شعار الموقع

نتائج البحث عن (شِهِدَا)

1-شمس العلوم (الشطير)

الكلمة: الشطير. الجذر: شطر. الوزن: فَعِيل.

[الشطير]: الغريب.

والشطير: البعيد، قال:

لا تتركنّي فيهمُ شطيرا *** إِني إِذًا أهلكَ أو أطيرا

وفي حديث القاسم بن محمد بن أبي بكر: «لو أن رجلين شهدا لرجلٍ على حق أحدهما شطير فإِنه يحمل شهادة الآخر»: أي إِذا كان أحدهما بعيد النسب من المشهود له صحت الشهادة، وإِن كان الآخر قريبًا له.

ونحو ذلك في حديث قتادة: «الابن للأب، والأب للابن، أو الأخ لأخيه، أو الزوج لامرأته، كل ما كان من هذا معه شطير جاز».

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


2-المعجم الاشتقاقي المؤصل (وجه)

(وجه): {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].

وَجْهُ البيت: الحد الذي يكون فيه بابه. ووَجْه الكعبة (زادها الله تشريفًا وتكريمًا): الحد الذي فيه الباب. ووَجْه الإنسان وغيره: معروف. وجّه السُدْفة أي الحجاب - ض: كشفه وأزاله، والمطر الأرضَ: قَشَر وجهها وأثر فيه - كَحَرصَها (قشرها)، والريح الحصى: ساقته.

° المعنى المحوري

مُقْتَبَل ملامح الشيء ومقدَّمه المكشوف الذي يُعرف به وتعرف حقيقته. كوجه البيت والكعبة والإنسان والحيوان، وكتبين ما وراء الحجاب وما تحت الحصى من سطح الأرض. ومنه "الوجيه من الخيل: الذي تخرج يداه معًا عند النتاج (يخرج بمقدمه). فمن الوجه المعروف {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144 وكذا 149، 150]، {فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} [يوسف: 93] , وسائر كلمة (وجه) في القرآن إما حقيقة وإما كناية مع التوسع في معناها - مثل {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] وكذا {أَقِمْ وَجْهَكَ} [يونس: 105، الروم: 30، 143] {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] انصبوا قلوبكم مع وجوهكم عند كل داعية سجود (أخذًا من الإقامة ومن الوجه الذات) [وينظر قر 7/ 188، بحر 4/ 289]. {أَسْلَمَ وَجْهَهُ} [البقرة 112، النساء 125، وكذا ما في آل عمران 20، لقمان 22]، {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79]، {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج: 11]، {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} [طه: 111] خص الوجوه لأن آثار الذل إنما تظهر أولا في الوجوه [بحر 6/ 260] أقول وكذا غير الذل. {مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} {سِيْئَتْ وُجُوهُ} [الملك 22، 27]، {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: 7]. وسائر ما بقى أيضًا تصلح فيه الكناية {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] أي على ما شهدا (وانكشف لهما) حقيقة دون إنكار،

ولا تحريف، ولا كذب [بحر 4/ 51] {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]: أي قِبلةُ الله. [طب 2/ 536] وتفسير هذا بأنه تعبير عن قرب المولى عز وجل من عباده في كل مكان وزمان وحال أنسب للإطلاق في (أينما)، {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] (أي طلبًا للوصول إليه أي إلى رضوانه عز وجل وكذا كل {ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} {وَجْهِ رَبِّهِمْ} وما بمعناها {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] ذاته عز وجل): قبلة [طب 3/ 148]. ووَجْهُ النهار: أوله (ملتقاه) {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} [آل عمران: 72]. والوجهة - بالكسر: القبلة (طريق ومنحى إلى الملتقى).. {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] ووجّهه - ض: أرسله (الأصل: أداره إلى ملتقَى) {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل: 76] {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 22]. وأما توجه الرجل: كَبِر سِنُّه وولّى. فمن المعنى وكأن المراد توجه إلى لقاء ربه. و "الوِجَاه والتِجاه: الوجه الذي تقصده. والجاه: المنزلة والقدر عند السلطان (مقلوب من الوجه: أي هو ذو وَجْه يُقْصَد أو هو جِهة تُقْصَد). ورجل مُوَجَّه - كمعظم ووجيه: ذو جاه ". {وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] , {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [آل عمران: 45]: ذا وجه ومنزلة عالية عند الله وشرفٍ وكرامة. يقال للرجل الذي يَشْرُفُ وتعظّمُه الملوكُ والناسُ وَجِيه [طب 6/ 415] - كأن أصل المراد: ذو وجه كريم أو شريف).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


3-المعجم الجغرافي للسعودية (فرعة)

فرعة: في رجال ألمع، بمنطقة إمارة بلاد عسير: فرعة آل شهدا وفرعة المسيل.

المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م


4-معجم البلدان (قاسيون)

قَاسِيُونُ:

بالفتح، وسين مهملة، والياء تحتها نقطتان مضمومة، وآخره نون: وهو الجبل المشرف على مدينة دمشق وفيه عدّة مغاور وفيها آثار الأنبياء وكهوف، وفي سفحه مقبرة أهل الصلاح، وهو جبل معظّم مقدّس يروى فيه آثار وللصالحين فيه أخبار، قال القاضي محيي الدين أبو حامد محمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري وهو بحلب يرثي كمال الدين قاضي القضاة بالشام وقد مات بدمشق سنة 572:

«ألمّوا بسفحي قاسيون فسلّموا *** على جدث بادي السّنا وترحّموا»

«وأدّوا إليه عن كئيب تحيّة *** يكلّفكم إهداءها القلب لا الفم»

«وبالرّغم من نأي أناجيه بالمنى، *** وأسأل مع بعد المدى من يسلّم»

«ولو أنّني أسطيع وافيت ماشيا *** على الرأس أستاف التراب وألثم»

«لحى الله دهرا لا تزال صروفه *** على الصّيد من أبنائه تتغشرم»

«إذا ما رأينا منه يوما بشاشة *** أتانا قطوب بعده وتجهّم»

«ومن عرف الدنيا ولؤم طباعها *** وأصبح مغرورا بها فهو ألأم»

«تردّيك وشيا معلما وهو صارم، *** وتعطيك كفّا رخصة وهو لهذم»

«وتصفيك ودّا ظاهرا وهي فارك، *** وتسقيك شهدا رائقا وهو علقم»

«فأين ملوك الأرض كسرى وقيصر، *** وأين مضى من قبل عاد وجرهم»

«كأنهم لم يسكنوا الأرض مرّة *** ولم يأمروا فيها ولم يتحكّموا»

«سلبت أبا يا دهر منّي ممدّحا، *** وإني إن لم أبكه لمذمّم»

«وقد كان من أقصى أمانيّ أنّني *** أجرّع كاسات الحمام ويسلم»

«سأنسي الورى الخنساء حزنا وحسرة، *** ويخجل من وجدي عليه متمّم»

«لقد عظمت بالرّغم منّي مصيبتي، *** وإنّ ثوابي، لو صبرت، لأعظم»

«وكيف أرجّي الصبر والقلب تابع *** لأمر الأسى فيما يقول ويحكم؟»

«وما الصبر إلا طاعة غير أنه *** على مثل رزئي فيك رزء ومأثم»

«سلام عليكم، أهل جلّق، واصل *** إليكم يواليه وداد مخيّم»

«وأوصيكم بالجار خيرا، فإنه *** يعزّ على أهل الوفاء ويكرم»

وبه مغارة تعرف بمغارة الدم يقال بها قتل قابيل أخاه هابيل وهناك شبيه بالدم يزعمون أنه دمه باق إلى الآن وهو يابس وحجر ملقى يزعمون أنه الحجر الذي فلق به هامته، وفيه مغارة الجوع يزعمون أنه مات بها أربعون نبيّا.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


5-موسوعة الفقه الكويتية (استفسار)

اسْتِفْسَار

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِفْسَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَفْسَرْتُهُ كَذَا إِذَا سَأَلْتُهُ أَنْ يُفَسِّرَهُ لِي.

وَلَا يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ فِي الْفِقْهِ عَنْهُ فِي اللُّغَةِ.

وَهُوَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: طَلَبُ ذِكْرِ مَعْنَى اللَّفْظِ، حِينَ تَكُونُ فِيهِ غَرَابَةٌ أَوْ إِجْمَالٌ.

فَالِاسْتِفْسَارُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَخَصُّ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْفِقْهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- السُّؤَالُ:

2- السُّؤَالُ هُوَ: الطَّلَبُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَلَبَ تَوْضِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَقَوْلِكَ: سَأَلْتُهُ عَنْ كَذَا، وَسَأَلْتُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.أَمَّا الِاسْتِفْسَارُ فَهُوَ خَاصٌّ بِطَلَبِ التَّوْضِيحِ.

ب- الِاسْتِفْصَالُ:

3- الِاسْتِفْصَالُ هُوَ طَلَبُ التَّفْصِيلِ (ر: اسْتِفْصَالٌ)، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الِاسْتِفْسَارِ، لِأَنَّ التَّفْسِيرَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ التَّفْصِيلِ، كَمَا فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ بِمُرَادِفِهِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

4- حُكْمُهُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:

الِاسْتِفْسَارُ مِنْ آدَابِ الْمُنَاظَرَةِ، فَإِذَا خَفِيَ عَلَى الْمُنَاظِرِ مَفْهُومُ كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ لِإِجْمَالٍ أَوْ غَرَابَةٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ اسْتَفْسَرَهُ، وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ بَيَانُ مُرَادِهِ عِنْدَ الِاسْتِفْسَارِ، حَتَّى لَا يَكُونَ هُنَاكَ لَبْسٌ وَلَا إيهَامٌ، وَحَتَّى تَجْرِي الْمُنَاظَرَةُ عَلَى خَيْرِ الْوُجُوهِ.

مِثَالُ الْإِجْمَالِ: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: يَلْزَمُ الْمُطَلَّقَةَ أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ، فَيَطْلُبُ الْمُنَاظِرُ تَفْسِيرَ الْقُرْءِ، لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الطُّهْرِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْحَيْضِ.

وَمِثَالُ الْغَرَابَةِ قَوْلُهُ: لَا يَحِلُّ السِّيدُ (بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ الْيَاءِ) فَيَسْتَفْسِرُ الْمُنَاظِرُ مَعْنَاهُ، فَيُجِيبُهُ بِأَنَّهُ الذِّئْبُ.

هَذَا، وَيَعُدُّ الْأُصُولِيُّونَ الِاسْتِفْسَارَ مِنْ جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضَاتِ بِمَعْنَى الْقَوَادِحِ، وَيُرَتِّبُونَهُ فِي أَوَّلِهَا، وَمَوْطِنُ اسْتِيفَائِهِ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.

حُكْمُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

5- عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْتَفْسِرَ ذَوِي الْعَلَاقَةِ الْأُمُورَ الْغَامِضَةَ، لِيَكُونَ فِي حُكْمِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، كَاسْتِفْسَارِهِ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مُبْهَمٍ، وَاسْتِفْسَارِهِ الشَّاهِدَ السَّبَبَ، كَمَا إِذَا شَهِدَا أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّفْصِيلِ.

6- وَقَدْ لَا يَجِبُ الِاسْتِفْسَارُ لِاعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ، كَاسْتِفْسَارِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِيَمِينِهِ، وَلَا يُسْتَفْسَرُ كَيْفِيَّةُ حُصُولِ الْإِكْرَاهِ، دَرْءًا لِلْحُدُودِ مَا أَمْكَنَ، خِلَافًا لِلْأَذْرَعِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِ بِوُجُوبِ الِاسْتِفْسَارِ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

7- بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَوْرَدُوا الْمَبَادِئَ الْمَنْطِقِيَّةَ، كَمُقَدِّمَةٍ لِعِلْمِ الْأُصُولِ، وَذَكَرُوا الِاسْتِفْسَارَ ضِمْنَهَا، وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُهُ فِي مَبَاحِثِ الْقَوَادِحِ فِي الدَّلِيلِ.

كَمَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ، حِينَ الْكَلَامِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمُبْهَمٍ، وَفِي بَحْثِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، بِمُنَاسَبَةِ كَلَامِهِمْ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ، هَلْ يُسْتَفْسَرُ؟ وَفِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَجِبُ فِيهِ ذِكْرُ سَبَبِ الشَّهَادَةِ، وَفِي كِتَابِ الْقَضَاءِ كَذَلِكَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


6-موسوعة الفقه الكويتية (تذكر)

تَذَكُّرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّذْكِيرُ وَالتَّذَكُّرُ: مِنْ مَادَّةِ ذَكَرَ، ضِدُّ نَسِيَ، يُقَالُ: ذَكَرْتُ الشَّيْءَ بَعْدَ نِسْيَانٍ، وَذَكَرْتُهُ بِلِسَانِي، وَقَلْبِي، وَتَذَكَّرْتُهُ، وَأَذْكَرْتُهُ غَيْرِي، وَذَكَّرْتُهُ تَذْكِيرًا.

وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- السَّهْوُ:

2- السَّهْوُ فِي اللُّغَةِ: نِسْيَانُ الشَّيْءِ وَالْغَفْلَةُ عَنْهُ وَذَهَابُ الْقَلْبِ إِلَى غَيْرِهِ، فَالسَّهْوُ عَنِ الصَّلَاةِ: الْغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: السَّهْوُ مِنَ الشَّيْءِ: تَرْكُهُ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَالسَّهْوُ عَنْهُ: تَرْكُهُ مَعَ الْعِلْمِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}.

وَاصْطِلَاحًا، قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ: السَّهْوُ زَوَالُ الصُّورَةِ عَنِ الْمُدْرِكَةِ مَعَ بَقَائِهَا فِي الْحَافِظَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الذُّهُولُ عَنِ الشَّيْءِ، بِحَيْثُ لَوْ نُبِّهَ لَهُ أَدْنَى تَنْبِيهٍ لَتَنَبَّهَ

وَفِي الْمِصْبَاحِ: إِنَّ السَّهْوَ لَوْ نُبِّهَ صَاحِبُهُ لَمْ يَتَنَبَّهْ

ب- النِّسْيَانُ:

3- النِّسْيَانُ: ضِدُّ الذِّكْرِ وَالْحِفْظِ، يُقَالُ: نَسِيَهُ نَسْيًا، وَنِسْيَانًا، وَهُوَ تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى التَّرْكِ عَنْ عَمْدٍ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أَيْ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَحَرَمَهُمْ رَحْمَتَهُ.وَيُقَالُ: رَجُلٌ نِسْيَانٌ أَيْ: كَثِيرُ النِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ.

وَاصْطِلَاحًا: هُوَ الذُّهُولُ عَنِ الشَّيْءِ، لَكِنْ لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ بِأَدْنَى تَنْبِيهٍ، لِكَوْنِ الشَّيْءِ قَدْ زَالَ مِنَ الْمُدْرِكَةِ وَالْحَافِظَةِ مَعًا، فَيَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

تَذَكُّرُ الْمُصَلِّي لِصَلَاتِهِ بَعْدَ الْأَكْلِ فِيهَا:

4- قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لَا تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَإِنْ كَثُرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَلَّ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إِذَا كَانَ قَلِيلًا.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (صَلَاةٍ) (وَنِسْيَانٍ).

سَهْوُ الْإِمَامِ:

5- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ بِعَدَمِ الْإِتْمَامِ لَا يُعْتَبَرُ شَكُّهُ، وَعَلَيْهِ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمْ.أَمَّا إِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ فِي صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ مَثَلًا أَنَّهُ مَا صَلَّى أَرْبَعًا، وَشَكَّ فِي صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ أَعَادَ احْتِيَاطًا.أَمَّا إِذَا كَذَّبَهُ، فَلَا يُعِيدُ.وَإِنِ اخْتَلَفَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ فَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ لَمْ يُعِدْ، وَإِلاَّ أَعَادَ بِقَوْلِهِمْ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَخْبَرَتْهُ جَمَاعَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ، يُفِيدُ خَبَرُهُمُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِتَمَامِ صَلَاتِهِ أَوْ نَقْصِهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِخَبَرِهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ مَأْمُومِيهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ تَيَقَّنَ كَذِبَهُمْ.وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ فَأَكْثَرُ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِالْخَبَرِ إِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ خِلَافَ ذَلِكَ، وَكَانَا مِنْ مَأْمُومِيهِ.فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ مَأْمُومِيهِ فَلَا يَرْجِعُ لِخَبَرِهِمَا، بَلْ يَعْمَلُ عَلَى يَقِينِهِ.

أَمَّا الْمُنْفَرِدُ وَالْمَأْمُومُ فَلَا يَرْجِعَانِ لِخَبَرِ الْعَدْلَيْنِ، وَإِنْ أَخْبَرَ الْإِمَامَ وَاحِدٌ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِالتَّمَامِ فَلَا يَرْجِعُ لِخَبَرِهِ، بَلْ يَبْنِي عَلَى يَقِينِ نَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا أَخْبَرَهُ بِالنَّقْصِ رَجَعَ لِخَبَرِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْإِمَامَ إِذَا شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا؟ أَخَذَ بِالْأَقَلِّ، وَلَا يُعْمَلُ بِتَذْكِيرِ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانُوا جَمْعًا غَفِيرًا كَانُوا يَرْقُبُونَ صَلَاتَهُ.وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّذْكِيرُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ.

وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَصَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ».

وَقَدْ أَجَابُوا عَنِ الْمُرَاجَعَةِ بَيْنَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ، وَعَوْدِهِ لِلصَّلَاةِ فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ، بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَذَكُّرِهِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهِ لَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ، أَيِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا سَبَّحَ اثْنَانِ يَثِقُ بِقَوْلِهِمَا لِتَذْكِيرِهِ، لَزِمَهُ الْقَبُولُ وَالرُّجُوعُ لِخَبَرِهِمَا، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صَوَابُهُمَا أَوْ خِلَافُهُ.وَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: رَجَعَ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ لَمَّا سَأَلَهُمَا: أَحَقٌّ مَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ مَعَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِيمَا قَالَهُ ذُو الْيَدَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَنْكَرَهُ، وَسَأَلَهُمَا عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ لِيُذَكِّرُوا الْإِمَامَ، وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِمْ.وَلِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: صَلَّى فَزَادَ أَوْ نَقَصَ...» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي».وَإِنْ سَبَّحَ وَاحِدٌ لِتَذْكِيرِهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ، إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ، فَيَعْمَلَ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، لَا بِتَسْبِيحِ الْغَيْرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ ذِي الْيَدَيْنِ وَحْدَهُ.وَإِنْ ذَكَّرَهُ فَسَقَةٌ بِالتَّسْبِيحِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ.

تَذَكُّرُ الصَّائِمِ لِصَوْمِهِ وَهُوَ يَأْكُلُ:

6- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَذَكَّرَ وَأَمْسَكَ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ».وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلَا يُفْطِرُ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ».

وَقَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ.

وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ ذَاتُ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ، فَكَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ مَا يُخَالِفُ عَمْدُهُ سَهْوَهُ كَالصَّلَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ، وطَاوُسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ أَوِ الشُّرْبُ قَلِيلًا، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا أَفْطَرَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَقَدْ أَفْطَرَ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ).

تَذَكُّرُ الْقَاضِي لِحُكْمٍ قَضَاهُ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا رَأَى خـَطًّا فِيهِ حُكْمِهِ، لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَيْهِ فِي إِمْضَاءِ الْحُكْمِ حَتَّى يَتَذَكَّرَ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ حَاكِمٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّزْوِيرُ عَلَيْهِ وَعَلَى خَتْمِهِ، فَلَمْ يَجُزْ إِنْفَاذُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ كَحُكْمِ غَيْرِهِ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ، وَتَحْتَ يَدِهِ جَازَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ فِيهِ، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَمَلَ بِالْخَطِّ إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ، وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْحَادِثَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَطُّ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّ الْغَلَطَ نَادِرٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَأَثَرُ التَّغْيِيرِ يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، وَقَلَّمَا يَتَشَابَهُ الْخَطُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ خَطُّهُ جَازَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ.

أَمَّا إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ الْقَاضِي: بِأَنَّ هَذَا حُكْمُهُ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَمَلِ بِقَوْلِهِمَا:

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ وَإِمْضَاءُ الْحُكْمِ.وَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قُبِلَ، فَكَذَلِكَ يُقْبَلُ إِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ نَفْسِهِ.وَلِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فَيَجِبُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِقَوْلِهِمَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ.

تَذَكُّرُ الشَّاهِدِ الشَّهَادَةَ وَعَدَمُهُ:

8- إِذَا رَأَى الشَّاهِدُ بِخَطِّهِ شَهَادَةً أَدَّاهَا عِنْدَ حَاكِمٍ، وَلَمْ يَتَذَكَّرِ الْحَادِثَةَ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ: لَمْ يَشْهَدْ عَلَى مَضْمُونِهَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ لِإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِذَا عَرَفَ خَطَّهُ شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

تَذَكُّرُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ وَعَدَمُهُ:

9- أَمَّا رِوَايَةُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَرْوِيَ مَضْمُونَ خَطِّهِ اعْتِمَادًا عَلَى الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ، لِعَمَلِ الْعُلَمَاءِ بِهِ سَلَفًا وَخَلَفًا.وَقَدْ يَتَسَاهَلُ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا تُقْبَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ.هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،

وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْمَلُ بِهَا لِمُشَابَهَةِ الْخَطِّ بِالْخَطِّ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (تزوير)

تَزْوِيرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّزْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ زَوَّرَ، وَهُوَ مِنَ الزُّورِ، وَالزُّورُ: الْكَذِبُ، قَالَ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} وَزَوَّرَ كَلَامَهُ: أَيْ زَخْرَفَهُ، وَهُوَ أَيْضًا: تَزْيِينُ الْكَذِبِ.وَزَوَّرْتُ الْكَلَامَ فِي نَفْسِي: هَيَّأْتُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ- رضي الله عنه-: مَا زَوَّرْتُ كَلَامًا لِأَقُولَهُ إِلاَّ سَبَقَنِي إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ.أَيْ: هَيَّأْتُهُ وَأَتْقَنَتْهُ.

وَلَهُ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ أُخْرَى.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَحْسِينُ الشَّيْءِ وَوَصْفُهُ بِخِلَافِ صِفَتِهِ، حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَى مَنْ سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ أَنَّهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ.فَهُوَ تَمْوِيهُ الْبَاطِلِ بِمَا يُوهِمُ أَنَّهُ حَقٌّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ

أ- الْكَذِبُ:

2- الْكَذِبُ هُوَ: الْإِخْبَارُ بِمَا لَيْسَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ.وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّزْوِيرِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، فَالتَّزْوِيرُ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْكَذِبُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْقَوْلِ.

وَالْكَذِبُ قَدْ يَكُونُ مُزَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُزَيَّنٍ، وَالتَّزْوِيرُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْكَذِبِ الْمُمَوَّهِ.

ب- الْخِلَابَةُ:

3- الْخِلَابَةُ هِيَ: الْمُخَادَعَةُ، وَتَكُونُ بِسَتْرِ الْعَيْبِ، وَتَكُونُ بِالْكَذِبِ وَغَيْرِهِ.

ج- التَّلْبِيسُ:

4- التَّلْبِيسُ مِنَ اللَّبْسِ، وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْأَمْرِ، وَهُوَ سَتْرُ الْحَقِيقَةِ وَإِظْهَارُهَا بِخِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهَا.

د- التَّغْرِيرُ:

5- التَّغْرِيرُ هُوَ: الْخَدِيعَةُ وَالْإِيقَاعُ فِي الْبَاطِلِ وَفِيمَا انْطَوَتْ عَاقِبَتُهُ.

هـ- الْغِشُّ:

6- الْغِشُّ مَصْدَرُ غَشَّهُ إِذَا لَمْ يُمَحِّضْهُ النُّصْحَ، بَلْ خَدَعَهُ.

وَالْغِشُّ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَالتَّزْوِيرُ وَالْغِشُّ لَفْظَانِ مُتَقَارِبَانِ.

و- التَّدْلِيسُ:

7- التَّدْلِيسُ: كِتْمَانُ الْعَيْبِ، وَهُوَ فِي الْبَيْعِ كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي.

وَالتَّدْلِيسُ أَخَصُّ مِنَ التَّزْوِيرِ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ فِي السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ، أَمَّا التَّزْوِيرُ فَهُوَ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَفِي السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ وَغَيْرِهَا.

ز- التَّحْرِيفُ:

8- التَّحْرِيفُ: تَغْيِيرُ الْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْعُدُولُ بِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ.

ج- التَّصْحِيفُ:

9- وَالتَّصْحِيفُ: هُوَ تَغْيِيرُ اللَّفْظِ حَتَّى ي تَغَيَّرَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (تَدْلِيسٌ) (وَتَحْرِيفٌ).

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

10- الْأَصْلُ فِي التَّزْوِيرِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ شَرْعًا فِي الشَّهَادَةِ لِإِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ إِثْبَاتِ بَاطِلٍ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَتِهِ قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}

وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، ثُمَّ قَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ.فَمَا يَزَالُ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ».

11- وَقَدِ اسْتُثْنِيَ مِنْ حُرْمَةِ التَّزْوِيرِ أُمُورٌ:

مِنْهَا الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَتَطْيِيبُ خَاطِرِ زَوْجَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا: «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلاَّ فِي ثَلَاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ» وَمِنْهُ: الْكَذِبُ لِدَفْعِ ظَالِمٍ عَلَى مَالٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عِرْضٍ، وَفِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.وَقَدْ نُقِلَ عَنِ النَّوَوِيِّ: الظَّاهِرُ إِبَاحَةُ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَوْلَى.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ هُوَ مِنَ الْمُسْتَثْنَى الْجَائِزِ بِالنَّصِّ.

قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ»،، وَفِيهِ: الْأَمْرُ بِاسْتِعْمَالِ الْحِيلَةِ فِي الْحَرْبِ مَهْمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ.وَفِيهِ: التَّحْرِيضُ عَلَى أَخْذِ الْحَذَرِ فِي الْحَرْبِ، وَالنَّدْبُ إِلَى خِدَاعِ الْكُفَّارِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ خِدَاعِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ كَيْفَمَا أَمْكَنَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ أَوْ أَمَانٍ، فَلَا يَجُوزُ.وَأَصْلُ الْخُدَعِ إِظْهَارُ أَمْرٍ وَإِضْمَارُ خِلَافِهِ.

وَجَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ: هَذَا- يَعْنِي النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ.قَالَ: وَأَيْضًا وَاَللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ قَالَ: فَإِنَّا اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ.قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ».

فَقَوْلُهُ: عَنَّانَا أَيْ: كَلَّفَنَا بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَوْلُهُ: سَأَلَنَا الصَّدَقَةَ أَيْ: طَلَبَهَا مِنَّا لِيَضَعَهَا مَوَاضِعَهَا، وَقَوْلُهُ: نَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ أَيْ نَكْرَهُ فِرَاقَهُ.فَقَوْلُهُ لَهُ مِنْ قَبِيلِ التَّعْرِيضِ وَالتَّمْوِيهِ وَالتَّزْوِيرِ، حَتَّى يَأْمَنَهُ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ.

وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «ائْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ.قَالَ: قُلْ» فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكَذِبُ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا

وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: «أَتَى نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ.فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ- الْأَحْزَابِ- حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ مُحَمَّدًا، حَتَّى تُنَاجِزُوهُ، فَقَالُوا لَهُ: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ.

ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَأَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ قَدْ رَأَيْتُ عَلَيَّ حَقًّا أَنْ أُبَلِّغَكُمُوهُ، نُصْحًا لَكُمْ.تَعْلَمُوا أَنَّ مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ: إِنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيكَ أَنْ نَأْخُذَ لَكَ مِنَ الْقَبِيلَتَيْنِ، مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَنُعْطِيكَهُمْ، فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونَ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُمْ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: أَنْ نَعَمْ.فَإِنْ بَعَثَتْ إِلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ مِنْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا.

ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ، فَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ، وَحَذَّرَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ

وَأَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَرُءُوسُ غَطَفَانَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: فَاغْدُوا لِلْقِتَالِ حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا وَنَفْرُغَ مِمَّا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ: وَلَسْنَا بِاَلَّذِينَ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِينَا ثِقَةً لَنَا، حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّا نَخْشَى إِنْ ضَرَّسَتْكُمُ الْحَرْبُ وَاشْتَدَّ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَنْ تَنْشَمِرُوا إِلَى بِلَادِكُمْ وَتَتْرُكُونَا، وَالرَّجُلُ فِي بَلَدِنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِذَلِكَ مِنْهُ.فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِمَا قَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ: وَاَللَّهِ إِنَّ الَّذِي حَدَّثَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ.فَأَرْسَلُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: إِنَّا وَاَللَّهِ لَا نَدْفَعُ إِلَيْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ رِجَالِنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا.فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، حِينَ انْتَهَتِ الرُّسُلُ إِلَيْهِمْ بِهَذَا: إِنَّ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ مَا يُرِيدُ الْقَوْمُ إِلاَّ أَنْ يُقَاتِلُوا، فَإِنْ رَأَوْا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ انْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ فِي بَلَدِكُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ: إِنَّا وَاَللَّهِ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا.فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَخَذَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ فِي لَيَالٍ شَاتِيَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَجَعَلَتْ تَكْفَأُ قُدُورَهُمْ، وَتَطْرَحُ أَبْنِيَتَهُمْ».

ثَانِيًا: الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ:

12- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، وَلَا يُزِيلُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ سَوَاءٌ الْعُقُودُ مِنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ وَالْفُسُوخِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْأَمْلَاكُ الْمُرْسَلَةُ (أَيِ الَّتِي لَمْ يُبَيَّنْ سَبَبُ مِلْكِهَا مِنْ إِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ) وَغَيْرُ الْمُرْسَلَةِ.وَاسْتَدَلُّوا: بِخَبَرِ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي الْفُسُوخِ وَالْعُقُودِ، حَيْثُ كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا، وَالْقَاضِي غَيْرُ عَالِمٍ.لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- لِامْرَأَةٍ أَقَامَ عَلَيْهَا رَجُلٌ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَنْكَرَتْ، فَقَضَى لَهُ عَلِيٌّ.فَقَالَتْ لَهُ: لَمْ يَتَزَوَّجْنِي، فَأَمَّا وَقَدْ قَضَيْتَ عَلَيَّ فَجَدِّدْ نِكَاحِي، فَقَالَ: لَا أُجَدِّدُ نِكَاحَكِ، الشَّاهِدَانِ زَوَّجَاكِ.

وَمَحَلُّ تَفْصِيلِ هَذَا فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) (وَشَهَادَةٌ).

التَّزْوِيرُ فِي الْأَيْمَانِ

13- الْأَصْلُ أَنَّ التَّزْوِيرَ فِي الْيَمِينِ حَرَامٌ، وَهِيَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ: وَهِيَ الَّتِي يَكْذِبُ فِيهَا الْحَالِفُ عَامِدًا عَالِمًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي يَكْذِبُ فِيهَا الْحَالِفُ عَمْدًا، أَوْ يَشُكُّ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ يَظُنُّ مِنْهُ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ.

وَقَدْ يَكُونُ تَزْوِيرُ الْيَمِينِ جَائِزًا أَوْ وَاجِبًا- عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ- فِيمَا إِذَا تَعَيَّنَ تَزْوِيرُ الْيَمِينِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهَا أَوِ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهَا، لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ مَظْلُومٍ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَانٌ)

تَضْمِينُ شُهُودِ الزُّورِ:

14- يَضْمَنُ شُهُودُ الزُّورِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ مِنْ ضَمَانٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالًا رُدَّ إِلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلَافًا فَعَلَى الشُّهُودِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُمْ سَبَبُ إِتْلَافِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ، إِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، كَأَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ عَمْدٍ عُدْوَانٍ، أَوْ بِرِدَّةٍ، أَوْ بِزِنًى وَهُوَ مُحْصَنٌ، فَقُتِلَ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، وَأَقَرَّا بِتَعَمُّدِ قَتْلِهِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ؛ لِعِلْمِهِمَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِهِمَا.فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا لِتَعَمُّدِ الْقَتْلِ بِتَزْوِيرِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا سَبَبُ الْقَتْلِ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِنَفْسِ التَّزْوِيرِ وَالْكَذِبِ.

وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَيْهَا بَدَلَ الْقِصَاصِ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا شَهِدَا زُورًا بِمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ قِصَاصًا فَقُطِعَ، أَوْ فِي سَرِقَةٍ لَزِمَهُمَا الْقَطْعُ، وَإِذَا سَرَى أَثَرُ الْقَطْعِ إِلَى النَّفْسِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ.كَمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاضِي إِذَا قَضَى زُورًا بِالْقِصَاصِ، وَكَانَ يَعْلَمُ بِكَذِبِ الشُّهُودِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ.لِأَنَّ الْقَتْلَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَتْلٌ بِالسَّبَبِ، وَالْقَتْلُ تَسَبُّبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً، وَلِذَا قَصَرَ أَثَرُهُ فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ.وَمَحَلُّ وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ إِذَا تَبَيَّنَ كَذِبُ الشُّهُودِ، أَوْ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.أَمَّا إِذَا رَجَعُوا قَبْلَهُ وَبَعْدَ الْحُكْمِ فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَلَا غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ، بَلْ يُعَزَّرُونَ.

وَيَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ إِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَى، وَيُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ سَوَاءٌ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ مَعَ حَدِّ الْقَذْفِ إِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَى عَلَى مُحْصَنٍ، فَرُجِمَ بِسَبَبِ شَهَادَتِهِمْ.وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ الْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (جِنَايَةٌ، حُدُودٌ، قِصَاصٌ) وَكَذَلِكَ (شَهَادَةٌ) (وَقَضَاءٌ).

التَّزْوِيرُ بِالْأَفْعَالِ:

15- يَقَعُ التَّزْوِيرُ فِي الْبُيُوعِ بِإِخْفَاءِ عُيُوبِ السِّلْعَةِ وَتَزْيِينِهَا وَتَحْسِينِهَا؛ لِإِظْهَارِهَا بِشَكْلٍ مَقْبُولٍ تَرْغِيبًا فِيهَا، كَتَصْرِيَةِ الْحَيَوَانِ لِيَظُنَّ الْمُشْتَرِي كَثْرَةَ اللَّبَنِ، أَوْ صَبْغِ الْمَبِيعِ بِلَوْنٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَكَالْكَذِبِ فِي سِعْرِ السِّلْعَةِ فِي بُيُوعِ الْأَمَانَاتِ وَهِيَ: الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ وَالْحَطِيطَةُ.

وَيَقَعُ التَّزْوِيرُ كَذَلِكَ بِمُحَاكَاةِ خَطِّ الْقَاضِي أَوْ تَزْوِيرِ تَوْقِيعِهِ أَوْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ فِي سِجِلاَّتِ الْقَضَاءِ بِمَا يَسْلُبُ الْحُقُوقَ مِنْ أَصْحَابِهَا.كَمَا يَقَعُ التَّزْوِيرُ فِي النِّكَاحِ بِأَنْ يَكْتُمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَيْبًا فِيهِ عَنِ الْآخَرِ.

وَقَدْ يَقَعُ التَّزْوِيرُ بِتَسْوِيدِ الشَّعْرِ بِقَصْدِ التَّغْرِيرِ وَالْكَذِبِ.

وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ التَّزْوِيرِ هِيَ مِنَ التَّزْوِيرِ الْمُحَرَّمِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَدْلِيسٌ، تَسْوِيدٌ، بَيْعٌ، نِكَاحٌ، شَهَادَةٌ، قَضَاءٌ وَعَيْبٌ).

التَّزْوِيرُ فِي النُّقُودِ وَالْمَوَازِينِ وَالْمَكَايِيلِ:

16- التَّزْوِيرُ فِيهَا يَكُونُ بِالنَّقْصِ مِنْ مَقَادِيرِهَا، بِغِشِّهَا أَوْ تَغْيِيرِ أَوْزَانِهَا أَوْ أَحْجَامِهَا، كَأَنْ تُخْلَطَ دَنَانِيرُ الذَّهَبِ أَوْ دَرَاهِمُ الْفِضَّةِ بِمَعَادِنَ أُخْرَى كَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، رَغْبَةً فِي نَقْصِ مِقْدَارِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ، أَوْ بِالنَّقْصِ مِنْ حَجْمِ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ.

أَوْ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ وَزْنِ الصَّنْجِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا فِي الْمَوَازِينِ، أَوْ حَجْمِ الْمِكْيَالِ، رَغْبَةً فِي زِيَادَةِ الرِّبْحِ وَتَقْلِيلِ الْمَبِيعِ الْمَوْزُونِ أَوِ الْمَكِيلِ.

وَالتَّزْوِيرُ فِي النُّقُودِ وَالْمَوَازِينِ وَالْمَكَايِيلِ مُحَرَّمٌ دَاخِلٌ فِي قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}.

وَدَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» كَمَا أَنَّ فِيهِ إِفْسَادًا لِلنُّقُودِ، وَإِضْرَارًا بِذَوِي الْحُقُوقِ، وَإِغْلَاءَ الْأَسْعَارِ، وَالنَّقْصَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَانْقِطَاعَ مَا يُجْلَبُ إِلَى الْبِلَادِ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ.

وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ وَظِيفَةِ الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَفَقَّدَ عِيَارَ الْمَثَاقِيلِ وَالصَّنْجِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَيِّرَ أَوْزَانَهَا وَيَخْتِمَهَا بِخَتْمِهِ، حَتَّى يَأْمَنَ تَزْوِيرَهَا وَتَغْيِيرَ مَقَادِيرِهَا.

كَمَا تَدْخُلُ فِي وَظِيفَتِهِ مُرَاقَبَةُ مَقَادِيرِ دَنَانِيرِ الذَّهَبِ وَدَرَاهِمِ الْفِضَّةِ وَزْنًا وَحَجْمًا.وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ، وَحُرْمَتُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْإِمَامِ أَشَدُّ، لِأَنَّ الْغِشَّ فِيهَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَيَكُونُ الْغَرَرُ بِهَا أَكْبَرَ.بِخِلَافِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَا يَضْرِبُهُ مِنْ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ يُشْهَرُ وَيُعْرَفُ مِقْدَارُهُ.

كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْإِمَامِ ضَرْبُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ غَيْرِ الْمَغْشُوشَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهَا الْغِشُّ وَالْفَسَادُ.

صُوَرُ التَّزْوِيرِ فِي الْمُسْتَنَدَاتِ وَطُرُقُ التَّحَرُّزِ مِنْهَا:

17- جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: وَمِثْلُهُ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ: يَنْبَغِي لِلْمُوَثِّقِ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تَنْقَلِبُ بِإِصْلَاحٍ يَسِيرٍ، فَيَتَحَفَّظُ فِي تَغْيِيرِهَا، نَحْوُ مُظْفِرٍ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى مُظْهِرٍ، وَنَحْوُ بَكْرٍ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى بُكَيْرٍ، وَنَحْوُ عَائِشَة فَإِنَّهُ يَصْلُحُ عَاتِكَةَ.وَقَدْ يَكُونُ آخِرُ السَّطْرِ بَيَاضًا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ.وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِنْ أَنْ يُتَمِّمَ عَلَيْهِ زِيَادَةَ حَرْفٍ مِنَ الْكِتَابِ مِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ فِي الْوَثِيقَةِ: أَقَرَّ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَقِبَ الْعَدَدِ بَيَانَ نِصْفِهِ بِأَنْ يَقُولَ: (الَّذِي نِصْفُهُ خَمْسُمِائَةٍ مَثَلًا) أَمْكَنَ زِيَادَةُ أَلْفٍ فَتَصِيرُ (أَلْفَا دِرْهَمٍ).

وَفِي التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْصَبَ لِكِتَابَةِ الْوَثَائِقِ إِلاَّ الْعُلَمَاءُ الْعُدُولُ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ- رضي الله عنه-: لَا يَكْتُبُ الْكُتُبَ بَيْنَ النَّاسِ إِلاَّ عَارِفٌ بِهَا، عَدْلٌ فِي نَفْسِهِ، مَأْمُونٌ عَلَى مَا يَكْتُبُهُ لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} وَأَمَّا مَنْ لَا يُحْسِنُ وُجُوهَ الْكِتَابَةِ، وَلَا يَقِفُ عَلَى فِقْهِ الْوَثِيقَةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الِانْتِصَابِ لِذَلِكَ؛ لِئَلاَّ يُفْسِدَ عَلَى النَّاسِ كَثِيرًا مِنْ مُعَامَلَاتِهِمْ.وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْكِتَابَةِ إِلاَّ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ، فَلَا يَنْبَغِي تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَضَعُ اسْمَهُ بِشَهَادَةٍ فِيمَا يَكْتُبُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَلِّمُ النَّاسَ وُجُوهَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَيُلْهِمُهُمْ تَحْرِيفَ الْمَسَائِلِ لِتَوَجُّهِ الْإِشْهَادِ، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي النَّاسُ الْيَوْمَ يَسْتَفْتُونَ فِي نَوَازِلَ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَالْمُشَارَكَةِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَنْكِحَةِ الْمَفْسُوخَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ، فَإِذَا صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الدِّيَانَةِ أَتَوْا إِلَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ، فَحَرَّفُوا أَلْفَاظَهَا، وَتَحَيَّلُوا لَهَا بِالْعِبَارَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صَرِيحِ الْفَسَادِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.وَتَمَالأَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى التَّهَاوُنِ بِحُدُودِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّلَاعُبِ فِي طَرِيقِ الْحَرَامِ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.

وَجَاءَ فِي «تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ» أَيْضًا، وَفِي «الْعَالِي الرُّتْبَةِ فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ» لِأَحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ

النَّحْوِيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَثِّقِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ قَوَاعِدَ مَذْهَبِ مَالِكٍ- رضي الله عنه-، قَالَ: فَإِذَا فَرَغَ الْكَاتِبُ مِنْ كِتَابَتِهِ اسْتَوْعَبَهُ (أَيْ كِتَابَتَهُ) وَقَرَأَهُ وَتَمَيَّزَ أَلْفَاظُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُمَيِّزَ فِي خَطِّهِ بَيْنَ السَّبْعَةِ وَالتِّسْعَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَتَبَ بَعْدَهَا (وَاحِدَةً) وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نِصْفَهَا، فَإِنْ كَانَتْ (أَيِ الدَّرَاهِمُ) أَلْفًا كَتَبَ وَاحِدًا وَذَكَرَ نِصْفَهُ رَفْعًا لِلَّبْسِ، وَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةَ آلَافٍ زَادَ فِيهَا لَا مَا تُصَيِّرُهَا (آلَافَ) لِئَلاَّ تُصَلَّحَ الْخَمْسَةُ فَتَصِيرُ خَمْسِينَ أَلْفًا وَيُحْتَرَزُ بِذِكْرِ التَّنْصِيفِ مِمَّا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ تَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَالسَّبْعِينَ تِسْعِينَ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْكَاتِبُ النِّصْفَ مِنَ الْمَبْلَغِ فَيَنْبَغِي لِلشُّهُودِ أَنْ يَذْكُرُوا الْمَبْلَغَ فِي شَهَادَتِهِمْ لِئَلاَّ يَدْخُلَ عَلَيْهِمُ الشَّكُّ لَوْ طَرَأَ فِي الْكِتَابِ تَغْيِيرٌ وَتَبْدِيلٌ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْكِتَابِ إِصْلَاحٌ وَإِلْحَاقٌ نُبِّهَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَحَلِّهِ فِي الْكِتَابِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْمِلَ أَسْطُرَ الْمَكْتُوبِ جَمِيعَهَا لِئَلاَّ يُلْحَقَ فِي آخِرِ السَّطْرِ مَا يُفْسِدُ بَعْضَ أَحْكَامِ الْمَكْتُوبِ أَوْ يُفْسِدُهُ كُلَّهُ، فَلَوْ كَانَ آخِرُ سَطْرٍ مَثَلًا. (وَجَعَلَ النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ) وَفِي أَوَّلِ السَّطْرِ الَّذِي يَلِيهِ (لِزَيْدٍ) وَكَانَ فِي آخِرِ السَّطْرِ فُرْجَةٌ أَمْكَنَ أَنْ يُلْحِقَ فِيهَا (لِنَفْسِهِ) ثُمَّ لِزَيْدٍ، فَيَبْطُلُ الْوَقْفُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنَّهُ بَقِيَ فِي آخِرِ السَّطْرِ فُرْجَةٌ لَا تَسَعُ الْكَلِمَةَ الَّتِي يُرِيدُ كِتَابَتَهَا لِطُولِهَا وَكَثْرَةِ حُرُوفِهَا، فَإِنَّهُ يَسُدُّ تِلْكَ الْفُرْجَةَ بِتَكْرَارِهِ تِلْكَ الْكَلِمَةَ الَّتِي وَقَفَ عَلَيْهَا أَوْ كَتَبَ فِيهَا صَحَّ، أَوْ صَادًا مَمْدُودَةً، أَوْ دَائِرَةً مَفْتُوحَةً، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ بِهِ تِلْكَ الْفُرْجَةَ، وَلَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهَا بِمَا يُخَالِفُ الْمَكْتُوبَ.وَإِنْ تَرَكَ فُرْجَةً فِي السَّطْرِ الْأَخِيرِ كَتَبَ فِيهَا حَسْبِي اللَّهُ أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، مُسْتَحْضِرًا لِذِكْرِ اللَّهِ نَاوِيًا لَهُ، أَوْ يَأْمُرُ أَوَّلَ شَاهِدٍ يَضَعُ خَطَّهُ فِي الْمَكْتُوبِ أَنْ يَكْتُبَ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ.وَإِنْ كَتَبَ فِي وَرَقَةٍ ذَاتِ أَوْصَالٍ كَتَبَ عَلَامَتَهُ عَلَى كُلِّ وَصْلٍ، وَكَتَبَ عَدَدَ الْأَوْصَالِ فِي آخِرِ الْمَكْتُوبِ، وَبَعْضُهُمْ يَكْتُبُ عَدَدَ أَسْطُرِ الْمَكْتُوبِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَكْتُوبِ نُسَخٌ ذَكَرَهَا وَذَكَرَ عُدَّتَهَا، وَأَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ، وَهَذَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ سَهْلٍ وَابْنُ الْهِنْدِيِّ وَغَيْرُهُمَا.

وَمِثْلُهُ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ أَيْضًا وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُخَالِفُ قَوَاعِدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رضي الله عنه-.

وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ (الْمَادَّةُ 1814) وَنَصُّهَا:

يَضَعُ الْقَاضِي فِي الْمَحْكَمَةِ دَفْتَرًا لِلسِّجِلاَّتِ، وَيُقَيِّدُ وَيُحَرِّرُ فِي ذَلِكَ الدَّفْتَرِ الْإِعْلَامَاتِ وَالسَّنَدَاتِ الَّتِي يُعْطِيهَا بِصُورَةٍ مُنْتَظِمَةٍ سَالِمَةٍ عَنِ الْحِيلَةِ وَالْفَسَادِ، وَيَعْتَنِي بِالدِّقَّةِ بِحِفْظِ ذَلِكَ الدَّفْتَرِ، وَإِذَا عُزِلَ سَلَّمَ السِّجِلاَّتِ الْمَذْكُورَةَ إِلَى خَلَفِهِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَاسِطَةِ أَمِينِهِ.

إِثْبَاتُ التَّزْوِيرِ:

18- يَثْبُتُ التَّزْوِيرُ بِإِقْرَارِ الْمُزَوِّرِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ ظُهُورِ الْكَذِبِ يَقِينًا، كَأَنْ يَشْهَدَ بِقَتْلِ رَجُلٍ وَهُوَ حَيٌّ، أَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا فِي وَقْتٍ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَهُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.

19- أَمَّا التَّزْوِيرُ فِي الْوَثَائِقِ، فَذَهَبَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبُو اللَّيْثِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ فَجَحَدَهُ، فَأَخْرَجَ الْمُدَّعِي صَحِيفَةً مَكْتُوبَةً بِخَطِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَطَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يُجْبَرَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بِحَضْرَةِ الْعُدُولِ، وَيُقَابِلَ مَا كَتَبَهُ بِمَا أَظْهَرَهُ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَعَلَى أَنْ يُطَوِّلَ فِيمَا يَكْتُبُ تَطْوِيلًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ خَطًّا غَيْرَ خَطِّهِ، فَإِنْ ظَهَرَ بَيْنَ الْخَطَّيْنِ تَشَابُهٌ ظَاهِرٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمَا خَطُّ كَاتِبٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ حُجَّةٌ يَقْضِي بِهَا.

وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: وَبِهِ قَالَ أَئِمَّةُ بُخَارَى.وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى إِحْضَارِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِ.

وَفَرَّقَ اللَّخْمِيُّ بَيْنَ إِلْزَامِهِ بِالْكِتَابَةِ وَعَدَمِ إِلْزَامِهِ بِإِحْضَارِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقْطَعُ بِتَكْذِيبِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْعَى فِي أَمْرٍ يَقْطَعُ بِبُطْلَانِهِ، أَمَّا خَطُّهُ فَإِنَّهُ صَادِرٌ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَالْعُدُولُ يُقَابِلُونَ بِمَا يَكْتُبُهُ الْآنَ بِمَا أَحْضَرَهُ الْمُدَّعِي، وَيَشْهَدُونَ بِمُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ.

كَمَا نَقَلَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ نَصَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِمَّا لَوْ أَقَرَّ فَقَالَ: هَذَا خَطِّي، وَأَنَا كَتَبْتُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ هَذَا الْمَالُ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

عُقُوبَةُ التَّزْوِيرِ

20- عُقُوبَةُ التَّزْوِيرِ: التَّعْزِيرُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ.كَأَيِّ جَرِيمَةٍ لَيْسَ لَهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَمَّدَ التَّزْوِيرَ، فَيُعَزَّرُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ تَشْهِيرٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ، أَوْ كَشْفِ رَأْسِهِ وَإِهَانَتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (شَهَادَةٌ، تَعْزِيرٌ، تَشْهِيرٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (تنفيذ)

تَنْفِيذٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّنْفِيذُ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الشَّيْءِ يُجَاوِزُ مَحَلَّهُ.

يُقَالُ: نَفَذَ السَّهْمُ فِي الرَّمِيَّةِ تَنْفِيذًا: أَخْرَجَ طَرَفَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ.وَنَفَذَ الْكِتَابُ أَرْسَلَهُ: وَنَفَذَ الْحَاكِمُ الْأَمْرَ أَجْرَاهُ وَقَضَاهُ.

وَالِاصْطِلَاحُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالنَّفَاذُ تَرَتُّبُ الْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْحُكْمِ.

وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ «تَنْفِيذٍ» عَلَى إحَاطَةِ الْحَاكِمِ عِلْمًا بِحُكْمٍ أَصْدَرَهُ حَاكِمٌ آخَرُ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيمِ، وَيُسَمَّى اتِّصَالًا.وَيُتَجَوَّزُ بِذِكْرِ (الثُّبُوتِ) (وَالتَّنْفِيذِ) قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا هَذَا غَالِبًا.

2- وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَفَاذِ الْحُكْمِ أَوِ الْعَقْدِ وَتَنْفِيذِهِمَا هُوَ: أَنَّ النَّفَاذَ صِحَّةُ الْعَقْدِ أَوِ الْحُكْمِ وَتَرَتُّبُ آثَارِهِ الْخَاصَّةِ مِنْهُ، كَوُجُوبِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَانْتِقَالُ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ.أَمَّا التَّنْفِيذُ فَهُوَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ أَوِ الْحُكْمِ وَإِمْضَاؤُهُ بِتَنْفِيذِ عُقُوبَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ مِنَ الْعَاقِدِ طَوْعًا أَوْ بِإِلْزَامٍ مِنَ الْحَاكِمِ.قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ التَّنْفِيذَ لَيْسَ بِحُكْمٍ، إنَّمَا هُوَ عَمَلٌ بِحُكْمٍ سَابِقٍ وَإِجَازَةٌ لِلْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ.

وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْحُكْمَ بِالْمَحْكُومِ بِهِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْقَضَاءُ:

3- الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ وَمِنْهُ قوله تعالى {وَقَضَى رَبُّك أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ}.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالتَّنْفِيذِ أَنَّ التَّنْفِيذَ يَأْتِي بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَالْقَضَاءُ سَبَبٌ لَهُ

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ، أَوِ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذُ وَصَايَا الْمَيِّتِ بِشُرُوطِهَا، وَعَلَى الْحَاكِمِ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ تَنْفِيذُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنِ الْتَزَمَ حُقُوقًا مَالِيَّةً بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ حَقًّا تَنْفِيذُ مَا لَزِمَهُ مِنْ حُقُوقٍ، وَعَلَى الْحَاكِمِ التَّنْفِيذُ جَبْرًا عَلَى مَنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّنْفِيذِ طَوْعًا إذَا طَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَقَّهُ.

مَنْ يَمْلِكُ التَّنْفِيذَ:

5- يَخْتَلِفُ مَنْ لَهُ سُلْطَةُ التَّنْفِيذِ بِاخْتِلَافِ الْحَقِّ الْمُرَادِ تَنْفِيذُهُ:

فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الْمُنَفَّذُ عُقُوبَةً كَالْحَدِّ، وَالتَّعَازِيرِ وَالْقِصَاصِ، فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ إلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.لِأَنَّ ذَلِكَ يَفْتَقِرُ إلَى الِاجْتِهَادِ، وَالْحَيْطَةِ، وَلَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْحَيْفُ وَالْخَطَأُ، فَوَجَبَ تَفْوِيضُهُ إلَى نَائِبِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ؛ وَلِأَنَّهُ «- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُقِيمُ الْحُدُودَ»، وَكَذَا خُلَفَاؤُهُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيفَاءٌ).

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، تَنْفِيذُ الْعُقُوبَةِ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْكُلُّ مَأْمُورٌ بِهِ.

أَمَّا إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْمُنَفَّذُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الْمَالِيَّةِ، فَالتَّنْفِيذُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَإِذَا امْتَنَعَ بِلَا وَجْهٍ شَرْعِيٍّ نَفَّذَهُ الْحَاكِمُ بِقُوَّةِ الْقَضَاءِ بِنَاءً عَلَى طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (اسْتِيفَاءٌ- وَحِسْبَةٌ).

الْأَمْرُ بِتَنْفِيذِ حُكْمِ الْقَاضِي:

6- إذَا طُلِبَ مِنَ الْقَاضِي تَنْفِيذُ حُكْمٍ أَصْدَرَهُ هُوَ نَفَّذَهُ وُجُوبًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إذَا كَانَ ذَاكِرًا أَنَّهُ حُكْمُهُ.أَمَّا إذَا نَسِيَ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ أَنَّهُ حُكْمُهُ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَنْفِيذِهِ لِمَا حَكَمَ بِهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَنْفِيذُهُ حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُهُ، أَوْ رَأَى وَرَقَةً فِيهَا أَنَّهُ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ بِالتَّذَكُّرِ فَلَا يَرْجِعُ إلَى الظَّنِّ؛ وَلِإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ فِي الْخَطِّ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُهُ لَزِمَهُ قَبُولُهَا، وَإِمْضَاءُ الْحُكْمِ، وَقَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قُبِلَ، فَكَذَلِكَ هُنَا.

الْأَمْرُ بِتَنْفِيذِ حُكْمِ قَاضٍ آخَرَ.

7- إذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ قَاضٍ آخَرَ نَفَّذَهُ، وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ، أَوْ رَأَى أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ مِنْهُ، مَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَجِبُ نَقْضُهُ، كَأَنْ خَالَفَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ).

تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ:

8- الْوَصِيَّةُ بِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ مُسْتَحَبَّةٌ وَتَنْفِيذُهَا وَاجِبٌ عَلَى الْوَصِيِّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.فَإِذَا أَوْصَى إلَى اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَإِنْ أَثْبَتَ الِاسْتِقْلَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ بِالتَّنْفِيذِ.أَمَّا إذَا شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى التَّنْفِيذِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ، فَإِنِ انْفَرَدَ لَمْ يَصِحَّ التَّنْفِيذُ، وَإِنْ أَطْلَقَ حُمِلَ عَلَى التَّعَاوُنِ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالتَّصَرُّفِ دُونَ صَاحِبِهِ.

أَمَّا الْوَصَايَا الَّتِي يَجُوزُ تَنْفِيذُهَا وَاَلَّتِي لَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهَا، وَشُرُوطُ الْمُوصِي وَالْوَصِيِّ فَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَى مُصْطَلَحِ «وَصِيَّةٌ».

تَنْفِيذُ حُكْمِ قَاضِي الْبُغَاةِ:

9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ فَوَلَّوْا قَاضِيًا مِنْهُمْ، فَرُفِعَ حُكْمُهُ إِلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ نَفَّذَ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا يُنَفَّذُ مِنْ أَحْكَامِ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِشُرُوطٍ هِيَ: أ- أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ غَيْرُ ظَاهِرِ الْبُطْلَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ فَلَا يُنَفِّذُ أَحْكَامُ قَاضِيهِمْ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ فَيَتَعَقَّبُ أَحْكَامَهُ، فَمَا وَجَدَ مِنْهَا صَوَابًا مَضَى، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ رُدَّ.

ب- أَلاَّ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالَهُمْ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ لَا تَنْفُذُ أَحْكَامُهُ.

ج- أَلاَّ يُخَالِفَ نَصًّا، أَوْ إجْمَاعًا، أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا.

هَذَا مُجْمَلُ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي تَنْفِيذِ حُكْمِ قَاضِي الْبُغَاةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: بُغَاةٌ.

تَنْفِيذُ حُكْمِ الْمَرْأَةِ:

10- لَا يَصِحُّ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ: لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»

وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهَا لِأَنَّ التَّنْفِيذَ فَرْعُ صِحَّةِ الْحُكْمِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ، مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ، فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهَا، وَهِيَ مَا عَدَا الْقَوَدِ، وَالْحَدِّ، فَإِذَا حَكَمَتْ بَيْنَ خَصْمَيْنِ، فَقَضَتْ قَضَاءً مُوَافِقًا لِدِينِ اللَّهِ يَنْفُذُ.وَإِذَا حَكَمَتْ فِي حَدٍّ أَوْ قَوَدٍ، فَرُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى جَوَازَهُ فَأَمْضَاهُ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ إبْطَالُهُ.

وَأَفْتَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ، إذَا اُبْتُلِيَ النَّاسُ بِوِلَايَةِ امْرَأَةٍ، نَفَذَ قَضَاؤُهَا لِلضَّرُورَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي: قَضَاءٌ.

تَنْفِيذُ حُكْمِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ:

11- لَا يَصِحُّ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ الْقَضَاءَ لِانْتِفَاءِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْوِلَايَةِ، وَنَصْبُهُ عَلَى مِثْلِهِ مُجَرَّدُ رِئَاسَةٍ لَا تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ.وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَلْزَمْ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ إلاَّ إذَا رَضُوا بِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إنَّ تَقْلِيدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ الْقَضَاءَ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَالَ كُفْرِهِ، وَيَنْفُذُ عَلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ

وَالتَّفْصِيلُ فِي بَابِ الْقَضَاءِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (تواطؤ)

تَوَاطُؤٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّوَاطُؤُ مَصْدَرُ تَوَاطَأَ، وَأَصْلُ فِعْلِهِ الثُّلَاثِيِّ: وَطِئَ

وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: التَّوَافُقُ، يُقَالُ: تَوَاطَأْنَا عَلَى الْأَمْرِ: تَوَافَقْنَا، وَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ: إِذَا تَوَافَقُوا، وَحَقِيقَتُهُ كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَطِئَ مَا وَطِئَهُ الْآخَرُ، وَالْمُتَوَاطِئُ الْمُتَوَافِقُ.

وَفِي حَدِيثِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ».

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّمَالُؤُ:

2- التَّمَالُؤُ فِي اللُّغَةِ: الِاجْتِمَاعُ وَالتَّعَاوُنُ، يُقَالُ: تَمَالَئُوا عَلَى الْأَمْرِ: إِذَا تَعَاوَنُوا، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ لِلْقَوْمِ إِذَا تَتَابَعُوا بِرَأْيِهِمْ عَلَى أَمْرٍ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَيْهِ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَتَلَ سَبْعَةَ نَفَرٍ بِرَجُلٍ قَتَلُوهُ غِيلَةً وَقَالَ: لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لأَقَدْتهمْ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَقَتَلْتهمْ، يَقُولُ: لَوْ تَضَافَرُوا عَلَيْهِ وَتَعَاوَنُوا وَتَسَاعَدُوا.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

ب- التَّضَافُرُ:

3- وَمَعْنَاهُ التَّعَاوُنُ وَالتَّجَمُّعُ، يُقَالُ تَضَافَرَ الْقَوْمُ.إِذَا تَعَاوَنُوا، وَضَافَرْتُهُ: عَاوَنْتُهُ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: تَضَافَرَ الْقَوْمُ عَلَى الْأَمْرِ.تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ.

وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى بَلْ كَالْمُتَرَادِفَةِ.

ج- التَّصَادُقُ:

4- التَّصَادُقُ وَالْمُصَادَقَةُ وَالصَّدَاقُ وَالصَّدَاقَةُ وَالْمُخَالَّةُ بِمَعْنًى.

وَهُوَ مَصْدَرُ تَصَادَقَ، وَأَصْلُ فِعْلِهِ صَدَقَ، يُقَالُ: صَدَقَهُ النَّصِيحَةَ وَالْإِخَاءَ أَمْحَضَهُ لَهُ، وَتَصَادَقَا فِي الْحَدِيثِ وَفِي الْمَوَدَّةِ ضِدُّ تَكَاذَبَا.

وَالتَّوَاطُؤُ تَوَافُقُ شَخْصَيْنِ أَوْ أَكْثَر عَلَى أَمْرٍ مَا إِمَّا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ.أَمَّا التَّصَادُقُ فَتَصْدِيقُ شَخْصٍ لآِخَرَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَعَادَةً يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ مِنَ الْآخَرِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّوَاطُؤِ بِاخْتِلَافِ مَا تُوُوطِئَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: الْجِنَايَاتُ، وَالشَّهَادَاتُ، وَالرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ، وَالْإِقْرَارُ بِطَلَاقٍ سَابِقٍ، وَالْوَطْءُ فِي حَالِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ.

أَوَّلًا: التَّوَاطُؤُ فِي الْجِنَايَاتِ:

6- التَّوَاطُؤُ فِي الْجِنَايَاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّفْسِ بِإِزْهَاقِهَا، أَوْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ بِإِتْلَافِهَا أَوِ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا.

الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ:

7- إِذَا تَوَاطَأَ جَمْعٌ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ مَعْصُومِ الدَّمِ عَمْدًا عُدْوَانًا، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ يُقْتَلُونَ بِالْفَرْدِ الَّذِي تَمَّ التَّوَاطُؤُ عَلَى قَتْلِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا، مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَتَلَ سَبْعَةً مِنْ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلًا وَقَالَ: لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ جَمِيعًا.وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَتَلَ ثَلَاثَةً قَتَلُوا رَجُلًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَتَلَ جَمَاعَةً بِوَاحِدٍ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مَعَ شُهْرَتِهِ فَصَارَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تَجِبُ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ، فَوَجَبَتْ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَيُفَارِقُ الدِّيَةَ فَإِنَّهَا تَتَبَعَّضُ وَالْقِصَاصُ لَا يَتَبَعَّضُ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَوْ سَقَطَ بِالِاشْتِرَاكِ أَدَّى إِلَى التَّسَارُعِ بِالْقَتْلِ بِهِ، فَيُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ حِكْمَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ.

وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يُقْتَلُونَ بِهِ وَتَجِبُ عَلَيْهِمِ الدِّيَةُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَرَبِيعَةَ، وَدَاوُد، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «وَغَيْرِهِ» أَنَّهُ يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْبَاقِينَ حِصَصُهُمْ مِنَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَافِئٌ لَهُ فَلَا تُسْتَوْفَى أَبْدَالٌ بِمُبْدَلٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَا تَجِبُ دِيَاتٌ لِمَقْتُولٍ وَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} وَقَالَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدةٍ؛ وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْأَوْصَافِ يُمْنَعُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْحُرَّ لَا يُؤْخَذُ بِالْعَبْدِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْعَدَدِ أَوْلَى.

وَلَكِنْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى (قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ) اخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلِ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُقْتَلُ جَمْعٌ بِمُفْرَدٍ إِنْ جَرَحَ كُلُّ وَاحِدٍ جُرْحًا مُهْلِكًا مَعًا؛ لِأَنَّ زَهُوقَ الرُّوحِ يَتَحَقَّقُ بِالْمُشَارَكَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ بِخِلَافِ الْأَطْرَافِ، وَاشْتِرَاكُ الْجَمَاعَةِ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ يُوجِبُ التَّكَامُلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَيُضَافُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَلًا كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ، فَإِنْ كَانَ جُرْحُ الْبَعْضِ مُهْلِكًا، وَجُرْحُ الْآخَرِينَ غَيْرَ مُهْلِكٍ، فَالْقَوَدُ عَلَى ذِي الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ، وَعَلَى الْآخَرِينَ التَّعْزِيرُ، وَالدِّيَةُ- فِي الظَّاهِرِ- لِتَعَمُّدِهِمْ، أَمَّا إِذَا بَاشَرَ الْقَتْلَ بَعْضُهُمْ وَكَانَ الْآخَرُونَ نِظَارَةً أَوْ مُغْرِينَ فَلَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُقْتَلُ الْجَمْعُ الْمُتَمَالِئُونَ عَلَى قَتْلِ شَخْصٍ إِنْ تَمَالَئُوا بِضَرْبِهِ بِنَحْوِ سُيُوفٍ، أَوْ بِسَوْطٍ مِنْ أَحَدِهِمْ وَسَوْطٍ مِنْ آخَرَ، وَهَكَذَا حَتَّى مَاتَ فَيُقْتَلُونَ بِهِ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ- رضي الله عنه-، هَذَا إِذَا كَانَ جَمِيعُ الْمُتَمَالِئِينَ مُكَلَّفِينَ، فَإِنْ اشْتَرَكَ مُكَلَّفٌ مَعَ صَبِيٍّ فِي قَتْلِ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَعَلَى الْمُكَلَّفِ الْقِصَاصُ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ.

وَعِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ تَعَدَّدَ مَنْ بَاشَرُوا الضَّرْبَ أَوِ الْجُرْحَ الْعَمْدَ الْعُدْوَانَ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ الْمَوْتُ، فَإِنْ كَانُوا تَمَالَئُوا عَلَى قَتْلِهِ، يُقْتَلُ الْجَمِيعُ بِقَتْلِ وَاحِدٍ إِنْ مَاتَ مَكَانَهُ، أَوْ رُفِعَ مَغْمُورًا حَتَّى مَاتَ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَقْوَى ضَرْبًا وَغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُمَالأَةٌ عَلَى قَتْلِهِ، بِأَنْ قَصَدَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَتْلَهُ بِانْفِرَادِهِ مِنْ غَيْرِ اتِّفَاقٍ مَعَ غَيْرِهِ، أَوْ قَصَدَ كُلٌّ مِنْهُمْ ضَرْبَهُ بِلَا قَصْدِ قَتْلٍ فَمَاتَ..قُدِّمَ الْأَقْوَى فِعْلًا حَيْثُ تَمَيَّزَتْ أَفْعَالُهُمْ فَيُقْتَلُ، وَيُقْتَصُّ مِمَّنْ جَرَحَ أَوْ قَطَعَ، وَيُؤَدَّبُ مَنْ لَمْ يَجْرَحْ، فَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزِ الضَّرَبَاتُ بِأَنْ تَسَاوَتْ أَوْ لَمْ يُعْلَمِ الْأَقْوَى قُتِلَ الْجَمِيعُ إِنْ مَاتَ مَكَانَهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَإِلاَّ فَوَاحِدٌ بِقَسَامَةٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُقْتَلُ الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ وَإِنْ تَفَاضَلَتِ الْجِرَاحَاتُ فِي الْعَدَدِ، وَالْفُحْشِ، وَالْأَرْشِ، حَيْثُ كَانَ لَهَا دَخْلٌ فِي الزَّهُوقِ سَوَاءٌ أَقَتَلُوهُ بِمُحَدَّدٍ، أَمْ بِمُثَقَّلٍ، أَمْ أَلْقَوْهُ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ فِي بَحْرٍ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ فَيَجِبُ لَهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ؛ وَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِحَقْنِ الدِّمَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ لَاُتُّخِذَ ذَرِيعَةً إِلَى سَفْكِهَا؛ وَلِحَدِيثِ عُمَرَ- رضي الله عنه-.

أَمَّا مَنْ لَيْسَ لِجُرْحِهِ أَوْ ضَرْبِهِ دَخْلٌ فِي الزَّهُوقِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ.وَلَوْ ضَرَبُوهُ بِسِيَاطٍ، أَوْ عَصًا خَفِيفَةٍ فَقَتَلُوهُ وَضَرْبُ كُلٍّ مِنْهُمْ لَا يَقْتُلُ، قُتِلُوا إِنْ تَوَاطَئُوا أَيِ اتَّفَقُوا عَلَى ضَرْبِهِ.وَكَانَتْ جُمْلَةُ السِّيَاطِ بِحَيْثُ يُقْصَدُ بِهَا الْهَلَاكُ.وَإِنْ وَقَعَ مُصَادَفَةً وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُتَأَخِّرُ ضَرْبَ غَيْرِهِ، فَالدِّيَةُ تَجِبُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الضَّرَبَاتِ إِنْ عُلِمَ يَقِينًا، فَإِنْ جُهِلَ أَوْ شُكَّ فِيهِ فَالتَّوْزِيعُ عَلَى الرُّءُوسِ كَالتَّوْزِيعِ فِي الْجِرَاحِ.

وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرِ التَّوَاطُؤُ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالضَّرَبَاتِ الْمُهْلِكِ كُلٍّ مِنْهَا لَوِ انْفَرَدَ؛ لِأَنَّهَا قَاتِلَةٌ فِي نَفْسِهَا وَيُقْصَدُ بِهَا الْهَلَاكُ مُطْلَقًا، وَالضَّرْبُ الْخَفِيفُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ قَصْدُ الْإِهْلَاكِ مُطْلَقًا إِلاَّ بِالْمُوَالَاةِ مِنْ وَاحِدٍ وَالْمُوَاطِئُ مِنْ جَمْعٍ.

وَلَوْ ضَرَبَ اثْنَانِ شَخْصًا بِسِيَاطٍ أَوْ عَصًا خَفِيفَةٍ فَقَتَلُوهُ، وَضَرْبُ أَحَدِهِمَا يَقْتُلُ، وَضَرْبُ الْآخَرِ لَا يَقْتُلُ، فَإِنْ سَبَقَ الضَّرْبُ الَّذِي يَقْتُلُ كَخَمْسِينَ سَوْطًا مَثَلًا، ثُمَّ تَبِعَهُ الضَّرْبُ الَّذِي لَا يَقْتُلُ كَسَوْطَيْنِ حَالَةَ أَلَمِهِ مِنْ ضَرْبِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ الضَّارِبُ الثَّانِي عَالِمًا بِضَرْبِ الْأَوَّلِ اُقْتُصَّ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ فَلَا قِصَاصَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا حِصَّةُ ضَرْبِهِ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ، وَعَلَى الثَّانِي كَذَلِكَ مِنْ دِيَةِ شِبْهِهِ بِاعْتِبَارِ الضَّرَبَاتِ.

وَإِنْ سَبَقَ الضَّرْبُ الَّذِي لَا يَقْتُلُ، ثُمَّ تَبِعَهُ الَّذِي يَقْتُلُ حَالَ الْأَلَمِ، وَلَا تَوَاطُؤَ، فَلَا قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بَلْ يَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ الْأَوَّلِ حِصَّةُ ضَرْبِهِ مِنْ دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَعَلَى الثَّانِي حِصَّةُ ضَرْبِهِ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ بِاعْتِبَارِ الضَّرَبَاتِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا قَتَلُوا وَاحِدًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقِصَاصُ، إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوِ انْفَرَدَ بِفِعْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: - بَعْدَ ذَلِكَ- رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةَ.وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

وَلَا يُعْتَبَرُ- عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ التَّسَاوِي فِي سَبَبِهِ، فَلَوْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جُرْحًا، وَالْآخَرُ مِائَةً فَمَاتَ، كَانَا سَوَاءً فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ التَّسَاوِي يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنِ الْمُشْتَرِكِينَ إِذْ لَا يَكَادُ جُرْحَانِ يَتَسَاوَيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوِ احْتُمِلَ التَّسَاوِي لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ وَلَا يُكْتَفَى بِاحْتِمَالِ الْوُجُودِ، بَلِ الْجَهْلُ بِوُجُودِهِ كَالْعِلْمِ بِعَدَمِهِ فِي انْتِفَاءِ الْحُكْمِ؛ وَلِأَنَّ الْجُرْحَ الْوَاحِدَ قَدْ يَمُوتُ مِنْهُ دُونَ الْمِائَةِ؛ وَلِأَنَّ الْجِرَاحَ إِذَا أَفَضْت إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا، فَكَانَ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ كَحُكْمِ الْوَاحِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ كُلَّهَا فَمَاتَ وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ فَمَاتَ.

الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:

8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ أَوْ جِنَايَةٍ عَلَى طَرَفٍ مُوجِبَيْنِ لِلْقِصَاصِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ فَقَالَا: هَذَا هُوَ السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي الْأَوَّلِ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الثَّانِي وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقِصَاصِ فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالْأَنْفُسِ.

وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فِعْلُ أَحَدِهِمْ عَنْ فِعْلِ الْآخَرِ، كَأَنْ يَضَعُوا سَيْفًا عَلَى يَدِ شَخْصٍ وَيَتَحَامَلُوا عَلَيْهِ حَتَّى تَبِينُ يَدُهُ، فَإِنْ قَطَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَانِبٍ، أَوْ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ ضَرْبَةً فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَقْطَعِ الْيَدَ، وَلَمْ يُشَارِكْ فِي قَطْعِ جَمِيعِهَا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تُقْطَعُ الْيَدَانِ، أَوِ الْأَيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ؛ لِانْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْأَطْرَافِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْقِيمَةِ بِخِلَافِ النَّفْسِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الْمُسَاوَاةُ فِي الْعِصْمَةِ.

وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَطْرَافَ لَا تُؤْخَذُ بِطَرَفٍ وَاحِدٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَمَيَّزَتْ جِنَايَاتٌ مِنْ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَمُتِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ تَمَالُؤٌ مِنْهُمْ، فَيُقْتَصُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ فِعْلِهِ، وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزِ الْجِنَايَاتُ مَعَ عَدَمِ التَّمَالُؤِ فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ جَمِيعِ الْجِنَايَاتِ، وَأَمَّا إِنْ تَمَالَئُوا اُقْتُصَّ مِنْ كُلٍّ بِقَدْرِ الْجَمِيعِ تَمَيَّزَتِ الْجِنَايَاتُ أَمْ لَا.

ثَانِيًا- تَوَاطُؤُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طَلَاقٍ فِي وَقْتٍ سَابِقٍ:

9- إِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ وَأَسْنَدَ هَذَا الطَّلَاقَ إِلَى وَقْتٍ سَابِقٍ عَلَى وَقْتِ الْإِقْرَارِ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ.فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَقَرَّ بِطَلَاقِهَا مُنْذُ زَمَانٍ مَاضٍ فَإِنَّ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ وَتَعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ صَدَّقَتْهُ أَمْ كَذَّبَتْهُ، أَمْ قَالَتْ لَا أَدْرِي نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ أَيِ الْمُوَافَقَةِ عَلَى الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَقَرَّ صَحِيحٌ بِطَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ مُتَقَدِّمٍ عَلَى وَقْتِ إِقْرَارِهِ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، اسْتَأْنَفَتِ امْرَأَتُهُ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ إِقْرَارِهِ، فَيُصَدَّقُ فِي الطَّلَاقِ لَا فِي إِسْنَادِهِ لِلْوَقْتِ السَّابِقِ، وَلَوْ صَدَّقَتْهُ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى إِسْقَاطِ الْعِدَّةِ وَهِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْعِدَّةُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي أَسْنَدَتِ الْبَيِّنَةُ الطَّلَاقَ فِيهِ.وَالْمَرِيضُ كَالصَّحِيحِ فِي هَذَا عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرِيضِ بَيِّنَةٌ وَرِثَتْهُ أَبَدًا إِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَلَمْ يَقْصِدْ إِنْشَاءَ طَلَاقٍ بَلْ قَصَدَ الْإِخْبَارَ بِالطَّلَاقِ أَمْسِ فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَصَدَّقَتْهُ تُحْسَبُ عِدَّتُهَا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ.

وَيُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ مِثْلُ مَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ. ثَالِثًا- التَّوَاطُؤُ عَلَى الرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إِذَا انْقَضَتْ فَقَالَ الزَّوْجُ: كُنْت رَاجَعْتهَا فِي الْعِدَّةِ وَصَدَّقَتْهُ فَهِيَ رَجْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ، فَكَانَ مُتَّهَمًا، إِلاَّ أَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ تَرْتَفِعُ التُّهْمَةُ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ لَا تَثْبُتُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ مُجَرَّدُ دَعْوَى تَمَلُّكِ بُضْعِهَا أَوْ مَنْفَعَتِهِ بَعْدَ ظُهُورِ انْقِطَاعِ مِلْكِهِ، وَمُجَرَّدُ دَعْوَى مِلْكٍ فِي وَقْتٍ لَا يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُ فِيهِ لَا يَجُوزُ قَبُولُهَا مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ فِيهِ إِنْشَاؤُهُ كَأَنْ يَقُولَ فِي الْعِدَّةِ: كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ ثَبَتَتْ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَّهَمًا فِيهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يُنْشِئَهُ فِي الْحَالِ، أَوْ يَجْعَلَ ذَلِكَ إِنْشَاءً إِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ تَحْتَمِلُهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (جناية على ما دون النفس 1)

جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ -1

التَّعْرِيف:

1- الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ.وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: الْجِنَايَةُ شَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ خَصُّوا لَفْظَ الْجِنَايَةِ بِمَا حَلَّ بِنَفْسٍ أَوْ أَطْرَافٍ، وَالْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ بِمَا حَلَّ بِمَالٍ.

وَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كُلُّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ عَلَى الْأَطْرَافِ أَوِ الْأَعْضَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَطْعِ، أَمْ بِالْجَرْحِ، أَمْ بِإِزَالَةِ الْمَنَافِعِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيّ:

كُلُّ جِنَايَةٍ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا عُدْوَانًا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا.

الْحُكْمُ الْوَضْعِيّ:

2- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ بِاخْتِلَافِ كَوْنِهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِذَا كَانَتْ عَمْدًا فَمُوجِبُهَا الْقِصَاصُ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهَا شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ يَأْتِي ذِكْرُهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ، وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لَا: وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ سِنُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ».

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا أَمْكَنَ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ فَشُرِعَ الْجَزَاءُ صَوْنًا لَهُ.

وَإِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا غَيْرَ مُسْتَجْمِعٍ لِسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فَمُوجِبُهَا الدِّيَةُ، أَوِ الْأَرْشُ، أَوْ حُكُومَةُ عَدْلٍ، عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ.

فَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ قِسْمَانِ: الْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ، وَالْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلدِّيَةِ وَغَيْرِهَا.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ:

3- تَكُونُ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهَا الشُّرُوطُ الْآتِيَةُ:

(1) أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عَمْدًا:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَمْدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ:

فَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَمَا كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا يُقْصَدُ إِتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً فَاسْتَوَتِ الْآلَاتُ كُلُّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْدِ، فَكَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا مَحْضًا.

وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ يَكُونَ الْجُرْحُ نَاتِجًا عَنْ قَصْدِ الضَّرْبِ عَدَاوَةً، فَالْجُرْحُ النَّاتِجُ عَنِ اللَّعِبِ، أَوِ الْأَدَبِ لَا قِصَاصَ فِيهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَتْلِ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا، يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الطَّرَفِ أَيْضًا، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجِرَاحَاتِ وَإِبَانَةِ الْأَطْرَافِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَمِنْ صُوَرِ شِبْهِ الْعَمْدِ أَنْ يَضْرِبَ رَأْسَهُ بِلَطْمَةٍ أَوْ حَجَرٍ لَا يَشُجُّ غَالِبًا لِصِغَرِهِ، فَيَتَوَرَّمُ الْمَوْضِعُ وَيَتَّضِحُ الْعَظْمُ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ غَالِبًا، مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَصَاةٍ لَا تُوضِحُ مِثْلُهَا، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ.

(2) أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عُدْوَانًا:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُدْوَانَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْجَانِي مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ.كَأَنْ يَكُونَ الْجَانِي:

أ- غَيْرَ أَهْلٍ لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَيُعْتَبَرُ الشَّخْصُ كَامِلَ الْأَهْلِيَّةِ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ.

ب- إِذَا كَانَ ارْتِكَابُ الْفِعْلِ الضَّارِّ بِحَقٍّ أَوْ شُبْهَةٍ.

فَلَا يُقْتَصُّ مِمَّنْ أَقَامَ الْحَدَّ، أَوْ نَفَّذَ التَّعْزِيرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَتْلًا أَمْ قَطْعًا، وَلَا مِنَ الطَّبِيبِ بِشُرُوطِهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ فِعْلِ الطَّبِيبِ هُوَ شِفَاءُ الْمَرِيضِ لَا الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ، وَلَا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّائِلِ بِشُرُوطِهِ.وَلَا مِمَّنِ ارْتَكَبَ الْجِنَايَةَ بِأَمْرٍ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَمَنْ قَالَ لآِخَرَ: اقْطَعْ يَدَيَّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْكَ، فَقَطَعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ الْإِثْمِ عَلَيْهِمَا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ الْمَقْطُوعُ عَلَى إِبْرَاءِ الْقَاطِعِ، بِأَنْ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ الْقَطْعِ، أَمَّا إِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَلَيْسَ عَلَى الْقَاطِعِ إِلاَّ الْأَدَبُ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ الْأَدَبُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ اسْتِمْرَارِ الْمَقْطُوعِ عَلَى الْإِبْرَاءِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ.

(3) كَوْنُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُكَافِئًا لِلْجَانِي فِي الصِّفَاتِ الْآتِيَةِ عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الْآتِيَيْنِ:

أ- التَّكَافُؤُ فِي النَّوْعِ (الذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ):

6- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي النَّوْعِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِنَفْسِ أَحْكَامِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُكَافِئَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ فِي النَّوْعِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلتَّكَافُؤِ أَنْ يَكُونَ أَرْشُ كُلٍّ مِنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى، فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْأُرُوشُ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.وَفِي الْوَاقِعَاتِ: لَوْ قَطَعَتِ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ كَانَ لَهُ الْقَوَدُ، إِذَا رَضِيَ بِالْقَوَدِ عَنِ الْأَرْشِ.

وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الشِّجَاجِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشِّجَاجِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْحَاقُ شَيْنٍ وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ، وَفِي الطَّرَفِ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَا فِيهِ.

ب- التَّكَافُؤُ فِي الدِّينِ:

7- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ التَّكَافُؤِ فِي الدِّينِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْأَرْشِ، وَكَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ النَّاقِصِ عَلَى الْكَامِلِ كَجِنَايَةِ ذِي يَدٍ شَلاَّءَ عَلَى صَحِيحَةٍ فِي الْجِرَاحِ، وَيَلْزَمُهُ لِلْكَامِلِ مَا فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِلاَّ فَحُكُومَةُ عَدْلٍ إِنْ بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي إِلاَّ الْأَدَبُ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَلِ، فَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ، وَلَا عَكْسَ فِيهِ.وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ أَيْضًا كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، وَلَا يُجْرَحُ بِجُرْحِهِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِ. ج- التَّكَافُؤُ فِي الْعَدَدِ:

8- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ، فَقَالَا: هَذَا هُوَ السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي الْأَوَّلِ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الثَّانِي وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا.فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ تَعَمَّدَ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقِصَاصِ، فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالْأَنْفُسِ.

هَذَا إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ، أَمَّا لَوْ تَمَيَّزَ: بِأَنْ قَطَعَ هَذَا مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا مِنْ جَانِبٍ حَتَّى الْتَقَتِ الْحَدِيدَتَانِ، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْيَدِ، وَأَبَانَهَا الْآخَرُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ تَلِيقُ بِجِنَايَتِهِ.وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ مَجْمُوعُ الْحُكُومَتَيْنِ دِيَةَ الْيَدِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْكُلِّ إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً: قَلَعَ أَحَدُهُمْ عَيْنَهُ، وَالْآخَرُ قَطَعَ يَدَهُ، وَالثَّالِثُ رِجْلَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ مَنِ الَّذِي فَقَأَ الْعَيْنَ وَقَطَعَ الرِّجْلَ أَوِ الْيَدَ، وَلَا تَمَالُؤَ بَيْنَهُمُ، اقْتُصَّ مِنْ كُلٍّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ، وَقَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ تَمَيَّزَتْ جِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ وَلَا تَمَالُؤَ بَيْنَهُمْ، فَيُقْتَصُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ كَفِعْلِهِ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ فَلَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، كَالِاثْنَيْنِ إِذَا قَطَعَا يَدَ رَجُلٍ، أَوْ رِجْلَهُ، أَوْ أَذْهَبَا سَمْعَهُ أَوْ بَصَرَهُ، أَوْ قَلَعَا سِنًّا لَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْجِنَايَاتِ الَّتِي عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا فِيهَا الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، بَلْ عَلَيْهِمَا الْأَرْشُ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِمُ الْأَرْشُ عَلَى عَدَدِهِمْ بِالسَّوَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْأَيْدِي وَيَدٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي الذَّاتِ وَلَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَلَا فِي الْفِعْلِ.وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

(4) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَحَلِّ:

9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ تَوَافُرُ التَّمَاثُلِ بَيْنَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَمَحَلِّ الْقِصَاصِ، فَلَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنَ الْأَصْلِ إِلاَّ بِمِثْلِهِ، فَلَا تُؤْخَذُ الْيَدُ إِلاَّ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْيَدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَلَمْ يَكُنْ مِثْلًا لَهَا، إِذْ التَّجَانُسُ شَرْطٌ لِلْمُمَاثِلَةِ، وَكَذَا الرِّجْلُ، وَالْإِصْبَعُ، وَالْعَيْنُ، وَالْأَنْفُ وَنَحْوُهَا.وَكَذَا لَا تُؤْخَذُ الْأَصَابِعُ إِلاَّ بِمِثْلِهَا، فَلَا تُؤْخَذُ الْإِبْهَامُ إِلاَّ بِالْإِبْهَامِ، وَلَا السَّبَّابَةُ إِلاَّ بِالسَّبَّابَةِ، وَهَكَذَا فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَصَابِعِ مُخْتَلِفَةٌ، فَكَانَتْ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَكَذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ فِي كُلِّ مَا انْقَسَمَ إِلَى يَمِينٍ وَيَسَارٍ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْأُذُنَيْنِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَغَيْرِهَا.وَكَذَلِكَ فِي الْأَسْنَانِ لَا تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ إِلاَّ بِالثَّنِيَّةِ لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا، فَإِنَّ بَعْضَهَا قَوَاطِعُ، وَبَعْضَهَا ضَوَاحِكُ، وَاخْتِلَافُ الْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يُلْحِقُهُمَا بِجِنْسَيْنِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ مِنَ الْأَسْنَانِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا انْقَسَمَ إِلَى أَعْلَى وَأَسْفَل.

(5) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ تَتَمَاثَلَ مَنَافِعُهَا عِنْدَ الْجَانِي وَعِنْدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ فِي الْأَطْرَافِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ لَمْ يُؤَثِّرِ التَّفَاوُتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالضَّخَامَةِ وَالنَّحَافَةِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَجْمِ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنَافِعِهَا.وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ.

إِمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ:

11- يَتَحَقَّقُ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَقَدْ رَوَى نَمِرُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الْقِصَاصَ، قَالَ: خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا» وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ. وَهَذَا مَا لَمْ يَرْضَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ مِنْ مَفْصِلٍ أَدْنَى مِنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَظْمِ..

أَنْوَاعُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:

(إِذَا كَانَتْ عَمْدًا):

12- الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْقَطْعِ وَالْإِبَانَةِ، أَوْ بِالْجُرْحِ الَّذِي يَشُقُّ، أَوْ بِإِزَالَةِ مَنْفَعَةٍ بِلَا شَقٍّ وَلَا إِبَانَةَ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ- أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ بِالْقَطْعِ وَالْإِبَانَةِ:

13- يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ إِذَا أَدَّتْ إِلَى قَطْعِ الْعُضْوِ أَوِ الطَّرَفِ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى كُلٍّ:

1- الْجِنَايَةُ عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْيَدُ بِالْيَدِ، وَالرِّجْلُ بِالرِّجْلِ، وَلَا يُؤَثِّرُ التَّفَاوُتُ فِي الْحَجْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ، فَتُؤْخَذُ الْيَدُ الصَّغِيرَةُ بِالْكَبِيرَةِ، وَالْقَوِيَّةُ بِالضَّعِيفَةِ، وَيَدُ الصَّانِعِ بِيَدِ الْأَخْرَقِ.وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ الْكَمَالُ وَالصِّحَّةُ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

أ- الْكَمَال:

15- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي قَطْعِ كَامِلَةِ الْأَصَابِعِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِعِ، لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، فَلَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ، يَدَ مَنْ لَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ حَقِّهِ، وَلَا ذَاتُ أَظْفَارٍ بِمَا لَا أَظْفَارَ لَهَا؛ لِزِيَادَتِهَا عَلَى حَقِّهِ، وَلَا بِنَاقِصَةِ الْأَظْفَارِ، سَوَاءٌ رَضِيَ الْجَانِي بِذَلِكَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الدِّمَاءَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ.وَإِنْ كَانَتْ أَظْفَارُ الْمَقْطُوعَةِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ خَضْرَاءَ أَوْ رَدِيئَةٍ أُخِذَتْ بِهَا السَّلِيمَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ وَمَرَضٌ، وَالْمَرَضُ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَصَابِعِ الْجَانِي بِعَدَدِ أَصَابِعِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْمَقْطُوعَةِ، أَوْ يَأْخُذَ دِيَتَهَا.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي طَرَفِ الْجَانِي، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ هُوَ السَّلِيمُ، وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ فَوَاتِ السَّلَامَةِ، وَأَمْكَنَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِلْزَامِ الِاسْتِيفَاءِ حَتْمًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيُخَيَّرُ: إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَاهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إِلَى بَدَلِ حَقِّهِ وَهُوَ كَمَالُ الْأَرْشِ، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ النُّقْصَانِ إِذَا كَانَ أُصْبُعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ فَقَالُوا: إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ رِجْلُهُ أُصْبُعًا، فَالْقَوَدُ عَلَى الْجَانِي الْكَامِلِ الْأَصَابِعِ وَلَا غَرَامَةَ عَلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْأُصْبُعُ النَّاقِصُ إِبْهَامًا.وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ بِأَنْ نَقَصَتِ الْيَدُ أُصْبُعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا يُقْتَصُّ مِنَ الْكَامِلَةِ.

وَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ أَوْ رِجْلُ الْجَانِي النَّاقِصَةُ أُصْبُعًا بِالْكَامِلَةِ بِلَا غُرْمٍ عَلَيْهِ لِأَرْشِ الْأُصْبُعِ، إِذْ هُوَ نَقْصٌ لَا يَمْنَعُ الْمُمَاثَلَةَ.وَلَا خِيَارَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَيُخَيَّرُ إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْجَانِي أَوْ رِجْلُهُ أَكْثَر مِنْ أُصْبُعٍ فِي الْقِصَاصِ، وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَيَأْخُذَ أَرْشَ النَّاقِصِ.

وَأَمَّا النَّاقِصَةُ بِالنَّاقِصَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، بِأَنَّهُ تُؤْخَذُ إِذَا تَسَاوَتَا فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ الْجَانِي كَالْمَقْطُوعِ مِنْ يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَتَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَةِ، فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَا فِي النَّقْصِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمَا الْإِبْهَامَ، وَمِنَ الْأُخْرَى أُصْبُعَ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ.

ب- الصِّحَّة:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ بِشَلاَّءَ وَإِنْ رَضِيَ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الشَّلاَّءَ لَا نَفْعَ فِيهَا سِوَى الْجَمَالِ، فَلَا يُؤْخَذُ بِهَا مَا فِيهِ نَفْعٌ، وَالْوَاجِبُ فِي الطَّرَفِ الْأَشَلِّ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالصَّحِيحَةِ، وَقَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالصَّحِيحَةِ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا، فَذَلِكَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ لَا تُقْطَعُ يَدُ الْجَانِي إِذَا كَانَتْ شَلاَّءَ بِالْيَدِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْقِصَاصِ فِيهَا.وَعَلَيْهِ الْعَقْلُ أَيِ الدِّيَةُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تُقْطَعُ إِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالْبَصَرِ، بِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ الدَّمُ، وَلَا تُقْطَعُ إِنْ قَالُوا: لَا يَنْسَدُّ فَمُ الْعُرُوقِ بِالْحَسْمِ، وَلَا يَنْقَطِعُ الدَّمُ، وَتَجِبُ دِيَةُ يَدِهِ.

وَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ، لِأَنَّ الشَّلَلَ عِلَّةٌ، وَالْعِلَلُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَنِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمَا إِنِ اسْتَوَيَا فِي الشَّلَلِ، أَوْ كَانَ شَلَلُ يَدِ الْقَاطِعِ أَكْثَرَ قُطِعَتْ بِهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَافَ نَزْفُ الدَّمِ.وَإِنْ كَانَ الشَّلَلُ فِي يَدِ الْمَقْطُوعِ أَكْثَرَ لَمْ يُقْطَعْ بِهَا.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَشَلَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ أَقَلَّ شَلَلًا أَمْ أَكْثَرَهُمَا، أَمْ هُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّلَلِ فِي يَدَيْهِمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ أَرْشَيْهِمَا، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ.

وَقَالَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَا سَوَاءً فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّ شَلَلًا كَانَ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَ الْقَاطِعِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ أَرْشَ يَدِهِ شَلاَّءَ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَكْثَرَ شَلَلًا، فَلَا قِصَاصَ وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ.

2- الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَيْنِ:

17- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَيْنِ بِالْقَلْعِ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ؛ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}؛ وَلِأَنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى مَفْصِلٍ فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهَا كَالْيَدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ، الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.

وَتُؤْخَذُ عَيْنُ الشَّابِّ بِعَيْنِ الشَّيْخِ، وَعَيْنُ الصَّغِيرِ، بِعَيْنِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الصِّفَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَلَعَ عَيْنَهُ بِأُصْبُعِهِ لَا يَجُوزُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ بِإِصْبَعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ.

وَأَمَّا أَخْذُ الْعَيْنِ السَّلِيمَةِ بِالْمَرِيضَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالضَّعِيفَةِ الْإِبْصَارِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي الْأَرْجَحِ- إِلَى أَنَّهُ لَوْ فَقَأَ شَخْصٌ عَيْنًا حَوْلَاءَ، وَكَانَ الْحَوَلُ لَا يَضُرُّ بِبَصَرِهِ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ الْحَوْلَاءِ مُطْلَقًا.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنٍ فِيهَا بَيَاضٌ يُبْصِرُ بِهَا، وَعَيْنُ الْجَانِي كَذَلِكَ فَلَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ، وَفِي عَيْنِ الْفَاقِئِ بَيَاضٌ يُنْقِصُهَا، فَلِلرَّجُلِ أَنْ يَفْقَأَ الْبَيْضَاءَ، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشَ عَيْنِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ. جِنَايَةُ الْأَعْوَرِ عَلَى صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ وَعَكْسُهَا:

18- إِذَا قَلَعَ الْأَعْوَرُ الْعَيْنَ الْيُمْنَى لِصَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ، وَيُسْرَى الْفَاقِئِ ذَاهِبَةٌ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُتْرَكُ أَعْمَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ مُغَفَّلٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ فَقَأَ أَعْوَرُ مِنْ سَالِمٍ مُمَاثَلَتَهُ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ فَقَأَ غَيْرَ مُمَاثَلَتِهِ فَنِصْفُ دِيَةٍ فَقَطْ فِي مَالِ الْجَانِي، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ، وَإِنْ فَقَأَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيِ السَّالِمِ عَمْدًا فَالْقِصَاصُ فِي الْمُمَاثِلَةِ لِعَيْنِهِ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي لَيْسَ لَهُ مِثْلُهَا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ فَلَا قَوَدَ، وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ- رضي الله عنهما- وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمَا، فَصَارَ إِجْمَاعًا.وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَا عَيْنَيْنِ.

وَصَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ بِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَأَعْطَاهُ نِصْفَ دِيَةٍ.

وَإِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحٍ فَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ».

وَإِذَا فَقَأَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ الْعَيْنَ السَّالِمَةَ مِنْ عَيْنِ أَعْوَرَ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ بِأَخْذِ نَظِيرَتِهَا مِنْ صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ مِثْلِهَا، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، وَأَذْهَبَ الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَخْذُ يُمْنَى بِيُسْرَى، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِ نِصْفِ الضَّوْءِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوِ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَشَلُّ يَدًا صَحِيحَةً، وَلِعُمُومِ قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}.

وَلَوْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ مِثْلِهِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مِثْلَ الْعَيْنِ فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ يَسَارًا، وَإِنْ عَفَا إِلَى الدِّيَةِ فَلَهُ جَمِيعُهَا.

19- أَمَّا الْأَجْفَانُ، وَالْأَشْفَارُ، فَلَا قِصَاصَ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا بِالدِّيَةِ وَالْمَالِكِيَّةَ بِحُكُومَةِ عَدْلٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ لِانْتِهَائِهِ إِلَى مَفْصِلٍ، وَيُؤْخَذُ جَفْنُ الْبَصِيرِ بِجَفْنِ الْبَصِيرِ وَالضَّرِيرِ، وَجَفْنُ الضَّرِيرِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي السَّلَامَةِ مِنَ النَّقْصِ.

3- الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَنْفِ:

20- الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَارِنِ- وَهُوَ مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ- مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ، وَإِنْ قَطَعَ الْمَارِنَ كُلَّهُ مَعَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ، فَفِي الْمَارِنِ الْقِصَاصُ، وَفِي الْقَصَبَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِذْ لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ وَلَكِنْ فِي الْمَارِنِ قِصَاصٌ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ الْأَنْفُ الْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالْأَقْنَى بِالْأَفْطَسِ، وَأَنْفُ صَحِيحِ الشَّمِّ بِالْأَخْشَمِ الَّذِي لَا يَشُمُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ فِي الدِّمَاغِ، وَالْأَنْفُ صَحِيحٌ.وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ الصَّحِيحُ بِالْمَجْذُومِ مَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَرَضٌ، فَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، يُقْطَعُ مِنْهُ مَا كَانَ بَقِيَ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، أَوْ أَخَذَ أَرْشَ ذَلِكَ.

وَفَصَّلَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: يُؤْخَذُ الْأَنْفُ السَّلِيمُ بِالْمَجْذُومِ إِنْ كَانَ فِي حَالِ الِاحْمِرَارِ، وَإِنِ اسْوَدَّ فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي حَدِّ الْبِلَى، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَنْفُ الْقَاطِعِ أَصْغَرَ، خُيِّرَ الْمَقْطُوعُ أَنْفُهُ الْكَبِيرُ إِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَكَذَا إِذَا كَانَ قَاطِعُ الْأَنْفِ أَخْشَمَ، أَوْ أَصْرَمَ الْأَنْفِ، أَوْ بِأَنْفِهِ نُقْصَانٌ مِنْ شَيْءٍ أَصَابَهُ، فَإِنَّ الْمَقْطُوعَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَطْعِ وَبَيْنَ أَخْذِ دِيَةِ أَنْفِهِ.

وَيُؤْخَذُ الْمَنْخِرُ الْأَيْمَنُ بِالْأَيْمَنِ، وَالْأَيْسَرُ بِالْأَيْسَرِ، وَلَا يُؤْخَذُ الْعَكْسُ، وَيُؤْخَذُ الْحَاجِزُ بِالْحَاجِزِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ لِانْتِهَائِهِ إِلَى حَدٍّ.

وَفِي قَطْعِ بَعْضِ الْمَارِنِ الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ دُونَ الْمِسَاحَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.

4- الْجِنَايَةُ عَلَى الْأُذُنِ:

21- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْأُذُنَ تُؤْخَذُ بِالْأُذُنِ؛ لقوله تعالى: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ}.وَلِأَنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ فَاصِلٍ، فَأَشْبَهَتِ الْيَدَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ أُذُنِ السَّمِيعِ وَالْأَصَمِّ؛ لِتَسَاوِيهِمَا، فَإِنَّ ذَهَابَ السَّمْعِ نَقْصٌ فِي الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَلَيْسَ بِنَقْصٍ فِيهَا، كَمَا نَصَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَخْذِ الْأُذُنِ الشَّلاَّءِ بِغَيْرِهَا، لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهَا بِجَمْعِ الصَّوْتِ.

فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ فِي بَعْضِ الْأُذُنِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ إِنْ كَانَ لَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ وَتُمْكِنُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَإِلاَّ سَقَطَ الْقِصَاصُ.

وَتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمَثْقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الثُّقْبَ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ فِي الْعَادَةِ لِلْقُرْطِ وَالتَّزَيُّنِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، أَوْ كَانَتْ أُذُنُ الْقَاطِعِ مَخْرُومَةً، وَالْمَقْطُوعَةُ سَالِمَةً، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ نَاقِصَةً كَانَتْ لَهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الْمَخْرُومَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الثُّقْبَ إِذَا انْخَرَمَ صَارَ نَقْصًا فِيهَا، وَالثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ عَيْبٌ.

أَمَّا الْأُذُنُ الْمُسْتَحْشِفَةُ (الْيَابِسَةُ) فَتُؤْخَذُ بِالصَّحِيحَةِ، وَكَذَلِكَ الصَّحِيحَةُ تُؤْخَذُ بِهَا فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا جَمْعُ الصَّوْتِ، وَحِفْظُ مَحَلِّ السَّمْعِ وَالْجَمَالِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِهَا، كَحُصُولِهِ بِالصَّحِيحَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ.وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمُسْتَحْشِفَةِ؛ لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ، فَتَكُونُ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ.

5- الْجِنَايَةُ عَلَى اللِّسَانِ:

22- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- إِلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ اللِّسَانُ بِاللِّسَانِ، لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}.وَلِأَنَّ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ كَالْعَيْنِ، وَلَا يُؤْخَذُ لِسَانُ نَاطِقٍ بِلِسَانِ أَخْرَسَ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ بِرِضَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ، وَلَوْ قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ لِعُسْرِ اسْتِقْصَاءِ اللِّسَانِ مِنْ أَصْلِهِ.

6- الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَةِ:

23- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الشَّفَةِ مُطْلَقًا لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}.وَلِأَنَّ لَهَا حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْهُ، فَوَجَبَ كَالْيَدَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الشَّفَةِ إِذَا قَطَعَهَا جَمِيعًا؛ لِلْمُسَاوَاةِ، وَإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-موسوعة الفقه الكويتية (جهل)

جَهْلٌ

التَّعْرِيف:

1- الْجَهْلُ لُغَةً: نَقِيضُ الْعِلْمِ.يُقَالُ جَهِلْتُ الشَّيْءَ جَهْلًا وَجَهَالَةً بِخِلَافِ عَلِمْتُهُ، وَجَهِلَ عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ أَوْ خَطَأَ.

وَجَهِلَ الْحَقَّ أَضَاعَهُ، فَهُوَ جَاهِلٌ وَجَهْلٌ.وَجَهَّلْتُهُ- بِالتَّثْقِيلِ- نَسَبْتُهُ إِلَى الْجَهْلِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: بَسِيطٌ وَمُرَكَّبٌ.

أ- الْجَهْلُ الْبَسِيطُ: هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا.

ب- الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ: عِبَارَةٌ عَنِ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ.

وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ «جَهَالَةٌ» التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مُصْطَلَحَيْ (جَهْلٌ وَجَهَالَةٌ) فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ لَهُمَا حَيْثُ يَسْتَعْمِلُونَ الْجَهْلَ فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الْإِنْسَانِ بِهِ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَيَسْتَعْمِلُونَ الْجَهَالَةَ فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الشَّيْءِ الْمَجْهُولِ بِهَا (ر: جَهَالَةٌ).

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- النِّسْيَان:

2- النِّسْيَانُ لُغَةً لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ الذِّكْرِ لَهُ.

وَالثَّانِي: التَّرْكُ عَنْ تَعَمُّدٍ وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}

أَيْ: لَا تَقْصِدُوا التَّرْكَ وَالْإِهْمَالَ.وَنَسِيتُ رَكْعَةً أَهْمَلْتُهَا ذُهُولًا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْمَجَازِ نَسِيتُ الشَّيْءَ تَرَكْتُهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْلُومٍ فِي غَيْرِ حَالِ السُّنَّةِ، فَلَا يُنَافِي الْوُجُوبَ أَيْ: نَفْسَ الْوُجُوبِ، لَا وُجُوبَ الْأَدَاءِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: النِّسْيَانُ لَا إِثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، بِخِلَافِ الْجَهْلِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَعَلُّمُهُ.وَالنِّسْيَانُ أَيْضًا يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ، وَالْجَهْلُ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ.

قَالَ التَّهَانُوِيُّ: وَكَذَا الْغَفْلَةُ وَالذُّهُولُ وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ بَعْدَ الْعِلْمِ يُسَمَّى نِسْيَانًا.

قَالَ الْآمِدِيُّ: إِنَّ الذُّهُولَ وَالْغَفْلَةَ وَالنِّسْيَانَ عِبَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَكِنْ يَقْرُبُ أَنْ تَكُونَ مَعَانِيهَا مُتَّحِدَةً، وَكُلُّهَا مُضَادَّةٌ لِلْعِلْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا مَعَهُ.

ب- السَّهْو:

3- السَّهْوُ فِي اللُّغَةِ مِنْ سَهَا يَسْهُو سَهْوًا: أَيْ غَفَلَ، وَالسَّهْوَةُ: الْغَفْلَةُ.

وَفَرَّقُوا بَيْنَ السَّاهِي وَالنَّاسِي بِأَنَّ النَّاسِيَ، إِذَا ذَكَّرْتَهُ تَذَكَّرَ، وَالسَّاهِيَ بِخِلَافِهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ التَّهَانَوِيُّ: وَيَقْرَبُ مِنْهُ أَيْ مِنَ (الْجَهْلِ) السَّهْوُ وَكَأَنَّهُ جَهْلٌ بَسِيطٌ سَبَبُهُ عَدَمُ اسْتِثْبَاتِ التَّصَوُّرِ حَتَّى إِذَا نُبِّهَ السَّاهِي أَدْنَى تَنْبِيهٍ تَنَبَّهَ.

أَقْسَامُ الْجَهْلِ:

يَنْقَسِمُ الْجَهْلُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أَوَّلًا- الْجَهْلُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَصْلُحُ عُذْرًا:

4- وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصْلُحُ عُذْرًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَقَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ حَتَّى لَا يُقْتَلَ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ حَتَّى إِنَّهُ يُعَاقَبُ فِيهَا.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ جَهْلُ الْكُفَّارِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَصْلًا، لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ، وَكَذَا عَلَى حَقِّيَّةَ الرَّسُولِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.

وَكَذَا جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى الَّذِي يَقُولُ بِحُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَقُولُ بِعَدَمِ إِثْبَاتِ صِفَةٍ لَهُ سُبْحَانَهُ.

هَذَا مَا قَالَهُ الْحَمَوِيُّ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْجَهْلُ بِالصِّفَةِ هَلْ هُوَ جَهْلٌ بِالْمَوْصُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؟

الْمُرَجَّحُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِالذَّاتِ مِنْ حَيْثُ صِفَاتُهَا لَا مُطْلَقًا، وَمِنْ ثَمَّ لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.

وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا جَهْلُ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ، أَوْ عَمِلَ بِالْغَرِيبِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ أَصْلًا.

ثَانِيًا- الْجَهْلُ الَّذِي يَصْلُحُ عُذْرًا:

5- الْجَهْلُ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا هُوَ الْجَهْلُ الَّذِي يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ، بِأَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ كَالْمُحْتَجِمِ إِذَا أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْحِجَامَةَ مُفْطِرَةٌ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حِجَامَةٌ).

وَمِنَ الْجَهْلِ الَّذِي يَصْلُحُ عُذْرًا، الْجَهْلُ بِالشَّرَائِعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ عُذْرًا مِنْ مُسْلِمٍ أَسْلَمَ فِيهَا وَلَمْ يُهَاجِرْ، حَتَّى لَوْ مَكَثَ فِيهَا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَغَيْرَهُمَا وَلَمْ يُؤَدِّهَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ الْخِطَابُ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً بِالسَّمَاعِ وَتَقْدِيرًا بِالشُّهْرَةِ، فَيَصِيرُ جَهْلُهُ بِالْخِطَابِ عُذْرًا.بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِشُيُوعِ الْأَحْكَامِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ السُّؤَالِ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: كُلُّ مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ غَالِبُ النَّاسِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَى الْجَهْلِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ يَخْفَى فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ، كَتَحْرِيمِ الزِّنَى، وَالْقَتْلِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْخَمْرِ، وَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَوْ شَهِدَا بِقَتْلٍ ثُمَّ رَجَعَا وَقَالَا تَعَمَّدْنَا، لَكِنْ مَا عَرَفْنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِنَا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَصَحِّ، إِذْ لَمْ يَظْهَرْ تَعَمُّدُهُمَا لِلْقَتْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَعْنِي الَّذِي يُقْبَلُ فِيهِ دَعْوَى الْجَهْلِ مُطْلَقًا لِخَفَائِهِ كَوْنُ التَّنَحْنُحِ مُبْطِلًا لِلصَّلَاةِ، أَوْ كَوْنُ الْقَدْرِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنَ الْكَلَامِ مُحَرَّمًا، أَوِ النَّوْعِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مُفْطِرًا، فَالْأَصَحُّ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ عَدَمُ الْبُطْلَانِ.

وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْجَهْلِ فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَهِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ كَثُبُوتِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ رَجُلٍ قَدِيمِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْخَوَاصُّ.

6- هَذَا وَيَعْقِدُ الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَابًا لِعَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ، وَيَجْعَلُونَ الْجَهْلَ مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَقَدْ قَسَّمَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ الْجَهْلَ إِلَى أَنْوَاعٍ هِيَ:

الْأَوَّلُ: الْجَهْلُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْلِ وَتَرْكِ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ وَهُوَ جَهْلُ الْكَافِرِ، لَا يَكُونُ عُذْرًا بِحَالٍ، بَلْ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

الثَّانِي: الْجَهْلُ الَّذِي يَكُونُ عَنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْلِ وَتَرْكِ الْحُجَّةِ الْجَلِيَّةِ أَيْضًا، لَكِنَّ الْمُكَابَرَةَ فِيهِ أَقَلُّ مِنْهَا فِي الْأَوَّلِ؛ لِكَوْنِ هَذَا الْجَهْلِ نَاشِئًا عَنْ شُبْهَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ.وَهَذَا الْجَهْلُ لِلْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَهَذَا الْجَهْلُ لَا يَكُونُ عُذْرًا، وَلَا نَتْرُكُهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ، فَإِنَّ لَنَا أَنْ نَأْخُذَهُمْ بِالْحُجَّةِ لِقَبُولِهِمُ التَّدَيُّنَ بِالْإِسْلَامِ.

الثَّالِثُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَكِنْ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ بِأَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ.

وَحُكْمُهُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عُذْرًا فِي حَقِّ الْإِثْمِ لَكِنْ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِهِ.

الرَّابِعُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنِ اجْتِهَادٍ فِيهِ مَسَاغٌ كَالْمُجْتَهَدَاتِ وَهُوَ عُذْرٌ أَلْبَتَّةَ وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِهِ.

الْخَامِسُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنْ شُبْهَةٍ وَخَطَأٍ كَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَهَذَا عُذْرٌ يُسْقِطُ الْحَدَّ.

السَّادِسُ: جَهْلٌ لَزِمَهُ ضَرُورَةً بِعُذْرٍ وَهُوَ أَيْضًا عُذْرٌ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، كَجَهْلِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَلَا يُحَدُّ بِالشُّرْبِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الْجَهْلُ بِالتَّحْرِيمِ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ وَالْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ:

7- الْجَهْلُ بِالتَّحْرِيمِ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ وَالْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ لِمَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ لَمْ يُعْذَرْ.

وَلِهَذَا لَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ عُذِرَ، وَلَوْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ وَجَهِلَ الْإِبْطَالَ بَطَلَتْ.وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ جِنْسَ الْكَلَامِ يَحْرُمُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ التَّنَحْنُحَ وَالْمِقْدَارَ الَّذِي نَطَقَ بِهِ مُحَرَّمٌ فَمَعْذُورٌ فِي الْأَصَحِّ.وَقَدْ ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ هُنَا تَنْبِيهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا وَادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَكَانَ مِثْلُهُ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيمَا قَالَهُ (الْقَاضِي) نَظَرٌ قَوِيٌّ.

الثَّانِي: أَنَّ إِعْذَارَ الْجَاهِلِ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ لَا مِنْ حَيْثُ جَهْلُهُ.

وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ عُذِرَ الْجَاهِلُ لِأَجْلِ جَهْلِهِ لَكَانَ الْجَهْلُ خَيْرًا مِنَ الْعِلْمِ، إِذْ كَانَ يَحُطُّ عَنِ الْعَبْدِ أَعْبَاءَ التَّكْلِيفِ، وَيُرِيحُ قَلْبَهُ مِنْ ضُرُوبِ التَّعْنِيفِ، فَلَا حُجَّةَ لِلْعَبْدِ فِي جَهْلِهِ بِالْحُكْمِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ وَالتَّمْكِينِ؛ {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.

قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ تَدِقُّ وَيَغْمُضُ مَعْرِفَتُهَا هَلْ يُعْذَرُ فِيهَا الْعَامِّيُّ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ.

الْجَهْلُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ مُسْقِطٌ لِحُكْمِهِ:

8- إِذَا نَطَقَ الْأَعْجَمِيُّ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ، أَوْ إِيمَانٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إِعْتَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ.نَعَمْ، لَوْ قَالَ الْأَعْجَمِيُّ: أَرَدْتُ بِهِ مَا يُرَادُ عِنْدَ أَهْلِهِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلاَّ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى اللَّفْظِ لَمْ يَصِحَّ قَصْدُهُ.

وَلَوْ نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِكَلِمَاتٍ عَرَبِيَّةٍ لَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهَا فِي الشَّرْعِ، مِثْلُ قَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ، وَهُوَ جَاهِلٌ بِمَعْنَى اللَّفْظِ، أَوْ نَطَقَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوِ النِّكَاحِ، فَفِي الْقَوَاعِدِ لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ؛ إِذْ لَا شُعُورَ لَهُ بِمَدْلُولِهِ حَتَّى يَقْصِدَهُ بِاللَّفْظِ.قَالَ: وَكَثِيرًا مَا يُخَالِعُ الْجُهَّالُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَدْلُولَ لَفْظِ الْخُلْعِ وَيَحْكُمُونَ بِصِحَّتِهِ لِلْجَهْلِ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ.

مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ:

9- كُلُّ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْهُ ذَلِكَ، كَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ يُحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَقُّهُ الِامْتِنَاعَ، وَكَذَا لَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْقِصَاصُ، أَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَجَهِلَ كَوْنَهُ مُبْطِلًا يُبْطِلُ، أَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ تَجِبُ.

الْجَهْلُ عُذْرٌ فِي الْمَنْهِيَّاتِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:

10- الْجَهْلُ عُذْرٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْإِعَادَةِ لِجَهْلِهِ بِالنَّهْيِ».وَحَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: حَيْثُ «أَمَرَ - صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِيًّا بِنَزْعِ الْجُبَّةِ عَنْهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْفِدْيَةِ لِجَهْلِهِ».

وَاحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ فِي الْإِحْرَامِ جَاهِلًا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ إِقَامَةُ مَصَالِحِهَا.وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِفِعْلِهَا، وَالْمَنْهِيَّاتُ مَزْجُورٌ عَنْهَا بِسَبَبِ مَفَاسِدِهَا امْتِحَانًا لِلْمُكَلَّفِ بِالِانْكِفَافِ عَنْهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّعَمُّدِ لِارْتِكَابِهَا، وَمَعَ الْجَهْلِ لَمْ يَقْصِدْ الْمُكَلَّفُ ارْتِكَابَ الْمَنْهِيِّ، فَعُذِرَ بِالْجَهْلِ فِيهِ.

أَمَّا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَقَدْ لَا يُعْذَرُ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَرِيضًا جَهِلَ مَرَضَهُ ضَرْبًا يَقْتُلُ الْمَرِيضَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَصَحِّ.بِخِلَافِ مَا لَوْ حَبَسَ مَنْ بِهِ جُوعٌ وَعَطَشٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ مُدَّةً لَا يَمُوتُ فِيهَا الشَّبْعَانُ عِنْدَ الْحَبْسِ فَلَا قِصَاصَ.

وَكَأَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ أَمَارَاتِ الْمَرَضِ لَا تَخْفَى بِخِلَافِ الْجُوعِ.

أَحْكَامُ الْجَهْلِ:

لِلْجَهْلِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:

جَهْلُ الْمَرْأَةِ عَادَتَهَا:

11- الْمَرْأَةُ إِذَا جَهِلَتْ عَادَتَهَا لِنِسْيَانٍ أَوْ جُنُونٍ وَنَحْوِهِمَا (وَهِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ) سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَحَيُّرِهَا فِي أَمْرِهَا، وَهِيَ الْمُسْتَحَاضَةُ غَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ.لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِلْقَدْرِ وَالْوَقْتِ، أَوْ لِلْقَدْرِ دُونَ الْوَقْتِ، أَوْ بِالْعَكْسِ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (حَيْضٌ).

الْجَهْلُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ:

12- مَنْ جَهِلَ الْوَقْتَ لِعَارِضٍ كَغَيْمٍ، أَوْ حَبْسٍ، وَعَدِمَ ثِقَةً يُخْبِرُهُ بِهِ عَنْ عِلْمٍ، اجْتَهَدَ جَوَازًا إِنْ قَدَرَ عَلَى الْيَقِينِ بِالصَّبْرِ أَوِ الْخُرُوجِ وَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ مَثَلًا، وَإِلاَّ فَوُجُوبًا بِوِرْدٍ مِنْ قُرْآنٍ، وَدَرْسٍ، وَمُطَالَعَةٍ وَصَلَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِالنَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ:

13- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى حَامِلًا نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا وَلَا يَعْلَمُهَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ الْخَبَثِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ إِلاَّ حَالَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِالْمُطَهَّرِ وَسَاتِرِ الْعَوْرَةِ:

14- إِذَا اخْتَلَطَ مَاءٌ طَاهِرٌ بِآخَرَ نَجِسٍ، وَلَمْ يَعْلَمِ الطَّاهِرَ مِنْهُمَا، هَلْ يَجْتَهِدُ وَيَتَحَرَّى وَيَتَطَهَّرُ وَيُصَلِّي أَمْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (مَاءٌ وَصَلَاةٌ).

وَمِثْلُهُ إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِأُخْرَى نَجِسَةٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، وَلَنْ يَجِدَ مَا يُطَهِّرُهَا بِهِ وَاحْتَاجَ إِلَى الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُصَلِّي بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ اشْتِبَاهٌ مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ف 13 ج 4 ص 294

الْجَهْلُ بِالْقِبْلَةِ:

15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وَمَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ يَسْأَلُ مَنْ يَعْلَمُهَا، فَإِذَا تَعَذَّرَ السُّؤَالُ اجْتَهَدَ.

عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (اسْتِقْبَالٌ، وَاشْتِبَاهٌ).

الْجَهْلُ بِالْفَاتِحَةِ:

16- مَنْ جَهِلَ الْفَاتِحَةَ بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ مَعْرِفَتُهَا لِعَدَمِ مُعَلِّمٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَتَى فِي الصَّلَاةِ بِبَدَلِهَا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، أَتَى بِالذِّكْرِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي عَنْهُ.فَقَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ».وَلَا يُجْزِئُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُجْزِئُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ:

17- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ إِنْ جَحَدَهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِوُجُوبِهَا يَكْفُرُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا كَأَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ، أَوْ جَزِيرَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (رِدَّةٌ، صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِمُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ:

18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُعْذَرُ مَنْ يَجْهَلُ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ يُبْطِلُهَا عَالِمًا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَوْ جَاهِلًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ قَلِيلًا جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إِنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، بِخِلَافِ مَنْ بَعُدَ إِسْلَامُهُ وَقَرُبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ الْعِلْمِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).

قَضَاءُ الْفَوَائِتِ الْمَجْهُولَةِ:

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ لَا يَدْرِي عَدَدَهَا وَتَرَكَهَا لِعُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنَ الْفُرُوضِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ بِأَكْبَرِ رَأْيِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ يَقْضِي حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءُ الْفَوَائِتِ).

الْجَهْلُ بِوَقْتِ الصَّوْمِ:

20- لَوْ اشْتَبَهَ رَمَضَانُ عَلَى أَسِيرٍ وَمَحْبُوسٍ وَنَحْوِهِمَا، صَامَ وُجُوبًا شَهْرًا بِالِاجْتِهَادِ، كَمَا فِي اجْتِهَادِهِ لِلصَّلَاةِ فِي الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ بِأَمَارَةٍ كَخَرِيفٍ، أَوْ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، فَلَوْ صَامَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَوَافَقَ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِئْهُ لِتَرَدُّدِهِ فِي النِّيَّةِ، (انْظُرْ: اشْتِبَاهٌ ف 15 ج 4 ص 296 وَصَوْمٌ).

جِمَاعُ الصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ:

21- لَا كَفَّارَةَ عَلَى الصَّائِمِ الْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ إِذَا جَامَعَ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ، كَفَّارَةٌ).

جِمَاعُ مُحْرِمٍ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ:

22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ جِنَايَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْجَزَاءُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَغَيْرُهُمَا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَاهِلَ إِذَا كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ لَا يَفْسُدُ إِحْرَامُهُ بِالْجِمَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 170 ج 2 ص 190).

الْجَهْلُ لَا يُعْفِي مِنْ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ:

23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَهْلَ بِكَوْنِ الْمَالِ الْمُتْلَفِ مَالَ الْغَيْرِ لَا يُعْفِيهِ مِنَ الضَّمَانِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ).

الْحَجْرُ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِلِ:

24- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ.وَالطَّبِيبُ الْجَاهِلُ: هُوَ مَنْ يَسْقِي النَّاسَ دَوَاءً مُهْلِكًا، وَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِمُ الْمَرَضُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ ضَرَرِهِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْرٌ).

طَلَاقُ مَنْ جَهِلَ مَعْنَى الطَّلَاقِ:

25- لَا يَقَعُ طَلَاقُ مَنْ يَجْهَلُ مَعْنَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الطَّلَاقِ.

قَالَ فِي الْمُغْنِي: إِنْ قَالَ الْأَعْجَمِيُّ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ لِلطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمُكْرَهِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (طَلَاقٌ).

الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى:

26- يُعْذَرُ الْجَاهِلُ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى إِنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ أَوْ كَانَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ وَزَنَى قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْأَحْكَامَ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٌ، زِنًى).

الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ السَّرِقَةِ:

27- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ- بِشَرْطِهِ- سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ أَمْ جَاهِلًا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ يَدَ السَّارِقِ الْجَاهِلِ لَا تُقْطَعُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (سَرِقَةٌ).

الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ:

28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهَا خَمْرٌ لَا يُحَدُّ، أَمَّا إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا خَمْرٌ لَكِنَّهُ ادَّعَى الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (حُدُودٌ، سُكْرٌ).

تَوْلِيَةُ الْجَاهِلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَضَاءَ:

29- الْأَصْلُ فِيمَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِهِ الْقَضَاءَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدِ الْعَالِمُ.وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ).

الْجَهْلُ بِالْبَيْعَةِ لِلْإِمَامِ الْأَوَّلِ:

30- إِذَا عُقِدَتِ الْبَيْعَةُ لِإِمَامَيْنِ وَجُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ.وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى، وَبَيْعَةٌ).

التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ الْجَهْلِ:

31- قَالَ الْحَمَوِيُّ: إِنَّ مَنْ تَلَفَّظَ بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَنِ اعْتِقَادٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهَا

لَفْظُ الْكُفْرِ إِلاَّ أَنَّهُ أَتَى بِهِ عَنِ اخْتِيَارٍ فَيَكْفُرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكْفُرُ، وَالْجَهْلُ عُذْرٌ، وَبِهِ يُفْتَى؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ مَأْمُورٌ أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُوجِبُ التَّكْفِيرَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْجَهْلُ عُذْرًا لَحُكِمَ عَلَى الْجُهَّالِ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَلْفَاظَ الْكُفْرِ، وَلَوْ عَرَفُوا لَمْ يَتَكَلَّمُوا، قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَهُوَ حَسَنٌ لَطِيفٌ.

وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً فِي زَمَنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قِيلَ لَهَا: إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَتْ: لَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ عِبَادُهُ، فَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا كَفَرَتْ فَإِنَّهَا جَاهِلَةٌ، فَعَلَّمُوهَا حَتَّى عَلِمَتْ.

وَقَالَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَكْفُرُ مَنْ نَسَبَ الْأُمَّةَ إِلَى الضَّلَالِ، أَوِ الصَّحَابَةَ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ أَنْكَرَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ أَنْكَرَ الدَّلَالَةَ عَلَى اللَّهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي خَلْقِهِمَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، أَوْ أَنْكَرَ بَعْثَ اللَّهِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُمُ الْأَصْلِيَّةَ وَيُعِيدَ الْأَرْوَاحَ إِلَيْهَا، أَوْ أَنْكَرَ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ، أَوِ الْحِسَابَ أَوِ الثَّوَابَ أَوِ الْعِقَابَ أَوْ أَقَرَّ بِهَا لَكِنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ مَعَانِيهَا، أَوْ قَالَ: إِنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ وَأَكَلْتُ مِنْ ثِمَارِهَا وَعَانَقْتُ حُورَهَا، أَوْ قَالَ: الْأَئِمَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، هَذَا إِنْ عَلِمَ مَا قَالَهُ، لَا إِنْ جَهِلَ ذَلِكَ لِقُرْبِ إِسْلَامِهِ، أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَكْفُرُ لِعُذْرِهِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (خطأ 4)

خَطَأٌ -4

ثَانِيًا- مَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً:

62- الْوَاجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِمَّا دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَمَا فِي ذَهَابِ كُلٍّ مِنَ الْكَلَامِ، وَالسَّمْعِ، وَاللِّسَانِ، وَالْأَنْفِ، وَفِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، أَوْ نِسْبَةٍ مِنَ الدِّيَةِ كَمَا فِي الْمُوضِحَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالْآمَّةِ، وَالْجَائِفَةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ).

ثَالِثًا- جِنَايَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَطْرَافِهِ خَطَأً:

63- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً لَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْلِهِ وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَتَهُ.لِأَنَّ « عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ، وَلَمْ يَقْضِ فِيهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِدِيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا »، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ؛ وَلِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ كَالْعَمْدِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْأَظْهَرِ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ: إِنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ إِنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، أَوْ أَرْشَ جُرْحِهِ لِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ رَجُلًا سَاقَ حِمَارًا فَضَرَبَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ فَطَارَتْ مِنْهَا شَظِيَّةٌ فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ فَجَعَلَ عُمَرُ- رضي الله عنه- دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّارَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْقَتْلِ فَإِذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بَطَلَ الْخِطَابُ بِهَا كَمَا تَسْقُطُ دِيَتُهُ عَنِ الْعَاقِلَةِ لِوَرَثَتِهِ.

رَابِعًا- الْخَطَأُ فِي التَّصَادُمِ:

64- التَّصَادُمُ قَدْ يَقَعُ مِنْ فَارِسَيْنِ، أَوْ مِنْ مَاشِيَيْنِ، أَوْ مِنْ سَفِينَتَيْنِ، وَقَدْ يَقَعُ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ، وَالْوَاجِبُ فِي حَالِ الْخَطَأِ هَلْ يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا تَلِفَ مِنَ الْآخَرِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ مَالٍ، أَوْ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ بِأَنْ يَضْمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ قِيمَةِ مَا تَلِفَ مِنَ الْآخَرِ؟ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَحَلُّهُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ، إِتْلَافٌ، قَتْلٌ، ضَمَانٌ).

خَامِسًا- فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ خَطَأً:

65- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ خَرَقَ شَخْصٌ سَفِينَتَهُ عَامِدًا خَرْقًا يُهْلِكُ غَالِبًا، فَالْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَى الْخَارِقِ، وَخَرْقُهَا لِلْإِصْلَاحِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَإِنْ أَصَابَ غَيْرَ مَوْضِعِ الْإِصْلَاحِ فَخَرَقَهُ فَخَطَأٌ مَحْضٌ.

وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ إِذَا خَرَقَ السَّفِينَةَ خَطَأً فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ.

وَإِذَا قَامَ لِيُصْلِحَ مَوْضِعًا فَقَلَعَ لَوْحًا، أَوْ يُصْلِحَ مِسْمَارًا فَثَقَبَ مَوْضِعًا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ قَبِيلِ عَمْدِ الْخَطَأِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ؟

ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَالثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ قَصَدَ فِعْلًا مُبَاحًا فَأَفْضَى إِلَى التَّلَفِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَ آدَمِيًّا، لَكِنْ إِنْ قَصَدَ قَلْعَ اللَّوْحِ مِنْ مَوْضِعٍ يَغْلِبُ أَنَّهُ لَا يُتْلِفُهَا فَأَتْلَفَهَا فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ وَفِيهِ مَا فِيهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ضَمَانِ الْمَلاَّحِ: لَوْ دَخَلَهَا الْمَاءُ فَأَفْسَدَ الْمَتَاعَ فَلَوْ بِفِعْلِهِ وَحْدَهُ يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ بِلَا فِعْلِهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لَا يَضْمَنُ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ.

وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَبُّ الْمَتَاعِ أَوْ وَكِيلُهُ فِي السَّفِينَةِ، فَلَوْ كَانَ لَا يَضْمَنُ فِي جَمِيعِ مَا مَرَّ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ بِأَنْ لَمْ يُجَاوِزَ الْمُعْتَادَ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَمَلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إِلَيْهِ.

م- الْخَطَأُ فِي الْأَيْمَانِ:

أَوَّلًا: الْخَطَأُ فِي حَلِفِ الْيَمِينِ:

66- مَعْنَى الْخَطَأِ فِي الْيَمِينِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَبْقُ اللِّسَانِ إِلَى غَيْرِ مَا قَصَدَهُ الْحَالِفُ وَأَرَادَهُ بِأَنْ أَرَادَ شَيْئًا فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: اسْقِنِي الْمَاءَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ.

وَأَوْجَبُوا فِيهِ الْكَفَّارَةَ إِنْ حَنِثَ لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْيَمِينُ »

وَقَالُوا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ تَرْفَعُ الْإِثْمَ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ التَّوْبَةُ.وَخَالَفَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ فِي انْعِقَادِ يَمِينِ الْمُخْطِئِ وَقَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ جَعَلَ الْهَزْلَ بِالْيَمِينِ جِدًّا، وَالْهَازِلُ قَاصِدٌ لِلْيَمِينِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ رِضَاهُ بِهِ شَرْعًا بَعْدَ مُبَاشَرَتِهِ السَّبَبَ مُخْتَارًا، وَالنَّاسِي بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا أَصْلًا وَلَمْ يَدْرِ مَا صَنَعَ، وَكَذَا الْمُخْطِئُ لَمْ يَقْصِدْ قَطُّ التَّلَفُّظَ بِهِ، بَلْ بِشَيْءٍ آخَرَ فَلَا يَكُونُ الْوَارِدُ فِي الْهَازِلِ وَارِدًا فِي النَّاسِي الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ قَطُّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ نَصًّا وَلَا قِيَاسًا.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْخَطَأِ:

الْأَوَّلُ- سَبْقُ اللِّسَانِ بِمَعْنَى غَلَبَتِهِ وَجَرَيَانِهِ عَلَى لِسَانِهِ نَحْوُ: لَا وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا.

الثَّانِي- انْتِقَالُهُ مِنْ لَفْظٍ لآِخَرَ وَالْتِفَاتُهُ إِلَيْهِ عِنْدَ إِرَادَةِ النُّطْقِ بِغَيْرِهِ.

وَقَالُوا: إِنَّ الْقِسْمَ الْأَخِيرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ وَيَدِينُ أَيْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ دِيَانَةً، كَسَبْقِ اللِّسَانِ فِي الطَّلَاقِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَلْزَمُهُ الْيَمِينُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى لَفْظِ الْيَمِينِ بِلَا قَصْدٍ فِي حَالِ غَضَبِهِ: كَلَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ، وَكَذَا فِي حَالِ عَجَلَتِهِ، أَوْ صِلَةِ كَلَامِهِ، أَوْ أَرَادَ الْيَمِينَ عَلَى شَيْءٍ فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ.فَإِذَا حَلَفَ وَقَالَ: لَمْ أَقْصِدَ الْيَمِينَ صُدِّقَ، أَمَّا الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِيلَاءِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الظَّاهِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِإِجْرَاءِ لَفْظِ الْيَمِينِ بِلَا قَصْدٍ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَدَعْوَاهُ فِيهِمَا بِخِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يُقْبَلُ، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِالْيَمِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَصْدِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ فَيُبَيِّنُ بِخِلَافِهِ، وَمَنْ سَبَقَ الْيَمِينُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا إِثْمَ فِي هَذَا النَّوْعِ وَلَا كَفَّارَةَ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالُوا: إِنْ عَقَدَهَا (أَيِ الْيَمِينَ) عَلَى زَمَنٍ خَاصٍّ مَاضٍ يَظُنُّ صِدْقَ نَفْسِهِ كَأَنْ حَلَفَ مَا فَعَلَ كَذَا يَظُنُّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ فَبَانَ بِخِلَافِهِ حَنِثَ فِي طَلَاقٍ وَعَتَاقٍ فَقَطْ، بِخِلَافِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ أَوْ بِنَذْرٍ أَوْ ظِهَارٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْأَيْمَانِ.

وَكَذَا إِذَا عَقَدَهَا عَلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ ظَانًّا صِدْقَهُ فَلَمْ يَكُنْ كَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ يُطِيعُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، أَوْ ظَنَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ خِلَافَ نِيَّةِ الْحَالِفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَانٌ).

ثَانِيًا- الْخَطَأُ فِي الْحِنْثِ:

67- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ سَوَاءٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَوِ النِّسْيَانِ فِي الْيَمِينِ أَوِ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَعْدَمُهُ الْإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ، وَكَذَا الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ مُخْتَارًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْحِنْثُ هُوَ مُخَالَفَةُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، فَمَنْ حَنِثَ مُخْطِئًا كَأَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا غَيْرُهَا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْخَطَأِ أَيْضًا مَا إِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مِنْهُ دَرَاهِمَ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ ثَوْبًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ فِيهِ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَقِيلَ بِعَدَمِ الْحِنْثِ، وَقِيلَ بِالْحِنْثِ إِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ فِيهِ دَرَاهِمَ قِيَاسًا عَلَى السَّرِقَةِ وَإِلاَّ فَلَا حِنْثَ.

وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ فَقَالُوا: مُتَعَلِّقُ الْخَطَأِ الْجَنَانُ، وَمُتَعَلِّقُ الْغَلَطِ اللِّسَانُ فَحَيْثُ قَالُوا بِالْحِنْثِ الْمُرَادُ بِهِ الْغَلَطُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْجَنَانِ لَا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْغَلَطِ اللِّسَانِيِّ فَالصَّوَابُ عَدَمُ الْحِنْثِ فِيهِ.وَمَثَّلُوا لِلْغَلَطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَطَأِ: حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ زَيْدًا فَكَلَّمَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ عَمْرٌو، أَوْ حَلَفَ لَا يَذْكُرُ فُلَانًا فَذَكَرَهُ لِظَنِّهِ أَنَّهُ غَيْرُ الِاسْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا نَاسِيًا لِلْيَمِينِ أَوْ جَاهِلًا أَنَّهَا الدَّارُ الْمَحْلُوفَةُ عَلَيْهَا هَلْ يَحْنَثُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: سَوَاءٌ كَانَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَوَجْهُ الْحِنْثِ قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.وَوَجْهُ عَدَمِ الْحِنْثِ وَهُوَ الرَّاجِحُ قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ » وَالْيَمِينُ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ حَالَ كَوْنِهِ مُخْتَارًا ذَاكِرًا إِنْ فَعَلَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا فَلَا كَفَّارَةَ، لِحَدِيثِ: « إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ».وَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إِذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِهِمَا نَاسِيًا وَالْجَاهِلُ كَالنَّاسِي فَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ فَدَخَلَهَا جَاهِلًا بِأَنَّهَا دَارُهُ حَنِثَ فِي طَلَاقٍ وَعَتَاقٍ فَقَطْ.

ن- الْغَلَطُ فِي الْقِسْمَةِ:

68- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَقَاسَمَا أَرْضًا ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا غَلَطًا، فَإِنْ كَانَ فِي قِسْمَةِ إِجْبَارٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ الْقَاسِمَ كَالْحَاكِمِ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْغَلَطِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ.

فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْغَلَطِ نُقِضَتِ الْقِسْمَةُ.

وَإِنْ كَانَتْ قِسْمَةَ اخْتِيَارٍ: فَإِنْ تَقَاسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا مِنْ غَيْرِ قَاسِمٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَخْذِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً لَمْ تُقْبَلْ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَ دُونَ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُمَا قَاسِمٌ نَصَّبَاهُ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى التَّرَاضِي بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَخْذِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّرَاضِي بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ فَهُوَ كَقِسْمَةِ الْإِجْبَارِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.

وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: إِنَّهُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ- حَتَّى فِي صُورَةِ مَا تَمَّتْ قِسْمَتُهُ تَرَاضَيَا- إِنَّهُ مَتَى أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِالْغَلَطِ نُقِضَتِ الْقِسْمَةُ، لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ثُمَّ ادَّعَى غَلَطًا فِي كَيْلِهِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ الْغَلَطَ فِي الْقِسْمَةِ وَزَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا أَصَابَهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ- وَكَانَ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ- لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا فَلَا يُصَدَّقُ إِلاَّ بِحُجَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتُحْلِفَ الشُّرَكَاءُ فَمَنْ نَكَلَ مِنْهُمْ جَمَعَ بَيْنَ نَصِيبِ النَّاكِلِ وَالْمُدَّعِي فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمَا، لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً فَيُعَامَلَانِ عَلَى زَعْمِهِمَا، وَإِنْ قَالَ أَصَابَنِي إِلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَيَّ وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَكَذَّبَهُ شَرِيكُهُ تَحَالَفَا وَفُسِخَتِ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ فَصَارَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمَبِيعِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ الْجَوْرَ وَالْغَلَطَ، فَإِنْ تَحَقَّقَ الْحَاكِمُ عَدَمَهُمَا مُنِعَ مُدَّعِيهِ مِنْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَفَاحِشًا وَلَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ حَلَفَ الْمُنْكِرُ لِدَعْوَى صَاحِبِهِ أَنَّ الْقَاسِمَ لَمْ يَجْرِ، وَلَمْ يَغْلَطْ، فَإِنْ نَكَلَ الْمُنْكِرُ لِدَعْوَى صَاحِبِهِ قُسِمَ مَا ادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهُ حَصَلَ بِهِ الْجَوْرُ وَالْغَلَطُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ نَصِيبِ كُلٍّ، وَأَمَّا إِذَا ثَبَتَ مَا ذُكِرَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، أَوْ كَانَ مُتَفَاحِشًا وَهُوَ مَا يَظْهَرُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ.

وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالْجَوْرِ مَا كَانَ عَنْ عَمْدٍ، وَبِالْغَلَطِ مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ عَمْدٍ.

س- الْخَطَأُ فِي الْإِقْرَارِ وَالْغَلَطُ فِيهِ:

69- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا رَجَعَ الْمُقِرُّ فِي حَالِ تَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ، بِأَنْ يَقُولَ غَلِطْتُ فِي الْإِقْرَارِ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْأَصَحِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَالَ الْمُقَرَّ بِهِ يُتْرَكُ فِي يَدِهِ، وَالثَّانِي: لَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى هِيَ أَنَّهُ إِذَا كَذَّبَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ بِمَالٍ كَثَوْبٍ هَلْ يُتْرَكُ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَوْ يَنْتَزِعُهُ الْحَاكِمُ وَيَحْفَظُهُ إِلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ؟ فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَالَ يُتْرَكُ فِي يَدِهِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ يُنْتَزَعُ مِنْهُ فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذِهِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقْرَارٌ).

ع- الْخَطَأُ فِي الشَّهَادَةِ:

70- وَفِيهَا مَسَائِلُ:

أَوَّلًا- إِذَا قَالَ الشَّاهِدَانِ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا وَهِمْنَا أَوْ غَلِطْنَا فِي شَهَادَتِنَا بِدَمٍ أَوْ حَقٍّ عَلَى زَيْدٍ بَلْ هُوَ عَمْرٌو. قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَهِدَ عَدْلٌ فَلَمْ يَبْرَحْ عَنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَلَمْ يَطُلِ الْمَجْلِسُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ الْمَشْهُودُ لَهُ حَتَّى قَالَ: أَخْطَأْتُ بَعْضَ شَهَادَتِي، وَلَا مُنَاقَضَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ بِهِ لَوْ عَدْلًا، وَلَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَقِيلَ يُقْضَى بِمَا بَقِيَ إِنْ تَدَارَكَهُ بِنُقْصَانٍ، وَإِنْ بِزِيَادَةٍ يُقْضَى بِهَا إِنِ ادَّعَاهَا الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ يُجْعَلُ كَحُدُوثِهِ عِنْدَهَا.

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: ثُمَّ قِيلَ: يُقْضَى بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ بِهِ أَوَّلًا، حَتَّى لَوْ شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ: غَلِطْتُ فِي خَمْسِمِائَةٍ يُقْضَى بِأَلْفٍ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ أَوَّلًا صَارَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي وَوَجَبَ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ.

وَقِيلَ: يُقْضَى بِمَا بَقِيَ لِأَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَحُدُوثِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ.ثُمَّ قَالَ: وَذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ: أَنَّ الشَّاهِدَ إِذَا قَالَ وَهِمْتُ فِي الزِّيَادَةِ أَوْ فِي النُّقْصَانِ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِذَا كَانَ عَدْلًا وَلَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: سَقَطَتِ الشَّهَادَتَانِ: الْأُولَى لِاعْتِرَافِهِمَا بِأَنَّهُمَا عَلَى وَهْمٍ وَشَكٍّ، وَالثَّانِيَةُ لِاعْتِرَافِهِمَا بِعَدَمِ عَدَالَتِهِمَا حَيْثُ شَهِدَا عَلَى شَكٍّ، وَكَذَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ إِنْ كَانَتْ فِي دَمٍ لَا فِي مَالٍ فَلَا تَسْقُطُ، وَيَدْفَعُ لِمَنْ شَهِدَا لَهُ بِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يُغَرِّمَانِهِ.وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالْأَكْثَرُ: لَا يَغْرَمَانِ إِذَا قَالَا وَهِمْنَا.

وَفِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ: إِذَا ادَّعَى الشَّاهِدُ الْغَلَطَ فَاخْتُلِفَ هَلْ يَلْزَمُهُ مَا لَزِمَ الْمُتَعَمِّدَ لِلْكَذِبِ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا تُضْمَنُ فِي الْخَطَأِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا رَجَعَ الشُّهُودُ قَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَصَدَقُوا فِي الْأَوَّلِ أَوْ فِي الثَّانِي فَلَا يَبْقَى ظَنُّ الصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ، أَوْ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ مَالٍ اسْتُوْفِيَ، أَوْ قَبْلَ عُقُوبَةٍ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالزِّنَى وَالشُّرْبِ، فَلَا يُسْتَوْفَى لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ، وَالْمَالُ لَا يَسْقُطُ بِهَا.

فَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُنْقَضِ الْحُكْمُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَوْفَى قِصَاصًا، أَوْ قَتْلَ رِدَّةٍ، أَوْ رَجْمَ زِنًى أَوْ جَلْدَهُ وَمَاتَ الْمَجْلُودُ، وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا فَعَلَيْهِمْ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، فَإِنْ قَالُوا أَخْطَأْنَا فَلَا قِصَاصَ، فَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ تَعَمَّدْتُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَخْطَأْتُ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَالُوا غَلِطْنَا ضَمِنُوا لِاعْتِرَافِهِمْ بِتَعَمُّدِ الْإِتْلَافِ بِقَوْلِهِمْ كَذَبْنَا، أَوْ بِخَطَئِهِمْ بِقَوْلِهِمْ غَلِطْنَا.

وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ قِصَاصٍ أَوْ شُهُودُ حَدٍّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُسْتَوْفَ الْقَوَدُ وَلَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ عُقُوبَةٌ لَا سَبِيلَ إِلَى جَبْرِهَا إِذَا اسْتُوْفِيَتْ بِخِلَافِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ شُبْهَةٌ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِمْ، وَالْقَوَدُ وَالْحَدُّ يُدْرَآنِ بِالشُّبْهَةِ، وَوَجَبَتْ دِيَةُ قَوَدٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ وَقَدْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَيَرْجِعُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الشُّهُودِ.

وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُمْ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَقَالُوا أَخْطَأْنَا فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ مَا تَلِفَ مُخَفَّفَةٌ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ، وَتَكُونُ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِمْ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُهُ.

ثَانِيًا- مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْغَلَطِ فِي الشَّهَادَةِ:

71- الْأُولَى-

إِذَا غَلِطَ الشُّهُودُ فِي الْحَدِّ الرَّابِعِ مِنْ حُدُودِ الدَّارِ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ الْمُدَّعَى بِالْغَلَطِ نَظِيرُ مَا إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَتَرَكَا ذِكْرَ الثَّمَنِ جَازَ، وَلَوْ غَلَطَا فِي الثَّمَنِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ صَارَ عَقْدًا آخَرَ بِالْغَلَطِ.

الثَّانِيَةُ- إِذَا قَالَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَشْهَدْنَا شُهُودَ الْفَرْعِ وَغَلِطْنَا، قَالَ مُحَمَّدٌ بِالضَّمَانِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ بِعَدَمِهِ.

الثَّالِثَةُ- الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ غَلَطٌ لِلْعَقْلِ بِذَلِكَ وَعَزَاهُ الْبَاجِيُّ لِلْمَشْهُورِ.وَقِيلَ: إِنَّ الْغَلَطَ نَادِرٌ.

الرَّابِعَةُ- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اتَّهَمَ الْقَاضِي الشَّاهِدَيْنِ بِالْغَلَطِ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِئَلاَّ يُرْعَبَ الشَّاهِدُ وَيَخْتَلِطَ عَقْلُهُ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُفَرَّقُ إِنِ ارْتَابَ فِي الشُّهُودِ.

الْخَامِسَةُ- لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَخْصٍ مَعْرُوفٍ بِكَثْرَةِ غَلَطٍ وَنِسْيَانٍ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ لَا تَحْصُلُ بِقَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُ مِمَّا غَلِطَ فِيهَا وَسَهَا.

السَّادِسَةُ- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ: لَا يَكْفِي فِي التَّعْدِيلِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ عَدْلٌ وَقَدْ غَلِطَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَيَّ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ لَا فِي التَّعْدِيلِ، وَقَوْلُهُ غَلِطَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ؛ لِأَنَّ إِنْكَارَهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِعَدَالَتِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِنِسْبَتِهِ لِلْغَلَطِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ.

ثَالِثًا- الشُّهُودُ إِذَا رَجَعُوا عَنِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَالُوا أَخْطَأْنَا هَلْ يُعَزَّرُونَ؟

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُعَزَّرُونَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} هَذَا إِنْ كَانَ قَوْلُهُمْ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ فِي الْخَطَأِ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ عُزِّرُوا وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ.

قَالَ الْعَدَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْخَرَشِيِّ: وَإِنْ أَشْكَلَ فَقَوْلَانِ، وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: وَإِنِ ادَّعَوْا الْغَلَطَ أَيْ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ التَّعْزِيرَ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ قَوْلَهُ: يُعَزَّرُ الشُّهُودُ سَوَاءٌ رَجَعُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.قَالَ: وَلَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ: لِأَنَّ الرُّجُوعَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ تَوْبَةٌ عَنْ تَعَمُّدِ الزُّورِ إِنْ تَعَمَّدَهُ، أَوِ السَّهْوِ وَالْعَجَلَةِ إِنْ كَانَ أَخْطَأَ فِيهِ، وَلَا تَعْزِيرَ عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا عَلَى ذَنْبٍ ارْتَفَعَ بِهَا وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ.

ف- الْخَطَأُ فِي الْقَضَاءِ:

72- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: مَدَارُ نَقْضِ الْحُكْمِ عَلَى تَبَيُّنِ الْخَطَأِ، وَالْخَطَأُ إِمَّا فِي اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ تَبَيَّنَ النَّصُّ أَوِ الْإِجْمَاعُ أَوِ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ بِخِلَافِهِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ، وَإِمَّا فِي السَّبَبِ حَيْثُ يَكُونُ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ، كَشَهَادَةِ الزُّورِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ).

الْخَطَأُ فِي تَنْفِيذِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ:

73- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: قَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِذَا أَخْطَأَ الْإِمَامُ فَظَنَّ الْيَسَارَ يَمِينًا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَمِينِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

وَنَظِيرُهُ لَوْ قَالَ الْحَاكِمُ لِمُقِيمِ الْحَدِّ: اقْطَعْ يَدَ السَّارِقِ، فَقَطَعَ الْيُسْرَى خَطَأً قَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَضْمَنُ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ بِعُذْرٍ.وَدَلِيلُهُمْ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْيَسَارَ مُقَامَ الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِهِ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، فَكَانَ هَذَا خَطَأً مِنَ الْمُجْتَهِدِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَطَعَ يَدَ السَّارِقِ الْيُسْرَى أَوَّلًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ عَنْ قَطْعِ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَمَحَلُّ الْإِجْزَاءِ إِذَا حَصَلَ الْخَطَأُ بَيْنَ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ أَخْطَأَ فَقَطَعَ الرَّجُلُ وَقَدْ وَجَبَ قَطْعُ الْيَدِ، وَنَحْوِهِ، فَلَا يُجْزِئُ، وَيُقْطَعُ الْعُضْوُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَيُؤَدِّي دِيَةَ الْآخَرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَا وَجَبَ بِخَطَأِ إِمَامٍ أَوْ نُوَّابِهِ فِي حَدٍّ، أَوْ تَعْزِيرٍ، وَحُكْمٍ فِي نَفْسٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ كَغَيْرِهِ، وَفِي قَوْلٍ: فِي بَيْتِ الْمَالِ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ؛ لِأَنَّ خَطَأَهُ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ قَطْعًا وَكَذَا خَطَؤُهُ فِي الْمَالِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ وَجَبَ الضَّمَانُ وَفِي مِقْدَارِهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: كَمَالُ الدِّيَةِ.

وَالثَّانِي: نِصْفُ الضَّمَانِ، وَسَوَاءٌ زَادَ خَطَأً أَوْ عَمْدًا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ.

وَقَالُوا: إِذَا مَاتَ مِنَ التَّعْزِيرِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ فَلَمْ يَضْمَنْ مَنْ تَلِفَ بِهَا.

ثُمَّ قَالُوا: وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا يَضْمَنُ الْإِمَامُ فَهَلْ يَلْزَمُ عَاقِلَتَهُ أَوْ بَيْتَ الْمَالِ، رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: بَيْتُ الْمَالِ، لِأَنَّ خَطَأَهُ يَكْثُرُ، فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَجْحَفَ بِهِمْ وَهَذَا أَصَحُّ.

وَالثَّانِيَةُ: عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِخَطَئِهِ فَكَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ.

الْخَطَأُ فِي الْقِصَاصِ:

74- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَقَطَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ فَمَاتَ ضَمِنَ الدِّيَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ الْقَطْعُ، وَهُوَ أَتَى بِالْقَتْلِ، وَفِي قَوْلِهِمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْقِصَاصِ إِذَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمَطْلُوبِ الْمَأْذُونِ فِيهِ تَعَمُّدًا، فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمَطْلُوبِ بِالْمِسَاحَةِ، فَإِنْ نَقَصَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ ثَانِيًا لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَهَدَ.

وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِذَا قَطَعَ الطَّبِيبُ فِي الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَسِيرًا وَوَقَعَ الْقَطْعُ فِيمَا قَارَبَ كَانَ خَطَأً، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا لَا يَشُكُّ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ عَمْدٌ كَانَ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ كَانَتْ فِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ بِالسَّيْفِ فَضَرَبَهُ فَأَصَابَ غَيْرَ الْمَوْضِعِ وَادَّعَى أَنَّهُ أَخْطَأَ، فَإِنْ كَانَ يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ الْخَطَأُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مُحْتَمَلٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ الْخَطَأُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَا يُسْمَعُ فِيهِ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ مَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ وَيُقْتَصَّ فَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُ.

وَقَالَ: وَمَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ فِي مُوضِحَةٍ فَاسْتَوْفَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ خَطَأً مِثْلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ قَطْعَ أُصْبُعٍ فَيَقْطَعُ اثْنَتَيْنِ، أَوْ جُرْحًا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، مِثْلُ أَنْ يَسْتَحِقَّ مُوضِحَةً فَاسْتَوْفَاهَا هَاشِمَةً فَعَلَيْهِ أَرْشُ الزِّيَادَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الْجَانِي كَاضْطِرَابِهِ حَالَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُقْتَصِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ الْخَطَأُ فِيهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِقَصْدِهِ.

حُكْمُ الْخَطَأِ فِي الْفَتْوَى مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ وَعَدَمُهُ:

75- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَضْمِينِ الْمُفْتِي إِذَا أَخْطَأَ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: تَضْمِينُ الْمُفْتِي إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى فَتْوَاهُ ضَرَرٌ لِلْمُسْتَفْتِي قِيَاسًا عَلَى خَطَأِ الْقَاضِي.

وَالثَّانِي: عَدَمُ تَضْمِينِهِ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ وَلَيْسَ مُبَاشِرًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا أَتْلَفَ بِفَتْوَاهُ شَيْئًا وَتَبَيَّنَ خَطَؤُهُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا ضَمِنَ إِنِ انْتَصَبَ وَتَوَلَّى فِعْلَ مَا أَفْتَى فِيهِ، وَإِلاَّ كَانَتْ فَتْوَاهُ غُرُورًا قَوْلِيًّا، لَا ضَمَانَ فِيهِ وَيُزْجَرُ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ اشْتِغَالٌ بِالْعِلْمِ أُدِّبَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عُمِلَ بِفَتْوَاهُ فِي إِتْلَافٍ فَبَانَ خَطَؤُهُ، وَأَنَّهُ خَالَفَ دَلِيلًا قَاطِعًا فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ يَضْمَنُ إِنْ كَانَ أَهْلًا لِلْفَتْوَى، وَلَا يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْفَتْوَى، لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ قَصَّرَ.حَكَاهُ أَبُو عَمْرٍو وَسَكَتَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ الضَّمَانُ عَلَى قَوْلَيِ الْغُرُورِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي بَابَيِ الْغَصْبِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْ يُقْطَعُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْفَتْوَى إِلْزَامٌ وَلَا إِلْجَاءٌ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ بَانَ خَطَأُ الْحَاكِمِ فِي إِتْلَافٍ، كَقَطْعٍ وَقَتْلٍ، لِمُخَالَفَةِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ، أَوْ بَانَ خَطَأُ مُفْتٍ لَيْسَ أَهْلًا لِلْفُتْيَا ضَمِنَا، أَيِ الْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِمَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ بَاشَرَاهُ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَخْطَأَ فِيمَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ مِمَّا يَقْبَلُ الِاجْتِهَادَ لَا ضَمَانَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-موسوعة الفقه الكويتية (شهادة 2)

شَهَادَةٌ -2

حُكْمُ الْإِشْهَادِ:

30- فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْعُقُودِ بَيْنَ عُقُودِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَاجِبٌ وَشَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».

وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ إِذَا تَمَّ الْإِعْلَانُ.

أَمَّا عُقُودُ الْبُيُوعِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ وَاجِبٌ.

قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ وَإِذَا اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ أَوْ ثُلُثِ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.

وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} لِلنَّدْبِ وَلَيْسَ لِلْوُجُوبِ، لِوُرُودِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}.فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.

وَلِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ بَاعَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَمَلَهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.

فَدَلَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ.

وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَشْهَدَ، وَبَاعَ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى وَاشْتَرَى، وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، وَلَمْ يُشْهِدْ.

وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (وَالْوُجُوبُ فِي ذَلِكَ قَلِقٌ، أَمَّا فِي الدَّقَائِقِ فَصَعْبٌ شَاقٌّ، وَأَمَّا مَا كَثُرَ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ التَّاجِرُ الِاسْتِئْلَافَ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ، وَقَدْ يَكُونُ عَادَةً فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَقَدْ يُسْتَحَى مِنَ الْعَالِمِ وَالرَّجُلِ الْكَبِيرِ الْمُوَقَّرِ فَلَا يُشْهِدُ عَلَيْهِ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الِائْتِمَانِ، وَيَبْقَى الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ نَدْبًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَغْلَبِ مَا لَمْ يَقَعْ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْهُ)

مُسْتَنَدُ عِلْمِ الشَّاهِدِ:

31- الْأَصْلُ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَعِيَانٍ، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

وقوله تعالى حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}.

فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ بِالْعِلْمِ، وَلَا تَصِحُّ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ.

وَيُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ لَا تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ».

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا أَقْوَى أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ وَالْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ.

لَكِنَّ الْأُمُورَ الْمَشْهُودَ بِهَا قَدْ تَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَهَا فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهَا:

فَمِنْهَا مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعَايِنَهُ الشَّاهِدُ كَالْقَتْلِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالرَّضَاعِ، وَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ.

فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ هَذِهِ الْأُمُورَ إِلاَّ بِالْمُعَايَنَةِ بِبَصَرِهِ.

فَمِنْهَا أُمُورٌ لَا يَصِحُّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا إِلاَّ بِالسَّمَاعِ وَالْمُعَايَنَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي عُقُودِ النِّكَاحِ، وَالْبُيُوعِ، وَالْإِجَارَاتِ، وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ قَدْ تَشْتَبِهُ، وَيَكْتَفِي الْحَنَابِلَةُ فِيهَا بِالسَّمَاعِ إِذَا عَرَفَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَقِينًا وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ كَلَامُهُمَا.

وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ عِلْمُهُ بِهَا عَنْ طَرِيقِ سَمَاعِ الْأَخْبَارِ الشَّائِعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمُسْتَفِيضَةِ، كَالنَّسَبِ، وَالْمِلْكِ، وَالْمَوْتِ، وَالْوَقْفِ.

فَيَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا مُعْتَمِدًا عَلَى التَّسَامُعِ.

الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ وَالتَّسَامُعِ:

الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ بِاعْتِبَارِ دَرَجَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِهَا:

الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى:

32- تُفِيدُ عِلْمًا جَازِمًا مَقْطُوعًا بِهِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا: بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ الْمُتَوَاتِرِ كَالسَّمَاعِ بِوُجُودِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَغْدَادَ وَالْقَاهِرَةِ وَالْقَيْرَوَانِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُدُنِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ثَبَتَ الْقَطْعُ بِوُجُودِهَا سَمَاعًا عِنْدَ كُلِّ مَنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا مُشَاهَدَةً مُبَاشَرَةً فَهَذِهِ عِنْدَ حُصُولِهَا تَكُونُ- مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْقَبُولِ وَالِاعْتِبَارِ- بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ إِجْمَاعًا.

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ:

33- تُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا يَقْرُبُ مِنَ الْقَطْعِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا: بِالِاسْتِفَاضَةِ مِنَ الْخَلْقِ الْغَفِيرِ: كَالشَّهَادَةِ بِأَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ مِنْ أَوْثَقِ مَنْ أَخَذَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يُعْتَبَرُ الصَّاحِبَ الْأَوَّلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى قَبُولِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ رُؤْيَةً مُسْتَفِيضَةً مِنْ جَمٍّ غَفِيرٍ وَشَاعَ أَمْرُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَلَدِ لَزِمَ الْفِطْرُ أَوِ الصَّوْمُ مَنْ رَآهُ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى شَهَادَةٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَدُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى إِثْبَاتِ تَعْدِيلِ نَقَلَتِهِ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا اسْتِفَاضَةُ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَالْمَحْكُومِينَ:

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَحْتَاجُ الْحَاكِمُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ لِاسْتِفَاضَةِ عَدَالَتِهِ عِنْدَهُ سَمَاعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْأَلُ عَنْهُ لِاشْتِهَارِ جُرْحَتِهِ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِالْكَشْفِ عَمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ لَا بِهَذِهِ وَلَا بِتِلْكَ.

وَقَدْ تَنَاقَلَ الْفُقَهَاءُ، وَأَصْحَابُ التَّرَاجِمِ، أَنَّ ابْنَ أَبِي حَازِمٍ شَهِدَ عِنْدَ قَاضِي الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: أَمَّا الِاسْمُ فَاسْمُ عَدْلٍ وَلَكِنْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّكَ ابْنَ أَبِي حَازِمٍ؟ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ عَدَالَةَ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ لَا تَحْتَاجُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهَا، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ شَخْصُهُ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ:

34- تُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا دُونَ الظَّنِّ الْمَذْكُورِ فِي الْمَرْتَبَةِ السَّابِقَةِ يَكُونُ مَصْدَرُهَا سَمَاعًا مُسْتَفِيضًا لَمْ يَبْلُغْ فِي اسْتِفَاضَتِهِ حَدَّ الْأُولَى، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ بِكَلَامِ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِمُ الْحَدِيثَ عَلَى شَهَادَةِ السَّمَاعِ، أَوِ الشَّهَادَةِ بِالسَّمَاعِ، أَوْ بِالتَّسَامُعِ.وَهِيَ الَّتِي قَالُوا فِي تَعْرِيفِهَا: إِنَّهَا لَقَبٌ لِمَا يُصَرِّحُ الشَّاهِدُ فِيهِ بِاسْتِنَادِ شَهَادَتِهِ لِسَمَاعٍ مِنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَتَخْرُجُ- بِذَلِكَ- شَهَادَةُ الْبَتِّ وَالنَّقْلِ.وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ اعْتِمَادِهَا قَضَاءً لِلضَّرُورَةِ، أَوِ الْحَاجَةِ فِي حَالَاتٍ خَاصَّةٍ اخْتَلَفَتْ كَمَا بِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي تَحْدِيدِ مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ، وَضَبْطِ الْقُيُودِ الَّتِي تَعُودُ إِلَيْهَا، وَالثَّابِتُ عِنْدَ الدَّارِسِينَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ تَسَامُحًا فِي الْأَخْذِ بِهَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَالِكِيُّ.

وَأَفَاضَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، حَيْثُ بَيَّنَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ النَّظَرَ فِي شَهَادَةِ السَّامِعِ يَتَنَاوَلُ الْجَوَانِبَ التَّالِيَةَ:

الْأَوَّلُ: الصِّفَةُ الَّتِي تُؤَدَّى بِهَا:

35- الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ- عِنْدَ تَأْدِيَتِهَا- «سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ- مَثَلًا- صَدَقَةٌ عَلَى بَنِي فُلَانٍ»، أَيْ: لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعُدُولِ، وَغَيْرِ الْعُدُولِ فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ.وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: «إِنَّا لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ مِنَ الثِّقَاتِ، أَوْ سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ».وَهُوَ رَأْيٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ حَصْرَ مَصْدَرِ سَمَاعِهِمْ فِي الثِّقَاتِ وَالْعُدُولِ يُخْرِجُهَا مِنَ السَّمَاعِ إِلَى النَّقْلِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ آخَرُ.

قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَلَا يَكُونُ السَّمَاعُ بِأَنْ يَقُولُوا: «سَمِعْنَا مِنْ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ» يُسَمُّونَهُمْ أَوْ يَعْرِفُونَهُمْ، إِذْ لَيْسَتْ- حِينَئِذٍ- شَهَادَةَ تَسَامُعٍ بَلْ هِيَ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ، فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّ شَهَادَةِ السَّمَاعِ.

وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِمْ: «سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا».دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى إِضَافَةٍ «مِنَ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ» حَيْثُ لَا عِبْرَةَ بِذِكْرٍ الْعُدُولِ فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ خِلَافًا لِمَا يَرَاهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ مَاجِشُونَ.

وَالثَّانِي: شُرُوطُ قَبُولِهَا:

36- وَأَهَمُّهَا بِاخْتِصَارٍ:

(1) أَنْ تَكُونَ مِنْ عَدْلَيْنِ فَأَكْثَرَ وَيُكْتَفَى بِهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ، خِلَافًا لِمَنْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِيهَا إِلاَّ بِأَرْبَعَةٍ عُدُولٍ.

(2) السَّلَامَةُ مِنَ الرِّيَبِ: فَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ عُدُولٌ مَثَلًا عَلَى السَّمَاعِ وَفِي الْحَيِّ أَوْ فِي الْقَبِيلَةِ مِائَةُ رَجُلٍ فِي مِثْلِ سِنِّهِمْ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا عَنِ الْمَشْهُودِ فِيهِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ تُرَدُّ لِلرِّيبَةِ الَّتِي حُفَّتْ بِهَا، فَإِذَا انْتَفَتِ الرِّيبَةُ قُبِلَتْ، كَمَا إِذَا شَهِدَ عَلَى أَمْرٍ مَا، شَيْخَانِ قَدِ انْقَرَضَ جِيلُهُمَا، فَلَا تُرَدُّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِذَلِكَ غَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ طَارِئَانِ بِاسْتِفَاضَةِ مَوْتٍ، أَوْ وِلَايَةٍ، أَوْ عَزْلٍ، قَدْ حَدَثَ بِبَلَدِهِمَا وَلَيْسَ مَعَهُمَا- فِي الْغُرْبَةِ- غَيْرُهُمَا، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا مَقْبُولَةٌ لِلْغَرَضِ نَفْسِهِ.

(3) أَنْ يَكُونَ السَّمَاعُ فَاشِيًا مُسْتَفِيضًا، وَهَذَا الْقَدْرُ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ دَاخِلَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ وَخَارِجَهُ.إِلاَّ أَنَّهُمْ قَدِ اخْتَلَفُوا كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِضَافَةِ: «مِنَ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ» أَوْ «مِنَ الثِّقَاتِ» فَقَطْ، أَوْ عَدَمِ إِضَافَتِهِمَا.

(4) أَنْ يَحْلِفَ الْمَشْهُودُ لَهُ: فَلَا يَقْضِي الْقَاضِي لِأَحَدٍ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ إِلاَّ بَعْدَ يَمِينِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ السَّمَاعِ الَّذِي فَشَا وَانْتَشَرَ مَنْقُولًا عَنْ وَاحِدٍ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الْيَمِينِ فِي الدَّعَاوَى الْمَالِيَّةِ.

الثَّالِثُ: مَحَالُّهَا: أَيِ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ السَّمَاعِ.

37- سَلَكَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْخُصُوصِ- لِتَحْدِيدِ هَذِهِ الْمَحَالِّ الْمَرْوِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ- ثَلَاثَ طُرُقٍ:

أَحَدُهَا: لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الَّذِي يَرْوِي أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَا لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهِ، كَالْمَوْتِ، وَالنَّسَبِ، وَالْوَقْفِ، وَنَصَّ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي النِّكَاحِ.

الثَّانِيَةُ: لِابْنِ رُشْدٍ الْجَدِّ: حَكَى فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: تُقْبَلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَا تُقْبَلُ فِي شَيْءٍ، تُقْبَلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا عَدَا النَّسَبَ، وَالْقَضَاءَ وَالنِّكَاحَ وَالْمَوْتَ، إِذْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسْتَفِيضَ اسْتِفَاضَةً يَحْصُلُ بِهَا الْقَطْعُ لَا الظَّنُّ، وَرَابِعُ الْأَقْوَالِ عَكْسُ السَّابِقِ، لَا تُقْبَلُ إِلاَّ فِي النَّسَبِ وَالْقَضَاءِ، وَالنِّكَاحِ وَالْمَوْتِ.

وَالثَّالِثَةُ: لِابْنِ شَاسٍ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: إِنَّهَا تَجُوزُ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ، أَوْصَلَهَا بَعْضُهُمْ إِلَى عِشْرِينَ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَنْهَاهَا أَحَدُهُمْ إِلَى تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ.

مِنْهَا: النِّكَاحُ، وَالْحَمْلُ، وَالْوِلَادَةُ، وَالرَّضَاعُ، وَالنَّسَبُ، وَالْمَوْتُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْأَحْبَاسُ، وَالضَّرَرُ، وَتَوْلِيَةُ الْقَاضِي وَعَزْلُهُ، وَتَرْشِيدُ السَّفِيهِ، وَالْوَصِيَّةُ، وَفِي الصَّدَقَاتِ، وَالْأَحْبَاسِ الَّتِي تَقَادَمَ أَمْرُهَا، وَطَالَ زَمَانُهَا، وَفِي الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ، وَالْعَدَالَةِ، وَالتَّجْرِيحِ، وَالْمِلْكِ لِلْحَائِزِ. أَمَّا بَقِيَّةُ الْأَئِمَّةِ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ شَهَادَةِ التَّسَامُعِ فِي النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ لِلضَّرُورَةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَمَّا النَّسَبُ، فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لَاسْتَحَالَتْ مَعْرِفَةُ الشَّهَادَةِ بِهِ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ قَطْعًا بِغَيْرِهِ وَلَا تُمْكِنُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهِ، وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْمُشَاهَدَةُ لَمَا عَرَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ وَلَا أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ: فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: تَجُوزُ- بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ- فِي تِسْعَةِ أَشْيَاءَ: النِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَالْوَقْفِ وَمَصْرِفِهِ، وَالْمَوْتِ، وَالْعِتْقِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالْعَزْلِ، مُعَلِّلِينَ رَأْيَهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَتَعَذَّرُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا غَالِبًا بِمُشَاهَدَتِهَا أَوْ مُشَاهَدَةِ أَسْبَابِهَا، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ وَضَيَاعِ الْحُقُوقِ.

وَيَرَى الْبَعْضُ الْآخَرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ فِي الْوَقْفِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْعِتْقِ وَالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُمْكِنَةٌ فِيهَا بِالْقَطْعِ حَيْثُ إِنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى عَقْدٍ كَبَقِيَّةِ الْعُقُودِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَصِحُّ إِلاَّ فِي النِّكَاحِ وَالْمَوْتِ وَالنَّسَبِ، وَلَا تُقْبَلُ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا شَهَادَةً بِمَالٍ، وَمَا دَامَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ لَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ، وَأَمَّا صَاحِبَاهُ فَقَدْ نَصَّا عَلَى قَبُولِهَا فِي الْوَلَاءِ مِثْلُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.

شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ:

38- قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: التَّوَسُّمُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ وَهُوَ التَّأْثِيرُ بِحَدِيدَةٍ فِي جِلْدِ الْبَعِيرِ يَكُونُ عَلَامَةً يُسْتَدَلُّ بِهَا.قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: فِي الْقَوَافِلِ وَالرِّفَاقِ تَمُرُّ بِأُمَّهَاتِ الْقُرَى وَالْمَدَائِنِ فَتَقَعُ بَيْنَهُمُ الْخُصُومَةُ عِنْدَ حَاكِمِ الْقَرْيَةِ أَوِ الْمَدِينَةِ الَّتِي حَلُّوا بِهَا، أَوْ مَرُّوا بِهَا، فَإِنَّ مَالِكًا وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ أَجَازُوا شَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، مِمَّنْ جَمَعَهُ ذَلِكَ السَّفَرُ، وَوُجْهَةُ تِلْكَ الْمُرَافَقَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا بِعَدَالَةٍ وَلَا سَخْطَةٍ إِلاَّ عَلَى التَّوَسُّمِ لَهُمْ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَالَةِ وَذَلِكَ فِيمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ خَاصَّةً مِنَ الْأَسْلَافِ وَالْأَكْرِيَةِ، وَالْبُيُوعِ، وَالْأَشْرِبَةِ، كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَلَدٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَهْلِ بَلَدَيْنِ مَتَى كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَالْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، أَوِ الْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَصَمُوا فِيهَا، أَوْ مَعْرُوفًا مِنْ غَيْرِهَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ جَمَعَهُ وَإِيَّاهُمْ ذَلِكَ السَّفَرُ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَى كَرْيِهِمْ فِي كُلِّ مَا عَمِلُوهُ بِهِ وَفِيهِ وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ قَالَا (أَيْ: مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ): وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ عَلَى وَجْهِ الِاضْطِرَارِ مِثْلَ مَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لَا يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ، مِثْلَ مَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَيْنَهُمْ فِي الْجِرَاحَاتِ.قَالَا: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ فِي كُلِّ حَقٍّ كَانَ ثَابِتًا فِي دَعْوَاهُمْ قَبْلَ سَفَرِهِمْ، إِلاَّ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْعَدَالَةِ.

قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلَا يُمَكَّنُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ تَجْرِيحِ هَؤُلَاءِ الشُّهُودِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أُجِيزُوا عَلَى التَّوَسُّمِ فَلَيْسَ فِيهِمْ جُرْحَةٌ إِلاَّ أَنْ يَسْتَرِيبَ الْحَاكِمُ فِيهِمْ قَبْلَ حُكْمِهِ بِشَهَادَتِهِمْ بِسَبَبِ قَطْعِ يَدٍ، أَوْ جَلْدٍ فِي ظَهْرٍ فَلْيَتَثَبَّتْ فِي تَوَسُّمِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ انْتِفَاءُ تِلْكَ الرِّيبَةِ، وَإِلاَّ أَسْقَطَهُمْ.قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ وَامْرَأَةٌ، أَوْ عَدْلٌ، وَتَوَسَّمَ فِيهِمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُبِلُوا بِالتَّوَسُّمِ عَبِيدٌ أَوْ مَسْخُوطُونَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ تَثَبَّتَ فِي ذَلِكَ: وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهِمْ فَلَا يُرَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ عَدْلَانِ: أَنَّهُمَا كَانَا عَبْدَيْنِ أَوْ مَسْخُوطَيْنِ قَالَ: وَلَا يُقْبَلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي سَرِقَةٍ، وَلَا زِنًا، وَلَا غَصْبٍ، وَلَا تَلَصُّصٍ، وَلَا مُشَاتَمَةٍ، وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ فِي الْمَالِ فِي السَّفَرِ لِلضَّرُورَةِ.

قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ ذَلِكَ يَعْنِي شَهَادَةَ التَّوَسُّمِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ، لَمْ يُجِزْ شَهَادَةَ الْغُرَبَاءِ دُونَ أَنْ تُعْرَفَ عَدَالَتُهُمْ.انْتَهَى.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْغُرَبَاءِ حَيْثُ لَا تَكُونُ ضَرُورَةٌ مِثْلُ شَهَادَتِهِمْ فِي الْحَضَرِ

أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:

39- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: لَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ الشَّهَادَةَ إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِقَامَتَهَا فَرْضٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}.

أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، وَكَانَ أَدَاؤُهَا يَسْتَدْعِي تَرْكَ عَمَلِهِ وَتَحَمُّلَ الْمَشَقَّةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، لَكِنْ لَهُ أُجْرَةُ الرُّكُوبِ إِلَى مَوْضِعِ الْأَدَاءِ.قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}.

وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى: الْجَوَازِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِنْفَاقَ الْإِنْسَانِ عَلَى عِيَالِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَالشَّهَادَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَا يُشْتَغَلُ عَنْ فَرْضِ الْعَيْنِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا أَخَذَ الرِّزْقَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أُجْرَةً كَمَا يَجُوزُ عَلَى كَتْبِ الْوَثِيقَةِ.

تَعْدِيلُ الشُّهُودِ:

40- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ، وَلَا فِي اعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْحَاصِلَةِ بِالسُّؤَالِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ.

وَفِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَزْكِيَةٌ).

تَحْلِيفُ الشَّاهِدِ الْيَمِينَ:

41- قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: حُكِيَ عَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ، وَقَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ: أَنَّهُ حَلَّفَ شُهُودًا فِي تَرِكَةٍ «بِاللَّهِ إِنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ لَحَقٌّ».وَعَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرَى لِفَسَادِ النَّاسِ أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ.وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَحْلِيفَ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمِلَّةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَكَذَا.قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِتَحْلِيفِ الْمَرْأَةِ إِذَا شَهِدَتْ فِي الرَّضَاعِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.

قَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْلِفُ الشَّاهِدُ عَلَى أَصْلِنَا إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ وَذَكَرَ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (قَالَ شَيْخُنَا يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ) هَذَانِ الْمَوْضِعَانِ قُبِلَ فِيهِمَا الْكَافِرُ وَالْمَرْأَةُ وَحْدَهَا لِلضَّرُورَةِ، فَقِيَاسُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِلضَّرُورَةِ اسْتُحْلِفَ (قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ): وَإِذَا كَانَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ الشُّهُودَ إِذَا ارْتَابَ بِهِمْ فَأَوْلَى أَنْ يُخَلِّفَهُمْ إِذَا ارْتَابَ بِهِمْ.

الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ:

42- قَدْ لَا يَسْتَطِيعُ الشَّاهِدُ الْمَقْبُولُ الشَّهَادَةِ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ بِنَفْسِهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ، لِسَفَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ عُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ، فَيُشْهِدُ عَلَى شَهَادَتِهِ شَاهِدَيْنِ تَتَوَفَّرُ فِيهِمَا الصِّفَاتُ الَّتِي تُؤَهِّلُهُمَا لِلشَّهَادَةِ، وَيَطْلَبُ مِنْهُمَا تَحَمُّلَهَا وَالْإِدْلَاءَ بِهَا أَمَامَ الْقَضَاءِ، فَيَقُومُ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ مَقَامَهُ، فِي نَقْلِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِلَفْظِهَا الْمَخْصُوصِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الْأَصْلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ دَوَامَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الْأَصْلِ إِلَى حِينِ صُدُورِ الْحُكْمِ، فَمَتَى أَمْكَنَتْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ قَبْلَ الْحُكْمِ وُقِفَ الْحُكْمُ عَلَى سَمَاعِهَا، وَلَوْ بَعْدَ سَمَاعِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْبَدَلِ.

وَمِمَّا يُجِيزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ أَنْ يَخَافَ الْمَوْتَ فَيَضِيعَ الْحَقُّ.

هَذَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ مُتَبَايِنَةً فِيمَا يَجُوزُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ.

فَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ مَالًا أَوْ عُقُوبَةً.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا: جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِشُبْهَةٍ، فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَإِنَّمَا قُلْنَا بِذَلِكَ اسْتِحْسَانًا.

وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَلَيْسَتْ حَقًّا لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَالنِّيَابَةُ لَا تُجْزِئُ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَيْهَا، إِذْ شَاهِدُ الْأَصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِمَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ، فَلَوْ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إِلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ، وَصَارَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: جَوَازِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، وَإِلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ قَدْ يَتَعَذَّرُ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ حَقٌّ لَازِمٌ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلِأَنَّهَا طَرِيقٌ يُظْهِرُ الْحَقَّ كَالْإِقْرَارِ فَيُشْهِدُ عَلَيْهَا، لَكِنَّهَا إِنَّمَا تُقْبَلُ فِي غَيْرِ عُقُوبَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرِ إِحْصَانٍ، كَالْأَقَارِيرِ، وَالْعُقُودِ، وَالنُّسُوخِ، وَالرَّضَاعِ، وَالْوِلَادَةِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ.سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ، وَتُقْبَلُ فِي إِثْبَاتِ عُقُوبَةِ الْآدَمِيِّ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ.أَمَّا الْعُقُوبَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ قَوْلٍ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ.خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ.

وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي فِي الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.

مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إِلاَّ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ».

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِكُلٍّ مِنَ الْأَصْلَيْنِ اثْنَانِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى وَاحِدٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ شَهَادَتِهِ، فَلَا تَقُومُ مَقَامَ شَهَادَةِ غَيْرِهِ.

43- وَلَا يَصِحُّ تَحَمُّلُ شَهَادَةِ مَرْدُودِ الشَّهَادَةِ؛ لِسُقُوطِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لَا يَصِحُّ تَحَمُّلُ النِّسْوَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ تُثْبِتُ الْأَصْلَ لَا مَا شَهِدَ بِهِ؛ وَلِأَنَّ التَّحَمُّلَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، وَهُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَمْ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَالنِّكَاحِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِنَّ، فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ، إِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشْهَبُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مُطْلَقًا، وَأَجَازَ أَصْبَغُ نَقْلَ امْرَأَتَيْنِ عَنِ امْرَأَتَيْنِ فِيمَا يَنْفَرِدْنَ بِهِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَلَا تُجْزِئُ فِيهِ النِّسَاءُ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، وَلَوْ كُنَّ أَلْفًا، إِلاَّ مَعَ رَجُلٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى صِحَّةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ، حَيْثُ يُقْبَلْنَ فِي أَصْلٍ وَفَرْعٍ، وَفَرْعِ فَرْعٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ مَا يَشْهَدُ بِهِ الْأُصُولُ فَدَخَلَ فِيهِ النِّسَاءُ، فَيُقْبَلُ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَيُقْبَلُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى مِثْلِهِمْ أَوْ رَجُلَيْنِ أَصْلَيْنِ أَوْ فَرْعَيْنِ فِي الْمَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ، وَتُقْبَلُ امْرَأَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ الْمَرْأَةُ. وَإِذَا فَسَقَ الشَّاهِدُ الْأَصِيلُ أَوِ ارْتَدَّ، أَوْ نَشَأَتْ عِنْدَهُ عَدَاوَةٌ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ امْتَنَعَ الْقَاضِي مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَرْعِ؛ لِسُقُوطِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ.وَلَوْ حَدَثَ الْفِسْقُ أَوِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ.

الِاسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:

44- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالِاسْتِرْعَاءُ هُوَ: طَلَبُ الْحِفْظِ، أَيْ: بِأَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَاحْفَظْهَا، فَلِلْفَرْعِ وَلِمَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَخُصَّهُ بِالِاسْتِرْعَاءِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا سَمِعَ شَاهِدُ الْفَرْعِ الْأَصْلَ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ الْأَصْلِ أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَيْضًا مَا إِذَا سَمِعَ الْفَرْعُ الْأَصْلَ يَذْكُرُ سَبَبَ الْحَقِّ بِأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ كَقَرْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إِقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ.

45- وَيُؤَدِّي شَاهِدُ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَحَمَّلَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، فَإِنْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ بِحَقٍّ مُضَافٍ إِلَى سَبَبٍ يُوجِبُ الْحَقَّ ذَكَرَهُ، وَإِنْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ذَكَرَهُ، وَإِنْ أَشْهَدَهُ شَاهِدُ الْأَصْلِ عَلَى شَهَادَتِهِ أَوِ اسْتَرْعَاهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا يَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَهَكَذَا.

وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُومَ شَاهِدُ الْفَرْعِ بِتَعْدِيلِ شَاهِدِ الْأَصْلِ، وَيَقُومُ الْقَاضِي بِالْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ، فَإِنْ عَدَّلَهُ الْفَرْعُ وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّعْدِيلِ جَازَ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مَا لَمْ يُعَدِّلْ شَاهِدَ الْأَصْلِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُ لَمْ يَنْقُلِ الشَّهَادَةَ عَنْهُ.

وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ، لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ. 46- أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الِاسْتِرْعَاءِ عَلَى بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الْإِنْسَانُ اضْطِرَارًا، كَالطَّلَاقِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ، وَالتَّزْوِيجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَرْعَى كِتَابًا سِرًّا؛ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا التَّصَرُّفَ لِأَمْرٍ يَتَخَوَّفُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيمَا عَقَدَ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا يَتَخَوَّفُهُ وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ شُهُودُ الِاسْتِرْعَاءِ.وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ أَمْثِلَةً لِمَا يَقُولُهُ الْمُسْتَرْعِي، فِي وَثِيقَةِ الِاسْتِرْعَاءِ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ الِاسْتِرْعَاءِ.فَقَالَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْعَطَّارِ: يُصَدَّقُ الْمُسْتَرْعَى فِي الْحَبْسِ (يَعْنِي الْوَقْفَ) فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا وَيَكْتُبُ فِي ذَلِكَ: أَشْهَدَ فُلَانٌ شُهُودَ هَذَا الْكِتَابِ بِشَهَادَةِ اسْتِرْعَاءٍ، وَاسْتِخْفَاءٍ لِلشَّهَادَةِ: أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ فِي دَارِهِ بِمَوْضِعِ كَذَا تَحْبِيسًا عَلَى بَنِيهِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِأَمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى مَالِهِ الْمَذْكُورِ، وَلِيُمْسِكَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرْجِعَ فِيمَا عَقَدَ فِيهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا تَخَوَّفَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَا عَقَدَهُ فِيهِ وَجْهَ الْقُرْبَةِ، وَلَا وَجْهَ الْحَبْسِ بَلْ لِمَا يَخْشَاهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِمَا يَعْقِدُهُ فِيهِ مِنَ التَّحْبِيسِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي تَارِيخِ كَذَا وَكَذَا.

وَمِمَّا ذَكَرُوهُ أَيْضًا أَنَّهُ إِذَا خَطَبَ مَنْ هُوَ قَاهِرٌ لِشَخْصٍ بَعْضَ بَنَاتِهِ فَأَنْكَحَهُ الْمَخْطُوبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ شُهُودَ الِاسْتِرْعَاءِ سِرًّا: أَنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُخَافُ عَدَاوَتُهُ.

وَأَنَّهُ إِنْ شَاءَ اخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ لِغَيْرِ نِكَاحٍ فَأَنْكَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا.

وَإِذَا بَنَى ظَالِمٌ أَوْ مَنْ يُخَافُ شَرُّهُ غُرْفَةً مُحْدَثَةً بِإِزَاءِ دَارِ رَجُلٍ وَفَتَحَ بَابًا يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى مَا فِي دَارِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِطَالَةِ لِقُدْرَتِهِ، وَجَاهِهِ، فَيُشْهِدُ الرَّجُلُ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهُ لِخَوْفِهِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَضُرَّهُ أَوْ يُؤْذِيَهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ مَتَى أَمْكَنَهُ، وَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ لِمَعْرِفَتِهِمْ وَأَنَّ الْمُحْدِثَ لِذَلِكَ مِمَّنْ يُتَّقَى شَرُّهُ، وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَتَى قَامَ بِطَلَبِ حَقِّهِ.

وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: مَنْ لَهُ دَارٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فَبَاعَ أَخُوهُ جَمِيعَهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيهَا وَلَهُ سُلْطَانٌ، وَقُدْرَةٌ، وَخَافَ ضَرَرَهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَاسْتَرْعَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَنِ الْكَلَامِ فِي نَصِيبِهِ وَفِي الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ تَحَامُلِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ، وَإِضْرَارِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ لِطَلَبِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ.فَإِذَا ذَهَبَتِ التَّقِيَّةُ، وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ بِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ أَثْبَتَهَا، وَأَثْبَتَ الْمِلْكَ، وَالِاشْتِرَاكَ، وَأَعْذَرَ إِلَى أَخِيهِ وَإِلَى الْمُشْتَرِي، قُضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ وَبِالشُّفْعَةِ.

مَا يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِيهِ:

47- قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ التَّطَوُّعِ: كَالطَّلَاقِ، وَالتَّحْبِيسِ وَالْهِبَةِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ السَّبَبُ إِلاَّ بِقَوْلِهِ، مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ أَنِّي إِنْ طَلَّقْتُ فَإِنِّي أُطَلِّقُ خَوْفًا مِنْ أَمْرٍ أَتَوَقَّعُهُ مِنْ جِهَةِ كَذَا، أَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَكَانَ أَشْهَدَ أَنِّي إِنْ حَلَفْتُ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ إِكْرَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَعْرِفَةُ الشُّهُودِ وَالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ.وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الْبُيُوعِ مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْبَيْعِ وَأَنَّ بَيْعَهُ لِأَمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ خِلَافُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ.وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا، وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ إِلاَّ أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الْإِخَافَةَ فَيَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ إِذَا انْعَقَدَ قَبْلَ الْبَيْعِ وَتَضَمَّنَ الْعَقْدُ شَهَادَةَ مَنْ يَعْرِفُ الْإِخَافَةَ وَالتَّوَقُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (شهادة 3)

شَهَادَةٌ -3

الرُّجُوعُ عَنِ الشَّهَادَةِ:

48- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ إِنْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا، فَلَا يَخْلُو رُجُوعُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا قَبْلَ الْحُكْمِ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّ الْحَقَّ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَضَاءِ، وَالْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا شَيْئًا عَلَى الْمُدَّعِي، وَلَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

49- وَإِنْ رَجَعَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْلَ التَّنْفِيذِ: فَإِنْ كَانَ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِيفَاءُ وَالتَّنْفِيذُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَلَمْ يَجُزِ الِاسْتِيفَاءُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ.

وَإِنْ كَانَ مَالًا أَوْ عَقْدًا اسْتَوْفَى الْمَالَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ تَمَّ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ حَتَّى يَتَأَثَّرَ بِالرُّجُوعِ؛ فَلَا يُنْتَقَضُ الْحُكْمُ.وَعَلَى الشُّهُودِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَلَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ.

50- أَمَّا إِنْ رَجَعَ الشُّهُودُ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ: فَإِنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا صَادِقَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا كَاذِبَيْنِ، وَقَدِ اقْتَرَنَ الْحُكْمُ وَالِاسْتِيفَاءُ بِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ؛ فَلَا يُنْقَضُ بِرُجُوعٍ مُحْتَمَلٍ، وَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَضْمَنَا مَا أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا.

فَإِنْ كَانَ مَا شَهِدَا بِهِ يُوجِبُ الْقَتْلَ، أَوِ الْحَدَّ، أَوِ الْقِصَاصَ: نُظِرَ، فَإِنْ قَالَا تَعَمَّدْنَا لِيُقْتَلَ بِشَهَادَتِنَا: وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقَوَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ شُبْرُمَةَ.

لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ أَتَيَاهُ بِرَجُلٍ آخَرَ فَقَالَا: إِنَّا أَخْطَأْنَا بِالْأَوَّلِ، وَهَذَا السَّارِقُ، فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَضَمَّنَهُمَا دِيَةَ يَدِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا.

وَلِأَنَّهُمَا أَلْجَآهُ إِلَى قَتْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَزِمَهُمَا الْقَوَدُ كَمَا لَوْ أَكْرَهَاهُ عَلَى قَتْلِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُمَا لَمْ يُبَاشِرَا الْإِتْلَافَ، فَأَشْبَهَا حَافِرَ الْبِئْرِ، وَنَاصِبَ السِّكِّينِ، إِذَا تَلِفَ بِهِمَا شَيْءٌ، وَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ.

وَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ: أَخْطَأْنَا، أَوْ جَهِلْنَا كَانَتْ عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ فِي أَمْوَالِهِمْ مُخَفَّفَةً مُؤَجَّلَةً، وَلَا تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الِاعْتِرَافَ.

وَإِنْ قَالُوا: تَعَمَّدْنَا الشَّهَادَةَ وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَهُمْ يَجْهَلُونَ قَتْلَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَمْدِ، وَمُؤَجَّلَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ.

فَإِنْ قَالُوا: أَخْطَأْنَا، وَجَبَتْ دِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِاعْتِرَافِهِمْ.

فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ تَعَمَّدَ وَبَعْضَهُمْ أَخْطَأَ وَجَبَ عَلَى الْمُخْطِئِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُخَفَّفَةِ، وَعَلَى الْمُتَعَمِّدِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَوَدُ لِمُشَارَكَةِ الْمُخْطِئِ.

وَإِنْ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَعَمَّدْنَا كُلُّنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَخْطَأْنَا كُلُّنَا، وَجَبَ عَلَى الْمُقِرِّ بِعَمْدِ الْجَمِيعِ الْقَوَدُ، وَعَلَى الْمُقِرِّ بِخَطَأِ الْجَمِيعِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُخَفَّفَةِ.

(رُجُوعُ بَعْضِ الشُّهُودِ:

51- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَبَعْدَ اسْتِيفَائِهِ فِي شَهَادَةٍ نِصَابُهَا شَاهِدَانِ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَالِ أَوْ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَالْعِبْرَةُ لِمَنْ بَقِيَ لَا لِمَنْ رَجَعَ.

وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْلِ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ فِي شَهَادَةٍ نِصَابُهَا شَاهِدَانِ أَيْضًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ قَائِمًا.

وَكَذَا لَوْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْهُمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، لِبَقَاءِ النِّصَابِ.

وَلَوْ رَجَعَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ فَعَلَيْهِمْ نِصْفُ الْمَالِ، لِبَقَاءِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ شَطْرُ الشَّهَادَةِ فَيَتَحَمَّلُونَ شَطْرَ الْمَالِ.

وَلَوْ رَجَعَتِ امْرَأَةٌ وَكَانَ النِّصَابُ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ غَرِمَتِ الرَّاجِعَةُ رُبُعَ الْمَالِ.

وَلَوْ شَهِدَ عَشْرُ نِسْوَةٍ وَرَجُلٌ وَاحِدٌ، فَرَجَعَ ثَمَانٍ مِنْهُنَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِنَّ، لِبَقَاءِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ.

وَلَوْ رَجَعَ تِسْعٌ مِنْهُنَّ غَرِمْنَ رُبُعَ الْمَالِ..

وَهَكَذَا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ وَجَبَ الضَّمَانُ فِيهِ عَلَى الشُّهُودِ بِالرُّجُوعِ وَجَبَ أَنْ يُوَزَّعَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْهُ: إِنَّهُ إِذَا شَهِدَ بِشَهَادَةٍ ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ أَتْلَفَ مَالًا فَإِنَّهُ ضَامِنٌ بِقَدْرِ مَا كَانُوا فِي الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانُوا اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِ النِّصْفُ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَعَلَيْهِ الثُّلُثُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانُوا عَشَرَةً فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، وَسَوَاءٌ رَجَعَ وَحْدَهُ أَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا، وَسَوَاءٌ رَجَعَ الزَّائِدُ عَنِ الْقَدْرِ الْكَافِي فِي الشَّهَادَةِ أَوْ مَنْ لَيْسَ بِزَائِدٍ، فَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالْقِصَاصِ، فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَقَالَ: عَمَدْنَا إِلَى قَتْلِهِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْنَا فَعَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ رَجَعَ اثْنَانِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ.

وَإِنْ شَهِدَ سِتَّةٌ بِالزِّنَى عَلَى مُحْصَنٍ فَرُجِمَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوْ سُدُسُ الدِّيَةِ، وَإِنْ رَجَعَ اثْنَانِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ أَوْ ثُلُثُ الدِّيَةِ.

الِاخْتِلَافُ فِي الشَّهَادَةِ:

52- الشَّهَادَةُ إِذَا وَافَقَتِ الدَّعْوَى قُبِلَتْ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا يُوَافِقُهَا وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا.

وَيَنْبَغِي اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِتَكْمُلَ الشَّهَادَةُ.

فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا: فَلَا تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ.

53- وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَذَهَبَ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِلَى أَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ.

فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا لَفْظًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ بِاللَّفْظِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَلْفَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْأَلْفَيْنِ، بَلْ هُمَا جُمْلَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَحَصَلَ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَصَارَ كَمَا إِذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالِ.

وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَلْفَيْنِ.

وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ، وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَصَارَ كَالْأَلْفِ وَالْأَلْفِ وَالْخَمْسِمِائَةِ.

أَمَّا إِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ: قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ عِنْدَ الْجَمِيعِ حَتَّى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ جُمْلَتَانِ عُطِفَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الْأَوَّلَ.

54- وَمَتَى كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلٍ فَاخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي زَمَنِهِ، أَوْ مَكَانِهِ، أَوْ صِفَةٍ لَهُ تَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْفِعْلَيْنِ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمَا.

مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَشْهَدَ الْآخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ بِدِمَشْقَ، وَيَشْهَدَ الْآخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ بِمِصْرَ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا أَبْيَضَ وَيَشْهَدَ الْآخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا أَسْوَدَ: فَلَا تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ شَاهِدَانِ.

تَعَارُضُ الشَّهَادَاتِ:

55- قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ مُدَّعِيًا وَيُقِيمُ عَلَى دَعْوَاهُ بَيِّنَةً (شَهَادَةً) كَامِلَةً، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ أَوْ فِي مِلْكٍ مُقَيَّدٍ بِذِكْرِ سَبَبِ التَّمَلُّكِ.

فَإِنْ كَانَتَا فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ، لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سَبَبُ التَّمَلُّكِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الدَّعْوَى تَارِيخًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا أَوْ فِي يَدِهِمَا مَعًا.

56- أ- فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا: فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».

وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذُو الْيَدِ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَجَعَلَ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْخَارِجُ، فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَتُرَدُّ بَيِّنَةُ الْيَدِ؛ وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ إِثْبَاتًا، لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْخَارِجِ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لَا تُثْبِتُهُ، لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ بِالْيَدِ، وَإِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ إِثْبَاتًا كَانَتْ أَقْوَى.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَرْجِيحِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَانِ، فَتَبْقَى الْيَدُ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا لَهُ نَتْجُهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ».

57- ب- أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا:

فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ: إِنْ: لَمْ يُؤَرِّخَا وَقْتًا: قُضِيَ بِالشَّيْءِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ، وَكَذَا إِذَا أَرَّخَا وَقْتًا بِعَيْنِهِ.وَإِذَا أُرِّخَتْ إِحْدَاهُمَا تَارِيخًا أَسْبَقَ مِنَ الثَّانِيَةِ: فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى، لِأَنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ خَارِجَيْنِ، لِوُجُودِهَا عِنْدَ غَيْرِهِمَا، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِمَا وَصْفُ (الْمُدَّعِي) فَتُسْمَعُ بَيِّنَتُهُمَا، وَيُحْكَمُ لِلْأَسْبَقِ؛ لِأَنَّ الْأَسْبَقَ يُثْبِتُ الْمِلْكِيَّةَ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: إِنْ تَعَذَّرَ تَرْجِيحُ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِوَجْهٍ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ، وَالْحَالُ؛ أَنَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا: سَقَطَتَا؛ لِتَعَارُضِهِمَا، وَبَقِيَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بِيَدِ حَائِزِهِ.وَفِي ذَلِكَ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَيْنًا وَهِيَ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَهُوَ مُنْكِرٌ وَلَمْ يَنْسِبْهَا لِأَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، وَكَانَتَا مُطَلَّقَتِي التَّارِيخِ أَوْ مُتَّفِقَتَيْهِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً وَالْأُخْرَى مُؤَرَّخَةً: سَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ، لِتَنَاقُضِ مُوجِبِيهِمَا وَلَا مُرَجِّحَ، وَيَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَمِينًا.

وَفِي قَوْلٍ: تُسْتَعْمَلُ الْبَيِّنَتَانِ، وَتُنْزَعُ الْعَيْنُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ، وَعَلَى هَذَا تُقْسَمُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ مُنَاصَفَةً فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُرَجَّحُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ.

وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: تُوقَفُ حَتَّى يَبِينَ الْأَمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَنْكَرَ الثَّالِثُ دَعْوَى الْمُدَّعِيَيْنِ، فَقَالَ: لَيْسَتْ لَهُمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا: أُقْرِعَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ: حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بَيِّنَةٌ: تَعَارَضَتَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي عَدَمِ الْيَدِ، فَتَسْقُطَانِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْعَمَلِ بِإِحْدَاهُمَا.

58- ج- أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِمَا مَعًا:

فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْصِيلِ:

فَإِنْ لَمْ تُؤَرَّخَا تَارِيخًا، وَكَذَا إِذَا أُرِّخَتَا تَارِيخًا مُعَيَّنًا وَكَانَ تَارِيخُهُمَا سَوَاءً: قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا النِّصْفِ خَارِجٌ فَهُوَ مُدَّعٍ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي.

وَإِنْ أُرِّخَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى: قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّارِيخِ لِلِاحْتِمَالِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ لِصَاحِبِ التَّارِيخِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ فِي أَيْدِيهِمَا كَمَا كَانَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ تَسَاقُطُ الْبَيِّنَتَيْنِ، إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِهَا مِنَ الْآخَرِ، وَقِيلَ: تُجْعَلُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ الْقِسْمَةِ، وَلَا يَجِيءُ الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ، إِذْ لَا مَعْنَى لَهُ، وَفِي الْقُرْعَةِ وَجْهَانِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ إِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَسَاوَتِ الْبَيِّنَتَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ: تَعَارَضَتَا وَتَسَاقَطَتَا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَنْفِي مَا تُثْبِتُهُ الْأُخْرَى، فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِمَا، وَلَا بِإِحْدَاهُمَا فَتَتَسَاقَطَانِ، وَيَصِيرُ الْمُتَنَازِعَانِ كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُ، فَيَتَحَالَفَانِ، وَيَتَنَاصَفَانِ مَا بِأَيْدِيهِمَا.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى تَرْجِيحِ إِحْدَاهُمَا بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ فِي الْبَيِّنَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَا الْمُزَكِّيَةِ، وَفِي رَأْيِ بَعْضِهِمْ تُرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ إِذَا أَفَادَتِ الْكَثْرَةُ الْعِلْمَ، بِحَيْثُ تَكُونُ الْكَثْرَةُ جَمْعًا يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ.

59- وَإِنْ كَانَتَا فِي مِلْكٍ مُقَيَّدٍ بِسَبَبِهِ:

وَذَلِكَ بِأَنْ يُذْكَرَ الْمِلْكُ عَنْ طَرِيقِ الْإِرْثِ مَثَلًا أَوْ عَنْ طَرِيقِ الشِّرَاءِ أَوِ النِّتَاجِ.

فَفِي الْإِرْثِ يُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَسْبَقَ، فَيُقْضَى بِهِ لِلْأَسْبَقِ.

أَمَّا إِذَا كَانَا خَارِجَيْنِ، بِأَنْ كَانَ الشَّيْءُ عِنْدَ غَيْرِهِمَا: فَيُقْسَمُ الشَّيْءُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُقْضَى بِهِ لِلْأَسْبَقِ إِذَا ذَكَرَا تَارِيخًا.

وَفِي الشِّرَاءِ: إِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِهِ وَلَا تَارِيخَ لَهُمَا، وَكَذَا إِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا سَوَاءٌ، تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا، وَيُتْرَكُ الشَّيْءُ لِلَّذِي فِي يَدِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ: فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ، وَإِذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ يُقْضَى لَهُمَا بِالشَّيْءِ نِصْفَيْنِ.

وَفِي النِّتَاجِ: بِأَنْ يَذْكُرَ أَنَّ هَذِهِ النَّاقَةَ نَتَجَتْ عِنْدَهُ، أَيْ: وَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى إِذَا لَمْ يُؤَرِّخَا، أَوْ أَرَّخَا وَقْتًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ النِّتَاجَ لَا يَتَكَرَّرُ.

لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي نَاقَةٍ، فَقَالَ.كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: نَتَجَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ عِنْدِي.وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ».

أَمَّا مَا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ، كَالْبِنَاءِ، وَالنَّسْجِ، وَالصُّنْعِ، وَالْغَرْسِ: فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى.أَمَّا إِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمَا الْمِلْكَ وَالْآخَرُ النِّتَاجَ: فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ.

وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مَا يَلِي:

أ- إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ الْمِلْكَ بِالِاسْتِقْلَالِ وَادَّعَى الْآخَرُ الْمِلْكَ بِالِاشْتِرَاكِ فِي مَالٍ، وَالْحَالُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ أَيْ ذُو يَدٍ: فَبَيِّنَةُ الِاسْتِقْلَالِ أَوْلَى.

ب- تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ التَّمْلِيكِ عَلَى بَيِّنَةِ الْعَارِيَّةُ.

ج- تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْبَيْعِ عَلَى بَيِّنَةِ الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَتُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْإِجَارَةِ عَلَى بَيِّنَةِ الرَّهْنِ.

د- تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ عَلَى بَيِّنَةِ مَرَضِ الْمَوْتِ.

هـ- تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْعَقْلِ عَلَى بَيِّنَةِ الْجُنُونِ أَوِ الْعَتَهِ.

و- تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْحُدُوثِ عَلَى بَيِّنَةِ الْقِدَمِ.

كَثْرَةُ الْعَدَدِ وَقُوَّةُ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ:

60- إِذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ سِوَى كَثْرَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بِأَنْ كَانَتِ الْأُولَى عَشَرَةَ شُهُودٍ وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ شَاهِدَيْنِ فَقَطْ، أَوْ تَرَجَّحَتْ إِحْدَاهُمَا بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ بِأَنْ كَانَتْ أَظْهَرَ زُهْدًا وَأَوْفَرَ تَحَرُّجًا مِنَ الْأُخْرَى.

فَهَلْ تَتَرَجَّحُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى؟.

ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى تَرْجِيحِهَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلُ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُغَلَّبُ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَإِنَّمَا هُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}

وَبِقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.

فَمَنَعَ النَّصُّ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ، وَعَلَى قَبُولِ الْعَدْلِ مَعَ مَنْ هُوَ أَعْدَلُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ.

شَهَادَةُ الْأَبْدَادِ:

61- الْأَبْدَادُ: هُمُ الْمُتَفَرِّقُونَ، وَاحِدُهُمْ بُدٌّ، مِنَ التَّبْدِيدِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا فِي ذَلِكَ مُتَفَرِّقِينَ، وَاحِدٌ هُنَا وَآخَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَوَاحِدٌ الْيَوْمَ وَوَاحِدٌ غَدًا، وَوَاحِدٌ عَلَى مَعْنًى، وَوَاحِدٌ عَلَى مَعْنًى آخَرَ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الَّذِينَ انْفَرَدُوا بِبَيَانِ أَحْكَامِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَبْدَادِ فِي النِّكَاحِ، وَهِيَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الشُّهُودُ عَلَى شَهَادَةِ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ، بَلْ إِنَّمَا عَقَدُوا وَتَفَرَّقُوا، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: (أَشْهِدْ مَنْ لَقِيتَ) هَكَذَا فَسَّرُوهُ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ.

فَتَتِمُّ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ سِتَّةِ شُهُودٍ: مِنْهُمُ اثْنَانِ عَلَى الْوَلِيِّ، وَاثْنَانِ عَلَى الزَّوْجِ، وَاثْنَانِ عَلَى الزَّوْجَةِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا.وَفِي الْبِكْرِ ذَاتَ الْأَبِ تَتِمُّ بِأَرْبَعَةٍ: مِنْهُمْ شَاهِدَانِ عَلَى الزَّوْجِ وَشَاهِدَانِ عَلَى الْوَلِيِّ.

وَأَمَّا إِنْ أَشْهَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الشُّهُودَ الَّذِينَ أَشْهَدَهُمْ صَاحِبُهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَلَيْسَتْ شَهَادَةَ أَبْدَادٍ.

قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: شَهَادَةُ الْأَبْدَادِ لَا تَعْمَلُ شَيْئًا، إِذَا شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ نَصٍّ مَا شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى جَمِيعِ شَهَادَاتِهِمْ وَاحِدًا، حَتَّى يَتَّفِقَ مِنْهُمْ شَاهِدَانِ عَلَى نَصٍّ وَاحِدٍ.

لَكِنْ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافٌ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْهِنْدِيِّ، فَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ شَاهِدَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا فِي مَنْزِلٍ أَنَّهُ مَسْكَنُ هَذَا، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ حَيْزُهُ، فَقَالَ خَصْمُهُ: قَدِ اخْتَلَفَتْ شَهَادَتُهُمَا.فَقَالَ مَالِكٌ: مَسْكَنُهُ وَحَيْزُهُ شَهَادَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَفْتَرِقُ.

شَهَادَةُ الِاسْتِخْفَاءِ أَوِ الِاسْتِغْفَالِ:

62- الْمُسْتَخْفِي هُوَ الَّذِي يُخْفِي نَفْسَهُ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِيُسْمَعَ قَرَارُهُ وَلَا يُعْلَمَ بِهِ، كَأَنْ يَجْحَدَ الْحَقَّ عَلَانِيَةً وَيُقِرَّ بِهِ سِرًّا، فَيَخْتَبِئُ شَاهِدَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِمَا الْمُقِرُّ لِيَسْمَعَا إِقْرَارَهُ، وَلِيَشْهَدَا بِهِ مِنْ بُعْدٍ، فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَخْدُوعٍ وَلَا خَائِنٍ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ شَهَادَةُ الْمُسْتَخْفِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا تَجَسَّسُوا} شَهَادَةُ الزُّورِ:

63- شَهَادَةُ الزُّورِ مِنَ الْكَبَائِرِ.وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا بَعْدُ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ- وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا- فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ.قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ».

وَلِأَنَّ فِيهَا رَفْعَ الْعَدْلِ، وَتَحْقِيقَ الْجَوْرِ.

فَإِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ أَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُشَهَّرُ بِهِ فِي السُّوقِ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ أَوْ فِي قَوْمِهِ أَوْ مَحَلَّتِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي مَكَانٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ، وَيُقَالُ: إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُ.

وَلَا يُحْبَسُ وَلَا يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ لِتَحَقُّقِ الْقَصْدِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ.

وَكَانَ شُرَيْحٌ يُشَهِّرُهُ وَلَا يَضْرِبُهُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ شَاهِدَ الزُّورِ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ أَوِ الزَّجْرِ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يُشَهِّرَ أَمْرَهُ فَعَلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ أَيْ: سَوَّدَهُ.

وَلِأَنَّ هَذِهِ كَبِيرَةٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى الْعِبَادِ، وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى تَعْزِيرِهِ وَضَرْبِهِ وَأَنْ يُطَافَ بِهِ فِي الْمَجَالِسِ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا ثَبَتَ زُورُهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَنُبِّهَ النَّاسُ عَلَى حَقِيقَتِهِ.

وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَبْنِيَّ عَلَى شَهَادَتِهِ كَانَ بَاطِلًا لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- «اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ لِيَحْذَرَهُ النَّاسُ»

وَالْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ شَهَادَةِ الزُّورِ سَوَاءٌ، لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا فِيمَا تَعَلَّقَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ.

وَإِذَا تَابَ شَاهِدُ الزُّورِ وَمَضَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ ظَهَرَتْ فِيهَا تَوْبَتُهُ، وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ وَعَدَالَتُهُ: قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ.

وَقَالَ مَالِكٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ.

شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ:

64- يُقْصَدُ بِهَا أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّاهِدُ شَهَادَةً تَحَمَّلَهَا ابْتِدَاءً لَا بِطَلَبِ طَالِبٍ وَلَا بِتَقَدُّمِ دَعْوَى.

وَمَعْنَى (حِسْبَةً) أَيِ احْتِسَابًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي كُلِّ مَا تَمَحَّضَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالزِّنَى، وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَالطَّلَاقِ، وَالِاسْتِيلَادِ، وَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ. (انْظُرْ: حِسْبَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-موسوعة الفقه الكويتية (شهادة الزور)

شَهَادَةُ الزُّورِ

التَّعْرِيفُ:

1- شَهَادَةُ الزُّورِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ يَتَكَوَّنُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا: الشَّهَادَةُ، وَالزُّورُ.

أَمَّا الشَّهَادَةُ فِي اللُّغَةِ، فَمِنْ مَعَانِيهَا: الْبَيَانُ، وَالْإِظْهَارُ، وَالْحُضُورُ، وَمُسْتَنَدُهَا الْمُشَاهَدَةُ إِمَّا بِالْبَصَرِ أَوْ بِالْبَصِيرَةِ.

وَأَمَّا الزُّورُ فَهُوَ الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ، وَقِيلَ: هُوَ شَهَادَةُ الْبَاطِلِ، يُقَالُ: رَجُلٌ زُورٌ وَقَوْمٌ زُورٌ: أَيْ مُمَوِّهٌ بِكَذِبٍ.

وَشَهَادَةُ الزُّورِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْكَذِبِ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الْبَاطِلِ مِنْ إِتْلَافِ نَفْسٍ، أَوْ أَخْذِ مَالٍ، أَوْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا، قَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي كِتَابِهِ مَعَ نَهْيِهِ عَنِ الْأَوْثَانِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الْأَسَدِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا، فَقَالَ: عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ».

وَرَوَى أَبُو بَكْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ ثَلَاثًا: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ- وَكَانَ مُتَّكِئًا- فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَا يَسْكُتُ».

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ تَزُولَ قَدَمَا شَاهِدِ الزُّورِ حَتَّى يُوجِبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ».

فَمَتَى ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ، وَسَيَأْتِي آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيهَا.

بِمَ تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزُّورِ؟

3- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي إِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بِأَنْ يَشْهَدَ بِمَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ: بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ بِفِعْلٍ فِي الشَّامِ فِي وَقْتٍ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْعِرَاقِ، أَوْ يَشْهَدَ بِقَتْلِ رَجُلٍ وَهُوَ حَيٌّ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْبَهِيمَةَ فِي يَدِ هَذَا مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ وَسِنُّهَا أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا فِي وَقْتٍ وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَهُ وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا يُتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ وَيُعْلَمُ تَعَمُّدُهُ لِذَلِكَ.

4- وَلَا تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا نَفْيٌ لِشَهَادَتِهِ، وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ، وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فَلَا يُعَزَّرُ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، أَوْ ظُهُورِ فِسْقِهِ أَوْ غَلَطِهِ فِي الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الْفِسْقَ لَا يَمْنَعُ الصِّدْقَ، وَالتَّعَارُضُ لَا يُعْلَمُ بِهِ كَذِبُ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِعَيْنِهَا، وَالْغَلَطُ قَدْ يَعْرِضُ لِلصَّادِقِ الْعَدْلِ وَلَا يَتَعَمَّدُهُ فَيُعْفَى عَنْهُ.وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.

قَالَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ.

وَالثَّانِي: أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ مَا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ.

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ أَمْ بَعْدَهُ.

كَيْفِيَّةُ عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ:

5- لَمَّا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ لَمْ تُقَدِّرْ عُقُوبَةً مُحَدَّدَةً لِشَاهِدِ الزُّورِ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ هِيَ التَّعْزِيرُ، قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ مِنْ حَيْثُ تَفْصِيلَاتُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ لَا مِنْ حَيْثُ مَبْدَأُ عِقَابِ شَاهِدِ الزُّورِ بِالتَّعْزِيرِ، إِذْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْزِيرِهِ.إِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ وُجُوبًا وَشَهَّرَ بِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى.وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: تَأْدِيبُ شَاهِدِ الزُّورِ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ إِنْ رَأَى تَعْزِيرَهُ بِالْجَلْدِ جَلَدَهُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَحْبِسَهُ، أَوْ كَشْفَ رَأْسِهِ وَإِهَانَتَهُ وَتَوْبِيخَهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَا يَزِيدُ فِي جَلْدِهِ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا.وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّشْهِيرِ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ: فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُوقِفُهُ فِي السُّوقِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ، أَوْ مَحَلَّةِ قَبِيلَتِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَبَائِلِ، أَوْ فِي مَسْجِدِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَسَاجِدِ، وَيَقُولُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: إِنَّ الْحَاكِمَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: هَذَا شَاهِدُ زُورٍ فَاعْرِفُوهُ.

6- وَلَا يُسَخَّمُ وَجْهٌ (أَيْ يُسَوِّدُهُ) لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمُثْلَةِ، وَلَا يُرْكِبُهُ مَقْلُوبًا، وَلَا يُكَلِّفُ الشَّاهِدَ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي هَذَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ مِمَّا يَرَاهُ- مَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى مُخَالَفَةِ نَصٍّ أَوْ مَعْنَى نَصٍّ.

7- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِالزُّورِ عُوقِبَ بِالسِّجْنِ وَالضَّرْبِ، وَيُطَافُ بِهِ فِي الْمَجَالِسِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ زُورٍ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ.وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ بِالشَّامِ: إِذَا أَخَذْتُمْ شَاهِدَ الزُّورِ فَاجْلِدُوهُ بِضَرْبِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَسَخِّمُوا وَجْهَهُ وَطَوِّفُوا بِهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ النَّاسُ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُطَالُ حَبْسُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.

وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ شَهَادَةِ الزُّورِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ، فَقَالَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} وَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَبِيرَةَ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى الْعِبَادِ بِإِتْلَافِ أَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

7 م- وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَقَرَّ الشَّاهِدُ أَنَّهُ شَهِدَ زُورًا: يُشَهَّرُ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ إِنْ كَانَ سُوقِيًّا، أَوْ بَيْنَ قَوْمِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ، وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي مَكَانِ تَجَمُّعِ النَّاسِ، وَيَقُولُ الْمُرْسَلُ مَعَهُ: إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ، وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ، وَلَا يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يُشَهِّرُ شَاهِدَ الزُّورِ وَلَا يُعَزِّرُهُ، وَكَانَ قَضَايَاهُ لَا تَخْفَى عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى الِانْزِجَارِ؛ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ، بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ أَعْظَمَ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الضَّرْبِ، فَيُكْتَفَى بِهِ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ لَكِنَّهُ يَقَعُ مَانِعًا عَنِ الرُّجُوعِ فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ نَظَرًا إِلَى هَذَا الْوَجْهِ.

وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ نَقْلًا عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْكَاتِبِ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْجِعَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ وَالنَّدَامَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَزَّرُ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ.وَالثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِإِجْمَاعِهِمْ.وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ رُجُوعُهُ بِأَيِّ سَبَبٍ فَإِنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا.

الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ:

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ حُجَّةٌ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا فَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَنْفُذُ بِقَدْرِ الْحُجَّةِ، وَلَا يُزِيلُ شَيْئًا عَنْ صِفَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ الْعُقُودُ مِنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ وَالْفُسُوخُ، فَلَا يَحِلُّ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ بُضْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَنْفُذُ قَضَاءٌ بِشَهَادَةِ الزُّورِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ حَيْثُ كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا، وَالْقَاضِي غَيْرَ عَالِمٍ بِزُورِهِمْ، لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- لِامْرَأَةٍ أَقَامَ عَلَيْهَا رَجُلٌ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَنْكَرَتْ فَقَضَى لَهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- فَقَالَتْ لَهُ: لِمَ تُزَوِّجُنِي؟ أَمَا وَقَدْ قَضَيْتَ عَلَيَّ فَجَدِّدْ نِكَاحِي، فَقَالَ: لَا أُجَدِّدُ نِكَاحَكَ، الشَّاهِدَانِ زَوَّجَاكَ؛ فَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدِ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بَاطِنًا بِالْقَضَاءِ لَمَا امْتَنَعَ مِنْ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ عِنْدَ طَلَبِهَا.

9- وَأَمَّا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ (أَيِ الَّتِي لَمْ يُذْكَرْ لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ) فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَلَيْسَ بَعْضُ الْأَسْبَابِ بِأَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ لِتَزَاحُمِهَا فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ السَّبَبِ سَابِقًا عَلَى الْقَضَاءِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ.

تَضْمِينُ شُهُودِ الزُّورِ:

10- مَتَى عُلِمَ أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا بِالزُّورِ: تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ بَاطِلًا، وَلَزِمَ نَقْضُهُ وَبُطْلَانُ مَا حُكِمَ بِهِ، وَيَضْمَنُ شُهُودُ الزُّورِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ مِنْ ضَمَانٍ.فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالًا: رُدَّ إِلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلَافًا: فَعَلَى الشُّهُودِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُمْ سَبَبُ إِتْلَافِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ إِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، كَأَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ عَمْدٍ عُدْوَانٍ أَوْ بِرِدَّةٍ أَوْ بِزِنًى وَهُوَ مُحْصَنٌ، فَقُتِلَ الرَّجُلُ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا وَأَقَرَّا بِتَعَمُّدِ قَتْلِهِ، وَقَالَا: تَعَمَّدْنَا الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ لِيُقْتَلَ أَوْ يُقْطَعَ: فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، لِتَعَمُّدِ الْقَتْلِ بِتَزْوِيرِ الشَّهَادَةِ، لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ: أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَهُ ثُمَّ عَادَا فَقَالَا: أَخْطَأْنَا، لَيْسَ هَذَا هُوَ السَّارِقَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعَتْكُمَا، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، وَإِنَّهُمَا تَسَبَّبَا إِلَى قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِهِ بِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ غَالِبًا فَلَزِمَهُمَا كَالْمُكْرَهِ.وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ.

11- وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا شَهِدُوا زُورًا بِمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ قِصَاصًا، فَقُطِعَ أَوْ فِي سَرِقَةٍ لَزِمَهُمَا الْقَطْعُ، وَإِذَا سَرَى أَثَرُ الْقَطْعِ إِلَى النَّفْسِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، كَمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاضِي إِذَا قَضَى زُورًا بِالْقِصَاصِ، وَكَانَ يَعْلَمُ بِكَذِبِ الشُّهُودِ.

وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ إِذَا قَالَا: تَعَمَّدْنَا الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهَذَا، وَكَانَا مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَجْهَلَا ذَلِكَ.وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي أَمْوَالِهِمَا لِأَنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِمَا وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ الِاعْتِرَافَ.

12- وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ أَوْ شُهُودُ الْحَدِّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، لَمْ يُسْتَوْفَ الْقَوَدُ وَلَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ عُقُوبَةٌ لَا سَبِيلَ إِلَى جَبْرِهَا إِذَا اسْتُوْفِيَتْ بِخِلَافِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ شُبْهَةٌ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِمْ، وَالْقَوَدُ وَالْحَدُّ يُدْرَآنِ بِالشُّبْهَةِ، فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَلَا غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ بَلْ يُعَزَّرُونَ.

وَوَجَبَتْ دِيَةُ قَوَدٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ وَقَدْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَيَرْجِعُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الشُّهُودِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَدَا أَشْهَبَ: إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَتْلٌ بِالسَّبَبِ، وَالْقَتْلُ تَسَبُّبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً، وَلِذَا قَصُرَ أَثَرُهُ، فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ.

12 م- وَيَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ إِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَى وَيُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ سَوَاءٌ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.وَيُحَدُّونَ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَى حَدَّ الْقَذْفِ أَوَّلًا.ثُمَّ يُقْتَلُونَ إِذَا تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بِالرَّجْمِ.

وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِالتَّدَاخُلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: فَإِنْ كَانَ فِي الْحُدُودِ قَتْلٌ فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ، لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: مَا كَانَتْ حُدُودٌ فِيهَا قَتْلٌ إِلاَّ أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الزَّجْرِ بِغَيْرِهِ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ حَدَّ الْقَذْفِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اسْتِيفَائِهِ قَبْلَهُ.

تَوْبَةُ شَاهِدِ الزُّورِ:

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَابَ شَاهِدُ الزُّورِ وَأَتَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ تَظْهَرُ فِيهَا تَوْبَتُهُ، وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِيهَا وَعَدَالَتُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا}.

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».

وَلِأَنَّهُ تَائِبٌ مِنْ ذَنْبِهِ؛ فَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُ كَسَائِرِ التَّائِبِينَ.

وَمُدَّةُ ظُهُورِ التَّوْبَةِ عِنْدَهُمْ سَنَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَظْهَرُ صِحَّةُ التَّوْبَةِ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ، فَكَانَتْ أَوْلَى الْمُدَدِ بِالتَّقْدِيرِ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ تَمُرُّ فِيهَا الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي تَهِيجُ فِيهَا الطَّبَائِعُ وَتَتَغَيَّرُ فِيهَا الْأَحْوَالُ.

وَقَالَ الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: مُدَّةُ ظُهُورِ التَّوْبَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ ظَاهِرَ الصَّلَاحِ حِينَ شَهِدَ بِالزُّورِ لَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ بَقَائِهِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُظْهِرٍ لِلصَّلَاحِ حِينَ الشَّهَادَةِ فَفِي قَبُولِهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ قَوْلَانِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


16-موسوعة الفقه الكويتية (صك)

صَكٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الصَّكُّ فِي اللُّغَةِ: الضَّرْبُ الشَّدِيدُ بِالشَّيْءِ الْعَرِيضِ، يُقَالُ: صَكَّهُ صَكًّا: إِذَا ضَرَبَهُ فِي قَفَاهُ وَوَجْهِهِ بِيَدِهِ مَبْسُوطَةً.وَقِيلَ: الضَّرْبُ عَامَّةً بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الْمُعَامَلَاتُ، وَالْأَقَارِيرُ وَوَقَائِعُ الدَّعْوَى.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

السِّجِلُّ:

2- السِّجِلُّ: هُوَ فِي اللُّغَةِ: الْكِتَابُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ مَا تَضَمَّنَ حُكْمَ الْقَاضِي.

الْمَحْضَرُ:

3- الْمَحْضَرُ: هُوَ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مَا جَرَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ إِقْرَارٍ، وَإِنْكَارٍ وَإِقَامَةِ بَيِّنَةٍ، وَنُكُولٍ عَنْ يَمِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَقَائِعِ الدَّعْوَى، عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ الِاشْتِبَاهَ بِلَا حُكْمٍ.

الدِّيوَانُ:

4- الدِّيوَانُ: هُوَ مَجْمَعُ الصُّحُفِ، وَهُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي يُحْفَظُ فِيهَا السِّجِلاَّتُ وَالْمَحَاضِرُ، وَغَيْرُهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ أَسْمَاءُ أَفْرَادِ الْجَيْشِ وَأَصْحَابُ الْعَطِيَّةِ.

الْوَثِيقَةُ:

5- الْوَثِيقَةُ: هِيَ فِي اللُّغَةِ: الْإِحْكَامُ فِي الْأَمْرِ وَالْأَخْذُ بِالثِّقَةِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ: مَا يَشْمَلُ الصَّكَّ، وَالْمَحْضَرَ، وَالسِّجِلَّ، وَالرَّهْنَ، وَكُلَّ مَا يَتَوَثَّقُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي حَقِّهِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِكِتَابَةِ الصُّكُوكِ وَالسِّجِلاَّتِ:

6- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ كِتَابَةَ الصُّكُوكِ، وَالسِّجِلاَّتِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ مَالِيٍّ، وَغَيْرِهِ: كَطَلَاقٍ وَإِقْرَارٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِتَمْهِيدِ إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ عِنْدَ التَّنَازُعِ؛ وَلِمَا لَهَا مِنْ أَثَرٍ ظَاهِرٍ فِي التَّذَكُّرِ لِلْوَقَائِعِ، وَفِيهَا حِفْظُ الْحُقُوقِ عَنِ الضَّيَاعِ.

وُجُوبُ كِتَابَةِ الصُّكُوكِ وَالسِّجِلاَّتِ عَلَى الْقَاضِي:

7- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي عَيْنًا كَتْبُ الصُّكُوكِ، وَالسِّجِلاَّتِ؛ إِذْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِيصَالُ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِالشُّهُودِ لَا بِالصُّكُوكِ وَكِتَابَةِ السِّجِلاَّتِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَانُوا يَحْكُمُونَ، وَلَا يَكْتُبُونَ الْمَحَاضِرَ وَالسِّجِلاَّتِ، وَلَكِنَّهُ إِنْ سَأَلَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ كِتَابَةَ الصَّكِّ، أَوِ السِّجِلِّ لِيَحْتَجَّ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي إِجَابَتُهُ إِنْ أَحْضَرَ قِرْطَاسًا أَوْ كَانَ هُنَاكَ قِرْطَاسٌ مُعَدٌّ لِذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.وَهَذَا رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي كِتَابَةُ الصَّكِّ وَالسِّجِلِّ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ مَنْ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي كِتَابَتِهِ وَأَتَى بِكَاغِدٍ، أَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَاغِدٌ مُعَدٌّ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلطَّالِبِ، فَلَزِمَهُ كِتَابَتُهُ، كَعَامِلِ الزَّكَاةِ، إِذَا طَلَبَ الْمُزَكِّي مِنْهُ كِتَابَةَ صَكٍّ مِنْهُ؛ لِئَلاَّ يُطَالِبَهُ عَامِلٌ آخَرُ،

وَكَمُعَشِّرِ تِجَارَةِ أَهْلِ حَرْبٍ أَوْ ذِمَّةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، طَلَبُوا مِنْهُ كِتَابَةَ صَكٍّ بِأَدَاءِ الْعُشْرِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ بَرَاءَةُ ذِمَّةٍ إِذَا مَرَّ بِهِمْ مُعَشِّرٌ آخَرُ.

أَخْذُ الْأُجْرَةِ بِالْكِتَابَةِ:

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى كَتْبِ الصُّكُوكِ، وَجَمِيعِ الْوَثَائِقِ، لقوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}.وَقَالُوا: إِنَّ مَنِ اسْتُبِيحَ عَمَلُهُ، وَكَدُّ خَاطِرِهِ كُلَّمَا احْتَاجَ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ، وَيَسْتَغْرِقُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَفِي ذَلِكَ غَايَةُ الضَّرَرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أُجْرَةُ الْكَاتِبِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَلَيْسَ لِلْقَاضِي مَنْعُ الْفُقَهَاءِ مِنْ كِتَابَةِ الْعُقُودِ، وَالْحُجَجِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الشَّرْعِ فِيمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، إِذَا كَانَ الْكَاتِبُ فَقِيهًا عَالِمًا بِأُمُورِ الشَّرْعِ، وَشُرُوطِ انْعِقَادِ الْعُقُودِ.وَإِذَا مَنَعَ الْقَاضِي ذَلِكَ لِتَصِيرَ إِلَيْهِ هَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ هَذَا مِنَ الْمَكْسِ.

وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي يُرِيدُ مَنْعَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ؛ لِئَلاَّ يَعْقِدَ عَقْدًا فَاسِدًا فَالطَّرِيقُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَهُوَ تَعْزِيرُ مَنْ عَقَدَ عَقْدًا فَاسِدًا.وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمِّيَ الْأُجْرَةَ، وَيُعَيِّنَ الْعَمَلَ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى شَيْءٍ، وَجَاءَ الْعَمَلُ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ فَهِيَ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ، وَيَجُوزُ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَأْخُذَ مَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ.مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَكْتُوبُ لَهُ مُضْطَرًّا إِلَى قَبُولِ مَا يَطْلُبُهُ الْكَاتِبُ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ فِي الْمَوْضِعِ، أَوْ قَصْرِ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ، عَلَى الْكَاتِبِ أَلاَّ يَرْفَعَ الْأُجْرَةَ عَلَى النَّاسِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ، لِمَا عَلِمَ مِنْ ضَرُورَتِهِمْ إِلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهِيَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِذَلِكَ.

هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْكَاتِبِ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِلاَّ فَرِزْقُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.

ثَمَنُ أَوْرَاقِ الصَّكِّ وَالسِّجِلِّ:

9- ثَمَنُ أَوْرَاقِ الصَّكِّ وَالسِّجِلِّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، أَوِ احْتِيجَ لِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَالثَّمَنُ عَلَى مَنْ سَأَلَ الْكِتَابَةَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّأْنِ كَمُدَّعٍ، وَمُدَّعًى عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ كِتَابَةَ مَا جَرَى فِي خُصُومَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُعْلِمُهُ الْقَاضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكْتُبْ فَقَدْ يَنْسَى شَهَادَةَ الشُّهُودِ، وَالْحُكْمَ.

اسْتِنَادُ الْقَاضِي إِلَى الْخَطِّ فِي حُكْمِهِ:

10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي الِاسْتِنَادُ فِي حُكْمِهِ إِلَى خَطِّ الصَّكِّ، أَوِ السِّجِلِّ الْمُجَرَّدِ، فَإِذَا وَجَدَ وَرَقَةً فِيهَا حُكْمُهُ وَطُلِبَ مِنْهُ إِمْضَاؤُهُ، أَوْ تَنْفِيذُهُ، فَإِنْ تَذَّكَّرَهُ أَمْضَاهُ، وَنَفَّذَهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْوَاقِعَةَ، مُفَصَّلَةً فَلَا يَعْمَلُ بِهِ، حَتَّى يَتَذَكَّرَ الْوَقَائِعَ مُفَصَّلَةً.وَلَا يَكْفِيهِ مَعْرِفَتُهُ أَنَّ هَذَا خَطُّهُ- فَقَطْ- حَتَّى يَتَذَكَّرَ الْوَاقِعَةَ.وَإِنْ كَانَ السِّجِلُّ فِي حِفْظِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ، لِاحْتِمَالِ التَّزْوِيرِ، وَمُشَابَهَةِ الْخَطِّ لِلْخَطِّ؛ وَلِأَنَّ قَضَاءَهُ: فِعْلُهُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْعِلْمِ هُوَ الْأَصْلُ فِي فِعْلِ الْإِنْسَانِ؛ لِهَذَا يَأْخُذُ عِنْدَ الشَّكِّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بِالْعِلْمِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ- وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- إِنْ كَانَ السِّجِلُّ تَحْتَ يَدِهِ فِي خَرِيطَةٍ وَالْخَرِيطَةُ مَخْتُومَةٌ بِخَتْمِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ الْوَاقِعَةَ عَمِلَ بِهِ.

شَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى السِّجِلِّ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُهُ:

11- إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّكَّ مِنْ عَمَلِهِ وَالسِّجِلَّ حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ هُوَ الْوَاقِعَةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى: أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُؤَثِّرْ، فَلَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ فِعْلُهُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْعِلْمِ هُوَ الْأَصْلُ فِي فِعْلِ الْإِنْسَانِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ أَنَّ هَذَا حُكْمَهُ، قَبِلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَمْضَاهُ مُعْتَمِدًا عَلَى شَهَادَتِهِمَا لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِمْضَائِهِ؛ وَلِأَنَّهُمَا إِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قَبِلَهُمَا؛ فَأَوْلَى إِنْ شَهِدَا بِحُكْمِهِ.

الشَّهَادَةُ عَلَى مَضْمُونِ الصَّكِّ، وَالسِّجِلِّ:

12- لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى مَضْمُونِ صَكٍّ اسْتِنَادًا عَلَى خَطِّهِ، مَا لَمْ يَتَذَكَّرِ الْوَاقِعَةَ كَالْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ الصَّكُّ فِي حِفْظِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ، وَيَأْتِي- هُنَا أَيْضًا- الْخِلَافُ فِي مَا سَبَقَ فِي صَكِّ الْقَاضِي.

الْعَمَلُ بِالصَّكِّ وَحْدَهُ:

13- اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِنَادِ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ عَلَى الصَّكِّ الْمُجَرَّدِ: مَا جَرَى الْعُرْفُ بِقَبُولِهِ بِمُجَرَّدِ كِتَابَتِهِ، كَالْبَرَاءَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ لِأَصْحَابِ الْوَظَائِفِ وَنَحْوِهَا كَمَنْشُورِ الْقَاضِي، وَالْوَالِي، وَعَامَّةِ الْأَوَامِرِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَدَفَاتِرِ الْبَيَّاعِينَ، وَالسَّمَاسِرَةِ، وَالصَّرَّافِينَ، وَصُكُوكِ الْوَقْفِ الَّتِي تَقَادَمَ عَلَيْهَا الزَّمَنُ، وَذَلِكَ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بِقَبُولِ كُتُبِ الْبَيَّاعِينَ وَالصَّرَّافِينَ، وَالسَّمَاسِرَةِ وَأَوَامِرِ السُّلْطَانِ بِمُجَرَّدِ كِتَابَتِهِ، وَنُدْرَةِ إِمْكَانِ التَّزْوِيرِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَتَعَذُّرِ إِقَامَةِ بَيِّنَةٍ عَلَى صُكُوكِ الْأَوْقَافِ إِذَا تَقَادَمَ عَلَيْهَا الزَّمَنُ؛ وَلِضَرُورَةِ إِحْيَاءِ الْأَوْقَافِ.

كِتَابَةُ الصُّكُوكِ وَالسِّجِلاَّتِ:

14- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ الصَّكَّ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ مُسْتَبِينَةً مَرْسُومَةً مُعَنْوَنَةً، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَبِينَةً كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْهَوَاءِ وَالرَّقْمِ عَلَى الْمَاءِ فَلَا يُعْتَبَرُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (كِتَاب).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


17-موسوعة الفقه الكويتية (قتل بسبب)

قَتْلٌ بِسَبَبٍ

التَّعْرِيفُ:

1- الْقَتْلُ بِسَبَبٍ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، هُمَا: الْقَتْلُ وَالسَّبَبُ.

وَيُنْظَرُ تَعْرِيفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُصْطَلَحِهِ.

وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْقَتْلُ نَتِيجَةَ فِعْلٍ لَا يُؤَدِّي مُبَاشَرَةً إلَى قَتْلٍ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ، أَوْ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَأَمْثَالِهِمَا، فَيَعْطَبُ بِهِ إنْسَانٌ وَيُقْتَلُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقَتْلُ الْعَمْدُ:

2- الْقَتْلُ الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُلُ قَطْعًا أَوْ غَالِبًا.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا، وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ يَكُونُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ.

ب- الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ:

3- الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا.

وَالْعَلَاقَةُ أَنَّ الْقَتْلَ شِبْهَ الْعَمْدِ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا.

وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ يَكُونُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ.

ج- الْقَتْلُ الْخَطَأُ:

4- هُوَ مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ، أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا.

وَالصِّلَةُ أَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ يَقَعُ نَتِيجَةَ فِعْلٍ مُبَاشِرٍ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ بِسَبَبٍ.

حَالَاتُ الْقَتْلِ بِسَبَبٍ:

5- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْقَتْلَ أَقْسَامًا اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ الْقَتْلُ بِسَبَبٍ، فَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا مِنْ أَقْسَامِ الْقَتْلِ الْخَمْسَةِ عِنْدَهُمْ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَجْعَلُوهُ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا وَإِنَّمَا أَوْرَدُوا أَحْكَامَهُ فِي الْأَقْسَامِ الْأُخْرَى وَمِنْ ذَلِكَ الْحَالَاتُ التَّالِيَةُ:

أ- الْإِكْرَاهُ:

6- الْقَتْلُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ أَنْ يُكْرِهَ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ آخَرَ فَيَقْتُلَهُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إكْرَاهٌ ف 19 وَمَا بَعْدَهَا).

ب- الشَّهَادَةُ بِالْقَتْلِ:

7- إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، فَقُتِلَ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، وَاعْتَرَفَا بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَبِعِلْمِهِمَا بِأَنَّ مَا شَهِدَا بِهِ يُقْتَلُ بِهِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ، فَقَطَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَا فِي شَهَادَتِهِمَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا، وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ يَدِهِ، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الرَّجُلِ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ تَوَصَّلَا إلَى قَتْلِهِ بِسَبَبٍ يَقْتُلُ غَالِبًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ كَالْمُكْرَهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَشْهَبَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا بَلْ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، لِأَنَّهُ تَسَبُّبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ، فَلَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ.

ج- حُكْمُ الْحَاكِمِ بِقَتْلِ رَجُلٍ:

8- إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَى شَخْصٍ بِالْقَتْلِ بِنَاءً عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَاعْتَرَفَ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا حِينَ الْحُكْمِ أَوِ الْقَتْلِ دُونَ الْوَلِيِّ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْحَاكِمِ.

وَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَهُ أَقَرَّ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِ الشُّهُودِ وَتَعَمُّدِ قَتْلِهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ).

د- حَفْرُ الْبِئْرِ وَوَضْعُ الْحَجَرِ:

9- مِنْ صُوَرِ الْقَتْلِ بِسَبَبٍ حَفْرُ الْبِئْرِ وَنَصْبُ حَجَرٍ أَوْ سِكِّينٍ تَعَدِّيًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا إذْنٍ، فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجِنَايَةَ وَأَدَّى إلَى قَتْلِ إنْسَانٍ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ قَتْلُ خَطَأٍ وَمُوجَبَهُ الدِّيَةُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ وَمُوجَبَهُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّلَفِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ مَعْدُومٌ مِنْهُ حَقِيقَةً، فَأُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ، فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ إنْ كَانَ يَأْثَمُ بِالْحَفْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَا يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ.

أَمَّا إذَا قَصَدَ الْجِنَايَةَ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إذَا قَصَدَ هَلَاكَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَهَلَكَ فِعْلًا، فَعَلَى الْفَاعِلِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ هَلَكَ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَفِيهِ الدِّيَةُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَمُوجَبُهُ الدِّيَةُ، وَقَدْ يَقْوَى فَيَلْحَقُ بِالْعَمْدِ، كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ وَالشَّهَادَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى اعْتِبَارِ حَفْرِ الْبِئْرِ شَرْطًا، لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْهَلَاكِ وَلَا يُحَصِّلُهُ، بَلْ يَحْصُلُ التَّلَفُ عِنْدَهُ بِغَيْرِهِ، وَيَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَفْرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي التَّلَفِ، وَلَا يُحَصِّلُهُ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ التَّخَطِّي فِي صَوْبِ الْحُفْرَةِ، وَالْمُحَصِّلُ لِلتَّلَفِ التَّرَدِّي فِيهَا وَمُصَادَمَتُهَا، لَكِنْ لَوْلَا الْحَفْرُ لَمَا حَصَلَ التَّلَفُ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


18-موسوعة الفقه الكويتية (قضاء 4)

قَضَاء -4

انْتِهَاءُ وِلَايَةِ الْقَاضِي:

62- تَنْتَهِي وِلَايَةُ الْقَاضِي بِعَزْلِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ عَزْلِهِ، أَوِ اعْتِزَالِهِ الْقَضَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، أَوْ بِمَوْتِهِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْإِمَامِ وَلَا بِمَوْتِهِ، وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَاضِيَ يَخْرُجُ مِنَ الْقَضَاءِ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنِ الْوَكَالَةِ، لَا يَخْتَلِفَانِ إِلاَّ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا مَاتَ أَوْ خُلِعَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَالْخَلِيفَةُ إِذَا مَاتَ أَوْ خَلُعَ لَا تَنْعَزِلُ قُضَاتُهُ وَوُلَاتُهُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْمُوَكِّلِ وَفِي خَالِصِ حَقِّهِ وَقَدْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْوِلَايَةِ فَيَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَالْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْخَلِيفَةِ وَفِي حَقِّهِ، بَلْ بِوِلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي حُقُوقِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخَلِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ عَنْهُمْ لِهَذَا لَمْ تَلْحَقْهُ الْعُهْدَةُ، وَوِلَايَةُ الْمُسْلِمِينَ- بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ- بَاقِيَةٌ، فَيَبْقَى الْقَاضِي عَلَى وِلَايَتِهِ.

وَعَلَّلَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ نَائِبًا عَنِ الْإِمَامِ فَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَنِيبُ الْقُضَاةَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا، وَلِأَنَّ الْخُلَفَاءَ- رضي الله عنهم- وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَنِهِمْ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِمْ؛ وَلِأَنَّ فِي عَزْلِهِ بِمَوْتِ الْإِمَامِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْبُلْدَانَ تَتَعَطَّلُ مِنَ الْحُكَّامِ، وَتَقِفُ أَحْكَامُ النَّاسِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ.

عَزْلُ الْقَاضِي:

63- لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَعْزِلَ الْقَاضِيَ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ كَفِسْقٍ أَوْ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقَضَاءِ، أَوِ اخْتَلَّ فِيهِ بَعْضُ شُرُوطِهِ، لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ عَزْلِهِ لِلْقَاضِي دُونَ مُوجِبٍ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا عَزَلَ الْقَاضِيَ وَقَعَ الْعَزْلُ، لَكِنَّ الْأَوْلَى عَدَمُ عَزْلِهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ، فَلَوْ عَزَلَهُ دُونَ عُذْرٍ فَإِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِإِثْمٍ عَظِيمٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: لأَعْزِلَنَّ أَبَا مَرْيَمَ، وَأُوَلِّيَنَّ رَجُلًا إِذَا رَآهُ الْفَاجِرُ فَرِقَهُ فَعَزَلَهُ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ مَكَانَهُ، وَوَلَّى عَلِيٌّ- رضي الله عنه- أَبَا الْأَسْوَدِ ثُمَّ عَزَلَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ عَزْلَ الْإِمَامِ لِلْقَاضِي لَيْسَ بِعَزْلٍ لَهُ حَقِيقَةً، بَلْ بِعَزْلِ الْعَامَّةِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ تَوْلِيَتَهُ بِتَوْلِيَةِ الْعَامَّةِ، وَالْعَامَّةُ وَلَّوْهُ الِاسْتِبْدَالَ دَلَالَةً لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْهُمْ مَعْنًى فِي الْعَزْلِ أَيْضًا فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَزْلِ وَالْمَوْتِ، وَلَا يَمْلِكُ الْقَاضِي عَزْلَ نَائِبِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي تَعْيِينِهِ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ، فَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ مَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِاسْتِبْدَالِ مَنْ يَشَاءُ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَزْلًا مِنَ الْخَلِيفَةِ لَا مِنَ الْقَاضِي.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ فَلِلْإِمَامِ عَزْلُهُ، قَالَ فِي الْوَسِيطِ: وَيَكْفِي فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ خَلَلٌ نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، لَمْ يَجُزْ عَزْلُهُ، وَلَوْ عَزَلَهُ لَمْ يَنْعَزِلْ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ صَالِحٌ نُظِرَ إِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ جَازَ عَزْلُهُ وَانْعَزَلَ الْمَفْضُولُ بِالْعَزْلِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْعُزْلَةِ بِهِ مَصْلَحَةٌ مِنْ تَسْكِينِ فِتْنَةٍ وَنَحْوِهَا، فَلِلْإِمَامِ عَزْلُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ عَزَلَهُ نَفَذَ عَلَى الْأَصَحِّ مُرَاعَاةً لِطَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَمَتَى كَانَ الْعَزْلُ فِي مَحَلِّ النَّظَرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْإِمَامِ فِيهِ، وَيُحْكَمُ بِنُفُوذِهِ، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ تَوْلِيَةَ قَاضٍ بَعْدَ قَاضٍ هَلْ هِيَ عَزْلٌ لِلْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ وَلِيَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ قَاضِيَانِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْإِمَامِ دُونَ مُوجِبٍ لِأَنَّ عَقْدَهُ كَانَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ مَعَ سَدَادِ حَالِهِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ لَهُ عَزْلُ الْقَاضِي مَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى الشَّرَائِطِ لِأَنَّهُ بِالْوِلَايَةِ يَصِيرُ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبِيلِ الْمَصْلَحَةِ لَا عَنِ الْإِمَامِ، وَيُفَارِقُ الْمُوَكِّلَ، فَإِنَّ لَهُ عَزْلَ وَكِيلِهِ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ خَاصَّةً.

وَهَلْ يَنْعَزِلُ الْقَاضِي إِذَا كَثُرَتِ الشَّكْوَى عَلَيْهِ؟

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:

الْأَوَّلُ: وُجُوبُ عَزْلِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْقَضَاءِ، وَهُوَ مَا قَالَ بِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ.

الثَّانِي: جَوَازُ عَزْلِهِ، فَإِذَا حَصَلَ ظَنٌّ غَالِبٌ لِلْإِمَامِ بِصِحَّةِ الشَّكَاوَى جَازَ لَهُ عَزْلُهُ وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَزَلَ إِمَامًا يُصَلِّي بِقَوْمٍ بَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ وَقَالَ: لَا يُصَلِّي لَكُمْ».

وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ هُوَ أَنَّهُ إِذَا جَازَ عَزْلُ إِمَامِ الصَّلَاةِ لِخَلَلٍ جَازَ عَزْلُ الْقَاضِي مِنْ بَابٍ أَوْلَى.

الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ، إِنِ اشْتَهَرَ بِالْعَدَالَةِ، قَالَ مُطَرِّفٌ: لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ عَزْلُهُ وَإِنْ وَجَدَ عِوَضًا مِنْهُ فَإِنَّ فِي عَزْلِهِ إِفْسَادًا لِلنَّاسِ عَلَى قُضَاتِهِمْ، وَقَالَ أَصْبَغُ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَعْزِلَهُ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا إِذَا وَجَدَ مِنْهُ بَدَلًا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِصْلَاحًا لِلنَّاسِ، يَعْنِي لِمَا ظَهَرَ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْقُضَاةِ وَقَهْرِهِمْ فَفِي ذَلِكَ كَفٌّ لَهُمْ.

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ فَلْيَعْزِلْهُ إِذَا وَجَدَ بَدَلًا مِنْهُ وَتَضَافَرَ عَلَيْهِ الشَّكِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَدَلًا مِنْهُ كَشَفَ عَنْ حَالِهِ وَصِحَّةِ الشَّكَاوَى عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ رِجَالٍ ثِقَاتٍ يَسْتَفْسِرُونَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ فَإِنْ صَدَّقُوا ذَلِكَ عَزْلَهُ، وَإِنْ قَالَ أَهْلُ بَلَدِهِ: مَا نَعْلَمُ مِنْهُ إِلاَّ خَيْرًا، أَبْقَاهُ وَنَظَرَ فِي أَحْكَامِهِ الصَّادِرَةِ فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ أَمْضَاهُ، وَمَا خَالَفَ رَدَّهُ وَأَوَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ خَطَأً لَا جَوْرًا.

إِنْكَارُ كَوْنِهِ قَاضِيًا:

64- وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنَ الْقَاضِي نَفْسِهِ أَوْ مِنَ الْإِمَامِ.

فَإِنْ وَقَعَ مِنَ الْقَاضِي وَلَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَهُ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ أَوْ لِحِكْمَةٍ فِي إِخْفَاءِ شَخْصِيَّتِهِ فَقَدْ نَقَلَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ وَقَعَ الْإِنْكَارُ مِنَ الْإِمَامِ لَمْ يَنْعَزِلْ.

طُرُوءُ مَا يُوجِبُ الْعَزْلَ:

65- إِذَا طَرَأَ عَلَى الْقَاضِي مِنَ الْأَحْوَالِ مَا يَفْقِدُهُ صِفَةً مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَوْ كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ تَعْيِينِهِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ- كَالْجُنُونِ وَالْخَرَسِ وَالْفِسْقِ- فَهَلْ تَبْطُلُ وِلَايَتُهُ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ عَزْلِ الْإِمَامِ لَهُ؟.

لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ، قَوْلٌ: يَنْعَزِلُ بِمُجَرَّدِ طُرُوءِ مَا يُوجِبُ الْعَزْلَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَقَوْلٌ آخَرُ: لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَعْزِلَهُ الْإِمَامُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا يَمْنَعُ التَّوْلِيَةَ ابْتِدَاءً كَالْجُنُونِ وَالْفِسْقِ يَمْنَعُهَا دَوَامًا.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْأَعْمَى الَّذِي عَادَ بَصَرُهُ وَقَالُوا: لَا يَنْعَزِلُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِعَوْدَةِ بَصَرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَزِلْ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْأَعْمَى فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَى قَوْلَيْنِ، الْأَصَحُّ مِنْهُمَا لَمْ تَعُدْ وِلَايَتُهُ بِلَا تَوْلِيَةٍ كَالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَنْقَلِبْ إِلَى الصِّحَّةِ بِنَفْسِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَعُودُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ تَوْلِيَةٍ.

وَقَطَعَ السَّرَخْسِيُّ بِعَوْدِهَا فِي صُورَةِ الْإِغْمَاءِ.

نَفَاذُ الْعَزْلِ:

66- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا عَزَلَ الْقَاضِيَ فَأَحْكَامُهُ نَافِذَةٌ، وَقَضَايَاهُ مَاضِيَةٌ حَتَّى يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ، فَعِلْمُهُ بِذَلِكَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ عَزْلِهِ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ عَزْلِهِ- وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ قَضَايَا النَّاسِ وَأَحْكَامِهِ بِهِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ مِنْ وُجُوبِ نَفَاذِ أَحْكَامِهِ حَتَّى يَصِلَهُ عِلْمُ الْعَزْلِ، وَلِعِظَمِ الضَّرَرِ فِي نَقْضِ أَقْضِيَتِهِ.

عَزْلُ الْقَاضِي نَفْسَهُ:

67- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْعَزِلُ إِذَا عَزَلَ نَفْسَهُ عَنِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ، وَقَيَّدَ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي لَمْ يُلْزَمْ بِقَبُولِ الْقَضَاءِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا عَزَلَ نَفْسَهُ اخْتِيَارًا لَا عَجْزًا وَلَا لِعُذْرٍ فَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْبَعْضِ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ فِي عَزْلِهِ نَفْسَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا إِذَا كَانَ قَدْ تَعَلَّقَ لِأَحَدٍ حَقٌّ بِقَضَائِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ انْعِزَالُهُ ضَرَرًا لِمَنِ الْتَزَمَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَعْتَزِلُ الْقَاضِي الْقَضَاءَ إِلاَّ لِعُذْرٍ وَلَوْ عَزَلَ الْقَاضِي نَفْسَهُ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْ عَزِلْ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ هَلْ يَنْ عَزِلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا نَعَمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ كَالْوَكِيلِ، وَنَقَلَ عَنِ الْإِقْنَاعِ لِلْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّهُ إِذَا عَزَلَ نَفْسَهُ لَا يَنْعَزِلُ إِلاَّ بِعِلْمِ مَنْ قَلَّدَهُ.

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَوْتِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَاعْتِزَالِهِ:

68- تَتَرَتَّبُ عَلَى مَوْتِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَاعْتِزَالِهِ الْأُمُورُ التَّالِيَةُ:

أ- انْتِهَاءُ وِلَايَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إِذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ عَزْلِهِ- أَنْ يَنْظُرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْقَضَاءِ وَكَذَلِكَ إِذَا عَزَلَ نَفْسَهُ، أَمَّا أَحْكَامُهُ الَّتِي صَدَرَتْ أَثْنَاءَ وِلَايَتِهِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ إِذَا كَانَتْ مُوَثَّقَةً فِي سِجِلٍّ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ.

ب- انْعِزَالُ كُلِّ مَأْذُونٍ لَهُ فِي شُغْلٍ مُعَيَّنٍ كَبَيْعٍ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ وَسَمَاعِ شَهَادَةٍ فِي حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ.

وَأَمَّا مَنِ اسْتَخْلَفَهُ فِي الْقَضَاءِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: يَنْعَزِلُ كَالْوَكِيلِ، وَالثَّانِي: لَا، لِلْحَاجَةِ، وَأَصَحُّهَا: يَنْعَزِلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مَأْذُونًا لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ، لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي هَذَا لِحَاجَتِهِ، وَقَدْ زَالَتْ بِزَوَالِ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ لَمْ يَنْعَزِلْ.

ج- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْقُوَّامَ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْأَوْقَافِ لَا يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الْقَاضِي وَانْعِزَالِهِ لِئَلاَّ تَتَعَطَّلَ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ الَّذِي جَعَلَهُمْ كَالْخُلَفَاءِ.

د- فِي حَالَةِ عَزْلِهِ أَوِ اسْتِقَالَتِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إِنَّنِي كُنْتُ قَدْ حَكَمْتُ لِفُلَانٍ بِكَذَا، إِلاَّ إِذَا قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ إِلاَّ مَعَ آخَرَ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ قَبُولَ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَخْبَرَ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فَيَجِبُ قَبُولُهُ كَحَالِ وِلَايَتِهِ.

هـ- أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي الَّذِي عُزِلَ أَوِ اعْتَزَلَ بِتَسْلِيمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ سِجِلاَّتٍ وَمَحَاضِرَ وَصُكُوكٍ وَوَدَائِعَ وَأَمْوَالٍ لِلْأَيْتَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي يَدِهِ بِحُكْمِ عَمَلِهِ، فَلَزِمَ تَسْلِيمُهَا لِلْقَاضِي الْمُعَيَّنِ بَدَلًا عَنْهُ.

ثَانِيًا: الْمَقْضِيُّ بِهِ:

69- يَتَعَيَّنُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَضَى بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قَاسَهُ عَلَى مَا يُشْبِهُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَاجْتَهَدَ رَأْيَهُ وَتَحَرَّى الصَّوَابَ ثُمَّ قَضَى بِرَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذَ بِفَتْوَى الْمُفْتِي وَلَا يَقْضِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَا يَسْتَحْيِيَ مِنَ السُّؤَالِ لِئَلاَّ يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ).

وَأَمَّا مَا يَقَعُ الْقَضَاءُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ كَالْبَيِّنَةِ وَعِلْمِ الْقَاضِي وَالْإِقْرَارِ وَالْيَمِينِ فَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَمُصْطَلَحِ (إِثْبَات ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

ثَالِثًا: الْمَقْضِيُّ لَهُ:

70- لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ وَلَوْ رَضِيَ خَصْمُهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ حَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ كَالْإِقْرَارِ مِنْهُ بِمَا ادَّعَى خَصْمُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْكُمُ لِشَرِيكِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِلْإِمَامِ الَّذِي قَلَّدَهُ، أَوْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَلَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- شُرَيْحًا وَخَاصَمَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ نَائِبًا عَنِ الْإِمَامِ.

وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْقَضَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا يَصِحُّ شَاهِدًا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، فَلَا يَصِحُّ قَاضِيًا لَهُ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِمْ لَجَازَ فَكَذَا الْقَضَاءُ، وَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِوَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا وَلَا لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَخَالَفَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فَقَالُوا: يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ حَكَمَ لِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْأَجَانِبَ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ لِعَدُوِّهِ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَا الْمَاوَرْدِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ جَوَّزَهُ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وَصِيَّ الْيَتِيمِ إِذَا وُلِّيَ الْقَضَاءَ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي لَهُ كَوَلَدِهِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَقْضِي لَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ قَاضٍ وَلِيُّ الْأَيْتَامِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْأَصْحَابِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِامْرَأَتِهِ وَأُمِّهَا وَإِنْ كَانَتَا قَدْ مَاتَتَا إِذَا كَانَتِ امْرَأَتُهُ تَرِثُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَا لِأَجِيرِهِ الْخَاصِّ وَمَنْ يَتَعَيَّشُ بِنَفَقَتِهِ.

وَفِي قَضَاءِ الْقَاضِي لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمَنْعُ لِمُحَمَّدٍ وَمُطَرِّفٍ، وَالْجَوَازُ لِأَصْبَغَ، فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْجَوَازِ الزَّوْجَةَ وَوَلَدَهُ الصَّغِيرَ وَيَتِيمَهُ الَّذِي يَلِي مَالَهُ، وَعِنْدَ ابْنِ يُونُسَ لَا يَحْكُمُ لِعَمِّهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُبَرَّزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَالرَّابِعُ التَّفْرِقَةُ، فَإِنْ قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ حَضَرَ الشُّهُودُ وَكَانَتِ الشَّهَادَةُ ظَاهِرَةً جَازَ إِلاَّ لِزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَيَتِيمِهِ، وَعِنْدَ ابْنِ يُونُسَ كَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ.

رَابِعًا: الْمَقْضِيُّ فِيهِ:

71- وَهُوَ جَمِيعُ الْحُقُوقِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضُ كَحَدِّ الزِّنَى أَوِ الْخَمْرِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمَا فِيهِ الْحَقَّانِ وَغَلَبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الْقَذْفِ أَوِ السَّرِقَةِ، أَوْ غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ، فَيَكُونُ لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي تِلْكَ الْحُقُوقِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إِلاَّ فِي قَبْضِ الْخَرَاجِ، وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ سَهْلٍ: يَخْتَصُّ الْقَاضِي بِوُجُوهٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْحُكَّامِ وَهِيَ النَّظَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَحْبَاسِ وَالتَّرْشِيدِ وَالتَّحْجِيرِ وَالتَّسْفِيهِ وَالْقَسْمِ وَالْمَوَارِيثِ وَالنَّظَرُ لِلْأَيْتَامِ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْوَالِ الْغَائِبِ وَالنَّظَرُ فِي الْأَنْسَابِ وَالْجِرَاحَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَالْإِثْبَاتِ وَالتَّسْجِيلِ وَلَا يُخِلُّ ذَلِكَ بِأَنَّ لِلْإِمَامِ حَقَّ تَقْيِيدِ الْقَاضِي زَمَانًا أَوْ مَكَانًا أَوْ مَوْضُوعًا كَمَا سَبَقَ فِي (سُلْطَةُ الْقَاضِي وَاخْتِصَاصُهُ ف 26).

خَامِسًا: الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ:

72- الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ هُوَ كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِحُكْمِ الْقَاضِي، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَاضِرَ فِي الْبَلَدِ أَوِ الْقَرِيبَ مِنْهُ إِذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْحُضُورِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ فِي غِيَابِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ سُؤَالُهُ فَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ قَبْلَ سُؤَالِهِ كَحَاضِرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (دَعْوَى ف 59- 61).

وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِهِ بِشُرُوطٍ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِلْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:

أ- الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ:

73- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ وَلَا لَهُ إِلاَّ بِحُضُورِ نَائِبِهِ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ- أَيْ بِالْبَيِّنَةِ- سَوَاءٌ أَكَانَ غَائِبًا وَقْتَ الشَّهَادَةِ أَمْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ التَّزْكِيَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ أَمْ عَنِ الْبَلَدِ.

أَمَّا إِذَا أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَيُقْضَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْبَيِّنَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِقْرَارِ قَضَاءُ إِعَانَةٍ، وَاذَا أَنْفَذَ الْقَاضِي إِقْرَارَهُ سَلَّمَ إِلَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ، عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا أَوْ عَقَارًا، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الدَّيْنِ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ جِنْسَ حَقِّهِ إِذَا وُجِدَ فِي يَدِ مَنْ يَكُونُ مُقِرًّا بِأَنَّهُ مَالُ الْغَائِبِ الْمُقِرِّ، وَلَا يَبِيعُ فِي ذَلِكَ الْعَرْضَ وَالْعَقَارَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ فَلَا يَجُوزُ.

وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْخَصْمَيْنِ حِينَ الْحُكْمِ..وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَى وَاحِدٌ عَلَى الْآخَرِ شَيْئًا فَأَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ غَابَ عَنِ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْحُكْمِ كَانَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِي غِيَابِهِ بِنَاءً عَلَى إِقْرَارِهِ.

وَاسْتَثْنَوْا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ مَا إِذَا كَانَ نَائِبُهُ حَاضِرًا فَيَقُومُ مَقَامَ الْغَائِبِ، وَالنَّائِبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً كَوَكِيلِهِ وَوَصِيِّهِ وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ فَيَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنِ الْبَاقِينَ وَكَذَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَصْكَفِيُّ.

وَكَمَا يَصِحُّ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ فِي حُضُورِ نَائِبِهِ حَقِيقَةً يَصِحُّ فِي حُضُورِ نَائِبِهِ شَرْعًا كَوَصِيٍّ نَصَبَهُ الْقَاضِي، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ، كَمَا إِذَا بَرْهَنَ عَلَى ذِي الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَى ذِي الْيَدِ الْحَاضِرِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ أَيْضًا.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي أُقِيمَتْ فِي مُوَاجَهَةِ وَكِيلِهِ إِذَا حَضَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ الْبَعِيدِ جِدًّا بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَذَلِكَ بِيَمِينِ الْقَضَاءِ مِنَ الْمُدَّعِي، أَمَّا قَرِيبُ الْغَيْبَةِ فَكَالْحَاضِرِ عِنْدَهُمْ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَقَرِيبُ الْغَيْبَةِ كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ مَعَ الْأَمْنِ حُكْمُهُ كَالْحَاضِرِ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْبَيِّنَةِ، وَالْغَائِبُ الْبَعِيدُ جِدًّا يُقْضَى عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَتَزْكِيَتِهَا بِيَمِينِ الْقَضَاءِ مِنَ الْمُدَّعِي، أَنَّ حَقَّهُ هَذَا ثَابِتٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ، وَلَا وَكَّلَ الْغَائِبُ مَنْ يَقْضِيهِ عَنْهُ، وَلَا أَحَالَهُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ فِي الْكُلِّ وَلَا الْبَعْضِ.

وَالْعَشَرَةُ الْأَيَّامُ مَعَ الْأَمْنِ وَالْيَوْمَانِ مَعَ الْخَوْفِ كَذَلِكَ، أَيْ يُقْضَى عَلَيْهِ فِيهَا مَعَ يَمِينِ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِ اسْتِحْقَاقِ الْعَقَارِ، وَأَمَّا فِي دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ الْعَقَارِ فَلَا يُقْضَى بِهِ بَلْ تُؤَخَّرُ الدَّعْوَى حَتَّى يَقْدَمَ لِقُوَّةِ الْمُشَاحَّةِ فِي الْعَقَارِ، وَيَمِينُ الْقَضَاءِ وَاجِبَةٌ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ لَا يَتِمُّ الْحُكْمُ إِلاَّ بِهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ جَائِزٌ إِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَادَّعَى جُحُودَهُ، فَإِنْ قَالَ: هُوَ- أَيِ الْغَائِبُ- مُقِرٌّ، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تُسْمَعُ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْلَمُ جُحُودَهُ فِي غَيْبَتِهِ وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ حَقِّهِ فَتُجْعَلُ غَيْبَتُهُ كَسُكُوتِهِ، وَالثَّانِي لَا تُسْمَعُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْجُحُودِ.

وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُحَلِّفَهُ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ: أَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ، وَلَوِ ادَّعَى وَكِيلٌ عَلَى غَائِبٍ فَلَا تَحْلِيفَ عَلَى الْوَكِيلِ بَلْ يَحْكُمُ بِالْبَيِّنَةِ وَيُعْطِي الْمَالَ الْمُدَّعَى بِهِ إِنْ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُنَاكَ مَالٌ.

ثُمَّ قَالُوا: الْغَائِبُ الَّذِي تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ بِمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَرْجِعُ مِنْهَا مُبَكِّرًا إِلَى مَوْضِعِهِ لَيْلًا، وَقِيلَ: مَسَافَةُ قَصْرٍ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ بِمَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ فَكَحَاضِرٍ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُضُورِهِ إِلاَّ لِتَوَارِيهِ أَوْ تَعَزُّزِهِ، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ إِحْضَارِهِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُضُورِهِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مَنِ ادَّعَى حَقًّا عَلَى غَائِبٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَطَلَبَ مِنَ الْحَاكِمِ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ، فَعَلَى الْحَاكِمِ إِجَابَتُهُ إِذَا كَمُلَتِ الشَّرَائِطُ وَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لِحَدِيثِ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، فَقَالَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» فَقَضَى لَهَا وَلَمْ يَكُنْ أَبُو سُفْيَانَ حَاضِرًا.

وَقَالُوا: إِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ قَبْلَ الْحُكْمِ وُقِفَ الْحُكْمُ عَلَى حُضُورِهِ، فَإِنْ خَرَجَ الشُّهُودُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُدَّعِيَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ بَيِّنَتِهِ الثَّابِتَةِ أَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ، وَالِاحْتِيَاطُ تَحْلِيفُهُ، وَإِذَا قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِعَيْنٍ سُلِّمَتْ إِلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ وَوُجِدَ لَهُ مَالٌ وَفَّى مِنْهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يُقِيمَ كَفِيلًا أَنَّهُ مَتَى حَضَرَ خَصْمُهُ وَأَبْطَلَ دَعْوَاهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَخَذَهُ

ب- الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ:

74- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ.

وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِأَنَّهُمَا لَا يَثْبُتَانِ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الشَّهَادَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْإِقْرَارِ خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، حَتَّى إِنَّ الطَّرَفَيْنِ- أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا- اشْتَرَطَا حُضُورَ الشُّهُودِ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْحُدُودِ وَالْبِدَايَةِ مِنْهُمْ أَيْضًا كَحَدِّ الرَّجْمِ احْتِيَاطًا فِي دَرْءِ الْحَدِّ، فَإِذَا غَابَ الشُّهُودُ أَوْ غَابَ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْحَدُّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ وَلِأَنَّ الشُّهُودَ إِذَا بَدَءُوا بِالرَّجْمِ رُبَّمَا اسْتَعْظَمُوا فِعْلَهُ فَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.

وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمُ الْقَضَاءَ عَلَى غَائِبٍ فِي قِصَاصٍ وَحَدِّ قَذْفٍ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ الْمَالَ، وَمَنَعُوهُ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ تَعْزِيرٍ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالدَّرْءِ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ حَقِّ الْآدَمِيِّ.

الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْعَى فِي دَفْعِهِ وَلَا يُوَسَّعُ بَابُهُ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا كَالْأَمْوَالِ وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلآِدَمِيٍّ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَكِنْ يُقْضَى فِي السَّرِقَةِ بِالْمَالِ فَقَطْ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ.

سَادِسًا: الْحُكْمُ:

75- الْحُكْمُ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْحَاكِمِ الْمُخَاصَمَةَ وَحَسْمِهِ إِيَّاهَا.وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَصْلُ الْخُصُومَةِ وَفِي تَعْرِيفٍ آخَرَ: الْإِعْلَامُ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: إِنْشَاءٌ لِلْإِلْزَامِ الشَّرْعِيِّ وَفَصْلُ الْخُصُومَاتِ.

اشْتِرَاطُ سَبْقِ الدَّعْوَى لِلْحُكْمِ:

76- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْحُكْمِ أَنْ تَتَقَدَّمَهُ دَعْوَى صَحِيحَةٌ خَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ النَّاسِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْحُكْمَ الْقَوْلِيَّ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّعْوَى، وَالْحُكْمَ الْفِعْلِيَّ لَا يَحْتَاجُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْفِعْلِيَّ لَا يَكُونُ حُكْمًا، بِدَلِيلِ ثُبُوتِ خِيَارِ الْبُلُوغِ لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ بِتَزْوِيجِ الْقَاضِي عَلَى الْأَصَحِّ.

وَلَا تُشْتَرَطُ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةُ فِي الْقَضَاءِ الضِّمْنِيِّ، فَإِذَا شَهِدَا عَلَى خَصْمٍ بِحَقٍّ وَذَكَرَا اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَقَضَى بِذَلِكَ الْحَقِّ كَانَ قَضَاءً بِنَسَبِهِ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَادِثَةِ النَّسَبِ.

سِيرَةُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ:

77- يَلْزَمُ الْقَاضِيَ أَنْ لَا يَحْكُمَ فِي الْقَضِيَّةِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ شَكٌّ فِي فَهْمِهِ لِمَوْضُوعِهَا، فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ تَرَكَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ بِصُلْحٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ فَلَا يَعْدِلُ إِلَى الصُّلْحِ وَيَقْضِي بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِهِ، فَإِنْ خَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ أَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ، أَقَامَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: رُدُّوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُوَرِّثُ الضَّغَائِنَ.

اسْتِشَارَةُ الْفُقَهَاءِ:

78- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ وُجُوهُ النَّظَرِ وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي حُكْمٍ، يُنْدَبُ لِلْقَاضِي أَنْ يُشَاوِرَ الْفُقَهَاءَ لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُسْتَغْنِيًا عَنْهَا، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ تَصِيرَ سُنَّةً لِلْحُكَّامِ، وَرُوِيَ «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- » وَقَدْ شَاوَرَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- النَّاسَ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، وَشَاوَرَ عُمَرُ- رضي الله عنه- فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، وَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- فِي حَدِّ الْخَمْرِ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَانَ يَكُونُ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ- رضي الله عنهم-، إِذَا نَزَلَ بِهِ الْأَمْرُ شَاوَرَهُمْ فِيهِ، وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ لَا مُخَالِفَ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَعْلُومًا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ لَمْ يَحْتَجِ الْقَاضِي إِلَى رَأْيِ غَيْرِهِ.

قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا أَشْكَلَ الْحُكْمُ فَالْمُشَاوَرَةُ وَاجِبَةٌ وَإِلاَّ فَمُسْتَحَبَّةٌ.

وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَهُمْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَذْهَبُ بِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ وَالنَّاسُ يَتَّهِمُونَهُ بِالْجَهْلِ، وَلَكِنْ يُقِيمُ النَّاسَ عَنِ الْمَجْلِسِ ثُمَّ يُشَاوِرُهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِإِجْلَاسِهِمْ عِنْدَهُ وَيُعْجِزُهُ الْكَلَامُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَلَا يُجْلِسُهُمْ، بَلْ يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ.

وَالْأَمْرُ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيهِ هُوَ النَّوَازِلُ الْحَادِثَةُ الَّتِي لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا قَوْلٌ لِمَتْبُوعٍ، أَوْ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، لِيَتَنَبَّهَ بِمُذَاكَرَتِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ، حَتَّى يَسْتَوْضِحَ بِهِمْ طَرِيقَ الِاجْتِهَادِ، فَيَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ دُونَ اجْتِهَادِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُشَاوِرْ وَحَكَمَ نَفَذَ حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ.

وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُشَاوِرُهُ الْقَاضِي: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَأَقَاوِيلِ النَّاسِ وَالْقِيَاسِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ.

وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ صَحَّ أَنْ يُفْتِيَ فِي الشَّرْعِ جَازَ أَنْ يُشَاوِرَهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ، فَتُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُفْتِي وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْقَاضِي.

وَلِمَعْرِفَةِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمُفْتِي يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (فَتْوَى ف 11- 20).

صِيغَةُ الْحُكْمِ:

79- لَا يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَلْفَاظًا مَخْصُوصَةً وَصِيَغًا مُعَيَّنَةً لِلْحُكْمِ بَلْ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى الْإِلْزَامِ فَهُوَ حُكْمٌ، كَقَوْلِهِ: مَلَّكْتُ الْمُدَّعِيَ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ، أَوْ فَسَخْتُ هَذَا الْعَقْدَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ أَوْ رَدَدْتُهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ بَعْدَ حُصُولِ مَا يَجِبُ فِي شَأْنِ الْحُكْمِ مِنْ تَقَدُّمِ دَعْوَى صَحِيحَةٍ.

وَذَهَبَ شَمْسُ الْإِسْلَامِ مَحْمُودٌ الْأُوزْجَنْدِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي: قَضَيْتُ أَوْ حَكَمْتُ أَوْ أَنْفَذْتُ عَلَيْكَ الْقَضَاءَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ مَا يَقُولُ بِهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي: حَكَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ، لَيْسَ بِشَرْطٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ: حَكَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ بِكَذَا، أَوْ أَنْفَذْتُ الْحُكْمَ بِهِ، أَوْ أَلْزَمْتُ الْخَصْمَ بِهِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا قَالَ الْقَاضِي:

ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ لِهَذَا عَلَى هَذَا كَذَا وَكَذَا، هَلْ يَكُونُ حُكْمًا؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعَدُّ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِلْزَامٍ، وَالْحُكْمُ إِلْزَامٌ.

وَذَهَبَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَامِرِيُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَاخْتِيَارُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ- مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَفِي الْخَانِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي، يَكْفِي، وَكَذَا: ظَهَرَ عِنْدِي، أَوْ: صَحَّ عِنْدِي، أَوْ قَالَ: عَلِمْتُ، فَهَذَا كُلُّهُ حُكْمٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا سُئِلَ الْقَاضِي عَنْ حُكْمٍ فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَوْ لَا يَصِحُّ فَلَا يَكُونُ إِفْتَاؤُهُ حُكْمًا يَرْفَعُ الْخِلَافَ؛ لِأَنَّ الْإِفْتَاءَ إِخْبَارٌ بِالْحُكْمِ لَا إِلْزَامٌ، أَمَّا إِذَا حَكَمَ بِفَسْخٍ أَوْ إِمْضَاءٍ فَيَكُونُ حُكْمًا.

سِجِلُّ الْحُكْمِ:

80- إِذَا انْتَهَى الْقَاضِي مِنْ نَظَرِ الدَّعْوَى وَأَصْدَرَ حُكْمَهُ، فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ حُكْمَهُ فِي سِجِلٍّ مِنْ نُسْخَتَيْنِ يُبَيِّنُ فِيهِ مَا وَقَعَ بَيْنَ ذِي الْحَقِّ وَخَصْمِهِ، وَمُسْتَنَدَ الدَّعْوَى مِنَ الْأَدِلَّةِ وَمَا حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي فِيهَا، وَتُسَلَّمُ إِحْدَى النُّسَخِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ وَالْأُخْرَى تُحْفَظُ بِدِيوَانِ الْحُكْمِ مَخْتُومَةً مَكْتُوبًا عَلَيْهَا اسْمُ كُلٍّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، وَذَلِكَ دُونَ طَلَبٍ فَإِنْ طَلَبَ الْخَصْمُ أَنْ يُسَجَّلَ لَهُ الْحُكْمُ، فَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِجَابَتُهُ وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ السِّجِلِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سِجِلّ ف 8 وَمَا بَعْدَهَا).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


19-موسوعة الفقه الكويتية (لوث)

لَوْثٌ

التَّعْرِيفُ:

1- اللَّوْثُ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ فِي اللُّغَةِ: الْقُوَّةُ وَالشَّرُّ، وَاللَّوْثُ: الضَّعْفُ.

وَاللَّوْثُ: شِبْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى حَدَثٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ، وَلَا يَكُونُ بَيِّنَةً تَامَّةً يُقَالُ: لَمْ يَقُمْ عَلَى اتِّهَامِ فُلَانٍ بِالْجِنَايَةِ إِلاَّ لَوْثٌ.

وَاللَّوْثُ: الْجِرَاحَاتُ وَالْمُطَالَبَاتُ بِالْأَحْقَادِ، وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: أَمْرٌ يَنْشَأُ عَنْهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِصَدْقِ الْمُدَّعِي.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

التُّهْمَةُ:

2- التُّهْمَةُ فِي اللُّغَةِ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا: الشَّكُّ وَالرِّيبَةُ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مِنَ الْوَهْمِ.

وَالتُّهْمَةُ هِيَ الْخَصْلَةُ مِنَ الْمَكْرُوهِ تُظَنُّ بِالْإِنْسَانِ أَوْ تُقَالُ فِيهِ، يُقَالُ: وَقَعَتْ عَلَى فُلَانٍ تُهْمَةٌ: إِذَا ذُكِرَ بِخَصْلَةٍ مَكْرُوهَةٍ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ اللَّوْثَ مِنْ شُرُوطِ الْقَسَامَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ- رضي الله عنه- فِي قِصَّةِ قَتْلِ يَهُودِ خَيْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ- رضي الله عنه-، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ (يُرِيدُ السِّنَّ) فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ».

4- وَلَكِنَّ اللَّوْثَ لَهُ صُوَرٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِهَا:

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: اللَّوْثُ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صَدْقَ الْمُدَّعِي وَلَهُ طُرُقٌ مِنْهَا.

الْأَوَّلُ: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ أَوْ بَعْضُهُ الَّذِي يُحَقِّقُ مَوْتَهُ كَرَأْسِهِ فِي قَبِيلَةٍ أَوْ فِي حِصْنٍ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ، أَوْ فِي مَحَلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنِ الْبَلَدِ الْكَبِيرِ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ أَوْ قَبِيلَةِ الْقَتِيلِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ تَبْعَثُ عَلَى الِانْتِقَامِ بِالْقَتْلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعْرَفَ لَهُ قَاتِلٌ وَلَا بَيِّنَةٌ بِقَتْلِهِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَقِيلَ: وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْقَرْيَةُ بِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ يَطْرُقُهَا التُّجَّارُ وَالْمُجْتَازُونَ وَغَيْرُهُمْ فَلَا لَوْثَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْغَيْرَ قَتَلَهُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ لَا تُعْلَمُ صَدَاقَتُهُ لِلْقَتِيلِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَتِيلِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَكِنِ الْمُصَنِّفُ- أَيِ النَّوَوِيُّ- فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ حَكَى الْأَوَّلَ- أَيِ اشْتِرَاطَ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ- عَنِ الشَّافِعِيِّ وَصَوَّبَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ.

الثَّانِي: أَنْ تَتَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ فِي دَارٍ دَخَلَهَا عَلَيْهِمْ ضَيْفًا أَوْ دَخَلَ مَعَهُمْ لِحَاجَةٍ أَوْ فِي مَسْجِدٍ أَوْ بُسْتَانٍ أَوْ طَرِيقٍ أَوْ صَحْرَاءَ، وَكَذَا لَوِ ازْدَحَمَ قَوْمٌ عَلَى بِئْرٍ، أَوْ بَابِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي مَضِيقٍ ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَنْ قَتِيلٍ، لِقُوَّةِ الظَّنِّ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ بِحَيْثُ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتِيلِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَابَلَ صَفَّانِ لِقِتَالٍ فَيَقْتَتِلَا فَيَنْكَشِفُوا عَنْ قَتِيلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا طَرِيٍّ- كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ- فَإِنِ الْتَحَمَ قِتَالٌ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ أَوْ وَصَلَ سِلَاحُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ رَمْيًا أَوْ طَعْنًا أَوْ ضَرْبًا، وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَى الْآخَرِ، فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الصَّفِّ الْآخَرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ أَهْلَ صَفِّهِ لَا يَقْتُلُونَهُ سَوَاءٌ أَوُجِدَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ أَمْ فِي صَفِّ نَفْسِهِ، أَمْ فِي صَفِّ خَصْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَحِمْ قِتَالٌ بَيْنَهُمَا وَلَا وَصَلَ سِلَاحُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ أَهْلِ صَفِّهِ أَيِ الْقَتِيلِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ.

الرَّابِعُ: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ فِي صَحْرَاءَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مَعَهُ سِلَاحٌ مُتَلَطِّخٌ بِدَمٍ أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَثَرُ دَمٍ، مَا لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ تُعَارِضُهُ كَأَنْ وُجِدَ بِقُرْبِ الْقَتِيلِ سَبُعٌ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ مُوَلٍّ ظَهْرَهُ أَوْ وُجِدَ أَثَرُ قَدَمٍ أَوْ تَرْشِيشُ دَمٍ فِي غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا صَاحِبُ السِّلَاحِ فَلَيْسَ بِلَوْثٍ فِي حَقِّهِ، أَيْ صَاحِبِ السِّلَاحِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَوْ رَأَيْنَا مِنْ بُعْدٍ رَجُلًا يُحَرِّكُ يَدَهُ كَمَا يَفْعَلُ مِنْ يَضْرِبُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ ثُمَّ وَجَدْنَا فِي الْمَوْضِعِ قَتِيلًا فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ ذَلِكَ الرَّجُلِ.

الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ عَدْلٌ بِأَنَّ زَيْدًا قَتَلَ فُلَانًا فَهُوَ لَوْثٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الدَّعْوَى أَوْ تَأَخَّرَتْ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِصَدْقِهِ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: إِنَّمَا تَكُونُ شَهَادَةُ الْعَدْلِ لَوْثًا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ فَإِنْ كَانَ فِي خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ لَمْ يَكُنْ لَوْثًا، بَلْ يَحْلِفُ مَعَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا لَا يُوجِبُ قِصَاصًا كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيِّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ قَتْلِ الْخَطَأِ فِي أَصْلِ الْمَالِ لَا فِي صِفَتِهِ وَلَوْ شَهِدَ جَمَاعَةٌ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ كَنِسَاءٍ فَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فَلَوْثٌ وَكَذَا لَوْ جَاءُوا دَفْعَةً عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِي وَجْهٍ لَيْسَ بِلَوْثٍ وَفِي التَّهْذِيبِ: أَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ كَشَهَادَةِ الْجَمْعِ.

وَفِي الْوَجِيزِ: أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْثٌ.

وَأَمَّا فِيمَنْ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ كَصِبْيَانٍ أَوْ فَسَقَةٍ أَوْ ذِمِّيِّينَ فَأَوْجُهٌ أَصَحُّهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ لَوْثٌ.

وَالثَّانِي: لَيْسَ بِلَوْثٍ، وَالثَّالِثُ: لَوْثٌ مِنْ غَيْرِ الْكُفَّارِ.

وَلَوْ قَالَ الْمَجْرُوحُ: جَرَحَنِي فُلَانٌ أَوْ قَتَلَنِي أَوْ دَمِيَ عِنْدَهُ فَلَيْسَ بِلُوثٍ، لِأَنَّهُ مُدَّعٍ.

السَّادِسُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوْ وَقَعَ فِي أَلْسِنَةِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَلَهَجِهِمْ: أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَحَلَّةٍ وَبِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ وَلَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ اسْتَحْلَفَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ يَتَخَيَّرُهُمُ الْوَلِيُّ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: بِاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا وَلَا يَشْتَرِطُونَ لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لِمُدَّعِي الْقَتْلِ مِنْ عَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلٍ أَوْ جَمَاعَةٍ غَيْرِ عُدُولٍ أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ قَتَلُوهُ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ سَبَبَ الْقَسَامَةِ هُوَ قَتْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ بِلَوْثٍ، وَذَكَرُوا خَمْسَةَ أَمْثِلَةٍ لِلَّوْثِ: -

أَوَّلُهَا: أَنْ يَقُولَ الْبَالِغُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الذَّكَرُ أَوِ الْأُنْثَى: قَتَلَنِي فُلَانٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ مَسْخُوطًا وَادَّعَى عَلَى عَدْلٍ وَلَوْ أَعْدَلَ وَأَوْرَعَ أَهْلِ زَمَانِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ.

أَوْ تَدَّعِي زَوْجَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَتَلَهَا أَوْ وَلَدٌ يَدَّعِي أَنَّ أَبَاهُ ذَبَحَهُ أَوْ شَقَّ جَوْفَهُ فَيَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْعَمْدِ وَيَسْتَحِقُّونَ الْقِصَاصَ، وَفِي الْخَطَأِ يَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ وَيَكُونُ لَوْثًا بِشَرْطِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِذَلِكَ عَدْلَانِ فَأَكْثَرَ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْمَقْتُولُ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَكَانَ بِهِ جُرْحٌ أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ أَوْ سُمٍّ.

ثَانِيهَا: شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ عَلَى مُعَايَنَةِ الضَّرْبِ أَوِ الْجُرْحِ أَوْ أَثَرِ الضَّرْبِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً فَيَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ وَيَسْتَحِقُّونَ الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ.

ثَالِثُهَا: شَهَادَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ عَلَى مُعَايَنَةِ الْجُرْحِ أَوِ الضَّرْبِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً، وَحَلَفَ الْوُلَاةُ مَعَ الشَّاهِدِ الْمَذْكُورِ يَمِينًا وَاحِدَةً لَقَدْ ضَرَبَهُ وَهَذِهِ الْيَمِينُ مُكَمِّلَةٌ لِلنِّصَابِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَوْثًا وَتُقْسِمُ الْوُلَاةُ مَعَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ الْقَوَدَ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ إِنْ ثَبَتَ الْمَوْتُ فِي جَمِيعِ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ.

رَابِعُهَا: شَهَادَةُ عَدْلٍ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارِ الْمَقْتُولِ فَإِنَّهَا تَكُونُ لَوْثًا وَشَهَادَةُ غَيْرِ الْعَدْلِ لَا تَكُونُ لَوْثًا، وَالْمَرْأَتَانِ كَالْعَدْلِ فِي هَذَا وَفِي سَائِرِ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ فِيهِ لَوْثًا.

خَامِسُهَا: إِنَّ الْعَدْلَ إِذَا رَأَى الْمَقْتُولَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ وَالشَّخْصُ الْمُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ قَرِيبٌ مِنْ مَكَانِ الْمَقْتُولِ وَعَلَى الْمُتَّهَمِ آثَارُ الْقَتْلِ بِأَنْ كَانَتِ الْآلَةُ بِيَدِهِ وَهِيَ مُلَطَّخَةٌ بِالدَّمِ أَوْ خَارِجًا مِنْ مَكَانِ الْمَقْتُولِ وَلَا يُوجَدُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَشَهِدَ الْعَدْلُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا يَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ مَعَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ الْقَوَدَ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ.

وَلَيْسَ مِنَ اللَّوْثِ وُجُودُ الْمَقْتُولِ بَقَرِيَّةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ، لِأَنَّهُ لَوْ أُخِذَ بِذَلِكَ لَمْ يَشَأْ رَجُلٌ أَنْ يُلَطِّخَ قَوْمًا بِذَلِكَ إِلاَّ فَعَلَ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ قَتَلَهُ لَا يَدَعُهُ فِي مَكَانٍ يُتَّهَمُ هُوَ بِهِ.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي اللَّوْثِ الْمُشْتَرَطِ فِي الْقَسَامَةِ وَرُوِيَتْ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ.

وَالرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ- وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ- أَنَّ اللَّوْثَ هُوَ الْعَدَاوَةُ الظَّاهِرَةُ كَنَحْوِ مَا كَانَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَأَهْلِ خَيْبَرَ، وَكَمَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ الَّتِي يَطْلُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِثَأْرٍ، وَمَا بَيْنَ الشُّرَطِ وَاللُّصُوصِ، وَكُلِّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ ضَغَنٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ قَتْلُهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ اللَّوْثَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: الْعَدَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ.

الثَّانِي: أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ.

الثَّالِثُ: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ لَا يُوجَدُ بِقُرْبِهِ إِلاَّ رَجُلٌ مَعَهُ سَيْفٌ أَوْ سِكِّينٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ.

الرَّابِعُ: أَنْ يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ فَيَفْتَرِقُونَ عَنْ قَتِيلٍ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَاللَّوْثُ عَلَى الْأُخْرَى.

الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ جَمَاعَةٌ بِالْقَتْلِ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَتِهِمْ.وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ أَحْمَدَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ وَابْنُ رَزِينٍ وَتَقِيُّ الدِّينِ وَغَيْرُهُمْ.

قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَاوَةِ الظَّاهِرَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ الْقَتْلُ غَيْرُ الْعَدُوِّ، وَلَا أَنْ يَكُونَ بِالْقَتِيلِ أَثَرُ الْقَتْلِ كَدَمٍ فِي أُذُنِهِ أَوْ أَنْفِهِ، وَقَوْلُ الْقَتِيلِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ لَيْسَ بِلَوْثٍ عِنْدَهُمْ.

مُسْقِطَاتُ اللَّوْثِ

5- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَالَ الْبَالِغُ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ الذَّكَرُ أَوِ الْأُنْثَى: قَتَلَنِي فُلَانٌ ثُمَّ قَالَ بَلْ فُلَانٌ بَطَلَ الدَّمُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ هَذَا الْبَالِغُ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ: قَتَلَنِي فُلَانٌ لَا يُقْبَلُ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِيهِ جُرْجٌ أَوْ أَثَرُ الضَّرْبِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ إِذَا خَالَفُوا قَوْلَهُ، بِأَنْ قَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ عَمْدًا فَقَالُوا: بَلْ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ لَهُمْ وَبَطَلَ حَقُّهُمْ.

وَلَوِ اخْتَلَفَ الْأَوْلِيَاءُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَتَلَهُ عَمْدًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَعْلَمُ هَلْ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، أَوْ قَالُوا كُلُّهُمْ: قَتَلَهُ عَمْدًا وَنَكَلُوا عَنِ الْقَسَامَةِ فَإِنَّ الدَّمَ يَبْطُلُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَكُونُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ كَبِنْتٍ وَعَصَبَةٍ، بِأَنِ ادَّعَى الْعَصَبَةُ الْعَمْدَ وَالْبِنْتُ الْخَطَأَ فَهُوَ هَدَرٌ وَلَا قَسَامَةَ وَلَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: قَدْ يُعَارِضُ الْقَرِينَةَ مَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا لَوْثًا، وَقَدْ يُعَارِضُ اللَّوْثَ مَا يُسْقِطُ أَثَرَهُ وَيُبْطِلُ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِهِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ.

أَحَدُهَا: أَنْ يُتَعَذَّرَ إِثْبَاتُ اللَّوْثِ فَإِذَا ظَهَرَ لَوْثٌ فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُعَيِّنَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ وَيَدَّعِي عَلَيْهِ وَيُقْسِمُ، فَلَوْ قَالَ: الْقَاتِلُ أَحَدُهُمْ وَلَا أَعْرِفُهُ فَلَا قَسَامَةَ، وَلَهُ تَحْلِيفُهُمْ فَإِنْ حَلَفُوا إِلاَّ وَاحِدًا فَنُكُولُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ الْقَاتِلُ وَيَكُونُ لَوْثًا فِي حَقِّهِ، فَإِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ مُكِّنَ مِنْهُ، وَلَوْ نَكَلَ الْجَمِيعُ ثُمَّ عَيَّنَ الْوَلِيُّ أَحَدَهُمْ وَقَالَ: قَدْ بَانَ لِي أَنَّهُ الْقَاتِلُ، وَأَرَادَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ مُكِّنَ مِنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ.

الثَّانِي: قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا ظَهَرَ لَوْثٌ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ دُونَ كَوْنِهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَهَلْ يَتَمَكَّنُ الْوَلِيُّ مِنَ الْقَسَامَةِ عَلَى أَصْلِ الْقَتْلِ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا.

قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأً وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَوْثًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِفَةَ الْقَتْلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مُوجِبَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يُنْكِرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اللَّوْثَ فِي حَقِّهِ كَأَنْ يَقُولَ: لَمْ أَكُنْ مَعَ الْقَوْمِ الْمُتَفَرِّقِينَ عَنِ الْقَتِيلِ، أَوْ لَسْتُ أَنَا الَّذِي رُئِيَ مَعَهُ السِّكِّينُ الْمُتَلَطِّخُ بِالدَّمِ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ لَسْتُ أَنَا الْمَرْئِيِّ مِنْ بَعِيدٍ، فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ عَلَى الْأَمَارَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى نَفْيِهَا وَسَقَطَ اللَّوْثُ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الدَّعْوَى.

وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ غَائِبًا يَوْمَ الْقَتْلِ أَوِ ادَّعَى عَلَى جَمْعٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: كُنْتُ غَائِبًا يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنَ الْقَتْلِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى حُضُورِهِ يَوْمَئِذٍ أَوْ إِقْرَارُهُ بِالْحُضُورِ يَوْمَئِذٍ، وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِغَيْبَتِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَفِي الْوَسِيطِ تَتَسَاقَطَانِ وَفِي التَّهْذِيبِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْغَيْبَةِ، لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، هَذَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ أَقَسَمَ الْمُدَّعِي وَحَكَمَ الْقَاضِي بِمُوجَبِ الْقَسَامَةِ، ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى غَيْبَتِهِ يَوْمَ الْقَتْلِ أَوْ أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعِي نُقِضَ الْحُكْمُ وَاسْتَرَدَّ الْمَالَ كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُ.

الرَّابِعُ: تَكْذِيبُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بَعْضَهُمْ، فَإِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ ابْنَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَ زَيْدٌ أَبَانَا وَقَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ اللَّوْثُ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَقْتُلْهُ زَيْدٌ بَلْ كَانَ غَائِبًا يَوْمَ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ فُلَانٌ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الْقَتْلِ عَنْ زَيْدٍ، أَوْ قَالَ: بَرَأَ أَبِي مِنَ الْجِرَاحَةِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بَطَلَ اللَّوْثُ، فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُكَذِّبُ عَدْلًا أَمْ فَاسِقًا فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ.

الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ عَدْلٌ أَوْ عَدْلَانِ أَنَّ زَيْدًا قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْقَتِيلَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَلَا يَكُونُ هَذَا لَوْثًا، وَلَوْ شَهِدَ أَوْ شَهِدَا أَنَّ زَيْدًا قَتَلَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ ثَبَتَ اللَّوْثُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا عَيَّنَ الْوَلِيُّ أَحَدَهُمَا وَادَّعَى عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُقْسِمَ، وَقِيلَ: لَا لَوْثَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَذَّبَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بَعْضًا فَقَالَ أَحَدُهُمْ: قَتَلَهُ هَذَا وَقَالَ آخَرُ: لَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا، أَوْ بَلْ قَتَلَهُ هَذَا لَمْ تَثْبُتِ الْقَسَامَةُ، عَدْلًا كَانَ الْمُكَذِّبُ أَوْ فَاسِقًا لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، فَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَمْ يُوَافِقْهُ فِي الدَّعْوَى، مِثْلُ: إِنْ قَالَ أَحَدُهُمْ: قَتَلَهُ هَذَا، وَقَالَ الْآخَرُ: لَا نَعْلَمُ قَاتِلَهُ لَمْ تَثْبُتِ الْقَسَامَةُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ غَائِبًا فَادَّعَى الْحَاضِرُ دُونَ الْغَائِبِ، أَوِ ادَّعَيَا جَمِيعًا عَلَى وَاحِدٍ وَنَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْأَيْمَانِ لَمْ يَثْبُتِ الْقَتْلُ. وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُولِ لَا يُمْكِنُهُ مَجِيئُهُ إِلَيْهِ بَطَلَتِ الدَّعْوَى.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


20-موسوعة الفقه الكويتية (نسب 2)

نَسَبٌ -2

25- وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالثَّانِي فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ.أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ هَلْ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنَ الْمَيِّتِ؟ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ وَارِثٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ شَهَادَةً وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ.وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مَقْبُولًا فِي حَقِّ النَّسَبِ كَإِقْرَارِ الْجَمَاعَةِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ.وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَإِقْرَارُ الْوَارِثِ الْوَاحِدِ بِوَارِثٍ يَصِحُّ وَيَصْدُقُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأَخٍ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إِقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ: النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِأَنَّهُ دَعْوَى فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ شَهَادَةٌ، وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ الْوَاحِدُ مَقْبُولًا بِجِهَةٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى.

وَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأُخْتٍ أَخَذَتْ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ قَدْ صَحَّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَهَا مَعَ الْأَخِ ثُلُثُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ فَلَهَا ثُمُنُ مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِجَدَّةٍ هِيَ أُمُّ الْمَيِّتِ فَلَهَا سُدُسُ مَا فِي يَدِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُقِرَّ فِيمَا فِي يَدِهِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَا لَوْ ثَبَتَ النَّسَبُ.

وَلَوْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَيِّتِ بِابْنِ ابْنٍ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُ، لَكِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إِنَّمَا اسْتَفَادَ الْمِيرَاثَ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَوْ بَطَلَ إِقْرَارُهُ لَبَطَلَتْ وِرَاثَتُهُ، وَفِي بُطْلَانِ وِرَاثَتِهِ بُطْلَانُ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ وَالْمَالُ كُلُّهُ لَهُ مَا لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّسَبِ، لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى إِثْبَاتِ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَاخْتَلَفَا فِي وِرَاثَةِ الْمُقِرِّ، فَيَثْبُتُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَيَقِفُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ

26- وَالْمَالِكِيَّةُ يُسَمُّونَ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ بِالِاسْتِلْحَاقِ فَقَالُوا: إِنَّمَا يَسْتَلْحِقُ الْأَبُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ بِابْنٍ جَازَ إِقْرَارُهُ وَلَحِقَ بِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، أَنْكَرَ الِابْنُ أَوْ أَقَرَّ.وَإِنَّمَا يَسْتَلْحِقُ الْأَبَ مَجْهُولُ النَّسَبِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَالِكٍ: مَنِ ادَّعَى وَلَدًا لَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ فِيهِ لَحِقَ بِهِ إِنْ لَمْ يُكَذِّبْهُ الْعَقْلُ أَوِ الْحِسُّ أَوِ الْعَادَةُ أَوِ الشَّرْعُ صَغِيرًا كَانَ الْمُسْتَلْحَقُ أَوْ كَبِيرًا، حَيًّا أَوْ مَيِّتًا.وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ نَفَى وَلَدًا بِلِعَانٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَنْ مَالٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ضُرِبَ الْحَدَّ وَلَحِقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي مِيرَاثِهِ وَيُحَدُّ وَلَا يَرِثُهُ.

27- وَإِذَا اسْتَلْحَقَ مَيِّتًا وَرِثَ الْمُسْتَلْحِقُ- بِالْكَسْرِ- الْمُسْتَلْحَقَ- بِالْفَتْحِ- إِنْ وَرِثَهُ أَيِ الْمُسْتَلْحَقَ- بِالْفَتْحِ- ابْنٌ، قَالَ الْحَطَّابُ: ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ إِنَّمَا هُوَ فِي إِرْثِهِ مِنْهُ.وَأَمَّا نَسَبُهُ فَلَاحِقٌ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِثْهُ ابْنٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ.وَإِنِ اسْتَلْحَقَ شَخْصٌ شَخْصًا وَارِثًا غَيْرَ وَلَدٍ لِمُسْتَلْحِقِهِ- بِالْكَسْرِ- كَأَخٍ وَعَمٍّ وَأَبٍ وَأُمٍّ، فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ لَهُ، وَلَا يَرِثُ الْمُسْتَلْحَقُ- بِالْفَتْحِ- الْمُسْتَلْحِقَ- بِالْكَسْرِ- إِنْ وُجِدَ وَارِثٌ لِلْمُسْتَلْحِقِ- بِالْكَسْرِ-، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَارِثٌ فَفِي إِرْثِهِ خِلَافٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ لَا إِرْثَ بِإِقْرَارٍ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ الْإِرْثُ بِالْإِقْرَارِ، وَعَزَاهُ الْبَاجِيُّ لِمَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ.

وَخَصَّ الْخِلَافَ فِي إِرْثِ الْمُقَرِّ بِهِ مِنَ الْمُقِرِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ بِمَا إِذَا لَمْ يَطُلِ الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ، وَأَمَّا مَعَ الطُّولِ فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُ فِي الْإِرْثِ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِهِ، قَالَ اللَّخْمِيُّ، إِنْ قَالَ: هَذَا أَخِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو نَسَبٍ ثَابِتٍ يَرِثُهُ فَقِيلَ: الْمَالُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَقِيلَ: الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى وَهَذَا أَحْسَنُ، لِأَنَّ لَهُ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ.

وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ وَطَالَتِ الْمُدَّةُ وَهُمَا عَلَى ذَلِكَ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: أَخِي، أَوْ يَقُولُ: هَذَا عَمِّي، وَيَقُولُ الْآخَرُ: ابْنُ أَخِي، وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنُونَ وَلَا أَحَدَ يَدَّعِي بُطْلَانَ ذَلِكَ لَكَانَ حَوْزًا.

وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلَانِ مِنْ وَرَثَةِ مَيِّتٍ- كَابْنَيْنِ أَوْ أَخَوَيْنِ أَوْ عَمَّيْنِ- بِثَالِثٍ مُسَاوٍ لَهُمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَابْنٍ أَوْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ ثَبَتَ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ غَيْرُ عَدْلَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، وَهُوَ كَذَلِكَ إِجْمَاعًا.

وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلٌ وَاحِدٌ يَحْلِفُ الْمُقَرُّ بِهِ مَعَهُ أَيِ الْعَدْلُ الْمُقِرُّ، وَيَرِثُ الْمَيِّتُ مَعَ الْمُقِرِّ، وَالْحَالُ لَا نَسَبَ ثَابِتٌ لَهُ بِإِقْرَارِ الْعَدْلِ وَحَلِفِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقِرُّ عَدْلًا فَحِصَّةُ الشَّخْصِ الْمُقِرِّ بِوَارِثٍ كَالْمَالِ الْمَتْرُوكِ أَيْ كَأَنَّهَا جَمِيعُ التَّرِكَةِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَا وَلَدَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِثَالِثٍ وَكَذَّبَهُ أَخُوهُ فَحِصَّةُ الْمُقِرِّ النِّصْفُ فَيُقَدَّرُ أَنَّهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ وَيُقْسَمُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَيَنُوبُ الْمُقَرُّ بِهِ ثُلُثَهُ فَيَأْخُذُهُ وَثُلُثَاهُ لِلْمُقِرِّ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُ عَاصِبِي مَيِّتٍ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ: هَذَا أَخِي وَأَنْكَرَهُ أَخُوهُ ثُمَّ أَضْرَبَ الْمُقِرُّ عَنْ إِقْرَارِهِ لِهَذَا الثَّالِثِ وَقَالَ لِشَخْصٍ آخَرَ رَابِعٍ: بَلْ هَذَا أَخِي، فَلِلْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ نِصْفُ إِرْثِ أَبِ الْمُقِرِّ لِاعْتِرَافِهِ لَهُ بِهِ، وَإِضْرَابُهُ عَنْهُ لَا يُسْقِطُهُ لِأَنَّهُ يَعُدُّ نَدَمًا، وَلِلْمُقَرِّ بِهِ الثَّانِي نِصْفُ مَا بَقِيَ بِيَدِ الْمُقِرِّ لِاعْتِرَافِهِ لَهُ بِهِ

28- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ مُكَلَّفٌ بِنَسَبِ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُهُ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُولَدَ لِمِثْلِ الْمُقِرِّ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ أَكْبَرَ مِنْهُ بِعَشْرِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ كَمَا نَصَّ الْحَنَابِلَةُ، وَلَمْ يُنَازِعْهُ مُنَازِعٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّخْصَ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ.

وَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ أَوِ الْمَجْنُونُ الْمُقَرُّ بِهِ مَيِّتًا وَرِثَهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ، لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مَعَ الْحَيَاةِ الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا، لِفَوَاتِ التَّصْدِيقِ.

وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ كَبِيرًا عَاقِلًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنَ الْمُقِرِّ حَتَّى يُصَدِّقَهُ، لِأَنَّ لَهُ قَوْلًا صَحِيحًا فَاعْتُبِرَ تَصْدِيقُهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ، وَلِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي نَسَبِهِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلَّفَهُ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَثَبَتَ نَسَبُهُ، وَلَوْ سَكَتَ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَضِيَّةُ اعْتِبَارِ التَّصْدِيقِ.

وَإِنْ كَانَ الْكَبِيرُ الْعَاقِلُ الْمُقَرُّ بِهِ مَيِّتًا ثَبَتَ إِرْثُهُ وَنَسَبُهُ، لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ أَشْبَهَ الصَّغِيرَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا، لِفَوَاتِ التَّصْدِيقِ.

وَعَلَى الْأَوَّلِ يَرِثُ الْمَيِّتَ الْمُسْتَلْحِقُ وَلَا يُنْظَرُ إِلَى التُّهْمَةِ.

وَإِنِ ادَّعَى نَسَبَ مُكَلَّفٍ فِي حَيَاتِهِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ حَتَّى مَاتَ الْمُقِرُّ ثُمَّ صَدَّقَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، لِأَنَّ بِتَصْدِيقِهِ حَصَلَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى التَّوَارُثِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا.

وَإِنِ اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا أَثْبَتَ نَسَبَهُ فَلَوْ بَلَغَ وَكَذَّبَهُ لَمْ يَبْطُلْ نَسَبُهُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ فَلَا يَنْدَفِعُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَبْطُلُ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْإِنْكَارِ وَقَدْ صَارَ أَهْلًا لَهُ وَأَنْكَرَ.

وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا اسْتَلْحَقَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ وَأَنْكَرَ.

وَلَوِ اسْتَلْحَقَ اثْنَانِ بَالِغًا ثَبَتَ نَسَبُهُ لِمَنْ صَدَّقَهُ مِنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ وَاحِدًا مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ 29- وَمَنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَهُ أُمٌّ فَجَاءَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ تَدَّعِي زَوْجِيَّتَهُ لَمْ تَثْبُتِ الزَّوْجِيَّةُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّةِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ.

وَكَذَا لَوِ ادَّعَتْ أُخْتُهُ الْبُنُوَّةَ، ذَكَرَهُ فِي التَّبْصِرَةِ، قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ: وَمَنْ أَنْكَرَ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا كَانَ لَهَا طَلَبُهُ بِحَقِّهَا

30- وَإِنْ قَدِمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَمَعَهَا طِفْلٌ، فَأَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُهُ مَعَ إِمْكَانِهِ وَلَا مُنَازِعَ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ وَعَدَمِ الْمُنَازِعِ، وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ وَلَدَتِ امْرَأَةُ رَجُلٍ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْبَتِهِ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلرَّجُلِ قُدُومٌ إِلَيْهَا وَلَا عُرِفَ لَهَا خُرُوجٌ مِنْ بَلَدِهَا

31- وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ أَخٍ أَوْ عَمٍّ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ لَمْ يُقْبَلْ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.

وَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِنَسَبِ الْأَخِ أَوِ الْعَمِّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَالْمُقِرُّ هُوَ الْوَارِثُ وَحْدَهُ صَحَّ إِقْرَارُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَلِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ مُورِثِهِ فِي حُقُوقِهِ وَهَذَا مِنْهَا

وَلَا يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ نَفَاهُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَجُوزُ إِلْحَاقُهُ بِهِ بَعْدَ نَفْيِهِ إِيَّاهُ كَمَا لَوِ اسْتَلْحَقَهُ هُوَ بَعْدَ أَنْ نَفَاهُ بِلِعَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ نَفَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، لِأَنَّ فِي إِلْحَاقِ مَنْ نَفَاهُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلْحَاقَ عَارٍ بِنَسَبِهِ

32- وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُقِرِّ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ بِغَيْرِهِ وَارِثًا حَائِزًا لِتَرِكَةِ الْمُلْحَقِ بِهِ، وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، كَابْنَيْنِ أَقَرَّا بِثَالِثٍ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيَرِثُ مَعَهُمَا، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ أَنَّ الْمُسْتَلْحِقَ لَا يَرِثُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلَا يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَرِثُ بِأَنْ يُشَارِكَ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ عَدَمُ الْمُشَارَكَةِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، أَمَّا فِي الْبَاطِنِ إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ صَادِقًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا يَرِثُهُ فِي الْأَصَحِّ بِثُلُثِهِ، وَقِيلَ: بِنِصْفِهِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَالِغَ مِنَ الْوَرَثَةِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِقْرَارِ، بَلْ يَنْتَظِرُ بُلُوغَ الصَّبِيِّ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَنْفَرِدُ بِهِ وَيُحْكَمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ خَطِيرٌ لَا يُجَاوِزُ فِيهِ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ وَمَاتَ وَلَمْ يَرِثْهُ إِلاَّ الْمُقِرُّ ثَبَتَ النَّسَبُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ صَارَ لَهُ.

وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا يَثْبُتُ نَظَرًا إِلَى إِنْكَارِ الْمُورِثِ الْأَصْلَ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ابْنٌ حَائِزٌ بِأُخُوَّةِ مَجْهُولٍ فَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ نَسَبَ الْمُقِرِّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِنْكَارُهُ، وَيَثْبُتُ أَيْضًا نَسَبُ الْمَجْهُولِ، وَالثَّانِي: يُؤَثِّرُ الْإِنْكَارُ فَيَحْتَاجُ الْمُقِرُّ إِلَى الْبَيِّنَةِ عَلَى نَسَبِهِ، وَالثَّالِثُ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْمَجْهُولِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْمُقِرَّ لَيْسَ بِوَارِثٍ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَارِثُ الظَّاهِرُ يَحْجُبُهُ الْمُسْتَلْحِقُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ النَّسَبُ لِلِابْنِ وَلَا إِرْثَ لَهُ.

وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ الْإِرْثُ، وَلَوْ وَرِثَ الِابْنُ لَحَجَبَ الْأَخَ فَيَخْرُجُ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِقْرَارِ، فَيَنْتَفِي نَسَبُ الِابْنِ وَالْمِيرَاثُ.

وَالثَّالِثُ: يَثْبُتَانِ، وَلَا يَخْرُجُ الْأَخُ بِالْحَجْبِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ كَوْنُ الْمُقِرِّ حَائِزًا لِلتَّرِكَةِ لَوْلَا إِقْرَارُهُ

33- وَإِنْ أَقَرَّ بِأَبٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ مَوْلًى أَعْتَقَهُ قَبْلَ إِقْرَارِهِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَلَوْ أَسْقَطَ بِهِ وَارِثًا مَعْرُوفًا، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَارِثِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ بِشُرُوطٍ:

أَوَّلُهَا: خُلُوُّهُ مِنْ مُسْقِطٍ، إِذَا أَمْكَنَ صِدْقُ الْمُقِرِّ بِأَنْ لَا يُكَذِّبَهُ فِيهِ ظَاهِرُ حَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صِدْقُهُ كَإِقْرَارِ الْإِنْسَانِ بِمَنْ فِي سِنِّهِ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ.

وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَدْفَعَ بِإِقْرَارِهِ نَسَبًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ دَفَعَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ.

وَثَالِثُهَا: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُقِرُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ وَإِلاَّ لَمْ يُقْبَلْ، أَوْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ مَيِّتًا، إِلاَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ فَلَا يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُهُمَا لِمَا مَرَّ، فَإِنْ كَبِرَا وَعَقَلَا وَأَنْكَرَا النَّسَبَ لَمْ يُسْمَعْ إِنْكَارُهُمَا لِأَنَّهُ نَسَبٌ حُكِمَ بِثُبُوتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِرَدِّهِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَلَوْ طَلَبَا إِحْلَافَ الْمُقِرِّ لَمْ يُسْتَحْلَفْ، لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ النَّسَبَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ بِخِلَافِ الْمَالِ.

وَيَكْفِي فِي تَصْدِيقِ وَالِدٍ بِوَلَدِهِ وَعَكْسِهِ كَتَصْدِيقِ وَلَدٍ بِوَالِدِهِ، سُكُوتُهُ إِذَا أَقَرَّ بِهِ، لِأَنَّهُ يَغْلِبُ فِي ذَلِكَ ظَنُّ التَّصْدِيقِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا أَيِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ وَعَكْسِهِ تَكْرَارُ التَّصْدِيقِ، فَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ بِنَسَبِهِمَا بِدُونِ تَكْرَارِ التَّصْدِيقِ وَمَعَ السُّكُوتِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ سَكَتَ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، وَفَارِقُ السُّكُوتِ فِي الْأَمْوَالِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي النَّسَبِ.نَعَمْ إِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ التَّصْدِيقِ ثَبَتَ النَّسَبُ

34- وَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُ مَنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمُ: الْأَبُ وَالِابْنُ وَالزَّوْجُ وَالْمَوْلَى، وَكَجَدٍّ يُقِرُّ بِابْنِ ابْنِهِ وَعَكْسِهِ، وَكَأَخٍ يُقِرُّ بِأَخٍ، وَالْعَمِّ يُقِرُّ بِابْنِ أَخٍ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى غَيْرِهِ نَسَبًا فَلَمْ يُقْبَلْ، إِلاَّ وَرَثَةً أَقَرُّوا لِمَنْ لَوْ أَقَرَّ بِهِ مُورِثُهُمْ ثَبَتَ نَسَبُهُ فَيَصِحُّ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ.

وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ مُكَلَّفَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُنْكِرُ وَالْمُقِرُّ وَحْدَهُ وَارِثٌ لِلْمُنْكِرِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْهُمَا لِانْحِصَارِ الْإِرْثِ فِيهِ، فَلَوْ مَاتَ الْمُقِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ بَنِي عَمٍّ وَعَنِ الْأَخِ الْمُقَرِّ بِهِ وَرِثَهُ الْأَخُ الْمُقَرُّ بِهِ دُونَ بَنِي الْعَمِّ، لِأَنَّ الْأَخَ يَحْجُبُهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ وَلَوْ أَقَرَّتْ زَوْجَةٌ بِوَلَدٍ لَحِقَهَا لِإِقْرَارِهَا دُونَ زَوْجِهَا لِعَدَمِ إِقْرَارِهِ بِهِ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِامْرَأَتِهِ

ثُبُوتُ نَسَبِ الشَّخْصِ بِإِقْرَارِهِ:

35- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: نَسَبُ الشَّخْصِ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، لِقَوْلِهِمْ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فِيمَا إِذَا شَهِدَ شُهُودُ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسَمَّى فِيهِ لَا عَلَى عَيْنِهِ، فَاعْتَرَفَ الْمُحْضَرُ بِأَنَّ ذَلِكَ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ أَوْ أَنْكَرَ وَنَكَلَ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى ذَلِكَ تَوَجَّهَ لَهُ الْحُكْمُ، وَلِأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يُسْأَلُ عَنِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى أَنْسَابِهِمْ، وَمَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ رُجِعَ إِلَيْهِ فِيمَا عَلَيْهِ لَا فِيمَا لَهُ.

إِقْرَارُ السَّفِيهِ بِالنَّسَبِ:

36- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ السَّفِيهُ بِنَسَبٍ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِذَلِكَ وَأُخِذَ بِهِ فِي الْحَالِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ إِجْمَاعُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي نَفْسِهِ وَالْحَجْرُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ. وَيُنْفَقُ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْتَلْحَقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ:

37- الْإِقْرَارُ الصَّحِيحُ بِالْبُنُوَّةِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ كَلَامِ الْمُكَلَّفِ بِلَا مُقْتَضٍ وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي (إِقْرَار ف 67).

نَسَبُ اللَّقِيطِ:

38- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ شَخْصٌ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا مُسْلِمًا حُرًّا لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ تَتَحَقَّقَ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِلْحَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحْضُ نَفْعٍ لِلطِّفْلِ لِاتِّصَالِ نَسَبِهِ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ، فَقُبِلَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيط ف 11- 14).

ز- الْقُرْعَةُ:

39- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قُرْعَة ف 19).

ح- السَّمَاعُ:

40- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ بِالسَّمَاعِ لِلضَّرُورَةِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَمَّا النَّسَبُ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لَاسْتَحَالَتْ مَعْرِفَةُ الشَّهَادَةِ بِهِ؛ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ قَطْعًا بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمْكُنُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهِ، وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْمُشَاهَدَةُ لَمَا عَرَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ وَلَا أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ أَنْ يَكُونَ النَّسَبُ مَشْهُورًا، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الشَّهَادَةُ بِالشُّهْرَةِ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِهِ بِطَرِيقَتَيْنِ: الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمِيَّةُ.فَالْحَقِيقَةُ: أَنْ تُشْتَهَرَ وَتُسْمَعَ مِنْ قَوْمٍ كَثِيرٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَا تُشْتَرَطُ فِي

هَذِهِ الْعَدَالَةُ، وَلَا لَفْظُ الشَّهَادَةِ بَلْ يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ.

وَالْحُكْمِيَّةُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عُدُولٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، هَذَا إِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْهَادِ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ إِذَا لَقِيَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَهُ عَلَى نَسَبِهِ وَعَرَفَا حَالَهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ أَقَامَ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى نَسَبِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَشْهَدَ.

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمٍ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ وَقَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى نَسَبِهِ حَتَّى يَلْقَوْا مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَيَشْهَدَانِ عِنْدَهُمْ عَلَى نَسَبِهِ، قَالَ الْجَصَّاصُ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: وَلَا يَشْهَدُ أَحَدٌ بِمَا لَمْ يُعَايِنْهُ بِالْإِجْمَالِ إِلاَّ فِي عَشَرَةٍ مِنْهَا النَّسَبُ، فَلَهُ الشَّهَادَةُ بِهِ إِذَا أَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ يَثِقُ الشَّاهِدُ بِهِ مِنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بِلَا شَرْطِ عَدَالَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ.

41- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ جَائِزَةٌ فِي النَّسَبِ الْمَشْهُورِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ نَسَبٌ، إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَالُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُشْتَهَرًا مِثْلَ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ.

42- وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الِاسْتِفَاضَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ أَمْرٌ لَا مَدْخَلَ لِلرُّؤْيَةِ فِيهِ، وَغَايَةُ الْمُمْكِنِ رُؤْيَةُ الْوِلَادَةِ عَلَى الْفِرَاشِ، لَكِنَّ النَّسَبَ إِلَى الْأَجْدَادِ الْمُتَوَفَّيْنَ وَالْقَبَائِلِ الْقَدِيمَةِ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الرُّؤْيَةُ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى اعْتِمَادِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَلَوْ مِنَ الْأُمِّ قِيَاسًا عَلَى الْأَبِ.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ- وَهُوَ الِاسْتِفَاضَةُ- النَّسَبُ، وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِالتَّسَامُعِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ ابْنُ فُلَانٍ، أَوْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ- إِذَا عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا- بِنْتُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَّهُمَا مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا.وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنَ الْأُمِّ بِالتَّسَامُعِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: قَطْعًا كَالْأَبِ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ إِمْكَانُ رُؤْيَةِ الْوِلَادَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ فِي صِفَةِ التَّسَامُعِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ بِنَسَبِهِ، فَيُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَوِ الْقَبِيلَةِ، وَالنَّاسُ يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ التَّكْرَارُ وَامْتِدَادُ مُدَّةِ السَّمَاعِ؟ قَالَ كَثِيرُونَ: نَعَمْ، وَبِهَذَا أَجَابَ الصَّيْمَرِيُّ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا، بَلْ لَوْ سَمِعَ انْتِسَابَ الشَّخْصِ وَحَضَرَ جَمَاعَةً لَا يَرْتَابُ فِي صِدْقِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِنَسَبِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، جَازَ لَهُ الشَّهَادَةُ، وَرَأَى ابْنُ كَجٍّ الْقَطْعَ بِهَذَا، وَبِهِ أَجَابَ الْبَغَوِيُّ فِي انْتِسَابِهِ.

وَيُعْتَبَرُ مَعَ انْتِسَابِ الشَّخْصِ وَنِسْبَةِ النَّاسِ أَلاَّ يُعَارِضَهُمَا مَا يُورِثُ تُهْمَةً وَرِيبَةً، فَلَوْ كَانَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ حَيًّا وَأَنْكَرَ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا جَازَتْ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا لَوْ كَانَ مَيِّتًا.وَلَوْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ النَّسَبِ، هَلْ يُمْنَعُ جَوَازُ الشَّهَادَةِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِاخْتِلَافِ الظَّنِّ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِفَاضَةِ أَوْجُهٌ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقَعُ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ الْقَوِيُّ بِخَبَرِهِمْ وَيُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ.

وَالثَّانِي: يَكْفِي عَدْلَانِ، اخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ.

وَالثَّالِثُ: يَكْفِي خَبَرُ وَاحِدٍ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبُ إِلَيْهِ، حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ.فَعَلَى الْأُولَى يَنْبَغِي أَلاَّ يُشْتَرَطَ الْعَدَالَةُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ وَلَا الذُّكُورَةُ.

وَلَوْ سَمِعَ رَجُلًا لآِخَرَ: هَذَا ابْنِي وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ أَوْ قَالَ: أَنَا ابْنُ فُلَانٍ، وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ: يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَلَى النَّسَبِ، وَكَذَا لَوِ اسْتَلْحَقَ صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا وَسَكَتَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي النَّسَبِ كَالْإِقْرَارِ، وَفِي الْمُهَذَّبِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عِنْدَ السُّكُوتِ إِلاَّ إِذَا تَكَرَّرَ عِنْدَهُ الْإِقْرَارُ وَالسُّكُوتُ، وَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْغَزَالِيُّ: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِذَلِكَ، بَلْ يَشْهَدُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَهَذَا قِيَاسٌ ظَاهِرٌ.

43- وَيُوَافِقُ الْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ كَذَلِكَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ أَوِ الِاسْتِفَاضَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّسَبِ.جَاءَ فِي الْمُغْنِي: وَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي قَلْبِهِ شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ مَا يَعْلَمُهُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ الشَّهَادَةِ بِهَا فِي النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ.

وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَلاَّ يَشْهَدَ بِالِاسْتِفَاضَةِ حَتَّى تَكْثُرَ بِهِ الْأَخْبَارُ وَيَسْمَعَهُ مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، يَقُولُ الْخِرَقِيُّ: فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقَلْبِ، يَعْنِي حَصَلَ الْعِلْمُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي «الْمُجَرَّدِ» أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَسْمَعَ مِنَ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ وَيَسْكُنَ قَلْبُهُ إِلَى خَبَرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الِاسْتِفَاضَةِ، فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ فَيْضِ الْمَاءِ لِكَثْرَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اكْتَفَى فِيهِ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ، وَإِذَا سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِصَبِيٍّ: هَذَا ابْنِي، جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِنَسَبِهِ، وَإِنْ سَمِعَ الصَّبِيَّ يَقُولُ: هَذَا أَبِي، وَالرَّجُلُ يَسْمَعُهُ فَسَكَتَ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الْأَبِ إِقْرَارٌ لَهُ، وَالْإِقْرَارُ يُثْبِتُ النَّسَبَ فَجَازَتِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ السُّكُوتُ هَهُنَا مَقَامَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى الِانْتِسَابِ الْبَاطِلِ جَائِزٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوِي، وَلِأَنَّ النَّسَبَ يَغْلِبُ فِيهِ الْإِثْبَاتُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ فِي النِّكَاحِ؟ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَلاَّ يَشْهَدَ مَعَ السُّكُوتِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ حَقِيقِيٍّ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَهُ، فَاعْتُبِرَتْ تَقْوِيَتُهُ بِالتَّكْرَارِ، كَمَا اعْتُبِرَتْ تَقْوِيَةُ الْيَدِ فِي الْعَقَارِ بِالِاسْتِمْرَارِ.

ط- حُكْمُ الْقَاضِي:

44- يُعَدُّ حُكْمُ الْقَاضِي بِالنَّسَبِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ لَا يُذْكَرُ فِيهِ مُسْتَنَدُ الْحُكْمِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي حُكْمِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَصْلُهُ قَوْلُ سُحْنُونٍ: يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاضِي فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَجْلِسُ حُكْمِهِ، وَلِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَلِفًا فِي اعْتِبَارِهِ مُسْتَنَدًا، فَإِذَا حَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَكَانَ الْحُكْمُ طَرِيقَ الثُّبُوتِ.

وَفِي الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ يَكْثُرُ التَّنْبِيهُ فِي نَوَازِلِ النَّسَبِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِالْإِرْثِ لِمُدَّعِي النَّسَبِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا يُمْضَى، فَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِظْهَارُ بِحُكْمِ قَاضٍ بِثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدٍ غَيْرِهِ مَذْكُورٍ فِيهِ مُسْتَنَدُ الْحَاكِمِ لَمْ يَسَعِ الْقَاضِي- الْمُسْتَظْهَرُ لَدَيْهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ- إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: ثَبَتَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْقَاضِي فُلَانٍ.

قَالَ الْجَزِيرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا انْصَرَمَتِ الْآجَالُ وَعَجَزَ الطَّالِبُ عَجَّزَهُ الْقَاضِي وَأَشْهَدَ بِذَلِكَ، وَيَصِحُّ التَّعْجِيزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُدْعَى فِيهِ إِلاَّ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ: الدِّمَاءَ، وَالْأَحْبَاسَ، وَالْعِتْقَ، وَالطَّلَاقَ، وَالنَّسَبَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ وَهْبٍ.

وَضَابِطُهُ كُلُّ حَقٍّ لَيْسَ لِمُدَّعِيهِ إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَمِنْهَا دَعْوَى نَسَبٍ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِبَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا بَعْدَ التَّلَوُّمِ، فَلَا يُعَجَّزُ، فَمَتَى أَقَامَهَا

حُكِمَ عَلَى مُقْتَضَاهَا وَفَصَّلَ الدُّسُوقِيُّ فَقَالَ: فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَجِّزَ طَالِبَ إِثْبَاتِ النَّسَبِ سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ أَوِ ادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً، وَطَلَبَ الْإِمْهَالَ لَهَا وَأُنْظِرَ فَلَمْ يَأْتِ بِهَا، فَإِنْ عَجَّزَهُ كَانَ حُكْمُهُ بِالتَّعْجِيزِ غَيْرَ مَاضٍ، فَإِذَا قَالَ مُدَّعِي النَّسَبِ: لِي بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، وَأُمْهِلَ لِلْإِتْيَانِ بِهَا فَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ، حَكَمَ الْحَاكِمُ بِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلَا يَحْكُمُ بِتَعْجِيزِ ذَلِكَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَكَمَ بِعَجْزِهِ كَانَ حُكْمُهُ غَيْرَ مَاضٍ، وَأَمَّا طَالِبُ نَفْيِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يُمْضِي حُكْمَهُ بِتَعْجِيزِهِ فِي النَّسَبِ، فَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِمُدَّعِي النَّسَبِ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: عِنْدِي بَيِّنَةٌ تَجْرَحُ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي، فَإِذَا أُمْهِلَ وَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ حَكَمَ الْقَاضِي بِثُبُوتِ النَّسَبِ وَتَعْجِيزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِذَا عَجَّزَهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ الْجِيزِيُّ وَارْتَضَاهُ الْبُنَانِيُّ، وَقَالَ عَلِيٌّ الْأَجْهُورِيُّ: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَالْمُدَّعِي فِي النَّسَبِ لَيْسَ لِلْقَاضِي تَعْجِيزُهُ أَصْلًا فِيهَا.

وَحُكْمُ الْقَاضِي بِثُبُوتِ النَّسَبِ يَنْفُذُ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْحَاضِرِ حُكْمٌ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا النَّسَبُ.

وَالْمُرَادُ بِالْغَائِبِ: مَنْ لَمْ يُخَاصِمْ فِي النَّازِلَةِ الْمَقْضِيِّ فِيهَا أَصْلًا، أَوْ لَمْ يَحْضُرْ عِنْدَ صُدُورِ الْحُكْمِ مِنَ الْقَاضِي، وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ مَنْ ثَبَتَتْ غَيْبَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، سَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا وَقْتَ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ التَّزْكِيَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ عَنِ الْبَلَدِ، وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْبَيِّنَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْإِقْرَارِ عِنْدَ الْقَاضِي.

ي- ثُبُوتُ النَّسَبِ بِدَعْوَى الْحِسْبَةِ:

45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ بِدَعْوَى الْحِسْبَةِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّسَبِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّسَبَ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، وَحَقُّهُ لَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ صَغِيرًا فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يُنَصِّبِ الْقَاضِي خَصْمًا عَنِ الصَّغِيرِ لِيَدَّعِيَ النَّسَبَ لَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا؛ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ إِحْيَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْقَاضِي نُصِبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً عَلَى خَصْمٍ أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى نَسَبِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهَا النَّسَبُ؛ لِأَنَّ فِي وَصْلِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.

التَّحْكِيمُ فِي النَّسَبِ:

46- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي نَسَبٍ لِأَبٍ؛ لِخَطَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِ الْخَصْمَيْنِ بِهَا وَهُوَ الْآدَمِيُّ، لَكِنَّهُ إِنْ حَكَمَ فِي نَسَبٍ مَضَى حُكْمُهُ إِنْ كَانَ صَوَابًا، فَلَا يَنْقُضُهُ الْإِمَامُ وَلَا الْقَاضِي قَالَ أَصْبَغُ: وَلَا يَنْبَغِي التَّحْكِيمُ فِي النَّسَبِ لِأَنَّهُ لِلْإِمَامِ، زَادَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَصْبَغَ: فَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي ذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ.

التَّحْلِيفُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ:

47- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَنَّهُ لَا تَحْلِيفَ فِي نَسَبٍ، بِأَنِ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وَبِالْعَكْسِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

وَقِيلَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يُحَلِّفُهُ وَيَأْخُذُهُ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا لَا يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-موسوعة الفقه الكويتية (وصاية 3)

وِصَايَةٌ-3

ثَالِثًا: تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ الصَّبِيَّ الْمُوصَى عَلَيْهِ:

42- تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ الصَّبِيَّ الْمُوصَى عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْغَيْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْوَصِيِّ.

أَمَّا تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ الصَّبِيَّ الْمُوصَى عَلَيْهِ لِلْغَيْرِ فَجَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَهُ اسْتِعْمَالُ الصَّبِيِّ بِلَا عِوَضٍ لِلتَّهْذِيبِ وَالرِّيَاضَةِ فَبِالْعِوَضِ أَوْلَى.

أَمَّا اسْتِئْجَارُ الْوَصِيِّ الصَّبِيَّ لِنَفْسِهِ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى جَوَازِهِ.

43- ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ رَشِيدًا أَثْنَاءَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَقَدْ أَجَّرَهُ الْوَصِيُّ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الصَّبِيَّ لَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الصُّوَرُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهِ سِتٌّ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَظُنَّ الْوَلِيُّ بُلُوغَهُ فِي الْمُدَّةِ أَوْ يَظُنَّ عَدَمَ بُلُوغِهِ أَوْ لَمْ يَظُنَّ شَيْئًا، وَفِي كُلٍّ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِمَّا أَنْ يَبْقَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ بَعْدَ بُلُوغِهِ رَشِيدًا كَثِيرٌ أَوْ يَسِيرٌ كَالشَّهْرِ وَيَسِيرِ الْأَيَّامِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي صُورَةٍ وَهِيَ مَا إِذَا ظَنَّ عَدَمَ الْبُلُوغِ فِيهَا وَبَلَغَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ يَسِيرٌ، وَيُخَيَّرُ فِي الْبَاقِي وَهِيَ مَا إِذَا بَقِيَ كَثِيرٌ مُطْلَقًا ظَنَّ بُلُوغَهُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهُ أَوْ لَمْ يَظُنَّ شَيْئًا وَكَذَا إِنْ بَقِيَ يَسِيرٌ وَالْحَالُ أَنَّهُ ظَنَّ بُلُوغَهُ فِيهَا أَوْ لَمْ يَظُنَّ شَيْئًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْوَلِيَّ إِنْ أَجَّرَ صَبِيًّا مُدَّةً لَا يَبْلُغُ فِيهَا بِالسِّنِّ فَبَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ وَهُوَ رَشِيدٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ وَفِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْأَصَحِّ: تَنْفَسِخُ لِتَبَيُّنِ عَدَمِ الْوِلَايَةِ فِيمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ.

وَلَوْ كَانَتِ الْمُدَّةُ يَبْلُغُ فِيهَا بِالسِّنِّ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَجَّرَ الْوَصِيُّ الْيَتِيمَ مُدَّةً ثُمَّ بَلَغَ وَرَشَدَ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ يَعْلَمُ بُلُوغَ الصَّبِيِّ فِي الْمُدَّةِ بِأَنْ أَجَّرَهُ سَنَتَيْنِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ وَقْتَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْوَصِيُّ بُلُوغَ الْيَتِيمِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ تَنْفَسِخِ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَازِمٌ يَمْلِكُهُ الْمُتَصَرِّفُ.

رَابِعًا: تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ مَالَ الصَّبِيِّ الْمُوصَى عَلَيْهِ:

44- تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ مَالَ الصَّبِيِّ الْمُوصَى عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْوَصِيِّ نَفْسِهِ.

أ- أَمَّا تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ مَالَ الصَّبِيِّ لِلْغَيْرِ فَيَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ).

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ تَأْجِيرَ أَرْضِ الصَّبِيِّ إِجَارَةً طَوِيلَةً حَيْثُ قَالُوا: وَالْوَصِيُّ إِذَا أَجَّرَ أَرْضَ الْيَتِيمِ إِجَارَةً طَوِيلَةً رَسْمِيَّةً ثَلَاثَ سِنِينَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الرَّسْمَ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ مَالِ الْإِجَارَةِ بِمُقَابَلَةِ السِّنِينَ الْأُولَى وَمُعْظَمُ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ لِأَرْضِ الْيَتِيمِ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ فِي السِّنِينَ الْأُوَلِ لِأَنَّهَا تَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ فَلَا تَصِحُّ.

وَإِنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلْيَتِيمِ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَفِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ يَكُونُ الِاسْتِئْجَارُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ فَلَا يَصِحُّ.

ب- وَأَمَّا تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ مَالَ الصَّبِيِّ الْمُوصَى عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ.

45- ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ رَشِيدًا أَثْنَاءَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَكَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ: فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ الْبُلُوغِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ عَقَدَ الْوَصِيُّ عَلَى سِلَعِ الصَّبِيِّ كَدَارِهِ وَدَابَّتِهِ وَغَيْرِهِمَا فَيَلْزَمُ فِيمَا إِذَا ظَنَّ عَدَمَ بُلُوغِهِ مُطْلَقًا وَلَوْ بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ سِنُونَ عَلَى الْأَرْجَحِ.

وَمُقَابِلُ الْأَرْجَحِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَشْهَبُ مِنْ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى سِلَعِ الصَّبِيِّ كَالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُ إِلاَّ إِذَا ظَنَّ الْوَصِيُّ عَدَمَ بُلُوغِهِ وَبَقِيَ كَالشَّهْرِ.

وَقَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي فَسْخِ الصَّبِيِّ الْإِجَارَةَ عَلَى الْمَالِ بَعْدَ بُلُوغِهِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي فَسْخِ الصَّبِيِّ الْإِجَارَةَ عَلَى نَفْسِهِ خِلَافًا وَتَفْصِيلًا.

خَامِسًا: إِجَارَةُ الْوَصِيِّ نَفْسَهُ لِلصَّبِيِّ الْمُوصَى عَلَيْهِ:

46- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَجَّرَ الْوَصِيُّ نَفْسَهُ فِي عَمَلِ يَتِيمٍ فِي حِجْرِهِ فَيَتَعَقَّبُهُ الْإِمَامُ، فَمَا كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ أَمْضَاهُ وَمَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ رَدَّهُ.

سَادِسًا: تَبَرُّعُ الْوَصِيِّ وَهِبَتُهُ:

47- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَالِ الصَّغِيرِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِالصَّدَقَةِ أَمْ بِالْهِبَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَمْ بِالْمُحَابَاةِ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِمَالِ الصَّغِيرِ لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ، وَأَنَّهُ يُنَافِي مَقْصُودَ الْوِصَايَةِ مِنَ الْحِفَاظِ عَلَى الْمَالِ وَتَنْمِيَتِهِ وَالتَّصَرُّفِ بِمَا فِيهِ نَفْعٌ يَعُودُ عَلَى الصَّغِيرِ، مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

فَقَدْ نَهَى عَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ، وَالتَّبَرُّعُ بِالْمَالِ لَا مَصْلَحَةَ لِلْيَتِيمِ فِيهِ، بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَيَكُونُ مَمْنُوعًا وَمَنْهِيًّا عَنْهُ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ».

وَالْإِضْرَارُ بِالصَّغِيرِ لَيْسَ مِنَ الْمَرْحَمَةِ فِي شَيْءٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهَبَ مَالَ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، لِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ ضَرَرًا مَحْضًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَلَا أَنْ يُوصِيَ بِهِ، لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَالْوَصِيَّةَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ مَالِيٍّ فَكَانَ ضَرَرًا فَلَا يَمْلِكُهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ (وِلَايَة ف 53- 54).

سَابِعًا: الْهِبَةُ بِعِوَضٍ:

48- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ هِبَةِ الْوَصِيِّ مَالَ الصَّغِيرِ بِعِوَضٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَهَبَ مَالَ الْمُوصَى عَلَيْهِ بِعِوَضٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، لِأَنَّ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الْقَبْضِ، وَهَذِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْهِبَةِ، وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكُهَا، فَلَا تَصِيرُ عِوَضًا انْتِهَاءً.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ ثَوَابًا مَعْلُومًا فِي الْهِبَةِ بِغِبْطَةٍ جَازَتْ لِأَنَّهَا إِذْ قُيِّدَتْ بِثَوَابٍ مَعْلُومٍ كَانَتْ بَيْعًا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلْمُوصِي أَنْ يَهَبَ مَالَ الصَّغِيرِ بِعِوَضٍ، لِأَنَّ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَمَلَكَهَا كَمَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: لِلْوَصِيِّ هِبَةُ مَالِ الصَّغِيرِ بِعِوَضٍ إِذَا كَانَ الْعِوَضُ قَدْرَ قِيمَتِهِ فَأَكْثَرَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ.

وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ الشَّرْطَ وَلَمْ يُجِيزُوا لِلْوَصِيِّ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْمَالِ الْمَوْهُوبِ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهَا.

ثَامِنًا: طَلَبُ الْوَصِيِّ الشُّفْعَةَ:

فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ كَوْنِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي صَالِحِ الصَّبِيِّ، وَبَيْنَ كَوْنِ تَرْكِهَا فِي مَصْلَحَتِهِ، وَبَيْنَ اسْتِوَاءِ الطَّلَبِ وَالتَّرْكِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

الْحَالَةُ الْأُولَى: طَلَبُ الشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ فِيهِ حَظٌّ لِلصَّغِيرِ:

49- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ حَقَّ الشُّفْعَةِ وَالْأَخْذَ بِهَا إِذَا كَانَ فِي الطَّلَبِ مَصْلَحَةٌ لِلصَّغِيرِ وَحَظٌّ لَهُ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الطَّلَبِ فِي حَقِّ الْوَصِيِّ بِأَنَّ تَرْكَ الطَّلَبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الصَّبِيِّ فَلَا يَصِحُّ، كَالْعَفْوِ عَنْ قَوَدِهِ وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ وَإِبْرَاءِ غَرِيمِهِ، وَبِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ نَظَرِيَّةٌ وَالنَّظَرُ فِي الْأَخْذِ مُتَعَيَّنٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَكَانَ فِي إِبْطَالِهِ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الطَّلَبِ بِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ، بَلْ عَيْنِهَا، لِأَنَّ طَلَبَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَتَرْكُ الْأَخْذِ بِهَا تَرْكُ التِّجَارَةِ، فَيَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ كَمَا يَمْلِكُ تَرْكَ التِّجَارَةِ بِرَدِّ الْبَيْعِ، وَقَالُوا: الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّرْكُ أَنْفَعَ بِإِبْقَاءِ الثَّمَنِ عَلَى مِلْكِ الصَّغِيرِ فَيَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ كَالْأَخْذِ، بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنِ الْقَوَدِ وَأَشْبَاهِهِ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ غَيْرُ مُتَرَدَّدٍ، إِذْ هُوَ إِبْطَالٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُنَا بِعِوَضٍ يُعَدُّ لَهُ، وَهُوَ الثَّمَنُ فَلَا يُعَدُّ ضَرَرًا.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ عَنْهَا فَلَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ بِهَا كَالْأَجْنَبِيِّ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِهَا الصَّبِيُّ إِذَا كَبُرَ.

50- وَإِذَا لَمْ يَطْلُبِ الْوَصِيُّ الشُّفْعَةَ مَعَ أَنَّ مَصْلَحَةَ الصَّبِيِّ فِي طَلَبِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ فِي طَلَبِهَا إِذَا بَلَغَ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ) إِلَى أَنَّ لِلصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ طَلَبَهَا.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ اخْتَارَهُ ابْنُ بَطَّةَ وَكَانَ يُفْتِي بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلصَّبِيِّ طَلَبُهَا.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: تَرْكُ الْوَصِيِّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ التَّرْكُ فِي مَصْلَحَةِ الصَّغِيرِ:

51- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ تَرْكَ الشُّفْعَةِ لِلصَّغِيرِ إِذَا كَانَ تَرْكُ الطَّلَبِ فِي مَصْلَحَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ قَدْ وَقَعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، أَوْ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَحْتَاجُ إِلَى إِنْفَاقِهِ أَوْ صَرْفِهِ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ، أَوْ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ لَا يُرْغَبُ فِي مِثْلِهِ أَوْ لِأَنَّ أَخْذَهُ يُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ مَا إِبْقَاؤُهُ أَوْلَى، أَوْ إِلَى اسْتِقْرَاضِ ثَمَنِهِ وَرَهْنِ مَالِهِ، أَوْ إِلَى ضَرَرٍ وَفِتْنَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، لِانْعِدَامِ حَظِّ الصَّغِيرِ وَلُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِ.

وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ غَبَنَ أَوْ كَانَ فِي الْأَخْذِ بِهَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَسْتَقْرِضَ وَيَرْهَنَ مَالَ الصَّبِيِّ فَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فِعْلَ مَا لَا حَظَّ لِلصَّبِيِّ فِيهِ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ لِلصَّغِيرِ وَلَوْ كَانَ التَّرْكُ فِي مَصْلَحَتِهِ وَلَهُ فِيهِ حَظٌّ مُعَلِّلِينَ قَوْلَهُمْ بِأَنَّ الْوَصِيَّ يَشْتَرِي لِلصَّغِيرِ مَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّرَرُ بِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى لَهُ مَعِيبًا لَا يَعْلَمُ عَيْبَهُ، وَلِأَنَّ الْحَظَّ قَدْ يَخْتَلِفُ وَيَخْفَى، فَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَظٌّ فِي الْأَخْذِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ لِزِيَادَةِ قِيمَةِ مِلْكِهِ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِأَخْذِ الْوَصِيِّ بِالشُّفْعَةِ كَثِيرٌ، فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْحَظِّ بِنَفْسِهِ لِخَفَائِهِ.

وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهَا فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ الْأَخْذُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فِعْلَ مَا لَا حَظَّ لِلصَّبِيِّ فِيهِ، فَإِنْ أَخَذَ فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: لَا يَصِحُّ وَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ مَا لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ فَلَمْ يَصِحَّ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ الْأَخْذُ لِلصَّبِيِّ، لِأَنَّهُ يَشْتَرِي لَهُ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الضَّرَرَ فَصَحَّ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى مَعِيبًا لَا يَعْلَمُ عَيْبَهُ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتِوَاءُ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ:

52- لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

أَوَّلُهَا: أَنَّهُ يَحْرُمُ الْأَخْذُ؛ لقوله تعالى « {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ».

فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَنْعِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ، لِوُرُودِهَا بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ الْأَخْذُ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُتَخَيَّرُ.

تَاسِعًا: إِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَالَ الصَّغِيرِ:

إِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَالَ الصَّغِيرِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَسْتَقْرِضَ الْوَصِيُّ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ وَإِمَّا أَنْ يُقْرِضَهُ لِلْغَيْرِ.

أ- اقْتِرَاضُ الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ مَالَ الصَّغِيرِ:

53- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اقْتِرَاضِ الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْتَرِضَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ لِلتُّهْمَةِ.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ بِجَوَازِ اقْتِرَاضِ الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فِيهِ وَفَاءٌ.

ب- إِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَالَ الصَّغِيرِ لِلْغَيْرِ:

54- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِلْكِيَّةِ الْوَصِيِّ إِقْرَاضَ مَالِ الصَّغِيرِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ إِقْرَاضُ مَالِ الصَّغِيرِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ عِنْدِ الْحَنَفِيَّةِ وَلِحَاجَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.فَإِنْ خَافَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ غَرَقٍ، أَوْ أَرَادَ سَفَرًا وَخَافَ عَلَيْهِ جَازَ لَهُ الْإِقْرَاضُ، وَلَا يُقْرِضُهُ إِلاَّ ثِقَةً مَلِيئًا، لِأَنَّ غَيْرَ الثِّقَةِ يَجْحَدُ وَغَيْرَ الْمَلِيءِ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ الْبَدَلِ مِنْهُ، وَعَلَّلَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ عَدَمَ جَوَازِ إِقْرَاضِ الْوَصِيِّ مَالَ الْيَتِيمِ بِأَنَّ الْإِقْرَاضَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ يُعَدُّ تَبَرُّعًا فَلَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ كَالْهِبَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ تَسْلِيفُ مَالِ الْيَتِيمِ لِأَحَدٍ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ وَلَوْ أَخَذَ رَهْنًا، إِذْ لَا مَصْلَحَةَ لِلْيَتِيمِ فِي ذَلِكَ.

ج- اسْتِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَالًا لِلصَّغِيرِ:

55- يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَالًا لِلصَّغِيرِ إِذَا دَعَتْ لِذَلِكَ حَاجَةٌ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَدَانَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي كِسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ وَرَهَنَ بِهِ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ جَازَ، لأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ، وَالرَّهْنُ يَقَعُ إِيفَاءً لِلْحَقِّ فَيَجُوزُ.

عَاشِرًا: رَهْنُ الْوَصِيِّ مَالَ الصَّغِيرِ:

وَسَبَبُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَيْنِ الصَّغِيرِ، أَوْ بِدَيْنٍ لِلْوَصِيِّ.

أَوَّلًا: الرَّهْنُ بِسَبَبِ دَيْنِ الصَّغِيرِ.

56- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رَهْنِ الْوَصِيِّ مَالَ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ: أ) ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ رَهْنُ مَالِ الْيَتِيمِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْيَتِيمِ، وَيَكُونَ عِنْدَ ثِقَةٍ.

ب) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْهَنَ مَالَ الصَّغِيرِ عِنْدَ الْأَجْنَبِيِّ بِتِجَارَةٍ بَاشَرَهَا أَوْ رَهْنٍ لِلْيَتِيمِ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ بِالتِّجَارَةِ، لِأَنَّ لِلْوَصِيِّ التِّجَارَةَ بِمَالِ الصَّغِيرِ تَثْمِيرًا لَهُ، وَالرَّهْنُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُهُ إِيفَاءً وَاسْتِيفَاءً، وَزَادُوا: لَوْ رَهَنَ الْوَصِيُّ مَالَ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ جَازَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ.

ثَانِيًا: الرَّهْنُ بِسَبَبِ دَيْنٍ لِلْوَصِيِّ:

57- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رَهْنِ الْوَصِيِّ مَالَ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ لِلْوَصِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ:

أ) فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْهَنَ مَالَ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى الصَّغِيرِ لِأَنَّ الرَّهْنَ إِيفَاءٌ حُكْمًا، فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ كَالْإِيفَاءِ حَقِيقَةً، وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ فِي الرَّهْنِ كَمَا لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّ مُتَّهَمٌ فِي رَهْنِهِ مَالَ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ.

ب) وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ.

اخْتِلَافُ الْوَصِيِّ وَالْمُوصَى عَلَيْهِ:

قَدْ يَقَعُ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْوَصِيِّ وَالْمُوصَى عَلَيْهِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ غَالِبًا مَا يَكُونُ حَوْلَ قَدْرِ النَّفَقَةِ، كَأَنْ يَقُولَ الْوَصِيُّ: أَنْفَقْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَيَقُولَ الْمُوصَى عَلَيْهِ: بَلْ خَمْسِينَ فَقَطْ.

وَقَدْ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ فِي مُدَّةِ النَّفَقَةِ، كَأَنْ يَقُولَ الْوَصِيُّ: أَنْفَقْتُ عَلَيْكَ عَشْرَ سِنِينَ، وَيَقُولَ الْمُوصَى عَلَيْهِ: بَلْ خَمْسًا فَقَطْ.

وَقَدْ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ حَوْلَ تَارِيخِ مَوْتِ الْمُوصِي، كَأَنْ يَقُولَ الْوَصِيُّ: مَاتَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَيَقُولَ الْمُوصَى عَلَيْهِ: بَلْ مُنْذُ سَنَةٍ.

وَقَدْ يَكُونُ التَّنَازُعُ حَوْلَ رَدِّ الْمَالِ إِلَى الْمُوصَى عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ.

وَنَذْكُرُ فِيمَا يَلِي أَقْوَالَ الْفُقَهَاءِ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ عَلَى حِدَةٍ.

أَوَّلًا: الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ النَّفَقَةِ أَوْ فِي قَدْرِهَا:

58- إِذَا اخْتَلَفَ الْوَصِيُّ وَالْمُوصَى عَلَيْهِ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ أَوْ فِي أَصْلِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ بِيَمِينِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ- وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ- وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْفَضْلِ، لِأَنَّهُ فِي قَدْرِ نَفَقَةِ الْمِثْلِ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَالْفَضْلُ عَلَى ذَلِكَ إِسْرَافٌ فَلَا يَكُونُ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ شَرْعًا، وَقَالَ الْإِسْتَرُوشَنِيُّ: إِنَّ الْوَصِيَّ مَتَى أَقَرَّ بِتَصَرُّفٍ فِي مَالِ الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَكَذَّبَهُ الصَّغِيرُ، إِنْ كَانَ تَصَرُّفًا هُوَ غَيْرُ مُسَلَّطٍ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِتَصْدِيقِ الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ بِلَا بَيِّنَةٍ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: ادَّعَى قَضَاءَ دَيْنِ الْمَيِّتِ، أَوِ ادَّعَى قَضَاءَهُ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ بَيْعِ التَّرِكَةِ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهَا، أَوْ أَنَّ الْيَتِيمَ اسْتَهْلَكَ مَالًا آخَرَ فَدَفَعَ ضَمَانَهُ، أَوْ أَذِنَ لَهُ بِتِجَارَةٍ فَرَكِبَهُ دُيُونٌ فَقَضَاهَا عَنْهُ، أَوْ أَدَّى خَرَاجَ أَرْضِهِ فِي وَقْتٍ لَا يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ، أَوْ جُعْلَ عَبْدِهِ الْآبِقِ، أَوْ فِدَاءَ عَبْدِهِ الْجَانِي، أَوِ الْإِنْفَاقَ عَلَى مَحْرَمِهِ، أَوْ عَلَى رَقِيقِهِ الَّذِينَ مَاتُوا، أَوِ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ وَكَذَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ حَالَ غَيْبَةِ مَالِهِ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ، أَوْ أَنَّهُ زَوَّجَ الْيَتِيمَ امْرَأَةً وَدَفَعَ مَهْرَهَا مِنْ مَالِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، أَوِ اتَّجَرَ وَرَبِحَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُضَارِبًا.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ، لِقَبُولِ قَوْلِ الْوَصِيِّ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ دُونَ بَيِّنَةٍ شُرُوطًا ثَلَاثَةً وَهِيَ:

أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى عَلَيْهِ فِي حَضَانَتِهِ، وَأَنْ يُشَبِّهَ فِيمَا يَدَّعِيهِ، وَأَنْ يَحْلِفَ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُوصَى عَلَيْهِ فِي حَضَانَتِهِ بِأَنْ كَانَ فِي حَضَانَةِ غَيْرِهِ وَتَنَازَعَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ الْقَوْلُ لَهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِذَا لَمْ يُشَبِّهْ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى النَّفَقَةِ اللاَّئِقَةِ صُدِّقَ الْمُوصَى عَلَيْهِ وَضَمِنَ الْوَصِيُّ الزِّيَادَةَ لِتَفْرِيطِهِ.

ثَانِيًا: الِاخْتِلَافُ فِي مُدَّةِ النَّفَقَةِ أَوْ فِي تَوْقِيتِ مَوْتِ الْمُوصِي:

59- إِذَا تَنَازَعَ الْوَصِيُّ وَالْمُوصَى عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ النَّفَقَةِ، كَأَنْ يَقُولَ الْوَصِيُّ: أَنْفَقْتُ عَلَيْكَ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ (مِنْ تَارِيخِ مَوْتِ الْمُوصِي)، فَيَقُولَ الصَّبِيُّ: بَلْ مُنْذُ خَمْسِ سِنِينَ، أَوْ كَانَ التَّنَازُعُ فِي تَارِيخِ مَوْتِ الْمُوصِي، كَأَنْ يَقُولَ الْوَصِيُّ: مَاتَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ فَقَالَ الصَّبِيُّ: بَلْ مُنْذُ سَنَةٍ.

فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الصَّبِيِّ الْمُوصَى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي مُدَّةٍ، الْأَصْلُ عَدَمُهَا، وَيَسْهُلُ عَلَى الْوَصِيِّ الْقِيَامُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَصِيِّ.

ثَالِثًا: الِاخْتِلَافُ فِي دَفْعِ الْمَالِ إِلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ:

60- إِذَا وَقَعَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْوَصِيِّ وَالْمُوصَى عَلَيْهِ فِي دَفْعِ الْمَالِ إِلَى الْمُوصَى عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الصَّبِيِّ لقوله تعالى: « {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} ».

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْيَمِينِ لِقَبُولِ قَوْلِ الصَّبِيِّ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: صَدَقَ الْوَلَدُ بِيَمِينِهِ، وَلَمْ يُقَيِّدِ الْمَالِكِيَّةُ قَبُولَ قَوْلِ الصَّبِيِّ بِهَذَا الشَّرْطِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ- وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ وَهْبٍ- وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ فِي دَفْعِ الْمَالِ إِلَى الصَّبِيِّ قَوْلُ الْوَصِيِّ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي ذَلِكَ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي النَّفَقَةِ وَكَالْمُوَدَعِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَصِيِّ بِجُعْلٍ وَبَيْنَ الْوَصِيِّ الْمُتَبَرِّعِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَقَالُوا: يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ إِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا لِأَنَّهُ أَمِينٌ أَشْبَهَ الْمُودِعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَصِيُّ مُتَبَرِّعًا بَلْ بِأُجْرَةٍ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَفْعِهِ الْمَالَ إِلَيْهِ، بَلْ قَوْلُ الْيَتِيمِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَبَضَ الْمَالَ لِحَظِّهِ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ كَالْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَعِيرِ.

أُجْرَةُ الْوَصِيِّ وَانْتِفَاعُهُ بِمَالِ الْمُوصَى عَلَيْهِ:

61- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا فَرَضَ لَهُ الْأَبُ أَوِ الْقَاضِي أُجْرَةً فِي مَالِ الْمُوصَى عَلَيْهِ مُقَابِلَ الْقِيَامِ بِالْوِصَايَةِ كَانَ لَهُ أَخْذُهَا سَوَاءٌ أَكَانَ غَنِيًّا أَمْ فَقِيرًا.

كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّ الْغَنِيَّ إِذَا لَمْ يُفْرَضْ لَهُ شَيْءٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ لقوله تعالى: « {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} ».وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ إِنْ كَانَ لِلْوَصِيِّ الْغَنِيِّ فِي الْوِصَايَةِ عَلَى الْيَتِيمِ خِدْمَةٌ وَعَمَلٌ، فَقِيلَ: إِنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ وَخِدْمَتِهِ لَهُ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

62- وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ أَخْذِ الْوَصِيِّ الْفَقِيرِ أُجْرَةً مِنْ مَالِ الْمُوصَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَفْرِضْ لَهُ الْأَبُ أَوِ الْقَاضِي شَيْئًا.

فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ- فِي الِاسْتِحْسَانِ- وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْأَجْرَ مِنْ مَالِ مُوَلِّيهِ لِحَاجَةِ فَقْرٍ حَسَبَ ضَوَابِطَ تُحَدِّدُ مِقْدَارَ مَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَخْذُهُ، وَالْحَالَاتُ الَّتِي يَجُوزُ الْأَخْذُ فِيهَا يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي (وِلَايَة ف 59- 60، إِيصَاء ف17).

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ- وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ- أَنَّ الْوَصِيَّ الْفَقِيرَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمُوصَى عَلَيْهِ مُقَابِلَ قِيَامِهِ بِمَهَامِّ الْوِصَايَةِ إِذَا لَمْ يَفْرِضْ لَهُ الْأَبُ أَوِ الْقَاضِي شَيْئًا.

إِيصَاءُ الْوَصِيِّ:

63- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ إِيصَاءِ الْوَصِيِّ إِذَا عَيَّنَ الْمُوصَى لَهُ مَنْ يُوصِيهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ يُوصِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:

جَوَازُ إِيصَاءِ الْوَصِيِّ.وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ وَصِيَّ الْوَصِيِّ وَصِيٌّ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ، فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ إِلَى غَيْرِهِ كَالْجَدِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوصِي تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَصِيِّ، وَبِهَذَا يُقَدَّمُ عَلَى الْجَدِّ.

الْقَوْلُ الثَّانِي:

عَدَمُ جَوَازِ الْإِيصَاءِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِالْإِذْنِ مِنَ الْمُوصَى فَلَا يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ كَالْوَكِيلِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَإِسْحَاقَ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِ الثَّانِي، وَقِيَاسًا عَلَى الْوَكِيلِ.

إِقْرَارُ الْوَصِيِّ وَشَهَادَتُهُ:

أ- إِقْرَارُ الْوَصِيِّ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ:

64- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ إِقْرَارُ الْوَصِيِّ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ تَرِكَتِهِ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ بَاطِلٌ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقِرِّ لَهُ أَخْذُهُ حَتَّى يُقِيمَ بُرْهَانًا وَيَحْلِفَ يَمِينًا، وَيَضْمَنُ الْوَصِيُّ لَوْ دَفَعَ لِلْمُقِرِّ لَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ وَارِثًا فَيَصِحُّ فِي حِصَّتِهِ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لآِخَرَ وَلَمْ تَكُنْ مِنَ التَّرِكَةِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا لِلصَّغِيرِ لَا يُسْمَعُ إِقْرَارُهُ لِتَنَاقُضِهِ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْضِي عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ يَمْضِي عَلَيْهِ هُوَ حَتَّى لَوْ مَلَكَهَا يَوْمًا أُمِرَ بِدَفْعِهَا لَهُ.

ب- شَهَادَةُ الْوَصِيَّيْنِ لآِخَرَ بِالْوِصَايَةِ مَعَهُمَا:

65- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ الْوَصِيَّانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِزَيْدٍ مَعَهُمَا لَغَتْ لِإِثْبَاتِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا مُعَيَّنًا، وَحِينَئِذٍ فَيَضُمُّ الْقَاضِي لَهُمَا ثَالِثًا وُجُوبًا، لِإِقْرَارِهِمَا بِآخَرَ فَيَمْتَنِعُ تَصَرُّفُهُمَا بِدُونِهِ كَمَا تَقَرَّرَ مِنَ امْتِنَاعِ تَصَرُّفِ أَحَدِ الْأَوْصِيَاءِ وَحْدَهُ إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ زَيْدٌ أَنَّهُ وَصِيٌّ مَعَهُمَا، فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهُمَا أَسْقَطَا مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ عَنِ الْقَاضِي إِذْ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَضُمَّ ثَالِثًا إِلَيْهِمَا، وَهَذَا الثَّالِثُ لَهُ حُكْمُ وَصِيِّ الْقَاضِي لَا حُكْمُ وَصِيِّ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُؤَثِّرْ سِوَى التَّعْيِينِ، وَكَذَا ابْنَا الْمَيِّتِ إِذَا شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِجَرِّهِمَا نَفْعًا لِنَصْبِ حَافِظٍ لِلتَّرِكَةِ لِقَوْلِ شُرَيْحٍ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ خَصْمٍ وَلَا قَرِيبٍ وَلَوْ يَدَّعِي زَيْدٌ هَذَا يُقْبَلُ اسْتِحْسَانًا.

ج- شَهَادَةُ الْوَصِيَّيْنِ لِوَارِثٍ:

66- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ لِوَارِثٍ صَغِيرٍ بِمَالٍ سَوَاءٌ انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَيِّتِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِأَنْفُسِهِمَا فِي ذَلِكَ الْمَالِ، فَصَارَا مُتَّهَمَيْنِ أَوْ خَصْمَيْنِ.

وَإِنْ شَهِدَا لِوَارِثٍ كَبِيرٍ بِمَالِ الْمَيِّتِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا أَيْضًا، لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ وِلَايَةَ الْحِفْظِ وَوِلَايَةَ بَيْعِ الْمَنْقُولِ لِأَنْفُسِهِمَا عِنْدَ غَيْبَةِ الْوَارِثِ.

أَمَّا إِنْ شَهِدَا لِوَارِثٍ كَبِيرٍ فِي غَيْرِ التَّرِكَةِ أَوْ فِي غَيْرِ مَالِ الْمَيِّتِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِمَا عَنْهُ فَلَا تُهْمَةَ حِينَئِذٍ، وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ أَقَامَهُمَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَرِكَتِهِ لَا فِي غَيْرِهَا.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ (أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ): إِذَا شَهِدَ الْوَصِيَّانِ لِوَارِثٍ كَبِيرٍ جَازَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ أَيْ فِيمَا تَرَكَهُ الْمُوصِي وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لَا تَثْبُتُ لَهُمَا فِي مَالِ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَتِ الْوَرَثَةُ كِبَارًا فَعَرِيَتْ عَنِ التُّهْمَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ صَغِيرًا.

وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ.

د- شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِمُوَلِّيهِ وَعَلَيْهِ:

67- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِمَنْ فِي حِجْرِهِ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ هُوَ وَصِيٌّ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ أَنْ يَشْهَدَ بِغَيْرِهِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَصِيِّ لِمُوَلِّيهِ تُرَدُّ إِنْ كَانَ خَاصَمَ فِيهِ وَإِلاَّ فَلَا.

وَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَصِيِّ عَلَى مَنْ فِي حِجْرِهِ فَتُقْبَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَصِيِّ عَلَى الْيَتِيمِ.

تَوْكِيلُ الْوَصِيِّ غَيْرَهُ:

68- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَوْكِيلِ الْوَصِيِّ غَيْرَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ- قَالَ عَنْهُ الْأَذْرَعِيُّ: هُوَ الْمَذْهَبُ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْغَزَالِيِّ- وَالْحَنَابِلَةِ فِي إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ رَجَّحَهَا الْقَاضِي، وَقَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: هُوَ الصَّوَابُ إِلَى جَوَازِ أَنْ يُوَكَّلَ الْوَصِيُّ بِكُلِّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ أَمْرِ الْيَتِيمِ، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْوِلَايَةِ.

جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوْ كَانَ لِلْيَتِيمِ وَصِيَّانِ فَوَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ رَجُلًا عَلَى حِدَةٍ بِشَيْءٍ قَامَ وَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَكِيلَيْنِ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْمُعْتَمَدِ- وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ فِيمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِمُبَاشَرَتِهِ لِمِثْلِهِ.لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ‎، وَلَمْ تَتَضَمَّنِ الْوَصِيَّةُ الْإِذْنَ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ، كَمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ لَوْ نَهَاهُ عَنْهُ، أَمَّا مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمُبَاشَرَتِهِ لِمِثْلِهِ فَيَجُوزُ.

إِقْرَارُ الْوَصِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ:

69- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِقْرَارِ الْوَصِيِّ عَلَى الْمُوصَى عَلَيْهِ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَى الْغَيْرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً قَاصِرَةً عَلَى الْمُقِرِّ لَا تَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ.

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْمُوَلَّى فِيهِ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ بِالْمُوَلَّى عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ عَالِمَنَا» وَالْإِضْرَارُ بِالصَّغِيرِ لَيْسَ مِنَ الْمَرْحَمَةِ فِي شَيْءٍ.

وَيَقُولُ الْمَوَّاقُ: الْوَصِيُّ لَا يَلْزَمُ إِقْرَارُهُ عَلَى الْمَحْجُورِ، وَلَكِنْ يَكُونُ شَاهِدًا لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَحْجُورِ بِحَالٍ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِمَا بِمَالٍ وَلَا إِتْلَافٍ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ فَلَمْ يَجُزْ، وَأَمَّا تَصَرُّفَاتُهُ النَّافِذَةُ مِنْهُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِهَا كَالْوَكِيلِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


22-الأضداد لابن الأنباري (ذعور)

25 - وذَعَورٌ من الأَضْداد؛ يقال: فلان ذَعُور، أَي ذاعر، وذَعُور، أَي مذعور، أَنشدنا أَبو العبَّاس:

«تَنُولُ بمعروفِ الحَدِيثِ وإِنْ تُرِدْ *** سِوَى ذاكَ تُذْعَرْ مِنْك وهْيَ ذَعُورُ»

أَي مذْعُورة. ويُرْوَى: تَنُولُ بمَغْرُوضِ الحَديث، أَي بطريِّه، واللَّحم الغريض عند العرب الطريّ، قال الشَّاعر:

«إِذا لم يَجْتَزِرْ لِبَنِيهِ لَحْمًا *** غَرِيضًا مِنْ هَوَادِي الوَحْشِ جَاعُوا»

ويُرْوَى: تَنُول بمشهود الحديث، والمشهودُ الَّذي كأَنَّ فيه شُهْدًا من حلاوته وطيبه، قال الشَّاعر يذكر ثَغْرًا:

«وبَارِدًا طَيِّبًا عَذْبًا مُقَبَّلُهُ *** مُخَيَّفًا نَبْتُهُ بالظَّلْمِ مَشْهُودا»

ومعنى قوله: تنول بمعروف الحديث، تنيلك معروف حديثها، يقال: أَنالني فلان معروفًا ونالني، بأَلف وغير أَلف، أَنشدنا أَبو العبَّاس، عن ابن الأَعْرَابِيّ:

«لَوْ مَلك البَحْرَ والفُراتَ معًا *** مَا نَالَني مِنْ نَدَاهُما بَلَلا»

«فَعَالُهُ عَلْقَمٌ مَغَبَّتُهُ *** وقولُهُ لوْ وَفَى به عَسَلا»

أَرادَ بِنالَني أَعطاني، ونصب العسل على معنى كانَ عَسَلًا.

الأضداد-أبو بكر، محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فَروة بن قَطَن بن دعامة الأنباري-توفي: 328هـ/940م


23-الغريبين في القرآن والحديث (شطب)

(شطب)

في حديث أم زرع (مضجعه كمسل شطبة) قال أبو عبيد: الشطبة ما شطب من جريد النخل، وهو سعفه وذلك أنه يشقق منه قضبان دقاق ينسج منه الحصر أرادت أنه ضرب اللحم دقيق الخضر شبهته بتلك الشطبة، وقال الحربي: نحوا منه، وقال ابن الأعرابي: أرادت بمسل الشطبة سيفا سل من غمده شبهته.

وفي الحديث (فحمل عامر بن ربيعة على عامر بن الطفيل فشطب الرمح عن مقتله) قال ابن الأعرابي: شطب وشطف أي عدل وقال الحربي: أراد لم يبلغه.

(شطر).

قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} أي نحوه ونصب شطر على الظرف المعنى إلى شطر المسجد الحرام.

وفي حديث القاسم بن محمد (لو أن رجلين شهدا على رجل بحق أحدهما شطير) أي غريب، والجمع شطر وهم البعداء، ومنه أخذ الشاطر، لأنه يغيب عن منزله، يقال: شطر عنا يشطر شطورًا إذا تباعد وقال ابن عرفة: إنما سمي شاطرًا لأنه شطر نحو البطالة وتباعد عن السكون والقرار، و

وروى بهز عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من منع صدقة [118 1] فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات الله تعالى) وقال الحربي: غلط بهز في لفظ الرواية وإنما قال (وشطر ماله) يعني أنه يجعل شطرين فيتخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خيار الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا.

وفي الحديث (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة) قال سفيان: هو أن يقول في أقتل أق كما يقول كفى بالسيف شا.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


24-طِلبة الطلبة (زني)

(زني):

شَهِدَا عَلَى زِنَاءَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي هَذَا عَلَى لُغَةِ الْمَدِّ فِيهِ فَإِنَّ الزِّنَاءَ بِالْمَدِّ لُغَةٌ فِي الزِّنَا بِالْقَصْرِ وَعَلَى لُغَةِ الْقَصْرِ يُقَالُ شَهِدَا عَلَى زَنَيَيْنِ كَمَا يُقَالُ فِي تَثْنِيَةِ الرَّحَى رَحَيَيْنِ وَفِي تَثْنِيَةِ الْحَصَى حَصَيَيْنِ وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَا عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَابِعُهُمْ زِيَادُ ابْنُ أَبِيهِ هُوَ أَخُو مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَانَ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ لَكِنْ لَا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ فَرُبَّمَا نُسِبَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَرُبَّمَا قِيلَ زِيَادُ ابْنُ أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ قُمْ يَا سَلْحَ الْغُرَابِ هُوَ خُرْءُ الْغُرَابِ وَقَدْ سَلَحَ مِنْ حَدِّ صَنَعَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ قُمْ يَا خَبِيثُ وَقِيلَ كَانَ يَضْرِبُ لَوْنُهُ إلَى السَّوَادِ فَلِذَلِكَ شَبَّهَهُ بِهِ وَقِيلَ وَصَفَهُ بِالشَّجَاعَةِ فَإِنَّ الْغُرَابَ إذَا سَلَحَ عَلَى طَائِرٍ أَحْرَقَ جَنَاحَهُ وَأَعْجَزَهُ فَكَذَلِكَ كَانَ زِيَادٌ فِي مُقَابَلَةِ أَقْرَانِهِ وَهَذَا مَدْحٌ وَالْأَوَّلُ ذَمٌّ وَهُوَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فِي هَتْكِ سِرِّ صَاحِبِهِ وَتَحْرِيضٌ لَهُ عَلَى إخْفَاءِ أَمْرِهِ فَقَالَ زِيَادٌ وَلَا أَدْرِي مَا قَالُوا وَلَكِنِّي رَأَيْتُهُمَا يَضْطَرِبَانِ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ أَيْ يَتَحَرَّكَانِ كَاضْطِرَابِ الْأَمْوَاجِ يَضْرِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ وَضَرَبَ الثَّلَاثَةَ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَمْ يَحِدَّ زِيَادًا لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْقَذْفِ.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


25-طِلبة الطلبة (وهم)

(وهـم) (هـ ي م):

عَنْ الشَّهَادَاتِ رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ أَتَيَا بَعْدَ ذَلِكَ بِآخَرَ فَقَالَا أَوْهَمَنَا أَنَّمَا السَّارِقُ هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ هَكَذَا وَالصَّحِيحُ وَهِمْنَا مِنْ حَدِّ عَلِمَ أَيْ غَلِطْنَا فَأَمَّا أَوْهَمْت فَمَعْنَاهُ أَسْقَطْت وَمِنْهُ مَا يُرْوَى أَوْهَمَ مِنْ صَلَاتِهِ رَكْعَةً وَوَهَمْت إلَيْهِ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ أَيْ ذَهَبَ وَهْمِي إلَيْهِ وَتَوَهَّمْت أَيْ ظَنَنْت.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


26-تاج العروس (شهد)

[شهد]: الشَّهَادةُ خَبَرٌ قاطعٌ، كذا في اللِّسَان، والأَساس. وقد شَهُدَ الرجلُ على كذا، كعَلِم وكَرُم شَهَدًا وشَهادةً، وقد تُسَكَّنُ هاؤُهُ للتخفيف عن الأَخفش. قال شيخنا: لأَن الثلاثي الحَلقيَّ العينِ الذي على فَعُل بالضّمّ، أَو فَعِلَ بالكسر، يجوز تسكينُ عينِه تخفيفًا مُطلقًا، كما في «الكافية» المالكية «والتسهيل» وشروحِهما، وغيرها، بل جَوَّزوا في ذلك أَربعَ لُغاتٍ: شَهِدَ، كفَرِح، وشَهْد، بسكون الهاءِ مع فتح الشين، وشِهْدَ، بكسرِها أَيضًا مع سكون الهاءِ، وشِهِدَ بكسرتين، وأَنشدوا:

إِذا غابَ عَنَّا غابَ عَنَّا رَبِيعُنا *** وإِن شِهْدَ أَجْدَى خَيْرُهُ ونوافِلُهْ

وشَهِدَه كسَمِعَه شُهُودًا أَي حَضَره، فهو شاهِدٌ، الجمع: شُهودٌ؛ أَي حُضُورٌ، وهو في الأَصل مصدر، وشُهَّدٌ أَيضًا، مثل رَاكِعٍ ورُكَّعٍ.

ويقال: شَهِدَ لزيد بكذا شَهَادةً؛ أَي أَدَّى ما عِندَهُ من الشَّهَادِة، فهو شاهِدٌ الجمع: شَهْدٌ، بالفتح، مثل صاحِب وصَحْب، وسافِرٍ وسَفْر، وبعضهم يُنكِره. وهو عند سيبويهِ اسمٌ للجَمْع، وقال الأَخفشُ هو جَمْعٌ، وجج؛ أَي جمع الجمْع: شُهُودٌ، بالضمّ وأَشْهَادٌ، ويقال إِن فَعْلًا بالفَتْح لا يُجمَع على أَفعال إِلّا في الأَلفاظ الثلاثة المعلومة لا رابعَ لها، نقله شيخُنَا.

واستَشْهَدَهُ: سأَله الشَّهَادةَ، ومنه لا أَسْتَشْهِدُه كاذِبًا. وفي القرآن: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} واستشهدتُ فُلانًا على فلانٍ: سأَلْته إِقامَةَ شَهادةٍ احتَمَلها. وأَشهَدْت الرجُلَ على إِقرارِ الغَرِيمِ، واستَشهَدْته، بمعنًى واحدٍ. ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ} أَي أَشْهِدُوا شاهِدَيْنِ.

والشَّهِيدُ وتُكْسَرُ شِينُه ـ قالَ اللّيْث: وهي لُغَة بني تميم، وكذا كُلّ فَعِيلٍ حَلْقِيِّ العَيْنِ، سواءٌ كان وصفًا كهذا، واسمًا جامدًا كرغِيف وبعِير. قال الهَمْدانيُّ في «إِعراب القرآن»: أَهلُ الحجاز وبنو أَسَدٍ يقولون: رَحِيم ورَغيف وبَعير، بفتح أَوائِلِهِنَّ. وقَيس، ورَبِيعَة، وتَمِيم، يقولون: رِحِيم ورِغِيف وبِعِير، بكسر أَوائلهنّ. وقال السُّهَيْليُّ في «الروض»: الكسر لغةُ تَمِيمٍ في كلِّ فَعِيلٍ عَيْنُ فعْله همزةٌ أَو غيرُهَا من حُرُوف الحَلْق، فيكسرون أَوّله، كرِحِيم وشِهِيد. وفي «شرح الدُّرَيْدِيَّة» لابن خالويه: كل اسمٍ على فَعِيل ثانيه حرْفُ حَلْقٍ يجوز فيه إِتباعُ الفاءِ العَيْنَ، كبِعِير وشِعِير ورِغِيف ورِحِيم. وحكى الشيخُ النّووِيُّ في «تحريره» عن الليث: أَنَّ قوْمًا من العرب يقولون ذلك وإِن لم يكن عينُه حَرْفَ حلْق، ككِبِير وكِرِيم وجِلِيل ونحْوِه. قلت: وهم بَنُو تَمِيم. كما تقدَّم. ـ الشَّاهِدُ وهو العالِم الّذي يُبيِّنُ ما عَلِمَه. قاله ابن سيده.

والشَّهِيدُ، في أَسماءِ الله تعالى: الأَمينُ في شَهادَةٍ، ونصّ التكملة: في شهادَتِه *. قاله أَبو إِسحاق وقال أَيضًا: وقيل: الشَّهِيد، في أَسمائِهِ تعالى: الذي لا يَغِيبُ عن عِلْمِهِ شَيْ‌ءٌ والشَّهِيدُ: الحاضِرُ. وفَعِيلٌ من أَبْنِيَةِ المبالغةِ في فاعِل، فإِذا اعتُبِر العِلمُ مُطْلَقًا فهو العَلِيمُ، وإِذا أُضِيفَ إِلى الأُمُورِ الباطِنَةِ فهو الخَبِيرُ، وإِذا أُضِيفَ إِلى الأُمورِ الظاهِرَةِ فهو الشَّهِيدُ. وقد يُعْتَبَرُ مع هذا أَن يَشْهَدَ على الخَلْقِ يومَ القيامَة.

والشَّهِيد، في الشَّرْع: القَتِيل في سَبِيلِ الله واختُلِف في سبب تَسميته فقيل: لأَنَّ ملائِكَةَ الرَّحْمَةِ تَشْهَدُهُ؛ أَي تَحْضُر غُسْلَه أَو نَقْلَ رُوحِهِ إِلى الجَنَّة، أَو لأَنَّ الله* وملائِكَتَه شُهودٌ له بالجَنَّةِ، كما قاله ابن الأَنبارِيّ. أَو لأَنّهُ مِمَّن يُسْتَشْهَدُ يومَ القِيَامَةِ مع النّبيِّ، صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم على الأُمَمِ الخالِيَةِ التي كَذَّبت أَنبياءَها في الدُّنيا. قال الله عزّ وجلّ: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وقال أَبو إِسحاق الزَّجَّاج: جاءَ في التفسير أَنَّ أُمَمَ الأَنبياءِ تُكَذِّبُ في الآخرةِ مَن أُرسِلَ إِليهم فيَجْحَدُون أَنبياءَهُم، هذا فيمن جَحَدَ في الدُّنْيا منهم أَمْرَ الرُّسلِ، فتَشْهَدُ أُمَّةُ محمّدٍ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم بصِدْق الأَنبياءِ، وتَشْهَدُ عليهم بتَكْذِيبِهم، ويَشهَدُ النَّبيُّ، صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، لهذه الأُمّةِ بصِدْقِهِم. قال أَبو منصور: والشَّهادةُ تكون للأَفضلِ فالأَفضلِ من الأُمّةِ، فأَفْضَلُهم مَن قُتِلَ في سبيلِ اللهُ، مُيِّزُوا عن الخَلْق بالفَضْل، وبيَّن الله أَنَّهُم {أَحْياءٌ [عِنْدَ رَبِّهِمْ]} {يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} ثم يَتْلُوهُم في الفَضْلِ مَن عَدَّه النَّبيُّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم شَهِيدًا، فإِنه قال: «المَبْطُونُ شَهِيدٌ، والمَطْعُون شَهِيد» قال: ومنهم أَن تموتَ المَرْأَةُ بِجُمْع. وقال ابن الأُثير: الشَّهِيد في الأَصل: من قُتِلَ مُجَاهِدًا في سَبِيلِ اللهِ، ثمّ اتُّسِعَ فيه فأُطْلِقَ على مَن سَمَّاه النَّبيُّ، صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، مِن المَبْطُون والغَرِقِ والحَرِقِ وصاحِب الهَدْم وذاتِ الجَنْب وغيرهم. أَو لِسُقُوطِهِ على الشَّاهِدَةِ؛ أَي الأَرضِ، نقله الصاغانيُّ أَو لأَنّه حَيُّ لم يَمُتْ، كأَنّه عِنْدَ رَبّهِ شاهدٌ؛ أَي حاضِرٌ، كذا جاءَ عن النَّضْر بن شُمَيْل. ونقله عنه أَبو داوود. قال أَبو منصور: أُراه تَأَوَّلَ قولَ اللهِ عَزَّ وجلُّ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} كأَنَّ أَرواحَهم أُحْضِرَت دارَ السَّلامِ أَحياءً، وأَرواحُ غيرِهم أُخِّرَت إِلى البَعْثِ. قال: وهذا قولٌ حَسَنٌ. أَو لأَنَّه يَشْهَدُ مَلَكُوتَ الله ومُلْكَهُ، المَلَكُوت: عالَمُ الغَيْبِ المُخْتَصُّ بأَرْوَاحِ النُّفُوسِ. والمُلْكُ: عالَمُ الشَّهادةِ من المَحْسوساتِ الطّبيعيّة. كذا في تعريفات المناويّ.

فهذه سِتَّةُ أَوْجُهٍ في سَببِ تَسمِيةِ الشَّهِيد. وقيل: لِقيامه بشهادَةِ الحَقِّ، في أَمْرِ الله، حتَّى قُتِل. وقيل: لأَنّه يَشْهَدُ ما أَعدَّ اللهُ له من الكرامةِ بالقَتْلِ. أَو لأَنّه شَهِدَ المغَازِيَ. أَو لأَنّه شُهِدَ له بالإِيمانِ وخاتِمةِ الخَيْرِ بظاهرِ حالِه، أَو لأَنّ عليه شاهِدًا يَشْهَدُ بِشَهادَتِه، وهو دَمُه.

وهذِه خَمْسَةُ أَوجهٍ أُخْرَى، فصار المجموع منها أَحدَ عَشَرَ وَجْهًا. وما عدا ذلك فمرجوعٌ إِلى أَحدِ هؤلاءِ عند المتأَمِّل الصادق.

قال شيخُنا: وقد اختَلَفُوا في اشتقاقه، هل هو من الشَّهَادة، أَو من المُشَاهَدة، أَو الشُّهُود، أَو هو فَعِيل بمعنَى مفعولٍ، أَو بمعنى فاعل. وذكروا لكُلٍّ أَوْجُهًا. أَكثر ذلك مُحَرَّرًا مُهذبًا الشيخُ أَبو القاسم السُّهيليّ في «الروض الأُنُف» بما لا مَزِيد عليه.

ج: شُهَداءُ، وفي الحديث: «أَرْوَاحُ الشُّهَداءِ في حَواصِلِ طَيْرٍ خضْرٍ تَعْلُق من وَرَقِ الجَنَّةِ».

والاسمُ: الشَّهَادةُ وقد سَبقَت الإِشارةُ إِلى الاختلاف فيه تقريبًا.

وأَشْهَدُ بكذا: أَحْلِفُ.

قال المصنِّف في «بصائِرِ ذَوِي التمييز» قولهم شَهِدْت: يُقال على ضَرْبَيْن: أَحدهما جارٍ مَجْرَى العِلْم، وبِلَفْظِه تُقام الشهادةُ، يقال: أَشْهَد بكذا، ولا يُرْضَى من الشاهِدِ أَن يَقول: أَعلَم، بل يُحتاج أَن يقول أَشْهد. والثاني يجْرِي مَجْرَى القَسَمِ، فيقول: أَشْهَد بالله إِنّ زيدًا مُنْطَلِقٌ. ومنهم من يقول: إِنْ قال أَشْهَدُ، ولم يَقُل: بالله، يكون قَسَمًا ويَجْرِي «عَلِمت» مَجْرَاه في القَسَم فيُجَاب بجواب القسم، كقوله:

ولقد عَلِمْتُ لتَأْنِيَنَّ عَشِيَّةً

وشاهَدَهُ مُشَاهدةً: عايَنَهُ كشَهِده.

والمُشَاهَدةُ: مَنزِلةٌ عالِيَةٌ من منازِل السَّالِكينَ وأَهْلِ الاستِقَامَةِ، وهي مُشاهَدةُ معاينةٍ تلبس نُعوتَ القُدُسِ، وتَخْرس أَلسنة الإِشاراتِ، ومُشَاهدة جمْعٍ تجْذب إِلى عَيْنِ اليَقِين، وليس هذا مَحلَّ إِشاراتها.

وامرأَةٌ مُشْهِدٌ، بغير هاءٍ: حَضَر زَوْجُها، وامرأَةٌ مُغِيبةٌ: غابَ عنها زَوْجُها، وهذه بالهاءِ: هكذا حُفِظ عن العرب، لا على مذهب القياس.

والتَّشَهُّدُ في الصَّلاةِ، م، معروف وهو قراءَة: «التَّحِيّاتُ للهِ». واشتقاقُه من أَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلّا اللهُ، وأَشهد أَنَّ محمَّدًا عبدُه ورسُولُه. وهو تَفَعُّل من الشَّهَادَةِ، وهو من الأَوْضَاعِ الشّرعيّة.

والشَّاهِدُ: من أَسماءِ النّبيِّ، صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، قال اللهُ عَزَّ وجلّ {إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا} أَي على أُمَّتِك بالإِبْلاغِ والرِّسالَة، وقيل مُبَيِّنًا.

وقال تعالى: {وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قال المُفسِّرون: الشاهد: هو النّبِيّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم.

والشاهد: اللِّسَانُ من قولهم: لفُلانٍ شاهِدٌ حَسَنٌ؛ أَي عِبارةٌ جَمِيلةٌ. وقال أَبو بكر، في قولهم: «ما لِفلان رُوَاءٌ ولا شَاهِدٌ»، معناه: ما لَهُ مَنْظَرٌ ولا لِسانٌ.

والشاهِدُ: المَلَكُ، قال مُجاهد: {وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ}؛ أَي حافِظٌ مَلَكٌ، قال الأَعشَى:

فلا تَحْسَبَنِّي كافرًا لكَ نِعْمَةً *** عَلَى شاهِدِي يا شاهِدَ اللهِ فاشْهَدِ

وقال الفرّاءُ: الشّاهِدُ: يَوْمُ الجُمْعَةِ، و‌رَوَى شَمِرٌ، في حديث أَبي أَيُّوبَ الأَنصاريّ: «أَنّه ذَكَرَ صَلَاةَ العَصْرِ ثم قال: ولا صَلاةَ بَعْدَها حَتَّى يُرَى الشَّاهِدُ. قال: قلنا لأَبي أَيُّوبَ: ما الشَّاهِدُ؟ قال: النَّجْمُ كأَنَّه يَشْهَدُ في الليلِ؛ أَي يَحْضُر ويَظْهَرُ.

والشَّاهِد: ما يَشْهَد على جَوْدَةِ الفَرَسِ وسَبْقِه مِن جَرْيِهِ، فسّره ابنُ الأَعرابيّ، وأَنشد لسُوَيْدِ بنِ كُرَاعَ في صِفَةِ ثَوْر:

ولو شَاءَ نَجَّاهُ فلم يَلْتَبِسْ بِهِ *** له غائِبٌ لم يَبْتَذِلْهُ وشاهِدُ

وقال غيره: شاهِدُه: بَذْلُه جَرْيَه، وغائِبُه: مَصُونُ جَرْيِهِ.

والشَّاهِدُ شِبْهُ مُخَاطٍ يَخْرُج مع الوَلَدِ، وجمْعُه شُهُودٌ، قال حُمَيْد بن ثَوْرٍ الهِلالِيّ:

فجاءَتْ بِمِثْلِ السَّابِرِيِّ تَعَجَّبُوا *** له والثَّرَى ما جَفَّ عَنْهُ شُهُودُهَا

قال ابن سِيده: الشُّهُود: الأَغراسُ الّتِي تكون على رأْسِ الحُوَار.

والشَّاهِد من الأُمورِ: السَّرِيعُ.

وصَلاةُ الشاهِدِ: صَلَاةُ المَغْرِبِ، قال شَمِرٌ: هو راجِعٌ إِلى ما فَسَّرَه أَبو أَيُّوبَ أَنَّهُ النَّجْمُ. قال غَيره: وتُسَمَّى هذه الصّلاةُ صَلَاةَ البَصَرِ، لأَنّه يُبْصَرُ في وَقْته نُجومُ السماءِ، فالبَصَرُ يُدْرِكُ رُؤيَة النَّجْمِ، ولذلك قيلَ له: صلاةُ البَصَرِ، وقيل في صلاة الشّاهد: إِنّها صلاةُ الفَجْرِ، لأَن المُسَافِرَ يُصَلِّيها كالشَّاهِدِ لَا يَقْصُرُ منها، قال:

فَصَبَّحَتْ قَبْلَ أَذانِ الأَوَّلِ *** تَيْمَاءَ والصُّبْحُ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ

قَبْلَ صَلَاةِ الشَّاهِدِ المُسْتَعْجِلِ

ورُوِيَ عن أَبي سَعِيد الضَّرِيرِ أَنه قال: صَلَاةُ المَغْربِ تُسمَّى شاهدًا، لاسْتِوَاءِ المُقِيمِ والمُسَافِرِ فيها، وأَنّهَا لا تُقْصَر. قال أَبو منصور: والقَوْلُ الأَوّلُ، لأَنَّ صلَاةَ الفَجْر لا تُقْصَرُ أَيضًا، ويَسْتَوِي فيها الحاضِرُ والمسافِرُ، فلم تُسَمَّ شاهِدًا.

والمَشْهُود: يَوْمُ الجُمُعَة، أَو يومُ القِيَامَةِ، أَو يَوْمُ عَرَفَةَ، الأَخير قاله الفرّاءُ، لأَنّ الناسَ يَشْهَدُون كُلَّا منها، ويَحضُرون بها، ويجمَعُون فيها. وقال بعضُ المفسِّرين: الشاهد: يَوْمُ الجُمُعةِ، والمشهود: يَوْمُ القيامةِ. والشَّهْدُ: العَسَلُ ما دام لم يُعْصَر من شَمَعِه، بالفتح لتميم، ويُضَمُّ لأَهْل العالِيَة، كما في المصباح، واحدته شَهْدة وشُهْدة.

وقيل: الشُّهْدة أَخَصُّ، ج: شِهَادٌ، بالكسر، قال أُمَيَّةُ [بن أَبي الصلت].

إِلى رُدُحٍ من الشِّيزَى مِلَاءٍ *** لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بالشِّهَادِ

أَي من لُبابِ البُرّ.

والشَّهْد: ماءٌ لبني المُصْطَلِقِ من خُزَاعَةَ، نقله الصاغانيّ.

وفي التنزيل العزيز شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ سَأَلَ المُنْذِرِيّ أَحمدَ بنَ يحيى عن معناه فقال: أَي عَلِمَ الله، وكذا كلُّ ما كانَ {شَهِدَ اللهُ}، في الكتاب أَو قالَ اللهُ يكون معناه عَلِمَ الله، أو كَتَبَ الله، قاله ابن الأعرابيّ. وقال ابن الأَنباريّ: معناه بَيَّن الله أَن لا إِله إِلّا هُوَ.

وقال أَبو عبيدة: معنى {شَهِدَ اللهُ}: قَضَى الله، وحقيقَتُه: عَلِمَ الله، وبَيَّنَ الله، لأَنَّ الشاهِدَ هو العالِمُ الّذِي يُبَيِّنُ ما عَلِمَه، فالله قد دَلَّ على تَوحيدِهِ بجميع ما خَلَقَ، فَبَيَّن أَنه لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَن يُنْشِئَ شيئًا واحدًا مِمَّا أَنشأَ، وشَهدَت المَلَائِكَةُ لما عايَنَتْ من عَظيمِ قُدْرَتِه، وشَهِد أُولو العِلْمِ بما ثَبَت عِنْدَهم وَتَبيَّن مِن خَلْقِه الّذِي لا يَقْدِرُ عليه غيرُه. وقال أَبو العَبَّاسِ: {شَهِدَ اللهُ}: بَيَّن الله وأَظْهَرَ. وشَهِدَ الشاهِدُ عند الحاكِمِ؛ أَي بَيَّن ما يَعْلَمُه وأَظْهَرَه.

وفي قَولِ المؤذِّنِ: أَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلّا الله وأَشهَدُ أَنَّ محمدًا رسولُ الله. قال أَبو بكر بن الأَنباريِّ: أَي أَعْلَمُ أَن لا إِلهَ إِلّا الله وأُبَيِّنُ أَن لا إِلهَ إِلا الله.

وأَشْهَدَهُ إِمْلَاكَه: أَحْضَرَهُ. وأَشْهَدَ فُلَانٌ: بَلَغَ، عن ثَعْلَبَ. وأَشْهَدَ: اشْقَرَّ، واخضَرَّ مِئْزَرُه. وأَشْهَدَ: أَمْذَى، كشَهَّدَ تَشْهِيدًا، وهذه عن الصاغانيّ، إِلا أَنه قال في تفسيره: أَكْثَرَ مَذْيَه. والمَذْيُ عُسَيلةٌ.

وعن أَبي عمرٍو: أَشْهَدَ الغُلامُ، إِذا أَمْذَى وأَدرَكَ، وأَشْهَدَت الجاريةُ إِذا حاضَتْ وأَدْرَكَتْ، وأَنشد:

قامَتْ تُنَاجِي عامِرًا فأَشهَدَا *** فَدَاسَها لَيْلَتَهُ حَتَّى اغْتَدَى

وعن الكسائيّ: أُشْهِدَ الرَّجلُ، مجهولًا: قُتِلَ في سبيلِ الله شَهِيدًا كاستُشْهِدَ: رُزِقَ الشَّهَادَة فهو مُشْهَدٌ، كمُكْرَمٍ، وأَنشد:

أَنا أَقُولُ سأَمُوتُ مُشْهَدَا

والمَشْهَد، والمَشْهَدةُ، والمَشْهُدَةُ بالفتح في الكلّ، وضَمّ الهاءِ في الأَخير، الأَخِيرَتَان عن الفَرّاءِ في نوادره مَحْضَرُ الناسِ ومَجْمَعُهم. ومَشَاهِدُ مكَّةَ: المواطِنُ الّتي يَجتمعون بها، من هذا.

وشُهُودُ النّاقَةِ بالضّمّ: آثَارُ مَوْضِعِ مَنْتِجها؛ أَي المَوْضِع الّذي أُنْتِجَت فيه، من دَمٍ أَو سَلًى وفي بعض النُّسخ: من سلًى أَو دَمٍ.

وكزُبَيْرٍ: الشيخ الزَّاهِدُ عُمَرُ، هكذا في النُّسخ.

والصواب: عُمَيْر بن سَعْدِ بنِ شُهَيْدِ بن عَمْرٍو أَميرُ حِمْصَ صحابِيٌّ وكان يقال له: نَسِيجُ وَحْدِه. وأُخْتُه سَلَّامةُ بنْت سَعْد، لها ذِكْر.

وأَبو عامر أَحمدُ بنُ عبدِ الملك بنِ أَحمدَ بنِ عبد المَلِك بن عمر بن محمّد بن عيسى بن شُهَيْدٍ الأَشْجَعِيّ الأَديبُ مؤلّف كتاب «حانُوت العَطَّار». وُلِدَ بِقُرْطُبَة سنة 372 ووَرِث الرُّتْبَةَ والجَلالَةَ عن أَسْلافِه، وتوفِّي سنة 426، وعلى رُخَامةِ قَبْرِه من شِعْرِهِ:

يا صاحِبي قُمْ فقَد أَطَلْنا *** أَنَحْنُ طُولَ المَدَى هُجُودُ

فقال لِي لنْ نقومَ منها *** ما دامَ مِن فَوقِنا الجَليدُ

تَذْكُرُ كَمْ لَيلةٍ نَعِمْنا *** في ظِلِّهَا والزَّمانُ عِيدُ

وكَمْ سُرورٍ هَمَى علينا *** سَحابُهُ بِرُّهُ يَجُود

كُلُّ كأَنْ لم يَكُنْ تَقَضَّى *** وشُؤْمُه حاضرٌ عَتِيدُ

حَصَّلَه كاتِبٌ حَفِيظ *** وضَمَّه صادِقٌ شَهِيد

يا وَيْلَنَا إِن تَنَكَّبَتْنا *** رَحْمةُ مَنْ بَطْشُهُ شَدِيدُ

يا ربِّ عَفْوًا فأَنتَ مَوْلَى *** قَصَّرَ في أَمْرِكَ العَبِيدُ

وأَبوه أَبو مَروان، عبدُ الملك بن أَحمد بن عبد الملك بن شُهَيْد القُرْطُبِيّ رَوَى عن قاسم بن أَصْبَغ وغيره، ومات سنة 393. وعبدُ الملك بن مَرْوَان بن شُهَيْد، أَبو الحسن القُرْطبيّ مات سنة 408 ذَكَرهما ابن بَشْكُوال.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الشَّهادة اليَمينُ، وبه فُسِّر قولُه تعالى: {فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ}.

والمَشْهُود: صَلَاةُ الفَجْرِ. و {يَوْمٌ مَشْهُودٌ}: يَحْضُره أَهلُ السماءِ والأَرضِ.

والأَشْهَاد: الملائِكَةُ، جمْع شاهِدٍ، كناصِر وأَنصار، وقيل: هم الأَنبياءُ.

و {فَمَنْ} {شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} أَي مَن شَهِد منكم المِصْرَ في الشَّهْر.

والشَّهَادَة: المَجْمَعُ من الناس.

والمَشْهودةُ: هي المَكتوبةُ؛ أَي يَشْهَدها الملائِكةُ، ويُكْتَب أَجْرُها للمُصَلِّي.

قال ابن سيده: والشاهِدُ: من الشَّهَادة عند السُّلطان، لم يُفسِّره كُراع بأَكثرَ من هذا.

وتَشهَّدَ: طَلَبَ الشَّهادَةَ.

ومُنْيَة شَهَادةَ: قَرْيَة بمصر.

وذو الشَّهَادَتَيْن: خُزَيمةُ بن ثابتٍ.

والشاهِد بن غافِقِ بن عَكٍّ من الأَزْد.

وشُهْدَةُ، الكاتبة، بالضّمّ: معروفة، وبالفتح: أَبو اللَّيْث عَتِيقُ بن أَحمد الصُّوفِيّ، صاحب شهْدة حَدّث بمصر عن أَحمدَ بن عَطاءٍ الرُّوذَبارِيّ، وأَحمد بن حسن بن عليٍّ المصريّ، عُرِف بابْن شَهْدَة، من شُيوخِ الرَّشيد العَطَّار.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


27-تاج العروس (شطر)

[شطر]: لشَّطْرُ: نِصْفُ الشَّيْ‌ءِ، وجُزْؤُه، كالشَّطِيرِ، ومِنْهُ المَثَلُ «أَحْلُبُ حَلَبًا لك شَطْرُه». وحديث سعد: «أَنّه اسْتَأْذَنَ النبيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم أَنْ يَتَصَدّقَ بمالِه، قال: لا، قال: فالشَّطْرُ، قال: لا، قالَ: الثُّلُث فقال: الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كثيرٌ». وحديثُ عائشَة: «كَانَ عِنْدَنَا شَطْرٌ مِنْ شَعِير» وفي آخر: «أَنّه رَهَنَ دِرْعَه بشَطْر مِنْ شَعِير»، قيل: أَرادَ نِصْفَ مَكُّوكٍ، وقيلَ: نصْفَ وَسْقٍ، وحَدِيثُ الإِسْراءِ: «فَوَضَعَ شَطْرَهَا». أَي الصَّلاة أَي بَعْضَها. وكذا حديثُ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمانِ»؛ لأَنّ الإِيمانَ يَظْهَرُ بحاشِيَةِ الباطنِ، والطُّهُور يَظْهَرُ بحاشيةِ الظَّاهِر.

الجمع: أَشْطُرٌ وشُطُورٌ.

والشَّطْرُ: الجِهَةُ والنَّاحِيَةُ ومنه قولُه تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} وإِذَا كانَ بهذا المَعْنَى فلا يَتَصَرَّفُ الفِعْلُ مِنْه قال الفَرّاءُ: يريدُ: نَحْوَه وتِلْقَاءَهُ، ومثله في الكلام: وَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَه وتُجَاهَهُ، وقال الشَّاعِرُ:

إِنّ العَسِيرَ بها دَاءٌ مُخَامِرُها *** فَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ

وقال أَبو إِسْحَاق: الشَّطْرُ: النَّحْوُ، لا اختلافَ بينَ أَهلِ اللُّغَة فيه، قال: ونُصِبَ قولُه عزّ وجلّ: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} على الظَّرْفِ.

أَو يُقَالُ: شَطَرَ شَطْرَه؛ أَي قَصَدَ قَصْدَه ونَحْوَه.

والشَّطْرُ: مصْدَر شَطَرَ النّاقَةَ والشّاةَ يَشْطُرُها شَطْرًا: أَنْ تَحْلُبَ شَطْرًا، وتَتْرُكَ شَطْرًا، وللنَّاقةِ شَطْرانِ: قادِمَانِ، وآخِرانِ، وكُلُّ* خِلْفَيْنِ شَطْرٌ والجمع أَشْطُرٌ.

وشَطَّرَ بِنَاقَتِه تَشْطِيرًا: صَرَّ خِلْفَيْها، وتَرَك خِلْفَيْنِ، فإِنْ صَرَّ خِلْفًا واحدًا قِيلَ: خَلَّفَ بها، فإِنْ صَرَّ ثلاثَةَ أَخْلافٍ، قيل ثَلَث بها، فإِذا صَرَّها كُلَّها قيل: أَجْمعَ بها، وأَكْمَشَ بها.

وشَطَّرَ الشَّيْ‌ءَ تَشْطِيرًا: نَصَّفَه، وكل ما نُصِّفَ فقد شُطِرَ.

وشَاةٌ شَطُورٌ، كصَبُورٍ: يَبِسَ أَحدُ خِلْفَيْهَا.

ونَاقَةٌ شَطُورٌ: يَبِسَ خِلْفَانِ من أَخْلافِها؛ لأَنّ لها أَرْبَعَةَ أَخْلاف، فإِنْ يَبِسَ ثلاثَةٌ فهي ثَلُوثٌ.

أَو شاةٌ شَطُورٌ، إِذا صارَتْ أَحَدُ طُبْيَيْهَا أَطْوَلَ من الآخَرِ، وقد شَطرَت، كنَصَرَ وكَرُمَ شِطَارًا.

وثَوْبٌ شَطُورٌ؛ أَي أَحَدُ طَرَفَيْ عَرْضِه كذلِكَ؛ أَي أَطْوَلُ من الآخر، قال الصّاغاني: ويقال له بالفارسيّة «كُوسْ»، بضَمّةٍ غير مُشْبَعَة.

ومن المَجَاز: قولُهُم: حَلَبَ فُلانٌ الدَّهْرَ أَشْطُرَه؛ أَي خَبَرَ ضُرُوبَه، يعنِي مَرَّ بِه خَيْرُه وَشَرُّه وشِدَّتُه ورَخَاؤُه، تَشْبِيهًا بحَلْبِ جميعِ أَخْلافِ النّاقَةِ ما كان منها حَفِلًا وغير حَفِل، ودَارًّا وغيرَ دَارٍّ، وأَصلُه من أَشْطُرِ النّاقَة، ولها خِلْفَانِ قادمَان وآخَرَان، كأَنَّه حَلَبَ القَادِمَيْنِ، وهما الخَيْرُ، والآخِرَيْنِ، وهما الشَّرّ. وقيل: أَشْطُرُه: دِرَرُه.

ويُقَال أَيضًا: حَلَبَ الدَّهْرَ شَطْرَيْه.

وفي الكامل للَمُبَرّد: يُقَال للرَّجُل المُجَرِّب للأُمورِ: فلانٌ قد حَلَبَ [الدَّهَر] أَشْطُرَه؛ أَي قد قاسَى الشَّدَائِدَ والرّخاءَ، وتصَرّفَ في الفَقْرِ والغنَى، ومعنَى قوله: أَشْطُره، فإِنما يُريدُ خُلُوفَه، يقول: حَلَبْتُها شَطْرًا بعد شَطْر، وأَصلُ هذا من التَّنْصِيفِ؛ لأَنَّ كلَّ خِلْفٍ عَدِيلٌ لصاحِبِه. وإِذا كانَ نِصْفُ وَلَدِكَ ذُكُورًا ونِصْفُهُم إِناثًا فَهُمْ شِطْرَةٌ، بالكَسْرِ يقال: وَلَدُ فُلانٍ شِطْرَة.

وإِناءٌ شَطْرَانُ، كسَكْرَانَ: بَلَغَ الكَيْلُ شَطْرَهُ، وقَدَحٌ شَطْرانُ؛ أَي نَصْفَانُ وكذلك جُمْجُمَةٌ شَطْرَى، وقَصْعَةٌ شَطْرَى.

وشَطَرَ بَصَرُهُ يَشْطِرُ شُطُورًا بالضَّمّ، وشَطْرًا: صار كأَنَّهُ يَنْظُر إِليكَ وإِلى آخَرَ، رواه أَبُو عُبَيْد عن الفَرّاءِ، قاله الأَزهريّ، وقد تقَدَّم قريبًا.

والشَّاطِرُ: مَنْ أَعْيَا أَهْلَهُ ومُؤَدِّبَه خُبْثًا ومَكْرًا، جمعُه الشُّطّارُ، كرُمّان، وهو مأْخُوذٌ من شَطَرَ عنهم، إِذا نَزَحَ مُرَاغِمًا، وقد قيل: إِنّه مُوَلّد.

وقد شَطرَ، كَنصَرَ وكَرُمَ، شَطَارَةً، فيهِمَا؛ أَي في البابين، ونقل صاحبُ اللسان: شُطُورًا أَيضًا.

وشَطَرَ عنهُم شُطُورًا وشُطُورَةً، بالضمّ فيهما، وشَطَارَةً، بالفَتْحِ إِذا نَزَحَ عَنْهُمْ وتَركَهُم مُراغِمًا أَو مُخالِفًا، وأَعياهُم خُبْثًا.

قال أَبو إِسحاق: قَوْلُ الناس: فلانٌ شاطِرٌ: معناه أَنه آخِذٌ في نَحْوٍ غيرِ الاستواءِ، ولذلك قيل له: شاطِرٌ؛ لأَنه تَبَاعَدَ عن الاسْتِواءِ.

قلْت: وفي جَواهِرِ الخمس للسَّيّد محمّد حَمِيد الدّين الغَوْث ما نصُّه: الجَوْهَرُ الرابِع مَشْرَبُ الشُّطَّار، جمع شاطِر؛ أَي السُّبَّاقِ المُسْرِعِينَ إِلى حَضْرة الله تعالَى وقُرْبِه، والشَّاطِرُ: هو السّابِقُ، كالبَرِيدِ الذي يَأْخُذُ المَسَافَةَ البعيدَةَ في المُدَّةِ القَريبةِ، وقال الشيخُ في مَشْرَبِ الشُّطّار: يَعْنِي أَنه لا يَتَوَلّى هذِه الجهَةَ إِلّا مَنْ كَانَ مَنْعُوتًا بالشّاطر الذي أَعْيَا أَهْلَه ونَزَحَ عنهُم، ولو كانَ معهم، إِذْ يَدْعُونَه إِلى الشَّهَوات والمَأْلُوفاتِ، انتهى.

والشَّطِيرُ كأَمِير: البَعِيدُ يقال: مَنْزِلٌ شَطِيرٌ، وحَيٌّ شَطِيرٌ، وبَلَدٌ شَطِيرٌ.

والشَّطِيرُ: الغَرِيبُ، والجمع الشُّطُرُ، بضمّتين، قال امرُؤُ القَيْس:

أَشَاقَكَ بيْنَ الخَلِيطِ الشُّطُرْ *** وفِيمَنْ أَقامَ من الحَيِّ هِرّ

أَرادَ بالشُّطُرِ هنا المُتَغَرِّبينَ، أَو المُتَعَزِّبينَ، وهو نَعْتُ الخَلِيطِ.

ويقالُ للغَرِيب: شَطِيرٌ؛ لِتَبَاعُدِه عن قَوْمه، قال:

لا تَدَعَنِّي فيهِمُ شَطِيرَا *** إِنِّي إِذًا أَهْلِكَ أَو أَطِيَرا

أَي غَرِيبًا، وقال غَسَّانُ بنُ وَعْلة:

إِذَا كُنْتَ في سَعْدٍ وأُمُّكَ مِنْهُمُ *** شَطِيرًا فلا يَغْرُرْكَ خالُكَ من سَعْدِ

وإِنَّ ابنَ أُخْتِ القَوْمِ مُصْغًى إِناؤُه *** إِذا لَمْ يُزَاحِمْ خَالَهُ بأَبٍ جَلْدِ

يقول: لا تَغْتَرَّ بخُؤلَتِكَ؛ فإِنَّك منقُوصُ الحَظِّ ما لم تُزَاحِمْ أَخوالَك بآباءٍ شِرافٍ، وأَعمامٍ أَعِزَّة، وفي حديث القاسِمِ بنِ مُحمّد: «لو أَنّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا على رَجُلٍ بحَقٍّ، أَحدُهُما شَطِيرٌ أَي غَرِيبٌ، يعني: لو شَهِدَ له قَرِيبٌ من أَبٍ أَو ابْنٍ أَو أَخٍ، ومعه أَجْنَبِيٌّ صَحَّحَت شهادَةُ الأَجْنَبِيّ شهادَةَ القَرِيبِ، ولعلّ هذا مذهَبُ القاسِمِ، وإِلّا فشهادَةُ الأَبِ والابنِ لا تُقْبَلُ.

والمَشْطُورُ: الخُبْزُ المَطْلِيُّ بالكامَخِ أَورده الصّاغاني في التَّكْمِلَةِ.

والمَشْطُورُ من الرَّجَزِ والسَّرِيعِ: ما ذَهَبَ شَطْرُه، وذلِكَ إِذا نَقَصَتْ ثلَاثَةُ أَجزاءٍ من سِتَّتِه، وهو على السَّلْبِ، مأْخُوذُ من الشَّطْرِ بمعنَى النِّصْفِ، صرَّح به المُصَنّف في البَصائِر.

ونَوًى شُطُرٌ، بضمَّتَيْنِ: بعِيدَةٌ.

ونِيَّةٌ شَطُورٌ؛ أَي بَعيدَةٌ.

وشَطَاطِيرُ: كُورَةٌ غَرْبيَّ النّيلِ بالصَّعِيدِ الأَدْنَى، وهي التي تُعرَف الآنَ بشَطُّورات، وقد دَخلْتُها، وقد تُعَدّ في الدِّيوان من الأَعمال الأَسْيوطِيّة الآن.

وشاطَرْتُه مالِي: ناصَفْتُه، أي قاسَمْتُه بالنِّصف، وفي المُحْكَمِ: أَمْسَكَ شَطْرَه وأَعطاه شَطْرَه الآخَر.

ويقال: هُمْ مُشَاطِرُونَا؛ أَي دُورُهُم تَتَّصِلُ بدُورِنَا، كما يقال: هؤُلاءِ مُنَاحُونَا، أي نَحْنُ نَحْوَهم وهم نَحْوَنا.

وفي حَدِيثِ مانِع الزَّكاة قَوْلُه صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم «مَنْ مَنَعَ صَدقَةً فإِنّا آخِذُوهَا وشَطْرَ مالِهِ، عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا».

قال ابنُ الأَثِيرِ: قال الحَرْبِيّ: هكَذَا رَواه بَهْزٌ راوِي هذا الحَدِيثِ، وقَدْ وُهِّمَ. ونصُّ الحَرْبِيّ: غَلِطَ بَهْزٌ في لفْظِ الرّوَايَة، إِنَّمَا الصّوابُ «وشُطِرَ مالُه»، كعُنِيَ، أي جُعِلَ مالُه شَطْرَيْنِ، فيتَخَيَّرُ عليه المُصَدِّقُ، فيأْخُذُ الصَّدَقَةَ من خَيْرِ الشَّطْرَينِ أَي النِّصْفَيْن عُقُوبَةً لمَنْعِه الزَّكاةَ، فأَمّا ما لا يَلْزَمُه فلا، قال: وقالَ الخَطّابِيّ ـ في قَوْلِ الحَرْبِيّ ـ: لا أَعْرِفُ هذا الوَجْهَ. وقيل: معناه أَنَّ الحَقَّ مُسْتَوْفًى منه غير مَتْرُوكٍ عليه وإِنْ تَلِفَ شَطْرُ مالِه، كرَجلٍ كان له أَلْفُ شاة فتَلفَتْ حتّى لم يَبْقَ له إِلّا عِشْرُون، فإِنّه يُؤْخَذُ منه عَشْرُ شياهٍ لصدَقِة الأَلفِ، وهو شَطْرُ ماله الباقي، قال: وهذا أَيضًا بعيدٌ؛ لأَنّه قالَ: «إِنَّا آخِذُوها وشَطْرَ ماله»، ولم يقل «: إِنَّا آخِذُو شَطْرِ مالِه». وقيل: إِنه كانَ في صَدْرِ الإِسلامِ يَقْعُ بعضُ العُقُوباتِ في الأَموالِ ثمّ نُسِخَ، كقولِه في الثَّمَرِ المُعَلَّقِ: «مَنْ خَرَج بشْي‌ءٍ منه فعليهِ غَرامَةُ مِثْلَيْه والعُقْوبة» وكقوله في ضالَّةِ الإِبِلِ المَكْتُومَةِ «غَرَامَتُهَا ومِثْلُها مَعَها»، فكان عُمَر يَحْكم به فَغَرَّمَ حاطِبًا ضِعْفَ ثَمَنِ ناقَةِ المُزَنِيّ لمَّا سَرَقَهَا رَقِيقُه ونَحَرُوهَا، قال: وله في الحديثِ نظائِرُ. قال: وقد أَخَذَ أَحمدُ بنُ حَنْبَلٍ بشيْ‌ءٍ من هذا وعَمِلَ به.

وقال الشّافِعِيّ في القديم: مَنْ منَعَ زكَاةَ مَالِه أُخِذَت منه، وأُخِذَ شَطْرُ مالِهِ عُقُوبَةً على مَنْعِه. واستدَلّ بهذا الحديثِ، وقال في الجَدِيدِ: لا يُؤْخَذُ منه إِلّا الزَّكَاةُ لا غَيْرُ، وجعَلَ هذا الحديثَ منْسُوخًا وقال: كان ذلك حيثُ كانَت العُقُوبَاتُ في الأَموالِ، ثم نُسِخَت.

ومَذْهبُ عامّةِ الفقهاءِ أَنْ لا وَاجِبَ على مُتْلفِ الشيْ‌ء أَكثَرُ مِنْ مثْلِه أَو قِيمَته.

وإِذا تأَمّلْتَ ذلك عَرفْتَ أَنّ ما قَالَه الشيخُ ابنُ حَجَرٍ المَكِّيّ ـ في شرح العُبَاب، وذكر فيه: في القاموس ما فيه نَظَرٌ ظاهرٌ فاحْذَرْه، إِذْ يَلْزَمُ على تَوْهِيمِه لبَهْزٍ راوِيه تَوْهِيم الشَّافِعِيّ الآخذِ به في القديم، وللأَصحابِ فإِنّهُم مُتَّفقُون على أَنّ الروايَةَ كما مَرّ من إِضافَةِ شَطْرٍ، وإِنما الخلافُ بينهم في صِحَّةِ الحديثِ وضَعْفِه، وفي خلوّه عن مُعَارِضٍ وعدمه، انتهى ـ لا يخلُو عن نَظَرٍ من وُجُوهٍ، مع أَنّ مثلَ هذا الكلام لا تُرَدُّ به الرّوايات، فتأَمّل.

* ومّما يُسْتَدْرَكُ عليه:

شَطَرْتُه: جَعلْتُه نِصْفَيْن.

ويقال: شِطْرٌ وشَطِيرٌ مثْل نِصْفٍ ونَصِيفٍ.

وشَطْرُ الشَّاةِ: أَحَدُ خِلْفَيْهَا، عن ابن الأَعرابيّ.

والشَّطْرُ: البُعْدُ.

وأَبو طَاهِرٍ محمّدُ بنُ عبدِ الوَهّابِ بنِ مُحَمَّد، عُرِفَ بابنِ الشَّاطِرِ، بغدادِيّ، عن أَبِي حَفْصِ بنِ شاهِين، وعنه الخَطِيب.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


28-تاج العروس (غطف)

[غطف]: الغَطَفُ، مُحرَّكَةً: سَعَةُ العَيْشِ وعَيْشٌ أَغْطَفُ، مثل أَغْضَفَ: مُخْصِبٌ.

والغَطَفُ: طُولُ الأَشْفارِ وتَثَنِّيها وهو مذكورٌ في العينِ عن كراعٍ، وفي حديثِ أُمِّ مَعْبَدٍ: «وفي أَشْفارِه غَطَفٌ» هو أَنْ يَطُولَ شَعَرُ الأَجْفانِ ثم يَنْعَطِفَ، ورَواه الرُّواةُ بالعَيْنِ المهملة، وقال ابنُ قُتَيْبَةَ: سأَلْتُ الرِّياشِيَّ فقَالَ: لا أَدْرِي ما العَطَفُ، وأَحْسَبُه الغَطَفَ بالغَيْنِ، وبه سُمِّيَ الرَّجُلُ غُطَيْفًا [وغطفان].

أَو كَثْرَةُ شَعَرِ الحاجِبِ.

وَقيلَ: الغَطَفُ: قِلَّةُ شَعَرِ الحاجِبِ، ورُبَّما اسْتُعْمِل في قِلَّةِ الهُدْبِ.

وَقالَ شَمِرٌ: الأَوْطَفُ، والأَغْطَفُ بمَعْنًى واحدٍ في الأَشفارِ. وقال ابنُ شُمَيْلٍ: الغَطَفُ: الوَطَفُ.

وَقال ابنُ دُرَيْدٍ: الغَطَفُ: ضدُّ الوَطَفِ، وهو قِلَّةُ شَعَرِ الحاجِبيْنِ، فتَأَمَّلْ ذلك.

وغَطَفانُ، مُحرّكَةً: حيٌّ مِنْ قَيْسٍ وهو غَطَفانُ بنُ سعْدِ ابْنِ قَيْسِ عَيْلانَ، وأَنشَدَ الجوْهرِيُّ:

لَوْ لَم تَكُنْ غَطَفانٌ لا ذُنُوبَ لَها *** إليَّ لامتْ ذَوُو أَحْسابِها عُمَرَا

قال الأَخْفَشُ: قولُه: لا زائِدَةَ يُرِيدُ: لو لَم تَكُنْ لها ذُنُوبٌ.

وأَبُو غَطَفانَ بنُ طَرِيفٍ ويُقال: ابنُ مالِكٍ المُرِّيُّ عن الحجازِيِّ، تابِعِيٌّ رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وابنِ عَبَّاسٍ ورَوَى عنه إِسْماعِيلُ بنُ أُمَيَّةَ، كذا ذَكَره المِزِّيُّ.

وبَنُو غُطَيْفٍ، كزُبَيْرٍ: حَيٌّ مِنَ العَرَبِ. قلتُ: هم قَبِيلَتان: إِحْدَاهُما مِن مَذْحِجٍ، وهم بَنُو غُطَيْفِ بن ناجِيَةَ بنِ مُرادٍ، رَهْطُ فَرْوَةَ بنِ مُسَيْكٍ الغُطَيْفيِّ الصّحابِيِّ، رضي ‌الله‌ عنه، والثانِيةُ من بَنِي طَيِّئٍ، وهم بَنُو غُطَيْفِ بنِ حارِثَةَ بْنِ سَعْدِ بنِ الحَشْرَجِ بنِ امْرِئِ القَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بنِ أَخْزَمَ بنِ هزومة بنِ رَبِيعَةَ بنِ جَرْوَلٍ الطّائِيّ، أَخو مِلْحانَ الذي رَثاهُ حاتِمٌ، وابْناهُ حَلْبَس ومِلْحان ابنا هزومة بنِ رَبِيعَةَ شَهِدا صِفِّينَ.

أَو هم قَوْمٌ بالشّامِ وهؤلاءِ من بَنِي طَيِّئٍ، فلا حاجَةَ إلى الإِعادَةِ، ولو قال: «مِنْهُم قومٌ بالشّام» لأَصابَ المِحَزَّ.

والغُطَيْفيُّ: فَرَسٌ كانَ لَهُمْ في الإِسْلامِ نُسِبَ إِليهِمْ، قال الخُزاعِيُّ يَفْخَرُ بما صارَ إِليه من نَسْلِه:

أَنْعَتُ طِرْفًا من خِيارِ المِصْرَيْنْ *** مِن الغُطَيْفِيّاتِ في صَرِيحَيْنْ

وأُمُّ غُطَيْفٍ الهُذَلِيَّةُ: صَحابِيَّةٌ هي الَّتِي ضَرَبَتْها مُلَيْكَةُ في قِصّةِ حَمَل بْنِ مالِكِ بنِ النّابِغَةِ.

وغُطَيْفُ بنُ الحارِثِ الكِنْدِيُّ: صَحابِيٌّ أَو هو الحارِثُ ابنُ غُطَيْفٍ وتَقَدَّمَ الاخْتِلافُ في «غضف» قَرِيبًا.

وأَبو غُطَيْفٍ الهُذَلِيُّ: تابِعِيٌّ ويُقالُ: غُضَيْفٌ، ويُقالُ: عُطَيْفٌ، رَوَى عن عبدِ الله بنِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، وعنه عبدُ الرَّحْمنِ بنُ زِيادِ بنِ أَنْعُم الْإِفْرِيقِيُّ، قال ابنُ أَبِي حاتِمٍ: سُئل أَبو زُرْعَةَ عن اسْمِه فقَالَ: لا يُعْرَفُ اسمُه.

وَرْوحُ بنُ غُطَيْفٍ بنِ أَبِي سُفْيانَ الثَّقَفيُّ الجَزَرِيُّ: مُحَدِّثٌ يَرْوِي عن الزُّهْرِيِّ، قال الدّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ وقالَ النَّسائِيُّ: مَتْرُوكُ الحديثِ، وقال أَبُو حاتِمٍ الرّازِيُّ: مُنْكَرُ الحَدِيثِ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الغاطُوفُ: المِصْيَدَةُ، لغةٌ في المُهْمَلَةِ، وقد تَقَدَّم.

وَغَطَفانُ، غيرُ مَنْسُوبٍ: تابِعِيٌّ يَرْوِي عن ابنِ عَبّاسٍ، وَعنهُ أَهْلُ الشّامِ، ماتَ في ولايةِ مَرْوانَ، ذكر هؤلاءِ ابنُ حِبّان في الثِّقَاتِ.

وَغُطَيْفٌ السُّلَمِيُّ: الذي قِيلَ فيهِ:

لَتَجِدَنِّي بالأَمِيرِ بَرَّا *** وبالقَناةِ مِدْعَسًا مِكَرَّا

إِذا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


29-لسان العرب (شطر)

شطر: الشَّطْرُ: نِصْفُ الشَّيْءِ، وَالْجَمْعُ أَشْطُرٌ وشُطُورٌ.

وشَطَرْتُه: جَعَلْتُهُ نِصْفَيْنِ.

وَفِي الْمَثَلِ: أَحْلُبُ حَلَبًا لكَ شَطْرُه.

وشاطَرَه مالَهُ: ناصَفَهُ، وَفِي الْمُحْكَمِ: أَمْسَكَ شَطْرَهُ وأَعطاه شَطْره الْآخَرَ.

وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنس: مِنْ أَين شاطَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُمَّالَهُ؟ فَقَالَ: أَموال كَثِيرَةٌ ظَهَرَتْ لَهُمْ.

وإِن أَبا الْمُخْتَارِ الْكِلَابِيَّ كَتَبَ إِليه:

نَحُجُّ إِذا حَجُّوا، ونَغْزُو إِذا غَزَوْا، ***فَإِنِّي لَهُمْ وفْرٌ، ولَسْتُ بِذِي وَفْرِ

إِذا التَّاجِرُ الدَّارِيُّ جاءَ بِفَأْرَةٍ ***مِنَ المِسْكِ، راحَتْ فِي مَفارِقِهِمْ تَجْرِي

فَدُونَكَ مالَ اللهِ حَيْثُ وجَدْتَهُ ***سَيَرْضَوْنَ، إِنْ شاطَرْتَهُمْ، مِنْكَ بِالشَّطْرِ

قَالَ: فَشاطَرَهُمْ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَموالهم.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن سَعْدًا استأْذن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يتصدَّق بِمَالِهِ، قَالَ: لَا، قَالَ: فالشَّطْرَ، قَالَ: لَا، قَالَ الثُّلُثَ، فَقَالَ: الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ»؛ الشَّطْرُ: النِّصْفُ، وَنَصَبَهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ»؛ أي أَهَبُ الشَّطْرَ وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «كَانَ عِنْدَنَا شَطْرٌ مِنْ شَعير.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه رَهَنَ دِرْعَهُ بشَطْر مِنْ شَعِيرٍ»؛ قِيلَ: أَراد نِصْفَ مَكُّوكٍ، وَقِيلَ: نصفَ وسْقٍ.

وَيُقَالُ: شِطْرٌ وشَطِيرٌ مِثْلُ نِصْفٍ ونَصِيفٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمان لأَن الإِيمان يَظْهَرُ بِحَاشِيَةِ الْبَاطِنِ، والطُّهُور يَظْهَرُ بِحَاشِيَةِ الظَّاهِرِ».

وَفِي حَدِيثِ مَانِعِ الزكاةِ: «إِنَّا آخِذُوها وشَطْرَ مالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَماتِ رَبِّنا».

قَالَ ابْنُ الأَثير: قَالَ الحَرْبِيُّ غَلِطَ بَهْزٌ الرَّاوِي فِي لَفْظِ الرِّوَايَةِ إِنما هُوَ: وشُطِّرَ مالُهُ أَي يُجْعَل مالُهُ شَطْرَيْنِ ويَتَخَيَّر عَلَيْهِ المُصَدّقُ فيأْخذ الصَّدَقَةَ مِنْ خَيْرِ النِّصْفَيْنِ، عُقُوبَةً لِمَنْعِهِ الزَّكَاةَ، فأَما ما لَا يَلْزَمُهُ فَلَا.

قَالَ: وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي قَوْلِ الْحَرْبِيِّ: لَا أَعرف هَذَا الْوَجْهَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَن الحقَّ مُسْتَوْفًى مِنْهُ غَيْرُ مَتْرُوكٍ عَلَيْهِ، وإِن تَلِفَ شَطرُ مَالِهِ، كَرَجُلٍ كَانَ لَهُ أَلف شَاةٍ فَتَلِفَتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ "إِلا عِشْرُونَ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ عَشْرُ شِيَاهٍ لِصَدَقَةِ الأَلف، وَهُوَ شَطْرُ مَالِهِ الْبَاقِي، قَالَ: وَهَذَا أَيضًا بَعِيدٌ لأَنه قَالَ لَهُ: إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّا آخِذُو شَطْرَ مَالِهِ، وَقِيلَ: إِنه كَانَ فِي صَدْرِ الإِسلام يَقَعُ بَعْضُ الْعُقُوبَاتِ فِي الأَموال ثُمَّ نُسِخَ، كَقَوْلِهِ فِي الثَّمَرِ المُعَلَّقِ: مَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غرامةُ مِثْلَيْهِ والعقوبةُ، وَكَقَوْلِهِ فِي ضَالَّةِ الإِبل الْمَكْتُومَةِ: غَرامَتُها ومثْلُها مَعَهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَحْكُمُ بِهِ فَغَرَّمَ حَاطِبًا ضِعْفَ ثَمَنِ ناقةِ المُزَنِيِّ لَمَّا سَرَقَهَا رَقِيقُهُ وَنَحَرُوهَا؛ قَالَ: وَلَهُ فِي الْحَدِيثِ نَظَائِرُ؛ قَالَ: وَقَدْ أَخذ أَحمد بْنُ حَنْبَلٍ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَعَمِلَ بِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: مَنْ مَنَعَ زَكَاةَ مَالِهِ أُخذت مِنْهُ وأُخذ شَطْرُ مَالِهِ عُقُوبَةً عَلَى مَنْعِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: " لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلا الزَّكَاةُ لَا غَيْرَ "، وَجَعَلَ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخًا، وَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ فِي الأَموال، ثُمَّ نُسِخَتْ، وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَن لَا واجبَ عَلَى مُتْلِفِ الشَّيْءِ أَكْثَرُ مِنْ مِثْلِهِ أَو قِيمَتِهِ.

وَلِلنَّاقَةِ شَطْرَانِ قادِمان وآخِرانِ، فكلُّ خِلْفَيْنِ شَطْرٌ، وَالْجَمْعُ أَشْطُرٌ.

وشَطَّرَ بِنَاقَتِهِ تَشْطِيرًا: صَرَّ خِلْفَيْها وَتَرَكَ خِلْفَيْنِ، فإِن صَرَّ خِلْفًا وَاحِدًا قِيلَ: خَلَّفَ بِهَا، فإِن صَرَّ ثلاثةَ أَخْلَافٍ قِيلَ: ثَلَثَ بِهَا، فإِذا صَرَّها كُلَّهَا قِيلَ: أَجْمَعَ بِهَا وأَكْمَشَ بِهَا.

وشَطْرُ الشاةِ: أَحَدُ خِلْفَيها؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، وأَنشد:

فَتَنَازَعَا شَطْرًا لِقَدْعَةَ واحِدًا، ***فَتَدَارَآ فيهِ فكانَ لِطامُ

وشَطَرَ ناقَتَهُ وَشَاتَهُ يَشْطُرُها شَطْرًا: حَلَبَ شَطْرًا وَتَرَكَ شَطْرًا.

وَكُلُّ مَا نُصِّفَ، فَقَدْ شُطِّرَ.

وَقَدْ شَطَرْتُ طَلِيِّي أَي حَلَبْتُ شَطْرًا أَو صَرَرْتُهُ وتَرَكْتُهُ والشَّطْرُ الْآخَرَ.

وشاطَرَ طَلِيَّهُ: احْتَلَبَ شَطْرًا أَو صَرَّهُ وَتَرَكَ لَهُ الشَّطْرَ الْآخَرَ.

وَثَوْبٌ شَطُور: أَحدُ طَرَفَيْ عَرْضِهِ أَطولُ مِنَ الْآخَرِ، يَعْنِي أَن يَكُونَ كُوسًا بِالْفَارِسِيَّةِ.

وشَاطَرَنِي فلانٌ المالَ أَي قاسَمني بالنِّصْفِ.

والمَشْطُورُ مِنَ الرَّجَزِ والسَّرِيعِ: مَا ذَهَبَ شَطْرُه، وَهُوَ عَلَى السَّلْبِ.

والشَّطُورُ مِنَ الغَنَمِ: الَّتِي يَبِسَ أَحدُ خِلْفَيْها، وَمِنَ الإِبل: الَّتِي يَبِسَ خِلْفانِ مِنْ أَخلافها لأَن لَهَا أَربعة أَخلاف، فإِن يَبِسَ ثَلَاثَةٌ فَهِيَ ثَلُوثٌ.

وَشَاةٌ شَطُورٌ وَقَدْ شَطَرَتْ وشَطُرَتْ شِطارًا، وَهُوَ أَن يَكُونَ أَحد طُبْيَيْها أَطولَ مِنَ الْآخَرِ، فإِن حُلِبَا جَمِيعًا والخِلْفَةُ كَذَلِكَ، سُمِّيَتْ حَضُونًا، وحَلَبَ فلانٌ الدَّهْرُ أَشْطُرَهُ أَي خَبَرَ ضُرُوبَهُ، يَعْنِي أَنه مرَّ بِهِ خيرُه وَشَرُّهُ وَشِدَّتُهُ ورخاؤُه، تَشْبِيهًا بِحَلْبِ جَمِيعِ أَخلاف النَّاقَةِ، مَا كَانَ مِنْهَا حَفِلًا وَغَيْرَ حَفِلٍ، ودَارًّا وَغَيْرَ دَارٍّ، وأَصله مِنْ أَشْطُرِ الناقةِ وَلَهَا خِلْفان قَادِمَانِ وآخِرانِ، كأَنه حَلَبَ القادمَين وَهُمَا الْخَيْرُ، والآخِرَيْنِ وَهُمَا الشَّرُّ، وكلُّ خِلْفَيْنِ شَطْرٌ؛ وَقِيلَ: أَشْطُرُه دِرَرُهُ.

وَفِي حَدِيثِ الأَحنف قَالَ لِعَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقْتَ التَّحْكِيمِ: «يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ إِني قَدْ حَجَمْتُ الرجلَ وحَلَبْتُ أَشْطُرَهُ فَوَجَدْتُهُ قريبَ القَعْرِ كَلِيلَ المُدْيَةِ، وإِنك قَدْ رُميت بِحَجَر الأَرْضِ»؛ الأَشْطُرُ: جَمْعُ شَطْرٍ، وَهُوَ خِلْفُ النَّاقَةِ، وَجَعْلُ الأَشْطُرَ مَوْضِعَ الشَّطْرَيْنِ كَمَا تُجْعَلُ الْحَوَاجِبُ مَوْضِعَ الْحَاجِبَيْنِ، وأَراد بِالرَّجُلَيْنِ الحَكَمَيْنِ الأَوَّل أَبو مُوسَى وَالثَّانِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ.

وإِذا كَانَ نِصْفُ وَلَدِ الرَّجُلِ ذُكُورًا وَنِصْفُهُمْ إِناثًا قِيلَ: هُمْ شِطْرَةٌ.

يُقَالُ: وَلَدُ فُلانٍ شِطْرَةٌ، بِالْكَسْرِ، أَي نصفٌ" ذكورٌ ونصفٌ إِناثٌ.

وقَدَحٌ شَطْرانُ أَي نَصْفانُ.

وإِناءٌ شَطْرانُ: بَلَغَ الكيلُ شَطْرَهُ، وَكَذَلِكَ جُمْجُمَةٌ شَطْرَى وقَصْعَةٌ شَطْرَى.

وشَطَرَ بَصَرُه يَشْطِرُ شُطُورًا وشَطْرًا: صَارَ كأَنه يَنْظُرُ إِليك وإِلى آخَرَ.

وَقَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَعان عَلَى دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ: يَائِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ "؛ قِيلَ: تَفْسِيرُهُ هُوَ أَن يَقُولَ: أُقْ، يُرِيدُ: أُقتل كَمَا" قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَفَى بِالسَّيْفِ شَا "، يُرِيدُ: شَاهِدًا؛ وَقِيلَ: هُوَ أَن يَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَيْهِ زُورًا بأَنه قَتَلَ فكأَنهما قَدِ اقْتَسَمَا الْكَلِمَةَ، فَقَالَ هَذَا شَطْرَهَا وَهَذَا شَطْرَهَا إِذا كَانَ لَا يُقْتَلُ بِشَهَادَةِ أَحدهما.

وشَطْرُ الشَّيْءِ: ناحِيَتُه.

وشَطْرُ كُلِّ شَيْءٍ: نَحْوُهُ وقَصْدُه.

وقصدتُ شَطْرَه أَي نَحْوَهُ؛ قَالَ أَبو زِنْباعٍ الجُذامِيُّ:

أَقُولُ لأُمِّ زِنْباعٍ: أَقِيمِي ***صُدُورَ العِيسِ شَطْرَ بَني تَمِيمِ

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}؛ وَلَا فِعْلَ لَهُ.

قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ نَحْوَهُ وَتِلْقَاءَهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ: ولِّ وَجْهَكَ شَطْرَه وتُجاهَهُ؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ:

إِنَّ العَسِيرَ بِهَا داءٌ مُخامِرُها، ***فَشَطْرَها نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ

وَقَالَ أَبو إِسحاق: الشَّطْرُ النَّحْوُ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهل اللُّغَةِ فِيهِ.

قَالَ: وَنَصَبَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}، عَلَى الظَّرْفِ.

وَقَالَ أَبو إِسحاق: أُمر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يستقبل وهو بالمدينة مَكَّةَ وَالْبَيْتَ الْحَرَامَ، وأُمر أَن يَسْتَقْبِلَ الْبَيْتَ حَيْثُ كَانَ.

وشَطَرَ عَنْ أَهله شُطُورًا وشُطُورَةً وشَطارَةً إِذا نَزَحَ عَنْهُمْ وَتَرَكَهُمْ مُرَاغِمًا أَو مُخَالِفًا وأَعياهم خُبْثًا؛ والشَّاطِرُ مأْخوذ مِنْهُ وأُراه مولَّدًا، وَقَدْ شَطَرَ شُطُورًا وشَطارَةً، وَهُوَ الَّذِي أَعيا أَهله ومُؤَدِّبَه خُبْثًا.

الْجَوْهَرِيُّ: شَطَرَ وشَطُرَ أَيضًا، بِالضَّمِّ، شَطارة فِيهِمَا، قَالَ أَبو إِسحاق: قَوْلُ النَّاسِ فُلَانٌ شاطِرٌ مَعْنَاهُ أَنه أَخَذَ فِي نَحْوٍ غَيْرَ الِاسْتِوَاءِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ شَاطِرٌ لأَنه تَبَاعَدَ عَنِ الِاسْتِوَاءِ.

وَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مُشاطرُونا أَي دُورهم تَتَّصِلُ بِدُورِنَا، كَمَا يُقَالُ: هَؤُلَاءِ يُناحُونَنا أَي نحنُ نَحْوَهُم وَهُمْ نَحْوَنا فَكَذَلِكَ هُمْ مُشاطِرُونا.

ونِيَّةٌ شَطُورٌ أَي بَعِيدَةٌ.

وَمَنْزِلٌ شَطِيرٌ وَبَلَدٌ شَطِيرٌ وحَيٌّ شَطِيرٌ: بَعِيدٌ، وَالْجَمْعُ شُطُرٌ.

ونَوًى شُطْرٌ، بِالضَّمِّ، أَي بَعِيدَةٌ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

أَشاقَك بَيْنَ الخَلِيطِ الشُّطُرْ، ***وفِيمَنْ أَقامَ مِنَ الحَيِّ هِرْ

قَالَ: والشُّطُرُ هاهنا لَيْسَ بِمُفْرَدٍ وإِنما هُوَ جَمْعُ شَطِير، والشُّطُرُ فِي الْبَيْتِ بِمَعْنَى المُتَغَرِّبِينَ أَو المُتَعَزِّبِينَ، وَهُوَ نَعْتُ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطُ: الْمُخَالِطُ، وَهُوَ يُوصَفُ بِالْجَمْعِ وَبِالْوَاحِدِ أَيضًا؛ قَالَ نَهْشَلُ بنُ حَريٍّ:

إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فابْتَكَرُوا، ***واهْتَاجَ شَوْقَك أَحْدَاجٌ لَها زَمْرُ

والشَّطِيرُ أَيضًا: الْغَرِيبُ؛ قَالَ:

لَا تَدَعَنِّي فِيهمُ شَطِيرا، ***إِنِّي إِذًا أَهْلِكَ أَوْ أَطِيرَا

وَقَالَ غَسَّانُ بنُ وَعْلَةَ:

إِذا كُنْتَ فِي سَعْدٍ، وأُمُّكَ مِنْهُمُ، ***شَطِيرًا فَلا يَغْرُرْكَ خالُكَ مِنْ سَعْدِ

وإِنَّ ابنَ أُخْتِ القَوْمِ مُصْغًى إِناؤُهُ، ***إِذا لَمْ يُزاحِمْ خالَهُ بِأَبٍ جَلْدِ

يقول: لا تَغْتَرَّ بخُؤُولَتِكَ فإِنك مَنْقُوصُ الْحَظِّ مَا لَمْ تُزَاحِمْ أَخوالك بِآبَاءٍ أَشرافٍ وأَعمام أَعزة.

والمصغَى: المُمالُ: وإِذا أُميل الإِناء انصبَّ مَا فِيهِ، فَضَرَبَهُ مَثَلًا لِنَقْصِ الْحَظِّ، وَالْجَمْعُ الْجَمْعُ.

التَّهْذِيبِ: والشَّطِيرُ الْبَعِيدُ.

وَيُقَالُ لِلْغَرِيبِ: شَطِيرٌ لِتَبَاعُدِهِ عَنْ قَوْمِهِ.

والشَّطْرُ: البُعْدُ.

وَفِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: «لَوْ أَن رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بحقٍّ أَحدُهما شَطِيرٌ فإِنه يَحْمِلُ شَهَادَةَ الْآخَرِ»؛ الشَّطِيرُ: الْغَرِيبُ، وَجَمْعُهُ شُطُرٌ، يَعْنِي لَوْ شَهِدَ لَهُ قَرِيبٌ مِنْ أَب أَو ابْنٍ أَو أَخ وَمَعَهُ أَجنبي صَحَّحَتْ شهادةُ الأَجنبي شهادَةَ الْقَرِيبِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ حَمْلًا لَهُ؛ قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا مَذْهَبُ الْقَاسِمِ وإِلا فَشَهَادَةُ الأَب وَالِابْنِ لَا تُقْبَلُ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" قَتَادَةَ: شَهَادَةُ الأَخ إِذا كَانَ مَعَهُ شَطِيرٌ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَكَذَا هَذَا فإِنه لَا فَرْقَ بَيْنَ شَهَادَةِ الْغَرِيبِ مَعَ الأَخ أَو الْقَرِيبِ فإِنها مَقْبُولَةٌ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م