نتائج البحث عن (ضَمِينًا)

1-موسوعة الفقه الكويتية (بيع وشرط 2)

بَيْعٌ وَشَرْطٌ -2

رَابِعًا: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:

28- قَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ الشُّرُوطَ فِي الْبَيْعِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

الْأَوَّلُ: صَحِيحٌ لَازِمٌ، لَيْسَ لِمَنِ اشْتُرِطَ عَلَيْهِ فَكُّهُ.

الْآخَرُ: فَاسِدٌ يَحْرُمُ اشْتِرَاطُهُ.

(1) فَالْأَوَّلُ: وَهُوَ الشَّرْطُ الصَّحِيحُ اللاَّزِمُ، ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: مَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَالتَّقَابُضِ، وَحُلُولِ الثَّمَنِ، وَتَصَرُّفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ، وَخِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَالرَّدِّ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ.

فَهَذَا الشَّرْطُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، لَا يُفِيدُ حُكْمًا، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ بَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.

الثَّانِي: شَرْطٌ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ، أَيْ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ تَعُودُ عَلَى الْمُشْتَرِطِ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ: الْخِيَارُ، وَالشَّهَادَةُ، أَوِ اشْتِرَاطُ صِفَةٍ فِي الثَّمَنِ، كَتَأْجِيلِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، أَوْ رَهْنِ مُعَيَّنٍ بِهِ، أَوْ كَفِيلٍ مُعَيَّنٍ بِهِ، أَوِ اشْتِرَاطِ صِفَةٍ مَقْصُودَةٍ فِي الْمَبِيعِ، كَالصِّنَاعَةِ وَالْكِتَابَةِ، أَوِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الدَّابَّةِ ذَاتَ لَبَنٍ، أَوْ غَزِيرَةَ اللَّبَنِ، أَوِ الْفَهْدِ صَيُودًا، أَوِ الطَّيْرِ مُصَوِّتًا، أَوْ يَبِيضُ، أَوْ يَجِيءُ مِنْ مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ كَوْنِ خَرَاجِ الْأَرْضِ كَذَا..فَيَصِحُّ الشَّرْطُ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ، وَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا»، وَلِأَنَّ الرَّغَبَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ لَفَاتَتِ الْحِكْمَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا شُرِعَ الْبَيْعُ.

فَهَذَا الشَّرْطُ إِنْ وَفَّى بِهِ لَزِمَ، وَإِلاَّ فَلِلْمُشْتَرَطِ لَهُ الْفَسْخُ لِفَوَاتِهِ، أَوْ أَرْشُ فَقْدِ الصِّفَةِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ تَعَيَّنَ أَرْشُ فَقْدِ الصِّفَةِ، كَالْمَعِيبِ إِذَا تَلِفَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي.

الثَّالِثُ: شَرْطٌ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَا مِنْ مَصْلَحَتِهِ، وَلَا يُنَافِي مُقْتَضَاهُ، لَكِنْ فِيهِ نَفْعًا مَعْلُومًا لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي.

أ- كَمَا لَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ سُكْنَى الدَّارِ الْمَبِيعَةِ شَهْرًا، أَوْ أَنْ تَحْمِلَهُ الدَّابَّةُ (أَوِ السَّيَّارَةُ) إِلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِحَدِيثِ «جَابِرٍ- رضي الله عنه-، حِينَ بَاعَ جَمَلَهُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ قَالَ فَبِعْتُهُ وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي»

وَحَدِيثِ: جَابِرٍ أَيْضًا، أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، وَالثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ» وَالْمُرَادُ بِالثُّنْيَا الِاسْتِثْنَاءُ.

وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ بَاعَهُ دَارًا مُؤَجَّرَةً.

وَمِثْلُ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا: اشْتِرَاطُ الْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ، وَكَذَا اشْتِرَاطُهُ الْمَنْفَعَةَ لِغَيْرِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَلَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُشْتَرَطِ اسْتِثْنَاءُ نَفْعِهَا، قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْبَائِعِ النَّفْعَ:

فَإِنْ كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي وَتَفْرِيطِهِ، لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، لِتَفْوِيتِهِ الْمَنْفَعَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ عَلَى مُسْتَحِقِّهَا.وَإِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْعِوَضُ.

ب- وَكَمَا لَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ حَمْلَ الْحَطَبِ، أَوْ تَكْسِيرَهُ، أَوْ خِيَاطَةَ ثَوْبٍ، أَوْ تَفْصِيلَهُ، أَوْ حَصَادَ زَرْعٍ، أَوْ جَزَّ رُطَبِهِ، فَيَصِحُّ إِنْ كَانَ النَّفْعُ مَعْلُومًا، وَيَلْزَمُ الْبَائِعَ فِعْلُهُ.وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ مَتَاعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَالْبَائِعُ لَا يَعْرِفُهُ، فَلَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ.

ثُمَّ إِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ، أَوِ اسْتَحَقَّ النَّفْعَ بِالْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ، أَوْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِ الْبَائِعِ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِعِوَضِ ذَلِكَ النَّفْعِ، كَمَا لَوِ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ بَعْدَ قَبْضِ عِوَضِهَا، رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِعِوَضِ الْمَنْفَعَةِ.

وَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَرَضٍ، أُقِيمَ مَقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُ، وَالْأُجْرَةُ عَلَى الْبَائِعِ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ.

29- اسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ جَوَازِ اشْتِرَاطِ النَّفْعِ الْمَعْلُومِ، مَا لَوْ جَمَعَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بَيْنَ شَرْطَيْنِ، وَكَانَا صَحِيحَيْنِ: كَحَمْلِ الْحَطَبِ وَتَكْسِيرِهِ، أَوْ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ وَتَفْصِيلِهِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ، لِحَدِيثِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ».

أَمَّا إِنْ كَانَ الشَّرْطَانِ الْمَجْمُوعَانِ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، كَاشْتِرَاطِ حُلُولِ الثَّمَنِ مَعَ تَصَرُّفِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ.أَوْ يَكُونَا مِنْ مَصْلَحَةِ الْبَيْعِ، كَاشْتِرَاطِ رَهْنٍ وَكَفِيلٍ مُعَيَّنَيْنِ بِالثَّمَنِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، كَمَا لَوْ كَانَا مِنْ مُقْتَضَاهُ.

(2) وَالْآخَرُ: وَهُوَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ الْمُحَرَّمُ، تَحْتَهُ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ:

30- أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ عَقْدًا آخَرَ: كَعَقْدِ سَلَمٍ، أَوْ قَرْضٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، أَوْ شَرِكَةٍ، فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَهُ الْبَائِعُ أَمِ الْمُشْتَرِي.

وَهَذَا مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ احْتِمَالًا عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَدَلِيلُ الْمَشْهُورِ:

أ- أَنَّهُ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، «وَأَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ».وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.

ب- وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ رِبًا.

ج- وَلِأَنَّهُ شَرَطَ عَقْدًا فِي آخَرَ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَنِكَاحِ الشِّغَارِ.

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ دَارِي بِكَذَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ، أَوْ عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَى دَابَّتِي، أَوْ عَلَى حِصَّتِي مِنْ ذَلِكَ، قَرْضًا أَوْ مَجَّانًا.

النَّوْعُ الثَّانِي:

31- أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهُ.مِثْلُ: أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَبِيعَ الْمَبِيعَ، وَلَا يَهَبَهُ، وَلَا يُعْتِقَهُ، أَوْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ، أَوْ يَقِفَهُ، أَوْ أَنَّهُ مَتَى نَفَقَ (هَلَكَ) الْمَبِيعُ فَبِهَا، وَإِلاَّ رَدَّهُ، أَوْ إِنْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ فَالْوَلَاءُ لَهُ، فَهَذِهِ وَمَا أَشْبَهَهَا شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ.

وَفِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِهَا رِوَايَتَانِ فِي الْمَذْهَبِ.وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَلَا يُبْطِلُهُ الشَّرْطُ، بَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ فَقَطْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَبْطَلَ الشَّرْطَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ الْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يُبْطِلِ الْعَقْدَ.

32- وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ الْبَاطِلِ الْعِتْقَ، فَيَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ الْمَذْكُورِ، وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعِتْقِ إِنْ أَبَاهُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالنَّذْرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ عِتْقِهِ أَعْتَقَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ عِتْقٌ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ قُرْبَةً الْتَزَمَهَا، كَالنَّذْرِ.

33- وَبِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَبِفَسَادِ الشَّرْطِ فَقَطْ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ- فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلَّذِي فَاتَ غَرَضُهُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ، مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ أَعَلِمَ بِفَسَادِ الشَّرْطِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ- مَا يَلِي:

أ- فَسْخُ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرْطِ.

ب- لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ بِمَا نَقَصَهُ الشَّرْطُ مِنَ الثَّمَنِ بِإِلْغَاءِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا بَاعَ بِنَقْصٍ، لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْغَرَضِ الَّذِي اشْتَرَطَهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضُهُ رَجَعَ بِالنَّقْصِ.

ج- وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ بِإِلْغَاءِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَى بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ، لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْغَرَضِ الَّذِي اشْتَرَطَهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضُهُ رَجَعَ بِالزِّيَادَةِ الَّتِي سَمَحَ بِهَا، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ مَعِيبًا.

فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ أَخْذِ أَرْشِ النَّقْصِ.

وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ أَخْذِ مَا زَادَهُ عَلَى الثَّمَنِ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا احْتِمَالَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، بِدُونِ الرُّجُوعِ بِشَيْءٍ، وَذَلِكَ: قِيَاسًا عَلَى مَنْ شَرَطَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا، فَامْتَنَعَ الرَّاهِنُ وَالضَّمِينُ.وَلِأَنَّهُ مَا يَنْقُصُهُ الشَّرْطُ مِنَ الثَّمَنِ مَجْهُولٌ، فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا.وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَحْكُمْ لِأَرْبَابِ بَرِيرَةَ بِشَيْءٍ»، مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ، وَصِحَّةِ الْبَيْعِ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ:

34- أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي شَرْطًا يُعَلِّقُ عَلَيْهِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، كَقَوْلِ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ إِنْ جِئْتَنِي بِكَذَا، أَوْ بِعْتُكَ إِنْ رَضِيَ فُلَانٌ، وَكَقَوْلِ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ إِنْ جَاءَ زَيْدٌ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْبَيْعِ نَقْلُ الْمِلْكِ حَالَ التَّبَايُعِ، وَالشَّرْطُ هُنَا يَمْنَعُهُ.وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَيْعَ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ إِذَا جَاءَ آخِرُ الشَّهْرِ.وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ قَوْلَ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَوْلَ الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبَيْعَ الْعُرْبُونِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، لِأَنَّ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ اشْتَرَى لِعُمَرَ دَارَ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ، فَإِنْ رَضِيَ عُمَرُ، وَإِلاَّ لَهُ كَذَا وَكَذَا. (ر: مُصْطَلَحُ عُرْبُون)

بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ:

35- وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ».

وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-.قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ».

وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: جَمْعُ بَيْعَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ.وَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَيْعَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الثَّمَنِ.

وَأَشَارَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى تَوَهُّمِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ حَدِيثُ الْبَيْعَتَيْنِ أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِ الصَّفْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ خُصُوصُ صَفْقَةٍ مِنَ الصَّفَقَاتِ، وَهِيَ الْبَيْعُ، وَأَمَّا حَدِيثُ الصَّفْقَتَيْنِ فَهُوَ أَعَمُّ لِشُمُولِهِ الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ، كَالْإِجَارَةِ.وَاخْتَلَفَتِ الصُّوَرُ الَّتِي أَلْقَاهَا الْفُقَهَاءُ لِتَصَوُّرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


2-موسوعة الفقه الكويتية (حوالة 2)

حَوَالَةٌ -2

تَغَيُّرُ الْحَوَالَةِ بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ:

30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا تَقَيُّدَ بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ فِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ، شَأْنُهَا فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، إِذْ الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ بِالْمَعَانِي لَا بِالْأَلْفَاظِ.

وَلِذَا قَالُوا: إِنَّ الْكَفَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ يَبْرَأَ الْأَصِيلُ، حَوَالَةٌ، وَالْحَوَالَةُ بِشَرْطِ أَلاَّ يَبْرَأَ كَفَالَةٌ فَيَتْبَعُ الْمَعْنَى جَرَيَانَ أَحْكَامِ الْحَوَالَةِ أَوِ الْكَفَالَةِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ.

فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَطْرَافُ الْمَعْنِيَّةُ وَلَا بَيِّنَةَ: أَهِيَ كَفَالَةٌ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ- أَيْ حَوَالَةٌ مَعْنًى- أَمْ بِدُونِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ؟ فَالْمُصَدَّقُ هُوَ الدَّائِنُ الطَّالِبُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِّهِ فِي مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ، فَلَا يَنْتَقِلُ إِلاَّ بِإِقْرَارِهِ.

فَتَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِكُلِّ مَا يُفِيدُ مَعْنَاهَا، كَنَقَلْتُ حَقَّكَ إِلَى فُلَانٍ، أَوْ جَعَلْتُ مَا أَسْتَحِقُّهُ عَلَى فُلَانٍ لَكَ بِحَقِّكَ عَلَيَّ، أَوْ مَلَّكْتُكَ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ بِحَقِّكَ عَلَيَّ، أَوْ أَتْبَعْتُكَ دَيْنَاكَ عَلَى فُلَانٍ، أَوْ اقْبِضْ دَيْنِي عَلَيْهِ لِنَفْسِكَ، أَوْ خُذْ- أَوِ اطْلُبْ- دَيْنَكَ مِنْهُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصِّيغَةِ لَفْظُ الْحَوَالَةِ، وَاعْتَمَدَهُ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَاشْتَرَطَ لَفْظُهُ الْحَوَالَةَ دُونَ بَدِيلٍ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ.

31- وَلَا تَنْعَقِدُ الْحَوَالَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ، وَقِيلَ: تَنْعَقِدُ مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى، كَالْبَيْعِ بِلَفْظِ السَّلَمِ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يَتَوَسَّعُونَ مَا لَا يَتَوَسَّعُ غَيْرُهُمْ، وَهْم بِصَدَدِ صِيغَةِ الْحَوَالَةِ فَيَقُولُونَ: إِنَّهَا تَحْصُلُ (وَلَوْ بِإِشَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ) وَيُطْلِقُونَ ذَلِكَ إِطْلَاقًا يَتَنَاوَلُ الْقَادِرَ- عَلَى النُّطْقِ- وَالْعَاجِزَ، ثُمَّ يُعَقِّبُونَ بِمُقَابِلٍ ضَعِيفٍ عِنْدَهُمْ- وَإِنْ اعْتَمَدَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ- قَائِلِينَ: وَقِيلَ: لَا تَكْفِي الْإِشَارَةُ وَالْكِتَابَةُ إِلاَّ مِنَ الْأَخْرَسِ.

الصِّيغَةُ:

32- الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي وَيَتَنَاوَلُ بَحْثُ التَّرَاضِي الْعَنَاصِرَ الثَّلَاثَةَ التَّالِيَةَ:

1- رِضَا الْمُحِيلِ

2- رِضَا الْمُحَالِ

3- رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ.

وَيُلَاحَظُ أَنَّ رِضَا الْمُحَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ مُخْتَلَفٌ فِي اعْتِبَارِهِمَا مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ النَّفَاذِ.

أَوَّلًا: رِضَا الْمُحِيلِ:

33- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ رِضَا الْمُحِيلِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي جِهَاتِ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ جِهَةٌ قَهْرًا، كَجِهَةِ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ.

34- وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ تَقَعَ الْحَوَالَةُ عَنْ رِضًا مِنَ الْمُحِيلِ لِأَنَّهَا إِبْرَاءٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، فَيُفْسِدُهَا الْإِكْرَاهُ كَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ.

وَفِي اشْتِرَاطِ رِضَاهُ اخْتِلَافٌ بَيْنَ رِوَايَتَيِ الْقُدُورِيِّ وَالزِّيَادَاتِ: وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ الْمُوجِبَةِ: أَنَّ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ قَدْ يَأْنَفُونَ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهُمْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ دُيُونِهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُمْ، ثُمَّ يَطَّرِدُ الْبَابُ كُلُّهُ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ.وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ النَّافِيَةِ: أَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْمُحِيلُ لَا يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ، بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ عَاجِلًا وَآجِلًا: أَمَّا عَاجِلًا فَلِأَنَّهُ سَيَكْفِي الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنِهِ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا آجِلًا فَلِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ قَدْ قَبِلَ حَوَالَةَ دَيْنِهِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعْنًى لِاشْتِرَاطِ رِضَاهُ.لَكِنْ كَثِيرًا مِنْ مُحَقِّقِي الْمَذْهَبِ لَا يَرَوْنَ أَنَّ هُنَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافًا: فَإِنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يُوجِبْ رِضَا الْمُحِيلِ لِنَفَاذِ عَقْدِ الْحَوَالَةِ، بَلْ لِيَسْقُطَ بِالْوَفَاءِ دَيْنُ الْمُحِيلِ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ- إِنْ كَانَ- وَلِيَرْجِعَ هَذَا إِلَى الْمُحِيلِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَدِينًا لَهُ.

فَإِنَّهُ لَا رُجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ وَلَا سُقُوطَ لِدَيْنِهِ مَا لَمْ يَرْضَ

ثَانِيًا: رِضَا الْمُحَالِ:

35- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ رِضَا الْمُحَالِ لِلْمَعْنَى نَفْسِهِ الْآنِفِ فِي رِضَا الْمُحِيلِ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ، فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ إِلاَّ بِرِضَاهُ، إِذِ الذِّمَمُ تَتَفَاوَتُ يَسَارًا وَإِعْسَارًا، وَبَذْلًا وَمَطْلًا، وَتَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ قِيمَةُ الدَّيْنِ نَفْسِهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِلْزَامِهِ بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ.

وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرِّضَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، حَتَّى إِذَا كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ ثُمَّ بَلَغَهُ خَبَرُ الْحَوَالَةِ فَأَجَازَهَا، لَمْ تَنْفُذِ الْحَوَالَةُ، لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ أَصْلًا إِذْ أَنَّ رِضَا الْمُحَالِ عِنْدَهُمَا رُكْنٌ فِي انْعِقَادِهَا.أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيُكْتَفَى مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الرِّضَا، أَيْنَمَا كَانَ وَلَوْ خَارِجَ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ شَرِيطَةَ نَفَاذٍ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَا يُوجِبُونَ رِضَا الْمُحَالِ، إِلاَّ عَلَى احْتِمَالٍ ضَعِيفٍ عِنْدَهُمْ.بَلْ يُجْبَرُ الْمُحَالُ عَلَى الْقَبُولِ، إِذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَلِيئًا غَيْرَ جَاحِدٍ وَلَا مُمَاطِلٍ.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: يُسْتَغْنَى بَتَاتًا عَنْ قَبُولِ الْمُحَالِ، فَإِنْ قَبِلَ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَلَا بَأْسَ، وَالْحَوَالَةُ نَافِذَةٌ بِرَغْمِهِ.

قَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ: فِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: لَا يَبْرَأُ الْمُحِيلُ إِلاَّ بِرِضَا الْمُحَالِ.فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ، لَكِنْ تَنْقَطِعُ الْمُطَالَبَةُ بِمُجَرَّدِ الْحَوَالَةِ.وَقِيلَ: يَتَوَجَّهُ أَنَّ لِلْمُحَالِ مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ قَبْلَ إِجْبَارِ الْحَاكِمِ.

وَمَبْنَى الرِّوَايَتَيْنِ: أَنَّ الْحَوَالَةَ هَلْ هِيَ نَقْلٌ لِلْحَقِّ أَوْ تَقْبِيضٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ نَقْلٌ لِلْحَقِّ، لَمْ يُعْتَبَرْ لَهَا قَبُولٌ.وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ تَقْبِيضٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ قَبُولُهَا.فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ الْمُحَالُ.ا هـ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ: قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ».وَيُفَسِّرُهُ لَفْظُ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: «وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ».فَقَدْ أَمَرَ ((الدَّائِنَ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ أَوِ الِالْتِزَامِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْأَمْرُ بِأَصْلِ وَضْعِهِ لِلْوُجُوبِ، وَلَيْسَ هُنَا مَا يَصْرِفُهُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُولِ: فَإِنَّ الدَّائِنَ الَّذِي يُهَيِّئُ لَهُ مَدِينُهُ مِثْلَ دَيْنِهِ عَدًّا وَنَقْدًا مِنْ يَدٍ أُخْرَى فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيُصِرُّ عَلَى أَنْ يَنْقُدَهُ إِيَّاهُ مَدِينُهُ بِالذَّاتِ، لَا يَكُونُ إِلاَّ مُتَعَنِّتًا مُعَانِدًا.

ثَالِثًا: رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ:

36- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ) إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَلَمْ يَقُلْ عَلَى مَلِيءٍ رَاضٍ.

وَلِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُحِيلِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى اشْتِرَاطِ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَدِينًا أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَتَسَاوَى الدَّيْنَانِ أَمْ لَا، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي تَقَاضِي دُيُونِهِمْ رِفْقًا وَعُنْفًا، وَيُسْرًا وَعُسْرًا، فَلَا يُلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ.

وَقِيَاسًا عَلَى الْمُحَالِ فَإِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ فِي أَنَّهُ طَرَفٌ فِي الْحَوَالَةِ لَا تَمَامَ لَهَا بِدُونِهِ فَلْيَكُنْ مِثْلَهُ فِي اشْتِرَاطِ رِضَاهُ.

اخْتِلَافُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَوَالَةِ وَكَالَةٌ:

37- قَدْ يَخْتَلِفُ الْمُحِيلُ وَالْمُحَالُ فِي حَقِيقَةِ الْعَقْدِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا: هَلْ كَانَ حَوَالَةً أَوْ وَكَالَةً عَنِ الْمُحِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.

38- وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ احْتِمَالَانِ:

أ- إِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا فِي اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ بَيْنَهُمَا نَفْسِهِ: هَلْ كَانَ لَفْظَ الْحَوَالَةِ أَوِ الْوَكَالَةِ؟

ب- وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُسْتَعْمَلَ بَيْنَهُمَا كَانَ لَفْظَ الْحَوَالَةِ وَلَكِنَّ الْمُحِيلُ يَقُولُ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ وَكَالَةً بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى الثَّالِثِ، أَمَّا الْمُحَالُ فَيَدَّعِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَوَالَةِ مَعْنَاهَا الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ الْحَقِيقِيُّ وَلَيْسَ الْوَكَالَةَ.

فَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى: يَكُونُ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْقَوْلَ لِلْمُحِيلِ فِي عَدَمِ الْحَوَالَةِ لِأَنَّهَا عَقْدٌ مُلْزِمٌ، فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُهُ وَعَلَى مُدَّعِيهِ إِثْبَاتُهُ.

وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ: يُقْبَلُ فِي الْقَضَاءِ زَعْمُ الْمُحِيلِ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الْوَكَالَةَ، لِأَنَّ لَفْظَ الْحَوَالَةِ صَالِحٌ لِمَعْنَى الْوَكَالَةِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَمُسْتَعْمَلٌ بِمَعْنَاهَا فِي الْعُرْفِ الْفِقْهِيِّ، كَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَوَالَةِ وَبَقَاءُ حَقِّ الْمُحِيلِ دَيْنًا، فَإِذَا أَنْكَرَ الْمُحِيلُ وَلَا بَيِّنَةَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَمِينُ، لِنَصِّ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».وَلَا يَكُونُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْحَوَالَةِ بِمَثَابَةِ إِقْرَارٍ مِنَ الْمُحِيلِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لِلْمُحَالِ مَا دَامَ لَفْظُهَا صَالِحًا لِمَعْنَى الْوَكَالَةِ.

وَبِهَذَا الْأَصْلِ يُتَمَسَّكُ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ- فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ- أَنَّ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ فِي غَيْبَةِ الْمُحَالِ، وَأَنْ يُنْهَى عَنْ دَفْعِهِ إِلَيْهِ بِدَعْوَى أَنَّهُ حِينَ أَحَالَهُ إِنَّمَا أَرَادَ تَوْكِيلَهُ.وَإِنْ كَانَ الَّذِي رَوَاهُ بِشْرٌ- وَاعْتَمَدُوهُ وَيُعْزَى إِلَى أَبِي يُوسُفَ- خِلَافَ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصْدِيقَهُ فِي دَعْوَاهُ هَذِهِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ.نَعَمْ إِذَا كَانَ فِي صِيغَةِ التَّعَاقُلِ نَفْسِهَا- وَرَاءَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ- مَا يُكَذِّبُ هَذَا الِادِّعَاءَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى قَبُولِهِ، وَلِذَا يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الْحَوَالَةُ بِصِيغَةِ: اضْمَنْ عَنِّي كَذَا مِنَ الْمَالِ لِفُلَانٍ، كَانَتْ دَعْوَى الْوَكَالَةِ كَذِبًا مَرْفُوضًا، لِأَنَّ الصِّيغَةَ لَا تَحْتَمِلُهَا.

39- وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ الْمُحِيلِ بِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا وَكَالَةً، وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّ كَلِمَةَ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ، فَلَا يَكُونُ إِقْرَارًا بِدَيْنِ الْمُحَالِ، لَا يَسْتَقِيمُ إِلاَّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ (مَعْنَى الْحَوَالَةِ، وَمَعْنَى الْوَكَالَةِ) عَلَى سَوَاءٍ، لِتَكُونَ مِنْ قَبِيلِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْوَكَالَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ- إِلاَّ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ- لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَجَازِ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَلِذَا تَكَلَّفَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فَحَمَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى: مَا إِذَا ادَّعَى الْمُحَالُ أَنَّ مَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَيْسَ إِلاَّ ثَمَنَ مَالٍ لَهُ هُوَ، وَأَنَّ الْمُحِيلَ كَانَ وَكِيلًا عَنْهُ فِي بَيْعِهِ.

فَالدَّيْنُ دَيْنُهُ هُوَ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ حَقُّهُ.وَإِذَنْ يَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْمَالِ، وَالْيَدُ كَانَتْ لِلْمُحِيلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَهُ.وَعَلَّقَ عَلَيْهِ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ بِقَوْلِهِ: (ظَاهِرُهُ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِنَحْوِ هَذِهِ الصُّورَةِ)، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقٌ فِي سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ، وَالْحَقُّ أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَجْوِيزِ كَوْنِ اللَّفْظِ: (أَحَلْتُكَ بِأَلْفٍ) يُرَادُ بِهِ أَلْفٌ لِلْمُحِيلِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الدَّيْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْقَطْعِ بِهَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ دَلَالَتِهِ، مِثْلُ: لَهُ عَلَيَّ أَوْ فِي ذِمَّتِي، لِأَنَّ فَرَاغَ الذِّمَّةِ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ ضَرَرُ شَغْلِ ذِمَّتِهِ إِلاَّ بِمِثْلِهِ مِنَ اللَّفْظِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: اتَّزِنْهَا، فِي جَوَابِ: «لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ» لِلتَّيَقُّنِ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي اتَّزِنْهَا عَلَى الْأَلْفِ الْمُدَّعَاةِ بِخِلَافِ مُجَرَّدِ (قَوْلِهِ: أَحَلْتُكَ).

40- وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ:

أ- أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُحَالُ قَدْ قَبَضَ بِالْفِعْلِ دَيْنَ الْحَوَالَةِ، الَّتِي أَنْكَرَ الْمُحِيلُ حَقِيقَتَهَا، بِدَعْوَى أَنَّهَا وَكَالَةٌ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَدِّ مَا قَبَضَهُ إِلَى الْمُحِيلِ، إِذْ قَدْ سَقَطَ- بِسُقُوطِ دَعْوَاهُ- حَقُّهُ فِيهِ.

ب- إِذَا كَانَ الْمُحِيلُ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ- وَلَيْسَ كَاذِبًا يُرِيدُ الْحِيلَةَ- فَإِنَّ الْحَوَالَةَ لَا يَكُونُ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهَا أَيُّ تَغْيِيرٍ، إِلاَّ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْحَالِ، وَهِيَ إِذَنْ لَمْ تَنْعَقِدْ مِنَ الْأَصْلِ حَوَالَةً حَقِيقِيَّةً، بَلْ وَكَالَةً.

41- رَأْيُ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ: الَّذِي قَرَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، هُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ اعْتَمَدُوهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الدَّيْنِ فِي مَحَلِّهِ، وَلَكِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ مِنْهُمْ يُنَازِعُ فِيهِ، وَعِنْدَهُ أَنَّ مُدَّعِيَ الْحَوَالَةِ هُوَ الَّذِي يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ صِيغَةِ الْحَوَالَةِ بِلَفْظِهَا يُؤَيِّدُهُ، فَالظَّاهِرُ مَعَهُ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ عَلَى مِلْكِ دَارٍ، وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَسَيَأْتِي الْفَصْلُ فِي الْمَوْضُوعِ وَفْقَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ (ر: ف 42).

وَوَاضِحٌ أَنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ يَبْقَى كَمَا هُوَ، إِذَا كَانَ النِّزَاعُ مُنْصَبًّا عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي اسْتُعْمِلَ: أَكَانَ لَفْظَ الْحَوَالَةِ أَمْ لَفْظَ الْوَكَالَةِ.

وَالْفَرْضُ أَنْ لَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا، وَإِلاَّ عُمِلَ بِهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ لِإِمْكَانِهَا، وَهَذَا مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ مُنْكَرَ الْحَوَالَةِ هُوَ فِي مُعْتَمَدِهِمُ الصِّدْقُ عَلَى كُلِّ حَالٍ- لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ- وَلَوْ كَانَ مُنْكِرُهَا وَزَاعِمُ الْوَكَالَةِ هُوَ الْمُحَالُ نَفْسُهُ لِأَمْرٍ مَا، كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ إِفْلَاسُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.

وَمِنْ أَهَمِّ مَا صَرَّحُوا بِهِ أَيْضًا أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُحِيلُ مُقِرًّا بِدَيْنِ الْمُحَالِ، وَإِلاَّ فَلَا يُتَّجَهُ سِوَى تَصْدِيقِ الْمُحِيلِ، وَلِلْمُحَالِ تَحْلِيفُهُ عَلَى نَفْيِ دَيْنِهِ، لِأَنَّهُ، أَيِ الْمُحِيلَ، مُتَمَسِّكٌ عِنْدَئِذٍ بِنَفْسِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا تَتَحَقَّقُ حَوَالَةٌ إِلاَّ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مَدِينًا لِلْمُحَالِ.

وَكَمَا وَافَقَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْمُعْتَمَدِ لَدَيْهِمُ- الْحَنَفِيَّةَ فِي الْأَصْلِ، وَافَقُوهُمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَيْضًا- إِذْ هُوَ مِمَّا لَا يَقْبَلُ النِّزَاعَ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي صِيغَةِ التَّعَاقُدِ مَا يُكَذِّبُ الْمُحِيلَ- كَمَا لَوْ قَالَ: أَحَلْتُكَ بِالْمِائَةِ الَّتِي لَكَ فِي ذِمَّتِي عَلَى فُلَانٍ مَدِينِي- فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحَالِ عِنْدَئِذٍ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْحَوَالَةِ وَكُلُّ مَا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ، أَصْلًا وَاسْتِثْنَاءً وَوِفَاقًا وَخِلَافًا وَتَرْجِيحًا، ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ.

42- وَالْقَوْلَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيَّةُ يُوجَدَانِ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.فَابْنُ الْقَاسِمِ يَرَى رَأْيَ الْمُزَنِيِّ، وَابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَرَى رَأْيَ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُوجَدُ لِكُلٍّ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ نُصُوصٌ جُزْئِيَّةٌ قَامَ أَصْحَابُهُمَا بِتَخْرِيجِ نَظَائِرِهَا عَلَيْهَا، وَقَدْ جَرَى خَلِيلٌ عَلَى الثَّانِي، وَلَكِنَّهُمْ نَقَدُوهُ وَآثَرُوا الْأَوَّلَ.

وَمِنْ آثَارِ هَذَا الْخِلَافِ: فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ حَالَاتٌ وَاحْتِمَالَاتٌ تَخْتَلِفُ فِي الْأَحْكَامِ تَبَعًا لِمَا إِذَا كَانَ مُنْكِرُ الْحَوَالَةِ وَمُدَّعِي الْوَكَالَةِ هُوَ الْمُحِيلَ أَوِ الْمُحَالَ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كَمَا يَلِي:

43- الْحَالَةُ الْأُولَى- حِينَ يَكُونُ الْمُحِيلُ هُوَ مُنْكَرَ الْحَوَالَةِ:

أ- فَعِنْدَ مَنْ يَقُولُونَ بِتَرْجِيحِ زَعْمِ مُثْبِتِهَا (وَهُوَ الْمُحَالُ) تَثْبُتُ الْحَوَالَةُ بِيَمِينِهِ وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا، وَفِي طَلِيعَةِ هَذِهِ الْآثَارِ بَرَاءَةُ الْمُحِيلِ، وَمُطَالَبَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.

ب- وَعِنْدَ مَنْ يَقُولُونَ بِتَرْجِيحِ زَعْمِ مُنْكِرِهَا (وَهُوَ الْمُحِيلُ) تَنْتَفِي الْحَوَالَةُ وَتَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ تَبْرُزُ بَعْدَ ذَلِكَ احْتِمَالَاتٌ ثَلَاثَةٌ: لِأَنَّ الْمُحَالَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَ الْمَالَ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَاقِيًا عِنْدَهُ أَوْ هَالِكًا.

44- الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُحَالَ لَمْ يَقْبِضِ الْمَالَ:

فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ مِنَ الْوَكَالَةِ بِإِنْكَارِهِ إِيَّاهَا، فَلَا يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي الْقَبْضِ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَرْجِعُ بِدَيْنِهِ عَلَى الْمُحِيلِ؟ الصَّوَابُ: نَعَمْ، لِأَنَّ الْمُحِيلَ يُنْكِرُ الْحَوَالَةَ، وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُ، مُؤَاخَذَةً لَهُ بِقَوْلِ نَفْسِهِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْحَوَالَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا بَرَاءَةُ الْمُحِيلِ، وَثُبُوتُ حَقِّهِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ- وَلَوْ قَبَضَهُ الْمُحِيلُ مِنْهُ- لِأَنَّهُ فِي نَظَرِهِ وَزَعْمِهِ لَيْسَ إِلاَّ قَبْضَ ظَالِمٍ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ.

45- الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُحَالَ قَبَضَ الْمَالَ، وَمَا زَالَ عِنْدَهُ.

فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ عَلَى الْمُحَالِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ إِلَى الْمُحِيلِ، وَلِلْمُحِيلِ اسْتِرْدَادُهُ مِنْهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْمُحِيلِ بِدَيْنِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُحَالًا فَقَدِ اسْتَرَدَّ مِنْهُ الْمُحِيلُ مَا قَبَضَهُ عَلَى أَسَاسِ الْحَوَالَةِ فَعَلَى الْمُحِيلِ أَنْ يَفِيَهُ دَيْنَهُ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا فَحَقُّهُ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ.

هَكَذَا قَالُوا، مَعَ تَسْلِيمِهِمْ بِأَنَّهُ دَائِنٌ، وَلَمْ يَقُولُوا بِالْمُقَاصَّةِ، لِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عَيْنٌ وَالَّذِي لَهُ دَيْنٌ، وَالْمُقَاصَّةُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ دَيْنَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً: فَلَيْسَ لَهَا هُنَا مَوْضِعٌ.

نَعَمْ إِنْ خَشِيَ ضَيَاعَ حَقِّهِ كَانَ لَهُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، أَخْذُ مَا مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ.

وَهُنَاكَ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ لِلْمُحَالِ حَقُّ الرُّجُوعِ بِدَيْنِهِ، مُؤَاخَذَةً لَهُ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ، لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ بِالْحَوَالَةِ مُقِرٌّ بِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ.

46- الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُحَالَ قَبَضَ الْمَالَ، وَلَكِنَّهُ هَلَكَ عِنْدَهُ:

فَلَا حَقَّ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ، وَلَا لِلْمُحَالِ عَلَى الْمُحِيلِ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ أَمْ بِدُونِ تَفْرِيطٍ.

فَإِنْ كَانَ بِتَفْرِيطٍ، فَلِأَنَّهُ إِمَّا مَالُهُ قَدْ تَلِفَ بِيَدِهِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْوَاقِعِ صَادِقًا فِي زَعْمِهِ الْحَوَالَةَ، وَإِمَّا مَالٌ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، فَيَثْبُتُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا لَهُ عِنْدَ الْمُحِيلِ وَيَتَقَاصَّانِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَلِأَنَّ الْمُحِيلَ مُقِرٌّ بِأَنَّ الْمَالَ إِنَّمَا تَلِفَ فِي يَدِ أَمِينِهِ، أَيْ وَكِيلِهِ بِمُقْتَضَى دَعْوَاهُ، وَالْفَرْضُ أَنْ لَا تَعَدِّيَ.وَإِنْ كَانَ الْبَغَوِيُّ مِنْ كِبَارِ الشَّافِعِيَّةِ، يُنَازِعُ فِي هَذَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْوَكِيلِ لِنَفْسِهِ يُوجِبُ ضَمَانَهُ وَيَقُولُ: إِنَّهُ يَضْمَنُ لِثُبُوتِ وَكَالَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ، أَيِ الْمُحَالَ، مُقِرٌّ بِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَتَلِفَ عِنْدَهُ.

47- (الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ): حِينَ يَكُونُ الْمُحَالُ هُوَ مُنْكِرُ الْحَوَالَةِ:

أ- فَعِنْدَ مَنْ يَقُولُونَ بِتَرْجِيحِ زَعْمِ مُثْبِتِهَا (وَهُوَ الْمُحِيلُ): تَثْبُتُ الْحَوَالَةُ بِيَمِينِهِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا، فَيَبْرَأُ الْمُحِيلُ، وَيُطَالِبُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَا قُبِضَ مِنْهُ يَكُونُ لِلْمُحَالِ، لِأَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى جَانِبِ الْمُحِيلِ، فَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْحَوَالَةِ الَّتِي أَقَرَّ هُوَ بِهَا، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى جَانِبِ الْمُحَالِ، فَإِنَّهُ ظَافِرٌ بِجِنْسِ حَقِّهِ الَّذِي يَأْبَى الْمُحِيلُ تَسْلِيمَهُ إِلَيْهِ.

ب- أَمَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُونَ بِتَرْجِيحِ زَعْمِ نَافِيهَا (وَهُوَ الْمُحَالُ) فَتَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِيَمِينِهِ وَيُعْتَبَرُ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ، عَنِ الْمُحِيلِ، كَمَا أَنَّ الْمُحِيلَ فِي تَمَسُّكِهِ بِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ حَوَالَةً يَكُونُ مُعْتَرِفًا بِدَيْنِ الْمُحَالِ فِي ذِمَّتِهِ.

ثُمَّ الِاحْتِمَالَاتُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ: لِأَنَّ الْمُحَالَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَ الْمَالَ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَاقِيًا عِنْدَهُ أَوْ هَالِكًا.

48- (الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ) أَنَّ الْمُحَالَ لَمْ يَقْبِضِ الْمَالَ:

وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَأْخُذُ الْمُحَالُ حَقَّهُ مِنَ الْمُحِيلِ، ثُمَّ يَكُونُ لِلْمُحِيلِ مُطَالَبَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ، لِأَنَّ الْوَاقِعَ إِنْ كَانَ وَكَالَةً- كَمَا ثَبَتَ ظَاهِرًا- فَدَيْنُهُ مَا زَالَ فِي ذِمَّةِ مَدِينِهِ لَمْ يَقْبِضْهُ الْوَكِيلُ بَعْدُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ حَوَالَةً، فَإِنَّ الْمُحَالَ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهَا لِأَنَّهَا اعْتُبِرَتْ فِي الظَّاهِرِ وَكَالَةً، وَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَأْخُذَ الْمُحَالُ حَقَّهُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، أَخَذَهُ مِنَ الْمُحِيلِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، فَيَكُونُ لَهُ- رَغْمَ إِقْرَارِهِ بِأَنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ هُوَ لِلْمُحِيلِ- أَنْ يَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ وَفَاءً بِمَا أَخَذَهُ الْمُحَالُ مِنْهُ، كَالظَّافِرِ بِجِنْسِ حَقِّهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِيِّ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنْ أَخْذِهِ، وُقُوفًا عِنْدَ مُؤَاخَذَتِهِ بِإِقْرَارِهِ هَذَا.

49- (الِاحْتِمَالُ الثَّانِي) أَنَّ الْمُحَالَ قَبَضَ الْمَالَ، وَمَا زَالَ عِنْدَهُ:

فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي تَمَلُّكِ مَا قَبَضَ.لِأَنَّهُ مَعَ ثُبُوتِ الْوَكَالَةِ يُعْتَبَرُ ظَافِرًا بِجِنْسِ حَقِّهِ الَّذِي يَأْبَى الْمُحِيلُ تَسْلِيمَهُ إِلَيْهِ تَمَسُّكًا بِالْحَوَالَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ إِقْرَارَ الْمُحِيلِ لَهُ بِدَيْنِهِ.

50- (الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ) الْمُحَالُ قَبَضَ الْمَالَ، وَلَكِنَّهُ هَلَكَ عِنْدَهُ:

وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ- تَفْرِيعًا عَلَى الْوَكَالَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ- إِنْ كَانَ قَدْ تَلِفَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، فَيَتَقَاصَّانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَقَدْ هَلَكَ عَلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ الْمُحِيلُ، وَيَرْجِعُ هُوَ بِدَيْنِهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَبْرَأُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، بِالدَّفْعِ إِلَى الْمُحَالِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُحَالًا، فَذَاكَ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا، فَقَدْ دَفَعَ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْوَكَالَةِ.

51- تَنْبِيهٌ:

عَدَمُ تَضْمِينِ الْمُحَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَمَا يَتْلَفُ الْمَالُ بِيَدِهِ دُونَ تَفْرِيطٍ- وَلَهَا نَظَائِرُ- مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْتَفَتِ الْحَوَالَةُ فِي هَذَا التَّنَازُعِ الْمَشْرُوعِ ثَبَتَتِ الْوَكَالَةُ، وَقَدْ عَبَّرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ بِذَلِكَ فِعْلًا: فَهُوَ يَقُولُ فِي هَذَا الشِّقِّ مِنَ الْقَضِيَّةِ (وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْمُزَنِيِّ، وَحَلَفَ الْمُحَالُ ثَبَتَ أَنَّهُ وَكِيلٌ)، كَمَا عَبَّرَ بِهِ الْبَغَوِيُّ فِي خِلَافِيَّتِهِ الْآنِفَةِ الذِّكْرِ (ر: ف 42).

وَلَكِنَّ الْجُوَيْنِيَّ يَحْكِي وَجْهًا آخَرَ بِتَضْمِينِ الْمُحَالِ، وَيُعَلِّلُهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَتْلَفُ فِي يَدِ إِنْسَانٍ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ هُوَ الضَّمَانُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَصْدِيقِهِ فِي نَفْيِ الْحَوَالَةِ، لِيَبْقَى حَقُّهُ، تَصْدِيقُهُ فِي إِثْبَاتِ الْوَكَالَةِ لِيَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ.كَمَا إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي قِدَمِ الْعَيْبِ وَحُدُوثِهِ، وَصَدَّقْنَا الْبَائِعَ بِيَمِينِهِ فِي مَنْعِ الرَّدِّ بِذَا الْعَيْبِ، ثُمَّ وَقَعَ الْفَسْخُ، بِتَحَالُفٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِأَرْشِ ذَلِكَ الْعَيْبِ، ذَهَابًا إِلَى أَنَّهُ حَادِثٌ بِمُقْتَضَى يَمِينِهِ.

وَلَعَلَّ مِثْلَ هَذَا الْمَلْحَظِ هُوَ الَّذِي حَدَا بِالْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى الْعُدُولِ عَنْ عِبَارَتَيْ الشِّيرَازِيِّ وَالْبَغَوِيِّ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ: (وَبِالْحَلِفِ تَنْدَفِعُ الْحَوَالَةُ)، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُعَوِّلُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْإِشَارَةِ- إِنْ صَحَّ- أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ وَمَضَوْا فِي التَّفْرِيعِ عَلَى أَسَاسِ ثُبُوتِ الْوَكَالَةِ.

مَجْلِسُ الْعَقْدِ:

51 م- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ مِنَ الْمُحِيلِ، وَالْقَبُولِ مِنَ الْمُحَالِ.

وَلَا يَكُونُ قَبُولًا بِمَعْنَاهُ الْمُتَبَادِرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، بِلَا قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ إِلاَّ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَهُوَ مَجْلِسُ عِلْمِ الْمُحَالِ بِالْإِيجَابِ غَيْرِ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.

وَيُجْبَرُ الْمُحَالُ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ.أَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَلَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ، لَا فِي الْعَقْدِ وَلَا خَارِجَهُ، لِأَنَّهُ مَدِينٌ لِلْمُحِيلِ، فَلَا شَأْنَ لَهُ بِمَنْ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالتَّأْدِيَةِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى مَنْ يَخْتَارُهُ.لَكِنَّ الْإِيجَابَ مِنَ الْمُحِيلِ كَافٍ وَحْدَهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَهُمْ يَكْتَفُونَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ بِإِيجَابِ الْمُحِيلِ فَقَطْ.

وَيَشْتَرِطُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ حُضُورَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَإِقْرَارَهُ، أَوْ حُضُورَهُ وَعِلْمَهُ.

وَاشْتَرَطَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حُضُورَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَإِقْرَارَهُ أَوْ حُضُورَهُ وَعِلْمَهُ، وَوَافَقَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ كَابْنِ يُونُسَ وَابْنِ عَرَفَةَ وَأَبِي الْحَسَنِ، حَتَّى لَقَدِ اسْتَنْبَطَ ابْنُ سَوْدَةَ فِي شَرْحِ التُّحْفَةِ مِنَ اجْتِمَاعِ كُلِّ هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذَا الرَّأْيَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ تُفْسَخُ الْحَوَالَةُ عَلَى الْغَائِبِ.وَبِالرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ فَالَّذِي جَرَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَالْقَرَافِيُّ وَابْنُ سَلْمُونَ- وَاشْتُهِرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَيُنْسَبُ إِلَى مَالِكٍ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمُوَثَّقِينَ وَالْأَنْدَلُسِيِّينَ.وَهُوَ قَوْلُ مَنْ عَدَا الْمَالِكِيَّةَ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

52- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَرِيطَةَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ أَنْ يَكُونَا بِمَجْلِسٍ وَاحِدٍ هُوَ مَجْلِسُ الْعَقْدِ، وَقَدْ يُسَمَّى: مَحَلَّ الْإِيجَابِ، وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالتَّعْقِيبِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَطْرَافِ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ حَوَالَةٍ، وَبِذَلِكَ تَنْعَقِدُ الْحَوَالَةُ إِلاَّ أَنَّهَا تَكُونُ نَاجِزَةً أَوْ مَوْقُوفَةً، نَحْوَ مَا أَسْلَفْنَاهُ (ر: ف 29).

وَقَدْ لَخَّصَهُ صَاحِبُ النَّهْرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- بِقَوْلِهِ: (الشَّرْطُ قَبُولُ الْمُحْتَالِ فِي الْمَجْلِسِ، وَرِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَلَوْ غَائِبًا).

الشُّرُوطُ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الْأَطْرَافُ:

53- يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا سَبَقَ (ر: ف 24) فِي صِيغَةِ الْحَوَالَةِ عَدَمَ وُجُودِ شَرْطٍ غَيْرِ جَائِزٍ، مِنْ مُبْطِلٍ، كَالتَّعْلِيقِ وَالتَّأْقِيتِ، أَوْ مُفْسِدٍ كَالتَّأْجِيلِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً فَاحِشَةً.

فَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: (إِنَّ تَعْلِيقَ التَّمْلِيكَاتِ وَالتَّقْيِيدَاتِ لَا يَجُوزُ، فَالتَّمْلِيكُ، كَبَيْعٍ وَهِبَةٍ وَإِجَارَةٍ، وَأَمَّا التَّقْيِيدُ فَكَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَحَجْرِ الْمَأْذُونِ).

وَهَذَا النَّصُّ يَنْطَبِقُ عَلَى الْحَوَالَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّقْيِيدِ أَيْضًا، إِذْ كُلٌّ مِنَ الْمُحَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ بِهَا الْتِزَامَاتٍ جَدِيدَةً.

54- أَمَّا التَّأْقِيتِ، وَالتَّأْجِيلُ إِلَى الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ جَهَالَةً فَاحِشَةً: فَلِأَنَّ التَّأْقِيتَ يُنَافِي طَبِيعَةَ الْحَوَالَةِ- أَعْنِي نَقْلَ الدَّيْنِ- فَلَوْ قِيلَ الْحَوَالَةُ قَابِلٌ لِمُدَّةِ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، مَثَلًا، فَلَا حَوَالَةَ أَصْلًا، وَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ بِالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ جَهَالَةً فَاحِشَةً يُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ الْمُشْكِلِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَقُولَ الْمُلْتَزِمُ: قَبِلْتُ حَوَالَةَ الدَّيْنِ الَّذِي لَكَ عَلَى فُلَانٍ، عَلَى أَنْ أُؤَدِيَهُ إِلَيْكَ عِنْدَ هُطُولِ الْمَطَرِ، أَوْ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ، وَهَذَا شَرْطٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ فَيَلْغُو، وَتَكُونُ الْحَوَالَةُ حَالَّةً بِخِلَافِ التَّأْجِيلِ بِالْأَجَلِ الْمَعْلُومِ كَغَايَةِ شَهْرِ كَذَا، أَوِ الْمَجْهُولِ جَهَالَةً مُحْتَمَلَةً كَمَوْسِمِ حَصَادِ الْقَمْحِ هَذَا الْعَامَ، فَإِنَّهُ تَأْجِيلٌ بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ، وَلَا غَرَرَ فِيهِ أَصْلًا، أَوْ لَا غَرَرَ يُذْكَرُ.

وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْحَوَالَةِ بِأَنَّ تَأْجِيلَ عَقْدِهَا لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّ تَأْجِيلَ الدَّيْنِ فِيهَا يَصِحُّ، فَلَوْ قَالَ لآِخَرَ: ضَمِنْتُ بِمَا لَكَ عَلَى فُلَانٍ عَلَى أَنْ أُحِيلَكَ بِهِ عَلَى فُلَانٍ إِلَى شَهْرٍ، انْصَرَفَ التَّأْجِيلُ إِلَى الدَّيْنِ لِأَنَّ تَأْجِيلَ عَقْدِهَا لَا يَصِحُّ.

55- وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَالِكِيَّةِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُحِيلَ عَلَيْهِ دَائِنُهُ، وَهَذَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونِسِيُّ الْمَالِكِيُّ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ فِي الْحَوَالَةِ مُقَارِنًا لِثُبُوتِهَا وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْعَاقِدُ فِي الْحَوَالَةِ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقَالُوا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي عَقْدِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ عَلَى الْمُغَابَنَةِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْحَوَالَةَ لَا يَدْخُلُهَا خِيَارٌ وَتَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَيَرَوْنَ كَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ عَلَى الْمُحْتَالِ أَنْ يُؤَخِّرَ حَقَّهُ أَوْ يُؤَخِّرَ بَعْضَهُ إِلَى أَجَلٍ وَلَوْ مَعْلُومًا لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ، لِأَنَّ الْحَالَّ لَا يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


3-موسوعة الفقه الكويتية (سلم 3)

سَلَم -3

ب- التَّصَرُّفُ فِي دَيْنِ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ:

30- بِنَاءً عَلَى كَوْنِ دَيْنِ السَّلَمِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوِ الِاسْتِبْدَالُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فَسْخُ الْعَقْدِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَامْتِنَاعِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ، فَكَانَ كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلَا يَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ».قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَلاَّ يَبِيعَ الْمُسْلِمُ دَيْنَ السَّلَمِ لَا مِنْ صَاحِبٍ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ هَذَا فِي الْبَيْعِ أَمَّا غَيْرُهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فَفِيهَا خِلَافٌ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: «لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ لِرَبِّ السَّلَمِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِنَحْوِ بَيْعٍ وَشَرِكَةٍ وَمُرَابَحَةِ تَوْلِيَةٍ، وَلَوْ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ».

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: «لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، بِأَنْ يَأْخُذَ رَبُّ السَّلَمِ مَكَانَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَهُوَ مَبِيعٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ..وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ لِوُجُودِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ مَعَ شَرَائِطِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِهِ...وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً، وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ- أَيُّ دَيْنٍ كَانَ- جَائِزٌ».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: «وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِاسْتِبْدَالُ عَنْهُ، وَهَلْ تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِهِ بِأَنْ يُحِيلَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمَ بِحَقِّهِ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنُ قَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ، أَوِ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُحِيلَ الْمُسْلِمُ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنُ قَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لَا.وَالثَّانِي: نَعَمْ.وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ بِهِ».

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: «لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَوْ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ...وَلَا يَصِحُّ أَخْذُ غَيْرِهِ، أَيْ: الْمُسْلَمِ فِيهِ مَكَانَهُ...وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَهُ فِي الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ.وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ- أَيْ بِدَيْنِ السَّلَمِ- لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَلَمْ تَجُزْ كَالْبَيْعِ.وَلَا الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلاَّ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ، وَالسَّلَمُ عُرْضَةٌ لِلْفَسْخِ».

31- وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ حَيْثُ أَجَازَا بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ دُونَهُ لَا أَكْثَرَ مِنْهُ حَالًّا.وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَسْلَفْتَ فِي شَيْءٍ إِلَى أَجَلٍ، فَإِنْ أَخَذْتَ مَا أَسْلَفْتَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَخُذْ عِوَضًا أَنْقَصَ مِنْهُ، وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ.

وَحُجَّتُهُمْ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مِنَ الْمَدِينِ أَوِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِسِعْرِ الْمِثْلِ أَوْ دُونَهُ هُوَ عَدَمُ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، حَيْثُ إِنَّ حَدِيثَ «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ» ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ.وَحَتَّى لَوْ ثَبَتَ فَمَعْنَى «فَلَا يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ» أَيْ: لَا يَصْرِفُهُ إِلَى سَلَمٍ آخَرَ، أَوْ لَا يَبِعْهُ بِمُعَيَّنٍ مُؤَجَّلٍ..وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ.قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي التَّحْرِيمِ وَلَا إِجْمَاعَ وَلَا قِيَاسَ، وَأَنَّ النَّصَّ وَالْقِيَاسَ يَقْتَضِيَانِ الْإِبَاحَةَ.

أَمَّا دَلِيلُهُمْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ فَلِأَنَّ دَيْنَ السَّلَمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِزِيَادَةٍ، فَقَدْ رَبِحَ رَبُّ السَّلَمِ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ».

32- وَنَهَجَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَضِيَّةِ مَسْلَكًا وَسَطًا، إِذْ أَجَازُوا بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِغَيْرِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ طَعَامًا فَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: «وَأَمَّا بَيْعُ السَّلَمِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فَيَجُوزُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَجُوزُ بِهِ التَّبَايُعُ، مَا لَمْ يَكُنْ طَعَامًا؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ».

أَمَّا الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، أَوْ بَيْعُهُ مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فَقَدْ أَجَازُوهُ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ، بَيَّنَهَا الْخَرَشِيُّ بِقَوْلِهِ: «يَجُوزُ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ السَّلَمَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، سَوَاءٌ حَلَّ الْأَجَلُ أَمْ لَا بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يُبَاعُ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي حَيَوَانٍ، فَأَخَذَ عَنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ دَرَاهِمَ؛ إِذْ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَوَانِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يُبَاعُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبٍ مَثَلًا، فَأَخَذَ عَنْهُ طَسْتَ نُحَاسٍ؛ إِذْ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّسْتِ بِالثَّوْبِ يَدًا بِيَدٍ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُسْلَمَ فِيهِ رَأْسُ الْمَالِ.كَمَا لَوْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ فِي حَيَوَانٍ، فَأَخَذَ عَنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ ثَوْبًا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ الدَّرَاهِمَ فِي الثَّوْبِ».

قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: «مَنْ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ غَيْرَ طَعَامٍ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَ طَعَامًا مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَجَلِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ.فَإِنْ أَسْلَمَ فِي غَيْرِ طَعَامٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَهُ إِذَا قَبَّضَهُ الْجِنْسَ الْآخَرَ مَكَانَهُ.

فَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ عَنِ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ لِمَصِيرِهِ إِلَى الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ طَعَامًا مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مَعَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ كَزَبِيبٍ أَبْيَضَ عَنْ أَسْوَدَ، إِلاَّ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ مِنَ الْآخَرِ أَوْ أَدْنَى، فَيَجُوزُ بَعْدَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الرِّفْقِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الدُّونِ وُضِعَ عَلَى التَّعْجِيلِ، وَفِي الْأَجْوَدِ عِوَضٌ عَنِ الضَّمَانِ» وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: «يَجُوزُ بَيْعُ الْعِوَضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ بَائِعِهِ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ أَوْ أَقَلَّ لَا أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي الْأَكْثَرِ بِسَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً.وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ بِالْمِثْلِ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا يَجُوزُ بِالتَّأْخِيرِ لِلْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ نَقْدًا لَجَازَ».

ج- إِيفَاءُ الْمُسْلَمِ فِيهِ:

33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَلَّ أَجَلُ السَّلَمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِيفَاءُ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ.

فَإِنْ جَاءَ بِهِ وَفْقَ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ قَبُولُهُ لِأَنَّهُ أَتَاهُ بِحَقِّهِ فِي مَحِلِّهِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ، كَالْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ فِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.

فَإِنْ أَبَى قِيلَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَقْبِضَ حَقَّكَ، وَإِمَّا أَنْ تُبَرِّئَ مِنْهُ.فَإِنِ امْتَنَعَ قَبَضَهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ لِلْمُسْلِمِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُمْتَنِعِ بِوِلَايَتِهِ.

أَمَّا قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ مُطَالَبَةُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِالدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ.

وَلَكِنْ إِذَا أَتَى بِهِ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَامْتَنَعَ الْمُسْلِمُ مِنْ قَبُولِهِ، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أ- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَتَى بِهِ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ:

فَإِنْ كَانَ مِمَّا فِي قَبْضِهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ ضَرَرٌ- عَلَى الْمُسْلِمِ- إِمَّا لِكَوْنِهِ مِمَّا يَتَغَيَّرُ، كَالْفَاكِهَةِ، وَالْأَطْعِمَةِ كُلِّهَا، أَوْ كَانَ قَدِيمُهُ دُونَ حَدِيثِهِ، كَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمِ الْمُسْلِمَ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي تَأْخِيرِهِ، بِأَنْ يَحْتَاجَ إِلَى أَكْلِهِ أَوْ إِطْعَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ تَلَفَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ.وَهَذَا إِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إِلَى مُؤْنَةٍ، كَالْقُطْنِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ الْوَقْتُ مَخُوفًا يَخْشَى نَهْبُ مَا يَقْبِضُهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي قَبْضِهِ، وَلَمْ يَأْتِ مَحَلُّ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ، فَجَرَى مَجْرَى نَقْصِ صِفَةٍ فِيهِ.

وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي قَبْضِهِ.بِأَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ، كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الزَّيْتُ وَالْعَسَلُ، وَلَا فِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ لِخَوْفٍ وَلَا تَحَمُّلِ مُؤْنَةٍ، فَعَلَيْهِ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ حَاصِلٌ مَعَ زِيَادَةِ تَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ، فَجَرَى مَجْرَى زِيَادَةِ الصِّفَةِ وَتَعْجِيلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِ غَرَضٌ فِي الِامْتِنَاعِ وَكَانَ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ غَرَضٌ آخَرُ سِوَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ رَهْنٌ أَوْ كَفِيلٌ أُجْبِرَ الْمُسْلِمُ عَلَى الْقَبُولِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِلاَّ فَقَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا يُجْبَرُ.

ب- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: «إِذَا دَفَعَ الْمُسْلَمَ فِيهِ قَبْلَ الْأَجَلِ، جَازَ قَبُولُهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ.وَأَلْزَمَ الْمُتَأَخِّرُونَ قَبُولَهُ فِي الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ».

34- وَلَوْ أَحْضَرَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الدَّيْنَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ بَعْدَ مَحِلِّ الْأَجَلِ.فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَلْزَمُهُ قَبْضُهُ، كَمَا لَوْ أَحْضَرَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ الْمُعَيَّنَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَبْضُهُ، مِثْلُ أَنْ يُسْلِمَ فِي قَطَائِفِ الشِّتَاءِ فَيَأْتِي بِهَا فِي الصَّيْفِ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَجَمَاعَةٌ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ.

وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ مَنْشَأَ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُلْزِمْهُ بِقَبْضِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعُرُوضِ إِنَّمَا كَانَ وَقْتَ الْأَجَلِ لَا غَيْرَهُ.أَمَّا مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ وَأَلْزَمَهُ بِقَبْضِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ.

أَمَّا إِذَا أَتَى الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فِي مَحِلِّهِ عَلَى غَيْرِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ أَحْضَرَهُ بِجِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، وَلَكِنْ عَلَى صِفَةٍ دُونَ صِفَتِهِ الْمَشْرُوطَةِ جَازَ لِلْمُسْلِمِ قَبُولُهُ، لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَخْذُهُ.

وَإِنْ أَحْضَرَهُ بِجِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، وَبِصِفَةٍ أَجْوَدَ مِنَ الْمَوْصُوفِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَزِيَادَةٍ تَابِعَةٍ لَهُ، فَيَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ، إِذْ لَمْ يَفُتْهُ غَرَضٌ.

وَإِنْ أَتَى بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ، كَأَنْ أَسْلَمَ بِتَمْرٍ خُضَرِيٍّ، فَأَحْضَرَ الْبَرْنِيَّ، أَوْ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ، فَأَتَى بِمَرْوِيٍّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: أَصَحُّهَا: يَحْرُمُ قَبُولُهُ.

وَالثَّانِي: يَجِبُ.وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ قَالَ الْمَحَلِّيُّ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ أَيِ الِاعْتِيَاضَ عَنْ رِبَوِيٍّ بِجِنْسِهِ مَعَ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: «لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ مَا وَصَفْنَاهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي شَرَطَاهَا، وَقَدْ فَاتَ بَعْضُ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ النَّوْعَ صِفَةٌ، وَقَدْ فَاتَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَاتَ غَيْرُهُ مِنَ الصِّفَاتِ.

وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، لِأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ، فَأَشْبَهَ الزِّيَادَةَ فِي الصِّفَةِ مَعَ اتِّفَاقِ النَّوْعِ».

أَمَّا الْمِعْيَارُ الَّذِي يُحْتَكَمُ إِلَيْهِ فِي حَدِّ الصِّفَةِ الْوَاجِبِ تَوَفُّرُهُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ فَقَدْ بَيَّنَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ لَهُ- أَيْ: لِلْمُسْلِمِ- إِلاَّ أَقَلُّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الصِّفَةُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلَّمَ إِلَيْهِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ، فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ.

35- وَحَيْثُ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ تَسْلِيمُ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ جَاءَ بِهِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِ الِامْتِنَاعُ عَنْ تَسَلُّمِهِ فِيهِ.فَإِنْ شَاءَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ أَدَاءَهُ فِي غَيْرِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أ- فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ قَبُولُهُ بِغَيْرِ مَحِلِّهِ، وَلَوْ خَفَّ حَمْلُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَهُ بِغَيْرِ الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ، وَيَأْخُذُ كِرَاءَ مَسَافَةِ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجَلَيْنِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ: وَلَوْ سَلَّمَ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ، فَلِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَأْبَى لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ».فَإِنْ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِي الْمَقْبُوضِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الْأَجْرَ عَلَى نَقْلِ مِلْكِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، فَيَرُدُّ الْأَجْرَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ حَتَّى يُسَلَّمَ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِيهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ إِلاَّ بِعِوَضٍ، وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَبَقِيَ حَقُّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ.

ب- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: (إِذَا أَتَى الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فِي غَيْرِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ فَامْتَنَعَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ أَخْذِهِ، فَإِنْ كَانَ لِنَقْلِهِ مُؤْنَةٌ، أَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ مَخُوفًا، لَمْ يُجْبَرْ.وَإِلاَّ فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي التَّعْجِيلِ قَبْلَ الْمَحِلِّ.فَلَوْ رَضِيَ وَأَخَذَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ مُؤْنَةَ النَّقْلِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا إِجْبَارُهُ).

د- تَعَذُّرُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ:

36- إِذَا انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، بِحَيْثُ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِيفَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِ فِي وَقْتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:

أ- فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ رَبُّ السَّلَمِ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ إِلَى وُجُودِهِ، فَيُطَالَبُ بِهِ عِنْدَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ السَّلَمَ وَيَرْجِعَ بِرَأْسِ مَالِهِ إِنْ وُجِدَ، أَوْ عِوَضِهِ إِنْ عُدِمَ، لِتَعَذُّرِ رَدِّهِ.قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: «لِأَنَّ السَّلَمَ قَدْ صَحَّ، وَالْعَجْزَ طَارِئٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَصَارَ كَإِبَاقِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ».

وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: «وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ثِمَارِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ شَرَطَهُ الْمُسْلِمِ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ».

وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ ضَابِطَ الِانْقِطَاعِ بِقَوْلِهِ: «فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمُسْلَمُ فِيهِ أَصْلًا، بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ يَنْشَأُ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ مُسْتَأْصِلَةٌ، فَهَذَا انْقِطَاعٌ حَقِيقِيٌّ.وَلَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، لَكِنْ يَفْسُدُ بِنَقْلِهِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ عِنْدَ قَوْمٍ امْتَنَعُوا مِنْ بَيْعِهِ، فَهُوَ انْقِطَاعٌ.وَلَوْ كَانُوا يَبِيعُونَهُ بِثَمَنٍ غَالٍ، فَلَيْسَ بِانْقِطَاعٍ، بَلْ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ.وَلَوْ أَمْكَنَ نَقْلُهُ، وَجَبَ إِنْ كَانَ قَرِيبًا».

ب- وَقَالَ زُفَرُ وَأَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: يَنْفَسِخُ السَّلَمُ ضَرُورَةً، وَيَسْتَرِدُّ رَبُّ السَّلَمِ رَأْسَ الْمَالِ، وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ مُعَلِّلًا رَأَى أَشْهَبَ: «وَكَأَنَّهُ رَآهُ مِنْ بَابِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ».وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ مُعَلِّلًا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ هَذَا: «لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ثَمَرَةُ هَذَا الْعَامِ، وَقَدْ هَلَكَتْ، فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ، فَهَلَكَتِ الصُّبْرَةُ».وَهِيَ نَفْسُ حُجَّةِ زُفَرَ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ الْهُمَامِ مَبْسُوطَةً أَنَّ الْبُطْلَانَ لِلْعَجْزِ عَنِ التَّسْلِيمِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، لَا يَبْقَى عِنْدَ فَوَاتِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ، ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، يَبْطُلُ الْعَقْدُ، فَكَذَا هُنَا.

ج- وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ فَسْخُ السَّلَمِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَصْبِرَ إِلَى الْقَابِلِ.

هـ- الْإِقَالَةُ فِي السَّلَمِ:

37- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ.فَإِذَا أَقَالَهُ رَبُّ السَّلَمِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيمِيًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَاقِيًا.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِقَالَةَ فِي جَمِيعِ مَا أُسْلِمَ فِيهِ جَائِزَةٌ.وَيُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (إِقَالَة).

وَلَوِ اتَّفَقَ الْعَاقِدَانِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَبَّ السَّلَمِ عِوَضًا عَنْ رَأْسِ الْمَالِ مِنَ الْأَعْيَانِ أَوِ الْأَثْمَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أ- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ.

وَدَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلَا يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ»، وَلِأَنَّ هَذَا مَضْمُونٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِعَقْدِ السَّلَمِ، فَلَمْ يَجُزِ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.وَحُجَّةُ مَالِكٍ «أَنَّ هَذِهِ الْإِقَالَةَ ذَرِيعَةٌ إِلَى أَنْ يَجُوزَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ».

ب- وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ «لِأَنَّهُ عِوَضٌ مُسْتَقَرٌّ فِي الذِّمَّةِ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ قَرْضًا.وَلِأَنَّهُ مَالٌ عَادَ إِلَيْهِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ إِذَا فُسِخَ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مَضْمُونٌ بَعْدَ فَسْخِهِ.وَالْخَبَرُ أَرَادَ بِهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ هَذَا».

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ كَانَ قَرْضًا أَوْ ثَمَنًا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ سَلَمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَيَجُوزُ فِيهِ مَا يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ وَأَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ إِذَا فُسِخَتْ».

وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ: «فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَهُ فِي شَيْءٍ آخَرَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ عَيْنًا، نَظَرْتَ: فَإِنْ كَانَ تَجْمَعُهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا كَالدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ وَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ عَيْنًا بِعَيْنٍ.وَإِنْ لَمْ تَجْمَعْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا، كَالدَّرَاهِمِ بِالْحِنْطَةِ وَالثَّوْبِ بِالثَّوْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، كَمَا يَجُوزُ إِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ عَيْنًا بِعَيْنٍ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ.وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ عِوَضِهِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ».

و- تَوْثِيقُ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ:

38- لَا يَخْفَى أَنَّ تَوْثِيقَ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:

أ- إِمَّا بِتَأْكِيدِ حَقِّ رَبِّ السَّلَمِ فِي الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكِتَابَةِ أَوِ الشَّهَادَةِ، لِمَنْعِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ مِنَ الْإِنْكَارِ وَتَذْكِيرِهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ، وَلِلْحَيْلُولَةِ، دُونَ ادِّعَائِهِ أَقَلَّ مِنَ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْثِيق).

ب- وَإِمَّا بِالْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ.فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْثِيقِ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكَفَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:

(1) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَرَأْيُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَالْحَكَمِ وَغَيْرِهِمْ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: «السَّلَمُ: السَّلَفُ- وَبِذَلِكَ أَقُولُ- لَا بَأْسَ فِيهِ بِالرَّهْنِ وَالْحَمِيلِ، لِأَنَّهُ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالرَّهْنِ، فَأَقَلُّ أَمْرِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ إِبَاحَةً لَهُ، فَالسَّلَمُ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ».

(2) وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَخْذُ رَهْنٍ وَلَا كَفِيلٍ عَنِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ «لِأَنَّ الرَّاهِنَ إِنْ أَخَذَ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ الرَّهْنَ وَالضَّمِينَ، فَقَدْ أَخَذَ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مَآلُهُ إِلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ مَلَكَهُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ.وَإِنْ أَخَذَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فَالرَّهْنُ إِنَّمَا يَجُوزُ بِشَيْءٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَلَا مِنْ ذِمَّةِ الضَّامِنِ.وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ بِعُدْوَانٍ، فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ» وَلِأَنَّهُ يُقِيمُ مَا فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ مَقَامَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ أَخْذِ الْعِوَضِ وَالْبَدَلِ عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ».

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ كَرَاهَةُ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «إِذَا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ ضَمَانِ السَّلَمِ فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَأَيُّهُمَا قَضَاهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُمَا مِنْهُ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ إِلَى الضَّامِنِ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الْمُسْلِمِ جَازَ وَكَانَ وَكِيلًا.وَإِنْ قَالَ: خُذْهُ عَنِ الَّذِي ضَمِنْتَ عَنِّي، لَمْ يَصِحَّ، وَكَانَ قَبْضًا فَاسِدًا مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْأَخْذَ بَعْدَ الْوَفَاءِ، فَإِنْ أَوْصَلَهُ إِلَى الْمُسْلِمِ بَرِئَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ إِلَيْهِ مَا سَلَّطَهُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى ذَلِكَ».

وَأَيْضًا «إِنْ أَخَذَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ، ثُمَّ تَقَايَلَا السَّلَمَ، أَوْ فُسِخَ الْعَقْدُ لِتَعَذُّرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، بَطَلَ الرَّهْنُ؛ لِزَوَالِ الدَّيْنِ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ، وَبَرِئَ الضَّامِنُ.

وَعَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَدُّ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي الْحَالِ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ».

ز- الِاتِّفَاقُ عَلَى تَقْسِيطِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى نُجُومٍ:

39- إِذَا أَسْلَمَ شَخْصٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَقْبِضَهُ بِالتَّقْسِيطِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَجْزَاءً مَعْلُومَةً، كَسَمْنٍ يَأْخُذُ بَعْضَهُ فِي أَوَّلِ رَجَبٍ وَبَعْضَهُ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ وَبَعْضَهُ فِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ مَثَلًا.

فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أ- فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ.«لِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ إِلَى أَجَلَيْنِ وَآجَالٍ كَالْأَثْمَانِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ».

ب- وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ ثَانٍ لَهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ «لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ أَبْعَدَهُمَا أَجَلًا أَقَلُّ مِمَّا يُقَابِلُ الْآخَرَ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَجُزْ».

ج- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى التَّفْصِيلِ حَيْثُ قَالُوا: «يَصِحُّ أَنْ يُسْلِمَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ إِلَى أَجَلَيْنِ، كَسَمْنٍ يَأْخُذُ بَعْضَهُ فِي رَجَبٍ وَبَعْضَهُ فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَيْعٍ جَازَ إِلَى أَجَلٍ جَازَ إِلَى أَجَلَيْنِ وَآجَالٍ إِنْ بَيَّنَ قِسْطَ كُلِّ أَجَلٍ وَثَمَنَهُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ الْأَبْعَدَ لَهُ زِيَادَةُ وَقْعٍ عَلَى الْأَقْرَبِ، فَمَا يُقَابِلُهُ أَقَلُّ.فَاعْتُبِرَ مَعْرِفَةُ قِسْطِهِ وَثَمَنِهِ.فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُمَا لَمْ يَصِحَّ.

وَيَصِحُّ أَنْ يُسْلِمَ فِي شَيْءٍ كَلَحْمٍ وَخُبْزٍ وَعَسَلٍ يَأْخُذُهُ كُلَّ يَوْمٍ جُزْءًا مَعْلُومًا مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ قِسْطٍ أَوْ لَا؛ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ».

«فَإِنْ قَبَضَ الْبَعْضَ مِمَّا أَسْلَمَ فِيهِ لِيَأْخُذَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرًا مَعْلُومًا، وَتَعَذَّرَ قَبْضُ الْبَاقِي، رَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَلَا يُجْعَلُ الْبَاقِي فَضْلًا عَلَى الْمَقْبُوضِ، لِأَنَّهُ مَبِيعٌ وَاحِدٌ مُتَمَاثِلُ الْأَجْزَاءِ، فَقِسْطُ الثَّمَنِ عَلَى أَجْزَائِهِ بِالسَّوِيَّةِ.كَمَا لَوْ اتَّحَدَ أَجَلُهُ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


4-موسوعة الفقه الكويتية (مضاربة 5)

مُضَارَبَةٌ -5

ثَانِيًا: الرِّبْحُ الْمُسَمَّى:

48- مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ الرِّبْحُ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ فِيهِ حِصَّتَهُ مِنْ رِبْحِ الْمُضَارَبَةِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالْقِسْمَةِ لَا بِالظُّهُورِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ الرِّبْحَ الْمُسَمَّى- إِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ- وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ بِالْقِسْمَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْقِسْمَةِ قَبْضُ الْمَالِكِ رَأْسَ الْمَالِ، فَلَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ أَلْفًا، فَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَرَأْسُ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ لَمْ يَقْبِضْهُ رَبُّ الْمَالِ، فَهَلَكَتِ الْأَلْفُ الَّتِي فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بَعْدَ قِسْمَتِهِمَا الرِّبْحَ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَمْ تَصِحَّ، وَمَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَمَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ دَيْنٌ عَلَيْهِ يَرُدُّهُ إِلَى رَبِّ الْمَالِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، وَلَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ الْمَالِ، وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُصَلِّي كَمَثَلِ التَّاجِرِ لَا يَخْلُصُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى يَخْلُصَ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ، كَذَلِكَ الْمُصَلِّي لَا تُقْبَلُ نَافِلَتُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ»، فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ لَا تَصِحُّ، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ زِيَادَةٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ لَا تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ سَلَامَةِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ إِذَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ بِحَالِهَا، فَلَوْ صَحَّحْنَا قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَثَبَتَتْ قِسْمَةُ الْفَرْعِ قَبْلَ الْأَصْلِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ فَإِذَا هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ صَارَ الَّذِي اقْتَسَمَاهُ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، فَوَجَبَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِنْهُ تَمَامَ رَأْسِ الْمَالِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُقْسَمُ الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ إِلاَّ بَعْدَ كَمَالِ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ تَمَامِ رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ بِيَدِ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارَبَةُ عَلَى مَا شَرَطَا.

وَقَالُوا: لَا يَقْتَسِمُ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحَ حَتَّى يُنَضَّ رَأْسُ الْمَالِ، أَوْ يَتَرَاضَيَا عَلَى قَسْمِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا قُسِمَ قَبْلَ نَضُوضِهِ أَوِ التَّرَاضِي عَلَى قَسْمِهِ قَدْ تَهْلَكُ السِّلَعُ أَوْ تَتَحَوَّلُ أَسْوَاقُهَا فَيَنْقُصُ رَأْسُ الْمَالِ، فَيَحْصُلُ الضَّرَرُ لِرَبِّ الْمَالِ بِعَدِمِ جَبْرِ رَأْسِ الْمَالِ بِالرِّبْحِ، وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا نَضُوضَهُ فَالْحَاكِمُ يَنْظُرُ فِي تَعْجِيلِ ذَلِكَ أَوْ تَأْخِيرِهِ، فَمَا كَانَ صَوَابًا فَعَلَهُ، وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الْعُرُوضِ إِذَا تَرَاضَوْا عَلَيْهَا وَتَكُونُ بَيْعًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُضَارَبَةِ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ الْحَاصِلِ بِعَمَلِهِ بِالْقِسْمَةِ لِلْمَالِ لَا بِظُهُورِ الرِّبْحِ، إِذْ لَوْ مَلَكَ بِالظُّهُورِ لَكَانَ شَرِيكًا حَتَّى لَوْ هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ هَلَكَ مِنَ الْمَالَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الرِّبْحُ وَقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ قِيَاسًا عَلَى الْمُسَاقَاةِ.

وَلَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْعَامِلِ فِي حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ بِالْقِسْمَةِ، بَلْ إِنَّمَا يَسْتَقِرُّ بِتَنْضِيضِ رَأْسِ الْمَالِ وَفَسْخِ الْعَقْدِ، لِبَقَاءِ الْعَقْدِ قَبْلَ الْفَسْخِ مَعَ عَدَمِ تَنْضِيضِ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ نَقْصٌ جُبِرَ بِالرِّبْحِ الْمَقْسُومِ، أَوْ بِتَنْضِيضِ الْمَالِ وَالْفَسْخِ بِلَا قِسْمَةٍ لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ وَالْوُثُوقِ بِحُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ تَنْضِيضِ رَأْسِ الْمَالِ فَقَطْ وَاقْتِسَامِ الْبَاقِي مَعَ أَخْذِ الْمَالِكِ رَأْسَ الْمَالِ، وَكَالْأَخْذِ الْفَسْخُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي

وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْمُضَارَبَةِ قِسْمَةَ الرِّبْحِ قَبْلَ الْمُفَاصَلَةِ فَامْتَنَعَ الْآخَرُ لَمْ يُجْبَرْ، لِأَنَّهُ إِنِ امْتَنَعَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ إِجْبَارُهُ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: الرِّبْحُ وَقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ فَلَا أُعْطِيكَ حَتَّى تُسَلِّمَ لِي رَأْسَ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي امْتَنَعَ هُوَ الْعَامِلُ لَمْ يَجُزْ إِجْبَارُهُ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَا نَأْمَنُ أَنْ نَخْسِرَ فَنَحْتَاجَ أَنْ نَرُدَّ مَا أَخَذَ.

وَإِنْ تَقَاسَمَا- أَيْ قَبْلَ الْمُفَاصَلَةِ- جَازَ، لِأَنَّ الْمَنْعَ لَحِقَهُمَا وَقَدْ رَضِيَا، فَإِنْ حَصَلَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ خُسْرَانٌ لَزِمَ الْعَامِلَ أَنْ يَجْبُرَهُ بِمَا أَخَذَ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ إِلاَّ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ رَأْسَ الْمَالِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا ظَهَرَ رِبْحٌ فِي الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إِلاَّ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ بِلَا نِزَاعٍ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مُقَابِلٌ لِلْأَظْهُرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْعَامِلَ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالظُّهُورِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَمْلِكُ الْعَامِلُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالتَّنْضِيضِ وَالْفَسْخِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ، وَنَصَّ عَلَيْهَا وَاخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُ.

وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَيَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ فِيهَا بِالْمُقَاسَمَةِ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، وَلَا يَسْتَقِرُّ بِدُونِهَا، وَمِنَ الْأَصْحَابِ- كَابْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ- مَنْ قَالَ: يَسْتَقِرُّ بِالْمُحَاسَبَةِ التَّامَّةِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ فِي الْقَوَاعِدِ: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ صَرِيحًا عَنْ أَحْمَدَ.

الزِّيَادَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ

49- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: ثِمَارُ الشَّجَرِ وَالنِّتَاجُ مِنْ بَهِيمَةٍ، وَسَائِرُ الزَّوَائِدِ الْعَيْنِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَفُوزُ بِهَا الْمَالِكُ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَوَائِدِ التِّجَارَةِ الْحَاصِلَةِ بِتَصَرُّفِ الْعَامِلِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بَلْ هِيَ نَاشِئَةٌ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنَ الْعَامِلِ، أَمَّا لَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ حَاصِلَةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى حَيَوَانًا حَامِلًا أَوْ شَجَرًا عَلَيْهِ ثَمَرٌ، فَالْأَوْجَهُ أَنَّ الْوَلَدَ وَالثَّمَرَةَ مَالُ مُضَارَبَةٍ.

وَقِيلَ: كُلُّ مَا يَحْصُلُ مِنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ مَالُ مُضَارَبَةٍ لِحُصُولِهَا بِسَبَبِ شِرَاءِ الْعَامِلِ الْأَصْلَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ- عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا ذَكَرَ الْمِرْدَاوِيُّ- مِنْ جُمْلَةِ الرِّبْحِ: الْمَهْرَ وَالثَّمَرَةَ وَالْأُجْرَةَ وَالْأَرْشَ وَكَذَا النِّتَاجُ، وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ فِيهِ وَجْهٌ.

جَبْرُ تَلَفِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَخَسَارَتُهُ

50- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ بَعْضُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ تَحْرِيكِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَوْ خَسِرَ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ إِنْ كَانَ، أَيْ يُكْمِلُ مِنَ الرِّبْحِ مَا نَقَصَ بِالتَّلَفِ أَوِ الْخُسْرِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ رَبِحَ أَوْ زَادَ التَّلَفُ أَوِ الْخُسْرُ عَلَى الرِّبْحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ.

قَالَ الْمَوْصِلِيُّ: مَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمِنَ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ كَالْعَفْوِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ زَادَ فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَإِنِ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا ثُمَّ هَلَكَ رَأْسُ الْمَالِ أَوْ بَعْضُهُ رَجَعَ فِي الرِّبْحِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَأْسَ الْمَالِ، لِأَنَّ الرِّبْحَ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا يُعْرَفُ الْفَضْلُ إِلاَّ بَعْدَ سَلَامَةِ رَأْسِ الْمَالِ، فَلَا تَصِحُّ قِسْمَتُهُ فَيَنْصَرِفُ الْهَلَاكُ إِلَيْهِ، وَلَوْ فُسِخَتِ الْمُضَارَبَةُ ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ، ثُمَّ عَقَدَا الْمُضَارَبَةَ فَهَلَكَ رَأْسُ الْمَالِ لَمْ يَتَرَادَّا الرِّبْحَ، لِأَنَّ هَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَدِيدَةٌ، وَالْأُولَى قَدِ انْتَهَتْ فَانْتَهَى حُكْمُهَا، وَاشْتِرَاطُ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ بَاطِلٌ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: النَّقْصُ الْحَاصِلُ بِرُخْصٍ فِي مَالِ الْقِرَاضِ هُوَ خُسْرَانٌ مَجْبُورٌ بِالرِّبْحِ، وَكَذَا النَّقْصُ بِالتَّعَيُّبِ وَالْمَرَضِ الْحَادِثَيْنِ، وَأَمَّا النَّقْصُ الْعَيْنِيُّ وَهُوَ تَلَفُ بَعْضِ الْمَالِ، فَإِنْ حَصَلَ بَعْدَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ بَيْعًا وَشِرَاءً فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الِاحْتِرَاقَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْآفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ خُسْرَانٌ يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ، وَفِي التَّلَفِ بِالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الْبَدَلِ مِنَ الْمُتْلِفِ وَجْهَانِ، وَطَرَّدَ جَمَاعَةٌ الْوَجْهَيْنِ فِي الْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ فِي الْجَمِيعِ الْجَبْرُ.

وَإِنْ حَصَلَ النَّقْصُ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فَوَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خُسْرَانٌ فَيُجْبَرُ بِالرِّبْحِ الْحَاصِلِ بَعْدُ، لِأَنَّهُ بِقَبْضِ الْعَامِلِ صَارَ مَالَ مُضَارَبَةٍ، وَأَصَحُّهُمَا: يَتْلَفُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا مِنَ الرِّبْحِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِالْعَمَلِ. هَذَا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، أَمَّا إِذَا تَلِفَ كُلُّهُ بِآفَةِ سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ التَّصَرُّفِ أَوْ بَعْدَهُ فَتَرْتَفِعُ الْمُضَارَبَةُ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَهُ الْمَالِكُ، لَكِنْ لَوْ أَتْلَفَ أَجْنَبِيٌّ جَمِيعَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ بَعْضَهُ أُخِذَ مِنْهُ بَدَلُهُ وَاسْتَمَرَّتْ فِيهِ الْمُضَارَبَةُ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ إِنْ تَلِفَ رَأْسُ الْمَالِ أَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ، أَوْ تَعَيُّبِ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ خَسِرَ بِسَبَبِ مَرَضٍ، أَوْ تَغَيُّرِ صِفَةٍ، أَوْ نَزَلَ السِّعْرُ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ فِي رَأْسِ الْمَالِ.جُبِرَتِ الْوَضِيعَةُ مِنْ رِبْحِ بَاقِيهِ قَبْلَ قِسْمَتِهِ، نَاضًّا أَوْ مَعَ تَنْضِيضِهِ بِالْمُحَاسَبَةِ، لِأَنَّهُ مُضَارَبَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ إِلاَّ بَعْدَ كَمَالِ رَأْسِ الْمَالِ.

وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ تَصَرُّفِ الْعَامِلِ فِيهِ انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ فِي التَّالِفِ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ هُوَ الْبَاقِيَ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ مَالٌ هَلَكَ عَلَى جِهَةٍ قَبْلَ التَّصَرُّفِ، أَشْبَهَ التَّالِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَفَارَقَ مَا بَعْدَ التَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ دَارَ فِي التِّجَارَةِ.

وَقَالُوا: وَمَهْمَا بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَجَبَ جَبْرُ خُسْرَانِهِ مِنْ رِبْحِهِ وَإِنِ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ لِأَنَّهَا مُضَارَبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَحْرُمُ قِسْمَتُهُ وَالْعَقْدُ بَاقٍ إِلاَّ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَعَ امْتِنَاعِ رَبِّ الْمَالِ وَقَايَةً لِرَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْخُسْرَانَ فَيَجْبُرُهُ بِالرِّبْحِ، وَمَعَ امْتِنَاعِ الْعَامِلِ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَلْزَمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ فِي وَقْتٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ خُسْرُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِالرِّبْحِ، هَذَا فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ أَوِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي فِيهَا قِرَاضُ الْمِثْلِ، وَأَمَّا الَّتِي فِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهَا جَبْرٌ، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَصْلِهَا فَفِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَأَمَّا إِنْ شَمِلَتْهَا الْمُضَارَبَةُ لَكِنِ اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ فَفِيهَا مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ.

وَلَوْ دَخَلَ الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ عَلَى عَدَمِ الْجَبْرِ بِالرِّبْحِ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ وَالشَّرْطُ مُلْغًى، قَالَ الصَّاوِيُّ: هَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَا لِمَالِكِ وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَحَكَى بَهْرَامٌ مُقَابِلَهُ عَنْ جَمْعٍ فَقَالُوا: مَحِلُّ الْجَبْرِ مَا لَمْ يَشْتَرِطَا خِلَافَهُ وَإِلاَّ عُمِلَ بِذَلِكَ الشَّرْطِ، قَالَ بَهْرَامٌ: وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِعْمَالُ الشَّرْطِ لِخَبَرِ «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» مَا لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ. وَقَالُوا: يُجْبَرُ أَيْضًا بِالرِّبْحِ مَا تَلِفَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِسَمَاوِيٍّ، وَأُلْحِقَ بِهِ مَا أَخَذَهُ لِصٌّ أَوْ عَشَّارٌ، وَإِنْ وَقَعَ التَّلَفُ قَبْلَ الْعَمَلِ بِالْمَالِ، مَا لَمْ يَقْبِضْ رَبُّ الْمَالِ مِنَ الْعَامِلِ مَالَ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ قَبَضَهُ نَاقِصًا عَنْ أَصْلِهِ ثُمَّ رَدَّهُ لَهُ فَلَا يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ مُضَارَبَةً مُسْتَأْنَفَةً، وَالْجَبْرُ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، فَلَوْ تَلِفَ جَمِيعُهُ فَأَتَى لَهُ رَبُّهُ بِبَدَلِهِ فَلَا جَبْرَ لِلْأَوَّلِ بِرِبْحِ الثَّانِي.

مَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ

51- يَسْتَحِقُّ رَبُّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ الرِّبْحَ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُضَارِبِ.

زَكَاةُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ

52- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ رَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ.

وَأَمَّا زَكَاةُ الرِّبْحِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 96). آثَارُ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ

53- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِ الْمُضَارَبَةِ:

أ- أَنَّ الرِّبْحَ- إِنْ حَدَثَ- يَكُونُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ مَالِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ شَطْرًا مِنْهُ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ إِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الشَّرْطُ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُضَارِبُ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئًا، وَكَانَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ.

ب- أَنَّ الْمُضَارِبَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ- خَسِرَ الْمَالُ أَوْ رَبِحَ- لِأَنَّ عَمَلَهُ إِنَّمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسَمَّى، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ وَجَبَ رَدُّ عَمَلِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، فَوَجَبَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ الْفَاسِدَةَ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالْأَجِيرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، رَبِحَ الْمَالُ أَوْ لَا، بِلَا زِيَادَةٍ عَلَى الْمَشْرُوطِ خِلَافًا لِمُحَمَّدِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَالَ إِذَا لَمْ يَرْبَحْ لَا أَجْرَ لِلْمُضَارِبِ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ لِئَلاَّ تَرْبُوَ الْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ عَلَى الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ قَالَ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا رَبِحَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَرْبَحْ فَأَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ بِنِصْفِ الرِّبْحِ الْمَعْدُومِ، لَكِنْ فِي الْوَاقِعَاتِ: مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا رَبِحَ، وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ.

وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَصْلِهَا فَفِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَأَمَّا إِنْ شَمِلَتْهَا الْمُضَارَبَةُ لَكِنِ اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ فَفِيهَا مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ.

وَقَالُوا: إِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، عَلَى مَا يَلِي:

أ- يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَمُضَارَبَةُ مِثْلِ الْمَالِ فِي رِبْحِهِ إِنْ رَبِحَ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَرَضًا دَفَعَهُ رَبُّ الْمَالِ وَتَوَلَّى الْمُضَارِبُ بَيْعَهُ وَعَمِلَ بِثَمَنِهِ مُضَارَبَةً، أَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ رَهْنًا أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ دَيْنًا وَكَّلَ رَبَّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ عَلَى تَخْلِيصِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا خَلَّصَهُ مُضَارَبَةً، أَوْ كَانَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ دَفَعَهُ رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْمُضَارِبِ لِيَصْرِفَهُ ثُمَّ يَعْمَلُ بِمَا صَرَفَهُ مُضَارَبَةً.فَلِلْمُضَارِبِ إِنْ عَمِلَ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَوَلِّيهِ بَيْعَ الْعَرَضِ أَوْ تَخْلِيصَ الرَّهْنِ أَوِ الْوَدِيعَةِ أَوِ الدَّيْنِ، أَوْ فِي تَوَلِّيهِ الصَّرْفَ، وَهَذَا الْأَجْرُ يَكُونُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ.

وَلِلْمُضَارِبِ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ مَعَ أَجْرِ الْمِثْلِ مُضَارَبَةً مِثْلُ الْمَالِ فِي رِبْحِهِ- إِنْ رَبِحَ- لَا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ.

ب- يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ مُضَارَبَةَ مِثْلِ الْمَالِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا انْتَفَى عِلْمُ نَصِيبِ الْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ، أَوْ إِذَا أُبْهِمَتِ الْمُضَارَبَةُ، أَوْ أُجِّلَتِ ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً، أَوْ ضَمِنَ الْعَامِلُ، أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ شِرَاءَ مَا يَقِلُّ وُجُودُهُ، فَلِلْمُضَارِبِ فِي كُلِّ صُورَةٍ مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ فِي الرِّبْحِ إِنْ عَمِلَ وَرِبْحُ الْمَالِ، وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ.

ج- يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ أَجْرَ مِثْلِهِ.

وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا سَبَقَ- وَنَحْوِهِ- مِنَ الْمُضَارَبَاتِ الْفَاسِدَةِ، كَاشْتِرَاطِ يَدِهِ، أَوْ مُشَاوَرَتِهِ، أَوْ أَمِينٍ عَلَيْهِ، أَوْ كَخِيَاطَةٍ أَوْ فَرْزٍ، أَوْ تَعْيِينِ مَحَلٍّ، أَوْ زَمَنٍ، أَوْ شَخْصٍ، أَوْ مُشَارَكَةٍ، أَوْ خَلْطٍ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ وَمَا فِيهِ أَجْرُ الْمِثْلِ مِنَ الْمُضَارَبَاتِ الْفَاسِدَةِ مِنْ وُجُوهٍ:

أ- أَنَّ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ لَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ، بِخِلَافِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَإِنَّهَا لَا تَرْتَبِطُ بِحُصُولِ رِبْحٍ، بَلْ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ. ب- أَنَّ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ يُفْسَخُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَيَفُوتُ بِالْعَمَلِ، وَمَا فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ يُفْسَخُ مَتَى اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَهُ أُجْرَةُ مَا عَمِلَ.

ج- أَنَّ الْعَامِلَ يَكُونُ أَحَقَّ مِنَ الْغُرَمَاءِ إِذَا كَانَ لَهُ مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ، وَيَكُونُ أُسْوَتَهُمْ إِذَا كَانَ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ.عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْفَسَادُ بِاشْتِرَاطِ عَمَلِ يَدِهِ- كَأَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخِيطَ مَثَلًا- فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ صَانِعٌ.

54- نَقَلَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ شِرَاءٍ وَبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ بِضَاعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَصَرُّفَاتُ الْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ نَافِذَةٌ كَتَصَرُّفَاتِهِ فِي الصَّحِيحَةِ، لِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ وَبَقِيَ الْإِذْنُ لِنَحْوِ فَوَاتِ شَرْطٍ- كَكَوْنِهِ غَيْرَ نَقْدٍ- نَفَذَ تَصَرُّفُ الْعَامِلِ نَظَرًا لِبَقَاءِ الْإِذْنِ كَالْوَكَالَةِ الْفَاسِدَةِ، هَذَا إِذَا قَارَضَهُ الْمَالِكُ بِمَالِهِ، أَمَّا إِذَا قَارَضَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ أَوْ فَسَدَ الْقِرَاضُ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ. 55- وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ، لِأَنَّ مَا لَا ضَمَانَ فِي صَحِيحِهِ لَا ضَمَانَ فِي فَاسِدِهِ.

اخْتِلَافُ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ

قَدْ يَخْتَلِفُ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْهَا:

أَوَّلًا- اخْتِلَافُ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ:

56- فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ اخْتِلَافَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَقَالُوا: إِنِ اخْتَلَفَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ، بِأَنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُضَارَبَةَ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ أَوْ فِي عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ أَوْ مَعَ عُمُومِ الْأَشْخَاصِ، وَادَّعَى الْآخَرُ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ وَمَكَانًا دُونَ مَكَانٍ وَشَخْصًا دُونَ شَخْصٍ، لِأَنَّ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ مُوَافِقٌ لِلْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الرِّبْحُ، وَهَذَا فِي الْعُمُومِ أَوْفَرُ.وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِطْلَاقَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبْحُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَوْلُ زُفَرَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ.

فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لَهُمَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْعُمُومِ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً، وَبَيِّنَةُ مُدَّعِي التَّقْيِيدِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً فِيهِ وَبَيِّنَةُ الْإِطْلَاقِ سَاكِتَةٌ.

وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْخُصُوصِ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ الْخَاصِّ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ إِلَيْكَ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: فِي الطَّعَامِ.فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ- بِاتِّفَاقِهِمْ- لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِالْمَقْصُودِ مِنَ الْعَقْدِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ فَتَرَجَّحَ بِالْإِذْنِ وَأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ.

فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً.فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ نَافِيَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِثْبَاتِ وَالْمُضَارِبُ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِثْبَاتِ لِدَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى.

ثَانِيًا- اخْتِلَافُ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ

57- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ لِلْمُضَارَبَةِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ أَلْفَيْنِ، وَقَالَ الْعَامِلُ: بَلْ دَفَعْتُ أَلْفًا.فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ، لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَهُوَ أَمِينٌ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ لِلْقَابِضِ أَمِينًا أَوْ ضَمِينًا كَمَا لَوْ أَنْكَرَهُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلاَّ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ شَيْءٍ وَهُوَ يُنْكِرُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.

وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ قَوْلَهُ: أَجْمَعَ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ السَّابِقَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ مِنَ الرِّبْحِ فَتَحَالَفَا كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ، قَالَ الشِّيرَازِيُّ: وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ فَتَحَالَفَا، كَالْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِيمَا قُبِضَ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَ الَّذِي يُنْكِرُ، كَالْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ.

وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مَعَ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَقَطْ لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ بَيِّنَةً تُقْبَلُ، وَإِنْ أَقَامَاهَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ فِي دَعْوَاهُ الزِّيَادَةَ فِي رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ إِثْبَاتًا، وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِي دَعْوَاهُ الزِّيَادَةَ فِي الرِّبْحِ لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ إِثْبَاتًا.

ثَالِثًا- الِاخْتِلَافُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي أَصْلِ الْمُضَارَبَةِ

ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي أَصْلِ الْمُضَارَبَةِ صُوَرًا، مِنْهَا:

أ- اخْتِلَافُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ قَرْضًا:

58- فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ اخْتِلَافِ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ مُضَارَبَةً أَوْ قَرْضًا

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ إِلَيْكَ الْمَالَ مُضَارَبَةً، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي الْمَالَ وَالرِّبْحُ لِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ التَّمْلِيكَ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ مُضَارَبَةً ثُمَّ أَقْرَضَهُ. وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: دَفَعْتُ إِلَيَّ مُضَارَبَةً، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بَلْ أَقْرَضْتُكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَى الْمُضَارِبِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ لَهُ، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لَهُمَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَصْلَ الضَّمَانِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَعْطَيْتُكَ الْمَالَ مُضَارَبَةً، وَقَالَ الْعَامِلُ: بَلْ سَلَفًا.فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ هُنَا مُدَّعٍ فِي الرِّبْحِ فَلَا يُصَدَّقُ.

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلِ: لَكَ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَلْ هِيَ عِنْدَكَ سَلَفًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- كَمَا قَالَ الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ- لَوْ قَالَ الْمَالِكُ: مُضَارَبَةً، وَقَالَ الْآخَرُ: قَرْضًا، عِنْدَ بَقَاءِ الْمَالِ وَرِبْحِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الْقَرْضِ لأُِمُورِ مِنْهَا: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ الرِّبْحِ لَهُ بِقَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ هَذَا لِي فَإِنَّهُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَوِ انْعَكَسَ قَوْلُهُمَا بَعْدَ تَلَفِ الْمَالِ فِي يَدِ الْعَامِلِ صُدِّقَ الْعَامِلُ- كَمَا أَفَتَى الْأَنْصَارِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ- لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الضَّمَانِ، وَإِنْ أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ فَوَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمَالِكِ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ مَا لَا يَتَّجِرُ بِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ مُضَارَبَةً عَلَى النِّصْفِ- مَثَلًا- فَرِبْحُهُ بَيْنَنَا، وَقَالَ الْعَامِلُ: كَانَ قَرْضًا فَرِبْحُهُ كُلُّهُ لِي.فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، فَيَحْلِفُ رَبُّ الْمَالِ، وَيُقْسَمُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَسَقَطَتَا، وَقُسِمَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِ وَتَبِعَهُ الرِّبْحُ، لَكِنْ قَدِ اعْتَرَفَ بِنِصْفِ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ، وَالْمَذْهَبُ: تَقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْعَامِلِ.

ب- اخْتِلَافُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً:

59- لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي اخْتِلَافِ طَرَفَيِ الْمُضَارَبَةِ فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ إِلَيْكَ بِضَاعَةً وَقَالَ الْمُضَارِبُ: مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَفِيدُ الرِّبْحَ بِشَرْطِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقًا فِي مَالِ الْغَيْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَالِ.

وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي الْمَالَ وَالرِّبْحُ لِي، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ بِضَاعَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى الْعَامِلُ أَنَّهُ مُضَارَبَةٌ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بَلْ أَبْضَعْتُهُ مَعَكَ لِتَعْمَلَ لِي بِهِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ حِينَئِذٍ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُضَارَبَةٍ، وَيَكُونُ لِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَلَا يُزَادُ، وَإِنْ نَكَلَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُسْتَعْمَلُ مِثْلُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ إِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ بِضَاعَةً فَرِبْحُهُ لِي، وَقَالَ الْعَامِلُ: كَانَ مُضَارَبَةً فَرِبْحُهُ لَنَا.حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُنْكِرٌ لِمَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَكَانَ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ تَابِعٌ لَهُ. ج- اخْتِلَافُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ غَصْبًا

60- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: دَفَعْتَهُ إِلَيَّ مُضَارَبَةً، وَقَدْ ضَاعَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَخَذْتَهُ غَصْبًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ رَبِّ الْمَالِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَإِنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ ثُمَّ ضَاعَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ، لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ إِذْنُ صَاحِبِهِ فِيهِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِإِنْكَارِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ.فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ تَسْلِيمَ رَبِّ الْمَالِ وَالْإِذْنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِبَيِّنَةِ.

وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَخَذْتُ مِنْكَ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً فَضَاعَ قَبْلَ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ أَوْ بَعْدَ مَا عَمِلْتُ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَخَذْتَهُ مِنِّي غَصْبًا.فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخَذِ وَهُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، ثُمَّ ادَّعَى الْمُسْقِطَ وَهُوَ إِذْنُ صَاحِبِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ بِحُجَّةٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَالَ الْعَامِلُ: الْمَالُ بِيَدِي مُضَارَبَةً أَوْ وَدِيعَةً، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بَلْ غَصَبْتَهُ مِنِّي أَوْ سَرَقْتَهُ مِنِّي، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّهُ مُدَّعٍ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَلَوْ كَانَ مِثْلُهُ يُشْبِهُ أَنْ يُغْصَبَ أَوْ يُسْرَقَ.

د- اخْتِلَافُهُمَا فِي كَوْنِ الْعَقْدِ مُضَارَبَةً أَوْ وَكَالَةً

61- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي أَصْلِ الْمُضَارَبَةِ فَقَالَ الْعَامِلُ ضَارَبْتَنِي وَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ وَكَّلْتُكَ.صُدِّقَ الْمَالِكُ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ بِشَيْءِ، فَإِذَا حَلَفَ أَخَذَ الْمَالَ وَرِبْحَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ فَالظَّاهِرُ- كَمَا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ- تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْعَامِلِ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ.

وَقَالَ الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ: صُدِّقَ الْمَالِكُ بِيَمِينِهِ، إِذِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَصْلِ الشَّيْءِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي صِفَتِهِ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِائْتِمَانِ الدَّافِعِ لِلضَّمَانِ.

هـ- جُحُودُ الْعَامِلِ الْمُضَارَبَةَ

62- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ جَحَدَ الْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ أَصْلًا وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ مُضَارَبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ مَالِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَوْ جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ.فَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَوْلَهُ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً ثُمَّ طَلَبَهُ مِنْهُ فَقَالَ: لَمْ تَدْفَعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: بَلَى أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ قَدْ دَفَعْتَ إِلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً.هُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَالْأَمِينُ إِذَا جَحَدَ الْأَمَانَةَ ضَمِنَ كَالْمُودَعِ، وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ، فَكَانَ جُحُودُهُ فَسْخًا لَهُ أَوْ رَفْعًا لَهُ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ صَارَ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِنِ اشْتَرَى بِهِ مَعَ الْجُحُودِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ فَلَا يَبْقَى حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ، لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِذَا صَارَ ضَمِينًا لَمْ يَبْقَ أَمِينًا، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ الْجُحُودِ لَا يَرْتَفِعُ الضَّمَانُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ فَلَا يَعُودُ إِلاَّ بِسَبَبِ جَدِيدٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


5-المعجم الغني (ضَمِينٌ)

ضَمِينٌ- الجمع: ضُمَنَاءُ. [ضمن]، (صيغَةُ فَعيل)، "وَجَدَ ضَمِينًا يَكْفُلُهُ": كَفِيلًا، ضَامِنًا.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com