالَةُ؟ فَأَجَابَ: (إِنْ وَقَعَتْ بِنَظِيرِ الثَّمَنِ صَحَّتْ، لِأَنَّهَا لَمْ تُقَيَّدْ بِالثَّمَنِ- وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ- وَإِنْ وَقَعَتْ بِالثَّمَنِ فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ، لِوُقُوعِ الْمُقَاصَّةِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الدَّيْنَ إِذَا اسْتُحِقَّ لِلْغَيْرِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ).

(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) - ارْتِفَاعُ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عُرُوضًا فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِعَيْنٍ:

148- لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ إِذَا كَانَ الْمَالُ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ عَيْنًا مَضْمُونَةً، ثُمَّ لَحِقَهَا الْهَلَاكُ بِسَبَبٍ طَارِئٍ، كَمَا لَوْ ضَاعَتْ أَوْ سُرِقَتْ أَوْ تَلِفَتْ فِي حَرِيقٍ مَثَلًا، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ تَبْقَى كَمَا هِيَ، وَمُطَالَبَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُتَوَجِّهَةٌ، كَمَا كَانَتْ قَبْلَ التَّلَفِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ قُيِّدَتْ حِينَ عُقِدَتْ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ فِعْلًا، فَلَا يَضِيرُ ارْتِفَاعُهُ الطَّارِئُ، لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمَضْمُونَةَ كَالْمَغْصُوبِ مَثَلًا إِذَا هَلَكَتْ وَجَبَ عَلَى ضَامِنِهَا مِثْلُهَا، إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً، فَيَكُونُ فَوَاتُهَا إِلَى خَلَفٍ.وَالْفَوَاتُ إِلَى خَلَفٍ كَالْبَقَاءِ حُكْمًا، لِأَنَّ الْخَلَفَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُحَالِ.

وَهَذَا مُنْطَبِقٌ تَمَامًا عَلَى الْأَمَانَاتِ الَّتِي تَفُوتُ بِتَعَدِّي مَنْ هِيَ عِنْدَهُ، إِذْ هِيَ إِذْ ذَاكَ تَدْخُلُ فِي عِدَادِ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِخِلَافِ الْفَوَاتِ بِطَرِيقِ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ لِلْغَيْرِ، وَلَوْ كَانَتْ مَغْصُوبَةً، فَإِنَّ الذِّمَّةَ تَبْرَأُ فِيهِ مِنْ ضَمَانَاتِ الْفَائِتِ بِعَوْدِهِ إِلَى مَالِكِهِ، فَيَفُوتُ إِلَى غَيْرِ خَلَفٍ، وَلِذَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ (ر: ف 143)

أَمَّا فَوَاتُ الْأَمَانَاتِ بِغَيْرِ تَعَدِّي مَنْ هِيَ عِنْدَهُ، كَالْوَدِيعَةِ إِذَا احْتَرَقَتْ أَوْ سُرِقَتْ، فَإِنَّهُ يُنْهِي الْحَوَالَةَ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَيَعُودُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ.

وَإِذَا اسْتَرَدَّ الْمُحِيلُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْعَيْنَ الَّتِي قَيَّدَتِ الْحَوَالَةَ بِالْأَدَاءِ مِنْهَا، لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ وَلَا تَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مُتَعَدٍّ بِدَفْعِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحَالِ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا كَيْدًا يَكِيدُهُ لِلْمُحَالِ، فَيَضْمَنُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لِلْمُحَالِ، وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَا أَخَذَهُ.

(الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ) - ارْتِفَاعُ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عُرُوضًا فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِدَيْنٍ:

149- إِذَا اسْتَوْفَى الْمُحِيلُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنَهُ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ، لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِذَلِكَ وَلَا تَتَأَثَّرُ بِهِ فِي شَيْءٍ لِلسَّبَبِ الْمَذْكُورِ فِي حَالَةِ اسْتِرْدَادِ الْمُحِيلِ الْعَيْنَ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا الْحَوَالَةُ.

150- لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ إِذَا كَانَ الْمَالُ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ دَيْنًا فَاتَ بِأَمْرٍ عَارِضٍ بَعْدَ الْحَوَالَةِ كَذَلِكَ.

مِثَالُهُ: رَجُلٌ بَاعَ بِضَاعَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَأَحَالَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنِهَا، ثُمَّ احْتَرَقَتْ الْبِضَاعَةُ مَثَلًا أَوْ غَرِقَتْ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُشْتَرِي، أَوْ رُدَّتْ بِعَيْبٍ، أَوْ خِيَارٍ مَا- وَلَوْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ- أَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنْ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ، لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ كَانَ قَائِمًا عِنْدَ عَقْدِهَا، فَلَيْسَ يَضُرُّ سُقُوطُهُ بَعْدُ.ثُمَّ إِذَا أَدَّى الْمُحَالُ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ، لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ.

فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي فِي الْمِثَالِ الْآنِفِ هُوَ الْمُحِيلَ لِلْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفِقْرَةِ (145) حُكْمُهُمْ بِبُطْلَانِ الْحَوَالَةِ.

151- وَالشَّافِعِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ تَمَامَ الْمُوَافَقَةِ، فِيمَا اعْتَمَدُوهُ، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، فِيمَا عَلَيْهِ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، وَإِنْ كَانُوا كَسَائِرِ الْحَنَابِلَةِ لَا يُبْطِلُونَ الْحَوَالَةَ بَعْدَ قَبْضِ دَيْنِهَا، وَيَقُولُونَ: يَتْبَعُ صَاحِبُ الْمَالِ مَالَهُ حَيْثُ كَانَ.وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (ر: ف 150) وَقَدْ عَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُوَافِقُوهُمْ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الدَّيْنَ سَقَطَ فِي الْحَالَيْنِ بَعْدَ ثُبُوتٍ، فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، نَظِيرُ مَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ثَمَنُ خَمْرٍ مَوْقُوفٍ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ بُطْلَانُ الْحَوَالَةِ فِيهِمَا، إِلاَّ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ فِي حَالَةِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، وَهَذَا الْغَيْرُ هُوَ الْمُحَالُ.

وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ فِي حَالَةِ الْحَوَالَةِ بِهِ- أَيْ بِالثَّمَنِ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي- لَوْ أَنَّ الْمُحَالَ- وَهُوَ الْبَائِعُ- كَانَ قَدْ أَحَلَّ مَكَانَهُ دَائِنًا لَهُ، بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ، قَبْلَ سُقُوطِ الدَّيْنِ، لَمْ تَبْطُلِ الْحَوَالَةُ أَيْضًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


41-موسوعة الفقه الكويتية (حوالة 7)

حَوَالَةٌ -7

152- ثُمَّ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- فِي حَالَتَيِ الْبُطْلَانِ وَعَدَمِهِ- بَيْنَ أَنْ يَكُونَ طُرُوءُ الطَّارِئِ الْمُسْقِطِ لِلدَّيْنِ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ قَبْضِ دَيْنِ الْحَوَالَةِ أَوْ قَبْلَهُ.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بُطْلَانِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَنْ يَرْجِعَ صَاحِبُ الْمَالِ (الْمُحِيلُ) عَلَى الْمُحَالِ الَّذِي قَبَضَهُ- إِمَّا بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ بِبَدَلِهِ إِنْ كَانَ تَالِفًا- وَلَوْ رَدَّهُ الْمُحَالُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي هَذَا الرَّدِّ، فَقَدْ قَبَضَ بِإِذْنٍ، فَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْقَبْضُ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَعَ عَنِ الْآذِنِ، وَيَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِيمَا قَبَضَهُ.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بَقَاءِ صِحَّتِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ إِلاَّ بَعْدَ الدَّفْعِ.

وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ: فَبَعْدَ الْقَبْضِ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ عِنْدَهُمْ جَزْمًا، بَلْ يَتْبَعُ صَاحِبُ الْمَالِ مَالَهُ حَيْثُ كَانَ.أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَعِنْدَهُمْ قَوْلَانِ: بِالْبُطْلَانِ وَبِعَدَمِهِ.

أَمَّا أَشْهَبُ- وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَ مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ طَرِيقَتَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ- فَيُطْلِقُ الْقَوْلَ هُنَا بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ عَارِضٌ- إِلاَّ أَنَّهُ يُبْطِلُ الْحَوَالَةَ بِالثَّمَنِ أَوْ عَلَيْهِ، إِذَا رَدَّ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ.

153- وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ وَالْحَوَالَةِ عَلَيْهِ، جَارِيَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ: يُسَوُّونَ بَيْنَ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ وَالْحَوَالَةِ عَلَيْهِ فِي الْبُطْلَانِ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ هُنَاكَ، وَلَا يَأْبَهُونَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ، لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْحَوَالَةِ.

وَآخَرُونَ: يُسَوُّونَ بَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ- مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- فَهُمْ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى تَعَلُّقِ حَقِّ أَجْنَبِيٍّ، بَلْ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ قَائِمًا عِنْدَ عَقْدِ الْحَوَالَةِ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ وَصَحَّتِ الْحَوَالَةُ وَبَرِئَتْ بِهَا ذِمَّةُ الْمُحِيلِ، فَلَا يَضُرُّ سُقُوطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ.

وَالْقِيَاسُ الَّذِي كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ نَفْسُهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ: هُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ وَعَلَيْهِ، إِذَا طَرَأَ فَاسِخٌ لِسَبَبِ وُجُوبِهِ، تُقَاسُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَحَدِ عِوَضَيِ الْبَيْعِ، إِذَا طَرَأَ مَا يَفْسَخُهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى زَيْدٌ بِثَوْبِهِ شَيْئًا مَا مِنْ عَمْرٍو، وَبَاعَ زَيْدٌ هَذَا الشَّيْءَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ الثَّوْبَ بِعَيْبٍ، فَإِنَّ الصَّفْقَةَ الثَّانِيَةَ مَاضِيَةٌ.وَالْجَامِعُ فِي هَذَا الْقِيَاسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَفْقَةٌ سَبَقَتْهَا أُخْرَى، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الثَّانِيَةِ طُرُوءُ انْفِسَاخِ الْأُولَى.

4- الِانْتِهَاءُ بِالتَّوَى:

154- التَّوَى فِي اللُّغَةِ: وِزَانُ الْهَوَى- وَقَدْ يُمَدُّ- التَّلَفُ وَالْهَلَاكُ.هَكَذَا عُمِّمَ فِي- الْمِصْبَاحِ- وَقَصَرَهُ صَاحِبُ- الصِّحَاحِ- عَلَى هَلَاكِ الْمَالِ.وَيُشْتَقُّ مِنْهُ فَيُقَالُ: تَوِيَ الْمَالُ- مِنْ بَابِ فَرِحَ- يَتْوَى، فَهُوَ تَوٍ وَتَاوٍ.

أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُنَا: فَالتَّوَى هُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ، أَيْ عَجْزُ الْمُحَالِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.

155- الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ إِذَا تَوِيَ الْمَالُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لَمْ يَقُلْ بِهِ سِوَى الْحَنَفِيَّةِ.

وَالَّذِينَ وَافَقُوا عَلَى الرُّجُوعِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي حَالَاتِ الْغُرُورِ خَاصَّةً، لَمْ يَعْتَبِرُوهُ فَاسِخًا لِلْحَوَالَةِ- إِنْ صَحَّحُوا انْعِقَادَهَا- بَلْ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْخِيَارِ فِي الْإِبْقَاءِ عَلَى عُقْدَةِ الْحَوَالَةِ أَوْ فَسْخِهَا.

لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: إِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْحَوَالَةِ، يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ نَتِيجَةً لِاعْتِبَارِهَا كَالْقَبْضِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ نِهَائِيًّا، فَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ فَلَسِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْفَلَسُ قَائِمًا عِنْدَ الْحَوَالَةِ، وَلَا بِجَحْدِهِ لِلدَّيْنِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ، إِلاَّ أَنْ غَرَّهُ الْمُحِيلُ، بِأَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ ظَنًّا قَوِيًّا فَقْرَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ جَحْدَهُ، فَكَتَمَهُ عَنِ الْمُحَالِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ، بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، لَمْ يَتَحَوَّلِ الدَّيْنُ وَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الْحَوَالَةَ بَاطِلَةٌ.

156- نِعْمَ إِذَا شَرَطَ الْمُحَالُ الرُّجُوعَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ مِنْ قِبَلِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مَعِينٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُنَا يَخْتَلِفُ نُفَاةُ الرُّجُوعِ بِالتَّوَى: فَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، يَقُولُونَ إِنَّ لَهُ شَرْطَهُ.وَيُعَلِّلُهُ الْبَاجِيُّ قَائِلًا: (وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَوَالَةَ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ شَرَطَ فِيهَا سَلَامَةَ ذِمَّتِهِ، فَلَهُ شَرْطُهُ).

أَمَّا جَمَاهِيرُ الشَّافِعِيَّةِ فَيَرَوْنَ أَنَّ شَرْطَ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْعَجْزِ شَرْطٌ مُنَافٍ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَبْطُلُ، ثُمَّ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ نَفْسُهُ أَيْضًا.

157- يَعْتَبِرُ الْحَنَفِيَّةُ التَّوَى نِهَايَةً لِلْحَوَالَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَيَأْتِي.يُخَالِفُهُمْ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى وَغَيْرُهُمْ:

فَالشَّافِعِيَّةُ وَاللَّيْثُ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَلَى أَنَّ التَّوَى لَا يُعْتَبَرُ نِهَايَةً لِلْحَوَالَةِ، وَبِالتَّالِي لَا رُجُوعَ بِهِ لِلْمُحَالِ عَلَى الْمُحِيلِ.وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَحْمَدُ إِلاَّ أَنَّهُ اسْتَثْنَى فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَا إِذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عِنْدَ الْحَوَالَةِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُحَالُ بِإِفْلَاسِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ- إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ عِلْمُ الْمُحَالِ بِذَلِكَ وَرِضَاهُ بِهِ- وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ تَتَّفِقُ مَعَ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ أَيْضًا بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى مَقْبُولٌ وَيُعْمَلُ بِهِ، وَلَكِنْ بِشَرِيطَةِ عِلْمِ الْمُحِيلِ بِهَذَا الْإِفْلَاسِ.

وَأَلْحَقُوا بِهِ عِلْمَهُ بِجَحْدِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا (ف 155).

158- وَبِهَذَا يَتَحَرَّرُ: أَنَّ الْمَذَاهِبَ فِي الرُّجُوعِ بِالتَّوَى ثَلَاثَةٌ:

1- إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِهِ: عَلَى خِلَافٍ فِي تَحْدِيدِ أَسْبَابِهِ أَوْ إِطْلَاقِهَا.

وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (مَا عَدَا زُفَرَ)، وَرَأْيُ بَعْضِ السَّلَفِ.

2- إِطْلَاقُ رَفْضِهِ: وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الشَّافِعِيَّةِ.

3- وُجُوبُ اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ إِذَا شُرِطَ، وَإِلاَّ فَلَا رُجُوعَ إِلاَّ فِي حَالَاتِ الْغُرُورِ- وَعَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.

أَدِلَّةُ الْحَنَفِيَّةِ:

يَسْتَدِلُّ الْحَنَفِيَّةُ لِقَوْلِهِمْ بِالرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى بِمَا يَلِي:

(أ) إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ:

159- فَقَدْ جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ مُفْلِسًا أَنَّهُ يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَقَالَ: (لَيْسَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَوًى)

وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.وَجَاءَ عَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُهُ.

(ب) - الْمَعْقُولُ:

160- قَالُوا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَوَالَةِ أَنْ يَنُوبَ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ فِي الْإِيفَاءِ، لَا مُجَرَّدَ نَقْلِ الْوُجُوبِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، إِذِ الذِّمَمُ لَا تَتَفَاوَتُ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ، هَذَا هُوَ مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، وَمَا تَعَارَفُوهُ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ.

وَعَلَى هَذَا، فَبَرَاءَةُ الْمُحِيلِ لَمْ تَثْبُتْ مُطْلَقَةً، بَلْ مَشْرُوطَةً بِعِوَضٍ.فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ هَذَا الْعِوَضُ عَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ فَشَغَلَهَا كَمَا كَانَ.نَظِيرُهُ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ، أَوْ يَخْرُجَ مُسْتَحَقًّا، أَوْ يَتَبَيَّنَ بِهِ عَيْبٌ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ، إِذِ الْعُرْفُ قَاضٍ بِأَنَّهُ مَا بَذَلَ الثَّمَنَ إِلاَّ لِيَحْصُلَ عَلَى مَبِيعٍ سَلِيمٍ، فَإِذَا فَاتَ هَذَا الْمَقْصُودُ الَّذِي هُوَ فِي قُوَّةِ الْمَشْرُوطِ، عَادَ بِالثَّمَنِ الَّذِي بَذَلَهُ.هَذَا قِيَاسٌ لَا شَكَّ فِي جَلَائِهِ.

أَدِلَّةُ الشَّافِعِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ:

وَيَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيَّةُ وَمُوَافِقُوهُمْ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى مُطْلَقًا بِالْأَدِلَّةِ التَّالِيَةِ:

أ- السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ:

161- فَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» هَذَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ تَوًى وَغَيْرِهِ، وَلَا يُوجَدُ مُخَصِّصٌ لِهَذَا الْعُمُومِ.

ب- آثَارُ الصَّحَابَةِ:

162- مِنْ ذَلِكَ: (أَنَّ حَزْنًا جَدَّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ- رضي الله عنه- دَيْنٌ فَأَحَالَهُ بِهِ، فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: اخْتَرْتَ عَلَيْنَا، أَبْعَدَكَ اللَّهُ) وَرَوَى ابْنُ حَزْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ كَانَ لِأَبِيهِ الْمُسَيِّبِ دَيْنٌ عَلَى إِنْسَانٍ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَلِرَجُلٍ آخَرَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَلْفَا دِرْهَمٍ: فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ لِلْمُسَيِّبِ: أَنَا أُحِيلُكَ عَلَى عَلِيٍّ، وَأَحِلْنِي أَنْتَ عَلَى فُلَانٍ، فَفَعَلَا.فَانْتَصَفَ الْمُسَيِّبُ مِنْ عَلِيٍّ، وَتَلِفَ مَالُ الَّذِي أَحَالَهُ الْمُسَيِّبُ عَلَيْهِ.فَأَخْبَرَ الْمُسَيِّبُ بِذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ.

أَدِلَّةُ الْمَالِكِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ:

162 م- الْمَالِكِيَّةُ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ فِي التَّوَى إِلاَّ فِي حَالَتَيِ الشَّرْطِ أَوِ الْغُرُورِ يَقُولُونَ:

إِنَّ أَدِلَّةَ الشَّافِعِيَّةِ فِي رَفْضِ الرُّجُوعِ مُطْلَقًا مُخَصَّصَةٌ بِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ التَّالِيَيْنِ وَلَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا:

(1) الْمُحَالُ عَلَى مُفْلِسٍ يَجْهَلُ إِفْلَاسَهُ كَمُشْتَرِي السِّلْعَةِ يَجْهَلُ عَيْبَهَا، إِذِ الْإِفْلَاسُ عَيْبٌ فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ بِالْعَيْبِ.وَهَكَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ (2) الْمُحِيلُ الَّذِي يَكْتُمُ إِفْلَاسَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَالْبَائِعِ يُدَلِّسُ عَيْبَ الْمَبِيعِ، فَيَجِبُ أَنْ تَقَعَ الْمَسْئُولِيَّةُ عَلَى الْمُدَلِّسِ، وَلَا تَقْتَصِرَ عَلَى الْمُفْلِسِ.هَكَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ، وَإِنَّمَا خَصُّوا بِالذِّكْرِ فِي قِيَاسِهِمْ حَالَةَ التَّدْلِيسِ مِنْ حَالَاتِ الرَّدِّ بِعَيْبِ الْمَبِيعِ، مَعَ أَنَّهُ عَامٌّ سَوَاءٌ أَدَلَّسَ الْبَائِعُ أَمْ لَمْ يُدَلِّسْ، لِأَنَّ لِلذِّمَمِ خَفَاءً وَسَرِيَّةً لَا تُعْلَمُ، فَصَارَتْ أَشْبَهَ بِالْمَبِيعِ الَّذِي يُجْهَلُ بَاطِنُهُ، وَهَذَا لَا رَدَّ بِعَيْبِهِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ عَنْ تَدْلِيسٍ.

أَسْبَابُ التَّوَى:

163- لِلتَّوَى- فِي الْحَوَالَةِ بِنَوْعَيْهَا الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ- سَبَبَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.وَتَنْفَرِدُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْأَسْبَابِ أَرْبَعَةً فِي الْجُمْلَةِ.

(أَوَّلًا) مَوْتُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا قَبْلَ الْأَدَاءِ.

(ثَانِيًا) جَحْدُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ وَلَا بَيِّنَةَ.

(ثَالِثًا) تَفْلِيسُ الْقَاضِي لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ.

(رَابِعًا) تَلَفُ الْأَمَانَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا الْحَوَالَةُ، أَوْ ضَيَاعُهَا.

أَوَّلًا- مَوْتُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا قَبْلَ الْأَدَاءِ:

164- وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَتْرُكَ مَا يَقْضِي مِنْهُ دَيْنَ الْمُحَالِ، وَلَا كَفِيلًا بِهِ.

أَمَّا إِذَا تَرَكَ مَا يُقْضَى مِنْهُ دَيْنُ الْمُحَالِ- مَهْمَا كَانَ مَا تَرَكَهُ، وَلَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ- فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ إِفْلَاسُهُ، وَلَا يُمْكِنُ حِينَئِذٍ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ، مَهْمَا تَكُنِ الْأَسْبَابُ وَالْمَعَاذِيرُ.حَتَّى إِنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مَلِيئًا وَلَهُ دَيْنٌ سَيُفْضِي انْتِظَارُ قِسْمَتِهِ إِلَى تَأْخِيرِ أَدَاءِ الْحَوَالَةِ لِمَا بَعْدَ الْأَجَلِ لَا يَكُونُ لِلطَّالِبِ أَنْ يَتَعَلَّلَ بِذَلِكَ لِيَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ، لِبَقَاءِ الْحَوَالَةِ، إِذِ التَّرِكَةُ خَلَفٌ عَنْ صَاحِبِهَا فِي الْمَقْصُودِ هُنَا، وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ.

فَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لَا يَفِي إِلاَّ بِبَعْضِ دَيْنِ الْمُحَالِ، فَلَا إِفْلَاسَ وَلَا تَوَى إِلاَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِيهِ.وَلِذَا يَقُولُونَ: (إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَدْيُونًا، قُسِمَ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ الْمُحَالِ بِالْحِصَصِ، وَمَا بَقِيَ لَهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ).

165- كَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ كَفِيلًا بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ، لَا يُعَدُّ مُفْلِسًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ- لِأَنَّ الْكَفِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصِيلِ، وَخَلَفٌ عَنْهُ- إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ الْكَفِيلُ أَيْضًا مُفْلِسًا، أَوْ يُبَرِّئَهُ الْمُحَالُ- لِأَنَّ هَذَا الْإِبْرَاءَ كَالْفَسْخِ لِلْكَفَالَةِ مَعْنًى- وَهَذَا وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ، حِينَ قَالَ: (إِنَّ الْمُحَالَ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِدَيْنِهِ عَلَى الْمُحِيلِ).

هَذَا، وَفِي حَالَةِ الْكَفَالَةِ بِبَعْضِ الدَّيْنِ يَكُونُ التَّوَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِيهِ لَا غَيْرُ.

166- وَلِهَذَا وَذَاكَ يَقُولُ فِي «الْبَزَّازِيَّةِ»: أَخَذَ الْمُحَالُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ كَفِيلًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، لَا يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْكَفَالَةُ حَالَّةً أَمْ مُؤَجَّلَةً، أَمْ كَفَلَ حَالًّا ثُمَّ أَجَّلَهُ الْمَكْفُولُ لَهُ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ- أَيْ بِالْمَالِ- كَفِيلٌ، وَلَكِنْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ وَرَهَنَ بِهِ رَهْنًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، عَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُحَالُ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ فَبَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ حَتَّى مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ، وَالثَّمَنُ لِصَاحِبِ الرَّهْنِ.

ثَانِيًا- جَحْدُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ، وَلَا بَيِّنَةَ:

167- إِذَا جَحَدَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ، وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهَا، فَقَدْ تَحَقَّقَ التَّوَى بِهَذَا السَّبَبِ.فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ هَذَا الْجَحْدَ مَعَ وُجُودِ بَيِّنَةٍ عَلَى الْحَوَالَةِ، سَوَاءٌ أَقَامَهَا الْمُحَالُ أَمِ الْمُحِيلُ.فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عَلَى الْحَوَالَةِ يَحْلِفُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْيَمِينَ: أَنْ لَا حَوَالَةَ عَلَيْهِ، وَفْقًا لِلْقَاعِدَةِ الْقَائِلَةِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».

فَإِذَا قَبِلَ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ جَحْدَهُ هَذَا وَقَضَى بِمَنْعِ الْمُحَالِ عَنْهُ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُ الْمُحَالِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ، أَيْ أَنَّهُ تَوَى.

ثُمَّ إِذَا أَرَادَ الْمُحَالُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِحُجَّةِ التَّوَى بِسَبَبِ هَذَا الْجَحْدِ لَا يَثْبُتُ الْجَحْدُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْمُحَالِ لِأَجْلِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْجَحْدِ بِالْبَيِّنَةِ.

عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِمُقْتَضَاهَا إِلاَّ بِحُضُورِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى غَائِبٍ، لَكِنِ الْمُحَالُ يَكْفِي مَئُونَةَ هَذَا الْقَضَاءِ إِذَا صَدَّقَهُ الْمُحِيلُ فِي دَعْوَى الْجَحْدِ، فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ.

ثَالِثًا- تَفْلِيسُ الْقَاضِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ:

168- وَمَعْنَاهُ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِإِفْلَاسِهِ بَعْدَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ حَالُهُ.

وَلَيْسَ حَتْمًا أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْحَالِ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ الْقَاضِي حُكْمَهُ بِالْإِفْلَاسِ عَنْ شَهَادَةِ شُهُودٍ- وَإِنْ كَانَ هَذَا احْتِيَاطًا حَسَنًا- فَإِنَّهَا شَهَادَةُ نَفْيٍ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، بَلْ يَكْفِيهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ.وَفِي مَوْضُوعِنَا هَذَا لَا يَكُونُ التَّفْلِيسُ إِلاَّ بَعْدَ الْحَبْسِ.

169- وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَهُوَ إِمْكَانُ تَحَقُّقِ التَّوَى بِالتَّفْلِيسِ، مَا إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ دَيْنًا عَلَى مُفْلِسٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَوَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: بَلْ يَحْصُلُ التَّوَى بِتَفْلِيسِ الْقَاضِي لِهَذَا الْمَدِينِ.

رَابِعًا- تَلَفُ الْأَمَانَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا الْحَوَالَةُ أَوْ ضَيَاعُهَا:

170- إِذَا أَصَابَ الْوَدِيعَةَ مَثَلًا تَلَفٌ أَوْ ضَيَاعٌ وَلَوْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْوَدِيعِ- كَمَا لَوِ ادَّعَى ضَيَاعَ الدَّنَانِيرِ الْمُودَعَةِ عِنْدَهُ- تَكُونُ النَّتِيجَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْفِسَاخَ الْحَوَالَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا، وَبَرَاءَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِذَنْ يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ، ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْتَزِمِ التَّسْلِيمَ مُطْلَقًا، بَلْ مُقَيَّدًا بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ، فَلَمْ تَبْقَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةٌ بِشَيْءٍ مَا.

بِخِلَافِ الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ- كَالْمَغْصُوبِ- فَإِنَّ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِهَا لَا تَنْفَسِخُ بِفَوَاتِهَا، لِأَنَّهَا تَفُوتُ- إِنْ فَاتَتْ- إِلَى خَلَفٍ، مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ، فَتَتَعَلَّقُ الْحَوَالَةُ بِهَذَا الْخَلَفِ، فَإِنْ فَاتَتْ لَا إِلَى خَلَفٍ بِأَنْ ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةً- بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ مِنْ أَصْلِهَا، كَمَا سَبَقَ إِيضَاحُهُ (ر: ف 144).

آثَارُ التَّوَى:

171- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَتَى تَحَقَّقَ التَّوَى فِي دَيْنِ الْحَوَالَةِ وَثَبَتَ بِأَحَدِ أَسْبَابِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرَانِ:

(أَوَّلًا) - انْتِهَاءُ الْحَوَالَةِ، فَتَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا أَحْكَامُهَا.

(ثَانِيًا) - رُجُوعُ الْمُحَالِ عَلَى الْمُحِيلِ بِدَيْنِهِ: لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ كَانَتْ مَشْرُوطَةً بِسَلَامَةِ عَاقِبَةِ الْحَوَالَةِ، أَيْ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمَحَلِّ الثَّانِي، فَلَمَّا انْتَفَتِ الشَّرِيطَةُ انْتَفَى الْمَشْرُوطُ، وَعَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ.وَإِذَنْ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ لِلْمُحَالِ جَمِيعُ حُقُوقِ الدَّائِنِينَ تُجَاهَ مَدِينِهِمْ، كَالْمُطَالَبَةِ وَالْمُقَاضَاةِ.

نَعَمْ لَا رُجُوعَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِذَا هُوَ أَحَالَ الطَّالِبَ عَلَى الْمُحَالِ نَفْسِهِ، فَتَوِيَ الْمَالُ عِنْدَهُ- وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ (أَيْ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ) حِينَئِذٍ أَنَّهُ مَحَلٌّ تَوِيَ مَالُ حَوَالَتِهِ-

وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ إِذَا اشْتُرِطَتْ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ صَرَاحَةً- رَغْمَ أَنَّ مُقْتَضَاهَا هَذِهِ الْبَرَاءَةَ دُونَ شَرْطٍ- هَلْ يَرْجِعُ الْمُحَالُ عَلَى الْمُحِيلِ فِي حَالَةِ التَّوَى؟ إِنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهَا حَوَالَةً أَنْ تَثْبُتَ أَحْكَامُ الْحَوَالَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِسَبَبِ التَّوَى، وَمُقْتَضَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ صَرَاحَةً عَدَمُ هَذَا الرُّجُوعِ، لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ بِالتَّوَى فَي هَذِهِ الْحَالَةَ.

وَهْم يَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّةِ عَوْدِ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ حِينَئِذٍ:

(1) فَمِنْ قَائِلٍ إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ طَرِيقَ الْفَسْخِ: أَيْ أَنَّ الْمُحَالَ هُوَ الَّذِي يَفْسَخُ الْحَوَالَةَ مَتَى تَحَقَّقَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّوَى، وَمِنْ ثَمَّ يُعَادُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ، كَالْمُشْتَرِي إِذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطِ عُرْفًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ.

(2) وَمِنْ قَائِلٍ: بَلْ عَنْ طَرِيقِ الِانْفِسَاخِ التِّلْقَائِيِّ: دُونَ حَاجَةٍ إِلَى تَدَخُّلِ الْمُحَالِ، نَظِيرُ الْبَيْعِ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ دُونَ تَدَخُّلٍ مِنْ أَحَدٍ، لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ، وَيَعُودُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ هُنَا- بِنَفْسِ الْعِلَّةِ- تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ تِلْقَائِيًّا عِنْدَ التَّوَى، وَيَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ.

(3) وَمِنْ قَائِلٍ: إِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْجُحُودَ فَالطَّرِيقُ هُوَ الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْتَ عَنْ إِفْلَاسٍ فَالطَّرِيقُ هُوَ الِانْفِسَاخُ.

وَلَا يَخْفَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ آثَارٍ عَمَلِيَّةٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


42-موسوعة الفقه الكويتية (خراج 3)

خَرَاجٌ -3

آدَابُ عَامِلِ الْخَرَاجِ:

1- الرِّفْقُ بِأَهْلِ الْخَرَاجِ:

50- يَنْبَغِي لِعَامِلِ الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِأَهْلِ الْخَرَاجِ.وَمِنْ مَظَاهِرِ الرِّفْقِ فِي اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِالْخَرَاجِ كُلَّمَا خَرَجَتْ غَلَّةٌ، فَيَأْخُذَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ تَمَامَ الْخَرَاجِ فِي آخِرِ الْغَلَّةِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُوَزِّعَ الْخَرَاجَ عَلَى قَدْرِ الْغَلَّةِ، حَتَّى إِنَّ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ تُزْرَعُ فِي الرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ قَسَمَ الْخَرَاجَ نِصْفَيْنِ، فَيَأْخُذُ نِصْفَ الْخَرَاجِ مِنْ غَلَّةِ الرَّبِيعِ، وَيُؤَخِّرُ النِّصْفَ الثَّانِيَ إِلَى غَلَّةِ الْخَرِيفِ.

2- الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ:

51- يَجِبُ عَلَى عَامِلِ الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ، وَتَقْدِيرِهِ، فَيُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، وَلَا يُحَابِي الْقَرِيبَ عَلَى الْبَعِيدِ، وَلَا الشَّرِيفَ عَلَى الْوَضِيعِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمُ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.

3- الْعِفَّةُ:

52- يَجِبُ عَلَى عَامِلِ الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ عَفِيفَ النَّفْسِ، فَلَا يَطْلُبُ رِشْوَةً مِنْ أَحَدٍ، وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: « لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ ».

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الرَّاشِي الْمُعْطِي، وَالْمُرْتَشِي الْآخِذُ.وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُمَا الْعُقُوبَةُ مَعًا إِذَا اسْتَوَيَا فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ.فَرِشَا الْمُعْطِي لِيَنَالَ بِهِ بَاطِلًا وَيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى ظُلْمٍ.فَأَمَّا إِذَا أَعْطَى لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى حَقٍّ أَوْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ.وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَ فِي شَيْءٍ وَهُوَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَأَعْطَى دِينَارَيْنِ حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ.

وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَانِعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، إِذَا خَافَ الظُّلْمَ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: « اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي.فَقَالَ: فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ.ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ.

اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ.اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ.ثَلَاثًا ».

فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي يُقَدِّمُهَا أَهْلُ الْخَرَاجِ إِلَى الْعُمَّالِ حَرَامٌ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ سُحْتٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُبَاحَاتِ، وَإِنَّمَا يُهْدَى إِلَيْهِ لِلْمُحَابَاةِ، وَلِيُخَفِّفَ عَنِ الْمُهْدِي، وَيُسَوِّغَ لَهُ بَعْضَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِيَانَةٌ مِنْهُ، وَبَخْسٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهُ لِأَهْلِهِ.

وَاجِبُ الْإِمَامِ تُجَاهَ عُمَّالِ الْخَرَاجِ:

1- الرِّقَابَةُ الْفَعَّالَةُ عَلَى عُمَّالِ الْخَرَاجِ:

53- لِضَمَانِ تَحْقِيقِ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ رِقَابَةٌ فَعَّالَةٌ عَلَى عُمَّالِ الْخَرَاجِ.وَقَدْ نَصَحَ أَبُو يُوسُفَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدَ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَأَنَا أَرَى أَنْ تَبْعَثَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ يَسْأَلُونَ عَنْ سِيرَةِ الْعُمَّالِ وَمَا عَمِلُوا بِهِ فِي الْبِلَادِ وَكَيْفَ جَبَوْا الْخَرَاجَ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ، وَعَلَى مَا وُظِّفَ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاسْتَقَرَّ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَكَ وَصَحَّ، أُخِذُوا بِمَا اسْتَفْضَلُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْأَخْذِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ الْمُوجِعَةِ وَالنَّكَالِ حَتَّى لَا يَتَعَدَّوْا مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِيهِ.فَإِنَّ كُلَّ مَا عَمِلَ بِهِ وَالِي الْخَرَاجِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَحْلَلْتَ بِوَاحِدٍ

مِنْهُمُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ انْتَهَى غَيْرُهُ وَاتَّقَى وَخَافَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا بِهِمْ تَعَدَّوْا عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاجْتَرَءُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَتَعَسُّفِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ.وَإِذَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنَ الْعَامِلِ وَالْوَالِي تَعَدٍّ بِظُلْمٍ وَعَسْفٍ وَخِيَانَةٍ لَكَ فِي رَعِيَّتِكَ وَاحْتِجَازِ شَيْءٍ مِنَ الْفَيْءِ، أَوْ خَبَثِ طُعْمَتِهِ، أَوْ سُوءِ سِيرَتِهِ فَحَرَامٌ عَلَيْكَ اسْتِعْمَالُهُ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ، وَأَنْ تُقَلِّدَهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ رَعِيَّتِكَ، أَوْ تُشْرِكَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ.بَلْ عَاقِبْهُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمِثْلِ مَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ.

2- ضَرُورَةُ مَنْحِ عُمَّالِ الْخَرَاجِ رَوَاتِبَ تَكْفِيهِمْ:

54- لِاجْتِنَابِ وُقُوعِ عُمَّالِ الْخَرَاجِ فِي الرِّشْوَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، لَا بُدَّ أَنْ تُصْرَفَ لَهُمْ أُجُورٌ « رَوَاتِبُ » مُجْزِيَةٌ تَفِي بِحَاجَاتِهِمْ وَتَكْفِي نَفَقَاتِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنهما-: دَنَّسْتَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ إِذَا لَمْ أَسْتَعِنْ بِأَهْلِ الدِّينِ عَلَى سَلَامَةِ دِينِي فَبِمَنْ أَسْتَعِينُ؟ قَالَ: أَمَا إِنْ فَعَلْتَ فَأَغْنِهِمْ بِالْعِمَالَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ.

يَقُولُ: إِذَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَأَجْزِلْ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ، لَا يَحْتَاجُونَ.

الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: نِظَامُ التَّقْبِيلِ « التَّضْمِينِ »:

55- نَشَأَ عَنْ تَطْبِيقِ الْخَرَاجِ بَعْضُ الظَّوَاهِرِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، كَنِظَامِ التَّقْبِيلِ « التَّضْمِينِ » حَيْثُ بَدَأَ وُجُودُ هَذَا النِّظَامِ فِي الْعَصْرِ الْأُمَوِيِّ، وَانْتَشَرَ فِي الْعَصْرِ الْعَبَّاسِيِّ.وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى تَطْبِيقِ هَذَا النِّظَامِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ كَتَبَ إِلَى نَوْفَلِ بْنِ الْفُرَاتِ- عَامِلِ خَرَاجِ مِصْرَ- سَنَةَ 141 هـ أَنِ اعْرِضْ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ ضَمَانَ خَرَاجِ مِصْرَ.فَإِنْ ضَمِنَهُ فَأَشْهِدْ عَلَيْهِ، وَاشْخُصْ إِلَيَّ (أَيْ عُدْ أَنْتَ إِلَيَّ) وَإِنْ أَبَى فَاعْمَلْ عَلَى الْخَرَاجِ.فَعَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَأَبَى.

وَالتَّقْبِيلُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَبَّلَ أَيْ كَفَلَ، يُقَالُ قَبَلَ (بِالْفَتْحِ) إِذَا كَفَلَ أَوْ قَبُلَ (بِالضَّمِّ) إِذَا صَارَ قَبِيلًا أَيْ كَفِيلًا.

وَالتَّقْبِيلُ فِي الِاصْطِلَاحِ: أَنْ يَتَكَفَّلَ شَخْصٌ بِتَحْصِيلِ الْخَرَاجِ، وَأَخْذِهِ لِنَفْسِهِ مُقَابِلَ قَدْرٍ مُحَدَّدٍ يَدْفَعُهُ.وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِاسْمِ نِظَامِ الِالْتِزَامِ.وَقَدْ عَرَّفَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَتَقَبَّلَ الرَّجُلُ النَّخْلَ وَالشَّجَرَ، وَالزَّرْعَ النَّابِتَ، قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْصَدَ وَيُدْرَكَ.

حُكْمُ التَّقْبِيلِ « التَّضْمِينِ »:

56- لَمْ يَرْتَضِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ هَذَا النِّظَامَ وَاعْتَبَرُوهُ بَاطِلًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ.وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا تَضْمِينُ الْعُمَّالِ لِأَمْوَالِ الْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ، فَبَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ- بِسَنَدِهِ- إِلَى جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنه- يَقُولُ: الْقَبَالَاتُ رِبًا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: الْقَبَالَاتُ حَرَامٌ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَنْ يَتَقَبَّلَ بِالْقَرْيَةِ وَفِيهَا الْعُلُوجُ وَالنَّخْلُ، وَمَعْنَاهُ حُكْمُهُ حُكْمُ الرِّبَا وَقَالُوا: يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا النِّظَامِ الظُّلْمُ وَالْعَسْفُ، وَخَرَابُ الدِّيَارِ.وَقَدْ كَتَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ يُحَذِّرُهُ مِنْ تَطْبِيقِ هَذَا النِّظَامِ مَا نَصُّهُ: وَرَأَيْتُ أَنْ لَا تَقْبَلَ شَيْئًا مِنَ السَّوَادِ وَلَا غَيْرِ السَّوَادِ مِنَ الْبِلَادِ، فَإِنَّ الْمُتَقَبِّلَ إِذَا كَانَ فِي قَبَالَتِهِ فَضْلٌ عَنِ الْخَرَاجِ، عَسَفَ بِأَهْلِ الْخَرَاجِ وَحَمَّلَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَظَلَمَهُمْ، وَأَخَذَهُمْ بِمَا يُجْحِفُ بِهِمْ لِيَسْلَمَ مِمَّا دَخَلَ فِيهِ، وَفِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ خَرَابُ الْبِلَادِ وَهَلَاكُ الرَّعِيَّةِ.

وَالْمُتَقَبِّلُ لَا يُبَالِي بِهَلَاكِهِمْ بِصَلَاحِ أَمْرِهِ فِي قَبَالَتِهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ بَعْدَ أَنْ يَتَقَبَّلَ بِهِ فَضْلًا كَثِيرًا، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَضَرْبٍ لَهُمْ شَدِيدٍ، وَإِقَامَتِهِ لَهُمْ فِي الشَّمْسِ وَتَعْلِيقِ الْحِجَارَةِ فِي الْأَعْنَاقِ، وَعَذَابٍ عَظِيمٍ يَنَالُ أَهْلَ الْخَرَاجِ مِمَّا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَكْرَهُ الْقَبَالَةَ، لِأَنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَحْمِلَ هَذَا الْمُتَقَبِّلُ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ مَا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَيُعَامِلَهُمْ بِمَا وَصَفْتُ لَكَ فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِهِمْ فَيُخَرِّبُوا مَا عَمَّرُوا، وَيَدَعُوهُ فَيَنْكَسِرَ الْخَرَاجُ.

وَالْأَصْلُ فِي كَرَاهَتِهِ هَذَا أَنَّهُ بَيْعُ ثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، وَلَمْ يُخْلَقْ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، فَأَمَّا الْمُعَامَلَةُ عَلَى الثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ، وَكِرَاءُ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ، فَلَيْسَتَا مِنَ الْقَبَالَاتِ وَلَا يَدْخُلَانِ فِيهِمَا، وَقَدْ رُخِّصَ فِي هَذَيْنِ، وَلَا نَعْلَمُ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ الْقَبَالَةِ.

فَإِذَا أَمِنَ الْإِمَامُ عَدَمَ الظُّلْمِ، وَالْجَوْرِ، وَالْعَسْفِ وَرَضِيَ أَهْلُ الْخَرَاجِ بِهَذَا النِّظَامِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ جَاءَ أَهْلُ طَسُّوجٍ- نَاحِيَةٍ- أَوْ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ وَمَعَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ مُوسِرٌ، فَقَالُوا: هَذَا أَخَفُّ عَلَيْنَا، نُظِرَ فِي ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ صَلَاحًا لِأَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَالطَّسُّوجِ، قُبِلَ وَضُمِنَ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ وَصِيرَ مَعَهُ أَمِيرٌ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ يُوثَقُ بِدِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ أَرَادَ ظُلْمَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ، أَوِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ أَوْ تَحْمِيلَهُ شَيْئًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، مَنَعَهُ الْأَمِيرُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَنْعِ.

وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى عَيْنًا بِمَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ، وَمَا رَأَى أَنَّهُ أَصْلَحُ لِأَهْلِ الْخَرَاجِ، وَأَوْفَرُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عَمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَبَالَةِ، وَالْوِلَايَةِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالتَّقَدُّمِ إِلَى الْمُتَقَبِّلِ، وَالْوَالِي يَرْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ الرَّعِيَّةِ، وَالْوَعِيدُ لَهُ إِنْ حَمَّلَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، أَوْ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ فَعَلَ فَفُوا لَهُ بِمَا أَوْعَدَ بِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا وَنَاهِيًا لِغَيْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

(وَسَيَأْتِي التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: قَبَالَةٌ).

مُسْقِطَاتُ الْخَرَاجِ:

أَوَّلًا: انْعِدَامُ صَلَاحِيَّةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ:

57- الْمَقْصُودُ بِانْعِدَامِ صَلَاحِيَّةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ هُوَ أَنْ يَطْرَأَ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ طَارِئٌ خَارِجٌ عَنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ، يَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا كَانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا، أَوْ غَلَبَتِهِ عَلَيْهَا بِحَيْثُ تُصْبِحُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلزِّرَاعَةِ.

فَإِذَا تَعَرَّضَتِ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ لِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهَا الْخَرَاجُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَرَاجُ الْوَاجِبُ مُقَاسَمَةً، أَمْ وَظِيفَةً، فَيَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ.وَيَسْقُطُ خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ.

هَذَا فِي حَالَةِ عَدَمِ إِمْكَانِيَّةِ إِصْلَاحِهَا وَإِعْمَارِهَا، أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ إِصْلَاحُهَا وَإِعْمَارُهَا فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَعْمُرَ الْأَرْضَ وَيُصْلِحَهَا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَلَا يَجُوزُ إِلْزَامُ أَهْلِهَا بِعِمَارَتِهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.

فَإِنْ سَأَلَهُمْ أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَعْتَدُّ لَهُمْ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَيْهَا مِنْ خَرَاجِهَا فَرَضُوا بِذَلِكَ جَازَ.

وَإِذَا كَانَ سَهْمُ الْمَصَالِحِ عَاجِزًا عَنْ سَدِّ نَفَقَاتِ إِصْلَاحِ هَذِهِ الْأَرْضِ أُجْبِرَ أَهْلُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُمْ وَلِأَصْحَابِ الْفَيْءِ، وَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِتِلْكَ الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ بَارَتْ فِي غَيْرِ الزِّرَاعَةِ كَالرَّعْيِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُوضَعُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ جَدِيدٌ بِحَسَبِ مَا تَحْتَمِلُهُ.

وَهَذِهِ الْأَرْضُ تَخْتَلِفُ عَنْ أَرْضِ الْمَوَاتِ، فَإِنَّ أَرْضَ الْمَوَاتِ مُبَاحَةٌ.

ثَانِيًا: تَعْطِيلُ الْأَرْضِ عَنِ الزِّرَاعَةِ:

58- إِنْ كَانَ التَّعْطِيلُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، كَأَنْ يَدْهَمَ الْبِلَادَ عَدُوٌّ يَمْنَعُ أَهْلَ الْأَرْضِ مِنْ زِرَاعَتِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، أَوْ يَلْحَقَهُمْ جَوْرٌ مِنَ الْوُلَاةِ لَمْ تُمْكِنْهُمُ الْإِقَامَةُ عَلَيْهِ.فَهَذَا يُسْقِطُ الْخَرَاجَ عَنْهُمْ حَتَّى تَعُودَ الْأَرْضُ كَمَا كَانَتْ وَيَتَمَكَّنُوا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا.

وَإِنْ كَانَ التَّعْطِيلُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ.

فَإِذَا عَطَّلَهَا بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ كَأَنْ يَتْرُكَهَا بِلَا زِرَاعَةٍ وَاسْتِغْلَالٍ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَقَادِرٌ عَلَى زِرَاعَتِهَا سَقَطَ عَنْهُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ.

وَلَا يُقِرُّ الْمُفَرِّطُ عَلَى عَدَمِ اسْتِغْلَالِهِ لِلْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِزِرَاعَتِهَا وَاسْتِغْلَالِهَا لِئَلاَّ يَتَضَرَّرَ أَصْحَابُ الْفَيْءِ.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلَا يَسْقُطُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ فَإِذَا عَطَّلَ الْمُسْتَأْجِرُ الِانْتِفَاعَ بِالْمُؤَجَّرِ لَمْ تَسْقُطِ الْأُجْرَةُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ بِتَعْطِيلِ الْأَرْضِ عَنِ الزِّرَاعَةِ، سَوَاءٌ عَطَّلَهَا مُخْتَارًا أَمْ مَعْذُورًا، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ.

وَإِذَا عَطَّلَهَا بِلَا تَفْرِيطٍ مِنْهُ كَأَنْ تَرَكَ زِرَاعَتَهَا لِعَدَمِ قُوَّتِهَا وَقُدْرَتِهِ الْجِسْمِيَّةِ، أَوْ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الزِّرَاعَةِ وَنَفَقَاتِهَا يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَيَسْقُطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْخَرَاجِ.

وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْأَرْضِ تَصَرُّفًا يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ.

وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مِنْ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ صَاحِبَ الْأَرْضِ بِتَأْجِيرِهَا لِمَنْ يَقُومُ بِزِرَاعَتِهَا وَإِلاَّ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهَا، وَلَا تُتْرَكُ بِيَدِهِ خَرَابًا وَإِنْ دَفَعَ خَرَاجَهَا، لِئَلاَّ تَصِيرَ بِالْخَرَابِ مَوَاتًا، فَيَتَضَرَّرَ أَهْلُ الْفَيْءِ بِتَعْطِيلِهَا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَرْضَ لِغَيْرِ صَاحِبِهَا مُزَارَعَةً، وَيَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ نَصِيبِهِ وَيُمْسِكُ الْبَاقِيَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ آجَرَهَا وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ شَاءَ زَرَعَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِذَا حَصَلَتِ الْغَلَّةُ أَخَذَ قَدْرَ الْخَرَاجِ وَمَا أَنْفَقَ، وَيَحْفَظُ الْبَاقِيَ لِمُسْتَغِلِّ الْأَرْضِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ لِلْعَاجِزِ كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَرْضًا لِيَعْمَلَ وَيَسْتَغِلَّ أَرْضَهُ.

فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ مَنْ يَعْمَلُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً أَوْ بِالْأُجْرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بَيْعَهَا وَأَخْذَ الْخَرَاجِ مِنْ ثَمَنِهَا، وَيُحْفَظُ الْبَاقِي لِمُسْتَغِلِّ الْأَرْضِ.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِهَا، وَإِنَّمَا يَحْجُرُهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْعَامَّةِ.

ثَالِثًا: هَلَاكُ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ:

59- إِذَا زَرَعَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَرْضَهُ بِزَرْعٍ مَا، فَأَصَابَتْهُ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا، كَغَرَقٍ، أَوْ حَرْقٍ، أَوْ شِدَّةِ بَرْدٍ، أَوْ جَرَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ قَبْلَ الْحَصَادِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ.

أ- فَإِذَا هَلَكَ الزَّرْعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ الْحَصَادِ يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ إِذَا أَدَّتْ تِلْكَ الْآفَةُ إِلَى هَلَاكِ جَمِيعِ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَيَسْقُطُ عَنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُصَابٌ وَيَسْتَحِقُّ الْمَعُونَةَ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَرَاضِي، فَلَا يُمْكِنُ إِيجَابُهَا بَعْدَ هَلَاكِ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ اسْتِغْلَالِ الْأَرْضِ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِسُقُوطِ الْخَرَاجِ بِهَذَا السَّبَبِ شَرْطَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ لَا تَبْقَى مِنَ السَّنَةِ مُدَّةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنْ بَقِيَتْ مِنَ السَّنَةِ مُدَّةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ أَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ ثَانِيَةً لَمْ يَسْقُطِ الْخَرَاجُ لِتَحَقُّقِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ، وَقَدَّرُوا الْمُدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.

وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَبْقَى مِنَ الزَّرْعِ ضِعْفُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الزَّرْعِ ضِعْفُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَسْقُطِ الْخَرَاجُ وَيُؤْخَذُ مِنَ الزَّارِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ.وَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ ضِعْفِ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ، وَيُكْتَفَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَخْذِ نِصْفِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ خَصْمِ نَفَقَاتِ الزِّرَاعَةِ.

هَذَا مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب- إِذَا هَلَكَ الْخَارِجُ مِنَ الْأَرْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا، كَغَرَقٍ، وَحَرْقٍ يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً.

جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَلَوْ هَلَكَ الْخَارِجُ فِي خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ قَبْلَ الْحَصَادِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْمِلْكِ فَلَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْخَارِجِ بَعْدَ الْحَصَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا، وَبِالْحَصَادِ قَدْ تَحَقَّقَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ، وَحَصَلَتِ الزِّرَاعَةُ بِالْفِعْلِ فَلَا يَسْقُطُ الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ بِهَلَاكِ الْخَارِجِ بَعْدَ الْحَصَادِ.

جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ هَلَاكَ الْخَارِجِ قَبْلَ الْحَصَادِ يُسْقِطُ الْخَرَاجَ، وَهَلَاكُهُ بَعْدَ الْحَصَادِ لَا يُسْقِطُهُ.وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى نُصُوصٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

رَابِعًا: إِسْقَاطُ الْإِمَامِ لِلْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ

60- إِذَا رَأَى الْإِمَامُ إِسْقَاطَ الْخَرَاجِ عَمَّنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ لِمَصْلَحَةٍ، أَوْ لِكَوْنِ مَنْ بِيَدِهِ تِلْكَ الْأَرْضُ يَقُومُ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا الْمُسْلِمُونَ، كَالْقَضَاءِ، أَوِ التَّدْرِيسِ، أَوْ حِمَايَةِ الثُّغُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَوِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْأَعْدَاءِ لِمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

فَهَلْ يَجُوزُ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ لَا؟ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَهُ حَقُّ النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِعْلُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ أَنَّ: (تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ) وَقَالُوا: لَوْ صَارَ الْخَرَاجُ فِي يَدِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ شَخْصًا إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ فَجَازَ لَهُ تَرْكُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْخَرَاجِ لَهُ حَقٌّ فِي الْخَرَاجِ فَصَحَّ تَرْكُهُ عَلَيْهِ.

وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الَّذِي يَنْوِي الْإِمَامُ إِسْقَاطَ الْخَرَاجِ عَنْهُ، مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَ الْخَرَاجَ كَالْفَقِيهِ وَالْجُنْدِيِّ، وَالْقَاضِي، وَالْمُؤَذِّنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِسْقَاطُ الْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِسْقَاطُهُ كَالْعُشْرِ.وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى نُصُوصٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

خَامِسًا: الْبِنَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:

61- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِمْرَارِ وَظِيفَةِ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَعْدَ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا أَبْنِيَةٌ وَحَوَانِيتُ.

1- فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِمْرَارِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ وَعَدَمِ سُقُوطِهِ عَنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ.رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، تَرَى أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ عَمَّا فِي يَدِهِ مِنْ دَارٍ، أَوْ ضَيْعَةٍ عَلَى مَا وَظَّفَ عُمَرُ- رضي الله عنه- عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ؟ فَقَالَ مَا أَجْوَدُ هَذَا.فَقَالَ يَعْقُوبُ: بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تُعْطِي مِنْ دَارِكَ الْخَرَاجَ فَتَتَصَدَّقُ بِهِ.فَقَالَ: نَعَمْ.وَقَدْ عَلَّلَ عُلَمَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِعْلَ أَحْمَدَ بِقَوْلِهِمْ: (إِنَّمَا كَانَ أَحْمَدُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّ بَغْدَادَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ الَّتِي وَضَعَ عَلَيْهَا عُمَرُ الْخَرَاجَ، فَلَمَّا بُنِيَتْ مَسَاكِنُ، رَاعَى أَحْمَدُ حَالَهَا الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ عُمَرَ- رضي الله عنه-.

2- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَعْدَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ أَبْنِيَةً وَحَوَانِيتَ، وَلَا يَجِبُ الْخَرَاجُ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ إِذَا جَعَلَهَا بُسْتَانًا، أَوْ مَزْرَعَةً؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِنَمَاءِ الْأَرْضِ وَغَلَّتِهَا.

3- وَيَرَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ أَبْنِيَةً ضَرُورِيَّةً لَا غِنًى لَهُ عَنْهَا.كَأَنْ يَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا يَسْكُنُهُ.وَأَمَّا الْأَبْنِيَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ فَلَا تَكُونُ سَبَبًا فِي سُقُوطِ الْخَرَاجِ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ كَأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا أَبْنِيَةً لِلِاسْتِغْلَالِ وَالنَّمَاءِ.

سَادِسًا: إِسْلَامُ مَالِكِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوِ

انْتِقَالُهَا إِلَى مُسْلِمٍ:

62- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَرَاجَ الْعَنْوِيَّ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بِإِسْلَامِ صَاحِبِهَا وَلَا بِانْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً مَوْقُوفَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهَا بِمَثَابَةِ الْأُجْرَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْلَامِ مَنْ بِيَدِهِ هَذِهِ الْأَرْضُ وَلَا بِانْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ (الْمَضْرُوبِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا عَلَى أَنَّ لَهُمُ الْأَرْضَ وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ) هَلْ يَسْقُطُ بَعْدَ إِسْلَامِ صَاحِبِهَا، أَوِ انْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ:

1- فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ إِذَا أَسْلَمَ صَاحِبُ الْأَرْضِ، أَوِ انْتَقَلَتْ إِلَى مُسْلِمٍ، لِمَا رَوَى « الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْبَحْرَيْنِ، أَوْ إِلَى هَجَرَ، فَكُنْتُ آتِي الْحَائِطَ يَكُونُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمْ، فَآخُذُ مِنَ الْمُسْلِمِ الْعُشْرَ، وَمِنَ الْمُشْرِكِ الْخَرَاجَ ».وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ الصُّلْحِيَّ بِمَثَابَةِ الْجِزْيَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ، فَإِذَا زَالَ الْكُفْرُ سَقَطَ الْخَرَاجُ كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ.

2- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ قِيَاسًا عَلَى الْخَرَاجِ الْعَنْوِيِّ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، فَإِذَا أَسْلَمَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَلَا ضَرُورَةَ لِتَغَيُّرِ الْمُؤْنَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ- أَيْ فِي الْجُمْلَةِ-

اجْتِمَاعُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ:

63- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يَمْلِكُ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ يُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ « الْعُشْرِ » وَالْخَرَاجِ مَعًا إِذَا زَرَعَهَا أَوِ انْتَفَعَ بِهَا.

وَاسْتَدَلُّوا لِاجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}.فَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ أَرْضٍ يُنْتَفَعُ بِهَا وَتُزْرَعُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَرَاجِيَّةً، أَوْ عُشْرِيَّةً، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: « فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ ».وَلِأَنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا، وَسَبَبًا، وَمَصْرِفًا، وَدَلِيلًا: أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا فَلِأَنَّ الْعُشْرَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَالْخَرَاجُ فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ.وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا سَبَبًا فَلِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّمَاءُ حَقِيقِيًّا أَمْ تَقْدِيرِيًّا بِأَنْ يُتَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ.

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا مَصْرِفًا، فَلِأَنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ: الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ، الْمُحَدَّدُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، وَمَصْرِفَ الْخَرَاجِ: الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ.

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا دَلِيلًا، فَلِأَنَّ دَلِيلَ الْعُشْرِ: النَّصُّ، وَدَلِيلَ الْخَرَاجِ الِاجْتِهَادُ الْمَبْنِيُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ.

وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُهُمَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلَا مَانِعَ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ، كَاجْتِمَاعِ الْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ عِنْدَ قَتْلِ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا مُسْلِمٌ، وَلَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ سِوَى الْخَرَاجِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « لَا يَجْتَمِعُ عَلَى الْمُسْلِمِ خَرَاجٌ وَعُشْرٌ ».

وَبِمَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي دِهْقَانَةَ نَهْرِ الْمَلِكِ- كُورَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي بُنِيَتْ بِهَا بَغْدَادُ- أَسْلَمَتْ فَكَتَبَ: أَنِ ادْفَعُوا إِلَيْهَا أَرْضَهَا تُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ.

فَأَمَرَ عُمَرُ- رضي الله عنه- بِأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَخْذِ الْعُشْرِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لأَمَرَ بِهِ.

وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَوُلَاةِ الْجَوْرِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ عُشْرًا؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ كَزَكَاةِ السَّائِمَةِ وَالتِّجَارَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ.

مَصَارِفُ الْخَرَاجِ:

64- لَمْ يُفَرِّقِ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْخَرَاجِ وَالْفَيْءِ فِي الصَّرْفِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَيْءِ وَالزَّكَاةِ مِنْ جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.

فَالْفَيْءُ يَتَوَقَّفُ صَرْفُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي تَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَتَقْدِيمِ الْأَهَمِّ عَلَى الْمُهِمِّ، وَالزَّكَاةُ تُصْرَفُ فِي الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا آيَةُ الصَّدَقَاتِ.وَالْغَنِيمَةُ تُخَمَّسُ، وَتُقْسَمُ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا حَدَّدَتْ آيَةُ الْغَنَائِمِ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: يُصْرَفُ خَرَاجُهَا- أَيْ خَرَاجُ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً- فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُبُلِ الْخَيْرِ.

(وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَمَصْرِفُ الْخَرَاجِ كَفَيْءٍ لِأَنَّهُ مِنْهُ).

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنَ الْخَرَاجِ وَأَخَوَاتِهِ فَعِمَارَةُ الدِّينِ، وَإِصْلَاحُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ رِزْقُ الْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ وَأَهْلِ الْفَتْوَى مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُقَاتِلَةِ، وَرَصْفُ الطُّرُقِ وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالْجُسُورِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَإِصْلَاحُ الْأَنْهَارِ الَّتِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا.

(وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ خَرَاجِ هَذِهِ الْأَرْضِ يَصْرِفُهُ الْإِمَامُ فِي مَصَالِحِ

الْمُسْلِمِينَ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِمْ).

هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْفُقَهَاءُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ الْمَصْرُوفِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: بَيْتُ الْمَالِ، وَفَيْءٌ).

حُكْمُ تَخْمِيسِ الْخَرَاجِ:

65- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ لَا يُخَمَّسُ، بَلْ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي مِنْهُ لِلْمُقَاتِلِينَ، وَالْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْعُمَّالِ، وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَكُلِّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَيُصْرَفُ عَلَى بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَشَقِّ الطُّرُقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَبْدَأُ الْإِمَامُ بِالْأَهَمِّ فَالْمُهِمِّ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ شَيْءٌ قَسَمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَارِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُخَمِّسَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا أُجْلُوا عَنْهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهَا فَيْءٌ لَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ بِمُحَارَبَتِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَسْلِيطِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً يَفْعَلُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ.وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَاصَّةً، يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ.هَذَا مَا كَانَ يُفْعَلُ بِالْفَيْءِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَدْ أَصْبَحَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ خَاصَّةً، يَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَدِّمُ الْأَهَمَّ عَلَى الْمُهِمِّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُمَا كَانَا يَجْعَلَانِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً.

وَلِذَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْفَيْءِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُنْصَرُ بِسَبَبِ قَوْمِهِ لَا بِسَبَبِهِ خَاصَّةً فَكَانَتْ أَمْوَالُ الْفَيْءِ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ يُخَمَّسُ لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.

فَذِكْرُ الْأَصْنَافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَابِ التَّعْدِيدِ لِلْأَصْنَافِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْمَالَ وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَتَعَدَّى بِهِ هَؤُلَاءِ.

(انْظُرْ: خُمُسٌ، وَفَيْءٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


43-موسوعة الفقه الكويتية (خيار الشرط 3)

خِيَارُ الشَّرْطِ -3

الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ:

36- إِذَا كَانَتْ زَوَائِدُ مَحَلِّ الْخِيَارِ مِنْ نَوْعِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْأَصْلِ، فَفِيهَا يَجْرِي الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.وَهَذَا الْخِلَافُ لَا مَجَالَ لَهُ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُ الْأَصْلَ وَالزَّوَائِدَ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ بِالْإِمْضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوَائِدَ كَسْبُ مِلْكِهِ فَكَانَتْ مِلْكًا لَهُ، أَمَّا إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ وَإِعَادَةَ مَحَلِّ الْخِيَارِ إِلَى الْبَائِعِ فَهَلْ يُعِيدُ مَعَهَا الزَّوَائِدَ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرُدُّ الْأَصْلَ مَعَ الزَّوَائِدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ كَانَ مَوْقُوفًا، فَإِذَا حَصَلَ الْفَسْخُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَالزِّيَادَةُ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتُرَدُّ إِلَيْهِ مَعَ الْأَصْلِ.وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: الْمَبِيعُ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتِ الزَّوَائِدُ حَاصِلَةً عَلَى مِلْكِهِ، فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسْخِ فِي الْأَصْلِ لَا فِي الزَّوَائِدِ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُهَا هُوَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلَافِ الْكَبِيرِ السَّابِقِ.

الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ:

37- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ.وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ يَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِمَحَلِّ الْخِيَارِ فَيَمْلِكُ زَوَائِدَهُ مَهْمَا كَانَ وَصْفُهَا.وَعِنْدَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ،.

وَيَكُونُ مَصِيرُ هَذِهِ الصُّورَةِ مُمَاثِلًا لِلصُّورَةِ السَّابِقَةِ (صُورَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ) حَيْثُ يَظَلُّ صَاحِبُ الْخِيَارِ مُتَمَكِّنًا مِنَ اسْتِعْمَالِ خِيَارِهِ.

أَحْكَامُ الزَّوَائِدِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:

لِلْمَالِكِيَّةِ مَنْحًى آخَرُ فِي شَأْنِ الزَّوَائِدِ، فَهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ، كَمَا لَمْ يَعْتَبِرُوا التَّوَلُّدَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ خَصُّوا مَا يُعْتَبَرُ جُزْءًا بَاقِيًا مِنَ الْمَبِيعِ فَاعْتَبَرُوهُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْعَقْدِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْوَلَدِ وَالصُّوفِ، فَالْوَلَدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَلَّةٍ- وَمِثْلُهُ الصُّوفُ- تَمَّ أَمْ لَا «لِأَنَّهُمَا كَجُزْءِ الْمَبِيعِ، أَيْ أَنَّ الْوَلَدَ كَالْجُزْءِ الْبَاقِي، بِخِلَافِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ كَجُزْءٍ فَاتَ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ» يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأَصْلِ- زَمَنَ الْخِيَارِ- يَظَلُّ لِلْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَعْمِلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ الزَّوَائِدُ كُلُّهَا- عَدَا الْوَلَدِ وَالصُّوفِ- لِلْبَائِعِ.

وَمِنْ ذَلِكَ:

1- الْغَلَّةُ الْحَادِثَةُ زَمَنَ الْخِيَ

"رِ مِنْ لَبَنٍ وَسَمْنٍ وَبَيْضٍ، لِلْبَائِعِ أَيْضًا.

2- أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَبِيعِ بِالْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ زَوَائِدُ مُنْفَصِلَةٌ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، كَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ وَالثَّمَرِ، فَهِيَ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ وَهُوَ مَنِ انْفَرَدَ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ كَحُكْمِ الْبَيْعِ نَفْسِهِ، فَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَهِيَ لِلْبَائِعِ وَإِلاَّ فَلِلْمُشْتَرِي.أَمَّا الزَّوَائِدُ الْمُتَّصِلَةُ فَتَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ.

وَالْحَمْلُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْبَيْعِ كَالْأَصْلِ فِي أَنَّهُ مَبِيعٌ لِمُقَابَلَتِهِ بِقِسْطٍ مِنَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ بِيعَ مَعَهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَا كَالزَّوَائِدِ.أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالزَّوَائِدُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَيَشْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ كَالْكَسْبِ وَالْأُجْرَةِ بَلْ لَوْ كَانَتْ نَمَاءً مُنْفَصِلًا مُتَوَلِّدًا مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ (وَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُعْتَبَرُ الزَّوَائِدُ أَمَانَةً عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَا يَضْمَنُهَا لِلْمُشْتَرِي إِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ خِلَافًا لِحُكْمِ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ قَبْلَ قَبْضِهِ) وَسَوَاءٌ تَمَخَّضَ الْخِيَارُ عَنْ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِلْمَذْهَبِ بِحَدِيثِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».وَهَذَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَاسْتَدَلَّ لَهُ أَيْضًا بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَى الْمُشْتَرِي، أَيْ فَهِيَ تَتْبَعُهُ فِي الِانْتِقَالِ.

رَابِعًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ

38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْبَدَلَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ ابْتِدَاءً، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً لِاحْتِمَالِ الْفَسْخِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْخِيَارِ، أَوْ يُسْقِطُ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ.

أَمَّا التَّسْلِيمُ لِلثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ اخْتِيَارًا وَطَوَاعِيَةً فَلَا مَانِعَ مِنْهُ عِنْدَهُمْ أَيْ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَإِذَا بَادَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا إِلَى تَسْلِيمِ مَا بِيَدِهِ- فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ- فَهُوَ جَائِزٌ، لِأَيٍّ مِنْهُمَا كَانَ الْخِيَارُ، وَلَا أَثَرَ لِلتَّسْلِيمِ عَلَى الْخِيَارِ فَنَقْدُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ أَوْ دَفْعُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ الِاخْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي صُلُوحِهِ أَوْ عَدَمِهِ، أَمَّا إِنْ سَلَّمَهُ الْمَبِيعَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ- وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ- فَإِنَّ خِيَارَهُ يَبْطُلُ،.

وَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا تَطَوُّعًا فَامْتَنَعَ الْآخَرُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَأَبُو حَنِيفَةَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ أَيًّا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ إِجْبَارِ الْآخَرِ أَيْضًا وَهُمْ يَقُولُونَ: بِأَنَّ لِمَنْ سَلَّمَ مُؤَمِّلًا التَّسْلِيمَ مِنْ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَحْدُثْ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ.

سُقُوطُ الْخِيَارِ:

39- يَسْقُطُ الْخِيَارُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ بِعَدَدٍ مِنَ الْأَسْبَابِ هِيَ: الْبُلُوغُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الَّذِي عَقَدَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ، وَالْجُنُونُ وَنَحْوُهُ، وَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا السَّبَبِ الْأَخِيرِ:

أ- بُلُوغُ الصَّبِيِّ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:

40- يَرَى الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ دُخُولَ الصَّغِيرِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فِي طَوْرِ الْبُلُوغِ، فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمُحَدَّدَةِ بِوَقْتٍ يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ سَعْيًا مِنْهُمَا لِمَصْلَحَةِ الصَّبِيِّ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَقْدُ.أَمَّا الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ، فَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَسْقُطُ، ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ فِي مَصِيرِ الْخِيَارِ بَعْدَئِذٍ هَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّغِيرِ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بِدُونِ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ، أَوْ يَبْقَى لِلْوَصِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ؟

وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب- طُرُوءُ الْجُنُونِ وَنَحْوِهِ:

41- قَدْ يَطْرَأُ الْجُنُونُ عَلَى الْعَاقِدِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، وَمِثْلُهُ (مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ مِنْ حَيْثُ ذَهَابُ الْعَقْلِ وَعَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنْ إِظْهَارِ مَوْقِفِهِ، كَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ أَوِ السَّكْتَةِ) فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَغْرَقَ وَقْتَ الْخِيَارِ مِنْ حَالَةِ تَوْقِيتِهِ سَقَطَ الْخِيَارُ.لَكِنَّ سُقُوطَهُ لَيْسَ لِكَوْنِ الْجُنُونِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْخِيَارِ، بَلْ لِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ صُدُورِ فَسْخٍ مِنْهُ، فَالْجُنُونُ نَفْسُهُ لَيْسَ مُسْقِطًا بَلِ اسْتِغْرَاقُ الْوَقْتِ كُلِّهِ دُونَ فَسْخٍ، وَلِذَا لَوْ أَفَاقَ خِلَالَ الْمُدَّةِ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا فِي الْأَصَحِّ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ.قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِغْمَاءَ وَالْجُنُونَ لَا يُسْقِطَانِ الْخِيَارَ وَإِنَّمَا الْمُسْقِطُ لَهُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ.وَاخْتُلِفَ فِي السُّكْرِ هَلْ هُوَ فِي حُكْمِ الْجُنُونِ أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ بِالْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُسْتَخْدَمَةِ فِي الطِّبِّ، وَبَيْنَ السُّكْرِ بِالْمُحَرَّمِ.وَيُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلَاتِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ جُنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَفِيقُ أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ طُولٍ يَضُرُّ الصَّبْرُ إِلَيْهِ بِالْآخَرِ، نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي الْأَصْلَحِ لَهُ، أَيْ لَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي انْتِقَالِ الْخِيَارِ.

ج- تَغَيُّرُ مَحَلِّ الْخِيَارِ:

42- إِذَا كَانَ تَغَيُّرُ مَحَلِّ الْخِيَارِ بِالْهَلَاكِ وَالتَّعَيُّبِ أَوِ النُّقْصَانِ، فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أُسْوَةً بِالْعَقْدِ الْبَاتِّ، فَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْخِيَارِ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْهَلَاكُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ، فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا.وَهُوَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ لِلْعَقْدِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ تَبَعًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَيَرْبِطُونَهُ بِمَسْأَلَةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقُ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ أَوْ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي- فَالْمِلْكُ لِلْبَائِعِ- فَإِذَا هَلَكَ لَمْ تُمْكِنُ الْمُبَادَلَةُ عَلَيْهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الْخِيَارُ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالْهَلَاكُ فِي عِدَادِ مُسْقِطَاتِ الْخِيَارِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا الْعَقْدُ لِأَنَّهُ عَجْزٌ عَنِ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ حِينَ أَشْرَفَتِ السِّلْعَةُ عَلَى الْهَلَاكِ.وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْبَائِعِ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا مَعًا، فَلَا أَثَرَ لِلْهَلَاكِ عَلَى الْعَقْدِ أَوِ الْخِيَارِ إِنَّمَا تَتَأَثَّرُ تَصْفِيَةُ هَذَا الْعَقْدِ، فَإِنِ اخْتَارَ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْإِمْضَاءَ فَالْوَاجِبُ هُوَ الثَّمَنُ وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَالْوَاجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ بَدَلًا مِنَ الْمَبِيعِ. وَمِثْلُ الْهَلَاكِ النُّقْصَانُ بِالتَّعَيُّبِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ أَوْ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ مَهْمَا كَانَ قَدْرُهُ أَوْ فَاعِلُهُ، لِإِخْلَالِ النُّقْصَانِ بِشَرْطِ رَدِّ الْمَبِيعِ كَمَا قُبِضَ.أَمَّا لَوْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْمَرَضِ فَالْخِيَارُ بَاقٍ وَلَا يُرَدُّ حَتَّى يَبْرَأَ فِي الْمُدَّةِ فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يَبْرَأْ لَزِمَ الْبَيْعُ.

43- وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ بِالزِّيَادَةِ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا أَثَرَ لَهَا فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلَا أَثَرَ لَهَا أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَهْمَا كَانَ نَوْعُهَا وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ، أَمَّا الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تُسْقِطُ الْخِيَارَ لِتَعَذُّرِ وُرُودِ الْفَسْخِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَبِيعٍ، فَالرَّدُّ بِدُونِهَا مُؤَدٍّ لِشُبْهَةِ الرِّبَا، وَإِنْ رَدَّهَا مَعَ الْأَصْلِ كَانَ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ.

د- إِمْضَاءُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ

44- إِذَا تَعَاقَدَ شَرِيكَانِ مَعَ آخَرَ عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ الْخِيَارُ بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا جَمِيعًا وَلَزِمَ الْعَقْدُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ الْفَسْخَ، أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَالْخِيَارُ لَا يَسْقُطُ عَمَّنْ لَمْ يُجِزِ الْعَقْدَ بَلْ يَبْقَى خِيَارُهُ عَلَى حَالِهِ.

وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

هـ- مَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ

45- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ أَصِيلًا أَمْ نَائِبًا (وَكِيلًا، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ وَلِيًّا) فَبِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَسْقُطُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى بَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْوَرَثَةِ، فَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ مُسْقِطًا، بَلْ هُوَ نَاقِلٌ فَقَطْ.

أَمَّا وَفَاةُ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَلَا يَسْقُطُ بِهَا الْخِيَارُ، بَلْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ وَيَكُونُ رَدُّهُ إِنْ شَاءَ الرَّدَّ فِي مُوَاجِهَةِ الْوَرَثَةِ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَأَجْمَعُوا (أَيِ الْحَنَفِيَّةُ) أَنَّهُ إِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَإِنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ.

انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:

46- يَنْتَهِي خِيَارُ الشَّرْطِ بِأَحَدِ سَبَبَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِإِجَازَتِهِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ،

وَالثَّانِي: فَسْخُ الْعَقْدِ.

السَّبَبُ الْأَوَّلُ: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ:

47- يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِمَّا بِإِجَازَتِهِ، وَإِمَّا بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ.

إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ:

48- إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ يُنْهِي الْخِيَارَ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ وَالِامْتِنَاعُ يُعَارِضُ الْخِيَارَ وَقَدْ بَطَلَ بِالْإِجَازَةِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ.

أَنْوَاعُ الْإِجَازَةِ:

49- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْإِجَازَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: صَرِيحٍ أَوْ شِبْهِ الصَّرِيحِ، وَدَلَالَةٍ.

فَالصَّرِيحُ، بِالنِّسْبَةِ لِلْبَائِعِ، أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ الْعَقْدَ- أَوِ الْبَيْعَ مَثَلًا- أَوْ أَمْضَيْتُهُ أَوْ أَوْجَبْتُهُ، أَوْ أَلْزَمْتُهُ، أَوْ رَضِيتُهُ، أَوْ أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ.وَشِبْهُ الصَّرِيحِ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْمُشْتَرِي الْإِجَازَةَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ.وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ لَوْ قَالَ: هَوِيتُ أَخْذَهُ، أَوْ أَحْبَبْتُ، أَوْ أَعْجَبَنِي، أَوْ وَافَقَنِي لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ.

أَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، كَالْبَيْعِ، وَالْمُسَاوَمَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ.لِأَنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ، فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ، أَوْ تَقَرُّرِ الْمِلْكِ- عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ- وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِمْضَاءِ.هَذَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَإِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَالدَّلَالَةُ عَلَى الْإِمْضَاءِ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.

هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْمَحَلِّ لِلْإِجَازَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ، وَلَيْسَ الْإِنْشَاءِ، فَبِالْإِجَازَةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَقْدَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَالْمَحَلُّ كَانَ قَابِلًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْإِجَازَةَ.

كَمَا لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْإِجَازَةِ.فَلَوْ أَجَازَ الْعَقْدَ فَإِنَّهُ لَازِمٌ مُنْذُ الْإِجَازَةِ سَوَاءٌ أَبْلَغَ الْعَاقِدُ الْآخَرَ ذَلِكَ أَمْ لَا.

وَنَحْوُ هَذَا التَّقْسِيمِ جَاءَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

إِنْهَاءُ الْخِيَارِ بِعِوَضٍ:

50- جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ صَاحِبَ الْخِيَارِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ عَلَى عَرَضٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ وَيُمْضِيَ الْبَيْعَ جَازَ ذَلِكَ وَيَكُونُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ.وَكَذَا لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْمُشْتَرِي فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ فَيَحُطَّ عَنْهُ مِنَ الثَّمَنِ كَذَا أَوْ يَزِيدَهُ هَذَا الْعَرَضَ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْعِ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا.

ثَانِيًا- انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ:

51- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- فِي الْجُمْلَةِ- عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يَنْتَهِي بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُ خِيَارٌ مُؤَقَّتٌ بِمُدَّةٍ (سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِتَحْدِيدِ الْعَاقِدِ، أَمْ بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ)، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي وُقِّتَ بِهَا الْخِيَارُ فَمِنَ الْبَدَهِيِّ أَنْ يَنْتَهِيَ بِمُضِيِّهَا «لِأَنَّ الْمُؤَقَّتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ».وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَنَعَ مِنْ لُزُومِ الْعَقْدِ تِلْكَ الْمُدَّةَ- وَالْأَصْلُ هُوَ اللُّزُومُ- فَبِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَثْبُتُ مُوجِبُ الْعَقْدِ، وَتَرْكُ صَاحِبِ الْخِيَارِ الْفَسْخَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ رِضًا مِنْهُ بِالْعَقْدِ.

عَلَى ذَلِكَ تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْهُمْ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ قَائِلُونَ بِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يُنْهِي الْخِيَارَ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمُ اتِّجَاهًا خَاصًّا فِيمَا يُنْتَجُ عَنْ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْحَالُ عِنْدَ غَيْرِهِمُ اعْتِبَارَهُ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ انْتِهَاءٌ لِلْخِيَارِ وَلَيْسَ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ إِلاَّ حَيْثُ تَنْقَضِي الْمُدَّةُ، وَالْمَبِيعُ بِيَدِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي (مَثَلًا) كَانَ تَرْكُ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ بِمَثَابَةِ الْإِمْضَاءِ وَلُزُومِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَانْقَضَى الْأَمَدُ- وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ- فَذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ مِنَ الْبَائِعِ.هَذَا مِنْ حَيْثُ أَدَاؤُهُ إِلَى إِمْضَاءِ الْعَقْدِ.أَمَّا اعْتِبَارُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَسْخًا أَوْ إِجَازَةً فَيُنْظَرُ إِلَى مَنْ يَنْقَضِي زَمَنُ الْخِيَارِ وَالْمَبِيعُ بِيَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْبَائِعِ آنَئِذٍ فَهُوَ فَسْخٌ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ إِمْضَاءٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: يَلْزَمُ الْمَبِيعُ بِالْخِيَارِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ مِنْهُمَا كَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَوْ غَيْرَهُ بِانْقِضَاءِ زَمَنِ الْخِيَارِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ وَالْيَوْمَانِ.وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلَاتٌ تُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ.

السَّبَبُ الثَّانِي: انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ

52- يَنْقَسِمُ الْفَسْخُ إِلَى صَرِيحٍ وَدَلَالَةٍ، أَوْ بِنَظْرَةٍ أُخْرَى إِلَى فَسْخٍ قَوْلِيٍّ، وَفَسْخٍ فِعْلِيٍّ، فَالْفَسْخُ الْقَوْلِيُّ أَوِ الصَّرِيحُ يَقَعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: فَسَخْتُ الْبَيْعَ، أَوِ اسْتَرْجَعْتُ الْمَبِيعَ، أَوْ رَدَدْتُهُ، أَوْ رَدَدْتُ الثَّمَنَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكُلُّ هَذَا فَسْخٌ صَرِيحٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ: لَا أَبِيعُ حَتَّى تَزِيدَ فِي الثَّمَنِ، مَعَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي لَا أَفْعَلُ، وَكَذَلِكَ مِنْهُ عَكْسُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: لَا أَشْتَرِي حَتَّى يُنْقِصَ عَنِّي مِنَ الثَّمَنِ، عَلَى قَوْلِ الْبَائِعِ لَا أَفْعَلُ.وَكَذَا مِنْهُ طَلَبُ الْبَائِعِ حُلُولَ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَطَلَبُ الْمُشْتَرِي تَأْجِيلَ الثَّمَنِ الْحَالِّ فَكُلُّ هَذَا فَسْخٌ.

وَصُورَةُ الْفَسْخِ دَلَالَةً- وَيُسَمَّى الْفَسْخَ الْفِعْلِيَّ- (أَوِ الْفَسْخَ بِالْفِعْلِ كَمَا سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ): أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الْمَبِيعِ.هَذَا إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِي فَبِأَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ عَيْنًا.أَمَّا إِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْفَسْخُ دَلَالَةً فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَلِذَلِكَ أَغْفَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مُقْتَصِرًا عَلَى تَصْوِيرِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ- وَهُوَ دَيْنٌ- يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ لَا فِي الثَّمَنِ «لِأَنَّ الْأَثْمَانَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ».

وَالسَّبَبُ فِي الِاعْتِدَادِ بِالتَّصَرُّفِ كَالْمُلاَّكِ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ أَنَّ الْخِيَارَ إِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ.إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَتَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ إِذَا كَانَ عَيْنًا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ.وَاسْتِبْقَاءُ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْفَسْخِ، فَالْإِقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْمَذْكُورِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، وَمِنْ قَبْلِهِ الْكَاسَانِيُّ: «وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي الثَّمَنِ لَكَانَ إِجَازَةً لِلْبَيْعِ: يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ دَلَالَةً». وَالْفَسْخُ دَلَالَةً مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْآخَرِ بِهِ، أَمَّا فِي الْفَسْخِ الصَّرِيحِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ.

ثُمَّ إِنَّ لِلْفَسْخِ دَلَالَةً بَعْدَ هَذَا الضَّابِطِ تَفَارِيعَ مِنْهَا:

- أَكْلُ الْمَبِيعِ وَشُرْبُهُ وَلُبْسُهُ، يُسْقِطُ الْخِيَارَ.وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ: إِذَا لَبِسَهُ مَرَّةً لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ.

- النَّسْخُ مِنَ الْكِتَابِ، لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ، وَلَوْ دَرَسَ فِيهِ يَسْقُطُ.

- رُكُوبُ الدَّابَّةِ لِيَسْقِيَهَا، أَوْ يَرُدَّهَا، وَيَعْلِفَهَا، إِجَازَةٌ.وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِدُونِ الرُّكُوبِ لَا يَكُونُ إِجَازَةً.وَأَطْلَقَ قَاضِيخَانْ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ فَقَالَ: وَرُكُوبُهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ اسْتِحْسَانًا، فَجَعَلَهُ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ.

- بَيْعُ مَحَلِّ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ هِبَتُهُ أَوْ رَهْنُهُ- مَعَ التَّسْلِيمِ- مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ، أَمَّا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَا يَنْفَسِخُ.

- إِيجَارُ مَحَلِّ الْخِيَارِ فَسْخٌ وَلَوْ لَمْ يُسَلِّمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ فَسْخًا مَا لَمْ يُسَلِّمْ.

- تَسْلِيمُ مَحَلِّ الْخِيَارِ إِلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَفَرَّقَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْفَضْلِ بَيْنَ التَّسْلِيمِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ فَلَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي، وَالتَّسْلِيمُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ فَيَبْطُلُ خِيَارُهُ.

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَحِلُّ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ، وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَنْفُذُ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.

شَرَائِطُ الْفَسْخِ:

53- يُشْتَرَطُ لِاعْتِبَارِ الْفَسْخِ نَافِذًا الشَّرَائِطُ التَّالِيَةُ:

1- قِيَامُ الْخِيَارِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ إِذَا زَالَ، بِالسُّقُوطِ مَثَلًا، يَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَلَا أَثَرَ لِلْفَسْخِ حِينَئِذٍ.

2- عِلْمُ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ بِعِبَارَةِ الْفَسْخِ بِحَضْرَةِ الْعَاقِدِ، وَعَكْسُهُ الْفَسْخُ فِي غَيْبَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَضْرَةِ، الْعِلْمُ لَا الْحُضُورُ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنْ جَرَى الْفَسْخُ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ دُونَ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ فَالْفَسْخُ مَوْقُوفٌ: إِنْ عَلِمَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْفَسْخِ.وَفِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ- حَيْثُ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا- لَوْ عَادَ الْعَاقِدُ عَنْ فَسْخِهِ فَأَمْضَى الْعَقْدَ قَبْلَ عِلْمِ الْآخَرِ فَذَلِكَ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ فَسْخُهُ السَّابِقُ.

أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَوْلٌ آخَرُ لَهُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَائِعُ فَلَا يُشْتَرَطُ بَلْ يَقْتَصِرُ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّ الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ عَنْهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ وَرَجَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ بِالْقَوْلِ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْآخَرِ، وَأَمَّا الْفَسْخُ بِالْفِعْلِ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالرِّوَايَاتُ السَّابِقَةُ لِبَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، عَلَى مَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَاسِخَ مِنْهَا مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى عِلْمِهِ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْوَكِيلِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ جَائِزٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ الرِّضَا هُنَا وَلَا هُنَاكَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، مِنْهَا: أَنَّ الْفَسْخَ كَالْإِجَازَةِ فِي هَذَا، لِأَنَّهُمَا شَقِيقَانِ كِلَاهُمَا لِاسْتِعْمَالِ الْخِيَارِ فَهُوَ- كَمَا قَالَ الْبَابَرْتِيُّ- قِيَاسٌ لِأَحَدِ شِطْرَيِ الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ.

3- أَنْ لَا يَنْشَأَ عَنِ الْفَسْخِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، أَيْ أَنْ يَقَعَ الْفَسْخُ عَلَى جَمِيعِ الصَّفْقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الصَّفْقَةِ وَيَفْسَخَ فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْإِجَازَةِ فِي الْبَعْضِ، فَيَنْشَأُ عَنْهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي اللُّزُومِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا.

وَالْمَالِكِيَّةُ يُجْبِرُونَ الْعَاقِدَ عَلَى رَدِّ الْجَمِيعِ إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ فِي الْبَعْضِ وَرَدَّ الْبَعْضَ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ الْعَاقِدُ الشَّرِكَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرَادَ الْفَسْخَ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا الْخِيَارُ فَالْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا مِنْ وَاحِدٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلِأَحَدِهِمَا الْفَسْخُ فِي نَصِيبِهِ.

الْأَدِلَّةُ: لِكُلٍّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ أَدِلَّةٌ تَدُورُ بَيْنَ وُجُوهٍ مِنَ الْمَعْقُولِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِالنَّظَائِرِ الْفِقْهِيَّةِ. انْتِقَالُ خِيَارِ الشَّرْطِ:

أَوَّلًا- انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ:

54- ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ الْمَوْرُوثِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهًا بِإِرْثِ خِيَارِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا.

وَقَدْ عَلَّلَ الْقَائِلُونَ بِانْتِقَالِ الْخِيَارِ لِلْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ مِنْ مُشْتَمِلَاتِ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِإِصْلَاحِ الْمَالِ، كَالرَّهْنِ وَحَبْسِ الْمَبِيعِ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّمَنِ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ السُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.فَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ»،، وَخِيَارُ الشَّرْطِ حَقٌّ لِلْمَوْرُوثِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِهِ كَمَا يَقْضِي الْحَدِيثُ.

ثُمَّ قَاسُوا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى خِيَارَيِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ الْمُتَّفَقِ عَلَى انْتِقَالِهِمَا لِلْوَارِثِ بِالْمَوْتِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْخِيَارَاتِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ، وَمِنْ عِبَارَاتِهِمْ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ: الْخِيَارُ صِفَةٌ لِلْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ مَشِيئَةً وَإِرَادَةً فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ. وَاسْتَدَلُّوا لِمَذْهَبِهِمْ بِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَلَمْ يُورَثْ، نَظِيرُ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ.وَقَالُوا أَيْضًا: خِيَارُ الشَّرْطِ لَيْسَ وَصْفًا بِالْمَبِيعِ حَتَّى يُورَثَ بِإِرْثِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، فَهُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِشَخْصِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، وَالْوَصْفُ الشَّخْصِيُّ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ بِحَالٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَحْدَهُمْ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِيَارِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ، بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَمْ يُورَثْ، أَمَّا إِنْ طَالَبَ بِذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ.فَالْأَصْلُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ إِلاَّ بِالْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمُشْتَرِطِ.

وَقَدْ صَوَّرَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ نَقْلٌ، وَتَوْرِيثٌ مِنَ الْمُوَرِّثِ لِوَرَثَتِهِ بِإِرَادَاتِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الْعَدِيدَةِ قَوْلُ الْفَقِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَهْلَانَ- شَيْخِ الْمُؤَلِّفِ -: «إِذَا مَاتَ وَوَرِثَ خِيَارَهُ وَرَثَتُهُ، لِشَرْطِهِ لَهُمْ فَأَسْقَطَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ سَقَطَ خِيَارُ الْجَمِيعِ».وَقَدْ جَاءَتْ تِلْكَ الْعِبَارَةُ إِيضَاحًا وَتَقْيِيدًا لِعِبَارَةِ أَحَدِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ مُوهِمَةً أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يُورَثُ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ مُطَالَبَةُ الْمُوَرِّثِ بِحَقِّ الْخِيَارِ.

وَأَمَّا ابْنُ قُدَامَةَ فَقَالَ: الْمَذْهَبُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ مِنْهُمَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَيَبْقَى خِيَارُ الْآخَرِ بِحَالِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ طَالَبَ بِالْفَسْخِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِيهِ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ.

ثَانِيًا: انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْجُنُونِ وَحَالَاتِ الْغَيْبُوبَةِ:

55- سَبَقَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي فِقْرَةِ 41

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ- أَوِ الْإِغْمَاءُ- عَلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُهُ، بَلْ يَقُومُ وَلِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فَيَفْعَلُ مَا فِيهِ الْأَحَظُّ مِنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَكَذَلِكَ إِذَا أَصَابَهُ خَرَسٌ- وَلَمْ تَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ- نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ.

وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ: أ- فَفِي الْجُنُونِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَفِيقُ، أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ وَقْتٍ طَوِيلٍ يَضُرُّ الِانْتِظَارُ إِلَيْهِ بِالْعَاقِدِ الْآخَرِ، يَنْظُرُ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ فِي الْأَصْلَحِ لَهُ مِنْ إِمْضَاءٍ أَوْ رَدٍّ، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرِ السُّلْطَانُ حَتَّى مَضَى جُزْءٌ مِنَ الْمُدَّةِ فَزَالَ الْجُنُونُ يُحْتَسَبُ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَوْ لَمْ يُنْظَرْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَمَدِ الْخِيَارِ لَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ أَجَلٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمَبِيعُ لَازِمٌ لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ.وَمِثْلُ الْمَجْنُونِ- فِي الْحُكْمِ- الْمَفْقُودُ، عَلَى الرَّاجِحِ، وَقِيلَ: هُوَ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.

ب- وَفِي الْإِغْمَاءِ يُنْتَظَرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لِكَيْ يَفِيقَ وَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ، إِلاَّ إِذَا مَضَى زَمَنُ الْخِيَارِ وَطَالَ إِغْمَاؤُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ لِلْآخَرِ فَيُفْسَخُ.وَلَا يَنْظُرُ لَهُ السُّلْطَانُ.

فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَيَّامِ الْخِيَارِ اسْتُؤْنِفَ لَهُ الْأَجَلُ، وَهَذَا الْحُكْمُ خِلَافُ مَا مَرَّ فِي الْمَجْنُونِ.

هَذَا وَقَدْ يَزُولُ الطَّارِئُ الَّذِي نُقِلَ الْخِيَارُ بِسَبَبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْجُنُونِ النَّاقِلِ لِلْخِيَارِ إِلَى السُّلْطَانِ، لَوْ أَفَاقَ بَعْدَهُ لَا عِبْرَةَ بِمَا يَخْتَارُهُ بَلِ الْمُعْتَبَرُ بِمَا نَظَرَهُ السُّلْطَانُ.

هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَخَالَفَهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ: لَوْ أَفَاقَ الْعَاقِدُ وَادَّعَى أَنَّ الْغِبْطَةَ خِلَافُ مَا فَعَلَهُ الْقَيِّمُ عَنْهُ يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ وَجَدَ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُ الْمُفِيقُ مَكَّنَهُ مِنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَنَقَضَ فِعْلَ الْقَيِّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ الْمُفِيقُ ظَاهِرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَيِّمِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فَعَلَهُ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْمُفِيقُ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


44-موسوعة الفقه الكويتية (خيار فوات الشرط)

خِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ

التَّعْرِيفُ:

1- سَبَقَ تَعْرِيفُ الْخِيَارِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارٌ) وَكَذَلِكَ سَبَقَ تَعْرِيفُ الشَّرْطِ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الشَّرْطِ) وَفَوَاتُ الشَّرْطِ: هُوَ عَدَمُ تَحْقِيقِ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَخِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ: هُوَ خِيَارٌ يَثْبُتُ بِفَوَاتِ الْفِعْلِ الْمَشْرُوطِ مِنَ الْعَاقِدِ فَوْقَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2- لِهَذَا الْخِيَارِ صِلَةٌ بِأَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ الْأُخْرَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا جَمِيعًا تَسْلُبُ لُزُومَ الْعَقْدِ مَعَ انْفِرَادِ كُلِّ خِيَارٍ بِالْإِضَافَةِ الْمُثْبِتَةِ لَهُ، كَالْعَيْبِ أَوِ الرُّؤْيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ مَا يَتَّصِلُ بِكُلِّ خِيَارٍ فِي مُصْطَلَحِهِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِخِيَارِ فَوَاتِ الشَّرْطِ:

3- مِنَ الْمَبَادِئِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعَاقِدَ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْوَفَاءِ بِشَرْطٍ الْتَزَمَ بِهِ لِلْعَاقِدِ الْآخَرِ فِي الْعَقْدِ- وَكَانَ شَرْطًا صَحِيحًا- فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَتَوَصَّلَ الْمُشْتَرِطُ إِلَى تَنْفِيذِهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْقَضَاءِ لِيُوَفِّيَ الْمُتَخَلِّفَ عَنِ الشَّرْطِ جَبْرًا.وَهَذَا فِي شَرْطٍ يُمْكِنُ الْإِجْبَارُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَا يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْمُمْتَنِعِ عَلَى فِعْلِهِ.كَالْتِزَامِهِ بِأَنْ يُقَدِّمَ رَهْنًا بِالثَّمَنِ.فَهَاهُنَا يُثْبِتُونَ خِيَارَ فَوَاتِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانُوا لَا يُسَمُّونَهُ بِذَلِكَ، بَلْ يُعَبِّرُونَ بِأَنَّ لَهُ حَقَّ فَسْخِ الْعَقْدِ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: يُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَدْفَعَ الرَّهْنَ- أَوْ قِيمَتَهُ- أَوْ تُؤَدِّيَ الثَّمَنَ (عَاجِلًا) أَوْ يَفْسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ..وَلَوِ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَالْغَرَضِ.

ثُمَّ نَصَّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ الْبَيْعَ بِشَرْطِ إِعْطَاءِ الْكَفِيلِ، وَلَمْ يُجْعَلْ مِنْهُ شَرْطُ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ أَخَذُوا بِمَبْدَأِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُقْرِضَهُ، أَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ، أَوْ زَرْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُدَهُ الْبَائِعُ.لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ صُوَرًا حَكَمُوا بِصِحَّتِهَا، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْأَجَلِ، أَوِ الرَّهْنِ، أَوِ الْكَفِيلِ- مَعَ الْمَعْلُومِيَّةِ وَالتَّعْيِينِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ- أَوْ بِشَرْطِ الْإِشْهَادِ.

فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ الْمُلْتَزِمُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ لَمْ يَرْهَنْ أَوْ لَمْ يَتَكَفَّلَ الْكَفِيلُ الْمُعَيَّنُ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِطِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.

وَلَا يُجْبَرُ مَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الشَّرْطَ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا شَرَطَ، لِزَوَالِ الضَّرَرِ بِالْفَسْخِ، كَمَا لَا يَقُومُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ مَقَامَهُ إِذَا تَلِفَ.

وَنَحْوُ ذَلِكَ لِلْحَنَابِلَةِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلُ إِنْ وَفَّى الْمُلْتَزِمُ بِالشَّرْطِ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَإِنْ أَبَى فَلِلْمُشْتَرِطِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ بِدُونِ مُقَابِلٍ عَنْ تَرْكِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ.

وَالْمَذْهَبُ الْحَنْبَلِيُّ هُوَ أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ عِنَايَةً بِالشُّرُوطِ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ رِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَنَتِيجَتُهَا هُوَ مَا أَوْجَبَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالتَّعَاقُدِ.وَقَدِ اعْتَدُّوا بِمَبْدَأِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فِي اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ بَعْدَمَا وَسَّعُوا مِنْ مَفْهُومِهِ، عَلَى أَسَاسِ أَنَّ مَصْلَحَةَ الْعَاقِدِ هِيَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يُوجِبْهَا الْعَقْدُ فَأَبَاحُوا أَكْثَرَ مِنْ شَرْطِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُصَادِمُ نَصًّا شَرْعِيًّا أَوْ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يَكُونُ فِي ذَاتِهِ غَيْرَ مُلْزِمٍ شَرْعًا لِلْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ، وَتَكُونُ ثَمَرَةُ صِحَّةِ اشْتِرَاطِهِ تَمْكِينَ الشُّرُوطِ لَهُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ وَفَاءِ الْمُشْتَرِطِ.

وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَنَابِلَةُ مَعَ هَذَا خِيَارَ فَوَاتِ الشَّرْطِ فِي عِدَادِ مَا أَوْرَدُوهُ مِنْ خِيَارَاتٍ.إِلاَّ أَنَّ صَاحِبَ «غَايَةِ الْمُنْتَهَى» اسْتَوْجَهَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْخِيَارَاتِ الثَّمَانِيَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (بِاسْتِمْرَارِ) قِسْمًا تَاسِعًا مِنْ أَقْسَامِ الْخِيَارِ وَهُوَ الْخِيَارُ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي لِفَقْدِ شَرْطٍ صَحِيحٍ، أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ فَاسِدٍ، سَوَاءٌ كَانَ يُبْطِلُ الْعَقْدَ أَوْ لَا يُبْطِلُهُ، وَقَدْ أَقَرَّهُ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاكِ، وَإِنْ كَانَتْ فَائِدَتُهُ شَكْلِيَّةً فَالْخِيَارُ كَمَا رَأَيْنَا مُعْتَبَرٌ فِي الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ لِلْحَنَابِلَةِ وَإِنْ لَمْ تُبْرِزْهُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا يُورِدُونَهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ مِنْ صُوَرِهِ وَقُيُودِهِ.

انْتِقَالُهُ بِالْمَوْتِ:

4- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ الثَّابِتَ لِلْبَائِعِ عِنْدَ عَجْزِ الْمُشْتَرِي عَنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِلَا خِلَافٍ.

سُقُوطُهُ وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهِ:

5- يُطَبَّقُ مَا يَجْرِي فِي خِيَارِ الْعَيْبِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكَلَامِ عَنْ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ، (ر: خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


45-موسوعة الفقه الكويتية (خيار فوات الوصف)

خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّعْرِيفُ الْمُخْتَارُ لِخِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ مُسْتَمَدًّا مِنْ مَاهِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ، هُوَ (حَقُّ الْفَسْخِ لِتَخَلُّفِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ اشْتَرَطَهُ الْعَاقِدُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ).

وَمِثَالُهُ: أَنْ يَشْتَرِيَ إِنْسَانٌ شَيْئًا وَيَشْتَرِطَ فِيهِ وَصْفًا مَرْغُوبًا لَهُ، كَمَنِ اشْتَرَى حِصَانًا عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ أَصِيلٌ فَإِذَا هُوَ هَجِينٌ، أَوِ اشْتَرَى جَوَادًا عَلَى أَنَّهُ هِمْلَاجٌ (سَرِيعُ الْمَشْيِ فِي سُهُولَةٍ) فَإِذَا هُوَ بَطِيءٌ، أَوْ سَرِيعٌ فِي اضْطِرَابٍ وَعُسْرٍ، وَكَذَلِكَ شِرَاءُ الْبَقَرَةِ عَلَى أَنَّهَا حَلُوبٌ (كَثِيرَةُ اللَّبَنِ زِيَادَةً عَنِ الْمُعْتَادِ فِي أَمْثَالِهَا).

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الْعَمَلِيَّةِ: اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْكَلْبِ صَائِدًا، وَشَرْطُ كَوْنِ الثَّمَنِ مَكْفُولًا بِهِ.

تَسْمِيَتُهُ:

2- يُسَمَّى هَذَا الْخِيَارُ أَيْضًا بِخِيَارِ خُلْفِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى (خِيَارِ الْخُلْفِ) أَوْ يُدْعَى (تَخَلُّفُ الصِّفَةِ)، وَأَحْيَانًا يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ (خِيَارَ الْوَصْفِ) لَكِنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مُوهِمَةٌ لِأَنَّ خِيَارَ الْوَصْفِ يُطْلَقُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ عَلَى مُطَابَقَةِ الْمَبِيعِ الْغَائِبِ لِلْوَصْفِ إِذَا بِيعَ عَلَى الصِّفَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْتَفِي بِهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إِلاَّ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ لِلتَّرَوِّي وَلَوْ طَابَقَ، كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَبْحَثُهُ مُسْتَقِلًّا، وَآخَرُونَ يُلْحِقُونَهُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ.

مَشْرُوعِيَّةُ اشْتِرَاطِ الْوَصْفِ فِي الْبَيْعِ:

3- لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ مَوْضُوعِهِ وَهُوَ (اشْتِرَاطُ صِفَةٍ مَرْغُوبَةٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَوْلَا الِاشْتِرَاطُ لَمْ تَثْبُتْ)، وَمُسْتَنَدُ صِحَّةِ هَذَا الِاشْتِرَاطِ هُوَ تَسْوِيغُ الشُّرُوطِ الْعَقْدِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ مَوَاقِفُ مُخْتَلِفَةٌ مَعَ صَعِيدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ هُوَ الصِّحَّةُ، بَعْدَ تَوَافُرِ مَا يَتَطَلَّبُهُ كُلُّ مَذْهَبٍ مِنْ شَرَائِطَ.وَهَذَا الْمَوْضُوعُ وَاقِعٌ فِي النِّطَاقِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ (الشَّرْطُ الَّذِي يُعْتَبَرُ مِنْ مَصَالِحِ الْعَقْدِ) كَاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ أَوِ الْكَفِيلِ، أَمَّا اشْتِرَاطُ صِفَةٍ زَائِدَةٍ فَهُوَ مَقِيسٌ عَلَيْهِ.

وَسَبَبُ اعْتِبَارِ الْحَنَفِيَّةِ اشْتِرَاطَ الْوُصُوفِ سَائِغًا أَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ إِذَا كَانَ لَا غَرَرَ فِيهِ، ذَلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَيْعِ، دُونَ الْتِفَاتٍ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لَهُ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ وَيَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ، فَكَانَ اشْتِرَاطُهُ صَحِيحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَرٌ.

ثُمَّ إِنَّ الْوَصْفَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، فَهُوَ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ.

3 م- وَلَمَّا كَانَ الْمُهِمُّ فِي تَسْوِيغِ اشْتِرَاطِ الصِّفَةِ الْأَثَرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِالشَّرْطِ هَلْ هُوَ الْفَسَادُ- كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الِاشْتِرَاطِ فِي غَيْرِ الصِّفَاتِ- أَمِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا الرَّدُّ؟

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَثَرَ هُوَ التَّخْيِيرُ، وَلَمْ يَقُولُوا بِفَسَادِ الْعَقْدِ حِينَ تَخَلَّفَ الْوَصْفُ؛ لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَذَلِكَ حَيْثُ يَقَعُ فِيهِ الْعَقْدُ عَلَى جِنْسٍ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَبِيعَ جِنْسٌ آخَرُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ، فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِفَوَاتِهِ.وَصَارَ كَفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ، فَيَكُونُ فِي هَذَا خِيَارُ الْوَصْفِ بِالْقِيَاسِ.

مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:

4- ذَهَبَ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْخِيَارِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ.

وَيَسْتَنِدُ ثُبُوتُهُ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْعَيْبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ بَعْدَ أَنْ حَصَلَ فِي الْعَقْدِ الِالْتِزَامُ مِنَ الْبَائِعِ بِهِ، هُوَ فِي مَعْنَى فَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ إِذَا ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ، فَكَمَا يَثْبُتُ فِي الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ خِيَارُ الْعَيْبِ يَثْبُتُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى خِيَارُ الْوَصْفِ.وَكُلٌّ مِنَ الْخِيَارَيْنِ ثَبَتَ لِتَخَلُّفِ شَرْطٍ فِي الْحِلِّ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ ثَابِتٌ دَلَالَةً، كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ، أَمَّا فِي خِيَارِ الْوَصْفِ فَهُوَ ثَابِتٌ نَصًّا.

وَلِهَذَا أَوْرَدَ الشَّافِعِيَّةُ خِيَارَ فَوَاتِ الْوَصْفِ تَالِيًا لِخِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ مُخْتَلِطًا بِهِ، كَمَا فَعَلَ الشِّيرَازِيُّ، وَقَدْ عَلَّلَ حَقَّ الْخِيَارِ فِيهِ بِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنْقَصَ مِمَّا شَرَطَ، وَأَضَافَ السُّبْكِيُّ: فَصَارَ كَالْمَعِيبِ الَّذِي يَخْرُجُ أَنْقَصَ مِمَّا اقْتَضَاهُ الْعُرْفُ.

شَرَائِطُ قِيَامِ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:

5- هَذِهِ الشَّرَائِطُ بَعْضُهَا يَنْبَغِي وُجُودُهُ فِي الْوَصْفِ لِيَكُونَ مُعْتَبَرًا اشْتِرَاطُهُ، وَبَعْضُهَا يَتَّصِلُ بِتَخَلُّفِ الْوَصْفِ أَوْ فَوَاتِهِ لِيَنْشَأَ عَنْ ذَلِكَ صِحَّةُ الْبَيْعِ مَعَ الْخِيَارِ بَدَلًا مِنَ الْفَسَادِ أَوِ الْبُطْلَانِ.

شَرَائِطُ الْوَصْفِ الْمُعْتَبَرِ:

6- يُشْتَرَطُ لِكَوْنِ الْوَصْفِ مُعْتَبَرًا:

1- أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ وُجُودَهُ وَصْفًا: أَمَّا لَوْ كَانَ مِلْكِيَّةَ عَيْنٍ أُخْرَى أَوْ مَنْفَعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْأَوْصَافِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ فَوَاتِ الْوَصْفِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الشُّرُوطِ.وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَسَادِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الشَّاةِ حَامِلًا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَصْفٍ بَلِ اشْتِرَاطُ مِقْدَارٍ مِنَ الْمَبِيعِ مَجْهُولٍ، وَضَمُّ الْمَعْلُومِ إِلَى الْمَجْهُولِ يَجْعَلُ الْكُلَّ مَجْهُولًا، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْوَصْفَ، مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمَبِيعِ بِلَا ذِكْرٍ، كَالْجَوْدَةِ، وَالْأَشْجَارِ، وَالْبِنَاءِ وَالْأَطْرَافِ.

2- أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمَرْغُوبُ مُبَاحًا فِي الشَّرْعِ، (أَوْ مُقَرَّرًا مِنْهُ): فَاشْتِرَاطُ الْمَحْظُورِ مِنَ الْأَوْصَافِ لَاغٍ، كَاشْتِرَاطِهِ فِي الْكَبْشِ كَوْنَهُ نَطَّاحًا، أَوِ الدِّيكِ صَائِلًا (لِاسْتِعْمَالِهِ فِي صُوَرٍ مِنَ اللَّهْوِ مَحْظُورَةٍ) لِأَنَّ مَا لَا يُقِرُّهُ الشَّارِعُ يَمْتَنِعُ الِالْتِزَامُ بِهِ.

3- أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُنْضَبِطًا (لَيْسَ فِيهِ غَرَرٌ): وَذَلِكَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ وَالْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ.

4- أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مَرْغُوبًا فِيهِ: وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، فَلَوِ اشْتَرَطَ مَا لَيْسَ بِمَرْغُوبٍ أَصْلًا، كَأَنْ يَكُونَ مَعِيبًا فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ.وَيَتَّصِلُ بِالْكَلَامِ عَنْ مَرْغُوبِيَّةِ الْوَصْفِ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي الْمَبِيعِ وَصْفٌ أَفْضَلُ مِنَ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَصْفَ خَيْرٌ مِمَّا اشْتَرَطَهُ فَالْعَقْدُ لَازِمٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَذَكَرُوا مِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْجَمَلِ أَنَّهُ بَعِيرٌ فَإِذَا هُوَ نَاقَةٌ، وَالْمُشْتَرِي مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ مَا فِيهِ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ.وَلِأَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي ضَبْطِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ، فَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ مَا فِيهِ غَرَضٌ لِلْعَاقِدِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ مَالِيَّةٌ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْغَرَضَ أَعَمُّ مِنَ الْمَالِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ مَا فِيهِ مَالِيَّةٌ لِاخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ، وَأَوْجَزَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ: أَنَّهُ كُلُّ وَصْفٍ مَقْصُودٍ مُنْضَبِطٍ فِيهِ مَالِيَّةٌ.وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ تَقْسِيمَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَالرَّافِعِيِّ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةَ إِلَى ثَلَاثَةٍ:

1- أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا زِيَادَةٌ مَالِيَّةٌ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ بِتَخَلُّفِهَا.

2- أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ غَيْرُ الْمَالِ وَتَخَلُّفُهَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ عَلَى خِلَافٍ.

3- أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا مَالِيَّةٌ وَلَا غَرَضٌ مَقْصُودٌ، وَاشْتِرَاطُهَا لَغْوٌ لَا خِيَارَ بِفَقْدِهِ، ثُمَّ اسْتُحْسِنَ مِنَ النَّوَوِيِّ جَعْلُهَا قِسْمَيْنِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ أَوْ عَدَمِهِ.

5- أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي الْوَصْفَ الْمَرْغُوبَ، وَيُوَافِقَ عَلَى ذَلِكَ الْبَائِعُ فِي الْعَقْدِ، فَلَا يُعْتَبَرُ حَالُ الْمُشْتَرِي قَرِينَةً كَافِيَةً عَنِ الِاشْتِرَاطِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَسْتَحِقُّ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ- لَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ- فَلَوْلَاهُ لَمَا اسْتُحِقَّ.

عَلَى أَنَّهُ تُعْتَبَرُ حَالُ الْمُشْتَرِي فِي تَفْسِيرِ الْوَصْفِ فِيمَا إِذَا حَصَلَ اشْتِرَاطُهُ بِصُورَةٍ مُقْتَضِبَةٍ.وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ حَالُ الْمُشْتَرِي بِالِاعْتِبَارِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَوْجُودِ فِي الْبَيْعِ، هَلْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ أَمْ دُونَهُ.وَلَوِ اشْتَرَى كَلْبًا مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ صَائِدٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ نِسْيَانُهُ، يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْوَصْفِ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ صَرَاحَةً، كَكَوْنِ الْكَلْبِ صَائِدًا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ رَغْبَةً فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَصَارَتْ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً.

وَفِي مَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الصَّادِرِ مِنَ الْمُشْتَرِي مَا يَصْدُرُ مِنَ الْبَائِعِ مِنَ الْمُنَادَاةِ عَلَى السِّلْعَةِ حَالَ الْبَيْعِ أَنَّهَا كَذَا وَكَذَا، فَتُرَدُّ بِعَدَمِ هَذَا الْوَصْفِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَلَا يُعَدُّ مَا يَقَعُ فِي الْمُنَادَاةِ مِنْ تَلْفِيقِ السِّمْسَارِ حَيْثُ كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّهُمْ يُلَفِّقُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَا رَدَّ عِنْدَ عَدَمِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنَادَاةِ عَلَى الظَّاهِرِ لِدُخُولِ الْمُشْتَرِي عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ.

شَرَائِطُ تَخَلُّفِ الْوَصْفِ (أَوْ فَوَاتِهِ):

7- يُشْتَرَطُ فِي تَخَلُّفِ الْوَصْفِ (لِبَقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا وَاسْتِلْزَامِهِ الْخِيَارَ):

1- أَنْ يَكُونَ التَّخَلُّفُ دَاخِلًا تَحْتَ جِنْسِ الْمَبِيعِ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَطَ أَنَّ الثَّوْبَ قُطْنٌ فَإِذَا هُوَ كَتَّانٌ فَالْعَقْدُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ.وَلَمَّا كَانَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافِ حَالِ الْمَبِيعِ عَنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَامِضًا، وَضَعَ الْفُقَهَاءُ لَهُ ضَابِطًا يُرَاعَى لِإِعْطَاءِ كُلِّ حَالَةٍ حُكْمَهَا الْمُنَاسِبَ مِنْ بَيْنِ الْأَحْكَامِ التَّالِيَةِ: الْفَسَادِ، الصِّحَّةِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ، الصِّحَّةِ دُونَ خِيَارٍ.

وَالضَّابِطُ هُوَ فُحْشُ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ وَعَدَمُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَارِنَ الْمَبِيعَ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَيَرَى مَدَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى وَالِاخْتِلَافُ فِي النَّوْعِ فَحَسْبُ، فَفِيهِ الْخِيَارُ، أَمَّا إِنْ كَانَ التَّفَاوُتُ فِي الْجِنْسِ فَحُكْمُهُ الْفَسَادُ.

وَلِهَذَا تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْهُمَامِ وَهُوَ مِثَالٌ يُحْتَذَى لِلتَّمْيِيزِ فِي غَيْرِ الذَّوَاتِ الَّتِي اتَّخَذَهَا مَوْضُوعًا لِلتَّوْضِيحِ، فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ ضَابِطَ اخْتِلَافِ الْمَوْجُودِ عَنِ الْمَشْرُوطِ هُوَ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَفِيهِ الْخِيَارُ وَذَكَرَ أَنَّ مَا فَحُشَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَغْرَاضِهِ فَهُوَ أَجْنَاسٌ، وَمَا لَمْ يَفْحُشُ فَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَوْرَدَ فِيمَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثِّيَابِ أَجْنَاسًا كَالْكَتَّانِ، وَالْقُطْنِ.وَأَنَّ الذَّكَرَ مَعَ الْأُنْثَى.

وَأَمَّا اخْتِلَافُ النَّوْعِ دُونَ الْجِنْسِ فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: شِرَاءُ لَحْمٍ عَلَى أَنَّهُ لَحْمُ مَعْزٍ فَإِذَا هُوَ لَحْمُ ضَأْنٍ، وَعَكْسُهُ.

حَدُّ الْفَوَاتِ:

8- إِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِهِ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَطِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَجِدَ الْوَصْفَ أَصْلًا أَوْ وَجَدَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا نَاقِصًا بِحَيْثُ لَا يَنْطَلِقُ الِاسْمُ عَلَيْهِ فَلَهُ حَقُّ الرَّدِّ.

وَمِثَالُهُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي شِرَاءِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا صَائِدًا، فَوَصْفُ الصَّيْدِ لَهُ مَفْهُومٌ وَهُوَ الِاسْتِجَابَةُ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الِانْقِضَاضِ عَلَى الصَّيْدِ.وَالِائْتِمَارُ بِأَمْرِ مُرْسِلِهِ بِحَيْثُ يَرْجِعُ إِنِ اسْتَدْعَاهُ أَوْ يَنْطَلِقُ إِنْ أَغْرَاهُ، فَمَتَى وُجِدَ هَذَا الْوَصْفُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِالصُّورَةِ الْمُثْلَى الَّتِي يَنْدُرُ مَعَهَا إِفْلَاتُ الْفَرِيسَةِ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ.أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَصِيدُ أَصْلًا، أَوْ يَصِيدُ بِصُورَةٍ نَاقِصَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَهَا أَنْ يُسَمَّى (صَائِدًا) فَلَهُ حَقُّ الرَّدِّ.

2- أَنْ يَكُونَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَطِ لَيْسَ عَيْبًا:

9- وَقَدْ تَوَارَدَتْ عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمُثْبِتِينَ لِهَذَا الْخِيَارِ عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ الْمَقْصُودَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يُعَدُّ فَقْدُهَا عَيْبًا، وَإِلاَّ كَانَتِ الْقَضِيَّةُ مِنْ بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ.

مُوجِبُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:

10- إِذَا تَحَقَّقَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ- كَمَا سَبَقَ- وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا الشَّرَائِطَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ.وَمَاهِيَّةُ هَذَا الْخِيَارِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ رَدِّ الْمَبِيعِ، أَوْ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ دُونَ أَرْشٍ لِلْوَصْفِ الْفَائِتِ.

هَذَا، إِذَا لَمْ يَمْتَنِعَ الرَّدُّ، فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ الْوَصْفِ الْفَائِتِ مِنَ الثَّمَنِ.وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ.الْوَصْفِ وَغَيْرَ مُتَّصِفٍ بِهِ، وَيَرْجِعَ بِالتَّفَاوُتِ.

وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ لَا بِالْعَقْدِ، وَتَعَذُّرُ الرَّدِّ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ، فَكَذَا هَذَا، وَالصَّحِيحُ الرِّوَايَةُ السَّابِقَةُ- وَهِيَ مِنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.لِأَنَّ الْبَائِعَ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَصْفَ السَّلَامَةِ، كَمَا فِي الْعَيْبِ.

أَمَّا انْحِصَارُ الْخِيَارِ فِي أَمْرَيْنِ، هُمَا الرَّدُّ أَوِ الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَعَدَمُ تَخْوِيلِ الْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ بِحِصَّةِ الْفَوَاتِ إِلاَّ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّدِّ، فَهُوَ أَنَّ الْفَائِتَ وَصْفٌ، وَالْأَوْصَافُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ تَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلَوْ فَاتَتْ بِيَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَمْ يَنْقُصْ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ. الْعُقُودُ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ:

11- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَجَالَ هَذَا الْخِيَارِ هُوَ مَجَالُ خِيَارِ الْعَيْبِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَى مَا يَتَعَيَّنُ، فَلَا يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِالتَّعْيِينِ، وَهُوَ الْمَبِيعُ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى طِبْقِ الْوَصْفِ فَهُوَ غَيْرُ الْمَبِيعِ.

وَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ لِلْمَبِيعِ الْغَائِبِ خِيَارًا خَاصًّا بِهِ وَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ.

تَوْقِيتُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى التَّرَاخِي وَلَا يَتَوَقَّتُ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ إِلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُسْقِطُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ تَوْقِيتَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْفَوْرِ.وَذَلِكَ كُلُّهُ مُنْسَجِمٌ مَعَ اعْتِبَارِ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَابْتِنَائِهِ عَلَيْهِ.

انْتِقَالُهُ بِالْمَوْتِ:

13- هَذَا الْخِيَارُ يُورَثُ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهِ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّهُ فِي ضِمْنِ مِلْكِ الْعَيْنِ، هَكَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَالِانْتِقَالُ عِنْدَهُمْ مُقَرَّرٌ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْعَيْنِ.

سُقُوطُهُ:

14- يَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْعَيْبِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الْعَيْبِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


46-موسوعة الفقه الكويتية (خيار المجلس)

خِيَارُ الْمَجْلِسِ

التَّعْرِيفُ:

1- سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْ كَلِمَةِ (خِيَارٌ) فِي مُصْطَلَحِ خِيَارٌ بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَأَمَّا كَلِمَةُ (الْمَجْلِسِ) - بِكَسْرِ اللاَّمِ- فَهِيَ تَرِدُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، وَاسْمًا لِلزَّمَانِ، وَاسْمًا لِلْمَكَانِ، مِنْ مَادَّةِ (الْجُلُوسِ) وَاسْتِعْمَالُهُ الْمُنَاسِبُ هُنَا هُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ، أَيْ مَوْضِعِ الْجُلُوسِ.وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ كَلِمَةَ (الْمَجْلِسِ) تَحْمِلُ مَعْنَى (مَجْلِسِ الْعَقْدِ) فَهِيَ لَيْسَتْ لِمُطْلَقِ مَجْلِسٍ، بَلْ لِمَجْلِسِ الْعَقْدِ خَاصَّةً، وَهَذَا التَّقْيِيدُ تُشِيرُ إِلَيْهِ (أَلْ) فَهِيَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الذِّهْنِ.وَالْمُرَادُ مَكَانُ التَّبَايُعِ أَوِ التَّعَاقُدِ.فَمَا دَامَ الْمَكَانُ الَّذِي يَضُمُّ كِلَا الْعَاقِدَيْنِ وَاحِدًا، فَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ، إِلَى أَنْ يَتَفَرَّقَا وَيَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْلِسُهُ الْمُسْتَقِلُّ.

وَمَجْلِسُ الْعَقْدِ: هُوَ الْوِحْدَةُ الزَّمَنِيَّةُ الَّتِي تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ صُدُورِ الْإِيجَابِ، وَتَسْتَمِرُّ طِوَالَ الْمُدَّةِ الَّتِي يَظَلُّ فِيهَا الْعَاقِدَانِ مُنْصَرِفَيْنِ إِلَى التَّعَاقُدِ، دُونَ ظُهُورِ إِعْرَاضٍ مِنْ أَحَدِهِمَا عَنِ التَّعَاقُدِ، وَتَنْتَهِي بِالتَّفَرُّقِ، وَهُوَ مُغَادَرَةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لِلْمَكَانِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْعَقْدُ.

وَفِي حُكْمِ التَّفَرُّقِ حُصُولُ التَّخَايُرِ.وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ رَدِّهِ.

لَكِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَا يَبْدَأُ مِنْ صُدُورِ الْإِيجَابِ بَلْ مِنْ لَحَاقِ الْقَبُولِ بِهِ مُطَابِقًا لَهُ، أَمَّا قَبْلَ وُقُوعِ الْقَبُولِ فَإِنَّ الْعَاقِدَيْنِ يَمْلِكَانِ خِيَارًا فِي إِجْرَاءِ الْعَقْدِ أَوْ عَدَمِهِ، لَكِنَّهُ خِيَارٌ يُدْعَى خِيَارُ الْقَبُولِ، وَهُوَ يَسْبِقُ تَمَامَ التَّعَاقُدِ.هَذَا، وَإِنَّ حَقِيقَةَ الْجُلُوسِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً فِي هَذَا الْخِيَارِ الْمُسَمَّى (بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ)، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْفَتْرَةُ الزَّمَنِيَّةُ الَّتِي تَعْقُبُ عَمَلِيَّةَ التَّعَاقُدِ دُونَ طُرُوءِ التَّفَرُّقِ مِنْ مَكَانِ التَّعَاقُدِ.فَالْجُلُوسُ ذَاتُهُ لَيْسَ مُعْتَبَرًا فِي ثُبُوتِهِ، وَلَا تَرْكُ الْمَجْلِسِ مُعْتَبَرٌ فِي انْقِضَائِهِ، بَلِ الْعِبْرَةُ لِلْحَالِ الَّتِي يَتَلَبَّسُ بِهَا الْعَاقِدَانِ، وَهِيَ الِانْهِمَاكُ فِي التَّعَاقُدِ.

فَخِيَارُ الْمَجْلِسِ هُوَ: حَقُّ الْعَاقِدِ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ رَدِّهِ، مُنْذُ التَّعَاقُدِ إِلَى التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ.

وَمُعْظَمُ الْمُؤَلِّفِينَ يَدْعُونَ هَذَا الْخِيَارَ (خِيَارَ الْمَجْلِسِ) غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ دَعَاهُ (خِيَارَ الْمُتَبَايِعَيْنِ) وَلَعَلَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُثْبِتِ لِهَذَا الْخِيَارِ، وَهُوَ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا».فَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ الْمَرْوِيَّةِ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ».وَبَعْضُ مَنْ لَا يَأْخُذُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ أَيْضًا لَكِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَهُ، بَلْ يَقْصِدُونَ حَالَاتِ تَخْيِيرٍ أُخْرَى نَاشِئَةً بِأَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ، تَتَقَيَّدُ مُدَّتُهَا بِمَجْلِسِ نُشُوءِ الْخِيَارِ الَّذِي ثَبَتَ لِمُدَّةٍ لَا تُجَاوِزُ زَمَنَ الْمَجْلِسِ، نَحْوُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ لِلزَّوْجَةِ، حَيْثُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا مَا لَمْ تَقُمْ فَتُبَدِّلُ مَجْلِسُهَا، أَوْ تَعْمَلُ مَا يَقْطَعُ الْمَجْلِسَ.

مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:

2- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَذَهَبَ مُعْظَمُهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى إِنْكَارِهِ وَاعْتِبَارِ الْعَقْدِ لَازِمًا مِنْ فَوْرِ انْعِقَادِهِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَاتِهِ، فَلَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ عَنِ الْمَجْلِسِ أَوِ التَّخَايُرِ وَاخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ السَّلَفِ إِلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ.كَمَا نَفَاهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ تُدَوَّنْ مَذَاهِبُهُمْ، الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْعَنْبَرِيُّ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ مِنَ السُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ».وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ إِثْبَاتُ الْخِيَارِ مِنَ الشَّرْعِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، وَهُمَا مُتَبَايِعَانِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُمَا مُتَسَاوِمَانِ.وَالْحَدِيثُ وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ (الْمُتَبَايِعَيْنِ) يَشْمَلُ مَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ.وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ: «كَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا».وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي أُصُولِ الْحَدِيثِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ، أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ بِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- خَيَّرَ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْبَيْعِ، أَيْ قَالَ لَهُ: «اخْتَرْ»، لِكَيْ يَنْبَرِمَ الْعَقْدُ، وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْحَدِيثِ بِرِوَايَتِهِ الْأُخْرَى، «أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- بَايَعَ رَجُلًا فَلَمَّا بَايَعَهُ قَالَ لَهُ: اخْتَرْ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْبَيْعُ».

وَهُنَاكَ آثَارٌ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَظَانِّهَا.

وَاسْتَدَلُّوا لَهُ أَيْضًا بِالْمَعْقُولِ، كَحَاجَةِ النَّاسِ الدَّاعِيَةِ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا قَدْ يَبْدُو لَهُ فَيَنْدَمُ، فَبِالْخِيَارِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ.

وَاحْتَجَّ النُّفَاةُ بِدَلَائِلَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ:

فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبَاحَتْ أَكْلَ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ، مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّفَرُّقِ عَنْ مَكَانِ الْعَقْدِ.وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَوَازُ الْأَكْلِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ، وَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، إِذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ فِي الْمَجْلِسِ لَا يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ، فَكَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.

وقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فَإِذَا لَمْ يَقَعِ الْعَقْدُ لَازِمًا لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ مَا تَقْضِي بِهِ الْآيَةُ.

وَاحْتَجُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقْيِيدَ بِالتَّفَرُّقِ، فَلَوْ كَانَ قَيْدًا لَذَكَرَهُ، كَمَا ذَكَرَ قَيْدَ الِاسْتِيفَاءِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ.

كَمَا أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِإِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُتَبَايِعَيْنِ الَّتِي فِيهَا: «فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ»،، حَيْثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِقَالَةِ.

وَحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَالْقَوْلُ بِالْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الشَّرْطَ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَعْتَبِرُ الشُّرُوطَ.

وَقَاسُوا الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ فِي هَذَا عَلَى النِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَالْكِتَابَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتِمُّ بِلَا خِيَارِ الْمَجْلِسِ، بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا، فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ.

كَمَا قَاسُوا مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ.

وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ قَالُوا: إِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ بِمَجْهُولٍ، فَإِنَّ مُدَّةَ الْمَجْلِسِ مَجْهُولَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَا خِيَارًا مَجْهُولًا، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ مَمْنُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ.

وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْبَيْعَ صَدَرَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ، وَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي الْحَالِ.فَالْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَقْدِ الثَّابِتِ بِتَرَاضِيهِمَا، أَوْ تَصَرُّفًا فِي حُكْمِهِ بِالرَّفْعِ وَالْإِبْطَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، كَمَا لَمْ تَجُزِ الْإِقَالَةُ أَوِ الْفَسْخُ مِنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ.

زَمَنُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:

3- الزَّمَنُ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، هُوَ الْفَتْرَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا لَحْظَةُ انْبِرَامِ الْعَقْدِ، أَيْ بَعْدَ صُدُورِ الْقَبُولِ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ.

أَمَدُ الْخِيَارِ:

4- أَمَدُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ، لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ لِإِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَيَطُولُ بِرَغْبَتِهِمَا فِي زِيَادَةِ التَّرَوِّي، وَيَقْصُرُ بِإِرَادَةِ الْمُسْتَعْجِلِ مِنْهُمَا حِينَ يُخَايِرُ صَاحِبَهُ أَوْ يُفَارِقُهُ.فَهُوَ يُخَالِفُ فِي هَذَا خِيَارَ الشَّرْطِ الْقَائِمَ عَلَى تَعْيِينِ الْأَمَدِ بِصُورَةٍ مُحَدَّدَةٍ.فَانْتِهَاءُ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا غَيْرُ مُنْضَبِطٍ لِارْتِبَاطِهِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ.وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ زَمَنُ حُصُولِهِ.

وَلَكِنَّ هُنَاكَ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَصَفَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، مُفَادُهُ: أَنَّ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَمَدًا أَقْصَى هُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ كَيْ لَا يَزِيدَ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ.

وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّ مِنْ مُسْقِطَاتِهِ شُرُوعَ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَإِعْرَاضَهُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ مَعَ طُولِ الْفَصْلِ.فَهَذَا الْمُسْقِطُ يُقَصِّرُ مِنْ أَجَلِ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنَ التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ.لِأَنَّهُ يَحْصُرُهُ فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ الْجَادَّةِ وَهِيَ بُرْهَةٌ يَسِيرَةٌ.وَالرَّاجِحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ حَتَّى التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ.

انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:

5- أَسْبَابُ انْتِهَاءِ الْخِيَارِ مُنْحَصِرَةٌ فِي التَّفَرُّقِ، وَالتَّخَايُرِ (اخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ).وَهُنَاكَ سَبَبٌ ثَالِثٌ يَنْتَهِي بِهِ الْخِيَارُ تَبَعًا لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ، أَصْلًا، وَهُوَ فَسْخُ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ الَّذِي شُرِعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِإِتَاحَتِهِ، لَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْعَقْدِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ.وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ، وَبِالْمَوْتِ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْقَائِلَةِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ.

أَوَّلًا: التَّفَرُّقُ:

6- يَنْتَهِي خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالتَّفَرُّقِ، وَهُوَ سَبَبٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُثْبِتِينَ لَهُ، وَيُرَاعَى فِيهِ عُرْفُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

ثَانِيًا- التَّخَايُرُ:

اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ:

7- مِنْ أَسْبَابِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ، عَلَى أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَيَسْقُطَ بِهِ الْخِيَارُ، وَسَبِيلُهُ أَنْ يَقُولَا: اخْتَرْنَا لُزُومَ الْعَقْدِ، أَوْ أَمْضَيْنَاهُ، أَوْ أَلْزَمْنَاهُ، أَوْ أَجَزْنَاهُ أَوْ نَحْوَهُ.وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى اخْتِيَارِ اللُّزُومِ يُسَمَّى: التَّخَايُرُ وَلَهُ نَظِيرُ الْأَثَرِ الَّذِي يَحْدُثُ بِالتَّفَرُّقِ.

الْخِلَافُ فِي التَّخَايُرِ:

8- اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي انْتِهَائِهِ بِالتَّخَايُرِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَصَفَهَا ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهَا أَصَحُّ إِلَى انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ.

وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى عَدَمِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ.مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى التَّفَرُّقِ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَلَا تَخْصِيصٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَأَبِي بَرْزَةَ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

أَمَّا مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُصَحَّحَةِ الَّتِي تَجْعَلُ الْمُسْقِطَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: التَّفَرُّقَ أَوِ التَّخَايُرَ، فَهُوَ الرِّوَايَاتُ الْأُخْرَى الْمُتَضَمَّنَةُ لِذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ، كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْمَرْفُوعَةِ: «فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» أَيْ لَزِمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى.

أَحْكَامُ التَّخَايُرِ:

9- التَّخَايُرُ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ صَرَاحَةً بِنَحْوِ عِبَارَةِ: اخْتَرْنَا إِمْضَاءَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ ضِمْنًا، وَمِثَالُهُ: أَنْ يَتَبَايَعَ الْعَاقِدَانِ الْعِوَضَيْنِ (اللَّذَيْنِ جَرَى عَلَيْهِمَا الْعَقْدُ الْأَوَّلُ) بَعْدَ قَبْضِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ لِلرِّضَا بِلُزُومِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ.بَلْ يَكْفِي تَصَرُّفُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ الْآخَرِ بِالْعِوَضِ الَّذِي لَهُ، أَيْ لَا يُشْتَرَطُ تَبَايُعُ الْعِوَضَيْنِ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ تَصْوِيرٍ، وَيَكْفِي بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِسُقُوطِ الْخِيَارِ وَإِمْضَاءِ الْعَقْدِ.

وَانْتِهَاءُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، إِنَّمَا هُوَ إِذَا وَقَعَ اخْتِيَارُ الْفَسْخِ أَوِ الْإِمْضَاءِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: اخْتَرْ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ لِسُقُوطِ الْخِيَارِ.أَمَّا إِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: اخْتَرْ، فَسَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، فَمَا حُكْمُ خِيَارِ السَّاكِتِ؟ وَمَا حُكْمُ خِيَارِ الْقَائِلِ؟ خِيَارُ السَّاكِتِ بَعْدَ التَّخْيِيرِ:

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ السَّاكِتَ لَا يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: سُقُوطُ خِيَارِهِ.وَاسْتُدِلَّ لِلِاتِّجَاهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ فَلَمْ يَحْصُلِ الرِّضَا، إِنَّمَا سَكَتَ عَنِ الْفَسْخِ أَوِ الْإِمْضَاءِ.فَإِسْقَاطُ خِيَارِهِ يَتَنَافَى مَعَ حَقِّهِ فِي الْخِيَارِ وَالِاخْتِيَارِ بِنَفْسِهِ.

وَاسْتُدِلَّ لِلِاتِّجَاهِ الثَّانِي بِقِيَاسِ السُّقُوطِ عَلَى الثُّبُوتِ، فَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَثْبُتُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَكَذَلِكَ سُقُوطُهُ، لِيَتَسَاوَيَا فِي انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، كَمَا تَسَاوَيَا فِي قِيَامِهِ وَنُشُوئِهِ.

خِيَارُ الْمُنْفَرِدِ بِالتَّخْيِيرِ:

أَمَّا خِيَارُ الَّذِي بَادَرَ إِلَى تَخْيِيرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ هَذَا بِشَيْءٍ، فَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رَأْيَانِ:

الْأَوَّلُ: سُقُوطُ خِيَارِهِ- وَهُوَ الْأَصَحُّ- بِدَلَالَةِ تَعْلِيقِ الْحَدِيثِ مَصِيرَ خِيَارِ الْعَاقِدِ عَلَى صُدُورِ التَّخْيِيرِ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ لِصَاحِبِهِ مَا مَلَكَهُ مِنَ الْخِيَارِ فَسَقَطَ خِيَارُهُ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لِأَنَّهُ خَيَّرَ صَاحِبَهُ فَلَمْ يَخْتَرْ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، لِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى التَّخْيِيرِ كَانَ بِقَصْدِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ لَهُمَا، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ بَقِيَ لَهُ خِيَارُهُ.

اخْتِيَارُ فَسْخِ الْعَقْدِ:

10- سَوَاءٌ حَصَلَ الْفَسْخُ لِلْعَقْدِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِصُدُورِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ تَمَسَّكَ الْآخَرُ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِجَازَةِ حِينَ اخْتِلَافِ رَغْبَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْخِيَارِ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّمَكُّنُ مِنَ الْفَسْخِ دُونَ الْإِجَازَةِ لِأَصَالَتِهَا.وَالْفَسْخُ- كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ- مَقْصُودُ الْخِيَارِ.

وَفَسْخُ الْعَقْدِ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ تَبَعًا، لِأَنَّ سُقُوطَهُ كَانَ لِسُقُوطِ الْعَقْدِ أَصْلًا، فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ أَيْضًا لِابْتِنَائِهِ عَلَيْهِ، وَحَسَبَ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ «إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ».

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حُصُولِ الْفَسْخِ مُبَاشَرَةً، أَوْ عَقِبَ تَخْيِيرِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ، فَالْأَثَرُ لِلْفَسْخِ، لِأَنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الْخِيَارِ.

ثَالِثًا- التَّصَرُّفُ:

11- يَفْتَرِقُ الشَّافِعِيَّةُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذَا الْمُسْقِطِ، فَفِي حِينِ يَأْبَاهُ الْأَوَّلُونَ، وَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ لَا يُسْقِطُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْبَيْعِ كَمَا سَبَقَ، يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْصِيلِ، فَفِي عِدَّةِ صُوَرٍ يَسْقُطُ بِالتَّصَرُّفِ مِنَ الْمُشْتَرِي- أَوِ الْبَائِعِ- خِيَارُهُمَا جَمِيعًا، أَوْ خِيَارُ أَحَدِهِمَا.

وَتَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ اكْتَفَوْا بِالْبَيَانِ دَلَالَةً دُونَ التَّصْرِيحِ بِعَدَمِ الْأَثَرِ لِلتَّصَرُّفِ فِي إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، حَيْثُ نَصُّوا فِي بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى إِسْقَاطِهِ إِيَّاهُ، وَسَكَتُوا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَنِ اعْتِبَارِهِ مُسْقِطًا، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ عَزَّزَ هَذَا الْبَيَانَ بِالتَّصْرِيحِ، فَفِي شَرْحِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا لِمُخْتَصَرِهِ «الْمَنْهَجِ» عِنْدَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمُسْقِطَيْنِ: التَّخَايُرِ وَالتَّفَرُّقِ، أَضَافَ مُحَشِّيهِ سُلَيْمَانُ الْجَمَلُ قَائِلًا مِنْ طَرِيقِ الْحَاشِيَةِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ عَنْ شَرْحِ الْعُبَابِ: إِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ حَصْرِهِ لِقَاطِعِ الْخِيَارِ فِيهِمَا، أَنَّ رُكُوبَ الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ لَا يَقْطَعُ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِاخْتِبَارِهَا، وَالثَّانِي يَقْطَعُ، لِتَصَرُّفِهِ، وَالَّذِي يُتَّجَهُ تَرْجِيحُهُ الْأَوَّلُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّصَرُّفِ يَقْطَعُهُ، وَيُقَاسُ بِالْمَذْكُورِ مَا فِي مَعْنَاهُ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِأَنَّهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَلَدَيْهِمْ صُوَرٌ يَسْقُطُ بِهَا خِيَارُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَهَمُّهَا: تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ لَهُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّهُ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِمَا، وَالتَّصَرُّفُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِإِمْضَائِهِ، فَلَيْسَ أَقَلَّ أَثَرًا مِنَ التَّخَايُرِ.أَمَّا تَصَرُّفُ الْبَائِعِ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي، فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مُمَاثِلٌ فِي الْحُكْمِ لِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، وَأَنَّ الْوَجْهَ فِي احْتِمَالِ عَدَمِ إِسْقَاطِهِ لِلْخِيَارِ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ، فَتَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنٍ.

أَمَّا تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا بِتَصَرُّفٍ نَاقِلٍ، كَالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ، أَوِ الْوَقْفِ، أَوْ بِتَصَرُّفٍ شَاغِلٍ كَالْإِجَارَةِ، أَوِ الرَّهْنِ..فَلَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ، لِأَنَّ الْبَائِعَ تَصَرَّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ- بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَهُمْ- وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّ الْبَائِعِ مِنَ الْخِيَارِ، وَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْبَائِعِ بِهِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فَمَنَعَ صِحَّتَهُ أَيْضًا.

رَابِعًا: إِسْقَاطُ الْخِيَارِ ابْتِدَاءً:

12- الْمُرَادُ هُنَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ: التَّنَازُلُ عَنْهُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ التَّعَاقُدِ، أَوْ فِي بِدَايَةِ الْعَقْدِ قَبْلَ إِبْرَامِهِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: التَّبَايُعُ بِشَرْطِ نَفْيِ الْخِيَارِ.وَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لَا يُعْتَبَرُ مِنْهُ التَّخَلِّي عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ التَّعَاقُدِ، أَثَرُ اسْتِحْقَاقِ الْعَاقِدَيْنِ لَهُ وَسَرَيَانُ الْمَجْلِسِ، فَالتَّخَلِّي عَنْهُ حِينَئِذٍ بِالتَّخَايُرِ يَسْتَحِقُّ اسْمَ (الِانْتِهَاءِ) لِلْخِيَارِ، لَا الْإِسْقَاطِ لَهُ.أَمَّا حُكْمُ هَذَا الْإِسْقَاطِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَكَانَ لَهُمْ فِيهِ الْآرَاءُ التَّالِيَةُ:

الْأَوَّلُ: صِحَّةُ الْإِسْقَاطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ لَيْسَ بِالْمُصَحَّحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

الثَّانِي: امْتِنَاعُ الْإِسْقَاطِ وَبُطْلَانُ الْبَيْعِ أَيْضًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَكُتُبِ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ.

الثَّالِثُ: امْتِنَاعُ الْإِسْقَاطِ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ غَيْرُ مُصَحَّحٍ.

وَسَوَاءٌ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ أَنْ يُسْقِطَاهُ كِلَاهُمَا، أَوْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِإِسْقَاطِ خِيَارِهِ، أَوْ يَشْتَرِطَا سُقُوطَ خِيَارِ أَحَدِهِمَا بِمُفْرَدِهِ.فَفِي إِسْقَاطِ خِيَارَيْهِمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ، وَفِي إِسْقَاطِ خِيَارِ أَحَدِهِمَا يَبْقَى خِيَارُ الْآخَرِ.

وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ صَحَّحَ إِسْقَاطَ الْخِيَارِ قَبْلَ الْعَقْدِ بِحَدِيثِ الْخِيَارِ نَفْسِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ: «فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ».وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا التَّخَايُرَ فِي الْمَجْلِسِ، فَهِيَ عَامَّةٌ تَشْمَلُهُ وَتَشْمَلُ التَّخَايُرَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَهُمَا فِي الْحُكْمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ.وَلِأَنَّ مَا أَثَّرَ فِي الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ، أَثَّرَ فِيهِ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ، فَكَمَا يَكُونُ لِلْعَاقِدِ التَّنَازُلُ عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ ذَلِكَ قُبَيْلَ التَّعَاقُدِ، وَتَشْبِيهُهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فِي جَوَازِ إِخْلَاءِ الْعَقْدِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ.

وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ نَحَوْا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْحَى الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْخِيَارَ جُعِلَ رِفْقًا بِالْمُتَعَاقِدِينَ، فَجَازَ لَهُمَا تَرْكُهُ.وَلِأَنَّ الْخِيَارَ غَرَرٌ فَجَازَ إِسْقَاطُهُ.

أَمَّا دَلِيلُ الْمَنْعِ- وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ- فَهُوَ أَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْلَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ، إِذْ هُوَ خِيَارٌ يَثْبُتُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَلَهُ نَظِيرٌ هُوَ (خِيَارُ الشُّفْعَةِ) فَإِنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ.

وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِسْقَاطَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ لِثُبُوتِهِ شَرْعًا مَصْحُوبًا بِالْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ.

أَمَّا دَلِيلُ جَوَازِ إِسْقَاطِ الشَّرْطِ فَقَطْ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، فَهُوَ مَا فِي الشَّرْطِ مِنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، يَبْطُلُ وَحْدَهُ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ.

أَسْبَابُ انْتِقَالِ الْخِيَارِ:

أَوَّلًا: الْمَوْتُ:

13- اخْتَلَفَتِ الْآرَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى الصُّورَةِ التَّالِيَةِ: الْأَوَّلُ: انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

الثَّانِي: سُقُوطُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.

الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ وُقُوعِ الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمَيِّتِ بِهِ فِي وَصِيَّتِهِ، وَعَدَمِ تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ.

اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِانْتِقَالِ الْخِيَارِ- بِالْمَوْتِ- إِلَى الْوَرَثَةِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَالْأَحَادِيثِ، فِي انْتِقَالِ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ حَقٍّ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ».وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ، فَكِلَاهُمَا حَقٌّ لَازِمٌ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَا خِلَافَ فِي انْتِقَالِ خِيَارِ الْعَيْبِ بِالْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ.وَيُقَاسُ أَيْضًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ مِمَّا يُورَثُ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِإِبْطَالِ الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بِأَنَّهُ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ، تَتَّصِلُ بِشَخْصِ الْعَاقِدِ، وَانْتِقَالُ ذَلِكَ إِلَى الْوَارِثِ لَا يُتَصَوَّرُ.

ثَانِيًا: الْجُنُونُ وَنَحْوُهُ:

14- إِذَا أُصِيبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ بِالْجُنُونِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، انْتَقَلَ الْخِيَارُ- فِي الْأَصَحِّ- إِلَى الْوَلِيِّ، مِنْ حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ: كَالْمُوَكِّلِ عِنْدَ مَوْتِ الْوَكِيلِ، وَقَدِ ارْتَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يُئِسَ مِنْ إِفَاقَتِهِ أَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ الِانْتِظَارِ مُطْلَقًا.

وَكَذَلِكَ إِنْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ، وَلَا كِتَابَةَ لَهُ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنْ أَمْكَنَتِ الْإِجَازَةُ مِنْهُ بِالتَّفَرُّقِ، وَلَيْسَ هُوَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْحَاكِمُ نَابَ عَنْهُ فِيمَا تَعَذَّرَ مِنْهُ بِالْقَوْلِ، أَمَّا إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، أَوْ كَانَ لَهُ كِتَابَةٌ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فِي الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ، لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْعَقْلِ لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَكَانِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ لَا يُبْطِلُهُ، فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ إِذَا أَفَاقَ، أَمَّا فِي مُطْبِقِ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ، فَيَقُومُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْفُرْقَتَيْنِ.

آثَارُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:

15- لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ آثَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَقْدِ، لَكِنَّ أَحَدَهَا يُعْتَبَرُ الْأَثَرَ الْأَصْلِيَّ لِلْخِيَارِ، فِي حِينِ تَكُونُ الْأُخْرَى آثَارًا فَرْعِيَّةً، هَذَا الْأَثَرُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخِيَارِ مِنْ كُلِّ الْخِيَارَاتِ.وَلِذَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى (الْأَثَرُ الْعَامُّ)، وَهُوَ مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِنَاعِ لُزُومِ الْعَقْدِ آثَارٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْهُ تَتَّصِلُ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ.

أَوَّلًا: الْأَثَرُ الْأَصْلِيُّ:

مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ:

16- مُفَادُ ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ غَيْرَ لَازِمٍ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ التَّفَرُّقُ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، أَوِ اخْتِيَارُ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ.فَيَكُونُ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ قَبْلَ ذَلِكَ.

وَهَذَا الْأَثَرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، ذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْخِيَارِ الْفَسْخُ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَقْصُودُ إِلاَّ بِتَقَاصُرِ الْعَقْدِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْقُوَّةِ، وَالِاسْتِعْصَاءِ عَنِ الْفَسْخِ.وَهَذَا التَّقَاصُرُ سَبِيلُهُ أَنْ يَظَلَّ الْعَقْدُ غَيْرَ لَازِمٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ.

ثَانِيًا: الْآثَارُ الْفَرْعِيَّةُ:

انْتِقَالُ الْمِلْكِ

17- هَذَا الْأَثَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى رَأْيَيْنِ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: فِقْدَانُ الْأَثَرِ:

وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ- فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ- (وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ).وَعَلَى هَذَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي مَعَ وُجُودِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ.وَلَا أَثَرَ لَهُ عَلَى نَفَاذِ الْعَقْدِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ، كَمَا لَا أَثَرَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُنْتِجُ أَحْكَامَهُ كُلَّهَا- مَعَ بَقَائِهِ قَابِلًا لِلْفَسْخِ- خِلَالَ الْمَجْلِسِ إِلَى حُصُولِ مَا يُنْهِي الْخِيَارَ مِنْ تَفَرُّقٍ أَوْ تَخَايُرٍ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: تَقْيِيدُ النَّفَاذِ:

وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ- فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ- أَنَّ لِلْخِيَارِ أَثَرًا فِي نَفَاذِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ انْتِقَالُ الْمِلْكِ، فَلَا يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُشْتَرِي وَلَا لِلْبَائِعِ، بَلْ يُنْتَظَرُ، فَإِنْ تَمَّ الْعَقْدُ، حُكِمَ بِأَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِلاَّ فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ مِلْكُ الْبَائِعِ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ.وَهَكَذَا يَكُونُ الثَّمَنُ مَوْقُوفًا.

وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ (الْقَائِلِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ) بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا الِاسْتِدْلَالُ بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» وَحَدِيثُ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ».وَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهِمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الْمَالَ الْمُصَاحِبَ لِلْعَبْدِ، وَالثَّمَرَةَ لِلْمُبْتَاعِ بِمُجَرَّدِ اشْتِرَاطِهِ، وَاسْتَدَلُّوا مِنْ وُجُوهِ الْمَعْقُولِ، بِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ وُجُودِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بَيْعٌ صَحِيحٌ، فَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي أَثَرِهِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ، فَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِ لَا يُنَافِيهِ.

أَمَّا أَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي (الْقَائِلِ بِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ، فَيُعْرَفُ كَيْفَ كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ) وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْخِيَارَ (كَخِيَارِ الشَّرْطِ مَثَلًا) إِذَا ثَبَتَ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ لَمْ يَنْتَقِلَ الْمِلْكُ فِي الْعِوَضَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهِمَا، فَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدَيْنِ (وَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ) فَإِنَّ مُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِلْبَائِعِ عَدَمُ انْتِقَالِ الْمِلْكِ، وَمُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِلْمُشْتَرِي انْتِقَالُهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ وَالْمُرَاعَاةِ (التَّرَقُّبِ) إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ بِالتَّفَرُّقِ، أَوِ التَّخَايُرِ، أَوْ غَيْرِهِمَا.

أَثَرُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى الْعَقْدِ بِخِيَارِ شَرْطٍ:

18- لَا أَثَرَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، فَإِنَّ مُدَّةَ خِيَارِ الشَّرْطِ تُحْسَبُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ الْوَاقِعِ فِيهِ الشَّرْطُ.هَذَا إِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَدِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِنِ اشْتُرِطَ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ مِنْ حِينِ الشَّرْطِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


47-موسوعة الفقه الكويتية (خيار النقد)

خِيَارُ النَّقْدِ

التَّعْرِيفُ

1- سَبَقَ تَعْرِيفُ الْخِيَارِ.أَمَّا النَّقْدُ فَمِنْ مَعَانِيهِ لُغَةً: الْإِعْطَاءُ وَالْقَبْضُ، يُقَالُ: نَقَدْتُ الرَّجُلَ الدَّرَاهِمَ، فَانْتَقَدَهَا بِمَعْنَى أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا فَقَبَضَهَا.

وَخِيَارُ النَّقْدِ اصْطِلَاحًا هُوَ: (حَقٌّ يَشْتَرِطُهُ الْعَاقِدُ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْفَسْخِ لِعَدَمِ النَّقْدِ).

وَلَهُ صُورَتَانِ:

1- التَّعَاقُدُ وَاشْتِرَاطُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا لَمْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا.وَمُسْتَعْمِلُ الْخِيَارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ هُوَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَتْ فَائِدَتُهُ الْكُبْرَى لِلْبَائِعِ.وَقَدْ وَصَفُوا هَذِهِ الصُّورَةَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ (خِيَارِ الشَّرْطِ) لِلْمُشْتَرِي.

2- التَّعَاقُدُ ثُمَّ قِيَامُ الْمُشْتَرِي بِالنَّقْدِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا رَدَّ الْعِوَضَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا.وَمُسْتَعْمِلُ الْخِيَارِ هُنَا هُوَ الْبَائِعُ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْمُنْتَفِعُ بِالْخِيَارِ.وَهَذِهِ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ذَاتُ شَبَهٍ تَامٍّ بِبَيْعِ الْوَفَاءِ مِمَّا جَعَلَ بَعْضَهُمْ يُدْخِلُ بَيْعَ الْوَفَاءِ فِي خِيَارِ النَّقْدِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ بِكَذَا بِشَرْطِ أَنِّي مَتَى رَدَدْتُ إِلَيْكَ الثَّمَنَ فِي مَوْعِدِ كَذَا تَرُدَّ إِلَيَّ الْمَبِيعَ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ (خِيَارِ الشَّرْطِ) لِلْبَائِعِ.

مَشْرُوعِيَّتُهُ:

2- أَثْبَتَ هَذَا الْخِيَارَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ زُفَرَ بْنَ الْهُذَيْلِ.وَقَالَ بِهِ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مُحْتَجًّا بِأَثَرِ عُمَرَ فِيهِ.

وَخَالَفَ فِي هَذَا الْخِيَارِ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَزُفَرُ.

وَاسْتَدَلَّ مُثْبِتُو هَذَا الْخِيَارِ بِالْقِيَاسِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَوُجُوهٍ مِنَ الْمَعْقُولِ.

أَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ مَقِيسٌ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ لِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ التَّرَوِّي.فَهَاهُنَا يَتَرَوَّى الْبَائِعُ أَيَحْصُلُ لَهُ الثَّمَنُ أَمْ لَا.وَكَذَلِكَ يَتَرَوَّى الْمُشْتَرِي أَيُنَاسِبُهُ الْبَيْعُ أَمْ لَا، فَيَسْتَرِدُّ مَا نَقَدَ (بِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ مَعَ الْبَائِعِ).

وَأَمَّا آثَارُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ الْأَخْذُ بِهِ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ أَثْبَتَهُ، وَقَضَى بِهِ شُرَيْحٌ فِي وَاقِعَةٍ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ جَاءَ بِالثَّمَنِ مِنَ الْغَدِ فَاخْتَصَمَا إِلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ: أَنْتَ أَخْلَفْتَهُ.وَاحْتَجُّوا لَهُ مِنْ وُجُوهِ الْمَعْقُولِ بِدَاعِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَالْحَاجَةِ إِلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، لِلتَّرَوِّي مِنَ الْمُشْتَرِي فِي مَعْرِفَةِ قُدْرَتِهِ عَلَى النَّقْدِ، وَمِنَ الْبَائِعِ لِيَتَأَمَّلَ هَلْ يَصِلُ إِلَيْهِ الثَّمَنُ فِي الْمُدَّةِ تَحَرُّزًا عَنِ الْمُمَاطَلَةِ مِنَ الْعَاقِدِ الْآخَرِ.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ هَذَا الْخِيَارَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ خِيَارٍ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ شَرْطًا مُطْلَقًا وَعَلَّقَ فَسْخَهُ عَلَى غَرَرٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَقَدَ بَيْعًا مَثَلًا بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ الْيَوْمَ فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا.وَاحْتَجَّ زُفَرُ لِنَفْيِهِ بِقِيَاسٍ آخَرَ هُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ شُرِطَتْ فِيهِ إِقَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالشَّرْطِ، وَاشْتِرَاطُ الْإِقَالَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْبَيْعِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَكَيْفَ بِاشْتِرَاطِ الْفَاسِدَةِ؟ وَمَا ذَكَرَهُ زُفَرُ هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ ثُبُوتَ خِيَارِ النَّقْدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَهُوَ جَائِزٌ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ النَّقْدِ هُوَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ بِجَامِعِ التَّعْلِيقِ فِي كِلَيْهِمَا، كُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ اخْتِلَافُ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ بَيْنَ كَوْنِهِ مُرُورَ الْمُدَّةِ دُونَ فَسْخٍ أَوْ مُرُورَهَا دُونَ نَقْدٍ.وَلَا يُمْنَعُ ثُبُوتُهُ بِالْقِيَاسِ (أَوْ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ) أَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَالْمُرَادُ قِيَاسُهُ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ وَكِلَاهُمَا ثَبَتَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، أَيْ مُخَالِفَيْنِ لِلْأُصُولِ الْعَامَّةِ الْقَاضِيَةِ بِلُزُومِ الْعَقْدِ كَأَصْلٍ ثَابِتٍ.

صَاحِبُ الْخِيَارِ:

3- يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْمُشْتَرِيَ أَوِ الْبَائِعَ بِحَسَبِ الصُّورَةِ الَّتِي اشْتُرِطَ فِيهَا، فَإِذَا ظَهَرَ بِعِبَارَةٍ (عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا نَقَدَ فِي الْمُدَّةِ، وَإِلاَّ فَلَا بَيْعَ) فَصَاحِبُهُ هُوَ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنَ الْفَسْخِ بِعَدَمِ النَّقْدِ.وَأَمَّا إِنْ ظَهَرَ بِعِبَارَةِ (إِنْ رَدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ خِلَالَ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ) فَصَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ، وَرَدُّهُ الثَّمَنَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ بِالْفَسْخِ.

وَفَائِدَةُ الْبَائِعِ مِنْ هَذَا الْخِيَارِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، أَمْ كَانَ الْبَائِعُ صَاحِبَ الْخِيَارِ، لِانْتِفَاعِهِ بِحُصُولِ الْفَسْخِ إِذَا مَطَلَ الْمُشْتَرِي.

مُدَّةُ خِيَارِ النَّقْدِ:

4- لَمْ تَتَّفِقَ الْآرَاءُ الْفِقْهِيَّةُ فِي مُدَّتِهِ، بَلِ اخْتَلَفَتْ، أُسْوَةً بِالْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، مَعَ بَعْضِ الْمُغَايَرَةِ نَظَرًا لِثُبُوتِ خِيَارِ الشَّرْطِ بِالنَّصِّ وَثُبُوتِ هَذَا الْخِيَارِ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْآرَاءُ فِي مُدَّتِهِ هِيَ:

1- التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ: فَلَهُمَا أَنْ يُحَدِّدَا الْأَمَدَ الَّذِي يَرَيَانِ فِيهِ مَصْلَحَتَهُمَا، وَلَوْ زَادَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَحْدَهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ جَرَى عَلَى مُوجِبِ قَوْلِهِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَعَلَيْهِ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.

2- التَّحْدِيدُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ مَا يُقَارِبُهَا: وَلَيْسَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنْ يَشْتَرِطَا مُدَّةً زَائِدَةً.فَالتَّحْدِيدُ بِالثَّلَاثِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ أَبِي يُوسُفَ (وَقَدْ خَالَفَ صَنِيعَهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لِتَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمَا، لِوُرُودِ آثَارٍ فِيهِ بِمَا فَوْقَ الثَّلَاثِ، وَبَقِيَ خِيَارُ النَّقْدِ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ) وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.وَأَمَّا التَّحْدِيدُ بِمَا يُقَارِبُ الثَّلَاثَ عَلَى أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْعِشْرِينَ يَوْمًا فَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.

هَذَا، وَإِنِ اشْتُرِطَ مَا يَزِيدُ عَنِ الثَّلَاثِ، عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، يُنْظَرُ إِنْ نَقَدَ فِي الثَّلَاثِ جَازَ، وَإِلاَّ فَسَدَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَنْفَسِخْ، كَمَا حَقَّقَهُ ظَهِيرُ الدِّينِ، وَأَقَرَّ ذَلِكَ ابْنُ الْهُمَامِ وَابْنُ عَابِدِينَ.وَقَدْ جَعَلُوا ذَلِكَ قَيْدًا مُوَضِّحًا لِلْمُرَادِ مِنْ عِبَارَةِ (فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا) فِي صُورَتَيْ خِيَارِ النَّقْدِ، فَإِنَّهَا بِظَاهِرِهَا تَقْتَضِي الِانْفِسَاخَ بَعْدَ النَّقْدِ أَوْ بِالرَّدِّ بَعْدَ النَّقْدِ، لَكِنَّهُمْ حَمَلُوا الْمُرَادَ عَلَى أَنَّهُ لِلْفَسَادِ، أَيْ يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ وَيُمْكِنُ انْقِلَابُهُ صَحِيحًا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فَسَادُهُ، كَمَا فِي النَّقْدِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ.

سُقُوطُهُ وَانْتِقَالُهُ:

5- خِيَارُ النَّقْدِ يُمَاثِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ فِي أَسْبَابِ السُّقُوطِ وَأَحْكَامِهِ، وَكَذَلِكَ انْتِقَالُهُ، فَهُوَ لَا يُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أُسْوَةً بِخِيَارِ الشَّرْطِ (أَصْلُهُ) وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الشَّرْطِ).

صُورَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ خِيَارِ النَّقْدِ (بَيْعُ الْوَفَاءِ).

6- جَعَلَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْمَكَانَ الْأَنْسَبَ لِبَحْثِ بَيْعِ الْوَفَاءِ هُوَ خِيَارُ النَّقْدِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ مِنْ أَفْرَادِ مَسْأَلَةِ خِيَارِ النَّقْدِ.لَكِنَّ صَاحِبَ الْحَاشِيَةِ عَلَى كِتَابِهِ ابْنَ عَابِدِينَ لَمْ يَرْتَضِ ذَلِكَ التَّعْلِيلَ حَيْثُ نَقَلَ عَنِ «النَّهْرِ» أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَفْرَادِهِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِفَسَادِ بَيْعِ الْوَفَاءِ إِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، لَا عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ، إِذْ خِيَارُ النَّقْدِ مُقَيَّدٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَبَيْعُ الْوَفَاءِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِهَا، فَأَنَّى يَكُونُ مِنْ أَفْرَادِهِ؟ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْوَفَاءِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


48-موسوعة الفقه الكويتية (ديات 1)

دِيَاتٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الدِّيَاتُ جَمْعُ دِيَةٍ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ وَدَى الْقَاتِلُ الْقَتِيلَ يَدِيُّهِ دِيَةً إِذَا أَعْطَى وَلِيَّهُ الْمَالَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَأَصْلُهَا وِدْيَةٌ، فَهِيَ مَحْذُوفَةُ الْفَاءِ كَعِدَةٍ مِنَ الْوَعْدِ وَزِنَةٍ مِنَ الْوَزْنِ.وَكَذَلِكَ هِبَةٌ مِنَ الْوَهْبِ.وَالْهَاءُ فِي الْأَصْلِ بَدَلٌ مِنْ فَاءِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْوَاوُ، ثُمَّ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَالُ (دِيَةً) تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْمَالِ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ.

وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ.حَيْثُ قَالُوا فِي تَعْرِيفِهَا: هِيَ مَالٌ يَجِبُ بِقَتْلِ آدَمِيٍّ حُرٍّ عِوَضًا عَنْ دَمِهِ.

لَكِنْ قَالَ فِي تَكْمِلَةِ الْفَتْحِ: الْأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الدِّيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ آخِرًا مِنْ أَنَّ الدِّيَةَ: اسْمٌ لِضَمَانٍ (مُقَدَّرٍ) يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيِّ أَوْ طَرَفٍ مِنْهُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى عَادَةً وَقَلَّمَا يَجْرِي فِيهَا الْعَفْوُ؛ لِعِظَمِ حُرْمَةِ الْآدَمِيِّ.

وَهَذَا مَا يُؤَيِّدُهُ الْعَدَوِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ تَعْرِيفِ الدِّيَةِ: إِنَّ مَا وَجَبَ فِي قَطْعِ الْيَدِ مَثَلًا يُقَالُ لَهُ دِيَةٌ حَقِيقَةً، إِذْ قَدْ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ فِي كَلَامِهِمْ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَعَمَّمُوا تَعْرِيفَ الدِّيَةِ لِيَشْمَلَ مَا يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: (هِيَ الْمَالُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهَا).

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: (إِنَّهَا الْمَالُ الْمُؤَدَّى إِلَى مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ، أَوْ وَلِيِّهِ، أَوْ وَارِثِهِ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ).وَتُسَمَّى الدِّيَةُ عَقْلًا أَيْضًا، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَعْقِلُ الدِّمَاءَ أَنْ تُرَاقَ، وَالثَّانِي أَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ إِذَا وَجَبَتْ وَأُخِذَتْ مِنَ الْإِبِلِ تُجْمَعُ فَتُعْقَلُ، ثُمَّ تُسَاقُ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقِصَاصُ:

2- الْقِصَاصُ مِنَ الْقَصِّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ، وَالْقِصَاصُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْقَوَدُ، وَهُوَ أَنْ يُفْعَلَ بِالْجَانِي مِثْلُ مَا فَعَلَ.فَإِذَا قَتَلَ قُتِلَ مِثْلَهُ، وَإِذَا جَرَحَ جُرِحَ مِثْلَهُ. (ر: قِصَاص).

ب- الْغُرَّةُ:

3- الْغُرَّةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَوَّلُهُ، وَالْغُرَّةُ: الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ، وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الشَّرْعِ: ضَمَانٌ يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَتَبْلُغُ قِيمَتُهَا نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ

عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (غُرَّة)، سُمِّيَتْ غُرَّةً؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ، وَأَقَلُّ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي الْجِنَايَاتِ.

ج- الْأَرْشُ:

4- الْأَرْشُ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْمَالِ الْوَاجِبِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الدِّيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْمَالَ الْمُؤَدَّى مُقَابِلَ النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ.وَقَدْ يُطْلَقُ الْأَرْشُ عَلَى بَدَلِ النَّفْسِ أَيْضًا، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الدِّيَةِ.

د- حُكُومَةُ عَدْلٍ:

5- مِنْ مَعَانِي حُكُومَةِ الْعَدْلِ رَدُّ الظَّالِمِ عَنِ الظُّلْمِ.وَتُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْوَاجِبِ يُقَدِّرُهُ عَدْلٌ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَالِ.

فَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنِ الْأَرْشِ وَالدِّيَةِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ فِي الشَّرْعِ، وَتَجِبُ وَتُقَدَّرُ بِحُكْمِ الْعَدْلِ.

هـ- الضَّمَانُ:

6- الضَّمَانُ لُغَةً: الِالْتِزَامُ، وَشَرْعًا: يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

أ- الْمَعْنَى الْخَاصُّ: وَهُوَ دَفْعُ مِثْلِ الشَّيْءِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَةِ الشَّيْءِ فِي الْقِيمِيَّاتِ.

فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى مَا يُدْفَعُ مُقَابِلَ إِتْلَافِ الْأَمْوَالِ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ الَّتِي تُدْفَعُ مُقَابِلَ التَّعَدِّي عَلَى الْأَنْفُسِ.

ب- الْمَعْنَى الْعَامُّ الشَّامِلُ لِلْكَفَالَةِ: وَعَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ الْتِزَامُ دَيْنٍ أَوْ إِحْضَارُ عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ.وَيُقَالُ لِلْعَقْدِ الْمُحَصِّلِ لِذَلِكَ أَيْضًا، أَوْ هُوَ شَغْلُ ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَقِّ.

مَشْرُوعِيَّةُ الدِّيَةِ:

7- الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الدِّيَةِ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ هَذِهِ نُسْخَتُهَا: مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ قَيْلِ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ أَمَّا بَعْدُ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ» وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ «وَفِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ» وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَالْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِهَا هِيَ صَوْنُ بُنْيَانِ الْآدَمِيِّ عَنِ الْهَدْمِ، وَدَمِهِ عَنِ الْهَدَرِ.

أَقْسَامُ الدِّيَةِ:

8- تَخْتَلِفُ الدِّيَةُ وَمِقْدَارُهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ نَوْعِ الْجِنَايَةِ وَصِفَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.

فَهُنَاكَ دِيَةُ النَّفْسِ وَدِيَةُ الْأَعْضَاءِ، كَمَا أَنَّ هُنَاكَ دِيَةً مُغَلَّظَةً وَدِيَةً غَيْرَ مُغَلَّظَةٍ، فَدِيَةُ الْعَمْدِ إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِهِ كَالْعَفْوِ، أَوْ عَدَمِ تَوَفُّرِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ أَوْ بِوُجُودِ شُبْهَةِ دِيَةٍ مُغَلَّظَةٍ، كَمَا أَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّطَةٌ، وَدِيَةَ الْخَطَأِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ دِيَةٌ غَيْرُ مُغَلَّظَةٍ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَعَ بَيَانِ مَعْنَى الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.وَأَسْبَابُ التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الدِّيَةِ، وَاخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ فِيمَا بَعْدُ.

شُرُوطُ وُجُوبِ الدِّيَةِ:

9- أ- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَعْصُومَ الدَّمِ، أَيْ مَصُونَ الدَّمِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

فَإِذَا كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ، كَأَنْ كَانَ حَرْبِيًّا، أَوْ مُسْتَحِقَّ الْقَتْلِ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا فَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْلِهِ لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ.وَلِبَيَانِ مَعْنَى الْعِصْمَةِ وَشُرُوطِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (عِصْمَة).

وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ لَا مِنْ جَانِبِ الْقَاتِلِ وَلَا مِنْ جَانِبِ الْمَقْتُولِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَاتِلُ أَوِ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا، أَمْ ذِمِّيًّا، أَمْ مُسْتَأْمَنًا.

وَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ اتِّفَاقًا، كَمَا تَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ (مَعَ خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ).

وَذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيَةَ ضَمَانٌ مَالِيٌّ فَتَجِبُ فِي حَقِّهِمَا وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ.

ب- وُجُودُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ:

10- وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ خَطَأً لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا.

وَلَا يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْعِصْمَةَ تَحْصُلُ بِالْإِسْلَامِ أَوِ الْأَمَانِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا الْمُسْلِمُ- وَلَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ- كَمَا يَدْخُلُ فِيهَا الذِّمِّيُّ، وَالْمُسْتَأْمَنُ، وَالْمَعْقُودُ مَعَهُمْ عَقْدُ الْمُوَادَعَةِ، وَالْهُدْنَةِ.

أَسْبَابُ وُجُوبِ الدِّيَةِ:

أَوَّلًا: الْقَتْلُ:

11- الْقَتْلُ هُوَ لُغَةً: إِزْهَاقُ الرُّوحِ، يُقَالُ: قَتَلْتُهُ قَتْلًا: إِذَا أَزْهَقْتَ رُوحَهُ.

وَأَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى الْفِعْلِ الْمُزْهِقِ، أَيِ الْقَاتِلِ لِلنَّفْسِ، أَوْ فِعْلِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِزَهُوقِ النَّفْسِ، وَالزَّهُوقُ هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْبَدَنَ.

وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَتْلَ إِلَى عَمْدٍ، وَشِبْهِ عَمْدٍ، وَخَطَأٍ.

وَقَسَّمَهُ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: الْعَمْدِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَالْخَطَأِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْلِ بِالسَّبَبِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَيْسَ هُنَاكَ إِلاَّ قَتْلُ الْعَمْدِ، وَقَتْلُ الْخَطَأِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْل).

أَنْوَاعُ الْقَتْلِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ:

الْأَوَّلُ: الْقَتْلُ الْخَطَأُ

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ.فَكُلُّ مَنْ قَتَلَ إِنْسَانًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، مُسْتَأْمَنًا أَوْ مُهَادَنًا، وَجَبَتِ الدِّيَةُ، لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.

وَدِيَةُ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا» أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ.

وَدَلِيلُ تَأْجِيلِهَا كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَضَى بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا. حِكْمَةُ وُجُوبِ دِيَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ:

13- الْأَصْلُ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقَتْلُ، وَأَنَّهُ وُجِدَ مِنَ الْقَاتِلِ، وَلَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُوَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَلِهَذَا لَمْ تَتَحَمَّلِ الْعَاقِلَةُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ وَدِيَةَ الْعَمْدِ.لَكِنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْأَصْلَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَبِفِعْلِ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنَّ جِنَايَاتِ الْخَطَأِ تَكْثُرُ، وَدِيَةُ الْآدَمِيِّ كَثِيرَةٌ، فَإِيجَابُهَا عَلَى الْجَانِي فِي مَالِهِ يُجْحِفُ بِهِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَابَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ لِلْقَاتِلِ وَالْإِعَانَةِ لَهُ تَخْفِيفًا.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: فِي حِكْمَتِهِ: إِنَّ حِفْظَ الْقَاتِلِ وَاجِبٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْفَظُوا فَقَدْ فَرَّطُوا، وَالتَّفْرِيطُ مِنْهُمْ ذَنْبٌ.

وَيَدْخُلُ الْقَاتِلُ فِي تَحَمُّلِ دِيَةِ الْخَطَأِ مَعَ الْعَاقِلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي مِثْلَ أَحَدِهِمْ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَالْحَنَابِلَةِ كَمَا سَيَأْتِي.

وَفِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنَ الْعَاقِلَةِ، وَتَحْدِيدِهَا، وَكَيْفِيَّةِ تَحْمِيلِهَا الدِّيَةَ، وَمِقْدَارُ مَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنَ الدِّيَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَاقِلَة).

14- وَدِيَةُ الْقَتْلِ الْخَطَأِ دِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ، وَلَا تُغَلَّظُ فِي أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَالُوا بِتَغْلِيظِهَا فِي ثَلَاثِ حَالَاتٍ:

1- إِذَا حَدَثَ الْقَتْلُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ، تَحْقِيقًا لِلْأَمْنِ.

2- إِذَا حَدَثَ الْقَتْلُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، أَيْ ذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَرَجَبٍ.

3- إِذَا قَتَلَ الْقَاتِلُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَهُ.فَفِي هَذِهِ الْحَالَاتِ تَجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ؛ لِمَا رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَضَى فِيمَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، أَوْ مَحْرَمًا بِالدِّيَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ.وَلَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ فِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُغَلَّظُ؛ لِأَنَّهَا كَالْحَرَمِ فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ فَكَذَلِكَ فِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ.

أَمَّا تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ فَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ، مَعَ بَيَانِ مَعْنَى التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الدِّيَةِ.

وَتَجِبُ الدِّيَةُ مِنْ صِنْفِ الْمَالِ الَّذِي يَمْلِكُهُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ.فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْإِبِلِ تُؤَدَّى فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ أَخْمَاسًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً اتِّفَاقًا.وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِشْرِينَ الْبَاقِيَةِ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هِيَ مِنْ بَنِي الْمَخَاضِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ أَيْضًا.لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَقَدْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «فِي دِيَةِ الْخَطَأِ: عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ ذَكَرٍ.» (رَاجِعْ بَيَانَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْإِبِلِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا).

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا فِي الْعِشْرِينَ الْبَاقِيَةِ: هِيَ مِنْ بَنِي اللَّبُونِ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَرَبِيعَةَ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَدَى الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ بِمِائَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ.وَلَيْسَ فِيهَا ابْنُ مَخَاضٍ».

وَالدِّيَةُ مِنَ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، أَمَّا مِنَ الْوَرِقِ (الْفِضَّةِ) فَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ مِقْدَارِ الدِّيَةِ.

الثَّانِي: الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ:

15- الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ هُوَ الْقَتْلُ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، كَمَا هُوَ تَعْبِيرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَوْ هُوَ الْقَتْلُ بِمَا لَا يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ، كَمَا هُوَ تَعْبِيرُ الْحَنَفِيَّةِ.وَلَا يَقُولُ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ مِمَّنْ يَقُولُونَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ فِي أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ.

وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّطَةٌ.وَدَلِيلُ وُجُوبِهَا وَتَغْلِيظِهَا فِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا وَإِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» وَتَجِبُ هَذِهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَذَلِكَ؛ لِشُبْهَةِ عَدَمِ الْقَصْد؛ ِ لِوُقُوعِ الْقَتْلِ بِمَا لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ عَادَةً، أَوْ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا.

وَلَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الْجَانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَشْتَرِكُ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ.

وَدَلِيلُ وُجُوبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا».

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَقَتَادَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: إِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهَا مُوجِبُ فِعْلٍ قَصَدَهُ، فَلَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ، كَالْعَمْدِ الْمَحْضِ.

وُجُوهُ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ وَتَخْفِيفِهَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ:

16- إِنَّ الْقَتْلَ شِبْهَ الْعَمْدِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَاتِلَ قَصَدَ الْفِعْلَ يُشْبِهُ الْعَمْدَ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْقَتْلَ يُشْبِهُ الْخَطَأَ، وَلِهَذَا رُوعِيَ فِي عُقُوبَتِهِ التَّغْلِيظُ وَالتَّخْفِيفُ مَعًا، فَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ أَسْنَانِ الْإِبِلِ، وَتُخَفَّفُ مِنْ نَاحِيَةِ وُجُوبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمِنْ نَاحِيَةِ التَّأْجِيلِ فَتُؤَدَّى مِنْ قِبَلِ الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُهَا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا أَعْلَمُ فِي أَنَّهَا تَجِبُ مُؤَجَّلَةً خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم-.

وَلَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ، وَلَمْ يَرِدِ النَّصُّ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى التَّوْقِيفِ.

وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ فِي دِيَةِ الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ:

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا مُثَلَّثَةٌ، ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هِيَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً.

وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ مَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ: (ر: عَاقِلَة).

الثَّالِثُ: الْقَتْلُ الْعَمْدُ:

17- الْأَصْلُ أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ بِدَلِيلِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} الْآيَةَ.

فَمَنْ قَتَلَ شَخْصًا عَمْدًا عُدْوَانًا يُقْتَلُ قِصَاصًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَتْ عُقُوبَةً أَصْلِيَّةً لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالصُّلْحِ (بِرِضَا الْجَانِي)، كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَوْ بَدَلًا عَنِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي، كَمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِسَبَبٍ مَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ عُقُوبَةٌ أَصْلِيَّةٌ بِجَانِبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ.فَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي.

تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ:

18- الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ، سَوَاءٌ أُوجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَسَقَطَ بِالْعَفْوِ، أَوْ لِشُبْهَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَمْ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا، كَقَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ.

وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ:

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ أَرْبَاعًا، خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَتَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي حَالَّةً، وَذَلِكَ تَغْلِيظًا عَلَى الْقَاتِلِ.

لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: تُثَلَّثُ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْأَبِ وَلَدَهُ عَمْدًا إِذَا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ.

فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ التَّثْلِيثُ بِثَلَاثِينَ حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً أَيْ حَامِلًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: دِيَةُ الْعَمْدِ مُثَلَّثَةٌ فِي مَالِ الْجَانِي حَالَّةً فَهِيَ مُغَلَّظَةٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: كَوْنِهَا عَلَى الْجَانِي، وَحَالَّةً، وَمِنْ جِهَةِ السِّنِّ.

وَلَا تُؤَجَّلُ الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الدِّيَةِ حَالَّةً بِسَبَبِ الْقَتْلِ، وَالتَّأْجِيلُ فِي الْخَطَأِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الْأَصْلِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-، أَوْ مَعْلُولًا بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ، حَتَّى تَحْمِلَ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ، وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ، وَلِهَذَا وَجَبَ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: التَّغْلِيظُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ كَالتَّغْلِيظِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ مِنْ نَاحِيَةِ أَسْنَانِ الْإِبِلِ، فَتَجِبُ أَرْبَاعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَأَثْلَاثًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ.إِلاَّ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي وَحْدَهُ وَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهَا جَزَاءُ فِعْلٍ ارْتَكَبَهُ قَصْدًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُوَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَا يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ.»

وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ مُؤَجَّلَةً أَيْضًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ)؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ وَصْفٌ لِكُلِّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ، فَدِيَةُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ فَقَطْ: أَحَدُهُمَا مِنْ نَاحِيَةِ الْأَسْنَانِ، وَالثَّانِي أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي.

حَالَاتُ وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ:

أ- الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ:

19- رَغَّبَ الشَّارِعُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَلَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا».

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ مَجَّانًا فَهُوَ أَفْضَلُ.

وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ فِي الْحَالَاتِ التَّالِيَةِ:

1- عَفْوِ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ:

20- إِذَا عَفَا جَمِيعُ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ صَغِيرٌ وَلَا مَجْنُونٌ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَتَسْقُطُ الدِّيَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا أَيْ مُتَعَيِّنًا عِنْدَهُمْ، فَلَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُجْبِرُوا الْجَانِيَ عَلَى دَفْعِ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا لَهُمْ أَنْ يَعْفُوا مَجَّانًا أَوْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ، فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْعَفْوِ فَلَا بَدِيلَ لَهُ مِنَ الدِّيَةِ، إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ التَّرَاضِي وَالصُّلْحِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْجَانِي، وَإِذَا حَصَلَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ جَازَ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا بِرِضَا الْجَانِي؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَعْفُوا عَنِ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْعَفْوَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلدِّيَةِ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ فَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يُوجِبِ الدِّيَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْعَفْوُ إِسْقَاطُ شَيْءٍ ثَابِتٍ، لَا إِثْبَاتُ مَعْدُومٍ.

وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ: تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا تُرِكَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَوَدُ وَجَبَ الْآخَرُ أَيِ الدِّيَةُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُخَيَّرُ الْأَوْلِيَاءُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ».وَحَيْثُ إِنَّ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهَا وَلَوْ سَخِطَ الْجَانِي؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ حَقِّهِ.

وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ، أَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْقَوَدِ، فَلَهُ الدِّيَةُ؛ لِانْصِرَافِ الْعَفْوِ إِلَى الْقَوَدِ فِي مُقَابَلَةِ الِانْتِقَامِ، وَالِانْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْلِ.

2- عَفْوُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ:

21- إِذَا عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ عَنِ الْقَوَدِ دُونَ الْبَعْضِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ، فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الْآخَرِ فِي الْقَوَدِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ.

وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَبْقَى لِلْآخَرِينَ نَصِيبُهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي عَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ لِلَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا نَصِيبَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.

وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَفْوُ أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ مَجَّانًا أَوْ إِلَى الدِّيَةِ.

وَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ مِنْ قِبَلِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ الْمَحْضَةِ، فَلَا يَمْلِكَانِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا.

ب- مَوْتُ الْجَانِي (فَوَاتُ مَحَلِّ الْقِصَاصِ):

22- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِفَوَاتِ مَحَلِّهِ وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْعَمْدِ هُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}.الْآيَةَ، حَتَّى لَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْقَاتِلِ بِغَيْرِ رِضَاهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ مَاتَ الْقَاتِلُ أَوْ قُتِلَ وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي.فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِمَوْتِ الْجَانِي بَقِيَ حَقُّهُ فِي اسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ: أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْقَوَدُ عَيْنًا، وَهَذَا مُتَّفِقٌ مَعَ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عِنْدَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِعَفْوٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَوْتِ الْجَانِي، فَتَجِبُ الدِّيَةُ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: مُوجِبُ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ (الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ) مُبْهَمًا لَا بِعَيْنِهِ، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِمَوْتِ الْجَانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

ج- الدِّيَةُ فِي أَحْوَالِ سُقُوطِ الْقِصَاصِ:

23- إِذَا وُجِدَ مَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ بَدَلًا عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ حَالَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ الشُّبْهَةِ أَمْثِلَةً، مِنْهَا:

1- قَتْلُ الْوَالِدِ وَلَدَهُ:

24- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ فَلَا قِصَاصَ لِحَدِيثِ: «لَا يُقَادُ الْأَبُ مِنِ ابْنِهِ.» وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْوَالِدِ لِشُبْهَةِ الْجُزْئِيَّةِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ.

وَفِي حُكْمِ الْوَالِدِ الْجَدُّ وَالْوَالِدَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُقْتَلُ الْأُمُّ بِقَتْلِ وَلَدِهَا. وَهَذَا بِخِلَافِ قَتْلِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ الْجَمِيعِ.وَعَلَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِتَحْقِيقِ حِكْمَةِ الْحَيَاةِ بِالزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الزَّجْرِ فِي جَانِبِ الْوَلَدِ لَا فِي جَانِبِ الْوَالِدِ؛ وَلِأَنَّ الْوَالِدَ كَانَ سَبَبًا فِي حَيَاةِ الْوَلَدِ فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ ابْنَهُ مُتَعَمِّدًا، وَاعْتَرَفَ بِقَصْدِ قَتْلِهِ، أَوْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا مِنْ شَأْنِهِ الْقَتْلُ مِثْلَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ بَطْنَهُ، وَلَا شُبْهَةَ لَهُ فِي ادِّعَاءِ الْخَطَأِ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا.

2- الِاشْتِرَاكُ مَعَ مَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ:

25- لَوِ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْلِ رَجُلٍ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ وَالْآخَرُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَوِ انْفَرَدَ، كَالصَّبِيِّ مَعَ الْبَالِغِ، وَالْمَجْنُونِ مَعَ الْعَاقِلِ، وَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي شَرِيكِ الْمُخْطِئِ وَالْمَجْنُونِ.فَتَجِبُ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَنِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْمُخْطِئِ وَالْمَجْنُونِ.وَاسْتَدَلُّوا لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ- كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ- بِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ مُسْتَقِلًّا فِي الْقَتْلِ، فَيَكُونُ فِعْلُ الْآخَرِ فَضْلًا.

وَفِي شَرِيكِ الصَّبِيِّ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ عَمْدًا، وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ عَمْدَهُ كَخَطَئِهِ.وَإِنْ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ وَتَعَمَّدَا قَتْلَهُ، أَوْ تَعَمَّدَ الْكَبِيرُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُهَا.

أَمَّا إِذَا اشْتَرَكَ أَجْنَبِيٌّ مَعَ الْأَبِ فِي قَتْلِ وَلَدِهِ فَالْجُمْهُورُ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ شَرِيكُ الْأَبِ، وَعَلَى الْأَبِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَشَرِيكِ الْخَاطِئِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي: (قِصَاص). 3- إِرْثُ الْوَلَدِ حَقَّ الِاقْتِصَاصِ مِنْ أَصْلِهِ:

26- إِذَا وَرِثَ الْوَلَدُ الْقِصَاصَ مِنْ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى الْآخَرِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ وَذَلِكَ لِشُبْهَةِ الْوِرَاثَةِ.فَلَوْ قَتَلَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ صَاحِبَهُ وَلَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِوَلَدِهِ، وَلَا يَجِبُ لِلْوَلَدِ قِصَاصٌ عَلَى وَالِدِهِ.لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَلأَنْ لَا يَجِبَ لَهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى.وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى.أَوْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ وَلَدٌ سِوَاهُ أَوْ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْقِصَاصُ لَوَجَبَ لَهُ جُزْءٌ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ وُجُوبُهُ.وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بَعْضُهُ سَقَطَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَبَعَّضُ، وَصَارَ كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحَقِّي الْقِصَاصِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْوَالِدِ بِسَبَبِ قَتْلِ وَلَدِهِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ.

وَكَذَا لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ أَخَاهُ أَوْ أَحَدًا يَرِثُ ابْنُهُ حَقَّ الْقِصَاصِ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ.

وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى تَمْنَعُ الْقِصَاصَ.يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (قِصَاص، قَتْل، شُبْهَة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


49-موسوعة الفقه الكويتية (زوج)

زَوْجٌ

التَّعْرِيفُ

1- الزَّوْجُ فِي اللُّغَةِ: الْفَرْدُ الَّذِي لَهُ قَرِينٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} فَكُلٌّ مِنْهُمَا زَوْجٌ، فَالرَّجُلُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَهِيَ زَوْجُهُ، كَمَا فِي قوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وَيُقَالُ أَيْضًا: هِيَ زَوْجَتُهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَهِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ.وَلَا يُقَالُ لِلِاثْنَيْنِ: زَوْجٌ، إِنَّمَا يُقَالُ: زَوْجَانِ، قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَقِيلَ: الزَّوْجُ خِلَافُ الْفَرْدِ، يُقَالُ: فَرْدٌ أَوْ زَوْجٌ، وَيُقَالُ أَيْضًا: خَسًّا أَوْ زَكَا (الْخَسَا الْفَرْدُ، وَالزَّكَا الزَّوْجُ) وَيُقَالُ أَيْضًا: شَفْعٌ أَوْ وِتْرٌ، فَكُلُّ مُقْتَرِنَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ كَانَا، أَمْ نَقِيضَيْنِ فَهُمَا زَوْجٌ.

وَالزَّوْجُ فِي الْحِسَابِ مَا يَنْقَسِمُ بِمُتَسَاوِيَيْنِ.

وَالزَّوْجُ فِي الِاصْطِلَاحِ: بَعْلُ الْمَرْأَةِ.

حُقُوقُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ:

أ- وُجُوبُ الطَّاعَةِ:

2- جَعَلَ اللَّهُ الرَّجُلَ قَوَّامًا عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْأَمْرِ وَالتَّوْجِيهِ وَالرِّعَايَةِ، كَمَا يَقُومُ الْوُلَاةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ، بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ الرَّجُلَ مِنْ خَصَائِصَ جِسْمِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ، وَبِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبَاتٍ مَالِيَّةٍ، قَالَ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَيْ يَقُومُونَ عَلَيْهِنَّ قِيَامَ الْوُلَاةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: وَهْبِيٌّ وَكَسْبِيٌّ، فَقَالَ: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} بِسَبَبِ تَفْضِيلِهِ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ بِكَمَالِ الْعَقْلِ، وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ، وَمَزِيدِ الْقُوَّةِ، وَبِمَا أَنْفَقُوا فِي نِكَاحِهِنَّ كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، فَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا حَقُّ الطَّاعَةِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ.

رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: زَوْجُهَا» وَقَالَ ((: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحَقِّ».

ب- تَمْكِينُ الزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ:

3- مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ تَمْكِينُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَكَانَتْ أَهْلًا لِلْجِمَاعِ وَجَبَ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا إِلَيْهِ بِالْعَقْدِ إِذَا طَلَبَ، وَذَلِكَ أَنْ يُسَلِّمَهَا مَهْرَهَا الْمُعَجَّلَ وَتُمْهَلُ مُدَّةً حَسَبَ الْعَادَةِ لِإِصْلَاحِ أَمْرِهَا كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ إِذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ حَاجَتِهَا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ جَرَتِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ.«وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ قُفُولِهِ مَرَّةً إِلَى الْمَدِينَةِ: أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا- أَيْ عِشَاءً- لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغَيَّبَةُ».وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لِإِصْلَاحِ نَفْسِهَا. (ر: نِكَاحٌ).

وَلِلزَّوْجِ إِجْبَارُ زَوْجَتِهِ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لَهُ، فَمَلَكَ إِجْبَارَهَا عَلَى إِزَالَةِ مَا يَمْنَعُ حَقَّهُ.وَلَهُ إِجْبَارُ الْمُسْلِمَةِ الْبَالِغَةِ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، أَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى الْغُسْلِ مِمَّا ذُكِرَ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي الْجَنَابَةِ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

ج- عَدَمُ الْإِذْنِ لِمَنْ يَكْرَهُ الزَّوْجُ دُخُولَهُ:

4- وَمِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَلاَّ تُدْخِلَ بَيْتَهُ أَحَدًا يَكْرَهُهُ.لِحَدِيثِ: «فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ».

د- عَدَمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ:

5- مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَلاَّ تَخْرُجَ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ؟ فَقَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهَا أَلاَّ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَتْهَا مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ حَتَّى تَرْجِعَ».

وَاشْتَرَطُوا فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ صَالِحًا لِلسُّكْنَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا لِلسُّكْنَى كَأَنْ خَافَتْ سُقُوطَهُ عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَرَافِقُ، فَلَهَا الْخُرُوجُ مِنْهُ.وَقَدْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا لِجَوَازِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا مِنَ الْمَنْزِلِ: مِنْهَا: الْخُرُوجُ إِلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ، إِذَا وَقَعَتْ لَهَا نَازِلَةٌ وَلَيْسَ الزَّوْجُ فَقِيهًا.

وَمِنْهَا: الْخُرُوجُ إِلَى حَجَّةِ الْفَرْضِ إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا تَخْرُجُ مَعَهُ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (نَفَقَةٍ)، (حَجٍّ)، (نُشُوزٍ).

6- وَاخْتَلَفُوا فِي عِيَادَةِ وَالِدَيْهَا:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ عِيَادَةِ وَالِدٍ زَمِنٍ لَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا طَاعَةُ زَوْجِهَا إِنْ مَنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْوَالِدُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِخِدْمَتِهِ فَرْضٌ عَلَيْهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَيُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ أَبِيهَا الْمَرِيضِ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ، وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ حُضُورِ جِنَازَتِهِ لِحَدِيثِ: «أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا، فَمَرِضَ أَبُوهَا، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهَا: أَطِيعِي زَوْجَكِ فَمَاتَ أَبُوهَا فَاسْتَأْذَنَتْ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي حُضُورِ جِنَازَتِهِ فَقَالَ لَهَا: أَطِيعِي زَوْجَكِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِأَبِيهَا بِطَاعَتِهَا لِزَوْجِهَا» وَلِأَنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ وَاجِبَةٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ.قَالُوا: وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي أَلاَّ يَمْنَعَهَا مِنْ عِيَادَةِ وَالِدَيْنِ مَرِيضَيْنِ وَحُضُورِ جِنَازَتِهِمَا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَطِيعَةً لَهُمَا وَحَمْلًا لِزَوْجَتِهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَنْعُهَا مِنْ عِيَادَةِ وَالِدٍ مَرِيضٍ لَيْسَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ فِي شَيْءٍ.

هـ- التَّأْدِيبُ:

7- لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُ زَوْجَتِهِ عِنْدَ عِصْيَانِهَا أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ لَا بِالْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَأْدِيبِ النِّسَاءِ بِالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ عَدَمِ طَاعَتِهِنَّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَرْبَعَةَ مَوَاضِعَ يَجُوزُ فِيهَا لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُ زَوْجَتِهِ بِالضَّرْبِ، مِنْهَا:

تَرْكُ الزِّينَةِ إِذَا أَرَادَ الزِّينَةَ، وَمِنْهَا: تَرْكُ الْإِجَابَةِ إِذَا دَعَاهَا إِلَى الْفِرَاشِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ.وَمِنْهَا: تَرْكُ الصَّلَاةِ، وَمِنْهَا: الْخُرُوجُ مِنَ الْبَيْتِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَأْدِيبٍ)، (نُشُوزٍ)

و- خِدْمَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا:

8- لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ خِدْمَةُ زَوْجِهَا مِنَ الْعَجْنِ، وَالْخَبْزِ، وَالطَّبْخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهَا هُوَ الِاسْتِمْتَاعُ فَلَا يَلْزَمُهَا مَا سِوَاهُ، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى الزَّوْجَةِ الْخِدْمَةُ الْبَاطِنَةُ مِنْ عَجْنٍ وَكَنْسٍ، وَفَرْشٍ، وَاسْتِقَاءِ مَاءٍ مِنَ الدَّارِ، أَوْ مِنَ الصَّحْرَاءِ إِنْ كَانَتْ عَادَةُ بَلَدِهَا كَذَلِكَ- إِلاَّ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْأَشْرَافِ الَّذِينَ لَا يَمْتَهِنُونَ نِسَاءَهُمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إِخْدَامُهَا.

وَلَا يَلْزَمُهَا الِاكْتِسَابُ كَالْغَزْلِ وَالنَّسِيجِ، وَأَمَّا غَسْلُ الثِّيَابِ وَخِيَاطَتُهَا فَيَنْبَغِي فِيهِ اتِّبَاعُ الْعُرْفِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (نَفَقَةٍ)، (زَوْجَةٍ).

ز- مَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ:

9- أَمَّا مَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ فَلَهَا مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (زَوْجَةٍ).

ح- مَا يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ فِي مُعَامَلَةِ زَوْجَتِهِ:

10- عَلَى الزَّوْجِ إِكْرَامُ زَوْجَتِهِ وَحُسْنُ مُعَاشَرَتِهَا وَمُعَامَلَتِهِ لَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَقْدِيمُ مَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ إِلَيْهَا مِمَّا يُؤَلِّفُ قَلْبَهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.

وَمِنْ مَظَاهِرِ إِكْمَالِ الْخُلُقِ وَنُمُوِّ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ رَقِيقًا مَعَ أَهْلِهِ، يَقُولُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا».وَإِكْرَامُ الْمَرْأَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَكَامُلِ شَخْصِيَّةِ الرَّجُلِ، وَإِهَانَتُهَا عَلَامَةُ الْخِسَّةِ وَاللُّؤْمِ.وَمِنْ إِكْرَامِهَا التَّلَطُّفُ مَعَهَا وَمُدَاعَبَتُهَا، وَجَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ، إِلاَّ رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ» وَمِنْ إِكْرَامِهَا أَنْ يَتَجَنَّبَ أَذَاهَا وَلَوْ بِالْكَلِمَةِ النَّابِيَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَوْجَةٍ). ط- إِنْهَاءُ عَقْدِ الزَّوَاجِ:

11- مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ إِنْهَاءُ عَقْدِ الزَّوَاجِ إِذَا فَسَدَ الْحَالُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَصْبَحَ بَقَاؤُهُ مَفْسَدَةً مَحْضَةً، وَضَرَرًا مُجَرَّدًا، لِأَنَّهُ أَحْرَصُ عَادَةً عَلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ لِمَا أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ الزَّوَاجِ مِنَ الْمَالِ، وَهُوَ أَكْثَرُ تَقْدِيرًا لِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الطَّيْشِ فِي تَصَرُّفٍ يُلْحِقُ بِهِ ضَرَرًا كَبِيرًا، لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.

وَفِي الْأَثَرِ: «الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي (طَلَاقٍ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


50-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 5)

سَرِقَةٌ -5

3- الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ:

74- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ السَّارِقَ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، قَبْلَ الْقَطْعِ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِقْرَارِ يُورِثُ شُبْهَةً.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ رُجُوعَ السَّارِقِ فِي إِقْرَارِهِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لآِدَمِيٍّ بِقِصَاصٍ أَوْ بِحَقٍّ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهُمَا، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ.

4- الِاشْتِرَاكُ مَعَ مَنْ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ:

75- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ وَكَانَ بَيْنَهُمْ مَنْ لَا يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، كَصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنِ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ حَصَلَتْ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَيَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنِ الْجَمِيعِ، قِيَاسًا عَلَى اشْتَرَاكِ الْعَامِدِ مَعَ الْمُخْطِئِ فِي الْقَتْلِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَسْقُطُ عَنْهُمَا.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَجْنُونُ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْأَخْذَ وَالْإِخْرَاجَ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ أَصْلٌ وَالْإِعَانَةَ كَالتَّابِعِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ عَنِ الْأَصْلِ وَجَبَ سُقُوطُهُ عَنِ التَّابِعِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْآخِذُ وَالْمُخْرِجُ مُكَلَّفًا فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ قَامَ بِالْأَصْلِ، فَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنْهُ، وَإِنْ سَقَطَ عَنِ الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ- إِلَى أَنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ لَا يَجِبُ قَطْعُهُ فِي السَّرِقَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْ سَائِرِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ سَبَبَ امْتِنَاعِ قَطْعِهِ خَاصٌّ بِهِ، فَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ.

5- طُرُوءُ الْمِلْكِ قَبْلَ الْحُكْمِ:

76- إِذَا تَمَلَّكَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِأَنِ اشْتَرَاهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَطْعَ يَسْقُطُ عَنْهُ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطٌ لِلْحُكْمِ بِالْقَطْعِ، فَإِذَا تَمَلَّكَهُ السَّارِقُ قَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِمْ الْمُطَالَبَةَ، فَالْعِبْرَةُ بِوُجُوبِ الْحَدِّ أَوْ سُقُوطِهِ بِحَالِ السَّرِقَةِ، دُونَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ بَعْدَهَا.

فَأَمَّا إِذَا حَدَثَ الْمِلْكُ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَقَبْلَ الْقَطْعِ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ وَزُفَرَ-: (لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ إِمْضَاؤُهَا فَمَا لَمْ تَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ)، وَلِأَنَّ (الْمُعْتَرِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ)؛ وَلِأَنَّ (التَّمَلُّكَ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ حَقًّا وَقْتَ السَّرِقَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ أَوْجَدَ شُبْهَةً عِنْدَ التَّنْفِيذِ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ).

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِتَمَلُّكِ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ، (لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ، وَقَدْ تَمَّتِ السَّرِقَةُ، وَوَقَعَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، فَطُرُوءُ الْمِلْكِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي السَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ، فَبَقِيَ الْقَطْعُ وَاجِبًا)، وَلِأَنَّ مَا حَدَثَ- بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ – لَمْ

يُوجَدْ شُبْهَةٌ فِي الْوُجُوبِ، (فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَدِّ)، وَلَوْ كَانَ حُدُوثُ الْمِلْكِ- بَعْدَ الْقَضَاءِ- يُسْقِطُ الْحَدَّ، لَمَا قَطَعَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ، بَعْدَ أَنْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ لَهُ: «فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ».

6- تَقَادُمُ الْحَدِّ:

77- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَصْدُرْ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ، فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ مَهْمَا طَالَ الزَّمَنُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُرُوبُ الْجَانِي أَوْ تَرَاخِي التَّنْفِيذِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْحَدِّ، وَإِلاَّ كَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَعْطِيلِ حُدُودِ اللَّهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا زُفَرَ- إِلَى أَنَّ تَقَادُمَ التَّنْفِيذِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، يُسْقِطُ الْقَطْعَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ إِمْضَاؤُهَا، فَمَا لَمْ تَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ، وَلِأَنَّ التَّقَادُمَ فِي التَّنْفِيذِ كَالتَّقَادُمِ فِي الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ بِشُهُودٍ فِي السَّرِقَةِ، ثُمَّ انْفَلَتَ، فَأُخِذَ بَعْدَ زَمَانٍ، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يُقَامُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَالْعَارِضُ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْعَارِضِ قَبْلَ الْقَضَاءِ.

التَّعْزِيرُ:

78- تَجُوزُ الْعُقُوبَةُ بِالتَّعْزِيرِ عَلَى كُلِّ سَرِقَةٍ لَمْ تَكْتَمِلْ أَرْكَانُهَا، أَوْ لَمْ تَسْتَوْفِ شُرُوطُهَا؛ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهَا.وَعَلَى كُلِّ سَرِقَةٍ دَرْءُ الْحَدِّ فِيهَا لِوُجُودِ شُبْهَةٍ.وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الْعُقُوبَةُ بِالتَّعْزِيرِ عَلَى السَّرِقَةِ الَّتِي سَقَطَ فِيهَا الْقَطْعُ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَبَقَ بَيَانُهُ.

الضَّمَانُ:

79- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْمَسْرُوقِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، إِلَى مَنْ سُرِقَ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَسَوَاءٌ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ لَمْ يُقَمْ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْمَسْرُوقُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- رَدَّ عَلَى صَفْوَانَ رِدَاءَهُ، وَقَطَعَ سَارِقَهُ»، وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ»، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ إِذَا تَلِفَ، وَلَمْ يُقَمِ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ، لِسَبَبٍ يَمْنَعُ الْقَطْعَ، كَأَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، أَوْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ، أَوْ قَامَتْ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى السَّارِقِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْمَسْرُوقِ- إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا- وَقِيمَتَهُ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا.

80- وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ، إِذَا تَلِفَ الْمَسْرُوقُ وَقَدْ قُطِعَ فِيهِ سَارِقُهُ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَلِفَ الْمَسْرُوقُ بِهَلَاكٍ أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَغَيْرُهُمْ.

لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} فَقَدْ سَمَّى «الْقَطْعَ» جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ يُبْنَى عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَوْ ضُمَّ إِلَيْهِ الضَّمَانُ لَمْ يَكُنِ الْقَطْعُ كَافِيًا، فَلَمْ يَكُنْ جَزَاءً، وَقَدْ جَعَلَ الْقَطْعَ كُلَّ الْجَزَاءِ، لِأَنَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- ذَكَرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَصَارَ الْقَطْعُ بَعْضَ الْجَزَاءِ.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ»، فَالْحَدِيثُ يَنُصُّ صَرَاحَةً عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ إِذَا قَطَعَ السَّارِقُ.وَمِنْ هُنَا قَالُوا: لَا يَجْتَمِعُ حَدٌّ وَضَمَانٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالضَّمَانِ يَجْعَلُ الْمَسْرُوقَ مَمْلُوكًا لِلسَّارِقِ، مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الْأَخْذِ، فَلَا يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ أَحَدٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.

وَالثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ- إِنْ تَلِفَ- بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ السَّارِقُ مُوسِرًا، مِنْ وَقْتِ السَّرِقَةِ إِلَى وَقْتِ الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْيَسَارَ الْمُتَّصِلَ كَالْمَالِ الْقَائِمِ بِعَيْنِهِ، فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَى السَّارِقِ عُقُوبَتَانِ.فَإِنْ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا وَقْتَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ أَعْسَرَ بَعْدَهَا، أَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَقْتَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ أَيْسَرَ بَعْدَهَا، فَلَا ضَمَانَ؛ لِئَلاَّ تَجْتَمِعَ عَلَيْهِ عُقُوبَتَانِ: قَطْعُ يَدِهِ وَإِتْبَاعُ ذِمَّتِهِ.

وَالثَّالِثُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَإِسْحَاقُ إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَسَوَاءٌ تَلِفَ الْمَسْرُوقُ بِهَلَاكٍ أَوِ اسْتِهْلَاكٍ، وَسَوَاءٌ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ أَوْ لَمْ يُقَمْ، فَالْقَطْعُ وَالضَّمَانُ يَجْتَمِعَانِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالضَّمَانَ لِحَقِّ الْعَبْدِ، وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».

أَمَّا وَقْتُ تَقْدِيرِ الْقِيمَةِ- إِذَا حَكَمَ بِضَمَانِ الْمَسْرُوقِ- فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَان).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


51-موسوعة الفقه الكويتية (ضمان 5)

ضَمَانٌ -5

ثَالِثًا: ضَمَانُ الشَّخْصِ فِعْلَ الْحَيَوَانِ:

هُنَاكَ نَوْعَانِ مِنَ الْحَيَوَانِ: أَحَدُهُمَا الْحَيَوَانُ الْعَادِيُّ، وَالْآخَرُ الْحَيَوَانُ الْخَطِرُ، وَفِي تَضْمِينِ جِنَايَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَنُوَضِّحُهُ فِيمَا يَلِي:

أ- ضَمَانُ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ الْعَادِيِّ غَيْرِ الْخَطِرِ:

102- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ مَا يُتْلِفُهُ الْحَيَوَانُ الْعَادِيُّ، غَيْرُ الْخَطِرِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى ضَمَانِ مَا تُفْسِدُهُ الدَّابَّةُ مِنَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، إِذَا وَقَعَ فِي اللَّيْلِ، وَكَانَتْ وَحْدَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ يَدٌ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا.

وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ، وَلَمْ تَكُنْ يَدٌ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا- أَيِ الدَّابَّةِ- فَلَا ضَمَانَ فِيهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا، فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ مَا أَصَابَتِ الْمَاشِيَةُ بِاللَّيْلِ فَهُوَ عَلَى أَهْلِهَا».

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِأَنَّ الْعَادَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاشِي إِرْسَالُهَا فِي النَّهَارِ لِلرَّعْيِ، وَحِفْظُهَا لَيْلًا، وَعَادَةُ أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ لَيْلًا كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَهْلِهَا، بِتَرْكِهِمْ حِفْظَهَا فِي وَقْتِ عَادَةِ الْحِفْظِ.

وَإِنْ أَتْلَفَتْ نَهَارًا، كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَهْلِ الزَّرْعِ، فَكَانَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُمَا، وَقَضَى عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِالْحِفْظِ فِي وَقْتِ عَادَتِهِ.

وَقَالَ- أَيْضًا-: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّمَا يَضْمَنُ مَالِكُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ لَيْلًا، إِذَا فَرَّطَ بِإِرْسَالِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَوْ لَمْ يَضُمَّهَا بِاللَّيْلِ، أَوْ ضَمَّهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ، أَمَّا لَوْ ضَمَّهَا فَأَخْرَجَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ فَتَحَ عَلَيْهَا بَابَهَا، فَالضَّمَانُ عَلَى مُخْرِجِهَا، أَوْ فَاتِحِ بَابِهَا، لِأَنَّهُ الْمُتْلِفُ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ نَهَارًا بِشَرْطَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا رَاعٍ.

وَالْآخَرُ: أَنْ تَسْرَحَ بَعِيدًا عَنِ الْمَزَارِعِ، وَإِلاَّ فَعَلَى الرَّاعِي الضَّمَانُ.

وَإِنْ أَتْلَفَتِ الْبَهِيمَةُ غَيْرَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ مِنَ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، لَمْ يَضْمَنْهُ مَالِكُهَا، لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا، مَا لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَيْهَا وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَيُرْوَى «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» وَمَعْنَى جُبَارٌ: هَدْرٌ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ، عَدَمَ ضَمَانِ ذَلِكَ لَيْلًا، بِمَا إِذَا لَمْ يُقَصِّرْ فِي حِفْظِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَعَهَا، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ قَادَ قِطَارًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَطِئَ الْبَعِيرُ، فِي أَوَّلِ الْقِطَارِ أَوْ آخِرِهِ، وَإِنْ نَفَحَتْ رَجُلًا بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، لَمْ يَضْمَنِ الْقَائِدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ بِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا أَتْلَفَ مَالًا أَوْ نَفْسًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَوَقَعَ ذَلِكَ فِي لَيْلٍ أَمْ فِي نَهَارٍ.

وَذَلِكَ لِحَدِيثِ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.

لَكِنْ قَيَّدَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، بِالْمُنْفَلِتَةِ الْمُسَيَّبَةِ حَيْثُ تُسَيَّبُ الْأَنْعَامُ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْبَرَارِيِ، فَهَذِهِ الَّتِي جُرْحُهَا هَدْرٌ وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ فَيَضْمَنُ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا حَافِظٌ، فَلَا يَضْمَنُ، وَرَوَى فِي ذَلِكَ آثَارًا.

وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي نِفَارِهَا وَانْفِلَاتِهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ فِعْلِهَا، فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا.

وَأَثَارَ الْمَالِكِيَّةُ- هُنَا- مَسْأَلَةَ مَا لَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَلَا حِرَاسَتُهُ كَحَمَامٍ، وَنَحْلٍ، وَدَجَاجٍ يَطِيرُ.

فَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ- وَهُوَ رَوِايَةُ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ- إِلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ أَرْبَابُهَا مِنِ اتِّخَاذِهِ، إِنْ آذَى النَّاسَ.

وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ كِنَانَةَ وَأَصْبَغُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنِ اتِّخَاذِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَتْلَفَتْهُ مِنَ الزَّرْعِ، عَلَى أَرْبَابِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ حِفْظُهَا.

وَصَوَّبَ ابْنُ عَرَفَةَ الْأَوَّلَ، لِإِمْكَانِ اسْتِغْنَاءِ رَبِّهَا عَنْهَا، وَضَرُورَةِ النَّاسِ لِلزَّرْعِ وَالشَّجَرِ.

وَيُؤَيِّدُهُ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ- قَاعِدَةُ ارْتِكَابِ، أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ، لَكِنْ قَالَ: وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ- كَمَا قَالَ شَيْخُنَا- قَوْلُ ابْنِ قَاسِمٍ.

وَالِاتِّجَاهَانِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

شُرُوطُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ:

بَدَا مِمَّا تَقَدَّمَ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَضْمِينِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ، كُلَّمَا كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ أَوْ حَافِظٌ، أَوْ ذُو يَدٍ، وَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ تَوَفُّرِ شُرُوطِ الضَّمَانِ الْعَامَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنَ الضَّرَرِ وَالتَّعَدِّي وَالْإِفْضَاءِ.

103- فَالضَّرَرُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاقِعُ عَلَى النُّفُوسِ أَوِ الْأَمْوَالِ وَصَرَّحَ الْعَيْنِيُّ بِأَنَّ حَدِيثَ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» الْمُتَقَدِّمَ، مُحْتَمِلٌ لأَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَبْدَانِ أَوِ الْأَمْوَالِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ».

104- وَالتَّعَدِّي بِمُجَاوَزَةِ ذِي الْيَدِ فِي اسْتِعْمَالِ الدَّابَّةِ، فَحَيْثُ اسْتَعْمَلَهَا فِي حُدُودِ حَقِّهِ، فِي مِلْكِهِ، أَوِ الْمَحَلِّ الْمُعَدِّ لِلدَّوَابِّ أَوْ أَدْخَلَهَا مِلْكَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، فَأَتْلَفَتْ نَفْسًا أَوْ مَالًا، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذْ لَا ضَمَانَ مَعَ الْإِذْنِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ أَوْ أَوْقَفَهَا فِي مَحَلٍّ لَمْ يُعَدَّ لِوُقُوفِ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا تُتْلِفُهُ حِينَئِذٍ إِذْ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ ضَمِنَ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ.

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَوْقَفَ دَابَّةً فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ».

وَنَصَّتْ الْمَجَلَّةُ فِي الْمَادَّةِ 930 عَلَى أَنَّهُ «لَا يَضْمَنُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ الَّتِي أَضَرَّتْ بِيَدِهَا أَوْ ذَيْلِهَا أَوْ رِجْلِهَا، حَالَ كَوْنِهَا فِي مِلْكِهِ، رَاكِبًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ»، كَمَا نَصَّتْ (الْمَادَّةُ: 931) عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ أَحَدٌ دَابَّتَهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، لَا يَضْمَنُ جِنَايَتَهَا، فِي الصُّوَرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْمَادَّةِ آنِفًا حَيْثُ إِنَّهَا تُعَدُّ كَالْكَائِنَةِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ أَدْخَلَهَا بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهِ يَضْمَنُ ضَرَرَ تِلْكَ الدَّابَّةِ وَخَسَارَهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ.

- كَمَا نَصَّتْ فِي (الْمَادَّةِ: 939) عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَبَطَ شَخْصَانِ دَابَّتَيْهِمَا فِي مَحَلٍّ لَهُمَا حَقُّ الرَّبْطِ فِيهِ، فَأَتْلَفَتْ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ الْأُخْرَى، لَا يَلْزَمُ الضَّمَانُ.

وَفِي النُّصُوصِ: «لَوْ أَوْقَفَهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ، أَوْ مَسْجِدٍ آخَرَ، يَضْمَنُ إِلاَّ إِذَا جَعَلَ الْإِمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مَوْضِعًا يُوقِفُونَ دَوَابَّهُمْ فَلَا يَضْمَنُ».

وَلَوْ رَبَطَ دَابَّتَهُ فِي مَكَان، ثُمَّ رَبَطَ آخَرُ فِيهِ دَابَّتَهُ، فَعَضَّتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، لَا ضَمَانَ لَوْ كَانَ لَهُمَا فِي الْمَرْبِطِ وِلَايَةُ الرَّبْطِ.

وَعَلَّلَهُ الرَّمْلِيُّ، نَقْلًا عَنِ الْقَاضِي، بِأَنَّ الرَّبْطَ جِنَايَةٌ، فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ضَمِنَهُ.

105- وَأَمَّا الْإِفْضَاءُ، وَهُوَ وُصُولُ الضَّرَرِ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسَبُّبًا، فَإِنَّ فِعْلَ الْحَيَوَانِ لَا يُوصَفُ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ تَسْبِيبٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَصِحُّ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ صَاحِبُهُ، فَتُطَبَّقُ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ: أَنَّ الْمُبَاشِرَ ضَامِنٌ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ، وَالْمُتَسَبِّبُ لَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي.

وَيُعْتَبَرُ ذُو الْيَدِ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَصَاحِبُهُ مُبَاشِرًا إِذَا كَانَ رَاكِبًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَوْ بِإِذْنِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَيَضْمَنُ مَا يُحْدِثُهُ بِتَلَفِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ.

فَرَاكِبُ الدَّابَّةِ يَضْمَنُ مَا وَطِئَتْهُ بِرِجْلِهَا، أَوْ يَدِهَا- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- أَيْ وَمَاتَ لِوُجُودِ الْخَطَأِ فِي هَذَا الْقَتْلِ، وَحُصُولُهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ لِأَنَّ ثِقَلَ الرَّاكِبِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُ، فَكَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلُ بِثِقَلِهَا مُضَافًا إِلَى الرَّاكِبِ، وَالرَّدِيفُ وَالرَّاكِبُ سَوَاءٌ، وَعَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ، وَيُحْرَمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ ثِقَلَهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ، وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُمَا، فَكَانَا قَاتِلَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ.

وَلَوْ كَدَمَتْ أَوْ صَدَمَتْ، فَهُوَ ضَامِنٌ، وَلَا كَفَّارَةَ وَلَا حِرْمَانَ، لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ.

وَلَوْ أَصَابَتْ وَمَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ، فَلَا كَفَّارَةَ وَلَا حِرْمَانَ، لِأَنَّهُ قَتْلٌ تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةً، بِخِلَافِ الرَّاكِبِ وَالرَّدِيفِ.

وَهَذَا خِلَافُ مَا فِي مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ، حَيْثُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الرَّاكِبَ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَيَضْمَنُ لِلتَّعَدِّي.

وَمِثَالُ مَا لَوْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا بِتَسْبِيبِ صَاحِبِهَا: مَا لَوْ أَوْقَفَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَجَالَتْ فِي رِبَاطِهَا، حَيْثُ طَالَ الرَّسَنُ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، ضَمِنَ، لِأَنَّهُ مُمْسِكُهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ ذَهَبَتْ، مَا دَامَتْ فِي مَوْضِعِ رِبَاطِهَا.

فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الضَّمَانِ بِالتَّسْبِيبِ بِالتَّعَدِّي، وَهُوَ الرَّبْطُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.

وَمِثَالُ اجْتِمَاعِ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسْبِيبِ، حَيْثُ تُقَدَّمُ الْمُبَاشَرَةُ، مَا لَوْ رَبَطَ بَعِيرًا إِلَى قِطَارٍ، وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ، فَوَطِئَ الْبَعِيرُ الْمَرْبُوطُ إِنْسَانًا، فَقَتَلَهُ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ الدِّيَةُ، لِعَدَمِ صِيَانَةِ الْقِطَارِ عَنْ رَبْطِ غَيْرِهِ، فَكَانَ مُتَعَدِّيًا (مُقَصِّرًا) لَكِنْ يُرْجَعُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ.

وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبِ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَسَبِّبٌ، لِأَنَّ الرَّبْطَ، مِنَ الْقَوَدِ، بِمَنْزِلَةِ التَّسْبِيبِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، لِاتِّصَالِ التَّلَفِ بِالْقَوَدِ دُونَ الرَّبْطِ.

وَمِثَالُ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُبَاشِرًا وَلَا مُتَسَبِّبًا، حَيْثُ لَا يَضْمَنُ، مَا إِذَا قَتَلَ سِنَّوْرُهُ حَمَامَةً فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ، لِحَدِيثِ: «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْهِرَّةَ إِنْ أَتْلَفَتْ طَيْرًا أَوْ طَعَامًا لَيْلًا أَوَنَهَارًا ضَمِنَ مَالِكُهَا إِنْ عَهِدَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَإِلاَّ فَلَا يَضْمَنُ فِي الْأَصَحِّ.

106- وَمِنْ مَشْمُولَاتِ الْإِفْضَاءِ: التَّعَمُّدُ، كَمَا لَوْ أَلْقَى هِرَّةً عَلَى حَمَامَةٍ أَوْ دَجَاجَةٍ، فَأَكَلَتْهَا ضَمِنَ لَوْ أَخَذَتْهَا بِرَمْيِهِ وَإِلْقَائِهِ، لَا لَوْ بَعْدَهُ.وَيَضْمَنُ بِإِشْلَاءِ كَلْبِهِ، لِأَنَّهُ بِإِغْرَائِهِ يَصِيرُ آلَةً لِعَقْرِهِ، فَكَأَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ.

وَمِنْ مَشْمُولَاتِهِ التَّسَبُّبُ بِعَدَمِ الِاحْتِرَازِ: فَالْأَصْلُ: أَنَّ الْمُرُورَ بِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ، بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، لَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ

فَلَوْ أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ ضَمِنَ مَا نَفَحَتْهُ، لِأَنَّ بِإِمْكَانِهِ الِاحْتِرَازَ مِنَ الْإِيقَافِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الِاحْتِرَازُ مِنَ النَّفْحَةِ، فَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالْإِيقَافِ وَشَغْلِ الطَّرِيقِ بِهِ.

بِخِلَافِ مَا لَوْ أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا حَصَاةً، أَوْ أَثَارَتْ غُبَارًا، فَفَقَأَتْ الْحَصَاةُ عَيْنَ إِنْسَانٍ، أَوْ أَفْسَدَ الْغُبَارُ ثَوْبَ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، لِأَنَّ سَيْرَ الدَّوَابِّ لَا يَخْلُو عَنْهُ.

وَلِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ.

وَجَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ (الْمَادَّةِ: 934): لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ تَوْقِيفِ دَابَّتِهِ أَوْ رَبْطِهَا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ.

وَمِنْ مَشْمُولَاتِهِ التَّسَبُّبُ بِالتَّقْصِيرِ، وَمِنَ الْفُرُوعِ: مَا لَوْ رَأَى دَابَّتَهُ تَأْكُلُ حِنْطَةَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْهَا، حَتَّى أَكَلَتْهَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَضْمَنُ.

وَبِهَذَا أَخَذَتْ الْمَجَلَّةُ، حَيْثُ نَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ «لَوْ اسْتَهْلَكَ حَيَوَانٌ مَالَ أَحَدٍ، وَرَآهُ صَاحِبُهُ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ يَضْمَنُ». (الْمَادَّةُ: 929).

107- وَالضَّامِنُ لِجِنَايَةِ الْحَيَوَانِ، لَمْ يُقَيَّدْ فِي النُّصُوصِ الْفِقْهِيَّةِ، بِكَوْنِهِ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ، بَلْ هُوَ ذُو الْيَدِ، الْقَابِضُ عَلَى زِمَامِهِ، الْقَائِمُ عَلَى تَصْرِيفِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا، وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَيَشْمَلُ هَذَا السَّائِسَ وَالْخَادِمَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ فِي مَالِ الَّذِي هُوَ مَعَهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا

أَوْ مُسْتَعِيرًا، أَوْ غَاصِبًا أَوْ مُودِعًا، أَوْ وَكِيلًا أَوْ غَيْرَهُ.

وَيَقُولُ الشَّرْقَاوِيُّ فِي جِنَايَةِ الدَّابَّةِ: لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا، بَلْ بِذِي الْيَدِ عَلَيْهَا.

108- وَلَوْ تَعَدَّدَ وَاضِعُو الْيَدِ عَلَى الْحَيَوَانِ، فَالضَّمَانُ- فِيمَا يَبْدُو مِنَ النُّصُوصِ- عَلَى الْأَقْوَى يَدًا، وَالْأَكْثَرِ قُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ، وَعِنْدَ الِاسْتِوَاءِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَائِقًا، وَالْآخَرُ قَائِدًا، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي التَّسْبِيبِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَائِدًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِلاَّ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى الرَّاكِبِ وَحْدَهُ، فِيمَا لَوْ وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إِنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ، لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ وَحْدَهُ مُبَاشَرَةً وَإِنْ كَانَ الْحَصْكَفِيُّ صَحَّحَ عَدَمَ تَضْمِينِ السَّائِقِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى، لَكِنَّ السَّبَبَ- هُنَا- مِمَّا يَعْمَلُ بِانْفِرَادِهِ، فَيَشْتَرِكَانِ كَمَا حَقَّقَهُ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ كَانَ عَلَى الدَّابَّةِ رَاكِبَانِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، الْقَادِرُ عَلَى كَفِّهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا صَغِيرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ نَحْوَهُمَا، وَيَكُونُ الثَّانِي الْمُتَوَلِّي لِتَدْبِيرِهَا، فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.

وَإِنْ كَانَ مَعَ الدَّابَّةِ قَائِدٌ وَسَائِقٌ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ ضَمِنَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا ضَمِنَا: وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا رَاكِبٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، لِذَلِكَ.

وَالْآخَرُ: أَنَّهُ عَلَى الرَّاكِبِ، لِأَنَّهُ أَقْوَى يَدًا وَتَصَرُّفًا.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَائِدِ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلرَّاكِبِ عَلَى الْقَائِدِ.

ب- ضَمَانُ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ الْخَطِرِ:

109- وَيَتَمَثَّلُ فِي الْكَبْشِ النَّطُوحِ، وَالْجَمَلِ الْعَضُوضِ، وَالْفَرَسِ الْكَدُومِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، كَمَا يَتَمَثَّلُ فِي الْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَالْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ الْمُفْتَرِسَةِ، وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ، كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ، وَسِبَاعِ الطَّيْرِ كَالْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ، وَفِيهَا مَذَاهِبُ لِلْفُقَهَاءِ: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ ضَمَانُ مَا يُتْلِفُهُ الْحَيَوَانُ الْخَطِرُ، مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ إِذَا وُجِدَ مِنْ مَالِكِهِ إِشْلَاءٌ أَوْ إِغْرَاءٌ أَوْ إِرْسَالٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، الَّذِي أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي هَذَا كُلِّهِ، احْتِيَاطًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالَّذِي أَفْتَوْا بِهِ هُوَ: الضَّمَانُ بَعْدَ الْإِشْلَاءِ كَالْحَائِطِ الْمَائِلِ، فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ كَمَا فِي الْإِغْرَاءِ.

وَعَلَّلَ الضَّمَانَ بِالْإِشْلَاءِ، بِأَنَّهُ بِالْإِغْرَاءِ.يَصِيرُ الْكَلْبُ آلَةً لِعَقْرِهِ، فَكَأَنَّهُ ضَرَبَهُ بِحَدِّ سَيْفِهِ.

وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ تَفْصِيلٌ ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ، وَهُوَ:

إِذَا اتَّخَذَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ، بِقَصْدِ قَتْلِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ وَقَتَلَهُ فَالْقَوَدُ، أُنْذِرَ عَنِ اتِّخَاذِهِ أَوْ لَا.

وَإِنْ قَتَلَ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ فَالدِّيَةُ، وَكَذَلِكَ إِنِ اتَّخَذَهُ لِقَتْلِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَقَتَلَ شَخْصًا فَالدِّيَةُ، أُنْذِرَ أَمْ لَا.

وَإِنِ اتَّخَذَهُ لِوَجْهٍ جَائِزٍ فَالدِّيَةُ إِنْ تَقَدَّمَ لَهُ إِنْذَارٌ قَبْلَ الْقَتْلِ، وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَإِنِ اتَّخَذَهُ لَا لِوَجْهٍ جَائِزٍ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَ، تَقَدَّمَ لَهُ فِيهِ إِنْذَارٌ أَمْ لَا، حَيْثُ عَرَفَ أَنَّهُ عَقُورٌ، وَإِلاَّ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ فِعْلَهُ حِينَئِذٍ كَفِعْلِ الْعَجْمَاءِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْخَطِرَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْبَطَ وَيُكَفَّ شَرُّهُ، كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَكَالسِّنَّوْرِ إِذَا عُهِدَ مِنْهُ إِتْلَافُ الطَّيْرِ أَوِ الطَّعَامِ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ أَوِ السِّنَّوْرَ، فَعَقَرَ إِنْسَانًا، أَوْ أَتْلَفَ طَعَامًا أَوْ ثَوْبًا، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ، لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِاقْتِنَائِهِ وَإِطْلَاقِهِ إِلاَّ إِذَا دَخَلَ دَارَهُ إِنْسَانٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَعَقَرَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالدُّخُولِ، مُتَسَبِّبٌ بِعَدَمِ الِاسْتِئْذَانِ لِعَقْرِ الْكَلْبِ لَهُ، فَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إِلَى إِتْلَافِهِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا اقْتَنَى سِنَّوْرًا، يَأْكُلُ أَفْرَاخَ النَّاسِ، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَهَذَا- هُوَ الْأَصَحُّ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كُلَّمَا عَهِدَ ذَلِكَ مِنْهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، قَالَ الْمَحَلِّيُّ: لِأَنَّ هَذِهِ

(الْهِرَّةَ) يَنْبَغِي أَنْ تُرْبَطَ وَيُكَفَّ شَرُّهَا.

أَمَّا مَا يُتْلِفُهُ الْكَلْبُ الْعَقُورُ لِغَيْرِ الْعَقْرِ، كَمَا لَوْ وَلَغَ فِي إِنَاءٍ، أَوْ بَالَ، فَلَا يُضْمَنُ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْكَلْبُ الْعَقُورُ.

رَابِعًا: ضَمَانُ سُقُوطِ الْمَبَانِي:

110- بَحَثَ الْفُقَهَاءُ مَوْضُوعَ سُقُوطِ الْمَبَانِي وَضَمَانَهَا بِعِنْوَانِ: الْحَائِطِ الْمَائِلِ.وَيَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ فِي ضَمَانِ الْحَائِطِ، مَا يَلْحَقُ بِهِ، مِنَ الشُّرُفَاتِ وَالْمَصَاعِدِ وَالْمَيَازِيبِ وَالْأَجْنِحَةِ، إِذَا شُيِّدَتْ مُطِلَّةً عَلَى مِلْكِ الْآخَرِينَ أَوِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ أَحْكَامٍ.

وَقَدْ مَيَّزَ الْفُقَهَاءُ، بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ، أَوِ الْحَائِطُ أَوْ نَحْوُهُ، مَبْنِيًّا مِنَ الْأَصْلِ مُتَدَاعِيًا ذَا خَلَلٍ، أَوْ مَائِلًا، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْخَلَلُ طَارِئًا، فَهُمَا حَالَتَانِ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: الْخَلَلُ الْأَصْلِيُّ فِي الْبِنَاءِ:

111- هُوَ الْخَلَلُ الْمَوْجُودُ فِي الْبِنَاءِ، مُنْذُ الْإِنْشَاءِ، كَأَنْ أُنْشِئَ مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ أَوْ أُشْرِعَ الْجَنَاحُ أَوِ الْمِيزَابُ أَوِ الشُّرْفَةُ، بِغَيْرِ إِذْنٍ، أَوْ أَشْرَعَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِنْ سَقَطَ الْبِنَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَأَتْلَفَ إِنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ مَالًا، كَانَ ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِهِ، مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ وَلَا طَلَبٍ، لِأَنَّ فِي الْبِنَاءِ تَعَدِّيًا ظَاهِرًا ثَابِتًا مُنْذُ الِابْتِدَاءِ وَذَلِكَ بِشَغْلِ هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِالْبِنَاءِ، وَهَوَاءُ الطَّرِيقِ كَأَصْلِ الطَّرِيقِ حَقُّ الْمَارَّةِ، فَمَنْ أَحْدَث فِيهِ شَيْئًا، كَانَ مُتَعَدِّيًا ضَامِنًا.

وَالشَّافِعِيَّةُ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الضَّمَانِ، بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ الْإِمَامُ فِي الْإِشْرَاعِ أَوْ لَا، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالشَّارِعِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، بِأَنْ لَا يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مَضْمُونٌ، وَإِنْ كَانَ إِشْرَاعًا جَائِزًا.

لَكِنْ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الْجَنَاحِ، فِي دَرْبٍ مُنْسَدٍّ، بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهِ، مَضْمُونٌ، وَبِإِذْنِهِمْ لَا ضَمَانَ فِيهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ حَائِطًا مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ، أَوْ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ أَوْ سَقَطَ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْبِنَاءِ فِي هَوَاءٍ مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ، وَلِأَنَّهُ يُعَرِّضُهُ لِلْوُقُوعِ عَلَى غَيْرِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَصَبَ فِيهِ مِنْجَلًا يَصِيدُ بِهِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَلَلُ الطَّارِئُ:

112- إِذَا أُنْشِئَ الْبِنَاءُ مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَالَ، أَوْ سَلِيمًا ثُمَّ تَشَقَّقَ وَوَقَعَ، وَحَدَثَ بِسَبَبِ وُقُوعِهِ تَلَفٌ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- اسْتِحْسَانًا- وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَشُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ، مِنْ نَفْسٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ مَالٍ، إِذَا طُولِبَ صَاحِبُهُ بِالنَّقْضِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَمَضَتْ مُدَّةٌ يَقْدِرُ عَلَى النَّقْضِ خِلَالَهَا، وَلَمْ يَفْعَلْ.

وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنْ أَمْكَنَهُ هَدْمُهُ أَوْ إِصْلَاحُهُ، ضَمِنَ، لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ النَّقْضِ وَالْإِصْلَاحِ.

وَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ الضَّمَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمَالِكِ صُنْعٌ هُوَ تَعَدٍّ، لِأَنَّ الْبِنَاءَ كَانَ فِي مِلْكِهِ مُسْتَقِيمًا، وَالْمَيَلَانُ وَشَغْلُ الْهَوَاءِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، فَلَا يَضْمَنُ، كَمَا إِذَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ، وَلِمَا قَالُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَمَنْ قَتَلَهُ الْحَجَرُ، بِغَيْرِ فِعْلِ الْبَشَرِ، فَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ هَدْرٌ.

وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: مَا رُوِيَ عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْمَذْكُورِينَ، وَأَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَالَ فَقَدْ شَغَلَ هَوَاءَ الطَّرِيقِ بِمِلْكِهِ، وَرَفْعُهُ بِقُدْرَةِ صَاحِبِهِ، فَإِذَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا امْتَنَعَ مَعَ تَمَكُّنِهِ صَارَ مُتَعَدِّيًا.

وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَضْمَنْ يَمْتَنِعُ مِنَ الْهَدْمِ، فَيَنْقَطِعُ الْمَارَّةُ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ مِنَ الْوَاجِبِ، وَكَمْ مِنْ ضَرَرٍ خَاصٍّ يُتَحَمَّلُ لِدَفْعِ الْعَامِّ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ التَّقَدُّمُ، دُونَ الْإِشْهَادِ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ تَتَحَقَّقُ، وَيَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى الْعُذْرِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ الْجَهْلُ بِمَيْلِ الْحَائِطِ.

أَمَّا الْإِشْهَادُ فَلِلتَّمَكُّنِ مِنْ إِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ، فَكَانَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ الْإِشْهَادَ مَعَ الْإِنْذَارِ، فَإِذَا انْتَفَى الْإِنْذَارُ وَالْإِشْهَادُ فَلَا ضَمَانَ، إِلاَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِذَلِكَ مَعَ تَفْرِيطِهِ فَيَضْمَنَ كَمَا أَنَّ الْإِشْهَادَ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُمْ يَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَوْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ مَعَ إِمْكَانِ الْإِشْهَادِ عِنْدَ الْحَاكِمِ.

113- وَشُرُوطُ التَّقَدُّمِ أَوِ الْإِنْذَارِ هِيَ: وَمَعْنَى التَّقَدُّمِ: طَلَبُ النَّقْضِ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ الْمُتَقَدِّمُ: إِنَّ حَائِطَكَ هَذَا مَخُوفٌ، أَوْ يَقُولَ: مَائِلٌ فَانْقُضْهُ أَوِ اهْدِمْهُ، حَتَّى لَا يَسْقُطَ وَلَا يُتْلِفَ شَيْئًا، وَلَوْ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَهْدِمَهُ، فَذَلِكَ مَشُورَةٌ.

أ- أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ مَصْلَحَةٍ فِي الطَّلَبِ.

وَفَرَّقُوا فِي هَذَا: بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْحَائِطُ مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَائِلًا إِلَى مِلْكِ إِنْسَانٍ:

فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى: يَصِحُّ التَّقَدُّمُ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ، مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَقَدِّمِ وَلَا لِلْقَاضِي حَقُّ إِبْرَاءِ صَاحِبِ الْحَائِطِ، وَلَا تَأْخِيرُهُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ، لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَامَّةِ، وَتَصَرُّفُهُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ نَافِذٌ- كَمَا يَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ نَقْلًا عَنِ الذَّخِيرَةِ- فِيمَا يَنْفَعُهُمْ، لَا فِيمَا يَضُرُّهُمْ.

وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ: لَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إِلاَّ مِنَ الْمَالِكِ الَّذِي شَغَلَ الْحَائِطُ هَوَاءَ مِلْكِهِ، كَمَا أَنَّ لَهُ حَقَّ الْإِبْرَاءِ وَالتَّأْخِيرِ.

بَلْ نَصَّتْ الْمَجَلَّةُ (فِي الْمَادَّةِ: 928) عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَائِطُ مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ الْخَاصِّ، يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ الْمُرُورِ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ.

ب- أَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ قَبْلَ السُّقُوطِ بِمُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى النَّقْضِ خِلَالَهَا، لِأَنَّ مُدَّةَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِحْضَارِ الْأُجَرَاءِ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الشَّرْعِ.

ج- أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ بَعْدَ مَيْلِ الْحَائِطِ، فَلَوْ طَلَبَ قَبْلَ الْمَيْلِ لَمْ يَصِحَّ، لِعَدَمِ التَّعَدِّي.

د- أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ النَّقْضَ، كَالْمَالِكِ وَوَلِيِّ الصَّغِيرِ، وَوَصِيِّهِ وَوَصِيِّ الْمَجْنُونِ، وَالرَّاهِنِ، وَكَذَا الْوَاقِفِ وَالْقَيِّمِ عَلَى الْوَقْفِ وَأَحَدِ الشُّرَكَاءِ بِخِلَافِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُودِعِ، لِأَنَّهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى التَّصَرُّفِ، فَلَا يُفِيدُ طَلَبُ النَّقْضِ مِنْهُمْ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْإِنْذَارُ كَمَا قَالَ الدَّرْدِيرُ وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُونَ مَا تَلِفَ مِنْ سُقُوطِهِ، بَلْ قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: لَا ضَمَانَ أَصْلًا عَلَى سَاكِنٍ وَلَا مَالِكٍ.

وَمَحَلُّ هَذِهِ الشُّرُوطِ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ.إِذَا كَانَ مُنْكِرًا لِلْمَيَلَانِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُقِرًّا بِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ.

114- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا بِسُقُوطِ الْبِنَاءِ، إِذَا مَالَ بَعْدَ بِنَائِهِ مُسْتَقِيمًا وَلَوْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَدْمِهِ وَإِصْلَاحِهِ، فَلَا ضَمَانَ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ تَمَكَّنَ عَلَى الْأَصَحِّ..وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَهُ الْوَالِي أَوْ غَيْرُهُ بِالنَّقْضِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُطَالِبَ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ، وَالْهَلَاكُ حَصَلَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَأَنَّ الْمَيْلَ نَفْسَهُ لَمْ يَحْصُلْ بِفِعْلِهِ وَأَنَّ مَا كَانَ أَوَّلُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ، لَا يَنْقَلِبُ مَضْمُونًا بِتَغْيِيرِ الْحَالِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ، إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ بِالنَّقْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِتَرْكِهِ مَائِلًا، فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ بَنَاهُ مَائِلًا إِلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَلِأَنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِنَقْضِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ مَا تَلِفَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لَمْ يَضْمَنْ بِالْمُطَالَبَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَائِلًا، أَوْ كَانَ مَائِلًا إِلَى مِلْكِهِ.

لَكِنَّ نَصَّ أَحْمَدَ، هُوَ عَدَمُ الضَّمَانِ- كَمَا يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ- أَمَّا لَوْ طُولِبَ بِالنَّقْضِ، فَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ إِلَى الضَّمَانِ فِيهِ.

أَمَّا الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِسُقُوطِ الْأَبْنِيَةِ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، فَهُوَ:

أ- أَنَّ مَا تَلِفَ بِهِ مِنَ النُّفُوسِ، فَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ مَالِكِ الْبِنَاءِ.

ب- وَمَا تَلِفَ بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ فَعَلَى مَالِكِ الْبِنَاءِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ.

ج- وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ الْكَفَّارَةُ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- وَلَا يُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْمُبَاشِرِ فِي الضَّمَانِ، صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنِ الْهَدْرِ، عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَبَقِيَ فِي الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ عَلَى الْأَصْلِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ: هُوَ مُلْحَقٌ بِالْخَطَأِ فِي أَحْكَامِهِ، إِذْ لَا قَتْلَ بِسَبَبٍ عِنْدَهُمْ، فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَفِيهِ الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ أَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَاتِلِ.

خَامِسًا: ضَمَانُ التَّلَفِ بِالْأَشْيَاءِ:

115- أَكْثَرُ مَا يَعْرِضُ التَّلَفُ بِالْأَشْيَاءِ، بِسَبَبِ إِلْقَائِهَا فِي الطُّرُقَاتِ وَالشَّوَارِعِ، أَوْ بِسَبَبِ وَضْعِهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا الْمُخَصَّصَةِ لَهَا.

وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْأَشْيَاءِ إِلَى خَطِرَةٍ، وَغَيْرِ خَطِرَةٍ، أَيْ عَادِيَّةٍ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:

ضَمَانُ التَّلَفِ الْحَاصِلِ بِالْأَشْيَاءِ الْعَادِيَّةِ غَيْرِ الْخَطِرَةِ:

116- يَرُدُّ الْفُقَهَاءُ مَسَائِلَ التَّلَفِ الْحَاصِلِ بِالْأَشْيَاءِ الْعَادِيَّةِ، غَيْرِ الْخَطِرَةِ، إِلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ:

الْأَوَّلُ: كُلُّ مَوْضِعٍ يَجُوزُ لِلْوَاضِعِ أَنْ يَضَعَ فِيهِ أَشْيَاءَهُ لَا يَضْمَنُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وَضْعِهَا فِيهِ مِنْ ضَرَرٍ، لِأَنَّ الْجَوَازَ الشَّرْعِيَّ يُنَافِي الضَّمَانَ.

الثَّانِي: كُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ أَشْيَاءَهُ يَضْمَنُ مَا يَنْشَأُ عَنْ وَضْعِهَا فِيهِ مِنْ أَضْرَارٍ، مَا دَامَتْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ زَالَتْ عَنْهُ لَمْ يَضْمَنْ.

الثَّالِثُ: كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، ضَمِنَ مَا تَوَلَّدَ عَنْهُ مِنْ ضَرَرٍ.

الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ، بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ.

الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ ضَامِنٌ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَإِلاَّ لَا يَضْمَنُ، وَالْمُبَاشِرُ ضَامِنٌ مُطْلَقًا.

وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي انْبَثَقَتْ مِنْهَا هَذِهِ الْأُصُولُ:

أ- مَنْ وَضَعَ جَرَّةً أَوْ شَيْئًا فِي طَرِيقٍ لَا يَمْلِكُهُ فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ، وَلَوْ زَالَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمَوْضُوعُ أَوَّلًا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، (غَيْرِ الطَّرِيقِ) فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ، بَرِئَ وَاضِعُهُ وَلَمْ يَضْمَنْ.

ب- لَوْ قَعَدَ فِي الطَّرِيقِ لِيَبِيعَ، فَتَلِفَ بِقَعْدَتِهِ شَيْءٌ: فَإِنْ كَانَ قَعَدَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَا يَضْمَنُهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ يَضْمَنُهُ وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ فِي الضَّمَانِ.

ج- وَلَوْ وَضَعَ جَرَّةً عَلَى حَائِطٍ، فَأَهْوَتْ بِهَا الرِّيحُ، وَتَلِفَ بِوُقُوعِهَا شَيْءٌ، لَمْ يَضْمَنْ، إِذِ انْقَطَعَ أَثَرُ فِعْلِهِ بِوَضْعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْوَضْعِ بِأَنْ وُضِعَتِ الْجَرَّةُ وَضْعًا مَأْمُونًا، فَلَا يُضَافُ إِلَيْهِ التَّلَفُ.

د- لَوْ حَمَلَ فِي الطَّرِيقِ شَيْئًا عَلَى دَابَّتِهِ أَوْ سَيَّارَتِهِ، فَسَقَطَ الْمَحْمُولُ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ أَوِ اصْطَدَمَ بِشَيْءٍ فَكَسَرَهُ، ضَمِنَ الْحَامِلُ، لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَلِأَنَّهُ أَثَرُ فِعْلِهِ.

وَلَوْ عَثَرَ أَحَدٌ بِالْحَمْلِ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاضِعُ، فَلَمْ يَنْقَطِعْ أَثَرُ فِعْلِهِ.

هـ- لَوْ أَلْقَى فِي الطَّرِيقِ قِشْرًا، فَزَلَقَتْ بِهِ دَابَّةٌ، ضَمِنَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِالْمُسَامَحَةِ فِي طَرْحِ مَا ذُكِرَ.

وَكَذَا لَوْ رَشَّ فِي الطَّرِيقِ مَاءً، فَتَلِفَتْ بِهِ دَابَّةٌ، ضَمِنَ وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَادَةَ، وَإِلاَّ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاشِّ، لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ.

الْقِسْمُ الثَّانِي:

ضَمَانُ التَّلَفِ بِالْأَشْيَاءِ الْخَطِرَةِ:

117- رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا- أَوْ قَالَ: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ- أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ».

وَفِي الْفُرُوعِ: لَوِ انْفَلَتَتْ فَأْسٌ مِنْ يَدِ قَصَّابٍ، كَانَ يَكْسِرُ الْعَظْمَ، فَأَتْلَفَ عُضْوَ إِنْسَانٍ، يَضْمَنُ، وَهُوَ خَطَأٌ.وَلَا تَعْلِيلَ لِلضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلاَّ التَّقْصِيرُ فِي رِعَايَةِ هَذِهِ الْآلَةِ الْحَادَّةِ، وَعَدَمِ الِاحْتِرَازِ أَثْنَاءَ الِاسْتِعْمَالِ، فَاسْتُدِلَّ بِوُقُوعِ الضَّرَرِ عَلَى التَّعَدِّي، وَأُقِيمَ مَقَامَهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَا الْيَدِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْخَطِرَةِ يَضْمَنُ مِنَ الْأَضْرَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا مَا كَانَ بِفِعْلِهِ، وَلَا يَضْمَنُ مَا كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ.وَمِنْ نُصُوصِهِمْ:

أ- لَوْ خَرَجَ الْبَارُودُ مِنَ الْبُنْدُقِيَّةِ بِفِعْلِهِ، فَأَصَابَ آدَمِيًّا أَوْ مَالًا ضَمِنَ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ طَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ ضَرْبِ الْحَدَّادِ، فَأَصَابَتْ ثَوْبَ مَارٍّ فِي الطَّرِيقِ، ضَمِنَ الْحَدَّادُ.

ب- وَلَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ فَحَمَلَتْ نَارًا، وَأَلْقَتْهَا عَلَى الْبُنْدُقِيَّةِ، فَخَرَجَ الْبَارُودُ، لَا ضَمَانَ.

ج- وَلَوْ وَقَعَ الزَّنْدُ الْمُتَّصِلُ بِالْبُنْدُقِيَّةِ الْمُجَرَّبَةِ، الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي زَمَانِنَا، عَلَى الْبَارُودِ بِنَفْسِهِ، فَخَرَجَتْ رَصَاصَتُهَا، أَوْ مَا بِجَوْفِهَا، فَأَتْلَفَ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


52-موسوعة الفقه الكويتية (عفو 1)

عَفْو -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ فِي اللُّغَةِ الْإِسْقَاطُ، قَالَ تَعَالَى: {وَاعْفُ عَنَّا} وَالْكَثْرَةُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا}.أَيْ: كَثُرُوا، وَالذَّهَابُ وَالطَّمْسُ وَالْمَحْوُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: عَفَتِ الدِّيَارُ، وَالْإِعْطَاءُ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: عَفَا يَعْفُو: إِذَا أَعْطَى، وَقِيلَ: الْعَفْوُ مَا أَتَى بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ الْعَفْوَ غَالِبًا بِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَالتَّجَاوُزِ

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الصَّفْحُ:

2- الصَّفْحُ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَأَصْلُهُ: الْإِعْرَاضُ بِصَفْحَةِ الْوَجْهِ عَنِ التَّلَفُّتِ إِلَى مَا كَانَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}.

قَالَ الرَّاغِبُ: وَالصَّفْحُ أَبْلَغُ مِنَ الْعَفْوِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وَقَدْ يَعْفُو الْإِنْسَانُ وَلَا يَصْفَحُ.

ب- الْمَغْفِرَةُ:

3- الْمَغْفِرَةُ مِنَ الْغَفْرِ مَصْدَرُ غَفَرَ، وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: الصَّبْغُ أَغْفَرُ لِلْوَسَخِ، أَيْ أَسْتَرُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: أَنْ يَسْتُرَ الْقَادِرُ الْقَبِيحَ الصَّادِرَ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ وَلَا يَقْتَضِي إِيجَابَ الثَّوَابِ، وَالْمَغْفِرَةَ تَقْتَضِي إِسْقَاطَ الْعِقَابِ وَهُوَ: إِيجَابُ الثَّوَابِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهَا إِلاَّ الْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّوَابِ

ج- الْإِسْقَاطُ:

4- الْإِسْقَاطُ: هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ.

وَالْعَفْوُ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَعَمُّ مِنَ الْإِسْقَاطِ لِتَعَدُّدِ اسْتِعْمَالَاتِهِ د- الصُّلْحُ:

5- الصُّلْحُ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَالصُّلْحُ أَعَمُّ مِنَ الْعَفْوِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْعَفْوِ بِاخْتِلَافِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ خَالِصًا لِلْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَالْحُدُودِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بَعْدَ رَفْعِ الْأَمْرِ إِلَى الْحَاكِمِ.

وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الْعَفْوَ فِي الْجُمْلَةِ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا الشَّارِعُ مُؤَدِّيَةً إِلَى ذَلِكَ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِسْقَاط ف 39 وَمَا بَعْدَهَا).

الْعَفْوُ فِي الْعِبَادَاتِ:

أَوَّلًا- الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ:

7- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، كَمَا اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي الْعَفْوِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ وَقَالُوا: إِنَّهُ يُعْفَى عَنِ الْمُغَلَّظَةِ إِذَا أَصَابَتِ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَزِيدَ عَنِ الدِّرْهَمِ، قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: وَقَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ مِنَ النَّجَسِ الْمُغَلَّظِ كَالدَّمِ وَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَخُرْءِ الدَّجَاجِ وَبَوْلِ الْحِمَارِ، جَازَتِ الصَّلَاةُ مَعَهُ.

أَمَّا النَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُعْفَى عَنْهُ مِنْهَا عَلَى رِوَايَاتٍ: قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: إِنْ كَانَتْ كَبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ جَازَتِ الصَّلَاةُ مَعَهَا حَتَّى يَبْلُغَ رُبُعَ الثَّوْبِ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: حَدُّ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ هُوَ: الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الدَّمِ- وَمَا مَعَهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ- وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَيَقُولُونَ بِالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ دِرْهَمٍ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ، وَالْمُرَادُ بِالدِّرْهَمِ الدِّرْهَمُ الْبَغْلِيُّ وَهُوَ الدَّائِرَةُ السَّوْدَاءُ الْكَائِنَةُ فِي ذِرَاعِ الْبَغْلِ، قَالَ الصَّاوِيُّ: إِنَّمَا اخْتَصَّ الْعَفْوُ بِالدَّمِ وَمَا مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْهُ، فَالِاحْتِرَازُ عَنْ يَسِيرِهِ عَسِرٌ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْيَسِيرِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ وَمَا يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَدَمِ الْقُرُوحِ وَالدَّمَامِلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالضَّابِطُ فِي الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ الْعُرْفُ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَةٍ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرْفُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُلِ ذُبَابٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ إِلاَّ دَمَ الْحَيَوَانَاتِ النَّجِسَةِ فَلَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِهَا كَسَائِرِ فَضَلَاتِهَا، وَلَا يُعْفَى عَنِ الدِّمَاءِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْبَوْلِ أَوِ الْغَائِطِ.

وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ.وَمِمَّا بَحَثَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَاتِ: أ- الْعَفْوُ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ:

8- يَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَيُقَيِّدُ الشَّافِعِيَّةُ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ بِقُيُودٍ عَبَّرَ عَنْهَا الْبَيْجُورِيُّ بِقَوْلِهِ: خَرَجَ بِالْيَسِيرِ الْكَثِيرُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الشَّخْصِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ وَلَمْ يَخْتَلِطْ بِأَجْنَبِيٍّ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَحَلَّهُ، عُفِيَ عَنْهُ وَإِلاَّ فَلَا، وَمَحَلُّ الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ فِي الثَّوْبِ عِنْدَهُمْ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَلَوْ لِلتَّجَمُّلِ وَكَانَ مَلْبُوسًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ وَمَا لَوْ فَرَشَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ وَصَلَّى بِهِ فَلَا يُعْفَى عَنْهُ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي الْيَسِيرِ الْمَذْكُورِ، هَلْ يُغْتَفَرُ مُطْلَقًا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمَائِعِ الطَّاهِرِ أَوِ اغْتِفَارُهُ مَقْصُورٌ عَلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَقْطَعُهَا لِأَجْلِهِ إِذَا ذَكَرَهُ فِيهَا وَلَا يُعِيدُهَا، وَأَمَّا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَيُؤْمَرُ بِغَسْلِهِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا، وَالثَّانِي عَزَاهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنِّفُ لِلْمُدَوَّنَةِ، وَعَزَاهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَابْنُ عَرَفَةَ نَاقِلًا عَنِ الْمَازِرِيِّ لِابْنِ حَبِيبٍ كَذَلِكَ ابْنُ نَاجِي، قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: هُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَصَرَّحَ ابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ قَلِيلَ دَمِ الْحَيْضِ وَكَثِيرَهُ نَجِسٌ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَيَّدُوا الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فِي الْحَيَاةِ، آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، يُؤْكَلُ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ أَوْ لَا كَالْهِرِّ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ كَالْكَلْبِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَلَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ مِنْهُ، وَلَا يُعْفِي عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ.كَمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِ الْحَيْضِ وَكَذَا دَمُ النِّفَاسِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: كَثِيرُ الدَّمِ وَقَلِيلُهُ سَوَاءٌ.وَنَحْوُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ.وَحُكْمُ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ حُكْمُ الدَّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

ب- الْعَفْوُ عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ:

9- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ طِينِ الشَّارِعِ النَّجِسِ لِعُسْرِ تَجَنُّبِهِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ: وَقَضِيَّةُ إِطْلَاقِهِمُ الْعَفْوَ عَنْهُ وَلَوِ اخْتَلَطَ بِنَجَاسَةِ كَلْبٍ أَوْ نَحْوِهِ- وَهُوَ الْمُتَّجِهُ لَا سِيَّمَا فِي مَوْضِعٍ يَكْثُرُ فِيهِ الْكِلَابُ- لِأَنَّ الشَّوَارِعَ مَعْدِنُ النَّجَاسَاتِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذْ قَالُوا: إِنَّ طِينَ الشَّوَارِعِ الَّذِي فِيهِ نَجَاسَةٌ عَفْوٌ إِلاَّ إِذَا عُلِمَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي الصَّلَاةِ غَسْلُهُ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: الْأَحْوَالُ أَرْبَعَةٌ: الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُ الطِّينِ أَكْثَرَ مِنَ النَّجَاسَةِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهَا تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا، وَلَا إِشْكَالَ فِي الْعَفْوِ فِيهِمَا، وَالثَّالِثَةُ: غَلَبَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى الطِّينِ تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ، وَيَجِبُ غَسْلُهُ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ الدَّرْدِيرُ تَبَعًا لِابْنِ أَبِي زَيْدٍ. وَالرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ عَيْنُهَا قَائِمَةً وَهِيَ لَا عَفْوَ فِيهَا اتِّفَاقًا

ج- الْعَفْوُ عَنْ مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنَ النَّجَاسَاتِ:

10- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَةٍ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرْفُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُلِ ذُبَابٍ وَنَحْوِهِ؛ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}

د- الْعَفْوُ عَنْ دَمِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً:

11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَالْقَمْلِ وَنَحْوِهَا مِنْ كُلِّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً طَاهِرٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: دَمُ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَفِي كَثِيرِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْعَفْوُ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي دَمِ الْقَمْلِ وَالْبَعُوضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة)

ثَانِيًا- الْعَفْوُ فِي الزَّكَاةِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا بَيْنَ النِّصَابَيْنِ مِنَ الْأَنْعَامِ هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ أَمْ لَا؟

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي النِّصَابِ فَقَطْ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَوْقَاصِ عَفْوٌ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَالْبُوَيْطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ.

أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْعَفْوَ يَخْتَصُّ فِي زَكَاةِ السَّائِمَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: إِنَّ الْعَفْوَ يَجْرِي فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ حَتَّى فِي النَّقْدَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَفْوٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَفِيهَا دِرْهَمٌ آخَرُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي: (أَوْقَاص ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) وَفِي: (زَكَاة ف 72)

ثَالِثًا- الْعَفْوُ فِي الصِّيَامِ:

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَصَلَ جَوْفَ الصَّائِمِ ذُبَابٌ أَوْ غُبَارُ الطَّرِيقِ، أَوْ غَرْبَلَةُ الدَّقِيقِ، أَوْ مَا تَبَقَّى بَيْنَ الْأَسْنَانِ مِنْ طَعَامٍ، فَجَرَى بِهِ رِيقُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَعَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهِ وَمَجِّهِ- لَمْ يُفْطِرْ فِي كُلِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا يَعْسُرُ.

وَكَذَا لَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً وَشَقَّ عَلَيْهِ الْبَصْقُ عُفِيَ عَنْ أَثَرِهِ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ عَمَّتْ بَلْوَاهُ بِذَلِكَ بِحَيْثُ يَجْرِي دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، أَنْ يُسَامَحَ بِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَيَكْفِي بَصْقُهُ الدَّمَ وَيُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم ف 76 وَمَا بَعْدَهَا) رَابِعًا- الْعَفْوُ فِي الْحَجِّ:

14- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ الْمَخِيطَ أَوْ تَطَيَّبَ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطَيُّب ف 12 وَ 15)

الْعَفْوُ فِي الْمُعَامَلَاتِ:

أَوَّلًا- الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ:

15- الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ الرَّشِيدِ بِلَا عِوَضٍ جَائِزٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ- الِاعْتِيَاضَ عَنْ تَرْكِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْقَاط ف 41 وَ 42) (وَشُفْعَة ف 55 وَمَا بَعْدَهَا)

ثَانِيًا- الْعَفْوُ عَنِ الْمَدِينِ:

16- لِلدَّائِنِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْمَدِينِ وَتَبْرَأُ بِذَلِكَ ذِمَّتُهُ مِنَ الدَّيْنِ

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِبْرَاء ف 40 وَمَا بَعْدَهَا).

ثَالِثًا- الْعَفْوُ عَنِ الصَّدَاقِ:

17- الصَّدَاقُ حَقٌّ خَالِصٌ لِلزَّوْجَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}

وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَعْفُوَ عَنِ الصَّدَاقِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، كَمَا أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الصَّدَاقِ، وَعَفْوُهُ يَكُونُ بِإِكْمَالِ الصَّدَاقِ عِنْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلِأَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ الْعَفْوُ كَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}.

وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْر)

الْعَفْوُ فِي الْعُقُوبَاتِ:

أَوَّلًا- الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ:

18- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}؛

وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِيهِ إِذْ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ، فَجَازَ لِمُسْتَحِقِّهِ تَرْكُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.

وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى نَدْبِ الْعَفْوِ وَاسْتِحْبَابِهِ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قَالَ الْجَصَّاصُ: نَدَبَهُ إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ - رضي الله عنه-: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- رُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ».

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْعَفْوُ إِحْسَانٌ وَالْإِحْسَانُ هُنَا أَفْضَلُ، وَاشْتُرِطَ أَلاَّ يَحْصُلَ بِالْعَفْوِ ضَرَرٌ، فَإِذَا حَصَلَ مِنْهُ ضَرَرٌ فَلَا يُشْرَعُ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ الْعَفْوِ إِلاَّ فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ، وَهُوَ الْقَتْلُ لِأَخْذِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحِرَابَةِ، وَالْمُحَارِبُ إِذَا قَتَلَ وَجَبَ قَتْلُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لِدَفْعِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَالْقَتْلُ هُنَا حَقٌّ لِلَّهِ لَا لِلْآدَمِيِّ، وَعَلَى هَذَا يُقْتَلُ حَدًّا لَا قَوَدًا.

19- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، حَتَّى لَا يَمْلِكَ وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أَوْ عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِمَّا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، فَلِلْوَلِيِّ خِيَارُ التَّعْيِينِ، إِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ.

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ وَأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عِنْدَ سُقُوطِهِ، وَلِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وَالْمَكْتُوبُ لَا يُتَخَيَّرُ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُتْلَفٌ يَجِبُ بِهِ الْبَدَلُ فَكَانَ بَدَلُهُ مُعَيَّنًا كَسَائِرِ أَبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ، وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ سِنِّ الرُّبَيِّعِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» فَعُلِمَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يُخَيِّرِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أَوْجَبَ الِاتِّبَاعَ بِمُجَرَّدِ الْعَفْوِ وَلَوْ أَوْجَبَ الْعَمْدَ بِالْقِصَاصِ عَيْنًا لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ عِنْدَ الْعَفْوِ الْمُطْلَقِ، فَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما-: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الْآيَةَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ» وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ فِي الْإِلْزَامِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى التَّعْيِينِ مَشَقَّةً، وَبِأَنَّ الْجَانِيَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ كَالْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ نَفْسَ الْقَتِيلِ مَضْمُونَةٌ أَصْلًا بِالْقَوَدِ، وَالضَّمَانُ يَكُونُ بِجِنْسِ الْمُتْلَفِ فَكَانَ الْقَوَدُ هُوَ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَإِنْ سَقَطَ الْجِنْسُ وَهُوَ الْقَوَدُ وَجَبَ الْبَدَلُ وَهُوَ الدِّيَةُ حَتَّى لَا يَفُوتَ ضَمَانُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ.

الْعَفْوُ عَنِ الْقَاتِلِ:

20- إِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَاتِلِ مُطْلَقًا صَحَّ وَلَمْ تَلْزَمْهُ عُقُوبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاحِدٌ وَقَدْ أَسْقَطَهُ مُسْتَحِقُّهُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ سَنَةً.

وَإِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَوَدِ مُطْلَقًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ عَلَى الْجَانِي، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا بِأَلاَّ يَظْهَرَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْعَفْوِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، فَإِذَا سَقَطَ بِالْعَفْوِ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إِسْقَاطُ ثَابِتٍ لَا إِثْبَاتُ مَعْدُومٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ عَفَا مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ فَلَهُ الدِّيَةُ لِانْصِرَافِ الْعَفْوِ إِلَى الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الِانْتِقَامِ، وَالِانْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ تَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ، وَإِذَا قَالَ وَلِيُّ الدَّمِ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ أَوْ عَنْ جِنَايَتِكَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ

عَفْوُ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ:

21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُسْتَحِقَّ الْقِصَاصِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الْآخَرِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ، إِذِ الْقِصَاصُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رضي الله عنهما- فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنهما- أَنَّهُمَا أَوْجَبَا عِنْدَ عَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَنِ الْقِصَاصِ لِلَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا عَنْهُ نَصِيبَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم- وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ حَقٌّ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَمَنْ عَفَا مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثُبُوتُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ابْتِدَاءً لِكُلِّ وَارِثٍ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَةِ، وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْعَصَبَةِ الذُّكُورِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لِرَفْعِ الْعَارِ فَاخْتَصَّ بِهِمْ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْوَارِثُونَ بِالنَّسَبِ دُونَ السَّبَبِ لِانْقِطَاعِهِ بِالْمَوْتِ فَلَا حَاجَةَ لِلتَّشَفِّي.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ لَهُمُ الْعَفْوُ فِي الْجُمْلَةِ هُمُ الَّذِينَ لَهُمُ الْقِيَامُ بِالدَّمِ، وَإِنَّ الْمَقْتُولَ عَمْدًا إِذَا كَانَ لَهُ بَنُونَ بَالِغُونَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ فَإِنَّ الْقِصَاصَ قَدْ بَطَلَ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْبَنَاتِ وَلَا الْأَخَوَاتِ قَوْلٌ مَعَ الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ فِي الْقِصَاصِ أَوْ ضِدِّهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ.

وَقَالُوا: إِنَّ حَقَّ النِّسَاءِ فِي الِاسْتِيفَاءِ مَشْرُوطٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُنَّ وَارِثَاتٍ، احْتِرَازًا عَنِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَأَنْ لَا يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ فِي الدَّرَجَةِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ أَصْلًا أَوْ يُوجَدْ أَنْزَلُ، كَعَمٍّ مَعَ بِنْتٍ أَوْ أُخْتٍ، فَخَرَجَتِ الْبِنْتُ مَعَ الِابْنِ وَالْأُخْتُ مَعَ الْأَخِ، فَلَا كَلَامَ لَهَا مَعَهُ فِي عَفْوٍ وَلَا قَوَدٍ، وَأَنْ يَكُنَّ عَصَبَتَهُ لَوْ كُنَّ ذُكُورًا، فَلَا كَلَامَ لِلْجَدَّةِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ، وَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ كُنَّ الْوَارِثَاتِ مَعَ عَاصِبٍ غَيْرِ مُسَاوٍ فَلَهُنَّ وَلَهُ الْقَوَدُ، قَالُوا: وَلَا يُعْتَبَرُ عَفْوٌ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ، كَالْبَنَاتِ مَعَ الْإِخْوَةِ سَوَاءٌ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ قَسَامَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، كَأَنْ حُزْنَ الْمِيرَاثَ كَالْبِنْتِ مَعَهَا أُخْتٌ لِغَيْرِ أُمٍّ مَعَ الْأَعْمَامِ وَثَبَتَ قَتْلُ مُوَرِّثِهِنَّ بِقَسَامَةٍ مِنَ الْأَعْمَامِ، فَلِكُلٍّ الْقَتْلُ، وَلَا عَفْوَ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِهِمْ، فَلَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَلَا كَلَامَ لِلْعَصَبَةِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ.

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ عَمْدًا إِذَا عَفَا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ اعْتُبِرَ عَفْوُهُ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ جَازَ الْعَفْوُ اسْتِحْسَانًا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْلِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يَصِيرُ قَتْلًا إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَلِّ وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ.وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْقَتْلَ إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَالِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمَقْتُولِ الْعَفْوُ عَنْ دَمِهِ بَعْدَ إِنْفَاذِ مَقْتَلِهِ وَقَبْلَ زُهُوقِ رُوحِهِ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: لِأَنَّ لِلْقِصَاصِ سَبَبًا وَهُوَ إِنْفَاذُ الْمَقَاتِلِ وَشَرْطًا وَهُوَ زُهُوقُ الرُّوحِ، فَإِنْ عَفَا الْمَقْتُولُ عَنِ الْقِصَاصِ قَبْلَهُمَا لَمْ يُعْتَبَرْ عَفْوُهُ، وَعَفْوُهُ بَعْدَهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَا بَيْنَهُمَا فَيَنْفُذُ إِجْمَاعًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قُطِعَ فَعُفِيَ عَنْ قَوَدِهِ وَأَرْشِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْرِ فَلَا شَيْءَ، وَإِنْ سَرَى لِلنَّفْسِ فَلَا قِصَاصَ فِي نَفْسٍ وَلَا طَرَفٍ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ تَوَلَّدَتْ مِنْ مَعْفُوٍّ عَنْهُ، فَصَارَتْ شُبْهَةً دَافِعَةً لِلْقِصَاصِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لَا يَلْزَمُ عَفْوُهُ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ الْقِصَاصُ أَوِ الْعَفْوُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الْإِبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ.

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَمَّا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا

23- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا قَالَ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنِ الْقَطْعِ أَوِ الْجِرَاحَةِ أَوِ الشَّجَّةِ أَوِ الضَّرْبَةِ، أَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ وَقَعَ عَنْ ثَابِتٍ وَهُوَ الْجِرَاحَةُ أَوْ مُوجِبُهَا وَهُوَ الْأَرْشُ فَيَصِحُّ الْعَفْوُ وَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي إِتْلَافِ مَالِهِ فَلَا ضَمَانَ بِإِتْلَافِهِ.

حُكْمُ السِّرَايَةِ:

24- وَإِنْ سَرَى الْجُرْحُ إِلَى النَّفْسِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَمَاتَ الْمُصَابُ، فَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ، وَكَذَا لَفْظُ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا عَنِ الْقَتْلِ فَيَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَصِحُّ الْعَفْوُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِيمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ عَفَا ثُمَّ مَاتَ.

نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ: إِنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْيَدِ، لَا غَيْرُ، لَا إِشْكَالَ، وَإِنْ قَالَ: عَنِ الْيَدِ وَمَا تَرَامَى إِلَيْهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ قَالَ: عَفَوْتُ، فَقَطْ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَفَا عَمَّا وَجَبَ لَهُ فِي الْحَالِ وَهُوَ قَطْعُ الْيَدِ.

وَعِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي بَابِ الصُّلْحِ فِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ- لَا الْمَقْطُوعِ- إِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الْجُرْحِ دُونَ مَا تَرَامَى إِلَيْهِ وَهِيَ:

أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا وَيَقْتُلُوا وَيُرَدُّ الْمَالُ وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِالصُّلْحِ لَا فِي الْخَطَأِ وَلَا فِي الْعَمْدِ.

الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمْدِ فَيُخَيَّرُونَ فِيهِ، وَالْخَطَأِ فَلَا يُخَيَّرُونَ وَلَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ عُضْوُ شَخْصٍ فَعَفَا عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ قَوَدًا أَوْ أَرْشًا فَلَا قِصَاصَ فِي النَّفْسِ، كَمَا لَا قِصَاصَ فِي الطَّرْفِ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ سَلَمَةَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَفْوِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الْإِبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، فَإِنْ قَالَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ الْعَفْوُ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ وَلَمْ يَضْمَنِ الْجَانِي السِّرَايَةَ لِلْعَفْوِ عَنْهَا.

عَفْوُ الْوَلِيِّ بَعْدَ الْجَرْحِ وَقَبْلَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ:

25- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الْجَانِي بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْقِيَاسُ أَلاَّ يَصِحَّ عَفْوُهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ، وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْلِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يَصِيرُ قَتْلًا إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَلِّ وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَمْ يَصِحَّ.

أَمَّا الِاسْتِحْسَانُ فَلَهُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُرْحَ مَتَى اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ.فَكَانَ عَفْوًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فَيَصِحُّ.

الثَّانِي: أَنَّ الْقَتْلَ إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَالِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِ الْقَتْلِ كَانَ الشَّرْعُ تَعْجِيلَ الْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْجِنَايَةِ الْخَطَأِ:

26- إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ، وَسَوَاءٌ يَذْكُرُ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْ.

أَمَّا إِنْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَفْوُ فِي حَالِ صِحَّةِ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْمَرَضِ بِأَنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الدِّيَةِ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ فَثُلُثُهُ يَسْقُطُ عَنِ الْعَاقِلَةِ وَثُلُثَاهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: عَفْوُ الْمَقْتُولِ- وَلَوْ قَبْلَ إِنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهِ- عَنْ قَاتِلِهِ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ جَائِزٌ، وَيَكُونُ مِنْهُ وَصِيَّةً بِالدِّيَةِ لِلْعَاقِلَةِ، فَتَكُونُ فِي ثُلُثِهِ، فَإِنْ حَمَلَهَا نَفَذَتْ قَهْرًا عَلَى الْوَرَثَةِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَلْفَانِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَدِيَتُهُ أَلْفٌ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ سَقَطَ عَنِ الْقَاتِلِ مَعَ عَاقِلَتِهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، إِلاَّ أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ الزَّائِدَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا بِالْمَالِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَرَحَ حُرٌّ رَجُلًا خَطَأً فَعَفَا عَنْهُ ثُمَّ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً أَمْ عَلَى الْقَاتِلِ ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ، فَإِنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، أَوْ: أَسْقَطْتُ الدِّيَةَ عَنْهُمْ، أَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الدِّيَةِ، فَهَذَا تَبَرُّعٌ عَلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ فَيَنْفُذُ إِذَا وَفَّى الثُّلُثُ بِهِ، وَيُبَرَّءُونَ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُمْ مُتَأَصِّلِينَ أَمْ مُتَحَمِّلِينَ، وَإِنْ قَالَ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ، لَمْ يَصِحَّ.وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: يُلَاقِيهِ الْوُجُوبُ ثُمَّ يُحْمَلُ عَنْهُ، صَحَّ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْوُجُوبِ يَنْتَقِلُ عَنْهُ فَيُصَادِفُهُ الْعَفْوُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا إِذَا ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِاعْتِرَافِ الْعَاقِلَةِ، فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْقَاتِلُ وَأَنْكَرَتِ الْعَاقِلَةُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَيَكُونُ الْعَفْوُ تَبَرُّعًا عَلَى الْقَاتِلِ فَفِيهِ الْخِلَافُ.وَلَوْ عَفَا الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْعَاقِلَةِ أَوْ مُطْلَقًا صَحَّ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْجَانِي لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ صَحَّ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَنِ الْجَرْحِ الْخَطَأِ اعْتُبِرَ خُرُوجُ الْجِنَايَةِ وَسِرَايَتُهَا مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ عَنِ الْجَانِي مِنْ دِيَةِ السِّرَايَةِ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ مِنَ الدِّيَةِ أَوْ وَصَّى لَهُ بِهَا فَهُوَ وَصِيَّةٌ لِقَاتِلٍ، وَتَصِحُّ لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْجِنَايَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَّى لَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ.

وَتُعْتَبَرُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْوَصِيَّةُ بِهَا لِلْقَاتِلِ مِنَ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ وَالْوَصَايَا.

وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ وَارِثُهُ الْقَاتِلَ مِنَ الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْعَاقِلَةَ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَهَا مِنْ حَقٍّ عَلَيْهَا كَالدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا.

وَمَنْ صَحَّ عَفْوُهُ مَجَّانًا فَإِنْ أَوْجَبَ الْجُرْحُ مَالًا عَيْنِيًّا كَالْجَائِفَةِ وَجِنَايَةِ الْخَطَأِ فَكَوَصِيَّةٍ، يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


53-موسوعة الفقه الكويتية (عوض)

عِوَض

التَّعْرِيفُ:

1- الْعِوَضُ مَصْدَرُ عَاضَهُ عِوَضًا وَعِيَاضًا وَمَعْوَضَةً وَهُوَ الْبَدَلُ، تَقُولُ: عِضْتُ فُلَانًا وَأَعَضْتُهُ وَعَوَّضْتُهُ: إِذَا أَعْطَيْتَهُ بَدَلَ مَا ذَهَبَ مِنْهُ، وَتَعَوَّضَ مِنْهُ وَاعْتَاضَ: أَخَذَ الْعِوَضَ وَاعْتَاضَهُ مِنْهُ وَاسْتَعَاضَهُ وَتَعَوَّضَهُ: سَأَلَهُ الْعِوَضَ، وَالْجَمْعُ أَعْوَاضٌ.

وَالْعِوَضُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مُطْلَقُ الْبَدَلِ، وَهُوَ مَا يُبْذَلُ فِي مُقَابَلَةِ غَيْرِهِ.وَمِنْ إِطْلَاقَاتِ الْعِوَضِ ثَوَابُ الْآخِرَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الثَّمَنُ:

2- الثَّمَنُ: مَا تَسْتَحِقُّ بِهِ الشَّيْءَ، وَثَمَنُ كُلِّ شَيْءٍ قِيمَتُهُ، وَالثَّمَنُ: الْعِوَضُ، وَالْجَمْعُ أَثْمَانٌ وَأَثْمُنٌ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا هُوَ عِوَضٌ مِنَ الْمَبِيعِ، فَالثَّمَنُ أَخَصُّ مِنَ الْعِوَضِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ

3- الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْعِوَضِ يَدُورُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَمُحَرَّمٌ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ.

فَيَجِبُ أَدَاءُ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَبَايِعَانِ لَهُ أَجَلًا فَيَكُونُ إِلَى أَجَلِهِ. (ر: بَيْع ف 61)

وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعِوَضُ مِنَ النَّقْدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ، وَمِنْ شَرْطِهَا تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُبْتَاعِ بِإِثْرِ عَقْدِ الصَّفْقَةِ.

وَيَجِبُ عَلَى الْمُؤَجَّرِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَتَمْكِينُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا.كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دَفْعُ الْأُجْرَةِ لِلْمُؤَجِّرِ وَتَسْلِيمُهَا عِنْدَ تَسَلُّمِهِ لِلْعَيْنِ. (ر: إِجَارَة 45- 48)

وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَدَاءُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى لِزَوْجَتِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}

وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا الضَّمَانُ بِرَدِّ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا. (ر: ضَمَان ف 6)

وَيَجِبُ عَلَى مَنْ جَنَى عَلَى شَخْصٍ الدِّيَةُ إِذَا تَحَقَّقَ شُرُوطُ وُجُوبِهَا. (ر: دِيَات ف 12).

وَقَدْ يَكُونُ الْعِوَضُ مُحَرَّمًا وَذَلِكَ عِنْدَ فَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ، كَمَا فِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِذَا حَصَلَ فِيهَا تَفَاضُلٌ عِنْدَ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا.أَوْ بَيْعِ صَاعِ قَمْحٍ بِصَاعَيْنِ مِنَ الْقَمْحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (ر: رَبَاب ف 14).

وَقَدِ اعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْأَعْوَاضَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ. (ر: إِجَارَة ف 10، وَبَيْع ف 18).

أَنْوَاعُ الْعِوَضِ:

يَنْقَسِمُ الْعِوَضُ إِلَى عِدَّةِ أَنْوَاعٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:

4- فَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِلَى مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا وَمَا لَا يَصِحُّ، فَمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا هُوَ: مَا كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا لَا يَصِحُّ هُوَ: مَا اخْتَلَّتْ فِيهِ شُرُوطُهُ الشَّرْعِيَّةُ أَوْ بَعْضُهَا.

فَمِنَ الْأَعْوَاضِ الَّتِي لَا تَصِحُّ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ، وَالْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْخَمْرُ وَالْمُتَنَجِّسُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ»، وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ».قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَقِيسَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا.

وَمِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ الْأَشْجَارُ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ عَلَيْهَا وَالْمُصْحَفُ لِلنَّظَرِ فِيهِ وَالْقِرَاءَةِ مِنْهُ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَكَذَا الشَّجَرُ لِأَخْذِ ثَمَرَتِهِ وَالشَّاةُ لِأَخْذِ لَبَنِهَا كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ.

وَمِمَّا لَا يَصِحُّ عِوَضًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ جَعْلُ الْبُضْعِ مَهْرًا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنَّ مَهْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى. (ر: شِغَار ف 2 وَمَا بَعْدَهَا)

5- وَيَنْقَسِمُ الْعِوَضُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَعَدَمِهَا إِلَى عِوَضٍ مَالِيٍّ وَعِوَضٍ غَيْرِ مَالِيٍّ.

وَقَدْ مَثَّلَ الْفُقَهَاءُ لِلْعِوَضِ غَيْرِ الْمَالِيِّ بِعِدَّةِ أَمْثِلَةٍ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ مُعَلِّقًا عَلَى مَسْأَلَةِ اسْتِبْدَالِ مَالِ التِّجَارَةِ بِغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فِي الزَّكَاةِ: شَمَلَ مَا لَوِ اسْتَبْدَلَهُ بِعِوَضٍ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ امْرَأَةً أَوْ صَالَحَ بِهِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوِ اخْتَلَعَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ.

وَأَمَّا الْعِوَضُ الْمَالِيُّ فَهُوَ: الْعِوَضُ الْقَائِمُ بِالْمَالِ، وَالْمَالُ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ.

6- وَيَنْقَسِمُ الْعِوَضُ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ إِلَى عَيْنٍ وَدَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ وَحَقٍّ وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

شُرُوطُ الْعِوَضِ:

7- وَضَعَ الشَّارِعُ لِلْعِوَضِ شُرُوطًا مُعَيَّنَةً حَتَّى يَصِحَّ كَوْنُهُ عِوَضًا وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ التَّعَاقُدُ وَالتَّبَادُلُ.

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّصَرُّفَاتِ.

فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ هُنَاكَ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِالْمَبِيعِ وَشُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِالثَّمَنِ يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا حَتَّى يَصِحَّ عَقْدُ الْبَيْعِ. (ر: بَيْع ف 28 وَمَا بَعْدَهَا- ف 50)

وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَعْوَاضُ تَجْرِي فِيهَا عِلَّةُ الرِّبَا فَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا لِيَصِحَّ الْعَقْدُ. (ر: رِبًا ف 26)

وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى شُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَالْأُجْرَةِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا. (ر: إِجَارَة ف 27 وَمَا بَعْدَهَا)

وَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لِلْمَرْأَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَهُنَاكَ شُرُوطٌ فِي الصَّدَاقِ لِيَصِحَّ كَوْنُهُ صَدَاقًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَا صَحَّ مَبِيعًا صَحَّ صَدَاقًا، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: أَقَلُّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ.

وَالدِّيَاتُ مُحَدَّدَةٌ وَمُقَدَّرَةٌ شَرْعًا مِنْ نَاحِيَةِ الْعَدَدِ وَالْمَالِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ.

(ر: دِيَات ف 29)

أَسْبَابُ ثُبُوتِ الْعِوَضِ:

أ- عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ:

8- إِذَا تَمَّتْ عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَدَلَانِ اللَّذَانِ تَمَّ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِمَا.

فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلًا إِذَا انْعَقَدَ صَحِيحًا مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ لِلْبَائِعِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ وَلِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ لِلْحَالِ.

وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: وَحُكْمُهُ- أَيِ الْبَيْعِ- ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَذَا إِذَا وَقَعَتِ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُهَا وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْمُؤَجِّرِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ مُعَلِّلًا ذَلِكَ: لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إِذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ.وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ.

وَيَقُولُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: كَمَا يَمْلِكُ الْمُؤَجِّرُ الْأُجْرَةَ بِالْعَقْدِ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا، وَتَحْدُثُ فِي مِلْكِهِ بِدَلِيلِ جَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

وَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ السَّلَمِ إِذَا قَبَضَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِكُلِّ التَّصَرُّفَاتِ السَّائِغَةِ شَرْعًا لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ يَدِهِ.وَيَمْلِكُ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ فِيهِ أَيْضًا بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.وَفِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَم ف 29 وَمَا بَعْدَهَا).

ب- عَقْدُ النِّكَاحِ:

9- عَقْدُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْمَهْرِ لِلزَّوْجَةِ، وَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لِلزَّوْجِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا عِوَضٌ عَنِ الْآخَرِ.

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ إِحْدَاثُ الْمِلْكِ، وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ إِحْدَاثِ الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَهُوَ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَهْرِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ.وَيَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: لَا يَحِلُّ اسْتِبَاحَةُ الْفَرْجِ إِلاَّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ إِلاَّ بِصَدَاقٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مَنْفَعَةُ الِاسْتِمْتَاعِ لَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ، وَالصَّدَاقُ هُوَ الْعِوَضُ فِي النِّكَاحِ.

ج- الْجِنَايَاتُ.

10- الْجِنَايَةُ هِيَ كُلُّ فِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا عَلَى النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا.

وَالْجِنَايَةُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْعِوَضِ عَلَى الْجَانِي أَوْ عَاقِلَتِهِ، فَفِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ تَجِبُ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِهِ كَالْعَفْوِ، وَفِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ تَجِبُ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي.وَفِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَمِثْلُهُ الْقَتْلُ بِالتَّسَبُّبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

(ر: دِيَات: ف 8، 12)

كَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَالِاعْتِدَاءُ قَدْ يَكُونُ بِإِبَانَةِ الْأَطْرَافِ أَوْ إِتْلَافِ الْمَعَانِي أَوِ الشِّجَاجِ وَالْجُرُوحِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات: ف 34 وَمَا بَعْدَهَا)

وَالدِّيَةُ مَا هِيَ إِلاَّ عِوَضٌ لِمَا تَسَبَّبَ بِهِ الْجَانِي.

د- الْإِتْلَافَاتُ:

11- مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الْعِوَضِ الْإِتْلَافَاتُ.حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ عِوَضُ مَا أَتْلَفَهُ وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِكَوْنِ الْإِتْلَافِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ.

فَفِي الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلَاثَةٌ:

أَحَدُهَا: التَّفْوِيتُ مُبَاشَرَةً كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ وَأَكْلِ الطَّعَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَثَانِيهَا: التَّسَبُّبُ لِلْإِتْلَافِ كَحَفْرِ بِئْرٍ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ وَوَضْعِ السُّمُومِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَوُقُودِ النَّارِ بِقُرْبِ الزَّرْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا شَأْنُهُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُفْضِيَ غَالِبًا لِلْإِتْلَافِ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ أَرْبَعَةٌ...الثَّالِثُ: الْإِتْلَافُ نَفْسًا أَوْ مَالًا.

وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلَاثَةٌ: عَقْدٌ وَيَدٌ وَإِتْلَافٌ، وَالْمُرَادُ بِالْإِتْلَافِ أَنْ يُبَاشِرَ الْإِتْلَافَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ كَالْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ، أَوْ يَنْصِبَ سَبَبًا عُدْوَانًا فَيَحْصُلُ بِهِ الْإِتْلَافُ بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَوْ يُؤَجِّجَ نَارًا فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ، فَيَتَعَدَّى إِلَى إِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، أَوْ كَانَ الْمَاءُ مُحْتَبَسًا بِشَيْءٍ وَعَادَتُهُ الِانْطِلَاقُ فَيُزِيلُ احْتِبَاسَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي انْطِلَاقِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ

وَالضَّمَانُ كَمَا فِي الْمَجَلَّةِ: هُوَ إِعْطَاءُ مِثْلِ الشَّيْءِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ.

هـ- تَفْوِيتُ الْبُضْعِ:

12- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إِذَا فَوَّتَ إِنْسَانٌ عَلَى امْرَأَةٍ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ عِوَضًا لِمَا فَوَّتَهُ.فَفِي مَتْنِ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَضَمِنَ الْغَاصِبُ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ بِالتَّفْوِيتِ، فَعَلَيْهِ فِي وَطْءِ الْحُرَّةِ صَدَاقُ مِثْلِهَا وَلَوْ ثَيِّبًا.وَفِي وَطْءِ الْأَمَةِ مَا نَقَصَهَا.

وَيَقُولُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَلَا تُضْمَنُ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ إِلاَّ بِتَفْوِيتٍ بِالْوَطْءِ فَيَضْمَنُهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِلْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ وَلَا مَمْلُوكَةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ.

و- عَقْدُ الْجِزْيَةِ:

13- الْجِزْيَةُ: اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ سَوَاءٌ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَفَتْحِ الْبِلَادِ عَنْوَةً.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ هَلْ هِيَ عُقُوبَةٌ أَمْ عِوَضٌ أَمْ صِلَةٌ؟

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مُعَوَّضٍ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمُعَوَّضِ الَّذِي تَجِبُ الْجِزْيَةُ بَدَلًا عَنْهُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جِزْيَة ف 19).

ز- تَلَفُ الزَّكَاةِ وَالْأُضْحِيَّةِ:

14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُزَكِّي إِذَا تَلِفَ مَالُ الزَّكَاةِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُزَكِّي الضَّمَانُ أَيْ إِخْرَاجُ بَدَلِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَالٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ النِّصَابِ كَالدَّيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّي.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَف ف 4).

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا لَا يُسْقِطُهَا بَلْ تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَقَالُوا بِسُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالتَّلَفِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَف ف 5)

كَمَا أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُوسِرِ إِذَا تَلِفَتْ أُضْحِيَّتُهُ الْمُعَيَّنَةُ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ أُخْرَى.وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ بِالضَّمَانِ بِمَا إِذَا تَلِفَتْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا أَوْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَف 6)

ح- ارْتِكَابُ الْمَحْظُورَاتِ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ الضَّمَانُ بِالْمِثْلِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ أَوِ الْقِيمَةِ فِيهِ، وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ بِتَقْوِيمِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 16- 164 وَحَرَم ف 13)

وَأَوْجَبَ الشَّارِعُ فِي الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً هِيَ: إِطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِين أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الثَّلَاثِ يَجِبُ عَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَان ف 138).

وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُظَاهِرِ، وَهِيَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْآتِي: الْإِعْتَاقُ ثُمَّ الصِّيَامُ ثُمَّ الْإِطْعَامُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ظِهَار ف 28)

ط- التَّفْرِيطُ وَالتَّعَدِّي:

16- مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الْعِوَضِ التَّعَدِّي، وَهُوَ الظُّلْمُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَالتَّفْرِيطُ وَهُوَ التَّقْصِيرُ وَالتَّضْيِيعُ، وَهُمَا يُوجِبَانِ الضَّمَانَ فِي عُقُودِ الْأَمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ كَإِهْمَالِ حِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا أَوْ إِيدَاعِهَا عِنْدَ غَيْرِ أَمِينٍ، وَمِثْلُهَا الْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ عِنْدَ مَنْ يَعُدُّهُمَا مِنَ الْأَمَانَاتِ.

وَالتَّفْرِيطُ يُوجِبُ الضَّمَانَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ، ذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَكِيلِ أَنَّهُ أَمِينٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا تَعَدٍّ، فَإِذَا ثَبَتَ تَفْرِيطُهُ أَوْ تَعَدِّيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.

وَإِذَا فَرَّطَ الْأَجِيرُ فِيمَا وُكِّلَ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ فَتَلِفَ مَا فِي يَدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَمِثْلُهُ الْوَصِيُّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ إِذَا فَرَّطَ فِي مَالِ الْمُوصَى عَلَيْهِ.

وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَوْلِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ فَرَّطَ فِي إِنْقَاذِ مَالِ غَيْرِهِ مِنَ الضَّيَاعِ أَوِ التَّلَفِ، وَعَلَى مَنْ فَرَّطَ فِي إِنْقَاذِ حَيَاةِ إِنْسَانٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَفٍ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)

وَالتَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطُ أَيْضًا سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَإِذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَإِلاَّ فَالْخُسْرَانُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ دُونَ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ كَالْوَدِيعِ.

(ر: ضَمَان ف 53)

مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ:

17- هُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا.نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

(أ) لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنِ الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ كَالزِّنَا وَالنَّوْحِ وَالْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ.

(ر: إِجَارَة ف 108)

(ب) لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ.

(ر: إِجَارَة ف 109)

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِلْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الصَّفَّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِهَادِ تَعُودُ إِلَيْهِ فَالْمَنْفَعَةُ حَاصِلَةٌ لَهُ.

وَلَوْ خَلَّصَ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ بِالْوُقُوعِ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ لَا تَثْبُتُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ.

وَلَوْ كَانَ رَجُلَانِ فِي بَادِيَةٍ فَمَرِضَ أَحَدُهُمَا وَجَبَ عَلَى الْآخَرِ تَعَهُّدُهُ، زَادَ الْإِمَامُ: وَلَا أُجْرَةَ لَهُ، وَإِذَا وَجَبَ بَذْلُ الْمَاءِ الْفَاضِلِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي الْأَصَحِّ.وَإِذَا تَحَمَّلَ شَهَادَةً وَطُلِبَ أَدَاؤُهَا مِنْهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ لِلنَّهْيِ.

(ج) لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَقّ ف 26)

تَقْدِيرُ الْعِوَضِ

يَخْتَلِفُ حُكْمُ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ بِاخْتِلَافِ التَّصَرُّفِ الْوَاقِعِ فِيهِ كَمَا يَلِي:

أ- التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِيهَا مُقَدَّرًا وَمَعْلُومًا:

18- اشْتَرَطَ الشَّارِعُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِيهَا مُقَدَّرًا وَمَعْلُومًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ وَذَلِكَ كَعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ حَسْمًا لِمَادَّةِ النِّزَاعِ.

فَفِي الْبَيْعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا وَالْمَبِيعُ مَعْلُومًا.

قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَشُرِطَ لِصِحَّتِهِ- أَيْ الْبَيْعِ- مَعْرِفَةُ قَدْرِ مَبِيعٍ وَثَمَنٍ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ مَعْلُومَيْنِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَإِلاَّ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَجَهْلُ أَحَدِهِمَا كَجَهْلِهِمَا عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَلِلْمَبِيعِ شُرُوطٌ..الْخَامِسُ: الْعِلْمُ بِهِ..وَمَتَى كَانَ الْعِوَضُ مُعَيَّنًا كَفَتْ مُعَايَنَتُهُ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مَعْلُومَيْنِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ حَالَ الْعَقْدِ.

وَفِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّتِهَا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْأُجْرَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

(ر: إِجَارَة ف 31- 40)

وَفِي عَقْدِ السَّلَمِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَدَلٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا: كَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.

(ر: سَلَم ف 15- 22).

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِوَضِ الْخُلْعِ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا أَمْ لَا؟

فَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ قَالُوا بِصِحَّةِ الْخُلْعِ بِالْمَجْهُولِ. (ر: خُلْع ف 26)

ب- التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لَا يَجِبُ فِيهَا تَقْدِيرُ الْعِوَضِ:

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَتَقْدِيرِهِ، لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمِ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}، وَيُسَمَّى النِّكَاحُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نِكَاحَ التَّفْوِيضِ.

بَلْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ مَعَ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَمَعَ نَفْيِهِ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمِ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}، رَفَعَ سُبْحَانَهُ الْجُنَاحَ عَمَّنْ طَلَّقَ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ النِّكَاحِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِلَا تَسْمِيَةٍ.

وَخَالَفَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَفْوِيض ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي عِوَضِ الْخُلْعِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمُقَدَّرًا، وَنَصُّوا عَلَى صِحَّةِ الْخُلْعِ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْع ف 26)

الْأَعْوَاضُ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّارِعُ:

20- قَامَ الشَّارِعُ بِتَقْدِيرِ بَعْضِ الْأَعْوَاضِ، وَلَمْ يَتْرُكْ تَقْدِيرَهَا لِأَحَدٍ وَذَلِكَ حَسْمًا لِمَادَّةِ النِّزَاعِ، وَتَقْدِيرُ الشَّارِعِ لِلْعِوَضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَحْدِيدِهِ، أَوْ بِوَضْعِ ضَابِطٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيرِ الْعِوَضِ.

وَمِنَ الْأَعْوَاضِ الَّتِي حَدَّدَهَا الشَّارِعُ الدِّيَةُ، فَقَدَّرَ الشَّارِعُ دِيَةَ الْخَطَأِ مَثَلًا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنَ الْوَرِقِ.وَكَذَلِكَ دِيَةُ الْقَتْلِ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، لَكِنْ مَعَ التَّغْلِيظِ فِي الْحَالَيْنِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات ف 12 وَمَا بَعْدَهَا)

وَأَيْضًا قَدَّرَ الشَّارِعُ دِيَةَ الْأَطْرَافِ وَإِتْلَافِ الْمَعَانِي وَالشِّجَاجِ وَالْجُرُوحِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات ف 34 وَمَا بَعْدَهَا)

وَمِنَ الْأَعْوَاضِ الْمُقَدَّرَةِ مِنَ الشَّارِعِ فَدِيَةُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ، وَهِيَ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ لِمِسْكِينٍ إِذَا كَانَ مِنَ الْبُرِّ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ حَصَلَ فِيهِ إِفْطَارٌ.

(ر: صَوْم ف 90)

وَفِي كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ الْفِدْيَةُ، وَهِيَ أَنْ يَذْبَحَ هَدْيًا أَوْ يَتَصَدَّقَ بِإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِين أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

(ر: إِحْرَام ف 148)

وَمِنَ الْأَعْوَاضِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّارِعُ بِوَضْعِ ضَابِطٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَقْدِيرِهَا الْعِوَضُ فِي الْإِتْلَافَاتِ، وَالضَّابِطُ فِيهِ: رَدُّ مِثْلِ الْهَالِكِ (الْمُتْلَفِ) إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَاءٌ مِثْلُ إِنَاءٍ وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ».

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِإِتْلَافِ مَا سِوَى بَنِي آدَمَ، فَالْوَاجِبُ بِهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِالْغَصْبِ، وَهُوَ ضَمَانُ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا، وَضَمَانُ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالِاعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إِلاَّ بِالْمِثْلِ، فَعِنْدَ الْإِمْكَانِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمِثْلِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يَجِبُ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ.

(ر: ضَمَان ف 6، 18، 91)

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الصَّدَاقُ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَالضَّابِطُ فِيهِ: وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَتَقَرَّرُ هَذَا الْمَهْرُ بِالْمَوْتِ أَوِ الْوَطْءِ.

(ر: تَفْوِيض ف 8) وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا جَزَاءُ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالضَّابِطُ فِيهِ بَيَّنَهُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِين أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 161 وَمَا بَعْدَهَا)

تَجْزِئَةُ الْعِوَضِ:

21- يَثْبُتُ الْعِوَضُ كَامِلًا حَسَبَ مَا يُقَدِّرُهُ الْعَاقِدَانِ- كَمَا فِي الْعُقُودِ- أَوْ بِحَسَبِ مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ- كَمَا فِي الْجِنَايَاتِ وَالْإِتْلَافَاتِ.

لَكِنْ هُنَاكَ حَالَاتٌ لَا يَثْبُتُ فِيهَا الْعِوَضُ كَامِلًا، مِنْهَا:

(أ) حَالَةُ مَا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بُطْلَانُ الْبَيْعِ بِقَدْرِهِ وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ التَّالِفِ مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ.وَبَيْنَ أَخْذِهِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ أَوْ عَيَّبَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَلَف ف 14)

(ب) حَالَةُ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ إِذَا عَمِلَ لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَ.فَلِرَبِّ الْعَمَلِ أَنْ يُسْقِطَ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِ قِيمَةِ مَا عَمِلَ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ عَمَلُهُ لِغَيْرِهِ مَجَّانًا.

(ر: إِجَارَة ف 106)

(ج) حَالَةُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عِنْدَ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}

(د) فِي الْخُلْعِ إِذَا قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا طَلَبَتِ الثَّلَاثَ بِأَلْفٍ فَقَدْ طَلَبَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ، وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ.

تَسْلِيمُ الْعِوَضِ:

22- إِذَا ثَبَتَ الْعِوَضُ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ نَتِيجَةَ مَا قَامَ بِهِ مِنْ تَصَرُّفٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْعِوَضِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.

وَيَخْتَلِفُ وَقْتُ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ بِاخْتِلَافِ التَّصَرُّفِ الْوَاقِعِ فِيهِ.

فَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ اشْتَرَطَ الشَّارِعُ تَسْلِيمَ الْعِوَضِ حَالًا وَفِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا أَعْوَاضٌ حَالَّةٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رِبًا ف 26 وَمَا بَعْدَهَا)

وَفِي عَقْدِ السَّلَمِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّتِهِ تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَهُ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَأْخِيرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ.

(ر: سَلَم ف 16)

وَفِي الشُّفْعَةِ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ حَالًا وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ الْعَقَارُ مُؤَجَّلًا أَخَذَهُ الشَّفِيعُ إِلَى أَجَلِهِ.

(ر: أَجَل ف 41)

وَفِي الْإِقَالَةِ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الثَّمَنَ إِذَا كَانَ حَالًا فَأَجَّلَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْإِقَالَةِ.فَإِنَّ التَّأْجِيلَ يَبْطُلُ وَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ.

ر: (أَجَل ف 39)

وَفِي دِيَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ حَالَّةً غَيْرَ مُؤَجَّلَةٍ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَجَل ف 43).

23- وَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ يَكُونُ الْعِوَضُ مُؤَجَّلًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ.

وَمِنْ هَذِهِ الْأَعْوَاضِ الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْقَتْلِ الْخَطَأِ، حَيْثُ تَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِمَا مُؤَجَّلَةً لِمُدَّةِ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ.

(ر: أَجَل ف 44- 45)

وَمِنْهَا الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مُؤَجَّلًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ الْحَالُّ، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْحَالِّ.

(ر: أَجَل ف 46).

وَمِنْهَا الْعِوَضُ الْمُكَاتَبُ بِهِ حَيْثُ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَكُونُ إِلاَّ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ مُنَجَّمٍ تَيْسِيرًا عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ الْكِتَابَةِ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ وَبِمَالٍ حَالٍّ.

(ر: أَجَل ف 47)

24- وَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ أَجَازَ الشَّارِعُ تَأْخِيرَ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَأْجِيلِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ».

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّأْيِ الْمَرْجُوحِ تَأْجِيلَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يُحَدِّدُهَا الْعَاقِدَانِ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّأْيِ الرَّاجِحِ.

(وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَجَل ف 33 وَمَا بَعْدَهَا)

مَوَانِعُ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ:

25- أَجَازَ الْفُقَهَاءُ- فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ- حَبْسَ الْعِوَضِ لِاسْتِيفَاءِ بَدَلِهِ، فَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يَقْضِيَ الثَّمَنَ الْمُعَجَّلَ.

(ر: اسْتِيفَاء ف 20)

وَإِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ مُعَجَّلَةً فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ حَبْسُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ.

(ر: إِجَارَة ف 56)

وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهَا الزَّوْجُ صَدَاقَهَا الْمُعَجَّلَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْمُبْدَلِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا.

وَمِنْ مَوَانِعِ تَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا الصِّغَرُ، فَلَا تُسَلَّمُ صَغِيرَةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ إِلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَكْبُرَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُهُ فَرْطُ الشَّهْوَةِ عَلَى الْجِمَاعِ فَتَتَضَرَّرُ بِهِ.

وَمِنْ مَوَانِعِ تَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ الْمَرَضُ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الْجِمَاعِ، وَتُمْهَلُ الْمَرْأَةُ إِلَى حِينِ زَوَالِ مَرَضِهَا.

مُسْقِطَاتُ الْعِوَضِ:

هُنَاكَ أَسْبَابٌ تُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ الْعِوَضِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، مِنْهَا مَا يَلِي:

أ- هَلَاكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْعِوَضِ فِي الْجُمْلَةِ.

فَإِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي.

(ر: تَلَف ف9)

وَإِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بِحَيْثُ تَفُوتُ الْمَنَافِعُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا كُلِّيَّةً كَالدَّارِ إِذَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ أَنْقَاضًا، وَالسَّفِينَةُ إِذَا نُقِضَتْ وَصَارَتْ أَلْوَاحًا انْفَسَخَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ وَسَقَطَتِ الْأُجْرَةُ.

ب- الْإِبْرَاءُ:

27- الْإِبْرَاءُ: هُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.

فَالْإِبْرَاءُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ عَنِ الذِّمَّةِ، وَالْحُكْمُ الْغَالِبُ لِلْإِبْرَاءِ هُوَ النَّدْبُ.

(ر: إِبْرَاء ف 12)

ج- الْعَفْوُ:

28- الْعَفْوُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ وَالْجِنَايَاتِ، فَإِذَا ثَبَتَتِ الدِّيَةُ عَلَى الْجَانِي، كَانَ الْعَفْوُ مُسْقِطًا لَهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ تَسْقُطُ بِعَفْوِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَإِذَا عَفَا بَعْضُهُمْ دُونَ الْبَعْضِ يَسْقُطُ حَقُّ مَنْ عَفَا، وَتَبْقَى حِصَّةُ الْآخَرِينَ فِي مَالِ الْجَانِي إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ إِنْ كَانَتْ خَطَأً.

وَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ دِيَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْقَطْعِ وَإِتْلَافِ الْمَعَانِي تَسْقُطُ دِيَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي تَسْقُطُ بِعَفْوِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْعَفْوِ.

(ر: دِيَات ف 83)

د- الْإِسْلَامُ:

29- قَدْ يَكُونُ الْإِسْلَامُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ، وَذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ.فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَلَا يُطَالَبُ بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ».

وَهُنَاكَ مُسْقِطَاتٌ أُخْرَى لِلْجِزْيَةِ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي (مُصْطَلَحِ جِزْيَة ف 69 وَمَا بَعْدَهَا).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


54-موسوعة الفقه الكويتية (لعان 2)

لِعَانٌ -2

آثَارُ اللِّعَانِ

أَوَّلًا: آثَارُ اللِّعَانِ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ:

إِذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَامْرَأَتِهِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ آثَارٌ فِي حَقِّهِمَا، مِنْهَا:

21- الْأَوَّلُ: انْتِفَاءُ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، فَلَا يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّارِعَ خَفَّفَ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، فَشَرَعَ لَهُمَا اللِّعَانُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمَا، فَإِذَا أُجْرِيَ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَقَطَ عَنِ الزَّوْجِ حَدُّ الْقَذْفِ وَسَقَطَ عَنِ الْمَرْأَةِ حَدُّ الزِّنَا.

22- الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ اللِّعَانِ حُرْمَةُ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَلَكِنْ لَا تَقَعُ التَّفْرِقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ.

وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَلَوْ دَلَالَةً حُدَّ لِلْقَذْفِ، وَلَهُ بَعْدَمَا كَذَّبَ نَفْسَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا: حُدَّ أَوْ لَا.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا افْتَرَقَ الْمُتَلَاعِنَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، فَيَثْبُتُ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ بِتَمَامِ لِعَانِ الزَّوْجَيْنِ تَتَأَبَّدُ الْحُرْمَةُ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَلَاعَنَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَاعَنَ الزَّوْجُ لِدَرْءِ حَدِّ قَذْفِ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا عَنْهُ ثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى هَذَا اللِّعَانِ، فَإِنْ لَاعَنَ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَحْدَهُ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ نِكَاحٌ وَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ عُقُوبَةٌ بِأَنْ كَانَ أَبَانَهَا أَوْ عَفَتْ عَنِ الْعُقُوبَةِ أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا.

وَقَالُوا: وَالْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى لِعَانِ الزَّوْجِ لِدَرْءِ حَدِّ قَذْفِهِ زَوْجَتَهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا بَعْدَ اللِّعَانِ، وَلَا وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَوْ كَانَتْ أَمَةً وَاشْتَرَاهَا، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا»،، وَلِقَوْلِهِ: «الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا».

وَإِنْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فَلَا يُفِيدُهُ ذَلِكَ عَوْدَ النِّكَاحِ وَلَا رَفْعَ تَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ لِأَنَّهُمَا حَقٌّ لَهُ وَقَدْ بَطَلَا فَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ عَوْدِهِمَا، بِخِلَافِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ النَّسَبِ فَإِنَّهُمَا يَعُودَانِ لِأَنَّهُمَا حَقٌّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا حَدُّهَا فَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ مَا يُفْهِمُ سُقُوطَهُ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ.

23- الثَّالِثُ: حُصُولُ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.

غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحَمْدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَلَوْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَحْكُمِ الْقَاضِي بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَالزَّوْجِيَّةُ تُعْتَبَرُ قَائِمَةً فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَالْمِيرَاثِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ اللِّعَانِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِالتَّفْرِيقِ وَرِثَهُ الْآخَرُ، وَلَوْ طَلَّقَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ وَقَبْلَ التَّفْرِيقِ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ حِينَئِذٍ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ، مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- «فَرَّقَ بَيْنَهُمَا» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَلَا بِلِعَانِ الزَّوْجَةِ، إِذْ لَوْ وَقَعَتْ لَمَا حَصَلَ التَّفْرِيقُ مِنْ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي إِمْكَانَ إِمْسَاكِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ اللِّعَانِ وَأَنَّهُ وَقَعَ طَلَاقُهُ، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ وَقَعَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِاللِّعَانِ لَمَا وَقَعَ طَلَاقُهُ وَلَا أَمْكَنَهُ إِمْسَاكُهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ فَالْفُرْقَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ لَا تَقَعُ إِلاَّ بِحُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَى الْفُرْقَةِ بِالْعُنَّةِ وَنَحْوِهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْفُرْقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ تُلَاعِنِ الزَّوْجَةُ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَلَاعَنَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ فَلَا يَحْتَاجُ لِلتَّفْرِيقِ بِهِ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَالرَّضَاعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُرْقَةَ لَوْ لَمْ تَحْصُلْ إِلاَّ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لَسَاغَ تَرْكُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَرِهَا الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَرْضَيَا بِهَا، كَالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ وَالْإِعْسَارِ، وَتَرْكُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا لَا يَجُوزُ رَضِيَا بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرْضَيَا.

24- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَوْعِ الْفُرْقَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى اللِّعَانِ أَهِيَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ؟ وَفِي الْحُرْمَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى اللِّعَانِ أَهِيَ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ فَلَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ؟ أَوْ هِيَ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تَنْتَهِي إِذَا أَكْذَبَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِاللِّعَانِ فَسْخٌ وَهِيَ تُوجِبُ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ الْمُتَلَاعِنَانِ إِلَى الزَّوَاجِ بَعْدَ اللِّعَانِ أَبَدًا وَلَوْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ أَوْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي قَذْفِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ «لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا».وَلِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ- رضي الله عنه- قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَلِأَنَّ اللِّعَانَ قَدْ وُجِدَ، وَهُوَ سَبَبُ التَّفْرِيقِ، وَتَكْذِيبُ الزَّوْجِ نَفْسَهُ أَوْ خُرُوجُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لَا يَنْفِي وُجُودَ السَّبَبِ، بَلْ هُوَ بَاقٍ فَيَبْقَى حُكْمُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّجُلَ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِي قَذْفِ امْرَأَتِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ إِلَى مُعَاشَرَتِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهَا حَتَّى لَا يَكُونَ زَوْجَ بَغِيٍّ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي قَذْفِهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ مُعَاشَرَتِهَا لِإِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا وَاتِّهَامِهَا بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِحْرَاقِ قَلْبِهَا، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ طَلَاقًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ وَلَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَاقًا لَوَقَعَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ دُونَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ، وَالْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ- عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ- لَا تَقَعُ إِلاَّ بِلِعَانِهِمَا.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ تَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا لَا فَسْخًا، لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ، وَالْقَاضِي قَامَ بِالتَّفْرِيقِ، نِيَابَةً عَنْهُ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، وَالْفُرْقَةُ مَتَى كَانَتْ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ وَأَمْكَنَ جَعْلُهَا طَلَاقًا كَانَتْ طَلَاقًا لَا فَسْخًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ طَلَاقًا بَائِنًا، لِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْقَضَاءِ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ تُعْتَبَرُ طَلَاقًا بَائِنًا، وَقَالَا: إِنَّ الْحُرْمَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى اللِّعَانِ تَزُولُ إِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، أَوْ خَرَجَتْ هِيَ عَنْ أَهْلِيَّتِهَا لِلشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ اعْتُبِرَ تَكْذِيبُهُ رُجُوعًا عَنِ اللِّعَانِ، وَاللِّعَانُ شَهَادَةٌ فِي رَأْيِهِمَا، وَالشَّهَادَةُ لَا حُكْمَ لَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنْهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ إِنْ كَانَ الْقَذْفُ نَفْيَ الْوَلَدِ.

وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ أَهْلِيَّتِهِ لِلشَّهَادَةِ انْتَفَى السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ التَّفْرِيقُ وَهُوَ اللِّعَانُ، فَيَزُولُ حُكْمُهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ.

ثَانِيًا: آثَارُ اللِّعَانِ فِي حَقِّ نَسَبِ الْوَلَدِ

25- إِذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَكَانَ مَوْضُوعُهُ نَفْيَ نَسَبِ الْوَلَدِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ انْتِفَاءُ نَسَبِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ وَأُلْحِقَ بِأُمِّهِ، وَذَلِكَ إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الْآتِيَةُ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْفَوْرِيَّةُ:

26- أَنْ يَنْفِيَ الزَّوْجُ الْوَلَدَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ أَوْ فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ بِالْمَوْلُودِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَقْدِيرُ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ جُعِلَ تَقْدِيرُهَا مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِأَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ أَوْ عَدَمَ نَفْيِهِ يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّرَوِّي قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، إِذْ رُبَّمَا يَنْفِي نَسَبَهُ وَهُوَ مِنْهُ، أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّوْحِ مُدَّةً يُفَكِّرُ فِيهَا وَيُتَرَوَّى، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَلَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُ زَمَنٍ يُطَبَّقُ بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ وَالْحَالَاتِ، فَيَجِبُ تَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: نَفْيُ الْوَلَدِ يَتَقَدَّرُ بِأَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، لِأَنَّ النِّفَاسَ أَثَرُ الْوِلَادَةِ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهَا، فَكَمَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْفِيَ الْوَلَدَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ يَكُونُ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَنْفِيَهُ مَا دَامَ أَثَرُهَا بَاقِيًا وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّعْجِيلَ شَرْطٌ لِنَفْيِ الْحَمْلِ أَوِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ، فَلَوْ عَلِمَ الزَّوْجُ بِالْحَمْلِ أَوِ الْوِلَادَةِ فَسَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ وَيُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، سَوَاءٌ طَالَ زَمَنُ سُكُوتِهِ كَالشَّهْرِ أَوْ قَصُرَ كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ لِعُذْرٍ.

وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: وَالنَّفْيُ لِنَسَبِ وَلَدٍ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْأَظْهَرِ الْجَدِيدِ، لِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُحَقَّقٍ فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الشُّفْعَةِ، وَيُعْذَرُ الزَّوْجُ فِي تَأْخِيرِ النَّفْيِ لِعُذْرٍ، كَأَنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ لَيْلًا فَأَخَّرَ حَتَّى يُصْبِحَ أَوْ كَانَ جَائِعًا فَأَكَلَ أَوْ عَارِيًا فَلَبِسَ، فَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ خَائِفًا ضَيَاعَ مَالٍ أَرْسَلَ إِلَى الْقَاضِي لِيَبْعَثَ إِلَيْهِ نَائِبًا يُلَاعِنُ عِنْدَهُ، أَوْ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى النَّفْيِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطَلَ حَقُّهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِرْسَالُ أَشْهَدَ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بَطَلَ حَقُّهُ.

وَفِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ فَسَكَتَ زَوْجُهَا عَنْ نَفْيِ وَلَدِهَا مَعَ إِمْكَانِهِ لَزِمَهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَتَقَرَّرُ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، بَلْ هُوَ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، إِنْ كَانَ لَيْلًا فَحَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْتَشِرَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ جَائِعًا أَوْ ظَمْآنَ فَحَتَّى يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ، أَوْ يَنَامَ إِنْ كَانَ نَاعِسًا، أَوْ يَلْبَسَ ثِيَابَهُ وَيُسَرِّجَ دَابَّتَهُ وَيَرْكَبَ، وَيُصَلِّيَ إِنْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَيُحَرِّزُ مَالَهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُحَرَّزٍ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أَشْغَالِهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: عَدَمُ الْإِقْرَارِ:

27- يُشْتَرَطُ أَلَا يَكُونَ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً، مِثَالُ الْإِقْرَارِ صَرَاحَةً أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: هَذَا وَلَدِي، أَوْ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي، وَمِثَالُ الْإِقْرَارِ دَلَالَةً أَنْ يَقْبَلَ التَّهْنِئَةَ بِالْمَوْلُودِ أَوْ يَسْكُتَ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ، وَلَا يَرُدَّ عَلَى الْمُهَنِّئِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَسْكُتُ عَادَةً عِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِوَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ، فَإِذَا سَكَتَ كَانَ سُكُوتُهُ اعْتِرَافًا بِالنَّسَبِ دَلَالَةً.

وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالْوَلَدِ صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً، أَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِ نَسَبٍ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ التَّهْنِئَةِ، أَوْ أَكْثَرُ مُدَّةِ النِّفَاسِ، أَوْ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ النَّفْيُ فِيهَا وَلَمْ يَنْفِهِ ثُمَّ نَفَى نَسَبَهُ لَا يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنِ النَّفْيِ حَتَّى مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ يُعْتَبَرُ إِقْرَارًا مِنْهُ بِالْوَلَدِ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ.

وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْحَقُّ فِي طَلَبِ اللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ كَانَ مُتَّهِمًا لَهَا بِالزِّنَا، فَيَكُونُ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الْعَارَ عَنْ نَفْسِهَا بِاللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، وَلَوْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى طَلَبِ الْمَرْأَةِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَطْعُ نَسَبِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ نَسَبَهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً فَلَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ إِذَا امْتَنَعَ إِجْرَاؤُهُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِنَفْيِ نَسَبِ الْوَلَدِ، كَأَنْ وَطِئَ الْمُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا تَزْنِي، أَوْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوَضْعٍ أَوْ حَمْلٍ، أَوْ أَخَّرَ اللِّعَانَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوَضْعٍ أَوْ حَمْلٍ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ بِلَا عُذْرٍ فِي التَّأْخِيرِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَاتِ يَمْتَنِعُ لِعَانُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَبَقِيَتْ زَوْجَةً، وَإِنَّمَا يُحَدُّ الزَّوْجُ حَدَّ الْقَذْفِ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُسْلِمَةً.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: حَيَاةُ الْوَلَدِ:

28- أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حَيًّا عِنْدَ اللِّعَانِ وَعِنْدَ الْحُكْمِ بِقَطْعِ نَسَبِهِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدًا، وَنَفَى الزَّوْحُ نَسَبَهُ مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ حُصُولِ اللِّعَانِ، أَوْ مَاتَ بَعْدَ حُصُولِهِ وَلَكِنْ قَبْلَ الْحُكْمِ بِقَطْعِ نَسَبِهِ مِنَ الزَّوْجِ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ، لِأَنَّ النَّسَبَ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ، وَالشَّيْءُ إِذَا تَقَرَّرَ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ، وَلَكِنْ لِلزَّوْجَةِ الْحَقُّ فِي طَلَبِ إِجْرَاءِ اللِّعَانِ إِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ إِجْرَائِهِ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْهَا.

وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلزَّوْجِ الْحَقَّ فِي طَلَبِ اللِّعَانِ بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ لِإِسْقَاطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: حَيَاةُ الْوَلَدِ عِنْدَ اللِّعَانِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِنَفْيِ نَسَبِهِ بِاللِّعَانِ، لِأَنَّ نَسَبَهُ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، بَلْ يُقَالُ: مَاتَ وَلَدُ فُلَانٍ، وَهَذَا قَبْرُ وَلَدِ فُلَانٍ، وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ تَجْهِيزُهُ وَتَكْفِينُهُ، فَيَكُونُ لَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ وَإِسْقَاطُ مُؤْنَتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا.

أَثَرُ اللِّعَانِ مِنْ حَيْثُ جَعْلِ الْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ نَسَبُهُ أَجْنَبِيًّا

الْوَلَدُ الَّذِي يُقْطَعُ نَسَبُهُ مِنَ الْأَبِّ، وَيَلْحَقُ بِأُمِّهِ بِنَاءً عَلَى اللِّعَانِ يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي بَعْضِهَا:

29- فَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي الْأَحْكَامِ الْآتِيَةِ:

أ- الْإِرْثُ: فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُلَاعِنِ وَبَيْنَ الْوَلَدِ الَّذِي نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، بِمَعْنَى أَنَّ قَرَابَةَ الْأُبُوَّةِ لَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً فِي الْإِرْثِ، فَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ الَّذِي نُفِيَ نَسَبُهُ بِاللِّعَانِ وَتَرَكَ مَالًا فَلَا يَرِثُهُ أَحَدٌ بِقَرَابَةِ الْأُبُوَّةِ، وَإِنَّمَا تَرِثُهُ أُمُّهُ وَأَقْرِبَاؤُهُ مِنْ جِهَتِهَا.

ب- النَّفَقَةُ: فَلَا تَجِبُ بَيْنَ الْمُلَاعِنِ وَبَيْنَ مَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ نَفَقَةُ الْأَبْنَاءِ عَلَى الْآبَاءِ، وَلَا نَفَقَةُ الْآبَاءِ عَلَى الْأَبْنَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

30- وَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمُلَاعِنِ فِي الْأَحْكَامِ الْآتِيَةِ:

أ- الشَّهَادَةُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَصْلِ الْوَاحِدِ مِنْ فُرُوعِهِ، وَبِالْعَكْسِ كَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُلَاعِنِ وَأُصُولُهُ لِمَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ، وَلَا شَهَادَةُ مَنْ نَفَى نَسَبَهُ وَأَحَدِ فُرُوعِهِ لِمَنْ نَفَاهُ وَلَا لأُِصُولِهِ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ اسْتِلْحَاقِهِ أَيِ الْوَلَدِ الْمُلَاعَنِ.

ب- الْقِصَاصُ: فَلَوْ قَتَلَ الْمُلَاعِنُ الْوَلَدَ الَّذِي نَفَاهُ بِاللِّعَانِ لَا يُقْتَلُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْأَبُ وَلَدَهُ.

ج- الِالْتِحَاقُ بِالْغَيْرِ: فَلَوِ ادَّعَى غَيْرُ الْمُلَاعِنِ الْوَلَدَ الَّذِي نَفَى نَفْسَهُ بِاللِّعَانِ لَا يَصِحُّ ادِّعَاؤُهُ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُكَذِّبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ فَيَعُودُ نَسَبُ الْوَلَدِ لَهُ، وَمَنْ أَجْلِ هَذَا قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْحُكْمَ بِعَدِمِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِمَّنِ ادَّعَاهُ مُشْكِلٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَكَانَ ادِّعَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُلَاعِنِ لِأَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إِثْبَاتِهِ، وَالْوَلَدُ مَقْطُوعُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِ الْمُدَّعِي وَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ ثُبُوتِهِ مِنَ الْمُلَاعِنِ، وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنَ الْأُمِّ لَا يُنَافِي ثُبُوتَهُ مِنَ الْمُدَّعِي، لِإِمْكَانِ كَوْنِهِ وَطْأَهَا بِشُبْهَةٍ.

د- الْمَحْرَمِيَّةُ: فَلَوْ كَانَ لِلْمُلَاعِنِ بِنْتٌ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِمَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ أَوْ لَابْنِهِ فَلَا يَحِلُّ هَذَا الزَّوَاجُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِلْمُلَاعِنِ، خُصُوصًا وَأَنَّ الْفِرَاشَ الَّذِي يَثْبُتُ النَّسَبُ بِهِ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ وِلَادَتِهِ، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَحِلُّ الزَّوَاجُ شَرْعًا.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّةَ بِاللِّعَانِ حُكْمُهَا أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى نَافِيهَا وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا، لِأَنَّهَا لَا تَنْتِفِي عَنْهُ قَطْعًا لِدَلِيلِ لُحُوقِهَا بِهِ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَلِأَنَّهَا رَبِيبَةٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، وَتَتَعَدَّى حُرْمَتُهَا إِلَى سَائِرِ مَحَارِمِهِ، وَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ لَهَا وَالْحَدِّ بِقَذْفِهِ لَهَا وَالْقَطْعِ بِسَرِقَةِ مَالِهَا، وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ لَهَا وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا عَدَمُ الْوُجُوبِ.

31- وَمِنْ آثَارِ اللِّعَانِ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:

أ- تَشْطِيرُ صَدَاقِ الْمُلَاعَنَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا.

ب- سُقُوطُ حَضَانَةِ الْمَرْأَةِ إِنْ لَمْ تُلَاعِنْ.

ج- اسْتِبَاحَةُ نِكَاحِ أُخْتِ الْمُلَاعَنَةِ وَمَنْ يَحْرُمُ جَمْعُهُ مَعَهَا أَوْ أَرْبَعٍ سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا.

تَغْلِيظُ اللِّعَانِ

32- تَغْلِيظُ اللِّعَانِ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ وَلَا بِالزَّمَانِ.وَالتَّغْلِيظُ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ هِيَ:

أ- التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ:

33- يُغَلَّظُ لِعَانُ الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَهُوَ بَعْدَ صَلَاةِ عَصْرِ كُلِّ يَوْمٍ إِنْ كَانَ طَلَبُ اللِّعَانِ حَثِيثًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ أَغْلَظُ عُقُوبَةً لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»، وَعَدَّ مِنْهُمْ «رَجُلًا حَلَفَ يَمِينًا كَاذِبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ».

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبٌ حَثِيثٌ فَبَعْدَ صَلَاةِ عَصْرِ يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوْلَى لِأَنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِيهِ.وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِعَصْرِ الْجُمُعَةِ الْأَوْقَاتَ الشَّرِيفَةَ كَشَهْرِ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَيَوْمَيِ الْعِيدِ وَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ.

ب- التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ:

34- يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِالْمَكَانِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي أَشْرَفِ مَوَاضِعِ بَلَدِهِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرًا فِي الزَّجْرِ عَنِ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ.

فَفِي مَكَّةَ يَكُونُ بَيْنَ الرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَبَيْنَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام-.وَاللِّعَانُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ يَكُونُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مِمَّا يَلِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ، وَقَالَ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ: يَكُونُ فِي الْمِنْبَرِ.وَاللِّعَانُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ بِقَاعِهِ إِذْ هِيَ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ.وَالتَّغْلِيظُ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِمَنْ هُوَ بِهَا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ إِلَيْهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَالتَّغْلِيظُ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ الْجَامِعِ لِأَنَّهُ الْمُعَظَّمُ.

وَتُلَاعِنُ الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ لِتَحْرِيمِ مُكْثِهَا فِيهِ.

وَيُلَاعِنُ كِتَابِيٌّ فِي بَيْعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَيَقُولُ الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَيَقُولُ النَّصْرَانِيُّ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى.

وَيُلَاعِنُ الْمَجُوسِيُّ فِي بَيْتِ نَارِهِمْ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهُ، وَالْمَقْصُودُ الزَّجْرُ عَنِ الْكَذِبِ.

أَمَّا تَغْلِيظُ الْكَافِرِ بِالزَّمَانِ فَيُعْتَبَرُ بِأَشْرَفِ الْأَوْقَاتِ عِنْدَهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيَّ.

ج- التَّغْلِيظُ بِحُضُورِ جَمْعٍ:

35- يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِحُضُورِ جَمْعٍ مِنْ عُدُولِ أَعْيَانِ بَلَدِ اللِّعَانِ وَصُلَحَائِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ وَلِأَنَّ فِيهِ رَدْعًا عَنِ الْكَذِبِ، وَأَقَلُّهُ أَرْبَعَةٌ لِثُبُوتِ الزِّنَا بِهِمْ، فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْعَدَدُ إِتْيَانَهُ بِاللِّعَانِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْحَاكِمِ كَمَا سَبَقَ. سُنَنُ اللِّعَانِ

أ- وَعْظُ الْقَاضِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ:

36- يُسَنُّ لِلْقَاضِي أَوْ نَائِبِهِ وَعْظُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- لِهِلَالٍ: «عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ» وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} وَيَقُولُ لَهُمَا: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ»،، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ يُبَالِغُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي وَعْظِهِمَا عِنْدَ الْخَامِسَةِ مِنْ لِعَانِهِمَا قَبْلَ شُرُوعِهِمَا فِيهَا.

ب- قِيَامُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ:

37- يُسَنُّ لِلْمَتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يَتَلَاعَنَا قَائِمَيْنِ لِيَرَاهُمَا النَّاسُ وَيَشْتَهِرُ أَمْرُهُمَا، فَيَقُومُ الرَّجُلُ عِنْدَ لِعَانِهِ وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ، وَتَقُومُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ لِعَانِهَا وَيَجْلِسُ الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ لَاعَنَ قَاعِدًا أَوْ مُضَّجِعًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


55-موسوعة الفقه الكويتية (مسجد 3)

مَسْجِدٌ -3

وَقْفُ الْمَسْجِدِ وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ

38- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ وَالْوَقْفِ عَلَيْهِ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَعَلَى جِهَةِ بِرٍّ، إِلاَّ أَنَّهُمْ وَضَعُوا قَوَاعِدَ لِزَوَالِ مِلْكِ وَاقِفِهِ عَنْهُ وَلُزُومِهِ.

وَفِي هَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزَلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يُفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ، وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا، وَفِي الْأُخْرَى: لَا يَزُولُ إِلاَّ بِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، كَمَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَالْمَسْجِدُ جُعِلَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ مُحَرَّرًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَ الْعِبَادُ فِيهِ شَيْئًا غَيْرَ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.

وَمَتَى زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَلَزِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ وَلَا يُورَثَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ رَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ صَحَّ وَقْفُهُ وَلَزِمَ، فَإِذَا لَمْ يُخَلِّ الْوَاقِفُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ بَطَلَ وَقْفُهُ، كَمَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ، أَوْ أَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ، وَقَالَ: وَقَفْتُهُ مَسْجِدًا لِلصَّلَاةِ فِيهِ صَحَّ وَقْفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا، لِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْعِتْقِ.

فَإِذَا صَحَّ لَزِمَ وَانْقَطَعَ تَصَرُّفُ الْوَاقِفِ فِيهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعُمَرَ- رضي الله عنه-: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا قَالَ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، إِنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ»،، وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الْعَيْنِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ إِذْنًا عَامًّا كَانَ لَازِمًا وَمُؤَبَّدًا لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ).

الْوَصِيَّةُ لِلْمَسْجِدِ

39- الْوَصِيَّةُ لِلْمَسْجِدِ أَجَازَهَا الْفُقَهَاءُ وَيُصْرَفُ الْمُوصَى بِهِ فِي مَصَالِحِهِ كَوُقُودِهِ وَعِمَارَتِهِ، لِأَنَّهُ مَقْصُودُ النَّاسِ بِالْوَصِيَّةِ لَهُ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِنِ اقْتَضَى الْعُرْفُ صَرْفَهَا لِلْمُجَاوِرِينَ كَالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ صُرِفَ لَهُمْ لَا لِمَرَمَّتِهِ وَحُصْرِهِ، وَنَحْوِهِمَا.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ).

دُخُولُ الذِّمِّيِّ الْمَسْجِدَ

40- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِدُخُولِ الذِّمِّيِّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا كُفَّارًا وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْجَاسِ النَّاسِ شَيْءٌ إِنَّمَا أَنْجَاسُ النَّاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ»،، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ مُسْتَوْلِينَ أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ.

وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ دُخُولَ الذِّمِّيِّ الْمَسْجِدَ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الدُّخُولِ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ كَعِمَارَةِ وَإِلاَّ فَلَا.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يُمَكَّنُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَاللُّبْثِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَدْخُلُونَ مَسْجِدَهُ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهِمُ الْجُنُبَ.

وَأَطْلَقَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَدْخُلَ مَسَاجِدَ غَيْرَ الْحَرَمِ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ، فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِذْنِ فَلَا يُعَزَّرُ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلذِّمِّيِّ دُخُولُ مَسَاجِدِ الْحِلِّ (وَهِيَ كُلُّ مَسْجِدٍ خَارِجِ نِطَاقِ حَرَمِ مَكَّةَ) بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُمْ دُخُولُهُ.

وَقْفُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمَسْجِدِ

41- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْفِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمَسْجِدِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّتِهِ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الْوَقْفِ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ).

الزَّكَاةُ لِلْمَسْجِدِ

42- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (زَكَاةٌ ف).

وَنَقَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ فِي تَفْسِيرِهِ آيَةَ الزَّكَاةِ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ أَجَازُوا صَرْفَ الصَّدَقَاتِ إِلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْ تَكْفِينِ الْمَوْتَى وَبِنَاءِ الْحُصُونِ وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} عَامٌّ فِي الْكُلِّ.

الصَّدَقَةُ عَلَى السَّائِلِينَ فِي الْمَسْجِدِ

43- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطَى السَّائِلُ فِي الْمَسْجِدِ شَيْئًا لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَخَذْتُهَا مِنْهُ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ».

وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ كِتَابِ الْكَسْبِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ السَّائِلُ لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَلَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا فَلَا بَأْسَ بِالسُّؤَالِ وَالْإِعْطَاءِ، لِأَنَّ السُّؤَّالَ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ.فَمَدَحَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} وَإِنْ كَانَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَيَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي فَيُكْرَهُ إِعْطَاؤُهُ، لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى أَذَى النَّاسِ حَتَّى قِيلَ: هَذَا فَلْسٌ وَاحِدٌ يَحْتَاجُ إِلَى سَبْعِينَ فَلْسًا لِكَفَّارَتِهِ.

وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ السُّؤَالُ وَالتَّصَدُّقُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَمُرَادُهُمْ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- التَّصَدُّقُ عَلَى السُّؤَّالِ لَا مُطْلَقًا، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ، وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَذْكُرِ الْكَرَاهَةَ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ- رحمه الله- عَلَى أَنَّ مَنْ سَأَلَ قَبْلَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ جَلَسَ لَهَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَصَدَّقَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْأَلْ أَوْ سَأَلَ الْخَطِيبُ الصَّدَقَةَ عَلَى إِنْسَانٍ جَازَ.

وَنَقَلَ ابْنُ مُفْلِحٍ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ بَدْرٍ قَالَ: صَلَّيْتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِقُرْبٍ مِنِّي، فَقَامَ سَائِلٌ فَسَأَلَ فَأَعْطَاهُ أَحْمَدُ قِطْعَةً.

وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ التَّخَطِّيَ لِلسُّؤَالِ فَلَا يَمُرُّ السَّائِلُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي وَلَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا إِلاَّ إِذَا كَانَ لِأَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ.

اسْتِبْدَالُ الْمَسْجِدِ

44- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِبْدَالِ الْمَسْجِدِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ بَاعَ كَرْمًا فِيهِ مَسْجِدٌ قَدِيمٌ إِنْ كَانَ عَامِرًا يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَإِلاَّ لَا، وَلَوِ اشْتَرَى دَارًا بِطَرِيقِهَا ثُمَّ اسْتُحِقَّ الطَّرِيقُ: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا بِحِصَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مُخْتَلِطًا بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا لَزِمَهُ الدَّارُ بِحِصَّتِهَا، وَمَعْنَى اخْتِلَاطِهِ كَوْنُهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ الْحُدُودَ، وَفِي الْمُنْتَقَى: إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّرِيقُ مَحْدُودًا فَسَدَ الْبَيْعُ، وَالْمَسْجِدُ الْخَاصُّ كَالطَّرِيقِ الْمَعْلُومِ وَلَوْ كَانَ مَسْجِدُ جَمَاعَةٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَوْ كَانَ مَسْجِدٌ جَامِعٌ فَسَدَ فِي الْكُلِّ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَهْدُومًا أَوْ أَرْضًا سَاحَةً لَا بِنَاءَ فِيهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مَسْجِدًا جَامِعًا كَذَا فِي الْمُجْتَبَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْجِدِ: إِلاَّ إِنْ كَانَ مِنْ رِيعِهِ مَعْلُومٌ يُعَادُ بِهِ، وَلَوْ بَاعَ قَرْيَةً وَفِيهَا مَسْجِدٌ وَاسْتُثْنِيَ الْمَسْجِدُ جَازَ الْبَيْعُ.

وَفِي هَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: أَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ خَرِبَ أَمْ لَا، وَإِنِ انْتَقَلَتِ الْعِمَارَةُ عَنْ مَحَلِّهِ، وَمِثْلُ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَسْجِدِ نَقْضُهُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ نَقْضِ الْمَسْجِدِ بِمَعْنَى أَنْقَاضِهِ.

وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مَحْفُوفًا بِوُقُوفِ فَافْتَقَرَ إِلَى تَوْسِعَةٍ جَازَ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهَا مَا يُوَسِّعُ بِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَسْجِدَ إِذَا كَانَ مَحْفُوفًا بِوُقُوفِ وَكَانَ هَذَا الْمَسْجِدُ فِي حَاجَةٍ إِلَى تَوْسِعَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوَسِّعُهُ إِلاَّ بِبَيْعِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَوْقَافِ أَوْ كُلِّهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ لِتَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَبْسِ وَلَوْ صَارَ خَرِبًا إِلاَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ مَا إِذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ، أَوِ احْتَاجَ إِلَى تَوْسِعَةٍ، وَبِجَانِبِهِ عَقَارُ حَبْسٍ أَوْ مِلْكٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَبْسِ لِأَجْلِ تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الْحَبْسِ أَوْ صَاحِبُ الْمِلْكِ بَيْعَ ذَلِكَ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ عَلَى بَيْعِ ذَلِكَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِ الْحَبْسِ مَا يُجْعَلُ حَبْسًا كَالْأَوَّلِ، وَمِثْلُ تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ تَوْسِعَةُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَقْبَرَتِهِمْ.

وَفِي الْمَوَّاقِ: قَالَ سَحْنُونٌ: لَمْ يُجِزْ أَصْحَابُنَا بَيْعَ الْحَبْسِ بِحَالٍ إِلاَّ دَارًا بِجِوَارِ مَسْجِدٍ احْتِيجَ أَنْ تُضَافَ إِلَيْهِ لِيَتَوَسَّعَ بِهَا، فَأَجَازُوا بَيْعَ ذَلِكَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا دَارٌ تَكُونُ حَبْسًا، وَقَدْ أُدْخِلَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- دُورٌ مُحَبَّسَةٌ كَانَتْ تَلِيهِ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي مَسَاجِدِ الْجَوَامِعِ إِنِ احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ لَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، إِذْ لَيْسَتِ الضَّرُورَةُ فِيهَا كَالْجَوَامِعِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ وَتَعَذَّرَتْ إِعَادَتُهُ لَمْ يُبَعْ بِحَالٍ لِإِمْكَانِ الصَّلَاةِ فِيهِ فِي الْحَالِ، وَيَقُولُ الْقَلْيُوبِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمِنْهَاجِ (وَتَعَذَّرَتْ إِعَادَتُهُ): أَيْ بِنَقْضِهِ، ثُمَّ إِنْ رُجِيَ عَوْدُهُ حُفِظَ نَقْضُهُ وُجُوبًا- وَلَوْ بِنَقْلِهِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ إِنْ خِيفَ عَلَيْهِ لَوْ بَقِيَ- وَلِلْحَاكِمِ هَدْمُهُ وَنَقْلُ نَقْضِهِ إِلَى مَحَلٍّ أَمِينٍ إِنْ خِيفَ عَلَى أَخْذِهِ لَوْ لَمْ يُهْدَمْ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ عَوْدُهُ بُنِيَ بِهِ مَسْجِدٌ آخَرُ لَا نَحْوُ مَدْرَسَةٍ، وَكَوْنُهُ بِقُرْبِهِ أَوْلَى، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْمَسْجِدُ بُنِيَ بِهِ غَيْرُهُ.

وَأَمَّا غَلَّتُهُ الَّتِي لَيْسَ لِأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ وَحُصْرُهُ وَقَنَادِيلُهُ فَكَنَقْضِهِ وَإِلاَّ فَهِيَ لِأَرْبَابِهَا، وَإِنْ تَعَذَّرَتْ، لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِمْ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْمَسْجِدِ بِخَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعْمَرُ بِهِ، فَيُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ: وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَاتٌ لَا قِيمَةَ لَهَا جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ خَوْفًا مِنَ اللُّصُوصِ وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُهُ قَذِرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَعْرُوفُ بِالْخَلاَّلِ: وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لَا تُبَاعُ إِنَّمَا تُنْقَلُ آلَتُهَا، قَالَ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ، لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفَرَسِ الْحَبِيسِ إِذَا لَمْ يَصْلُحْ لِلْغَزْوِ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْفَرَسِ أُعِينَ بِهِ فِي فَرَسٍ حَبِيسٍ، لِأَنَّ الْوَقْفَ مُؤَبَّدٌ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَأْبِيدُهُ بِعَيْنِهِ اسْتَبْقَيْنَا الْفَرَسَ- وَهُوَ الِانْتِفَاعُ عَلَى الدَّوَامِ- فِي عَيْنٍ أُخْرَى وَاتِّصَالُ الْأَبْدَالِ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ وَجُمُودُنَا عَلَى الْعَيْنِ مَعَ تَعَطُّلِهَا تَضْيِيعٌ لِلْغَرَضِ كَذَبْحِ الْهَدْيِ إِذَا أَعْطَبَ فِي مَوْضِعِهِ مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِمَوْضِعٍ آخَرَ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ بِالْكُلِّيَّةِ اسْتَوْفَى مِنْهُ مَا أَمْكَنَ، قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ.

وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْبَدَلِ يَصِيرُ وَقْفًا، وَكَذَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ لَوْ ضَاقَ عَلَى أَهْلِهِ وَلَمْ تُمْكِنْ تَوْسِعَتُهُ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ خَرِبَتْ مَحَلَّتُهُ أَوِ اسْتُقْذِرَ مَوْضِعُهُ، قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَيُبَاعُ.

وَيَجُوزُ نَقْلُ آلَتِهِ وَحِجَارَتِهِ لِمَسْجِدٍ آخَرَ احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ بَيْعِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى سَعْدٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ الَّذِي فِي الْكُوفَةِ نُقِبَ، أَنِ انْقُلِ الْمَسْجِدَ الَّذِي بِالتَّمَّارِينَ وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ، وَكَانَ هَذَا بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ.

بَيْعُ الْمَسْجِدِ أَوْ أَنْقَاضِهِ دُونَ أَرْضِهِ

45- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يُبَاعُ، وَفِي هَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا وَاسْتَوْفَى شُرُوطَ صِحَّةِ وَقْفِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ وَلَا يُورَثَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ رَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ.

وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ مِنْهُ فَلَا يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إِلَى مِلْكِ الْبَانِي (الْوَاقِفِ) إِنْ كَانَ حَيًّا أَوْ إِلَى وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بَانِيهِ وَلَا وَرَثَتُهُ كَانَ لَهُمْ بَيْعُهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِثَمَنِهِ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ، فَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إِذَا اسْتُغْنِيَ عَنْهُ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي الْحُصْرِ وَالْحَشِيشِ إِنَّهُ يُنْقَلُ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ.

وَلَوْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ وَبِجَنْبِهِ أَرْضٌ وَقْفٌ عَلَيْهِ أَوْ حَانُوتٌ جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ وَيَدْخُلَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مِلْكَ رَجُلٍ أُخِذَ بِالْقِيمَةِ كَرْهًا، فَلَوْ كَانَ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ أُدْخِلَ بَعْضُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ.

وَفِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ مِنَ الْخُلَاصَةِ عَنِ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنَ الطَّرِيقِ مَسْجِدًا، أَوْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْجِدِ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ، يَعْنِي إِذَا احْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ.

وَلِأَهْلِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَجْعَلُوا الرَّحْبَةَ مَسْجِدًا وَكَذَا عَلَى الْقُلُبِ، وَيُحَوِّلُوا الْبَابَ أَوْ يُحْدِثُوا لَهُ بَابًا آخَرَ، وَلَوِ اخْتَلَفُوا يُنْظَرُ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وِلَايَةً لَهُ ذَلِكَ.

وَلَهُمْ أَنْ يَهْدِمُوهُ وَيُجَدِّدُوهُ، وَلَيْسَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَهُمْ أَنْ يَضَعُوا الْحَبَابَ وَيُعَلِّقُوا الْقَنَادِيلَ وَيَفْرِشُوا الْحُصْرَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا مِنْ مَالِ الْوَقْفِ فَلَا يَفْعَلُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّي إِلاَّ بِإِذْنِ الْقَاضِي.

وَمِنْ كِتَابِ التَّجْنِيسِ: قَيِّمُ الْمَسْجِدِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ حَوَانِيتَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي فِنَائِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَ الْمَسْجِدَ سَكَنًا تَسْقُطُ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا الْفِنَاءُ فَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَسْجِدِ، وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ أَيِ اسْتَغْنَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ أَوِ الْقَرْيَةِ بِأَنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فَخَرِبَتْ وَحُوِّلَتْ مَزَارِعَ يَبْقَى مَسْجِدًا عَلَى حَالِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ خَرِبَ أَمْ لَا وَلَوِ انْتَقَلَتِ الْعِمَارَةُ عَنْ مَحَلِّهِ، وَمِثْلُ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَسْجِدِ نَقْضُهُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ نَقْضِ الْمَسْجِدِ بِمَعْنَى أَنْقَاضِهِ.

وَفِي الْقُرْطُبِيِّ: لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْمَسْجِدِ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا تَعْطِيلُهُ وَإِنْ خَرِبَتِ الْمَحَلَّةُ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ وَقَفَ مَسْجِدًا فَخَرِبَ الْمَكَانُ وَانْقَطَعَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْمِلْكِ وَلَمْ يَجُزِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، لِأَنَّ مَا زَالَ الْمِلْكُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ بِالِاخْتِلَالِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ زَمِنَ.

وَإِنْ وَقَفَ جُذُوعًا عَلَى مَسْجِدٍ فَتَكَسَّرَتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى مَنْفَعَتُهُ، فَكَانَ بَيْعُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُمْكِنُ الصَّلَاةُ فِيهِ مَعَ خَرَابِهِ، وَقَدْ يُعْمَرُ الْمَوْضِعُ فَيُصَلَّى فِيهِ.

وَإِنْ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى مَسْجِدٍ فَاخْتَلَّ الْمَكَانُ حُفِظَ الِارْتِفَاعُ (الْغَلَّةُ) وَلَا يُصْرَفُ إِلَى غَيْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا كَانَ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ أَنْ تَتَعَطَّلَ مَنَافِعُهُ بِخَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعْمَرُ بِهِ، فَيُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالَ: وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَاتٌ لَهَا قِيمَةٌ جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ.

غَرْسُ الشَّجَرِ فِي الْمَسْجِدِ وَالزَّرْعُ فِيهِ وَحَفْرُ بِئْرٍ فِيهِ

46- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَرْسُ الْأَشْجَارِ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَا نَزٍّ، والأُسْطُوَانَاتُ لَا تَسْتَقِرُّ بِهِ، فَيَجُوزُ لِتَشْرَبَ ذَلِكَ الْمَاءَ فَيَحْصُلُ بِهَا النَّفْعُ، وَلَا يُحْفَرُ فِيهِ بِئْرٌ، وَلَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً- كَبِئْرِ زَمْزَمَ- تُرِكَتْ، وَلَوْ حَفَرَ فَتَلِفَ فِيهِ شَيْءٌ إِنْ حَفَرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرُهُمْ بِإِذْنِهِمْ لَا يُضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ ضُمِنَ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ أَوْ لَا.

وَحَرَّمَ الْحَنَابِلَةُ حَفْرَ الْبِئْرِ وَغَرْسَ الشَّجَرِ بِالْمَسَاجِدِ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلصَّلَاةِ فَتَعْطِيلُهَا عُدْوَانٌ، فَإِنْ فَعَلَ طُمَّتِ الْبِئْرُ وَقُلِعَتِ الشَّجَرَةُ، نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ: هَذِهِ غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالَّذِي غَرَسَهَا ظَالِمٌ غَرَسَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ.

وَتَحْرِيمُ حَفْرِ الْبِئْرِ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَإِنْ كَانَ فِي حَفْرِهِ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ ضِيقٌ لَمْ يَكْرَهْ أَحْمَدُ حَفْرَهَا فِيهِ، وَالزَّرْعُ فِيهِ مَكْرُوهٌ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَجَرَةٌ وَإِنْ كَانَتِ النَّخْلَةُ فِي أَرْضٍ فَجَعَلَهَا صَاحِبُهَا مَسْجِدًا وَالنَّخْلَةُ فِيهَا فَلَا بَأْسَ وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنَ الْجِيرَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تُبَاعُ وَتُجْعَلُ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الدَّرْبِ يَأْكُلُونَهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَسْجِدَ إِذَا احْتَاجَ إِلَى ثَمَنِ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ بِيعَتْ وَصُرِفَ ثَمَنُهَا فِي عِمَارَتِهِ، أَمَّا إِنْ قَالَ صَاحِبُهَا: هَذِهِ وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ ثَمَرُهَا وَيُصْرَفَ إِلَيْهِ.

وَالْمَالِكِيَّةُ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ وَقَعَ قُلِعَ.

وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا بِكَرَاهَةِ غَرْسِ الشَّجَرِ وَالنَّخْلِ وَحَفْرِ الْآبَارِ فِي الْمَسَاجِدِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى الْمُصَلِّينَ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ، وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْجِيرِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ وَالتَّضْيِيقِ وَجَلْبِ النَّجَاسَاتِ مِنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا يَجُوزُ الزَّرْعُ فِيهِ، وَإِنْ غَرَسَ غَرْسًا يَسْتَظِلُّ بِهِ فَهَلَكَ بِهِ إِنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ.

وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَجَرٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُصَلِّينَ، قَالَ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ السَّجَدَاتِ: فَإِنْ غُرِسَ قَلَعَهُ الْإِمَامُ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ فِي الصَّلَاةِ: لَا يَجُوزُ الْغَرْسُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا الْحَفْرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ.

وَقَالَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْوَقْفِ: سُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ عَبْدُ اللَّهِ الْحَنَّاطِيُّ عَنْ رَجُلٍ غَرَسَ شَجَرَةً فِي الْمَسْجِدِ كَيْفَ يَصْنَعُ بِثِمَارِهَا؟ فَقَالَ: إنْ جَعَلَهَا لِلْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَيَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسَاجِدِ الْأَشْجَارُ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الصَّلَاةَ، فَإِنْ غَرَسَهَا مُسَبَّلَةً لِلْأَكْلِ جَازَ أَكْلُهَا بِلَا عِوَضٍ وَكَذَا إِنْ جُهِلَتْ نِيَّتُهُ حَيْثُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ.

انْتِفَاعُ جَارِ الْمَسْجِدِ بِوَضْعِ خَشَبَةٍ عَلَى جِدَارِهِ

47- لِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ فِي أَنَّهُ هَلْ لِنَاظِرِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ أَنْ يُعِيرَ جَارَ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا لِغَرْزِ خَشَبَةٍ فِيهِ أَوْ لَيْسَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ؟ أَحَدُهُمَا بِإِعْطَائِهِ هَذَا الْحَقَّ، وَالْآخَرُ بِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ.

وَيَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ لِجَوَازِ وَضْعِ تِلْكَ الْخَشَبَةِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا تَضُرَّ بِحَائِطِهِ فَيَضْعُفَ عَنْ حَمْلِهَا، وَأَنْ لَا يُمْكِنَ التَّسْقِيفُ بِدُونِ وَضْعِهَا وَأَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَ صَاحِبِهَا غَنَاءٌ بِوَضْعِهَا عَلَى غَيْرِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ، وَأَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إِلَى وَضْعِ تِلْكَ الْخَشَبَةِ عَلَى جِدَارِهِ، فَمَتَى كَانَ ذَلِكَ جَازَ وَضْعُ تِلْكَ الْخَشَبَةِ عَلَى جِدَارِهِ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ حِيطَانٍ وَلِجَارِهِ حَائِطٌ وَاحِدٌ.

فَإِنْ كَانَ غَرْزُهَا فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ يَضُرُّ بِحَائِطِهِ فَيُضْعِفُهُ عَنْ حَمْلِهَا، أَوْ أَمْكَنَ التَّسْقِيفُ بِدُونِ وَضْعِهَا عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ عِنْدَهُ غَنَاءٌ بِوَضْعِهَا عَلَى غَيْرِ جِدَارِهِ، أَوْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إِلَى وَضْعِهَا عَلَى جِدَارِهِ لَمْ يَجُزْ وَضْعُهَا عَلَيْهِ.

إِغْلَاقُ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ

48- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِغْلَاقِ الْمَسَاجِدِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، صِيَانَةً لَهَا وَحِفْظًا لِمَا فِيهَا مِنْ مَتَاعٍ، وَتَحَرُّزًا عَنْ نَقْبِ بُيُوتِ الْجِيرَانِ مِنْهَا، وَخَوْفًا مِنْ سَرِقَةِ مَا فِيهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا إِغْلَاقُ بَابِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْمَنْعُ مِنَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}.

تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ

49- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا تَعَطَّلَ الْمَسْجِدُ بِتَفَرُّقِ النَّاسِ عَنِ الْبَلَدِ أَوْ خَرَابِهَا أَوْ بِخَرَابِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَعُودُ مَمْلُوكًا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ زَمِنَ لَا يَعُودُ مَمْلُوكًا.

ثُمَّ إِنْ خِيفَ أَنْ تَنْقُضَهُ الشَّيَاطِينُ، نُقِضَ وَحُفِظَ، وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يَبْنِيَ بِنَقْضِهِ مَسْجِدًا آخَرَ، قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي: يَجُوزُ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: الْأَوْلَى أَنْ يُنْقَلَ إِلَى أَقْرَبِ الْجِهَاتِ إِلَيْهِ، فَإِنْ نُقِلَ إِلَى الْبَعِيدِ جَازَ، وَلَا يُصْرَفُ النَّقْضُ إِلَى غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَالرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْآبَارِ، كَمَا لَا يَجُوزُ عَكْسُهُ، لِأَنَّ الْوَقْفَ لَازِمٌ، وَقَدْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى تَبْدِيلِ الْمَحَلِّ دُونَ الْجِهَةِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْمَسْجِدِ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا تَعْطِيلُهُ وَإِنْ خَرِبَتِ الْمَحَلَّةُ.

وَإِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْمَسْجِدِ بِخَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعْمَرُ بِهِ فَيُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالَ: إِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَاتٌ لَهَا قِيمَةٌ جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ خَوْفًا مِنَ اللُّصُوصِ، وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُهُ قَذِرًا.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


56-موسوعة الفقه الكويتية (مفوضة)

مُفَوِّضَةٌ

التَّعْرِيفُ

1- الْمُفَوِّضَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ التَّفْوِيضِ، وَالتَّفْوِيضُ جَعْلُ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِهِ، يُقَالُ: فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ أَيْ جَعَلَ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي نُكِحَتْ بِلَا ذِكْرِ مَهْرٍ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، وَسُمِّيَتْ مُفَوِّضَةً بِكَسْرِ الْوَاوِ، لِتَفْوِيضِهَا أَمْرَهَا إِلَى الزَّوْجِ أَوْ إِلَى الْوَلِيِّ بِلَا مَهْرٍ، أَوْ لِأَنَّهَا أَهْمَلَتِ الْمَهْرَ، وَتُسَمَّى مُفَوَّضَةً بِفَتْحِ الْوَاوِ، إِذَا فَوَّضَ وَلِيُّهَا أَمْرَهَا إِلَى الزَّوْجِ بِلَا مَهْرٍ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الشِّغَارُ:

2- الشِّغَارُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ شَغَرَ الْبَلَدُ شُغُورًا إِذَا خَلَا عَنْ حَافِظٍ يَمْنَعُهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: أَنْ يُزَوِّجَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ بِنْتَهُ عَلَى أَنَّ بُضْعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقُ الْأُخْرَى، وَلَا مَهْرَ سِوَى ذَلِكَ فَيَقْبَلُ ذَلِكَ.وَالْعِلَاقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجْعَلُ عَقْدَ النِّكَاحِ بِلَا مَهْرٍ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُفَوِّضَةِ:

حُكْمُ نِكَاحِ الْمُفَوِّضَةِ

3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ عَقْدَ الزَّوْجِ يَصِحُّ بِلَا مَهْرٍ، فَإِذَا زَوَّجَهَا وَسَكَتَ عَنْ تَعْيِينِ الصَّدَاقِ حِينَ الْعَقْدِ، أَوْ قَالَتْ لِوَلِيِّهَا أَوْ لِزَوْجِهَا أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ: زَوِّجْنِي عَلَى مَا شِئْتَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ صَحَّ الْعَقْدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} الْآيَةَ، وَلِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ- رضي الله عنه-: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ وَالْوَصْلَةُ دُونَ الصَّدَاقِ، فَصَحَّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ كَالنَّفَقَةِ.

أَقْسَامُ الْمُفَوِّضَةِ

قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ التَّفْوِيضَ إِلَى ضَرْبَيْنِ:

الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: تَفْوِيضُ الْبُضْعِ:

4- التَّفْوِيضُ يَنْصَرِفُ إِلَى تَفْوِيضِ الْبُضْعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ إِخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ كَأَنْ تَأْذَنَ الْمَرْأَةُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ بِقَوْلِهَا لَهُ: زَوِّجْنِي بِلَا مَهْرٍ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ عَاقِلَةً بَالِغَةً رَشِيدَةً ثَيِّبًا كَانَتْ أَوْ بِكْرًا، فَيُزَوِّجُهَا الْوَلِيُّ وَيَسْكُتُ عَنِ الْمَهْرِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ التَّفْوِيضِ صَحِيحَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ يَنْفِي الْمَهْرَ بِقَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ بِغَيْرِ مَهْرٍ أَوْ زَوَّجْتُكَ بِغَيْرِ مَهْرٍ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ النِّكَاحِ الْوَصْلَةُ وَالِاسْتِمْتَاعُ دُونَ الصَّدَاقِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى بُطْلَانِ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ هَذَا الشَّرْطِ يَجْعَلُهَا كَالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ وَقَعَ- النِّكَاحُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ- فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَسَادَهُ مِنْ جِهَةِ صَدَاقِهِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ قَوْلَانِ.

الْأَوَّلُ: يُفْسَخُ الْعَقْدُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَسَادَ النِّكَاحِ مِنْ جِهَةِ عَقْدِهِ.

الثَّانِي: لَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَلَا بَعْدَ الْبِنَاءِ وَيَكُونُ لَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ.

وَهَلْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِطَلَاقٍ؟ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا أَنَّهُ يُفْسَخُ- فِي حَالِ الْفَسْخِ- بِطَلَاقٍ، لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ لِوُجُودِ الْخِلَافِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَفِي مَعْنَى إِسْقَاطِ الْمَهْرِ- الْمَذْكُورِ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ- إِرْسَالُ الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ مَالًا عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ لَهَا صَدَاقًا فَيُفْسَخُ الْعَقْدُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَ الْبِنَاءِ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، أَمَّا لَوْ سَكَتَا عَنِ الْمَهْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ دَخَلَا عَلَى التَّفْوِيضِ بِاللَّفْظِ أَوْ عَلَى تَحْكِيمِ الْغَيْرِ فِي بَيَانِ قَدْرِ الْمَهْرِ فَلَا فَسَادَ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُفَوِّضَةُ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ غَيْرَ رَشِيدَةٍ كَأَنْ تَكُونَ سَفِيهَةً مَحْجُورًا عَلَيْهَا فَلَا يَصِحُّ تَفْوِيضُهَا.

وَإِذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الْمُجْبَرَةَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ التَّفْوِيضُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ هُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ وَالتَّفْوِيضِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا فَوَّضَ الْوَلِيُّ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ.

أَحَدِهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ لَا يَنْكِحُ إِلاَّ بِإِذْنٍ كَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الثَّيِّبِ وَغَيْرِ الْأَبِ مَعَ الْبِكْرِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا فِي النِّكَاحِ وَلَا فِي التَّفْوِيضِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، فَإِنِ اسْتَأْذَنَهَا فِي النِّكَاحِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهَا فِي التَّفْوِيضِ صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ التَّفْوِيضُ، وَكَانَ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يُنْكِحَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ كَالْأَبِ مَعَ بِنْتِهِ الْبِكْرِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَأَمَّا صِحَّةُ التَّفْوِيضِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَمُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الزَّوْجُ دُونَ الْأَبِ بَطَلَ تَفْوِيضُ الْأَبِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الْأَبُ فَفِي صِحَّةِ تَفْوِيضِهِ وَجْهَانِ.

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ صَحِيحٌ كَالْعُقُودِ وَلَيْسَ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرٌ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ- رحمه الله- (: لَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ وَنَفَى الْمَهْرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْضَى هِيَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَقَصَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مُجْبَرًا فَهَلْ يَبْطُلُ النِّكَاحُ؟ أَمْ يَصِحُّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؟ قَوْلَانِ.

وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ غَيْرَ مُجْبَرٍ فَهَلْ يَبْطُلُ قَطْعًا أَمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ.

وَلَوْ أَنْكَحَهَا وَلِيُّهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ أَوْ عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا وَتُعْطِي زَوْجَهَا أَلْفًا فَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّفْوِيضِ، وَلَوْ قَالَتْ لِوَلِيِّهَا: زَوِّجْنِي بِلَا مَهْرٍ فَزَوَّجَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ صَحَّ الْمُسَمَّى وَإِنْ زَوَّجَهَا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ يَلْزَمِ الْمُسَمَّى وَكَانَ كَمَا لَوْ أَنْكَحَهَا تَفْوِيضًا.

الضَّرْبُ الثَّانِي: تَفْوِيضُ الْمَهْرِ

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ إِذَا زَوَّجَهَا عَلَى مَا شَاءَتْ هِيَ أَوْ عَلَى مَا شَاءَ، الزَّوْجُ، أَوْ عَلَى مَا شَاءَ الْوَلِيُّ أَوْ عَلَى مَا شَاءَ

أَجْنَبِيٌّ: أَيْ أَنْ يَجْعَلَ الصَّدَاقَ إِلَى رَأْيِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ رَأْيِ الْوَلِيِّ، أَوْ رَأْيِ أَجْنَبِيٍّ بِقَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ عَلَى مَا شِئْتَ أَوْ عَلَى مَا شِئْنَا، أَوْ عَلَى مَا شَاءَ زَيْدٌ، أَوْ زَوَّجْتُكَ عَلَى حُكْمِهَا أَوْ عَلَى حُكْمِكَ أَوْ عَلَى حُكْمِي، أَوْ عَلَى حُكْمِ زَيْدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْذَنْ فِي تَزْوِيجِهَا إِلاَّ عَلَى صَدَاقٍ لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ فَسَقَطَ لِجَهَالَتِهِ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَالتَّفْوِيضُ الصَّحِيحُ كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَنْ تَأْذَنَ الْمَرْأَةُ الْجَائِزَةُ لِلتَّصَرُّفِ لِوَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ، أَوْ بِتَفْوِيضِ قَدْرِهِ أَوْ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا كَذَلِكَ- أَيْ بِغَيْرِ مَهْرٍ- فَأَمَّا إِنْ زَوَّجَهَا غَيْرُ أَبِيهَا وَلَمْ يَذْكُرْ مَهْرًا بِغَيْرِ إِذْنِهَا فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.

قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ- رحمه الله-: لَوْ قَالَتْ لِوَلِيِّهَا: زَوِّجْنِي وَسَكَتَتْ عَنِ الْمَهْرِ فَالَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَفْوِيضٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ غَالِبًا بِمَهْرٍ فَيُحْمَلُ الْإِذْنُ عَلَى الْعَادَةِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: زَوِّجْنِي بِمَهْرٍ.

ثُمَّ قَالَ: وَفِي بَعْضِ كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ مَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَفْوِيضًا.

فَإِذَا أَطْلَقَتِ الْإِذْنَ- أَيْ سَكَتَتْ عَنِ الْمَهْرِ- وَزَوَّجَهَا الْوَلِيُّ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا فِي الْعَقْدِ مَهْرًا، وَلَا شَرَطَ فِيهِ أَنْ لَيْسَ لَهَا مَهْرٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَكُونُ نِكَاحَ تَفْوِيضٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحِ تَفْوِيضٍ، لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ وَيَكُونُ مَهْرُ الْمِثْلِ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ، قَالَ النَّوَوِيُّ- رحمه الله- (: وَلَيْسَ النِّكَاحُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ خَالِيًا عَنِ الْمَهْرِ وَلَيْسَ هَذَا التَّفْوِيضُ بِالتَّفْوِيضِ الَّذِي عَقَدْنَا لَهُ الْبَابَ.

الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ نِكَاحُ تَفْوِيضٍ، لِأَنَّ إِسْقَاطَ ذِكْرِ الْمَهْرِ فِي الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ سُقُوطِهِ فِي الْعَقْدِ، فَعَلَى هَذَا لَا مَهْرَ لَهَا بِالْعَقْدِ إِلاَّ أَنْ تَتَعَقَّبَهُ أَحَدُ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ هِيَ: إِمَّا: بِأَنْ يَفْرِضَاهُ عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَإِمَّا: بِأَنْ يَفْرِضَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا بِالدُّخُولِ بِهَا، وَإِمَّا بِالْمَوْتِ، كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ لَاحِقًا.

مَا تَسْتَحِقُّهُ الْمُفَوِّضَةُ مِنَ الصَّدَاقِ

6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ لِلْمُفَوِّضَةِ مَهْرٌ: إِمَّا بِنَفْسِ الْعَقْدِ، أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو نِكَاحٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ مَهْرٍ وَأَنَّ الْمُفَوِّضَةَ تَسْتَحِقُّ هَذَا الْمَهْرَ بِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ.

أَوَّلُهَا: أَنْ يَفْرِضَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمَهْرَ بِرِضَاءِ الْآخَرِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَهَذَا الْمَفْرُوضُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ فَيَتَشَطَّرُ بِالطَّلَاقِ وَيَتَأَكَّدُ بِالدُّخُولِ وَبِالْمَوْتِ وَلَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا لِتَسْلِيمِهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَفْرِضَهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ عِنْدَ تَنَازُعِهِمَا فِي قَدْرِ الْمَفْرُوضِ أَوْ عِنْدَمَا يَمْتَنِعُ الزَّوْجُ مِنَ الْفَرْضِ فَيَفْرِضُ مِقْدَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ وَظِيفَتَهُ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ وَلَا يَتَوَقَّفُ مَا يَفْرِضُهُ الْقَاضِي عَلَى رِضَاهُمَا، لِأَنَّهُ حُكْمٌ إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ مَيْلٌ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا يَنْقُصُ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ النُّقْصَانَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ مَيْلٌ عَلَى الزَّوْجَةِ وَلَا يَحِلُّ الْمَيْلُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفْرَضُ بَدَلُ الْبُضْعِ، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِهِ كَسِلْعَةٍ أُتْلِفَتْ يُقَوِّمُهَا بِمَا يَقُولُ بِهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَلَا يُغَيِّرُهُ حَاكِمٌ آخَرُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرِ السَّبَبُ كَيَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُغَيِّرُهُ وَيَفْرِضُهُ ثَانِيًا بِاعْتِبَارِ الْحَالِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْحُكْمِ السَّابِقِ وَبِذَلِكَ يُشْتَرَطُ لِلْقَاضِي عِنْدَ فَرْضِهِ لِمَهْرِ الْمِثْلِ عِلْمُهُ بِقَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا حَتَّى لَا يَزِيدَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ لَكِنِ الشَّافِعِيَّةُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُغْتَفَرُ الزِّيَادَةُ أَوِ النَّقْصُ الْيَسِيرُ الْوَاقِعُ فِي مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُحْتَمَلُ مِثْلُهُ فِي قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ مَا مَعْنَاهُ: مَنْعُ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجَانِ وَهُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْصِبَهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ثُمَّ إِنْ شَاءَا بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَا مَا شَاءَا، وَاخْتَارَ الْأَذْرَعِيُّ الْجَوَازَ.

وَمَا فَرَضَهُ الْقَاضِي مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ أَيْضًا فَيَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ مَعَهُ، لِعُمُومِ قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فَرْضُ أَجْنَبِيٍّ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ وَلَا حَاكِمٍ، وَلِأَنَّ هَذَا فِيهِ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَإِذَا فَرَضَ أَجْنَبِيٌّ لِلْمُفَوِّضَةِ مَهْرًا يُعْطِيهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ رَضِيَتْ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ يَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَدِّيَ الصَّدَاقَ عَنِ الزَّوْجِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ فَرْضَ الْأَجْنَبِيِّ كَفَرْضِ الزَّوْجِ وَيُسَمُّونَ هَذَا تَحْكِيمًا، فَإِنْ فَرَضَ مَهْرَ الْمِثْلِ لَزِمَهُمَا وَلَا يَلْزَمُهُ فَرْضُهُ ابْتِدَاءً، وَإِنْ فَرَضَ أَقَلَّ مِنْهُ لَزِمَهُ دُونَ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ فَرَضَ الْمُحَكِّمُ أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَلَى الْعَكْسِ أَيْ لَزِمَهَا دُونَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الرِّضَا وَعَدَمِهِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَدْخُلَ بِهَا.فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ بِالْمُفَوِّضَةِ وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ أَذِنَتْ لَهُ فِي وَطْئِهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو مِنْ مَهْرٍ أَوْ حَدٍّ، وَلِتَخْرُجَ بِالْتِزَامِ الْمَهْرِ مِمَّا خُصَّ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ مِنْ نِكَاحِ الْمَوْهُوبَةِ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَمِنْ حُكْمِ الزِّنَا الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ مَهْرٌ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا».وَمِثْلُ الدُّخُولِ فِي وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يَخْلُوَ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ بِلَا مَانِعٍ حِسِّيٍّ كَمَرَضٍ لِأَحَدِهِمَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ، وَبِلَا مَانِعٍ طَبْعِيٍّ كَوُجُودِ شَخْصٍ ثَالِثٍ عَاقِلٍ مَعَهُمَا، وَبِلَا مَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنْ أَحَدِهِمَا كَإِحْرَامٍ لِفَرْضٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَمِنَ الْمَانِعِ الْحِسِّيِّ رَتْقٌ وَقَرَنٌ وَعَفَلٌ، وَصِغَرٌ لَا يُطَاقُ مَعَهُ الْجِمَاعُ. وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّ الْمَهْرَ يَتَقَرَّرُ كَذَلِكَ بِلَمْسِ الزَّوْجَةِ بِشَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ، وَتَقْبِيلِهَا وَلَوْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ فَأَوْجَبَ الْمَهْرَ كَالْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ نَالَ مِنْهَا شَيْئًا لَا يُبَاحُ لِغَيْرِهِ، وَلِمَفْهُومِ قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} وَحَقِيقَةُ اللَّمْسِ الْتِقَاءُ الْبَشَرَتَيْنِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ فَلَا يَسْتَقِرُّ عِنْدَهُمُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسِّ الْجِمَاعُ، وَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تَلْتَحِقُ بِالْوَطْءِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ حَدٍّ وَغُسْلٍ وَنَحْوِهِمَا.

الرَّابِعُ: الْمَوْتُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُفَوِّضَةَ يَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا أَوْ مَاتَتْ هِيَ قَبْلَ الْفَرْضِ وَقَبْلَ الْمَسِيسِ، لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَبْطُلُ بِهِ النِّكَاحُ بِدَلِيلِ التَّوَارُثِ وَإِنَّمَا هُوَ نِهَايَةٌ لَهُ وَنِهَايَةُ الْعَقْدِ كَاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْإِجَارَةِ وَمَتَى اسْتَقَرَّ لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ وَلَا غَيْرُهُ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: حَتَّى وَلَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، أَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ بَلَغَ غَايَتَهُ فَقَامَ مَقَامَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمَنْفَعَةِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْمَهْرُ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَا جَمِيعًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ.

وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: هَذَا إِذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِحَيْثُ يُتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْوُقُوفُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَقَادَمْ فَيُقْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَهُ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَوْتَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ.

قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: إِذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالْمَسِيسِ فَهَلْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَمْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى حَدِيثِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ أَنَّهَا نُكِحَتْ بِلَا مَهْرٍ، فَمَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ بِمَهْرِ يُفْرَضُ لَهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ بِمَهْرِ نِسَائِهَا وَالْمِيرَاثِ.

وَالرَّاجِحُ تَرْجِيحُ الْوُجُوبِ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ.وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا قِيلَ فِي إِسْنَادِهِ وَقِيَاسًا عَلَى الدُّخُولِ فَإِنَّ الْمَوْتَ مُقَرَّرٌ كَالدُّخُولِ، وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ مَعَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ.

مَتَى تَسْتَحِقُّ الْمُفَوِّضَةُ مَهْرَ الْمِثْلِ؟

7- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِلْمُفَوِّضَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُطَالَبَةَ الزَّوْجِ بِأَنْ يَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا لِتَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَخْلُو مِنَ الْمَهْرِ، فَلَهَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِبَيَانِ قَدْرِهِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، فَإِنِ اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى فَرْضِهِ جَازَ مَا فَرَضَاهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا سَوَاءٌ كَانَا عَالِمَيْنِ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ غَيْرَ عَالِمَيْنِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا فَرَضَ لَهَا كَثِيرًا فَقَدْ بَذَلَ لَهَا مِنْ مَالِهِ فَوْقَ مَا يَلْزَمُهُ، وَإِنْ رَضِيَتْ بِالْيَسِيرِ، فَقَدْ رَضِيَتْ بِدُونِ مَا يَجِبُ لَهَا فَلَا تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِرَجُلٍ «أَتَرْضَى أَنْ أُزَوِّجَكَ فُلَانَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: أَتَرْضَيْنَ أَنْ أُزَوِّجَكِ فُلَانًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَزَوَّجَ أَحَدَهُمَا صَاحِبَهُ فَدَخَلَ بِهَا الرَّجُلُ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ لَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ زَوَّجَنِي فُلَانَةَ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ أُعْطِهَا شَيْئًا وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهَا مِنْ صَدَاقِهَا سَهْمِي بِخَيْبَرَ، فَأَخَذَتْ سَهْمًا فَبَاعَتْهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ».

فَأَمَّا إِنْ تَشَاحَّا فِيهِ فَفَرَضَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِسِوَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَرْضَ بِهِ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهَا حَتَّى تَرْضَاهُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ الْمُتْعَةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا بِفَرْضِهِ مَا لَمْ تَرْضَ بِهِ كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ فَرَضَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِتَمَامِهِ وَلَا يَثْبُتُ لَهَا مَا لَمْ تَرْضَ بِهِ، وَإِنْ تَشَاحَّا رُفِعَا إِلَى الْقَاضِي، وَفُرِضَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا سَبَقَ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ لِلْمُفَوِّضَةِ طَلَبَ تَقْدِيرِ قَدْرِ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيُكْرَهُ لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا قَبْلَ الْبِنَاءِ إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الرِّضَا بِمَا فَرَضَ لَهَا الزَّوْجُ إِنْ فَرَضَ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ، أَمَّا إِنْ فَرَضَ لَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلَا يَلْزَمُهَا الرِّضَا بِهِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ جَازَ إِذَا كَانَتْ رَشِيدَةً رَشَّدَهَا مُجْبِرُهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا وَتَجْرِبَتِهَا بِحُسْنِ تَصَرُّفِهَا فِي الْمَالِ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى رَفْعِ حَجْرِهِ عَنْهَا وَإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ لَهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَرْضَى بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الرَّشِيدَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِوَصِيِّ الْأَبِ أَنْ يَرْضَى بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِ مَحْجُورَتِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا صَلَاحًا لَهَا كَأَنْ كَانَ رَاجِيًا حُسْنَ عِشْرَةِ زَوْجِهَا لَهَا، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْبِكْرِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي مَاتَ أَبُوهَا وَلَمْ يُوصِ عَلَيْهَا وَلَمْ يُقَدِّمِ الْقَاضِي عَلَيْهَا مُقَدَّمًا يُتَصَرَّفُ لَهَا الرِّضَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا.

وَقَالُوا إِذَا لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِمَا فَرَضَ لَهَا فَلَهُ تَطْلِيقُهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ.

وَلِلْمُفَوِّضَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَبْسُ نَفْسِهَا عَنِ الزَّوْجِ لِيَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا وَلَهَا كَذَلِكَ حَبْسُ نَفْسِهَا عَنْهُ لِتَسْلِيمِ الْمَفْرُوضِ إِذَا كَانَ حَالًّا كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ مُؤَجَّلًا فَلَيْسَ لَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا عَنْهُ لِتَسْلِيمِهِ كَالْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ إِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا أَيْضًا.

وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا عَنْ زَوْجِهَا لِتَسْلِيمِ الْمَفْرُوضِ لِأَنَّهَا سَامَحَتْ بِالْمَهْرِ فَكَيْفَ تُضَايَقُ فِي تَقْدِيمِهِ.

8- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِ الْمُفَوِّضَةِ لِلْمَهْرِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُفَوِّضَةَ يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَلِذَلِكَ يَحِقُّ لَهَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِفَرْضِهِ، وَوِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْمَفْرُوضِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا اسْتَقَرَّ بِالْمَوْتِ كَمَا فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ عَنِ الْمَهْرِ وَالْقَوْلُ بِعَدِمِ وُجُوبِهِ يُفْضِي إِلَى خُلُوِّهِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَمْ يُشْرَعْ لِعَيْنِهِ، بَلْ لِمَقَاصِدَ لَا حُصُولَ لَهَا إِلاَّ بِالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ وَالْقَرَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يَدُومُ إِلاَّ بِوُجُوبِ الْمَهْرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، لِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْمِلُ الزَّوْجَ عَلَى الطَّلَاقِ مِنَ الْوَحْشَةِ وَالْخُشُونَةِ فَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا يُبَالِي الزَّوْجُ عَنْ إِزَالَةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِأَدْنَى خُشُونَةٍ تَحْدُثُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ إِزَالَتُهُ لَمَّا لَمْ يَخَفْ لُزُومَ الْمَهْرِ، فَلَا تَحْصُلُ الْمَقَاصِدُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ وَمَقَاصِدَهُ لَا تَحْصُلُ إِلاَّ بِالْمُوَافَقَةِ، وَلَا تَحْصُلُ الْمُوَافَقَةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَزِيزَةً مُكَرَّمَةً عِنْدَ الزَّوْجِ وَلَا عِزَّةَ إِلاَّ بِانْسِدَادِ طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا بِمَالٍ لَهُ خَطَرٌ عِنْدَهُ، لِأَنَّ مَا ضَاقَ طَرِيقُ إِصَابَتِهِ يَعِزُّ فِي الْأَعْيُنِ فَيَعِزُّ بِهِ إِمْسَاكُهُ وَمَا يَتَيَسَّرُ طَرِيقُ إِصَابَتِهِ يَهُونُ فِي الْأَعْيُنِ فَيَهُونُ إِمْسَاكُهُ، وَمَتَى هَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي أَعْيُنِ الزَّوْجِ تَلْحَقُهَا الْوَحْشَةُ فَلَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ، فَلَا تَحْصُلُ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ فِي جَانِبِهَا إِمَّا فِي نَفْسِهَا، وَإِمَّا فِي الْمُتْعَةِ، وَأَحْكَامُ الْمِلْكِ فِي الْحُرَّةِ تُشْعِرُ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَابِلَهُ مَالٌ لَهُ خَطَرٌ، لِيَنْجَبِرَ الذُّلُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِأَنَّهَا إِذَا طَلَبَتِ الْفَرْضَ مِنَ الزَّوْجِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفَرْضُ حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ فَالْقَاضِي يُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي الْفَرْضِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ الْمُفَوِّضَةِ مَهْرٌ عَلَى زَوْجِهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهَا إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ إِلاَّ الْمُتْعَةُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَهَا مَهْرٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَتَشَطَّرَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالْمُسَمَّى الصَّحِيحِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَمْ يَجِبْ لِلْمُفَوِّضَةِ بِالْعَقْدِ مَهْرٌ، لِاشْتِرَاطِهِ سُقُوطَهُ، وَلَا لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِمَهْرٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرٌ وَلَكِنْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِأَنْ يَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا إِمَّا بِمُرَاضَاةِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَيَصِيرُ الْمَهْرُ بَعْدَ الْفَرْضِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ مِثْلَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ إِذَا فَرَضَ الْمُحَكِّمُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ وَلَمْ يَرْضَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهَا مَهْرٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ. تَنْصِيفُ مَهْرِ الْمُفَوِّضَةِ إِذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِصَافِ مَا فُرِضَ لِلْمُفَوِّضَةِ إِذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ الْفَرْضِ فَلَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ، لِمَفْهُومِ قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ مَا فُرِضَ لِلْمُفَوِّضَةِ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَالْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ مِنَ الزَّوْجِ لَا مِنَ الزَّوْجَةِ وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْرُوضُ صَحِيحًا، سَوَاءٌ كَانَ النُّهُوضُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ مِنَ الْحَاكِمِ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} الْآيَةَ، وَلِأَنَّ هَذَا مَهْرٌ وَجَبَ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ كَمَا لَوْ سَمَّاهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنَصَّفُ الْمَهْرُ الْمَفْرُوضُ لِلْمُفَوِّضَةِ إِذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّ عَقْدَهَا خَلَا مِنْ تَسْمِيَةٍ فَأَشْبَهَتِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا شَيْءٌ، وَلِأَنَّ التَّنْصِيفَ خَاصٌّ بِالْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ بِالنَّصِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} الْآيَةَ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَفْرُوضَ تَعْيِينٌ لِلْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَذَلِكَ لَا يَتَنَصَّفُ فَكَذَا مَا نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ.

وُجُوبُ الْمُتْعَةِ لِلْمُفَوِّضَةِ إِذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ

10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَلُقَتِ الْمُفَوِّضَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا مَهْرٌ فَلَا تَسْتَحِقُّ عَلَى زَوْجِهَا شَيْئًا إِلاَّ الْمُتْعَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ لَهَا إِذَا كَانَتِ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ لَا مِنْ جِهَتِهَا.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْمُتْعَةِ لَهَا إِذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا شَيْءٌ وَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ كَأَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يُلَاعِنَ، أَوْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالرِّدَّةِ مِنْهُ وَإِبَائِهِ الْإِسْلَامَ وَتَقْبِيلِهِ ابْنَتَهَا، أَوْ أُمَّهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ السَّبَبُ مِنْ جِهَتِهَا فَلَا مُتْعَةَ لَهَا عِنْدَهُمْ لَا وُجُوبًا وَلَا اسْتِحْبَابًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً لِلْمُفَوِّضَةِ.

وَسَبَبُ الْخِلَافِ يَعُودُ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَفْوِيضٌ ف 8، مُتْعَةُ الطَّلَاقِ ف 2).

مَا يُرَاعَى عِنْدَمَا يُفْرَضُ لِلْمُفَوِّضَةِ مَهْرٌ

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَيِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُفَوِّضَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ فَرْضِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَهَا، هَلْ فِي حَالِهَا عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ الْمُقْتَضِي لِلْوُجُوبِ، أَوْ فِي حَالِهَا عِنْدَ الْوَطْءِ، لِأَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ يُعْتَبَرُ حَالُهَا مِنَ الْعَقْدِ إِلَى الْوَطْءِ، لِأَنَّ الْبُضْعَ دَخَلَ بِالْعَقْدِ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ وَاقْتَرَنَ بِهِ الْإِتْلَافُ فَوَجَبَ أَكْثَرُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ وَقْتِ عَقْدِهَا إِلَى أَنْ يَطَأَهَا زَوْجُهَا كَالْمَقْبُوضِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَهْرٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


57-موسوعة الفقه الكويتية (مكوس)

مُكُوسٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُكُوسُ: جَمْعُ مَكْسٍ.

وَأَصْلُ الْمَكْسِ- فِي اللُّغَةِ: النَّقْصُ وَالظُّلْمُ، وَدَرَاهِمُ كَانَتْ تُؤْخَذُ مِنْ بَائِعِي السِّلَعِ فِي الْأَسْوَاقِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ دِرْهَمٌ كَانَ يَأْخُذُهُ الْمُصَدِّقُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ.

وَيُطْلَقُ الْمَكْسُ- كَذَلِكَ- عَلَى الضَّرِيبَةِ يَأْخُذُهَا الْمَكَّاسُ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْبَلَدَ مِنَ التُّجَّارِ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْمَكْسُ مَا يَأْخُذُهُ الْعَشَّارُ.

وَالْمَاكِسُ: هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ شَيْئًا مُرَتَّبًا فِي الْغَالِبِ، وَيُقَالُ لَهُ الْعَشَّارُ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْعُشُورَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعُشُورُ:

2- الْعُشُورُ: جَمْعُ عُشْرٍ، وَهُوَ لُغَةً الْجُزْءُ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: عُشْرُ التِّجَارَاتِ وَالْبِيَاعَاتِ.

وَالْآخَرُ: عُشْرُ الصَّدَقَاتِ أَوْ زَكَاةُ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ.

ب- الْجِبَايَةُ:

3- الْجِبَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمْعُ يُقَالُ جَبَا الْمَالَ وَالْخَرَاجَ: جَمَعَهُ.

وَالْجِبَايَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: جَمْعُ الْخَرَاجِ وَالْمَالِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُكُوسِ وَالْجِبَايَةِ هِيَ أَنَّ الْجِبَايَةَ أَعَمُّ لِأَنَّ الْجِبَايَةَ تَشْمَلُ جَمْعَ الْمَالِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ صَدَقَاتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

ج- الضَّرَائِبُ:

4- الضَّرَائِبُ جَمْعُ ضَرِيبَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي الْأَرْصَادِ وَالْجِزْيَةِ وَنَحْوِهَا.

وَهِيَ أَيْضًا: مَا يَأْخُذُهُ الْمَاكِسُ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الضَّرِيبَةَ أَعَمُّ.

د- الْخَرَاجُ:

5- الْخَرَاجُ هُوَ: مَا يَحْصُلُ مِنْ غَلَّةِ الْأَرْضِ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الْأَرَضِينَ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْخَرَاجِ وَالْمُكُوسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْخَرَاجَ يُوضَعُ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِ، أَمَّا الْمَكْسُ فَيُوضَعُ عَلَى السِّلَعِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- مِنَ الْمُكُوسِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ ذَلِكَ.

فَالْمُكُوسُ الْمَذْمُومَةُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا هِيَ غَيْرُ نِصْفِ الْعُشْرِ الَّذِي فَرَضَهُ عُمَرُ- رضي الله عنه- عَلَى تِجَارَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ هِيَ غَيْرُ الْعُشْرِ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا.

وَقَدْ وَرَدَتْ فِي الْمُكُوسِ الْمَذْمُومَةِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا- وَهِيَ غَيْرُ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ- نُصُوصٌ تُحَرِّمُهَا وَتُغَلِّظُ أَمْرَهَا مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ».

قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُرِيدُ بِصَاحِبِ الْمَكْسِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنَ التُّجَّارِ إِذَا مَرُّوا عَلَيْهِ مَكْسًا بِاسْمِ الْعُشْرِ أَيِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: أَمَّا الْآنَ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَكْسًا بِاسْمِ الْعُشْرِ، وَمَكْسًا آخَرَ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ، بَلْ شَيْءٌ يَأْخُذُونَهُ حَرَامًا وَسُحْتًا، وَيَأْكُلُونَهُ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا، حُجَّتُهُمْ فِيهِ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُكُوسِ:

احْتِسَابُ الْمَكْسِ مِنَ الزَّكَاةِ

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ احْتِسَابِ الْمَدْفُوعِ مَكْسًا مِنَ الزَّكَاةِ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَازِ احْتِسَابِهِ مِنَ الزَّكَاةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: زَكَاةٌ ف 132).

أَخْذُ الْفُقَرَاءِ لِلْمُكُوسِ

8- الْمُكُوسُ بِمَعْنَى الْمَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْ صَاحِبِهِ ظُلْمًا، نَصَّ الرَّحِيبَانِيُّ عَلَى حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: يُتَّجَهُ أَنَّ الْمَالَ الْحَرَامَ الَّذِي جُهِلَ أَرْبَابُهُ وَصَارَ مَرْجِعُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ كَالْمُكُوسِ وَالْغُصُوبِ وَالْخِيَانَاتِ وَالسَّرِقَاتِ الْمَجْهُولِ أَرْبَابُهَا يَجُوزُ لِلْفُقَرَاءِ أَخْذُهَا صَدَقَةً، وَيَجُوزُ أَخْذُهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ هِبَةً وَشِرَاءً وَوَفَاءً عَنْ أُجْرَةٍ سِيَّمَا إِنْ أَعْطَاهَا الْغَاصِبُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ حَالَهَا كَأَنْ قَبَضَهُ لَهَا بِحَقِّ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ، قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ، وَعَقَّبَ الشَّطِّيُّ عَلَى الرَّحِيبَانِيِّ بِتَعْقِيبٍ جَاءَ فِيهِ: وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إِنَّ الْمُكُوسَ إِذَا أَقْطَعَهَا الْإِمَامُ الْجُنْدَ فَهِيَ حَلَالٌ لَهُمْ إِذَا جُهِلَ مُسْتَحِقُّهَا، وَكَذَا إِذَا رَتَّبَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ.

أَثَرُ أَخْذِ الْمُكُوسِ فِي سُقُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ

9- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ مَا يُؤْخَذُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ مِنَ الْمَكْسِ وَالْخَفَارَةِ عُذْرًا قَوْلَانِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ عُذْرًا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعْتَبَرُ الْأَمْنُ عَلَى الْمَالِ فِي الْحَجِّ فَإِنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ مَكَّاسٌ يَأْخُذُ مِنَ الْمَالِ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا يَنْكُثُ بَعْدَ أَخْذِهِ لِذَلِكَ الْقَلِيلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ سُقُوطِ الْحَجِّ، وَالثَّانِي سُقُوطُهُ.

قَالَ فِي التَّوْضِيحِ إِنْ كَانَ مَا يَأْخُذُهُ الْمَكَّاسُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَوْ مُعَيَّنًا مُجْحِفًا سَقَطَ الْوُجُوبُ وَفِي غَيْرِ الْمُجْحِفِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ السُّقُوطِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ.

وَلَمْ يُعَبِّرِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْمَكْسِ أَوِ الْمَكَّاسِ وَإِنَّمَا عَبَّرُوا بِالرَّصَدِيِّ أَوِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَطْلُبُ خَفَارَةً.

الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُكُوسِ

10- تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُكُوسِ لِأَجْلِ رَدِّ الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا كَمَا يَجُوزُ كِتَابَتُهَا حَتَّى لَا يَتَكَرَّرَ أَخْذُهَا: يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ زُرَيْقِ بْنِ حِبَّانَ وَكَانَ عَلَى مَكْسِ مِصْرَ فَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِ انْظُرْ مَنْ مَرَّ عَلَيْكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَخُذْ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْعَيْنَ، وَمِمَّا ظَهَرَ مِنَ التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا وَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ دِينَارًا فَإِنْ نَقَصَتْ تِلْكَ الدَّنَانِيرُ فَدَعْهَا وَلَا تَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا مَرَّ عَلَيْكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ فَخُذْ مِمَّا يُدِيرُونَ مِنْ تِجَارَاتِهِمْ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا فَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ حَتَّى تَبْلُغَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ ثُمَّ دَعْهَا فَلَا تَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، وَاكْتُبْ لَهُمْ كِتَابًا بِمَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْحَوْلِ.

مُعَامَلَةُ مَنْ غَالِبُ أَمْوَالِهِ حَرَامٌ

11- سُئِلَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ حُكْمِ مُعَامَلَةِ مَنْ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ حَرَامٌ مِثْلُ الْمَكَّاسِينَ وَأَكَلَةِ الرِّبَا وَأَشْبَاهِهِمْ فَهَلْ يَحِلُّ أَخْذُ طَعَامِهِمْ بِالْمُعَامَلَةِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: إِذَا كَانَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ وَحَرَامٌ فَفِي مُعَامَلَتِهِمْ شُبْهَةٌ، لَا يُحْكَمُ بِالتَّحْرِيمِ إِلاَّ إِذَا عُرِفَ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يَحْرُمُ إِعْطَاؤُهُ، وَلَا يُحْكَمُ بِالتَّحْلِيلِ إِلاَّ إِذَا عُرِفَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنَ الْحَلَالِ، فَإِنْ كَانَ الْحَلَالُ هُوَ الْأَغْلَبَ قِيلَ بِحِلِّ الْمُعَامَلَةِ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


58-موسوعة الفقه الكويتية (ملك 1)

مِلْكٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمِلْكُ لُغَةً- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا-: هُوَ احْتِوَاءُ الشَّيْءِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ بِهِ وَالتَّصَرُّفُ بِانْفِرَادِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ الْمُحْدَثُونَ بِلَفْظِ الْمِلْكِيَّةِ عَنِ الْمِلْكِ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَبْلَهُمْ يُعَبِّرُونَ بِلَفْظِ الْمِلْكِ.

وَقَدْ عَرَّفَ الْقَرَافِيُّ الْمِلْكَ- بِاعْتِبَارِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا- فَقَالَ: الْمِلْكُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُقَدَّرٌ فِي الْعَيْنِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ، يَقْتَضِي تَمَكُّنَ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ مِنَ انْتِفَاعِهِ بِالْمَمْلُوكِ وَالْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِ: الْمِلْكُ هُوَ تَمَكُّنُ الْإِنْسَانِ شَرْعًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِنِيَابَةِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالْمَنْفَعَةِ وَمِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ، أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ خَاصَّةً.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْحَقُّ:

2- يُطْلَقُ الْحَقُّ لُغَةً عَلَى نَقْضِ الْبَاطِلِ وَعَلَى الْحَظِّ، وَالنَّصِيبِ، وَالثَّابِتِ وَالْمَوْجُودِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي إِنْكَارُهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ الثَّابِتِ الَّذِي يَشْمَلُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقِ الْعِبَادِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْمِلْكِ: أَنَّ الْحَقَّ أَعَمُّ مِنَ الْمِلْكِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِلْكِ:

يَتَعَلَّقُ بِالْمِلْكِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

حُرْمَةُ الْمِلْكِ فِي الْإِسْلَامِ

3- صَانَ الْإِسْلَامُ الْمِلْكَ، فَحَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ».وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْقَاعِدَةُ الْمُعْتَبَرَةُ أَنَّ الْمُلاَّكَ مُخْتَصُّونَ بِأَمْلَاكِهِمْ، لَا يُزَاحِمُ أَحَدٌ مَالِكًا فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ، ثُمَّ الضَّرُورَةُ تُحْوِجُ مُلاَّكَ الْأَمْوَالِ إِلَى التَّبَادُلِ فِيهَا...فَالْأَمْرُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ تَحْرِيمُ التَّسَالُبِ وَالتَّغَالُبِ وَمَدِّ الْأَيْدِي إِلَى أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

وَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ مِلْكَ الْأَمْوَالِ اسْتِخْلَافًا وَمِنْحَةً رَبَّانِيَّةً، لِأَنَّ الْمَالِكَ الْحَقِيقِيَّ لِلْأَمْوَالِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ أَعْطَى لِلْإِنْسَانِ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْأَمْوَالِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}.

وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا: إِنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ إِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ وَإِنْشَائِهِ لَهَا، وَإِنَّمَا خَوَّلَكُمُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَجَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، فَلَيْسَتْ هِيَ بِأَمْوَالِكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمَا أَنْتُمْ فِيهَا إِلاَّ بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلَاءِ.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فِي الْأَمْوَالِ حُقُوقًا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِلْأَقَارِبِ وَنَحْوِهِمْ.

أَقْسَامُ الْمِلْكِ:

لِلْمِلْكِ أَقْسَامٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:

- فَهُوَ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ: إمَّا مِلْكٌ تَامٌّ أَوْ نَاقِصٌ.

- وَبِاعْتِبَارِ الْمُسْتَفِيدِ مِنْهُ: إِمَّا مِلْكٌ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ.

- وَبِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ: إِمَّا مِلْكٌ اخْتِيَارِيٌّ أَوْ جَبْرِيٌّ.

- وَبِاعْتِبَارِ احْتِمَالِ سُقُوطِهِ: إِمَّا مِلْكٌ مُسْتَقِرٌّ أَوْ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ.

أ- أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ

4- يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ إِلَى مِلْكٍ تَامٍّ وَمِلْكٍ نَاقِصٍ.

وَالْمِلْكُ التَّامُّ: هُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَالْمِلْكُ النَّاقِصُ: هُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فَقَطْ، أَوِ الْمَنْفَعَةِ فَقَطْ، أَوِ الِانْتِفَاعِ فَقَطْ.

يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْمِلْكُ التَّامُّ يُمْلَكُ فِيهِ التَّصَرُّفُ فِي الرَّقَبَةِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَيُورَثُ عَنْهُ، وَيُمْلَكُ التَّصَرُّفُ فِي مَنَافِعِهِ بِالْإِعَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالِانْتِفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَدْ عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْمِلْكِ الضَّعِيفِ بَدَلَ النَّاقِصِ، يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: الْمِلْكُ قِسْمَانِ: تَامٌّ وَضَعِيفٌ، فَالتَّامُّ يَسْتَتْبِعُ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ، وَالضَّعِيفُ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مُصْطَلَحُ النَّاقِصِ أَيْضًا.

ثُمَّ إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمِلْكِ هُوَ الْمِلْكُ التَّامُّ، وَأَنَّ الْمِلْكَ النَّاقِصَ خِلَافُ الْأَصْلِ، كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْمِلْكِ هُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَشْيَاءِ.

وَلِذَلِكَ جَاءَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ نَاقِصًا، كَأَنْ يُوصِيَ بِمَنْفَعَةِ عَيْنٍ لِشَخْصِ، أَوْ أَنْ يُوصِيَ بِالرَّقَبَةِ لِشَخْصِ وَبِمَنْفَعَتِهَا لآِخَرَ.

أَمَّا مِلْكُ الْمَنَافِعِ: فَهُوَ مشَاعٌ، وَيَتَحَقَّقُ فِي الْإِجَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَالْإِعَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ فَقَطْ، وَالْوَقْفِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، وَالْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الْمُقَرَّةِ فِي يَدِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ بِالْخَرَاجِ.

وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَا عَدَا ابْنَ شُبْرُمَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى.

أَمَّا مِلْكُ الِانْتِفَاعِ: فَقَدْ ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ.

فَقَدْ قَسَّمَ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ الْمِلْكَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: مِلْكِ عَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ، وَمِلْكِ عَيْنٍ بِلَا مَنْفَعَةٍ، وَمِلْكِ مَنْفَعَةٍ بِلَا عَيْنٍ، وَمِلْكِ انْتِفَاعٍ مِنْ غَيْرِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ قَالَ:

أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ عَامَّةُ الْأَمْلَاكِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهَا، مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَإِرْثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

النَّوْعُ الثَّانِي: مِلْكُ الْعَيْنِ بِدُونِ مَنْفَعَةٍ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِدُونِ عَيْنٍ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:

الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مِلْكٌ مُؤَبَّدٌ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ صُوَرٌ: مِنْهَا الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ، وَمِنْهَا الْوَقْفُ، فَإِنَّ مَنَافِعَهُ وَثَمَرَاتِهِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ...وَمِنْهَا الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِلْكٌ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ، فَمِنْهُ الْإِجَارَةُ، وَمِنْهُ مَنَافِعُ الْبَيْعِ الْمُسْتَثْنَاةُ فِي الْعَقْدِ مُدَّةً مَعْلُومَةً.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِلْكُ الِانْتِفَاعِ الْمُجَرَّدِ، وَلَهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا مِلْكُ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ لَا الْمَنْفَعَةَ، إِلاَّ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ.

وَمِنْهَا: الْمُنْتَفِعُ بِمِلْكِ جَارِهِ مِنْ وَضْعِ خَشَبٍ، وَمَمَرٍّ فِي دَارٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ صُلْحٍ فَهُوَ إِجَارَةٌ.

وَمِنْهَا: إِقْطَاعُ الْإِرْفَاقِ كَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَنَحْوِهَا، وَمِنْهَا: الطَّعَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ حِيَازَتِهِ يَمْلِكُ الْقَائِمُونَ الِانْتِفَاعَ بِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَقِيَاسُهُ الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَةِ وَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهَا أَكْلُ الضَّيْفِ لِطَعَامِ الْمُضِيفِ فَإِنَّهُ إِبَاحَةٌ مَحْضَةٌ.

وَقَدْ فَصَّلَ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مِلْكِ الِانْتِفَاعِ، وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَقَالَ: فَتَمْلِيكُ الِانْتِفَاعِ نُرِيدُ بِهِ أَنْ يُبَاشِرَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ، وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ هُوَ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَيُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ وَيُمَكِّنُ غَيْرَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِعِوَضٍ كَالْإِجَارَةِ، وَبِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْعَارِيَةِ.

وَمِثَالُ الْأَوَّلِ- أَيِ الِانْتِفَاعِ- سُكْنَى الْمَدَارِسِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَجَالِسِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ كَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ...أَمَّا مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ فَكَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا، أَوِ اسْتَعَارَهَا، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يُسْكِنَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَيَتَصَرَّفَ فِي هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي أَمْلَاكِهِمْ.

ثُمَّ ذَكَرَ أَرْبَعَ مَسَائِلَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الِانْتِفَاعِ وَهِيَ:

الْأُولَى: النِّكَاحُ حَيْثُ هُوَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الِانْتِفَاعِ، وَلَيْسَ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ.

الثَّانِيَةُ: الْوَكَالَةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَهِيَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الِانْتِفَاعِ لَا مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ، وَأَمَّا الْوَكَالَةُ بِعِوَضٍ فَهِيَ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ.

الثَّالِثَةُ: الْقِرَاضُ (الْمُضَارَبَةُ) وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُغَارَسَةُ، فَرَبُّ الْمَالِ فِيهَا يَمْلِكُ مِنَ الْعَامِلِ الِانْتِفَاعَ لَا الْمَنْفَعَةَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى مَا مَلَكَهُ مِنَ الْعَامِلِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُؤَاجِرُهُ مِمَّنْ أَرَادَ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ عَقْدُ الْقِرَاضِ.

الرَّابِعَةُ: إِذَا وَقَفَ شَخْصٌ وَقْفًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَوْ عَلَى السُّكْنَى، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّ الْوَاقِفَ إِنَّمَا مَلَكَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعَ بِالسُّكْنَى دُونَ الْمَنْفَعَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ غَيْرَهُ، وَلَا يُسْكِنَهُ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ كَالْمُسْتَأْجِرِ، وَمِلْكِ الِانْتِفَاعِ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَقَالُوا: مَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَلَهُ الْإِجَارَةُ وَالْإِعَارَةُ، وَمَنْ مَلَكَ الِانْتِفَاعَ فَلَيْسَ لَهُ الْإِجَارَةُ قَطْعًا، وَلَا الْإِعَارَةَ فِي الْأَصَحِّ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ حَوْلَ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَدْخُلُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي مِلْكِ الِانْتِفَاعِ وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ عِنْدَ الْآخَرِينَ، بَلْ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، مِثْلُ الْعَارِيَةِ...حَيْثُ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا الْكَرْخِيَّ وَالْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّ الْعَارِيَةَ تَمْلِيكٌ لِلْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِذَلِكَ أَجَازُوا لِلْمُسْتَعِيرِ إِعَارَةَ الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ بِالْقُيُودِ الَّتِي وَضَعَهَا الْفُقَهَاءُ.

الْفُرُوقُ الْجَوْهَرِيَّةُ بَيْنَ الْمِلْكِ التَّامِّ وَالْمِلْكِ النَّاقِصِ

5- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكٌ لِلِانْتِفَاعِ.

وَتُوجَدُ فُرُوقٌ جَوْهَرِيَّةٌ بَيْنَ الْمِلْكِ التَّامِّ وَالْمِلْكِ النَّاقِصِ، تَلْخِيصُهَا فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلًا: إِنَّ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ التَّامِّ الْحَقَّ فِي إِنْشَاءِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ مِنْ عُقُودٍ نَاقِلَةٍ لِلْمِلْكِ التَّامِّ، أَوِ النَّاقِصِ، فَهُوَ حُرُّ التَّصَرُّفِ فِي حُدُودِ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، أَمَّا صَاحِبُ الْمِلْكِ النَّاقِصِ فَلَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي كُلِّ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ فِي حُدُودِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَنْفَعَةِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَالْمَنْفَعَةَ مَعًا.

ثَانِيًا: تَأْبِيدُ الْمِلْكِ التَّامِّ: وَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنَّ الْمِلْكَ التَّامَّ دَائِمٌ وَمُسْتَمِرٌّ لَا يَنْتَهِي إِلاَّ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ قَاطِعٍ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَأْقِيتُهُ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْعُقُودِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِ التَّامِّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: بِعْتُ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لِمُدَّةِ سَنَةٍ، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهَا الْإِجَارَةَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ: إِنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ بِالْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لَا بِالْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي

وَأَمَّا الْمِلْكُ النَّاقِصُ فَالْعُقُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ فِيهَا لَا بُدَّ مِنْ تَأْقِيتِهَا مِثْلَ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَنَحْوِهَا، فَهِيَ تَقْبَلُ التَّقْيِيدَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَنَوْعِ الِانْتِفَاعِ. ب- أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَفِيدِ مِنْهُ

6- يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَفِيدِ مِنْهُ إِلَى مِلْكٍ خَاصٍّ، وَإِلَى مِلْكٍ عَامٍّ، فَالْمِلْكُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ فَرْدًا أَمْ جَمَاعَةً.

وَأَمَّا الْمِلْكُ الْعَامُّ فَهُوَ الْمِلْكُ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِهِ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، كَمِلْكِ الْمَاءِ وَالْكَلأَِ وَالنَّارِ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ فِي الْكَلأَِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ».

ج- أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ

7- يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ إِلَى مِلْكٍ اخْتِيَارِيٍّ أَوْ قَهْرِيٍّ.

يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: الْمِلْكُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَحْصُلُ قَهْرًا كَمَا فِي الْمِيرَاثِ وَمَنَافِعِ الْوَقْفِ.

وَالثَّانِي: يَحْصُلُ بِالِاخْتِيَارِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: بِالْأَقْوَالِ، وَيَكُونُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبُيُوعِ، وَفِي غَيْرِهَا كَالْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا، وَالْوُقُوفِ إِذَا اشْتَرَطْنَا الْقَبُولَ.

وَالثَّانِي: يَحْصُلُ بِالْأَفْعَالِ كَتَنَاوُلِ الْمُبَاحَاتِ كَالِاصْطِيَادِ وَالْإِحْيَاءِ.

ثُمَّ فَرَّقَ الزَّرْكَشِيُّ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: وَمِمَّا يَتَخَالَفَانِ فِيهِ- أَعْنِي الِاخْتِيَارِيَّ وَالْقَهْرِيَّ- أَنَّ الِاخْتِيَارِيَّ يُمْلَكُ بِالْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ بِمَا فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَدَاءِ الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا الْقَهْرِيُّ كَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَلَا يُمْلَكُ حَتَّى يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، أَوْ يَرْضَى بِتَأْخِيرِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِذَلِكَ وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ.

وَمِنْهَا: أَنَّ التَّمَلُّكَ الْقَهْرِيَّ يَحْصُلُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا فِي أَمْوَالِ الْكُفَّارِ، بِخِلَافِ الِاخْتِيَارِيِّ.

وَمِنْهَا: أَنَّ التَّمَلُّكَ الْقَهْرِيَّ هَلْ يُشْرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ شُرُوطِهِ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَنَحْوِهَا؟ خِلَافٌ- كَمَا فِي الشُّفْعَةِ، يُؤْخَذُ الشِّقْصُ الَّذِي لَمْ يَرَهُ- عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالِاخْتِيَارِيُّ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَطْعًا.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِيهِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِاخْتِيَارِيِّ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا الصَّيْدُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالِاخْتِيَارِ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلِ الْأَسْبَابُ الْفِعْلِيَّةُ أَقْوَى أَمِ الْقَوْلِيَّةُ أَقْوَى؟ فَقِيلَ: الْفِعْلِيَّةُ أَقْوَى، وَقِيلَ: الْقَوْلِيَّةُ أَقْوَى.

وَقَدْ بَيَّنَ الْقَرَافِيُّ الْفَرْقَ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ فَقَالَ: الْأَسْبَابُ الْفِعْلِيَّةُ تَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ دُونَ الْقَوْلِيَّةِ.فَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِالِاصْطِيَادِ، وَالْأَرْضَ بِالْإِحْيَاءِ، فِي حِينٍ لَا يَمْلِكُ إِنْشَاءَ عُقُودِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْفِعْلِيَّةَ تَعُودُ بِالنَّفْعِ عَلَيْهِ، أَمَّا الْأَسْبَابُ الْقَوْلِيَّةُ فَإِنَّهَا مَوْضِعُ الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُغَابَنَةِ، فَقَدْ تَعُودُ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ، كَمَا أَنَّ فِيهَا طَرَفًا آخَرَ يُنَازِعُهُ وَيُجَاذِبُهُ إِلَى الْغَبْنِ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْعَقْلِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ تَحْقِيقَ مَصْلَحَتِهِ.

د- أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ السُّقُوطِ وَعَدَمِهِ

8- يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ- بِاعْتِبَارِ احْتِمَالِ سُقُوطِهِ وَعَدَمِهِ- إِلَى نَوْعَيْنِ هُمَا:

الْمِلْكُ الْمُسْتَقِرُّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِتَلَفِ الْمَحِلِّ، أَوْ تَلَفِ مُقَابِلِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ.

وَالْمِلْكُ غَيْرُ الْمُسْتَقِرِّ الَّذِي يَحْتَمِلُ ذَلِكَ كَالْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَالثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ.

أَسْبَابُ الْمِلْكِ:

9- لِلْمِلْكِ أَسْبَابُهُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيقِهِ

ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْأَشْبَاهِ أَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ هِيَ:

الْمُعَاوَضَاتُ الْمَالِيَّةُ، وَالْأَمْهَارُ، وَالْخُلْعُ، وَالْمِيرَاثُ، وَالْهِبَاتُ، وَالصَّدَقَاتُ، وَالْوَصَايَا، وَالْوَقْفُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْمُبَاحِ، وَالْإِحْيَاءُ، وَتَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ بِشَرْطِهِ، وَدِيَةُ الْقَتِيلِ يَمْلِكُهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَمِنْهَا الْغُرَّةُ يَمْلِكُهَا الْجَنِينُ فَتُورَثُ عَنْهُ، وَالْغَاصِبُ إِذَا فَعَلَ بِالْمَغْصُوبِ شَيْئًا أَزَالَ بِهِ اسْمَهُ وَعِظَمَ مَنَافِعِهِ مَلَكَهُ، وَإِذَا خُلِطَ الْمِثْلِيُّ بِمِثْلِيٍّ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ مِلْكُهُ.

وَذَكَرَ الْحَصْكَفِيُّ أَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ ثَلَاثَةٌ:

نَاقِلٌ كَبَيْعٍ وَهِبَةٍ، وَخِلَافَةٌ كَإِرْثٍ، وَأَصَالَةٌ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ حَقِيقَةً بِوَضْعِ الْيَدِ، أَوْ حُكْمًا بِالتَّهْيِئَةِ كَنَصْبِ شَبَكَةٍ لِصَيْدِ.

وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ نَقْلًا عَنِ الْكِفَايَةِ أَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ ثَمَانِيَةٌ: الْمِيرَاثُ، وَالْمُعَاوَضَاتُ، وَالْهِبَاتُ، وَالْوَصَايَا، وَالْوَقْفُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالْإِحْيَاءُ، وَالصَّدَقَاتُ.

قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: وَبَقِيَتْ أَسْبَابٌ أُخَرُ، مِنْهَا: تَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ بِشَرْطِهِ، وَمِنْهَا: دِيَةُ الْقَتِيلِ يَمْلِكُهَا أَوَّلًا ثُمَّ تُنْقَلُ لِوَرَثَتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلِذَلِكَ يُوَفَّى مِنْهَا دَيْنُهُ، وَمِنْهَا: الْجَنِينُ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْغُرَّةَ، وَمِنْهَا: خَلْطُ الْغَاصِبِ الْمَغْصُوبَ بِمَالِهِ، أَوْ بِمَالِ آخَرَ لَا يَتَمَيَّزُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ مِلْكَهُ إِيَّاهُ، وَمِنْهَا: الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّيْفَ يَمْلِكُ مَا يَأْكُلُهُ، وَهَلْ يُمْلَكُ بِالْوَضْعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ فِي الْفَمِ، أَوْ بِالْأَخْذِ، أَوْ بِالِازْدِرَادِ يَتَبَيَّنُ حُصُولُ الْمِلْكِ قَبِيلَهُ؟ أَوْجُهٌ.

الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْمِلْكِ:

تَرِدُ عَلَى الْمِلْكِ قُيُودٌ تَتَعَلَّقُ إِمَّا بِالْأَسْبَابِ أَوْ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ بِالِانْتِقَالِ، وَكَذَلِكَ الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ وَلِلْمُتَعَاقِدِ.

أَوَّلًا- الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى أَسْبَابِ الْمِلْكِ

10- تَظْهَرُ هَذِهِ الْقُيُودُ مِنْ خِلَالِ كَوْنِ أَسْبَابِ كَسْبِ الْمِلْكِ فِي الشَّرِيعَةِ مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وَلَيْسَتْ مُطْلَقَةً، وَلِذَلِكَ فَالْوَسَائِلُ الْمُحَرَّمَةُ مِنْ سَرِقَةٍ، وَغَصْبٍ، أَوِ اسْتِغْلَالٍ، أَوْ قِمَارٍ، أَوْ رِبًا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ، حَيْثُ قَطَعَتِ الشَّرِيعَةُ الطَّرِيقَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمِلْكِ، وَمَنَعَتْهَا مَنْعًا بَاتًّا، وَطَالَبَتِ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُهُمْ حَلَالًا طَيِّبًا، وَبِذَلِكَ وَرَدَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ، مِنْهَا قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.حَيْثُ مَنَعَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ الرِّضَا وَالْإِرَادَةِ.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.

وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ».

ثَانِيًا- الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمِلْكِ

11- وَضَعَتِ الشَّرِيعَةُ قُيُودًا عَلَى الْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالِ فَأَوْجَبَتْ عَلَى الْمَالِكِ:

أ- أَنْ لَا يَكُونَ مُبَذِّرًا مُسْرِفًا، وَلَا مُقَتِّرًا بَخِيلًا، قَالَ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}.

وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَجَالِ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَتَضْيِيعِ الْمَالِ بِدُونِ فَائِدَةٍ حَتَّى فِي مَجَالِ الْأَكْلِ، يَقُولُ مُحَمَّدٌ بْنِ حَسَنٍ الشَّيْبَانِيُّ: ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْءِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ مِنَ الْحَلَالِ الْإِفْسَادُ، وَالسَّرَفُ، وَالتَّقْتِيرُ...ثُمَّ السَّرَفُ فِي الطَّعَامِ أَنْوَاعٌ: وَمِنْهُ الِاسْتِكْثَارُ فِي الْمُبَاحَاتِ وَالْأَلْوَانِ.

ب- أَلاَّ يَسْتَعْمِلَ الْمَالِكُ مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، وَمِنْ ذَلِكَ حُرْمَةُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ وَاسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ لَهُمْ وَاسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

ج- وُجُوبُ الاْسْتِنْمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَعَدَمِ تَعْطِيلِ الْأَمْوَالِ حَتَّى تُؤَدِّيَ دَوْرَهَا فِي التَّدَاوُلِ وَالتَّعْمِيرِ، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي تُطَالِبُ بِالْعَمَلِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ بِصِيَغِ الْأَوَامِرِ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وَمِنَ الْأَحَادِيثِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلَا يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ».كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَا لَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الْأُمَّةِ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْحِرَفَ وَالصَّنَائِعَ وَالتِّجَارَةَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لِأَنَّ قِيَامَ الدُّنْيَا بِهَا، وَقِيَامَ الدِّينِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ الْخَلْقُ مِنْهُ أَثِمُوا، وَكَانُوا سَاعِينَ فِي إِهْلَاكِ أَنْفُسِهِمْ، لَكِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى حَثٍّ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبٍ فِيهَا.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكَسْبَ بِقَدْرِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَرِيضَةٌ.

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِنْمَاءٌ ف 10- 17).

د- عَدَمُ الْإِضْرَارِ بِالْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّخْصِ فِي اسْتِعْمَالِهِ مِلْكَهُ أَنْ يَقْصِدَ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْإِضْرَارِ بِأَحَدٍ لَا فِي مَالِهِ، وَلَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي عِرْضِهِ.

وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مُقَابَلَةُ الضَّرَرِ بِالضَّرَرِ وَالْإِتْلَافِ بِالْإِتْلَافِ، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ- وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ- يُمْنَعُ إِذَا أَدَّى إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْآخَرِينَ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْفُقَهَاءُ الْمَالِكَ مِنْ إِشْعَالِ النَّارِ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، مَا دَامَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِحْرَاقُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ الْجِيرَانِ، حَيْثُ يُعْتَبَرُ مُتَعَدِّيًا، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.

12- وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَنْعِ الْجَارِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِضْرَارُ بِالْجَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:

فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَهُمْ مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ مَا دَامَ فِيهِ قَصْدُ الْإِضْرَارِ، أَوْ كَانَ الضَّرَرُ فَاحِشًا، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ فَيُمْنَعُ، وَغَيْرُ الْفَاحِشِ الَّذِي لَا يُمْنَعُ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ، وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَكَمَا مَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِضْرَارَ بِالْأَفْرَادِ مَنَعَتِ الْإِضْرَارَ بِالْمُجْتَمَعِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَتِ الِاحْتِكَارَ وَالرِّبَا، وَالْمُتَاجَرَةَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى الْفَسَادِ.

ثَالِثًا- الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عِنْدَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ شُرُوطًا وَضَوَابِطَ، وَجَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ وَسَائِلَ الِانْتِقَالِ- كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ- فِي الرِّضَا وَالْإِرَادَةِ، بَلِ اشْتَرَطَتْ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا غَيْرَ مَشُوبٍ بِعُيُوبِ الرِّضَا وَعُيُوبِ الْإِرَادَة، مِنَ الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ وَالِاسْتِغْلَالِ وَالْإِكْرَاهِ وَالْغَلَطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَلِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ» وَقَوْلِهِ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ».

وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَحَ (رِضًا ف 13 وَمَا بَعْدَهَا).

كَذَلِكَ حَدَّدَ الْفُقَهَاءُ إِرَادَةَ الْمَالِكِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ بِالثُّلُثِ إِذَا كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ عَطَاءً وَهِبَةً، أَوْ مُحَابَاةً، أَوْ وَصِيَّةً.

ر: مُصْطَلَحَ (مَرَضُ الْمَوْتِ).

وَقَدْ قَيَّدَتِ الشَّرِيعَةُ إِرَادَةَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي فِيهَا ضَرَرٌ، أَوْ مِنْ شَأْنُهَا الضَّرَرُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُرَاجَعُ فِيهِ مُصْطَلَحُ: (حَجْرٌ، سَفَهٌ ف 26 وَمَا بَعْدَهَا). وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْمَوْتِ فَإِنَّ جَمِيعَ أَمْوَالِ الْمَيِّتِ تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ حَسَبَ قَوَاعِدِ الْفَرَائِضِ، كَمَا أَنَّ وَصِيَّتَهُ تُنَفَّذُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَتَنْتَقِلُ إِلَى الْمُوصَى إِلَيْهِمْ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (إِرْثٌ ف 14، وَصِيَّةٌ).

رَابِعًا- الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ:

أَعْطَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَلِيَّ الْأَمْرِ حَقَّ وَضْعِ قُيُودٍ عَلَى الْمِلْكِ وَمِنْ ذَلِكَ:

الْأَوَّلُ- تَقْيِيدُ الْمِلْكِ الْخَاصِّ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ

14- تُقِرُّ الشَّرِيعَةُ الْمِلْكَ لِلْأَفْرَادِ وَتَحْمِيهِ وَتَصُونَهُ، وَمِعْيَارُ تَقْيِيدِهِ فِيهَا يَقُومُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِنَّمَا تَعُمُّ الْمُجْتَمَعَ، يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ: لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ.

فَحَقُّ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِصَاحِبِهِ، وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا يَشَاءُ، إِلاَّ أَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَصُونٌ وَمُحَافَظٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، فَمُرَاعَاةُ مَصَالِحِ الْآخَرِينَ قَيْدٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُقُوقِ وَمِنْهَا الْمِلْكُ، يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ: لِأَنَّ طَلَبَ الْإِنْسَانِ لِحَظِّهِ حَيْثُ أُذِنَ لَهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ.

وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْعِ الْعَامِّ.

الثَّانِي- الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ عَلَى حَقِّ التَّمَلُّكِ:

وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مَا يَلِي:

أ- إِحْيَاءُ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ بِالْإِحْيَاءِ دُونَ إِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إِذْنُ الْإِمَامِ لِتَمَلُّكِهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِحْيَاءِ إِذْنُ الْإِمَامِ.

وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 14).

ب- تَمَلُّكُ الْمَعَادِنِ

16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ جَامِدَةً أَمْ سَائِلَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ ظَاهِرَةً أَمْ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ مِلْكًا خَاصًّا أَمْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَهِيَ مِلْكٌ لِلدَّوْلَةِ (جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ) تَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ بِتَأْجِيرِهَا لِمُدَّةِ مَعْلُومَةٍ، أَوْ إِقْطَاعِهَا لَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ.

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ، حَيْثُ لَا تُمْلَكُ عِنْدَهُمْ بِالْإِحْيَاءِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِضْرَارًا بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، فَلَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ عَلَى الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 29)

ج- الْحِمَى:

17- الْحِمَى حَيْثُ هُوَ قَيْدٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْمُوا لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا مَوَاضِعَ لِتَرْعَى فِيهَا خَيْلُ الْمُجَاهِدِينَ، وَنَعَمُ الْجِزْيَةِ وَإِبِلُ الصَّدَقَةِ وَضَوَالُّ النَّاسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ مَنْ سِوَاهُمْ.

ثُمَّ إِنَّ الْحِمَى نَفْسَهُ مُقَيَّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّوَسُّعُ فِيهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 21، وَحِمًى ف 6).

الثَّالِثُ- الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ عَلَى حَقِّ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ:

لِوَلِيِّ الْأَمْرِ الْحَقُّ فِي تَقْيِيدِ تَصَرُّفَاتِ الْمَالِكِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ دُونَ ضَرَرٍ وَلَا ضِرَارٍ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أ- التَّسْعِيرُ:

18- التَّسْعِيرُ هُوَ تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ لِلنَّاسِ سِعْرًا وَإِجْبَارُهُمْ عَلَى التَّبَايُعِ بِمَا قَدَّرَهُ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّسْعِيرِ هُوَ الْحُرْمَةُ، أَمَّا جَوَازُ التَّسْعِيرِ فَمُقَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِشُرُوطِ مُعَيَّنَةٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَسْعِيرٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا).

ب- الِاحْتِكَارُ:

19- الِاحْتِكَارُ هُوَ شِرَاءُ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ، وَحَبْسُهُ إِلَى الْغَلَاءِ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِكَارَ بِالْقُيُودِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ مَحْظُورٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِإِخْرَاجِ مَا احْتَكَرَ إِلَى السُّوقِ وَبَيْعِهِ لِلنَّاسِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٌ ف 12).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


59-موسوعة الفقه الكويتية (موت 2)

مَوْتٌ -2

ثَانِيًا- الدِّيَةُ وَأَرْشُ الْأَطْرَافِ:

20- الدِّيَةُ وَالْأَرْشُ كِلَاهُمَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَجِبُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَدَلَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ.

وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الدِّيَةَ عَلَى الْمَالِ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَالْأَرْشَ عَلَى الْمَالِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْأَطْرَافِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا، أَرْشٌ ف 1).

وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ الدِّيَةَ وَالْأَرْشَ تَكُونَانِ عَلَى الْجَانِي فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْخَطَأِ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَثَ أَنْ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ تُوُفِّيَ بَعْدَ مَا وَجَبَ لَهُ الْحَقُّ فِي الْأَرْشِ، فَمَا هُوَ مُصِيرُ هَذَا الْحَقِّ هَلْ يُعْتَبَرُ مِلْكًا لَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِ، بِحَيْثُ تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمْ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي تَمَلُّكِهِ، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ دُونَهُ، بِحَيْثُ لَا تُوَفَّى مِنْهُ دُيُونُهُ وَلَا يُنَفَّذُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ وَصَايَاهُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَالٌ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ، وَنَفْسُهُ لَهُ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا، وَلِأَنَّ بَدَلَ أَطْرَافِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَهُ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَجُوزُ تَجَدُّدُ الْمِلْكِ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً وَنَحْوَهَا فَسَقَطَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ...وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنَّهُ تُسَدَّدُ مِنْهَا دُيُونُهُ، وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ، وَتُقْضَى مِنْهَا سَائِرُ حَوَائِجِهِ مِنْ تَجْهِيزٍ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ حَسَبَ قَوَاعِدِ الْإِرْثِ.

وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- نَشَدَ النَّاسَ بِمِنًى: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الدِّيَةِ أَنْ يُخْبِرَنِي، فَقَامَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ فَقَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا...فَقَضَى عُمَرُ بِذَلِكَ».قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ أَشْيَمُ قُتِلَ خَطَأً.

قَالَ الْبَاجِيُّ: اقْتَضَى ذَلِكَ تَعَلُّقَ هَذَا الْحُكْمِ بِقَتْلِ الْخَطَأِ، إِلاَّ أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلِمْنَاهُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ دِيَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَأَنَّهَا كَسَائِرِ مَالِ الْمَيِّتِ، يَرِثُ مِنْهَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ.

وَعَلَّقَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَثَرِ عُمَرَ وَقَضَائِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنْ يَرِثَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَنْ وَرِثَ مَا سِوَاهَا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهَا تُمْلَكُ عَنِ الْمَيِّتِ، وَبِهَذَا نَأْخُذُ، فَنُوَرِّثُ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَنْ وَرِثَ مَا سِوَاهَا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِذَا مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَقَدْ وَجَبَتْ دِيَتُهُ، فَمَنْ مَاتَ مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَتْ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ دِيَتِهِ، كَأَنَّ رَجُلًا جَنَى عَلَيْهِ فِي صَدْرِ النَّهَارِ فَمَاتَ، وَمَاتَ ابْنٌ لَهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَأُخِذَتْ دِيَةُ أَبِيهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَمِيرَاثُ الِابْنِ الَّذِي عَاشَ بَعْدَهُ سَاعَةً قَائِمٌ فِي دِيَتِهِ، كَمَا يَثْبُتُ فِي دَيْنٍ لَوْ كَانَ لِأَبِيهِ، وَكَذَلِكَ امْرَأَتُهُ وَغَيْرُهَا مِمَّنْ يَرِثُهُ إِذَا مَاتَ.

وَالثَّانِي: لِإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ وَشَرِيكٍ وَهُوَ أَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً، وَلَا تَكُونُ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ أَصْلًا، إِذِ الْمَقْتُولُ لَا تَجِبُ دِيَتُهُ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ بَطَلَ مِلْكُهُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ، وَلَا أَنْ تُنَفَّذَ مِنْهَا وَصَايَاهُ.

وَقَدْ جَاءَ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ: أَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ حَدَثَ لِلْأَهْلِ بَعْدَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ، وَلَمْ يَرِثُوهُ عَنْهُ قَطُّ، إِذْ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ، فَكَانَ مِنَ الْبَاطِلِ أَنْ يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْ مَالِ الْوَرَثَةِ الَّذِي لَمْ يَمْلِكْهُ هُوَ قَطُّ فِي حَيَاتِهِ، وَأَنْ تُنَفَّذَ مِنْهُ وَصِيَّتُهُ...ثُمَّ إِنَّهُ بِالْمَوْتِ تَزُولُ أَمْلَاكُ الْمَيِّتِ الثَّابِتَةُ لَهُ، فَكَيْفَ يَتَجَدَّدُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِلْكٌ؟ وَلِهَذَا لَا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ مِنْ مَالِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنَّمَا يُوصِي بِجُزْءٍ مِنْ مَالٍ لَا بِمَالِ وَرَثَتِهِ.

ثَالِثًا- حُقُوقُ الِارْتِفَاقِ

21- حَقُّ الِارْتِفَاقِ عِبَارَةٌ عَنْ حَقٍّ مُقَرَّرٍ عَلَى عَقَارٍ لِمَنْفَعَةِ عَقَارٍ آخَرَ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِ مَالِكِ الْعَقَارِ الْأَوَّلِ، وَتَشْمَلُ حُقُوقُ الِارْتِفَاقِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: حَقَّ الشُّرْبِ، وَحَقَّ الْمَجْرَى، وَحَقَّ الْمَسِيلِ، وَحَقَّ الْمُرُورِ، وَحَقَّ التَّعَلِّي، وَحَقَّ الْجِوَارِ.

وَحُقُوقُ الِارْتِفَاقِ لَيْسَتْ بِمُفْرَدِهَا مَالًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّهَا أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ حَوْزُهَا وَادِّخَارُهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا وَهِبَتِهَا اسْتِقْلَالًا، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهَا حُقُوقًا مَالِيَّةً لِتَعَلُّقِهَا بِأَعْيَانٍ مَالِيَّةٍ، وَمِنْ هُنَا أَجَازُوا بَيْعَهَا تَبَعًا لِلْعَقَارِ الَّذِي ثَبَتَتْ لِمَنْفَعَتِهِ.

أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَقَدِ اعْتَبَرُوهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْوَالِ، وَأَجَازُوا- فِي الْجُمْلَةِ- بَيْعَهَا وَهِبَتَهَا اسْتِقْلَالًا.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ تَبَعًا لِلْعَقَارِ الَّذِي ثَبَتَتْ لِمَصْلَحَتِهِ، لِأَنَّهُ حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ، فِيهَا مَعْنَى الْمَالِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَعْيَانٍ مَالِيَّةٍ، وَلِهَذَا فَلَا تَأْثِيرَ لِلْمَوْتِ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهَا أَمْوَالٌ ذَاتُهَا أَوْ حُقُوقٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَعْيَانٍ مَالِيَّةٍ.

رَابِعًا- حُقُوقُ الْمُرْتَهِنِ:

22- الرَّهْنُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي يُجْعَلُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ، لِيُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ.وَبِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِالرَّهْنِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ بِحَيْثُ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ دُيُونٌ أُخْرَى لَا تَفِي بِهَا أَمْوَالُهُ، وَبِيعَ الرَّهْنُ لِسَدَادِ مَا عَلَيْهِ، كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهِ أَوَّلًا، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَهُوَ لِبَقِيَّةِ الْغُرَمَاءِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حُقُوقَ الْمُرْتَهِنِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَالْمَيِّتُ الَّذِي لَهُ دَيْنٌ بِهِ رَهْنٌ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ بِرَهْنِهِ، وَتَبْقَى الْعَيْنُ رَهْنًا عِنْدَهُمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا سَائِرُ حُقُوقِ الْمُرْتَهِنِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.

23- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى حُقُوقِ الْمُرْتَهِنِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ قَبْضِ الرَّهْنِ، هَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ أَمْ تَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ قَبْضِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَلْزَمُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ أَنْ يَلْزَمَ عَقْدُ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ حُقُوقَ الْمُرْتَهِنِ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِمُ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ مَتَى طَلَبُوا ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاخَى الْإِقْبَاضُ حَتَّى يُفْلِسَ الرَّاهِنُ أَوْ يَمْرَضَ أَوْ يَمُوتَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّهْنَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبْضٍ.

خَامِسًا- حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ

24- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الْمَبِيعِ وَالِامْتِنَاعَ عَنْ تَسْلِيمِهِ لِلْمُشْتَرِي حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ إِذَا كَانَ حَالًّا، أَوِ الْقَدْرَ الْحَالَّ مِنْهُ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ مُؤَجَّلًا أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ، اعْتِبَارًا لِتَرَاضِيهِمَا عَلَى تَأْخِيرِهِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا حَالًّا، أَيْ مَالًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَلَا مُؤَجَّلٍ، وَكَانَ حَاضِرًا مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ، فَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ لِقَبْضِ الثَّمَنِ.

وَلَمَّا كَانَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، أَيِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ، فَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْحَقِّ إِذَا مَاتَ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ- كَسَائِرِ أَعْيَانِهِ الْمَالِيَّةِ- وَلَا يَكُونُ لِلْمَوْتِ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ.

أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ الْمَحْضَةِ

25- الْحُقُوقُ الشَّخْصِيَّةُ الْمَحْضَةُ هِيَ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ شَخْصِهِ وَذَاتِهِ وَمَا يَتَوَفَّرُ فِيهِ مِنْ صِفَاتٍ وَمَعَانٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، مِثْلُ حَقِّ الْحَضَانَةِ، وَحَقِّ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَحَقِّ الْمُظَاهِرِ فِي الْعَوْدِ، وَحَقِّ الْفَيْءِ بَعْدَ الْإِيلَاءِ، وَحَقِّ أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ فِي وَظَائِفِهِمْ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ ذَوِيهَا أَوْ أَصْحَابِهَا وَلَا تُورَثُ عَنْهُمْ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَرِكَةٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا، وَظِيفَةٌ).

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَبَيَانِ تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمَقْذُوفِ عَلَى هَذَا الْحَقِّ

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قَذْفٌ ف 44).

أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْحُقُوقِ الشَّبِيهَةِ بِالْحَقَّيْنِ الْمَالِيِّ وَالشَّخْصِيِّ

26- نَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ تَجْمَعُ بَيْنَ شَبَهَيْنِ، شَبَهٌ بِالْحَقِّ الْمَالِيِّ، وَشَبَهٌ بِالْحَقِّ الشَّخْصِيِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ حَتَّى تَلْحَقَ بِهِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى هَذِهِ الْحُقُوقِ.

أَوَّلًا- حَقُّ الْخِيَارِ:

27- يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُ الْمَوْتِ عَلَى حُقُوقِ الْخِيَارَاتِ بِحَسَبِ نَوْعِ الْخِيَارِ الثَّابِتِ لِلْعَاقِدِ وَطَبِيعَتِهِ وَاجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ فِي تَغْلِيبِ شَبَهِهِ بِالْحَقِّ الْمَالِيِّ أَوِ الْحَقِّ الشَّخْصِيِّ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- خِيَارُ الْمَجْلِسِ:

28- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى هَذَا الْخِيَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَهُوَ انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي 92 الْمَذْهَبِ، 92 وَهُوَ سُقُوطُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ.

وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ وُقُوعِ الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمَيِّتِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَيْنَ عَدَمِ تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ، حَيْثُ يَنْتَقِلُ الْخِيَارُ إِلَى الْوَارِثِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (خِيَارٌ ف 13).

ب- خِيَارُ الْقَبُولِ:

29- خِيَارُ الْقَبُولِ: هُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ فِي الْقَبُولِ أَوْ عَدَمِهِ فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ صُدُورِ الْإِيجَابِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ سُقُوطُ خِيَارِ الْقَبُولِ وَانْتِهَاؤُهُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ مَوْتَ الْمُوجِبِ يُسْقِطُ إِيجَابَهُ، وَأَمَّا مَوْتُ الَّذِي خُوطِبَ بِالْإِيجَابِ، فَلِأَنَّ حَقَّ الْقَبُولِ لَا يُورَثُ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ خِيَارَ الْقَبُولِ يُورَثُ وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ.

ج- خِيَارُ الْعَيْبِ:

30- خِيَارُ الْعَيْبِ: وَهُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي رَدِّ الْمَبِيعِ بِسَبَبِ وُجُودِ وَصْفٍ مَذْمُومٍ فِيهِ يَنْقُصُ الْعَيْنَ أَوِ الْقِيمَةَ نُقْصَانًا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَيَغْلِبُ فِي جَنْسِهِ عَدَمُهُ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِهِ بِالْأَعْيَانِ الْمَالِيَّةِ وَلُصُوقِهِ بِهَا.

قَالَ الشِّيرَازِيُّ: انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ يَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ فَانْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الثَّمَنُ.

د- خِيَارُ الشَّرْطِ:

31- خِيَارُ الشَّرْطِ: هُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالِاشْتِرَاطِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا يُخَوِّلُ صَاحِبَهُ فَسْخَ الْعَقْدِ خِلَالَ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.

أَحَدُهَا: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بِاعْتِبَارِهِ مِنْ مُشْتَمِلَاتِ التَّرِكَةِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِإِصْلَاحِ الْمَالِ، كَالرَّهْنِ وَحَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ أَصِيلًا أَمْ نَائِبًا، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: لِأَنَّ الْخِيَارَ صِفَةٌ لِلْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ.

وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَبَيْنَ عَدَمِهَا، قَالُوا: فَإِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْخِيَارِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَمْ يُورَثْ عَنْهُ، أَمَّا إِذَا طَالَبَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ إِلاَّ بِالْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمُشْتَرِطِ فِي حَيَاتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (خِيَارُ الشَّرْطِ ف 54).

هـ- خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:

32- خِيَارُ الرُّؤْيَةِ: هُوَ حَقٌّ يُثْبِتُ لِلْمُتَمَلِّكِ الْفَسْخَ أَوِ الْإِمْضَاءَ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَحَلِّ الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، بِاعْتِبَارِهِ لِمُطْلَقِ التَّرَوِّي لَا لِتَحَاشِي الضَّرَرِ أَوِ الْخُلْفِ فِي الْوَصْفِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَنْظُرَ الْمُشْتَرِي: هَلْ يَصْلُحُ لَهُ الْمَبِيعُ أَمْ لَا؟ وَمَعَ اعْتِبَارِهِمْ إِيَّاهُ خِيَارًا حُكْمِيًّا مِنْ جِهَةِ الثُّبُوتِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِالْإِرَادَةِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالُ، وَالْحُقُوقُ الْمُرْتَبِطَةُ بِمَشِيئَةِ الْعَاقِدِ لَا تُورَثُ، لِأَنَّ انْتِقَالَهَا إِلَى الْوَارِثِ يَعْنِي نَقْلَ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ.

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ.

و- خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ:

33- خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ هُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي فَسْخِ الْعَقْدِ لِتَخَلُّفِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ اشْتَرَطَهُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْخِيَارُ يُورَثُ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ ف 13).

ز- خِيَارُ التَّعْيِينِ:

34- خِيَارُ التَّعْيِينِ: وَهُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَحَدِهَا شَائِعًا خِلَالَ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ.

وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ مَحَلِّ الْخِيَارِ، ذَلِكَ أَنَّ لِمُوَرِّثِهِ مَالًا ثَابِتًا ضِمْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْخِيَارِ، فَوَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَ مَا يَخْتَارُهُ وَيَرُدَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَى مَالِكِهِ.

ح- خِيَارُ التَّغْرِيرِ:

35- خِيَارُ التَّغْرِيرِ هُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخِ لِتَعَرُّضِهِ لِأَقْوَالٍ مُوهِمَةٍ مِنَ الْبَائِعِ دَفَعَتْهُ لِلتَّعَاقُدِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كَوْنِهِ مَوْرُوثًا، فَاسْتَظْهَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَأَقَرَّهُ الْحَصْكَفِيُّ- أَنَّ خِيَارَ التَّغْرِيرِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، وَهِيَ لَا تُورَثُ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا بَحَثَهُ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنَّ خِيَارَ ظُهُورِ الْخِيَانَةِ لَا يُورَثُ، لِتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، بَلْ هُنَاكَ مَا يَجْعَلُ نَفْيَ تَوْرِيثِهِ بِالْأَوْلَى، لِأَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ الْخِدَاعِ، فَإِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ الْمَلْفُوظِ بِهِ لَا يُورَثُ، فَكَيْفَ يُورَثُ غَيْرُ الْمَلْفُوظِ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ.

وَفِي رَأْيٍ أَنَّهُ يُورَثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.

ط- خِيَارُ النَّقْدِ:

36- خِيَارُ النَّقْدِ: هُوَ حَقٌّ يَشْتَرِطُهُ الْعَاقِدُ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْفَسْخِ عِنْدَ عَدَمِ نَقْدِ الْبَدَلِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُورَثُ، بَلْ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، لِأَنَّهُ وَصْفٌ لَهُ، وَالْأَوْصَافُ لَا تُورَثُ، وَأُسْوَةٌ بِأَصْلِهِ وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُورَثُ عِنْدَهُمْ.

وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُقُوطِهِ أَوْ إِرْثِهِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ أَصْلًا.

ثَانِيًا- حَقُّ الشُّفْعَةِ:

37- الشُّفْعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ فِي الْعَقَارِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ صَاحِبُ حَقِّ الشُّفْعَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا، هَلْ يَنْتَقِلُ ذَلِكَ الْحَقُّ لِوَرَثَتِهِ، أَمْ يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِمَوْتِهِ؟ وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ حَقٌّ مَالِيٌّ، فَيُورَثُ عَنِ الْمَيِّتِ كَمَا تُورَثُ أَمْوَالُهُ، وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ.

الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّفِيعَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مُجَرَّدُ خِيَارٍ فِي التَّمَلُّكِ، وَهِيَ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ فِي الْأَخْذِ أَوِ التَّرْكِ، وَذَلِكَ لَا يُورَثُ إِلاَّ إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِهَا أَوْ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِهَا.

الثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، لِأَنَّهُ نَوْعُ خِيَارٍ شُرِعَ لِلتَّمْلِيكِ، أَشْبَهَ الْإِيجَابَ قَبْلَ قَبُولِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ عَلَى الشُّفْعَةِ، لِاحْتِمَالِ رَغْبَتِهِ عَنْهَا، فَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ مَا شُكَّ فِي ثُبُوتِهِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ طَلَبِهِ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ تَنْتَقِلُ لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الطَّلَبَ يَنْتَقِلُ بِهِ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَةٌ ف 51).

ثَالِثًا- حَقُّ الْمَالِكِ فِي إِجَازَةِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ

38- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَالِكَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ إِجَازَتِهِ لِعَقْدِ الْفُضُولِيِّ الْمَوْقُوفِ عَلَى إِجَازَتِهِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْإِجَازَةِ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِنَ الْمَالِكِ لَا مِنْ وَارِثِهِ وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ فِي الْقِسْمَةِ، فَمَعَ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْإِجَازَةِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا ثُمَّ إِعَادَتِهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَالْقِيَاسُ بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ بِمَوْتِهِ، وَعَدَمُ انْتِقَالِهَا لِلْوَارِثِ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مُبَادَلَةٌ كَالْبَيْعِ.

رَابِعًا- اسْتِحْقَاقُ الْمَنَافِعِ بِمُوجِبِ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ

39- الْمَنْفَعَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هِيَ الْفَائِدَةُ الْعَرَضِيَّةُ الَّتِي تُنَالُ مِنَ الْأَعْيَانِ بِطَرِيقِ اسْتِعْمَالِهَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الشَّخْصُ فِي- عَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ بِمُوجِبِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ أَوِ الْإِعَارَةِ أَوِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ، هَلْ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِيهَا بِالْمَوْتِ أَمْ أَنَّهَا تُورَثُ عَنْهُ؟ وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- الْإِجَارَةُ:

40- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَنَافِعِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَإِسْحَاقَ وَالْبَتِّيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ أَمَدِ الْإِجَارَةِ، فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا يَنْفَسِخُ مَوْتُ الْعَاقِدِ مَعَ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ، وَهِيَ مَالٌ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ.

الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إِلاَّ فِيمَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ، لِيَكُونَ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَيَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي، وَالْمَنْفَعَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تَبْقَى لِتُورَثَ، وَالَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ لِيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهَا، إِذِ الْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ، وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ تَعَيَّنَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ.

ب- الْإِعَارَةُ:

41- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ مَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَنَافِعِ فِي الْعَارِيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْمُسْتَعِيرِ بِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ حَقٌّ شَخْصِيٌّ، يَنْتَهِي بِوَفَاةِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِعَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ، وَيَجِبُ عَلَى وَرَثَتِهِ رَدُّ الْعَارِيَةِ فَوْرًا إِلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْهَا.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِعَارَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مُطْلَقَةً، فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَسْتَحِقُّ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ أَوِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ عَادَةً عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَعِيرُ قَبْلَ انْتِهَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْمَنْفَعَةِ فِي الْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا اشْتَرَطَ الْمُعِيرُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِنَفْسِهِ فَقَطْ، فَحِينَئِذٍ لَا تُورَثُ عَنْهُ الْمُدَّةَ الْمُتَبَقِّيَةَ، لِأَنَّ فِيهَا يُعْتَبَرُ حَقًّا شَخْصِيًّا.

ج- الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ:

42- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ أَمَدِهَا، هَلْ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَوْتِهِ، أَمْ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ حَتَّى نِهَايَةِ مُدَّتِهَا؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا تَبَقَّى مِنْ مُدَّةِ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصَى لَهُ بِهَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ، بَلْ تَعُودُ الْعَيْنُ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوصِي قَدْ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَ هَذَا الْحَقُّ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ حَتَّى يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّوَارُثِ.

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ يَمْلِكُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا مَاتَ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ فِيمَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْمُدَّةِ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ أَوْ كَانَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ لِأَنَّهَا مَالٌ، فَتُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ.

وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ حَالَةَ مَا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ مُقَيَّدَةً بِحَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعْتَبَرُ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِهَا حَقًّا شَخْصِيًّا، فَيَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ.

خَامِسًا- أَجَلُ الدُّيُونِ:

43- الْأَجَلُ فِي الدُّيُونِ حَقٌّ لِلْمَدِينِ، وَمَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ فَلَيْسَ لِلدَّائِنِ مُطَالَبَتُهُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِهِ، فَإِذَا مَاتَ فَهَلْ يَبْطُلُ الْأَجَلُ وَيَحِلُّ الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ، أَمْ يَبْقَى ثَابِتًا كَمَا هُوَ وَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَجَلَ يَسْقُطُ، وَيَحِلُّ الدَّيْنُ بِمَوْتِ الْمَدِينِ، وَتَنْقَلِبُ جَمِيعُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ الَّتِي عَلَيْهِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ آجَالُهَا حَالَّةً بِمَوْتِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَسوَّارٌ وَالثَّوْرِيُّ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحِ التَّوَارُثَ إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَالْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ لَا يُرِيدُوا أَنْ يُؤَخِّرُوا حُقُوقَهُمْ فِي الْمَوَارِيثِ إِلَى مَحِلِّ أَجَلِ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُجْعَلَ الدَّيْنُ حَالًّا، وَإِمَّا أَنْ يَرْضَوْا بِتَأْخِيرِ مِيرَاثِهِمْ حَتَّى تَحِلَّ الدُّيُونُ، فَتَكُونُ الدُّيُونُ حِينَئِذٍ مَضْمُونَةً فِي التَّرِكَةِ خَاصَّةً لَا فِي ذِمَمِهِمْ وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوِ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَلَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا، وَلَا ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ، وَلَا رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَتَأْجِيلُهُ، لِأَنَّهُ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلَا نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِالْمَوْتِ فِيهِمَا، وَهِيَ:

أ- إِذَا قُتِلَ إِلَى الدَّائِنِ الْمَدِينُ، فَإِنَّ دَيْنَهُ لَا يَحِلُّ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَعْجَلَهُ قَبْلَ أَوَانِهِ فَعُوقِبَ بِالْحِرْمَانِ.

ب- إِذَا اشْتَرَطَ الْمَدِينُ عَلَى الدَّائِنِ أَنْ لَا يَحِلَّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ، فَيُعْمَلُ بِالشَّرْطِ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمَدِينِ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُوَثَّقْ بِذَلِكَ حَلَّ، لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَدْ لَا يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ.

وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْتَ مَا جُعِلَ مُبْطِلًا لِلْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيقَاتٌ لِلْخِلَافَةِ، وَعَلَامَةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَعَلَى هَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمُفْلِسِ عِنْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ الْتِزَامَ الدَّيْنِ وَأَدَاءَهُ لِلْغَرِيمِ عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي الْمَالِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الْغَرِيمُ، أَوْ يُوَثِّقُوا الْحَقَّ بِضَمِينٍ مَلِيءٍ أَوْ رَهْنٍ يَثِقُ بِهِ لِوَفَاءِ حَقِّهِ.

وَالثَّالِثُ: رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَحِلُّ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يُوَثِّقِ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمُ الدَّيْنَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ، فَيُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالزُّهْرِيُّ وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ.

سَادِسًا- حَقُّ التَّحْجِيرِ:

44- وَهُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ لِمَنْ قَامَ بِوَضَعِ عَلَامَاتٍ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ- سَوَاءٌ بِنَصْبِ أَحْجَارٍ أَوْ غَرْزِ أَخْشَابٍ عَلَيْهَا أَوْ حَصَادِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَشِيشِ وَالشَّوْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ- لِيَصِيرَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا لِسَبْقِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ حَدَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَهُ أَمَدًا مُعَيَّنًا يَنْتَهِي فِيهِ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ خِلَالَهُ، وَهُوَ ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ لِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.

وَالْمُتَحَجِّرُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ نِهَايَةِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ لِاحْتِجَارِهِ، فَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِمَوْتِهِ، أَمْ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ إِلَى وَرَثَتِهِ؟

نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ يُورَثُ، وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمُتَحَجِّرِ، وَيَكُونُ وَرَثَتُهُ أَحَقَّ بِالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِهِمْ.وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، إِذِ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنْ تُورَثَ الْحُقُوقُ كَالْأَمْوَالِ، إِلاَّ إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى مُفَارَقَةِ الْحَقِّ لِمَعْنَى الْمَالِ، وَحَقُّ التَّحْجِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ، لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، فَكَانَ مَوْرُوثًا.

سَابِعًا- حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ:

45- الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ: هِيَ الَّتِي فُرِضَ الْخَرَاجُ عَلَى الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، سَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، وَالْخَرَاجُ: هُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرِ الْعُشْرِيَّةِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ.

وَيَعْتَبِرُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةَ مَوْقُوفَةً عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَقُولُونَ: هِيَ مِلْكٌ لِأَصْحَابِهَا، وَلَهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهَا بِسَائِرِ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُورَثُ عَنْهُمْ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ، إِذْ لَيْسَ حَقُّ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا إِلاَّ أَثَرًا مِنْ آثَارِ ثُبُوتِ مَلَكِيَّتِهِمْ عَلَيْهَا.

وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِوَقْفِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُنْتَفِعِينَ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنَ الْفَلاَّحِينَ وَنَحْوِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، وَلَكِنْ لَهُمْ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي مُقَابِلِ دَفْعِ خَرَاجِهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْتِقَالِ هَذَا الْحَقِّ لِوَرَثَتِهِمْ بِالْمَوْتِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْمَنْفَعَةِ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ يُورَثُ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُنْتَفِعُ بِهَا انْتَقَلَ الْحَقُّ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ مَوْرُوثٌ.

وَالثَّانِي: لِمُتَقَدِّمِي فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِالْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ إِذَا مَاتَ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلَا تُورَثُ عَنْهُ، وَيَكُونُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ بَعْدِهِ لِمَنْ يَشَاءُ، بِحَسَبِ مُقْتَضَيَاتِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


60-موسوعة الفقه الكويتية (موت 4)

مَوْتٌ -4

ثَانِيًا- الِالْتِزَامَاتُ غَيْرُ الْمَالِيَّةِ:

أ- الْحَجُّ الْوَاجِبُ:

61- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ مَاتَ بَعْدَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهِ، هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ بِمَوْتِهِ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ بِمَوْتِهِ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْءٌ لِأَجْلِ الْحَجِّ عَنْهُ، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْفُذُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ.

وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا يَنُوبُ فِيهَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، فَلَا يُصَلِّي شَخْصٌ عَنْ آخَرَ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ، وَهُوَ مَدْلُولُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}.

أَمَّا مَنْ أَمَرَ بِالْحَجِّ عَنْهُ أَوْ أَوْصَى بِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ فِيهِ سَعْيٌ.

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ، أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَيَلْزَمُ وَارِثَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ إِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا، فَإِنَّ الْحَجَّ يَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَلْزَمُ وَارِثَهُ، شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ- رضي الله عنه- «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا، قَالَ: حُجِّي عَنْهَا» وَمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ»،، وَأَيْضًا بِأَنَّ الْحَجَّ حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِ، وَقَدْ لَزِمَهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.

ب- الصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ:

62- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ وَاجِبَةٌ، سَقَطَتْ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِمَوْتِهِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ، فَلَا يَنُوبُ أَحَدٌ عَنِ الْمَيِّتِ فِي أَدَائِهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِبَادَاتِ- كَمَا يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ- الْخُضُوعُ لِلَّهِ وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ وَالتَّذَلُّلُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالِانْقِيَادُ تَحْتَ حُكْمِهِ وَعِمَارَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِهِ، حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ حَاضِرًا مَعَ اللَّهِ وَمُرَاقِبًا لَهُ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ سَاعِيًا فِي مَرْضَاتِهِ وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ، وَالنِّيَابَةُ تُنَافِي هَذَا الْمَقْصُودَ وَتُضَادُّهُ، لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ عَبْدًا وَلَا الْمَطْلُوبُ بِالْخُضُوعِ وَالتَّوَجُّهِ خَاضِعًا وَلَا مُتَوَجِّهًا إِذَا نَابَ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا قَامَ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ، فَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْخَاضِعُ الْمُتَوَجِّهُ، وَالْخُضُوعُ وَالتَّوَجُّهُ وَنَحْوُهُمَا إِنَّمَا هُوَ اتِّصَافٌ بِصِفَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالِاتِّصَافُ لَا يَعْدُو الْمُتَّصِفَ بِهِ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.

غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِذَا أَوْصَى مَنْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ فَائِتَةٌ بِالْكَفَّارَةِ، فَيَلْزَمُ وَلِيَّهُ- وَهُوَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِوِلَايَةٍ أَوْ وِرَاثَةٍ- أَنْ يُعْطِيَ عَنْهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَالْفِطْرَةِ، وَذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ سَقَطَتْ عَنْهُ تِلْكَ الصَّلَوَاتُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِلتَّعَذُّرِ وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ- عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ- يُطْعِمُ الْوَلِيُّ عَنْ كُلِّ صَلَاةٍ فَائِتَةٍ مُدًّا.

ج- الصَّوْمُ الْوَاجِبُ:

63- الصَّوْمُ الْوَاجِبُ شَرْعًا عَلَى صُنُوفٍ، فَمِنْهُ مَا يَجِبُ مُحَدَّدًا بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ، كَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ عَامٍ، وَمِنْهُ مَا يَجِبُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارَاتٍ أُخْرَى كَصَوْمِ الْكَفَّارَاتِ بِأَنْوَاعِهَا- كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ- وَصَوْمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالْحَلْقِ وَالْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ، وَمِنْهُ مَا يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَمِنْهُ مَا يَجِبُ بِغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ- كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ- إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهِ إِمَّا لِضِيقِ الْوَقْتِ، أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ عَجْزٍ عَنِ الصَّوْمِ، وَدَامَ عُذْرُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَلَا يَجِبُ عَلَى وَرَثَتِهِ صِيَامٌ وَلَا فِي تَرِكَتِهِ إِطْعَامٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ.

64- أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الصِّيَامِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ عَلَى قَوْلَيْنِ.

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا مِنَ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ، سَقَطَ عَنْهُ الصَّوْمُ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ وَلِيَّهُ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ، لِأَنَّ فَرْضَ الصِّيَامِ جَارٍ مَجْرَى الصَّلَاةِ، فَلَا يَنُوبُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فِيهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ.

الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَوِ الْوَرَثَةِ أَنْ يُطْعِمُوا عَنْهُ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا.

الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، سَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ عَلِيَّةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ وَاجِبٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ دُونَ اللُّزُومِ، مَعَ تَخْيِيرِ الْوَلِيِّ بَيْنَ الصِّيَامِ عَنْهُ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ.

وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَمَا رَوَى بُرَيْدَةُ- رضي الله عنه- «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَكَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: صَوْمِي عَنْهَا» وَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».

أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الِالْتِزَامَاتِ الثَّابِتَةِ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ:

الِالْتِزَامُ الِاخْتِيَارِيُّ لِلْمُكَلَّفِ هُوَ مَا يَثْبُتُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا الِالْتِزَامُ قَدْ يَكُونُ أَثَرًا لِتَعَاقُدٍ وَارْتِبَاطٍ تَمَّ بَيْنَ إِرَادَةِ شَخْصَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ أَثَرًا لِعَهْدٍ قَطَعَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ.

أَوَّلًا- الِالْتِزَامَاتُ الْعَقَدِيَّةُ الَّتِي تَنْشَأُ بِإِرَادَةِ طَرَفَيْنِ:

65- وَمَنْشَأُ هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ الْعَقْدُ، الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ الصَّادِرِ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بِقَبُولِ الْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ أَثَرُهُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.

وَالِالْتِزَامَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْعُقُودِ عَلَى ثَلَاثِ أَقْسَامٍ، الْتِزَامَاتٌ نَاشِئَةٌ عَنْ عُقُودٍ لَازِمَةٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالْتِزَامَاتٌ نَاشِئَةٌ عَنْ عُقُودٍ جَائِزَةٍ (غَيْرِ لَازِمَةٍ) مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالْتِزَامَاتٌ نَاشِئَةٌ عَنْ عُقُودٍ لَازِمَةٍ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ:

أ- الْبَيْعُ:

66- لَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْبَيْعَ مَتَى لَزِمَ، فَإِنَّ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنِ الْتِزَامٍ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ تُجَاهَ الْآخَرِ لَا يَسْقُطُ وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْبَائِعُ قَامَ وَرَثَتُهُ بِإِيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنِ الْتِزَامَاتٍ تُجَاهَ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي قَامَ وَرَثَتُهُ بِتَنْفِيذِ مَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبَاتٍ وَالْتِزَامَاتٍ تُجَاهَ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ فِي حُدُودِ مَا تَرَكَ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ مَاتَ الْمُتَبَايِعَانِ، فَوَرَثَتُهُمَا بِمَنْزِلَتِهِمَا، لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ فِي أَخْذِ مَالِهِمَا وَإِرْثِ حُقُوقِهِمَا، فَكَذَلِكَ مَا يَلْزَمُهُمَا أَوْ يَصِيرُ لَهُمَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: عَقْدٌ ف 61).

67- وَقَدِ اسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ مُفْلِسًا، وَأَوْرَدُوا تَفْصِيلًا فِي أَثَرِ ذَلِكَ عَلَى الِالْتِزَامَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ عَقْدِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ ثَمَّةَ اخْتِلَافٌ فِي الْفُرُوعِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ شَيْئًا، ثُمَّ مَاتَ مُفْلِسًا بَعْدَ أَدَاءِ ثَمَنِهِ لِلْبَائِعِ، فَالْمَبِيعُ مِلْكُهُ خَاصَّةً، سَوَاءٌ قَبَضَهُ مِنَ الْبَائِعِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

ب- أَمَّا إِذَا مَاتَ مُفْلِسًا قَبْلَ تَأْدِيَةِ الثَّمَنِ، فَيُنْظَرُ:

فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُشْتَرِي أَوْ يَبِيعَهُ الْقَاضِي وَيُؤَدِّيَ لِلْبَائِعِ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِنْ زَادَ الثَّمَنُ عَنْ حَقِّ الْبَائِعِ يُدْفَعُ الزَّائِدُ لِبَاقِي الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ حَقِّ الْبَائِعِ أَخَذَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ الَّذِي بِيعَ بِهِ، وَيَكُونُ فِي الْبَاقِي أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهِ أَيْ أَنَّ لَهُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَاسْتِيفَاءَ الْمَبِيعِ لِنَفْسِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ، فَهَلْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فَيَحْبِسَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْحُقُوقِ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ، أَمْ يَصِيرُ الْبَائِعُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ مِثْلَ بَاقِي الْغُرَمَاءِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ اسْتِرْدَادُهُ، بَلْ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ، فَيَقْسِمُونَهُ، جَمِيعًا وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ».

الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ تَرَكَ الْمَبِيعَ وَضَارَبَ الْغُرَمَاءَ بِثَمَنِهِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهُ، وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ».

ج- أَمَّا إِذَا مَاتَ الْبَائِعُ مُفْلِسًا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَقَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي يَكُونُ أَحَقَّ بِالْمَبِيعِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِهِ فِي حَيَاتِهِ، بَلْ لِلْمُشْتَرِي جَبْرُهُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ مَا دَامَتْ عَيْنُهُ قَائِمَةً، فَيَكُونُ لَهُ أَخْذُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْبَائِعِ أَيْضًا، إِذْ لَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ بِوَجْهٍ، لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْبَائِعِ- وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ لَوْ هَلَكَ عِنْدَهُ- وَعَلَى هَذَا كَانَ لَهُ أَخْذُهُ إِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ بَاقِيَةً أَوِ اسْتِرْدَادُ ثَمَنِهِ إِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ عِنْدَ وَرَثَتِهِ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِفْلَاسٌ ف 37).

ب- السَّلَمُ:

68- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ تَأْدِيَةِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَكُونُ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ مِنْهُ كَسَائِرِ دُيُونِهِ الْمُؤَجَّلَةِ.

وَلَكِنْ إِذَا مَاتَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِ زَمَنِ الْوَفَاءِ، فَهَلْ يَبْطُلُ الْأَجَلُ بِمَوْتِهِ، وَيَحِلُّ دَيْنُ السَّلَمِ، أَمْ أَنَّهُ يَبْقَى كَمَا هُوَ إِلَى وَقْتِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَجَلَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَيَحِلُّ دَيْنُ السَّلَمِ، وَيَلْزَمُ تَسْلِيمُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ حَالًّا إِلَى رَبِّ السَّلَمِ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَوَفِّرًا فِي وَقْتِ الْحُلُولِ الطَّارِئِ بِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلْ يُفْسَخُ عَقْدُ السَّلَمِ لِذَلِك أَمْ لَا؟ وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْفَسْخِ، هَلْ تُوقَفُ قِيمَةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنَ التَّرِكَةِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ عَادَةً أَمْ لَا؟

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُؤْخَذُ مِنَ التَّرِكَةِ حَالًّا لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ السَّلَمِ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى مَحِلِّ الْأَجَلِ عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ لِتَدُومَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ، وَمَاتَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ، فَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَيَؤُولُ ذَلِكَ إِلَى الْغَرَرِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي حُلُولِ سَائِرِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ بِمَوْتِ الْمَدِينِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ مِنَ التَّرِكَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْتُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ قَبْلَ مَحَلِّ أَجَلِهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا فِي الْأَسْوَاقِ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ تَقْسِيمُ التَّرِكَةِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَغْلِبُ وُجُودُهُ فِيهِ.

قَالَ الْحَطَّابُ: إِذَا مَاتَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَ وَقْتِ الْإِبَّانِ، أَيْ وَقْتِ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَادَةً، فَإِنَّهُ يَجِبُ وَقْفُ قَسْمِ التَّرِكَةِ إِلَيْهِ.

وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّمَا يُوقَفُ إِنْ خِيفَ أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْمُسْلَمُ فِيهِ كُلَّ التَّرِكَةِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنَ التَّرِكَةِ وَقَفَ قَدْرَ مَا يَرَى أَنْ يَفِيَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقَسَمَ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا خِلَافًا لِمَا يَرَاهُ أَشْهَبُ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْقَسْمَ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إِنْ كَانَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ دُيُونٌ أُخْرَى قُسِمَتِ التَّرِكَةُ عَلَيْهِ، وَيَضْرِبُ لِلْمُسْلَمِ قِيمَةَ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي وَقْتِهِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ مِنْ غَلَاءٍ وَرُخْصٍ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ تَتْمِيمًا لِقَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَام بِأَنَّهُ يُوقَفُ لِلْمُسْلَمِ مَا صَارَ لَهُ فِي الْمُحَاصَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتُ الْإِبَّانِ، فَيُشْتَرَى لَهُ مَا أَسْلَمَ فِيهِ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ أُتْبِعَ بِالْقِيمَةِ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ إِنْ طَرَأَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ زَادَ لَمْ يَشْتَرِ لَهُ إِلاَّ قَدْرَ حَقِّهِ، وَتُتْرَكُ الْبَقِيَّةُ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ وَارِثٍ أَوْ مِدْيَانٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ: إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا فِي الْأَسْوَاقِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ وَتَسْلِيمُهُ لِرَبِّ السَّلَمِ وَإِنْ غَلَا وَزَادَ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيهَا، فَيَثْبُتُ لِلْمُسْلَمِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالصَّبْرِ حَتَّى يُوجَدَ الْمُسْلَمُ فِيهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ- كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ- لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَالْوَفَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُمْكِنٌ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمَدِينِ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ عَلَى أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ، وَلَا يُوقَفُ شَيْءٌ مِنْ تَرِكَةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ لِأَجَلِ دَيْنِ السَّلَمِ.

فَإِنْ لَمْ يُوَثَّقْ بِذَلِكَ حَلَّ، لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَدْ لَا يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ.ج- الْإِجَارَةُ:

69- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمُؤَجِّر فِي إِجَارَةِ الْأَعْيَانِ وَالْأَجِيرِ فِي إِجَارَةِ الْأَعْمَالِ عَلَى مَا الْتَزَمَ بِهْ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا الْتَزَمَ بِهِ الْمُؤَجِّرُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، بَلْ تَبْقَى عَلَى حَالِهَا، لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ مَعَ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِك تَبْقَى الْعَيْنُ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا مَا تَبَقَّى لَهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ لِوَرَثَةِ الْمُؤَجِّرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالْبَتِّيِّ وَأبِي ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَأَمَّا مَا الْتَزَمَ بِهِ الْأَجِيرُ مِنَ الْعَمَلِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرْتَبَطًا بِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ، كَمَا إِذَا قَالَ لَهُ: اسْتَأْجَرْتُكَ أَوِ اكْتَرَيْتُكَ لِتَعْمَلَ كَذَا أَوْ لِكَذَا أَوْ لِعَمَلِ كَذَا، أَوْ يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِذِمَّةِ الْأَجِيرِ، كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِأَدَاءِ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ يَلْزَمُ ذِمَّتَهُ، مِثْلِ أَنْ يُلْزِمَهُ حَمْلِ كَذَا إِلَى مَكَانِ كَذَا أَوْ خِيَاطَةِ كَذَا دُونَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مَا يُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ بِإِجَارَةِ الذِّمَّةِ.

فَإِنْ كَانَ الِالْتِزَامُ مُرْتَبِطًا بِعَيْنِ الْأَجِيرِ وَذَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِمَوْتِ الْأَجِيرِ لِانْفِسَاخِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِهِ نَظَرًا لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَاسْتِحَالَةِ إِكْمَالِ تَنْفِيذِ الْعَقْدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ، أَمَّا فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَنِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْأَجِيرِ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ أَجْرٍ، وَذَلِكَ لِاسْتِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِالْتِزَامُ مَوْصُوفًا فِي ذِمَّةِ الْأَجِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ اسْتُؤْجِرَ مِنْهَا مَنْ يَقُومُ بِإِكْمَالِ وَتَوْفِيَةِ الْتِزَامِهِ، لِأَنَّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ، وَلَمْ يَرْغَبْ وَرَثَتُهُ فِي إِتْمَامِ ذَلِكَ الْعَمَلِ الْمَوْصُوفِ فِي ذِمَّتِهِ لِيَسْتَحِقُّوا الْأَجْرَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَا لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَوْتِ الْمُلْتَزِمِ مُفْلِسًا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَهُوَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ لِأَعْيَانِهِ وَالْأَجِيرِ عَلَى عَمَلِهِ، سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْعَقْدِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ يُتَعَذَّرُ بِالْمَوْتِ، فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً، وَيَنْتَهِي الْتِزَامُ كُلٍّ مِنَ الْمُؤَجِّرِ وَالْأَجِيرِ.

غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا بَعْضَ الْحَالَاتِ الْخَاصَّةِ، وَقَالُوا إِنَّ الْإِجَارَةَ فِيهَا لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ ضَرُورَةً، وَهِيَ:

أ- إِذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَفِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ زَرْعُ بَقْلٍ، أَيْ لَمْ يَنْضَجْ بَعْدُ، فَيَبْقَى الْعَقْدُ وَلَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ حَتَّى يُدْرِكَ الزَّرْعُ، وَيَكُونُ الْوَاجِبُ عِنْدَئِذٍ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى إِلَى نِهَايَةِ مُدَّةِ الْعَقْدِ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَجْرُ الْمِثْلِ حَتَّى يُدْرِكَ.

ب- إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَسَطَ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ إِلَى الْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِالْأَجْرِ إِذَا لَمْ يَجِدْ دَابَّةً أُخْرَى يَصِلُ بِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ثَمَّةَ قَاضٍ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ.

وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي (إِجَارَةٌ ف 59- 72).

د- الْمُسَاقَاةُ:

70- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الِالْتِزَامَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا الْتَزَمَ بِهْ صَاحِبُ الشَّجَرِ أَوِ النَّخْلِ بِتَمْكِينِ الْعَامِلِ مِنَ الْقِيَامِ بِسَقْيِهِ وَإِصْلَاحِهِ، أَوْ مَا الْتَزَمَ بِهِ الْعَامِلُ مِنْ تَعَهُّدِ الشَّجَرِ وَعَمَلِ سَائِرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ طَرَفَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ بَدْءِ الْعَمَلِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَأَشْبَهَ الْإِجَارَةَ، وَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا.

وَعَلَى ذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ عَامِلَ الْمُسَاقَاةِ، كَانَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ فِي إِتْمَامِ الْعَمَلِ إِذَا كَانُوا عَارِفِينَ بِالْعَمَلِ أُمَنَاءَ، وَيَلْزَمُ الْمَالِكَ أَوْ وَرَثَتَهُ تَمْكِينُهُمْ مِنَ الْعَمَلِ إِنْ كَانُوا كَذَلِكَ.

فَإِنْ أَبَى الْوَرَثَةُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَارِثَ لَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَى مُوَرِّثِهِ إِلاَّ مَا أَمْكَنَ أَدَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَالْعَمَلُ هَاهُنَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَسْتَأْجِرُ الْحَاكِمُ مِنَ التَّرِكَةِ مَنْ يَقُومُ بِالْعَمَلِ، لِأَنَّهُ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَرِكَةٌ، وَلَمْ يَتَبَرَّعِ الْوَرَثَةُ بِالْوَفَاءِ، فَلِرَبِّ الْمَالِ الْفَسْخُ، لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَبَّ الشَّجَرِ، لَمْ تُفْسَخِ الْمُسَاقَاةُ، وَيَسْتَمِرُّ الْعَامِلُ فِي عَمَلِهِ، وَيَجِبُ عَلَى وَرَثَةِ رَبِّ الْمَالِ تَمْكِينُهُ مِنَ الْعَمَلِ وَالِاسْتِمْرَارِ فِيهِ وَعَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُ، وَبَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ يَأْخُذُ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَرِ بِحَسَبِ مَا اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، أَيْ بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ أَوِ الْعَامِلِ، قَبْلَ بَدْءِ الْعَمَلِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ.

ثُمَّ فَصَلُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: إِذَا قَامَ الْعَامِلُ بِرِعَايَةِ وَسِقَايَةِ الشَّجَرِ، وَلَقَّحَهُ حَتَّى صَارَ بُسْرًا أَخْضَرَ، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الشَّجَرِ، فَإِنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْتَقِضُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ لِلْعَامِلِ- اسْتِحْسَانًا- أَنْ يَقُومَ بِرِعَايَةِ الشَّجَرِ حَتَّى يُدْرِكَ الثَّمَرُ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَرَثَةُ رَبِّ الشَّجَرِ، لِأَنَّ فِي انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ إِضْرَارًا بِالْعَامِلِ وَإِبْطَالًا لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ عَلَى الْأَشْجَارِ إِلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، وَإِذَا انْتَقَضَ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الْجِذَاذَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بَالِغٌ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا تَبْطُلُ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ فِي الِاسْتِحْسَانِ، فَإِنْ أَبَى الْعَامِلُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي عَمَلِ الشَّجَرِ وَأَصَرَّ عَلَى قَطْعِهِ وَأَخْذِهِ بُسْرًا انْتَقَضَ الْعَقْدُ، لِأَنَّ إِبْقَاءَ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا إِنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَإِذَا رَضِيَ الْتِزَامَ الضَّرَرِ كَانَ لَهُ مَا اخْتَارَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِوَرَثَةِ رَبِّ الشَّجَرِ، فَيَثْبُتُ لَهُمُ الْخِيَارُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- أَنْ يَقْسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ مُوَرِّثِهِمْ وَالْعَامِلِ.

ب- أَنْ يُعْطُوا الْعَامِلَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنَ الْبُسْرِ.

ج- أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَرْجِعُوا بِذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنَ الثَّمَرِ.

وَأَمَّا إِذَا مَاتَ عَامِلُ الْمُسَاقَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ اسْتِحْسَانًا وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ فِي تَعَهُّدِ الشَّجَرِ وَرِعَايَتِهِ، وَإِنْ كَرِهَ رَبُّ الشَّجَرِ، لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ الْوَرَثَةُ: نَحْنُ نَأْخُذُهُ بُسْرًا، وَطَلَبُوا نَصِيبَ مُوَرِّثِهِمْ مِنَ الْبُسْرِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الشَّجَرِ مِنَ الْخِيَارِ مِثْلُ مَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ مَا يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ إِذَا أَبَى الْعَامِلُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي الْقِيَامِ عَلَى الشَّجَرِ.

وَأَمَّا إِذَا مَاتَا جَمِيعًا، كَانَ الْخِيَارُ فِي الْقِيَامِ عَلَيْهِ لِوَرَثَةِ الْعَامِلِ، لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ هَذَا الْخِيَارُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الشَّجَرِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ كَانَ الْخِيَارُ لِوَرَثَةِ رَبِّ الشَّجَرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، فَإِذَا مَاتَ الْعَامِلُ أَوْ رَبُّ الشَّجَرِ انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ، كَمَا لَوْ فَسَخَهَا أَحَدُهُمَا، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.

وَمَتَى انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَيَلْزَمُ الْعَامِلَ أَوْ وَارِثَهُ إِتْمَامُ الْعَمَلِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ، ثَمَرَةٌ أُخْرَى بَعْدَ الْفَسْخِ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِيهَا، وَإِذَا انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِلِ فِي الْعَمَلِ وَقَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْعَامِلِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَقَامَهُ فِي الْمِلْكِ وَالْعَمَلِ، فَإِنْ أَبَى الْوَارِثُ أَنْ يَأْخُذَ وَيَعْمَلَ، لَمْ يُجْبَرْ، وَيَسْتَأْجِرُ الْحَاكِمُ مِنَ التَّرِكَةِ مَنْ يَعْمَلُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرِكَةٌ، أَوْ تَعَذَّرَ الِاسْتِئْجَارُ مِنْهَا بِيعَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الثَّمَرِ الظَّاهِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَكْمِيلِ الْعَمَلِ، وَاسْتُؤْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ.

هـ- الْمُزَارَعَةُ:

71- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَامِلَ أَمْ رَبَّ الْأَرْضِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عِنْدَهُمْ.

وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالُوا: إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الزِّرَاعَةِ، فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْفَسِخُ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِبْطَالُ مَالٍ عَلَى الْمُزَارِعِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا عَمِلَ.

أَمَّا إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الزِّرَاعَةِ فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَبْقَى اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ لِدَفْعِ مَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا مِنْ ضَرَرٍ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا تَبْطُلُ، وَلَكِنْ تَبْقَى حُكْمًا إِلَى حَصْدِ الزَّرْعِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ: أَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ إِذَا مَاتَ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، فَإِنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً، لِأَنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ قَدِ انْفَسَخَ حَقِيقَةً لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، إِلاَّ أَنَّنَا أَبْقَيْنَاهُ تَقْدِيرًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُزَارِعِ، لِأَنَّهُ لَوِ انْفَسَخَ لَثَبَتَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ حَقُّ الْقَلْعِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا، فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً كَمَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ.

وَأَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُزَارِعُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى شَرْطِ الْمُزَارَعَةِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْأَرْضِ، لِأَنَّ فِي الْقَطْعِ ضَرَرًا بِهِمْ وَلَا ضَرَرَ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي التَّرْكِ إِلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ قَلْعَ الزَّرْعِ وَتَرْكَ الْعَمَلِ، لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدِ انْفَسَخَ حَقِيقَةً، إِلاَّ أَنَّا أَبْقَيْنَاهُ بِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرًا لَهُمْ، فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنِ الْعَمَلِ بَقِيَ الزَّرْعُ مُشْتَرَكًا، وَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الْأَرْضِ: إِمَّا أَنْ يَقْسِمَهُ بِالْحِصَصِ، أَوْ يُعْطِيَهُمْ قِيمَةَ حِصَصِهِمْ مِنَ الزَّرْعِ الْبَقْلِ، أَوْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِحِصَصِهِمْ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


61-موسوعة الفقه الكويتية (موت 5)

مَوْتٌ -5

و- الْحَوَالَةُ:

72- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوِ الْمُحِيلِ فِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ عَلَى الِالْتِزَامَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ تِلْكَ الْمُعَاقَدَةِ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ دَيْنِ الْحَوَالَةِ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أَوَّلًا: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يُلْزَمُ بِالدَّيْنِ الْمَحَالِ بِهِ، وَلَا يُطَالَبُ بِهِ الْمُحِيلُ أَبَدًا، لِأَنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ بَرِئَتْ بِمُقْتَضَى الْحَوَالَةِ، فَلَا يَكُونُ لِلْمُحَالِ الْحَقُّ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ بِحَالٍ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا مَاتَ الْمَحَالُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَا الْتَزَمَ بِهِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِذَا مَاتَ مُفْلِسًا لَا تَرِكَةَ لَهُ فَإِنَّ الْتِزَامَهُ لَا يَبْطُلُ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُحَالِ حَقٌّ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ فَامْتَنَعَ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ لِبَقَاءِ الدَّيْنِ الْمُحَالِ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.

أَمَّا مَوْتُ الْمُحِيلِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الْحَوَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ بَرِئَتْ وَانْتَقَلَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَأَصْبَحَ هُوَ الْمُطَالَبَ بِهِ وَحْدَهُ، إِذِ الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِيفَاءِ

ثَانِيًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَلَى مَا الْتَزَمَ بِهِ مِنْ مَالٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَيُعْطَى لِلْمُحَالِ.

وَإِذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَدِينًا قُسِمَ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ الْمُحَالِ بِالْحِصَصِ، فَإِنْ بَقِيَ لِلْمُحَالِ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ رَجِعَ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ.

وَإِذَا كَانَ دَيْنُ الْحَوَالَةِ مُؤَجَّلًا فَإِنَّهُ يَحِلُّ بِوَفَاةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْأَجَلِ بِمَوْتِهِ.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ حِينَئِذٍ تَنْتَهِي فِي الدَّيْنِ كُلِّهِ- إِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِشَيْءٍ مِنْهُ- أَوْ تَنْتَهِي فِي بَاقِيهِ إِنْ تَرَكَ وَفَاءً بِبَعْضِهِ.

أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُحِيلُ فَإِنَّ لِوَفَاتِهِ تَأْثِيرًا عَلَى الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ ذِمَّةَ الْمُحِيلِ قَدْ بَرِئَتْ لِانْتِقَالِ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِسَلَامَةِ حَقِّ الْمُحَالِ، فَخَوْفًا أَنْ يَضِيعَ حَقُّهُ وَيَتْوَى، كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ رَغْمَ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْهُ، إِذِ الْبَرَاءَةُ هَهُنَا مُؤَقَّتَةٌ وَمَرْهُونَةٌ بِسَلَامَةِ حَقِّ الْمُحَالِ، وَلِهَذَا فَإِنْ مَاتَ الْمُحِيلُ بَعْدَ الْحَوَالَةِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمُحَالِ الْمَالَ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُحِيلِ دُيُونٌ أُخْرَى، فَالْمُحَالُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً، فَإِنَّهُ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُحِيلِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِمَوْتِهِ عَلَى الْحَوَالَةِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي الْعُقُودِ الدُّرِّيَّةِ: أَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ تَبَرُّعٌ، وَإِذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَدِينًا لِلْمُحِيلِ لَا تَتَقَيَّدُ بِدَيْنِهِ، وَلِذَا كَانَ لِلْمُحِيلِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، فَلَا تَبْطُلُ بِقِسْمَةِ دَيْنِ الْمُحِيلِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، لِأَنَّ الْمُحَالَ لَمْ يَبْقَ مِنْ غُرَمَائِهِ، بَلْ صَارَ مِنْ غُرَمَاءِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُحِيلِ، بَلْ تَبْقَى مُطَالَبَةُ الْمُحَالِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُخِذَ مِنْهُ دَيْنُ الْمُحِيلِ وَقُسِمَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ.

ثَالِثًا: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ مَتَى تَمَّتْ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَنْتَقِلُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَيُصْبِحُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُلْتَزِمًا بِأَدَائِهِ لِلْمُحَالِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا رُجُوعَ لِلْمُحَالِ عَلَى الْمُحِيلِ بِحَالِ، حَتَّى وَإِنْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُحَالُ عَلَى الْمُحِيلِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَوْ أَفْلَسَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، فَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ شَرْطُهُ إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ أَوْ فَلَّسَ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ:

وَتَشْمَلُ هَذِهِ الْعُقُودُ الرَّهْنَ وَالْكَفَالَةَ، إِذِ الرَّهْنُ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، وَالْكَفَالَةُ لَازِمَةٌ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ دُونَ الْمَكْفُولِ لَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- الرَّهْنُ:

فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الْتِزَامِ الرَّاهِنِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:

73- الْحَالَةُ الْأُولَى: مَوْتُ الرَّاهِنِ بَعْدُ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لِلْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّهْنَ بَعْدُ الْقَبْضِ يَكُونُ لَازِمًا فِي حَقِّ الرَّاهِنِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا اللُّزُومِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ فَسْخُهُ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، فَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْتِزَامَهُ النَّاشِئَ عَنْ عَقْدِ الرَّهْنِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ لَزِمَ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِي إِبْطَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَإِنْ كَانَ مِيرَاثًا لَهُمْ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَيْنَ تَبْقَى تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ، وَإِلاَّ بِيعَتِ الْعَيْنُ لِوَفَاءِ حَقِّهِ إِذَا تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

74- الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْتُ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الْتِزَامِ الرَّاهِنِ بَعْدَ الرَّهْنِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيَنْتَهِي الْتِزَامُهُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَبِذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ الْمُرْتَهِنُ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، بَلْ يَكُونُ فِي دَيْنِهِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ.

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، لِأَنَّ مَصِيرَ الرَّهْنِ إِلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي الْإِقْبَاضِ إِنْ شَاؤُوا وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي حَقِّ مُوَرِّثِهِمْ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِمَوْتِهِ، وَيَرِثُ وَرَثَتُهُ خِيَارَهُ فِي التَّسْلِيمِ لِلْمُرْتَهِنِ أَوْ عَدَمِهِ.

غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ وَبَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ نَصُّوا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِوَرَثَةِ الرَّاهِنِ أَنْ يَخُصُّوا الْمُرْتَهِنَ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، إِذَا كَانَ عَلَى مُوَرِّثِهِمْ دَيْنٌ آخَرُ سِوَى دَيْنِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ.

ب- الْكَفَالَةُ:

75- الْكَفَالَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ نَوْعَانِ: كَفَالَةٌ بِالْمَالِ، وَكَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ (رَبَّ الْحَقِّ) إِذَا مَاتَ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَسْقُطُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ كَفَالَةً بِالْمَالِ أَوْ بِالنَّفْسِ، وَيَنْتَقِلُ الْحَقُّ إِلَى وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْمَوْرُوثَةِ، فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ.

أَمَّا عَنْ أَثَرِ مَوْتِ الْكَفِيلِ فِي بُطْلَانِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ فَيُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ:

76- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْتِزَامَ الْكَفِيلِ بِأَدَاءِ الْمَالِ فِيهَا لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِأَنَّ مَالَهُ يَصْلُحُ لِلْوَفَاءِ بِذَلِكَ، فَيُطَالَبُ بِهِ وَصِيُّهُ أَوْ وَارِثُهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ.

وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُولُ بِهِ مُؤَجَّلًا، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وأحمد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ يَحِلُّ بِمَوْتِ الْكَفِيلِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ حَالًّا.وَلَكِنَّ وَرَثَتَهُ لَا تَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاقٍ فِي حَقِّ الْمَكْفُولِ لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.

وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ فَقَالُوا: لَا يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمَكْفُولُ بِهِ الْمُؤَجَّلُ بِمَوْتِ الْكَفِيلِ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمَيِّتِ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ.

ب- الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ:

77- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ مَوْتِ الْكَفِيلِ عَلَى الْتِزَامِهِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْتِزَامَ الْكَفِيلِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِذَلِكَ، فَيُطَالَبُ وَرَثَتُهُ بِإِحْضَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا أَوْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أُخِذَ مِنَ التَّرِكَةِ قَدْرُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ.

الْقَوْلِ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَفَالَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْكَفِيلِ، لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْكَفِيلِ الْمَطْلُوبَ بَعْدَ مَوْتِ الْكَفِيلِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ، وَلَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُلُوا لَهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَخْلُفُونَهُ فِيمَا لَهُ لَا فِيمَا عَلَيْهِ.ثُمَّ إِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ فِي تَرِكَتِهِ، لِأَنَّ مَالَهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ.

78- أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ- فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ- فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَسْقُطُ عَنِ الْكَفِيلِ، وَلَا يُلْزَمُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ النَّفْسَ الْمَكْفُولَةَ قَدْ ذَهَبَتْ، فَعَجَزَ الْكَفِيلُ عَنْ إِحْضَارِهَا، وَلِأَنَّ الْحُضُورَ قَدْ سَقَطَ عَنِ الْمَكْفُولِ، فَبَرِئَ الْكَفِيلُ تَبَعًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ أَجْلِهِ سَقَطَ عَنِ الْأَصْلِ فَبَرِئَ الْفَرْعُ، كَالضَّامِنِ إِذَا قَضَى الْمَضْمُونُ عَنْهُ الدَّيْنَ أَوْ أُبْرِئَ مِنْهُ، وَبِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ.

وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ اللَّيْثُ وَالْحَكَمُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ غُرْمُ مَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْكَفِيلَ وَثِيقَةٌ بِحَقٍّ، فَإِذَا تَعَذَّرَتْ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، اسْتُوْفِيَ مِنَ الْوَثِيقَةِ كَالرَّهْنِ، وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ، فَلَزِمَ كَفِيلَهُ مَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ غَابَ.الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ:

وَتَشْمَلُ هَذِهِ الْعُقُودُ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْإِعَارَةَ، وَالْقَرْضَ، وَالْوَكَالَةَ، وَالشَّرِكَةَ، وَالْمُضَارَبَةَ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- الْهِبَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ:

79- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلَانِ الْهِبَةِ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ بِالْقَبْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

وَعَلَّلَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ بِانْتِقَالِ الْمُلْكِ لِوَارِثِ الْوَاهِبِ قَبْلَ تَمَامِهَا.

وَعَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْهِبَةَ نَوْعٌ مِنِ الْتِزَامِ الْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَيْءٍ، وَلَا يُقْضَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُلْتَزِمِ إِذَا أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحِيَازَةِ.

وَعَلَّلَهُ مُوَافِقُوهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَمَدِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَبَطَلَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ.

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ قَبْضِ هِبَتِهِ لَمْ يَنْفَسِخْ عَقْدُ الْهِبَةِ، لِأَنَّهُ يَئُولُ إِلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْوَاهِبِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ فِي الْإِقْبَاضِ وَالْإِذْنِ فِيهِ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ شَاءَ أَقْبَضَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُقْبِضْ.

ب- الْإِعَارَةُ:

80- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى انْفِسَاخِ عَقْدِ الْعَارِيَةِ بِمَوْتِ الْمُعِيرِ، وَانْتِهَاءِ تَبَرُّعِهِ بِمَنَافِعِهَا لِلْمُسْتَعِيرِ، وَوُجُوبِ مُبَادَرَةِ الْمُسْتَعِيرِ إِلَى رَدِّ الْعَارِيَةِ لِوَرَثَتِهِ.

وَعَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَتَبْطُلُ بِمَوْتِ أَيٍّ مِنْهُمَا، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ.

وَوَجْهُ الْبُطْلَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعَيْنَ انْتَقَلَتْ إِلَى وَارِثِ الْمُعِيرِ بِمَوْتِهِ، وَالْمَنْفَعَةُ بَعْدَ هَذَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْمُعِيرُ لِلْمُسْتَعِيرِ مِلْكَ نَفْسِهِ لَا مِلْكَ غَيْرِهِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْإِعَارَةَ مَعْرُوفٌ، وَالْوَفَاءُ بِهَا لَازِمٌ، لِأَنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ مَعْرُوفًا لَزِمَهُ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِهِ مَا لَمْ يَمُتْ أَوْ يُفْلِسْ قَبْلَ الْحِيَازَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا كَانَتِ الْعَارِيَةُ مُقَيَّدَةً بِعَمَلٍ، كَطَحْنِ إِرْدَبٍّ مِنَ الْقَمْحِ أَوْ حَمْلِهِ عَلَى الدَّابَّةِ الْمُسْتَعَارَةِ إِلَى جِهَةٍ مَا كَانَ حُكْمُهَا اللُّزُومَ فِي حَقِّ الْمُعِيرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعَمَلُ الَّذِي اسْتُعِيرَتْ لِأَجْلِهِ، وَكَذَا إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ، كَيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ مِثْلًا، فَإِنَّهَا تَلْزَمُ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً- غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِعَمَلٍ أَوْ زَمَنٍ- فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَكُونُ لَازِمًا فِي حَقِّ الْمُعِيرِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ.

وَحَيْثُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، فَإِذَا مَاتَ الْمُعِيرُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُسْتَعِيرِ لِلْعَارِيَةِ، وَبَقِيَ فِي مُدَّتِهَا، أَوْ مِنَ الْغَرَضِ الْمُسْتَعَارَةِ لِأَجْلِهِ شَيْءٌ، فَلَا تَبْطُلُ الْإِعَارَةُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَنْتَهِي الْتِزَامُهُ، وَتَبْقَى الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ بِيَدِ الْمُسْتَعِيرِ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِهَا إِلَى نِهَايَةِ الْعَمَلِ أَوِ الْمُدَّةِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُعِيرُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَةَ فَإِنَّ الْإِعَارَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ لِعَدَمِ تَمَامِهَا بِالْحِيَازَةِ قَبْلَهُ.

ج- الْوَكَالَةُ:

81- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ، وَتَبْطُلُ سَائِرُ الِالْتِزَامَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ.

أَمَّا الْمُوَكِّلُ: فَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ إِنَّمَا قَامَ بِإِذْنِهِ، وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، فَلَمَّا بَطَلَتْ أَهْلِيَّتُهُ بِالْمَوْتِ بَطَلَ إِذْنُهُ، وَانْتَقَلَ الْحَقُّ لِغَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ.

وَأَمَّا الْوَكِيلُ: فَلِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِلتَّصَرُّفِ قَدْ زَالَتْ بِمَوْتِهِ، وَلَيْسَ الْوَكَالَةُ حَقًّا لَهُ فَتُورَثُ عَنْهُ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَعْتَمِدُ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ انْتَفَتْ صِحَّتُهَا، لِانْتِفَاءِ مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَوْتَ الْمُوَكِّلِ فِي حَالَةِ الْوَكَالَةِ بِبَيْعِ الرَّهْنِ إِذَا وَكَّلَ الرَّاهِنُ الْعَدْلَ أَوِ الْمُرْتَهِنَ بِبَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَحِينَئِذٍ لَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ وَلَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَوْتَ الْمُوَكِّلِ إِذَا وَكَّلَ مَنْ يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ، كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِهِ.

د- الشَّرِكَةُ:

82- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى انْفِسَاخِ شَرِكَةِ الْعَقْدِ (بِأَنْوَاعِهَا) وَبُطْلَانِ الِالْتِزَامَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا بِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ، فَبَطَلَتْ بِذَلِكَ كَالْوَكَالَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَإِنَّمَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، أَيْ مَشْرُوطٌ ابْتِدَاؤُهَا بِهَا ضَرُورَةً، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ ابْتِدَاؤُهَا إِلاَّ بِوِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لِكُلِّ مِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ، وَلَا تَبْقَى الْوِلَايَةُ إِلاَّ بِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ.

هـ- الْمُضَارَبَةُ:

83- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَبُطْلَانِ الِالْتِزَامَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ بِمَوْتِ الْمُضَارِبِ أَوْ رَبِّ الْمَالِ إِذَا كَانَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ نَاضًّا (أَيْ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ مَالِهَا)، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَالْوَكَالَةُ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ عَاقِدَيْهَا وَلَا تُوَرَّثُ، فَتَتْبَعُهَا الْمُضَارَبَةُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَالُ عُرُوضًا تِجَارِيَّةً، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلَانِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ بُطْلَانُ الْمُضَارَبَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، فَتُبَاعُ السِّلَعُ وَالْعُرُوضُ حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ الْمَالِ جَمِيعُهُ، وَيُوَزَّعَ بَيْنَ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى وَالطَّرَفِ الْبَاقِي.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَبْطُلُ بِوَفَاةِ رَبِّ الْمَالِ أَوِ الْمُضَارِبِ.

أَمَّا رَبُّ الْمَالِ إِذَا مَاتَ فَيَخْلُفُهُ وَرَثَتُهُ فِي الْمَالِ، وَيَبْقَى الْعَامِلُ عَلَى قِرَاضِهِ إِذَا أَرَادَ الْوَرَثَةُ بَقَاءَهُ، وَإِنْ أَرَادُوا فَسْخَ الْعَقْدِ وَأَخْذَ مَالِهِمْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ نَضُوضِهِ.

وَأَمَّا الْمُضَارِبُ إِذَا مَاتَ فَيَخْلُفُهُ وَرَثَتُهُ فِي حَقِّ عَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُمْ إِذَا أَرَادُوا الْعَمَلَ فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَعْمَلُوا فِيهِ بِمِقْدَارِ مَا كَانَ لِمُوَرِّثِهِمْ.

و- الْجَعَالَةُ:

84- فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الِالْتِزَامِ عَلَى الْجَعَالَةِ بَيْنَ مَوْتِ الْجَاعِلِ وَمَوْتِ الْمَجْعُولِ لَهُ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

مَوْتُ الْجَاعِلِ:

85- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى انْفِسَاخِ الْجَعَالَةِ بِمَوْتِ الْجَاعِلِ وَبُطْلَانِ الْتِزَامِهِ فِيهَا قَبْلَ شُرُوعِ الْعَامِلِ (الْمَجْعُولِ لَهُ فِي الْعَمَلِ).

وَقَالَ ابن حبيب وابن القاسم فِي ظَاهِرِ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْهُ: لَا يَبْطُلُ الْجُعْلُ بِمَوْتِ الْجَاعِلِ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ وَرَثَتَهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا الْمَجْعُولَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ.

أَمَّا إِذَا مَاتَ الْجَاعِلُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنَ الْعَمَلِ فَلَا أَثَرَ لِوَفَاتِهِ عَلَى الْتِزَامِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ وَاسْتَقَرَّ، وَوَجَبَ لِلْعَامِلِ الْجُعْلُ فِي تَرِكَتِهِ.

وَلَوْ مَاتَ الْجَاعِلُ بَعْدَ أَنْ شَرَعَ الْعَامِلُ فِي الْعَمَلِ، وَلَكِنْ قَبْلَ إِتْمَامِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ بُطْلَانُ الْجَعَالَةِ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ إِلاَّ أَنَّ الْعَامِلَ إِذَا أَتَمَّ الْعَمَلَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ قِسْطَ مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْمُسَمَّى، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا فِي مُقَابَلَةِ مَا عَمِلَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْجَاعِلِ، لِعَدَمِ الْتِزَامِ الْوَرَثَةِ لَهُ بِهِ.

وَالثَّانِي: لِلْإِمَامِ مَالِكٍ- فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ وَأَشْهَبَ عَنْهُ- وَهُوَ أَنَّ الْجَعَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْجَاعِلِ بَعْدَ أَنْ شَرَعَ الْعَامِلُ فِي الْعَمَلِ، وَتَلْزَمُ وَرَثَتَهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا الْمَجْعُولَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ.

مَوْتُ الْمَجْعُولِ لَهُ:

86- إِذَا مَاتَ الْعَامِلُ (الْمَجْعُولُ لَهُ) قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الْعَمَلِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجَعَالَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِلُزُومِ الْجَعَالَةِ بِالْقَوْلِ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَاعِلِ، وَعَلَيْهِ فَإِذَا مَاتَ الْمَجْعُولُ لَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ، وَيَنْزِلُ وَرَثَتُهُ مَنْزِلَتَهُ، وَلَيْسَ لِلْجَاعِلِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْعَمَلِ.

أَمَّا إِذَا مَاتَ الْعَامِلُ بَعْدَ أَنْ شَرَعَ فِي الْعَمَلِ، وَقَبْلَ إِتْمَامِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَعَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَامِلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي إِكْمَالِهِ إِنْ كَانُوا أُمَنَاءَ، وَلَيْسَ لِلْجَاعِلِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْعَمَلِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا أَتَمَّ الْوَرَثَةُ الْعَمَلَ اسْتَحَقُّوا الْجُعْلَ كَامِلًا، بَعْضُهُ بِالْإِرْثِ مِنْ عَمَلِ مُوَرِّثِهِمْ، وَبَعْضُهُ الْآخَرُ نَتِيجَةُ عَمَلِهِمْ.

الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْجَعَالَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَإِنْ أَتَمَّ وَرَثَتُهُ الْعَمَلَ مِنْ بَعْدِهِ، اسْتَحَقُّوا قِسْطَ مَا عَمِلَ مُوَرِّثُهُمْ مِنَ الْجُعْلِ الْمُسَمَّى فَقَطْ، وَلَا شَيْءَ لَهُمْ فِي الْعَمَلِ الَّذِي أَتَمُّوهُ بَعْدَ وَفَاةِ مُوَرِّثِهِمْ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (جَعَالَة ف67).

ز- الْوَصِيَّةُ:

87- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَلْزَمُ فِي حَقِّ الْمُوصِي مَا دَامَ حَيًّا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا فِي حَيَاتِهِ مَتَى شَاءَ لِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ لَمْ يَتِمَّ، إِذْ تَمَامُهَا بِمَوْتِ الْمُوصِي، فَجَازَ رُجُوعُهُ عَنْهَا قَبْلَ تَمَامِهَا، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ فِي الْوَصِيَّةِ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَكُلُّ عَقْدٍ لَمْ يَقْتَرِنْ بِإِيجَابِهِ الْقَبُولَ، فَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ.

وَعَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصِي إِذَا مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا، وَلَا يَسْقُطُ الْتِزَامُهُ بِوَفَاتِهِ، بَلْ يُعْتَبَرُ مَوْتُهُ مُوجِبًا لِلُزُومِهَا، مِنْ جِهَتِهِ، وَقَاطِعًا لِحَقِّهِ فِي الرُّجُوعِ عَنْهَا، وَمُثْبِتًا لِالْتِزَامِهِ النَّاشِئِ عَنْهَا وَالْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا.

ح- النَّذْرُ:

88- إِذَا مَاتَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ النَّذْرُ دُونَ أَنْ يَفِيَ بِهِ، فَهَلْ يَبْطُلُ الْتِزَامُهُ بِالْمَوْتِ أَمْ لَا؟ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّذْرِ الْمَالِيِّ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا، وَبَيْنَ غَيْرِ الْمَالِيِّ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالِاعْتِكَافِ وَنَحْوِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- النَّذْرُ الْمَالِيُّ:

89- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ فِي صِحَّتِهِ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ عَدَمُ سُقُوطِ النَّذْرِ بِمَوْتِهِ إِذَا أَوْصَى بِأَنْ يُوفَّى مِنْ مَالِهِ، وَيُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ سَقَطَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهُ مِنْ مَالِهِمْ إِلاَّ أَنْ يَتَطَوَّعُوا بِهِ.

الْقَوْلِ الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ رَأْسِ مَالِ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ.

ب- النَّذْرُ غَيْرُ الْمَالِيِّ:

90- فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَنْذُورُ بِهِ حَجًّا أَوْ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوِ اعْتِكَافًا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ صَلَاةً، فَمَاتَ النَّاذِرُ قَبْلَ فِعْلِهَا فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِهَا بِمَوْتِهِ، فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا بَدَلَ لَهَا، وَهِيَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا يَنُوبُ أَحَدٌ عَنِ الْمَيِّتِ فِي أَدَائِهَا.

ب- وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ حَجًّا، وَمَاتَ النَّاذِرُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهِ لِأَيِّ عُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ.

وَإِذَا مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهِ وَلَمْ يَحُجَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِوَفَاةِ النَّاذِرِ، وَلَا يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ الْحَجُّ عَنْهُ، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْءٌ لِأَجْلِ قَضَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَجٍّ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ فِي حُدُودِ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ.

الْقَوْلِ الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ صَارَ بِالتَّمَكُّنِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ إِنْ تَرَكَ مَالًا، بِأَنْ يَحُجَّ وَارِثُهُ عَنْهُ أَوْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا، بَقِيَ النَّذْرُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يُلْزَمُ الْوَرَثَةَ بِقَضَائِهِ عَنْهُ.

ج- وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ صَوْمًا، فَمَاتَ النَّاذِرُ قَبْلَ فِعْلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّوْمَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، فَلَا يَصُومُ عَنْهُ أَحَدٌ، لِأَنَّ الصَّوْمَ الْوَاجِبَ جَارٍ مَجْرَى الصَّلَاةِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، فَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَيَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ فِي الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ، فَيُقْبَلُ قَضَاءُ الْوَلِيِّ لَهُ كَمَا يَقْضِي دَيْنَهُ.

غَيْرَ أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَى الْوَلِيِّ فِي قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الصِّلَةِ لَهُ وَالْمَعْرُوفِ.

د- وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ اعْتِكَافًا، فَمَاتَ النَّاذِرُ قَبْلَ أَدَائِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَفْعَلُهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَيَعْتَكِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ اسْتِحْبَابًا عَلَى سَبِيلِ الصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ.

ط- الْعِدَةُ:

91- الْعِدَةُ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعِدَةِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِهَا مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ الْعِدَةَ إِذَا كَانَتْ مُرْتَبِطَةً بِسَبَبٍ، وَدَخَلَ الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا وَيُلْزَمُ بِهِ الْوَاعِدُ قَضَاءً، رَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمَوْعُودِ الْمُغَرَّرِ بِهِ، وَتَقْرِيرًا لِمَبْدَأِ تَحْمِيلِ التَّبَعِيَّةِ لِمَنْ وَرَّطَهُ فِي ذَلِكَ، إِذْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا وَعَدَهُ بِأَنْ يُسْلِفَهُ ثَمَنَ دَارٍ يُرِيدُ شِرَاءَهَا، فَاشْتَرَاهَا الْمَوْعُودُ تَعْوِيلًا عَلَى وَعْدِهِ، أَوْ أَنْ يُقْرِضَهُ مَبْلَغَ الْمَهْرِ فِي الزَّوَاجِ، فَتَزَوَّجَ اعْتِمَادًا عَلَى عِدَتِهِ.

وَلَكِنَّ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَنَّ الْوَاعِدَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ إِنْجَازِ وَعْدِهِ فَإِنَّ الْوَعْدَ يَسْقُطُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا، أَمْ مُعَلَّقًا عَلَى سَبَبٍ وَدَخَلَ الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ، أَمَّا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَلِأَنَّ الْوَعْدَ لَا يَلْزَمُ الْوَاعِدَ أَصْلًا، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ فِي الْحَالَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، فَلِأَنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَعْرُوفَ لَازِمٌ لِمَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يَمُتْ أَوْ يُفْلِسْ، وَبِالْمَوْتِ سَقَطَ الْتِزَامُهُ وَتَلَاشَى فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْءٌ لِأَجْلِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


62-موسوعة الفقه الكويتية (هبة 3)

هِبَةٌ-3

الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ:

39- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ:

الْأَوَّلُ: عَدَمُ جَوَازِ الرُّجُوعِ إِلاَّ لِأَبٍ فِيمَا وَهَبَ وَلَدَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ يُلْحَقُ سَائِرُ الْأُصُولِ بِالْأَبِ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ.

وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْأُمَّ بِالْأَبِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ غَيْرَ يَتِيمٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْأُمَّ كَالْأَبِ فِي الرُّجُوعِ مُطْلَقًا وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إِلاَّ فِيمَا يَهَبُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ» فَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي عَدَمِ جَوَازِ رُجُوعِ غَيْرِ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ.

وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ».

الثَّانِي: يَصِحُّ الرُّجُوعُ لِلْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالِي: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رَدُّوهَا} وَالتَّحِيَّةُ هُنَا تُفَسَّرُ بِالْهَدِيَّةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (أَوْ رَدُّوهَا) لِأَنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الْأَعْرَاضِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِعَادَةِ الشَّيْءِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْأَعْرَاضِ كَالتَّحِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ يُعَوَّضُ، فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْوَاهِبَ أَحَقَّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْعِوَضُ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يُرِدْ خِلَافَهُ عَنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا.وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَالِيَّ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا مِنْ هِبَةِ الْأَجَانِبِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَهَبُ الْأَجْنَبِيَّ إِحْسَانًا إِلَيْهِ وَإِنْعَامًا عَلَيْهِ، وَقَدْ يَهَبُ لَهُ طَمَعًا فِي الْمُكَافَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ عُرْفًا وَعَادَةً، فَالْمَوْهُوبُ لِأَجْلِهِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ شَرْعًا.

وَقَدْ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَفَوَاتُ الْمَقْصُودِ مِنْ عَقْدٍ مُحْتَمَلٍ لِلْفَسْخِ يَمْنَعُ لُزُومَهُ كَالْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَالرِّضَا فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ فَهُوَ شَرْطٌ لِلُّزُومِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ عَيْبًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَقْدُ؛ لِعَدَمِ الرِّضَا عِنْدَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ السَّلَامَةُ، فَكَذَا هَذَا.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبِ التَّرَاضِيَ أَوِ التَّقَاضِيَ حَتَّى لَا يَصِحَّ الرُّجُوعُ بِدُونِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ الْإِفْرَازَ فِي الشَّائِعِ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ.

الثَّالِثُ عَنْ أَحْمَدَ: لَيْسَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ.

الرَّابِعُ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ لِلْأَبِ الرُّجُوعَ إِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ أَوْ رَغْبَةٌ كَتَزْوِيجٍ وَفَلَسٍ أَوْ مَا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الْمُتَّهَبِ مُؤَبَّدًا أَوْ مُؤَقَّتًا.

مَوَانِعُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَوَانِعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

أَوَّلًا: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

40- مَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فِي الْأَحْوَالِ الْآتِيَةِ:

أ- هَلَاكُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ أَوِ اسْتِهْلَاكُهُ: فَإِذَا تَلِفَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ فِي الشَّيْءِ الْهَالِكِ، كَمَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَيْسَ قَبْضًا مَضْمُونًا، وَقِيمَتُهُ لَيْسَتْ مَوْهُوبَةً؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَهَذَا فِي الْهَلَاكِ الْكُلِّيِّ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْهَلَاكُ جُزْئِيًّا فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ حِينَئِذٍ يَكُونُ رُجُوعًا فِي بَعْضِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي بَعْضِ الْمَوْهُوبِ وَهُوَ قَائِمٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَقَصَ.وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ضَمَانُ النَّقْصِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ قَبْضَ ضَمَانٍ.

ب- خُرُوجُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْمَوْتِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَخْتَلِفُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، إِذْ إِنَّ مِلْكَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ سَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي أَوِ الْوَارِثِ.

ج- الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ إِذَا حَدَثَتْ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِفِعْلِ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الشَّيْءِ أَمْ لَيْسَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْهُ، نَحْوَ مَا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ دَارًا فَبَنَى الْمَوْهُوبُ لَهُ زِيَادَةً فِيهَا، أَوْ كَانَتْ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا أَشْجَارًا، أَوْ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ صَبْغًا زَادَ فِي قِيمَتِهِ، أَوْ طَرَأَ سِمَنٌ عَلَى الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ اخْتَلَطَ الْمَوْهُوبُ بِغَيْرِهِ، فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ.

أَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ كَاللَّبَنِ وَالثَّمَرِ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزَّوَائِدَ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لَا يَرِدُ عَلَيْهَا الْفَسْخُ، كَمَا أَنَّهُ يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ دُونَ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ.

أَمَّا نُقْصَانُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي كُلِّ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي بَعْضِهِ مَعَ بَقَائِهِ، فَكَذَا عِنْدَ نُقْصَانِهِ.

د- وُجُودُ الْعِوَضِ: إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِعِوَضٍ وَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» كَمَا أَنَّ التَّعْوِيضَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَقْصُودَ الْوَاهِبِ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الْعِوَضِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ.وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا.

هـ- إِذَا كَانَ فِي الْهِبَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَضِ: وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْأَحْوَالِ التَّالِيَةِ: - الْهِبَةُ لِصِلَةِ الرَّحِمِ- لَا رُجُوعَ فِي الْهِبَةِ لِذِي رَحِمِ مُحَرَّمٍ مِنَ الْوَاهِبِ.

وَحُجَّتُهُمْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» وَمَعْنَاهُ أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يُعَوَّضْ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ عِوَضٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ التَّوَاصُلَ سَبَبٌ لِلتَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الدُّنْيَا وَسَبَبٌ لِلثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ.

كَمَا أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَمَرَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَدْ مَنَعَ الرُّجُوعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْهِبَةِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ لِقُصُورِ مَعْنَى الصِّلَةِ، فَلَا يَكُونُ فِي مَدَى الْعِوَضِ.

الزَّوْجِيَّةُ: لَا يَرْجِعُ أَيٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا وَهَبَ لِصَاحِبِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَقْتَ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ صِلَةَ الزَّوْجِيَّةِ تَجْرِي مَجْرَى صِلَةِ الْقَرَابَةِ الْكَامِلَةِ، بِدَلِيلِ تَعَلُّقِ التَّوَارُثِ بِهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.

الثَّوَابُ أَوِ الصَّدَقَةُ: إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ إِلَى فَقِيرٍ فَهِيَ صَدَقَةٌ يُطْلَبُ فِيهَا ثَوَابُ اللَّهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْهِبَةُ لِلْأَغْنِيَاءِ و- مَوْتُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ: فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَى الْوَرَثَةِ كَمَا إِذَا انْتَقَلَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَوَارِثُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْعَقْدِ.

ز- تَغَيُّرُ الْمَوْهُوبِ: بِأَنْ كَانَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ، أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ، فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ.

ثَانِيًا: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا أَجَازُوا الرُّجُوعَ فِيهِ:

41- يَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ فِي اعْتِصَارِ الْهِبَةِ (أَيِ الرُّجُوعِ فِيهَا) حِينَ يَهَبُ لِوَلَدِهِ بِوُجُودِ أَحَدِ الْمَوَانِعِ الْآتِيَةِ:

أ- أَنْ يَزِيدَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ أَوْ يَنْقُصَ فِي ذَاتِهِ، كَأَنْ يَكْبُرَ الصَّغِيرُ أَوْ يَسْمُنَ الْهَزِيلُ أَوْ يَهْزِلَ السَّمِينُ، أَمَّا إِذَا تَغَيَّرَتْ قِيمَةُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الْأَسْوَاقِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، لِأَنَّ الْهِبَةَ عَلَى حَالِهَا، وَزِيَادَةَ الْقِيمَةِ أَوْ نُقْصَانَهَا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، كَاخْتِلَافِ السِّعْرِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.

ب- أَنْ يَقْصِدَ النَّاسُ مُدَايَنَةَ الْوَلَدِ أَوْ تَزْوِيجَهُ لِأَجْلِ الْهِبَةِ، لِكَوْنِهِ أَصْبَحَ بِالْهِبَةِ مُوسِرًا، فَمَنْ عَقَدَ زَوَاجَ الذَّكَرِ أَوِ الْأُنْثَى لِأَجْلِ يُسْرِهِمَا بِالْهِبَةِ أَوْ أَعْطَى أَحَدَهُمَا دَيْنًا لِأَجْلِ ذَلِكَ، أَوِ اشْتَرَيَا شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوَاجُ وَالْمُدَايَنَةُ لِأَمْرٍ غَيْرِ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.

ج- أَنْ يَمْرَضَ الْوَلَدُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَرَضَ الْمَوْتِ؛ وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ وَرَثَتِهِ بِالْهِبَةِ، فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا مَرِضَ الْوَاهِبُ ذَلِكَ الْمَرَضَ، فَإِنَّ مَرَضَهُ هَذَا يَمْنَعُهُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ يَكُونُ لِغَيْرِهِ، أَيْ يَمُوتُ فَتَكُونُ الْهِبَةُ الَّتِي رَجَعَ فِيهَا لِغَيْرِ الْوَلَدِ، كَزَوْجَةِ الْأَبِ مَثَلًا، أَمَّا إِذَا وَهَبَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ الْمُتَزَوِّجَ أَوِ الْمَدِينَ أَوِ الْمَرِيضَ، أَوْ كَانَ الْوَالِدُ مَرِيضًا وَقْتَ الْهِبَةِ- فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.

د- أَنْ تَفُوتَ الْهِبَةُ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا أَوْ تَفُوتَ بِصِفَةٍ فِيهَا مِمَّا يُغَيِّرُهَا عَنْ حَالِهَا كَجَعْلِ الدَّنَانِيرِ حُلِيًّا. ثَالِثًا: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا أَجَازُوا الرُّجُوعَ فِيهِ:

42- يُمْنَعُ الرُّجُوعُ لِلْأَبِ وَسَائِرِ الْأُصُولِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا خَرَجَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ عَنْ سَلْطَنَةِ الْوَلَدِ.

وَيَتَحَقَّقُ الْخُرُوجُ بِبَيْعِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ كُلِّهِ أَوْ وَقْفِهِ أَوْ هِبَتِهِ لآِخَرَ مَعَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.

أَمَّا غَصْبُ الْمَوْهُوبِ أَوْ رَهْنُهُ أَوْ هِبَتُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ إِجَارَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ سَلْطَنَةَ الْوَلَدِ، فَيَجُوزُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ.

وَلَوْ بَاعَ الْوَلَدُ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ لَهُ مِنْ أَبِيهِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِشِرَاءٍ أَوْ إِرْثٍ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ عَوْدَ السَّلْطَنَةِ هُنَا كَانَ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.

وَلَا تَمْنَعُ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الرُّجُوعَ، أَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَهِيَ لِلْوَلَدِ؛ وَلِأَنَّهَا حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَيَرْجِعُ الْوَالِدُ بِالشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ

رَابِعًا: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا أَجَازُوا الرُّجُوعَ فِيهِ:

43- أ- إِذَا خَرَجَ الْمَوْهُوبُ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ؛ كَبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ إِرْثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَالِدِ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ إِبْطَالٌ لِمِلْكِ غَيْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.وَإِنْ عَادَ الْمِلْكُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ لَمْ يَمْلِكِ الْأَبُ الرُّجُوعَ.

أَمَّا إِنْ عَادَ إِلَيْهِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ لِعَيْبٍ أَوْ إِقَالَةٍ أَوْ فَلَسِ الْمُشْتَرِي، فَفِي جَوَازِ رُجُوعِ الْأَبِ وَجْهَانِ: الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ.

ب- عَدَمُ بَقَاءِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ فِي تَصَرُّفِ الْوَلَدِ بِحَيْثُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَتِهِ، فَإِنْ رَهَنَهُ أَوْ أَفْلَسَ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْلِكِ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِبْطَالًا لِحَقِّ غَيْرِ الْوَلَدِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ مِنَ التَّصَرُّفِ جَازَ الرُّجُوعُ.

ج- إِذَا تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ رَغْبَةً لِغَيْرِ الْوَلَدِ، مِثْلَ أَنْ يَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ شَيْئًا، فَيَرْغَبُ النَّاسُ فِي مُعَامَلَتِهِ وَمُدَايَنَتِهِ، أَوْ رَغِبُوا فِي تَزْوِيجِهِ فَزَوَّجُوهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَعَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ رِوَايَتَانِ:

الْأُولَى: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ غَرَّ النَّاسَ بِمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ حَتَّى وَثِقُوا بِهِ، فَأَقْدَمُوا عَلَى مُدَايَنَتِهِ أَوْ تَزْوِيجِهِ، فَإِذَا رَجَعَ كَانَ ذَلِكَ إِضْرَارًا بِهِمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، » وَلِأَنَّ فِي هَذَا الصَّنِيعِ تَحَايُلًا عَلَى إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.

الثَّانِيَةُ: لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي رُجُوعِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الدَّائِنِ وَالْمُتَزَوِّجِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الرُّجُوعِ.

د- إِذَا زَادَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَتَعَلُّمِ الصَّنْعَةِ، فَإِنْ زَادَتْ فَعَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ رِوَايَتَانِ:

الْأُولَى: يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ لِكَوْنِهَا نَمَاءَ مِلْكِهِ، وَلَمْ تَنْتَقِلْ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ وَالِدِهِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الرُّجُوعُ فِيهَا امْتَنَعَ الرُّجُوعُ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا.

الثَّانِيَةُ: لَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ فَلَمْ تَمْنَعِ الرُّجُوعَ كَالزِّيَادَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَكَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ

هـ- وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَرْجِعَ فِي صَدَاقِهَا الَّذِي وَهَبَتْهُ لِزَوْجِهَا إِذَا طَلَّقَهَا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ سَأَلَهَا الْهِبَةَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْهِبَةِ تَبْتَغِي اسْتِدَامَةَ النِّكَاحِ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا جَازَ لَهَا الرُّجُوعُ.هَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَرْجِعَ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْهِبَةُ بِطَلَبٍ مِنَ الزَّوْجِ أَمْ لَا، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَحَكَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنِ الْقُضَاةِ.

وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الرُّجُوعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ،.

44- لَوْ تَصَرَّفَ الْأَبُ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ لِوَلَدِهِ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا.

وَلَوْ أَسْقَطَ الْأَبُ حَقَّهُ مِنَ الرُّجُوعِ فَفِي سُقُوطِهِ احْتِمَالَاتٌ:

الْأَوَّلُ: لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ.

الثَّانِي: يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ إِسْقَاطُهُ.

مَاهِيَّةُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

45- الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ يَكُونُ بِالتَّقَاضِي أَوْ يَكُونُ بِالتَّرَاضِي. فَإِنْ كَانَ بِالتَّقَاضِي فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ يَكُونُ فَسْخًا؛ لِأَنَّهُ تَمَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَحُكْمُهُ الْفَسْخُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الرُّجُوعُ بِالتَّرَاضِي فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ غَيْرَ زُفَرَ إِلَى أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ لِلْهِبَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: إِنَّهُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ.

وَحُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْوَاهِبَ بِالْفَسْخِ يَسْتَوْفِي حَقَّ نَفْسِهِ، وَاسْتِيفَاءُ الْحَقِّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَهَذَا بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ صِفَةُ السَّلَامَةِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمِ الْمَبِيعَ اخْتَلَّ رِضَاهُ، فَيَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ ضَرُورَةً، فَتَوَقَّفَ لُزُومُ مُوجِبِ الْفَسْخِ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي.

وَحُجَّةُ زُفَرَ: أَنَّ مِلْكَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ عَادَ إِلَى الْوَاهِبِ بِتَرَاضِيهِمَا فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَيُعْتَبَرُ عَقْدًا جَدِيدًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ: أَنَّ الْمُتَّهَبَ إِذَا رَدَّ الْهِبَةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ، وَهَذَا حُكْمُ الْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ لَا حُكْمُ الْفَسْخِ.

أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الرُّجُوعِ قَضَاءَ الْقَاضِي وَلَا التَّرَاضِيَ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَ أَجَازُوا رُجُوعَ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ إِنَّمَا اعْتَمَدُوا نَصًّا مِنَ الشَّرْعِ، فَالرُّجُوعُ بَعْدَئِذٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى أَيِّ شَرْطٍ؛ لِخُلُوِّ النَّصِّ الَّذِي أَجَازَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ.

فَإِذَا رَجَعَ الْأَبُ فَإِنَّهُ خِيَارٌ فِي فَسْخِ عَقْدِ الْهِبَةِ كَالْفَسْخِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَا يَكُونُ الرُّجُوعُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً.

وَإِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِعِوَضٍ فَإِنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْبَيْعِ وَتَأْخُذُ أَحْكَامَهُ فِي الْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ التَّفَاسُخَ فِي الْهِبَةِ وَالتَّقَايُلَ لَيْسَ رُجُوعًا، فَلَا تَنْفَسِخُ الْهِبَةُ بِهِمَا.

الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

46- إِذَا حَصَلَ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ التَّالِيَةُ:

أ- يَعُودُ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ إِلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ. ب- يَمْلِكُهُ الْوَاهِبُ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يُعْتَبَرُ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ لَا فِي عَوْدِ مِلْكٍ قَدِيمٍ.وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الرُّجُوعَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.

ج- الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ يَكُونُ أَمَانَةً بِيَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُ؛ لأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ قَبْضٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَإِذَا انْفَسَخَتِ الْهِبَةُ بَقِيَ قَبْضُ الْوَاهِبِ قَائِمًا وَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الْهِبَةَ، لَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ بِيَدِهِ.

47- إِذَا وَهَبَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ لِلْوَاهِبِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ بِتَرَاضٍ لَا قَضَاءِ قَاضٍ فَإِنَّهُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ.

وَبِنَاءً عَلَيْهِ لَزِمَ مَا يَلِي:

- لَا يَمْلِكُهُ الْوَاهِبُ حَتَّى يَقْبِضَهُ.

- إِذَا قَبَضَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ بِالتَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي.

- لَيْسَ لِلْمُتَّهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ.

هَتْمَاءُ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


63-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 2)

وُضُوءٌ-2

الْمُجْزِئُ مِنَ الْغَسْلِ فِي الْوُضُوءِ:

50- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُجْزِئِ مِنَ الْغَسْلِ فِي الْوُضُوءِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: (الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهُ يَكْفِي فِي غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ جَرَيَانُ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الدَّلْكُ، وَانْفَرَدَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ بِاشْتِرَاطِهِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: غَسْلُ الْوَجْهِ هُوَ إِسَالَةُ الْمَاءِ مَعَ التَّقَاطُرِ وَلَوْ قَطْرَةً، حَتَّى لَوْ لَمْ يَسِلْ، بِأَنِ اسْتَعْمَلَهُ اسْتِعْمَالَ الدُّهْنِ لَمْ يَجُزْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا لَوْ تَوَضَّأَ بِالثَّلْجِ وَلَمْ يَقْطُرْ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَجُزْ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: هُوَ مُجَرَّدُ بَلِّ الْمَحَلِّ بِالْمَاءِ.سَالَ أَوْ لَمْ يَسِلْ.

وَنَقَلَ ابْنُ الْهُمَامِ عَنْهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ إِذَا سَالَ عَلَى الْعُضْوِ وَإِنْ لَمْ يَقْطُرْ.

وَنَقَلَ الْحَصْكَفِيُّ عَنِ الْفَيْضِ أَنَّ أَقَلَّهُ قَطْرَتَانِ فِي الْأَصَحِّ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْغَسْلُ هُوَ إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْعُضْوِ مُقَارِنًا لِلْمَاءِ أَوْ عَقِبَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْمُرَادُ بِالْغَسْلِ الِانْغِسَالُ، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْلِ الْمُتَوَضِّئِ أَمْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، أَمْ بِغَيْرِ فِعْلٍ أَصْلًا- كَأَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْمَطَرُ- وَلَوْ بِغَسْلِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنِهِ، أَوْ سُقُوطِهِ فِي نَهَرٍ إِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلنِّيَّةِ فِيهِمَا.

الْوَجْهُ وَحَدُّهُ:

51- قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْوَجْهُ هُوَ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، فَيُغْسَلُ ظَاهِرُهُ كُلُّهُ.

وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: حَدُّ الْوَجْهِ عَرْضًا: مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ، وَحَدُّهُ طُولًا: مَا بَيْنَ مَنَابِتِ شَعَرِ رَأْسِهِ عَالِيًا- أَيْ أَنَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْبُتَ عَلَيْهِ الشَّعْرُ الْمَذْكُورُ- وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُهُمْ: مِنْ مَبْدَأِ أَعْلَى جَبْهَتِهِ.إِلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: ذَلِكَ فِيمَنْ لَا لِحْيَةَ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ لَهُ لِحْيَةٌ.فَمُنْتَهَى لِحْيَتُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمُسْتَرْسِلُ أَيِ الْخَارِجُ عَنْ دَائِرَةِ الْوَجْهِ مِنَ الشَّعْرِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُوَاجِهُ إِلَى الْمُتَّصِلِ عَادَةً لَا إِلَى الْمُسْتَرْسِلِ فَلَمْ يَكُنْ وَجْهًا، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَلَا يَجِبُ مَسْحُهُ كَذَلِكَ، بَلْ يُسَنُّ، وَالسِّلْعَةُ إِذَا تَدَلَّتْ عَنِ الْوَجْهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الشُّعُورُ الْخَارِجَةُ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا مُطْلَقًا إِنْ خَفَّتْ، وَظَاهِرِهَا مُطْلَقًا إِنْ كَثُفَتْ.وَفِي قَوْلٍ: لَا يَجِبُ غَسْلُ خَارِجٍ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ مِنْ لِحْيَةٍ وَغَيْرِهَا خَفِيفًا كَانَ أَوْ كَثِيفًا، لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا؛ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّ الْغَرَضِ.وَقَالُوا: يَجِبُ غَسْلُ سِلْعَةٍ نَبَتَتْ فِي الْوَجْهِ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ حَدِّهِ؛ لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ بِهَا.

غَسْلُ الشَّعْرِ الَّذِي عَلَى الْوَجْهِ:

52- قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ مَا فِي الْوَجْهِ مِنْ شَعْرٍ إِنْ كَانَ لِحْيَةَ رَجُلٍ فَيَغْسِلُ الْخَفِيفَ مِنْ هَذَا الشَّعْرِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَتَّى الْجِلْدَةَ الَّتِي نَبَتَ عَلَيْهَا الشَّعْرُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا بِحَيْثُ لَا تُرَى هَذِهِ الْجِلْدَةُ أَثْنَاءَ الْمُخَاطَبَةِ سَقَطَ غَسْلُ الْبَاطِنِ؛ لِلْحَرَجِ.

وَإِنْ كَانَ مَا فِي الْوَجْهِ مِنْ شَعَرٍ هُدْبًا، أَوْ حَاجِبًا، أَوْ شَارِبًا، أَوْ عَنْفَقَةً- وَهِيَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الشَّفَةِ السُّفْلَى- أَوْ لِحْيَةَ امْرَأَةٍ أَوْ خُنْثَى.فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ غَسْلِ هَذَا الشَّعْرِ- خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا- عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَجِبُ غَسْلُ أُصُولِ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ وَالْعَنْفَقَةِ إِذَا كَانَ هَذَا الشَّعْرُ كَثِيفًا؛ لِلْحَرَجِ فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى أُصُولِ الشَّعْرِ وَيُسَنُّ تَخْلِيلُ لِحْيَةِ غَيْرِ الْمُحْرِمِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّعْرُ خَفِيفًا تَبْدُو الْبَشَرَةُ مِنْ خِلَالِهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي نَبَتَ عَلَيْهَا.

وَلَا يَجِبُ غَسْلُ الْمُسْتَرْسِلِ مِنَ الشَّعْرِ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْ دَائِرَةِ الْوَجْهِ كَمَا لَا يَجِبُ مَسْحُهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ غَسْلُ الْوَجْهِ مَعَ تَخْلِيلِ شَعْرٍ مِنْ لِحْيَةٍ أَوْ حَاجِبٍ أَوْ شَارِبٍ أَوْ عَنْفَقَةٍ أَوْ هُدْبٍ تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهُ فِي مَجْلِسِ الْمُخَاطَبَةِ، وَالتَّخْلِيلُ: إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ أَيِ الْجِلْدَةِ النَّابِتِ فِيهَا الشَّعْرُ.وَهَذَا فِي الشَّعْرِ الْخَفِيفِ، أَمَّا الْكَثِيفُ فَلَا يُخَلِّلُهُ، بَلْ يُكْرَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَمُّقِ، وَيَكْفِي إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ دُونَ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ.

قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَجِبُ تَحْرِيكُهُ لِيَدْخُلَ الْمَاءُ بَيْنَ ظَاهِرِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْبَشَرَةِ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ الرَّاجِحُ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِنَدْبِهِ، وَلِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ تَخْلِيلِهِ، وَقَالَ: وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي وُجُوبِ تَخْلِيلِ الْخَفِيفِ، وَفِي الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي الْكَثِيفِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: شُعُورُ الْهُدْبِ وَالْحَاجِبِ وَالشَّارِبِ وَالْعِذَارِ وَالْعَنْفَقَةِ تُغْسَلُ شَعْرًا وَبَشَرًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ كَثُفَتْ؛ لِأَنَّ كَثَافَتَهَا نَادِرَةٌ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِ عَنْفَقَةٍ كَثِيفَةٍ وَلَا بَشَرَتِهَا كَاللِّحْيَةِ، وَفِي ثَالِثٍ: يَجِبُ إِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِاللِّحْيَةِ.

وَقَالُوا: لِحْيَةُ الْمَرْأَةِ كَهَذِهِ الشُّعُورِ تُغْسَلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِنُدْرَةِ كَثَافَتِهَا؛ وَلِأَنَّهُ يُسَنُّ لَهَا إِزَالَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مُثْلَةٌ فِي حَقِّهَا، وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى فِي غَسْلِ مَا ذُكِرَ إِنْ لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى ذُكُورَتِهِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَلِحْيَةُ الرَّجُلِ إِنْ خَفَّتْ- بِحَيْثُ تُرَى بَشَرَةُ الْوَجْهِ تَحْتَ الشَّعْرِ- يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَإِنْ كَثُفَتْ فَيُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَلَا يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِهَا؛ لِعُسْرِ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِ مَعَ الْكَثَافَةِ غَيْرِ النَّادِرَةِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ فَغَرَفَ غَرْفَةً غَسَلَ بِهَا وَجْهَهُ وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ الْكَرِيمَةُ كَثِيفَةً»، وَبِالْغَرْفَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى ذَلِكَ غَالِبًا.وَيُسَنُّ تَخْلِيلُهَا.

فَإِنْ خَفَّ بَعْضُ لِحْيَةِ الرَّجُلِ وَكَثُفَ بَعْضُهَا وَتَمَيَّزَ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ بِأَنْ كَانَ الْكَثِيفُ مُتَفَرِّقًا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْخَفِيفِ وَجَبَ غَسْلُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ إِفْرَادَ الْكَثِيفِ بِالْغَسْلِ يَشُقُّ، وَإِمْرَارَ الْمَاءِ عَلَى الْخَفِيفِ لَا يُجْزِئُ.وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَفِي رَأْيٍ يَجِبُ غَسْلُ الْبَشَرَةِ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ قَوْلًا وَوَجْهًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ، فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ، فَخَلَّلَ بِهَا لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي».

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَعَلَى الشَّارِبِ وَالْحَاجِبِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ اللِّحْيَةِ وَمَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ مِنَ الشَّعْرِ الْمُسْتَرْسِلِ؛ لِأَنَّ اللِّحْيَةَ تُشَارِكُ الْوَجْهَ فِي مَعْنَى التَّوَجُّهِ وَالْمُوَاجَهَةِ.

وَكَذَا يَجِبُ غَسْلُ عَنْفَقَةِ وَشَارِبِ وَحَاجِبَيْ وَلِحْيَةِ امْرَأَةٍ وَخُنْثَى إِذَا كَانَ كَثِيفًا، وَيُجْزِئُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ كَلِحْيَةِ الذَّكَرِ، وَيُسَنُّ غَسْلُ بَاطِنِهِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ.كَالشَّافِعِيِّ أَيْ فِي غَيْرِ لِحْيَةِ الرَّجُلِ.

وَالْخَفِيفُ مِنْ شُعُورِ الْوَجْهِ كُلِّهَا- وَهُوَ الَّذِي يَصِفُ الْبَشَرَةَ- يَجِبُ غَسْلُهُ وَغَسْلُ مَا تَحْتَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَسْتُرُهُ شَعْرُهُ يُشْبِهُ مَا لَا شَعْرَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ غَسْلُ الشَّعْرِ تَبَعًا لِلْمَحَلِّ، فَإِنْ كَانَ فِي شَعْرِهِ كَثِيفٌ وَخَفِيفٌ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.

وَقَالُوا يُسَنُّ تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ عِنْدَ غَسْلِهَا لِحَدِيثِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ».

وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا يَجِبُ غَسْلُ مَا خَرَجَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْبَشَرَةِ طُولًا وَعَرْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ فِي الْمُسْتَرْسِلِ.قَالَ أَحْمَدُ: وَيُسَنُّ أَنْ يَزِيدَ فِي مَاءِ الْوَجْهِ لِأَسَارِيرِهِ وَدَوَاخِلِهِ وَخَوَارِجِهِ وَشُعُورِهِ.

غَسْلُ مَآقِ الْعَيْنِ وَدَاخِلِهَا:

53- قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُغْسَلُ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ مَآقِ الْعَيْنِ- أَيْ طَرَفِهَا أَوْ مُؤَخِّرِهَا- فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْمَحَلِّ الْوَاجِبِ غَسْلُهُ كَالرَّمَصِ وَجَبَتْ إِزَالَتُهُ وَغَسْلُ مَا تَحْتَهُ.

أَمَّا دَاخِلُ الْعَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءَ فِي غَسْلِهِ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُغْسَلُ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ بَاطِنُ الْعَيْنَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَا أَمَرَ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ شَحْمٌ يَضُرُّهُ الْمَاءُ الْحَارُّ وَالْبَارِدُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُ غَسْلِ دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ بِشَرْطِ أَمْنِ الضَّرَرِ، وَعَنْهُ: يَجِبُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى.

أَمَّا إِذَا تَنَجَّسَ دَاخِلُ الْعَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي غَسْلِهِ أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِ الْعَيْنِ مِنْ نَجَاسَةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ دَاخِلِ الْعَيْنِ مِنْ نَجَاسَةٍ فِيهَا، فَيُعْفَى عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ.

غَسْلُ مَوْضِعِ الْغَمَمِ:

54- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ مَوْضِعُ الْغَمَمِ مِنَ الْوَجْهِ؛ لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ بِهِ، وَمَوْضِعُ الْغَمَمِ هُوَ مَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ مِنَ الْجَبْهَةِ، وَالْغَمَمُ أَنْ يَسِيلَ الشَّعْرُ حَتَّى يَضِيقَ الْجَبْهَةُ وَالْقَفَا فَيَغْسِلُ الْمُتَوَضِّئُ مَا نَزَلَ مِنَ الشَّعْرِ عَنِ الْمُعْتَادِ مِنْ حَدِّ مَنْبَتِهِ فِي الرَّأْسِ، وَيَنْتَهِي إِلَى الْمُعْتَادِ وَقَدْرِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْوَاجِبُ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

غَسْلُ مَوْضِعِ التَّحْذِيفِ فِي الْوُضُوءِ:

55- مَوْضِعُ التَّحْذِيفِ: هُوَ مَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ الْخَفِيفُ بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْعِذَارِ وَالنَّزْعَةِ.

وَضَابِطُهُ أَنْ تَضَعَ طَرَفَ خَيْطٍ عَلَى طَرَفِ الْأُذُنِ، وَالطَّرَفَ الثَّانِيَ عَلَى أَعْلَى الْجَبْهَةِ، وَتَفْرِضَ هَذَا الْخَيْطَ مُسْتَقِيمًا، فَمَا نَزَلَ عَنْهُ إِلَى جَانِبِ الْوَجْهِ فَهُوَ مَوْضِعُ التَّحْذِيفِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُولِ مَوْضِعِ التَّحْذِيفِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ عِنْدَ الْوُضُوءِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي رَأْيٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّحْذِيفِ مِنَ الرَّأْسِ لِاتِّصَالِ شَعْرِهِ بِشَعْرِ الرَّأْسِ، فَلَا يُغْسَلُ مَعَ الْوَجْهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رَأْيٍ آخَرَ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ- قَالَ الْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا هُوَ الْأَصَحُّ- إِلَى أَنَّ التَّحْذِيفَ مِنَ الْوَجْهِ لِمُحَاذَاتِهِ بَيَاضَ الْوَجْهِ فَيُغْسَلُ مَعَهُ.

غَسْلُ الْبَيَاضِ بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ:

56- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- وَبِهِ يُفْتَى- إِلَى أَنَّ الْبَيَاضَ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ مِنَ الْوَجْهِ؛ لِدُخُولِهِ فِي حَدِّهِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْوَجْهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- كَمَا قَرَّرَ الدُّسُوقِيُّ- أَنَّ الْبَيَاضَ الْمُحَاذِيَ لِوَتَدِ الْأُذُنِ مِنَ الْوَجْهِ بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَا مَا كَانَ تَحْتَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُغْسَلُ وَلَا يُمْسَحُ مَعَ الرَّأْسِ، وَأَمَّا الْبَيَاضُ الَّذِي فَوْقَهُ فَهُوَ مِنَ الرَّأْسِ.

غَسْلُ الشَّفَتَيْنِ:

57- قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ أَنْ يُغْسَلَ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ مَا ظَهَرَ مِنْ حُمْرَةِ الشَّفَتَيْنِ، أَيْ مَا يَظْهَرُ مِنْهُمَا عِنْدَ انْضِمَامِهِمَا انْضِمَامًا طَبِيعِيًّا لَا عِنْدَ انْضِمَامِهِمَا بِشِدَّةٍ وَتَكَلُّفٍ، وَقِيلَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَجْهٍ: الشَّفَةُ تَبَعٌ لِلْفَمِ.

غَسْلُ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ:

58- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ غَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَغَسْلُ جُزْءٍ مِنَ الْحَلْقِ وَمِنْ تَحْتِ الْحَنَكِ وَمِنَ الْأُذُنَيْنِ مَعَ غَسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

غَسْلُ الْعِذَارِ:

59- قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْعِذَارُ- وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْعَظْمِ النَّاتِئِ أَيِ الْمُرْتَفِعِ الْمُسَامِتِ صِمَاخَ الْأُذُنِ وَهُوَ خَرْقُهَا- مِنَ الْوَجْهِ فَيُغْسَلُ مَعَهُ.

غَسْلُ الْوَتَرَةِ وَدَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ:

60- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى غَسْلِ الْوَتَرَةِ- وَهِيَ الْحَائِلُ بَيْنَ طَاقَتَيِ الْأَنْفِ- مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْوَجْهِ إِلاَّ أَنَّهَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَنْبُو عَنْهَا الْمَاءُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُغْسَلُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْوَجْهِ بِالْجَدْعِ: أَيْ مَا بَاشَرَتْهُ السِّكِّينُ بِالْقَطْعِ لَا مَا كَانَ مَسْتُورًا بِالْأَنْفِ.وَلَوِ اتَّخَذَ لَهُ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَالْتَحَمَ وَجَبَ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنْ أَنْفِهِ بِالْقَطْعِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ بِالْقَطْعِ، فَصَارَ الْأَنْفُ الْمَذْكُورُ فِي حَقِّهِ كَالْأَصْلِيِّ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْوُضُوءِ غَسْلُ الْوَجْهِ أَيْ ظَاهِرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ دَاخِلَ الْفَمِ وَدَاخِلَ الْأَنْفِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْوَجْهِ، فَهُوَ مَا تَتِمُّ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالظَّاهِرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ مِنَ الْوَجْهِ؛ لِدُخُولِهِمَا فِي حَدِّهِ، فَتَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الطِّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ مِنَ الْوُضُوءِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ».

غَسْلُ الصُّدْغِ وَمَوْضِعِ الصَّلَعِ وَالنَّزْعَتَيْنِ:

61- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصُّدْغَ وَمَوْضِعَ الصَّلَعِ وَالنَّزْعَتَانِ لَيْسَتْ مِنَ الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الرَّأْسِ.

وَالصُّدْغُ هُوَ الشَّعْرُ الَّذِي بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعِذَارِ يُحَاذِي رَأْسَ الْأُذُنِ وَيَنْزِلُ عَنْهُ قَلِيلًا.

وَمَوْضِعُ الصَّلَعِ: وَهُوَ مُقَدَّمُ الرَّأْسِ إِذَا خَلَا مِنَ الشَّعْرِ.

وَالنَّزْعَتَانِ هُمَا مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الشَّعْرُ مِنْ جَانِبَيْ مُقَدِّمَةِ الرَّأْسِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الصُّدْغُ مِنَ الْوَجْهِ فَيُغْسَلُ.

وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ: يُسَنُّ غَسْلُ مَوْضِعِ الصَّلَعِ وَالتَّحْذِيفِ وَالنَّزَغَيْنِ وَالصُّدْغَيْنِ مَعَ الْوَجْهِ؛ لِلْخِلَافِ فِي وُجُوبِهَا فِي غَسْلِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَغْسِلُ الْمُتَوَضِّئُ أَسَارِيرَ جَبْهَتِهِ، أَيْ خُطُوطَهَا وَتَكَامِيشَهَا، وَمَا غَارَ مِنْ جَفْنٍ أَوْ غَيْرِهِ إِذَا أَمْكَنَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ بِدَلْكٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَقَطَ غَسْلُهُ.

وَخَالَفَ الزُّهْرِيُّ الْجُمْهُورَ فِي تَحْدِيدِ الْوَجْهِ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الْوَجْهِ يُغْسَلَانِ مَعَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «سَجَدَ وَجْهِي لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ» حَيْثُ أَضَافَ السَّمْعَ إِلَى الْوَجْهِ كَمَا أَضَافَ الْبَصَرَ إِلَيْهِ.

وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ أُذُنَيْهِ مَعَ رَأْسِهِ» وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ أَنَّهُ غَسَلَهُمَا مَعَ الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهُمَا إِلَى الْوَجْهِ لِمُجَاوَرَتِهِمَا لَهُ، وَالشَّيْءُ يُسَمَّى بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ.

غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْعُضْوِ بَعْدَ غَسْلِ مَا فَوْقَهُ:

62- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ غَسَلَ ظَاهِرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الشُّعُورِ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ أَوِ انْقَلَعَتْ مِنْ وَجْهِهِ جِلْدَةٌ بَعْدَ غَسْلِهَا، هَلْ يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ أَمْ لَا؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ وَلَا يُعِيدُ وُضُوءَهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ إِلَى الشَّعْرِ أَصْلًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْبَشَرَةَ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجْزِهِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ ظُهُورَ بَشَرَةِ الْوَجْهِ بَعْدَ غَسْلِ شَعْرِهِ يُوجِبُ غَسْلَهَا قِيَاسًا عَلَى ظُهُورِ قَدَمِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ؛ وَلِأَنَّ غَسْلَهَا كَانَ بَدَلًا عَمَّا تَحْتَهَا.

الْفَرْضُ الثَّانِي: غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ:

63- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إِلَى الْمَرَافِقِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَبِمَا رُوِيَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ «أَنَّهُ تَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ».

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ.

غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ

64- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا زُفَرَ) إِلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْمِرْفَقَيْنِ مَعَ الْيَدَيْنِ؛ لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَى «إِلَى» الْوَارِدِ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى «مَعَ» فَدُخُولُ الْمِرْفَقِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْغَايَةِ فَالْحَدُّ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَلَ فِيهِ وَأَصْبَحَ شَامِلًا لِلْحَدِّ وَالْمَحْدُودِ.

وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ إِلَى مِرْفَقَيْهِ» وَلِمَا رُوِيَ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدَيْنِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقَيْنِ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ» فَثَبَتَ غَسْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- الْمِرْفَقَيْنِ، وَفِعْلُهُ بَيَانٌ لِلْوُضُوءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ تَرْكُهُ ذَلِكَ.

وَيَرَى نَفَرٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ: أَنَّ الْمِرْفَقَ لَا يَدْخُلُ فِي غَسْلِ الْيَدِ أَيْ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ مَعَ الْيَدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِرْفَقَ غَايَةً، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَا جُعِلَتْ لَهُ الْغَايَةُ كَمَا لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ تَحْتَ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ فِي قوله تعالى: «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ».

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمِرْفَقَيْنِ يَدْخُلَانِ، لَا لِأَجْلِ وُجُوبِ غَسْلِهِمَا مَعَ الْيَدَيْنِ، بَلِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِدُخُولِهِمَا.قَالَ الْحَطَّابُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ: عَزَاهُ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ لِأَبِي الْفَرَجِ، وَعَزَاهُ اللَّخْمِيُّ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّيْخِ فِي الرِّسَالَةِ، وَإِدْخَالُهُمَا أَحْوَطُ؛ لِزَوَالِ تَكْلِيفِ التَّحْدِيدِ.

قَطْعُ بَعْضِ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْيَدِ:

65- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قُطِعَ بَعْضُ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْيَدِ وَجَبَ غَسْلُ مَا بَقَى مِنْهُ؛ لِحَدِيثِ «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأَتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَلِأَنَّ الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ.

قَطْعُ الْيَدِ مِنَ الْمِرْفَقِ:

66- إِذَا قُطِعَتِ الْيَدُ مِنَ الْمِرْفَقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ غَسْلِ الْمِرْفَقِ فِي حُكْمِ غَسْلِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْعَظْمِ الَّذِي هُوَ طَرَفُ الْعَضُدِ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الْعَظْمَيْنِ الْمُتَلَاقِيَيْنِ مِنَ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَاجِبٌ، فَإِذَا زَالَ أَحَدُهُمَا غُسِلَ الْآخَرُ؛ وَلِأَنَّهُ مِنَ الْمِرْفَقِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلٍ لِلْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ طَرَفُ عَظْمِ السَّاعِدِ فَقَطْ، وَوُجُوبُ غَسْلِ رَأْسِ الْعَضُدِ كَانَ بِالتَّبَعِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْمِرْفَقَ فِي الذِّرَاعِ، وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ الْقَطْعُ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ إِنْ عَرَفَ أَنَّهُ بَقِيَ مِنَ الْمِرْفَقِ شَيْءٌ فِي الْعَضُدِ، فَيُغْسَلُ مَوْضِعُ الْقَطْعِ.

قَطْعُ الْيَدِ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ:

67- إِذَا قُطِعَتِ الْيَدُ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى سُقُوطِ وُجُوبِ الْغَسْلِ؛ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ غَسْلُ بَاقِي عَضُدِهِ؛ لِئَلاَّ يَخْلُوَ الْعُضْوُ عَنْ طَهَارَةٍ، وَلِتَطْوِيلِ التَّحْجِيلِ كَمَا لَوْ كَانَ سَلِيمَ الْيَدِ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، كَإِمْرَارِ الْمُحْرِمِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ عَدَمِ شَعْرِهِ وَقَالُوا: وَإِنْ قُطِعَ مِنْ مَنْكِبِهِ نُدِبَ غَسْلُ مَحَلِّ الْقَطْعِ بِالْمَاءِ.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَجَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ.

غَسْلُ مَا زَادَ مِنْ إِصْبَعٍ أَوْ كَفٍّ أَوْ يَدٍ:

68- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلْإِنْسَانِ إِصْبَعٌ أَوْ كَفٌّ زَائِدٌ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا نَابِتَةٌ مِنْهَا، أَشْبَهَتِ الثُّؤْلُولَ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا نَبَتَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ كَالْمِنْكَبِ أَوِ الْعَضُدِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ؛ لِوُقُوعِ اسْمِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ يُحَاذِ مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ مَا نَبَتَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَتَمَيَّزَ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَتْ شَعْرَ الرَّأْسِ إِذَا نَزَلَ عَنِ الْوَجْهِ.

غَسْلُ ظُفُرِ الْيَدِ أَوْ مَا تَحْتَهُ:

69- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ غَسْلُ ظُفُرِ الْيَدِ وَإِنْ طَالَ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِيَدِهِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ، فَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْيَدِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: لَا يَضُرُّ وَسَخٌ يَسِيرٌ تَحْتَ الظُّفُرِ وَلَوْ مَنَعَ وُصُولَ الْمَاءِ، قَالَ الْمُرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ عَادَةً، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْوُضُوءُ مَعَهُ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.

وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ بِالْوَسَخِ الْيَسِيرِ تَحْتَ الظُّفُرِ كُلَّ يَسِيرٍ مَنَعَ وُصُولَ الْمَاءِ حَيْثُ كَانَ مِنَ الْبَدَنِ كَدَمٍ وَعَجِينٍ وَنَحْوِهِمَا، وَاخْتَارَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا تَحْتَ الظُّفُرِ.

وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِ: تَحْتَ ظُفُرٍ وَنَحْوِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الشُّقُوقُ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ- كَمَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ-: عَلَى أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ مِنْ مَوْضِعِ الْوُضُوءِ قَدْرُ رَأْسِ إِبْرَةٍ أَوْ لَزِقَ بِأَصْلِ ظُفُرِهِ طِينٌ يَابِسٌ أَوْ رَطْبٌ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ تَلَطَّخَ يَدُهُ بِخَمْرٍ أَوْ حِنَّاءٍ جَازَ، وَسُئِلَ الدَّبُوسِيُّ عَمَّنْ عَجَنَ فَأَصَابَ يَدَهُ عَجِينٌ فَيَبِسَ وَتَوَضَّأَ؟ قَالَ: يُجْزِيهِ إِذَا كَانَ قَلِيلًا، كَذَا فِي الزَّاهِدِيِّ، وَمَا تَحْتَ الْأَظَافِيرِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ عَجِينٌ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَأَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ.

ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو نَصْرٍ الصَّفَارُ فِي شَرْحِهِ أَنَّ الظُّفُرَ إِذَا كَانَ طَوِيلًا بِحَيْثُ يَسْتُرُ رَأْسَ الْأُنْمُلَةِ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، وَإِنْ كَانَ قَصِيرًا لَا يَجِبُ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.

وَلَوْ طَالَتْ أَظْفَارُهُ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ وَجَبَ غَسْلُهَا قَوْلًا وَاحِدًا، كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ وَافِرِ الظُّفُرِ الَّذِي يَبْقَى فِي أَظْفَارِهِ الدَّرَنُ، أَوِ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ الطِّينِ، أَوِ الْمَرْأَةِ الَّتِي صُبِغَ إِصْبَعُهَا بِالْحِنَّاءِ، أَوِ الصِّرَامِ، أَوِ الصِّبَاغِ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ يُجْزِيهِمْ وُضُوؤُهُمْ؛ إِذْ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ إِلاَّ بِحَرَجٍ، وَالْفَتْوَى عَلَى الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَدَنِيِّ وَالْقَرَوِيِّ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَكَذَا الْخَبَّازُ إِذَا كَانَ وَافِرَ الْأَظْفَارِ، كَذَا فِي الزَّاهِدِيِّ نَاقِلًا عَنِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ، وَالْخِضَابُ إِذَا تَجَسَّدَ وَيَبِسَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ، كَذَا فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ نَاقِلًا عَنِ الْوَجِيزِ.

وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ إِنْ كَانَ وَافِرَ الْأَظْفَارِ وَفِيهَا دَرَنٌ أَوْ طِينٌ أَوْ عَجِينٌ، أَوِ الْمَرْأَةُ تَضَعُ الْحِنَّاءَ جَازَ الْوُضُوءُ فِي الْقَرَوِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، قَالَ الدَّبُوسِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.وَقَالَ الْإِسْكَافُ: يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ إِلاَّ الدَّرَنَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْهُ.وَقَالَ الصَّفَارُ فِيهِ يَجِبُ الْإِيصَالُ إِلَى مَا تَحْتَهُ إِنْ طَالَ الظُّفُرُ، وَهَذَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ وَإِنْ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الظَّوَاهِرِ لَكِنْ إِذَا طَالَ الظُّفُرُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ عُرُوضِ الْحَائِلِ كَقَطْرَةِ شَمْعَةٍ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ عَارِضٌ.وَفِي النَّوَازِلِ يَجِبُ فِي الْمِصْرِيِّ لَا الْقَرَوِيُّ؛ لِأَنَّ دُسُومَةَ أَظْفَارِ الْمِصْرِيِّ مَانِعَةٌ وُصُولَ الْمَاءِ، بِخِلَافِ الْقَرَوِيِّ وَلَوْ لَزِقَ بِأَصْلِ ظُفُرِهِ طِينٌ يَابِسٌ وَنَحْوُهُ، أَوْ بَقِيَ قَدْرُ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنْ مَوْضِعِ الْغَسْلِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ طَالَتْ أَظْفَارُهُ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ وَجَبَ غَسْلُهَا قَوْلًا وَاحِدًا.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الشَّعْرِ عَلَى الْيَدَيْنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ كَثُفَ؛ لِنُدْرَتِهِ، وَغَسْلُ بَاطِنِ ثُقْبٍ وَشُقُوقٍ فِيهِمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَوْرٌ فِي اللَّحْمِ، وَإِلاَّ وَجَبَ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنْهُ فَقَطْ، وَيُجْزِهِ هَذَا فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ.

وَيَجِبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فَقَطْ فِي الْوُضُوءِ (خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ)، وَيُحَافِظُ عَلَى عُقَدِ الْأَصَابِعِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، بِأَنْ يَحْنِيَ أَصَابِعَهُ، وَعَلَى رُءُوسِ الْأَصَابِعِ بِأَنْ يَجْمَعَهَا وَيَحُكَّهَا بِوَسَطِ الْكَفِّ، وَيَجِبُ مُعَاهَدَةُ تَكَامِيشِ الْأَنَامِلِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَجِبُ تَحْرِيكُ الْخَاتَمِ الْمَأْذُونِ فِيهِ لِرَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَيَشْمَلُ الْخَاتَمُ الْمُتَعَدِّدَ فِي حَقِّهَا وَمَا كَانَ مُبَاحًا لَهَا مِنْ أَسَاوِرَ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ كَانَ الْخَاتَمُ الْمَأْذُونُ فِيهِ ضَيِّقًا لَا يَدْخُلُ الْمَاءُ تَحْتَهُ، وَلَا يُعَدُّ حَائِلًا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَالذَّهَبِ لِلرَّجُلِ أَوِ الْمُتَعَدِّدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَزْعِهِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاسِعًا يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمَاءُ فَيَكْفِي تَحْرِيكُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّلْكِ بِالْخِرْقَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرَامِ كَالذَّهَبِ أَوِ الْمَكْرُوهِ كَالنُّحَاسِ، وَإِنْ كَانَ الْمُحَرَّمُ يَجِبُ نَزْعُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَرَامٌ.

غَسْلُ الْيَدِ الزَّائِدَةِ:

70- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ يَدٍ زَائِدَةٍ نَبَتَتْ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَبَتَتِ الْيَدُ الزَّائِدَةُ بِغَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُ مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ، وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِرْفَقٌ، فَإِنْ كَانَ لَهَا مِرْفَقٌ تُغْسَلُ كُلُّهَا.

وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ تَتَمَيَّزِ الزَّائِدَةُ، فَإِنْ تَمَيَّزَتْ وَجَبَ غَسْلُهَا أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَصِيرَةً أَوْ طَوِيلَةً.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ خُلِقَ لَهُ يَدَانُ عَلَى الْمَنْكِبِ، فَالتَّامَّةُ هِيَ الْأَصْلِيَّةُ يَجِبُ غَسْلُهَا وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ، فَمَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهُ، وَمَا لَا فَلَا، بَلْ يُنْدَبُ غَسْلُهُ.

وَصَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمُجْتَبَى: لَوْ خُلِقَ لَهُ يَدَانِ فَلَوْ يَبْطِشُ بِهِمَا غَسَلَهُمَا، وَلَوْ بِإِحْدَاهُمَا فِي الْأَصْلِيَّةِ فَيَغْسِلُهَا.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى عِبَارَةِ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: «لَوْ يَبْطِشُ بِإِحْدَاهُمَا فِي الْأَصْلِيَّةِ وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ لَا يَجِبُ غَسْلُهَا»، وَظَاهِرُهُ: وَلَوْ كَانَتْ تَامَّةً، وَفِي النَّهَرِ: وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا لَوْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ أَوْ مُنْفَصِلَتَيْنِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ غَسْلِهِمَا فِي الْأَوَّلِ وَغَسْلِ وَاحِدَةٍ فِي الثَّانِي.ثُمَّ قَالَ: فَلَمْ يَعْتَبِرْ- صَاحِبُ النَّهَرِ- الْبَطْشَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْبَطْشُ أَوَّلًا، فَإِنْ بَطَشَ بِهِمَا وَجَبَ غَسْلُهُمَا وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ وَجَبَ غَسْلُهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا مُنْفَصِلَتَيْنِ لَا يَجِبُ إِلاَّ غَسْلُ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الْيَدِ الزَّائِدَةِ إِنْ نَبَتَتْ بِغَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ عَنِ الْأَصْلِيَّةِ بِأَنْ كَانَتَا أَصْلِيَّتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا زَائِدَةٌ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ بِفُحْشِ قِصَرٍ، وَنَقْصِ أَصَابِعَ، وَضَعْفِ بَطْشٍ وَنَحْوِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الزَّائِدَةُ مُتَمَيِّزَةً، فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ.

غَسْلُ الْجِلْدِ الْمُتَدَلِّي مِنَ الْعَضُدِ:

71- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَدَلَّتْ جِلْدَةُ الْعَضُدِ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ غَسْلُ شَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ مَا يُحَاذِي مَحَلَّ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا مَعَ خُرُوجِهَا عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ تَقَلَّعَتْ جِلْدَةٌ مِنَ الْعَضُدِ حَتَّى تَدَلَّتْ مِنَ الذِّرَاعِ وَجَبَ غَسْلُهَا كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَوْ تَقَلَّصَتْ جِلْدَةٌ مِنَ الْعَضُدِ وَالْتَحَمَ رَأْسُهَا بِالذِّرَاعِ غَسْلَ مَا حَاذَى مَحَلَّ الْفَرْضِ مِنْ ظَاهِرِهَا، وَالْمُتَجَافِيَ مِنْهُ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ مِنْ بَاطِنِهَا، وَغَسَلَ مَا تَحْتَهُ؛ لِأَنَّهَا كَالنَّاتِئَةِ فِي الْمَحَلَّيْنِ، وَالْحَنَفِيَّةُ يُوَافِقُونَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ.

غَسْلُ الْجِلْدِ الْمُتَدَلِّي مِنَ الذِّرَاعِ:

72- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَقَلَّصَتْ جِلْدَةُ الذِّرَاعِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْهُ.

وَإِنْ تَقَلَّصَتِ الْجِلْدَةُ مِنَ الذِّرَاعِ وَالْتَحَمَ رَأَسُهَا فِي الْعَضُدِ وَجَبَ غَسْلُ مَا حَاذَى مَحَلَّ الْفَرْضِ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ إِنْ تَجَافَتْ عَنْهُ لَزِمَهُ غَسْلُ مَا تَحْتَهَا أَيْضًا، وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


64-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 5)

وُضُوءٌ-5

السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ- تَنْشِيفُ الْأَعْضَاءِ مِنْ بَلَلِ مَاءِ الْوُضُوءِ:

119- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَنْشِيفِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مِنْ بَلَلِ مَائِهِ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّنْشِيفُ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى سَلْمَانُ- رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ ثُمَّ قَلَبَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ» «وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ غُسْلِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ نَاوَلَتْهُ مَيْمُونَةُ- رضي الله عنها- خِرْقَةً فَلَمْ يَرُدَّهَا فَجَعَلَ يَنْفُضُ بِيَدِهِ».

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ تَرْكَ التَّنْشِيفَ أَفْضَلُ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ التَّنْشِيفَ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ أَنَّ الْمَسْنُونَ تَرْكُ التَّنْشِيفِ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ أَثَرَ الْعِبَادَةِ.

وَقَالُوا: إِذَا كَانَ التَّنْشِيفُ لِعُذْرٍ فَلَا يُسَنُّ تَرْكُهُ بَلْ يَتَأَكَّدُ سَنُّهُ، كَأَنْ خَرَجَ عَقِبَ وُضُوئِهِ فِي هُبُوبِ رِيحٍ تَنَجَّسَ، أَوْ آلَمَهُ شِدَّةٌ نَحْوَ بَرْدٍ، أَوْ كَانَ يَتَيَمَّمُ عَقِبَ الْوُضُوءِ لِكَيْ لَا يَمْنَعَ الْبَلَلُ فِي وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ التَّيَمُّمَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي رَأْيٍ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّنْشِيفُ.

(ر: تَنْشِيفٌ ف 3).

السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ- تَرْكُ نَفْضِ الْيَدِ أَوِ الْمَاءِ:

120- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَدَمِ نَفْضِ مَاءِ الْوُضُوءِ عَنِ الْأَعْضَاءِ أَوْ عَنِ الْيَدِ:

فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ عَدَمُ نَفْضِ يَدِهِ، لِحَدِيثِ: «إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَلَا تَنْفُضُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّهَا مَرَاوِحُ الشَّيْطَانِ» وَلِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِكَرَاهَةِ أَمْرِ الطَّهَارَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ نَفْضُ الْمَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الشَّرْحِ: لَا يُكْرَهُ نَفْضُ الْمَاءِ بِيَدَيْهِ عَنْ بَدَنِهِ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها- وَيُكْرَهُ نَفْضُ يَدِهِ.

وَقَالَ فِي غَايَةِ الْمَطْلَبِ- كَمَا نَقَلَ عَنْهُ الْبُهُوتِيُّ- هَلْ يُبَاحُ نَفْضُ يَدِهِ أَوْ يُكْرَهُ؟- وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ: لَا يُكْرَهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُتَوَضِّئِ نَفْضُ الْمَاءِ وَتَرْكُهُ.

الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: الشُّرْبُ مِنْ فَضْلِ مَاءِ الْوُضُوءِ:

121- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ أَنْ يَشْرَبَ الْمُتَوَضِّئُ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي زَادَ فِي الْإِنَاءِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُهُ.

قَالَ الْكَمَالُ: يَشْرَبُ الْمُتَوَضِّئُ فَضْلَ وُضُوئِهِ قَائِمًا مُسْتَقْبِلًا، قِيلَ: وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا.

وَقَالَ الْحَصَكْفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ وَغَيْرُهُمَا: يَشْرَبُ الْمُتَوَضِّئُ بَعْدَ الْوُضُوءِ مِنْ فَضْلِ وُضُوئِهِ- التَّشْبِيهُ فِي الشُّرْبِ مُسْتَقْبِلًا قَائِمًا لَا فِي كَوْنِهِ بَعْدَ الْوُضُوءِ- مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا.وَالْمُرَادُ شُرْبُ كُلِّ الْفَضْلِ أَوْ بَعْضِهِ.

وَيَقُولُ عَقِبَ الشُّرْبِ: اللَّهُمَّ اشْفِنِي بِشِفَائِكَ، وَدَاوِنِي بِدَوَائِكَ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْوَهَلِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْأَوْجَاعِ.قَالَ فِي الْحِلْيَةِ: وَالْوَهَلُ هُنَا- بِالتَّحْرِيكِ- الضَّعْفُ وَالْفَزَعُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ مَأْثُورًا، وَهُوَ حَسَنٌ.

التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ- صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عَقِبَ الْوُضُوءِ:

122- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُتَوَضِّئُ رَكْعَتَيْنِ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ؛ لِحَدِيثِ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ يُصَلِّي سُنَّةَ الْوُضُوءِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ الْأَوْقَاتُ الْخَمْسَةُ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَكْرُوه أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْدُوبِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فَأَكْثَرَ عَقِبَ كُلِّ وُضُوءٍ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَيَفْعَلُ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ لَهَا سَبَبًا.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ يُنْظَرُ (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ ف 23 وَمَا بَعْدَهَا)

الثَّلَاثُونَ- تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ:

123- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ.أَيِّ التَّوَضُّؤِ عَلَى وُضُوءٍ قَائِمٍ لَمْ يُنْقَضْ.

فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ قَبْلَ أَنْ تُفْعَلَ بِهِ عِبَادَةٌ

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ.

وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: مُصْطَلَحُ تَجْدِيدٍ ف 2) الْوَاحِدُ وَالثَّلَاثُونَ- عَدَمُ نَقْصِ مَاءِ الْوُضُوءِ عَنْ مُدٍّ:

124- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَنْقُصَ مَاءُ الْوُضُوءِ عَنْ مُدٍّ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ مَاءَ الْوُضُوءِ لَا يُحَدُّ بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ، وَالْمَقْصُودُ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ هُوَ فَضِيلَةُ الِاقْتِصَادِ وَتَرْكُ الْإِسْرَافِ.أَوْرَدَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْحِلْيَةِ: نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَا يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ، وَمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّ أَدْنَى مَا يَكْفِي فِي الْغُسْلِ صَاعٌ وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ؛ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «كَانَ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ» لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ بَيَانُ أَدْنَى الْقَدْرِ الْمَسْنُونِ.

وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ مُدٍّ فِي الْوُضُوءِ وَلَا أَقَلُّ مِنْ صَاعٍ فِي الْغُسْلِ.

وَلِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمُدِّ وَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ (ر: مَقَادِيرُ ف 25).

الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: عَدَمُ النَّفْخِ فِي الْمَاءِ حَالَ غَسْلِ الْوَجْهِ:

125- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ عَدَمُ نَفْخِ الْمُتَوَضِّئِ فِي الْمَاءِ حَالَ غَسْلِ الْوَجْهِ.وَأَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ مُتَوَضَّأِ الْعَامَّةِ.

الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: التَّرْتِيبُ بَيْنَ السُّنَنِ:

126- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَرْتِيبُ سُنَنِ الْوُضُوءِ فِيمَا بَيْنَهَا.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ تَرْتِيبُ سُنَنِ الْوُضُوءِ فِي أَنْفُسِهَا.

فَلَوْ حَصَلَ تَنْكِيسٌ بَيْنَ السُّنَنِ أَوْ بَيْنَ السُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ لَمْ تُطْلَبِ الْإِعَادَةُ لِمَا نَكَّسَهُ وَلَا لِمَا بَعْدَهُ لِلتَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إِذَا فَاتَ لَا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ.

وَقَالَ الْمَرْدَاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: اخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ عَدَمَ وُجُودِ التَّرْتِيبِ فِي نَفْلِ الْوُضُوءِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَسْنُونَةِ فِي الْوُضُوءِ وَاجِبٌ، فَإِنْ نَكَّسَ وَخَالَفَ التَّرْتِيبَ لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يُقَدِّمْهُ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي فَرْضِهِ اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي مَسْنُونِهِ قِيَاسًا عَلَى أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ لَوْ جَدَّدَ لَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ التَّجْدِيدُ فِيهِ مَسْنُونًا.

الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَخْذُ الْمُتَوَضِّئِ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ:

127- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي نُصَّ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ صِفَةَ غَسْلِ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَبَّةَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُتَوَضِّئُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا؛ لِمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَدْخَلَ يَدَيْهِ فَاغْتَرَفَ بِهِمَا، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ».

وَلِأَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَمْكَنُ وَأَسْبَغُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ يَأْخُذُ الْمُتَوَضِّئُ الْمَاءَ بِيَدِهِ.لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا».

وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ لِزَاهِرٍ السَّرَخْسِيِّ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ يَغْرِفُ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى، وَيَضَعُ ظَهْرَهَا عَلَى بَطْنِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَيَصُبُّهُ مِنْ أَعْلَى جَبْهَتِهِ لِمَا وَرَدَ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الْأُخْرَى فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ».

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي مَعْرِضِ الْكَلَامِ عَنْ صِفَةِ الْوُضُوءِ الْكَامِلِ: ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ فَيَأْخُذُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، أَوْ يَغْتَرِفُ بِيَمِينِهِ، وَيَضُمُّ إِلَيْهَا الْأُخْرَى وَيَغْسِلُ بِهِمَا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدِ اسْتَفَاضَتْ بِهِ.

الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ- تَدَارُكُ مَا فَاتَ مِنَ الْوُضُوءِ:

128- التَّدَارُكُ وَهُوَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ، أَوْ فِعْلُ جُزْئِهَا إِذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ فِعْلَ ذَلِكَ فِي مَحِلِّهِ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا مَا لَمْ يَفُتْ.

وَقَدْ تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ تَدَارُكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ بِالْإِتْيَانِ بِالْفَائِتِ ثُمَّ الْإِتْيَانِ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ تَدَارُكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الْوُضُوءِ، أَوْ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَدَارُكٍ، فِقْرَاتِ 4- 7).

مَكْرُوهَاتُ الْوُضُوءِ:

عَدَّدَ الْفُقَهَاءُ أُمُورًا اعْتَبَرُوهَا مِنْ مَكْرُوهَاتِ الْوُضُوءِ، مِنْهَا:

أَوَّلًا: لَطْمُ الْوَجْهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ:

129- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ لَطْمِ الْوَجْهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ، وَخُصَّ الْوَجْهُ بِالذِّكْرِ لِمَا لَهُ مِنْ مَزِيدِ الشَّرَفِ.

ثَانِيًا: التَّقْتِيرُ فِي الْوُضُوءِ:

130- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّقْتِيرُ فِي التَّوَضُّؤِ بِأَنْ يَقْرُبَ إِلَى حَدِّ دَهْنِ الْأَعْضَاءِ بِالْمَاءِ، وَيَكُونُ التَّقَاطُرُ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا لِيَكُونَ غَسْلًا- فِيمَا يُغْسَلُ- بِيَقِينٍ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنَ الثَّلَاثِ.

ثَالِثًا: الْإِسْرَافُ فِي التَّوَضُّؤِ:

131- يُكْرَهُ الْإِسْرَافُ فِي التَّوَضُّؤِ.بِأَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنَ الْمَاءِ فَوْقَ الْحَاجَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: «مَا هَذَا السَّرَفُ؟» فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ».

وَلِأَنَّهُ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ الْمُوجِبِ لِلْوَسْوَسَةِ وَفِي الْحَدِيثِ «لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ» نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الْمَاءَ الْمَوْقُوفَ عَلَى مَنْ يَتَطَهَّرُ بِهِ وَمِنْ مَاءِ الْمَدَارِسِ فَالْإِسْرَافُ فِيهِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مَأْذُونٍ بِهَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُوقَفُ وَيُسَاقُ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ وَلَمْ يَقْصِدْ إِبَاحَتَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا لَيْسَ بِجَارٍ، أَمَّا الْجَارِي فَهُوَ مِنَ الْمُبَاحِ.

رَابِعًا: التَّوَضُّؤُ بِفَضْلِ مَاءِ الْمَرْأَةِ:

132- قَالَ الشِّرْوَانِيُّ: الْمُرَادُ بِفَضْلِ مَاءِ الْمَرْأَةِ مَا فَضَلَ عَنْ طَهَارَتِهَا وَإِنْ لَمْ تَمَسَّهُ، دُونَ مَا مَسَّتْهُ فِي شُرْبٍ أَوْ أَدْخَلَتْ يَدَهَا فِيهِ بِلَا نِيَّةٍ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّطَهُّرِ بِفَضْلِ مَاءِ الْمَرْأَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ التَّوَضُّؤَ بِفَضْلِ مَاءِ الْمَرْأَةِ مَكْرُوهٌ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ إِلَى أَنَّ فَضْلَ مَاءِ الْمَرْأَةِ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ يَرْفَعُ الْحَدَثَ مُطْلَقًا، فَلَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «- رضي الله عنهما- قَالَ: اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي جَفْنَةٍ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا، فَقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ».

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الطَّهَارَةُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ.

لِحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ».

وَقَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: مَنْعُ الرَّجُلِ مِنَ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ تَعَبُّدِيٌّ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ.نَصَّ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يُبَاحُ لِامْرَأَةٍ سِوَاهَا وَلَهَا التَّطَهُّرُ بِهِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ مَخْصُوصٌ بِالرَّجُلِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَيَجِبُ قَصْرُهُ عَلَى مَوْرِدِهِ.

خَامِسًا: تَثْلِيثُ الْمَسْحِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ:

133- نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ.

سَادِسًا: الْوُضُوءُ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ:

134- يُكْرَهُ فِعْلُ الْوُضُوءِ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ: فَيَتَنَحَّى عَنِ الْمَكَانِ النَّجِسِ أَوْ مِنْ مَا شَأْنُهُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ لِمَاءِ الْوُضُوءِ حُرْمَةً، وَلِئَلاَّ يَتَطَايَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَتَقَاطَرُ مِنْ أَعْضَائِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ النَّجَاسَةُ وَذَلِكَ فِي الْمَكَانِ النَّجِسِ بِالْفِعْلِ.نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَنْزِيهًا إِلْقَاءُ النُّخَامَةِ وَالِامْتِخَاطُ فِي الْمَاءِ.

سَابِعًا: التَّوَضُّؤُ فِي الْمَسْجِدِ:

135- يُكْرَهُ التَّوَضُّؤُ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي إِنَاءٍ أَوْ فِي مَوْضِعٍ أُعِدَّ لِذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَإِنْ جَعَلَهُ فِي طَسْتٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: يُبَاحُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يُؤْذِ بِهِ أَحَدًا، وَلَمْ يُؤْذِ الْمَسْجِدَ.

وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِصَحْنِ الْمَسْجِدِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} فَوَجَبَ أَنْ تُرْفَعَ وَتُنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِيهَا؛ لِمَا يَسْقُطُ فِيهَا مِنْ غُسَالَةِ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَالتَّمَضْمُضِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ لِلصَّلَاةِ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ آخَرُ فَيَتَأَذَّى بِالْمَاءِ الْمُهْرَاقِ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «اجْعَلُوا مَطَاهِرَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ».

ثَامِنًا: إِرَاقَةُ مَاءِ الْوُضُوءِ فِي الْمَسْجِدِ:

136- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ إِرَاقَةُ مَاءِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي الْمَسْجِدِ، وَتُكْرَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَيْضًا إِرَاقَتُهُ فِي مَكَانٍ يُدَاسُ فِيهِ كَالطَّرِيقِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: لَا يُكْرَهُ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ تَكُونُ الْكَرَاهَةُ تَنْزِيهًا لِلْمَاءِ.وَفِي وَجْهٍ: تَكُونُ الْكَرَاهَةُ تَنْزِيهًا لِلطَّرِيقِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِسْقَاطُ مَاءِ الْوُضُوءِ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يَتَأَذَّ بِهِ النَّاسُ.

تَاسِعًا: الْوُضُوءُ بِمَاءِ الشَّمْسِ:

137- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.

(ر: مِيَاه ف 13).

عَاشِرًا- تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ:

138- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُتَوَضِّئِ تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا سُنَّ لَهُ فِعْلُهَا لِمَا يَسْتَقْبِلُ مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْمَطْلَبِ بِأَنَّ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا.

نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ:

139- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ هُوَ: إِخْرَاجُ الْوُضُوءِ عَنْ إِفَادَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ انْتِهَاءُ حُكْمِ الْوُضُوءِ الْمَنْقُوضِ أَوْ رَفْعُ اسْتِمْرَارِ حُكْمِهِ مِمَّا كَانَ يُبَاحُ بِهِ مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا كَمَا يَنْتَهِي حُكْمُ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ، بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:

أَوَّلًا- الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَوْ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْهُمَا:

140- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ- فِي الْجُمْلَةِ- إِلَى أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي النَّاقِضَةِ لِلْوُضُوءِ، أَيِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي إِخْرَاجِ الْوُضُوءِ عَمَّا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِهِ- خُرُوجَ شَيْءٍ مِنَ السَّبِيلَيْنِ؛ لقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}.

وَالْغَائِطُ حَقِيقَةً: الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ النَّاسُ حَاجَتَهُمْ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ مُرَادَةً، فَجُعِلَ مَجَازًا عَنِ الْأَمْرِ الْمُحْوِجِ إِلَى الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ، وَلِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحَوُّجٌ إِلَيْهِ لِتُفْعَلَ فِيهِ تَسَتُّرًا عَنِ النَّاسِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ، حَتَّى لَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنَ الْغَائِطِ أَيِ الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ إِجْمَاعًا.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَوْنِ الْخَارِجِ مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ أَوْ غَيْرَ مُعْتَادٍ، بَلْ يَكُونُ نَادِرًا كَالدُّودِ وَالْحَصَى، وَفِي كَوْنِ الْخَارِجِ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ- الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ- أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، مِنْ تَحْتِ الْمَعِدَةِ أَوْ مِنْ فَوْقِهَا، وَكَانَ السَّبِيلَانِ مَفْتُوحَيْنِ أَوْ مَسْدُودَيْنِ أَوْ..الخ.

(ر: حَدَث ف 6- 10).

ثَانِيًا: خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ:

141- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ، أَوْ عَدَمِ نَقْضِهِ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ غَيْرَ السَّبِيلَيْنِ.

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ غَيْرُ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ تَطْهِيرُ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَيَبْقَى الْوُضُوءُ إِلاَّ إِذَا انْتَقَضَ بِسَبَبٍ آخَرَ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةَ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ غَيْرَ السَّبِيلَيْنِ- كَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهِمَا- نَاقِضَةٌ لِلْوُضُوءِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.

(ر: حَدَث ف 10).

ثَالِثًا: زَوَالُ الْعَقْلِ (الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ):

زَوَالُ الْعَقْلِ قَدْ يَكُونُ بِالنَّوْمِ أَوِ الْجُنُونِ أَوِ السُّكْرِ أَوِ الْإِغْمَاءِ أَوِ الْغَشْيُ.

أ- النَّوْمُ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ إِلَى رَأْيَيْنِ:

142- الرَّأْيُ الْأَوَّلُ:

يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ النَّوْمَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَحَدِيثِ «إِنَّ الْعَيْنَيْنِ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ».

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ:

143- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالنَّائِمُ عِنْدَهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَوَرِّكًا، أَوْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا عَلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيلَ عَنْهُ لَسَقَطَ، أَوْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ سَاجِدًا.

أ- فَإِنْ كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَوَرِّكًا نُقِضَ وُضُوؤُهُ لِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا» إِنَّ مَنِ اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ غَايَةَ الِاسْتِرْخَاءِ بِحَالَةِ الِاضْطِجَاعِ، فَيَكُونُ بِمَظِنَّةِ خُرُوجِ الرِّيحِ.

ب- وَأُلْحِقَ بِهِ مَنْ نَامَ مُتَوَرِّكًا لِزَوَالِ مَقْعَدَيْهِمَا مِنَ الْأَرْضِ.

وَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيلَ عَنْهُ لَسَقَطَ: فَهَذَا لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْعَدَتُهُ زَائِلَةً مِنَ الْأَرْضِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ زَائِلَةً نَقَضَ بِالْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَئِمَّتِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ زَائِلَةٍ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ يَنْقُضُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الطَّحَاوِيِّ.

وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ، وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

ج- وَإِنْ كَانَ النَّائِمُ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ سَاجِدًا» وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ إِنْ كَانَ عَلَى هَيْئَةِ السُّجُودِ بِأَنْ كَانَ رَافِعًا بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ مُجَافِيًا عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَإِلاَّ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ.

د- وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرِيضِ إِذَا كَانَ يُصَلِّي مُضْطَجِعًا فَنَامَ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: فَالصَّحِيحُ انْتِفَاضُ وُضُوئِهِ؛ لِلْحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا».

هـ- وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ أَوْ جَنْبِهِ، إِنِ انْتَبَهَ قَبْلَ سُقُوطِهِ، أَوْ حَالَةَ سُقُوطِهِ، أَوْ سَقَطَ نَائِمًا وَانْتَبَهَ مِنْ سَاعَتِهِ- لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ، وَإِنِ اسْتَقَرَّ بَعْدَ السُّقُوطِ نَائِمًا ثُمَّ انْتَبَهَ انْتَقَضَ؛ لِوُجُودِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَنْتَقِضُ بِالسُّقُوطِ؛ لِزَوَالِ الِاسْتِمْسَاكِ حَيْثُ سَقَطَ.

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: إِنِ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ تُزَايِلَ مَقْعَدَتُهُ الْأَرْضَ لَمْ يَنْتَقِضْ، وَإِنْ زَايَلَهَا وَهُوَ نَائِمٌ انْتَقَضَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الصَّحِيحُ أَنَّ النَّوْمَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَإِنَّمَا الْحَدَثُ: مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ النَّائِمُ، فَأُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ- وَهُوَ النَّوْمُ هُنَا- مَقَامَهُ كَالسَّفَرِ وَنَحْوِهِ.

144- وَلِلْمَالِكِيَّةِ طَرِيقَتَانِ فِي اعْتِبَارِ النَّوْمِ نَاقِضًا:

الْأُولَى: طَرِيقَةُ اللَّخْمِيِّ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي النَّقْضِ صِفَةُ النَّوْمِ وَلَا عِبْرَةَ بِهَيْئَةِ النَّائِمِ مِنَ اضْطِجَاعٍ أَوْ قِيَامٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَمَتَى كَانَ النَّوْمُ ثَقِيلًا: نُقِضَ، سَوَاءٌ كَانَ النَّائِمُ مَضْطَجِعًا أَوْ سَاجِدًا أَوْ جَالِسًا أَوْ قَائِمًا، وَعَلَامَةُ النَّوْمِ الثَّقِيلِ هُوَ مَا لَا يَشْعُرُ صَاحِبُهُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ أَوْ كَانَ بِيَدِهِ مِرْوَحَةٌ فَسَقَطَتْ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا، وَإِنْ كَانَ النَّوْمُ غَيْرَ ثَقِيلٍ فَلَا يَنْتَقِضُ عَلَى أَيِّ حَالٍ.

الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: اعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ صِفَةَ النَّوْمِ مَعَ الثِّقَلِ، وَصِفَةَ النَّائِمِ مَعَ النَّوْمِ غَيْرِ الثَّقِيلِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّوْمَ ثَقِيلٌ يَجِبُ مِنْهُ الْوُضُوءُ عَلَى أَيِّ حَالٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الثَّقِيلِ فَيَجِبُ الْوُضُوءُ فِي الِاضْطِجَاعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا يَجِبُ فِي الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ.

وَعُزِيَ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ لِعَبْدِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِ.

وَلَكِنَّ الطَّرِيقَةَ الْأُولَى هِيَ الْأَشْهَرُ عِنْدَهُمْ.

145- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ النَّوْمَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَيْفَمَا كَانَ إِلاَّ نَوْمَ الْمُتَمَكِّنِ مَقْعَدُهُ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ، وَإِنِ اسْتَنَدَ إِلَى مَا لَوْ زَالَ لَسَقَطَ لِأَمْنِ خُرُوجِ شَيْءٍ حِينَئِذٍ مِنْ دُبُرِهِ.

وَلَا عِبْرَةَ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ قُبُلِهِ، لِأَنَّهُ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ، وَلِأَثَرِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ.وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ.

وَحُمِلَ عَلَى نَوْمِ الْمُتَمَكِّنِ مَقْعَدُهُ فِي الْأَرْضِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا لَوْ نَامَ مُحْتَبِيًا.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ نَوْمَ الْمُتَمَكِّنِ مَقْعَدُهُ لَا يَنْقُضُ وَغَيْرُهُ يَنْقُضُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ لِلنَّائِمِ مُمَكَّنًا أَنْ يَتَوَضَّأَ؛ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِ حَدَثٍ، وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ تَيَقَّنَ النَّوْمَ وَشَكَّ هَلْ كَانَ مُمَكَّنًا أَمْ لَا فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نَامَ جَالِسًا فَزَالَتْ أَلْيَاهُ أَوْ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأَرْضِ، فَإِنْ زَالَتْ قَبْلَ الِانْتِبَاهِ انْتَقَضَ؛ لِأَنَّهُ مَضَى لَحْظَةٌ وَهُوَ نَائِمٌ غَيْرَ مُمَكَّنٍ، وَإِنْ زَالَتْ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ أَوْ مَعَهُ، أَوْ لَمْ يَدْرِ أَيَّهُمَا سَبَقَ لَمْ يَنْتَقِضْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَهَ مِنَ الْأَرْضِ مُسْتَنِدًا إِلَى حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَ الْحَائِطُ لَسَقَطَ أَمْ لَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَلِيلُ النَّوْمِ وَكَثِيرُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، فَنَوْمُ لَحْظَةٍ وَنَوْمُ يَوْمَيْنِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا فَرْقَ فِي نَوْمِ الْقَاعِدِ الْمُمَكَّنِ بَيْنَ قُعُودِهِ مُتَرَبِّعًا أَوْ مُفْتَرِشًا أَوْ مُتَوَرِّكًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْحَالَاتِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَقْعَدُهُ لَاصِقًا بِالْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا مُتَمَكِّنًا، وَسَوَاءٌ الْقَاعِدُ عَلَى الْأَرْضِ وَرَاكِبُ السَّفِينَةِ، وَالْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الدَّوَابِّ، فَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.

وَلَوْ نَامَ مُحْتَبِيًا- وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَيْهِ رَافِعًا رُكْبَتَيْهِ مُحْتَوِيًا عَلَيْهِمَا بِيَدَيْهِ أَوْ غَيْرِهِمَا- فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: أَحَدُهَا: لَا يَنْتَقِضُ كَالْمُتَرَبِّعِ، وَالثَّانِي: يَنْتَقِضُ كَالْمُضْطَجِعِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ نَحِيفَ الْبَدَنِ بِحَيْثُ لَا تَنْطَبِقُ أَلْيَاهُ عَلَى الْأَرْضِ انْتَقَضَ، وَإِلاَّ فَلَا، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِذَا نَامَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَأَلْصَقَ أَلْيَيْهِ بِالْأَرْضِ فَإِنَّهُ يُسْتَبْعَدُ خُرُوجُ الْحَدَثِ مِنْهُ، وَلَكِنِ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَالْجَالِسِ الْمُمَكَّنِ، فَلَوِ اسْتَثْفَرَ وَتَلَجَّمَ بِشَيْءٍ فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الِانْتِقَاضُ أَيْضًا.

146- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: النَّوْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أ- نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ، فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَسِيرُهُ وَكَثِيرُهُ فِي قَوْلِ كُلِّ مَنْ يَقُولُ بِنَقْضِهِ بِالنَّوْمِ.

ب- وَنَوْمُ الْقَاعِدِ إِنْ كَانَ كَثِيرًا نَقَضَ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَنْقُضْ.

وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ: «فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ» وَحَدِيثِ: «فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ»

وَقَوْلِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ- رضي الله عنه-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ» وَقَالُوا: وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهُمَا فِي الْيَسِيرِ: لِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنَامُونَ ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ كَثْرَةٍ وَلَا قِلَّةٍ، فَإِنَّ النَّائِمَ يَخْفِقُ رَأْسُهُ فِي يَسِيرِ النَّوْمِ، فَهُوَ يَقِينٌ فِي الْيَسِيرِ فَيَعْمَلُ بِهِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لَا يُتْرَكُ لَهُ الْعُمُومُ الْمُتَيَقَّنُ، وَلِأَنَّ نَقْضَ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ يُعَلَّلُ بِإِفْضَائِهِ إِلَى الْحَدَثِ، وَمَعَ الْكَثْرَةِ وَالْغَلَبَةِ يُفْضِي إِلَيْهِ، وَلَا يَحِسُّ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْيَسِيرِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَثِيرِ عَلَى الْيَسِيرِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى الْحَدَثِ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ، وَعَنْهُ: لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الْجَالِسِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا.

وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَحُكِيَ عَنْهُ لَا يَنْقُضُ غَيْرُ نَوْمِ الْمُضْطَجِعِ.

ج- وَمَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ هُوَ «نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ» فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ رِوَايَاتٌ إِحْدَاهَا: يَنْقُضُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي تَخْصِيصِهِ مِنْ عُمُومِ أَحَادِيثِ النَّقْضِ نَصٌّ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ؛ لِكَوْنِ الْقَاعِدِ مُتَحَفِّظًا لِاعْتِمَادِهِ بِمَحَلِّ الْحَدَثِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالرَّاكِعُ وَالسَّاجِدُ يَنْفَرِجُ مَحَلُّ الْحَدَثِ مِنْهُمَا.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يَنْقُضُ إِلاَّ إِذَا كَثُرَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ.

وَالثَّالِثَةُ: لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الرَّاكِعِ، وَيَنْقُضُ نَوْمُ السَّاجِدِ.

وَأَمَّا نَوْمُ الْقَاعِدِ الْمُسْتَنِدِ وَالْمُحْتَبِي فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْوُضُوءِ.

فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْقُضُ يَسِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَمِدٌ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ كَالْمُضْطَجِعِ.

وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يَنْقُضُ يَسِيرُهُ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ قِيلَ لَهُ: الْوُضُوءُ مِنَ النَّوْمِ؟ قَالَ: إِذَا طَالَ، قِيلَ: فَالْمُحْتَبِي؟ قَالَ: يَتَوَضَّأُ، قِيلَ: فَالْمُتَّكِئُ؟ قَالَ: الِاتِّكَاءُ شَدِيدٌ، وَالْمُتَسَانِدُ كَأَنَّهُ أَشَدُّ- يَعْنِي مِنَ الِاحْتِبَاءِ- وَرَأَى مِنْهَا كُلِّهَا الْوُضُوءَ إِلاَّ أَنْ يَغْفُوَ قَلِيلًا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ مُعْتَمِدًا بِمَحَلِّ الْحَدَثِ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ لَا يَنْقُضَ مِنْهُ إِلاَّ الْكَثِيرُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ انْتِفَاءِ النَّقْضِ فِي الْقَاعِدِ لَا تَفْرِيقَ فِيهِ فَيُسَوَّى بَيْنَ أَحْوَالِهِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّوْمِ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

فَقَالَ أَبُو يَعْلَى: لَيْسَ لِلْقَلِيلِ حَدٌّ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَقِيلَ: حَدُّ الْكَثِيرِ: مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ النَّائِمُ عَنْ هَيْئَتِهِ: مِثْلَ أَنْ يَسْقُطَ عَلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهَا أَنْ يَرَى حُلْمًا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِتَوْقِيفٍ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي هَذَا، فَمَتَى وَجَدْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ: مِثْلَ سُقُوطِ الْمُتَمَكِّنِ وَغَيْرِهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ شَكَّ فِي كَثْرَتِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مُتَيَقِّنَةٌ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ.

وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى عَقْلِهِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي قوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} هِيَ ابْتِدَاءُ النُّعَاسِ فِي الرَّأْسِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَلْبِ صَارَ نَوْمًا، وَلِأَنَّ النَّاقِضَ زَوَالُ الْعَقْلِ، وَمَتَى كَانَ ثَابِتًا وَحِسُّهُ غَيْرُ زَائِلٍ، مِثْلَ مَنْ يَسْمَعُ مَا يُقَالُ عِنْدَهُ وَيَفْهَمُهُ فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ النَّقْضِ مِنْ حَقِّهِ.

وَإِنْ شَكَّ: هَلْ نَامَ أَمْ لَا، أَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا يَدْرِي أَرُؤْيَا هُوَ أَمْ حَدِيثُ نَفْسٍ؟ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ.

الرَّأْيُ الثَّانِي:

147- حُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنه- وَأَبِي مِجْلَزٍ وَحُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ النَّوْمَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ».

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ مِرَارًا مُضْطَجِعًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ، وَالْحَدَثُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ.

قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: نَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ: لَا يَنْقُضُ النَّوْمُ الْوُضُوءَ بِحَالٍ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِنْ ظَنَّ بَقَاءَ طُهْرِهِ، وَقَالَ الْخَلاَّلُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ خَطَأٌ بَيِّنٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


65-موسوعة الفقه الكويتية (وقف 8)

وَقْفٌ -8

د- الِاسْتِدَانَةُ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ:

89- إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ فِي حَاجَةٍ إِلَى تَعْمِيرٍ وَإِصْلَاحٍ، أَوْ كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى نَفَقَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ مِنَ الرَّيْعِ مَا يَكْفِي لِسَدِّ حَاجَةِ التَّعْمِيرِ وَالْإِصْلَاحِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ الِاسْتِدَانَةُ عَلَى الْوَقْفِ لِهَذَا السَّبَبِ وَهَلْ يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى إِذْنٍ أَوْ لَا يَحْتَاجُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَقْتَرِضَ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ كَشِرَائِهِ لِلْوَقْفِ نَسِيئَةً أَوْ بِنَقْدٍ لَمْ يُعَيِّنْهُ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، لِأَنَّ النَّاظِرَ مُؤْتَمَنٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ، فَالْإِذْنُ وَالِائْتِمَانُ ثَابِتَانِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوِ الْتَزَمَ حِينَ أَخَذَ النَّظَرَ أَنْ يَصْرِفَ عَلَى الْوَقْفِ مِنْ مَالِهِ إِنِ احْتَاجَ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا صَرَفَهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ الِاقْتِرَاضُ دُونَ شَرْطِ الْوَاقِفِ أَوْ إِذْنِ الْإِمَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرِضَ الْإِمَامُ النَّاظِرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الِاقْتِرَاضِ أَوِ الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى الْعِمَارَةِ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ، وَلَوِ اقْتَرَضَ النَّاظِرُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ وَلَا شَرْطٍ مِنَ الْوَاقِفِ لَمْ يَجُزْ، وَلَا يَرْجِعُ بِمَا صَرَفَهُ لِتَعَدِّيهِ بِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِدَانَةُ عَلَى الْوَقْفِ إِلاَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهَا لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ كَتَعْمِيرٍ وَشِرَاءِ بَذْرٍ، فَيَجُوزُ بِشَرْطَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِذْنُ الْقَاضِي، فَلَوْ يَبْعُدُ عَنْهُ يَسْتَدِينُ بِنَفْسِهِ.

الثَّانِي: أَلاَّ يَتَيَسَّرَ إِجَارَةُ الْعَيْنِ وَالصَّرْفُ مِنْ أُجْرَتِهَا.

وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّ الِاسْتِدَانَةَ عَلَى الْوَقْفِ لَا تَجُوزُ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِ الْوَاقِفِ، لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً إِلاَّ فِي الذِّمَّةِ، وَالْوَقْفُ لَا ذِمَّةَ لَهُ، وَالْفُقَرَاءُ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ ذِمَّةٌ لَكِنْ لِكَثْرَتِهِمْ لَا تُتَصَوَّرُ مُطَالَبَتُهُمْ، فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ عَلَى الْقَيِّمِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْقَيِّمِ لَا يَمْلِكُ قَضَاءَهُ مِنْ غَلَّةِ الْفُقَرَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ.لَكِنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الِاسْتِدَانَةِ بُدٌّ فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِأَمْرِ الْقَاضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنِ الْمُتَوَلِّي، لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي أَعَمُّ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

أَمَّا مَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ- كَالصَّرْفِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ- فَلَا تَجُوزُ الِاسْتِدَانَةُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْقُنْيَةِ، إِلاَّ مَا يُعْطَى لِلْإِمَامِ وَالْخَطِيبِ وَالْمُؤَذِّنِ لِأَنَّ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ فِيمَا يَظْهَرُ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الِاسْتِدَانَةُ لِلْحُصْرِ وَالزَّيْتِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ.

وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِذْنِ الْقَاضِي فَادَّعَى الْمُتَوَلِّي الْإِذْنَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي مَقْبُولَ الْقَوْلِ، لَمَّا أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّجُوعَ فِي الْغَلَّةِ وَهُوَ إِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ مِنَ الْغَلَّةِ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا مَا دَامَ لَمْ يُوجَدْ إِذْنٌ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِذَا كَانَ لِلْوَقْفِ غَلَّةٌ فَأَنْفَقَ الْمُتَوَلِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِإِصْلَاحِ الْوَقْفِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ فِي غَلَّةِ الْوَقْفِ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْحَانُوتِيَّ أَنَّهُ لَهُ الرُّجُوعُ دِيَانَةً، لَكِنْ لَوِ ادَّعَى ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنْ يَجِبُ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ لِلْوَقْفِ غَلَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إِذْنِ الْقَاضِي.

ثَانِيًا: بَيْعُ الْمَوْقُوفِ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ:

90- إِذَا تَعَطَّلَ الْمَوْقُوفُ وَصَارَ بِحَالَةٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا فَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ بَيْعَهُ وَجَعْلَ ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الْبَيْعَ وَالِاسْتِبْدَالَ وَلَوْ لَمْ يَتَعَطَّلِ الْمَوْقُوفُ، لَكِنْ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ.

كَمَا فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ كَمَا يَلِي:

الِاسْتِبْدَالُ بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

لِلِاسْتِبْدَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ صُوَرٌ ثَلَاثٌ:

الصُّورَةُ الْأُولَى:

91- أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ الِاسْتِبْدَالَ بِأَرْضِ الْوَقْفِ أَرْضًا أُخْرَى حِينَ الْوَقْفِ، وَلِهَذِهِ الصُّورَةِ صِيغَتَانِ:

الصِّيغَةُ الْأُولَى: أَنْ يَقُولَ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَبَدًا عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا أَرْضًا أُخْرَى، فَتَكُونُ وَقْفًا بِشَرَائِطِ الْأُولَى.

وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي حُكْمِ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهِلَالٍ وَالْخَصَّافِ يَجُوزُ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ اسْتِحْسَانًا.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ، لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْوَقْفِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أُخْرَى، وَيَكُونُ الثَّانِي قَائِمًا مَقَامَ الْأُولَى فَإِنَّ أَرْضَ الْوَقْفِ إِذَا غَصَبَهَا غَاصِبٌ وَأَجْرَى عَلَيْهَا الْمَاءَ حَتَّى صَارَتْ بَحْرًا لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَيَشْتَرِي بِقِيمَتِهَا أَرْضًا أُخْرَى، فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ وَقْفًا عَلَى شَرَائِطِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْوَقْفِ إِذَا قَلَّ نُزْلُهَا (رَيْعُهَا) لآِفَةٍ وَصَارَتْ بِحَيْثُ لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ أَوْ لَا تَفْضُلُ غَلَّتُهَا عَنْ مُؤَنِهَا يَكُونُ صَلَاحُ الْوَقْفِ فِي الِاسْتِبْدَالِ بِأَرْضٍ أُخْرَى فَيَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ وِلَايَةَ الِاسْتِبْدَالِ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَيْهِ فِي الْحَالِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَيُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ: الْوَقْفُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَهُوَ الْقِيَاسُ.

وَقَدْ وَجَّهَ السَّرَخْسِيُّ رَأْيَ مُحَمَّدٍ فِي كَوْنِ فَسَادِ شَرْطِ الِاسْتِبْدَالِ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ فَقَالَ: وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ- الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ زَوَالِهِ وَالْوَقْفُ يَتِمُّ بِذَلِكَ، وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ فَيَتِمُّ الْوَقْفُ بِشُرُوطِهِ وَيَبْقَى الِاسْتِبْدَالُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ كَالْمَسْجِدِ إِذَا شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ بِهِ، أَوْ شَرَطَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَاتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ صَحِيحٌ فَهَذَا مِثْلُهُ.

وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ فَاسِدَانِ.

وَنَقَلَ الْكَمَالُ ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ لَكِنْ لَا يَبِيعُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ- إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي الْوَقْفِ- أَنْ يَأْذَنَ فِي بَيْعِهَا إِذَا رَآهُ أَنْظَرَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ.

وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا أَرْضًا أُخْرَى وَلَمْ يَزِدْ صَحَّ اسْتِحْسَانًا، وَصَارَتِ الثَّانِيَةُ وَقْفًا بِشَرَائِطِ الْأُولَى وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِيقَافِهَا لِأَنَّ الْأَرْضَ تَعَيَّنَتْ لِلْوَقْفِ فَيَقُومُ ثَمَنُهَا مَقَامَهَا فِي الْحُكْمِ، وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ أَرْضٍ بِثَمَنِهَا تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى شَرَائِطِ الْأُولَى مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ وَقْفٍ.

وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْوَقْفَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِقَامَةَ أَرْضٍ أُخْرَى مَقَامَ الْأُولَى.

الصِّيغَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ شَرَطَ أَنَّ لِلْقَيِّمِ الِاسْتِبْدَالَ وَلَمْ يَشْرُطْهُ لِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ إِفَادَتَهُ الْوِلَايَةَ لِغَيْرِهِ بِذَلِكَ فَرْعُ كَوْنِهِ يَمْلِكُهَا.

وَلَوْ شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ مَعَ نَفْسِهِ مَلَكَ الْوَاقِفُ الِاسْتِبْدَالَ وَحْدَهُ، وَلَا يَمْلِكُهُ فُلَانٌ وَحْدَهُ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ لِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَالِاسْتِبْدَالُ جَائِزٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيلَ اتِّفَاقًا.

وَلَوْ وَقَفَ أَرْضَهُ وَشَرَطَ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِأَرْضٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِدَارٍ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ دَارًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِأَرْضٍ، وَلَوْ شَرَطَ أَرْضَ قَرْيَةٍ لَا يَسْتَبْدِلُهَا بِأَرْضِ غَيْرِهَا، لِتَفَاوُتِ أَرَاضِي الْقُرَى مُؤْنَةً وَاسْتِغْلَالًا فَيَلْزَمُ الشَّرْطُ.

وَلَوْ لَمْ يُقَيِّدِ الْبَدَلَ بِأَرْضٍ وَلَا دَارٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا مِنْ جِنْسِ الْعَقَارَاتِ بِأَيِّ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ أَوْ بَلَدٍ شَاءَ لِلْإِطْلَاقِ.

وَإِنْ شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ الْأَرْضَ الثَّانِيَةَ بِأَرْضٍ ثَالِثَةٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ فِي الْأُولَى فَقَطْ إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ عِبَارَةً تُفِيدُ ذَلِكَ.

وَالِاسْتِبْدَالُ فِي حَالَةِ اشْتِرَاطِهِ يَجُوزُ وَلَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ ذَاتَ رَيْعٍ وَنَفْعٍ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الِاسْتِبْدَالَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَلْزَمُ خُرُوجُ الْوَقْفِ عَنِ الِانْتِفَاعِ وَلَا مُبَاشَرَةُ الْقَاضِي لَهُ وَلَا عَدَمُ رَيْعٍ يُعَمَّرُ بِهِ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:

92- أَلاَّ يَشْرُطَ الْوَاقِفُ الِاسْتِبْدَالَ حِينَ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَدَمَ الِاسْتِبْدَالِ أَوْ سَكَتَ لَكِنْ صَارَ الْوَقْفُ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ بِأَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا أَوْ لَا يَفِي بِمُؤْنَتِهِ، فَالِاسْتِبْدَالُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ جَائِزٌ عَلَى الْأَصَحِّ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الْقَاضِي وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ الرَّائِقِ أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُ قَاضِيخَانْ، فَفِي مَوْضِعٍ جَوَّزَ لِلْقَاضِي الِاسْتِبْدَالَ بِلَا شَرْطٍ مِنَ الْوَاقِفِ حَيْثُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَنَعَ مِنْهُ وَلَوْ صَارَتِ الْأَرْضُ بِحَالٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الِاسْتِبْدَالُ بِالشُّرُوطِ الْآتِيَةِ:

أ- أَنْ يَخْرُجَ الْمَوْقُوفُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ.

ب- أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ رَيْعٌ لِلْوَقْفِ يُعَمَّرُ بِهِ.

ج- أَلاَّ يَكُونَ الْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ.

د- أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَبْدِلُ قَاضِيَ الْجَنَّةِ، الْمُفَسَّرَ بِذِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، لِئَلاَّ يَحْصُلَ التَّطَرُّقُ إِلَى إِبْطَالِ أَوْقَافِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَاضِي الْجَنَّةِ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ».

هـ- أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ عَقَارًا لَا دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ.

و- أَنْ لَا يَبِيعَهُ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَلَا مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ.

ز- أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لِمَا فِي الْخَانِيَّةِ: لَوْ شَرَطَ اسْتِبْدَالَهَا بِدَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِبْدَالُهَا بِأَرْضٍ وَبِالْعَكْسِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْعَلاَّمَةِ قِنَالِي زَادَةَ: وَالظَّاهِرُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فِي الْمَوْقُوفَةِ لِلِاسْتِغْلَالِ، لِأَنَّ الْمَنْظُورَ فِيهَا كَثْرَةُ الرَّيْعِ وَقِلَّةُ الْمَرَمَّةِ وَالْمُؤْنَةِ، فَلَوِ اسْتَبْدَلَ الْحَانُوتَ بِأَرْضٍ تُزْرَعُ وَيَحْصُلُ مِنْهَا غَلَّةٌ قَدَّرَ أُجْرَةَ الْحَانُوتِ كَانَ أَحْسَنَ، لِأَنَّ الْأَرْضَ أَدْوَمُ وَأَبْقَى وَأَغْنَى عَنْ كُلْفَةِ التَّرْمِيمِ وَالتَّعْمِيرِ بِخِلَافِ الْمَوْقُوفَةِ لِلسُّكْنَى، لِظُهُورٍ أَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ الِانْتِفَاعُ بِالسَّكَنِ.

ح- فِي الْقُنْيَةِ مُبَادَلَةُ دَارِ الْوَقْفِ بِدَارٍ أُخْرَى إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا كَانَتْ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أُخْرَى خَيْرًا، وَالْعَكْسُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتِ الْمَمْلُوكَةُ أَكْثَرَ مِسَاحَةً وَقِيمَةً وَأُجْرَةً، لِاحْتِمَالِ خَرَابِهَا فِي أَدْوَنِ الْمَحَلَّتَيْنِ لِدَنَاءَتِهَا وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا.

وَجَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ عَنْ شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنِ وَهْبَانَ، لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الِاسْتِبْدَالِ، أَوْ يَكُونُ النَّاظِرُ مَعْزُولًا قَبْلَ الِاسْتِبْدَالِ، أَوْ إِذَا هَمَّ بِالِاسْتِبْدَالِ انْعَزَلَ هَلْ يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ؟ قَالَ الطَّرَسُوسِيُّ: إِنَّهُ لَا نَقْلَ فِيهِ وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَبْدِلَ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الِاسْتِبْدَالِ.

وَجَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ أَيْضًا: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ إِذَا ضَعُفَتِ الْأَرْضُ الْمَوْقُوفَةُ عَنِ الِاسْتِغْلَالِ وَالْقَيِّمُ يَجِدُ بِثَمَنِهَا أُخْرَى هِيَ أَكْثَرُ رَيْعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ رَيْعًا، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهُ تَعَطَّلَ الْوَقْفُ أَوْ لَمْ يَتَعَطَّلْ، وَكَذَا لَمْ يُجَوِّزِ الِاسْتِبْدَالَ فِي الْوَقْفِ، وَقَالَ قَاضِيخَانْ: لَوْ كَانَ الْوَقْفُ مُرْسَلًا أَيْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَرْطُ الِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ وَلَوْ كَانَ أَرْضُ الْوَقْفِ سَبِخَةً لَا يُنْتَفَعُ بِهَا لِأَنَّ سَبِيلَ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا لَا يُبَاعُ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ وَلَايَةُ الِاسْتِبْدَالِ بِالشَّرْطِ وَبِدُونِ الشَّرْطِ لَا تَثْبُتُ.

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ:

93- أَلاَّ يَشْرُطَ الْوَاقِفُ الِاسْتِبْدَالَ وَلِلْوَقْفِ رَيْعٌ وَغَلاَّتٌ وَغَيْرُ مُعَطَّلٍ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِبْدَالِ نَفْعٌ فِي الْجُمْلَةِ وَبَدَلُهُ خَيْرٌ مِنْهُ نَفْعًا وَرَيْعًا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمُخْتَارِ كَذَا حَرَّرَهُ الْعَلاَّمَةُ قِنَالِي زَادَةَ.

ثُمَّ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْأَشْبَاهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُ الْعَامِرِ إِلاَّ فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ الِاسْتِبْدَالَ.

الثَّانِيَةُ: إِذَا غَصَبَهُ غَاصِبٌ وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى صَارَ بَحْرًا فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ وَيَشْتَرِي الْمُتَوَلِّي بِهَا أَرْضًا بَدَلًا.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْحَدَهُ الْغَاصِبُ وَلَا بَيِّنَةَ وَأَرَادَ دَفْعَ الْقِيمَةِ فَلِلْمُتَوَلِّي أَخْذُهَا لِيَشْتَرِيَ بِهَا بَدَلًا.

الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرْغَبَ إِنْسَانٌ فِيهِ بِبَدَلٍ أَكْثَرَ غَلَّةً وَأَحْسَنَ صُقْعًا فَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ، قَالَ صَاحِبُ النَّهْرِ: قَوْلُ قَارِئِ الْهِدَايَةِ: وَالْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَعَارَضٌ بِمَا قَالَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ: نَحْنُ لَا نُفْتِي بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.

الِاسْتِبْدَالُ بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:

94- أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ تَفْصِيلٌ آخَرُ: إِذْ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ فِي بَيْعِهِ وَاسْتِبْدَالِ غَيْرِهِ بِهِ، فَأَجَازُوا الِاسْتِبْدَالَ فِي الْمَنْقُولِ إِذَا لَمْ تُوجَدْ جِهَةٌ تُنْفِقُ عَلَيْهِ وَخِيفَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ أَوْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ وَصَارَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِيمَا حُبِسَ مِنْ أَجْلِهِ.

جَاءَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَحَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَيْهِ: الْفَرَسُ الْمَوْقُوفُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَالْغَزْوِ وَالرِّبَاطِ تَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ عُدِمَ بَيْتُ الْمَالِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُعَوَّضُ بَدَلَهُ سِلَاحٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ لِنَفَقَةٍ.وَكَذَلِكَ يُبَاعُ كُلُّ حَبْسٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ- غَيْرَ عَقَارٍ- كَفَرَسٍ يُكْلَبُ أَيْ يُصَابُ بِدَاءِ الْكَلْبِ وَأَصْبَحَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِيمَا حُبِسَ عَلَيْهِ أَوْ كَثَوْبٍ يَخْلَقُ أَوْ عَبْدٍ يَهْرَمُ أَوْ كُتُبٍ تَبْلَى، وَإِذَا بِيعَ جُعِلَ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ إِنْ أَمْكَنَ أَوْ شِقْصِهِ- أَيْ فِي جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ- إِنْ لَمْ يُمْكِنْ شِرَاءُ الشَّيْءِ كَامِلًا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تُصُدِّقَ بِالثَّمَنِ كَمَا أَنَّ ذُكُورَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَوْقُوفَةِ لِلْغَزْوِ وَكَانَ فِيهَا مَا يَزِيدُ لِتَحَصُّلِ اللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ إِذَا كَبُرَتْ وَأَصْبَحَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا فَإِنَّهَا تُبَاعُ وَيُجْعَلُ ثَمَنُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي إِنَاثٍ لِتَحْصِيلِ اللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ مِنْهَا لِيَدُومَ الْوَقْفُ.

قَالَ الدَّرْدِيرُ: يَعْنِي أَنَّ مَنْ وَقَفَ شَيْئًا مِنَ النَّعَامِ لِيُنْتَفَعَ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا فَنَسْلُهَا كَأَصْلِهَا فِي التَّحْبِيسِ فَمَا فَضَلَ مِنْ ذُكُورِ نَسْلِهَا عَنِ النَّزْوِ، وَمَا كَبُرَ مِنْ إِنَاثِهَا، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُعَوَّضُ عَنْهُ إِنَاثٌ صِغَارٌ لِتَمَامِ النَّفْعِ وَتَكُونُ وَقْفًا كَأَصْلِهَا.

أَمَّا الْعَقَارُ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَوْ خَرِبَ وَصَارَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ دَارًا أَوْ حَوَانِيتَ أَوْ غَيْرَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ بِمِثْلِهِ غَيْرِ خَرِبٍ، قَالَ مَالِكٌ: لَا يُبَاعُ الْعَقَارُ الْمُحَبَّسُ وَلَوْ خَرِبَ، وَبَقَاءُ أَحْبَاسِ السَّلَفِ دَاثِرَةً دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، لَكِنْ رَوَى أَبُو الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا رَأَى بَيْعَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ جَازَ وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ.

كَمَا أَجَازَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُعَاوَضَةَ الرَّبْعِ الْخَرِبِ، فَفِي التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ: يُمْنَعُ بَيْعُ مَا خَرِبَ مِنْ رَبْعِ الْحَبْسِ مُطْلَقًا، قَالَ ابْنُ الْجَهْمِ: إِنَّمَا لَمْ يُبَعِ الرَّبْعُ الْمُحَبَّسُ إِذَا خَرِبَ، لِأَنَّهُ يَجِدُ مَنْ يُصْلِحُهُ بِإِيجَارَتِهِ سِنِينَ، فَيَعُودُ كَمَا كَانَ، وَاخْتُلِفَ فِي مُعَاوَضَةِ الرَّبْعِ الْخَرِبِ بِرَبْعٍ غَيْرِ خَرِبٍ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُحَبَّسَةِ انْقَطَعَتْ مَنْفَعَتُهَا جُمْلَةً وَعَجَزَ عَنْ عِمَارَتِهَا وَكَرَائِهَا فَلَا بَأْسَ بِالْمُعَاوَضَةِ فِيهَا بِمَكَانٍ يَكُونُ حَبْسًا مَكَانَهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِحُكْمٍ مِنَ الْقَاضِي بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَالْغِبْطَةُ فِي ذَلِكَ لِلْمُعَوَّضِ عَنْهُ وَيُسَجَّلُ ذَلِكَ وَيُشْهَدُ بِهِ.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَ الْعَقَارِ لِضَرُورَةِ تَوْسِيعِ مَسْجِدٍ جَامِعٍ وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنِينَ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ.وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: ظَاهِرُ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ.وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ مَالِكٍ وَالْأَخَوَيْنِ وَأَصْبَغَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَسَاجِدِ الْجَوَامِعِ إِنِ احْتِيجَ لِذَلِكَ، لَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ إِذْ لَيْسَتِ الضَّرُورَةُ فِيهَا كَالْجَوَامِعِ.

كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ لِتَوْسِعَةِ مَقْبَرَةٍ أَوْ طَرِيقٍ لِمُرُورِ النَّاسِ، فَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ لِذَلِكَ وَلَوْ جَبْرًا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ أَوِ النَّاظِرِ، وَأَمَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ وُجُوبًا بِجَعْلِ ثَمَنِهِ فِي حَبْسٍ غَيْرِهِ، وَلَا يُجْبِرُهُمُ الْحَاكِمُ عَلَى الْجَعْلِ فِي حَبْسٍ غَيْرِهِ، أَيْ لَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِهِ.

وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ أَنَّ مَا وُسِّعَ بِهِ الْمَسْجِدُ مِنَ الرِّبَاعِ فَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ إِذَا كَانَ حَبْسًا عَلَى مُعَيَّنٍ، أَمَّا مَا كَانَ حَبْسًا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ فَلَا يَلْزَمُ تَعْوِيضُهُ أَيْ دَفْعُ ثَمَنٍ فِيهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِمُعَيَّنٍ، وَمَا يَحْصُلُ مِنَ الْأَجْرِ لِوَاقِفِهِ إِذَا دَخَلَ فِي الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ مِمَّا قَصَدَ تَحْبِيسَهُ لِأَجْلِهِ أَوَّلًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ التَّغْيِيرَ وَالتَّبْدِيلَ عُمِلَ بِهِ، وَفِي النَّوَادِرِ وَالْمَتِّيطِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا شَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ فِيهِ ثَمَّ رَغْبَةٌ- أَيْ ثَمَنًا مَرْغُوبًا فِيهِ- بِيعَ وَاشْتُرِيَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَ مَضَى وَعُمِلَ بِشَرْطِهِ.

وَفِي فَتْحٍ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: أَرْضٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى سَبِيلٍ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، شَرَطَ وَاقِفُهَا أَلاَّ تُبَاعَ وَلَا تُسْتَبْدَلَ بِغَيْرِهَا، ثُمَّ اسْتَبْدَلَ نَاظِرُ السَّبِيلِ تِلْكَ الْأَرْضَ بِأَرْضٍ أُخْرَى مِنْ أَرَاضِي الدِّيوَانِ: بِأَنْ دَفَعَ أَرْضَ الْوَقْفِ لِرَجُلٍ مِنَ الْفَلاَّحِينَ وَأَخَذَ مِنْهُ أَرْضًا مِنْ أَرَاضِي الدِّيوَانِ، وَصَارَ النَّاظِرُ يَدْفَعُ مَصَارِيفَ الْوَقْفِ وَالْفَلاَّحُ يَدْفَعُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَرَاجِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: حَيْثُ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الِاسْتِبْدَالِ وَأَطْلَقَ كَانَتِ الْمُبَادَلَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ النَّاظِرِ بَاطِلَةً، وَيَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ رَدُّ أَرْضِ الدِّيوَانِ لِصَاحِبِهَا وَأَخْذُ أَرْضِ الْوَقْفِ بِعَيْنِهَا، وَمَنِ امْتَنَعَ فَعَلَى الْحَاكِمِ زَجْرُهُ.

الِاسْتِبْدَالُ بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:

95- أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ فِي الِاسْتِبْدَالِ تَفْصِيلٌ:

جَاءَ فِي الْمُهَذَّبِ: إِنْ وَقَفَ مَسْجِدًا فَخَرِبَ الْمَكَانُ وَانْقَطَعَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْمِلْكِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، لِأَنَّ مَا زَالَ الْمِلْكُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ بِالِاخْتِلَالِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ زَمِنَ.

وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ: الْأَصَحُّ جَوَازُ بَيْعِ حُصُرِ الْمَسْجِدِ الْمَوْقُوفَةِ إِذَا بَلِيَتْ وَجُذُوعِهِ إِذَا انْكَسَرَتْ أَوْ أَشْرَفَتْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ، وَلَمْ تَصْلُحْ إِلاَّ لِلْإِحْرَاقِ لِئَلاَّ تَضِيعَ وَيَضِيقَ الْمَكَانُ بِهَا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَتَحْصِيلُ نَزْرٍ يَسِيرٍ مِنْ ثَمَنِهَا يَعُودُ إِلَى الْوَقْفِ أَوْلَى مِنْ ضَيَاعِهَا، وَلَا تَدْخُلُ بِذَلِكَ تَحْتَ بَيْعِ الْوَقْفِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومَةِ، وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعَلَى هَذَا يُصْرَفُ ثَمَنُهَا فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْقِيَاسُ أَنْ يُشْتَرَى بِثَمَنِ الْحَصِيرِ حَصِيرٌ لَا غَيْرُهَا.

قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنَّهُ مُرَادُهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ أَمْكَنَ وَإِلاَّ فَالْأَوَّلُ.وَكَالْحُصْرِ فِي ذَلِكَ نُحَاتَةُ الْخَشَبِ وَأَسْتَارُ الْكَعْبَةِ إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ وَلَا جَمَالٌ.وَالثَّانِي: لَا يُبَاعُ مَا ذُكِرَ إِدَامَةً لِلْوَقْفِ فِي عَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي طَبْخِ جِصٍّ أَوْ آجُرٍّ.

قَالَ السُّبْكِيُّ: وَقَدْ تَقُومُ قِطْعَةٌ مِنَ الْجُذُوعِ مَقَامَ آجُرَّةٍ وَقَدْ تَقُومُ النُّحَاتَةُ مَقَامَ التُّرَابِ وَيُخْتَلَطُ بِهِ.قَالَ الْأَذْرُعِيُّ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَقَامَ التِّبْنِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الطِّينِ، وَجَرَى عَلَى هَذَا جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.

أَمَّا الْحُصْرُ الْمَوْهُوبَةُ أَوِ الْمُشْتَرَاةُ لِلْمَسْجِدِ، فَإِنَّهَا تُبَاعُ لِلْحَاجَةِ.

وَأَمَّا الْجُذُوعُ وَمَا شَابَهَهَا إِذَا صَلَحَ لِغَيْرِ الْإِحْرَاقِ بِأَنْ أَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا أَلْوَاحٌ وَأَبْوَابٌ فَلَا تُبَاعُ قَطْعًا.

فَإِنْ خِيفَ عَلَى الْمَسْجِدِ- كَأَنْ كَانَ آيِلًا لِلسُّقُوطِ- نُقِضَ وَبَنَى الْحَاكِمُ بِنَقْضِهِ مَسْجِدًا آخَرَ إِنْ رَأَى ذَلِكَ وَإِلاَّ حَفِظَهُ، وَبِنَاؤُهُ بِقُرْبِهِ أَوْلَى، وَلَا يَبْنِي بِهِ بِئْرًا كَمَا لَا يَبْنِي بِنَقْضِ بِئْرٍ خَرِبَتْ مَسْجِدًا بَلْ بِئْرًا أُخْرَى مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ مَا أَمْكَنَ.وَلَوْ وَقَفَ عَلَى قَنْطَرَةٍ وَانْحَرَقَ الْوَادِي وَتَعَطَّلَتِ الْقَنْطَرَةُ وَاحْتِيجَ إِلَى قَنْطَرَةٍ أُخْرَى جَازَ نَقْلُهَا إِلَى مَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَغَلَّةُ وَقْفِ الثَّغْرِ وَهُوَ الطَّرَفُ الْمُلَاصِقُ مِنْ بِلَادِنَا بِلَادَ الْكُفَّارِ إِذَا حَصَلَ فِيهِ الْأَمْنُ يَحْفَظُهُ النَّاظِرُ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهِ ثَغْرًا.

وَإِنْ وَقَفَ نَخْلَةً فَجَفَّتْ أَوْ بَهِيمَةً فَزَمِنَتْ أَوْ جُذُوعًا عَلَى مَسْجِدٍ فَتَكَسَّرَتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى مَنْفَعَتُهُ فَكَانَ بَيْعُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُمْكِنُ الصَّلَاةُ فِيهِ مَعَ خَرَابِهِ وَقَدْ يَعْمُرُ الْمَوْضِعُ فَيُصَلَّى فِيهِ، فَإِنْ قُلْنَا تُبَاعُ كَانَ الْحُكْمُ فِي ثَمَنِهِ حُكْمَ الْقِيمَةِ الَّتِي تُوجَدُ مِنْ مُتْلَفِ الْوَقْفِ.

فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ- وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ- كَانَ ثَمَنُهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ.وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى- وَهُوَ الْأَظْهَرُ- اشْتَرَى بِهِ مِثْلَهُ لِيَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: يَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهُ لِيَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهُ قَوْلًا وَاحِدًا.

الِاسْتِبْدَالُ بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:

96- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ فِي الْوَقْفِ إِذَا كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْغَرَضِ الَّذِي وُقِفَ مِنْ أَجْلِهِ وَلَمْ يَعُدْ صَالِحًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ مَنْقُولًا أَمْ عَقَارًا، مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَ مَسْجِدٍ.

قَالُوا: يَحْرُمُ بَيْعُ الْوَقْفِ وَلَا يَصِحُّ وَلَا تَصِحُّ الْمُنَاقَلَةُ بِهِ أَيْ إِبْدَالُهُ وَلَوْ بِخَيْرٍ مِنْهُ نَصًّا، إِلاَّ أَنْ تَتَعَطَّلَ مَنَافِعُهُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ بِخَرَابٍ وَلَمْ يُوجَدْ فِي رَيْعِ الْوَقْفِ مَا يُعَمَّرُ بِهِ فَيُبَاعُ، أَوْ تَتَعَطَّلَ مَنَافِعُهُ الْمَقْصُودَةُ بِغَيْرِ الْخَرَابِ كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ نَصًّا.وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مَسْجِدًا وَتَعَطَّلَ نَفْعُهُ الْمَقْصُودُ لِضِيقِهِ عَلَى أَهْلِهِ نَصًّا وَتَعَذَّرَ تَوْسِعَتُهُ أَوْ تَعَذَّرَ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِخَرَابِ مَحَلَّتِهِ أَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ قَذِرًا، قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ لِلنَّهْيِ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَفِي إِبْقَائِهِ كَذَلِكَ إِضَاعَةٌ، فَوَجَبَ الْحِفْظُ بِالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ مُؤَبَّدٌ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَأْبِيدُهُ بِعَيْنِهِ اسْتَبْقَيْنَا الْغَرَضَ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ عَلَى الدَّوَامِ فِي عَيْنٍ أُخْرَى، وَاتِّصَالُ الْأَبْدَالِ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ وَالْجُمُودُ عَلَى الْعَيْنِ مَعَ تَعَطُّلِهَا تَضْيِيعٌ لِلْغَرَضِ.

وَيَصِحُّ بَيْعُ شَجَرَةٍ مَوْقُوفَةٍ يَبِسَتْ، وَبَيْعُ جِذْعٍ مَوْقُوفٍ انْكَسَرَ أَوْ بَلِيَ أَوْ خِيفَ الْكَسْرُ أَوِ الْهَدْمُ، قَالَ فِي التَّلْخِيصِ: إِذَا أَشْرَفَ جِذْعُ الْوَقْفِ عَلَى الِانْكِسَارِ أَوْ دَارُهُ عَلَى الِانْهِدَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أُخِّرَ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ رِعَايَةً لِلْمَالِيَّةِ، وَالْمَدَارِسُ وَالرُّبُطُ وَالْخَانَاتُ الْمُسْبَلَةُ وَنَحْوُهَا جَائِزٌ بَيْعُهَا عِنْدَ خَرَابِهَا وَجْهًا وَاحِدًا.

وَالْفَرَسُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الْغَزْوِ إِذَا لَمْ يَصْلُحْ لِلْغَزْوِ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ فَرَسٌ يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: الَّذِي يَعْجُفُ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي تُحَبَّسُ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ يُبَاعُ ثُمَّ يُجْعَلُ ثَمَنُهُ فِي حَبِيسٍ، وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْبَدَلِ يَصِيرُ الْبَدَلُ وَقْفًا.

كَمَا قَالُوا: وَمَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وُجُوبًا وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ بَيْعِهِ فَشَرْطُهُ فَاسِدٌ، وَالَّذِي يَتَوَلَّى بَيْعَ الْمَوْقُوفِ- حَيْثُ جَازَ بَيْعُهُ- هُوَ الْحَاكِمُ إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى سَبِيلِ الْخَيْرَاتِ كَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِعَقْدٍ لَازِمٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا قَوِيًّا فَتُوقَفُ عَلَى الْحَاكِمِ كَالْفُسُوخِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ مَنْ يَؤُمُّ أَوْ يُؤَذِّنُ أَوْ يَقُومُ بِهَذَا الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ فَالَّذِي يَتَوَلَّى بَيْعَهُ نَاظِرُهُ الْخَاصُّ، وَالْأَحْوَطُ أَلاَّ يَفْعَلَ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْبَيْعَ عَلَى مَنْ سَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْجُودِينَ الْآنَ أَشْبَهَ الْبَيْعَ عَلَى الْغَائِبِ، وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْبَدَلِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ يَصِيرُ وَقْفًا، وَالِاحْتِيَاطُ وَقْفُهُ بِصِيغَةٍ جَدِيدَةٍ لِئَلاَّ يَنْقُضَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لَا يَرَى وَقْفِيَّتَهُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ.

.ثَالِثًا: رُجُوعُ الْوَقْفِ إِلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ:

97- ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِي عَنْهُ وَلَوْ مَعَ بَقَائِهِ عَامِرًا، وَكَذَا لَوْ خَرِبَ الْمَسْجِدُ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُعْمَرُ بِهِ وَقَدِ اسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْهُ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى مِلْكِ الْبَانِي إِنْ كَانَ حَيًّا وَإِلَى وَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَعَلَّلَ مُحَمَّدٌ ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَاقِفَ عَيَّنَ الْوَقْفَ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ وَقَدِ انْقَطَعَتْ فَيَنْقَطِعُ هُوَ أَيْضًا، وَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إِذَا اسْتُغْنِيَ عَنْهُ، وَقِنْدِيلِهِ إِذَا خَرِبَ الْمَسْجِدُ يَعُودُ إِلَى مِلْكِ مُتَّخِذِهِ، وَكَمَا لَوْ كَفَّنَ مَيِّتًا فَافْتَرَسَهُ سَبُعٌ عَادَ الْكَفَنُ إِلَى مِلْكِ مَالِكِهِ، وَكَهَدْيِ الْإِحْصَارِ إِذَا زَالَ الْإِحْصَارُ فَأَدْرَكَ الْحَجَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهَدْيِهِ مَا شَاءَ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْقَلُ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ بِإِذْنِ الْقَاضِي، فَيُبَاعُ نَقْضُهُ بِإِذْنِ الْقَاضِي وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إِلَى بَعْضِ الْمَسَاجِدِ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا انْهَدَمَ الْوَقْفُ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ مَا يُعَمَّرُ بِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْبَانِي أَوْ وَرَثَتِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ مَا خَرَجَ عَنِ الِانْتِفَاعِ الْمَقْصُودِ لِلْوَاقِفِ بِالْكُلِّيَّةِ كَحَانُوتٍ احْتَرَقَ، وَلَا يُسْتَأْجَرُ بِشَيْءٍ، وَرِبَاطٍ وَحَوْضِ مَحَلَّةٍ خَرِبَ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُعَمَّرُ بِهِ.

وَأَمَّا مَا كَانَ مُعَدًّا لِلْغَلَّةِ فَلَا يَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ إِلاَّ أَنْقَاضُهُ وَتَبْقَى سَاحَتُهُ وَقْفًا تُؤَجَّرُ وَلَوْ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْفَرَسِ إِذَا جَعَلَهُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُرْكَبَ: فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إِلَى صَاحِبِهِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ كَمَا فِي الْمَسْجِدِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ: إِنَّ الْمَوْقُوفَ لَوْ تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَتُهُ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ كَأَنْ جَفَّتِ الشَّجَرَةُ أَوْ قَلَعَهَا رِيحٌ أَوْ سَيْلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ إِعَادَتُهَا إِلَى مَغْرِسِهَا قَبْلَ جَفَافِهَا فَإِنَّ الْوَقْفَ يَنْقَطِعُ وَيَنْقَلِبُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ وَارِثِهِ.

أَمَّا الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَعُودُ مِلْكًا بَلْ يَظَلُّ وَقْفًا، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


66-موسوعة الفقه الكويتية (ولاية 1)

وِلَايَـة -1

التَّعْرِيفُ:

1 ـ الْوِلَايَةُ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ الْقُرْبُ.يُقَالُ: وَلِيَهُ وَلْيًا، أَيْ دَنَا مِنْهُ.وَأَوْلَيْتُهُ إِيَّاهُ: أَدْنَيْتَهُ مِنْهُ.وَوَلِيَ الْأَمْرَ: إِذَا قَامَ بِهِ، وَتَوَلَّى الْأَمْرَ؛ أَيْ تَقَلَّدَهُ، وَتَوَلَّى فُلَانًا: اتَّخَذَهُ وَلِيًّا.

وَالْوَلِيُّ- فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ- مِنْ وَلِيَهُ: إِذَا قَامَ بِهِ.وَمِنْهُ قوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}.

وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي حَقِّ الْمُطِيعِ.وَمِنْهُ قِيل: الْمُؤْمِنُ وَلِيُّ اللَّهِ.وَالْمَصْدَرُ الْوِلَايَةُ.وَكَذَلِكَ تَأْتِي بِمَعْنَى السَّلْطَنَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ: الْعِلْمُ مِنْ أَشْرَفِ الْوِلَايَاتِ، يَأْتِي إِلَيْهِ الْوَرَى وَلَا يَأْتِي، أَمَّا الْوَلَايَةُ- بِالْفَتْحِ- فَتَعْنِي النُّصْرَةَ وَالْمَحَبَّةَ.

وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَكُلٌّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ آخَرَ فَهُوَ وَلِيُّهُ.وَمِنْهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَوَلِيُّ الْقَتِيلِ وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِهِمْ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي أَمْرِهِمْ.وَوَالِي الْبَلَدِ: وَهُوَ نَاظِرُ أُمُورِ أَهْلِهِ الَّذِي يَلِي الْقَوْمَ بِالتَّدْبِيرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

وَالْوِلَايَةُ اصْطِلَاحًا: اسْتَعْمَلَ جُلُّ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةَ الْوِلَايَةِ بِمَعْنَى تَنْفِيذِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى فَتَشْمَلُ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى وَالْخُطَّةَ كَالْقَضَاءِ، وَالْحِسْبَةِ وَالْمَظَالِمِ وَالشُّرَطَةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا تَشْمَلُ قِيَامَ شَخْصٍ كَبِيرٍ رَاشِدٍ عَلَى شَخْصٍ قَاصِرٍ فِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُقَالُ لِلْمَحْجُورِ فِيهَا مَوْلِيٌّ عَلَيْهِ وَمُوَلًّى عَلَيْهِ كَذَلِكَ وَرَدَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ بِمَعْنَى إِقَامَةِ الْغَيْرِ مَقَامَ النَّفْسِ فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ، فَتَنَاوَلَتِ الْوَكَالَةَ وَنِظَارَةَ الْوَقْفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَبِمَعْنَى أَحَقِّيَّةِ الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ الْقَتِيلِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَسَمَّوْا صَاحِبَهَا «وَلِيَّ الدَّمِ».كَمَا عَبَّرُوا عَنْ سُلْطَةِ الزَّوْجِ فِي تَأْدِيبِ زَوْجَتِهِ النَّاشِزِ، وَالْوَالِدِ فِي تَأْدِيبِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَالْمُعَلِّمِ فِي تَأْدِيب تَلَامِيذِهِ بِالْوِلَايَةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا.

وَاسْتَعْمَلَهَا فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِمَعْنَى الْآصِرَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِرْثِ.فَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: الْوِلَايَةُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: وِلَايَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُورَثُ بِهَا إِلاَّ مَعَ عَدَمِ غَيْرِهَا.وَوِلَايَةُ الْحِلْفِ، وَوِلَايَةُ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ يُتَوَارَثُ بِهِمَا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ.وَوِلَايَةُ الْقَرَابَةِ، وَوِلَايَةُ الْعِتْقِ، وَالْمِيرَاثُ بِهِمَا ثَابِتٌ.

2- وَقَدْ أَوْضَحَ الْقَاضِي ابْنُ رُشْدٍ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ:

فَأَمَّا وِلَايَةُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَهِيَ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ.

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِلْفِ (وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ، فَقِيلَ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.

وَقِيلَ: إِنْ ذَلِكَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أُمِرُوا أَنْ يُؤْتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالنَّصِيحَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْمَشُورَةِ، وَلَا مِيرَاثَ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ.

(ر: مَوْلَى الْمُوَالَاةِ).

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ.قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي آخَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِهَا بَيْنَهُمْ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: (فِي كِتَابِ اللَّهِ) عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ: أَيْ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَالْمُرَاد بِأُولِي الْأَرْحَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ أَوْ دَخَلَ فِيهَا بِالْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ.

وَأَمَّا وِلَايَةُ النَّسَبِ، فَمَوْجُودَةٌ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ.قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}.وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ زَكَرِيَّا- عليه السلام-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}.

يَقُولُ: وَإِنِّي خِفْتُ بَنِي عَمِّي وَعَصَبَتِي مِنْ بَعْدِي أَنْ يَرِثُونِي {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}.أَيْ وَلَدًا وَارِثًا مُعِينًا يَرِثُ مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ مَنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ، فَوَهَبَ اللَّهُ لَهُ يَحْيَى.

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْعِتْقِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ انْقِطَاعِ النَّسَبِ بِحَقِّ الْإِنْعَامِ بِالْعِتْقِ وَالْمَنِّ بِهِ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ.

(ر: مَوْلَى الْعَتَاقَةِ) 3- أَمَّا «وَلَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى» لِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَدْلُولُهُ أَنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، فَقَرُبَ مِنْهُمْ بِالْمَحَبَّةِ وَالْهِدَايَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ فَلَمْ يَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لَحْظَةً، وَكَفَلَ مَصَالِحَهُمْ وَرَعَاهُمْ بِحِفْظِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَالَ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُ: الْوَلِيُّ- فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ- هُوَ مَنْ تَوَالَتْ طَاعَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ عِصْيَانٍ.أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ مَنْ يَتَوَالَى عَلَيْهِ إِحْسَانُ اللَّهِ وَإِفْضَالُهُ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وِلَايَةُ اللَّه تَعَالَى نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.

فَالْعَامَّةُ: وِلَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ.فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لِلَّهِ تَقِيًّا، كَانَ اللَّهُ لَهُ وَلِيًّا، وَفِيهِ مِنَ الْوِلَايَةِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ.

وَالْخَاصَّةُ: وِلَايَةُ الْقَائِمِ لِلَّهِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ، الْمُؤْثِرِ لَهُ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ، الَّذِي صَارَتْ مَرَاضِي اللَّهِ وَمَحَابِّهِ هَمَّهُ وَمُتَعَلَّقَ خَوَاطِرِهِ، يُصْبِحُ وَيُمْسِي وَهَمُّهُ مَرْضَاةُ رَبِّهِ وَإِنْ سَخِطَ الْخَلْقُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ

أ ـ النِّيَابَةُ:

4 ـ النِّيَابَةُ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْأَمْرِ، يُقَالُ: نَابَ عَنْهُ فِي الْأَمْرِ: إِذَا قَامَ مَقَامَهُ.

وَالنِّيَابَةُ فِي الاصْطِلِاحِ: قِيَامُ الإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْلِ أَمْرٍ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوِلَايَةُ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ النِّيَابَةِ، وَالْأَخَصُّ يَسْتَلْزِمُ دَائِمًا مَعْنَى الْأَعَمِّ وَلَا عَكْسَ، فَكُلُّ نِيَابَةٍ وِلَايَةٌ وَلَا عَكْسَ.

ب ـ الْعِمَالَةُ:

5 ـ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: عَمِلْتُهُ عَلَى الْبَلَدِ، أَيْ وَلَّيْتُهُ عَمَلَهُ.وَعَمِلْتُ عَلَى الصَّدَقَةِ: أَيْ سَعَيْتُ فِي جَمْعِهَا.وَاسْتَعْمَلْتُهُ: أَيْ جَعَلْتُهُ عَامِلاً.وَالْجَمْعُ عُمَّالٌ وَعَامِلُونَ.وَالْعُمَالَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: أُجْرَةُ الْعَامِلِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ، وَأَصْلُ الْعُمَالَةِ أُجْرَةُ مَنْ يَلِي الصَّدَقَةَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى أُجْرِيَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوِلَايَةِ وَالْعُمَالَةِ: أَنَّ الْوِلَايَةَ أَعَمُّ مِنَ الْعُمَالَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ عَمِلَ السُّلْطَانِ فَهُوَ وَالٍ، فَالْقَاضِي وَالٍ، وَالْأَمِيرُ وَالٍ وَالْعَامِلُ وَالٍ، وَلَيْسَ الْقَاضِي عَامِلاً وَلَا الْأَمِيرُ، وَإِنَّمَا الْعَامِلُ مَنْ يَلِي جِبَايَةَ الْمَالِ فَقَطْ.فَكُلُّ عَامِلٍ وَالٍ، وَلَيْسَ كُلُّ وَالٍ عَامِلاً.

جـ ـ الْقِوَامَةُ:

6 ـ الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مَنْ قَامَ عَلَى الشَّيْءِ يَقُومُ قِيَامًا، أَيْ حَافَظَ عَلَيْهِ وَرَاعَى مَصَالِحَهُ.وَمِنْ ذَلِكَ: الْقَيِّمُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى شَأْنِ شَيْءٍ وَيَلِيهِ وَيُصْلِحُهُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.وَكُلُّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقِيَامِ الْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ شَأْنَ الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْأَمْرِ وَيَعْتَنِي بِهِ أَنْ يَقِفَ لِيُدَبِّرَ أَمْرَهُ وَيَرْعَاهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ لِلْكَلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ «الْقَيِّمِ» بِمَعْنَى الْمُتَوَلِّي وَالنَّاظِرِ، فَيَقُولُونَ: الْقَيِّمُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ، وَالْقَيِّمُ عَلَى مَالِ الْوَقْفِ.وَيُرِيدُونَ بِهِ الْأَمِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِ قِيَامَ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِوَامَةَ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

د ـ الْوِصَايَةُ:

7 ـ الْوِصَايَةُ لُغَةً مَصْدَرُ وَصَّى، تَعْنِي طَلَبَ شَخْصٍ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ عَلَى غَيْبٍ مِنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ فَهِيَ: إِقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِيَنْظُرَ فِي شُؤُونِ تَرِكَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ دُيُونٍ وَوَصَايَا وَفِي شُؤُونِ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَرِعَايَتِهِمْ.وَيُسَمَّى ذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُقَامُ وَصِيًّا.أَمَّا إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِبَعْضِ أُمُورِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَلَا يُقَالُ لَهُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ وِصَايَةٌ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى وِكَالَةً.

وَالْوِصَايَةُ عَلَى ذَلِكَ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

هـ الْوَكَالَةُ:

8 ـ الْوَكَالَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّفْوِيضُ إِلَى الْغَيْرِ وَرَدُّ الْأَمْرِ إِلَيْهِ.

وَمَعْنَاهَا فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ: تَفْوِيضُ شَخْصٍ مَا لَهُ فِعْلُهُ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ عَرَّفَهَا الْمَنَاوِيُّ بِأَنَّهَا: اسْتِنَابَةُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مِثْلَهُ فِيمَا لَهُ عَلَيْهِ تَسَلُّطٌ أَوْ وِلَايَةٌ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ.وَقَالَ التَّهَانَوِيُّ: هِيَ إِقَامَةُ أَحَدٍ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٍ مُوَرِّثٍ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ الْمُوَرِّثَيْنِ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوِكَالَةُ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوِلَايَةِ

الْوِلَايَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً أَوْ خَاصَّة وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا:

أَوَّلاً: الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ:

9 ـ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ: سُلْطَةٌ عَلَى إِلْزَامِ الْغَيْرِ وَإِنْفَاذِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ بِدُونِ تَفْوِيضٍ مِنْهُ، تَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَتُهَيْمِنُ عَلَى مَرَافِقِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ وَشُؤُونِهَا، مِنْ أَجْلِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ لِلْأُمَّةِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهَا.

وَهِيَ مَنْصِبٌ دِينِيٌّ وَدُنْيَوِيٌّ، شُرِعَ لِتَحْقِيقِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلَايَاتِ: إِصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ.

10- وَلِلْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ مَرَاتِبُ وَاخْتِصَاصَاتٌ تَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَهَا وَتَتَدَرَّجُ مِنْ وِلَايَةِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ إِلَى وِلَايَةِ نُوَّابِهِ وَوُلَاتِهِ وَنَحْوِهِمْ، وَبِهَا يُنَاطُ تَجْهِيزُ الْجُيُوشِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَجِبَايَةُ الْأَمْوَالِ مِنْ حِلِّهَا، وَصَرْفُهَا فِي مَحِلِّهَا، وَتَعْيِينُ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ، وَإِقَامَةُ الْحَجِّ وَالْجَمَاعَاتِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ، وَقَمْعُ الْبُغَاةِ وَالْمُفْسِدِينَ وَحِمَايَةُ بَيْضَةِ الدِّينِ، وَفَصْلُ الْخُصُومَاتِ، وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ، وَنَصْبُ الْأَوْصِيَاءِ وَالنُّظَّارِ وَالْمُتَوَلِّينَ وَمُحَاسَبَتِهِمْ.وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَسْتَتِبُّ بِهَا الْأَمْنُ، وَيُحَكَّمُ شَرْعُ اللَّهِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ مَقْصُودُهَا أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِذَلِكَ، وَبِهِ أَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَلَهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَعَلَيْهِ جَاهَدَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ.

11- وَلِهَذَا اعْتَبَرَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ، بَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ إِلاَّ بِهَا، لِأَنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إِلاَّ بِالِاجْتِمَاعِ، لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ».فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ، تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ...كَذَلِكَ أَوْجَبَ اللَّهُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِقُوَّةٍ وَسُلْطَانٍ، وَكَذَا سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنَ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ.

الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ:

يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ تَوَفُّرَ الشُّرُوطِ التَّالِيَةِ:

أ ـ الْإِسْلَامُ:

12- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي جَمِيعِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.حَيْثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِوَجْهٍ.وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: أُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَاطِينُ وَالْقُضَاةُ وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ.فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّي الطَّاعَةِ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا طَاعَةَ.

ب ـ الْبُلُوغُ:

13- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي جَمِيعِ الْوِلَايَاتِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَلِيَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ.يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوَيُفِيقَ».حَيْثُ أَفَادَ عَدَمَ تَكْلِيفِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْأُمُورَ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ لَمْ يَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ».

جـ ـ الْعَقْلُ:

14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لَا تَجُوزُ وِلَايَتُهُ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ شَرْعًا، وَالتَّكْلِيفُ مِلَاكُ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَلَا يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ.

د ـ الْحُرِّيَّةُ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّة تَوَلِّي الْعَبْدِ الْوِلَايَةَ الْعَامَّةَ، لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ مَالِكِهِ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الْعَبْدِ عَنْ وِلَايَةِ نَفْسِهِ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ وِلَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ.

هـ ـ الذُّكُورَةُ:

16- ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} حَيْثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَكَيْفَ تَقُومُ هِيَ عَلَى شُؤُونِ الْأُمَّةِ؟ وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً».فَقَدْ قَرَنَ الرَّسُول- عليه الصلاة والسلام- عَدَمَ الْفَلَاحِ لِلْأُمَّةِ بِتَوَلِّي الْمَرْأَةِ شُؤُونَهَا.

و ـ الْعَدَالَةُ:

17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ.وَالْعَدَالَةُ: هِيَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ، فَالصَّلَاحُ فِي الدِّينِ هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ مَوَاطِنِ الرِّيَبِ، مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ.

وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فَهِيَ: اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ.

وَإِنَّمَا اشْتُرِطَتِ الْعَدَالَةُ هَهُنَا لِأَنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَا يُوثَقُ بِتَصَرُّفَاتِهِ وَلَا يُؤْمَنُ مَعَهُ مِنَ الْحَيْفِ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا يَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ.

ز ـ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ

18- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

قَالَ السِّمْنَانِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأُصُولِ الدِّينِ وَمِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي فُرُوعِهِ لِيُمْكِنَهُ حَلُّ الشُّبَهِ وَإِرْشَادُ الضَّالِّ وَفُتْيَا الْمُسْتَفْتِي وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَهَذَا شَرْطٌ عَلَيْهِ سَائِرُ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ فِي اعْتِبَارِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَسَائِرِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ فِرَقِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، لَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ.

ثُمَّ نَقَلَ السِّمْنَانِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عَصْرِهِ وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يَصِحَّ لِإِمَامٍ إِمَامَةٌ فِي الْعَصْرِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَصَرٌ وَعَقْلٌ وَرَأْيٌ وَيُقَوِّي كُلَّ فَرِيقٍ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ «وَيَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ عَنْهُ» كَمَا يَتَوَلاَّهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ مَعَ ضِيقِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْأَشْغَالِ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ زَمَانِهِ وَفَوَاتِ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْخَلْقِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ وَالْمَسَائِلَ صَعْبَةٌ، وَلَا يَكَادُ يَجْتَمِعُ جَمِيعُ الْعُلُومِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ إِلاَّ نَادِرًا شَاذًّا، وَيَجْتَمِعُ مَجْمُوعُ الْعُلُومِ فِي الْأَشْخَاصِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ.

ح ـ الْكِفَايَةُ الْجِسْمِيَّةُ

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّة تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ كَوْنَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا نَاطِقًا، لِأَنَّ الِاخْتِلَالَ الْوَاقِعَ فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ أَوِ الْحَوَاسِّ يُؤَدِّي إِلَى الْعَجْزِ عَنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ، وَيُفْضِي إِلَى الْخَلَلِ فِي قِيَامِ ذِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ بِمَا جُعِلَ وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.

وَقَدْ ذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّ فَقْدَ الْحَوَاسِّ كَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالْكَلَامِ يَحُولُ دُون الِانْتِهَاضِ فِي الْمُلِمَّاتِ وَالْحُقُوقِ، وَيَجُرُّ إِلَى الْمُعْضِلَاتِ عِنْد مَسِيسِ الْحَاجَاتِ.وَالْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ تَسْتَدْعِي كَمَالَ الْأَوْصَافِ، وَالْأَعْمَى وَالْأَصَمُّ وَالْأَبْكَمُ وَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

ط ـ الرَّأْيُ وَالْكِفَايَةُ:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ الرَّأْيُ وَالْكِفَايَةُ.وَهَذِهِ الصِّفَةُ تَخْتَلِفُ مُتَطَلَّبَاتُهَا بِحَسْبِ الْوِلَايَةِ الَّتِي يُرَادُ إِسْنَادُهَا، فَمَا يَلْزَمُ تَوَفُّرُهُ فِي الْخَطِيرِ مِنْهَا كَالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى مِنَ الْمَقْدِرَةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ وَالصَّرَامَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْمَضَاءِ وَالدَّهَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا دُونَهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسْبِهَا.

وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فِيمَا رَوَاهُ «أَبُو ذَرٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي عَدَمِ جَوَازِ إِسْنَادِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِهَا وَأَعْبَائِهَا وَمُوجِبَاتِهَا، لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ.وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.قِيلَ:كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».

هَذِهِ هِيَ الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَكَةُ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى فَوْقَهَا تُضَافُ لِبَعْضِ أَنْوَاعِهَا، مِثْلَ شَرْطِ الْقُرَشِيَّةِ لِلْخِلَافَةِ.ر: الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى ف 11، وَقَضَاء ف 18.

تَقْدِيمُ الْأَمْثَلِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ:

21- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُ كُلِّ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي النَّاسِ، وَفُقِدَ مُكْتَمِلُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يُعَطَّلُ إِسْنَادُ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ فِي الدَّوْلَةِ، بَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْأَصْلَحِ وَالْأَمْثَلِ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسْبِهَا، إِذِ الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِأَنَّ حِفْظَ بَعْضِ الْمَصَالِحِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِهَا كُلِّهَا، فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ أَصْلِ الْمَصَالِحِ لِوُجُودِ بَعْضِ الْفِسْقِ فِي وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّ الْبَعِيدَ مَعَ الْأَبْعَدِ قَرِيبٌ، وَأَهْوَنَ الشَّرَّيْنِ خَيْرٌ بِالْإِضَافَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَعَلَّقَ تَحْصِيلَ التَّقْوَى عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ، فَكَذَا الْمَصَالِحُ كُلُّهَا.

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ إِلاَّ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ.وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَوْ تَعَذَّرَتِ الْعَدَالَةُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ لَمَا جَازَ تَعْطِيلُ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُضَاةِ وَالْخُلَفَاءِ وَالْوُلَاةِ، بَلْ قَدَّمْنَا أَمْثَلَ الْفَسَقَةِ فَأَمْثَلَهُمْ، وَأَصْلَحَهُمْ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ فَأَصْلَحَهُمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّا إِذَا أُمِرْنَا بِأَمْرٍ أَتَيْنَا مِنْهُ بِمَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنَّا مَا عَجَزْنَا عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حِفْظَ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِ الْكُلِّ.

22- وَمَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ إِذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ، فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يَكْمُلَ فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ وَالْإِمَارَاتِ وَنَحْوِهَا، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ السَّعْيُ فِي وَفَاءِ دِينِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

وَاجِبَاتُ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ:

23- تَخْتَلِفُ وَاجِبَاتُ أَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ بِحَسْبِ الْوِلَايَةِ الَّتِي يَتَقَلَّدُهَا كُلٌّ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِتَبَايُنِ الْوَظَائِفِ وَالْأَعْبَاءِ وَالِاخْتِصَاصَاتِ وَالْمَسْئُولِيَّاتِ الْمَنُوطَةِ بِكُلِّ ذِي وِلَايَةٍ، فَوَاجِبَاتُ الْخَلِيفَةِ مَثَلاً مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَـاتِ وَالِي الشُّرَطَةِ، وَوَاجِبَاتُ الْوَزِيرِ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَاتِ الْقَاضِي، وَوَاجِبَاتُ أَمِيرِ الْجَيْشِ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَاتِ الْمُحْتَسِبِ، وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ هِيَ كَمَا يَلِي:

أ ـ الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ:

24- الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ عَلَى صَاحِبِ الْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ مِلَاكُ الْأَمْرِ وَجِمَاعُ الْخَيْرِ فِيهِ.فَمُتَقَلِّدُ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً حَسَنَةً لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنَ الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى امْتِثَالِهِمْ، وَأَقْوَى أَثَرًا فِي صَلَاحِهِمْ وَفَلَاحِهِمْ.

ب ـ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ:

25- وَمِنْ وَاجِبَاتِ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، حَيْثُ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ.

وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ عِصَابَةٍ، وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ».

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلاً حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ».

وَعَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَمْثَلَهُمْ وَأَفْضَلَهُمْ، أَدَاءً لِلْأَمَانَةِ وَبُعْدًا عَنِ الْخِيَانَةِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْأَحَقِّ الْأَصْلَحِ إِلَى غَيْرِهِ لِأَجْلِ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ، أَوْ صَدَاقَةٍ، أَوْ مُوَافَقَةٍ فِي بَلَدٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ جِنْسٍ، كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ، أَوْ لِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، أَوْ لِضِغْنٍ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْأَحَقِّ، أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَدَخَلَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

وَأَدَاءُ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ لِلْأَمَانَةِ- كَمَا قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثِ شُعَبٍ: خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَلاَّ يَشْتَرِيَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، وَتَرْكُ خَشْيَةِ النَّاسِ.

(ر: أَمَانَةُ ف3)

جـ ـ الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ:

26- الْعَدْلُ مِيزَانُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَسَبَبُ صَلَاحِ الْخَلْقِ، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.وَوَرَدَ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَلِهَذَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ إِذَا شَمِلَهَا الْعَدْلُ كَانَتْ مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ الْعَادِلَ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ جَمِيعِ الْأَنَامِ.

قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَدَرْءِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَظْلِمَةٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ يَجْلِبُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَصْلَحَةٍ فَمَا دُونَهَا، فَيَا لَهُ مِنْ كَلَامٍ يَسِيرٍ وَأَجْرٍ كَبِيرٍ.

أَمَّا وُلَاةُ الْجَوْرِ وَقُضَاةُ السُّوءِ فَأَعْظَمُ النَّاسِ وِزْرًا، وَأَحَطُّهُمْ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِعُمُومِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ جَلْبِ الْمَفَاسِدِ وَدَرْءِ الْمَصَالِحِ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَأْثَمُ بِهَا أَلْفَ إِثْمٍ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَا لَهَا مِنْ صَفْقَةٍ خَاسِرَةٍ وَتِجَارَةٍ بَايِرَةٍ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ جِمَاعَ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ وَالْوِلَايَةِ الصَّالِحَةِ: أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ.وَحَكَى: إِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَلَوْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً.

د ـ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:

27- إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ: إِصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا.وَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.

- 16- قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَإِذَا كَانَ جِمَاعُ الدِّينِ وَجَمِيعِ الْوِلَايَاتِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، فَالْأَمْرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ هُوَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا نَعْتُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.

وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَيَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ، وَالْقُدْرَةُ هِيَ السُّلْطَانُ وَالْوِلَايَةُ، فَذَوُو السُّلْطَانِ أَقْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ مِنَ الْوُجُوبِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِحَسْبِ قُدْرَتِهِ.

وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ إِنَّمَا مَقْصُودُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وِلَايَةُ الْحَرْبِ الْكُبْرَى مِثْلُ نِيَابَةِ السَّلْطَنَةِ، وَالصُّغْرَى مِثْلُ وِلَايَةِ الشُّرَطَةِ، وَوِلَايَةِ الْحُكْمِ، وَوِلَايَةِ الْمَالِ- وَهِيَ وِلَايَةُ الدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ- وَوِلَايَةِ الْحِسْبَةِ.لَكِنَّ مِنَ الْمُتَوَلِّينَ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ الْمُؤْتَمَنِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الصِّدْقُ، مِثْلُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمِثْلُ صَاحِبِ الدِّيوَانِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَخْرَجَ وَالْمَصْرُوفَ، وَالنَّقِيبِ وَالْعَرِيفِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ إِخْبَارُ ذِي الْأَمْرِ بِالْأَحْوَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَمِينِ الْمُطَاعِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَدْلُ، مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُحْتَسِبِ.وَبِالصِّدْقِ فِي كُلِّ الْأَخْبَارِ، وَالْعَدْلِ فِي الْإِنْشَاءِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ تَصْلُحُ جَمِيعُ الْأَحْوَالِ.

هـ ـ مَشُورَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ:

28- مَشُورَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ وَعُمُومِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُشَاوَرَةُ أَصْلُ الدِّينِ، وَسُنَّةُ اللَّهِ فِي الْعَالَمِينَ، وَهِيَ حَقٌّ عَلَى عَامَّةِ الْخَلِيقَةِ مِنَ الرَّسُولِ إِلَى أَقَلِّ خَلْقٍ بَعْدَهُ فِي دَرَجَاتِهِمْ، وَهِيَ اجْتِمَاعٌ عَلَى أَمْرٍ يُشِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِرَأْيِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِشَارَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَيَلْزَمُ ذَا الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ اسْتِشَارَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ فِيمَا خَفِيَ عَنْهُ أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِـنَ الْأُمُورِ وَالْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِوِلَايَتِـهِ وَسُلْطَانِهِ، فَالشُّورَى أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَمِسْبَارٌ لِلْعُقُولِ، وَسَبَبٌ إِلَى الصَّوَابِ، وَمَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إِلاَّ هُدُوا.

قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرُوبِ، وَوُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ وَالْوُزَرَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا.

وَقَدْ مَدَحَ اللَّه مَنْ عَمِلَ بِهَا فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَيْ لَا يَسْتَبِدُّونَ بِأَمْرٍ، وَيَتَّهِمُونَ رَأْيَهُمْ حَتَّى يَسْتَعِينُوا بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ أَنَّ عِنْدَهُ مَدْرَكًا لِغَرَضِهِ.وَهَذِهِ سِيرَةٌ أَوَّلِيَّةٌ، وَسُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، وَخَصْلَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ مَرَضِيَّةٌ.

(ر: شُورَى ف 5 ـ 8).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


67-المعجم الغني (اِرْتِطَامٌ)

اِرْتِطَامٌ- [رطم]، (مصدر: اِرْتَطَمَ):

1- "كَانَ العَيَاءُ والتَّعَبُ سَبَبًا فِي اِرْتِطامِهِ فِي الوَحَلِ": سُقُوطِهِ، تَهَالُكِهِ.

2- "أَثَارَ انْتِبَاهَهُ ارْتِطَامُ الأثَاثِ": تَرَاكُمُهُ، تَكَدُّسُهُ.

3- "أَدَّى بِهِ الفَقْرُ إِلَى الارْتِطَامِ بِالمصَاعِبِ": الاصْطِدَامِ وَمُوَاجَهَةِ الْمَصَاعِبِ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


68-المعجم الغني (اِنْحِتاتٌ)

اِنْحِتاتٌ- [نحت]، (مصدر: اِنْحَتَّ):

1- "اِنْحِتاتُ الشَّعْرِ": تَساقُطُهُ.

2- "اِنْحِتاتُ وَرَقِ الشَّجَرِ": سُقوطُهُ مُتَناثِرًا.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


69-المعجم الغني (اِنْحِدارٌ)

اِنْحِدارٌ- [حدر]، (مصدر: اِنْحَدَرَ):

1- "الانْحِدارُ مِنْ أَعْلَى الجَبَلِ": التَّدَحْرُجُ.

2- "اِنْحِدارُ الدَّمْعِ": سَيَلانُهُ، اِنْسِكابُهُ، سُقوطُهُ، جَرَيانُهُ.

3- "اِنْحِدارُهُ مِنْ أُسْرَةٍ شَريفَةٍ": اِنْتِسابُهُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


70-المعجم الغني (اِنْزِلاقٌ)

اِنْزِلاقٌ- [زلق]، (مصدر: اِنْزَلَقَ):

1- "يَنْبَغي الحَذَرُ مِنَ الانْزِلاقِ": الانْزِياحِ، التَّزَحْلُقِ.

2- "أَدَّى الازْدِحامُ إلى انْزِلاقِ بابِ قاعَةِ الْمَعْرِضِ": تَداعِيهِ، اِنْجِرارِهِ، سُقوطِهِ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


71-المعجم الغني (اِنْهِدَادٌ)

اِنْهِدَادٌ- [هدد]، (مصدر: اِنْهَدَّ)، "اِنْهِدَادُ البِنَاءِ": اِنْهِيَارُهُ، سُقُوطُهُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


72-المعجم الغني (اِنْهِدامٌ)

اِنْهِدامٌ- [هدم]، (مصدر: اِنْهَدَمَ)، "اِنْهِدامُ البِناءِ": اِنْهِيارُهُ، سُقوطُهُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


73-المعجم الغني (تَسَاقَطَ)

تَسَاقَطَ- [سقط]، (فعل: خماسي. لازم، مزيد بحرف)، تَسَاقَطْتُ، أَتَسَاقَطُ، تَسَاقَطْ، المصدر: تَسَاقُطٌ.

1- "تَسَاقَطَ الْمَطَرُ": تَتَابَعَ سُقُوطُهُ. "وَبِعُيُونٍ حَزِينَةٍ يَكَادُ يَتَسَاقَطُ مِنْهَا الدَّمْعُ". (محمد حسين هيكل):

2- "تَسَاقَطَ الرَّجُلُ عَلَى الأَرْضِ": اِنْهَارَ.

3- "تَسَاقَطَ عَلَيْهِ": أَلْقَى نَفْسَهُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


74-المعجم الغني (تَكَرْبُعٌ)

تَكَرْبُعٌ- [كرب]، (مصدر: تَكَرْبَعَ)، "تَكَرْبُعُ الوَلَدِ": سُقوطُهُ على مُؤَخَّرِهِ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


75-المعجم الغني (تَكَرْكُرٌ)

تَكَرْكُرٌ- [كرك]، (مصدر: تَكَرْكَرَ):

1- "التَّكَرْكُرُ في الأمْرِ": التَّرَدُّدُ فيهِ.

2- "تَكَرْكُرُ الطَّائِرِ": تَرَدِّيهِ، سُقوطُهُ في الهواءِ.

3- "تَكَرْكُرُ الماءِ": تَراجُعُهُ في مَسيلِهِ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


76-المعجم الغني (تَكَوُّرٌ)

تَكَوُّرٌ- [كور]، (مصدر: تَكَوَّرَ):

1- "تَكَوُّرُ الوَلَدِ": سُقوطُهُ.

2- "تَكَوُّرُ الرَّجُلِ": تَشَمُّرُهُ.

3- "تَكَوُّرُ كُلِّ ما هو سائِلٌ": سَيَلانُهُ قَطْرَةً قَطْرَةً.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


77-المعجم الغني (تَمَوُّرٌ)

تَمَوُّرٌ- [مور]، (مصدر: تَمَوَّرَ):

1- "تَمَوُّرُ الشَّيْءِ": تَحَرُّكُهُ، اِضْطِرَابُهُ.

2- "تَمَوُّرُ الرَّجُلِ": مَجِيئُهُ وَذَهَابُهُ مُتَرَدِّدًا.

3- "تَمَوُّرُ الوَبرِ عَنِ الدَّابَّةِ": سُقُوطُهُ.

4- "تَمَوُّرُ الشَّعْرِ": ذَهَابُهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


78-المعجم الغني (دَرَّكَ)

دَرَّكَ- [درك]، (فعل: رباعي. لازم)، دَرَّكَ، يُدَرِّكُ، المصدر: تَدْرِيكٌ. "دَرَّكَ الْمَطَرُ": تَتَابَع سُقُوطُهُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


79-المعجم الغني (ديمَةٌ)

ديمَةٌ- الجمع: دِيَمٌ، دُيومٌ. [ديم]. "مَطَرَتِ السَّماءُ ديمَةً": مَطرًا يَدومُ سُقوطُهُ بِلا رَعْدٍ وَلا بَرْقٍ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


80-المعجم الغني (رَزَحَ)

رَزَحَ- [رزح]، (فعل: ثلا، لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، رَزَحْتُ، أرْزَحُ، اِرْزَحْ، المصدر: رَزْحٌ، رُزُوحٌ، رَزَاحٌ.

1- "رَزَحَتْ قُوَاهُ": ضَعُفَتْ، وَهَنَتْ.

2- "رَزَحَ الجَمَلُ فِي الهَضَبَةِ": خَارَتْ قُواهُ، سَقَطَ أَرْضًا وَلَمْ يَعُدْ يَسْتَطِيعُ النُّهُوضَ.

3- "يَرْزَحُ تَحْتَ وَطْأَةِ الألَمِ": يَئِنُّ، يَضْعُفُ، يَشْتَدُّ بِهِ الأَلَمُ.

4- "رَزَحَهُ بِالرُّمْحِ": طَعَنَهُ.

5- "رَزَحَتْ حَالُهُ": سَاءتْ.

6- "رَزَحَ العِنَبُ": سَقَطَ.

7- "رَزَحَ العِنَبَ": رَفَعَهُ عِنْدَ سُقُوطِهِ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


81-المعجم الغني (شُعَاعٌ)

شُعَاعٌ- الجمع: أَشِعَّةٌ. [شعع]:

1- "شُعَاعُ الشَّمْسِ": ضَوْؤُهَا وَيَكُونُ عِبَارَةً عَنْ خُيُوطٍ رَهِيفَةٍ مُمْتَدَّةٍ وَمُشِعَّةٍ.

2- "شُعَاعُ الدَّائِرَةِ": قِطْعَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ تَصِلُ بَيْنَ الْمَرْكَزِ وَنُقْطَةٍ مِنَ الدَّائِرَةِ وَهُوَ نِصْفُ القُطْرِ.

3- "أَجْرَى فَحْصًا بِالأَشِعَّةِ": وَمَضَاتٌ شُعَاعِيَّةٌ ذَاتُ نَفَاذٍ وَتَأْثِيرٍ قَوِيٍّ تُسْتَخْدَمُ فِي الطِّبِّ وَغَيْرِهِ.

4- "شُعَاعٌ أَخْضَرُ": هُوَ لَمَعَانٌ أَخْضَرُ اللَّوْنِ، يُرَى فِي البَحْرِ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ فِي الأُفُقِ.

5- "الشُّعَاعُ الْمُنْعَكِسُ": هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَتَى مِنْهَا بَعْدَ سُقُوطِهِ عَلَى سَطْحٍ، وَتُسَاوِي زَاوِيَةُ الانْعِكَاسِ فِيهِ زَاوِيَةَ السُّقُوطِ.

6- "الشُّعَاعُ السَّاقِطُ": هُوَ شُعَاعُ النُّورِ الَّذِي يَسْقُطُ عَلَى سَطْحٍ.

7- "الأَشِعَّةُ مَا بَيْنَ البَنَفْسَجِيَّةِ": هِيَ أَشِعَّةٌ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ مَوْقِعُهَا فِي الصَّيْفِ بَعْدَ الأَشِعَّةِ البَنَفْسَجِيَّةِ وَمَوْجَتُهَا أَقْصَرُ مِنْ مَوْجَةِ الأَشِعَّةِ البَنَفْسَجِيَّةِ.

8- "أَشِعَّةُ مَا تَحْتَ الأَحْمَرِ": هِيَ إِشْعَاعَاتٌ حَرَارِيَّةٌ مُظْلِمَةٌ أَقَلُّ قَابِلِيَّةً لِلانْكِسَارِ مِنَ الأَشِعَّةِ الْحَمْرَاءِ وَهِيَ أَطْوَلُ مِنْهَا مَوْجَةً مَعَ كَوْنِهَا مِنْ طَبِيعَةِ النُّورِ.

9- "الأَشِعَّةُ الكَوْنِيَّةُ": أَشِعَّةٌ تَصِلُ إِلَى الأَرْضِ مِنَ الفَضَاءِ الْخَارِجِيِّ شَدِيدَةُ النَّفَاذِ.

10- "الأَشِعَّةُ السِّينِيَّةُ": أَشِعَّةٌ كَهْرَبِيَّةٌ، تَتَوَلَّدُ عَادَةً عِنْدَ تَصَادُمِ الإِلِكْتُرُونَاتِ السَّرِيعَةِ لِهَدَفٍ تُصَوَّبُ نَحْوَهُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


82-المعجم الغني (مَسْقِطٌ)

مَسْقِطٌ، مَسْقَطٌ- الجمع: مَسَاقِطُ. [سقط]:

1- "مَسْقِطُ الْمَاءِ": مَهْبِطُهُ، مَحَلُّ سُقُوطِهِ.

2- "مَسْقِطُ الرَّأْسِ": مَكَانُ وِلَادَةِ الإِنْسَانِ. "يَحِنُّ إِلَى مَسْقِطِ رَأْسِهِ".

3- "مَسْقَطُ": اِسْمُ مَدِينَةٍ، عَاصِمَةُ سَلْطَنَةِ عُمَانَ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


83-المعجم الغني (مَلَصٌ)

مَلَصٌ- [ملص]، (مصدر: مَلِصَ):

1- "مَلَصُ الْخَيْطِ": سُقُوطُهُ، زَلَقُهُ لِمَلَاسَتِهِ وَلِينِهِ.

2- "مَلَصُ السَّمَكِةِ": اِنْفِلَاتُهَا.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


84-معجم الرائد (أَقَالَ)

أَقَالَ إِقَالَةً:

1- أَقَالَهُ ما لم يقل: ادعاه عليه، نسبه إليه.

2- أَقَالَ الله عثرته، أو أقاله عثرته: أنهضه من سقوطه.

3- أَقَالَ الله عثرته: أو أقاله عثرته: صفح عنه، سامحه.

4- أَقَالَ البيع: فسخه.

5- أَقَالَهُ من منصبه: فصله عنه.

6- أَقَالَ الجمال: سقاها في منتصف النهار.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


85-معجم الرائد (أَقْرَنَ)

أَقْرَنَ إِقْرَانًا:

1- أَقْرَنَ: جمع بين شيئين أو عملين.

2- أَقْرَنَ: بين الشيئين أو العملين: جمع بينهما.

3- أَقْرَنَ: رمى بسهمين.

4- أَقْرَنَ: جاء بأسيرين في حبل.

5- أَقْرَنَهُ: أعطاه جملين في حبل.

6- أَقْرَنَهُ: صار له «قرنا»، أي نظيرا وشبيها.

7- أَقْرَنَ: ضحى بكبش له قرنان.

8- أَقْرَنَ: إكتحل كل ليلة ميلا.

9- أَقْرَنَ الدم في العرق: كثر وهاج.

10- أَقْرَنَ عن الطريق: عدل وحاد.

11- أَقْرَنَ عن الأمر: عجز وضعف.

12- أَقْرَنَ للأمر: أطاقه وقوي عليه.

13- أَقْرَنَ على خصمه: تغلب عليه.

14- أَقْرَنَتِ الثريا: ارتفعت في السماء.

15- أَقْرَنَ الدمل: نضج وحان أن يتشقق ويخرج ما فيه من القيح أو نحوه.

16- أَقْرَنَ المطر: دام سقوطه.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


86-معجم الرائد (اهْتَزَّ)

اهْتَزَّ اهْتِزَازًا:

1- اهْتَزَّ الشيء: تحرك.

2- اهْتَزَّ النبات: طال.

3- اهْتَزَّتِ الأرض: أنبتت.

4- اهْتَزَّتِ الجمال: تحركت ونشطت في سيرها بحداء الحادي.

5- اهْتَزَّ النجم في سقوطه: أسرع.

6- اهْتَزَّ للأمر: ارتاح له.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


87-معجم الرائد (تَسَاقَطَ)

تَسَاقَطَ تَسَاقُطًا:

1- تَسَاقَطَ: سقط.

2- تَسَاقَطَ الشيء: تتابع سقوطه «تساقطت الحجارة».

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


88-معجم الرائد (دام)

دام يدوم ويدام دوما ودواما وديمومة:

1- دام الشيء: ثبت وبقي «دام له المجد».

2- دام المطر: تتابع سقوطه.

3- دام الشيء: دار.

4- دام الشيء: تحرك.

5- دام الشيء: سكن.

6- دام الماء: ركد.

7- دامتِ الدلو أو نحوها: امتلأت.

8- دام «ما دام»: من أخوات «كان» ترفع الاسم وتنصب الخبر.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


89-معجم الرائد (رزح)

رزح يرزح رزحا ورزوحا ورزاحا:

1- رزح الجمل: تعب وضعف فلصق بالأرض من حراك.

2- رزح: ضعف.

3- رزح: ذهب ما بيده.

4- رزحهُ بالرمح: طعنه به.

5- رزح العنب: سقط.

6- رزح العنب: رفعه عند سقوطه.

7- رزحت حاله: ساءت.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


90-الأفعال المتداولة (تَسَاقَطَ [عليه])

تَسَاقَطَ [عليه]: تَسَاقَطَ علينا المطر ونحن في اثناء الطريق. (تتابع سقوطه)

الأفعال المتداولة-محمد الحيدري-صدر: 1423هـ/2002م


91-لغة الفقهاء (الالتقاط)

الالتقاط: من لقط، أخذ شيء من الأرض، ومنه: اللقطة، والتقاط نثار العروس: أخذ ما ينثر على رأس العروس بعد سقوطه على الأرض... Picking up

معجم لغة الفقهاء-محمد رواس قلعه جي/حامد صادق قنيبي-صدر: 1405هـ/1985م


92-لغة الفقهاء (التردي)

التردي: من تردي، السقوط... Fall down

[*] المتردية: الحيوان الذي مات بسبب سقوطه... Death due to falling down

معجم لغة الفقهاء-محمد رواس قلعه جي/حامد صادق قنيبي-صدر: 1405هـ/1985م


93-تاج العروس (روح)

[روح]: الرُّوحُ، بالضّمّ النّفْسُ. وفي التّهذيب: قال أَبو بكرِ بنُ الأَنبارِيّ: الرُّوح والنَّفْسُ واحدٌ، غير أَن الرُّوح مذكَّر، والنَّفْس مُؤنَّثة عند العرب. وفي التنزيل: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وتأْوِيل الرُّوح أَنه ما بِه حَياةُ الأَنْفُسِ. والأَكثرُ على عدم التعرّض لها، لأَنّها معروفَةٌ ضرورَةً. ومَنَعَ أَكثرُ الأُصوليّين الخَوْضَ فيها لأَن الله أَمْسَكَ عنها فنُمْسِك؛ كما قاله السُّبْكيّ وغيرُه.

وروَى الأَزهريّ بسَنَده عن ابن عبّاس في قوله: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} إِنّ الرُّوح قد نزل في القرآن بمنازلَ، ولكن قُولوا كما قال الله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا} وقال الفرَّاءُ: الرُّوحُ: هو الّذِي يعيش به الإِنسانُ، لم يُخبِر الله تعالى به أَحدًا من خلْقه ولم يُعْط علْمَه العبادَ. قال: وسَمعت أَبا الهيثم يقول: الرُّوح إِنّما هو النَّفَس الّذي يَتنفَّسُه، الإِنسانُ، وهو جارٍ في جميع الجسدِ، فإِذا خَرجَ لم يتنفَّسْ بعْدَ خُروجه، فإِذا تَمَّ خُرُوجُه بقِي بَصَرُه شاخصًا نَحْوَه حتَّى يُغَمَّضَ، وهو بالفارِسيّة «جان»، يُذكَّر ويُؤَنَّث. قال شيخنا: كلام الجوهريّ يدلّ على أَنّهما على حدٍّ سَوَاءٍ. وكلامُ المصنِّف يُوهِم أَن التَّذْكير أَكْثَر.

قلت: وهو كذلك. ونقل الأَزهريّ عن ابن الأَعرابيّ قال: يُقال: خَرَجَ رُوحُه، والرُّوح مُذكَّر. وفي الرَّوْض للسُّهَيْلِيّ: إِنما أُنِّثَ لأَنّه في معنَى النَّفْس، وهي لُغَة معروفةٌ. يقال إِنّ ذا الرُّمّة أَمَرَ عند مَوْته أَن يُكْتَب على قبره:

يا نازعَ الرُّوحِ من جِسْمي إِذا قُبِضَتْ *** وفارجَ الكَرْبِ، أَنْقِذْني من النَّارِ

وكان ذلك مكتوبًا على قَبْرِه؛ قاله شيخُنَا. ومن المجاز في الحديث: «تَحَابُّوا بذِكْرِ اللهِ ورُوحِه». أَراد ما يَحْيَا به الخلْقُ ويهْتَدون، فيكون حياة لهم، وهو القُرآن. وقال الزَّجاج: جاءَ في التفسير أَن الرُّوح: الوَحْيُ، ويُسمَّى القُرْآنُ رُوحًا. وقال ابن الأَعرابيّ: الرُّوحُ: القرآنُ، والرُّوحُ: النَّفْسُ. قال أَبو العبّاس: وقوله عزّ وجلّ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} و {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} قال أَبو العبّاس: هذا كله معناه الوحْي سُمِّيَ رُوحًا لأَنّه حياةٌ من موتِ الكُفْرِ، فصار بحياتِه للناسِ كالرُّوح الّذي يَحْيَا به جَسدُ الإِنسانِ. وقال ابن الأَثير: وقد تكرّر ذِكْرُ الرُّوحِ في القرآن والحديث، ووَرَدتْ فيه على مَعانٍ، والغالِبُ منها أَن المُراد بالرُّوح الّذي يقوم به الجسَدُ وتكون به الحياةُ، وقد أُطْلِق على القُرْآن والوَحْيِ [والرحمة]، وعلى جِبْرِيل في قوله [تعالى]: {الرُّوحُ الْأَمِينُ} وهو المراد ب {رُوحُ الْقُدُسِ}. وهكذا رواه الأَزهريّ عن ثعلب. والرُّوح: عِيسى، عليهما‌السلام. والرُّوحُ: النَّفْخُ سُمِّيَ رُوحًا لأَنه رِيحٌ يَخْرُجُ من الرُّوح. ومنه قولُ ذي الرُّمَّة في نارٍ اقْتَدَحها وأَمَرَ صاحبَه بالنَّفْخ فيها، فقال:

فقلتُ له ارْفَعْها إِليك وأَحْيِها *** برُوحِك واجْعَلْه لها قِيتةً قَدْرَا

أَي أَحْيِهَا بنَفْخِك واجْعلْه لها؛ أَي النَّفْخَ للنار. وقيل: المراد بالوَحْي أَمر النُّبُوَّة، قاله الزجاج. وروى الأَزهريّ عن أَبي العباس أَحمد بن يحيَى أَنه قال في قول الله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا} قال: هو ما نَزَلَ به جِبريلُ من الدّين، فصارَ يَحْيَا به النَّاسُ؛ أَي يعيش به النّاسُ. قال: وكلُّ ما كان في القرآن {فَعَلْنا} فهو أَمْرُه بأَعْوَانِه، أَمْر جبريل وميكائيلَ وملائكته؛ وما كان فَعلتُ فهو ما تفرَّد به. وجاءَ في التفسير أَن الرُّوح حُكْم الله تَعالَى وأَمْرُه بأَعْوَانِه وملائِكتِه. وقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا} قال الزَّجّاج: الرُّوح: خَلْقٌ كالإِنس وليس هو بالإِنس. وقال ابن عباس: هو مَلَك في السماءِ السابعةِ وَجْهُه كوَجْه الإِنسان، وجسَدُه كالملائِكَةِ؛ أَي على صُورتِهم. وقال أَبو العبّاس: الرُّوحُ: حَفَظةٌ على الملائكةِ الحَفظةِ على بني آدم، ويُرْوَى أَن وُجوههم [مثل] وجوه الإِنس، لا تَرَاهم الملائكة، كما أَنَّا لا نَرَى الحَفَظَة ولا الملائكة.

وقال ابن الأَعرابيّ: الرُّوح: الفَرَحُ والرُّوح: القرآن، والرُّوحُ: الأَمْرُ، والرُّوحُ: النَّفْس.

والرَّوْح بالفتح: الرّاحةُ والسُّرورُ والفَرَحُ. واستعاره عليٌّ رضي ‌الله‌ عنه لليقِين، فقال: «فباشِروا رَوْحَ اليقِين».

قال ابن سيده: وعندي أَنه أَراد الفَرَحَ والسُّرُور اللَّذيْن يَحْدُثَانِ من اليقين. وفي التَّهذيب عن الأَصمعيّ: الرَّوْح: الاسْتِرَاحةُ من غَمِّ القلْبِ. وقال أَبو عمرٍو: الرَّوْحُ: الفَرحُ: قال شيخُنَا: قيل: أَصلُه النَّفْس ثم استُعِير للفرَح. قلت: وفيه تأَمُّلٌ. وفي تفسير قوله تعالى {فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ}، معناه فاسْتِرَاحةٌ. قال الزّجّاج: وقد يكون الرَّوْحُ بمعنَى الرَّحْمة. قال الله تعالى {[وَ] لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ}؛ أَي من رحمة الله، سَمّاهَا روْحًا لأَن الرَّوْحَ والرَّاحة بها. قال الأَزهريّ: وكذلك قوله [تعالى] في عيسى: {وَرُوحٌ مِنْهُ}؛ أَي رَحْمة منه تعالى.

وفي الحديث: عن أَبي هُرَيرة: «الرِّيح من رَوْحِ الله تأْتي بالرَّحْمَة، وتأْتي بالعذاب. فإِذا رأَيتموهَا فلا تَسُبُّوها واسْأَلوا الله من خَيْرِها، واسْتَعيذوا بالله من شرّها».

وقوله: من رَوْحِ اللهِ؛ أَي من رَحْمَة الله. والجمع أَرْوَاحٌ. والرَّوْح: بَرْدُ نَسيم الرِّيحِ. وقد جاءَ ذلك في حديث عائشةَ رضي ‌الله‌ عنها: «كان النّاسُ يَسكُنون العالِيَةَ فيحضُرون الجُمُعَةَ وبهم وَسَخٌ، فإِذا أَصَابَهم الرَّوْحُ سَطَعَتْ أَرْواحُهم، فيتَأَذَّى به النّاسُ. فأُمِروا بالغُسْل».

قالوا: الرَّوّح، بالفتح: نَسيمُ الرِّيح، كانوا إِذا مَرّ عليهم النَّسيم تَكَيَّفَ بأَرْواحِهم، وحَمَلها إِلى النّاس.

والرَّوَحُ: بالتَّحْرِيك: السَّعَةُ قال المُتَنخِّلُ الهُذليّ:

لكِنْ كَبيرُ بنُ هِنْدٍ يومَ ذلِكُم *** فُتْخُ الشَّمَائلِ في أَيْمانهم رَوَحُ

وكبيرُ بنُ هِنْد: حَيٌّ من هُذَيْل. والفُتْخُ: جمع أَفْتَخَ، وهو اللَّيِّنُ مَفْصِلِ اليَدِ، يريد أَنّ شمائلَهم تَنْفتِخُ لشدَّة النَّزْع. وكذلك قوله: «في أَيمانهم رَوَح»، وهو السَّعَةُ لشدّة ضرْبِها بالسَّيف. والرَّوَح أَيضًا: اتِّسَاعُ ما بين الفَخِذيْنِ أَو سعةٌ في الرِّجْلَين، وهو دُونَ الفحجِ، إِلا أَنّ الأَرْوح تَتَبَاعَدُ صُدُورُ قَدَمَيْه وتَتَدانَى عَقِباه. وكلُّ نَعَامةٍ رَوْحَاءُ، وجَمْعه الرُّوحُ. قال أَبو ذُؤَيب:

وزَفَّتِ الشَّوْلُ من بَرْدِ العَشِيِّ كمَا *** زَفَّ النَّعَامُ إِلى حَفّانِهِ الرُّوحُ

وفي الحديث: «كان عُمرُ رضي ‌الله‌ عنه أَرْوَحَ كأَنّه راكَبٌ والنّاسُ يَمْشون».

وفي حديث آخَرَ: «لَكَأَنِّي أَنظُرُ إِلى كِنَانَةَ بن عَبْدِ يَالِيلَ قد أَقبل تَضْرِبُ دِرْعُه رَوْحَتَيْ رِجْلَيْه».

الرَّوَحُ: انقلابُ القَدَم على وَحْشِيِّها. وقيل: وهو انْبِسَاطٌ في صَدْرِ القَدم. ورَجُل أَرْوَحُ، وقد رَوِحتْ قَدَمُه رَوَحًا، وهي رَوْحاءُ. وقال ابن الأَعْرَابيّ: في رِجْله رَوَحٌ ثم فَدَحٌ ثم عَقَلٌ، وهو أَشَدُّها. وقال الليث: الأَرْوَحْ: الّذي في صَدْرِ قَدميه انبساط، يقولون: رَوِحَ الرَّجلُ يَرْوَحُ رَوَحًا.

والرَّوَح: اسمُ جمْع رائحٍ مثل خادِم وخدمٍ. يقال: رجلٌ رائِحٌ، من قَوْم رَوَحٍ، ورؤوحٌ من قَوْمٍ رُوحٍ.

والرَّوَحُ من الطَّيْر: المُتَفَرِّقةُ قال الأَعشى:

ما تَعِيفُ اليَوْمَ في الطيرِ الرَّوَحْ *** من غُرابِ البيْنِ أَو تَيْسِ سَنَحْ

أَو الرَّوَحُ في البيْتِ هذا هي الرّائِحة إِلى أَوْكارِها. وفي التّهذيب في هذا البيتِ: قيل: أَراد الرَّوَحة مثل الكَفَرة والفجَرة، فطرَحَ الهاءَ. قال: والرَّوَحُ في هذا البيتِ المُتَفَرِّقةُ.

ومكان رَوْحانِيّ: طَيِّبٌ.

والرّوحانِيُّ، بالضّمّ والفتح، كأَنّه نُسب إِلى الرُّوح أَو الرَّوْح، وهو نسيم الرّوح، والأَلف والنون من زيادات النّسب، وهو من نادِرِ معْدولِ النَّسب. قال سيبويه: حكى أَبو عُبيْدةَ أَنّ العرب تقوله لكلّ ما فيه [الرُّوح من الناس والدَّواب، وكذلك] النِّسْبة إِلى المَلك والجِنّ. وزعم أَبو الخطَّاب أنه سمع من العرب من يقول في النَّسبة إِلى الملائكةِ والجِنّ: رُوحانِيّ، بضمّ الرّاءِ والجمع: رُوحَانِيُّون بالضّم. وفي التهذيب: وأَما الرُّوحانيُّ من الخَلْقِ فإِن أَبا داوود المَصاحِفيّ روَى عن النَّضْر، في كتاب الحروف المُفسَّرة من غريب الحديث، أَنه قال: حدَّثنا عَوْفٌ الأَعرابيّ عن ورْدَانَ بنِ خالدٍ، قال: بَلَغني أَن الملائكة منهم رُوحانِيُّونَ، ومنهم منْ خُلِقَ من النُّور. قال: ومن الرُّوحانِيّينَ جِبْريلُ وميكائيلُ وإِسْرَافيلُ عليهم‌السلام.

قال ابنُ شُمَيْل: فالرُّوحانِيُّون أَرْوَاحٌ ليست لها أَجسامٌ، هكذا يقال: قال: ولَا يقال لشيْ‌ءٍ من الخَلْق رُوحانيّ إِلَّا للأَرْواح الّتي لا أَجسادَ لها، مثل الملائكةِ والجِنّ وما أَشبهها؛ وأَما ذواتُ الأَجسامِ فلا يُقال لهم: رُوحانِيُّون. قال الأَزهريّ: وهذا القولُ في الرُّوحانيِّين هو الصّحيح المعتمَد، لا ما قاله ابنُ المُظَفِّر أَنّ الرُّوحانِيّ [الجسد] الّذِي نُفِخَ فيه الرُّوحُ.

والرِّيح معروف وهو الهَواءُ المُسخَّرُ بين السّماءِ والأرض؛ كما في المصباح، وفي اللسان: الرِّيح: نَسيمُ الهواءِ، وكذلك نَسيمُ كلِّ شيْ‌ءٍ، وهي مؤنّثة. ومثله في شرح الفَصِيح للفِهْريّ. وفي التَّنْزِيل: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} وهو عند سيبويه فِعْل، وهو عند أَبي الحسنِ فعْل وفُعْل. والرِّيحة: طائفة من الرِّيح؛ عن سيبويه. وقد يجوز أَن يَدُلَّ الوَاحدُ على ما يَدُلُّ عليه الجمعُ. وحكَى بعضُهم رِيحٌ رِيحَةٌ. قال شيخنا: قالوا: إِنما سُمِّيَت رِيحًا لأَنّ الغالبَ عليها في هُبوبها المَجي‌ءُ بالرَّوْح والرّاحَة، وانقطاعُ هُبوبِهَا يُكْسِب الكَرْبَ والغَمَّ والأَذَى، فهي مأْخوذة من الرَّوْح؛ حكاه ابنُ الأَنباريّ في كتابة الزاهر، انتهَى.

وفي الحديث: كان يقول إِذا هاجَتِ الرِّيحُ «اللهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا ولا تَجْعَلْهَا رِيحًا». العرب تقول لا تَلْقَحُ السّحَابُ إِلّا من رياحٍ مختلفة، يريد اجْعَلْهَا لَقَاحًا للسَّحاب ولا تَجْعَلْهَا عَذابًا. ويُحَقِّق ذلك مَجي‌ءُ الجَمْعِ في آياتِ الرَّحْمَة، والوَاحد في قِصَص العَذابِ: ك {الرِّيحَ الْعَقِيمَ}، و {رِيحًا صَرْصَرًا}. الجمع: أَرْواحٌ.

وفي الحديث: «هَبَّتْ أَرْوَاحُ النَّصْر».

وفي حديث ضِمَامٍ «إِني أُعالجُ من هذَه الأَرواحِ»، هي هنا كِناية عن الجِنّ، سُمُّوا أَرْوَاحًا لكَوْنِهم لا يُرَوْن، فهم بمنزلة الأَرواحِ وقد حُكِيَت: أَرْياحٌ وأَرايِيح، وكلاهما شاذٌّ.

وأَنكر أَبو حاتم على عُمارة بن عَقِيل جمعَه الرّياح على الأَرْياح قال: فقلت له فيه: إِنما هو أَرْواح. فقال: قد قال الله تبارك وتعالى {وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ} وإِنما الأَرْوَاحُ جمع رُوحٍ. قال فعلمتُ بذلك أَنه ليس ممن يُؤخذ عنه. وفي التهذيب: الرِّيح ياؤُها واوٌ، صُيِّرت ياءً لانْكِسَار ما قبلها، وتَصْغِيرُهَا رُوَيْحةٌ، وجمعها رِياحٌ وأَرْوَاح، وريَحٌ كعِنَب، الأَخيرُ لم أَجِدْه في الأُمَّهات. وفي الصّحاح: الريحُ واحدةُ الرِّياح وقد تُجْمع على أَرْوَاحٍ، لأَن أَصْلَها الواو، وإِنما جاءَتْ بالياءِ لانكسار ما قبلها، وإِذا رَجعوا إِلى الفتح عادت إِلى الواو، كقولك أَرْوَحَ الماءُ.

جج؛ أَي جمْع الجمْعِ أَراوِيحُ، بالواو وأَرايِيحُ، بالياءِ، الأَخيرةُ شاذَّةٌ كما تقدم.

وقد تكون الرِّيح بمعنى الغَلَبَة والقُوَّةِ. قال تَأَبَّط شَرًّا، وقيل: سُلَيكُ بنُ السُّلَكةِ:

أَتَنْظُرانِ قليلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ *** أَو تَعْدُوانِ فإِنّ الرِّيحَ للعَادِي

ومنه قوله تعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} كذا في الصّحاح. قال ابن بَرِّيّ: وقيل: الشّعر لأَعْشَى فَهْمٍ.

والرِّيح: الرَّحْمَةُ، وقد تَقدّمَ الحديث: «الرِّيح من رَوْح الله» أَي من رَحْمَة الله. و‌في الحديث: «هَبَّت أَرْوَاح النَّصْرِ». الأَرواح: جمع رِيح.

ويقال: الرِّيح لآلِ فلان؛ أَي النُّصْرةُ والدَّوْلَةُ. وكان لفلانٍ رِيحٌ. وإِذا هَبَّت رِياحُك فاغْتَنِمْهَا. ورجل ساكنُ الرِّيح: وَقُورٌ، وكلّ ذلك مجاز؛ كما في الأَساس.

والرِّيح: الشَّي‌ءُ الطَّيِّبُ.

والرَّائِحَة: النَّسِيمُ، طَيِّبًا كان أَو نتنًِا، والرائِحَةُ: رِيحٌ طَيِّبةٌ تَجِدُهَا في النَّسِيم. تقول: لهذه البَقْلةِ رائحةٌ طَيِّبةٌ.

ووجدتُ رِيحَ الشيْ‌ءِ ورائحته، بمعنًى.

ويَوْمٌ رَاحٌ: شَديدُهَا؛ أَي الرِّيحِ، يجوز أَن يكون فاعلًا ذَهَبتْ عَينُه، وأَن يكون فَعْلًا. وليلة راحَةٌ. وقد رَاحَ يَومُنا يَرَاحُ رِيحًا، بالكسر: إِذا اشتَدَّتْ رِيحُه.

وفي الحديث أَنّ رجلًا حَضَره المَوتُ فقال لأَولاده: «أَحْرِقُوني ثم انْظُروا يومًا راحًا فأَذْرُوني فيه». يومٌ راحٌ؛ أَي ذو رِيحٍ، كقولهم: رجلٌ مالٌ.

ويَومٌ رَيِّحٌ، ككَيِّس: طَيِّبُها. وكذلك يَومٌ رَوْحٌ، ورَيُوحٌ كصَبور: طَيِّبُ الرِّيحِ. ومكانٌ رَيِّحٌ أَيضًا، وعَشِيَّةٌ رَيِّحةٌ ورَوْحَةٌ، كذلك. وقال اللّيث: يومٌ رَيِّحٌ ورَاحٌ: ذو رِيحٍ شَديدةٍ. قال: وهو كقولك كَبْشٌ صَافٌ، والأَصل يومٌ رائِحٌ، وكَبْشٌ صائِفٌ، فقلبوا، كما خَفَّفوا الحائِجة فقالوا: الحَاجة. ويقال: قالوا: صافٌ وراحٌ على صَوِف ورَوِحٍ فلما خَفَّفُوا استأْنَسَت الفَتْحَة قبلها فصارَت أَلفًا. ويومٌ رَيِّحٌ: طَيِّبٌ. ولَيلة رَيِّحَةٌ. ويومٌ راحٌ: إِذا اشتدَّت رِيحُه.

وقد راحَ، وهو يَرُوح رُؤُوحا، وبَعضُهم؛ يَراحُ. فإِذا كان اليومُ رَيِّحًا طَيِّبًا قيل: يومٌ رَيِّحٌ، وليلة رَيِّحةٌ، وقد راحَ وهو يَرُوح رَوْحًا.

ورَاحَتِ الرِّيحُ الشَّيْ‌ءَ تَرَاحُه: أَصابَتْه. قال أَبو ذُؤَيب يصف ثَوْرًا:

ويَعوذُ بالأَرْطَى إِذَا ما شَفَّهُ *** قَطْرٌ، وراحَتْه بَلِيلٌ زَعْزَعُ

وراح الشَّجَرُ: وَجَدَ الرِّيحَ وأَحَسَّها؛ حكاه أَبو حنيفةَ وأَنشد:

تَعُوجُ إِذَا ما أَقبلَتْ نَحْوَ مَلْعَبٍ *** كَمَا انْعَاجَ غُصْنُ البانِ راحَ الجَنَائِبَا

وفي اللّسان: ورَاحَ رِيحَ الرَّوْضةِ يَراحُها، وأَراحَ يُرِيح: إِذا وَجَدَ رِيحَها. وقال الهُذليّ:

وماءٍ وَرَدْتُ علَى زَوْرَةٍ *** كمَشْيِ السَّبَنْتَى يَرَاحُ الشَّفِيفَا

وفي الصّحاح: راحَ الشَّيْ‌ءَ يَراحُه ويَرِيحُه: إِذا وَجَدَ رِيحَه. وأَنشد البيت. قال ابن بَرّيّ: هو لصَخْرِ الغَيّ.

والسَّبنْتَى: النَّمِرُ. والشَّفيف: لَذْعُ البرْدِ.

ورِيحَ الغَدِيرُ وغيرُه، على ما لم يُسَمَّ فاعلُه: أَصابَتْه، فهو مَرُوحٌ. قال مَنْظورُ بن مَرْثَدٍ الأَسديّ يَصِفُ رَمادًا:

هل تَعْرِفُ الدارَ بأَعْلَى ذي القُورْ؟ *** قد دَرَسَتْ غيرَ رمادٍ مَكْفورْ

مُكْتَئِبِ اللَّوْنِ مَرُوحٍ مَمْطورْ

ومَرِيح أَيضًا، مثل مَشوب ومَشِيبٍ، بُنيَ على شِيبَ.

وغُصْنٌ مَرِيحٌ ومَرُوحٌ: أَصابَتْه الرِّيحُ. وقال يَصف الدَّمعَ:

كأَنَّه غُصْنٌ مَريحٌ مَمْطُورْ

وكذلك مكانٌ مَرُوحٌ ومَرِيحٌ، وشَجرةٌ مَرُوحةٌ ومرِيحة: صَفَقَتْهَا الرِّيحُ فأَلْقَت وَرَقَهَا.

وراحت الرِّيحُ الشَّيْ‌ءَ: أَصابَتْه. ويقال: رِيحَتْ الشَّجرةُ، فهي مَرُوحَةٌ. وشَجرةٌ مَرُوحةٌ: إِذا هبَّت بها الرِّيحُ. مَرُوحة كانت في الأَصلِ مَرْيُوحة.

ورِيحَ القوْمُ: دَخَلوا فيها أَي الرِّيحِ كأَراحوا، رُباعيًّا، أَو أراحوا: دَخلوا في الرِّيح، ورِيحُوا: أَصابَتْهم فَجَاحَتْهم؛ أَي أَهلكَتهم.

والرَّيْحَان قد اختلفوا في وَزْنِه، وأَصْله، وهل ياؤُه أَصليّة: فموضعه مادَّتُها كما هو ظاهرُ اللفظ، أَو مُبْدَلَة عن واو فيحتاج إِلى مُوجِبِ إِبدالها ياءً، هل هو التّخْفيف شُذوذًا، أَو أَصله رَوْيَحان، فأُبدلت الواوُ ياءً، ثم أُدغِمَت كما في تَصْريف سَيِّد، ثم خُفِّف، فوزْنُه فَعْلان، أَو غير ذلك؛ قاله شيخُنَا، وبعضه في المصباح. وهو نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، من أَنواعِ المَشْمومِ، واحدته رَيْحَانَةٌ. قال:

برَيْحانةٍ مِنْ بَطْنِ حَلْيَةَ نَوَّرَتْ *** لها أَرَجٌ، ما حَوْلَها غَيْرُ مُسْنِتِ

والجمْع رَيَاحِينُ. أَو الرَّيْحَان: كُلُّ نَبْتٍ كذلِك، قاله الأَزهريّ، أَو أَطْرَافُه؛ أَي أَطْرَافُ كلِّ بَقْلٍ طَيِّبِ الرِّيحِ إِذا خَرَجَ عليه أَوَائلُ النَّوْرِ، أَو الرَّيْحَانُ في قوله تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ} قال الفرَّاءُ: العَصْف: ساقُ الزَّرْعِ. والرَّيْحَانُ: وَرَقُه. ومن المجاز: الرَّيْحَانُ: الوَلَد.

وفي الحديث: «الوَلَد مِن رَيْحَان اللهِ» وفي الحديث: «إِنكم لَتُبَخِّلون وتُجَهِّلون وتُجَبِّنون، وإِنكم لمن رَيْحانِ الله» يعني الأَولادَ.

وفي آخَرَ: قال لعليٍّ رضي ‌الله‌ عنه: «أُوصِيك برَيْحانَتَيَّ خَيْرًا قبلَ أَنْ يَنْهدّ رُكْنَاك». فلما مات رسولُ الله صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم قال: هذا أَحدُ الرُّكْنَينِ. فلما ماتت فاطمةُ قال: هذا الرُّكْنُ الآخَرُ.

وأَرادَ برَيْحَانَتَيْه الحَسَن والحُسَيْنَ رضي ‌الله‌ عنهما.

ومن المجاز: الرَّيْحانُ: الرِّزْق. تقول: خَرَجْتُ أَبْتَغِي رَيْحَانَ اللهِ؛ أَي رِزْقَه. قال النَّمِر بن تَوْلَب:

سَلامُ الإِلهِ وَرَيْحَانُهُ *** ورَحْمَتُه وسَمَاءٌ دِرَرْ

أَي رِزْقه؛ قاله أَبو عُبَيْدةَ. ونقل شيخُنَا عن بعضهم أَنه لغة حِمْيَر.

ومحمد بن عبد الوَهّاب أَبو منصور، روَى عن حمزَةَ بنِ أَحمد الكَلَاباذِيّ، وعنه أَبو ذَرٍّ الأَديب؛ وعبد المُحْسِن بن أَحمدَ الغَزّال شِهاب الدِّين، عن إِبراهِيمَ بنِ عبد الرحمن القَطِيعِيّ، وعنه أَبو العَلاءِ العَرْضِيّ، وعليّ بنُ عُبَيْدَة المتكلِّم المصنِّف له تَصانِيفُ عجيبة، وإِسْحَاقُ بن إِبراهِيم، عن عبّاس الدُّورِيّ وأَحمد بن القَرّابِ؛ وزكريّاءُ ابنُ عليّ، عن عاصمِ بن عليّ؛ وعليُّ بن عبد السّلام بن المبارك، عن الحُسَيْنِ الطّبرِيّ شَيْخِ الحَرَم، الرَّيْحَانِيُّون، مُحَدِّثون.

وتقول العرب: سُبحانَ اللهِ وريْحَانَه. قال أَهل اللُّغَة: أَي اسْتِرْزاقَه. وهو عند سيبويهِ من الأَسماءِ الموضوعةِ مَوْضِعَ المَصادر. وفي الصّحاح: نَصَبوهما على المصدرِ، يُرِيدُون تنْزِيَهًا له واسْتِرْزاقًا.

والرَّيْحَانة: الحنْوَةُ، اسمٌ كالعَلَم. والرَّيْحانَة: طاقَةٌ واحدةٌ من الرَّيْحَانِ وجمعه رَياحِينُ.

والرَّاحُ: الخَمْرُ اسمٌ له كالرَّيَاحِ، بالفتح. وفي شرح الكَعبيّة لابنِ هِشَامٍ: قال أَبو عَمْرٍو: سُمِّيَت راحًا ورَيَاحًا لارْتِيَاحِ شارِبِها إِلى الكَرَمِ. وأَنشد ابنُ هِشَامٍ عن الفرَّاءِ:

كأَنَّ مَكَاكِيَّ الجِوَاءِ غُدَيَّةً *** نَشاوَى تَساقَوْا بالرَّيَاحِ المُفَلْفَلِ

قلت: وقال بعضُهم: لأَنّ صاحبها يَرْتاح إِذا شَرِبها. قال شيخنا: وهذا الشاهدُ رواه الجوهريّ تامًّا غير مَعْزُوٍّ، ولا منقولٍ عن الفرَّاءِ. قلت: قال ابن بَرِّيّ: هو لامرِئ القَيْس، وقيل: لتأْبَّطَ شَرًّا، وقيل: للسُّلَيكِ. ثم قال شيخنا: يَبْقَى النَّظرُ في موجِب إِبدالِ واوِهَا ياءً. فكان القياس الرَّواحُ، بالواوِ، كصَوابٍ. قلت: وفي اللّسان: وكلُّ خَمْرٍ راحٌ ورَيَاحٌ، وبذلك عُلِمَ أَن أَلفَها مُنقلبة عن ياءٍ.

والرَّاحُ: الارْتِيَاحُ. قال الجُمَيح بن الطَّمّاح الأَسديّ:

ولَقِيتُ ما لَقِيتْ مَعدٌّ كُلُّها *** وفَقدتُ رَاحِي في الشَّبابِ وخالِي

أَي ارْتياحِي واخْتِيالي.

وقد رَاحَ الإِنْسَانُ إِلى الشَّيْ‌ءِ يَراحُ: إِذا نَشِطَ وسُرَّ به، وكذلك ارْتَاح. وأَنشد:

وزَعَمْتَ أَنّك لا تَرَاحُ إِلى النِّسَا *** وسَمِعْتَ قِيلَ الكاشِحِ المُتَرَدِّدِ

والرَّاحُ: هي الأَكُفّ. ويقال: بل الرَّاحَة: بَطْنُ الكَفِّ، والكَفُّ: الرّاحةُ معَ الأَصابع؛ قاله شيخنا، كالرّاحات. وعن ابن شُميل: الرَّاحُ من الأَراضي المُسْتَوِيَةُ الّتي فيها ظُهورٌ واسْتِواءٌ تُنْبِت كثيرًا، جَلْدَةٌ، وفي أَماكنَ منها سُهولٌ وجَراثيمُ، وليسَتْ من السَّيْلِ في شَيْ‌ءٍ ولا الوادِي. واحِدَتُهما رَاحةٌ.

وَرَاحَةُ الكَلْبِ: نَبْتٌ، على التَّشبيه.

وذو الرَّاحَةِ: سَيْفُ المُخْتَارِ بنِ أَبي عُبيدٍ الثّقفيّ.

والرَّاحَةُ: العِرْسُ، لأَنها يُسْتَرَاح إِليها. والرّاحَةُ من البيت: السّاحَةُ، وطَيُّ الثَّوْب، وفي الحديث عن جَعفرٍ: «نَاوَلَ رَجُلًا ثَوْبًا جديدًا فقال: اطْوِهِ على رَاحَتِه» أَي طَيِّه الأَوّلِ. والرّاحَةُ: موضع قُرْبَ حَرَضَ، وفي نسخة: و: موضع، باليمن وسيأْتي حَرَضَ. والرَّاحَة: موضع ببلادِ خُزَاعَةَ، له يومٌ معروفٌ.

وأَراحَ الله العَبْدَ: أَدْخَلَه في الرَّاحَةِ ضِدّ التَّعبِ، أَو في الرَّوْحِ وهو الرَّحمة وأَراح فلانٌ على فلانٍ: حَقَّه: رَدَّده عليه. وفي نسخةٍ: ردّه. قال الشاعر:

إِلَّا تُرِيحي عليْنا الحقَّ طائعةً *** دونَ القُضاةِ فقاضِينا إِلى حكَمِ

وأَرِحْ عليه حَقَّه؛ أَي رُدَّه.

وفي حديث الزُّبَيْرٍ: «لو لا حُدودٌ فُرِضَتْ، وفَرائضُ حُدَّتْ، تُرَاحُ على أَهْلِها» أَي تُرَدّ إِليهم، والأَهلُ هم الأَئمَّة؛ ويجوز بالعكس، وهو أَنّ الأَئمَّةَ يَرُدُّونها إِلى أَهلها من الرَّعيّة. ومنه‌حديث عائشةَ «حتَّى أَراحَ الحَقَّ إِلى أَهْلِه» كأَرْوَح. وأَراحَ الإِبلَ وكذا الغنَمَ: رَدَّها إِلى المُراحِ وقد أَراحَها راعيها يُريحُهَا، وفي لغة: هَراحَها يُهْرِيحُها. وفي حديث عُثْمَانَ رضي ‌الله‌ عنه: «رَوَّحْتها بالعَشِيّ»؛ أَي رَدَدْتها إِلى المُرَاحِ. وسَرَحتِ الماشيةُ بالغَداة، وراحَتْ بالعَشِيّ؛ أَي رَجَعتْ. وفي المحكم: والإِراحةُ: رَدُّ الإِبلِ والغنَم من العَشِيِّ إِلى مُرَاحِها. والمُرَاحُ: بالضم: المُنَاخُ؛ أَي المَأْوَى حيث تَأْوِي إِليه الإِبلُ والغَنَمُ باللَّيْلِ. وقال الفَيُّوميّ في المصباح عند ذِكْرِه المُرَاح بالضّم: وفتحُ الميمِ بهذا المعنى خطأٌ، لأَنه سمُ مَكَانٍ، واسمُ المكانِ والزّمانِ والمَصْدَرُ من أَفْعَل بالأَلف مُفْعَل بضمّ الميم على صيغة [اسم] المفعول.

وأَمّا المَرَاحُ، بالفتح: فاسمُ المَوْضِعِ، من راحَتْ، بغير أَلفٍ، واسمُ المكانِ من الثُّلاثيِّ بالفتح. انتهَى.

وأَراحَ الرجلُ إِراحةً وإِراحًا، إِذا راحَتْ عليه إِبلُه وغَنمُه ومالُه، ولا يكون ذلك إِلّا بعدَ الزَّوالِ. وقول أَبي ذُؤَيب:

كأَنَّ مَصاعِبَ زُبَّ الرُّؤُو *** سِ في دارِ صِرْمٍ تَلاقَى مُرِيحَا

يمكن أَن يكون أَراحَتْ، لغة في راحَتْ، ويكون فاعلًا في معنَى مَفْعول. ويُروَى: «تُلاقِي مُرِيحًا» أَي الرّجلَ الذي يُرِيحها.

وأَراحَ الماءُ واللَّحْمُ: أَنْتَنَا، كأَرْوَحَ. يقال أَرْوَحَ اللَّحْمُ، إِذا تَغَيَّرَتْ رائحتُه، وكذلك الماءُ. وقال اللِّحْيَانيّ وغيرُه: أَخَذَتْ فيه الرِّيحُ وتَغَّيرَ.

وفي حديث قَتَادَةَ: «سُئلَ عن الماءِ الّذِي قد أَرْوَحَ: أَيُتَوضَّأُ به قال: لا بَأْسَ» أَرْوَحَ الماءُ وأَراحَ، إِذا تَغيَّرتْ رِيحُه؛ كذا في اللسان والغَرِيبَيْن.

وأَراحَ فُلانٌ: ماتَ، كأَنَّه اسْتَرَاحَ. وعبارَةُ الأَساس: وتقول: أَراحَ فأَراحَ فاسْتُرِيحَ منه. قال العجَّاج:

أَراحَ بعدَ الغَمِّ والتَّغَمْغُمِ

وفي حديث الأَسْوَد بن يَزيدَ «إِن الجَمَلَ الأَحمرَ لَيُرِيحُ فيه من الحَرّ» الإِراحَةُ هنا: المَوْتُ والهَلَاكُ. ويُرْوَى بالنون، وقد تقدّم.

وأَراح: تَنَفَّسَ. قال امرؤُ القيس يَصف فَرسًا بسَعَة المَنْخَرَيْن:

لها مَنْخَرٌ كَوِجَارِ السِّبَاعِ *** فَمِنْه تُريحُ إِذا تَنْبَهِرْ

وأَراحَ الرَّجُلُ: استراحَ ورَجَعتْ إِليه نَفْسُه بعدَ الإِعياءِ.

ومنه‌حديثُ أُمِّ أَيْمَنَ «أَنها عَطشَتْ مهاجِرةً في يومِ شديدِ الحرِّ، فدُلِّيَ إِليها دَلْوٌ من السَّماءِ، فشَرِبتْ حتَّى أَراحَتْ» وقال اللِّحْيانيّ: وكذلك أَراحَت الدّابَّةُ. وأَنشد:

تُرِيحُ بعد النَّفَسِ المَحفوز

وأَراحَ الرجُلُ: صارَ ذا رَاحةٍ. وأَراحَ: دَخَلَ في الرِّيحِ. ومثله رِيحَ، مَبنيًّا للمفعول، وقد تقدَّم. وأَراحَ الشَّيْ‌ءَ وَراحَه يَرَاحُه ويَرِيحُه: إِذا وَجَدَ رِيحَه. وأَنشد الجوهريّ بيت الهُذَليّ:

وماءٍ وَرَدْتُ على زَوْرةٍ

إِلخ، وقد تقدّمَ. وعبارة الأَساس: وأَرْوَحْتُ منه طِيبًا: وَجدتُ رِيحَه. قلت: وهو قول أَبي زيدٍ. ومثله: أَنْشَيْت منه نَشْوَة، ورِحْتُ رائحةً طَيِّبَةً أَو خَبيثَةً، أَرَاحُها وأَرِيحُها.

وأَرَحْتها وأَرْوَحْتُهَا: وَجَدْتها. وأَراحَ الصّيْدُ: إِذا وَجَدَ رِيحَ الإِنْسِيِّ، كأَرْوَحَ في كلّ مما تقدَّم. وفي التّهْذيب: وأَرْوَحَ الصَّيْدُ واسْتَرْوَحَ واسْتَرَاحَ: إِذا وَجَدَ رِيحَ الإِنسان. قال أَبو زيد: أَرْوَحَنِي الصَّيْدُ والضَّبُّ إِرْوَاحًا، وأَنْشَأَنِي إِنْشَاءً، إِذا وَجَدَ رِيحَك ونَشْوَتَك.

وتَروَّحَ النَّبْتُ والشَّجرُ: طالَ. وفي الرَّوْض الأُنُف: تَروَّحَ الغُصْنُ: نَبَتَ وَرَقُه بعد سُقوطِه. وفي اللّسَان: تَرَوُّحُ الشَّجَرِ: خُروج وَرَقِه إِذا أَوْرَقَ النَّبْتُ في استقبالِ الشتاءِ.

وتَروَّحَ الماءُ، إِذا أَخَذ رِيحَ غَيْرِه، لقُرْبِه منه. ومثله في الصّحاح. ففي أَرْوَحَ الماءُ وتَرَوَّحَ نَوْعٌ من الفرق. وتَعَقَّبَه الفيّوميّ في المصباح، وأَقرّه شيخنا، وهو محلُّ تأَمُّلٍ.

وتَرْوِيحَةُ شَهْرِ رَمَضَانَ: مَرَّةٌ واحدةٌ من الرَّاحَة، تَفْعِيلةٌ منها، مثل تَسليمة من السَّلام. وفي المصباح: أَرِحْنا بالصَّلاة: أَي أَقِمْها، فيكون فِعْلُهَا راحةً، لأَنّ انتظارها مَشقَّة عليّ. وصلَاةُ التَّرَاوِيح مُشتقَّةٌ من ذلك، سُمِّيَتْ بها لاسْتِرَاحةِ القَوْمِ بعدَ كلِّ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، أَو لأَنهم كانوا يَسترِيحون بين كلّ تَسليمتينِ.

واسْتَرْوَحَ الرَّجلُ: وَجَدَ الرّاحَةَ. والرَّوَاحُ والرَّاحَةُ: من الاستراحةِ. وقد أَراحَنِي، ورَوَّح عني، فاسْترَحْتُ.

وأَرْوَحَ السَّبُعُ الرِّيحَ وأَرَاحَها كاسْتَراحَ واسْتَرْوَحَ: وَجَدَها. قال اللِّحْيَانيّ: وقال بعضُهم: رَاحهَا، بغير أَلف، وهي قليلة. واسْتَرْوحَ الفَحْلُ واسْتَرَاحَ: وَجَدَ رِيحَ الأُنثَى.

وأَرْوَحَ الصَّيْدُ واسْتَرْوَحَ واستراحَ، وأَنشأَ: تَشَمَّمَ، واسترْوَحَ، كما في الصّحاح، وفي غيره من الأُمهات: استراحَ إِليه: اسْتَنَامَ، ونقلَ شيخُنَا عن بعضهم: ويُعدَّى بإِلى لتَضمُّنه معنَى يَطمِئنّ ويَسْكُن، واستعمالُه صحيحًا شذُوذٌ. انتهَى.

والمُسْتراحُ: المَخْرجُ.

والارْتِيَاح: النَّشَاطُ. وارتاحَ للأَمرِ: كرَاحَ. والارتياحُ: الرَّحْمَةُ والرَّاحةُ. وارْتاحَ الله له برَحْمَته: أَنْقَذَه من البَلِيةَّ.

والّذي في التّهْذيب: ونَزَلَتْ به بَلِيّةٌ فارْتَاحَ الله له برحمتِه فأَنْقَذه منها. قال رُؤْبة:

فارتاحَ رَبِّي وأَرَاد رَحْمَتِي *** ونِعْمَةً أَتَمَّها فتَمَّتِ

أَراد: فارتاحَ: نَظَرَ إِليّ ورَحِمَني. قال: وقولُ رُؤبةَ في فِعْلِ الخَالِق قالَه بأَعْرَابِيّتِه. قال: ونحن نَسْتَوْحِشُ مِن مثل هذا اللَّفْظِ [في صفته]، لأَنّ الله تعالى إِنما يُوصَف بما وَصَف به نَفْسَه، ولو لَا أَنّ الله تعالى هَدانا بفضله لتَمْجِيده وحَمْدِه بصفاته الّتي أَنْزَلها في كِتَابه، ما كنّا لنهتديَ لها أَو نَجْتَرِئَ عليها. قال ابن سيده: فأَمّا الفارِسيّ فجعلَ هذا البيتَ من جَفَاءِ الأَعْرَاب.

والمُرْتَاح بالضّمّ: الخَامِسُ من خَيْلِ الحَلْبَةِ والسِّبَاقِ، وهي عَشَرةٌ، وقد تقدّمَ بعضُ ذكرِهَا.

والمُرْتاح: فَرَسُ قيسِ الجُيُوشِ الجَدَلِيّ، إِلى جَدِيلَةَ بنتِ سُبَيعٍ، من حِمْيَر، نُسِب وَلَدُهَا إِليها.

والمُرَاوَحَة بين العَمَلينِ: أَن يَعْمَلَ هذا مَرَّةً وهذَا مَرَّةً.

وهما يَتَراوَحَانِ عَمَلًا؛ أَي يَتَعَاقَبانه. ويَرْتَوِحَان مِثْلُه. قال لَبيد:

وولَّى عامِدًا لِطِيَاتِ فَلْجٍ *** يُرَاوِحُ بين صَوْنٍ وابْتِذَالِ

يعني يَبْتَذِل عَدْوَه مَرَّةً ويصون أُخْرَى؛ أَي يَكُفّ بعد اجتهادٍ. والمُراوَحَةُ بين الرِّجْلينِ أَن يَقوم على كلِّ واحدةٍ منهما مَرَّةً.

وفي الحديث: أَنّه كان يُرَاوِحُ بين قَدمَيْه من طُولِ القِيَامِ؛ أَي يَعتمد على إِحداهُمَا مرّةً، وعلى الأُخرى مرَّةً، ليوصِلَ الرَّاحةَ إِلى كلٍّ منهما.

ومنه‌حديثُ ابنِ مسعودٍ: أَنه أَبصرَ رجلًا صَافًّا قَدَمَيْه فقال: «لو رَاوَحَ كانَ أَفْضَلَ».

والمُرَاوَحَة بين جَنْبَيْه: أَن يَتَقَلَّب من جَنْب إِلى جَنْب. أَنشد يعقوب:

إِذا أَجْلَخَدَّ لم يَكَدْ يُرَاوِحُ *** هِلْبَاجةٌ حَفَيْسَأٌ دُحادِحُ

ومن المجاز عن الأَصمعيّ: يقال رَاحَ للمَعْروفِ يَرَاحُ رَاحةً: أَخَذَتْه له خِفَّةٌ وأَرْيَحِيَّة، وهي الهَشَّةُ. قال الفارِسيّ: ياءُ أَرْيَحِيَّةِ بَدَلٌ من الواوِ. وفي اللسان: يقال: رِحْتُ للمعروف أَراحَ رَيْحًا وارْتَحْتُ ارْتياحًا: إِذا مِلْتُ إِليه وأَحببتْه. ومنه قولهم: أَرْيَحِيٌّ: إِذا كان سَخِيًّا يَرتاحُ للنَّدَى.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


94-تاج العروس (أر أرر أرأر)

[أرر]: الأَرُّ: السَّوْقُ والطَّرْد نقلَه الصغانيُّ. والجِمَاعُ، وفي خُطبة عليٍّ، كرّم الله وجهَه: «يُفْضِي كإِفضاءِ الدِّيَكَة وَيؤرُّ بمَلاقِحِه».

وأَرَّ فُلانٌ، إِذا شَفْتَنَ، ومنه قولُه:

وما النّاسُ إِلّا آئِرٌ ومَئِيرُ

قال أَبو منصور: معنى شَفْتَنَ: ناكَحَ وجامَعَ، وجعلَ أَرَّ وآرَ بمعنًى واحدٍ عن أَبي عَبيدْ: أَرَرْتُ المرأَةَ أَؤُرُّهَا أَرًّا، إِذا نَكَحْتها.

والأَرُّ: رَمْيُ السَّلْح. وهو أَيضًا سقُوطُه نَفْسُه.

والأَرُّ: إِيقاد النَّارِ، قال يَزيد بنُ الطَّثْرِيَّةِ يَصفُ البَرقَ:

كأَنَّ حِيرِيَّةً غَيْرَى مُلاحِيَةً *** باتَتْ تَؤُرُّ بِهِ مِنْ تَحْتِه القَصَبَا

وحكَاهَا آخَرون: تُؤَرِّي ـ بالياءِ ـ مِن التَّأْرِيَةِ.

والأَرُّ: غُصْنٌ مِن شَوْكٍ أَو قَتَادٍ يُضْرَب به الأَرْضُ حتَّى تَلِينَ أَطرافُه، ثم تَبلُّه وتَذُرُّ عليه مِلْحًا وتُدْخِلُه في رَحِمِ النّاقَةِ إِذا مَارَنَتْ فلم تَلْقَح، كالإِرَارِ، بالكسْر، وقد أَرَّها أَرًّا إِذا فَعَلَ بها ما ذُكِر. وقال اللَّيْث: الإِرار شِبْهُ ظُؤْرَةٍ يَؤُرُّ بها الرّاعي رَحِمَ النّاقَةِ إِذا مَارَنَتْ، ومُمَارَنتُهَا أَنْ يَضْربَها الفَحْلُ فلا تَلْقَحَ، قال: وتفسيرُ قولِه: ويَؤُر بها الراعِي هو أَن يُدخِلَ يدَه في رحِمِها، أَو يَقْطَعَ ما هنالك ويُعَالِجَه.

والإِرَّةُ، بالكسر: النّارُ وقد أَرَّها، إِذا أَوْقَدَهَا.

والأَرِيرُ كأَمِير: حكايةُ صَوت الماجِنِ عندَ القِمَارِ والغَلَبَةِ، وقد أَرَّ يَأَرُّ أَرِيرًا، أَو هو مُطْلَقُ الصَّوتِ.

وأَرْأَرْ، بسكونِ الرّاءِ فيهما: مِن دُعَاءِ الغَنَمِ.

وعن أَبي زيد: ائْتَرَّ الرجلُ ائترارًا، إِذا استعجلَ. قال أَبو منصور: لا أَدْرِي هو بالزّاي أَم بالرَّاءِ.

والمِئَرُّ، كمِجَنَّ: الرجُلُ الكَثيرُ الجِمَاعِ. قالت بنتُ الحُمَارِسِ أَو الأَغْلب العجلي:

بَلَّتْ به عُلَابِطًا مِئَرَّا *** ضَخْمَ الكَرَادِيسِ وَأَي زِبِرَّا

قال أَبو عُبَيْد: رجُلٌ مِئَرُّ؛ أَي كثيرُ النِّكَاح؛ مأْخوذٌ من الأَيْر. قال الأَزهريُّ: أَقْرَأَنِيه الإِياديُّ عن شَمِرٍ لأَبِي عُبَيْدٍ، قال: وهو عندي تَصْحِيفٌ، والصَّوابُ ميأَرٌ بوزن مِيعَر؛ فيكون حينئذٍ مِفْعلًا من آرَها يَئيرُها أَيْرًا، وإِنْ جعلته من الأَرِّ قلْتَ: رجلٌ مِئَرٌّ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

اليُؤْرُورُ: الجِلْوازُ، وهو من الأَرِّ بمعنى النِّكَاح، عند أَبي عليٍّ، وقد ذَكَرَه المصنِّف في أَثر.

وَأَرَّ الرجلُ نَفْسُه، إِذا اسْتَطْلَقَ حتى يَمُوتَ.

وأَرّارَ، كَكتّانٍ: ناحيةٌ من حَلَبَ.

وإِرَار، ككتابٍ: وادٍ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


95-تاج العروس (بخر)

[بخر]: البَخْر، بفتحٍ فسكونٍ: فِعْلُ البُخَارِ.

وبُخَارُ القِدْرِ: ما ارتفعَ منها.

بَخَرَتِ القِدْرُ، كمنَع تَبْخَر بَخْرًا وبُخَارًا، إِذا ارتفَع بُخَارُهَا.

والبَخَر، بالتَّحْرِيك: النَّتْنُ في الفَمِ وغيرِه، قاله أَبو حَنِيفَةَ.

وقد بَخِرَ، كفَرِحَ بَخَرًا، فهو أَبَخرُ وهي بَخْرَاءُ.

وأَبخرَه الشَّي‌ءُ: صَيَّره أَبخرَ. قال شيخُنا: والمعروفُ في البَخَر التَّقْييدُ بالفَمِ دُونَ غيرِه، كما جَزَم به الجوهَريُّ والزَّمخشريُّ والفَيُّومِيُّ، وأَكثرُ الفقهاءِ.

وفي اللِّسَان: بَخِرَ؛ أَي نَتُنَ مِن بخَرِ الفَمِ الخَبِيثِ.

وفي الأَساس: بَخَّرْتَ علينا: نَتَّنْتَ، وأَرَدْنَا أَن تُبَخَّرَ لنا فَبَخَّرْتَ علينا.

وكلُّ رائحةٍ ساطعةٍ بَخَرٌ، وبُخَارٌ مِن نَتْنٍ أَو غيرِه، وكذلك بُخَار الدُّخَان، وكلُّ دُخَانٍ يَسطَعُ من ماءٍ حارٌّ فهو بُخَارٌ، وكذلك مِن النَّدَى، وبُخَارُ الماءِ يَرْتفعُ منه كالدُّخان.

والمَبْخُور: المَخْمورُ، عن الصَّاغانيّ.

وعن ابنِ الأَعرابيِّ: الباخِرُ: ساقِي الزَّرْعِ. قال أَبو منصورٍ: المعروفُ الماخِرُ، بالميم، فأُبدِل من الميم، كقولك: سَمَّدَ رأْسَه وسَبَّدَه.

وبناتُ بَخْرٍ، كبَحْرٍ. ومَخْرٍ: سحائبُ يأْتِينَ قُبُلَ الصَّيْفِ، منتصبةٌ رِقاقٌ بِيضٌ حِسانٌ، وقد تقدَّم في الحاءِ المُهمَلة.

والبخُور، كصَبُور: ما يُتَبخَّر به. وثِيابٌ مُبَخَّرَةٌ: مطيَّبَةٌ.

وتَبَخَّر بالطِّيبِ ونَحْوِه: تَدَخَّنَ، وفَلانٌ يَتَبَخَّر ويَتَبختَرُ.

وبَخُورُ مَرْيَمَ: نَبَاتٌ، وأَصلُه العَرْطَنِيثَا وهو حارٌّ يابسٌ، جَلّاءٌ مفتِّحٌ مُدِرٌّ محلِّلٌ نَفّاعٌ، ويُسْهِلُ الطَّبْعَ إِذا تُحمِّل به بصُوفة أَو طُلِيَ به أَسفل السُّرَّةِ. والبَخْرَاءُ: أَرضٌ بالشام؛ لنَتْنِها بِعْفُونَةِ تُربِهَا.

والبَخَراءُ أَيضًا: ماءَةٌ مُنْتِنَة قُرْبَ القُلَيْعَةِ بالحِجَاز. على مِيلَيْن منها، وهي في طَرَفِ الحِجاز: نقلَه الصَّاغانيّ.

والبَخْرَاءُ: نَباتٌ مثلُ الكُشْنَا، وحَبُّه كحَبِّه سَواءٌ، سُمِّي بذلك لأَنه إِذا أُكِلَ أَبْخرَ الفمَ، حَكاه أَبو حنيفةَ، قال: وهو مَرْعىً، وتُعْلَفُه المَواشِي فيسمِّنُها، ومَنابِتَه القِيعانُ كالبَخْرَةِ*.

وبُخاراءُ، بالضمِّ والمدّ: د، من أَعظمِ مُدُنِ ما وراءَ النهرِ، بينها وبين سَمَرْقَنْدَ ثمانية أَيامٍ أَو سبعة وهو ممدود في شعر الكُمَيت، قال:

ويومَ بِيكنْدَ لا تُقضَى عَجائِبُه *** وما بخاراءُ مِمَّا أَخْطَأَ العَدَدُ

ويُرْوَى: «ويومَ قِنْديِدَ»...، ويُقْصَرُ وهو المشهورُ الراجحُ، وبه جَزَم غيرُ واحدٍ من الحُفّاظ، وأَنكروا المدّ، خَرجَ منها جماعة من العلماءِ في كلّ فنّ، ولها تاريخٌ عجيبٌ مشهور.

والبُخَارِيَّةُ: سِكَّةٌ بالبَصْرة أَسكنَها زِياد بنُ أَبِيه أَلْفَ عَبدٍ من بُخَاراءَ، فسمِّيت بهم، ولم تُسَمَّ به، وذلك حين مَلَكَهَا من خاتون ملكة بُخَارَا، وكان السَّبْيُ أَلْفَيْن، وكلُّهم جَيِّدُو، الرَّمْيَ بالنُّشَاب، ففَرَض لهم العَظائمَ، وأَسكنَهم بها.

وعليُّ بنُ بُخَارٍ الرازيُّ كغُرابٍ.

وأَبو المَعالِي أَحمدُ بنُ أَبي نَصْر محمّدِ بنِ عليّ بنِ أَحمدَ بن عليِّ بنِ البُخَارِيّ البغداديُّ المنسوبُ إِلى بُخار العُودِ؛ لأَنه كان يُبخِّر به في الخاناتِ، والذي في المُعْجَم: أَنه كان يَحْرِقُ البَخُورَ في جامع المنصور حِسْبَةً، وعُرِفَ بيتُه ببيتِ ابنِ البُخَاريّ، قاله أَبو سعدٍ، وأَخوه أَبو البَرَكاتِ هِبَةُ الله، سَمعَ مع أَخيه من أَبي غَيلانَ والجوهريِّ وغيرِهما، كذا في التَّكْملة للمنذريّ، وحَدَّث عن الثاني يحيَى بنُ يَوْش وغيرُه: محدِّثان.

وأَحمدُ بنُ بُخَارٍ، وعليُّ البُخاريُّ: محدِّثان.

وَبَقِيَ عليه:

الفقيهُ أَبو الفضلِ عبدُ الرحمنِ بن محمّد بنِ حَمْدُون بنِ بُخَارٍ البخاريُّ، ونُسِبَ إِلى جَدِّه الأَعلَى من أَهل نَيْسَابُور.

* وممّا يُستدرَك عليه:

«إِيّاكم ونَوْمةَ الغَدَاةِ، فإِنها مَبْخَرَةٌ مَجْفَرَةٌ مَجْعَرَةٌ»، أي مَظنَّةٌ للبَخَرِ، وهو تَغَيُّرُ رِيحِ الفَمِ، وهو من حديث عُمَرَ، وجعلَه القُتَيْبِيُّ مِن حديث عليٍّ، رضي ‌الله‌ عنهما. قلتُ: وقد رُوِيَ عن كُلٍّ منهما.

فحديثُ عليٍّ: «رأى رجلًا في الشَّمْس فقال: قُمْ عنها فإِنها مَبْخَرَةٌ مَجْفَرَةٌ، تُنْفِل الرِّيحَ، وتُبْلِي الثَّوْبَ، وتُظْهِرُ الدّاءَ الدَّفِينَ».

وفي حديث المُغِيرَة: «إِيّاكَ وكلَّ مَجْفَرَةٍ مَبْخَرَةٍ» يَعْنِي مِن النِّسَاءِ.

وبُخَارُ الفَسْوِ: رِيحُه، قال الفَرَزْدَقُ:

أَشارِبُ قَهْوَةٍ وحَلِيفُ زِيرٍ *** وصَرّاءٌ لِفَسْوَتِه بُخارُ

ويُقَال: هذه بَخْرَةُ السِّمَاكِ، إِذا أَصابَكَ المطرُ عند سُقُوطِه.

ورجلٌ مُبْخِرٌ: ذو بَخَرٍ. وامرأَةٌ مُبْخِرَةٌ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


96-تاج العروس (سقط)

[سقط]: سَقَطَ الشَّيْ‌ءُ من يَدِي سُقُوطًا، بالضَّمِّ، ومَسْقَطًا، بالفَتْح: وَقَعَ، وكُلُّ مَنْ وَقَع في مَهْوَاةٍ يُقَال: وَقَعَ وسَقَطَ. وفي البَصَائِر: السُّقُوط: إِخْرَاجُ الشَّيْ‌ءِ إِمّا من مَكَانٍ عالٍ إِلى مُنْخَفِضٍ، كالسُّقوطِ من السَّطْح. وسُقُوطِ مُنْتَصِبِ القَامَةِ، كاسّاقَطَ، ومِنْهُ قولُه تَعَالى: تُساقِطْ {عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}، وَقَرَأَ حَمّاد ونُصَيْرٌ وَيَعْقُوبُ وسَهْلٌ «يَسَّاقَط» باليَاءِ التَّحْتِيَّةِ المَفْتُوحَةِ، كما في العُبَابِ. قلتُ: فمَنْ قرأَ بالياءِ فهو الجِذْعُ، ومن قَرَأَ بالتّاءِ فهي النَّخْلَة، وانْتِصَابُ قوله: {رُطَبًا جَنِيًّا} على التَّمْيِيز المُحَوَّلِ، أَراد يَسّاقَط رُطَبُ الجِذْع، فلمّا حُوِّل الفِعْلُ إِلى الجِذْع خَرَجَ الرُّطَبُ مُفَسِّرًا، قال الأَزْهَرِيُّ: هذا قَوْلُ الفَرّاءِ. فهو سَاقِطٌ وسَقُوطٌ، كصَبُورٍ، المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ فيه سوَاءٌ، قال:

مِنْ كُلِّ بَلْهَاءَ سَقُوطِ البُرْقُعِ *** بَيْضَاءَ لم تُحْفَظْ ولم تُضَيَّعِ

يعني أَنَّهَا لم تُحْفَظْ من الرِّيبَة ولم يُضَيِّعْهَا وَالِدَاهَا.

والمَوْضِعُ: مَسْقِطٌ كمَقْعَدٍ ومَنْزِلٍ الأُولَى نادِرَةٌ نَقَلَهَا الأَصْمَعِيُّ، يُقَال: هذا مَسْقَط الشَّيْ‌ءِ ومَسْقِطُهُ؛ أَي مَوضِعُ سُقُوطِه.

وقال الخَلِيلُ: يُقَال: سَقَطَ الوَلَدُ من بَطْنِ أُمِّهِ؛ أَي خَرَجَ، ولا يُقَال: وَقَعَ، حِينَ تَلِدُه، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ والصّاغَانِيُّ. وفي الأَساسِ: ويُقَال: سَقَطَ المَيِّتُ من بَطْنِ أُمِّه، ووَقَعَ الحَيُّ.

ومن المَجَازِ: سَقَطَ الحَرُّ يَسْقُطُ سُقُوطًا؛ أَي وَقَعَ، وأَقْبَلَ ونَزَلَ.

ويُقَال: سَقَطَ عَنَّا الحَرُّ، إِذا أَقْلَعَ، عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ، كأَنَّه ضِدٌّ.

ومن المَجَازِ: سَقَطَ في كَلامِه وبِكَلامِه سُقُوطًا، إِذا أَخْطَأَ، وكذلِكَ أَسْقَطَ في كَلامِه.

ومن المَجَازِ: سَقَطَ القومُ إِليَّ سُقُوطًا: نَزَلُوا عَلَيَّ، وأَقْبَلُوا، ومنه‌ الحَدِيثُ: «فَأَمَّا أَبو سَمّالٍ فسَقَطَ إِلى جِيرَانٍ له» أَي أَتَاهُمْ «فأَعَاذُوهُ وسَتَرُوهُ».

ومِنَ المَجَازِ: هذا الفِعْلُ مَسْقَطَةٌ له من أَعْيُنِ النّاسِ، وهو أَنْ يَأْتِيَ بما لا يَنْبَغِي. نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وصاحِبُ اللِّسَانِ.

ومَسْقِطُ الرَّأْسِ: المَوْلِدُ، رَوَاه الأَصْمَعِيُّ بفتح القافِ، وغيرُه بالكَسْر، ويُقَال: البَصْرَةُ مَسْقَطُ رَأْسِي، وهو يَحِنُّ إِلى مَسْقَطِهِ، يعني حَيْثُ وُلِدَ، وهو مَجَازٌ، كما في الأَسَاسِ.

وتَسَاقَطَ الشَّيْ‌ءُ: تَتَابع سُقُوطُهُ.

وسَاقَطَهُ مُسَاقَطَةً، وسِقَاطًا: أَسْقَطَه، وتَابَعَ إِسْقَاطَهُ، قال ضابِئُ بنُ الحارِثِ البُرْجُمِيُّ يَصِفُ ثَوْرًا والكلابَ:

يُسَاقِطُ عنه رَوْقُهُ ضَارِيَاتِهَا *** سِقَاطَ حَدِيدِ القَيْنِ أَخْوَلَ أَخْوَلَا

قوله: أَخْوَلَ أَخْوَلَا؛ أَي مُتَفَرِّقًا، يعني شَرَرَ النَّارِ.

والسُّقْطُ، مُثَلَّثَةً: الوَلَدُ يَسْقُطُ من بَطْنِ أُمِّه لِغَيْرِ تَمَامٍ، والكَسْرُ أَكثرُ، والذَّكَرُ والأُنْثَى سَواءٌ ومِنهُ‌ الحَدِيثُ: «لأَنْ أُقَدِّمَ سِقْطًا أَحَبُّ إِليَّ من مِائَةِ مَسْتَلْئِمٍ» ‌المُسْتَلْئِم: لابِسُ عُدَّةِ الحَرْبِ، يَعني أَنَّ ثَوَابَ السِّقْطِ أَكْثَرُ من ثَوابِ كِبَار الأَوْلادِ.

وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «يُحْشَرُ ما بَيْنَ السِّقْطِ إِلى الشَّيْخِ الفانِي مُرْدًا جُرْدًا مُكَحَّلِينَ أَولِي أَفَانِينَ». وهي الخُصَل من الشَّعرِ؛ وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «يَظَلُّ السِّقْطُ مُحْبَنْطِئًا على باب الجَنَّة» ‌ويُجْمَع السِّقْطُ على الأَسْقاطِ، قال ابْنُ الرُّومِيّ يَهْجُو وَهْبًا عند ما ضَرَط:

يا وَهْبُ إِنْ تَكُ قد وَلَدْت صَبِيَّةً *** فبحَمْلِهم سَفرًا عليكَ سِبَاطَا

مَنْ كانَ لا يَنْفَكُّ يُنْكَح دَهْرَهُ *** وَلَدَ البَنَاتِ وأَسْقَطَ الأَسْقاطَا

وقد أَسْقَطَتْهُ أُمُّه إِسْقَاطًا، وهي مُسْقِطٌ، ومُعْتَادَتُه: مِسْقَاطٌ، وهذا قد نَقَلَه الزَّمَخْشَرِيُّ في الأَسَاس. وعِبَارَةُ الصّحاحِ والعُبَابِ: وأَسْقَطَت النّاقَةُ وغَيْرُها، إِذا أَلْقَتْ وَلَدَهَا، والَّذِي في أَمَالِي القَالِي، أَنَّه خاصٌّ بِبَنِي آدَمَ، كالإِجْهَاضِ للنّاقَةِ، وإِليه مال المُصَنِّف. وفي البَصَائر: في أَسْقَطَت المَرْأَةُ، اعْتُبِرَ الأَمْرَانِ: السُّقُوطُ من عالٍ، والرَّدَاءَةُ جميعًا، فإِنَّهُ لا يُقَال أَسْقَطت المرأَةُ إِلاّ في الّذِي تُلْقِيه قَبْلَ التَّمَامِ، ومنه قِيلَ لذلِكَ الوَلَدِ: سِقْطٌ.

قال شَيْخُنَا: ثُمَّ ظَاهِرُ المُصَنِّف أَنَّهُ يُقَال: أَسْقَطَت الوَلَدَ، لأَنَّهُ جاءَ مُسْنَدًا للضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: أَسْقَطَتْهُ، وفي المِصْباحِ، عن بَعْضِهِم: أَماتَت العرَبُ ذِكَرْ المفعولِ فلا يَكَادُونَ يقولون: أَسْقَطَت سِقْطًا، ولا يُقَال: أُسْقِطَ الوَلَدُ، بالبِنَاءِ للمَفْعُولِ، قلتُ: ولكن جاءَ ذلِكَ في قَوْلِ بَعْضِ العَرَب:

وأُسْقِطَت الأَجِنَّةُ في الوَلَايَا *** وأُجْهِضَتِ الحَوَامِلُ والسِّقَابُ

والسَّقْطُ: ما سَقَطَ بينَ الزَّنْدَيْنَ قَبْلَ اسْتِحْكَام الوَرْيِ، وهو مَثَلٌ بذلِك، كما في المُحْكَمِ ويُثَلَّثُ، كما في الصّحاحِ، وهو مُشَبَّه بالسّقْطِ للوَلَدِ الَّذِي يَسْقُطُ قبلَ التَّمَامِ، كما يَظْهَرُ من كَلامِ المُصَنِّفِ، وصَرّحَ به في البَصَائِرِ. وفي الصّحاحِ: سَقْطُ النّارِ: مَا يَسْقُطُ مِنْهَا عندَ القَدْح، ومِثْلُه في العُبَابِ، قالَ الفَرّاءُ: يُذَكَّرُ ويُؤَنَّث قال، ذُو الرُّمَّة:

وسِقْطٍ كعَيْنِ الدِّيك عَاوَدْتُ صاحِبِي *** أَباهَا، وهَيَّأْنَا لِمَوْقِعها وَكْرَا

والسَّقْطُ: حيثُ انْقَطَعَ مُعظَمُ الرِّمْلِ ورَقَّ، ويُثَلَّثُ أَيْضًا، كما صَرَّح به الجَوْهَرِيُّ والصّاغَانِيُّ وقد أُغْفِل عن ذلِكَ فيه وفي الّذِي تَقَدَّم، ثم إِنَّ عِبَارَةَ الصّحاحِ أَخْصَرُ من عِبارَتهِ، حيثُ قال: وسِقْط الرَّمْلِ: مُنْقَطَعُه، وأَمَّا قولُه «رَقَّ» فهُوَ مَفْهُومٌ من قوله: «مُنْقَطَعُه» لأَنَّه لا يَنْقَطِعُ حَتَّى يَرِقَّ، كمَسْقَطِهِ، كمَقْعَدٍ، على القِيَاسِ، ويُرْوَى: كمَنْزِلٍ، على الشٌّذوذِ، كما في اللِّسَانِ، وأَغْفَلَه المُصَنِّفُ قُصُورًا.

وقِيل: مَسْقَطُ الرَّمْلِ حيثُ يَنْتَهِي إِليه طَرَفُه، وهو قَرِيبٌ من القَوْلِ الأَوَّلِ، وقال امْرُؤُ القَيْسِ:

قِفَا نَبْكِ من ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ *** بسِقْطِ اللِّوَى بين الدَّخُولِ فحَوْمَلِ

والسَّقْط، بالفَتْحِ: الثَّلْجُ، وأَيضًا: مَا يَسْقُطُ من النَّدَى، كالسَّقِيطِ، فيهما، كما سَيَأْتِي للمُصَنِّفِ قَرِيبًا، ومن الأَوَّلِ قولُ هُدْبَةَ بنِ خَشْرَمٍ:

ووَادٍ كجَوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُه *** تَرَى السَّقْطَ في أَعْلامِه كالكَرَاسِفِ

والسَّقْطُ: من لا يُعَدُّ في خِيَارِ الفِتْيَانِ، وهو الدّنِي‌ءُ الرَّذْلُ كالسّاقِطِ وقِيل: السّاقِطُ اللَّئيمُ في حَسَبِهِ ونَفْسِه.

ويُقَالُ للرجُلِ الدَّنِي‌ءِ: ساقِطٌ مَاقِطٌ، كما في اللِّسَانِ، والَّذِي في العُبَابِ: وتَقُول العَرَبُ: فُلانٌ ساقِطُ ابنُ ماقِطِ ابنِ لاقِطٍ، تَتَسابُّ بها. فالسّاقِطُ: عَبْدُ المَاقِطِ، والمَاقِطُ: عَبْدُ اللاَّقِط، والَّلاقِطُ: عَبْدٌ مُعْتَقٌ.

ومِنَ المَجَازِ: قَعَدَ في سِقْطِ الخِبَاءِ، وهو بالكَسْرِ:

ناحِيَةُ الخِبَاءِ كما في الصّحاح، ورَفْرَفُهُ، كما في الأَساسِ، قال: اسْتُعِيرَ من سِقْطِ الرَّمْلِ، وللخِبَاءِ سِقْطَانِ.

ومِنَ المَجَازِ: السِّقْطُ: جَنَاحُ الطّائرِ، كسِقَاطِه، بالكَسْرِ، ومَسْقَطِهِ، كمَقْعَدِه، ومنه قَوْلُهم: خَفَقَ الظَّليمُ بسِقْطَيْه. وقيل: سِقْطَا جَنَاحَيْه: ما يَجُرُّ منهُمَا على الأَرْضِ، يُقَال: رَفَعَ الظَّلِيمُ سِقْطَيْهِ ومَضَى.

ومنَ المَجَازِ: السِّقْطُ: طَرَفُ السَّحَابِ حَيْثُ يُرَى كأَنَّه سَاقِطٌ على الأَرْضِ في نَاحِيَةِ الأُفُقِ، كما في الصّحَاح، ومنه أُخِذَ سِقْطُ الخِبَاءِ.

والسَّقَطُ، بالتَّحْرِيكِ: ما أُسْقِطَ من الشَّيْ‌ءِ وتُهُووِنَ به، وسَقَطُ الطَّعَامِ: ما لا خَيْرَ فِيهِ منه، ج: أَسْقَاطٌ. وهو مَجَازٌ.

والسَّقَطُ: الفَضِيحَةُ، وهو مَجَازٌ أَيْضًا.

وفي الصّحاحِ: السَّقَطُ: رَدِي‌ءُ المَتَاعِ، وقال ابنُ سِيدَه: سَقَطُ البَيْتِ خُرْثِيُّه؛ لأَنَّه سَاقِطٌ عن رَفِيعِ المَتَاعِ، والجَمْع: أَسْقَاطٌ، وهو مَجَازٌ. وقال اللَّيْثُ: جمعُ سَقَطِ البَيْتِ: أَسْقَاطٌ؛ نحو الإِبْرَةِ والفَأْسِ والقِدْرِ ونَحْوِهَا. وقيل: السَّقَطُ: ما تُنُووِلَ بَيْعُه من تَابِلٍ ونَحْوِه، وفي الأَسَاسِ: نَحْو سُكَّرٍ وزَبِيبٍ. وما أَحْسَنَ قولَ الشّاعِر:

وما لِلْمَرْءِ خَيْرٌ في حَيَاةٍ *** إِذا ما عُدَّ من سَقَطِ المَتَاعِ

وبائعُه: السَّقَّاطُ، ككَتَّانٍ، والسَّقَطِيُّ، مُحَرَّكةً، وأَنْكَرَ بَعْضُهم تَسْمِيَتَه سَقّاطًا، وقال: ولا يُقَالُ سَقّاط، ولكن يُقَال: صَاحِبُ سَقَطٍ. قلتُ: والصَّحِيحُ ثُبُوتُه، فقد جاءَ في حَدِيثِ ابْنِ عُمَر أَنَّه «كان لا يَمُرُّ بسَقَّاطٍ ولا صَاحِبِ بِيعَةٍ إِلاّ‌ سَلَّمَ عَلَيْه» ‌والبِيعَةُ من البَيْع، كالجِلْسَةِ من الجُلوس، كما فِي الصّحاحِ والعُبَابِ.

ومِن الأَخِير: سَرِيُّ بنُ المُغَلّس السَّقَطِيُّ يُكْنَى أَبا الحَسَنِ، أَخَذَ عن أَبِي مَحْفُوظٍ مَعْرُوفِ بنِ فَيْرُوز الكَرْخِيِّ، وعنه الجُنَيْدُ وغيرُه، تُوُفّيَ سنة 251 ومن الأَوّلِ شيخُنَا المُعَمَّر المُسِنُّ، عليُّ بنُ العَرَبِيّ بن مُحَمّدٍ السَّقّاطُ الفَاسِيُّ، نزيلُ مصرَ، أَخَذَ عن أَبيهِ وغَيْره، تُوُفِّي بمصر سنة 1183.

ومن المَجَاز: السَّقَطُ: الخَطَأُ في الحِسَابِ والقَوْلِ، وكذلِكَ السَّقطُ في الكِتَابِ. وفي الصّحاح: السَّقَطُ: الخَطَأُ في الكِتَابَةِ والحِسَابِ، يقال: أَسْقَطَ في كَلَامِه، وتَكَلَّم بكلامٍ فما سَقَطَ بحَرْفٍ، وما أَسْقَطَ حَرْفًا، عن يَعْقُوبَ، قال: وهو كما تَقُول: دَخَلْتُ به وأَدْخَلْتُه، وخَرَجْتُ به، وأَخْرَجْتُه، وعَلَوْتُ به وأَعْلَيْتُه. انْتَهَى، وزاد في اللِّسَان: وسُؤْتُ به ظَنًّا وأَسَأْتُ به الظَّنَّ، يُثْبِتُونَ الأَلِفَ إِذا جاءَ بالأَلِف والّلام. كالسِّقَاطِ، بالكسْر، نَقَلَه صاحِبُ اللِّسَانِ.

والسُّقَاطَةُ، والسُّقَاطُ، بضَمِّهما: ما سَقَطَ من الشَّيْ‌ءِ وتُهُووِنَ به من رذالَةِ الطَّعَامِ والثِّيابِ ونحوها، يقَال أَعْطَانِي سُقَاطَةَ المَتَاعِ، وهو مَجَازٌ. وقال ابنُ دُرَيْدٍ: سُقَاطَةُ كُلِّ شيْ‌ءٍ: رُذَالَتُه. وقِيل: السُّقَاطُ جَمْعُ سُقَاطَةٍ.

ومن المجاز: سُقِطَ في يَدِهِ وأَسْقِطَ في يَدِه، مَضْمُومَتَيْن؛ أَي زَلَّ وأَخْطَأَ. وقِيلَ: نَدِمَ، كما في الصّحاح، زاد في العُبَاب: وتَحَيَّرَ، قال الزَّجّاجُ: يُقَال للنّادِم على ما فَعَل الحَسِرِ على ما فَرَط منه: قد سُقِطَ في يَدِه، وأُسْقِط. وقال أَبُو عَمْرٍو: لا يُقَال: أُسْقِط، بالأَلف، على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه. وأَحْمَدُ بن يَحْيَى مثلُه، وجَوَّزَه الأَخْفَشُ، كما في الصّحاحِ، وفي التَّنْزِيلِ العَزِيز: {وَلَمّا} سُقِطَ {فِي أَيْدِيهِمْ}. قال الفَارِسِيُّ: ضَرَبُوا أَكُفَّهُم على أَكُفِّهم من النَّدَمِ، فإِن صَحَّ ذلِك فهو إِذَنْ من السُّقُوط، وقال الفَرَّاءُ: يُقَال: سُقِطَ في يَدِه، وأُسْقِطَ، من النَّدَامَة، وسُقِطَ أَكثَرُ وأَجْوَدُ. وفي العُبَاب: هذا نَظْمٌ لم يُسْمَعْ قبلَ القُرْآنِ ولا عَرَفَتْهُ العَرَبُ، والأَصْلُ فيه نُزُولُ الشَّيْ‌ءِ من أَعْلَى إِلى أَسْفلَ ووُقُوعُه على الأَرْضِ، ثمّ اتُّسِعَ فيه، فقِيلَ للخَطَإِ من الكَلامِ: سَقَطٌ؛ لأَنَّهُم شَبَّهُوه بما لا يُحْتَاجُ إِليه فيُسْقَطُ، وذَكَرَ اليَدَ لأَنَّ النَّدَمَ يَحْدُثُ في القَلْبِ وأَثَرُه يَظْهَرُ في اليَدِ، كقَوْلِه تَعَالَى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها} ولأَنَّ اليَدَ هيَ الجَارِحَةُ العُظْمَى فرُبَّمَا يُسْنَدُ إِليها ما لَمْ تُبَاشِرْه، كقَوْلهِ تعَالَى: {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ}.

والسَّقِيطُ: الناقِصُ العَقْلِ، عن الزَّجَاجِيِّ، كالسَّقِيطَةِ، هكذا في سائِرِ أُصُولِ القَامُوسِ، وهُوَ غَلَطٌ، والصَّوابُ كالسّاقِطَةِ، كما في اللِّسَانِ وأَمَّا السَّقِيطَةُ فأُنْثَى السَّقِيطِ، كما هو نَصُّ الزَّجّاجِيِّ في أَمالِيه.

وسَقِيطُ السَّحَابِ: البَرَدُ.

والسَّقِيطُ: الجَلِيدُ، طائِيَةٌ، وكلاهُمَا من السُّقوط.

والسَّقِيطُ: ما سَقَطَ من النَّدَى على الأَرْضِ، قال الرّاجِزُ:

ولَيْلَةٍ يا مَيَّ ذاتِ طَلِّ *** ذاتِ سَقِيطٍ ونَدًى مُخْضَلِّ

طَعْمُ السُّرَى فيها كطَعْمِ الخَلِّ

كما في الصّحاحِ. ولكنَّه اسْتَشْهَدَ به على الجَلِيدِ والثَّلْجِ، وقال أَبو بَكْرِ بنُ اللَّبَانَة:

بَكَتْ عند تَوْدِيعِي فما عَلِمَ الرَّكْبُ *** أَذاكَ سَقِيطُ الظِّلِّ أَمْ لُؤْلُؤٌ رَطْبُ

وقال آخر:

واسْقُطْ عَلَيْنَا كسُقُوطِ النَّدَى *** لَيْلَةَ لا نَاهٍ ولا زاجِرُ

ويُقَال: ما أَسْقط كلمةً وما أَسْقَطَ حَرْفًا، وما أَسْقَطَ فِيها؛ أَي في الكَلِمَةِ؛ أَي ما أَخْطَأَ فِيهَا، وكذلِكَ مَا سَقَط به، وهو مَجَازٌ، وقد تَقَدَّم هذا قريبًا.

وأَسْقَطَه، هكذا في أُصولِ القامُوسِ، وهو غَلَطٌ، والصّوابُ: اسْتَسْقَطَهُ، وذلِك إِذا طَلَب سَقَطَه وعالَجَه على‌ أَن يَسْقُطَ فيُخْطِئَ أَو يَكْذِبَ أَو يَبُوحَ بما عِنْدَه، وهو مَجازٌ، كتَسَقَّطَهُ، وسَيَأْتِي ذلِكَ للمُصَنِّفِ في آخِرِ المادّة.

والسَّوَاقِطُ: الَّذِين يَردُون اليَمَامَةَ لامْتِيَارِ التَّمْرِ، وهو مَجَازٌ، من سَقَطَ إِليه، إِذا أَقْبَلَ عليه.

والسِّقَاطُ ككِتَابٍ: ما يَحْمِلُونَه من التَّمْرِ، وهو مَجَازٌ أَيْضًا، كأَنَّه سُمِّيَ به لكَوْنِه يَسْقُطُ إِليه من الأَقْطارِ.

والسَّاقِطُ: المُتَأَخِّر عن الرِّجَالِ، وهو مَجازٌ.

وسَاقَطَ الشَيْ‌ءَ مُساقَطَةً وسِقَاطًا: أَسْقَطَهُ، كما في الصّحاحِ، أَو تَابَعَ إِسْقَاطَه، كما في اللِّسَانِ، وهذا بعَيْنِهِ قد تَقَدَّم في كَلامِ المُصَنِّف، وتَفْسِيرُ الجَوْهَرِيِّ وصاحبِ اللِّسَان وَاحِدٌ، وإِنَّمَا التَّعْبيرُ مختلِفٌ، بل صاحِبُ اللسان جَمَعَ بينَ المَعْنَيَيْنِ فقال: أَسْقَطَه، وتابَعَ إِسْقَاطَه، فهو تَكْرَارٌ محضٌ في كَلامِ المُصَنِّفِ، فتَأَمَّلْ.

ومن المَجَاز: ساقَطَ الفَرَسُ العَدْوَ سِقَاطًا: جاءَ مُسْتَرْخِيًا فيهِ، وفي المَشْيِ، وقِيلَ: السِّقَاطُ في الفَرَس أَن لا يَزَالَ مَنْكُوبًا. ويُقَالُ للفَرَسِ: إِنّه لسَاقِطُ الشَّدِّ، إِذا جاء منه شَيْ‌ءٌ بعدَ شيْ‌ءٍ، كما فِي الأَسَاسِ. وقال الشاعر:

بِذي مَيْعَةٍ كَأَنَّ أَدْنَى سِقَاطِه *** وتَقْرِيبِه الأَعْلَى ذَآلِيلُ ثَعْلَبِ

ومن المَجَاز: سَاقَطَ فُلانٌ فُلانًا الحديثَ، إِذا سَقَطَ من كُلٍّ على الآخَرِ. وسِقَاطُ الحَدِيثِ بأَنْ يَتَحَدَّثَ الوَاحِدُ ويُنْصِتَ له الآخَرُ، فإِذا سَكَتَ تَحَدَّثَ الساكِتُ، قال الفَرزدقُ:

إِذا هُنَّ ساقَطْنَ الحَدِيثَ كَأَنَّه *** جَنَى النَّحْلِ أَو أَبْكارُ كَرْمٍ تُقَطَّفُ

قلتُ: وأَصْلُ ذلِكَ قولُ ذِي الرُّمَّة:

ونِلْنَا سِقَاطًا من حَدِيثٍ كَأَنَّهُ *** جَنَى النَّحْلِ مَمْزُوجًا بمَاءِ الوَقَائعِ

ومنه أَخَذ الفرزدقُ وكَذلِكَ البُحْتِريُّ حَيْثُ يَقولُ:

ولَمَّا الْتَقَيْنَا والنَّقَا مَوْعِدٌ لَنَا *** تَعَجَّبَ رائِي الدُّرِّ مِنَّا ولَاقِطُهْ

فمِن لُؤْلُؤٍ تَجْلُوه عِنْدَ ابْتِسَامِها *** ومن لُؤْلُؤٍ عند الحَدِيثِ تُسَاقِطُهْ

وقيل: سِقَاطُ الحَدِيثِ هو: أَنْ يُحَدِّثَهم شَيْئًا بعد شَيْ‌ءٍ، كما في الأَساسِ. ومن أَحْسَنِ ما رَأَيْتُ في المُسَاقَطَةِ قولُ شَيْخِنا عبدِ الله بن سلام المُؤَذِّنِ يُخَاطِبُ به المَوْلَى عليَّ بنَ تاجِ الدِّينِ القلعيّ، رَحِمَهُما الله تَعَالَى وهو:

أُساقِطُ دُرًّا إِذْ تَمَسُّ أَنامِلِي *** يَرَاعِي وِعقْيَانًا يَرُوقُ وَمرْجانَا

أُحَلِّي بها تاجَ ابنَ تَاجٍ عَلِيَّنَا *** فلا زَالَ، مَوْلَانَا الأجَلَّ ومَرْجانَا

ورَوْضَا النَّدَى والجُودِ قالا لنا اطْلُبُوا *** جَمِيعَ الَّذِي يُرْجَى فكَفّاهُ مَرْجانَا

والسَّقاطُ، كشَدَّادِ وسَحَابٍ، وعَلَى الأَوّلِ اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ والصّاغَانِيُّ وصاحِبُ اللِّسَانِ: السَّيْفُ يَسْقُطُ من وَرَاءِ الضَّرِيبَةِ ويَقْطَعُهَا حتّى يَجُوزَ إِلى الأَرضِ، وفي الصّحاح: يَقْطَعها، وأَنْشَدَ للمُتَنَخِّلِ:

يُتِرُّ العَظْمَ سَقّاطٌ سُرَاطِي

أَو يَقْطَعَ الضَّرِيبَةَ، ويَصِلَ إِلى ما بَعْدَها، وقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: سَيفٌ سَقّاطٌ هو الَّذِي يَقُدُّ حتَّى يَصِلَ إِلى الأَرْضِ بعدَ أَنْ يَقْطَع، وفي شَرْح الدِّيوَانِ: أَيْ يَجُوزُ الضَّرِيبَةَ فيَسْقُطُ، وهو مجاز.

والسِّقَاطُ، ككِتَابٍ: ما سَقَطَ من النَّخْلِ ومن البُسْرِ، يَجُوزُ أَنْ يكونَ مُفْردًا، كما هو ظاهِرُ صَنِيعِه، أَو جَمْعًا لسَاقِطٍ.

ومن المَجَاز: السِّقَاطُ: العَثْرَةُ والزَّلَّةُ، كالسَّقْطَةِ، بالفَتْح، قال سُوَيْدُ بنُ أَبِي كاهِلٍ اليَشْكُرِيُّ:

كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَمَا *** جَلَّلَ الرَّأْسَ مَشِيبٌ وصَلَعْ

وفي العُبَابِ: «لاحَ فِي الرَّأْسِ».

أَو هي جَمْعُ سَقْطَةٍ، يقال: فُلانٌ قليلُ السِّقَاط، كما يُقَال: قليل العِثَارِ، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّيّ ليَزِيدَ بنِ الجَهْمِ الهِلالِيِّ:

رَجَوْتِ سِقَاطِي واعْتِلالِي ونَبْوَتِي *** وَرَاءَكِ عَنِّي طالِقًا وارْحَلِي غَدَا

أَو هُمَا بمَعْنًى وَاحِد، فإِنْ كَانَ مُفْرَدًا فهو مَصْدَرُ سَاقَطَ الرَّجُلُ سِقَاطًا، إِذا لم يَلْحَقْ مَلْحَقَ الكِرَامِ.

ومَسْقَط، كمَقْعَدٍ: د، على ساحِلِ بَحْرِ عُمَانَ، ممّا يَلِي بَرَّ اليَمَنِ. يُقَال: هو مُعَرَّبُ مَشْكَت.

ومَسْقَط: رُسْتاقُ بسَاحِلِ بَحْر الخَزَرِ، كما في العُبَابِ. قلتُ: هي مَدِينَةٌ بالقُرْبِ من بابِ الأَبْواب، بَنَاهَا أَنُوشَرْوانَ بنُ قُبَاذَ بنِ فَيْرُوزَ المَلِكُ.

ومسْقَطُ الرَّمْلِ: وَادٍ بينَ البَصْرَةِ والنِّبَاجِ، وهو في طَرِيق البَصْرَة.

ومن المجَاز: تَسَقَّطَ الخَبَرَ وتَبَقَّطَه: أَخَذَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْ‌ءٍ، رَوَاه أَبُو تُرَابٍ عن أَبِي المِقْدَام السُلَمِيِّ.

ومن المَجَازِ: تَسَقَّطَ فُلَانًا: طَلَبَ سَقَطَه، كما في الصّحاحِ، زاد في اللِّسانِ وعَالَجَهُ على أَنْ يَسْقُطَ، وأَنَشَدَ الجوْهَريُّ لجَرِيرٍ:

ولقد تَسَقَّطَنِي الوُشاةُ فصَادَفُوا *** حَصِرًا بِسِرِّك يا أُمَيْمَ ضَنِينَا

وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

السَّقْطَةُ بالفَتْحِ: الوَقْعَةُ الشَّدِيدَةُ.

وسَقَطَ على ضَالَّتِه: عَثَرَ على مَوْضِعها، ووَقَع عليها، كما يَقَعُ الطّائرُ على وَكْره، وهو مَجازٌ.

ومِنْ أَقْوَالِه صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم للحارِثِ بنِ حَسّان حينَ سَأَلَه عن شَيْ‌ءٍ: «علَى الخَبِيرِ سَقَطْتَ» ‌أَي على العارِفِ وَقَعْتَ، وهو مَثَلٌ سائرٌ للعَرَب.

وتَسَاقَطَ على الشَّيْ‌ءِ: أَلْقَى نَفْسَه عليه، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وأَسْقَطَه هو، ويُقَال: تَسَاقَطَ على الرَّجُل يَقِيه نَفْسَه.

وهذا مَسْقِطُ السَّوْطِ: حيثُ يَقَع، ومَسَاقِطُ الغَيْثِ: مَوَاقِعُه. ويُقال: أَنا في مَسْقِطِ النَّجْمِ؛ أَي حَيْثُ سَقَط.

نقلَه الجَوْهريُّ.

ومَسْقِطُ كُلِّ شيْ‌ءٍ؛ مُنْقَطَعُه، وأَنْشَد الأَصْمَعِيُّ:

وَمَنْهَلٍ من الفَلَا في أَوْسَطِهْ *** مِنْ ذا وهذاكَ وذَا في مَسْقِطِه.

وسَقَطَ الرَّجُلُ: إِذا وَقَعَ اسْمُه من الدِّيوانِ. وقد أَسْقَطَ الفارِضُ اسْمَه، وهُو مَجاز.

والسَّقِيطُ: الثَّلْجُ، نَقَلَه الجَوْهَريّ، ويُقَال: أَصْبحَت الأَرْضُ مُبْيَضَّةً من السَّقِيطِ، وقيل: هو الجَلِيدُ الَّذِي ذَكَرَه المُصَنّفُ.

ومن أَمْثَالِهِمْ.

سَقَطَ العَشاءُ به عَلَى سِرْحَانِ

يُضْرَب للرَّجُلِ يَبْغِي البُغْيَةَ فيَقَع في أَمْرٍ يُهْلِكُه، وهو مَجَاز.

وأَسْقَاطُ الناسِ أَوْبَاشُهم، عن اللِّحْيَانيّ، وهو مَجاز.

ويُقَال: في الدَّارِ أَسْقَاطٌ [مِن النَّاسِ] وأَلْقَاطٌ. وقال النابِغَةُ الجَعْديّ.

إِذا الوَحْشُ ضَمَّ الوَحْشَ في ظُلُلَاتِهَا *** سَوَاقِطُ من حَرٍّ، وقد كان أَظْهَرَا

من سَقَطَ، إِذا نَزَل ولَزِمَ مَوْضِعَه، ويُقَال: سَقَطَ فلانٌ مَغْشِيًّا عليه.

وأَسْقَطُوا له بالكَلام، إِذا سَبُّوه بسَقَطِ الكَلَامِ ورديئِهِ، وهُوَ مَجَاز.

والسَّقْطَةُ: العَثْرَةُ والزَّلَّة، يُقَال: لا يَخْلُو أَحَدٌ من سَقْطَةٍ، وفلانٌ يَتَتَبَّع السَّقَطَاتِ ويَعُدُّ الفَرَطَات، والكامِلُ من عُدَّت سَقَطاتُه، وهو مَجَازٌ، وكذلِك السَّقَط بغَيْرِ هاءٍ، ومنه قولُ بعضِ الغُزاةِ في أَبْيَاتٍ كَتَبَهَا لسيِّدِنا عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْه:

يُعَقِّلُهُنَّ جَعْدَةُ من سُلَيْمٍ *** مُعِيدًا يَبْتَغِي سَقَطَ العَذَارَى

أَي: عَثرَاتِهَا وزَلاّتِهَا. والعَذَارَى: جمع عَذْراءَ. وقد تَقَدَّم ذِكرٌ لبَقِيَّةِ هذه الأَبْيَاتِ.

وساقَطَ الرَّجُلُ سِقَاطًا، إِذا لم يَلْحَقْ مَلْحَقَ الكِرَامِ، وهو مَجازٌ.

وسَقَطَ في يَدِه، مَبْنِيًّا للفاعلِ، مثل سُقِطَ بالضَّمِّ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عن الأَخْفَشِ، قال: وبه قَرَأَ بعضُهُم ولَمَّا سَقَطَ في أَيدِيهم كما تَقُولُ لمَنْ يَحْصُلُ على شَيْ‌ءٍ، وإِن كان مِمّا لا يَكُونُ في اليَدِ: قد حَصَلَ في يَدِه مِنْ هذا مَكْرُوهٌ، فشُبِّه ما يَحْصُلُ في القَلْب وفي النَّفْس بما يَحْصُلُ في اليَدِ، ويُرَى في العَيْن، وهو مَجازٌ أَيْضًا. وقولُ الشّاعرِ أَنْشَدَه ابنُ الأَعْرَابِيِّ:

ويَوْمٌ تَسَاقَطُ لَذَّاتُه *** كنَجْمِ الثُرَيَّا وأَمْطَارِهَا

أَي تَأْتِي لَذّاتُه شَيْئًا بعدَ شَيْ‌ءٍ، أَرادَ أَنَّه كَثِيرُ اللَّذَاتِ.

والسّاقِطَةُ: اللَّئِيمُ في حَسَبِه ونَفْسِه، وقَوْمٌ سَقْطَى، بالفَتْحِ، وسُقّاطٌ، كرُمّانٍ، نقله الجَوْهَرِيُّ. ومنه قَوْلُ صَرِيعِ الدِّلاءِ:

قد دُفِعْنَا إِلى زَمانٍ خَسِيسٍ *** بينَ قَوْمٍ أَراذِلٍ سُقَّاطِ

وفي التَّهْذِيبِ: وجمعُه السَّوَاقِطُ، وأَنْشَدَ:

نَحْنُ الصَّمِيمُ وهُمُ السَّوَاقِطُ

ويُقَال للمَرْأَةِ الدَّنِيَّةِ الحمقاءِ: سَقِيطَةٌ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وسَقَطُ النّاسِ: أَراذِلُهُم وأَدْوَانُهم، ومنه‌ حَدِيثُ النّارِ: «ما لِي لا يَدْخُلُني إِلاّ ضُعفَاءُ النّاسِ وسَقَطُهم».

ويُقَال للفَرَس إِذا سَابَقَ الخَيْلَ: قد سَاقَطَهَا. وهو مَجازٌ، ومنه قَوْلُ الرّاجِزِ:

ساقَطَهَا بنَفَسٍ مُرِيحِ *** عَطْفَ المُعَلَّى صُكَّ بالمَنِيحِ

وهَذَّ تَقْرِيبًا مَعَ التَّجْلِيحِ

وقال العَجّاجُ يَصِفُ الثَّوْرَ:

كَأَنَّه سِبْطٌ من الأَسْبَاطِ *** بَيْنَ حَوَامِي هَيْدَبٍ سُقّاطِ

أَي نَوَاحِي شَجَرٍ مُلْتَفِّ الهَدَبِ، والسُّقّاطُ: جمع السّاقِطِ، وهو المُتَدَلِّي.

وسِقَاطَا اللَّيْلِ، بالكَسْرِ: نَاحِيَتَا ظَلامِه، وهو مَجَازٌ.

وكذلِك سِقْطَاه، وبه فُسِّرَ قولُ الرّاعِي، أَنْشَدَه الجَوْهَرِيُّ:

حَتَّى إِذا ما أَضَاءَ الصُّبْحُ وانْبَعَثَتْ *** عَنْهُ نَعَامَةُ ذِي سِقْطَيْنِ مُعْتَكِرِ

قال: فإِنَّه عَنَى بالنَّعامَةِ سَوَادَ اللَّيْلِ، وسِقْطَاه: أَوَّلُه وآخِرُه، وهو عَلَى الاسْتِعَارَةِ، يَقُولُ: إِنَّ اللَّيْلَ ذا السِّقْطَيْن مَضَى، وصَدَقَ الصُّبْحُ، وقال الأَزْهَرِيُّ: أَرادَ نَعَامَةَ لَيْلٍ ذِي سِقْطَيْنِ.

وفَرَسٌ رَيِّثُ السِّقَاطِ، إِذا كان بَطِي‌ءَ العَدْوِ، قال العَجّاجُ يَصِفُ فرسًا:

جافِي الأَيادِيمِ بلَا اخْتِلاطِ *** وبالدِّهَاسِ رَيِّث السِّقاطِ

والسَّواقِط: صِغَارُ الجِبَالِ المُنْخَفِضَةِ الّلاطِئَةِ بِالأَرْضِ.

وفي حَدِيثِ [سَعْدٍ]: «كَانَ يُسَاقِطُ في ذلِك عَنْ رَسُولِ الله صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم»؛ أَي يَرْوِيه عَنْهُ في خِلالِ كَلامِهِ، كأَنَّهُ يَمْزُجُ حَدِيثَه بالحَدِيث عنْ رَسُولِ الله صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم.

والسَّقِيطُ: الفَخَّارُ، كذَا ذَكَرَه بعضُهم، أَو الصَّوابُ بالشِّينِ المُعْجَمة، كما سيأْتِي.

ويُقَال: رَدَّ الخَيّاطُ السُّقَاطَاتِ.

وفي المَثَل: «لكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ»؛ أَي لكُلِّ كَلِمَةٍ سَقَطَت من فَمِ النّاطِقِ نَفْسٌ تَسْمَعُها فتَلْقُطُها فتُذِيعُها، يُضْرَب في حِفْظِ اللِّسَانِ.

ويُقَال: سَقَطَ فلانٌ من مَنْزِلَتِه، وأَسْقَطَه السُلْطَانُ.

وهو مَسْقُوطٌ في يَدِه، وسَاقِطٌ في يَدِه: نادِمٌ ذَلِيل.

وسَقَط النَّجْمُ والقَمَرُ: غابَا.

والسَّواقِطُ والسُّقَّاط: اللُّؤَماءُ. وسَقَط فلانٌ من عَيْنِي.

وأَتى وهو مِنْ سُقَّاط الجُنْدِ: مِمّن لا يُعْتَدّ به.

وتَسَاقَطَ إِليَّ خَبَرُ فُلانٍ وكُلّ ذلِكَ مَجَازٌ.

وقَوْمٌ سِقَاطٌ، بالكَسْرِ: جَمْعُ سَاقِطٍ كنائمٍ ونِيَامٍ، وسَقِيط وسِقَاط كطَوِيلٍ وطِوَالٍ، وبه يُرْوَى قولُ المتنخّل:

إِذا ما الحَرْجَفُ النَّكْبَاءُ تَرْمِي *** بُيُوتَ الحَيِّ بالوَرَقِ السِّقَاطِ

ويروى: «السُّقَاط، بالضَّمِّ: جمع سُقَاطَةٍ، وقد تَقَدَّم.

وسَاقِطَةُ: مَوضِعٌ.

ويُقَال: هو سَاقِطَةُ النَّعْلِ.

وفي الحَدِيثِ: «مَرٌّ بتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ» ‌قيل: أَراد ساقِطَة، وقِيلَ: على النَّسَبِ؛ أَي ذاتِ سُقوطٍ، ويُمْكن أَنْ يَكُونَ من الإِسْقَاطِ مثل: أَحَمَّه الله فهو مَحْمُومٌ.

والسَّقَطُ، محرّكةً: ما تُهُووِنَ به من الدّابَّةِ بعد ذَبْحِها، كالقَوَائمِ، والكَرِشِ، والكَبِد، وما أَشْبَهَها، والجَمْعُ أَسْقَاطٌ.

وبائعُه: أَسْقَاطِيٌّ، كأَنْصَارِيٍّ وأَنْماطيٌّ. وقد نُسِبَ هكذا شيخُ مشايِخِنا العَلامّةُ المُحَدِّثُ المُقْرِئُ الشِّهَاب أَحْمَد الأَسْقَاطِيّ الحَنَفِيّ.

وسُقَيْط، كزُبَيْرٍ: لَقَبُ الإِمام شِهَاب الدّين أَحمد بن المَشْتُولِيّ، وفيه أُلّفَ غُرَرُ الأَسْفاط في عُرَرِ الأَسْقاط، وهي رسالة صغيرة متضمنّة على نَوَادِرَ وفرائد، وهي عندي.

وسُقَيْطٌ أَيضًا: لَقَبُ الحُطَيْئَةِ الشّاعرِ، وفيه يَقُول مُنْتَصِرًا له بعضُ الشُّعَرَاءِ، ومُجَاوِبًا مَنْ سَمّاه سُقَيْطا فإِنَّه كان قَصِيرًا جِدًّا:

ومِا سُقَيْطٌ وإِنْ يَمْسَسْكَ وَاصِبُه *** إِلاّ سُقَيْطٌ على الأَزْبَابِ والفُرُجِ

وهو أَيْضًا: لَقَبُ أَحْمَدَ بنِ عَمْرو، مَمْدُوحِ أَبِي عَبْدِ الله بن حَجَّاجٍ الشّاعِر، وكان لا بُدَّ في كُلِّ قَصِيدَةٍ أَنْ يَذْكُرَ لَقَبَه فمن ذلِكَ أَبْيَاتٌ:

فاسْتَمِعْ يا سُقَيْطُ أَشْهَى وأَحْلَى *** مِنْ سَماعِ الأَرْمالِ والأَهْزاجِ

وقوله:

مَدَحْتُ سُقَيْطًا بمِثْلِ العَرُوسِ *** مُوَشَّحَةً بالمَعَانِي المِلَاحِ

والسَّقِيط، كأَمِيرٍ: الجَرْوُ.

ومن أَقْوَالهم: مَن ضَارَعَ أَطْوَلَ رَوْقٍ منه سَقَطَ الشَّغْزَبِيَّة.

وسَقَطَ الرَّجُلُ: ماتَ، وهو مَجَازٌ.

ومن أَقْوَالهم: إِذا صَحَّت المَوَدَّةُ سَقَطَ شَرْطُ الأَدَبِ والتَّكْلِيف.

والسَّقِيطُ: الدُّرُّ المُتَنَاثِرُ، ومنه قولُ الشّاعِر:

كَلَّمَتْنِي فقُلْتُ دُرًّا سَقِيطًا *** فتأَمَّلْتُ عِقْدَها هل تَنَاثَرْ

فازْدَهَاهَا تَبَسُّمٌ فأَرَتْنِي *** عِقْدَ دُرٍّ من التَّبَسُّمِ آخَرْ

والسُّقّاطَةُ، كرُمّانَةٍ: ما يُوضَع على أَعْلَى البابِ تَسْقُط عليه فيَنْقَفِل.

وأَبو عَمْرٍو عُثْمَانُ بن محمَّد بن بِشْر بن سَنَقَةَ السَّقَطِيّ، عن إِبراهِيم الحَرْبِيّ وغيرِهِ، مات سنة 356.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


97-تاج العروس (دأل)

[دأل]: دَأَلَ كمَنَعَ دَأْلًا بالفتحِ ويُحَرَّكُ، ودَأَلَى كجَمَزَى، ودَأَلانًا محرَّكةً، وهو، وفي المُحْكَمِ: وهي، مِشْيَةٌ فيها ضَعْفٌ وعَجَلَةٌ، أَو هو عَدْوٌ مُتَقارِبٌ، أَو هو مَشْيٌ نَشيطٌ، وهو الذي كأَنَّه يسعَى في مِشْيَتِه من النَّشاطِ، وأَنْشَدَ سِيْبَوَيْه فيمَا تَضَعُه العَرَبُ على أَلْسنَةِ البهائِمِ لضَبٍّ يخاطِبُ ابْنه:

أَهَدَمُوا بَيْتَك لا أَبَا لَكَا *** وأَنا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوالَكا

وقالَ أَبُو زَيْدٍ: هي مِشْيَةٌ شَبيهَةٌ بالخَتْلِ ومَشْيِ المُثْقَلِ، وذَكَرَ الأَصْمَعِيُّ في مِشْيَةِ الخَيْلِ: الدَّأَلان مَشْيٌ يقارب فيه الخَطْو ويَبْغي فيه كأَنَّه مُثْقل من حملٍ.

ودَأَلَ له يدْأَلُ دَأَلًا ودأَلانًا، محرَّكتينِ؛ أَي خَتَلَه، يقالُ: الذئْبُ يَدْأَلُ للغزالِ ليأْكُلَه أَي يَخْتِلُه.

والدُّئِلُ: بالضمِ وكسر الهمزةِ ولا نظيرَ لها.

وقالَ ثَعْلَب: لا نَعْلَمُ اسْمًا جاءَ على فُعِل غَيْر هذا.

قالَ شيْخُنا: ويَأْتي له في الميمِ رُئِم كدُئِلٍ الاسْتُ.

وكأَن المصنِّف نَسِيَهُ، وفي أَثْناءِ الكِتابِ ما لا يُحْصَى من كلماتٍ كدُئِل أَو فيها لغَةٌ مِثْلُها كالرّعل انتهى.

قلْتُ: وهذا البناءُ أَعْنِي مَضْمُومَ الفاءِ ومَكْسورَ العَيْنِ في سقوطِه اخْتِلافٌ فقيلَ: مُهْمَل للاسْتِثْقَالِ، وقيلَ: بل مُسْتَعمَلٌ على القِلَّةِ ورَجَّحَه أَبُو حَيَّانٍ، وحَكَى ابنُ هشامٍ القَوْلَين بِلا تَرْجيحٍ كما بيَّنْته في رسالةِ التَّصْرِيفِ.

وقد تُضَمُّ الهمزةُ، وهذه عن كراعٍ، قالَ ابنُ سِيْدَه وليسَ بمعْرُوفٍ، ابنُ آوَى كالدَّأَلانِ محرَّكةً والدَّأْلِ بالفتحِ، وقيلَ: الدَّأَلانُ محرَّكةً بالدّالِ والذَّالِ هو الذِّئبُ.

قالَ الأَصْمَعِيُّ: ولهذا سُمِّي الذئبُ ذُؤَالةً أَيْضًا، ومعْنَى الذَّأَلانِ المَشْيُ الخَفِيفُ.

والَدُّئِلُ أَيْضًا: دُوَيْبَّةٌ كابنِ عِرْسٍ أَو كالثَّعْلبِ.

قالَ ابنُ سِيْدَه: وهذا هو المَعْروفُ.

قالَ كَعْبُ بنُ مالَكٍ الأَنْصَارِيُّ، رضي ‌الله‌ عنه في جيشِ أَبي سُفْيان الذين وَرَدُوا المدِينةَ في غَزْوةِ السويقِ وأَحْرقُوا النَّخِيلَ ثم انْصَرَفُوا:

جاؤُوا بجَيْشٍ لو قِيسَ مُعْرَسُه *** ما كان إِلَّا كمُعْرَس الدُّئِلِ

عارٍ من النّسْل والثراءِ ومن *** أَبطالِ بطحاء والقنا الأسلِ

والدُّئِلُ بنُ مُحَلِّمِ بنِ غالِبٍ بنِ عائِذَة أَبُو قَبيلةٍ في الهُونِ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مُدْرِكَةَ، هكذا في سائِرِ النسخِ وهو غَلَطٌ فاحِشٌ، فإِنَّ الصوابَ فيه الدِّيش بنُ مُحَلِّمِ أَخِي حُمْلة وهم من ولدِ مُلَيْحِ بنِ الهُونِ ويقالُ لولدِ الدِّيش القارةُ، وقَدْ ذَكَرَه بنَفْسِه في الشينِ المعْجَمةِ، فهذا عَجيبٌ منه كيفَ يغْفلُ عن مِثْلِه يصَحَّفُه وليسَ لمُحَلِّمِ ولدٌ سِوَى الدِّيش وحُلْمة فليُتَنَبَّه لذلِكَ.

والنِّسْبَةُ إِلى الدُّئِل دُؤَلِيٌ بضمِ الدَّالِ وعلى الواوِ همزةٌ، وإِنَّما فَتَحوا الهَمْزةَ على مَذْهبِهم في النِّسْبَةِ اسْتَثْقالًا لتَوَالي الكَسْرَتَيْن مَعَ يائي النَّسَبِ كما يُنْسَبُ إِلى نَمِرٍ نَمَرِيٌ.

ودُوَلِيُّ بفتحِ عَيْنِهِما قَلَبُوا الهَمْزةَ واوًا لأن الهمزةَ إِذا انْفَتَحَتْ وكانَتْ قَبْلَها ضمةٌ فتَخْفِيفُها أَنْ تَقْلبَها واوًا مَخْصة، كما قالُوا في جُؤَنٍ جُوَن وفي مُؤَن مُوَن ودِيليُّ كخيرِيٍّ بالكسرِ ودِئِليٌّ بكَسْرَتَيْنِ، وهذا نادِرٌ.

قلْتُ: والذي في المُحْكَمِ والنَّسَب إِليه دُؤَليُّ ودُئِليُّ، هذه نادِرَةٌ، إِذ ليسَ في الكَلامِ فُعِليٌّ أَي بالضمِ فالكَسْرِ لا أَنَّه بكَسْرَتَيْن كما قالَهُ المصنِّفُ فانْظُرْ ذلِكَ.

ثم أَنَّ دِيليّ كخيرِيٍّ إِنَّما هو نسْبَةٌ إِلى الدِّيل بالكسرِ لقبيلةٍ أُخْرَى يَأْتي ذِكْرُها في «د ول»، ولَيْسَتْ نسْبَةٌ إِلى الدُّئِل بضمٍ فكَسْرٍ فذِكْرُه هنا غَيْرُ سَدِيدٍ.

وفي شَرْحِ اللُّمَعِ للأَصْبَهانِيِّ ما نَصّه: أَبُو الأَسْوَدِ ظالمُ بنُ عَمْرٍو والدِّئَلِيُّ إِنَّما هو بكَسْرِ الدَّالِ زائده وفتحِ الهَمْزَةِ نِسْبَةٌ إِلى دِئلٍ كعِنَبٍ وهي قبيلةٌ أُخْرَى غيرُ المُتَقَدِّمةِ.

قلْتُ: وهذا فيه خَرْقٌ لمَا أَجْمَعَ عليه النَّسَّابَةُ والمُؤُرِّخُون بأَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ إِنَّما هو من قبيلةٍ من كنانَةَ كما سَيَأْتي بيانُ نَسَبِهِ.

وقَوْلُه: وهي قبيلةٌ أُخْرَى إِلى آخرِه مَرْدودٌ عليه وليسَ هو من كَلامِ شَرْحِ اللُّمَعِ، فإِنَّ الذي ذَكَرَه أَوَّلًا من أَنَّه قبيلةٌ في الهُونِ غَلَطٌ كما سَبَقَ ذلِكَ، وأَيْضًا فليسَ لهم قبيلةٌ تُعْرفُ بالدِّئَلِ كعِنَبٍ بإِجْماعِ النَّسابَةِ، والصوابُ في تَفْصيلِ هذا المقامِ على ما ذَهَبَ إِليه أَئِمَّةُ النَّسَبِ هو ما قالَهُ ابنُ القَطَّاعِ رَحِمَه الله تعالَى ما نَصّه: الدُّئِلُ في كِنَانَةَ رَهْطُ أَبي الأَسْوَدِ بالضمِ وكسرِ الهمزةِ.

قلْتُ: وهو الدُّئِلُ بنُ بَكْرِ بنِ عَبْدِ مَنَاة بنِ كِنانَةَ، ومن ولدِهِ أَبُو الأَسْوَدِ وهو ظالمُ بنُ عَمْرِو بنِ سُفْيان بنِ يَعْمُر بنِ حِلْس بنِ نِفَاثَةَ بنِ عَدِيِّ بنِ الدُّئِلِ، وقيلَ، اسْمُه عُثْمانُ بنُ عَمْرِو بنِ سُفْيان، وقالَ ابنُ حَبَّان: هو ظالمُ بنُ عَمْرِو بنِ جنْدلِ بنِ سُفْيان، وقيلَ: عَمْرُو بنُ ظالِم يَرْوِي عن عُمْرَان بنِ الحُصَيْن وعنه أَهْلُ البَصْرَةِ وشَهِدَ مَعَ عليٍّ صِفِّين ووليَ البَصْرَةَ لابنِ عَبَّاسٍ ومَاتَ بها وقد أَسَنَّ وهو أَوَّلُ من تكلَّمَ بالنَّحْوِ.

قلْتُ: ورَوَى عنه ابْنُه حَرْب ويَحْيَى بنُ يَعْمُر ثِقَةٌ توفي سَنَة 169.

ثم قالَ ابنُ القَطَّاعِ: والدُّولُ في حَنيفةَ كزُورِ وفي عبدِ القَيْسِ الدِّيلُ كزِيرٍ وكذلك الدِّيلُ في الأَزْدِ، وهَؤُلاء يَأْتي ذِكْرُهم للمصنِّفِ في دَوَلَ، وإِنَّما سَاقَهم هُنا تَتِمَّةً لكَلامِ ابنِ القَطَّاعِ، وهذا التَّفْصيلُ بعَيْنِه وَقَعَ لابنِ السِّكِّيت وغَيْرِه من عُلَمَاءِ اللغَةِ.

وابنُ دَالانَ رجُلٌ يأْتي ذِكْرُه في «د ول»، وذَكَرَه ابنُ سِيْدَه هُنا بناء على أَنَّه مَهْموزٌ، قالَ: والنِّسْبَةُ إليه دَأَلانيُّ.

والدُّؤْلولُ بالضمِ الدَّاهيةُ كما في العُبَابِ والمُحْكَمِ.

وأَيْضًا الإِختِلاطُ، يقالُ: وَقَعَ القَوْمُ في دُؤْلولٍ من أَمْرِهِم، أي اخْتِلاطٍ.

وقالَ أَبُو عَمْرٍو: المُداءَلَةُ، زِنَة المُداعَلَةِ، المُخاتَلَةُ.

دَأَلْت له ودَأَلْته وقد تكونُ في سُرْعةِ المَشْيِ، كما في التَّهْذِيبِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


98-المصباح المنير (قيل)

قَالَ يَقِيلُ قَيْلًا وَقَيْلُولَةً نَامَ نِصْفَ النَّهَارِ وَالْقَائِلَةُ وَقْتُ الْقَيْلُولَةِ وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْقَيْلُولَةِ وَأَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ إذَا رَفَعَهُ مِنْ سُقُوطِهِ وَمِنْهُ الْإِقَالَةُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ وَقَالَهُ قَيْلًا مِنْ بَابِ بَاعَ لُغَةٌ وَاسْتَقَالَهُ الْبَيْعَ فَأَقَالَهُ وَاقْتَالَ الرَّجُلُ بِدَابَّتِهِ إذَا اسْتَبْدَلَ بِهَا غَيْرَهَا وَالْمُقَايَلَةُ وَالْمُبَادَلَةُ وَالْمُعَاوَضَةُ سَوَاءٌ.

المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م


99-لسان العرب (سقط)

سقط: السَّقْطةُ: الوَقْعةُ الشديدةُ.

سقَطَ يَسْقُطُ سُقوطًا، فَهُوَ ساقِطٌ وسَقُوطٌ: وَقَعَ، وَكَذَلِكَ الأُنثى؛ قَالَ:

مِنْ كلِّ بَلْهاء سَقُوطِ البُرْقُعِ ***بيْضاءَ، لَمْ تُحْفَظْ وَلَمْ تُضَيَّعِ

يَعْنِي أَنها لَمْ تُحْفَظْ مِنَ الرِّيبةِ وَلَمْ يُضَيِّعْها وَالِدَاهَا.

والمَسْقَطُ، بِالْفَتْحِ: السُّقوط.

وسَقط الشيءُ مِنْ يَدِي سُقوطًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَلّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَفْرَحُ بتَوْبةِ عَبْدِه مِنْ أَحدكم يَسْقُط عَلَى بَعِيره وَقَدْ أَضلَّه»؛ مَعْنَاهُ يَعثُر عَلَى مَوْضِعِهِ ويقعُ عَلَيْهِ كَمَا يقعُ الطائرُ عَلَى وَكْرِهِ.

وَفِي حديث" الحرث بْنِ حَسَّانَ: قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسأَله عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: عَلَى الخَبِيرِ سقَطْتَ "أَي عَلَى العارِفِ بِهِ وَقَعْتَ، وَهُوَ مَثَلٌ سائرٌ لِلْعَرَبِ.

ومَسْقِطُ الشَّيْءِ ومَسْقَطُه: مَوْضِعُ سقُوطه، الأَخيرة نَادِرَةٌ.

وَقَالُوا: الْبَصْرَةُ مَسْقَطُ رأْسي ومَسْقِطُه.

وتساقَط عَلَى الشَّيْءِ أَي أَلقى نفسَه عَلَيْهِ، وأَسقَطَه هُوَ.

وتساقَط الشيءُ: تتابع سُقوطه.

وساقَطه مُساقَطةً وسِقاطًا: أَسْقَطَه وَتَابَعَ إِسْقاطَه؛ قَالَ ضابئُ بْنُ الحَرثِ البُرْجُمِيّ يَصِفُ ثَوْرًا وَالْكِلَابَ:

يُساقِطُ عَنْهُ رَوْقُه ضارِياتِها، ***سِقاطَ حَدِيدِ القَينِ أَخْوَلَ أَخْوَلا

قَوْلُهُ: أَخْوَل أَخولا أَي متفرِّقًا يَعْنِي شرَرَ النَّارِ.

والمَسْقِطُ مِثال المَجْلِس: الْمَوْضِعُ؛ يُقَالُ: هَذَا مَسْقِط رأْسي، حَيْثُ وُلِدَ، وَهَذَا مسقِطُ السوْطِ، حَيْثُ وَقَعَ، وأَنا فِي مَسْقِط النَّجْمِ، حَيْثُ سَقَطَ، وأَتانا فِي مَسْقِط النَّجْمِ أَي حِينَ سقَط، وَفُلَانٌ يَحِنُّ إِلى مسقِطه أَي حَيْثُ وُلِدَ.

وكلُّ مَن وَقَعَ فِي مَهْواة يُقَالُ: وَقَعَ وَسَقَطَ، وَكَذَلِكَ إِذا وَقَعَ اسْمُهُ مِنَ الدِّيوان، يُقَالُ: وَقَعَ وَسَقَطَ، وَيُقَالُ: سقَط الْوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمّه، وَلَا يُقَالُ وَقَعَ حِينَ تَلِدُه.

وأَسْقَطتِ المرأَةُ وَلَدَهَا إِسْقاطًا، وَهِيَ مُسْقِطٌ: أَلقَتْه لِغَيْرٍ تَمام مِنَ السُّقوطِ، وَهُوَ السِّقْطُ والسُّقْطُ والسَّقْط، الذَّكَرُ والأُنثى فِيهِ سَوَاءٌ، ثَلَاثُ لُغَاتٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لأَنْ أُقَدِّمَ سِقْطًا أَحَبُّ إِليَّ مِنْ مِائَةِ مُسْتَلئِمْ»؛ السَّقْطُ، بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ والكسرِ، والكسرُ أَكثر: الْوَلَدُ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمه قَبْلَ تَمامِه، والمستلْئِمُ: لَابِسُ عُدَّةِ الْحَرْبِ، يَعْنِي أَن ثَوَابَ السِّقْطِ أَكثر مِنْ ثوابِ كِبار الأَولاد لأَن فِعْلَ الْكَبِيرِ يخصُّه أَجره وثوابُه وإِن شَارَكَهُ الأَب فِي بَعْضِهِ، وَثَوَابُ السِّقْطِ مُوَفَّر عَلَى الأَب.

وَفِي الْحَدِيثِ: «يُحْشَرُ مَا بَيْنَ السِّقْطِ إِلى الشَّيْخِ الْفَانِي جُرْدًا مُرْدًا».

وسَقْطُ الزَّند: مَا وَقَعَ مِنَ النَّارِ حِينَ يُقْدَحُ، بِاللُّغَاتِ الثَّلَاثِ أَيضًا.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: سَقْطُ النَّارِ وسِقْطُها وسُقْطُها مَا سقَط بَيْنَ الزنْدين قَبْلَ اسْتحكامِ الوَرْي، وَهُوَ مَثَلٌ بِذَلِكَ، يُذَكَّرُ ويؤَنث.

وأَسقَطَتِ الناقةُ وَغَيْرَهَا إِذا أَلقت وَلَدَهَا.

وسِقْطُ الرَّمْلِ وسُقْطُه وسَقْطُه ومَسْقِطُه بِمَعْنَى مُنقَطَعِه حَيْثُ انْقَطَعَ مُعْظَمُه ورَقَّ لأَنه كُلُّهُ مِنَ السُّقوط، الأَخيرة إِحدى تِلْكَ الشَّوَاذِّ، وَالْفَتْحُ فِيهَا عَلَى الْقِيَاسِ لُغَةٌ.

ومَسْقِطُ الرَّمْلِ: حَيْثُ يَنْتَهِي إِليه طرَفُه.

وسِقاطُ النَّخْلِ: مَا سقَط مِنْ بُسْرِه.

وسَقِيطُ السَّحابِ: البَرَدُ.

والسَّقِيطُ: الثلْجُ.

يُقَالُ: أَصبَحتِ الأَرض مُبْيَضَّة مِنَ السَّقِيطِ.

والسَّقِيطُ: الجَلِيدُ، طائيةٌ، وَكِلَاهُمَا مِنَ السُّقوط.

وسَقِيطُ النَّدَى: مَا سقَط مِنْهُ عَلَى الأَرض؛ قَالَ الرَّاجِزُ: " وليْلةٍ، يَا مَيَّ، ذاتِ طَلِّ،

ذاتِ سَقِيطٍ ونَدىً مُخْضَلِّ، ***طَعْمُ السُّرَى فِيهَا كطَعْمِ الخَلِ

وَمِثْلُهُ قَوْلُ هُدْبة بْنِ خَشْرَمٍ:

وَوادٍ كجَوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قطَعْتُه، ***تَرى السَّقْطَ فِي أَعْلامِه كالكَراسِفِ

والسَّقَطُ مِنَ الأَشياء: مَا تُسْقِطهُ فَلَا تَعْتَدُّ بِهِ مِنَ الجُنْد وَالْقَوْمِ وَنَحْوِهِ.

والسُّقاطاتُ مِنَ الأَشياء: مَا يُتَهاون بِهِ مِنْ رُذالةِ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا.

والسَّقَطُ: رَدِيءُ المَتاعِ.

والسَّقَطُ: مَا أُسْقِط مِنَ الشَّيْءِ.

وَمِنْ أَمْثالِهم: سَقَطَ العَشاء بِهِ عَلَى سِرْحانٍ، يُضرب مَثَلًا لِلرَّجُلِ يَبْغي البُغْيةَ فيقَعُ فِي أَمر يُهْلِكُه.

وَيُقَالُ لخُرْثِيِّ المَتاعِ: سَقَطٌ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وسقَطُ الْبَيْتِ خُرْثِيُّه لأَنه ساقِطٌ عَنْ رَفِيعِ الْمَتَاعِ، وَالْجَمْعُ أَسْقاط.

قَالَ اللَّيْثُ: جَمْعُ سَقَطِ البيتِ أَسْقاطٌ نَحْوَ الإِبرة والفأْس والقِدْر وَنَحْوِهَا.

وأَسْقاطُ النَّاسِ: أَوْباشُهم؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، على المثل بذلك.

وسَقَطُ الطَّعامِ: مَا لَا خَيْرَ فِيهِ مِنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يَسْقُط مِنْهُ.

والسَّقَطُ: مَا تُنُوول بَيْعُهُ مِنْ تابِلٍ وَنَحْوِهِ لأَن ذَلِكَ ساقِطُ القِيمة، وَبَائِعُهُ سَقَّاط.

والسَّقَّاطُ: الَّذِي يَبِيعُ السَّقَطَ مِنَ المَتاعِ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «كَانَ لَا يَمُرُّ بسَقَّاطٍ وَلَا صاحِبِ بِيعةٍ إِلا سَلَّم عَلَيْهِ»؛ هُوَ الَّذِي يَبيعُ سَقَطَ المتاعِ وَهُوَ رَدِيئُه وحَقِيره.

والبِيعةُ مِنَ البَيْعِ كالرِّكْبةِ والجِلْسَةِ مِنَ الرُّكُوبِ والجُلوس، والسَّقَطُ مِنَ الْبَيْعِ نَحْوَ السُّكَّر والتَّوابِل ونحوها، وأَنكر بَعْضُهُمْ تَسْمِيَتَهُ سَقَّاطًا، وَقَالَ: لَا يُقَالُ سَقَّاط، وَلَكِنْ يُقَالُ صَاحِبُ سَقَطٍ.

والسُّقاطةُ: مَا سَقَط مِنَ الشَّيْءِ.

وساقَطه الحديثَ سِقاطًا: سَقَط مِنْكَ إِليه وَمِنْهُ إِليك.

وسِقاطُ الحديثِ: أَن يتحدَّثَ الواحدُ ويُنْصِتَ لَهُ الآخَرُ، فإِذا سَكَتَ تحدَّثَ الساكِتُ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقِ:

إِذا هُنَّ ساقَطْنَ الحَديثَ، كأَنَّه ***جَنى النَّحْلِ أَو أَبْكارُ كَرْمٍ تُقَطَّف

وسَقَطَ إِليَّ قَوْمٌ: نَزَلُوا عليَّ.

وَفِي حَدِيثِ النجاشِيّ وأَبي سَمّالٍ: «فأَما أَبو سَمَّالٍ فسَقَطَ إِلى جيرانٍ لَهُ»أَي أَتاهم فأَعاذُوه وسَترُوه.

وسَقَطَ الحَرّ يَسْقُطُ سُقُوطًا: يُكَنَّى بِهِ عَنِ النُّزُولِ؛ قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:

إِذا الوَحْشُ ضَمَّ الوَحْش فِي ظُلُلاتِها ***سَواقِطُ مِنْ حَرٍّ، وَقَدْ كَانَ أَظْهَرا

وسَقَطَ عَنْكَ الحَرُّ: أَقْلَعَ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، كأَنه ضِدُّ.

والسَّقَطُ والسِّقاطُ: الخَطَأُ فِي الْقَوْلِ والحِساب والكِتاب.

وأَسْقَطَ وسَقَطَ فِي كَلَامِهِ وَبِكَلَامِهِ سُقوطًا: أَخْطأَ.

وتكلَّم فَمَا أَسْقَطَ كَلِمَةً، وَمَا أَسْقَط حَرْفًا وَمَا أَسْقَط فِي كَلِمَةٍ وَمَا سَقَط بِهَا أَي مَا أَخْطأَ فِيهَا.

ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ تَكلَّم بِكَلَامٍ فَمَا سَقَطَ بِحَرْفٍ وَمَا أَسْقَطَ حَرْفًا، قَالَ: وَهُوَ كَمَا تَقُولُ دَخَلْتُ بِهِ وأَدْخَلْتُه وخرَجْتُ بِهِ وأَخْرَجْتُه وعَلوْت بِهِ وأَعْلَيْتُه وسُؤتُ بِهِ ظَنًّا وأَسأْتُ بِهِ الظنَّ، يُثْبتون الأَلف إِذا جَاءَ بالأَلف وَاللَّامِ.

وَفِي حَدِيثِ الإِفك: «فأَسْقَطُوا لَهَا بِهِ»يَعْنِي الجارِيةَ؛ أي سَبُّوها وَقَالُوا لَهَا مِنْ سَقَط الكلامِ، وَهُوَ رَدِيئُهُ، بِسَبَبِ حَدِيثِ الإِفْك.

وتَسَقَّطَه واستَسْقَطَه: طلَب سَقَطَه وعالَجه عَلَى أَن يَسْقُطَ فيُخْطِئ أَو يَكْذِبَ أَو يَبُوحَ بِمَا عِنْدَهُ؛ قَالَ جَرِيرٌ:

وَلَقَدْ تسَقَّطَني الوُشاةُ فصادَفُوا ***حَجِئًا بِسِرِّكِ، يَا أُمَيْمَ، ضَنِينا

والسَّقْطةُ: العَثْرةُ والزَّلَّةُ، وَكَذَلِكَ السِّقاطُ؛ قَالَ سُوِيدُ بْنُ أَبي كَاهِلٍ:

كيفَ يَرْجُون سِقاطِي، بَعْدَ ما ***جَلَّلَ الرأْسَ مَشِيبٌ وصَلَعْ؟

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَمِثْلُهُ لِيَزِيدَ بْنِ الجَهْم الهِلالي:

رجَوْتِ سِقاطِي واعْتِلالي ونَبْوَتي، ***وراءَكِ عَنِّي طالِقًا، وارْحَلي غَدا

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كُتب إِليه أَبيات فِي صَحِيفَةٍ مِنْهَا:

يُعَقِّلُهُنَّ جَعْدةُ مِنْ سُلَيْمٍ ***مُعِيدًا، يَبْتَغي سَقَطَ العَذارى»

أَي عثَراتِها وزَلَّاتِها.

والعَذارى: جُمْعُ عَذْراء.

وَيُقَالُ: فُلَانٌ قَلِيلُ العِثار، وَمِثْلُهُ قَلِيلُ السِّقاطِ، وإِذا لَمْ يَلْحق الإِنسانُ مَلْحَقَ الكِرام يُقَالُ: ساقِطٌ، وأَنشد بَيْتَ سُوِيدُ بْنُ أَبي كَاهِلٍ.

وأَسقط فُلَانٌ مِنَ الْحِسَابِ إِذا أَلقى.

وَقَدْ سقَط مِنْ يَدِي وسُقِطَ فِي يَدِ الرَّجُلِ: زَلَّ وأَخْطأَ، وَقِيلَ: نَدِمَ.

قَالَ الزجّاجُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ النَّادِمِ عَلَى مَا فَعَلَ الحَسِر عَلَى مَا فرَطَ مِنْهُ: قَدْ سُقِط في يده وأُسْقِط.

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: لَا يُقَالُ أُسقط، بالأَلف، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ}؛ قَالَ الْفَارِسِيُّ: ضرَبوا بأَكُفِّهم عَلَى أَكفهم مِنَ النَّدَم، فإِن صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ إِذًا مِنَ السُّقُوطِ، وَقَدْ قُرِئَ: " سقَط فِي أَيديهم، كأَنه أَضمر النَّدَمَ أَي سقَط الندمُ فِي أَيديهم كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يَحْصُلُ عَلَى شَيْءٍ وإِن كَانَ مِمَّا لَا يَكُونُ فِي الْيَدِ: قَدْ حَصل فِي يَدِهِ مِنْ هَذَا مكروهٌ، فَشَبَّهَ مَا يحصُل فِي الْقَلْبِ وَفِي النفْس بِمَا يَحْصُلُ فِي الْيَدِ ويُرى بِالْعَيْنِ.

الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ: يُقَالُ سُقط فِي يَدِهِ وأُسقط مِنَ النَّدَامَةِ، وسُقط أَكثر وأَجود.

وخُبِّر فُلَانٌ خَبرًا فسُقط فِي يَدِهِ وأُسقط.

قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ النَّادِمِ عَلَى مَا فَعَلَ الحسِرِ عَلَى مَا فرَط مِنْهُ: قَدْ سُقط فِي يَدِهِ وأُسقط.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وإِنما حَسَّنَ قَوْلَهُمْ سُقط فِي يَدِهِ، بِضَمِّ السِّينِ، غَيْرُ مُسَمًّى فَاعِلُهُ الصفةُ الَّتِي هِيَ فِي يَدِهِ؛ قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

فدَعْ عنكَ نَهْبًا صيحَ فِي حَجَراتِه، ***ولكنْ حَدِيثًا، مَا حَدِيثُ الرَّواحِلِ؟

أَي صَاحَ المُنْتَهِبُ فِي حَجَراتِه، وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ سقَط الندمُ فِي يَدِهِ؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

ويوْمٍ تَساقَطُ لَذَّاتُه، ***كنَجْم الثُّرَيّا وأَمْطارِها

أَي تأْتي لَذَّاتُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، أَراد أَنه كَثِيرُ اللَّذَّاتِ:

وخَرْقٍ تحَدَّث غِيطانُه، ***حَديثَ العَذارَى بأَسْرارِها

أَرادَ أَن بِهَا أَصوات الْجِنِّ.

وأَما قَوْلُهُ تعالى: {وهُزِّي إِليكِ بجِذْعِ النخلةِ يَسّاقَطْ}، وَقُرِئَ: تُساقِطْ وتَسّاقَطْ "، فَمَنْ قرأَه بِالْيَاءِ فَهُوَ الجِذْعُ، وَمَنْ قرأَه بِالتَّاءِ فهي النخلةُ، وانتصابُ قَوْلِهِ رُطَبًا جَنِيًّا عَلَى التَّمْيِيزِ المحوَّل، أَرادَ يَسّاقطْ رُطَبُ الجِذْع، فَلَمَّا حُوِّلَ الْفِعْلُ إِلى الْجِذْعِ خَرَجَ الرطبُ مفسِّرًا؛ قَالَ الأَزهري: هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ: وَلَوْ قرأَ قَارِئٌ تُسْقِطْ عَلَيْكِ رُطبًا يَذْهَبُ إِلى النَّخْلَةِ، أَو قرأَ يُسْقِطْ عَلَيْكِ يَذْهَبُ إِلى الْجِذْعِ، كَانَ صَوَابًا.

والسَّقَطُ: الفَضيحةُ.

والساقِطةُ والسَّقِيطُ: الناقِصُ العقلِ؛ الأَخيرة عَنِ الزَّجَّاجِيِّ، والأُنثى سَقِيطةٌ.

والسَّاقِطُ والساقِطةُ: اللَّئيمُ فِي حسَبِه ونفْسِه، وَقَوْمٌ سَقْطَى وسُقّاطٌ، وَفِي التَّهْذِيبِ: وَجَمْعُهُ السَّواقِطُ؛ وأَنشد: " نحنُ الصَّمِيمُ وهُمُ السَّواقِطُ وَيُقَالُ للمرأَة الدنيئةِ الحَمْقَى: سَقِيطةٌ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الدَّنِيء: ساقِطٌ ماقِطٌ لاقِطٌ.

والسَّقِيطُ: الرَّجُلُ الأَحمق.

وَفِي حَدِيثِ أَهل النَّارِ: «مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعفاء الناسِ وسَقَطُهم»أَي أَراذِلُهم وأَدْوانُهُم.

والساقِط: المتأَخِّرُ عَنِ الرِّجَالِ.

وَهَذَا الْفِعْلُ مَسْقَطةٌ للإِنسان مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ: وَهُوَ أَن يأْتي بِمَا لَا يَنْبَغِي.

والسِّقاطُ فِي الفَرسِ: اسْتِرْخاء العَدْوِ.

والسِّقاطُ فِي الْفَرَسِ: أَن لَا يَزالَ مَنْكُوبًا، وَكَذَلِكَ إِذا جَاءَ مُسْتَرْخِيَ المَشْي والعَدْوِ.

وَيُقَالُ لِلْفَرَسِ: إِنه ليساقِط الشَّيْءَ أَي يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ؛ وأَنشد قَوْلَهُ:

بِذي مَيْعة، كأَنَّ أَدْنَى سِقاطِه ***وتَقْرِيبِه الأَعْلَى ذَآلِيلُ

ثَعْلَبِ وساقَطَ الفرسُ العَدْوَ سِقاطًا إِذا جَاءَ مُسْتَرْخِيًا.

وَيُقَالُ لِلْفَرَسِ إِذا سَبَقَ الْخَيْلَ: قَدْ ساقَطَها؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

ساقَطَها بنَفَسٍ مُرِيحِ، ***عَطْفَ المُعَلَّى صُكَّ بالمَنِيحِ،

وهَذَّ تَقْرِيبًا مَعَ التَّجْلِيحِ "المَنِيحُ: الَّذِي لَا نَصِيبَ لَهُ.

وَيُقَالُ: جَلَّحَ إِذا انكشَف لَهُ الشأْنُ وغَلب؛ وَقَالَ يَصِفُ الثَّوْرَ:

كأَنَّه سِبْطٌ مِنَ الأَسْباطِ، ***بَيْنَ حَوامِي هَيْدَبٍ سُقَّاطِ

السِّبْطُ: الفِرْقةُ مِنَ الأَسْباط.

بَيْنَ حوامِي هَيْدَبٍ وهَدَبٍ أَيضًا أَي نَواحِي شَجَرٍ مُلْتَفِّ الهَدَب.

وسُقّاطٌ: جَمْعُ الساقِط، وَهُوَ المُتَدَلِّي.

والسَّواقِطُ: الَّذِينَ يَرِدُون اليمَامةَ لامْتِيارِ التَّمْرِ، والسِّقاطُ: مَا يَحْمِلُونَهُ مِنَ التَّمْرِ.

وَسَيْفٌ سَقّاطٌ وَراء الضَّريبةِ، وَذَلِكَ إِذا قَطَعَها ثُمَّ وصَل إِلى مَا بَعْدَهَا؛ قَالَ ابْنُ الأَعرابي: هُوَ الَّذِي يَقُدُّ حَتَّى يَصِل إِلى الأَرض بَعْدَ أَن يَقْطَعَ؛ قَالَ الْمُتَنَخِّلُ الهذلي:

كلَوْنِ المِلْحِ ضَرْبَتُه هَبِيرٌ، ***يُتِرُّ العَظْمَ سَقّاطٌ سُراطِي

وَقَدْ تقدَّم فِي سَرَطَ، وصوابهُ يُتِرُّ العظمَ.

والسُّراطِيُّ: القاطعُ.

والسَّقّاطُ: السيفُ يسقُط مَنْ وَرَاءَ الضَّرِيبة يَقْطَعُهَا حَتَّى يَجُوزَ إِلى الأَرض.

وسِقْطُ السَّحابِ: حَيْثُ يُرى طرَفُه كأَنه ساقِطٌ عَلَى الأَرض فِي نَاحِيَةِ الأُفُق.

وسِقْطا الخِباء: ناحِيَتاه.

وسِقْطا الطائرِ وسِقاطاه ومَسْقَطاه: جَناحاه، وَقِيلَ: سِقْطا جَناحَيْه مَا يَجُرُّ مِنْهُمَا عَلَى الأَرض.

يُقَالُ: رَفَع الطائرُ سِقْطَيْه يعني جناحيه.

والسِّقْطانِ مِنَ الظَّلِيمِ: جَناحاه؛ وأَما قَوْلُ الرَّاعي:

حَتَّى إِذا مَا أَضاء الصُّبْحُ، وانْبَعَثَتْ ***عَنْهُ نَعامةُ ذِي سِقْطَيْن مُعْتَكِر

فإِنه عَنَى بِالنَّعَامَةِ سَواد اللَّيْلِ، وسِقْطاه: أَوّلُه وآخِرُه، وَهُوَ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ؛ يَقُولُ: إِنَّ الليلَ ذَا السِّقْطين مضَى وصدَق الصُّبْح؛ وَقَالَ الأَزهري: أَراد نَعامةَ ليْلٍ ذِي سِقطين، وسِقاطا اللَّيْلِ: ناحِيتا ظَلامِه؛ وَقَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ فَرَسًا:

جافِي الأَيادِيمِ بِلَا اخْتِلاطِ، ***وبالدِّهاسِ رَيِّث السِّقاطِ

قَوْلُهُ: رَيِّثُ السِّقَاطِ أَي بَطِيءٌ أَي يَعْدو فِي الدِّهاسِ عَدْوًا شَدِيدًا لَا فُتورَ فِيهِ.

وَيُقَالُ: الرَّجُلُ فِيهِ سِقاطٌ إِذا فَتَر فِي أَمره ووَنَى.

قَالَ أَبو تُرَابٍ: سَمِعْتُ أَبا المِقْدامِ السُّلَمِيّ يَقُولُ: تسَقَّطْتُ الخَبَر وتَبقَّطْتُه إِذا أَخذته قَلِيلًا قَلِيلًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «بِهَذِهِ الأَظْرُبِ السَّواقِطِ»؛ أي صِغار الجبالِ المُنْخفضةِ اللَّاطئةِ بالأَرض.

وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَانَ يُساقِطُ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ»، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَي يَرْوِيهِ عَنْهُ فِي خِلالِ كلامِه كأَنه يَمْزُجُ حَدِيثَه بِالْحَدِيثِ عَنْ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْ أَسْقَطَ الشيءَ إِذا أَلْقاه ورَمَى بِهِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «أَنه شَرِبَ مِنَ السَّقِيطِ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ المتأَخرين فِي حَرْفِ السِّينِ، وَفَسَّرَهُ بالفَخّارِ، وَالْمَشْهُورُ فِيهِ لُغةً وَرِوَايَةً الشينُ الْمُعْجَمَةُ، وَسَيَجِيءُ، فأَمّا السَّقِيطُ، بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، فَهُوَ الثَّلْجُ والجَلِيدُ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


100-لسان العرب (نجا)

نجا: النَّجَاءُ: الخَلاص مِنَ الشَّيْءِ، نَجا يَنْجُو نَجْوًا ونَجاءً، مَمْدُودٌ، ونَجاةً، مَقْصُورٌ، ونَجَّى واسْتَنْجَى كنَجَا؛ قَالَ الرَّاعِي:

فإِلَّا تَنَلْني منْ يَزيدَ كَرامةٌ، ***أُنَجِّ وأُصْبحْ مِنْ قُرى الشَّامِ خالِيا

وَقَالَ أَبو زُبيد الطَّائِيُّ:

أَمِ اللَّيْثُ فاسْتَنْجُوا، وأَينَ نَجاؤُكُمْ؟ ***فَهذا، ورَبِّ الرَّاقِصاتِ، المُزَعْفَرُ

ونَجَوْت مِنْ كَذَا.

والصِّدْقُ مَنْجاةٌ.

وأَنْجَيْتُ غَيْرِي ونجَّيْته، وقرئَ بِهِمَا قَوْلَهُ تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}؛ الْمَعْنَى نُنَجِّيك لَا بفِعْل بَلْ نُهْلِكُكَ، فأَضْمَر قَوْلَهُ لَا بفِعْل؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَوْلُهُ لَا بِفِعْلٍ يُرِيدُ أَنه إِذا نَجَا الإِنسان بِبَدَنِهِ عَلَى الْمَاءِ بِلَا فِعْلٍ فإِنه هَالِكٌ، لأَنه لَمْ يَفعل طَفْوَه عَلَى الْمَاءِ، وإِنما يطفُو عَلَى الماءِ حَيًّا بِفِعْلِهِ إِذا كَانَ حَاذِقًا بالعَوْم، ونَجَّاهُ اللَّهُ وأَنْجَاه.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}، وأَما قراءَة مَنْ قرأَ: وَكَذَلِكَ نُجِّي المؤْمِنين، فَلَيْسَ عَلَى إِقامة الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْمَفْعُولِ الصَّرِيحِ، لأَنه عَلَى حَذْفِ أَحد نُونَيْ نُنْجِي، كَمَا حُذِفَ مَا بَعْدَ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {تَذَكَّرُونَ}، أَي تَتَذَكَّرون، وَيَشْهَدُ بِذَلِكَ أَيضًا سُكُونُ لَامِ نُجِّي، وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا لَانْفَتَحَتِ اللَّامُ إِلا فِي الضَّرُورَةِ؛ وَعَلَيْهِ قَوْلُ المُثَقَّب:

لِمَنْ ظُعُنٌ تَطالَعُ مِن صُنَيْبٍ؟ ***فَمَا خَرَجتْ مِن الْوَادِي لِحِينِ

أَي تتَطالَع، فَحَذَفَ الثَّانِيَةَ عَلَى مَا مَضَى، ونجَوْت بِهِ ونَجَوْتُه؛ وَقَوْلُ الْهُذَلِيِّ:

نَجا عامِرٌ والنَّفْسُ مِنه بشِدْقِه، ***وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرا

أَراد: إِلَّا بجَفْنِ سَيفٍ، فَحَذَفَ وأَوْصل.

أَبو الْعَبَّاسِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ}؛ أَي نُخَلِّصُك مِنَ الْعَذَابِ وأَهْلَك.

واستَنْجَى مِنْهُ حَاجَتَهُ: تخَلَّصها؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.

وانْتَجَى مَتاعَه: تَخلَّصه وسَلبَه؛ عَنْ ثَعْلَبٍ.

وَمَعْنَى نجَوْت الشيءَ فِي اللُّغَةِ: خَلَّصته وأَلْقَيْته.

والنَّجْوَةُ والنَّجَاةُ: مَا ارتفَع مِنَ الأَرض فَلَمْ يَعْلُه السَّيلُ فَظَنَنْتُهُ نَجاءَك، وَالْجَمْعُ نِجاءٌ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}؛ أَي نَجْعَلُكَ فَوْقَ نَجْوةٍ مِنَ الأَرض فنُظْهِرك أَو نُلْقِيك عَلَيْهَا لتُعْرَفَ، لأَنه قَالَ بِبَدَنِكَ وَلَمْ يَقُلْ برُوحِك؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ نُلْقِيكَ عُريانًا لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَك عِبْرَةً.

أَبو زَيْدٍ: والنَّجْوةُ المَكان المُرْتَفِع الَّذِي تَظُنُّ أَنه نَجَاؤُكَ.

ابْنُ شُمَيْلٍ: يُقَالُ للوادِي نَجْوة وَلِلْجَبَلِ نَجْوةٌ، فأَما نَجْوة الْوَادِي فسَنداه جَمِيعًا مُستَقِيمًا ومُسْتَلْقِيًا، كلُّ سَنَدٍ نَجْوةٌ، وَكَذَلِكَ هُوَ مِنَ الأَكَمةِ، وكلُّ سَنَدٍ مُشْرِفٍ لَا يَعْلُوهُ السَّيْلُ فَهُوَ نَجْوة لأَنه لَا يَكُونُ فِيهِ سَيْل أَبدًا، ونَجْوَةُ الجبَل مَنْبِتُ البَقْل.

والنَّجَاةُ: هِيَ النَّجْوَة مِنَ الأَرض لَا يَعلوها السَّيْلُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

فأَصُونُ عِرْضِي أَنْ يُنالَ بنَجْوةٍ، ***إِنَّ البَرِيَّ مِن الهَناةِ سَعِيدُ

وَقَالَ زُهَير بْنُ أَبي سُلْمى:

أَلم تَرَيا النُّعمانَ كَانَ بنَجْوةٍ، ***مِنَ الشَّرِّ، لَوْ أَنَّ امْرَأً كَانَ ناجِيا؟

وَيُقَالُ: نَجَّى فُلَانٌ أَرضَه تَنْجِيةً إِذا كبَسها مَخَافَةَ الغَرَقِ.

ابْنُ الأَعرابي: أَنْجى عَرِقَ، وأَنْجَى إِذا شَلَّح، يُقَالُ للِّصِّ مُشَلِّح لأَنه يُعَرِّي الإِنسانَ مِنْ ثِيَابِهِ.

وأَنْجَى: كشَفَ الجُلَّ عَنْ ظَهْرِ فَرَسِهِ.

أَبو حَنِيفَةَ: المَنْجَى المَوْضع الَّذِي لَا يَبْلُغه السيلُ.

والنَّجَاء: السُّرْعةُ فِي السَّيْرِ، وَقَدْ نَجَا نَجَاءً، ممدود، "وَهُوَ يَنْجُو فِي السُّرْعة نَجَاءً، وَهُوَ نَاجٍ: سَريعٌ.

ونَجَوْتُ نَجَاء أَي أَسرَعْتُ وسَبَقْتُ.

وَقَالُوا: النَّجَاءَ النَّجَاءَ والنَّجَا النَّجا، فَمَدُّوا وقَصَرُوا؛ قَالَ الشَّاعِرُ: " إِذا أَخَذْتَ النَّهْبَ فالنَّجَا النَّجَا وَقَالُوا: النَّجَاكَ فأَدخلوا الْكَافَ لِلتَّخْصِيصِ بِالْخِطَابِ، وَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الإِعراب لأَن الأَلف وَاللَّامَ مُعاقِبة للإِضافة، فَثَبَتَ أَنها كَكَافِ ذَلِكَ وأَرَيْتُك زَيْدًا أَبو مَنْ هُوَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « وأَنا النَّذِيرُ العُرْيان فالنَّجَاءَ النَّجاءَ» أَي انْجُوا بأَنفسكم، وَهُوَ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَي انْجُوا النَّجاء.

والنَّجاءُ: السُّرعة.

وَفِي الْحَدِيثِ: « إِنما يأْخذ الذِّئْبُ القاصِيةَ والشاذَّة الناجِيةَ »أَي السَّرِيعَةَ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا رُوِيَ عَنِ الْحَرْبِيِّ بِالْجِيمِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَتَوْكَ عَلَى قُلُصٍ نَواجٍ »أَي مُسْرِعاتٍ.

وَنَاقَةٌ نَاجِيةٌ ونَجَاة: سَرِيعَةٌ، وَقِيلَ: تَقطع الأَرض بِسَيْرِهَا، وَلَا يُوصف بِذَلِكَ الْبَعِيرُ.

الْجَوْهَرِيُّ: الناجِيةُ والنَّجاة النَّاقَةُ السَّرِيعَةُ تَنْجُو بِمَنْ ركبها؛ قال: والبَعير ناجٍ؛ وَقَالَ:

أَيّ قَلُوصِ راكِبٍ تَراها ***ناجِيةً وناجِيًا أَباها

وَقَوْلُ الأَعشى:

تَقْطَعُ الأَمْعَزَ المُكَوْكِبَ وخْدًا ***بِنَواجٍ سَرِيعةِ الإِيغالِ

أَي بقوائمَ سِراعٍ.

واسْتَنْجَى أَي أَسْرَعَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « إِذا سافَرْتُمْ فِي الجَدْب فاسْتَنْجُوا »؛ مَعْنَاهُ أَسْرِعُوا السيرَ وانْجُوا.

وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ إِذا انْهَزَمُوا: قَدِ اسْتَنْجَوْا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ لُقْمَانَ بْنِ عَادَ: أَوَّلُنا إِذا نَجَوْنا وآخِرُنا إِذا اسْتَنْجَيْنا أَي هُوَ حامِيَتُنا إِذا انْهَزَمْنا يَدفع عنَّا.

والنَّجْوُ: السَّحاب الَّذِي قَدْ هَراقَ مَاءَهُ ثُمَّ مَضَى، وَقِيلَ: هُوَ السَّحَابُ أَوَّل مَا يَنشأُ، وَالْجَمْعُ نِجاء ونُجُوٌّ؛ قَالَ جَمِيلٌ:

أَليسَ مِنَ الشَّقاءِ وَجِيبُ قَلْبي، ***وإِيضاعي الهُمُومَ مَعَ النُّجُوِّ

فأَحْزَنُ أَنْ تَكُونَ عَلَى صَدِيقٍ، ***وأَفْرَحُ أَن تَكُونَ عَلَى عَدُوِّ

يَقُولُ: نَحْنُ نَنْتَجِعُ الغَيْثَ، فإِذا كَانَتْ عَلَى صدِيقٍ حَزِنْت لأَني لَا أُصيب ثَمَّ بُثَيْنَة، دَعَا لَهَا بالسُّقْيا.

وأَنْجَتِ السحابةُ: وَلَّتْ.

وَحُكِيَ عَنْ أَبي عُبَيْدٍ: أَين أَنْجَتْكَ السَّمَاءُ أَي أَينَ أَمطَرَتْكَ.

وأُنْجِيناها بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا أَي أُمْطِرْناها.

ونَجْوُ السبُع: جَعْره.

والنَّجْوُ: مَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَطْنِ مِنْ رِيحٍ وَغَائِطٍ، وَقَدْ نَجا الإِنسانُ والكلبُ نَجْوًا.

والاسْتِنْجاء: الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ مِنَ النَّجْوِ والتَّمَسُّحُ بِالْحِجَارَةِ مِنْهُ؛ وَقَالَ كُرَاعٌ: هُوَ قَطْعُ الأَذَى بأَيِّهما كَانَ.

واسْتَنْجَيْتُ بالماءِ وَالْحِجَارَةِ أَي تَطَهَّرْت بِهَا.

الْكِسَائِيُّ: جلَست عَلَى الْغَائِطِ فَمَا أَنْجَيْتُ.

الزَّجَّاجُ: يُقَالُ مَا أَنْجَى فُلَانٌ شَيْئًا، وَمَا نَجَا مُنْذُ أَيام أَي لَمْ يأْتِ الغائطَ.

والاسْتِنجاء: التَّنَظُّف بمدَر أَو مَاءٍ.

واسْتَنجَى أَي مَسْحَ مَوْضِعَ النَّجْو أَو غَسَله.

وَيُقَالُ: أَنْجَى أَي أَحدَث.

وَشَرِبَ دَواء فَمَا أَنْجَاه أَي مَا أَقامه.

الأَصمعي: أَنْجَى فُلَانٌ إِذا جَلَسَ عَلَى الْغَائِطِ يَتَغَوَّط.

وَيُقَالُ: أَنْجَى الغائطُ نَفْسُه يَنجُو، وَفِي الصِّحَاحِ: نَجا الغائطُ نَفْسُه.

وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: أَقلُّ الطعامِ نَجْوًا اللَّحم.

والنَّجْوُ: العَذِرة نَفْسُه.

واسْتَنْجَيْتُ النخلةَ إِذا أَلقَطْتَها؛ وَفِي الصِّحَاحِ: إِذا لقطتَ رُطبَها.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ سَلَامٍ: « وإِني لَفِي عَذْقٍ أُنْجِي مِنْهُ رُطَبًا»؛ أي أَلتَقِطُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَسْتَنْجِي مِنْهُ بِمَعْنَاهُ.

وأَنْجَيْت قَضِيبًا مِنَ الشَّجَرَةِ فَقَطَعْتُه، واسْتَنْجَيْت الشجرةَ: قَطَعْتُها مِنْ أَصلها.

ونَجَا غُصونَ الشَّجَرَةِ نَجْوًا واسْتَنْجَاها: قَطَعها.

قَالَ شَمِرٌ: وأُرى الاسْتِنْجاءَ فِي الوُضوء مِنْ هَذَا لِقَطْعِه العَذِرةَ بالماءِ؛ وأَنْجَيت غَيْرِي.

واسْتَنجَيت الشَّجَرَ: قَطَعْتُهُ مِنْ أُصوله.

وأَنْجَيْتُ قَضِيبًا مِنَ الشَّجَرِ أَي قَطَعْتُ.

وَشَجَرَةٌ جَيِّدة النَّجا أَي الْعُودِ.

والنَّجا: الْعَصَا، وَكُلُّهُ مِنَ الْقَطْعِ.

وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: النَّجا الغُصونُ، وَاحِدَتُهُ نَجاةٌ.

وفُلان فِي أَرضِ نَجاةٍ: يَسْتَنجِي مِنْ شَجَرِهَا العِصِيَّ والقِسِيَّ.

وأَنْجِنِي غُصنًا مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَي اقْطَعْ لِي مِنْهَا غُصْنًا.

والنَّجا: عِيدانُ الهَوْدَج.

ونَجَوْتُ الوَتَر واسْتَنجَيتُه إِذا خَلَّصته.

واسْتَنْجَى الجازِرُ وتَرَ المَتْنِ: قَطَعه؛ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ:

فَتَبازَتْ فَتَبازَخْتُ لهَا، ***جِلْسةَ الجازِرِ يَسْتَنْجِي الوَتَرْ

وَيُرْوَى: جِلْسةَ الأَعْسَرِ.

الْجَوْهَرِيُّ: اسْتَنْجَى الوَتَر أَي مَدَّ الْقَوْسَ، وأَنشد بَيْتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ، قَالَ: وأَصله الَّذِي يَتَّخذ أَوْتارَ القِسِيّ لأَنه يُخرج مَا فِي المَصارِين مِنَ النَّجْو.

وَفِي حَدِيثِ بِئْرِ بُضاعةَ: « تُلقَى فِيهَا المَحايِضُ وَمَا يُنْجِي الناسُ »أَي يُلقُونه مِنَ الْعَذَرَةِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: يُقَالُ مِنْهُ أَنْجَى يُنْجِي إِذا أَلقَى نَجْوه، ونَجا وأَنْجَى إِذا قَضَى حَاجَتَهُ مِنْهُ.

والاسْتِنجاءُ: اسْتِخْراج النَّجْو مِنَ الْبَطْنِ، وَقِيلَ: هُوَ إِزالته عَنْ بَدَنِهِ بالغَسْل والمَسْح، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ نَجَوْت الشَّجَرَةَ وأَنْجَيْتُها إِذا قَطَعْتَهَا، كأَنه قَطَعَ الأَذَى عَنْ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ النَّجْوَة، وَهُوَ مَا ارْتَفع مِنَ الأَرض كأَنه يَطلُبها لِيَجْلِسَ تَحْتَهَا.

وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: قِيلَ لَهُ فِي مَرَضِهِ كيفَ تجِدُك؟ قَالَ: أَجِدُ نَجْوِي أَكثرَ مِن رُزْئي "أَي مَا يَخْرُجُ مِنِّي أَكثَرَ مِمَّا يَدْخُلُ.

والنَّجَا، مَقْصُورٌ: مِنْ قَوْلِكَ نَجَوْتُ جِلدَ الْبَعِيرِ عَنْهُ وأَنْجَيْتُه إِذا سَلَخْتَه.

ونَجا جِلدَ الْبَعِيرِ والناقةِ نَجْوًا ونَجًا وأَنْجَاه: كشَطَه عَنْهُ.

والنَّجْوُ والنَّجَا: اسْمُ المَنْجُوّ؛ قَالَ يُخَاطِبُ ضَيْفَينِ طَرَقاه:

فقُلْتُ: انْجُوَا عَنْهَا نَجا الجِلدِ، إِنَّه ***سَيُرْضِيكما مِنها سَنامٌ وغارِبُهْ

قَالَ الْفَرَّاءُ: أَضافَ النَّجَا إِلى الجِلد لأَن الْعَرَبُ تُضيف الشَّيْءَ إِلى نَفْسِهِ إِذا اخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {لَحَقُّ الْيَقِينِ ولَدارُ الْآخِرَةِ}.

والجِلدُ نَجًا، مَقْصُورٌ أَيضًا؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَمِثْلُهُ لِيَزِيدَ بْنِ الْحَكَمِ:

تُفاوضُ مَنْ أَطْوِي طَوَى الكَشْحِ دُونه، ***ومِنْ دُونِ مَنْ صافَيْتُه أَنتَ مُنْطَوِي

قَالَ: ويُقَوِّي قَوْلَ الْفَرَّاءِ بَعْدَ الْبَيْتِ قَوْلُهُمْ عِرْقُ النَّسا وحَبْل الوَرِيد وَثَابِتُ قُطْنةَ وسعِيد كُرْزٍ.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ: يُقَالُ نَجَوْت جِلدَ الْبَعِيرِ، وَلَا يُقَالُ سَلَخته، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبو زَيْدٍ؛ قَالَ: وَلَا يُقَالُ سَلَخته إِلا فِي عُنُقه خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ جَسَدِهِ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِي آخِرِ كِتَابِهِ إِصلاح الْمَنْطِقِ: جَلَّدَ جَزُوره وَلَا يُقَالُ سَلَخه.

الزَّجَّاجِيُّ: النَّجا مَا سُلخ عَنِ الشَّاةِ أَو الْبَعِيرِ، والنَّجا أَيضًا مَا أُلقي عَنِ الرَّجل مِنَ اللِّبَاسِ.

التَّهْذِيبُ: يُقَالُ نَجَوْت الجِلد إِذا أَلقَيْته عَنِ الْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: أَصل هَذَا كُلِّهِ مِنَ النَّجْوة، وَهُوَ مَا ارْتَفع مِنَ الأَرض، وَقِيلَ: إِن الاستِنْجاء مِنَ الحَدث مأْخوذ مِنْ هَذَا لأَنه إِذا أَراد قَضَاءَ الْحَاجَةِ اسْتَتَرَ بنَجْوةٍ مِنَ الأَرض؛ قَالَ عَبِيدٌ:

فَمَنْ بِنَجْوَتِه كمَنْ بِعَقْوته، ***والمُستَكِنُّ كمَنْ يَمْشِي بقِرواحِ

ابْنُ الأَعرابي: بَيْني وَبَيْنَ فُلَانٍ نَجَاوَةٌ مِنَ الأَرض أَي سَعة.

الْفَرَّاءُ: نَجَوْتُ الدَّواءَ شَربته، وَقَالَ: إِنما كُنْتُ أَسمع مِنَ الدَّوَاءِ مَا أَنْجَيْته، ونَجَوْتُ الجِلد وأَنْجَيْتُه.

ابْنُ الأَعرابي: أَنْجَانِي الدَّواءُ أَقْعدَني.

ونَجَا فُلَانٌ يَنْجُو إِذا أَحْدَث ذَنْبًا أَو غَيْرَ ذَلِكَ.

ونَجَاهُ نَجْوًا ونَجْوَى: سارَّه.

والنَّجْوَى والنَّجِيُّ: السِّرُّ.

والنَّجْوُ: السِّرُّ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يُقَالُ: نَجَوْتُه نَجْوًا أَي سارَرْته، وَكَذَلِكَ ناجَيْتُه، وَالِاسْمُ النَّجْوى؛ وَقَالَ:

فبِتُّ أَنْجُو بِهَا نَفْسًا تُكَلِّفُني ***مَا لَا يَهُمُّ بِهِ الجَثَّامةُ الوَرَعُ

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَإِذْ هُمْ نَجْوى}؛ فَجَعَلَهُمْ هُمُ النَّجْوى، وإِنما النَّجْوى فِعلهم، كَمَا تَقُولُ قَوْمٌ رِضًا، وإِنما رِضًا فِعْلهم.

والنَّجِيُّ، عَلَى فَعِيل: الَّذِي تُسارُّه، وَالْجَمْعُ الأَنْجِيَة.

قَالَ الأَخفش: وَقَدْ يَكُونُ النَّجِيُّ جَماعة مِثْلُ الصدِيق، قَالَ اللَّهُ تعالى: {خَلَصُوا نَجِيًّا}.

قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَدْ يَكُونُ النَّجِيُّ والنَّجْوى اسْمًا وَمَصْدَرًا.

وَفِي حَدِيثِ الدُّعاء: « اللَّهُمَّ بمُحمد نبيِّك وبمُوسى نَجِيِّك »؛ هُوَ المُناجِي المُخاطِب للإِنسان والمحدِّث لَهُ، وَقَدْ تنَاجَيا مُناجاة وانْتِجاء.

وَفِي الْحَدِيثِ: « لَا يَتَنَاجى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَنْتَجِي اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا» أَي لَا يَتَسارَران مُنْفَردَيْن عَنْهُ لأَن ذَلِكَ يَسوءُه.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: « دعاهُ رسولُ اللَّهِ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الطَّائِفِ فانْتَجاه فَقَالَ الناسُ: لَقَدْ طالَ نَجْواهُ فَقَالَ: مَا انْتَجَيْتُه ولكنَّ اللهَ انْتَجَاه أَي أَمَرَني أَن أُناجِيه.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: « قِيلَ لَهُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْوَى؟ يُريد مناجاةَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَفِي حَدِيثٍ الشَّعْبِيُّ: إِذا عَظُمت الحَلْقة فَهِيَ بِذاء ونِجاء أَي مُناجاة، يَعْنِي يَكْثُرُ فِيهَا ذَلِكَ.

والنَّجْوَى والنَّجِيُّ: المُتسارُّون.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَإِذْ هُمْ نَجْوى}؛ قَالَ: هَذَا فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وإِذْ هُمْ ذَوُو نَجْوى، والنَّجْوى اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ}؛ يَكُونُ عَلَى الصِّفَةِ والإِضافة.

ونَاجَى الرجلَ مُنَاجَاةً ونِجَاءً: سارَّه.

وانْتَجَى القومُ وتَناجَوْا: تَسارُّوا؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ:

قَالَتْ جَواري الحَيِّ لَمَّا جِينا، ***وهنَّ يَلْعَبْنَ ويَنْتَجِينا:

مَا لِمَطايا القَوْمِ قَدْ وَجِينا؟ والنَّجِيُّ: المُتناجون.

وَفُلَانٌ نجِيُّ فُلَانٍ أَي يُنَاجِيهِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}؛ أَي اعْتَزَلُوا مُتَناجين، وَالْجَمْعُ أَنْجِيَةٌ؛ قَالَ: " وَمَا نَطَقُوا بأَنْجِيَةِ الخُصومِ وَقَالَ سُحَيْم بْنُ وَثِيل اليَرْبُوعِي:

إِني إِذا مَا القَوْمُ كَانُوا أَنْجِيَهْ، ***واضْطرب القَوْمُ اضْطرابَ الأَرْشِيَهْ،

هُناكِ أَوْصِيني وَلَا تُوصي بِيَهْ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: حَكَى الْقَاضِي الْجُرْجَانِيُّ عَنِ الأَصمعي وَغَيْرِهِ أَنه يَصِفُ قَوْمًا أَتعبهم السَّيْرُ وَالسَّفَرُ، فَرَقَدُوا عَلَى رِكابهم وَاضْطَرَبُوا عَلَيْهَا وشُدَّ بَعْضُهُمْ عَلَى نَاقَتِهِ حِذارَ سُقُوطِهِ مِنْ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: إِنما ضَرَبَهُ مَثَلًا لِنُزُولِ الأَمر الْمُهِمِّ، وَبِخَطِّ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ: هُناكِ، بِكَسْرِ "الْكَافِ، وَبِخَطِّهِ أَيضًا: أَوْصِيني وَلَا تُوصِي، بإِثبات الْيَاءِ، لأَنه يُخَاطِبُ مُؤَنَّثًا؛ وَرُوِيَ عَنْ أَبي الْعَبَّاسِ أَنه يَرْوِيهِ: " واخْتَلَفَ القومُ اخْتلافَ الأَرْشِيَهْ "قَالَ: وَهُوَ الأَشهر فِي الرِّوَايَةِ؛ وَرُوِيَ أَيضًا: " والْتَبَسَ القومُ الْتِباسَ الأَرشيه "وَرَوَاهُ الزَّجَّاجُ: وَاخْتَلَفَ الْقَوْلُ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِسُحَيْمٍ أَيضًا:

قالتْ نِساؤُهم، والقومُ أَنْجِيَةٌ ***يُعْدَى عَلَيْهَا، كَمَا يُعْدى عَلَى النّعَمِ

قَالَ أَبو إِسحاق: نجِيٌّ لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي مَعْنَى جَمِيعٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوى}؛ وَيَجُوزُ: قومٌ نَجِيٌّ وقومٌ أَنْجِيةٌ وقومٌ نَجْوى.

وانْتَجاه إِذا اختصَّه بمُناجاته.

ونَجَوْتُ الرَّجُلَ أَنْجُوه إِذا ناجَيْتَه.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ}؛ قَالَ أَبو إِسحاق: مَعْنَى النَّجْوى فِي الْكَلَامِ مَا يَنْفَرِد بِهِ الْجَمَاعَةُ وَالِاثْنَانِ، سِرًّا كَانَ أَو ظَاهِرًا؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ثَعْلَبٌ: " يَخْرُجْنَ منْ نَجِيِّه لِلشَّاطِي "فَسَّرَهُ فَقَالَ: نجِيُّه هُنَا صَوْتُهُ، وإِنما يَصِفُ حَادِيًا سَوَّاقًا مُصَوِّتًا.

ونَجاه: نكَهه.

ونَجَوْت فُلَانًا إِذا استَنْكَهْته؛ قَالَ:

نَجَوْتُ مُجالِدًا، فوَجَدْتُ مِنْهُ ***كَرِيحِ الْكَلْبِ ماتَ حَديثَ عَهْدِ

فقُلْتُ لَهُ: مَتى استَحْدَثْتَ هَذَا؟ ***فَقَالَ: أَصابَني فِي جَوْفِ مَهْدي

وَرَوَى الْفَرَّاءُ أَن الْكِسَائِيَّ أَنشده:

أَقولُ لِصاحِبَيَّ وَقَدْ بَدا لِي ***مَعالمُ مِنْهُما، وهُما نَجِيَّا

أَراد نَجِيَّانِ فَحَذَفَ النُّونَ؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَي هُمَا بِمَوْضِعِ نَجْوَى، فَنَصَبَ نَجِيًّا عَلَى مَذْهَبِ الصِّفَةِ.

وأَنْجَت النَّخْلَةُ فأَجْنَتْ؛ حَكَاهُ أَبو حَنِيفَةَ.

واسْتَنْجَى الناسُ فِي كُلِّ وَجْهٍ: أَصابُوا الرُّطب، وَقِيلَ: أَكلوا الرُّطَبَ.

قَالَ: وَقَالَ غَيْرُ الأَصمعي كُلُّ اجْتِنَاءٍ استِنْجاءٌ، يُقَالُ: نَجوْتُك إِياه؛ وأَنشد:

ولقَدْ نَجَوْتُك أَكْمُؤًا وعَساقِلًا، ***وَلَقَدْ نَهَيْتُك عَنْ بَناتِ الأَوْبَرِ

وَالرِّوَايَةُ الْمَعْرُوفَةُ جَنيْتُك، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ.

والنُّجَوَاءُ: التَّمَطِّي مِثْلَ المُطَواء؛ وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ البرْصاء:

وهَمٌّ تأْخُذُ النجَواء مِنه، ***يُعَلُّ بصالِبٍ أَو بالمُلالِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ النُّحَواء، بِحَاءٍ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ، وَهِيَ الرِّعْدة، قَالَ: وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ عَنْ أَبي عَمْرٍو بْنِ الْعَلَاءِ وَابْنِ ولَّاد وأَبو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ وَغَيْرِهِ، والمُلالُ: حَرَارَةُ الحمَّى الَّتِي لَيْسَتْ بصالبٍ، وَقَالَ المُهَلَّبي: يُرْوَى يُعَكُّ بصالِبٍ.

وناجِيةُ: اسْمٌ.

وَبَنُو ناجيةَ: قَبِيلَةٌ؛ حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ.

الْجَوْهَرِيُّ: بَنُو ناجيةَ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالنِّسْبَةُ إِليهم ناجِيٌّ، حُذِفَ مِنْهُ الْهَاءُ وَالْيَاءُ، والله أَعلم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


101-مقاييس اللغة (خوى)

(خَوَى) الْخَاءُ وَالْوَاوُ وَالْيَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الْخُلُوِّ وَالسُّقُوطِ.

يُقَالُ خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي.

"وَخَوَى النَّجْمُ، إِذَا سَقَطَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ سُقُوطِهِ مَطَرٌ; وَأَخْوَى أَيْضًا."

قَالَ:

وَأَخْوَتْ نَجُومُ الْأَخْذِ إِلَّا أَنِضَّةً *** أَنِضَّةَ مَحْلٍ لَيْسَ قَاطِرُهَا يُثْرِي

وَخَوَّتِ النُّجُومُ تَخْوِيَةً، إِذَا مَالَتْ لِلْمَغِيبِ.

وَخَوَّتِ الْإِبِلُ تَخْوِيَةً، إِذَا خُمِصَتْ بُطُونُهَا.

وَخَوِيَتِ الْمَرْأَةُ خَوًى، إِذَا لَمْ تَأْكُلْ عِنْدَ الْوِلَادَةِ.

وَيُقَالُ خَوَّى الرَّجُلُ، إِذَا تَجَافَى فِي سُجُودِهِ، وَكَذَا الْبَعِيرُ إِذَا تَجَافَى فِي بُرُوكِهِ.

"وَهُوَ قِيَاسُ الْبَابِ ; لِأَنَّهُ إِذَا خَوَّى فِي سُجُودِهِ فَقَدْ أَخْلَى مَا بَيْنَ عَضُدِهِ وَجَنْبِهِ."

وَخَوَّتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ جُلُوسِهَا عَلَى الْمِجْمَرِ.

وَخَوَّى الطَّائِرُ، إِذَا أَرْسَلَ جَنَاحَيْهِ.

فَأَمَّا الْخَوَاةُ فَالصَّوْتُ.

وَقَدْ قُلْنَا إِنَّ أَكْثَرَ ذَلِكَ لَا يَنْقَاسُ، وَلَيْسَ بِأَصْلٍ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


102-المحيط في اللغة (بخر)

البَخَرُ: رِيْحٌ كَرِيْهٌ من الفَم، بَخِرَ بَخَرًا فهو أبْخَرُ والمرأةُ بَخْرَاءُ.

والبَخْرُ: فِعْلُ البُخَار من كل ما يَسْطَعُ.

والبَخُوْرُ: دُخْنَةٌ يُتَبَخَّرُ بها.

وبَنَاتُ بَخْرٍ: سَحَاباتٌ بِيْضٌ، الواحدة بِنْتُ بَخْرٍ.

وهذه بَخْرَةُ السَمَاك: إذا أصابكَ المَطَرُ عند سُقوطِه.

المحيط في اللغة-الصاحب بن عباد-توفي: 385هـ/995م


103-القانون (صاحب الفضلة أو الرد (الزائد))

صاحب الفضلة أو الرد (الزائد): من آل إليه الحق العقاري بعد انقضاء حق الغير فيه أو سقوطه أو نفاده.

المعجم القانوني (الفاروقي)


104-القانون (براءة بدلية)

براءة بدلية: تصرف لشخص كي يحل محل آخر سبق أن صرف له مثلها لكنه قعد عن ممارسة حقه مدة معينة أدت إلى سقوطه واقتضت إحلال غيره فيه ببراءة جديدة ترتب إصدارها على سقوط البراءة الأولى.

المعجم القانوني (الفاروقي)


105-القانون (ينقضي؛ يمر؛ يزول)

ينقضي؛ يمر؛ يزول: يسقط؛ يفوت؛ يتلاشى تدريجيًا؛ يفلت؛ يتسرب؛ يزل (بكسر الزاي) أو يزلق؛ يتحول أو يميل عن نهج صحيح.] كاسم [انقضاء (زمن)؛ زوال (حق) أو سقوطه نتيجة التخلي عنه أو إهمال ملاحقته.] إجراءات جنائية [سقوط (الحق) بموت أحد الخصوم أو غير ذلك مما ينص عليه القانون من أسباب السقوط.] في الوصايا [سقوط (الهبة الإيصائية) بموت الموصى له أو حدوث ما يمنعه من الانتفاع بالوصية.

المعجم القانوني (الفاروقي)


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com