نتائج البحث عن (طَهَارَتَهُ)

1-العربية المعاصرة (نجس)

نجُسَ يَنجُس، نَجاسةً، فهو نجِس.

* نجُس الشّيءُ: أصبح قذرًا دنسًا (نجُس الثَّوبُ).

* نجُس الشّخصُ:

1 - أصبح قذرًا.

2 - خبُث طبْعُه ودنِس خُلُقُه (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ) [حديث].

نجِسَ يَنجَس، نَجَسًا، فهو نجِس.

* نجِس الشّيءُ: نجُسَ، أصبح قذرًا دنسًا (نجِس البيتُ/الثوبُ).

* نجِسَ الشّخصُ:

1 - نجُس، أصبح قذِرًا.

2 - نجُس، خبُث طبْعه، ودِنس خُلُقُه.

* نجِس العُضوُ أو البدنُ: [في الفقه] أصبح غيرَ طاهر.

أنجسَ يُنجس، إنجاسًا، فهو مُنجِس، والمفعول مُنجَس.

* أنجس البولُ الثَّوبَ: جعله نَجِسًا، أي: قذرًا، غير طاهر (يتجنَّب المتوضئ ما يُنْجِسُه ويُفْقده طهارتَه).

تنجَّسَ يتنجَّس، تنجُّسًا، فهو مُتنجِّس.

* تنجَّس الشَّيءُ: مُطاوع نجَّسَ: صار نجسًا، قذِرًا، وقع في النّجاسَة والقذارة (تنجَّس الثوبُ).

* تنجَّس فلانٌ: فعل فِعْلًا يسبِّب نجاستَه (تنجّس الكافرُ بشِرْكه).

نجَّسَ ينجِّس، تنجيسًا، فهو مُنجِّس، والمفعول مُنجَّس.

* نجَّس الشّيءَ: دنَّسَه، ووسّخه، جعله نجِسًا (نجّس مكانًا مقدَّسًا).

نَجاسَة [مفرد]: جمعه نجاسات (لغير المصدر):

1 - مصدر نجُسَ.

2 - قذارة (النجاسات منها ما هو مادّيّ ومنها ما هو معنويّ).

3 - [في الفقه] ما يوجب منع الصلاة كالبول والغائط ونحوهما.

نَجَس [مفرد]: جمعه أنجاس (لغير المصدر):

1 - مصدر نجِسَ.

2 - خبيث فاجِر من باب الوصف بالمصدر، يستعمل للمفرد والجمع {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [قرآن].

نَجِس [مفرد]:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من نجُسَ ونجِسَ: خبيث فاجِر (*) داءٌ نجِسٌ: خبيث لا دواء له.

2 - غير طاهر (*) فلانٌ نجِس السَّراويل: غير عفيف.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-المعجم الوسيط (أَحْدَثَ)

[أَحْدَثَ] الرجل: وقَع منه ما ينقض طهارته.

و- الشيءَ: ابتدعه.

و- أوجَده.

وفي التنزيل العزيز: {لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1].

و- السَّيفَ ونحوه: جَلاه.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


3-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (حبو)

(حبو) -في الحديث: "لو يَعْلَمون ما فِي العِشاءِ والفَجْر، لأَتوْهُما ولو حَبْوًا على الرُّكَبِ".

الحَبْو: أن يَمشِي على يَدَيْه. يقال: حَبَا البَعِير يَحبُو: إذا

مَشَى مَعْقولا. واشْتِقاقه: من حَبَت السَّفِينَة، إذا جَرَت، ومن الحَابِي؛ وهو السَّهم الذي يَزحَفُ إلى الهَدَف بَعْد ما يَقَع على الأرض.

ويقال: حَبَا الصَّبِيُّ: إذا زَحَفَ على إسْتِه، وحَبَا البَعِيرُ: إذا بَرَك، ثم زَحَفَ من الِإعياءِ، وأَصلُه الدُّنُوُّ.

- في الحَدِيثِ قال للعَبَّاس، رضي الله عنه، في صَلاة التسْبِيح: "ألَا أَحْبُوكَ"؟

يقال: حَباه كَذَا وبِكَذَا. يَحْبُوه حَبْوًا وحُبْوَةً: أَعطاه، والحِباءُ: العَطِيَّة الخَاصَّة.

- في الحَدِيث: "نَهَى عن الاحْتِباء في ثَوبٍ وَاحدٍ".

الاحْتِباء: جِلسةُ الأَعراب، وكذلك الحِبْوة والحِبْيَة، وهو ضَمُّ السَّاقَيْن إلى البَطْن بثَوْب يَلُفُّونه عليهما، يَعنِي إذا لم يَكُن عليه إلَّا ثَوبٌ واحِدٌ، رُبَّما تَحرَّك، أو زَالَ الثَّوبُ فتَبدُو عَورتُه.

- ومنه الحَدِيثُ: "الاحْتِباء حِيطانُ العَرَب".

: أي لَيْسَ في البَوادِي حِيطَان، فإذا أَرادُوا أن يَسْتَنِدُوا احْتَبَوْا، لأن الثوبَ يمنَعُهم من السُّقُوط.

- في حدِيث عَمْرو: "نَبَطِيٌّ في حَبْوَته".

من ذلك، ويُروَى بالجِيم.

- وفي حَدِيثِ مُعاذِ بنِ أَنَس عن أَبِيه: "نُهِي عن الحَبْوة يَومَ الجُمُعَةِ والإمامُ يَخْطُب".

إنَّما نَهَى عَنْها في ذَلِك الوَقْتِ، لأنه يَجلِب النَّومَ، ويُعرِّض طَهارتَه للانْتِقاضِ.

وفيه دَلِيل على أَنَّ الاسْتِناد يَومَ الجُمُعَة في ذَلِك الوَقْتِ مَكْروهٌ، لأنه مِثلُ الاحْتِباء إذا كَثُر، وأَمر بالاستِيفَاز في القُعُود لاسْتِماع الخُطْبة والذِّكر. قِيلَ: الاحْتِباء في ثَوْبٍ وَاحدٍ، هو أن يَقعُد على أَلْيَتَيه وقد نصب ساقَيْه وهو غَيرُ مُتَّزِرٍ، ثم يحْتَبِي بثَوبٍ يَجَمَعُ بين طَرفَيه ويَشُدُّهُما على رُكبَتَيه، فإذا فَعَل ذَلِك بَقِيت فُرجَةٌ بينَه وَبيْنَ الهَواء تنكَشِف منها عَورتُه.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


4-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (شبك)

(شبك) - في الحديث: "إذَا مَضىَ أَحدُكم إلى الصّلاة فلا يُشبِّكَنَّ بين أَصابِعه، فإنه في الصَّلاة"

تَشْبِيك اليَدِ: إدخالُ الأَصابع بعضِها في بعض والامتساك بها. وقيل: كُرِه ذلك كما كُره عَقْصُ الشَّعَر، واشْتِمالُ الصَّمَّاء.

وقيل: إنما كُرِه لأنه إذَا احْتَبَى بيديه، وشبَّك بين أصابِعه ربَّما غَلبه النومُ؛ فتَنتقِض طَهارتُه فنهى عن التَّعَرّض لِنَقْض الطَّهارة، وتأَوّله بعَضُهم على أَنَّ تَشْبِيكَ اليَدِ كِنايةٌ عن مُلابَسةِ الخصومات والخَوْض فيها، واحتَجَّ بقَوله عليه الصلاة والسلام حين ذكر الفِتَن: "فشَبَّك بين أَصابِعه". وقال: اخْتَلَفوا فكانوا هَكَذا. وأَصلُ التَّشْبِيك الاخْتِلاط. يقال: شبَكْتُه فاشْتَبَكَ. وشَبَّكْتُه فتَشَبَّك، ومنه اشْتِباك النُّجوم التي في الحدِيث: أي اختلاطُها من كثرة ما بَدَا منها، واشتبكَت الحَرْبُ: نَشِبَت وتَداخَلت، ومنه شَبَكَة النَّسَب.

- في الحديث: "وقَعَت يَدُ بَعِيره في شَبَكة جُرذَان".

وهي جُحْرها. والشَّبَكَة أيضا رَكِيَّة تُحفَر في المَكَان الغَليِظ نَحْو

القَامَة والقامَتَيْن لاحْتباسِ الماءِ فيها.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


5-موسوعة الفقه الكويتية (آبار 1)

آبَارٌ -1

الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ

تَعْرِيفُ الْآبَارِ وَبَيَانُ أَحْكَامِهَا الْعَامَّةِ

1- الْآبَارُ جَمْعُ بِئْرٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ «بَأَرَ» أَيْ حَفَرَ. وَيُجْمَعُ أَيْضًا جَمْعَ قِلَّةٍ عَلَى أَبُورٍ وَآبُرٍ. وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ مِنْهُ بِئَارٌ.

وَيَنْقُلُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ عَنْ «النُّتَفِ»: الْبِئْرُ هِيَ الَّتِي لَهَا مَوَادُّ مِنْ أَسْفَلِهَا، أَيْ لَهَا مِيَاهٌ تَمُدُّهَا وَتَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهَا. وَقَالَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ يَخْرُجُ الصِّهْرِيجُ وَالْجُبُّ وَالْآبَارُ الَّتِي تُمْلأُ مِنَ الْمَطَرِ، أَوْ مِنَ الْأَنْهَارِ، وَالَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الرَّكِيَّةِ (عَلَى وَزْنِ عَطِيَّةٍ) كَمَا هُوَ الْعُرْفُ، إِذِ الرَّكِيَّةُ هِيَ الْبِئْرُ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ. لَكِنْ فِي الْعُرْفِ هِيَ بِئْرٌ يَجْتَمِعُ مَاؤُهَا مِنَ الْمَطَرِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الصِّهْرِيجِ. وَفِي حَاشِيَةِ الْبُجَيْرِمِيِّ عَلَى شَرْحِ الْخَطِيبِ أَنَّ «الْبِئْرَ» قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، وَهِيَ الْحَاصِلُ الَّذِي تَحْتَ بَيْتِ الرَّاحَةِ. وَيُسَمَّى الْآنَ بِالْخَزَّانِ. وَيُقَالُ عَنْ هَذِهِ الْبِئْرِ: بِئْرُ الْحُشِّ، وَالْحُشُّ هُوَ بَيْتُ الْخَلَاءِ.

2- وَالْأَصْلُ فِي مَاءِ الْآبَارِ الطَّهُورِيَّةُ (أَيْ كَوْنُهُ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ)، فَيَصِحُّ التَّطْهِيرُ بِهِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ إِذَا تَنَجَّسَ الْمَاءُ أَوْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي التَّغَيُّرِ يُعْرَفُ فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ. غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ آبَارًا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ كَرَاهَةِ التَّطْهِيرِ بِمَائِهَا لِأَنَّهَا فِي أَرْضٍ مَغْضُوبٍ عَلَيْهَا. وَهُنَاكَ مِنَ الْآبَارِ مَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْفَضْلِ، وَرَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ.

الْمَبْحَثُ الثَّانِي

حَفْرُ الْآبَارِ لِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَتَعَلُّقُ حَقِّ النَّاسِ بِمَائِهَا

أَوَّلًا: حَفْرُ الْبِئْرِ لِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ:

3- حَفْرُ الْبِئْرِ وَخُرُوجُ الْمَاءِ مِنْهَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْإِحْيَاءِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَمَّ تَفْجِيرُ الْمَاءِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْإِنْبَاتِ، مَعَ نِيَّةِ التَّمَلُّكِ، يَتِمُّ بِهِ الْإِحْيَاءُ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ تَفْجِيرَ الْمَاءِ يَتِمُّ بِهِ الْإِحْيَاءُ فِي الْجُمْلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ إِعْلَانَ النِّيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ بِئْرَ مَاشِيَةٍ. وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ يَشْتَرِطُونَ الْغَرْسَ إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ لِبُسْتَانٍ، كَمَا يَشْتَرِطُونَ نِيَّةَ التَّمَلُّكِ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ طَيَّهَا (أَيْ بِنَاءَ جُدْرَانِهَا) إِذَا كَانَتْ فِي أَرْضٍ رَخْوَةٍ أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَا يَتِمُّ بِتَفْجِيرِ الْمَاءِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا بِالْحَفْرِ وَسَقْيِ الْأَرْضِ.

وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلْبِئْرِ فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ حَرِيمًا، لِحَاجَةِ الْحَفْرِ وَالِانْتِفَاعِ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي حَرِيمِهِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِلْبِئْرِ حَرِيمًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يُعْتَبَرُ حَرِيمًا، فَحَدَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْأَذْرُعِ حَسَبَ نَوْعِ الْبِئْرِ. وَيَسْتَنِدُ الْمَذْهَبَانِ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارٍ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدَّرُوهُ بِمَا لَا يَضِيقُ عَلَى الْوَارِدِ، وَلَا عَلَى مُنَاخِ إِبِلِهَا، وَلَا مَرَابِضِ مَوَاشِيهَا عِنْدَ الْوُرُودِ، وَلَا يَضُرُّ بِمَاءِ الْبِئْرِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ «إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ».

ثَانِيًا: تَعَلُّقُ حَقِّ النَّاسِ بِمَاءِ الْآبَارِ:

4- الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَاهُ الْخَلاَّلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَنَّهُ قَالَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ». كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ إِلاَّ مَا حُمِلَ مِنْهُ». وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَاءِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ غَيْرُ الْمُحْرَزِ.

وَعَلَى هَذَا فَمِيَاهُ الْآبَارِ الْعَامَّةِ مُبَاحَةٌ وَلَا مِلْكَ فِيهَا لِأَحَدٍ إِلاَّ بِالِاغْتِرَافِ. وَأَمَّا مِيَاهُ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ فَإِنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ الْإِبَاحَةِ الْعَامَّةِ. وَلَمَّا كَانَتْ حَاجَةُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْمَاءِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ حَيَوَانِهِ مِمَّا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ بِحَقِّ الشَّفَةِ مَاسَّةً وَمُتَكَرِّرَةً، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْمَاءِ قَبْلَ جَرَيَانِهِ فِي الْمِلْكِ الْخَاصِّ مُبَاحٌ، وَأَنَّ مِيَاهَ الْآبَارِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ مُتَّصِلَةٌ بِالْمَجْرَى الْعَامِّ، أَوْجَدَ ذَلِكَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فِي مَاءِ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ، لَكِنَّهَا إِبَاحَةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى حَقِّ الشَّفَةِ دُونَ حَقِّ الشُّرْبِ.

5- وَاتِّجَاهَاتُ الْفُقَهَاءِ مُخْتَلِفَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمِلْكِيَّةِ مَاءِ آبَارِ الدُّورِ وَالْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ النَّاسِ بِهَا. فَقِيلَ بِأَنَّ لِلنَّاسِ حَقًّا فِيهَا. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَاءٌ قَرِيبٌ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَفِضْ عَنْ حَاجَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَيَّدَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ يَفِيضُ عَنْ حَاجَتِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْبِئْرَ مَا وُضِعَ لِلْإِحْرَازِ، وَلِأَنَّ فِي بَقَاءِ حَقِّ الشَّفَةِ ضَرُورَةً، وَلِأَنَّ الْبِئْرَ تَتْبَعُ الْأَرْضَ دُونَ الْمَاءِ، وَلِخَبَرِ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ». وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ حَفْرُ الْبِئْرِ بِقَصْدِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ، أَوْ حُفِرَ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ آبَارِ الدُّورِ وَالْحَوَائِطِ الْمُسَوَّرَةِ. وَقَيَّدَ ذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ فِي أَرْضٍ لَا يَضُرُّهَا الدُّخُولُ فِيهَا.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ، وَمِلْكِيَّتُهُ خَالِصَةٌ لِصَاحِبِهِ. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لآِبَارِ الدُّورِ وَالْحَوَائِطِ الْمُسَوَّرَةِ، وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنَ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ فِي الْأَرَاضِيِ الْمَمْلُوكَةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ يَمْلِكُ الْمَنْبَعَ، أَوْ كَانَ حَفَرَهَا بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ. فَلِصَاحِبِ الْبِئْرِ عَلَى هَذَا أَنْ يَمْنَعَ الْغَيْرَ مِنْ حَقِّ الشَّفَةِ أَيْضًا، وَأَنْ يَبِيعَ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُحْرَزِ. وَيُقَيَّدُ الْمَنْعُ بِغَيْرِ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ. وَفِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ فِي الْأَمْلَاكِ، كَالْقَارِ وَالنَّفْطِ.

الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ

حَدُّ الْكَثْرَةِ فِي مَاءِ الْبِئْرِ وَأَثَرُ اخْتِلَاطِهِ بِطَاهِرٍ وَانْغِمَاسُ آدَمِيٍّ فِيهِ طَاهِرٍ أَوْ بِهِ نَجَاسَةٌ

6- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ. وَيَخْتَلِفُونَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، فَيُقَدِّرُهَا الْحَنَفِيَّةُ بِمَا يُوَازِي عَشْرَ أَذْرُعٍ فِي عَشْرٍ دُونَ اعْتِبَارٍ لِلْعُمْقِ مَا دَامَ الْقَاعُ لَا يَظْهَرُ بِالِاغْتِرَافِ. وَالذِّرَاعُ سَبْعُ قَبَضَاتٍ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، اعْتِبَارًا بِالْمَاءِ الْجَارِي. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَطْهُرَ، لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ لِلْآثَارِ، وَمَسَائِلُ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْآثَارِ. وَالْمُفْتَى بِهِ الْقَوْلُ بِالْعَشْرِ وَلَوْ حُكْمًا لِيَعُمَّ مَا لَهُ طُولٌ بِلَا عَرْضٍ فِي الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدْرِ الْكَثِيرِ رَأْيُ الْمُبْتَلَى بِهِ، بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ثُبُوتِ تَقْدِيرٍ شَرْعًا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْكَثِيرَ مَا زَادَ قَدْرُهُ عَنْ آنِيَةِ الْغُسْلِ، وَكَذَا مَا زَادَ عَنْ قَدْرِ آنِيَةِ الْوُضُوءِ، عَلَى الرَّاجِحِ. وَيَتَّفِقُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ مَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، لِحَدِيثِ «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ». وَإِنْ نَقَصَ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ بِرِطْلٍ أَوْ رِطْلَيْنِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْقُلَّتَيْنِ.

7- إِذَا اخْتَلَطَ بِمَاءِ الْبِئْرِ طَاهِرٌ، مَائِعًا كَانَ أَوْ جَامِدًا، وَكَانَتْ الْبِئْرُ مِمَّا يُعْتَبَرُ مَاؤُهَا قَلِيلًا، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَاءِ الْقَلِيلِ الْمُخْتَلِطِ بِطَاهِرٍ، وَيُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ إِلَى تَفْصِيلَاتِ الْمَذَاهِبِ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه).

انْغِمَاسُ الْآدَمِيِّ فِي مَاءِ الْبِئْرِ:

8- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْآدَمِيَّ إِذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ طَاهِرًا مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، وَكَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا، فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يُعْتَبَرُ مُسْتَعْمَلًا، وَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ طَهُورِيَّتِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهُ عِشْرُونَ دَلْوًا.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَأَنَّ مَوْتَ الْآدَمِيِّ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ إِلاَّ إِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِ الْمَاءِ تَغَيُّرًا فَاحِشًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ». وَلِأَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، كَالشَّهِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْلِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْآدَمِيَّةِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ نَزْحَ كُلِّ مَاءِ الْبِئْرِ بِمَوْتِ الْآدَمِيِّ فِيهِ، إِذْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ بِمَوْتِ سِنَّوْرَيْنِ أَوْ كَلْبٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ آدَمِيٍّ. وَمَوْتُ الْكَلْبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ انْغَمَسَ وَأُخْرِجَ حَيًّا يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ.

9- وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُنَجِّسَ الْكَافِرُ الْمَاءَ بِانْغِمَاسِهِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ.

وَإِذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ مَنْ بِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ، بِأَنْ كَانَ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى بِالِانْغِمَاسِ رَفْعَ الْحَدَثِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَصْدِ التَّبَرُّدِ أَوْ إِحْضَارِ الدَّلْوِ.

فَإِنْ كَانَ الْبِئْرُ مَعِينًا- أَيْ مَاؤُهُ جَارٍ- فَإِنَّ انْغِمَاسَ الْجُنُبِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ لَا يُنَجِّسُهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ. وَهُوَ اتِّجَاهُ مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ لِغَلَبَةِ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ، أَوْ لِأَنَّ الِانْغِمَاسَ لَا يُصَيِّرُهُ مُسْتَعْمَلًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ.

10- وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ انْغِمَاسِ الْجُنُبِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي الْبِئْرِ، وَإِنْ كَانَ مَعِينًا، لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ». وَهُوَ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ. وَإِلَى هَذَا يَتَّجِهُ مَنْ يَرَى مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَاءَ بِالِانْغِمَاسِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجِسٌ يُنْزَحُ كُلُّهُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ دَلْوًا لَوْ كَانَ مُحْدِثًا، وَيُنْزَحُ جَمِيعُهُ لَوْ كَانَ جُنُبًا أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ بَدَنَ الْكَافِرِ لَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ، إِلاَّ إِذَا تَثَبَّتْنَا مِنْ طَهَارَتِهِ وَقْتَ انْغِمَاسِهِ.

11- وَإِذَا كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ قَلِيلًا وَانْغَمَسَ فِيهِ بِغَيْرِ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، فَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُجَاوِرَ فَقَطْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْمَاءُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ. وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ تَرْمِزُ لَهَا كُتُبُهُمْ «مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ جحط» وَيَرْمِزُونَ بِالْجِيمِ إِلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ الْبَعْضِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ، وَالرَّجُلُ نَجِسٌ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، أَوْ لِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَيَرْمِزُونَ بِالْحَاءِ لِرَأْيِ أَبِي يُوسُفَ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ عَلَى حَالِهِ مِنَ الْحَدَثِ، لِعَدَمِ الصَّبِّ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُ، وَالْمَاءُ عَلَى حَالِهِ لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، وَعَدَمِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ. وَيَرْمِزُونَ بِالطَّاءِ لِرَأْيِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ طَاهِرٌ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الصَّبِّ، وَكَذَا الْمَاءُ، لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ.

12- أَمَّا إِذَا انْغَمَسَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، كَانَ الْمَاءُ كُلُّهُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لَكِنْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَبْقَى الْمَاءُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَلَا يُرْفَعُ الْحَدَثُ. وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ تَدَلَّكَ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ التَّدَلُّكَ فِعْلٌ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ. 13- أَمَّا إِذَا انْغَمَسَ إِنْسَانٌ فِي مَاءِ الْبِئْرِ وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، أَوْ أُلْقِيَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، فَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، عَلَى مَا سَبَقَ.

غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فِي أَشْهَرِ رِوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ، إِلاَّ بِبَوْلِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ عَذِرَتِهِمُ الْمَائِعَةِ. وَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ». وَكَذَلِكَ إِذَا مَا سَقَطَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، وَفِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ بِالتَّغَيُّرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ.

14- وَقَدْ فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا بِمَا لَمْ يُفَصِّلْهُ غَيْرُهُمْ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ بِخُرْءِ الْحَمَامِ وَالْعُصْفُورِ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ اسْتِحْسَانًا، بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ اقْتِنَاءِ الْحَمَامِ فِي الْمَسَاجِدِ، حَتَّى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِهَا. وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عَدَمِ نَجَاسَتِهِ. وَخُرْءُ الْعُصْفُورِ كَخُرْءِ الْحَمَامَةِ، فَمَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ ذَاكَ. وَكَذَلِكَ خُرْءُ جَمِيعِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ عَلَى الْأَرْجَحِ.

الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ

أَثَرُ وُقُوعِ حَيَوَانٍ فِي الْبِئْرِ

15- الْأَصْلُ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ بِتَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِهِ كَمَا سَبَقَ. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، إِذَا مَا وَقَعَ فِي مَاءِ الْبِئْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَتِهِ، كَالنَّحْلِ، لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَقَعَتْ فِيهِ دَابَّةٌ لَيْسَ لَهَا دَمٌ فَمَاتَتْ فَهُوَ حَلَالٌ». وَمِمَّا قِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ أَنَّ الْمُنَجِّسَ لَهُ الدِّمَاءُ السَّائِلَةُ، فَمَا لَا دَمَ لَهُ سَائِلًا لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ مَا مَاتَ فِيهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ. وَكَذَا مَا كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ أَنَّ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ مَخْرَجِهِ نَجَاسَةً، وَخَرَجَ حَيًّا، مَا دَامَ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي تَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِ الْمَاءِ، عَدَا مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ. وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ السُّؤْرُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِلْ فَمُهُ إِلَى الْمَاءِ لَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ وَصَلَ وَكَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا فَإِنَّهُ طَاهِرٌ. يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَقَالَ الْبَعْضُ: الْمُعْتَبَرُ السُّؤْرُ. وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَكُلُّ حَيَوَانٍ حُكْمُ جِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَلُعَابِهِ حُكْمُ سُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ. وَيُنْظَرُ حُكْمُ السُّؤْرِ فِي مُصْطَلَحِ «سُؤْر».

16- وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ يَتَّجِهُونَ إِلَى عَدَمِ التَّوَسُّعِ فِي الْحُكْمِ بِالتَّنَجُّسِ بِوُقُوعِ الْحَيَوَانِ ذِي النَّفْسِ السَّائِلَةِ (الدَّمِ السَّائِلِ) عُمُومًا، وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُ اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ.

فَالْمَالِكِيَّةُ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الرَّاكِدَ، أَوِ الَّذِي لَهُ مَادَّةٌ، أَوْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا، إِذَا مَاتَ فِيهِ حَيَوَانٌ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ، أَوْ حَيَوَانٌ بَحْرِيٌّ، لَا يَنْجُسُ، وَإِنْ كَانَ يُنْدَبُ نَزْحُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ، لِاحْتِمَالِ نُزُولِ فَضَلَاتٍ مِنَ الْمَيِّتِ، وَلِأَنَّهُ تَعَافُهُ النَّفْسُ. وَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأُخْرِجَ حَيًّا، أَوْ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ مَاتَ بِالْخَارِجِ، فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ وَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ لَا يُطْلَبُ بِسَبَبِهِ النَّزْحُ. وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْخِلَافَ فِيهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا. وَمَوْتُ الدَّابَّةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فِيهَا. وَلِأَنَّ سُقُوطَ الدَّابَّةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي الْمَاءِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ سُقُوطِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ، وَذَاتُهَا صَارَتْ نَجِسَةً بِالْمَوْتِ. فَلَوْ طُلِبَ النَّزْحُ فِي سُقُوطِهَا مَيِّتَةً لَطُلِبَ فِي سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ فِي الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ النَّزْحُ بِحَسَبِ كِبَرِ الدَّابَّةِ وَصِغَرِهَا، وَكَثْرَةِ مَاءِ الْبِئْرِ وَقِلَّتِهِ.

وَعَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغَ: أَنَّ الْآبَارَ الصِّغَارَ مِثْلَ آبَارِ الدُّورِ، تَفْسُدُ بِمَا وَقَعَ فِيهَا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فِيهَا، مِنْ شَاةٍ أَوْ دَجَاجَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَلَا تَفْسُدُ بِمَا وَقَعَ فِيهَا مَيِّتًا حَتَّى تَتَغَيَّرَ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِيهَا مَيِّتًا فَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا مَاتَ فِيهِ، وَقِيلَ: لَا تَفْسُدُ حَتَّى تَتَغَيَّرَ. وَقَالُوا: إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا بِتَفَسُّخِ الْحَيَوَانِ فِيهِ تَنَجَّسَ.

17- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا طَاهِرًا، وَتَفَتَّتَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا بِحَيْثُ لَا يَخْلُو دَلْوٌ مِنْ شَعْرَةٍ، فَهُوَ طَهُورٌ كَمَا كَانَ إِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشَّعْرَ نَجِسٌ يُنْزَحُ الْمَاءُ كُلُّهُ لِيَذْهَبَ الشَّعْرُ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ الْيَسِيرَ عُرْفًا مِنَ الشَّعْرِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مَا عَدَا شَعْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.

وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ قَلِيلًا فَإِنَّهُ يَتَنَجَّسُ وَلَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمَاجِشُونَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْآبَارِ الصِّغَارِ إِذَا مَاتَ فِيهَا حَيَوَانٌ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ.

18- وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ أَوِ الْهِرَّةُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ حَيَّةً، فَهُوَ طَاهِرٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ. وَإِصَابَةُ الْمَاءِ لِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَكُلُّ حَيَوَانٍ حُكْمُ جِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَلُعَابِهِ حُكْمُ سُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ. وَيُفْهَمُ مِنْ قَيْدِ «ثُمَّ خَرَجَتْ حَيَّةً» أَنَّهَا لَوْ مَاتَتْ فِيهِ يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ تَقْيِيدِ الْمَاءِ «بِالْيَسِيرِ» أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ وَصْفُهُ.

19- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ أَكْثَرُوا مِنَ التَّفْصِيلَاتِ، فَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْفَأْرَةَ إِذَا وَقَعَتْ هَارِبَةً مِنَ الْقِطِّ يُنْزَحُ كُلُّ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَجْرُوحَةً أَوْ مُتَنَجِّسَةً. وَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْبِئْرُ مَعِينًا، أَوِ الْمَاءُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ، لَكِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا، نُزِحَ قَدْرُ مَا كَانَ فِيهَا.

20- وَإِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ غَيْرَ مَعِينٍ، وَلَا عَشْرًا فِي عَشْرٍ، نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، إِلَى ثَلَاثِينَ نَدْبًا، بِمَوْتِ فَأْرَةٍ أَوْ عُصْفُورٍ أَوْ سَامٍّ أَبْرَصَ. وَلَوْ وَقَعَ أَكْثَرُ مِنْ فَأْرَةٍ إِلَى الْأَرْبَعِ فَكَالْوَاحِدَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ خَمْسًا إِلَى التِّسْعِ كَالدَّجَاجَةِ، وَعَشْرًا كَالشَّاةِ، وَلَوْ فَأْرَتَيْنِ كَهَيْئَةِ الدَّجَاجَةِ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَإِذَا مَاتَ فِيهَا حَمَامَةٌ أَوْ دَجَاجَةٌ أَوْ سِنَّوْرٌ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ وُجُوبًا إِلَى سِتِّينَ اسْتِحْبَابًا. وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى خَمْسِينَ.

وَيُنْزَحُ كُلُّهُ لِسِنَّوْرَيْنِ وَشَاةٍ، أَوِ انْتِفَاخِ الْحَيَوَانِ الدَّمَوِيِّ، أَوْ تَفَسُّخِهِ وَلَوْ صَغِيرًا. وَبِانْغِمَاسِ كَلْبٍ حَتَّى لَوْ خَرَجَ حَيًّا. وَكَذَا كُلُّ مَا سُؤْرُهُ نَجِسٌ أَوْ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَقَالُوا فِي الشَّاةِ: إِنْ خَرَجَتْ حَيَّةً فَإِنْ كَانَتْ هَارِبَةً مِنَ السَّبُعِ نُزِحَ كُلُّهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ بَيْنَ أَفْخَاذِهَا فَلَا تَخْلُو مِنَ الْبَوْلِ. وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ نَزْحَ عِشْرِينَ دَلْوًا، لِأَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً، وَقَدِ ازْدَادَ خِفَّةً بِسَبَبِ الْبِئْرِ فَيَكْفِي نَزْحُ أَدْنَى مَا يُنْزَحُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ، لِاسْتِوَاءِ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ فِي حُكْمِ تَنَجُّسِ الْمَاءِ.

الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ

تَطْهِيرُ الْآبَارِ وَحُكْمُ تَغْوِيرِهَا

21- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ التَّكْثِيرَ طَرِيقُ تَطْهِيرِهِ عِنْدَ تَنَجُّسِهَا إِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ. وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ وَيَصِلَ حَدَّ الْكَثْرَةِ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ هَذَا الْحَدَّ.

وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ طُرُقًا أُخْرَى، إِذْ يَقُولُونَ: إِذَا تَغَيَّرَ مَاءُ الْبِئْرِ بِتَفَسُّخِ الْحَيَوَانِ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا يَطْهُرُ بِالنَّزْحِ أَوْ بِزَوَالِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ. بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا زَالَتِ النَّجَاسَةُ مِنْ نَفْسِهَا طَهُرَ. وَقَالُوا فِي بِئْرِ الدَّارِ الْمُنْتِنَةِ: طَهُورُ مَائِهَا بِنَزْحِ مَا يُذْهِبُ نَتْنَهُ.

22- وَيَقْصُرُ الشَّافِعِيَّةُ التَّطْهِيرَ عَلَى التَّكْثِيرِ فَقَطْ إِذَا كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا (دُونَ الْقُلَّتَيْنِ) إِمَّا بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ عَلَيْهِ لِيَكْثُرَ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ النَّزْحَ لِيَنْبُعَ الْمَاءُ الطَّهُورُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ نُزِحَ فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى نَجِسًا كَمَا تَتَنَجَّسُ جُدْرَانُ الْبِئْرِ بِالنَّزْحِ. وَقَالُوا فِيمَا إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ شَيْءٌ نَجِسٌ، كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا، فَإِنَّ الْمَاءَ يُنْزَحُ لَا لِتَطْهِيرِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا بِقَصْدِ التَّخَلُّصِ مِنَ الشَّعْرِ.

23- وَيُفَصِّلُ الْحَنَابِلَةُ فِي التَّطْهِيرِ بِالتَّكْثِيرِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُتَنَجِّسُ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا لَا يَشُقُّ نَزْحُهُ، وَيَخُصُّونَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ تَنَجَّسَ الْمَاءُ بِغَيْرِ بَوْلِ الْآدَمِيِّ أَوْ عَذِرَتِهِ. وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِإِضَافَةِ مَاءٍ طَهُورٍ كَثِيرٍ، حَتَّى يَعُودَ الْكُلُّ طَهُورًا بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ تَنَجُّسُ الْمَاءِ بِبَوْلِ الْآدَمِيِّ أَوْ عَذِرَتِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَزْحُ مَائِهَا، فَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِزَوَالِ تَغَيُّرِهِ، سَوَاءٌ بِنَزْحِ مَا لَا يَشُقُّ نَزْحُهُ، أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ إِلَيْهِ، أَوْ بِطُولِ الْمُكْثِ. عَلَى أَنَّ النَّزْحَ إِذَا زَالَ بِهِ التَّغَيُّرُ وَكَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ كَثِيرًا (قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ) يُعْتَبَرُ مُطَهِّرًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

24- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَقْصُرُونَ التَّطْهِيرَ عَلَى النَّزْحِ فَقَطْ، لِكُلِّ مَاءِ الْبِئْرِ، أَوْ عَدَدٍ مُحَدَّدٍ مِنَ الدِّلَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَإِذَا كَانَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اعْتَبَرُوا النَّزْحَ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ عِنْدَهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُحَدِّدُوا مِقْدَارًا مِنَ الدِّلَاءِ وَإِنَّمَا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ لِتَقْدِيرِ النَّازِحِ. وَمِنْ أَجْلِ هَذَا نَجِدُ الْحَنَفِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ فَصَّلُوا الْكَلَامَ فِي النَّزْحِ، وَهُمُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا عَلَى آلَةِ النَّزْحِ، وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَجْمُهَا.

25- فَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ نُزِحَتْ، وَكَانَ نَزْحُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ طَهَارَةً لَهَا. لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبِئْرِ أَنَّهُ وُجِدَ فِيهَا قِيَاسَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ أَصْلًا، لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ، لِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْأَوْحَالِ وَالْجُدْرَانِ.

الثَّانِي: لَا تَنْجَسُ، إِذْ يَسْقُطُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ أَوِ التَّطْهِيرِ. وَقَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ، وَضَرْبٍ مِنَ الْفِقْهِ الْخَفِيِّ وَقَالُوا: إِنَّ مَسَائِلَ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْآثَارِ. أَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «يُنْزَحُ مِنْهَا ثَلَاثُونَ دَلْوًا».

وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يُنْزَحُ عِشْرُونَ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلَاثُونَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي دَجَاجَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا أَمَرَا بِنَزْحِ مَاءِ زَمْزَمَ حِينَ مَاتَ فِيهَا زِنْجِيٌّ. وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ.

وَأَمَّا الْفِقْهُ الْخَفِيُّ فَهُوَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَمًا سَائِلًا وَقَدْ تَشَرَّبَ فِي أَجْزَائِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَجَّسَهَا. وَقَدْ جَاوَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَاءَ، وَهُوَ يَنْجُسُ أَوْ يَفْسُدُ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ، حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ذَنَبُ فَأْرَةٍ، يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ بِلَّةٍ، فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهَا.

26- وَقَالُوا: لَوْ نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ، وَبَقِيَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ، وَإِنْ انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ، وَنُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، طَهُرَ. وَأَمَّا إِذَا انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ، وَلَمْ يُنَحَّ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ فِيهِ، لَا يَطْهُرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَطْهُرُ.

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجِسَ انْفَصَلَ مِنَ الطَّاهِرِ، فَإِنَّ الدَّلْوَ الْأَخِيرَ تَعَيَّنَ لِلنَّجَاسَةِ شَرْعًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا نُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ يَبْقَى الْمَاءُ طَاهِرًا، وَمَا يَتَقَاطَرُ فِيهَا مِنَ الدَّلْوِ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ.

وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ إِلاَّ بَعْدَ انْفِصَالِ النَّجِسِ عَنْهَا، وَهُوَ مَاءُ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْفِصَالُ إِلاَّ بَعْدَ تَنْحِيَةِ الدَّلْوِ عَنْ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ مَاءَهُ مُتَّصِلٌ بِمَاءِ الْبِئْرِ. وَاعْتِبَارُ نَجَاسَةِ الْقَطَرَاتِ لَا يَجُوزُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يُعْطَى لِهَذَا الدَّلْوِ حُكْمُ الِانْفِصَالِ بَعْدَ انْعِدَامِ التَّقَاطُرِ، بِالتَّنْحِيَةِ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ.

27- وَإِذَا وَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ يَنْبَغِي أَنْ تُسَدَّ جَمِيعُ مَنَابِعِ الْمَاءِ إِنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ يُنْزَحَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَدُّ مَنَابِعِهِ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَةُ دَلْوٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَتَا دَلْوٍ، أَوْ ثَلَاثُمِائَةِ دَلْوٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَةٍ: يُحْفَرُ بِجَانِبِهَا حُفْرَةٌ مِقْدَارُ عَرْضِ الْمَاءِ وَطُولِهِ وَعُمْقِهِ، ثُمَّ يُنْزَحُ مَاؤُهَا وَيُصَبُّ فِي الْحُفْرَةِ حَتَّى تَمْتَلِئَ، فَإِذَا امْتَلأَتْ حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يُرْسَلُ فِيهَا قَصَبَةٌ، وَيُجْعَلُ لِمَبْلَغِ الْمَاءِ عَلَامَةٌ، ثُمَّ يُنْزَحُ مِنْهَا عَشْرُ دِلَاءٍ مَثَلًا، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ انْتَقَصَ، فَيُنْزَحُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إِلاَّ إِذَا كَانَ دَوْرُ الْبِئْرِ مِنْ أَوَّلِ حَدِّ الْمَاءِ إِلَى مَقَرِّ الْبِئْرِ مُتَسَاوِيًا، وَإِلاَّ لَا يَلْزَمُ إِذَا نَقَصَ شِبْرٌ بِنَزْحِ عَشْرِ دِلَاءٍ مِنْ أَعْلَى الْمَاءِ أَنْ يَنْقُصَ شِبْرٌ بِنَزْحِ مِثْلِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ.

وَالْأَوْفَقُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ أَنَّهُ يُؤْتَى بِرَجُلَيْنِ لَهُمَا بَصَرٌ فِي أَمْرِ الْمَاءِ فَيُنْزَحُ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ يُرْجَعُ فِيهِ لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ.

28- وَالْمَالِكِيَّةُ كَمَا بَيَّنَّا يَرَوْنَ أَنَّ النَّزْحَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ التَّطْهِيرِ. وَلَمْ يُحَدِّدُوا قَدْرًا لِلنَّزْحِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُتْرَكُ مِقْدَارُ النَّزْحِ لِظَنِّ النَّازِحِ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي لِلتَّطْهِيرِ أَنْ تُرْفَعَ الدِّلَاءُ نَاقِصَةً؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْحَيَوَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ مَوَادُّ دُهْنِيَّةٌ، وَشَأْنُ الدُّهْنِ أَنْ يَطْفُوَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَإِذَا امْتَلأَ الدَّلْوُ خُشِيَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْبِئْرِ.

وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: لَا يَجِبُ غَسْلُ جَوَانِبِ بِئْرٍ نُزِحَتْ، ضَيِّقَةً كَانَتْ أَوْ وَاسِعَةً، وَلَا غَسْلُ أَرْضِهَا، بِخِلَافِ رَأْسِهَا. وَقِيلَ: يَجِبُ غَسْلُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْبِئْرِ الْوَاسِعَةِ. أَمَّا الضَّيِّقَةُ فَيَجِبُ غَسْلُهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَا يَرَوْنَ التَّطْهِيرَ بِمُجَرَّدِ النَّزْحِ.

آلَةُ النَّزْحِ:

29- مَنْهَجُ الْحَنَفِيَّةِ- الْقَائِلُ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الدِّلَاءِ لِلتَّطْهِيرِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ- يَتَطَلَّبُ بَيَانَ حَجْمِ الدَّلْوِ الَّذِي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ. فَقَالَ الْبَعْضُ: الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ دَلْوٌ يَسَعُ قَدْرَ صَاعٍ. وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَلَوْ نُزِحَ بِدَلْوٍ عَظِيمٍ مَرَّةً مِقْدَارُ عِشْرِينَ دَلْوًا جَازَ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بِتَوَاتُرِ الدَّلْوِ يَصِيرُ كَالْمَاءِ الْجَارِي.

وَبِطَهَارَةِ الْبِئْرِ يَطْهُرُ الدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ وَالْبَكَرَةُ وَنَوَاحِي الْبِئْرِ وَيَدُ الْمُسْتَقِي. رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ نَجَاسَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَجَاسَةِ الْبِئْرِ، فَتَكُونُ طَهَارَتُهَا بِطَهَارَتِهَا، نَفْيًا لِلْحَرَجِ. وَقِيلَ: لَا تَطْهُرُ الدَّلْوُ فِي حَقِّ بِئْرٍ أُخْرَى، كَدَمِ الشَّهِيدِ طَاهِرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ.

30- وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى- عَلَى مَا نَعْلَمُ- لِمِقْدَارِ آلَةِ النَّزْحِ. وَكُلُّ مَا قَالُوهُ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ قَلِيلًا، وَتَنَجَّسَ، فَإِنَّ الدَّلْوَ إِذَا مَا غُرِفَ بِهِ مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ الْقَلِيلِ تَنَجَّسَ مِنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ مِقْدَارَ قُلَّتَيْنِ فَقَطْ، وَفِيهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ، وَغُرِفَ بِالدَّلْوِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ، وَلَمْ تُغْرَفْ الْعَيْنُ النَّجِسَةُ فِي الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ، فَبَاطِنُ الدَّلْوِ طَاهِرٌ، وَظَاهِرُهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ غَرْفِ الدَّلْوِ يَكُونُ الْمَاءُ الْبَاقِي فِي الْبِئْرِ وَالَّذِي احْتَكَّ بِهِ ظَاهِرُ الدَّلْوِ قَلِيلًا نَجِسًا. وَاسْتَظْهَرَ الْبُهُوتِيُّ مِنْ قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ بِعَدَمِ غَسْلِ جَوَانِبِ الْبِئْرِ لِلْمَشَقَّةِ وَوُجُوبِ غَسْلِ رَأْسِهَا لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ، وُجُوبَ غَسْلِ آلَةِ النَّضْحِ إِلْحَاقًا لَهَا بِرَأْسِ الْبِئْرِ فِي عَدَمِ مَشَقَّةِ الْغَسْلِ. وَقَالَ: إِنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ: الْمَنْزُوحُ طَهُورٌ، أَنَّ الْآلَةَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا ذَلِكَ لِلْحَرَجِ.

تَغْوِيرُ الْآبَارِ:

31- كُتُبُ الْمَذَاهِبِ تَذْكُرُ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إِلَى تَخْرِيبٍ وَإِتْلَافِ بَعْضِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَتَغْوِيرِ الْآبَارِ لِقَطْعِ الْمَاءِ عَنْهُمْ جَازَ ذَلِكَ.

بِدَلِيلِ «فِعْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


6-موسوعة الفقه الكويتية (آجر)

آجُرّ

التَّعْرِيفُ:

1- الْآجُرُّ لُغَةً: الطِّينُ الْمَطْبُوخُ. وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ؛ إِذْ قَالُوا: هُوَ اللَّبِنُ الْمُحَرَّقُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2- الْآجُرُّ يُخَالِفُ الْحَجَرَ وَالرَّمْلَ فِي أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَصْلِهِ بِالطَّبْخِ وَالصَّنْعَةِ، بِخِلَافِهِمَا. وَيُخَالِفُ الْجِصَّ وَالْجِبْسَ أَيْضًا إِذْ هُمَا حَجَرٌ مُحَرَّقٌ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

3- لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِالْآجُرِّ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَصِحُّ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ. غَيْرَ أَنَّهُ مَعَ الصِّحَّةِ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا إِنْ كَانَ ذَا قِيمَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ.

وَلَوْ عُجِنَ بِنَجِسٍ فَفِي طَهَارَتِهِ أَوْ نَجَاسَتِهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَشْقِيقَاتٌ وَتَفْرِيعَاتٌ فِي مَبْحَثِ النَّجَاسَاتِ.

وَعَلَى الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ يَتَرَتَّبُ صِحَّةُ بَيْعِهِ وَفَسَادُهُ. وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ «شَرَائِطُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ»

وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ يَتَنَاوَلُ الْفُقَهَاءُ (الْآجُرَّ) فِي الدَّفْنِ وَحَثْوِ الْقَبْرِ بِهِ.

وَفِي السَّلَمِ عَنْ حُكْمِ السَّلَمِ فِيهِ.

وَفِي الْغَصْبِ إِنْ جُعِلَ التُّرَابُ آجُرًّا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (آنية)

آنِيَة

أَوَّلًا: التَّعْرِيفُ:

1- الْآنِيَةُ جَمْعُ إِنَاءٍ، وَالْإِنَاءُ الْوِعَاءُ، وَهُوَ كُلُّ ظَرْفٍ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْعِبَ غَيْرَهُ. وَجَمْعُ الْآنِيَةِ أَوَانٍ. وَيُقَارِبُهُ الظَّرْفُ، وَالْمَاعُونُ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ.

ثَانِيًا: أَحْكَامُ الْآنِيَةِ مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُهَا:

أ- بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهَا (مَادَّتِهَا):

2- الْآنِيَةُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهَا أَنْوَاعٌ: آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ- الْآنِيَةُ الْمُفَضَّضَةُ- الْآنِيَةُ الْمُمَوَّهَةُ- الْآنِيَةُ النَّفِيسَةُ لِمَادَّتِهَا أَوْ صَنْعَتِهَا- آنِيَةُ الْجِلْدِ- آنِيَةُ الْعَظْمِ- آنِيَةٌ مِنْ غَيْرِ مَا سَبَقَ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

3- هَذَا النَّوْعُ مَحْظُورٌ لِذَاتِهِ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ». وَنَهَى- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ، فَقَالَ: «مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ». وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِيهَا مَا يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ مِنَ الْفَخْرِ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ.

وَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ مَوْجُودَةٌ فِي الطَّهَارَةِ مِنْهَا وَاسْتِعْمَالِهَا كَيْفَمَا كَانَ.

وَإِذَا حَرُمَ الِاسْتِعْمَالُ فِي غَيْرِ الْعِبَادَةِ فَفِيهَا أَوْلَى، وَفِي الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا.

فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْهَا أَوِ اغْتَسَلَ، صَحَّتْ طَهَارَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الطَّهَارَةِ وَمَاءَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَالطَّهَارَةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْمُحَرَّمَ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. وَالتَّحْرِيمُ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الْآنِيَةُ الْمُفَضَّضَةُ وَالْمُضَبَّبَةُ بِالْفِضَّةِ:

4- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِ الْآنِيَةِ الْمُفَضَّضَةِ وَالْمُضَبَّبَةِ بِالْفِضَّةِ: فَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْآنِيَةِ الْمُفَضَّضَةِ وَالْمُضَبَّبَةِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفِضَّةِ.

وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِعْمَالُ إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ قَلِيلَةً.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُفَضَّضَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا الْمَنْعُ، وَالْأُخْرَى الْجَوَازُ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمُ الْجَوَازَ.

وَأَمَّا الْآنِيَةُ الْمُضَبَّبَةُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ شَدُّهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمُضَبَّبِ بِالذَّهَبِ، كَثُرَتِ الضَّبَّةُ أَوْ قَلَّتْ، لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُضَبَّبَ بِالذَّهَبِ كَالْمُضَبَّبِ بِالْفِضَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَلِغَيْرِ زِينَةٍ، جَازَتْ، وَإِنْ كَانَتْ لِلزِّينَةِ حَرُمَتْ وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً. وَالْمَرْجِعُ فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ الْعُرْفُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُضَبَّبَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، ذَهَبًا كَانَ أَوْ فِضَّةً، لِحَاجَةٍ وَلِغَيْرِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُبَاحُ الْيَسِيرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مِنَ الذَّهَبِ إِلاَّ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ. وَأَمَّا الْفِضَّةُ فَيُبَاحُ مِنْهَا الْيَسِيرُ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُبَاحُ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يُبَاحُ الْيَسِيرُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ.

وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمْ مُبَاشَرَةُ مَوْضِعِ الْفِضَّةِ بِالِاسْتِعْمَالِ، كَيْ لَا يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا لَهَا.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الْإِنَاءِ الْمُضَبَّبِ وَالْمُفَضَّضِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ مُحَمَّدٍ. وَحُجَّةُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ

وَافَقَهُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَابِعٌ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّوَابِعِ، كَالْجُبَّةِ الْمَكْفُوفَةِ بِالْحَرِيرِ، وَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ، وَمِسْمَارِ الذَّهَبِ فِي الْفَصِّ.

وَحُجَّةُ مَنْ جَوَّزَ قَلِيلَ الْفِضَّةِ لِلْحَاجَةِ «أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ» وَأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ سَرَفٌ وَلَا خُيَلَاءُ، فَأَشْبَهَ الضَّبَّةَ مِنَ الصُّفْرِ (النُّحَاسِ).

وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي ضَبَّةِ الْفِضَّةِ مِنَ السَّلَفِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَغَيْرُهُمْ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْآنِيَةُ الْمُمَوَّهَةُ وَالْمُغَشَّاةُ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ:

5- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ الْآنِيَةَ الْمُمَوَّهَةَ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ جَائِزٌ اسْتِعْمَالُهَا، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ التَّمْوِيهُ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهُ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: «وَأَمَّا الْأَوَانِي الْمُمَوَّهَةُ بِمَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، الَّذِي لَا يَخْلُصُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ». وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهُ فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَضَّضِ وَالْمُضَبَّبِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ الِاسْتِعْمَالُ إِذَا كَانَ التَّمْوِيهُ يَسِيرًا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُمَوَّهَ وَالْمَطْلِيَّ وَالْمُطَعَّمَ وَالْمُكَفَّتَ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ.

أَمَّا آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا غُشِيَتْ بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِيهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ. وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيَّةُ إِذَا كَانَ سَاتِرًا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِفُقْدَانِ عِلَّةِ الْخُيَلَاءِ.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْآنِيَةُ النَّفِيسَةُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

6- الْآنِيَةُ النَّفِيسَةُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، نَفَاسَتُهَا إِمَّا لِذَاتِهَا (أَيْ مَادَّتِهَا) وَإِمَّا لِصَنْعَتِهَا:

أ- النَّفِيسَةُ لِذَاتِهَا:

7- الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْأَوَانِي النَّفِيسَةِ، كَالْعَقِيقِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفَاسَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَمْثَالِهَا حُرْمَةُ اسْتِعْمَالِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ فَيَبْقَى عَلَيْهِ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ التَّحْرِيمِ بِالْأَثْمَانِ (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)، الَّتِي هِيَ وَاقِعَةٌ فِي مَظِنَّةِ الْكَثْرَةِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْأَوَانِي النَّفِيسَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

ب- الْآنِيَةُ النَّفِيسَةُ لِصَنْعَتِهَا:

8- النَّفِيسُ بِسَبَبِ الصَّنْعَةِ، كَالزُّجَاجِ الْمَخْرُوطِ وَغَيْرِهِ لَا يَحْرُمُ بِلَا خِلَافٍ.

وَذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمَجْمُوعِ، وَلَكِنْ نَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ صَاحِبَ الْبَيَانِ فِي زَوَائِدِهِ حَكَى الْخِلَافَ أَيْضًا فِيمَا كَانَتْ نَفَاسَتُهُ بِسَبَبِ الصَّنْعَةِ، وَقَالَ: إِنَّ الْجَوَازَ هُوَ الصَّحِيحُ.

النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْجِلْدِ:

9- قَالَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ: إِنَّ جِلْدَ كُلِّ مَيْتَةٍ نَجِسٌ قَبْلَ الدَّبْغِ، وَأَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ نَجِسٌ أَيْضًا. وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ اللُّغَوِيَّةِ (أَيْ النَّظَافَةِ) لَا الشَّرْعِيَّةِ. وَمُؤَدَّى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى بِهِ أَوْ عَلَيْهِ.

وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ أَنَّهُ يَطْهُرُ الْجِلْدُ بِالدِّبَاغَةِ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ، فَيُصَلَّى بِهِ وَعَلَيْهِ.

وَيُرْوَى الْقَوْلُ بِالنَّجَاسَةِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم-.

وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَطْهُرُ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ جِلْدُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ.

وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَغَيْرِهِمْ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا ذُبِحَ حَيَوَانٌ يُؤْكَلُ لَمْ يَنْجُسْ بِالذَّبْحِ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ. وَإِنْ ذُبِحَ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ نَجُسَ بِذَبْحِهِ، كَمَا يَنْجُسُ بِمَوْتِهِ، فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ. وَكُلُّ حَيَوَانٍ نَجُسَ بِالْمَوْتِ طَهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ، عَدَا الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَلِأَنَّ الدِّبَاغَ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ عَلَى الْجِلْدِ، وَيُصْلِحُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، كَالْحَيَاةِ. ثُمَّ الْحَيَاةُ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ الْجِلْدِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ. أَمَّا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُمَا بِالدِّبَاغِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ، عَدَا الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا، يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ الْحَقِيقِيَّةِ كَالْقَرَظِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ وَالشَّبِّ، كَمَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ الْحُكْمِيَّةِ، كَالتَّتْرِيبِ وَالتَّشْمِيسِ وَالْإِلْقَاءِ فِي الْهَوَاءِ. فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَعَلَيْهِ، وَالْوُضُوءُ مِنْهُ.

وَعَدَمُ طَهَارَةِ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ بِالدِّبَاغَةِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، وَجِلْدِ الْآدَمِيِّ لِحُرْمَتِهِ، صَوْنًا لِكَرَامَتِهِ، وَإِنْ حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ.

النَّوْعُ السَّادِسُ: الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْعَظْمِ:

10- الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ عَظْمِ حَيَوَانٍ مَأْكُولِ اللَّحْمِ مُذَكًّى يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهَا إِجْمَاعًا. وَأَمَّا الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، فَإِنْ كَانَ مُذَكًّى فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، لِقَوْلِهِمْ بِطَهَارَةِ الْقَرْنِ وَالظُّفُرِ وَالْعَظْمِ، مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ» وَهُوَ عَظْمُ الْفِيلِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا لَمَا امْتَشَطَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْآنِيَةِ مِنْ عَظْمِ الْفِيلِ. وَهُوَ أَحَدُ رَأْيَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَأْيُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ. وَحُجَّةُ أَصْحَابِ هَذَا الرَّأْيِ أَنَّ الْعَظْمَ وَالسِّنَّ وَالْقَرْنَ وَالظِّلْفَ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ، لَا يُحِسُّ وَلَا يَأْلَمُ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا». وَذَلِكَ حَصْرٌ لِمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَيْتَةِ فَيَبْقَى مَا عَدَاهَا عَلَى الْحِلِّ.

وَالرَّأْيُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

11- وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَظْمُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مُذَكًّى (سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولِهِ) فَالْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي طَهَارَتِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَسَمٌ، فَلَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِإِزَالَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْعَظْمُ هُنَا نَجِسٌ، وَلَا يَطْهُرُ بِحَالٍ.

هَذَا وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ اسْتِعْمَالِ عَظْمِ الْخِنْزِيرِ، لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، وَعَظْمِ الْآدَمِيِّ- وَلَوْ كَافِرًا- لِكَرَامَتِهِ.

12- وَأَلْحَقَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْفِيلَ بِالْخِنْزِيرِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ عِنْدَهُ. وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ الْكَلْبَ بِالْخِنْزِيرِ. وَكَرِهَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِظَامَ الْفِيَلَةِ. وَرَخَّصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ وَابْنُ جَرِيرٍ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اشْتَرَى لِفَاطِمَةَ قِلَادَةً مِنْ عَصْبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ». وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالنَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} وَالْعَظْمُ مِنْ جُمْلَتِهَا، فَيَكُونُ مُحَرَّمًا، وَالْفِيلُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَهُوَ نَجِسٌ ذُكِّيَ أَوْ لَمْ يُذَكَّ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ اسْتِعْمَالَ عَظْمِ الْفِيلِ مَكْرُوهٌ. وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَفِي قَوْلٍ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ: إِنَّ الْفِيلَ إِنْ ذُكِّيَ فَعَظْمُهُ طَاهِرٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ نَجِسٌ.

النَّوْعُ السَّابِعُ: الْأَوَانِي مِنْ غَيْرِ مَا سَبَقَ:

13- الْأَوَانِي مِنْ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُبَاحٌ اسْتِعْمَالُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ ثَمِينَةً كَبَعْضِ أَنْوَاعِ الْخَشَبِ وَالْخَزَفِ، وَكَالْيَاقُوتِ وَالْعَقِيقِ وَالصُّفْرِ، أَمْ غَيْرَ ثَمِينَةٍ كَالْأَوَانِي الْعَادِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْآنِيَةِ لَهَا حُكْمٌ خَاصٌّ مِنْ حَيْثُ الِانْتِبَاذُ فِيهَا، فَقَدْ نَهَى الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام- أَوَّلًا عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ إِلاَّ فِي ظُرُوفِ الْأُدْمِ، فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَلاَّ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا».

وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْآنِيَةِ عَلَى أَنْ يُحْذَرَ مِنْ تَخَمُّرِ مَا فِيهَا نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا بِطَبِيعَتِهَا يُسْرِعُ التَّخَمُّرُ إِلَى مَا يُنْبَذُ فِيهَا.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ الِانْتِبَاذَ فِي الْآنِيَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَنَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ لَمْ يُنْسَخْ عِنْدَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم-، وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.

ب- آنِيَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:

14- آنِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلاَّ إِذَا تُيُقِّنَ عَدَمُ طَهَارَتِهَا. فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ «سُؤْرَ الْآدَمِيِّ وَمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ اللُّعَابُ، وَقَدْ تَوَلَّدَ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ فَيَكُونُ طَاهِرًا. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالْكَافِرُ.» وَمَا دَامَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا فَاسْتِعْمَالُ آنِيَتِهِ جَائِزٌ مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ» وَكَانُوا مُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانَ عَيْنُ الْمُشْرِكِ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّجَسُ فِي الِاعْتِقَادِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَهْلُ الْكِتَابِ وَآنِيَتُهُمْ. وَذَلِكَ لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ «دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَالْتَزَمْتُهُ وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا. فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَبْتَسِمُ». وَرَوَى أَنَسٌ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَضَافَهُ يَهُودِيٌّ بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ».

وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.

وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْفُرُوقِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَسْتَنْجُونَ وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنَ النَّجَاسَاتِ، مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا، مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةَ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلاَّ أَنْ يُتَيَقَّنَ طَهَارَتُهَا، فَلَا كَرَاهَةَ، وَسَوَاءٌ الْمُتَدَيِّنُ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ وَغَيْرُهُ. وَدَلِيلُهُمْ مَا رَوَى «أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ كِتَابٍ، أَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلاَّ إِنْ لَمْ تَجِدُوا عَنْهَا بُدًّا، فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ، ثُمَّ كُلُوا فِيهَا». وَأَقَلُّ أَحْوَالِ النَّهْيِ الْكَرَاهَةُ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَةَ، فَكُرِهَ لِذَلِكَ. عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ أَوَانِيَهُمُ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي الْمَاءِ أَخَفُّ كَرَاهَةً. 15- آنِيَةُ الْمُشْرِكِينَ:

يُسْتَفَادُ مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا أَنَّ أَوَانِيَ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَأَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.

وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ أَنَّ مَا اسْتَعْمَلَهُ الْكُفَّارُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْأَوَانِي لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِأَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ. وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ، فَتَكُونُ نَجِسَةً.

ثَالِثًا: حُكْمُ اقْتِنَاءِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

16- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ مُخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ اقْتِنَاءِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ اقْتِنَاءُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِجَوَازِ بَيْعِهَا، وَلِاعْتِبَارِ شَقِّهَا بَعْدَ بَيْعِهَا عَيْبًا.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، حُرْمَةُ اتِّخَاذِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ مُطْلَقًا حَرُمَ اتِّخَاذُهُ عَلَى هَيْئَةِ الِاسْتِعْمَالِ.

رَابِعًا: حُكْمُ إِتْلَافِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

17- مَنْ يَرَى جَوَازَ اقْتِنَاءِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَرَى أَنَّ إِتْلَافَهَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْجَوَازِ فَإِنَّ إِتْلَافَهَا لَا يُوجِبُ ضَمَانَ الصَّنْعَةِ إِنْ كَانَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الْقِيمَةِ. وَالْكُلُّ مُجْمِعٌ عَلَى ضَمَانِ مَا يُتْلِفُهُ مِنَ الْعَيْنِ.

خَامِسًا: زَكَاةُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

18- آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا بَلَغَ كُلٌّ مِنْهُمَا النِّصَابَ وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْطِنُهُ أَبْوَابُ الزَّكَاةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (إبراء 1)

إِبْرَاء -1

التَّعْرِيفُ بِالْإِبْرَاءِ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: بَرِئَ: تَخَلَّصَ وَتَنَزَّهَ وَتَبَاعَدَ، فَالْإِبْرَاءُ عَلَى هَذَا: جَعْلُ الْمَدِينِ- مَثَلًا- بَرِيئًا مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ. وَالتَّبْرِئَةُ: تَصْحِيحُ الْبَرَاءَةِ، وَالْمُبَارَأَةُ: الْمُصَالَحَةُ عَلَى الْفِرَاقِ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلَا تُجَاهَهُ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ السُّكْنَى الْمُوصَى بِهِ، فَتَرْكُهُ لَا يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ. وَقَدِ اخْتِيرَ لَفْظُ (إِسْقَاطٍ) فِي التَّعْرِيفِ- بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَيَيْنِ، هُمَا الْإِسْقَاطُ وَالتَّمْلِيكُ- تَغْلِيبًا لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهِ إِسْقَاطٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَرَاءَةُ، وَالْمُبَارَأَةُ، وَالِاسْتِبْرَاءُ:

2- (الْبَرَاءَةُ): هِيَ أَثَرُ الْإِبْرَاءِ، وَهِيَ مَصْدَرُ بَرِئَ. فَهِيَ مُغَايِرَةٌ لَهُ فِي الْفِقْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ كَمَا تَحْصُلُ بِالْإِبْرَاءِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الدَّائِنِ، تَحْصُلُ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى غَيْرِهِ، كَالْوَفَاءِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَ الْمَدِينِ أَوِ الْكَفِيلِ، وَتَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِالِاشْتِرَاطِ، كَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّبَرُّؤِ أَيْضًا، وَتَفْصِيلُهُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، وَالْكَفَالَةِ.

وَقَدْ تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الضَّمَانِ، أَوْ بِمَنْعِ صَاحِبِ التَّضْمِينِ مِنْ إِزَالَتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ إِنْ أَرَادَ رَدْمَهَا فَمَنَعَهُ الْمَالِكُ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ صِيغَةُ إِبْرَاءٍ.

وَمِمَّا يُؤَكِّدُ التَّبَايُنَ بَيْنَهُمَا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْ تَقْيِيدِ الْبَرَاءَةِ بِالْإِبْرَاءِ أَوِ الْإِسْقَاطِ لِتَمْيِيزِهَا عَنِ الْبَرَاءَةِ بِالِاسْتِيفَاءِ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ: الْبَرَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ لَا تَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الْكَفِيلِ، بَلْ بِفِعْلِ الطَّالِبِ- أَيْ الدَّائِنِ- فَلَا تَكُونُ حِينَئِذٍ مُضَافَةً إِلَى الْكَفِيلِ. وَنَحْوَهُ بَحَثَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي تَلْفِيقِ شَهَادَتَيْ الْإِبْرَاءِ وَالْبَرَاءَةِ، كَأَنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَبْرَأَهُ، وَآخَرُ بِأَنَّهُ بَرِئَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَرَجَّحُوا جَوَازَهُ وَاعْتِبَارَ الشَّهَادَةِ مُسْتَكْمِلَةَ النِّصَابِ

3- أَمَّا (الْمُبَارَأَةُ) فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ وَتَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْبَرَاءَةِ. وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخُلْعِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا. لَكِنَّهَا تَخْتَصُّ بِإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنِ الزَّوْجِ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ. فَالْمُبَارَأَةُ صُورَةٌ خَاصَّةٌ لِلْإِبْرَاءِ تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِإِيقَاعِ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ- إِجَابَةً لِطَلَبِ الزَّوْجَةِ غَالِبًا- مُقَابِلَ عِوَضٍ مَالِيٍّ تَبْذُلُهُ لِلزَّوْجِ، هُوَ تَرْكُهَا مَا لَهَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقٍ مَالِيَّةٍ، كَالْمَهْرِ الْمُؤَجَّلِ، أَوِ النَّفَقَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي الْعِدَّةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَا أَيُّ حَقٍّ إِلاَّ بِالتَّسْمِيَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَائِلَيْنِ بِسُقُوطِ جَمِيعِ حُقُوقِهَا الزَّوْجِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْطِنُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ (الْخُلْعِ).

وَلِابْنِ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رِسَالَةٌ فِي الطَّلَاقِ الْمُوَقَّعِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِبْرَاءِ، حَقَّقَ فِيهَا أَنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا لِوُقُوعِهِ بِعِوَضٍ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: مَتَى ظَهَرَ كَذَا وَأَبْرَأْتِنِي مِنْ مَهْرِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَيْسَ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا بِالْإِبْرَاءِ، فَالْإِبْرَاءُ شَرْطٌ لِلطَّلَاقِ وَلَيْسَ عِوَضًا.

4- وَأَمَّا (الِاسْتِبْرَاءُ) فَهُوَ يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: هُوَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، أَيْ طَهَارَتُهُ مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ. وَهُوَ حَيْثُ لَا تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ عِدَّةٌ. وَأَحْكَامُهُ مُفَصَّلَةٌ فِي مُصْطَلَحِهِ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: هُوَ طَلَبُ نَقَاءِ الْمَخْرَجَيْنِ مِمَّا يُنَافِي التَّطَهُّرَ، وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءِ الْحَاجَةِ).

ب- الْإِسْقَاطُ:

5- الْإِسْقَاطُ لُغَةً: الْإِزَالَةُ، وَاصْطِلَاحًا: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ أَوْ مُسْتَحِقٍّ. وَهُوَ قَدْ يَقَعُ عَلَى حَقٍّ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، عَلَى سَبِيلِ الْمَدْيُونِيَّةِ (كَالْحَالِ فِي الْإِبْرَاءِ) كَمَا قَدْ يَقَعُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ بِالشَّرْعِ لَمْ تُشْغَلْ بِهِ الذِّمَّةُ (كَحَقِّ الشُّفْعَةِ) وَيَكُونُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، فَالْإِبْرَاءُ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْقَاطِ، فَكُلُّ إِبْرَاءٍ إِسْقَاطٌ، وَلَا عَكْسَ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ نَوْعٌ مِنَ الْإِسْقَاطِ تَقْسِيمُ الْقَرَافِيِّ الْإِسْقَاطَ إِلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: بِعِوَضٍ، كَالْخُلْعِ. وَالْآخَرُ: بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمَثَّلَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ مِنَ الدُّيُونِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

وَالْإِسْقَاطُ مُتَمَحِّضٌ لِسُقُوطِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، فِي حِينِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ مُخْتَلِفٌ فِي أَنَّهُ إِسْقَاطٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، أَوْ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ، أَوْ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

هَذَا وَإِنَّ الْقَلْيُوبِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَفَادَ أَنَّ غَيْرَ الْقِصَاصِ لَا يُسَمَّى تَرْكُهُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاءٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَأْلُوفِ الْمَذْهَبِ.

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْإِبْرَاءُ فِي مَوْطِنِ الْإِسْقَاطِ، كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، فَالْإِبْرَاءُ مِنَ الْعَيْبِ كِنَايَةٌ عَنْ إِسْقَاطِ الْخِيَارِ.

ج- الْهِبَةُ:

6- الْهِبَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَغْرَاضِ، أَوِ التَّبَرُّعُ بِمَا يَنْفَعُ الْمَوْهُوبَ لَهُ مُطْلَقًا. وَهِيَ شَرْعًا: تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا عِوَضٍ.

وَالَّذِي يُوَافِقُ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْهِبَةِ هُوَ هِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، فَهِيَ وَالْإِبْرَاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يُجِيزُونَ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْجُمْلَةِ فَالْإِبْرَاءُ مُخْتَلِفٌ عَنْ هِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْإِبْرَاءِ بَعْدَ قَبُولِهِ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ كَمَا تَنُصُّ عَلَى ذَلِكَ الْقَاعِدَةُ الْمَشْهُورَةُ.

أَمَّا هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ- عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الَّذِي مَوْطِنُهُ الْهِبَةُ وَالدَّيْنُ- فَلَا صِلَةَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ.

د- الصُّلْحُ:

7- الصُّلْحُ لُغَةً: التَّوْفِيقُ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُصَالَحَةِ. وَهُوَ شَرْعًا: عَقْدٌ بِهِ يُرْفَعُ النِّزَاعُ وَتُقْطَعُ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْمُتَصَالِحَيْنِ بِتَرَاضِيهِمَا.

وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ الصُّلْحَ يَكُونُ عَنْ إِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ. فَإِذَا كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ، وَكَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى إِسْقَاطِ جُزْءٍ مِنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَأَدَاءِ الْبَاقِي، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُشْبِهُ الصُّلْحُ الْإِبْرَاءَ؛ لِأَنَّهَا أَخْذٌ لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءٌ عَنْ بَاقِيهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الصُّلْحُ هُنَا عَلَى أَخْذِ بَدَلٍ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ.

وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ وَتَضَمَّنَ إِسْقَاطَ الْجُزْءِ مِنْ حَقِّهِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّعِي إِبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ، فِي حِينِ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ افْتِدَاءٌ لِلْيَمِينِ وَقَطْعٌ لِلْمُنَازَعَةِ.

وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الصُّلْحَ عَلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِسْقَاطٌ وَإِبْرَاءٌ، وَقَالَ: هُوَ جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَالْآخَرُ: صُلْحٌ عَلَى عِوَضٍ، وَقَالَ فِيهِ: هُوَ جَائِزٌ إِلاَّ إِنْ أَدَّى إِلَى حَرَامٍ.

هـ- الْإِقْرَارُ:

8- مِنْ مَعَانِي الْإِقْرَارِ فِي اللُّغَةِ: الْإِيقَانُ وَالِاعْتِرَافُ. وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ: الْإِخْبَارُ بِحَقِّ الْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ.

وَالْإِقْرَارُ قَدْ يَرِدُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَيَكُونُ إِقْرَارًا بِالْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِمَّا إِبْرَاءُ اسْتِيفَاءٍ، وَإِمَّا إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَكُلٌّ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ عَلَى إِطْلَاقِهِ يَقْطَعُ النِّزَاعَ وَيَفْصِلُ الْخُصُومَةَ. فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَلِذَا عُبِّرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَإِنْ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا.

وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ تَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا، فَإِذَا قَالَ: أَبْرَأْتَنِي مِنْ كَذَا، أَوْ: أَبْرِئْنِي، فَهُوَ إِقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ بِشَغْلِ الذِّمَّةِ وَادِّعَاءٌ لِلْإِسْقَاطِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَعَلَيْهِ بَيِّنَةُ الْإِبْرَاءِ أَوِ الْقَضَاءُ.

و- الضَّمَانُ:

9- الضَّمَانُ لُغَةً: الْكَفَالَةُ وَالِالْتِزَامُ بِالشَّيْءِ. وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: الْتِزَامُ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ أَوْ إِحْضَارُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ. وَالضَّمَانُ عَكْسُ الْإِبْرَاءِ، فَهُوَ يُفِيدُ انْشِغَالَ الذِّمَّةِ

فِي حِينِ يُطْلَقُ الْإِبْرَاءُ عَلَى خُلُوِّهَا، وَلِصِلَةِ الضِّدِّيَّةِ هَذِهِ وَضَعَ الشَّافِعِيَّةُ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الْإِبْرَاءِ فِي بَابِ الضَّمَانِ.

هَذَا وَإِنَّ لِلْإِبْرَاءِ صِلَةً بِالضَّمَانِ، وَهِيَ أَنَّهُ أَحَدُ الْأَسْبَابِ لِسُقُوطِهِ، بَلْ إِنَّ لَهُ مَدْخَلًا إِلَى أَكْثَرِ الِالْتِزَامَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَطَرَّقُ لَهُ فِي سُقُوطِهَا؛ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَسْقُطَ بِالْوَفَاءِ- أَيْ الْأَدَاءِ- أَوِ الْمُقَاصَّةِ أَوِ الْإِبْرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ز- الْحَطُّ:

10- الْحَطُّ لُغَةً: الْوَضْعُ، أَوِ الْإِسْقَاطُ. وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِسْقَاطُ بَعْضِ الدَّيْنِ أَوْ كُلِّهِ. فَالْحَطُّ إِبْرَاءٌ مَعْنًى، وَلِذَا قَدْ يُطْلَقُ الْحَطُّ عَلَى الْإِبْرَاءِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَيَّدَ بِالْكُلِّ أَوِ الْجُزْءِ. وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُ الْحَطِّ لِلْإِبْرَاءِ عَنْ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، أَمَّا الْإِبْرَاءُ فَهُوَ عَنْ كُلِّهِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ تَسْمِيَةُ وَضْعِ بَعْضِ الدَّيْنِ إِبْرَاءً، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إِبْرَاءٌ جُزْئِيٌّ. وَقَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ إِبْرَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ يُشْعِرُ بِقَنَاعَةِ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقَلِيلِ عَنِ الْكَثِيرِ.

ح- التَّرْكُ:

11- مِنْ مَعَانِي التَّرْكِ فِي اللُّغَةِ: الْإِسْقَاطُ، يُقَالُ: تَرَكَ حَقَّهُ: إِذَا أَسْقَطَهُ. وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.

وَمِنْ صِلَتِهِ بِالْإِبْرَاءِ مَا جَاءَ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إِنْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ (التَّرْكِ) كَأَنْ يَقُولَ: تَرَكْتُ الدَّيْنَ، أَوْ: لَا آخُذُهُ مِنْكَ، فَهِيَ كِنَايَةُ إِبْرَاءٍ. وَلَكِنْ نَقَلَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الْقَوْلَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِبْرَاءٌ صَرِيحٌ. وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَالْمُقْرِي.

وَالتَّرْكُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِسْقَاطِ عُمُومًا بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِلَفْظِ الْإِسْقَاطِ وَيُعْطَى أَحْكَامَهُ، وَلِذَا أَوْرَدَهُ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي عِدَادِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ الْإِسْقَاطُ فِيهَا إِلَى قَبُولٍ- كَالْإِبْرَاءِ عِنْدَهُمْ- فِي حِينِ يَحْتَاجُ لَفْظُ الصُّلْحِ إِلَى الْقَبُولِ.

وَقَدْ يُطْلَقُ التَّرْكُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْحَقِّ دُونَ إِسْقَاطِهِ، كَتَرْكِ الزَّوْجَةِ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ وَمَنْحِهِ لِلزَّوْجَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ لَهَا الرُّجُوعَ وَطَلَبَ الْقَسْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ.

وَالْغَالِبُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ لَفْظُ التَّرْكِ فِي الدَّعْوَى، فَالْمُدَّعِي فِي أَشْهَرِ تَعْرِيفَاتِهِ «مَنْ إِذَا تَرَكَ (أَيْ دَعْوَاهُ) تُرِكَ» وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَصْدُرْ دَفْعٌ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَعْوَاهُ، فَإِنْ حَصَلَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي التَّرْكُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِهِ الْكَيْدَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيُلْزَمُ بِالِاسْتِمْرَارِ فِي الدَّعْوَى لِلْفَصْلِ فِيهَا. وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ هُنَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُدَّعِيًا أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي كَذَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُ طَلَبُ دَفْعِ التَّعَرُّضِ.

صِفَةُ الْإِبْرَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

12- الْإِبْرَاءُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ الْمَعْرُوفَةُ:

فَيَكُونُ وَاجِبًا إِذَا سَبَقَهُ اسْتِيفَاءٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا بِالْبَرَاءَةِ لِمُسْتَحِقِّهَا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وَالْمُؤَكَّدِ بِالْحَدِيثِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي بَابِ السَّلَمِ: إِذَا أَحْضَرَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالَ السَّلَمِ الْحَالَّ لِغَرَضِ الْبَرَاءَةِ أُجْبِرَ الْمُسَلِّمُ عَلَى الْقَبُولِ أَوِ الْإِبْرَاءِ. فَهَذَا وَاجِبٌ تَخْيِيرِيٌّ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُفْلِسِ فَلَهُ إِجْبَارُ الْغُرَمَاءِ عَلَى أَخْذِ الْعَيْنِ إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ، أَوْ إِبْرَائِهِ.

وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَمَا لَوْ جَاءَ ضِمْنَ عَقْدٍ بَاطِلٍ، لِأَنَّ اسْتِبْقَاءَ الْبَاطِلِ حَرَامٌ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بُطْلَانِ الْإِبْرَاءِ.

وَتَعْرِضُ لَهُ الْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا أَبْرَأَ وَارِثَهُ أَوْ غَيْرَهُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ، وَمُسْتَنَدُ الْكَرَاهَةِ مَا فِي ذَلِكَ الْإِبْرَاءِ مِنْ تَضْيِيعِ وَرَثَتِهِ، «لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ هَمَّ بِالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ: إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ». أَمَّا الثُّلُثُ فَقَدْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ.

13- عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ لَهُ النَّدْبُ، وَلِذَا يَقُولُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: «الْإِبْرَاءُ مَطْلُوبٌ، فَوُسِّعَ فِيهِ، بِخِلَافِ الضَّمَانِ» ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ الْحَقِّ عَنِ الْمُعْسِرِ الَّذِي يُثْقِلُ الدَّيْنُ كَاهِلَهُ. وَحَتَّى إِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ لِمَنْ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَزِيدُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ، فَلَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه- حِينَ قَامَ بِوَفَاءِ دَيْنِ أَبِيهِ، وَخَبَرُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، حِينَ أَعْسَرَا، حَيْثُ ثَبَتَ حَضُّهُ - عليه الصلاة والسلام- الدَّائِنِينَ عَلَى إِسْقَاطِ كُلِّ الدَّيْنِ أَوْ بَعْضِهِ عَنْهُمْ.

وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لِلْمُعْسِرِ أَفْضَلُ مِنَ الْقَرْضِ، وَأَنَّ الْقَرْضَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ.

وَالْإِبْرَاءُ فِي غَيْرِ الْأَحْوَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا هُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الْجَارِيَةِ فِي مُعْظَمِ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي بُعِثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالَةِ عَجْزِ الْمُبْرِئِ عَنْ تَحْصِيلِ حَقِّهِ مِنْ مُنْكِرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ هُنَا غَيْرُ وَارِدٍ، لِفُقْدَانِ مَحَلِّهِ.

أَقْسَامُ الْإِبْرَاءِ:

14- يُقَسِّمُ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ الْإِبْرَاءَ إِلَى قِسْمَيْنِ: إِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ، وَإِبْرَاءُ الِاسْتِيفَاءِ. وَيَعْتَبِرُونَ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا هُوَ الْجَدِيرُ بِالْبَحْثِ تَحْتَ هَذَا الِاسْمِ، فِي حِينِ أَنَّ الثَّانِيَ (الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِلْحَقِّ الثَّابِتِ لِشَخْصٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ) هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْإِقْرَارِ. وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ فِي الْكَفَالَةِ الْوَاقِعِ مِنَ الطَّالِبِ (الدَّائِنِ) إِنْ جَاءَ بِلَفْظِ «بَرِئْتَ إِلَيَّ مِنَ الْمَالِ» بَرِئَ الْكَفِيلُ وَالْمَدِينُ كِلَاهُمَا مِنَ الْمُطَالِبِ، وَرَجَعَ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ بَرَاءَةُ قَبْضٍ وَاسْتِيفَاءٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: دَفَعْتَ إِلَيَّ. أَمَّا إِنْ قَالَ: بَرِئْتَ مِنَ الْمَالِ، أَوْ: أَبْرَأْتُكَ، بِدُونِ لَفْظِ (إِلَيَّ) فَلَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ، لَا إِقْرَارٌ بِالْقَبْضِ. عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ الْكَفَالَةُ.

وَوَجْهُ اعْتِبَارِهِمَا قِسْمَيْنِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِبْرَاءِ وَالْإِقْرَارِ يُرَادُ بِهِ قَطْعُ النِّزَاعِ وَفَصْلُ الْخُصُومَةِ وَعَدَمُ جَوَازِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَهُمَا. فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ. وَلِذَا عَبَّرُوا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَإِنِ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا.

وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ لَيْسَ لِلْإِبْرَاءِ فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِثَمَرَةِ الْإِبْرَاءِ وَمَقْصُودِهِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ- وَمِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ- غَيْرُ الْإِبْرَاءِ فِي الشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ وَالْآثَارِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فِي حِينِ يَخْتَصُّ إِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ بِالدُّيُونِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَسَيَقْتَصِرُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ تَفْصِيلَ مَا يَتَّصِلُ بِإِبْرَاءِ الِاسْتِيفَاءِ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (إِقْرَار).

وَلَمْ نَقِفْ فِي غَيْرِ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ لِلْإِبْرَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ لِسَائِرِ الْمَذَاهِبِ صُوَرٌ يُمَيِّزُونَ فِيهَا بَيْنَ بَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ.

وَهُنَاكَ تَقْسِيمٌ آخَرُ لِلْإِبْرَاءِ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، تَبَعًا لِلصِّيغَةِ الَّتِي يَرِدُ بِهَا، وَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِبْرَاءُ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (أَنْوَاع الْإِبْرَاءِ) بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ.

الْإِبْرَاءُ لِلْإِسْقَاطِ أَوِ التَّمْلِيكِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِبْرَاءِ، هَلْ هُوَ لِلْإِسْقَاطِ أَوِ التَّمْلِيكِ. وَتَبَايَنَتْ أَقْوَالُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِتَوْجِيهِ الْأَحْكَامِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَ لِكُلِّ مَذْهَبٍ رَأْيٌ غَالِبٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لِلْإِسْقَاطِ. قَالَ السُّبْكِيُّ: لَوْ كَانَ الْإِبْرَاءُ تَمْلِيكًا لَصَحَّ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْأَعْيَانِ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: مَا نَقَلَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ مُفْلِحٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ. قَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا: الْإِبْرَاءُ، وَإِنْ كَانَ تَمْلِيكًا، الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِسْقَاطُ.

الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: مَا نَقَلَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ أَيْضًا، أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْحَنَابِلَةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَقَالُوا: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ إِسْقَاطٌ، فَكَأَنَّهُ مَلَّكَهُ إِيَّاهُ ثُمَّ سَقَطَ.

وَهُنَاكَ اتِّجَاهٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، هُوَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ- فِي غَيْرِ مُقَابَلَتِهِ لِلطَّلَاقِ- تَمْلِيكٌ مِنَ الْمُبْرِئِ، إِسْقَاطٌ عَنِ الْمُبْرَأِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ تَمْلِيكًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَالِيَّةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ، بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.

غَلَبَةِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ تَسَاوِيهِمَا:

16- الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ اشْتِمَالُ الْإِبْرَاءِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ: الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ، وَفِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تَكُونُ الْغَلَبَةُ لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ تَبَعًا لِلْمَوْضُوعِ، كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الْأَعْيَانِ، فَهُوَ لِلتَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ. أَمَّا فِي الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ فَيَجْرِي الْمَعْنَيَانِ كِلَاهُمَا. فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنْ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنِ الدَّيْنِ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَمَعْنَى الْإِسْقَاطِ، وَمَثَّلَ لِمَا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ، وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.

وَمَثَّلَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ لِمَا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ بِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُهُ، فَأَبْرَأَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَهَذَا إِسْقَاطٌ. وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْإِبْرَاءُ عَنِ الزَّكَاةِ، لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ.

وَنَقَلَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا عَنِ النَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ قَوْلَهُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ كَوْنَ الْإِبْرَاءِ تَمْلِيكًا أَوْ إِسْقَاطًا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُطْلَقُ فِيهَا تَرْجِيحٌ، بَلْ يَخْتَلِفُ الرَّاجِحُ بِحَسَبِ الْمَسَائِلِ، لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ وَضَعْفِهِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ تَمْلِيكًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَالِيَّةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ.

وَمِمَّا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَرْجِيحُهُمْ اشْتِرَاطَ الْقَبُولِ فِي الْإِبْرَاءِ، كَمَا سَيَأْتِي.

عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَا يَصْلُحُ بِالِاعْتِبَارَيْنِ (الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ بِالتَّسَاوِي). وَمِنْهُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْوَارِثُ مَدِينَ مُوَرِّثِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَوْتِهِ، ثُمَّ بَانَ مَيِّتًا، فَبِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّهُ إِسْقَاطٌ يَصِحُّ، وَكَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ تَمْلِيكًا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَوْ بَاعَ عَيْنًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ ثُمَّ ظَهَرَ مَوْتُهُ صَحَّ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَهُنَا بِالْأَوْلَى.

اخْتِلَافُ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ:

17- قَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ اعْتِبَارِ الْإِبْرَاءِ، هَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا لَوْ وَكَّلَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ صَحَّ التَّوْكِيلُ، نَظَرًا إِلَى جَانِبِ الْإِسْقَاطِ، وَلَوْ نَظَرَ إِلَى جَانِبِ التَّمْلِيكِ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ.

أَرْكَانُ الْإِبْرَاءِ

تَمْهِيدٌ:

18- لِلْإِبْرَاءِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، بِحَسَبِ الْإِطْلَاقِ الْوَاسِعِ لِلرُّكْنِ، لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا هُوَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الشَّيْءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ مَاهِيَّتِهِ أَمْ خَارِجًا عَنْهَا، كَالْأَطْرَافِ وَالْمَحَلِّ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. فَالْأَرْكَانُ عِنْدَهُمْ هُنَا: الصِّيغَةُ وَالْمُبْرِئُ (صَاحِبُ الْحَقِّ أَوِ الدَّائِنُ) وَالْمُبْرَأُ (الْمَدِينُ) وَالْمُبْرَأُ مِنْهُ (مَحَلُّ الْإِبْرَاءِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ حَقٍّ)

وَرُكْنُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، أَمَّا الْمُتَعَاقِدَانِ وَالْمَحَلُّ فَهِيَ أَطْرَافُ الْعَقْدِ وَلَيْسَتْ رُكْنًا، لِمَا سَبَقَ.

الصِّيغَةُ:

19- الْأَصْلُ فِي الصِّيغَةِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِي الْعَقْدِ، وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَوَقُّفَ الْإِبْرَاءِ عَلَى الْقَبُولِ. أَمَّا مَنْ لَا يَرَى حَاجَةَ الْإِبْرَاءِ إِلَيْهِ فَالصِّيغَةُ هِيَ الْإِيجَابُ فَقَطْ.

الْإِيجَابُ:

20- يَحْصُلُ إِيجَابُ الْإِبْرَاءِ بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَهُوَ التَّخَلِّي عَمَّا لِلدَّائِنِ عِنْدَ الْمَدِينِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَاضِحَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَثَرِ (سُقُوطُ الْحَقِّ وَالْمُبْرَأِ مِنْهُ)، فَيَحْصُلُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرَاحَةً أَوْ كِنَايَةً مَحْفُوفَةً بِالْقَرِينَةِ، سَوَاءٌ أُورِدَ مُسْتَقِلًّا أَمْ تَبَعًا ضِمْنَ عَقْدٍ آخَرَ.

وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَفِيَ احْتِمَالُ الْمُعَاوَضَةِ، أَوْ قَصْدُ مُجَرَّدِ التَّأْخِيرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا، فَهُوَ صُلْحٌ بِمَالٍ، عَلَى خِلَافٍ سَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَهُوَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، لَا لِسُقُوطِهَا.

وَالْإِبْرَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ عَلَى التَّأْبِيدِ اتِّفَاقًا. فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ الْمُؤَقَّتُ، كَأَنْ يَقُولَ: أَبْرَأْتُكَ مِمَّا لِي عَلَيْكَ سَنَةً، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ. وَهُوَ مُسْتَفَادُ عِبَارَاتِ غَيْرِهِمْ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ. أَمَّا تَقْيِيدُ الْإِبْرَاءِ بِأَنَّهُ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ فَهُوَ لَيْسَ مِنَ الْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ وَإِنْ سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ تَجَوُّزًا (إِبْرَاءً مُؤَقَّتًا).

وَمِثْلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابَةُ الْمَرْسُومَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، أَوِ الْإِشَارَةُ الْمَعْهُودَةُ، بِشُرُوطِهِمَا الْمُفَصَّلَةِ فِي مَوْطِنِهِمَا.

21- وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ- بِالْإِضَافَةِ إِلَى لَفْظِ الْإِبْرَاءِ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى حُصُولِ الْإِيجَابِ بِهِ- أَمْثِلَةً عَدِيدَةً لِمَا يُؤَدِّي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. وَلَمْ يَنُصَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى انْحِصَارِ الصِّيغَةِ فِيمَا أَشَارُوا إِلَيْهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا صِيغَتُهُ: الْإِسْقَاطُ، وَالتَّمْلِيكُ، وَالْإِحْلَالُ، وَالتَّحْلِيلُ، وَالْوَضْعُ، وَالْعَفْوُ، وَالْحَطُّ، وَالتَّرْكُ، وَالتَّصَدُّقُ، وَالْهِبَةُ، وَالْعَطِيَّةُ. قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَإِنَّمَا صَحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ انْصَرَفَ إِلَى مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْحَارِثِيِّ قَوْلَهُ: لَوْ وَهَبَهُ دَيْنَهُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً لَمْ يَصِحَّ، لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَانْتِفَاءِ شَرْطِ الْهِبَةِ. كَمَا اسْتَدَلَّ مِنْ مَثَّلَ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ التَّصَدُّقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَهْرِ {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وقوله تعالى فِي شَأْنِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الدِّيَةِ {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} وقوله تعالى فِي شَأْنِ إِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَبِقَوْلِهِ - عليه الصلاة والسلام- دَاعِيًا لِإِبْرَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» وَقَدْ يَحْصُلُ الْإِبْرَاءُ بِصِيغَةٍ يَدُلُّ تَرْكِيبُهَا عَلَيْهِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لِي عِنْدَ فُلَانٍ حَقٌّ، أَوْ: مَا بَقِيَ لِي عِنْدَهُ حَقٌّ، أَوْ: لَيْسَ لِي مَعَ فُلَانٍ دَعْوَى، أَوْ: فَرَغْتُ مِنْ دَعْوَايَ الَّتِي هِيَ مَعَ فُلَانٍ، أَوْ: تَرَكْتُهَا.

22- وَيُسْتَفَادُ مِمَّا أَوْرَدَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ تَعْقِيبٍ عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ أَنَّ هُنَاكَ صِيَغًا مُخَصِّصَةٌ لِلْإِبْرَاءِ مِنَ الْأَمَانَاتِ أَوِ الدُّيُونِ، وَأُخْرَى لَا يَحْصُلُ عُمُومُ الْإِبْرَاءِ إِلاَّ بِهَا- يُسْتَفَادُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْعُرْفِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِبْرَاءُ أَصْلًا، أَوْ تَعْمِيمًا، أَوْ تَخْصِيصًا بِمَوْضُوعٍ دُونَ آخَرَ، كَمَا يُنْظَرُ إِلَى الْقَرَائِنِ فِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنْ إِطْلَاقٍ. وَمِنْ ذَلِكَ عِبَارَةُ «بَرِئْتُ مِنْ فُلَانٍ» الَّتِي تَحْتَمِلُ نَفْيَ الْمُوَالَاةِ وَالْبَرَاءَةَ مِنَ الْحُقُوقِ. فَإِذَا جَرَى الْعُرْفُ، أَوْ دَلَّتِ الْقَرَائِنُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا هِيَ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُمَثِّلُوا بِهِ لِلْإِيجَابِ عَنِ الْإِبْرَاءِ، كَعِبَارَةِ «التَّنَازُلِ» أَوِ «التَّخَلِّي عَنِ الْحَقِّ». فَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالْعُرْفِ.

الْقَبُولُ:

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ أَوْ لَا، عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ حَاجَةِ الْإِبْرَاءِ إِلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لِأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَالْإِسْقَاطَاتُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، كَالطَّلَاقِ، وَالْعِتْقِ، وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ الْمَذْهَبُ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: الْإِبْرَاءُ إِسْقَاطٌ أَمْ تَمْلِيكٌ.

الِاتِّجَاهُ الْآخَرُ: حَاجَةُ الْإِبْرَاءِ إِلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ، أَيْ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ لَهُ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْهِبَةِ، وَهِيَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْقَبُولِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ- أَيْ الِافْتِقَارُ لِلْقَبُولِ- بِأَنَّ الْمِنَّةَ قَدْ تَعْظُمُ فِي الْإِبْرَاءِ، وَذَوُو الْمُرُوءَاتِ وَالْأَنَفَاتِ يَضُرُّ ذَلِكَ بِهِمْ، لَا سِيَّمَا مِنَ السَّفَلَةِ، فَجَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ لَهُمْ قَبُولَ ذَلِكَ أَوْ رَدَّهُ، نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَرْبِطُونَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ الْخِلَافِ فِي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ، عَلَى مَا سَبَقَ.

24- وَلَا فَرْقَ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْقَبُولِ أَوْ عَدَمِهَا بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْإِبْرَاءِ، أَوِ التَّعْبِيرِ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، وَإِثْبَاتُ الْفَرْقِ هُوَ مَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِذْ قَالُوا فِيهَا بِالْحَاجَةِ لِلْقَبُولِ لِمَا فِي اللَّفْظِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَهَا آكَدَ فِي الِافْتِقَارِ لِلْقَبُولِ- عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الْإِبْرَاءِ عُمُومًا- لِأَنَّهَا نَصٌّ فِي التَّمْلِيكِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، لِنَظَرِهِمْ إِلَى وَحْدَةِ الْمَقْصُودِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِبْرَاءِ.

هَذَا، وَبِالرَّغْمِ مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مِنِ اعْتِبَارِ الْقَبُولِ مَحْدُودًا بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ مَا دَامَ قَائِمًا فَقَدِ اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْقَبُولِ فِي صُورَةِ مَنْ يُوَكِّلُ فِي إِبْرَاءِ نَفْسِهِ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْقَبُولِ عَنِ الْإِيجَابِ، وَلَوْ بِالسُّكُوتِ عَنِ الْقَبُولِ زَمَانًا، فَلَهُ الْقَبُولُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.

25- وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ التَّوَقُّفِ عَلَى الْقَبُولِ: الْعُقُودَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، كَالصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ (أَيْ عَنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ) فَيَتَوَقَّفُ فِيهَا الْإِبْرَاءُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ يَفُوتُ بِهِ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ، وَفَوَاتُهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ، وَنَقْضُ الْعَقْدِ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْآخَرِ، فَإِنْ قَبِلَهُ بَرِئَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ لَا يَبْرَأُ. وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ لِعَقْدٍ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ، وَمَعْنَى الْإِسْقَاطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. أَمَّا الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ أَوْ عَنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ فَهُوَ جَائِزٌ بِدُونِ قَبُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِسْقَاطُ شَرْطٍ.

رَدُّ الْإِبْرَاءِ:

26- يَنْبَنِي اخْتِلَافُ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ. وَالَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَاجَتُهُ لِلْقَبُولِ أَوْ عَدَمُ حَاجَتِهِ. فَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَرْجُوحِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ حَاجَتِهِ لِلْقَبُولِ، ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْخِيَارِ وَالطَّلَاقِ، لَا تَمْلِيكُ عَيْنٍ، كَالْهِبَةِ.

وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ (وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الْآخَرِ وَمَعَهُمْ فِي هَذَا الْحَنَفِيَّةُ الَّذِينَ رَاعَوْا مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِالرَّغْمِ مِنْ عَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ) يَرَوْنَ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ هَلْ يَتَقَيَّدُ الرَّدُّ بِمَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ، أَوْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَالَّذِي فِي الْبَحْرِ وَالْحَمَوِيِّ عَلَى الْأَشْبَاهِ إِطْلَاقُ صِحَّةِ الرَّدِّ فِي مَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.

وَالرَّدُّ الْمُعْتَبَرُ هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْمُبْرِئِ، أَوْ مِنْ وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَخَالَفَ فِي الثَّانِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَسَائِلَ لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ بِالرَّدِّ وَهِيَ:

1، 2- الْإِبْرَاءُ فِي الْحَوَالَةِ (وَالْكَفَالَةِ عَلَى الْأَرْجَحِ) لِأَنَّهُمَا مُتَمَحِّضَانِ لِلْإِسْقَاطِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ، لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ، وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِتَلَاشِي السَّاقِطِ، بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ، لِعَوْدِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ.

3- إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِبْرَاءِ طَلَبٌ مِنَ الْمُبْرَأِ بِأَنْ قَالَ: أَبْرِئْنِي، فَأَبْرَأَهُ فَرَدَّ، لَا يَرْتَدُّ.

4- إِذَا سَبَقَ لِلْمُبْرَأِ أَنْ قَبِلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (استصحاب)

اسْتِصْحَابٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِصْحَابُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلَازَمَةُ، يُقَالُ: اسْتَصْحَبْتُ الْكِتَابَ وَغَيْرَهُ: حَمَلْتُهُ بِصُحْبَتِي.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَقَدْ عُرِّفَ بِعِدَّةِ تَعْرِيفَاتٍ مِنْهَا مَا عَرَّفَهُ بِهِ الْإِسْنَوِيُّ بِقَوْلِهِ: الِاسْتِصْحَابُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ أَمْرٍ فِي الزَّمَنِ الْآتِي، بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِهِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ.وَمِثَالُهُ: أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ بِيَقِينٍ يَبْقَى عَلَى وُضُوئِهِ وَإِنْ شَكَّ فِي نَقْضِ طَهَارَتِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْإِبَاحَةُ:

2- الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ- بِمَعْنَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ- نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِصْحَابِ، وَهِيَ مَا يُسَمَّى بِاسْتِصْحَابِ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ.وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ الَّتِي هِيَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ، فَهِيَ مُغَايِرَةٌ لِلِاسْتِصْحَابِ، إِذِ الِاسْتِصْحَابُ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ- نَوْعٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْإِبَاحَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَحْكَامِ.

أَنْوَاعُ الِاسْتِصْحَابِ:

3- لِلِاسْتِصْحَابِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، هِيَ

أ- اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، كَنَفْيِ وُجُوبِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، وَنَفْيِ وُجُوبِ صَوْمِ شَوَّالٍ.

ب- اسْتِصْحَابُ الْعُمُومِ إِلَى أَنْ يَرِدَ الْمُخَصِّصُ، كَبَقَاءِ الْعُمُومِ فِي قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَاسْتِصْحَابُ النَّصِّ إِلَى أَنْ يَرِدَ نَاسِخٌ، كَوُجُوبِ جَلْدِ كُلِّ قَاذِفٍ زَوْجًا أَوْ غَيْرَهُ، إِلَى أَنْ وَرَدَ النَّاسِخُ الْجُزْئِيُّ، بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجِ دُونَ غَيْرِهِ.

ج- اسْتِصْحَابُ حُكْمٍ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَدَوَامِهِ، كَالْمِلْكِ عِنْدَ جَرَيَانِ الْعَقْدِ الَّذِي يُفِيدُ التَّمْلِيكَ، وَكَشَغْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ جَرَيَانِ إِتْلَافٍ أَوْ إِلْزَامٍ، فَيَبْقَى الْمِلْكُ وَالدَّيْنُ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ زَوَالُهُمَا بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ.

وَهُنَاكَ نَوْعَانِ آخَرَانِ لِلِاسْتِصْحَابِ مُخْتَلَفٌ فِي حُجِّيَّتِهِمَا، وَمَوْضِعُ تَفْصِيلِهِمَا الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.

حُجِّيَّتُهُ:

4- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي حُجِّيَّةِ الِاسْتِصْحَابِ عَلَى أَقْوَالٍ أَشْهُرُهَا

أ- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةُ بِحُجِّيَّتِهِ مُطْلَقًا، أَيْ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.

ب- وَقَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِعَدَمِ حُجِّيَّتِهِ مُطْلَقًا.

ج- وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِحُجِّيَّتِهِ فِي النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَوْضِعُهَا وَتَفْصِيلُهَا فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

مَرْتَبَتُهُ فِي الْحُجِّيَّةِ:

5- الِاسْتِصْحَابُ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِحُجِّيَّتِهِ- هُوَ آخِرُ دَلِيلٍ يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ، لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ مَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّهُ آخِرُ مَدَارِ الْفَتْوَى وَعَلَيْهِ ثَبَتَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ: (الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ) وَالْقَاعِدَةُ: (مَا ثَبَتَ بِالْيَقِينِ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (استنجاء 1)

اسْتِنْجَاء -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِنْجَاءِ: الْخَلَاصُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: اسْتَنْجَى حَاجَتَهُ مِنْهُ، أَيْ خَلَّصَهَا.وَالنَّجْوَةُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمْ يُعْلِهَا السَّيْلُ، فَظَنَنْتَهَا نَجَاءَكَ.

وَأَنْجَيْتُ الشَّجَرَةَ وَاسْتَنْجَيْتُهَا: قَطَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا.

وَمَأْخَذُ الِاسْتِنْجَاءِ فِي الطَّهَارَةِ، قَالَ شِمْرٌ: أَرَاهُ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ، لِقَطْعِهِ الْعَذِرَةَ بِالْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجْوَةِ وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ اسْتَتَرَ بِهَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الِاسْتِنْجَاءِ اصْطِلَاحًا، وَكُلُّهَا تَلْتَقِي عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ إزَالَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، سَوَاءٌ بِالْغَسْلِ أَوِ الْمَسْحِ بِالْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا عَنْ مَوْضِعِ الْخُرُوجِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ.

وَلَيْسَ غَسْلُ النَّجَاسَةِ عَنِ الْبَدَنِ أَوْ عَنِ الثَّوْبِ اسْتِنْجَاءً.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاسْتِطَابَةُ:

2- الِاسْتِطَابَةُ هِيَ بِمَعْنَى الِاسْتِنْجَاءِ، تَشْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ وَالْحِجَارَةِ.وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ أَخَصَّ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ.وَأَصْلُهَا مِنَ الطِّيبِ، لِأَنَّهَا تُطَيِّبُ الْمَحَلَّ بِإِزَالَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَذَى، وَلِذَا يُقَالُ فِيهَا أَيْضًا الْإِطَابَةُ.

ب- الِاسْتِجْمَارُ:

3- الْجِمَارُ: الْحِجَارَةُ، جَمْعُ جَمْرَةٍ وَهِيَ الْحَصَاةُ.

وَمَعْنَى الِاسْتِجْمَارِ: اسْتِعْمَالُ الْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فِي إزَالَةِ مَا عَلَى السَّبِيلَيْنِ مِنَ النَّجَاسَةِ.

ج- الِاسْتِبْرَاءُ:

4- الِاسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْخَارِجِ بِمَا تَعَارَفَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَشْيٍ أَوْ تَنَحْنُحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا إِلَى أَنْ تَنْقَطِعَ الْمَادَّةُ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ، لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لَهُ.

د- الِاسْتِنْقَاءُ:

5- الِاسْتِنْقَاءُ: طَلَبُ النَّقَاوَةِ، وَهُوَ أَنْ يَدْلُكَ الْمَقْعَدَةَ بِالْأَحْجَارِ، أَوْ بِالْأَصَابِعِ حَالَةَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ حَتَّى يُنَقِّيَهَا، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ، وَمِثْلُهُ الْإِنْقَاءُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هُوَ أَنْ تَذْهَبَ لُزُوجَةُ النَّجَاسَةِ وَآثَارُهَا.

حُكْمُ الِاسْتِنْجَاءِ:

6- فِي حُكْمِ الِاسْتِنْجَاءِ- مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ- رَأْيَانِ لِلْفُقَهَاءِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ إِذَا وُجِدَ سَبَبُهُ، وَهُوَ الْخَارِجُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ، فَإِنَّهَا تُجْزِي عَنْهُ» وَقَوْلِهِ: «لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»، قَالُوا: وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.وَقَالَ: «فَإِنَّهَا تُجْزِي عَنْهُ» وَالْإِجْزَاءُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ، وَنَهَى عَنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَإِذَا حَرَّمَ تَرْكَ بَعْضِ النَّجَاسَةِ فَجَمِيعُهَا أَوْلَى.

7- الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَسْنُونٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.فَفِي مُنْيَةِ الْمُصَلِّي: الِاسْتِنْجَاءُ مُطْلَقًا سُنَّةٌ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ مِنْ كَوْنِهِ بِالْحَجَرِ أَوْ بِالْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنْ قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ فِيمَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَلَمْ يَسْتَنْجِ، قَالَ: لَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا.

قَالَ الْمُوَفَّقُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ وُجُوبَ الِاسْتِنْجَاءِ.

وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» قَالَ فِي مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا انْتَفَى الْحَرَجُ عَنْ تَارِكِهِ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ، وَالنَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ عَفْوٌ.

وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ لِلْحَنَفِيَّةِ: الِاسْتِنْجَاءُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ.أَرْبَعَةٌ فَرِيضَةٌ: مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْجَنَابَةِ، وَإِذَا تَجَاوَزَتِ النَّجَاسَةُ مَخْرَجَهَا.وَوَاحِدٌ سُنَّةٌ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَدْرَ الْمَخْرَجِ.

وَقَدْ رَفَضَ ابْنُ نُجَيْمٍ هَذَا التَّقْسِيمَ، وَقَرَّرَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ هِيَ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ، وَالرَّابِعُ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ عَنِ الْبَدَنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِنْجَاءِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْقِسْمُ الْمَسْنُونُ.

وَأَقَرَّ ابْنُ عَابِدِينَ التَّقْرِيرَ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ وَصَلَّى بِالنَّجَاسَةِ أَعَادَ، قَالَ: وَلِمَالِكٍ- رحمه الله- فِي الْعُتْبِيَّةِ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» وَقَالَ: الْوِتْرُ يَتَنَاوَلُ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، فَإِذَا نَفَاهَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَيُعْفَى عَنْهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ قَوْلًا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ.

ثُمَّ هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِمُوَاظَبَتِهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَبَنَى ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ كَرَاهَةَ تَرْكِهِ، وَنَقَلَهُ أَيْضًا عَنِ الْبَدَائِعِ.وَنَقَلَ عَنِ الْخُلَاصَةِ وَالْحِلْيَةِ نَفْيَ الْكَرَاهَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا سُنَّةٌ، بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَدَثِ فَتَرْكُهَا يُكْرَهُ.

وَقْتُ وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ:

8- إِنَّ وُجُوبَ الِاسْتِنْجَاءِ إِنَّمَا هُوَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ.وَلِذَا قَالَ الشَّبْرَامَلُّسِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجِبُ الِاسْتِنْجَاءُ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ فِعْلَهَا فِي أَوَّلِهِ.فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَجَبَ وُجُوبًا مُوَسَّعًا بِسَعَةِ الْوَقْتِ، وَمُضَيَّقًا بِضِيقِهِ.

ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، إِنْ قَضَى حَاجَتَهُ فِي الْوَقْتِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، وَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْحَجَرِ فَوْرًا.

عَلَاقَةُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْوُضُوءِ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا:

9- الِاسْتِنْجَاءُ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ قَبْلَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ لِلْحَنَابِلَةِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ جَازَ وَفَاتَتْهُ السُّنِّيَّةُ، لِأَنَّهُ إِزَالَةُ نَجَاسَةٍ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ لِصِحَّةِ الطَّهَارَةِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْفَرْجِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَإِنِ اسْتَحَبُّوا تَقْدِيمَهُ عَلَيْهِ.

أَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَالِاسْتِنْجَاءُ قَبْلَ الْوُضُوءِ- إِذَا وُجِدَ سَبَبُهُ- شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ.فَلَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ لَمْ يَصِحَّ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا فِي حَقِّ السَّلِيمِ، أَمَّا فِي حَقِّ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ- يَعْنُونَ صَاحِبَ السَّلَسِ وَنَحْوِهِ- فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الِاسْتِنْجَاءِ عَلَى الْوُضُوءِ.

وَعَلَى هَذَا، فَإِذَا تَوَضَّأَ السَّلِيمُ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ، يَسْتَجْمِرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَحْجَارِ، أَوْ يَغْسِلُهُ بِحَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يَمَسُّ الْفَرْجَ.وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَى ذَلِكَ التَّفْصِيلَ.

عَلَاقَةُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالتَّيَمُّمِ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا:

10- لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ الِاسْتِجْمَارِ عَلَى التَّيَمُّمِ، وَهَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ احْتِمَالَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَعَلَّلَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِلَ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا تَيَمَّمَ ثُمَّ اسْتَنْجَى فَقَدْ فَرَّقَهُ بِإِزَالَةِ النَّجْوِ.

وَعَلَّلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى ذَلِكَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَإِنَّمَا تُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَمَنْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا لَا تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ، فَلَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الْوَقْتِ.

وَالِاتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّرْتِيبَ هُنَا لَا يَجِبُ، وَهُوَ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ.قَالَ الْقَرَافِيُّ: كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ وَطِئَ نَعْلَهُ عَلَى رَوْثٍ، فَإِنَّهُ يَمْسَحُهُ وَيُصَلِّي.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ فَأَشْبَهَتِ الْوُضُوءَ، وَالْمَنْعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ لِمَانِعٍ آخَرَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ التَّيَمُّمِ، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ فِي مَوْضِعٍ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ تَيَمَّمَ وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ.

وَقِيلَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ عَنِ التَّيَمُّمِ قَوْلًا وَاحِدًا.

حُكْمُ اسْتِنْجَاءِ مَنْ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ:

11- مَنْ كَانَ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ وَنَحْوِهِ، يُخَفَّفُ فِي شَأْنِهِ حُكْمُ الِاسْتِنْجَاءِ، كَمَا يُخَفَّفُ حُكْمُ الْوُضُوءِ.

فَفِي قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَسْتَنْجِي وَيَتَحَفَّظُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ.فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الِاسْتِنْجَاءِ وَالْوُضُوءِ بِسَبَبِ السَّلَسِ وَنَحْوِهِ، مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ.أَوْ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ: فَلَا يَلْزَمُ مَنْ بِهِ السَّلَسُ التَّوَضُّؤُ مِنْهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، بَلْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَشُقَّ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَدَثِ إِذَا كَانَ مُسْتَنْكِحًا- أَيْ كَثِيرًا يُلَازِمُ كُلَّ الزَّمَنِ أَوْ جُلَّهُ، بِأَنْ يَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً فَأَكْثَرَ- فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا أَصَابَ مِنْهُ وَلَا يُسَنُّ، وَإِنْ نَقَضَ الْوُضُوءَ وَأَبْطَلَ الصَّلَاةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ غَائِطًا، أَمْ بَوْلًا، أَمْ مَذْيًا، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ.

مَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ:

12- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ الْمُعْتَادَ النَّجِسَ الْمُلَوِّثَ يُسْتَنْجَى مِنْهُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ.أَمَّا مَا عَدَاهُ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَتَفْصِيلٌ بَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:

الْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ:

13- الْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ كَالْحَصَى وَالدُّودِ وَالشَّعْرِ، لَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ إِذَا خَرَجَ جَافًّا، طَاهِرًا كَانَ أَوْ نَجِسًا.

أَمَّا إِذَا كَانَ بِهِ بِلَّةٌ وَلَوَّثَ الْمَحَلَّ فَيُسْتَنْجَى مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يُلَوِّثِ الْمَحَلَّ فَلَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُسْتَنْجَى مِنْ كُلِّ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ غَيْرِ الرِّيحِ.

الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَشَبَهُهُمَا مِنْ غَيْرِ الْمُعْتَادِ:

14- إنْ خَرَجَ الدَّمُ أَوِ الْقَيْحُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ الِاسْتِجْمَارُ.وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّجَاسَةِ الْغَسْلُ، وَتَرْكُ ذَلِكَ فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا، لِنُدْرَةِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْخَارِجِ.

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنَ الْمَذْيِ» وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْآثَارَ كُلَّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا وَأَسَانِيدِهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الِاسْتِجْمَارِ، إِنَّمَا هُوَ الْغَسْلُ.كَالْأَمْرِ بِالْغَسْلِ مِنَ الْمَذْيِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِ الِاسْتِجْمَارُ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهَذَا إنْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ.

وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ فِيهِ الْغَسْلُ لِعَدَمِ تَكَرُّرِهِ، فَهُوَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ.وَأَمَّا الْمَذْيُ فَمُعْتَادٌ كَثِيرٌ، وَيَجِبُ غَسْلُ الذَّكَرِ مِنْهُ تَعَبُّدًا، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ.

مَا خَرَجَ مِنْ مَخْرَجٍ بَدِيلٍ عَنِ السَّبِيلَيْنِ:

15- إِذَا انْفَتَحَ مَخْرَجٌ لِلْحَدَثِ، وَصَارَ مُعْتَادًا، اسْتَجْمَرَ مِنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا يَلْحَقُ بِالْجَسَدِ، لِأَنَّهُ أَصْبَحَ مُعْتَادًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا انْسَدَّ الْمَخْرَجُ الْمُعْتَادُ وَانْفَتَحَ آخَرُ، لَمْ يُجْزِئْهُ الِاسْتِجْمَارُ فِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ.وَفِي قَوْلٍ لَهُمْ: يُجْزِئُ.

وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

الْمَذْيُ:

16- الْمَذْيُ نَجِسٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَهُوَ مِمَّا يُسْتَنْجَى مِنْهُ كَغَيْرِهِ، بِالْمَاءِ أَوْ بِالْأَحْجَارِ.وَيُجْزِئُ الِاسْتِجْمَارُ أَوْ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ مِنْهُ.وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ هُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمَاءُ وَلَا يُجْزِئُ الْحَجَرُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنْت رَجُلًا مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَتْ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ».وَفِي لَفْظٍ «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ».

وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْغُسْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا خَرَجَ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ، أَمَّا إِنْ خَرَجَ بِلَا لَذَّةٍ أَصْلًا فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْحَجَرُ، مَا لَمْ يَكُنْ يَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ عَلَى وَجْهِ السَّلَسِ، فَلَا يُطْلَبُ فِي إِزَالَتِهِ مَاءٌ وَلَا حَجَرٌ، بَلْ يُعْفَى عَنْهُ.

الْوَدْيُ:

17- الْوَدْيُ خَارِجٌ نَجِسٌ، وَيَجْزِي فِيهِ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْأَحْجَارِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.

الرِّيحُ:

18- لَا اسْتِنْجَاءَ مِنَ الرِّيحِ.صَرَّحَ بِذَلِكَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ بِدْعَةٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُحَرَّمٌ، وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، بَلْ يَحْرُمُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فَاسِدَةٌ.

وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ مِنَّا مَنِ اسْتَنْجَى مِنْ رِيحٍ» وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ.وَقَالَ صَاحِبُ نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ الِاسْتِنْجَاءُ مِنَ الرِّيحِ وَلَوْ كَانَ الْمَحَلُّ رَطْبًا.وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ: يُكْرَهُ مِنَ الرِّيحِ إِلاَّ إِنْ خَرَجَتْ وَالْمَحَلُّ رَطْبٌ.

وَاَلَّذِي عَبَّرَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ مِنْهَا، وَمُقْتَضَى اسْتِدْلَالِهِمُ الْآتِي الْكَرَاهَةُ عَلَى الْأَقَلِّ.

قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: لِلْحَدِيثِ «مَنِ اسْتَنْجَى مِنْ رِيحٍ فَلَيْسَ مِنَّا» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الصَّغِيرِ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}.الْآيَةَ إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ.وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ، يَعْنِي فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لأَمَرَ بِهِ، لِأَنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ خُرُوجِ الرِّيحِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِالِاسْتِنْجَاءِ هَاهُنَا نَصٌّ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ شُرِعَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَلَا نَجَاسَةَ هَاهُنَا.

الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ:

19- يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ.وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إنْكَارُ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ.

وَالْحُجَّةُ لِإِجْزَاءِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُ الْخَلَاءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.وَعَنْ «عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُهُ».

وَقَدْ حَمَلَ الْمَالِكِيَّةُ مَا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ مِنْ إِنْكَارِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِأَنَّهُ فِي حَقِّ مَنْ أَوْجَبَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ.

وَحَمَلَ صَاحِبُ كِفَايَةِ الطَّالِبِ مَا وَرَدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلاَّ النِّسَاءُ؟ عَلَى أَنَّهُ مِنْ وَاجِبِهِنَّ.

الِاسْتِنْجَاءُ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ:

20- لَا يُجْزِئُ الِاسْتِنْجَاءُ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ تُعَدُّ ضَعِيفَةً فِي الْمَذْهَبِ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: بَلْ يَحْرُمُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ لِنَشْرِهِ النَّجَاسَةَ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ الِاسْتِنْجَاءُ- كَمَا فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ- بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ، كَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ، دُونَ مَا لَا يُزِيلُ كَالزَّيْتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَهُوَ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ.

ثُمَّ قَدْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يُكْرَهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ بِلَا ضَرُورَةٍ.

أَفْضَلِيَّةُ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ عَلَى الِاسْتِجْمَارِ:

21- إِنَّ غَسْلَ الْمَحَلِّ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِجْمَارِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِنْقَاءِ، وَلِإِزَالَتِهِ عَيْنَ النَّجَاسَةِ وَأَثَرَهَا.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: الْأَحْجَارُ أَفْضَلُ، ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْفُرُوعِ.وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنِ اسْتَجْمَرَ ثُمَّ غَسَلَ كَانَ أَفْضَل مِنَ الْكُلِّ بِالِاتِّفَاقِ.

وَبَيَّنَ النَّوَوِيُّ وَجْهَ الْأَفْضَلِيَّةِ بِقَوْلِهِ: تَقْدِيمُ الْأَحْجَارِ لِتَقِلَّ مُبَاشَرَةُ النَّجَاسَةِ وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، فَلَوِ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ أَوَّلًا لَمْ يَسْتَعْمِلِ الْحِجَارَةَ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ التَّرْتِيبُ بِتَقْدِيمِ الِاسْتِجْمَارِ عَلَى الْغَسْلِ مُسْتَحَبٌّ، وَإِنْ قَدَّمَ الْمَاءَ وَأَتْبَعَهُ الْحِجَارَةَ كُرِهَ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ: «مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يُتْبِعُوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُهُ».وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قِيلَ: الْغَسْلُ بِالْمَاءِ سُنَّةٌ، وَقِيلَ: الْجَمْعُ سُنَّةٌ فِي زَمَانِنَا.وَقِيلَ: سُنَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.

هَذَا وَقَدِ احْتَجَّ الْخَرَشِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْحَجَرِ بِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا، فَمَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَحَقَّقَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُمْ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ.

مَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ:

22- الِاسْتِجْمَارُ يَكُونُ بِكُلِّ جَامِدٍ إلاَّ مَا مُنِعَ مِنْهُ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ عَنْهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ: لَا يُجْزِئُ فِي الِاسْتِجْمَارِ شَيْءٌ مِنَ الْجَوَامِدِ مِنْ خَشَبٍ وَخِرَقٍ إِلاَّ الْأَحْجَارَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِالْأَحْجَارِ، وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ رُخْصَةٍ وَرَدَ فِيهَا الشَّرْعُ بِآلَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا، كَالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ.

وَالدَّلِيلُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ: مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ خُزَيْمَةَ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ الِاسْتِطَابَةِ فَقَالَ: بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ» فَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَ الْحَجَرَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَمْ يَسْتَثْنِ الرَّجِيعَ، لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ لِذِكْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الرَّجِيعِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى.

وَعَنْ «سَلْمَانَ قَالَ: قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَ قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ.أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ».

وَفَارَقَ التَّيَمُّمَ، لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ، وَهِيَ تَحْصُلُ بِغَيْرِ الْأَحْجَارِ، أَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى.

الِاسْتِجْمَارُ هَلْ هُوَ مُطَهِّرٌ لِلْمَحَلِّ؟

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحَلَّ يَصِيرُ طَاهِرًا بِالِاسْتِجْمَارِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ طَهَارَتُهُ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ، وَقَالَ: إِنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ» فَعُلِمَ أَنَّ مَا أُطْلِقَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يُطَهِّرُ، إِذْ لَوْ لَمْ يُطَهِّرْ لَمْ يُطْلَقْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ.وَكَذَلِكَ قَالَ الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ: يَكُونُ الْمَحَلُّ طَاهِرًا لِرَفْعِ الْحُكْمِ وَالْعَيْنِ عَنْهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِكُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْمَحَلَّ يَكُونُ نَجِسًا مَعْفُوًّا عَنْهُ لِلْمَشَقَّةِ.قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: ظَاهِرُ مَا فِي الزَّيْلَعِيِّ أَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَطْهُرُ بِالْحَجَرِ.وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ لِلْحَنَابِلَةِ: أَثَرُ الِاسْتِجْمَارِ نَجِسٌ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فِي مَحَلِّهِ لِلْمَشَقَّةِ.

وَفِي الْمُغْنِي: وَعَلَيْهِ لَوْ عَرَقَ كَانَ عَرَقُهُ نَجِسًا.

24- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّطُوبَةَ إِذَا أَصَابَتِ الْمَحَلَّ بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ يُعْفَى عَنْهَا.

قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَحَلَّ بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ نَجِسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ السَّبِيلُ بِإِصَابَةِ الْمَاءِ.وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَرْضِ إِذَا جَفَّتْ بَعْدَ التَّنَجُّسِ ثُمَّ أَصَابَهَا الْمَاءُ، وَقَدِ اخْتَارُوا فِي الْجَمِيعِ عَدَمَ عَوْدِ النَّجَاسَةِ، فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ هُنَا.ثُمَّ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْهُمَامِ قَوْلُهُ: أَجْمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ- أَيْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ الْمَحَلُّ بِالْعَرَقِ، حَتَّى لَوْ سَالَ الْعَرَقُ مِنْهُ، وَأَصَابَ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ (أَيْ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ).

وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عَنْ صَاحِبِ الطِّرَازِ وَابْنِ رُشْدٍ: يُعْفَى عَنْهُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى.قَالَ: وَقَدْ عُفِيَ عَنْ ذَيْلِ الْمَرْأَةِ تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ، مَعَ إمْكَانِ شَيْلِهِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- كَانُوا يَسْتَجْمِرُونَ وَيَعْرَقُونَ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَنْجَسُ إِنْ لَمْ تَتَعَدَّ الرُّطُوبَةُ مَحَلَّ الِاسْتِجْمَارِ، وَيَنْجَسُ إِنْ تَعَدَّتْ النَّجَاسَةُ مَحَلَّ الْعَفُوِّ.

الْمَوَاضِعُ الَّتِي لَا يُجْزِئُ فِيهَا الِاسْتِجْمَارُ:

أ- النَّجَاسَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْمَخْرَجِ مِنْ خَارِجِهِ:

25- إِنْ كَانَ النَّجَسُ طَارِئًا عَلَى الْمَحَلِّ مِنْ خَارِجٍ أَجْزَأَ فِيهِ الِاسْتِجْمَارُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْحَجَرَ لَا يُجْزِئُ فِيهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ.وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ.وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مَا لَوْ طَرَأَ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُتَنَجِّسِ بِالْخَارِجِ طَاهِرٌ رَطْبٌ، أَوْ يَخْتَلِطُ بِالْخَارِجِ كَالتُّرَابِ.وَمِثْلُهُ مَا لَوِ اسْتَجْمَرَ بِحَجَرٍ مُبْتَلٍّ، لِأَنَّ بَلَلَ الْحَجَرِ يَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ الْمَحَلِّ ثُمَّ يُنَجِّسُهُ.

وَكَذَا لَوِ انْتَقَلَتِ النَّجَاسَةُ عَنِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ، فَلَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ غَسْلِ الْمَحَلِّ فِي كُلِّ تِلْكَ الصُّوَرِ.

ب- مَا انْتَشَرَ مِنَ النَّجَاسَةِ وَجَاوَزَ الْمَخْرَجَ:

26- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ إِنْ جَاوَزَ الْمَخْرَجَ وَانْتَشَرَ كَثِيرًا لَا يُجْزِئُ فِيهِ الِاسْتِجْمَارُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ.وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِجْمَارَ رُخْصَةٌ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، فَتَخْتَصُّ بِمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَبْقَى الزَّائِدُ عَلَى الْأَصْلِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْغَسْلِ.

لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْغَائِطِ هُوَ مَا جَاوَزَ الْمَخْرَجَ، وَانْتَهَى إِلَى الْأَلْيَةِ، وَالْكَثِيرُ مِنَ الْبَوْلِ مَا عَمَّ الْحَشَفَةَ.

وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَالِ الْكَثْرَةِ بِأَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الْكُلِّ لَا الزَّائِدِ وَحْدَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْكَثِيرَ هُوَ مَا زَادَ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، مَعَ اقْتِصَارِ الْوُجُوبِ عَلَى الزَّائِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، حَيْثُ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةَ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْكُلِّ.

ج- اسْتِجْمَارُ الْمَرْأَةِ:

27- يُجْزِئُ الْمَرْأَةَ الِاسْتِجْمَارُ مِنَ الْغَائِطِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا وَاضِحٌ.

أَمَّا مِنَ الْبَوْلِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يُجْزِئُ الِاسْتِجْمَارُ فِي بَوْلِ الْمَرْأَةِ، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا.قَالُوا: لِأَنَّهُ يُجَاوِزُ الْمَخْرَجَ غَالِبًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي فِي بَوْلِ الْمَرْأَةِ- إِنْ كَانَتْ بِكْرًا- مَا يُزِيلُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ خِرَقًا أَوْ غَيْرَهَا، أَمَّا الثَّيِّبُ فَإِنْ تَحَقَّقَتْ نُزُولَ الْبَوْلِ إِلَى ظَاهِرِ الْمَهْبِلِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، لَمْ يَكْفِ الِاسْتِجْمَارُ، وَإِلاَّ كَفَى.

وَيُسْتَحَبُّ الْغَسْلُ حِينَئِذٍ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَفِي الثَّيِّبِ قَوْلَانِ

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَكْفِيهَا الِاسْتِجْمَارُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ.وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ غَسْلُ الدَّاخِلِ مِنْ نَجَاسَةٍ وَجَنَابَةٍ وَحَيْضٍ، بَلْ تَغْسِلُ مَا ظَهَرَ، وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ الصَّائِمَةِ غَسْلُهُ.

وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُجَاوِزِ الْخَارِجَ الْمَخْرَجَ كَانَ الِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةً.وَإِنْ جَاوَزَ الْمَخْرَجَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِجْمَارُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْمَائِعِ أَوِ الْمَاءِ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ.وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِكَيْفِيَّةِ اسْتِجْمَارِ الْمَرْأَةِ.

مَا لَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ:

28- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِيمَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ:

(1) أَنْ يَكُونَ يَابِسًا، وَعَبَّرَ غَيْرُهُمْ بَدَلَ الْيَابِسِ بِالْجَامِدِ.

(2) طَاهِرًا.

(3) مُنَقِّيًا.

(4) غَيْرَ مُؤْذٍ.

(5) وَلَا مُحْتَرَمٍ.

وَعَلَى هَذَا فَمَا لَا يُسْتَنْجَى بِهِ عِنْدَهُمْ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ:

(1) مَا لَيْسَ يَابِسًا.

(2) الْأَنْجَاسُ.

(3) غَيْرُ الْمُنَقِّي، كَالْأَمْلَسِ مِنَ الْقَصَبِ وَنَحْوِهِ.

(4) الْمُؤْذِي، وَمِنْهُ الْمُحَدَّدُ كَالسِّكِّينِ وَنَحْوِهِ.

(5) الْمُحْتَرَمُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:

أ- الْمُحْتَرَمُ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا.

ب- الْمُحْتَرَمُ لِحَقِّ الْغَيْرِ.

ج- الْمُحْتَرَمُ لِشَرَفِهِ.

وَهَذِهِ الْأُمُورُ تُذْكَرُ فِي غَيْرِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ فِي الشُّرُوطِ عَدَمَ الْإِيذَاءِ، وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ الْمَنْعُ مِنْهُ بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِلشَّرِيعَةِ.

وَهُمْ وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ الِاشْتِرَاطَاتِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي التَّفَاصِيلِ، وَقَدْ يَتَّفِقُونَ.وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى كُتُبِ الْفِقْهِ.

هَلْ يُجْزِئُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَا حَرُمَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ:

29- إِذَا ارْتَكَبَ النَّهْيَ وَاسْتَنْجَى بِالْمُحَرَّمِ وَأَنْقَى، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا فِي الْفُرُوعِ: يَصِحُّ الِاسْتِنْجَاءُ مَعَ التَّحْرِيمِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِأَنَّهُ يُجَفِّفُ مَا عَلَى الْبَدَنِ مِنَ الرُّطُوبَةِ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ وَلَا فِي غَيْرِهِ.

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا يُجْزِئُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَا حَرُمَ لِكَرَامَتِهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ كُتُبِ عِلْمٍ، وَكَذَلِكَ النَّجِسُ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَا يُجْزِئُ الِاسْتِجْمَارُ بِمَا حَرُمَ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ رُخْصَةٌ فَلَا تُبَاحُ بِمُحَرَّمٍ.

وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِجْمَارِ بِالْيَمِينِ- فَإِنَّهُ يُجْزِئُ الِاسْتِجْمَارُ بِهَا مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ- بِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْعَظْمِ وَنَحْوِهِ لِمَعْنًى فِي شَرْطِ الْفِعْلِ، فَمَنْعُ صِحَّتِهِ، كَالْوُضُوءِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ.أَمَّا بِالْيَمِينِ فَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي آلَةِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يُمْنَعْ، كَالْوُضُوءِ مِنْ إنَاءٍ مُحَرَّمٍ.وَسَوَّوْا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِهِ كَالْعَظْمِ، وَبَيْنَ مَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ مُحَرَّمًا كَالْمَغْصُوبِ.

قَالُوا: وَلَوْ اسْتَجْمَرَ بَعْدَ الْمُحَرَّمِ بِمُبَاحٍ لَمْ يُجْزِئْهُ وَوَجَبَ الْمَاءُ، وَكَذَا لَوِ اسْتَنْجَى بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ.وَإِنِ اسْتَجْمَرَ بِغَيْرِ مُنَقٍّ كَالْقَصَبِ أَجْزَأَ الِاسْتِجْمَارُ بَعْدَهُ بِمُنَقٍّ.وَفِي الْمُغْنِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُجْزِئَهُ الِاسْتِجْمَارُ بِالطَّاهِرِ بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ بِالنَّجِسِ، لِأَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ تَابِعَةٌ لِنَجَاسَةِ الْمَحَلِّ فَزَالَتْ بِزَوَالِهَا.

كَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْجَاءِ وَآدَابُهُ:

أَوَّلًا: الِاسْتِنْجَاءُ بِالشِّمَالِ:

30- وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ».

فَقَدْ نَهَى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ، وَحَمَلَ الْفُقَهَاءُ هَذَا النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا اسْتَظْهَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ.

وَكُلُّ هَذَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ أَوِ الْحَاجَةِ، لِلْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.

فَلَوْ يُسْرَاهُ مَقْطُوعَةً أَوْ شَلاَّءَ، أَوْ بِهَا جِرَاحَةٌ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.هَذَا، وَيَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِالْيَمِينِ فِي صَبِّ الْمَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا اسْتِنْجَاءً بِالْيَمِينِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدُ إِعَانَةِ الْيَسَارِ، وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالِاسْتِعْمَالِ.

ثَانِيًا: الِاسْتِتَارُ عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ:

31- الِاسْتِنْجَاءُ يَقْتَضِي كَشْفَ الْعَوْرَةِ، وَكَشْفُهَا أَمَامَ النَّاسِ مُحَرَّمٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَرْتَكِبُ لِإِقَامَةِ سُنَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَيَحْتَالُ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ لِلْعَوْرَةِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مِنَ الْآدَابِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ وَالتَّجْفِيفِ، لِأَنَّ الْكَشْفَ كَانَ لِضَرُورَةٍ وَقَدْ زَالَتْ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي التَّكَشُّفِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ رِوَايَتَانِ: الْكَرَاهَةُ، وَالْحُرْمَةُ.

وَعَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ مُسْتَحَبًّا عَلَى الْأَقَلِّ.

ثَالِثًا: الِانْتِقَالُ عَنْ مَوْضِعِ التَّخَلِّي:

32- إِذَا قَضَى حَاجَتَهُ فَلَا يَسْتَنْجِي حَيْثُ قَضَى حَاجَتَهُ.كَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ اسْتِنْجَاؤُهُ بِالْمَاءِ- بَلْ يَنْتَقِلُ عَنْهُ، لِئَلاَّ يَعُودَ الرَّشَاشُ إلَيْهِ فَيُنَجِّسَهُ.وَاسْتَثْنَوُا الْأَخْلِيَةَ الْمُعَدَّةَ لِذَلِكَ، فَلَا يُنْتَقَلُ فِيهَا.وَإِذَا كَانَ اسْتِنْجَاؤُهُ بِالْحَجَرِ فَقَطْ فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانِهِ، لِئَلاَّ يَنْتَقِلَ الْغَائِطُ مِنْ مَكَانِهِ فَيَمْتَنِعَ عَلَيْهِ الِاسْتِجْمَارُ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي قَضَى فِيهِ حَاجَتَهُ لِلِاسْتِجْمَارِ بِالْحِجَارَةِ أَيْضًا، كَمَا يَتَحَوَّلُ لِلِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ، وَهَذَا إِنْ خَشِيَ التَّلَوُّثَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-موسوعة الفقه الكويتية (اشتباه 1)

اشْتِبَاه -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاشْتِبَاهُ مَصْدَرُ: اشْتَبَهَ، يُقَالُ اشْتَبَهَ الشَّيْئَانِ وَتَشَابَهَا: أَشْبَهَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ.وَالْمُشْتَبِهَاتُ مِنَ الْأُمُورِ: الْمُشْكِلَاتُ.وَالشُّبْهَةُ اسْمٌ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَهُوَ الِالْتِبَاسُ.

وَالِاشْتِبَاهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفِقْهِيِّ أَخَصُّ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ، فَقَدْ عَرَّفَ الْجُرْجَانِيُّ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا: مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ كَوْنُهُ حَرَامًا أَوْ حَلَالاً.وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: الشُّبْهَةُ مَا جُهِلَ تَحْلِيلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ.وَيَقُولُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَا بُدَّ مِنَ الظَّنِّ لِتَحَقُّقِ الِاشْتِبَاهِ.الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِالْتِبَاسُ:

2- الِالْتِبَاسُ هُوَ: الْإِشْكَالُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاشْتِبَاهِ عَلَى مَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ: أَنَّ الِاشْتِبَاهَ مَعَهُ دَلِيلٌ (يُرَجِّحُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ) وَالِالْتِبَاسُ لَا دَلِيلَ مَعَهُ ب- الشُّبْهَةُ:

3- يُقَالُ: اشْتَبَهَتِ الْأُمُورُ وَتَشَابَهَتِ: الْتَبَسَتْ فَلَمْ تَتَمَيَّزْ وَلَمْ تَظْهَرْ، وَمِنْهُ اشْتَبَهَتِ الْقِبْلَةُ وَنَحْوُهَا، وَالْجَمْعُ فِيهَا شُبَهٌ وَشُبُهَاتٌ.وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ حَرَامًا أَوْ حَلَالاً نَتِيجَةَ الِاشْتِبَاهِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَقْسِيمِهَا وَتَسْمِيَتِهَا اصْطِلَاحَاتٌ، فَجَعَلَهَا الْحَنَفِيَّةُ نَوْعَيْنِ:

الْأَوَّلُ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ، وَتُسَمَّى شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ أَوْ شُبْهَةُ مُشَابَهَةٍ، أَيْ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَقَطْ، بِأَنْ يَظُنَّ غَيْرَ الدَّلِيلِ دَلِيلاً، كَمَا إِذَا ظَنَّ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ تَحِلُّ لَهُ، فَمَعَ الظَّنِّ لَا يُحَدُّ، حَتَّى لَوْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيَّ حُدَّ.

النَّوْعُ الثَّانِي: شُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ، وَتُسَمَّى شُبْهَةٌ حُكْمِيَّةٌ أَوْ شُبْهَةُ مِلْكٍ، أَيْ شُبْهَةٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ بِحِلِّ الْمَحَلِّ.وَهِيَ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَلَوْ قَالَ عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ.وَتَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ، لَكِنْ لَا يَكُونُ الدَّلِيلُ عَامِلاً لِقِيَامِ الْمَانِعِ كَوَطْءِ أَمَةِ الِابْنِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»،، وَلَا يَتَوَقَّفُ هَذَا النَّوْعُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ، إِذِ الشُّبْهَةُ بِثُبُوتِ الدَّلِيلِ قَائِمَةٌ.وَجَعَلَهَا الشَّافِعِيَّةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

(1) شُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ، كَوَطْءِ الزَّوْجَةِ الْحَائِضِ أَوِ الصَّائِمَةِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِأَمْرٍ عَارِضٍ كَالْإِيذَاءِ وَإِفْسَادِ الْعِبَادَةِ.

(2) وَشُبْهَةٌ فِي الْفَاعِلِ، كَمَنْ يَجِدُ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا، ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ.

(3) وَشُبْهَةٌ فِي الْجِهَةِ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ أَوْ بِلَا شُهُودٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ شُبْهَة.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ الشُّبْهَةَ أَعَمُّ مِنْ الِاشْتِبَاهِ، لِأَنَّهَا قَدْ تُنْتَجُ نَتِيجَةَ الِاشْتِبَاهِ، وَقَدْ تُنْتَجُ دُونَ اشْتِبَاهٍ.

ج- التَّعَارُضُ:

4- التَّعَارُضُ لُغَةً: الْمَنْعُ بِالِاعْتِرَاضِ عَنْ بُلُوغِ الْمُرَادِ.وَاصْطِلَاحًا: تَقَابُلُ الْحُجَّتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ تُوجِبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ضِدَّ مَا تُوجِبُهُ الْأُخْرَى.وَسَيَأْتِي أَنَّ التَّعَارُضَ أَحَدُ أَسْبَابِ الِاشْتِبَاهِ.

د- الشَّكُّ:

5- الشَّكُّ لُغَةً: خِلَافُ الْيَقِينِ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، سَوَاءٌ اسْتَوَى طَرَفَاهُ، أَوْ رُجِّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ.

وَهُوَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ فَالشَّكُّ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الِاشْتِبَاهِ.

هـ- الظَّنُّ:

6- الظَّنُّ خِلَافُ الْيَقِينِ.وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَمَا فِي، قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ وَهُوَ طَرِيقٌ لِحُدُوثِ الِاشْتِبَاهِ.-

و- الْوَهْمُ:

7- الْوَهْمُ: مَا سَبَقَ الْقَلْبُ إِلَيْهِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ، أَوْ كَمَا قَالَ عَنْهُ ابْنُ نُجَيْمٍ: رُجْحَانُ جِهَةِ الْخَطَأِ فَهُوَ دُونَ كُلٍّ مِنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ، وَهُوَ لَا يَرْتَقِي إِلَى تَكْوِينِ اشْتِبَاهٍ.

أَسْبَابُ الِاشْتِبَاهِ:

8- قَدْ يَنْشَأُ الِاشْتِبَاهُ نَتِيجَةَ خَفَاءِ الدَّلِيلِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، كَالْإِجْمَالِ فِي الْأَلْفَاظِ وَاحْتِمَالِهَا التَّأْوِيلَ، وَدَوَرَانِ الدَّلِيلِ بَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ، وَدَوَرَانِهِ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدِيثِ، وَكَالِاشْتِرَاكِ فِي اللَّفْظِ، أَوِ التَّخْصِيصِ فِي عَامِّهِ، أَوِ التَّقْيِيدِ فِي مُطْلَقِهِ، كَمَا يَنْشَأُ الِاشْتِبَاهُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ دُونَ مُرَجِّحٍ.كَمَا أَنَّ النُّصُوصَ فِي دَلَالَتِهَا لَيْسَتْ عَلَى وَضْعٍ وَاحِدٍ، فَمِنْهَا مَا دَلَالَتُهُ عَلَى الْأَحْكَامِ ظَنِّيَّةٌ، فَيَجْتَهِدُ الْفُقَهَاءُ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ، وَقَدْ يَتَشَابَهُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ نَتِيجَةَ ذَلِكَ، إِذْ مِنَ الْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي تَفْكِيرِهِمْ، وَتَبَايُنُ وُجُهَاتِ نَظَرِهِمْ.

وَالِاشْتِبَاهُ النَّاشِئُ عَنْ خَفَاءٍ فِي الدَّلِيلِ يُعْذَرُ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ، بَعْدَ بَذْلِهِ الْجَهْدَ وَاسْتِفْرَاغِهِ الْوُسْعَ، وَيَكُونُ فِيمَا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنْ رَأْيٍ قَدِ اتَّبَعَ الدَّلِيلَ الْمُرْشِدَ إِلَى تَعَرُّفِ قَصْدِ الشَّارِعِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- اخْتِلَافُ الْمُخْبِرِينَ:

9- وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ، وَأَخْبَرَهُ آخَرُ بِطَهَارَتِهِ.فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا تَسَاقُطُهُمَا، وَحِينَئِذٍ يُعْمَلُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، إِذْ الشَّيْءُ مَتَى شُكَّ فِي حُكْمِهِ رُدَّ إِلَى أَصْلِهِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا لَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ بِأَنَّ هَذَا اللَّحْمَ ذَبَحَهُ مَجُوسِيٌّ، وَأَخْبَرَ عَدْلٌ آخَرُ أَنَّهُ ذَكَّاهُ مُسْلِمٌ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِبَقَاءِ اللَّحْمِ عَلَى الْحُرْمَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ.إِذْ حِلُّ الْأَكْلِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَحَقُّقِ الذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ.وَبِتَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْحِلُّ، فَبَقِيَتِ الذَّبِيحَةُ عَلَى الْحُرْمَةِ.

ب- الْإِخْبَارُ الْمُقْتَضِي لِلِاشْتِبَاهِ:

10- وَهُوَ الْإِخْبَارُ الَّذِي اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرَائِنُ تُوقِعُ فِي الِاشْتِبَاهِ.مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَعْقِدَ عَلَى امْرَأَةٍ، ثُمَّ تُزَفُّ إِلَيْهِ أُخْرَى بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَيَدْخُلُ بِهَا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهَا لَيْسَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا.فَإِنْ وَطِئَهَا فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلاً شَرْعِيًّا فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ.وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ فُرُوعًا كَثِيرَةً مِثْلَ هَذَا الْفَرْعِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ.

ج- تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ ظَاهِرًا:

11- لَا يُوجَدُ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ تَعَارُضٌ، لِأَنَّهَا جَمِيعَهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى.أَمَّا مَا يَظْهَرُ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ فَلِعَدَمِ الْعِلْمِ بِظُرُوفِهِمَا وَشُرُوطِ تَطْبِيقِهِمَا، أَوْ بِمَا يُرَادُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، أَوْ لِجَهْلِنَا بِزَمَنِ وُرُودِهِمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْتَفِعُ بِهِ التَّعَارُضُ.

فَمِنْ الِاشْتِبَاهِ بِسَبَبِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي الظَّاهِرِ مَا إِذَا سَرَقَ الْوَالِدُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، إِذْ أَنَّ نُصُوصَ الْعِقَابِ عَلَى السَّرِقَةِ تَشْمَلُ فِي عُمُومِهَا هَذِهِ الْوَاقِعَةَ.فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يُفِيدُ حِلَّ مَالِ الِابْنِ لِأَبِيهِ.فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَقَوْلُهُ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» وَوُجُودُ مِثْلِ هَذَا يُنْتِجُ اشْتِبَاهًا فِي الْحُكْمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِسْقَاطُ الْحَدِّ، لِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الشُّبُهَاتِ أَخْذُ الرَّجُلِ مِنْ مَالٍ جَعَلَهُ الشَّرْعُ لَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَخْذِهِ وَأَكْلِهِ.وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَة).

وَمِنْ الِاشْتِبَاهِ النَّاشِئِ عَنْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي الظَّاهِرِ مَا وَرَدَ بِالنِّسْبَةِ لِطَهَارَةِ سُؤْرِ الْحِمَارِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «الْحِمَارُ يُعْتَلَفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ» وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا»،، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ رِجْسٌ وَالتَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ.فَلِذَلِكَ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ التَّوَقُّفُ عَنْ إِعْطَاءِ حُكْمٍ قَاطِعٍ، لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْأَصَحُّ أَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ (أَيْ كَوْنُهُ مُطَهِّرًا، لَا فِي طَهَارَتِهِ فِي ذَاتِهِ) وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.وَسَبَبُهُ تَعَارُضُ الْأَخْبَارِ فِي لَحْمِهِ، وَقِيلَ: اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي سُؤْرِهِ، وَقَدِ اسْتَوَى مَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ وَالنَّجَاسَةَ فَتَسَاقَطَا لِلتَّعَارُضِ، فَيُصَارُ إِلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ هُنَا شَيْئَانِ: الطَّهَارَةُ فِي الْمَاءِ، وَالنَّجَاسَةُ فِي اللُّعَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ مُشْكِلاً، نَجِسًا مِنْ وَجْهٍ، طَاهِرًا مِنْ وَجْهٍ.

د- اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ:

12- مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، فَالْحَنَفِيَّةُ يُجِيزُونَهُ.وَسُقُوطُ الْحَدِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي إِبَاحَةِ الْوَطْءِ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى بَابِ (حَدِّ الزِّنَى).

وَمِنْ ذَلِكَ الْمُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ إِذَا رَأَى سَرَابًا، وَكَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ مَاءٌ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ لَا يَحِلُّ لَهُ قَطْعُ الصَّلَاةِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، إِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَاءً يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَإِلاَّ فَلَا.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَوَجَدَهُ أَوْ تَوَهَّمَهُ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ.وَيَحْصُلُ هَذَا التَّوَهُّمُ بِرُؤْيَةِ سَرَابٍ.وَمَحَلُّ بُطْلَانِهِ بِالتَّوَهُّمِ إِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ زَمَنٌ لَوْ سَعَى فِيهِ إِلَى ذَلِكَ لأَمْكَنَهُ التَّطَهُّرُ بِهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ.وَإِذَا بَطَلَ التَّيَمُّمُ بِتَوَهُّمِ وُجُودِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ بُطْلَانُهُ بِالظَّنِّ أَوِ الشَّكِّ أَوْلَى، سَوَاءٌ أَتَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ ظَنِّهِ أَمْ لَمْ يَتَبَيَّنْ، لِأَنَّ ظَنَّ وُجُودِ الْمَاءِ مُبْطِلٌ لِلتَّيَمُّمِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ وُجِدَ الْمَاءُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إِذَا مَا طَلَبَ الْمَاءَ سَاغَ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَوْ كَانَ خَوْفُهُ بِسَبَبِ ظَنِّهِ فَتَبَيَّنَ عَدَمُ السَّبَبِ.مِثْلُ مَنْ رَأَى سَوَادًا بِاللَّيْلِ ظَنَّهُ عَدُوًّا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدُوٍّ بَعْدَ أَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى لَمْ يُعِدْ لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى.وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ لِلتَّيَمُّمِ.

هـ- الِاخْتِلَاطُ:

13- يُقْصَدُ بِهِ اخْتِلَاطُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ وَعُسْرُ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا.كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتِ الْأَوَانِي الَّتِي فِيهَا مَاءٌ طَاهِرٌ بِالْأَوَانِي الَّتِي فِيهَا مَاءٌ نَجِسٌ، وَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ، بِأَنْ لَمْ يُمْكِنِ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، وَيَجِبُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَجِسٌ يَقِينًا، وَالْآخَرُ طَاهِرٌ يَقِينًا، لَكِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ فَيُصَارُ إِلَى الْبَدَلِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (مَاءٌ).وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِنَجِسَةٍ، وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا، وَلَمْ يَجِدْ ثَوْبًا طَاهِرًا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يُطَهِّرُهُمَا بِهِ، وَاحْتَاجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَالْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ، أَنَّهُ يَتَحَرَّى بَيْنَهَا، وَيُصَلِّي بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي وَيُصَلِّي فِي ثِيَابِ مِنْهَا بِعَدَدِ النَّجِسِ مِنْهَا، وَيَزِيدُ صَلَاةً فِي ثَوْبٍ آخَرَ.وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ: لَا يُصَلِّي فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَالْأَوَانِي.

وَإِنَّمَا يَتَحَرَّى- عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ- إِذَا لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا طَاهِرًا، أَوْ مَا يُطَهِّرُ بِهِ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ.وَإِذَا تَحَرَّى فَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ صَلَّى فِي أَحَدِهِمَا.وَالْقَائِلُونَ بِالتَّحَرِّي هُنَا قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا خُلْفَ لِلثَّوْبِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ، بِخِلَافِ الِاشْتِبَاهِ فِي الْأَوَانِي، لِأَنَّ التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ لَهُ خُلْفٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ.

و- الشَّكُّ (بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ يَشْمَلُ أَيْضًا الظَّنَّ وَالْوَهْمَ):

14- وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِيمَنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ مِنْ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، إِذِ الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ غَيْرَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَاحْتِيَاطٌ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الْوُضُوءِ أَنَّ شَكَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ.وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ هُنَا مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى السَّوَاءِ أَمْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ أَرْجَحَ.وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُهُمَا أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَهُمَا، لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ شَرْعِيٍّ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا شَكَّ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ، فَيَجِبُ سُقُوطُهُمَا كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا، وَيَرْجِعُ إِلَى الْيَقِينِ

وَقَالُوا: مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ مَعًا وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَلَمْ يَعْلَمْ الْأَخِيرُ مِنْهُمَا وَالْأَسْبَقُ فَيُعْمَلُ بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْدِثًا فَهُوَ الْآنَ مُتَطَهِّرٌ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدَثِ وَشَكَّ فِي انْتِقَاضِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلِ الْحَدَثُ الثَّانِي قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا.وَإِنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا وَكَانَ يَعْتَادُ التَّجْدِيدَ فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ، لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ حَدَثًا بَعْدَ تِلْكَ الطَّهَارَةِ وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلِ الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ أَمْ لَا.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا قَالُوهُ فِي الصَّائِمِ لَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ الشَّكِّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ.وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ شَاكٌّ وَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اتِّفَاقًا.

أَمَّا إِذَا شَكَّ الصَّائِمُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَلاَّ يَأْكُلَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ، فَيَكُونُ الْأَكْلُ إِفْسَادًا لِلصَّوْمِ فَيُتَحَرَّزُ عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ».وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».وَلَوْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ اللَّيْلِ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ، وَإِلَى هَذَا اتَّجَهَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَ اللَّيْلِ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ.وَقِيلَ: وَفِي النَّفْلِ أَيْضًا.كَمَا قِيلَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لَا الْحُرْمَةِ.وَمَنْ أَكَلَ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْلِ أَوْ حُصُولَ الْغُرُوبِ ثُمَّ طَرَأَ الشَّكُّ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلَا حُرْمَةٍ.

ز- الْجَهْلُ:

15- وَمِنْ ذَلِكَ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ دُخُولَ رَمَضَانَ، وَأَرَادَ صَوْمَهُ، فَتَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا عَنْ رَمَضَانَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ.فَإِذَا كَانَ صَامَ قَبْلَ حُلُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِعْلاً لَمْ يُجْزِئْهُ، لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ مُشَاهَدَةُ الشَّهْرِ وَنَقَلَ الشِّيرَازِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاً آخَرَ بِالْإِجْزَاءِ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُهَا بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْوَقْتِ عِنْدَ الْخَطَأِ، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِذَا أَخْطَأَ النَّاسُ وَوَقَفُوا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِيمَا يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ، فَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَصَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ.وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي صَامَهُ كَانَ بَعْدَ رَمَضَانَ صَحَّ.

وَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي صَامَهُ نَاقِصًا، وَرَمَضَانَ الَّذِي صَامَهُ النَّاسُ تَامًّا صَامَ يَوْمًا، إِذْ لَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَةِ الْعَدَدِ، لِأَنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ يَكُونُ قَضَاءً، وَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ آخَرُ اخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرايِينِيُّ بِالْإِجْزَاءِ، لِأَنَّ الشَّهْرَ يَقَعُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ، فَصَامَ شَهْرًا نِقَاصًا بِالْأَهِلَّةِ أَجْزَأَهُ.ثُمَّ قَالَ الشِّيرَازِيُّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ.وَمِنْ ذَلِكَ الِاشْتِبَاهُ فِي الْقِبْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَجْهَلُهَا.فَقَدْ نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ جِهَةُ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا، سَأَلَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِمَّنْ يَعْلَمُهَا مِنْ أَهْلِ الْمَكَانِ.وَحَدُّ الْحَضْرَةِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ صَاحَ بِهِ سَمِعَهُ.فَإِذَا تَحَرَّى بِنَفْسِهِ وَصَلَّى دُونَ سُؤَالٍ، وَتَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبِ الْقِبْلَةَ، أَعَادَ الصَّلَاةَ، لِعَدَمِ إِجْزَاءِ التَّحَرِّي مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِخْبَارِ، لِأَنَّ التَّحَرِّي دُونَ الِاسْتِخْبَارِ، إِذِ الْخَبَرُ مُلْزِمٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، بَيْنَمَا التَّحَرِّي مُلْزِمٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يُصَارُ إِلَى الْأَدْنَى مَعَ إِمْكَانِ الْأَعْلَى، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، أَوْ كَانَ وَسَأَلَهُ وَلَمْ يُجِبْهُ، أَوْ لَمْ يَدُلَّهُ ثُمَّ تَحَرَّى، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ، حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْطَأَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ- أَيْ قُبَالَتَهُ- فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}».

وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَاجِبٌ إِقَامَةً لِلْوَاجِبِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَإِقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ لِتَعَذُّرِهِ.

وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ قِبْلَةَ الْمُتَحَرِّي جِهَةُ قَصْدِهِ إِنْ تَحَرَّى ثُمَّ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَةِ أَنَّ الْقِبْلَةَ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّحَرِّي.

ح- النِّسْيَانُ:

16- وَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا نَسِيَتْ عَادَةَ حَيْضِهَا، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهَا الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، بِأَنْ لَمْ تَعْلَمْ عَدَدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا الْمُعْتَادَةِ، وَلَا مَكَانَ هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنَ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا تَتَحَرَّى، فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهَا عَلَى طُهْرٍ تُعْطَى حُكْمَ الطَّاهِرَاتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حَيْضٍ أُعْطِيَتْ حُكْمَهُ، لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَإِنْ تَرَدَّدَتْ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهَا شَيْءٌ فَهِيَ الْمُحَيَّرَةُ، وَتُسَمَّى الْمُضَلَّلَةُ، لَا يُحْكَمُ لَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الطُّهْرِ أَوِ الْحَيْضِ عَلَى التَّعْيِينِ، بَلْ تَأْخُذُ بِالْأَحْوَطِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، لِاحْتِمَالِ كُلِّ زَمَانٍ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالِانْقِطَاعِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا حَائِضًا دَائِمًا لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَلَا طَاهِرًا دَائِمًا لِقِيَامِ الدَّمِ، وَلَا التَّبْعِيضِ لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ، فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لِلضَّرُورَةِ.وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِحَاضَة).

ط- وُجُودُ دَلِيلٍ غَيْرِ قَوِيٍّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ:

17- وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى فِي إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْجَوَازِ، أَوْ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ فِي مَرَافِقِ الْعَقَارِ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِيكِ فِي مَمَرِّ الدَّارِ، بِأَنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي طَرِيقٌ آخَرُ إِلَى الدَّارِ، أَوْ أَمْكَنَ فَتْحُ بَابٍ لَهَا إِلَى شَارِعٍ.

وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَيَقْصُرُونَهَا عَلَى الشَّرِكَةِ فِي نَفْسِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ فَقَطْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، إِذْ هِيَ انْتِزَاعُ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَاءٍ مِنْهُ، وَإِجْبَارٌ لَهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قُسِمَتِ الْأَرْضُ وَحُدَّتْ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا».

وَمُقْتَضَى الْأَصْلِ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَصْلاً، لَكِنَّهَا ثَبَتَتْ فِيمَا لَا يُقْسَمُ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْمَقْسُومِ عَلَى الْأَصْلِ، أَوْ ثَبَتَ مَعْلُولاً بِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ وَهُوَ ضَرَرُ الْقِسْمَةِ.

وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَحَادِيثَ، فَإِنَّ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالاً.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَدِيثُ جَابِرٍ- السَّابِقُ ذِكْرُهُ- وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ، كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو رَافِعٍ «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ»، وَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ سَمُرَةُ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ».فَإِنَّ فِيهَا مَقَالاً.عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْجَارِ الشَّرِيكَ، فَإِنَّهُ جَارٌ أَيْضًا.فَكُلُّ هَذَا أَوْرَثَ شُبْهَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ غَيْرُ قَوِيٍّ، وَجَاءَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلِذَا لَمْ يُثْبِتُوا الشُّفْعَةَ بِسَبَبِ الْجِوَارِ وَالشَّرِكَةِ فِي مَرَافِقِ الْعَقَارِ، وَقَصَرُوهَا عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْعَقَارِ نَفْسِهِ.

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الِاشْتِبَاهِ: لَوْ قَضَى قَاضٍ بِهَا لَا يُفْسَخُ قَضَاؤُهُ.

وَمِنْ الِاشْتِبَاهِ النَّاجِمِ عَنْ وُجُودِ دَلِيلٍ غَيْرِ قَوِيٍّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ: مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ قَطْعِيُّهُ، فَيَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا مَعْنَاهُ.فَإِذَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ كَانَتِ دَلَالَتُهُ ظَنِّيَّةً.

بَيْنَمَا يَرَى جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ظَنِّيَّةٌ، إِذِ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَا مِنْ عَامٍّ إِلاَّ وَخُصِّصَ.وَمَا دَامَ الْعَامُّ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ مُخَصِّصٍ، فَإِنَّ هَذَا يُورِثُ شُبْهَةً قَوِيَّةً تَمْنَعُ الْقَوْلَ بِقَطْعِيَّتِهِ فِي إِفَادَةِ الشُّمُولِ وَالِاسْتِغْرَاقِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَمْنَعُونَ تَخْصِيصَ عَامِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ابْتِدَاءً بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ.

وَعَلَى هَذَا فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ، إِذَا تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا، لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَلَمْ يُخَصِّصُوا هَذَا الْعُمُومَ بِحَدِيثِ: «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ، ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ»، لِأَنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ، وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي تَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ إِذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، بَيْنَمَا الشَّافِعِيَّةُ يُجِيزُونَ أَكْلَهَا، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عِنْدَهُمْ ظَنِّيَّةٌ، فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمَا هُوَ ظَنِّيٌّ، وَإِنْ كَرِهُوا تَعَمُّدَ التَّرْكِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (تَذْكِيَة، وَتَسْمِيَة).

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا: اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي سَرِقَةِ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ مِنَ الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ، فَالْأَصْلُ فِي الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَأَنَّهُ مِلْكٌ لِمَنْ أَحْرَزَهُ، وَلَا شَرِكَةَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ الشَّرِكَةِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ «بَيْعِ الْمَاءِ إِلاَّ مَا حُمِلَ».وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ، يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَصْلُهَا مُبَاحٌ، هَلْ يَجِبُ فِي سَرِقَتِهَا الْقَطْعُ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْقَطْعَ فِي كُلِّ مُتَمَوَّلٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَأَخْذُ الْعِوَضِ فِيهِ، وَعُمْدَتُهُمْ عُمُومُ الْآيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَعُمُومُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ، وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».

وَيَقُولُ الدُّسُوقِيُّ: وَيَجِبُ الْقَطْعُ وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مُحَقَّرًا كَمَاءٍ وَحَطَبٍ، لِأَنَّهُ مُتَمَوَّلٌ مَا دَامَ مُحَرَّزًا، وَلَوْ كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، وَالْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ عَدَمَ الْقَطْعِ، لِأَنَّهُ لَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً، وَلِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ تُورِثُ شُبْهَةً بَعْدَ الْإِحْرَازِ، وَلِأَنَّ التَّافِهَ لَا يُحَرَّزُ عَادَةً، أَوْ لَا يُحَرَّزُ إِحْرَازَ الْخَطِيرِ، وَيَنْتَهُونَ إِلَى أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَعْنَى التَّفَاهَةِ دُونَ إِبَاحَةِ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ السَّبَبَ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ.

ى- الْإِبْهَامُ مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ الْبَيَانِ:

18- وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، دُونَ تَعْيِينِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَيَحْدُثُ الِاشْتِبَاهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِيمَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ.

فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَصِّلُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحْكَامَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى، وَحُكْمَ الْمِيرَاثِ، وَحُكْمَ الْعِدَّةِ.فَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَإِنْ كَانَتَا مَدْخُولاً بِهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ الْمَهْرِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَهْرِ، مَنْكُوحَةً كَانَتْ أَوْ مُطَلَّقَةً.وَإِنْ كَانَتَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِمَا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ.مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً مُتَوَفَّى عَنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً.فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً مُتَوَفَّى عَنْهَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَهْرِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً تَسْتَحِقُّ النِّصْفَ فَقَطْ، لِأَنَّ النِّصْفَ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلُّ الْمَهْرِ فِي حَالٍ، وَالنِّصْفُ فِي حَالٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، فَيَتَنَصَّفُ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ.

وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ، فَهُوَ أَنَّهُمَا يَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ بِيَقِينٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، فَيَكُونُ قَدْرُ مِيرَاثِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ.

وَأَمَّا حُكْمُ الْعِدَّةِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الطَّلَاقِ، أَيُّهُمَا أَطْوَلُ، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ وَالْأُخْرَى مُطَلَّقَةٌ، وَعَلَى الْمَنْكُوحَةِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، فَدَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا، وَمِنْ الِاحْتِيَاطِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.

وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ وَالصَّدَاقِ.وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ لَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ.

وَلَهُمْ فِي الصَّدَاقِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (صَدَاق).

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلْمِيرَاثِ يَرَوْنَ أَنَّهُ يُوقَفُ لِلزَّوْجَتَيْنِ مِنْ مَالِهِ نَصِيبُ زَوْجَةٍ إِلَى أَنْ يَصْطَلِحَا، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِرْثُ إِحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، فَإِنْ قَالَ وَارِثُ الزَّوْجِ: أَنَا أَعْرِفُ الزَّوْجَةَ مِنْهُمَا فَفِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: يُرْجَعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَهُ فِي اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ قَامَ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ الزَّوْجَةِ.

وَالثَّانِي: لَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجَةٌ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى بَيَانِهِ إِسْقَاطُ وَارِثٍ مُشَارِكٍ، وَالْوَارِثُ لَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ.وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي صُورَةِ مَا إِذَا طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ دُونَ تَعْيِينٍ لَا يُرْجَعُ إِلَى الْوَارِثِ قَوْلاً وَاحِدًا، لِأَنَّهُ اخْتِيَارُ شَهْوَةٍ.

وَبِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا اعْتَدَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الزَّوْجَةُ، فَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهِمَا لِيَسْقُطَ الْفَرْضُ بِيَقِينٍ.

وَإِنْ دَخَلَ بِهِمَا، فَإِنْ كَانَتَا حَامِلَيْنِ اعْتَدَّتَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، لِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ فِي الْحَمْلِ وَاحِدَةٌ.

وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ اعْتَدَّتَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، لِأَنَّهَا تَجْمَعُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ اعْتَدَّتَا بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ.وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلَمْ نَجِدْ نَصًّا فِي الْمَسْأَلَةِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ، فَمَنْ تَقَعُ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا.وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، لِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَنِ الْآدَمِيِّ فَتُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْقُرْعَةُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، كَالْعِتْقِ.وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ تَسَاوَتْ عَلَى وَجْهٍ تَعَذَّرَ تَعَيُّنُ الْمُسْتَحِقِّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيهِ الْقُرْعَةُ، كَالْقِسْمَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي السَّفَرِ.فَأَمَّا قِسْمَةُ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْجَمِيعِ فَفِيهِ إِعْطَاءُ مَنْ لَا تَسْتَحِقُّ وَإِنْقَاضُ الْمُسْتَحَقِّ، وَفِي وَقْفِ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ تَضْيِيعٌ لِحُقُوقِهِنَّ، وَحِرْمَانُ الْجَمِيعِ مَنْعُ الْحَقِّ عَنْ صَاحِبِهِ يَقِينًا.وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِي مِيرَاثِ الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى وَالْحَرْقَى، لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْإِرْثِ تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ وَقْتَ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ.وَبِالنِّسْبَةِ لِلْغَرْقَى وَالْهَدْمَى وَالْحَرْقَى الَّذِينَ بَيْنَهُمْ تَوَارُثٌ مَاتُوا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ أَسْبَقُ مَوْتًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اشْتِبَاهٌ عِنْدَ التَّوْرِيثِ، إِذْ لَا يُدْرَى أَيُّهُمْ أَسْبَقُ مَوْتًا، وَلِذَا فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: يَمْتَنِعُ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا تُوَزَّعُ تَرِكَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى وَرَثَتِهِ الْأَحْيَاءِ دُونَ اعْتِبَارٍ لِمَنْ مَاتَ مَعَهُ، إِذْ لَا تَوَارُثَ بِالشَّكِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، لِاحْتِمَالِ مَوْتِهِمْ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَحْيَاءِ مُتَيَقَّنٌ، وَالشَّكُّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (إِرْثٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (اقتداء 2)

اقْتِدَاءٌ -2

أَحْوَالُ الْمُقْتَدِي:

26- الْمُقْتَدِي إِمَّا مُدْرِكٌ، أَوْ مَسْبُوقٌ، أَوْ لَاحِقٌ، فَالْمُدْرِكُ: مَنْ صَلَّى الرَّكَعَاتِ كَامِلَةً مَعَ الْإِمَامِ، أَيْ أَدْرَكَ جَمِيعَ رَكَعَاتِهَا مَعَهُ، سَوَاءٌ أَأَدْرَكَ مَعَهُ التَّحْرِيمَةَ أَوْ أَدْرَكَهُ فِي جُزْءٍ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى إِلَى أَنْ قَعَدَ مَعَهُ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ، وَسَوَاءٌ أَسَلَّمَ مَعَهُ أَمْ قَبْلَهُ.

وَالْمُدْرِكُ يُتَابِعُ إِمَامَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، إِلاَّ فِي حَالَاتٍ خَاصَّةٍ تُذْكَرُ فِي كَيْفِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ.

27- وَالْمَسْبُوقُ: مَنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِكُلِّ الرَّكَعَاتِ بِأَنِ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ بَعْدَ رُكُوعِ الْأَخِيرَةِ، أَوْ بِبَعْضِ الرَّكَعَاتِ.وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ: مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ فَهُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَالثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ لَمْ يَسْتَفْتِحْ، وَلَمْ يَسْتَعِذْ، وَمَا يَقْضِيهِ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، يَسْتَفْتِحُ فِيهِ، وَيَتَعَوَّذُ، وَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ كَالْمُنْفَرِدِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا » وَالْمَقْضِيُّ هُوَ الْفَائِتُ، فَيَكُونُ عَلَى صِفَتِهِ، لَكِنْ لَوْ أَدْرَكَ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ أَوْ مَغْرِبٍ رَكْعَةً، تَشَهَّدَ عَقِبَ قَضَاءِ رَكْعَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا قَالَ بِهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِئَلاَّ يَلْزَمَ تَغْيِيرُ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَشَهَّدَ عَقِبَ رَكْعَتَيْنِ لَزِمَ قَطْعُ الرُّبَاعِيَّةِ عَلَى وِتْرٍ، وَالثُّلَاثِيَّةِ شَفْعًا، وَمُرَاعَاةُ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ مُمْكِنَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَدْرَكَهُ فِي رَكْعَةِ الرُّبَاعِيِّ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةٍ وَسُورَةٍ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ، ثُمَّ يَأْتِي بِفَاتِحَةٍ خَاصَّةٍ، لِيَكُونَ الْقَضَاءُ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي فَاتَتْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ سَلَامِ إِمَامِهِ آخِرُهَا، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: « فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا » وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ أَوَّلِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصُّبْحِ، وَقَنَتَ الْإِمَامُ فِيهَا يُعِيدُ فِي الْبَاقِي الْقُنُوتَ، وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ مَعَ الْإِمَامِ تَشَهَّدَ فِي الثَّانِيَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ، وَآخِرَهَا فِي حَقِّ التَّشَهُّدِ، فَمُدْرِكُ رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِ فَجْرٍ يَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةٍ وَسُورَةٍ وَتَشَهُّدٍ بَيْنَهُمَا، وَبِرَابِعَةِ الرُّبَاعِيِّ بِفَاتِحَةٍ فَقَطْ، وَلَا يَعْقِدُ قَبْلَهُمَا، فَهُوَ قَاضٍ فِي حَقِّ الْقَوْلِ عَمَلًا بِرِوَايَةِ: « وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا » لَكِنَّهُ بَانٍ عَلَى صَلَاتِهِ فِي حَقِّ الْفِعْلِ عَمَلًا بِرِوَايَةِ: « وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا » وَذَلِكَ تَطْبِيقًا لِقَاعِدَةِ الْأُصُولِيِّينَ: (إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ جُمِعَ) فَحَمَلْنَا رِوَايَةَ الْإِتْمَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَرِوَايَةَ الْقَضَاءِ عَلَى الْأَقْوَالِ.

28- وَاللاَّحِقُ: هُوَ مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا بَعْدَ اقْتِدَائِهِ بِعُذْرٍ، كَغَفْلَةٍ وَزَحْمَةٍ، وَسَبْقِ حَدَثٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَأَنْ سَبَقَ إِمَامَهُ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الْإِمَامِ بِرُكْنٍ أَوْ أَكْثَرَ، كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَحُكْمُ اللاَّحِقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمُؤْتَمٍّ، لَا يَأْتِي بِقِرَاءَةٍ وَلَا سُجُودِ سَهْوٍ، وَلَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ إِقَامَةٍ، وَيَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ بِعُذْرٍ، ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ فَرَغَ، عَكْسُ الْمَسْبُوقِ.

وَقَالَ الْجُمْهُورُ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْإِمَامِ بِرَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ بِعُذْرٍ، مِنْ نَوْمٍ أَوْ غَفْلَةٍ، تَابَعَ إِمَامَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَيَقْضِي مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ كَالْمَسْبُوقِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَهُمْ.وَكَذَلِكَ لَوْ تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ عَمْدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا تَبْطُلُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ.

وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ أَوْ رُكْنَيْنِ لِعُذْرٍ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَفْعَلُ مَا سَبَقَهُ بِهِ إِمَامُهُ وَيُدْرِكُهُ إِنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ تَبْطُلُ هَذِهِ الرَّكْعَةُ فَيَتَدَارَكُهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ، وَفِي بَعْضِ الْفُرُوعِ خِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (لَاحِق).

كَيْفِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ

أَوَّلًا- فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ:

29- الِاقْتِدَاءُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، وَالْمُتَابَعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرِ وَاجِبٍ، مَا لَمْ يُعَارِضْهَا وَاجِبٌ آخَرُ، فَإِنْ عَارَضَهَا وَاجِبٌ آخَرُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفُوتَهُ، بَلْ يَأْتِي بِهِ ثُمَّ يُتَابِعُهُ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ لَا يُفَوِّتُ الْمُتَابَعَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهَا، وَتَأْخِيرُ أَحَدِ الْوَاجِبَيْنِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِهِمَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ أَحَدِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ مَا يُعَارِضُ الْمُتَابَعَةَ سُنَّةٌ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ السُّنَّةَ وَيُتَابِعُ الْإِمَامَ بِلَا تَأْخِيرٍ، لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْمَأْمُومُ التَّسْبِيحَاتِ الثَّلَاثَ وَجَبَ مُتَابَعَتُهُ، وَكَذَا عَكْسُهُ.بِخِلَافِ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ قِيَامِهِ لِثَالِثَةٍ قَبْلَ إِتْمَامِ الْمَأْمُومِ التَّشَهُّدَ، فَإِنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ، بَلْ يُتِمُّ التَّشَهُّدَ لِوُجُوبِهِ.

هَذَا، وَمُقْتَضَى الِاقْتِدَاءِ وَالْمُتَابَعَةِ أَلاَّ يَحْصُلَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقْتَدِي قَبْلَ فِعْلِ الْإِمَامِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُسَبِّبُ فِيهَا سَبْقُ الْمَأْمُومِ فِعْلَ إِمَامِهِ أَوْ مُقَارَنَتُهُ لَهُ بُطْلَانَ الِاقْتِدَاءِ، وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ، فَقَالُوا: إِنْ تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ إِمَامَهُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ أَصْلًا، لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبِنَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى أَنَّ مُقَارَنَةَ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ تَضُرُّ بِالِاقْتِدَاءِ وَتُبْطِلُ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا، لِحَدِيثِ: « إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا »

لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ وَلَوْ بِحَرْفٍ صَحَّتْ، إِنْ خَتَمَ الْمُقْتَدِي مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ، لَا قَبْلَهُ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ- تَأَخُّرَ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ الْمُقْتَدِي عَنْ تَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ.

وَلَا تَضُرُّ مُقَارَنَةُ تَكْبِيرَةِ الْمُقْتَدِي لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى نُقِلَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ هِيَ السُّنَّةُ، قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَمِنْهَا (أَيْ مِنْ سُنَنِ الْجَمَاعَةِ) أَنْ يُكَبِّرَ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ..لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُشَارَكَةٌ، وَحَقِيقَةُ الْمُشَارَكَةِ الْمُقَارَنَةُ، إِذْ بِهَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي السَّلَامِ، بِأَنْ يُسَلِّمَ بَعْدَهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ الْمُقْتَدِي مِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّهُ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي التَّسْلِيمِ.أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَأْمُومُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ مِنْ صَلَاتِهِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ.وَلَوْ سَلَّمَ قَبْلَ الْإِمَامِ سَهْوًا فَإِنَّهُ يُعِيدُ، وَيُسَلِّمُ بَعْدَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِنْ سَلَّمَ قَبْلَ الْإِمَامِ عَمْدًا فَإِنَّهُ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الْمُفَارَقَةَ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.

أَمَّا مُقَارَنَةُ الْمُقْتَدِي لِلْإِمَامِ فِي السَّلَامِ فَلَا تَضُرُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: مُسَاوَاتُهُ لِلْإِمَامِ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ.

وَلَا تَضُرُّ مُقَارَنَةُ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ، كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ بِدُونِهَا عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَإِنْ تَقَدَّمَهُ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ يَنْبَغِي الْبَقَاءُ فِيهِمَا حَتَّى يُدْرِكَهُ الْإِمَامُ، وَلَوْ رَفَعَ الْمُقْتَدِي رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ رُكُوعَيْنِ أَوْ سُجُودَيْنِ اتِّفَاقًا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَلَاة).

ثَانِيًا- الِاقْتِدَاءُ فِي أَقْوَالِ الصَّلَاةِ:

30- لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِي سَائِرِ أَقْوَالِ الصَّلَاةِ غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ، كَالتَّشَهُّدِ وَالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ، فَيَجُوزُ فِيهَا التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَالْمُوَافَقَةُ.

اخْتِلَافُ صِفَةِ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ:

أ- اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ:

31- يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ)، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ « عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فَأَجْنَبَ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ، وَعَلِمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ ».

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ لِلْجَوَازِ كَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، مَا بَقِيَ شَرْطُهُ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَلِهَذَا تَجُوزُ الْفَرَائِضُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمْ.

وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ اقْتِدَاءَ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ، كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ إِمَامَةَ الْمُتَوَضِّئِ أَوْلَى مِنْ إِمَامَةِ الْمُتَيَمِّمِ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، بَلْ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ لِلضَّرُورَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ كَمُتَيَمِّمٍ بِمُتَيَمِّمٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَدِي مِثْلَهُ، أَمَّا الْمُتَيَمِّمُ الَّذِي لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى عَنْ طَهَارَتِهِ بِبَدَلٍ مُغْنٍ عَنِ الْإِعَادَةِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ مُطْلَقًا فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، لِلُزُومِ بِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.

اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ:

32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ غَاسِلٍ بِمَاسِحٍ عَلَى خُفٍّ أَوْ جَبِيرَةٍ، لِأَنَّ الْخُفَّ مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إِلَى الْقَدَمِ، وَمَا حَلَّ بِالْخُفِّ يَرْفَعُهُ الْمَسْحُ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كَوْنِهِ غَاسِلًا، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَلِأَنَّ صَلَاتَهُ مُغْنِيَةٌ عَنِ الْإِعَادَةِ لِارْتِفَاعِ حَدَثِهِ، لِأَنَّ الْمَسْحَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَمَا وَجَّهَهُ الْآخَرُونَ.

اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ:

33- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى عَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ » وَلِقَوْلِهِ- عليه السلام-: « الْإِمَامُ Cضَامِنٌ » وَمُقْتَضَى الْحَدِيثَيْنِ أَلاَّ يَكُونَ الْإِمَامُ أَضْعَفَ حَالًا مِنَ الْمُقْتَدِي، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ لَا تُؤَدَّى بِنِيَّةِ الْإِمَامِ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ بِشَرْطِ تَوَافُقِ نَظْمِ صَلَاتَيْهِمَا، لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: « أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عِشَاءَ الْآخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ ».

فَإِنِ اخْتَلَفَ فِعْلُهُمَا كَمَكْتُوبَةٍ وَكُسُوفٍ أَوْ جَنَازَةٍ، لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ لِمُخَالِفَتِهِ النَّظْمَ وَتَعَذُّرِ الْمُتَابَعَةِ.

34- وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ فِي الْفَرْضِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ: لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ.وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنَ الصَّبِيِّ الْإِخْلَالُ بِشَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ الْحُرِّ بِالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَلَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فَرْضًا، لِلِاعْتِدَادِ بِصَلَاتِهِ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ « كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ ابْنُ سِتِّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ.لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الِاقْتِدَاءِ بِالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.

هَذَا فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ، أَمَّا فِي النَّافِلَةِ فَجَازَ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَفِي الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ نَفْلَ الصَّغِيرِ دُونَ نَفْلِ الْبَالِغِ، حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، وَلَا يُبْنَى الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ.

اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ:

35- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مُفْتَرِضٍ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ غَيْرَ فَرْضِ الْمَأْمُومِ، فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي ظُهْرًا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي عَصْرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَلَا عَكْسُهُ، وَلَا اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي أَدَاءً بِمَنْ يُصَلِّي قَضَاءً، لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ تَحْرِيمَةِ الْمُقْتَدِي عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ، وَهَذَا يَقْتَضِي اتِّحَادَ صَلَاتَيْهِمَا، كَمَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ الِاقْتِدَاءِ.

وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا تَوَافَقَ نَظْمُ صَلَاتَيْهِمَا فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي فَرْضًا مِنْ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا Cآخَرَ مِنْهُمَا أَدَاءً وَقَضَاءً، مَعَ تَفْصِيلٍ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ.

اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ وَعَكْسُهُ:

36- يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فِي الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا أَتَمَّ الْإِمَامُ الْمُسَافِرُ صَلَاتَهُ يَقُولُ لِلْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنِّي مُسَافِرٌ.فَيَقُومُ الْمُقْتَدِي الْمُقِيمُ لِيُكْمِلَ صَلَاتَهُ.وَيُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمَسْبُوقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.

كَذَلِكَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ صَلَاتِهِ أَرْبَعًا مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ.أَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ فِي صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْمُسَافِرَ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْضَهُ رَكْعَتَانِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ مُفْتَرِضٍ بِمُتَنَفِّلٍ فِي حَقِّ قَعْدَةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ بِاقْتِدَائِهِ فِي شَفْعٍ أَوَّلٍ أَوْ ثَانٍ.

اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ:

37- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَاسْتِطْلَاقُ الْبَطْنِ، وَانْفِلَاتُ الرِّيحِ، وَكَذَا الْجُرْحُ السَّائِلُ، وَالرُّعَافُ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ يُصَلُّونَ مَعَ الْحَدَثِ حَقِيقَةً، لَكِنْ جُعِلَ الْحَدَثُ الْمَوْجُودُ فِي حَقِّهِمْ كَالْمَعْدُومِ، لِلْحَاجَةِ إِلَى الْأَدَاءِ فَلَا يَتَعَدَّاهُمْ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْمَعْذُورِ، وَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ ضَامِنٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَضْمَنُ صَلَاتُهُ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي، وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِصَاحِبِ السَّلَسِ، وَالطَّاهِرَةِ بِالْمُسْتَحَاضَةِ غَيْرِ الْمُتَحَيِّرَةِ، لِصِحَّةِ صَلَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ.

وَجَوَازُ اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ هُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ، لِأَنَّهُ إِذَا عُفِيَ عَنِ الْأَعْذَارِ فِي حَقِّ صَاحِبِهَا عُفِيَ عَنْهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ.لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ إِمَامَةِ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ لِلْأَصِحَّاءِ.

وَقَدْ نَقَلَ فِي التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي جَوَازِ أَوْ عَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ قَوْلَيْنِ.وَاسْتَدَلَّ لِلْجَوَازِ بِأَنَّ عُمَرَ كَانَ إِمَامًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَجِدُ ذَلِكَ (أَيْ سَلَسَ الْمَذْيِ) وَلَا يَنْصَرِفُ

وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ صَاحِبِ الْعُذْرِ بِمِثْلِهِ مُطْلَقًا، أَيْ وَلَوْ اخْتَلَفَ الْعُذْرُ، أَوْ إِنْ اتَّحَدَ عُذْرُهُمَا عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عُذْر)..

اقْتِدَاءُ الْمُكْتَسِي بِالْعَارِي:

38- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ Cوَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) بِعَدَمِ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمُكْتَسِي (أَيْ مَسْتُورِ الْعَوْرَةِ) بِالْعَارِي، لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْإِمَامِ، فَيَلْزَمُ اقْتِدَاءُ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ.

وَلِأَنَّهُ تَارِكٌ لِشَرْطٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ، فَأَشْبَهَ اقْتِدَاءَ الْمُعَافَى بِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ.

حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ وَجَدُوا ثَوْبًا صَلَّوْا بِهِ أَفْذَاذًا لَا يَؤُمُّهُمْ بِهِ أَحَدٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمَسْتُورِ بِالْعَارِي، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي جَوَازِ اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ.

أَمَّا اقْتِدَاءُ الْعَارِي بِالْعَارِي فَيَجُوزُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِمَا إِنْ اجْتَمَعُوا بِظَلَامٍ، وَإِلاَّ تَفَرَّقُوا وَصَلَّوْا أَفْذَاذًا مُتَبَاعِدِينَ.

اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ:

39- لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ) لِأَنَّ الْإِمَامَ ضَامِنٌ وَيَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنِ الْمَأْمُومِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْأُمِّيِّ، لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهُمَا تَارِكَانِ لِشَرْطٍ يَقْدِرَانِ عَلَيْهِ بِتَقْدِيمِ الْقَارِئِ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمِّيِّ هُنَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَنْ لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ.

وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ فِي الْقَدِيمِ مِنْ

مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ دُونَ الْجَهْرِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ مُطْلَقًا.

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى بُطْلَانِ صَلَاةِ الْقَارِئِ إِذَا اقْتَدَى بِالْأُمِّيِّ، لِعَدَمِ صِحَّةِ بِنَاءِ صَلَاتِهِ عَلَى صَلَاةِ الْأُمِّيِّ، كَذَلِكَ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ الَّذِي أَمَّ الْقَارِئَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ لِفَقْدِ شَرْطٍ يَقْدِرَانِ عَلَيْهِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: إِنْ أَمَّ أُمِّيٌّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا، فَإِنْ كَانَا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ كَانَ الْأُمِّيُّ عَنْ يَمِينِهِ وَالْقَارِئُ عَنْ يَسَارِهِ صَحَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْأُمِّيِّ الْمَأْمُومِ، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْقَارِئِ لِاقْتِدَائِهِ بِأُمِّيٍّ.وَإِنْ كَانَا خَلْفَهُ، أَوِ الْقَارِئُ وَحْدَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْأُمِّيُّ عَنْ يَسَارِهِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَارِئِ لِاقْتِدَائِهِ بِالْأُمِّيِّ، وَتَبْطُلُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ الْمَأْمُومِ لِكَوْنِهِ فَذًّا خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُمْ.

هَذَا، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ بِمِثْلِهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.

اقْتِدَاءُ الْقَادِرِ بِالْعَاجِزِ عَنْ رُكْنٍ:

40- لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى رُكْنٍ، كَالرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ أَوِ الْقِيَامِ، بِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ Cوَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ عَجَزَ عَنْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ كَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِرَاءَةِ إِلاَّ بِمِثْلِهِ، وَلِعَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ كَمَا مَرَّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا إِمَامَ الْحَيِّ الْمَرْجُوَّ زَوَالُ عِلَّتِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُقْتَدِرُونَ وَرَاءَهُ جُلُوسًا أَوْ قِيَامًا عِنْدَهُمْ.

وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ قَائِمٍ بِقَاعِدٍ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَجَازَ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْقَاعِدُ قَادِرًا عَلَى الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- « صَلَّى آخِرَ صَلَاتِهِ قَاعِدًا وَالْقَوْمُ خَلْفَهُ قِيَامٌ ».

وَاخْتَلَفُوا فِي اقْتِدَاءِ الْمُسْتَوِي خَلْفَ الْأَحْدَبِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِهِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَلاَّ تَبْلُغَ حَدَبَتُهُ حَدَّ الرُّكُوعِ، وَيُمَيَّزُ قِيَامُهُ عَنْ رُكُوعِهِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ مُطْلَقًا.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ أَوِ الرَّاكِعِ أَوِ السَّاجِدِ خَلْفَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ، وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ قَاسُوا الْمُضْطَجِعَ وَالْمُسْتَلْقِيَ عَلَى الْقَاعِدِ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُومِئِ بِمِثْلِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ الْإِيمَاءَ لَا يَنْضَبِطُ، فَقَدْ يَكُونُ إِيمَاءُ الْمَأْمُومِ أَخْفَضَ مِنْ إِيمَاءِ الْإِمَامِ، وَقَدْ يَسْبِقُهُ الْمَأْمُومُ فِي الْإِيمَاءِ، وَهَذَا يَضُرُّ.

الِاقْتِدَاءُ بِالْفَاسِقِ:

41- الْفَاسِقُ: مَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً، أَوْ دَاوَمَ عَلَى صَغِيرَةٍ.وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْفَاسِقِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: « صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ » وَلِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ » كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ عَلَى ظُلْمِهِ.وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الشُّرُوطِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ-: لَا تَصِحُّ إِمَامَةُ فَاسِقٍ بِفِعْلٍ، كَزَانٍ وَسَارِقٍ وَشَارِبِ خَمْرٍ وَنَمَّامٍ وَنَحْوِهِ، أَوِ اعْتِقَادٍ، كَخَارِجِيٍّ أَوْ رَافِضِيٍّ وَلَوْ كَانَ مَسْتُورًا.لقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًاCكَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} وَلِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: « لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إِلاَّ أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ يَخَافُ سَوْطَهُ وَسَيْفَهُ ».

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْمُعْتَمَدَةِ بَيْنَ الْفَاسِقِ بِجَارِحَةٍ كَزَانٍ وَشَارِبِ خَمْرٍ، وَبَيْنَ مَنْ يَتَعَلَّقُ فِسْقُهُ بِالصَّلَاةِ، كَأَنْ يَقْصِدَ بِتَقَدُّمِهِ الْكِبْرَ، أَوْ يُخِلَّ بِرُكْنٍ أَوْ شَرْطٍ، أَوْ سُنَّةٍ عَمْدًا، فَقَالُوا بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَمَّا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ فَيَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِالْفَاسِقِ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُمَا يَخْتَصَّانِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ، فَالْمَنْعُ مِنْهُمَا خَلْفَهُ يُؤَدِّي إِلَى تَفْوِيتِهِمَا دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ.

الِاقْتِدَاءُ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْأَخْرَسِ:

42- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ، لِأَنَّ الْعَمَى وَالصَّمَمَ لَا يُخِلاَّنِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَلَا بِشُرُوطِهَا.لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ إِمَامَةِ الْأَعْمَى، كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَفْضَلِيَّةِ إِمَامَةِ الْبَصِيرِ الْمُسَاوِي لِلْأَعْمَى فِي الْفَضْلِ، لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَحَفُّظًا مِنَ النَّجَاسَاتِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ سَوَاءٌ لِتَعَارُضِ فَضْلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَنْظُرُ مَا يَشْغَلُهُ فَهُوَ أَخْشَعُ، وَالْبَصِيرُ يَنْظُرُ الْخَبَثَ فَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَجَنُّبِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْأَعْمَى لَا يَتَبَذَّلُ، أَمَّا إِذَا تَبَذَّلَ أَيْ تَرَكَ الصِّيَانَةَ عَنِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ، كَأَنْ لَبِسَ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ، كَانَ الْبَصِيرُ أَوْلَى مِنْهُ.

أَمَّا الْأَخْرَسُ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَتْرُكُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ مِنَ التَّحْرِيمَةِ وَالْقِرَاءَةِ.حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِعَدَمِ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَخْرَسِ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَدِي مِثْلَهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْأَخْرَسَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأُمِّيِّ، لِقُدْرَةِ الْأُمِّيِّ عَلَى التَّحْرِيمَةِ دُونَ الْأَخْرَسِ، فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ بِالْأَخْرَسِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ.

الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ يُخَالِفُهُ فِي الْفُرُوعِ:

43- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِإِمَامٍ يُخَالِفُ الْمُقْتَدِيَ فِي الْفُرُوعِ، إِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَتَحَامَى مَوَاضِعَ الْخِلَافِ، بِأَنْ يَتَوَضَّأَ مِنَ الْخَارِجِ النَّجَسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالْفَصْدِ مَثَلًا، وَلَا يَنْحَرِفُ عَنِ الْقِبْلَةِ انْحِرَافًا فَاحِشًا، وَيُرَاعِي الدَّلْكَ وَالْمُوَالَاةَ فِي الْوُضُوءِ، وَالطُّمَأْنِينَةَ فِي الصَّلَاةِ.

وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ مُخَالِفٍ فِي الْمَذْهَبِ Cإِذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ بِمَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْمُقْتَدِي بِيَقِينٍ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَزَلْ بَعْضُهُمْ يَقْتَدِي بِبَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ وَحْدَةِ الصَّفِّ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

أَمَّا إِذَا عَلِمَ الْمُقْتَدِي أَنَّ الْإِمَامَ أَتَى بِمَانِعٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي مَذْهَبِ الْمَأْمُومِ، وَلَيْسَ مَانِعًا فِي مَذْهَبِهِ، كَتَرْكِ الدَّلْكِ وَالْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ، أَوْ تَرَكَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الْمَأْمُومِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- بِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ لَا الْمَأْمُومِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَتْرُوكُ رُكْنًا دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَتَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ.

وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ الْمُقْتَدِي، لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فَسَادَ صَلَاةِ إِمَامِهِ، فَلَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَيَقَّنَ الْمُقْتَدِي تَرْكَ الْإِمَامِ مُرَاعَاةَ الْفُرُوضِ عِنْدَ الْمُقْتَدِي لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ، وَإِنْ عَلِمَ تَرْكَهُ لِلْوَاجِبَاتِ فَقَطْ يُكْرَهُ، أَمَّا إِنْ عَلِمَ مِنْهُ تَرْكَ السُّنَنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ، فَتُقَدَّمُ عَلَى تَرْكِ كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِرَأْيِ الْمُقْتَدِي- وَهُوَ الْأَصَحُّ- وَقِيلَ: لِرَأْيِ الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ.قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ الْأَقْيَسُ، وَعَلَيْهِ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَحْتَاطُ. الِاقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ

44- الِاقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ- بِمَعْنَى التَّأَسِّي وَالِاتِّبَاعِ- يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ الْمُقْتَدَى بِهِ، فَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي أُمُورِ الدِّينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ (بِحَسَبِ حُكْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ)، وَالِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ- صلى الله عليه وسلم- الْجِبِلِّيَّةِ حُكْمُهُ الْإِبَاحَةُ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالْمُجْتَهِدِ فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ مَطْلُوبٌ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ.

وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَيِ (اتِّبَاع، وَتَأَسِّي).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-موسوعة الفقه الكويتية (أقلف)

أَقْلَفُ

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَقْلَفُ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُخْتَنْ، وَالْمَرْأَةُ قَلْفَاءُ، وَالْفُقَهَاءُ يَخُصُّونَ أَحْكَامَ الْأَقْلَفِ بِالرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ.

وَيُقَابِلُ الْأَقْلَفَ فِي الْمَعْنَى- الْمَخْتُونُ.

وَإِزَالَةُ الْقُلْفَةِ مِنَ الْأَقْلَفِ تُسَمَّى خِتَانًا فِي الرَّجُلِ، وَخَفْضًا فِي الْمَرْأَةِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِزَالَةَ الْقُلْفَةِ مِنَ الْأَقْلَفِ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، لِتَضَافُرِ الْأَحَادِيثِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: « الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ ».كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (خِتَان).

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ فَرْضٌ.وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالشَّعْبِيِّ وَرَبِيعَةَ الرَّأْيِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْأَقْلَفَ تَارِكُ فَرْضٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ

3- يَخْتَصُّ الْأَقْلَفُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ:

أ- رَدُّ شَهَادَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ تَرْكُهُ الِاخْتِتَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ.وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبَيِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الِاخْتِتَانِ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ فِسْقٌ، وَشَهَادَةُ الْفَاسِقِ مَرْدُودَةٌ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ شَهَادَتِهِ.

ب- جَوَازُ ذَبِيحَةِ الْأَقْلَفِ وَصَيْدِهِ، لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْفِسْقِ فِي الذَّبِيحَةِ وَالصَّيْدِ، وَلِذَلِكَ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ- وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- إِلَى أَنَّ ذَبِيحَةَ الْأَقْلَفِ وَصَيْدَهُ يُؤْكَلَانِ، لِأَنَّ ذَبِيحَةَ النَّصْرَانِيِّ تُؤْكَلُ فَهَذَا أَوْلَى.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ ذَبِيحَةَ الْأَقْلَفِ لَا تُؤْكَلُ، وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ.

ج- إِذَا كَانَ الِاخْتِتَانُ- إِزَالَةُ الْقُلْفَةِ- فَرْضًا، أَوْ سُنَّةً، فَلَوْ أَزَالَهَا إِنْسَانٌ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

د- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَرَجٌ فِي غَسْلِ مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ فَلَا يُطْلَبُ تَطْهِيرُهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ تَطْهِيرُهَا مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُوجِبُونَ تَطْهِيرَ مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ فِي الْغُسْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الْإِزَالَةِ، وَمَا تَحْتَهَا لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ غَسْلِهَا فِي الْغُسْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ، وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَا يَرَوْنَ وُجُوبَ غَسْلِ مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ.

هـ- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُمْ مَنْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ تَطْهِيرِ مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَغْسِلْ مَا تَحْتَهَا لَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ، وَبِالتَّالِي لَا تَصِحُّ إِمَامَتُهُ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَتَصِحُّ إِمَامَتُهُ عِنْدَهُمْ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ جَوَازَ إِمَامَةِ الْأَقْلَفِ، وَلَكِنَّهُمْ يَرَوْنَ كَرَاهَةَ تَعْيِينِهِ إِمَامًا رَاتِبًا، وَمَعَ هَذَا لَوْ صَلَّى النَّاسُ خَلْفَهُ لَمْ يُعِيدُوا صَلَاتَهُمْ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (إهاب)

إِهَابٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِهَابُ فِي اللُّغَةِ: الْجِلْدُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ مَا لَمْ يُدْبَغْ.

وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جِلْدَ الْإِنْسَانِ لَا يُسَمَّى إِهَابًا.

وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْإِهَابَ عَلَى مَا يُطْلِقُهُ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ.قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: الْإِهَابُ: اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ مِنَ الْجِلْدِ.

وَالْجِلْدُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَدْبُوغًا أَوْ غَيْرَ مَدْبُوغٍ.وَاسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ الْجِلْدَ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ جِلْدِ الْحَيَوَانِ، فَيَشْمَلُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِهَابِ:

أ- جِلْدُ الْمُذَكَّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً:

2- الْحَيَوَانَاتُ عَلَى نَوْعَيْنِ: حَيَوَانَاتٌ مَأْكُولَةُ اللَّحْمِ، وَحَيَوَانَاتٌ غَيْرُ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ.فَالْحَيَوَانَاتُ مَأْكُولَةُ اللَّحْمِ إِذَا ذُبِحَتِ الذَّبْحَ الشَّرْعِيَّ كَانَ جِلْدُهَا طَاهِرًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ.

أَمَّا الْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ الْمَأْكُولَةِ اللَّحْمِ فَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا: نَجِسَةٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَطَاهِرَةٌ.

أَمَّا نَجِسَةُ الْعَيْنِ، وَهِيَ الْخِنْزِيرُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْكَلْبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّ الذَّكَاةَ لَا تُطَهِّرُ جِلْدَهَا.

وَأَمَّا غَيْرُ نَجِسَةِ الْعَيْنِ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْهِيرِ إِهَابِهَا بِالذَّكَاةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالذَّبْحِ، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَرُكُوبِ النُّمُورِ».وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُذَكَّى وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ لَا يُطَهِّرُ اللَّحْمَ فَلَمْ يُطَهِّرِ الْجِلْدَ، كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ أَوْ أَيِّ ذَبْحٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَأَشْبَهَ الْأَصْلَ، ثُمَّ إِنَّ الدَّبْغَ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَكَذَلِكَ مَا شُبِّهَ بِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ الْإِهَابِ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ»؛ وَلِأَنَّ الذَّكَاةَ تَعْمَلُ عَمَلَ الدِّبَاغِ فِي إِزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، أَمَّا النَّهْيُ عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَرُكُوبِ النُّمُورِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ مَرَاكِبُ أَهْلِ الْخُيَلَاءِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُدْبَغَ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ إِهَابَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَةَ، كَإِهَابِ الْفَأْرَةِ، وَإِهَابِ الْحَيَّةِ الصَّغِيرَةِ- لَا ثَوْبَهَا- فَإِنَّهُ لَا تُطَهِّرُهُ الذَّكَاةُ.

ب- إِهَابُ الْمَيْتَةِ:

3- إِهَابُ الْمَيْتَةِ نَجَسٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ بِالِاتِّفَاقِ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ مِنْ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَإِذَا دُبِغَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ عَلَى اتِّجَاهَاتٍ.

4- الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنَ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغَةِ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- وَلَيْسَ بِمُحَرَّرٍ عَنْهُ كَمَا حَقَّقْنَاهُ- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ».

5- الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ جُلُودَ الْمَيْتَةِ كُلِّهَا- وَمِنْهَا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ- تَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَرْوِيٌّ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَصَرَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ، إِذْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ خِنْزِيرٍ وَغَيْرِهِ.

6- الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ جُلُودُ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَيِّتَةِ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ، وَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ ظَاهِرُ الْجِلْدِ وَبَاطِنُهُ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ وَالْمَائِعَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْخِنْزِيرِ فَقَدْ كَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} حَيْثُ جَعَلُوا الضَّمِيرَ فِي (إِنَّهُ) عَائِدًا إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَلِمَةُ (خِنْزِيرٍ).

7- الِاتِّجَاهُ الرَّابِعُ: كَالثَّالِثِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الدِّبَاغَةَ لَا تُطَهِّرُ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ، حَيْثُ قَاسُوا الْكَلْبَ عَلَى الْخِنْزِيرِ لِلنَّجَاسَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ.

8- الِاتِّجَاهُ الْخَامِسُ: كَالثَّالِثِ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الدِّبَاغَةَ لَا تُطَهِّرُ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَالْفِيلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ.

9- الِاتِّجَاهُ السَّادِسُ: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ جِلْدُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَلَا يَطْهُرُ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ «بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْأُهُبِ دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا» أَيْ كَذَكَاتِهَا (وَالذَّكَاةُ) الْمُشَبَّهُ بِهَا فِي الْحَدِيثِ لَا يَحِلُّ بِهَا غَيْرُ الْمَأْكُولِ، فَكَذَلِكَ (الدِّبَاغُ) الْمُشَبَّهُ لَا يُطَهِّرُ جِلْدَ غَيْرِ الْمَأْكُولِ.

10- الِاتِّجَاهُ السَّابِعُ: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ ظَاهِرُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ دُونَ بَاطِنِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ دُونَ الْمَائِعَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ- رحمه الله- (.وَشَبِيهٌ بِهَذَا الِاتِّجَاهِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغِ فِي الْيَابِسَاتِ.

ذَبْحُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ مِنْ أَجْلِ إِهَابِهِ:

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حِلِّ ذَبْحِ أَوْ صَيْدِ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ مِنْ أَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشِهِ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ ذَبْحِ مَا لَا يُؤْكَلُ، كَبَغْلٍ وَحِمَارٍ لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ؛ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى حِلِّ اصْطِيَادِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؛ لِمَنْفَعَةِ جِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشِهِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ غَايَةٌ مَشْرُوعَةٌ.وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ مُسَوِّغًا لِذَكَاةِ مَا لَا يُؤْكَلُ.وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ.

بَيْعُ الْحَيَوَانِ مِنْ أَجْلِ إِهَابِهِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ حَيًّا مِنْ أَجْلِ إِهَابِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ: بَيْعُ غَيْرِ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ بَاطِلٌ، وَلَا نَظَرَ لِمَنْفَعَةِ الْجِلْدِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا لِمَنْفَعَةِ الرِّيشِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ لَا يُبِيحُونَ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ مِنْ أَجْلِ جِلْدِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ حَيًّا، كَالسَّبُعِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ وَالْهِرِّ وَنَحْوِهِ لِلْجِلْدِ؛ لِأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا الِانْتِفَاعَ بِالْجِلْدِ مَنْفَعَةً مَشْرُوعَةً مَقْصُودَةً، فَصَارَ الْحَيَوَانُ مُنْتَفَعًا بِهِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ.

سَلْخُ إِهَابِ الذَّبِيحَةِ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ سَلْخِ إِهَابِ الذَّبِيحَةِ قَبْلَ زَهُوقِ رُوحِهَا؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ، يَصِيحُ فِي فِجَاجِ مِنًى: لَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ أَنْ تُزْهَقَ».وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ أَلَمِ الْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إِحْسَانِ الذِّبْحَةِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ: «وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ».فَإِنْ سَلَخَ إِهَابَهَا قَبْلَ أَنْ تُزْهَقَ رُوحُهَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَجَازَ أَكْلُهَا؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ أَلَمِهَا لَا تَقْتَضِي تَحْرِيمَ أَكْلِهَا.

بَيْعُ إِهَابِ الْأُضْحِيَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الْإِهَابَ وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ إِلَى الْجَزَّارِ أُجْرَةً لَهُ عَلَى ذَبْحِهَا.

وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ بَيْعِ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ.

فَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مُقَايَضَةً بِآلَةِ الْبَيْتِ كَالْغِرْبَالِ وَالْمُنْخُلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا تَبْقَى عَيْنُهُ دُونَ مَا يُسْتَهْلَكُ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ، فَجَرَى مَجْرَى تَفْرِيقِ اللَّحْمِ، فَإِنْ بَاعَهُ بِدَرَاهِمَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَ، إِلاَّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.

وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ إِهَابِ الْأُضْحِيَّةِ مُطْلَقًا لَا بِآلَةِ الْبَيْتِ وَلَا بِغَيْرِهَا.

أَمَّا الْكَلَامُ عَنْ دِبَاغِ الْإِهَابِ فَيُنْظَرُ فِي (دِبَاغَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-موسوعة الفقه الكويتية (بتر)

بَتْرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْبَتْرُ لُغَةً: اسْتِئْصَالُ الشَّيْءِ بِالْقَطْعِ، يُقَالُ: بَتَرَ الذَّنَبَ أَوِ الْعُضْوَ: إِذَا قَطَعَهُ وَاسْتَأْصَلَهُ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى قَطْعِ الشَّيْءِ دُونَ تَمَامٍ، بِأَنْ يَبْقَى مِنَ الْعُضْوِ شَيْءٌ.

وَقَدِ اسْتُعْمِلَ اصْطِلَاحًا بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ قَطْعٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَيْفٌ بَتَّارٌ أَيْ قَاطِعٌ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- الْبَتْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُدْوَانًا بِجِنَايَةٍ، عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ.وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ، كَقَطْعِ الْيَدِ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا.وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ وَسَائِلِ الْعِلَاجِ بِقَطْعِ الْيَدِ الْمُصَابَةِ بِالْأَكِلَةِ لِمَنْعِ السِّرَايَةِ لِلْبَدَنِ.

تَطْهِيرُ مَوْضِعِ الْبَتْرِ:

3- مَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ غَسَلَ مَا بَقِيَ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَإِنْ قُطِعَتْ مِنَ الْمِرْفَقِ غَسَلَ الْعَظْمَ الَّذِي هُوَ طَرَفُ الْعَضُدِ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الْعَظْمَيْنِ الْمُتَلَاقِيَيْنِ مِنَ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَاجِبٌ، فَإِذَا زَالَ أَحَدُهُمَا غُسِلَ الْآخَرُ.وَإِنْ كَانَ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقَيْنِ سَقَطَ الْغَسْلُ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ (الْوُضُوءُ، وَالْغُسْلُ).

بَتْرُ الْأَعْضَاءِ لِضَرُورَةٍ:

4- يَجُوزُ بَتْرُ عُضْوٍ فَاسِدٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، خَوْفًا عَلَى سَلَامَةِ الْجِسْمِ مِنِ انْتِشَارِ الْعِلَّةِ فِي الْجَمِيعِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (طِبّ، وَتَدَاوٍ).

بَتْرُ الْأَعْضَاءِ فِي الْجِنَايَاتِ:

5- بَتْرُ أَعْضَاءِ الْغَيْرِ عَمْدًا عُدْوَانًا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، بِشُرُوطِهِ الْمُبَيَّنَةِ فِي مَبَاحِثِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَقَدْ يُعْدَلُ عَنِ الْقِصَاصِ لِأَسْبَابٍ مُعَيَّنَةٍ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهَا. (ر: قِصَاص- جِنَايَات).

أَمَّا بَتْرُ الْعُضْوِ خَطَأً فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ الْمُقَدَّرَةُ لِذَلِكَ الْعُضْوِ شَرْعًا أَوِ الْأَرْشُ بِالِاتِّفَاقِ.وَيَخْتَلِفُ مِقْدَارُهَا بِاخْتِلَافِ الْعُضْوِ الْمَبْتُورِ. (ر: دِيَات).

أَعْضَاءُ الْحَيَوَانِ الْمَبْتُورَةُ:

6- مَا بُتِرَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ حُكْمُهُ حُكْمُ مَيْتَتِهِ، فِي حِلِّ أَكْلِهِ وَفِي نَجَاسَتِهِ أَوْ طَهَارَتِهِ.فَلَوْ قُطِعَ طَرَفُ شَاةٍ أَوْ فَخِذُهَا لَمْ يَحِلَّ، وَلَوْ ضَرَبَ سَمَكَةً فَقَطَعَ جُزْءًا مِنْهَا حَلَّ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ مَيْتَتَهَا حَلَالٌ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ- وَهِيَ حَيَّةٌ- فَهُوَ كَمَيِّتٍ».

وَهَذَا عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ. (ر: صَيْد: ذَبَائِح)

وَمَا بُتِرَ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ فِي الْجُمْلَةِ، فِي وُجُوبِ تَغْسِيلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ وَفِي النَّظَرِ إِلَيْهِ (ر: جَنَائِز).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


16-موسوعة الفقه الكويتية (بخار)

بُخَارٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْبُخَارُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا: مَا يَتَصَاعَدُ مِنَ الْمَاءِ أَوِ النَّدَى أَوْ أَيِّ مَادَّةٍ رَطْبَةٍ تَتَعَرَّضُ لِلْحَرَارَةِ.وَيُطْلَقُ الْبُخَارُ أَيْضًا عَلَى: دُخَانِ الْعُودِ وَنَحْوِهِ.وَعَلَى: كُلِّ رَائِحَةٍ سَاطِعَةٍ مِنْ نَتْنٍ أَوْ غَيْرِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْبَخَرُ:

2- الْبَخَرُ هُوَ: الرَّائِحَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ مِنَ الْفَمِ.قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْبَخَرُ: النَّتْنُ يَكُونُ فِي الْفَمِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَبْخَرُ، وَهِيَ بَخْرَاءُ.وَاسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلْبَخَرِ مَخْصُوصٌ بِالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ فِي الْفَمِ فَقَطْ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبُخَارِ:

لِلْبُخَارِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ، فَقَدْ يَكُونُ طَاهِرًا، وَقَدْ يَكُونُ نَجِسًا، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ جَوَازُ أَوْ عَدَمُ جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِمَا تَقَاطَرَ مِنَ الْبُخَارِ.

أ- رَفْعُ الْحَدَثِ بِمَا جُمِعَ مِنَ النَّدَى:

3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِالنَّدَى، وَهُوَ الْمُتَجَمِّعُ عَلَى أَوْرَاقِ الشَّجَرِ إِذَا جُمِعَ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُطْلَقٌ.

أَمَّا مَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ النَّدَى: نَفَسُ دَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ، وَمِنْ ثَمَّ فَهَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.

ب- رَفْعُ الْحَدَثِ بِمَا جُمِعَ مِنَ الْبُخَارِ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ التَّطَهُّرِ مِنَ الْحَدَثِ وَتَطْهِيرِ النَّجَسِ بِمَا جُمِعَ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ الْمَغْلِيِّ بِوَقُودٍ طَاهِرٍ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُطْلَقٌ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، خِلَافًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيُّ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَاءً، بَلْ هُوَ بُخَارٌ.

أَمَّا الْبُخَارُ الْمُتَأَثِّرُ بِدُخَانِ النَّجَاسَةِ فَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي طَهَارَتِهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي دُخَانِ النَّجَاسَةِ، هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ وَبُخَارَهَا طَاهِرَانِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ.وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ الْبُخَارَ الْمُتَصَاعِدَ مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ طَهُورٌ يُزِيلُ الْحَدَثَ وَالنَّجَسَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ نَجِسٌ كَأَصْلِهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْبُخَارُ الْمُتَأَثِّرُ بِدُخَانِ النَّجَاسَةِ نَجِسٌ لَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِهِ، لَكِنْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ.

وَأَمَّا الْبُخَارُ الْمُتَصَاعِدُ مِنَ الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِهَا- كَالْغَازَاتِ الْكَرِيهَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ النَّجَاسَةِ- إِذَا عَلِقَتْ بِالثَّوْبِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْجَسُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، تَخْرِيجًا عَلَى الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهَا لَا تَنْجَسُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ سَرَاوِيلُهُ مُبْتَلَّةً أَمْ لَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَقِيَّةَ الْمَذَاهِبِ لَا تُخَالِفُ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


17-موسوعة الفقه الكويتية (بسملة)

بَسْمَلَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْبَسْمَلَةُ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ: قَوْلُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.يُقَالُ: بَسْمَلَ بَسْمَلَةً: إِذَا قَالَ أَوْ كَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ.وَيُقَالُ: أَكْثِرْ مِنَ الْبَسْمَلَةِ، أَيْ أَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: بِسْمِ اللَّهِ.قَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ- تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَدَّبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- بِتَعْلِيمِهِ ذِكْرَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَمَامَ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا، وَسَبِيلًا يَتَّبِعُونَهُ عَلَيْهَا، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِذَا افْتَتَحَ تَالِيًا سُورَةً، يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ مُرَادَهُ أَقْرَأُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَفْعَالِ.

الْبَسْمَلَةُ جُزْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:

2- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ جُزْءٌ مِنْ آيَةٍ فِي قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا أَيَّةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ.وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمَا قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ هُوَ: إِنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَإِنَّهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ، وَذُكِرَتْ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» فَالْبَدَاءَةُ بِقَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ.إِذْ لَوْ كَانَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ لَبَدَأَ بِهَا، وَأَيْضًا: لَوْ كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ آيَةً مِنْهَا لَمْ تَتَحَقَّقِ الْمُنَاصَفَةُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَرْبَعُ آيَاتٍ إِلاَّ نِصْفًا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ؛ وَلِأَنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ.وَهِيَ ثَلَاثُ آيَاتٍ بِدُونِ الْبَسْمَلَةِ.وَوَرَدَ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مَا سَبَقَ.

فَفِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ أَنَّ الْمُعَلَّى قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ قَالَ: مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كُلُّهُ قُرْآنٌ، فَهَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ بَيَانُ أَنَّهَا آيَةٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ، وَلِهَذَا كُتِبَتْ بِخَطٍّ عَلَى حِدَةٍ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَةُ التَّسْمِيَةِ عَلَى وَجْهِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا قُرْآنًا حُرْمَةَ قِرَاءَتِهَا عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا قُرْآنًا الْجَهْرُ بِهَا كَالْفَاتِحَةِ...وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانِ: لِمَ لَمْ تُكْتَبِ التَّسْمِيَةُ بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالْأَنْفَالِ، قَالَ: لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، فَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تُوُفِّيَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا شَأْنَهَا، فَرَأَيْتُ أَوَّلَهَا يُشْبِهُ أَوَاخِرَ الْأَنْفَالِ، فَأَلْحَقْتُهَا بِهَا، فَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، فَإِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ آيَةٍ، وَيُكْرَهُ قِرَاءَتُهَا بِصَلَاةِ فَرْضٍ- لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ- قَبْلَ فَاتِحَةٍ أَوْ سُورَةٍ بَعْدَهَا، وَقِيلَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِإِبَاحَتِهَا، وَنَدْبِهَا، وَوُجُوبِهَا فِي الْفَاتِحَةِ.

وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْفَاتِحَةِ؛ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قَرَأْتُمُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فَاقْرَءُوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَإِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْهَا» وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِخَطِّهِمْ، وَلَمْ يُثْبِتُوا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ سِوَى الْقُرْآنِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ.وَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَعَدَّهَا آيَةً، {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آيَتَيْنِ».وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَنْ تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مُفْرَدَةٌ، كَانَتْ تَنْزِلُ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ فَصْلًا بَيْنَ السُّوَرِ.وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَمَا أُنْزِلَتْ إِلاَّ فِيهَا.وَعَنْهُ أَيْضًا: الْبَسْمَلَةُ لَيْسَتْ بِآيَةٍ إِلاَّ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَحْدَهَا.

3- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ كَامِلَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَعَدَّهَا آيَةً مِنْهَا» وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ سَبْعُ آيَاتٍ، إِحْدَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».وَعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- كَانَ إِذَا افْتَتَحَ السُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ يَقْرَأُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قَرَأْتُمُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فَاقْرَءُوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِحْدَى آيَاتِهَا»، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوهَا فِيمَا جَمَعُوا مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ بِخَطِّ الْقُرْآنِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَكْتُوبٍ بِخَطِّ الْقُرْآنِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْبَسْمَلَةُ مَوْجُودَةٌ بَيْنَهُمَا، فَوَجَبَ جَعْلُهَا مِنْهُ.وَاتَّفَقَ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّهَا آيَةٌ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لَا يُعَدُّ كَافِرًا.لِلْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمَذَاهِبِ.

حُكْمُ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ:

4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى حُرْمَةِ قِرَاءَتِهَا عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ بِقَصْدِ التِّلَاوَةِ؛ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: «لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ وَلَا الْحَائِضُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ».وَرُوِيَتْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَحْجُبُهُ- وَرُبَّمَا قَالَ لَا يَحْجِزُهُ- مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ».وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ».فَلَوْ قَصَدَ الدُّعَاءَ أَوِ الثَّنَاءَ أَوِ افْتِتَاحَ أَمْرٍ تَبَرُّكًا، وَلَمْ يَقْصِدِ الْقِرَاءَةَ، فَلَا بَأْسَ.وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ لِلْمَالِكِيَّةِ: لَا يَحْرُمُ قِرَاءَةُ آيَةٍ لِلتَّعَوُّذِ أَوِ الرُّقْيَةِ، وَلَوْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ.

كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، مَا دَامَتِ الْمَرْأَةُ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ بِقَصْدِ التَّعَلُّمِ أَوِ التَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ قَادِرَةٍ عَلَى إِزَالَةِ الْمَانِعِ، أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ وَلَمْ تَتَطَهَّرْ، فَلَا تَحِلُّ لَهَا قِرَاءَتُهُ كَمَا لَا تَحِلُّ لِلْجُنُبِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِثْنَاءِ التَّسْمِيَةِ مِنَ التَّحْرِيمِ: أَنَّ لَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ اغْتِسَالِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُهُمُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ اللَّهَ فِي كُلِّ أَحْيَانِهِ».وَإِنْ قَصَدُوا بِهَا الْقِرَاءَةَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجُنُبِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: لَا وَلَوْ حَرْفًا؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي النَّهْيِ، وَالثَّانِيَةُ: لَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْجَازُ، وَيَجُوزُ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقُرْآنَ.

(ر: الْجَنَابَة، وَالْحَيْض، وَالْغُسْل، وَالنِّفَاس).

الْبَسْمَلَةُ فِي الصَّلَاةِ:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، فِي رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ.

وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يُسَنُّ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ سِرًّا لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ، وَلَا يُسَنُّ قِرَاءَتُهَا بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَذُكِرَتْ فِي أَوَّلِهَا لِلتَّبَرُّكِ.قَالَ الْمُعَلَّى: إِنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَالْآثَارِ فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يُسَنُّ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ سِرًّا بَيْنَ السُّورَةِ وَالْفَاتِحَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى مُتَابَعَةِ الْمُصْحَفِ، وَإِذَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ جَهْرًا فَلَا يُؤْتَى بِالْبَسْمَلَةِ بَيْنَ السُّورَةِ وَالْفَاتِحَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ لأَخْفَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَكْتَةً فِي وَسَطِ الْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَأْثُورًا.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ فِي الْمَذْهَبِ: تَجِبُ بِدَايَةُ الْقِرَاءَةِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ.

وَحُكْمُ الْمُقْتَدِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ لِحَمْلِ إِمَامِهِ عَنْهُ، وَلَا تُكْرَهُ التَّسْمِيَةُ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ الْمَقْرُوءَةِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا.وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ، فَلَا تُقْرَأُ فِي الْمَكْتُوبَةِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا مِنَ الْإِمَامِ أَوِ الْمَأْمُومِ أَوِ الْمُنْفَرِدِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا». وَيُكْرَهُ قِرَاءَتُهَا بِفَرْضٍ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ أَوِ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ بِالْجَوَازِ.

وَفِي رِوَايَةٍ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سِرًّا أَوْ جَهْرًا.وَلِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ فِي حُكْمِ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْوَرَعُ الْبَسْمَلَةُ أَوَّلَ الْفَاتِحَةِ، وَقَالَ: مَحَلُّ كَرَاهَةِ الْإِتْيَانِ بِالْبَسْمَلَةِ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلَافِ الْوَارِدِ فِي الْمَذْهَبِ، فَإِنْ قَصَدَهُ فَلَا كَرَاهَةَ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ فِي قِيَامِهَا قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّلَاةُ فَرْضًا أَمْ نَفْلًا، سِرِّيَّةً أَوْ جَهْرِيَّةً، لِحَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ سَبْعُ آيَاتٍ، إِحْدَاهُنَّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَلِلْخَبَرِ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَيَدُلُّ عَلَى دُخُولِ الْمَأْمُومِينَ فِي الْعُمُومِ مَا صَحَّ عَنْ عُبَادَةَ: «كُنَّا نَخْلُفُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ، قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» وَتُقْرَأُ الْبَسْمَلَةُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ كُلِّ سُورَةٍ فِي رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، وَيُجْهَرُ بِهَا فِي حَالَةِ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، وَكَذَا يُسَرُّ بِهَا مَعَهُمَا، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ.

وَعَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَجِبُ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ وَمَعَ كُلِّ سُورَةٍ فِي رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ؛ لِحَدِيثِ «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ...» وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِخَطِّهِمْ، وَلَمْ يُثْبِتُوا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ سِوَى الْقُرْآنِ.

وَعَلَى الْأَصَحِّ: يُسَنُّ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيُسْتَفْتَحُ بِهَا السُّورَةُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَيُسَرُّ بِهَا؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُسِرُّ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاةِ».

وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ فِي قُرْآنِيَّةِ الْبَسْمَلَةِ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ وَالْمَأْمُومِ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ.

هَذَا، وَتُقْرَأُ الْبَسْمَلَةُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَالِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، أَمَّا فِيمَا بَعْدَهَا فَإِنَّهُ يَقْرَؤُهَا بَعْدَ تَكْبِيرِ الْقِيَامِ إِلَى تِلْكَ الرَّكْعَةِ، وَتُقْرَأُ الْبَسْمَلَةُ فِي حَالِ الْقِيَامِ، إِلاَّ إِذَا صَلَّى قَاعِدًا لِعُذْرٍ، فَيَقْرَؤُهَا قَاعِدًا وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (الصَّلَاة)

مَوَاطِنُ أُخْرَى لِلْبَسْمَلَةِ:

أ- التَّسْمِيَةُ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْمِيَةِ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، وَذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ الْخَلَاءِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ: (قَضَاءُ الْحَاجَةِ).

ب- التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْوُضُوءِ:

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ، وَسَنَدُهُمْ فِيمَا قَالُوا: أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ التَّسْمِيَةِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْمُتَوَضِّئِ الطَّهَارَةُ، وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ لَا يَقْدَحُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ طَهُورًا فِي الْأَصْلِ، فَلَا تَتَوَقَّفُ طَهُورِيَّتُهُ عَلَى صُنْعِ الْعَبْدِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ كَانَ طَهُورًا لِمَا أَصَابَ مِنْ بَدَنِهِ» وَإِنْ نَسِيَ الْمُتَوَضِّئُ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ، وَذَكَرَهَا فِي أَثْنَائِهِ، أَتَى بِهَا، حَتَّى لَا يَخْلُوَ الْوُضُوءُ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الْوُضُوءِ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ قَوْلُ (بِاسْمِ اللَّهِ) لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَاسْتَدَلُّوا لِوُجُوبِهَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ، وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» وَتَسْقُطُ التَّسْمِيَةُ حَالَةَ السَّهْوِ تَجَاوُزًا؛ لِحَدِيثِ: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

فَإِنْ ذَكَرَ الْمُتَوَضِّئُ التَّسْمِيَةَ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ سَمَّى وَبَنَى، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ تَصِحَّ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَالْأَخْرَسُ وَالْمُعْتَقَلُ لِسَانُهُ يُشِيرُ بِهَا.

ج- التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الذَّبْحِ.

لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَلَا تَجِبُ التَّسْمِيَةُ عَلَى نَاسٍ، وَلَا أَخْرَسَ، وَلَا مُكْرَهٍ، وَيَكْفِي مِنَ الْأَخْرَسِ أَنْ يُومِئَ إِلَى السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ إِشَارَتَهُ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِ النَّاطِقِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَصِيغَتُهَا أَنْ يَقُولَ: (بِاسْمِ اللَّهِ) عِنْدَ الْفِعْلِ؛ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي صِفَةِ ذَبْحِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لأُِضْحِيَّتِهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَتَى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ عَظِيمَيْنِ مَوْجُوأَيْنِ، فَأَضْجَعَ أَحَدَهُمَا فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَضْجَعَ الْآخَرَ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ مِمَّنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ».

وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَعَمُّدُ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ، وَلَكِنْ لَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا يَحِلُّ مَا ذَبَحَهُ وَيُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وَهُمْ لَا يَذْكُرُونَهَا (التَّسْمِيَةَ)، وَأَمَّا قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فَالْمُرَادُ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ، أَيْ مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ، بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وَسِيَاقُ الْآيَةِ دَالٌّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَالْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا فِسْقًا هِيَ الْإِهْلَالُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

د- التَّسْمِيَةُ عَلَى الصَّيْدِ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ صَيْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَالْمُرَادُ بِهَا: ذِكْرُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، لَا خُصُوصُ (بِاسْمِ اللَّهِ) وَالْأَفْضَلُ بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْبَسْمَلَةِ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَلَا الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الرَّمْيِ أَوِ الْإِرْسَالِ لِلْمُعَلَّمِ إِنْ ذَكَرَ وَقَدَرَ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْفِعْلِ مِنَ الرَّامِي وَالْمُرْسِلِ، فَتُعْتَبَرُ عِنْدَهُ.فَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أَوْ عَجْزًا يَحِلُّ وَيُؤْكَلُ، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَلَا، لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} عَلَى مَعْنَى وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا تُرِكَتِ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَخَالَفَ ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَالَ: التَّسْمِيَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الذَّكَاةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} لَا تَأْكُلُوا الْمَيْتَةَ الَّتِي لَمْ تُقْصَدْ ذَكَاتُهَا؛ لِأَنَّهَا فِسْقٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الصَّيْدِ سُنَّةٌ، وَصِيغَتُهَا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْفِعْلِ: بِاسْمِ اللَّهِ، وَالْأَكْمَلُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الذَّبْحِ لِلْأُضْحِيَّةِ، وَقِيسَ بِمَا فِيهِ غَيْرُهُ، وَيُكْرَهُ تَعَمُّدُ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ.فَلَوْ تَرَكَهَا- وَلَوْ عَمْدًا- يَحِلُّ وَيُؤْكَلُ لِلدَّلِيلِ الْمُبَيَّنِ فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ. وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ (ر: ذَبَائِح).

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ فِي حِلِّ الصَّيْدِ عِنْدَ إِرْسَالِ الْجَارِحِ الْمُعَلَّمِ، وَهِيَ: بِاسْمِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ التَّسْمِيَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَلَا بَأْسَ لِوُرُودِهِ، فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَمْ يُبَحْ عَلَى التَّحْقِيقِ؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ، قُلْتُ: فَإِنْ أَخَذَ مَعَهُ آخَرَ؟ قَالَ: لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ» وَالْفَرْقُ بَيْنَ الذَّبْحِ وَالصَّيْدِ فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الذَّبْحَ وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ، فَجَازَ أَنْ يُتَسَامَحَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِنِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ، بِخِلَافِ الصَّيْدِ، فَلَا يُتَسَامَحُ فِي نِسْيَانِهَا فِيهِ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الصَّيْدِ يُبَاحُ وَيُؤْكَلُ، وَعَنْهُ أَيْضًا: إِنْ نَسِيَهَا عَلَى السَّهْمِ أُبِيحَ، وَإِنْ نَسِيَهَا عَلَى الْجَارِحَةِ لَمْ يُبَحْ.

وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ (ر: صَيْد). هـ- التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ:

10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الْبَدْءِ فِي الْأَكْلِ مِنَ السُّنَنِ.وَصِيغَتُهَا: بِسْمِ اللَّهِ وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإِنْ نَسِيَهَا فِي أَوَّلِهِ سَمَّى فِي بَاقِيهِ، وَيَقُولُ: بِاسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ».

و- التَّسْمِيَةُ عِنْدَ التَّيَمُّمِ:

11- التَّسْمِيَةُ عِنْدَ التَّيَمُّمِ مَشْرُوعَةٌ: سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَصِيغَتُهَا: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْأَكْمَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ التَّيَمُّمِ وَذَكَرَهَا فِي أَثْنَائِهِ أَتَى بِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَا يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ فَعَلَهَا يُثَابُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ التَّيَمُّمِ وَاجِبَةٌ وَهِيَ: بِاسْمِ اللَّهِ، لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَوَقْتُهَا أَوَّلُهُ، وَتَسْقُطُ سَهْوًا لِحَدِيثِ: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ...» وَإِنْ ذَكَرَهَا فِي أَثْنَائِهِ سَمَّى وَبَنَى، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا حَتَّى مَسَحَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ، وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ مَا فَعَلَهُ، لَمْ تَصِحَّ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَى طَهَارَتِهِ.

ز- التَّسْمِيَةُ لِكُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ:

12- اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَشْرُوعَةٌ لِكُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ، عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَتُقَالُ عِنْدَ الْبَدْءِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالْأَذْكَارِ، وَرُكُوبِ سَفِينَةٍ وَدَابَّةٍ، وَدُخُولِ الْمَنْزِلِ وَمَسْجِدٍ، أَوْ خُرُوجٍ مِنْهُ، وَعِنْدَ إِيقَادِ مِصْبَاحٍ أَوْ إِطْفَائِهِ، وَقَبْلَ وَطْءٍ مُبَاحٍ، وَصُعُودِ خَطِيبٍ مِنْبَرًا، وَنَوْمٍ، وَالدُّخُولِ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ، وَتَغْطِيَةِ الْإِنَاءِ، وَفِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ، وَعِنْدَ تَغْمِيضِ مَيِّتٍ وَلَحْدِهِ فِي قَبْرِهِ، وَوَضْعِ الْيَدِ عَلَى مَوْضِعِ أَلَمٍ بِالْجَسَدِ، وَصِيغَتُهَا (بِاسْمِ اللَّهِ)، وَالْأَكْمَلُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ أَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا فَلَا شَيْءَ، وَيُثَابُ إِنْ فَعَلَ.

وَمِمَّا وَرَدَ: حَدِيثُ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ»، وَفِي رِوَايَةٍ «فَهُوَ أَقْطَعُ» وَفِي أُخْرَى «فَهُوَ أَجْذَمُ»، وَمَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا...» الْحَدِيثَ.

وَحَدِيثُ: «أَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ...»

وَحَدِيثُ: «إِذَا عَثَرَتْ بِكَ الدَّابَّةُ فَلَا تَقُلْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ يَتَعَاظَمُ، حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الْبَيْتِ، وَيَقُولُ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإِنَّهُ يَتَصَاغَرُ، حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الذُّبَابِ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


18-موسوعة الفقه الكويتية (بنج)

بَنْجٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْبَنْجُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ: نَبَاتٌ مُخَدِّرٌ، غَيْرُ الْحَشِيشِ، مُسَكِّنٌ لِلْأَوْجَاعِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْأَفْيُونُ:

2- الْأَفْيُونُ: عُصَارَةٌ لَيِّنَةٌ يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْخَشْخَاشِ، وَيَحْتَوِي عَلَى ثَلَاثِ مَوَادَّ مُنَوِّمَةٍ مِنْهَا الْمُورْفِينُ.

ب- الْحَشِيشَةُ:

3- الْحَشِيشَةُ: نَوْعٌ مِنْ وَرَقِ الْقُنَّبِ الْهِنْدِيِّ يُسْكِرُ جِدًّا إِذَا تَنَاوَلَ مِنْهُ قَدْرَ دِرْهَمٍ.هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ.لَكِنْ قَالَ الْقَرَافِيُّ- بَعْدَ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُفْسِدِ (أَيِ الْمُخَدِّرِ) - وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَك أَنَّ الْحَشِيشَةَ مُفْسِدَةٌ وَلَيْسَتْ مُسْكِرَةً، ثُمَّ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِكَلَامٍ نَفِيسٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْفُرُوقِ.

الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِي تَنَاوُلِهِ:

4- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَيُعَزَّرُ بِالسُّكْرِ مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّدَاوِي بِهِ وَاسْتِعْمَالُهُ لِإِزَالَةِ الْعَقْلِ لِقَطْعِ عُضْوٍ مُتَآكِلٍ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي حُكْمِ تَنَاوُلِ الْبَنْجِ لِغَيْرِ التَّدَاوِي وَوُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّكْرَانِ مِنْهُ.

عُقُوبَةُ تَنَاوُلِهِ:

5- يُعَرِّفُ الْفُقَهَاءُ مَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَعَاطِيهِ الْحَدُّ بِأَنَّهُ: كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ.وَبِنَاءً عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ ذَهَبَ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّكْرَانِ مِنَ الْبَنْجِ وَنَظَائِرِهِ مِنَ الْجَامِدَاتِ، وَإِنْ كَانَ مُذَابًا وَقْتَ التَّعَاطِي، وَلَكِنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَةً تَعْزِيرِيَّةً.

حُكْمُ طَهَارَتِهِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِنَجَاسَةِ الْمُسْكِرِ أَنْ يَكُونَ مَائِعًا.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

7- يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْأَشْرِبَةِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالطَّلَاقِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


19-موسوعة الفقه الكويتية (تحول 1)

تَحَوُّلٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّحَوُّلُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ تَحَوَّلَ، وَمَعْنَاهُ: التَّنَقُّلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا: الزَّوَالُ، كَمَا يُقَالُ: تَحَوَّلَ عَنِ الشَّيْءِ أَيْ: زَالَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.

وَكَذَلِكَ: التَّغَيُّرُ وَالتَّبَدُّلُ.وَالتَّحْوِيلُ مَصْدَرُ حَوَّلَ، وَهُوَ: النَّقْلُ، فَالتَّحَوُّلُ مُطَاوِعٌ وَأَثَرٌ لِلتَّحْوِيلِ.

وَيَقْصِدُ الْفُقَهَاءُ بِالتَّحَوُّلِ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِي اللُّغَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الِاسْتِحَالَةُ:

2- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِحَالَةِ لُغَةً: تَغَيُّرُ الشَّيْءِ عَنْ طَبْعِهِ وَوَصْفِهِ، أَوْ عَدَمُ الْإِمْكَانِ.

فَالِاسْتِحَالَةُ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى التَّحَوُّلِ، كَاسْتِحَالَةِ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ مِنَ الْعَذِرَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَتَحَوُّلِهَا عَنْ أَعْيَانِهَا وَتَغَيُّرِ أَوْصَافِهَا، وَذَلِكَ بِالِاحْتِرَاقِ، أَوْ بِالتَّخْلِيلِ، أَوْ بِالْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

أَحْكَامُ التَّحَوُّلِ:

لِلتَّحَوُّلِ أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاطِنِهَا، أَهَمُّهَا مَا يَلِي:

أ- تَحَوُّلُ الْعَيْنِ وَأَثَرُهُ فِي الطَّهَارَةِ وَالْحِلِّ:

3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى: أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَرَمَادُ النَّجِسِ لَا يَكُونُ نَجِسًا، وَلَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا مِلْحٌ كَانَ حِمَارًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَلَا نَجِسٌ وَقَعَ فِي بِئْرٍ فَصَارَ طِينًا، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ إِذَا صَارَتْ خَلًّا سَوَاءٌ بِنَفْسِهَا أَوْ بِفِعْلِ إِنْسَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِانْقِلَابِ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، فَيَنْتَفِي بِانْتِقَائِهَا.فَإِذَا صَارَ الْعَظْمُ وَاللَّحْمُ مِلْحًا أَخَذَا حُكْمَ الْمِلْحِ؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ غَيْرُ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ.

وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: الْعَلَقَةُ فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ، فَإِذَا تَحَوَّلَتْ إِلَى الْمُضْغَةِ تَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ فَإِذَا تَحَوَّلَ خَمْرًا يَنْجُسُ.

فَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا: أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَالَ الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا.

وَالْأَصْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ: أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ لَا يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَالْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ يُلْقَى فِي الْمَلاَّحَةِ فَيَصِيرُ مِلْحًا، وَالدُّخَانُ الْمُتَصَاعِدُ مِنْ وُقُودِ النَّجَاسَةِ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارُ الْمُتَصَاعِدُ مِنْهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ مِنْهُ نَدَاوَةٌ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ، ثُمَّ قَطَّرَ، نَجِسٌ.

4- ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْخَمْرَ إِذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا فَتَطْهُرُ بِالتَّخَلُّلِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ النَّجَاسَةِ الْإِسْكَارُ وَقَدْ زَالَتْ، وَلِأَنَّ الْعَصِيرَ لَا يَتَخَلَّلُ إِلاَّ بَعْدَ التَّخَمُّرِ غَالِبًا، فَلَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِالطَّهَارَةِ تَعَذَّرَ الْحُصُولُ عَلَى الْخَلِّ، وَهُوَ حَلَالٌ بِالْإِجْمَاعِ.

وَأَمَّا إِنْ خُلِّلَتْ بِطَرْحِ شَيْءٍ فِيهَا بِفِعْلِ إِنْسَانٍ فَلَا تَطْهُرُ عِنْدَهُمْ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا لَوْ تَخَلَّلَتْ بِإِلْقَاءِ الرِّيحِ فَلَا تَطْهُرُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ دَخْلٌ فِي التَّخْلِيلِ كَبَصَلٍ وَخُبْزٍ حَارٍّ، أَمْ لَا كَحَصَاةٍ.

وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُلْقَاةُ طَاهِرَةً أَوْ نَجِسَةً.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ أَكْثَرُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيلٌ وَاسْتِحَالَةٌ).

ب- تَطْهِيرُ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ:

5- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَهُ عَلَى اتِّجَاهَاتٍ كَثِيرَةٍ.وَفِي الْمَوْضُوعِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ وَخِلَافٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ النَّجَاسَةِ وَكَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهَا، وَيُرَاجَعُ فِيهِ أَيْضًا مُصْطَلَحُ: (دِبَاغَةٌ).

ج- تَحَوُّلُ الْوَصْفِ أَوِ الْحَالَةِ:

تَحَوُّلُ الْمَاءِ الرَّاكِدِ إِلَى الْمَاءِ الْجَارِي:

6- الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ الرَّاكِدَ إِذَا تَحَوَّلَ إِلَى جَارٍ يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ جَرَيَانِهِ، وَالْجَارِي مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا بِأَنْ يَدْخُلَ الْمَاءَ مِنْ جَانِبٍ وَيَخْرُجَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ حَالَ دُخُولِهِ، وَإِنْ قَلَّ الْخَارِجُ، لِأَنَّهُ صَارَ جَارِيًا حَقِيقَةً، وَبِخُرُوجِ بَعْضِهِ وَقَعَ الشَّكُّ فِي بَقَاءِ النَّجَاسَةِ، فَلَا تَبْقَى مَعَ الشَّكِّ.

وَفِيهِ قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

الْأَوَّلُ: لَا يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ التَّحَوُّلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِ قَدْرِ مَا فِيهِ.

وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِ ثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِ.

وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ وَالْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِي: أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْحَوْضِ يَكُونُ طَاهِرًا بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ.وَلَا يَكُونُ طَاهِرًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ.

وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: الْبِئْرُ وَحَوْضُ الْحَمَّامِ وَالْأَوَانِي.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ يَتَحَوَّلُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ النَّجِسُ طَهُورًا بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِصَبِّ مَاءٍ مُطْلَقٍ عَلَيْهِ، قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، أَوْ مَاءٍ مُضَافٍ مُقَيَّدٍ انْتَفَتْ نَجَاسَتُهُ، أَمْ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ كَتُرَابٍ أَوْ طِينٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ أَحَدُ أَوْصَافِ مَا أُلْقِيَ فِيهِ.لِأَنَّ تَنَجُّسَهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ التَّغَيُّرِ وَقَدْ زَالَ، وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، كَالْخَمْرِ إِذَا صَارَتْ خَلًّا، وَفِي تَغَيُّرِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ قَوْلَانِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَا يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ نَجِسٍ، لِحَدِيثِ «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ».أَيْ لَا يَقْبَلُ النَّجِسَ.

هَذَا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَيَنْجُسُ لِحَدِيثِ: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ».

فَإِنْ تَغَيَّرَ وَصْفٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَنَجَّسَ، فَإِنْ زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَاءٍ انْضَمَّ إِلَيْهِ طَهُرَ.وَمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، فَإِنْ بَلَغَهُمَا بِمَاءٍ وَلَا تَغَيُّرَ بِهِ فَطَهُورٌ.وَلَوْ كَوْثَرٌ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَطْهُرْ.وَقِيلَ: هُوَ طَاهِرٌ لَا طَهُورٌ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَخْتَلِفُ تَطْهِيرُ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ بِالْمُكَاثَرَةِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالٍ ثَلَاثٍ لِلْمَاءِ: أَنْ يَكُونَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ زَائِدًا عَنْهُمَا.

(1) فَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَتَطْهِيرُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِمَاءٍ آخَرَ.

فَإِنِ اجْتَمَعَ نَجِسٌ إِلَى نَجِسٍ، فَالْكُلُّ نَجِسٌ وَإِنْ كَثُرَ، لِأَنَّ اجْتِمَاعَ النَّجِسِ إِلَى النَّجِسِ لَا يَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا طَاهِرٌ، كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَطْهُرَ إِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ وَبَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ، لِحَدِيثِ: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» وَحَدِيثِ: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَاءٌ غُيِّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ».

وَجَمِيعُ النَّجَاسَاتِ فِي هَذَا سَوَاءٌ، إِلاَّ بَوْلَ الْآدَمِيِّينَ وَعَذِرَتَهُمُ الْمَائِعَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تُنَجِّسُ الْمَاءَ الْكَثِيرَ، إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ حَدًّا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ كَالْغُدْرَانِ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ.

(2) فَإِنْ كَانَ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ:

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَيَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ إِذَا أَزَالَتِ التَّغَيُّرَ، أَوْ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَزُولَ تَغَيُّرُهُ بِطُولِ الْمُكْثِ.

(3) وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ: فَإِنْ كَانَ نَجِسًا بِغَيْرِ التَّغَيُّرِ فَلَا طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهِ بِغَيْرِ الْمُكَاثَرَةِ.

وَإِنْ كَانَ نَجِسًا مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ فَتَطْهِيرُهُ إِمَّا بِالْمُكَاثَرَةِ، أَوْ زَوَالِ تَغَيُّرِهِ بِمُكْثِهِ، أَوْ أَنْ يُنْزَحَ مِنْهُ مَا يَزُولُ بِهِ التَّغَيُّرُ، وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (طَهَارَةٌ).

التَّحَوُّلُ إِلَى الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْهَا:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ، فَفَرْضُهُ الصَّلَاةُ إِلَى عَيْنِهَا بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، بِأَنْ لَا يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْهُ عَنِ الْكَعْبَةِ وَلَوْ عُضْوًا، فَلَوْ تَحَوَّلَ بِغَيْرِ عُذْرٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

وَأَمَّا فِي تَحْوِيلِ الْوَجْهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوِ انْحَرَفَ وَجْهُهُ عَنْ عَيْنِ الْكَعْبَةِ انْحِرَافًا لَا تَزُولُ فِيهِ الْمُقَابَلَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ.

وَأَمَّا تَحْوِيلُ الصَّدْرِ عَنِ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَمُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: مَنِ الْتَفَتَ بِجَسَدِهِ كُلِّهِ عَنِ الْقِبْلَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، إِنْ بَقِيَتْ قَدَمَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ التَّحَوُّلَ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَامِدًا مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ، وَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ.وَفِي الْمَوْضُوعِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَالٌ).

التَّحَوُّلُ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ فِي الصَّلَاةِ:

8- التَّحَوُّلُ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، وَمِنْهُ إِلَى الِاسْتِلْقَاءِ أَوِ الِاضْطِجَاعِ مِنْ فُرُوعِ قَاعِدَةِ: «الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ» وَالْأَصْلُ فِيهَا قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ أَثْنَاءَهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ خَافَ زِيَادَةَ مَرَضٍ، أَوْ بُطْءَ بُرْئِهِ، أَوْ دَوَرَانَ رَأْسِهِ، أَوْ وَجَدَ لِقِيَامِهِ أَلَمًا شَدِيدًا وَنَحْوَهُ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْمَأَ مُسْتَلْقِيًا، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» زَادَ النَّسَائِيُّ: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا».

وَيُزَادُ فِي النَّافِلَةِ: أَنَّ لَهُ التَّحَوُّلَ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ بِلَا عُذْرٍ.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى كِتَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ.

تَحَوُّلُ الْمُقِيمِ إِلَى مُسَافِرٍ وَعَكْسُهُ:

أ- تَحَوُّلُ الْمُقِيمِ إِلَى مُسَافِرٍ:

9- يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَ مَقَامِهِ، وَجَاوَزَ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ تَوَابِعِ الْبَلَدِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ، قَاصِدًا الْمَسَافَةَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا السَّفَرُ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ.وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ نِيَّةُ الْمَتْبُوعِ لَا التَّابِعِ، حَتَّى تَصِيرَ الزَّوْجَةُ مُسَافِرَةً بِنِيَّةِ الزَّوْجِ، وَالْجُنْدِيُّ بِنِيَّةِ الْقَائِدِ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ.

ثَانِيهِمَا: إِذَا أَنْشَأَ السَّيْرَ بَعْدَ الْإِقَامَةِ.

وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).

ب- تَحَوُّلُ الْمُسَافِرِ إِلَى مُقِيمٍ:

10- يَصِيرُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا بِأَحَدِ الْأُمُورِ التَّالِيَةِ:

الْأَوَّلُ: الْعَوْدُ إِلَى الْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِيهِ.

وَالضَّبْطُ فِيهِ: أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي شَرَطَ الْفُقَهَاءُ مُفَارَقَتَهُ فِي إِنْشَاءِ السَّفَرِ مِنْهُ.

الثَّانِي: الْوُصُولُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَافِرُ إِلَيْهِ، إِذَا عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ الْقَدْرَ الْمَانِعَ مِنَ التَّرَخُّصِ، وَكَانَ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ.وَالْمُدَّةُ الْمَانِعَةُ مِنَ التَّرَخُّصِ خِلَافِيَّةٌ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).

الثَّالِثُ: إِذَا تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ بِبَلَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْهُ وَطَنًا، وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ.

الرَّابِعُ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الطَّرِيقِ: وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَنِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَاتِّحَادُ الْمَكَانِ، وَصَلَاحِيَّتُهُ لِلْإِقَامَةِ.

وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَنَحْوُهَا فَفِي انْقِطَاعِ السَّفَرِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).

الْخَامِسُ: الْإِقَامَةُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْأَصْلُ مُقِيمًا، فَيَصِيرَ التَّبَعُ أَيْضًا مُقِيمًا، بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ.

التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ:

الْكَلَامُ عَلَى التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:

أ- الزَّكَاةُ:

11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الزَّكَاةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.فَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ الْعَيْنَ أَوِ الْقِيمَةَ مِنَ النَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}.

نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَأْخُوذِ (صَدَقَةً) وَكُلُّ جِنْسٍ يَأْخُذُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ.

وَلِقَوْلِ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمُ: «ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَأْتِي بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ».

وَالْفِقْهُ فِيهِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ إِيصَالُ الرِّزْقِ الْمَوْعُودِ إِلَى الْفَقِيرِ، وَدَفْعُ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ أَيْضًا.قَالَ - عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ قُوتَ الْفُقَرَاءِ، وَسَمَّاهُ زَكَاةً».

وَفِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ هَلْ تُدْفَعُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْأَدَاءِ أَمْ يَوْمَ الْوُجُوبِ؟ خِلَافٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مَوْطِنِهِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: فَيَجُوزُ التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَقَطْ، فَيَجُوزُ لِلْمُزَكِّي أَنْ يُخْرِجَ فِي زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ بِقِيمَتِهَا، وَيُخْرِجَ عَنِ الْفِضَّةِ ذَهَبًا بِقِيمَتِهِ، قَلَّتِ الْقِيمَةُ أَوْ كَثُرَتْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّهِ، فَكَانَتْ بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهُمَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ.

وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ.

وَأَمَّا فِي الْمَوَاشِي: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَائِزٌ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ بِجَوَازِ الْقِيمَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ، وَلِئَلاَّ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِمَّا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ قَدْ بَخَسَ الْفُقَرَاءَ حَقَّهُمْ، إِلاَّ إِذَا أَجْبَرَ السَّاعِي الْمُزَكِّيَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَقَتِهِ، فَيُجْزِئُ عَنْهُ، إِذَا كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عِنْدَ مَحَلِّهَا.

وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُجْزِئُ إِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ.وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْإِبِلُ مِرَاضًا، أَوْ قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ لِعَيْبٍ أَجْزَأَ الْبَعِيرُ النَّاقِصُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ، وَإِنْ كَانَتْ صِحَاحًا سَلِيمَةً لَمْ يُجْزِئِ النَّاقِصُ.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (الزَّكَاةُ).

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّحَوُّلُ فِي الْمَاشِيَةِ مِنْ جِنْسٍ إِلَى آخَرَ وَلَا إِلَى الْقِيمَةِ..

ب- زَكَاةُ الْفِطْرِ:

12- التَّحَوُّلُ عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الْقِيمَةِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَأَمَّا التَّحَوُّلُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى آخَرَ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَقْوَاتِ، أَوِ التَّحَوُّلُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى وَعَكْسُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (زَكَاةُ الْفِطْرِ).

ج- الْعُشُورُ:

13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الْعُشُورِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الْعُشُورِ، وَذَلِكَ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّحَوُّلُ مِنَ الْوَاجِبِ إِلَى الْأَعْلَى فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ نَوْعًا وَاحِدًا.

وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَنْوَاعُ: أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِالْحِصَّةِ إِنْ لَمْ يَتَعَسَّرْ، فَإِنْ عَسُرَ أَخْذُ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِأَنْ كَثُرَتْ، وَقَلَّ ثَمَرُهَا فَفِيهِ أَوْجُهٌ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْوَسَطِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ.

وَالثَّانِي: يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِقِسْطِهِ.

وَالثَّالِثُ: مِنَ الْغَالِبِ، وَقِيلَ: يُؤْخَذُ الْوَسَطُ قَطْعًا.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُشْرٌ).

د- الْكَفَّارَاتُ:

14- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا تَعَيَّنَ، وَإِنْ كَانَ مُخَيَّرًا تَخَيَّرَ فِي الْخِصَالِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الشَّارِعُ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِنْ كَانَ مَالِيًّا إِلَى الْبَدَلِ فِي الْكَفَّارَاتِ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَاتٌ).

هـ- النُّذُورُ:

15- الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُعَيَّنًا وَغَيْرَ مُطْلَقٍ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ مِمَّا عَيَّنَهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنِ الْمُعَيَّنِ إِلَى غَيْرِهِ بَدَلًا أَوْ قِيمَةً.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (النَّذْرُ).

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، كَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْعُدُولُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْقِيمَةِ فِي النُّذُورِ، وَاسْتَثْنَوْا نَذْرَ الْعِتْقِ وَالْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ.

تَحَوُّلُ فَرِيضَةِ الصَّوْمِ إِلَى فِدْيَةٍ:

16- اتَّفَقَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ الْهَرِمَ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ، أَوْ تَلْحَقُهُ بِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ لَا صَوْمَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ غَيْرُ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ غَيْرُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.وَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ وَلَدِهَا، وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ

، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ وَفِدْيَةٌ)..

تَحَوُّلُ الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تُسْتَكْمَلْ شَرَائِطُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ:

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْهِبَةَ إِذَا كَانَتْ بِشَرْطِ الْعِوَضِ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَتَحَوَّلُ إِلَى بَيْعٍ، فَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ وَالشُّفْعَةُ، وَيَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَبْطُلُ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّ هِبَةَ الثَّوَابِ بَيْعٌ ابْتِدَاءً، وَلِذَا لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ حِيَازَةِ الْهِبَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثَابَ عَنِ الذَّهَبِ فِضَّةً أَوِ الْعَكْسُ، لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّرْفِ الْمُؤَخَّرِ، مَا لَمْ يَحْدُثِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.وَفِي كَوْنِ الْعِوَضِ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، وَكَذَلِكَ فِي كَوْنِهَا بَيْعًا ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (هِبَةٌ).

وَلِتَحَوُّلِ الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تُسْتَكْمَلْ شَرَائِطُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى مِنْهَا: تَحَوُّلُ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَى وَكَالَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفَاتِ الْمُضَارِبِ، وَلِذَلِكَ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُضَارِبِ مَنُوطَةٌ بِالْمَصْلَحَةِ كَالْوَكِيلِ.

وَإِلَى شَرِكَةٍ إِنْ رَبِحَ الْمُضَارِبُ، وَإِلَى إِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ إِنْ فَسَدَتْ.

وَمِنْهَا: تَحَوُّلُ السَّلَمِ إِلَى بَيْعٍ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَيْنًا فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَإِلَى هِبَةٍ لَوْ قَالَ: بِعْتُ بِلَا ثَمَنٍ، وَالْأَظْهَرُ الْبُطْلَانُ.

وَمِنْهَا: تَحَوُّلُ الِاسْتِصْنَاعِ سَلَمًا إِذَا ضُرِبَ فِيهِ الْأَجَلُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى تُعْتَبَرَ فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ.

وَفِي كُلٍّ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (عَقْدٌ، وَسَلَمٌ، وَمُضَارَبَةٌ، وَشَرِكَةٌ، وَاسْتِصْنَاعٌ).

تَحَوُّلُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ إِلَى نَافِذٍ:

18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ أَصْبَحَ نَافِذًا، وَإِلاَّ فَلَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَيَجِبُ رَدُّهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَقَدْ فَصَّلَ الْقَائِلُونَ بِانْعِقَادِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ الْكَلَامَ حَوْلَهُ، وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ: (عَقْدٌ، وَمَوْقُوفٌ، وَفُضُولِيٌّ).

تَحَوُّلُ الدَّيْنِ الْآجِلِ إِلَى حَالٍّ:

يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ الْآجِلُ إِلَى حَالٍّ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:

أ- الْمَوْتُ:

19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الْآجِلَ يَتَحَوَّلُ بِالْمَوْتِ إِلَى حَالٍّ، لِانْعِدَامِ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ وَتَعَذُّرِ الْمُطَالَبَةِ.وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا.

وَفِي لِحَاقِ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ هَلْ يَتَقَرَّرُ مَوْتُهُ، وَتَثْبُتُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ؟ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَمُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ).وَمُصْطَلَحِ أَجَلٌ (ف: 95 ج 2).

ب- التَّفْلِيسُ:

20- الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَالِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْحَجْرِ لِلْإِفْلَاسِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِالتَّفْلِيسِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُفَلِّسِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَلَسِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا لَهُ، فَلَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا عَلَيْهِ.

وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ إِلَى: أَنَّ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِإِفْلَاسِهِ يَتَحَوَّلُ دَيْنُهُ الْآجِلُ إِلَى حَالٍّ، لِأَنَّ التَّفْلِيسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ بِالْمَالِ، فَيَسْقُطُ الْأَجَلُ كَالْمَوْتِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْرٌ).

تَحَوُّلُ الْوَقْفِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ:

21- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ فِي الْوَقْفِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ الَّذِي لَا خِلَافَ فِي صِحَّتِهِ: مَا كَانَ مَعْلُومَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَ نِهَايَتَهُ إِلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ، كَأَنْ يَجْعَلَ آخِرَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ انْقِرَاضُهُمْ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوِ انْقَطَعَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ:

فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الْوَاقِفِ، أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى فُلَانٍ، وَعَلَى فُلَانٍ فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُسَمَّى كَانَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا، وَيَنْصَرِفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ.وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَصْرِفِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوَقْفِ.

وَيُرْجَعُ إِلَى تَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ).

تَحَوُّلُ الْمِلْكِيَّةِ الْعَامَّةِ مِنَ الْإِبَاحَةِ إِلَى الْمِلْكِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَعَكْسُهُ:

22- قَدْ تَتَحَوَّلُ الْمِلْكِيَّةُ مِنَ الْعَامَّةِ إِلَى الْخَاصَّةِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ، كَالْإِقْطَاعِ مِنْ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ.

فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الْأَرْضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، كَمَا يُعْطِي الْمَالَ حَيْثُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْمَالِ فِي الدَّفْعِ لِلْمُسْتَحِقِّ.وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (إِقْطَاعٌ).

وَيَتَحَوَّلُ الْمِلْكُ الْخَاصُّ إِلَى الْعَامِّ إِذَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَارِثُهُ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَذَكَرَ أَبُو يَعْلَى أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مَصْرُوفًا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْمِيرَاثِ.

وَيَتَحَوَّلُ الْمِلْكُ الْخَاصُّ إِلَى عَامٍّ، فِي نَحْوِ الْبَيْتِ الْمَمْلُوكِ إِذَا اُحْتِيجَ إِلَيْهِ لِلْمَسْجِدِ، أَوْ تَوْسِعَةِ الطَّرِيقِ، أَوْ لِلْمَقْبَرَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ.

تَحَوُّلُ الْوِلَايَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:

23- تَتَحَوَّلُ الْوِلَايَةُ مِنَ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ إِلَى الْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:

- إِذَا فُقِدَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أُسِرَ أَوْ حُبِسَ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ تَتَحَوَّلُ مِنَ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ تَنْتَقِلُ إِلَى الْحَاكِمِ.

- وَمِنْهَا غَيْبَةُ الْوَلِيِّ، فَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَنْتَقِلُ إِلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ وَلِيُّ الْغَائِبِ.وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَتَنْتَقِلُ عِنْدَهُمْ إِلَى الْأَبْعَدِ.

وَمِنْهَا: الْعَضْلُ، وَهُوَ: مَنْعُ الْوَلِيِّ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ زَوَاجِ الْكُفْءِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ الْأَقْرَبَ إِذَا عَضَلَهَا انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه-.وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رضي الله عنه- وَشُرَيْحٍ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَنْصُوصِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْأَبْعَدِ.وَانْظُرْ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالْخِلَافِ فِيهِ مُصْطَلَحَ: (وِلَايَةُ النِّكَاحِ).

تَحَوُّلُ حَقِّ الْحَضَانَةِ:

24- الْأَصْلُ فِي الْحَضَانَةِ أَنَّ الْأُمَّ أَوْلَى النَّاسِ بِحَضَانَةِ الطِّفْلِ إِذَا كَمُلَتِ الشُّرُوطُ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي».

فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأُمُّ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ لِفِقْدَانِ جَمِيعِ الشُّرُوطِ فِيهَا أَوْ بَعْضِهَا، أَوِ امْتَنَعَتْ مِنَ الْحَضَانَةِ، فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ، وَتَنْتَقِلُ الْحَضَانَةُ إِلَى مَنْ يَلِيهَا، وَهَكَذَا تَتَحَوَّلُ مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ.عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَةٌ).

تَحَوُّلُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ:

25- إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي عِدَّةِ طَلَاقِهِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا سَقَطَتْ عَنْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، أَيْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ حِينِ الْوَفَاةِ، بِلَا خِلَافٍ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ رَجْعِيًّا زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، وَيَنَالُهَا مِيرَاثُهُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ.

وَإِذَا مَاتَ مُطَلِّقُ الْبَائِنِ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، أَوْ طَلَّقَهَا بِطَلَبِهَا، بَنَتْ عَلَى مُدَّةِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ.أَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِغَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا، فَهَذِهِ خِلَافِيَّةٌ:

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ احْتِيَاطًا لِشُبْهَةِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، بِاعْتِبَارِ إِرْثِهَا مِنْهُ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

تَحَوُّلُ الْعِدَّةِ مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ وَعَكْسُهُ:

أ- تَحَوُّلُ الْعِدَّةِ مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ:

26- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، وَكَذَلِكَ الْبَالِغَةُ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ، فَحَاضَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، أَنَّ عِدَّتَهَا تَتَحَوَّلُ مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّهُورَ بَدَلٌ عَنِ الْأَقْرَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَلِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَلِ، قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي حَقِّ الْمُتَيَمِّمِ، فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْأَشْهُرِ، وَتَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ.

وَكَذَا الْآيِسَةُ إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، فَتَتَحَوَّلُ عِدَّتُهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ يُقَدِّرُوا فِيهَا لِلْإِيَاسِ سِنًّا مُعَيَّنَةً.

وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْلَ السَّبْعِينَ- وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْلَ السِّتِّينَ- يَكُونُ دَمًا مَشْكُوكًا فِيهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى النِّسَاءِ.

إِلاَّ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا، فَهُوَ حَيْضٌ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَّتُوا لِلْإِيَاسِ فِيهَا وَقْتًا: إِلَى أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ بَعْدَهَا لَيْسَ بِحَيْضٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ دَمًا خَالِصًا فَحَيْضٌ، حَتَّى يَبْطُلَ بِهِ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ.وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَيْ: (إِيَاسٌ، وَعِدَّةٌ).

27- وَأَمَّا مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا بَعْدَ أَنْ رَأَتِ الدَّمَ، وَقَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ الْيَأْسِ- وَهِيَ الْمُرْتَابَةُ- فَذَهَبَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ بِسَبَبٍ مَعْرُوفٍ كَرَضَاعٍ وَنِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَإِنَّهَا تَصْبِرُ حَتَّى تَحِيضَ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، أَوْ تَبْلُغُ سِنَّ الْيَأْسِ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ، وَلَا عِبْرَةَ بِطُولِ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَشْهُرِ جُعِلَ بَعْدَ الْيَأْسِ بِالنَّصِّ، فَلَمْ يَجُزِ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ قَبْلَهُ.

أَمَّا مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا لَا لِعِلَّةٍ تُعْرَفُ.فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَهَذِهِ سَنَةٌ.وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ تَبَيَّنَتْ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَيْضًا، وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ( ( (.

وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَيْضًا أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ ثَلَاثَةً، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


20-موسوعة الفقه الكويتية (تغسيل الميت 1)

تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّغْسِيلُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ غَسَّلَ بِالتَّشْدِيدِ، بِمَعْنَى: إِزَالَةِ الْوَسَخِ عَنِ الشَّيْءِ، بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَالْمَيِّتُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ: ضِدُّ الْحَيِّ، وَأَمَّا الْحَيُّ- فَهُوَ بِالتَّشْدِيدِ لَا غَيْرُ- بِمَعْنَى مَنْ سَيَمُوتُ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، قَالَ تَعَالَى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} وَلَمْ يَقُلْ مَيِّتَةً.فَتَغْسِيلُ الْمَيِّتِ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَعْمِيمُ بَدَنِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ بِطَرِيقَةٍ مَسْنُونَةٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَغْسِيلَ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ وَاجِبُ كِفَايَةٍ، بِحَيْثُ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَعْضِ، كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ.لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ وَعَدَّ مِنْهَا: أَنْ يُغَسِّلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ» وَالْأَصْلُ فِيهِ: تَغْسِيلُ الْمَلَائِكَةِ ((لآِدَمَ- عليه السلام-.ثُمَّ قَالُوا: يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِسُنِّيَّةِ الْغُسْلِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى تَصْحِيحِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ.

مَا يَنْبَغِي لِغَاسِلِ الْمَيِّتِ، وَمَا يُكْرَهُ لَهُ:

3- يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ ثِقَةً أَمِينًا، وَعَارِفًا بِأَحْكَامِ الْغُسْلِ.وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لِيُغَسِّلْ مَوْتَاكُمُ الْمَأْمُونُونَ».

وَلَا يَجُوزُ لَهُ إِذَا رَأَى مِنَ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِمَّا يُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا، فَأَدَّى فِيهِ الْأَمَانَةَ، وَلَمْ يُفْشِ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».

وَإِنْ رَأَى حَسَنًا مِثْلَ أَمَارَاتِ الْخَيْرِ مِنْ وَضَاءَةِ الْوَجْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، اسْتُحِبَّ لَهُ إِظْهَارُهُ لِيَكْثُرَ التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ، وَيَحْصُلَ الْحَثُّ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَالتَّبْشِيرُ بِجَمِيلِ سِيرَتِهِ.

إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ مُبْتَدِعًا، وَرَأَى الْغَاسِلُ مِنْهُ مَا يُكْرَهُ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَدِّثَ النَّاسَ بِهِ، لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ الْبِدْعَةِ.

كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَيِّنَ مَفَاصِلَهُ إِنْ سَهُلَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ لِقَسْوَةِ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرِهَا تَرَكَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تَنْكَسِرَ أَعْضَاؤُهُ.وَيَلُفُّ الْغَاسِلُ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً خَشِنَةً يَمْسَحُهُ بِهَا، لِئَلاَّ يَمَسَّ عَوْرَتَهُ.لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ.فَاللَّمْسُ أَوْلَى، وَيُعِدُّ لِغَسْلِ السَّبِيلَيْنِ خِرْقَةً أُخْرَى.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيُكْرَهُ لِلْغَاسِلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، أَمَّا الْمُعَيَّنُ فَلَا يَنْظُرُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.

كَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَقِفَ عَلَى الدَّكَّةِ، وَيَجْعَلَ الْمَيِّتَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، بَلْ يَقِفُ عَلَى الْأَرْضِ وَيُقَلِّبَهُ حِينَ غَسْلِهِ، كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، لَا بِالْأَذْكَارِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا لِكُلِّ عُضْوٍ ذِكْرٌ يَخُصُّهُ، فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ.

النِّيَّةُ فِي تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ:

4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الطَّهَارَةِ، بَلْ شَرْطٌ لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَوْ غُسِّلَ الْمَيِّتُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ أَجْزَأَ لِطَهَارَتِهِ، لَا لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: عَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ فِي غَيْرِهِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى نِيَّةٍ، كَغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ التَّنْظِيفُ، فَأَشْبَهَ غَسْلَ النَّجَاسَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ، فَافْتَقَرَ إِلَى النِّيَّةِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَلَمَّا تَعَذَّرَتِ النِّيَّةُ مِنَ الْمَيِّتِ اعْتُبِرَتْ فِي الْغَاسِلِ؛ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِالْغُسْلِ.

تَجْرِيدُ الْمَيِّتِ وَكَيْفِيَّةُ وَضْعِهِ حَالَةَ الْغُسْلِ:

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَجْرِيدُ الْمَيِّتِ عِنْدَ تَغْسِيلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْغُسْلِ هُوَ التَّطْهِيرُ وَحُصُولُهُ بِالتَّجْرِيدِ أَبْلَغُ.

وَلِأَنَّهُ لَوِ اغْتَسَلَ فِي ثَوْبِهِ تَنَجَّسَ الثَّوْبُ بِمَا يَخْرُجُ، وَقَدْ لَا يَطْهُرُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ.

وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمَرُّوذِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُغَسَّلُ فِي قَمِيصِهِ.وَقَالَ أَحْمَدُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يُغَسَّلَ الْمَيِّتُ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ رَقِيقٌ يَنْزِلُ الْمَاءُ فِيهِ، يُدْخِلُ يَدَهُ مِنْ تَحْتِهِ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو قِلَابَةَ إِذَا غَسَّلَ مَيِّتًا جَلَّلَهُ بِثَوْبٍ.وَاعْتَبَرَهُ الْقَاضِي سُنَّةٌ، فَقَالَ: السُّنَّةُ أَنْ يُغَسَّلَ الْمَيِّتُ فِي قَمِيصٍ، فَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَدَنِهِ، وَالْمَاءُ يُصَبُّ.وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ».

وَأَمَّا سَتْرُ عَوْرَتِهِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ وَمَأْمُورٌ بِهِ، هَذَا إِذَا كَانَ الذَّكَرُ يُغَسِّلُ الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَى تُغَسِّلُ الْأُنْثَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الذَّكَرُ الْمَحْرَمُ يُغَسِّلُ الْأُنْثَى، وَعَكْسُهُ، فَيَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِ الْمَيِّتِ.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وَضْعِهِ عِنْدَ تَغْسِيلِهِ، فَهِيَ أَنَّهُ يُوضَعُ عَلَى سَرِيرٍ أَوْ لَوْحٍ هُيِّئَ لَهُ، وَيَكُونُ مَوْضِعُ رَأْسِهِ أَعْلَى لِيَنْحَدِرَ الْمَاءُ، وَيَكُونُ الْوَضْعُ طُولًا، كَمَا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِإِيمَاءٍ.

وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ اخْتَارَ الْوَضْعَ كَمَا يُوضَعُ فِي الْقَبْرِ.وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ.

عَدَدُ الْغَسَلَاتِ وَكَيْفِيَّتُهَا:

6- قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ الْغَاسِلُ بِتَغْسِيلِ الْمَيِّتِ يُزِيلُ عَنْهُ النَّجَاسَةَ، وَيَسْتَنْجِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.وَأَمَّا إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ وَإِنْقَاؤُهَا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ بِهِ بِلَا إِجْلَاسٍ وَعَصْرٍ فِي أَوَّلِ الْغُسْلِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْدَبُ عَصْرُ الْبَطْنِ حَالَةَ الْغُسْلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكُونُ إِجْلَاسُ الْمَيِّتِ وَعَصْرُ بَطْنِهِ فِي أَوَّلِ الْغُسْلِ.

ثُمَّ يُوَضِّئُهُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، وَلَا يُدْخِلُ الْمَاءَ فِي فِيهِ وَلَا أَنْفِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذَى أَزَالَهُ بِخِرْقَةٍ يَبُلُّهَا وَيَجْعَلُهَا عَلَى أُصْبُعِهِ، فَيَمْسَحُ أَسْنَانَهُ وَأَنْفَهُ حَتَّى يُنَظِّفَهُمَا.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ الْيَوْمَ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلَا يُغْنِي ذَلِكَ عَنِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ.وَيُمِيلُ رَأْسَ الْمَيِّتِ حَتَّى لَا يَبْلُغَ الْمَاءُ بَطْنَهُ.وَكَذَا لَا يُؤَخِّرُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ.

وَبَعْدَ الْوُضُوءِ يَجْعَلُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيَغْسِلُ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ يُدِيرُهُ عَلَى الْأَيْمَنِ فَيَغْسِلُ الْأَيْسَرَ، وَذَلِكَ بَعْدَ تَثْلِيثِ غَسْلِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ.

وَالْوَاجِبُ فِي غَسْلِ الْمَيِّتِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ ثَلَاثًا كُلَّ غَسْلَةٍ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَجْعَلُ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الطِّيبِ إِنْ أَمْكَنَ.

وَإِنْ رَأَى الْغَاسِلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَلَاثٍ- لِكَوْنِهِ لَمْ يُنْقِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ- غَسَلَهُ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَقْطَعَ إِلاَّ عَلَى وِتْرٍ.وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعٍ.

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِغَاسِلَاتِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ- رضي الله عنها- «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا، وَاغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ».

وَيَرَى ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ عِنْدَ الْوَبَاءِ وَمَا يَشْتَدُّ عَلَى النَّاسِ مِنْ غَسْلِ الْمَوْتَى لِكَثْرَتِهِمْ، أَنْ يَجْتَزِئُوا بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهِمْ صَبًّا.

وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ عَلَى مُغْتَسَلِهِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ- مَا عَدَا أَشْهَبَ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يُعَادُ غُسْلُهُ، وَإِنَّمَا يُغْسَلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ عَلَى مُغْتَسَلِهِ غَسَّلَهُ إِلَى خَمْسٍ، فَإِنْ زَادَ فَإِلَى سَبْعٍ.وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِسْحَاقُ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ إِعَادَةُ وُضُوئِهِ.هَذَا إِذَا خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ قَبْلَ الْإِدْرَاجِ فِي الْكَفَنِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَجَزَمُوا بِالِاكْتِفَاءِ بِغَسْلِ النَّجَاسَةِ فَقَطْ.

7- يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْمَلَ الْمَيِّتُ إِلَى مَكَانٍ خَالٍ مَسْتُورٍ لَا يَدْخُلُهُ إِلاَّ الْغَاسِلُ، وَمَنْ لَا بُدَّ مِنْ مَعُونَتِهِ عِنْدَ الْغُسْلِ، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْخُلَهُ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يُغَسِّلْ وَلَمْ يُعِنْ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ الَّذِي يُغَسَّلُ فِيهِ الْمَيِّتُ مُظْلِمًا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُعِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ سِتْرًا.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانَ النَّخَعِيُّ يُحِبُّ أَنْ يُغَسَّلَ الْمَيِّتُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سُتْرَةٌ، وَهُوَ مَا أَوْصَى بِهِ الضَّحَّاكُ أَخَاهُ سَالِمًا، كَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ، فَجَعَلْنَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّقْفِ سِتْرًا».

صِفَةُ مَاءِ الْغُسْلِ:

8- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ غُسْلِ الْمَيِّتِ فِي الْمَاءِ: الطَّهُورِيَّةُ كَسَائِرِ الطَّهَارَاتِ، وَالْإِبَاحَةُ كَبَاقِي الْأَغْسَالِ وَاسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ سَاخِنًا لِزِيَادَةِ الْإِنْقَاءِ، وَيُغْلَى الْمَاءُ بِالسِّدْرِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي النَّظَافَةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُخَيَّرُ الْغَاسِلُ فِي صِفَةِ الْمَاءِ إِنْ شَاءَ بَارِدًا وَإِنْ شَاءَ سَاخِنًا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَدَمَ غَسْلِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، إِلاَّ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ لِوَسَخٍ أَوْ غَيْرِهِ.وَاسْتَحْسَنَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَتَّخِذَ الْغَاسِلُ إِنَاءَيْنِ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَتَّخِذَ ثَلَاثَةَ أَوَانٍ لِلْمَاءِ.

مَا يُصْنَعُ بِالْمَيِّتِ قَبْلَ التَّغْسِيلِ وَبَعْدَهُ:

9- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْبَخُورِ عِنْدَ تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ مُسْتَحَبٌّ، لِئَلاَّ تُشَمَّ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ.وَيَزْدَادُ فِي الْبَخُورِ عِنْدَ عَصْرِ بَطْنِهِ.

وَأَمَّا تَسْرِيحُ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، فَلَا يُفْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْعَانَةِ، وَرِوَايَةً عِنْدَهُمْ فِي تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ أَيْضًا إِلاَّ فِي تَسْرِيحِ الشَّعْرِ وَاللِّحْيَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْعَلُ لِحَقِّ الزِّينَةِ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الزِّينَةِ.فَلَا يُزَالُ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ ظُفْرُهُ مُنْكَسِرًا فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ يُفْعَلُ كُلُّ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَهُمْ فِي تَقْلِيمِ الظُّفْرِ إِنْ كَانَ فَاحِشًا، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ.وَدَلِيلُ الْجَوَازِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ كَمَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ».وَلِأَنَّ تَرْكَ تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَحْوِهَا يُقَبِّحُ مَنْظَرَ الْمَيِّتِ، فَشُرِعَتْ إِزَالَتُهُ.

وَأَمَّا الْخِتَانُ فَلَا يُشْرَعُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ إِبَانَةُ جُزْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُحْلَقُ رَأْسُ الْمَيِّتِ.وَحَكَى أَحْمَدُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يُخْتَنُ.

وَإِذَا فَرَغَ الْغَاسِلُ مِنْ تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ نَشَّفَهُ بِثَوْبٍ، لِئَلاَّ تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ.وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ- رضي الله عنها-: «فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْهَا فَأَلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبًا نَظِيفًا».وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- فِي غُسْلِ النَّبِيِّ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ: فَجَفَّفُوهُ بِثَوْبٍ.

الْحَالَاتُ الَّتِي يُيَمَّمُ فِيهَا الْمَيِّتُ:

10- يُيَمَّمُ الْمَيِّتُ فِي الْحَالَاتِ الْآتِيَةِ:

أ- إِذَا مَاتَ رَجُلٌ بَيْنَ نِسْوَةٍ أَجَانِبَ، وَلَمْ تُوجَدِ امْرَأَةٌ مَحْرَمَةٌ، أَوْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ بَيْنَ رِجَالٍ أَجَانِبَ، وَلَمْ يُوجَدْ مَحْرَمٌ.

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ- فِي الْأَصَحِّ- وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ قَوْلَهُمْ: إِذَا كَانَ بَيْنَ النِّسْوَةِ امْرَأَتُهُ غَسَّلَتْهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَكَانَتْ مَعَهُنَّ صَبِيَّةٌ صَغِيرَةٌ، لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ، وَأَطَاقَتِ الْغُسْلَ، عَلَّمْنَهَا الْغُسْلَ، وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى تُغَسِّلَهُ، وَتُكَفِّنَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ فِي حَقِّهَا غَيْرُ ثَابِتٍ.

وَكَذَلِكَ إِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ بَيْنَ رِجَالٍ أَجَانِبَ، وَكَانَ مَعَهُمْ صَبِيٌّ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ، وَأَطَاقَ الْغُسْلَ، عَلَّمُوهُ الْغُسْلَ فَيُغَسِّلُهَا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ، وَالْقَفَّالِ، وَرَجَّحَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُيَمَّمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، بَلْ يُغَسَّلُ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِ الْقَمِيصِ، وَلَا يُمَسُّ.

وَحَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّهُ يُدْفَنُ وَلَا يُيَمَّمُ وَلَا يُغَسَّلُ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ فَفِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٌ).

ب- إِذَا مَاتَ خُنْثَى مُشْكِلٌ وَهُوَ كَبِيرٌ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي ف 19

ج- إِذَا تَعَذَّرَ غُسْلُهُ لِفَقْدِ مَاءٍ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَتَقَطُّعِ الْجَسَدِ بِالْمَاءِ، أَوْ تَسَلُّخِهِ مِنْ صَبِّهِ عَلَيْهِ

مَنْ يَجُوزُ لَهُمْ تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ:

أ- الْأَحَقُّ بِتَغْسِيلِ الْمَيِّتِ:

11- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يُغَسِّلُ الرِّجَالَ إِلاَّ الرِّجَالُ، وَلَا النِّسَاءَ إِلاَّ النِّسَاءُ؛ لِأَنَّ نَظَرَ النَّوْعِ إِلَى النَّوْعِ نَفْسِهِ أَهْوَنُ، وَحُرْمَةُ الْمَسِّ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.وَاخْتَلَفُوا فِي التَّرْتِيبِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْغَاسِلِ أَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْغُسْلَ فَأَهْلُ الْأَمَانَةِ وَالْوَرَعِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ تَقْدِيمَ الْحَيِّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِي غُسْلِ صَاحِبِهِ عَلَى الْعَصَبَةِ، وَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ التَّنَازُعِ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ عَصَبَتِهِ، ثُمَّ امْرَأَةٌ مَحْرَمَةٌ كَأُمٍّ وَبِنْتٍ.وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ كَانَ وَأَسْقَطَ حَقَّهُ، يُغَسِّلُهَا أَقْرَبُ امْرَأَةٍ إِلَيْهَا فَالْأَقْرَبُ، ثُمَّ أَجْنَبِيَّةٌ، ثُمَّ رَجُلٌ مَحْرَمٌ عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ.وَيَسْتُرُ وُجُوبًا جَمِيعَ جَسَدِهَا، وَلَا يُبَاشِرُ جَسَدَهَا إِلاَّ بِخِرْقَةٍ كَثِيفَةٍ يَلُفُّهَا عَلَى يَدِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا غَسَّلَهُ أَقَارِبُهُ.

وَهَلْ تُقَدَّمُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِمْ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مِنَ الرِّجَالِ الْعَصَبَاتُ، ثُمَّ الْأَجَانِبُ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ، ثُمَّ النِّسَاءُ الْمَحَارِمُ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَدَّمُ الرِّجَالُ الْأَقَارِبُ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ، ثُمَّ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ، ثُمَّ النِّسَاءُ الْمَحَارِمُ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: تُقَدَّمُ الزَّوْجَةُ عَلَى الْجَمِيعِ.

وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً قُدِّمَ نِسَاءُ الْقَرَابَةِ، ثُمَّ النِّسَاءُ الْأَجَانِبُ، ثُمَّ الزَّوْجُ، ثُمَّ الرِّجَالُ الْأَقَارِبُ.وَذَوُو الْمَحَارِمِ مِنَ النِّسَاءِ الْأَقَارِبِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَهَلْ يُقَدَّمُ الزَّوْجُ عَلَى نِسَاءِ الْقَرَابَةِ؟ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ يُقَدَّمْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُنَّ أَلْيَقُ.وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ الزَّوْجُ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا لَا يَنْظُرْنَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ تَجْوِيزُ الْغُسْلِ لِلرِّجَالِ الْمَحَارِمِ مَعَ وُجُودِ النِّسَاءِ، وَلَكِنَّ عَامَّةَ الشَّافِعِيَّةِ يَقُولُونَ: الْمَحَارِمُ بَعْدَ النِّسَاءِ أَوْلَى.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالتَّغْسِيلِ وَصِيُّ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ عَدْلًا، وَيَتَنَاوَلُ عُمُومُهُ مَا لَوْ وَصَّى لِامْرَأَتِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- وَصَّى لِامْرَأَتِهِ فَغَسَّلَتْهُ.وَكَذَا لَوْ أَوْصَتْ بِأَنْ يُغَسِّلَهَا زَوْجُهَا.

وَبَعْدَ وَصِيِّهِ أَبُوهُ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ نَزَلَ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ كَالْمِيرَاثِ، ثُمَّ الْأَجَانِبُ، فَيُقَدَّمُ صَدِيقُ الْمَيِّتِ، وَبَعْدَ وَصِيِّهَا أُمُّهَا وَإِنْ عَلَتْ، فَبِنْتُهَا وَإِنْ نَزَلَتْ، فَبِنْتُ ابْنِهَا وَإِنْ نَزَلَ، ثُمَّ الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى.

ب- تَغْسِيلُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا:

12- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ لِلْمَرْأَةِ تَغْسِيلَ زَوْجِهَا، إِذَا لَمْ يَحْدُثْ قَبْلَ مَوْتِهِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ.فَإِنْ ثَبَتَتِ الْبَيْنُونَةُ بِأَنْ طَلَّقَهَا بَائِنًا، أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ، لَا تُغَسِّلُهُ؛ لِارْتِفَاعِ مِلْكِ الْبُضْعِ بِالْإِبَانَةِ.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا- وَمَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ- لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ غُسْلُهُ عِنْدَهُمْ لِتَحْرِيمِ النَّظَرِ فِي الْحَيَاةِ.

وَكَذَا لَا تُغَسِّلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِذَا حَدَثَ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ بَعْدَهُ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، لِزَوَالِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ كَانَ قَائِمًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَارْتَفَعَ بِالرِّدَّةِ، وَالْمُعْتَبَرُ بَقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ حَالَةَ الْغُسْلِ لَا حَالَةَ الْمَوْتِ.وَيَرَى زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ حَالَةَ الْمَوْتِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ لَهَا تَغْسِيلُهُ عِنْدَهُ، وَإِنْ حَدَثَ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ تَغْسِيلِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا مَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَهُ إِلاَّ نِسَاؤُهُ.

ج- تَغْسِيلُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ:

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ غُسْلُهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ فُرْقَةٌ تُبِيحُ أُخْتَهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا، فَحَرَّمَتِ الْفُرْقَةُ النَّظَرَ وَاللَّمْسَ كَالطَّلَاقِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلزَّوْجِ غُسْلَ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَتَادَةَ وَحَمَّادٍ وَإِسْحَاقَ.لِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- غَسَّلَ فَاطِمَةَ- رضي الله عنها- وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.

وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي فَقُمْتُ عَلَيْكِ، فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، وَدَفَنْتُكِ» إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ مَعَ وُجُودِ مَنْ يُغَسِّلُهَا، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ وَالشُّبْهَةِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: وَإِنْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فَلَا بَأْسَ.

يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ غُسْلُهَا مَعَ وُجُودِ مَنْ يُغَسِّلُهَا سِوَاهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ وَالشُّبْهَةِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا الْجَوَازَ.وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ غُسْلُهَا عِنْدَهُمْ.

د- تَغْسِيلُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ وَعَكْسُهُ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ تَغْسِيلُ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَجَبَ كَرَامَةً وَتَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ وَالتَّعْظِيمِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِأَحْمَدَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْكَافِرُ الْمَيِّتُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنَ الْمُسْلِمِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَغْسِيلُهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ وَمِلَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ، خَلَّى الْمُسْلِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ أَبُو طَالِبٍ، جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَمُّكَ الضَّالُّ قَدْ تُوُفِّيَ، فَقَالَ: اذْهَبْ وَاغْسِلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ».

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ تَغْسِيلِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ لِلْكَافِرِينَ، وَأَقَارِبُهُ الْكُفَّارُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُغَسِّلُ الْكَافِرَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ غُسْلُ زَوْجَتِهِ الْكَافِرَةِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُغَسِّلُ الْكَافِرَ وَلَا يَتَوَلَّى دَفْنَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا مُوَالَاةَ، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الزَّوْجِيَّةُ بِالْمَوْتِ.

وَكَذَلِكَ لَا تُغَسِّلُهُ هِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ بِحَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا.لِأَنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْلِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.

وَعُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لِلزَّوْجِ غُسْلَ زَوْجَتِهِ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، وَلَهَا غُسْلُهُ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَالْمَرْأَةُ لَا تُمْنَعُ مِنْ تَغْسِيلِ زَوْجِهَا بِشَرْطِ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ وَلَوْ كِتَابِيَّةً.وَأَمَّا عَكْسُ ذَلِكَ فَلَا يَتَأَتَّى عِنْدَهُمْ فِي الْأَصَحِّ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ غُسْلُهَا مُطْلَقًا كَمَا سَبَقَ (ف 13).

تَغْسِيلُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ:

15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَخْرَجِ- مُقَابِلُ الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَغْسِيلُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ التَّغْسِيلَ عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، فَلَا يَصِحُّ تَغْسِيلُهُ لِلْمُسْلِمِ كَالْمَجْنُونِ.وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْلِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.وَفِي الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ غَسَّلَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ يَكْفِي.

هـ- تَغْسِيلُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِلْأَطْفَالِ الصِّغَارِ وَعَكْسُهُ:

(1) تَغْسِيلُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِلْأَطْفَالِ الصِّغَارِ:

16- قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ.وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِاَلَّذِي لَا يُشْتَهَى، وَالْمَالِكِيَّةُ بِثَمَانِي سِنِينَ فَمَا دُونَهَا، وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا دُونَ سَبْعِ سِنِينَ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ السِّنِّ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَصَّلَهَا الْفُقَهَاءُ فِي (كِتَابِ الْجَنَائِزِ).

أَمَّا تَغْسِيلُ الرِّجَالِ لِلصَّغِيرَةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَسِّلَ الصَّبِيَّةَ الَّتِي لَا تُشْتَهَى إِذَا مَاتَتْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو الْخَطَّابِ.

وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ غُسْلُ صَبِيَّةٍ رَضِيعَةٍ وَمَا قَارَبَهَا كَزِيَادَةِ شَهْرٍ عَلَى مُدَّةِ الرَّضَاعِ، لَا بِنْتِ ثَلَاثِ سِنِينَ.وَيَرَى ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يُغَسِّلُ الرَّجُلُ الصَّبِيَّةَ وَإِنْ صَغُرَتْ جِدًّا.

وَقَالَ عِيسَى: إِذَا صَغُرَتْ جِدًّا فَلَا بَأْسَ.وَصَرَّحَ أَحْمَدُ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُغَسِّلُ الصَّبِيَّةَ إِلاَّ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ قِلَابَةَ أَنَّهُ غَسَّلَ بِنْتًا لَهُ صَغِيرَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَيْضًا.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُغَسِّلُ الْجَارِيَةَ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ عَوْرَةِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ عَوْرَةَ الْجَارِيَةِ أَفْحَشُ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ مُعَانَاةُ الْمَرْأَةِ لِلْغُلَامِ الصَّغِيرِ، وَمُبَاشَرَةُ عَوْرَتِهِ فِي حَالِ تَرْبِيَتِهِ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمُبَاشَرَةِ الرَّجُلِ عَوْرَةَ الْجَارِيَةِ فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ حَالَ الْمَوْتِ.

(2) تَغْسِيلُ الصَّبِيِّ لِلْمَيِّتِ:

17- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ إِذَا كَانَ عَاقِلًا أَنْ يُغَسِّلَ الْمَيِّتَ؛ لِأَنَّهُ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ فَصَحَّ أَنْ يُطَهِّرَ غَيْرَهُ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَالِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

و- تَغْسِيلُ الْمُحْرِمِ الْحَلَالَ وَعَكْسُهُ، وَكَيْفِيَّةُ تَغْسِيلِ الْمُحْرِمِ:

18- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي جَوَازِ تَغْسِيلِ الْمُحْرِمِ الْحَلَالَ وَعَكْسُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ وَغُسْلُهُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَ غَيْرَهُ.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تَغْسِيلِ الْمُحْرِمِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ إِحْرَامَهُ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَيُصْنَعُ بِهِ كَمَا يُصْنَعُ بِالْحَلَالِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ حُكْمَ إِحْرَامِهِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، فَيُصْنَعُ فِي تَغْسِيلِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمُحْرِمِ.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ).

ز- تَغْسِيلُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ:

19- إِذَا كَانَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ، يَجُوزُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ تَغْسِيلُهُ، كَمَا يَجُوزُ مَسُّهُ وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ كَبِيرًا أَوْ مُرَاهِقًا فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُغَسِّلُ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا يُغَسِّلُهُ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ، بَلْ يُيَمَّمُ.وَالْأَصْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْخُنْثَى الْمُشْكِلَ- إِنْ كَانَ لَهُ مَحْرَمٌ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ- غَسَّلَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَحْرَمٌ جَازَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ غُسْلُهُ صَغِيرًا.فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ يُغَسَّلُ.قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ أَمَةٌ، يُيَمَّمُ، وَزَادَ: أَنَّ الرَّجُلَ أَوْلَى بِتَيْمِيمِ خُنْثَى فِي سِنِّ التَّمْيِيزِ، وَحَرُمَ بِدُونِ حَائِلٍ عَلَى غَيْرِ مَحْرَمٍ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ وُجُودُ أَمَةٍ لَهُ- سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ مَالِهِ أَمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَمْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ- فَإِنَّهَا تُغَسِّلُهُ، وَإِلاَّ يُيَمَّمْ، وَلَا يُغَسِّلُهُ أَحَدٌ سِوَاهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى أَنَّهُ يُغَسَّلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَحَارِمُ.

وَفِيمَنْ يُغَسِّلُ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا لِلضَّرُورَةِ، وَاسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الصِّغَرِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ كَالْمَرْأَةِ، وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ كَالرَّجُلِ، أَخْذًا بِالْأَحْوَطِ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، أَنَّهُ يُشْتَرَى مِنْ تَرِكَتِهِ جَارِيَةٌ لِتُغَسِّلَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

مَنْ يُغَسَّلُ مِنَ الْمَوْتَى وَمَنْ لَا يُغَسَّلُ:

أ- تَغْسِيلُ الشَّهِيدِ:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ، لِمَا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: ادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ» وَيَرَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ تَغْسِيلَ الشَّهِيدِ.

وَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ جُنُبًا فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ سَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُغَسَّلُ.وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ.

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْمَوْتِ، كَالْمَرْأَةِ الَّتِي تَطْهُرُ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ ثُمَّ تَسْتَشْهِدُ فَهِيَ كَالْجُنُبِ.وَأَمَّا قَبْلَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ فَلَا يَجِبُ الْغُسْلُ.وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يَجِبُ الْغُسْلُ كَالْجُنُبِ وَالْأُخْرَى لَا يَجِبُ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- مَا عَدَا أَبَا حَنِيفَةَ- إِلَى أَنَّ الشَّهِيدَ الْبَالِغَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَذَلِكَ فِي تَغْسِيلِ مَنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ، وَالْمُرْتَثُّ (وَهُوَ مَنْ حُمِلَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ جَرِيحًا وَبِهِ رَمَقٌ)، وَمَنْ عَادَ عَلَيْهِ سِلَاحُهُ فَقَتَلَهُ، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَمَنْ قُتِلَ ظُلْمًا، أَوْ دُونَ مَالِهِ أَوْ دُونَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى خِلَافٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ هَلْ يُعْتَبَرُونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَمْ لَا؟

فَيُرْجَعُ لِلتَّفْصِيلِ إِلَى مُصْطَلَحِ (شَهِيدٌ).

ب- تَغْسِيلُ الْمَبْطُونِ وَالْمَطْعُونِ وَصَاحِبِ الْهَدْمِ وَأَمْثَالِهِمْ:

21- لَا خِلَافَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الشَّهِيدَ بِغَيْرِ قَتْلٍ كَالْمَبْطُونِ، وَالْمَطْعُونِ، وَمِنْهُ الْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالنُّفَسَاءُ، وَنَحْوُهُمْ يُغَسَّلُونَ، وَإِنْ وَرَدَ فِيهِمْ لَفْظُ الشَّهَادَةِ.

ج- تَغْسِيلُ مَنْ لَا يُدْرَى حَالُهُ:

22- لَوْ وُجِدَ مَيِّتٌ أَوْ قَتِيلٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.وَكَانَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْخِتَانِ وَالثِّيَابِ وَالْخِضَابِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ غُسْلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَوُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَمْ دَارِ الْحَرْبِ.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُغَسَّلُ، وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُغَسَّلُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا، يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُهُمْ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ.

وَصَرَّحَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ وُجِدَ بِفَلَاةٍ، لَا يُدْرَى أَمُسْلِمٌ هُوَ أَمْ كَافِرٌ؟ فَلَا يُغَسَّلُ.وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ فِي مَدِينَةٍ مِنَ الْمَدَائِنِ فِي زُقَاقٍ، وَلَا يُدْرَى حَالُهُ أَمُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ؟ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَإِنْ كَانَ مَخْتُونًا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ يَخْتَتِنُونَ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَمِنَ النَّصَارَى أَيْضًا مَنْ يَخْتَتِنُ.

د- تَغْسِيلُ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ اخْتِلَاطِهِمْ بِالْكُفَّارِ:

23- لَوِ اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُمَيَّزُوا، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ جَمِيعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ أَمْ أَقَلَّ.أَوْ كَانُوا عَلَى السَّوَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ غُسْلَ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ، وَغُسْلَ الْكَافِرِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَيُؤْتَى بِالْجَائِزِ فِي الْجُمْلَةِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ.

هـ- تَغْسِيلُ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ:

24- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ الْبُغَاةُ إِذَا قُتِلُوا فِي الْحَرْبِ؛ إِهَانَةً لَهُمْ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِمْ عَنْ فِعْلِهِمْ.وَأَمَّا إِذَا قُتِلُوا بَعْدَ ثُبُوتِ يَدِ الْإِمَامِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ.

وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (بُغَاةٌ).وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي عَدَمِ التَّغْسِيلِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-موسوعة الفقه الكويتية (تيسير 2)

تَيْسِيرٌ -2

مَوَاضِعُ الْيُسْرِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ:

28- الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ خَمْسَةٌ: الْإِبَاحَةُ، وَالنَّدْبُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِيجَابُ، وَالتَّحْرِيمُ.

فَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَلَا مَشَقَّةَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِي فِعْلِهَا أَوْ تَرْكِهَا إِلَى الْمُكَلَّفِ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَدْعُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ.

وَأَمَّا الْمَنْدُوبَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ فَنَظَرًا إِلَى عَدَمِ اسْتِلْزَامِ فِعْلِهَا أَوْ تَرْكِهَا لِعُقُوبَةٍ يُعْلَمُ أَنَّ لِلْمُكَلَّفِ فِيهَا خِيَارًا كَذَلِكَ، وَإِنْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبِ وَتَرْكِ الْمَكْرُوهِ لِتَحْصِيلِ الْأَجْرِ، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا شَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَنْدُوبَ أَوْ يَفْعَلَ الْمَكْرُوهَ رِفْقًا بِنَفْسِهِ كَمَا يَأْتِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ.

هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُكَلَّفَ بِهِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ لِذَاتِهِ، بَلِ الَّذِي نَدَبَ الشَّارِعُ إِلَى فِعْلِهِ مِنْ صَلَاةٍ، أَوْ صَوْمٍ، أَوِ اعْتِكَافٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَخْرُجُ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْمَشَقَّاتِ، وَكَذَا مَا كَرِهَ لَنَا فِعْلَهُ لَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْعَادَةِ.

وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ فِيمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ أَلْزَمَ بِتَرْكِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّهَا بِالْإِلْزَامِ وَفَرْضِ الْعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الْأُخْرَوِيَّةِ، أَوْ كِلَيْهِمَا عَلَى الْمُخَالِفِ لَا يَكُونُ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِمَا خِيَارٌ.

فَأَمَّا بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ التَّيْسِيرَ فِيهِ وَاضِحٌ، فَإِنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ بِرَحْمَتِهِ ضَيَّقَ بَابَ التَّحْرِيمِ جِدًّا، حَتَّى إِنَّ مُحَرَّمَاتِ الْأَطْعِمَةِ يُورِدُهَا الْقُرْآنُ غَالِبًا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فَالْأَصْلُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَنَحْوِهَا الْإِبَاحَةُ، وَالتَّحْرِيمُ اسْتِثْنَاءٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ مَا يَشُقُّ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ كَالْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ أَوِ اللِّبَاسِ أَوِ الْمَسْكَنِ.وَإِنَّمَا انْصَبَّ التَّحْرِيمُ عَلَى أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ مِمَّا لَا يَشُقُّ تَرْكُهُ.وَتِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ إِنَّمَا حَرَّمَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَضْرَارِ عَلَى صِحَّةِ الْإِنْسَانِ، أَوْ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ كَمَا فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ إِلاَّ شَيْئًا مُتَمَحِّضًا لِلضَّرَرِ، أَوْ ضَرَرُهُ أَغْلَبُ مِنْ نَفْعِهِ.وَهَذَا الَّذِي قَدْ يَكُونُ فِيهِ نَفْعٌ يَكُونُ فِي الْحَلَالِ عِوَضٌ عَنْهُ.ثُمَّ إِن اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إِلَى الْمُحَرَّمِ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الشُّعْبَةِ الثَّانِيَةِ.

وَأَمَّا الْفَرَائِضُ وَالْوَاجِبَاتُ فَلَمْ يُكَلِّفْنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَلَا تَرَكَ الْعِبَادَ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ، بَلْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ فِي هَذَا الْأَمْرِ جَارِيَةً عَلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ الْأَعْدَلِ: لَا تَمِيلُ إِلَى فَرْضِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ تَبْهَظُ الْمُكَلَّفَ أَوْ تُقْعِدُهُ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْحَالِ أَوِ الْمَآلِ، أَوْ تُدْخِلُ عَلَيْهِ الْخَلَلَ فِي نَفْسِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ مَالِهِ.

وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: مَا تَرَكَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِنْسَانَ دُونَ تَكْلِيفٍ يَحْصُلُ بِهِ الِابْتِلَاءُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا وَلَمْ يُتْرَكْ سُدًى، بَلْ كَلَّفَتْهُ بِتَكَالِيفَ تَقْتَضِي فِيهِ غَايَةَ التَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ، كَتَكَالِيفِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ.

وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْيُسْرَ، فَإِنَّ الْيُسْرَ يُنَاقِضُهُ الْعُسْرُ، أَمَّا الْوَسَطُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْيُسْرِ؛ إِذْ لَا عُسْرَ فِيهِ.

وَالْوَسَطُ- كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ- هُوَ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ، فَهِيَ وَسَطٌ بَيْنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ.

فَمُعْظَمُهَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّوَسُّطِ، لَا عَلَى مُطْلَقِ التَّخْفِيفِ وَلَا عَلَى مُطْلَقِ التَّشْدِيدِ.

فَالصَّلَاةُ مَثَلاً: خَمْسُ مَرَّاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، كُلُّ صَلَاةٍ مِنْهَا رَكَعَاتٌ مَعْدُودَةٌ، لَا تَتَضَمَّنُ فِعْلاً شَاقًّا، بَلْ مَا فِيهَا مِنَ الْقِيَامِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْأَذْكَارِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُيَسَّرَةٌ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَفْتَرِضْ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا إِلاَّ الْقَلِيلَ، وَلَا مِنَ الْأَذْكَارِ إِلاَّ الْقَلِيلَ، وَتَعَلُّمُهَا وَحِفْظُهَا أَمْرٌ مَيْسُورٌ.وَلَكِنْ قَدْ تَأْتِي الْمَشَقَّةُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَمْثَلِ وَمِنْ جِهَةِ الِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ عَلَيْهَا، مَعَ مُخَالَفَتِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِرَاحَةِ الْبَدَنِ؛ وَلِلِانْطِلَاقِ مَعَ الْأَعْمَالِ وَهَوَى النُّفُوسِ، لَكِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشَقَّةٍ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ أَهْلِ التَّقْوَى.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.

وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ تُفْرَضُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مَالِهِ مَرَّةً كُلَّ عَامٍ، وَذَلِكَ مَيْسُورٌ غَيْرُ مَعْسُورٍ، وَلَمْ تُفْرَضْ إِلاَّ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ أَوِ الْقَابِلَةِ لِلنَّمَاءِ دُونَ مَا لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَاكِنِ وَالْأَثَاثِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ الَّتِي هِيَ لِلِاسْتِعْمَالِ الْخَاصِّ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَى الْمُؤْمِنِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ».وَفُرِضَتْ بِنِسَبٍ يَسِيرَةٍ تَتَفَاوَتُ غَالِبًا تَبَعًا لِلْجُهْدِ الْمَبْذُولِ.

فَالْخُمُسُ فِي الرِّكَازِ؛ لِأَنَّ الْجُهْدَ فِيهِ يَسِيرٌ جِدًّا مَعَ عِظَمِ مَا يَحْصُلُ بِهِ، وَالْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ مِنِ الْأَرْضِ إِنْ كَانَتْ بَعْلاً، وَنِصْفُ الْعُشْرِ إِنْ سُقِيَتْ بِالنَّضْحِ، وَرُبُعُ الْعُشْرِ فِي الْأَمْوَالِ النَّاضَّةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ فِي السَّائِمَةِ، حَتَّى إِنَّ الْغَنَمَ الَّتِي تَبْلُغُ (400) إِلَى (499) شَاةٌ، فِيهَا فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ وَاحِدٌ بِالْمِائَةِ أَوْ أَقَلُّ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا فِي فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّيْسِيرِ الَّتِي تُعْلَمُ بِتَتَبُّعِ أَحْكَامِهَا فِي كُتُبِ الشَّرِيعَةِ.

وَهَكَذَا غَيْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ تُعْرَفُ أَوْجُهَ مَا فِيهَا مِنَ الْيُسْرِ، وَأَنَّهَا أَفْعَالٌ، وَأَقْوَالٌ، وَتَكَالِيفُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ الْبَشَرِ دُونَ مُبَالَغَةٍ وَلَا تَشْدِيدٍ.

أَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِيعَةُ لِتَسْهِيلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا وَالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهَا فَهِيَ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: التَّوْسِيعُ فِي الْوَاجِبَاتِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ، كَصَلَوَاتِ الْفَرَائِصِ، فَإِنَّ فِعْلَهَا لَا يَسْتَغْرِقُ إِلاَّ جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ وَقْتِهَا، فَيَكُونُ لَدَى الْمُكَلَّفِ الْفُرْصَةُ لِأَدَائِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي.

وَمِنْهَا التَّخْيِيرُ فِي الْأَدَاءِ بَيْنَ أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ أَدَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ.

وَمِنَ التَّيْسِيرِ أَيْضًا مَا يَقْبَلُ التَّدَاخُلَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْعُمْرَةُ تَدْخُلُ فِي الْحَجِّ لِمَنْ قَرَنَ.

وَمَوَاضِعُ الْيُسْرِ فِي الشَّرِيعَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَمَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ.وَيُنْظَرُ: (تَخْيِيرٌ، وَتَدَاخُلٌ، وَتَرَاخِي).

الشُّعْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْيُسْرُ التَّخْفِيفِيُّ:

29- وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَرِدَ التَّكْلِيفُ الْعَامُّ بِمَا مَشَقَّتُهُ فِي الْأَصْلِ مُعْتَادَةٌ، وَلَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي فِيهَا مَشَقَّةٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ.

حُكْمُ الْأَخْذِ بِالتَّخْفِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ:

30- التَّثْقِيلُ الَّذِي يَعْتَرِي الْمُكَلَّفَ فِي عِبَادَاتِهِ أَوْ مُعَامَلَاتِهِ، يُقَابِلُهُ تَخْفِيفٌ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ.

وَالتَّخْفِيفُ حُكْمٌ طَارِئٌ عَلَى الْأَصْلِ، رُوعِيَ فِي تَشْرِيعِهِ ضَرُورَاتُ الْعِبَادِ وَأَعْذَارُهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ فُسْحَةً لَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ التَّضْيِيقِ، بِحُصُولِ الْجَوَازِ لِلْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ.

وَالتَّخْفِيفُ قَدْ يُوجِبُ الشَّارِعُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْأَخْذَ بِهِ، وَقَدْ يَجْعَلُهُ مَنْدُوبًا فِي حَقِّهِ، وَقَدْ يَجْعَلُ الْأَخْذَ بِهِ خِلَافَ الْأَوْلَى كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ، وَقَدْ يُبِيحُهُ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَوْ يَتْرُكَهُ عَلَى السَّوَاءِ.

وَمِنَ التَّخْفِيفِ الَّذِي يُنْدَبُ الْأَخْذُ بِهِ، قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُوجِبُ الْقَصْرَ عَلَى الْمُسَافِرِ.وَيُنْدَبُ الْإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ لقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَمِنَ التَّخْفِيفِ الَّذِي هُوَ مَكْرُوهٌ، أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى، الْفِطْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ إِذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ، وَكَذَا الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَمِنْهُ التَّيَمُّمُ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الثَّمَنِ.وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ خِلَافٌ فِي حُكْمِهَا، فَيُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِهَا.

وَمِنَ التَّخْفِيفِ الْمُبَاحِ مَا رُخِّصَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ كَبَيْعِ السَّلَمِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ رَخَّصَ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ إِذِ الْأَصْلُ مَنْعُهُ، لَكِنْ رَخَّصَ فِيهِ تَخْفِيفًا عَلَى النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ، وَكَذَا الْمُسَاقَاةُ، وَالْقِرَاضُ، وَبَيْعُ الْعَرَايَا.

أَسْبَابُ التَّخْفِيفِ:

31- لِلتَّخْفِيفِ أَسْبَابٌ بُنِيَتْ عَلَى الْأَعْذَارِ.وَقَدْ رَخَّصَ الشَّارِعُ لِأَصْحَابِهَا بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ: فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْبُيُوعِ، وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا.

فَكُلُّ مَا تَعَسَّرَ أَمْرُهُ، وَشَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَضْعُهُ، يَسَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِالتَّخْفِيفِ، وَضَبَطَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْقَوَاعِدِ الْمُحْكَمَةِ.

وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْأَعْذَارِ الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْعِبَادِ: الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَالْإِكْرَاهُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالْجَهْلُ، وَالْعُسْرُ، وَعُمُومُ الْبَلْوَى.

السَّبَبُ الْأَوَّلُ: الْمَرَضُ:

32- الْمَرِيضُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بَدَنُهُ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ وَالِاعْتِيَادِ فَيَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْهُ.

وَقَدْ خَصَّتِ الشَّرِيعَةُ الْمَرِيضَ بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنَ التَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ مَظِنَّةٌ لِلْعَجْزِ.فَخَفَّفَ عَنْهُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الْوُضُوءِ، أَوْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، أَوْ خَوْفِهِ زِيَادَةَ الْمَرَضِ، وَكُلُّ مَا كَانَ الْمَاءُ سَبَبًا فِي الْهَلَاكِ أَوْ تَأَخُّرِ شِفَائِهِ، أَوْ زِيَادَةِ الْمَرَضِ، رَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ تَخْفِيفًا، وَالِانْتِقَالِ إِلَى التَّيَمُّمِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمِ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.

كَمَا خَفَّفَ عَنْهُ غَسْلَ الْعُضْوِ الْمُجَبَّرِ، إِلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ، مَوْقُوتًا بِالْبُرْءِ.وَخَفَّفَ عَنْهُ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ، فِي أَدَائِهَا قَاعِدًا، أَوْ مُضْطَجِعًا، أَوْ مُومِئًا، أَوْ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ عَجْزِهِ الَّذِي سَبَّبَهُ الْمَرَضُ، يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ أَصَابَهُ الْمَرَضُ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».وَخَفَّفَ عَنِ الْمَرِيضِ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.وَخَفَّفَ عَنْهُ بِإِجَازَةِ التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الطَّبِيبِ لِلْعَوْرَةِ وَلَوْ لِلسَّوْأَتَيْنِ.

وَخَفَّفَ أَيْضًا عَنِ الْمَرِيضِ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الصِّيَامِ، بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ، وَقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَخَفَّفَ عَنِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ، فَخَصَّهُ بِجَوَازِ إِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ بَدَلاً عَنِ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.

وَأُجِيزَ لِلْمَرِيضِ الْخُرُوجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ.

وَخَفَّفَ الشَّرْعُ عَنِ الْمَرِيضِ أَيْضًا بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَأَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ، مَعَ ذَبْحِ هَدْيٍ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ.

وَأَجَازَ لَهُ الِاسْتِنَابَةَ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، وَأَبَاحَ لَهُ فِعْلَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، مِنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَنَحْوِهِ، كَمَا أَبَاحَ لَهُ حَلْقَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ قَمْلٌ وَاحْتَاجَ إِلَى الْحَلْقِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَرَضَ سَبَبًا فِي التَّخْفِيفِ عَنِ الْمَرِيضِ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ بِتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِ، بِمَا يُصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ أَلَمٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ غَمٍّ.

يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».

هَذَا بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ، مِمَّا وَرَدَ فِي التَّخْفِيفِ عَنِ الْمَرِيضِ فِي الْعِبَادَاتِ.

وَهُنَاكَ تَخْفِيفَاتٌ أُخْرَى وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ، يَضِيقُ الْمَقَامُ عَنْ ذِكْرِهَا.

وَالِاسْتِحَاضَةُ، وَالسَّلَسُ، مِنْ قَبِيلِ الْمَرَضِ، وَلَهُمَا تَخْفِيفَاتُهُمَا الْمَعْرُوفَةُ

.السَّبَبُ الثَّانِي: السَّفَرُ:

33- السَّفَرُ سَبَبٌ لِلتَّخْفِيفِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةٍ؛ وَلِحَاجَةِ الْمُسَافِرِ إِلَى التَّقَلُّبِ فِي حَاجَاتِهِ، وَقَضَاءِ مَآرِبِهِ مِنْ سَفَرِهِ؛ وَلِذَا شُرِعَ التَّخْفِيفُ عَنِ الْمُسَافِرِ فِي الْعِبَادَاتِ.

قَالَ السُّيُوطِيّ نَقْلاً عَنِ النَّوَوِيِّ: وَرُخَصُ السَّفَرِ ثَمَانٍ: فَمِنْهَا الْقَصْرُ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}.

وَمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى مَكَّةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ».

وَمِنْهَا: رُخْصَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ».

وَمِنْهَا: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا.

وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلسَّفَرِ الْمُجَوِّزِ لِلتَّخْفِيفِ شُرُوطًا مِنْهَا- عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ- أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مَشْرُوعًا- وَلَوْ مُبَاحًا- كَالسَّفَرِ لِلْحَجِّ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالتِّجَارَةِ لِئَلاَّ يَكُونَ التَّخْفِيفُ إِعَانَةً لِلْعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ.

السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْإِكْرَاهُ:

34- الْإِكْرَاهُ هُوَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ لَا يَرْضَاهُ وَذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ، أَوْ بِقَطْعِ طَرَفٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا، إِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا يُطْلَبْ مِنْهُ (وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ إِكْرَاهٌ)، وَقَدْ عَدَّ الشَّارِعُ الْإِكْرَاهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عُذْرًا مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُخَفِّفَةِ، الَّتِي تَسْقُطُ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتُخُفِّفَ عَنِ الْمُكْرَهِ مَا يَنْتُجُ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ دُنْيَوِيَّةٍ، أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ، بِحُدُودِهِ.

وَشَبِيه بِمَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ مَسْأَلَةُ التَّقِيَّةِ فَإِنَّ التَّقِيَّةَ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمُحَرَّمَ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ مَكْرُوهٍ دُونَ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ إِكْرَاهٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ يَتْرُكَ الْوَاجِبَ لِأَجْلِ ذَلِكَ.وَلَهَا ضَوَابِطُ فِيمَا يَحِلُّ بِهَا (ر: تَقِيَّةٌ).

السَّبَبُ الرَّابِعُ: النِّسْيَانُ:

35- النِّسْيَانُ هُوَ عَدَمُ اسْتِحْضَارِ الْإِنْسَانِ مَا كَانَ يَعْلَمُهُ، بِدُونِ نَظَرٍ وَتَفْكِيرٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ.وَقَدْ جَعَلَتْهُ الشَّرِيعَةُ عُذْرًا وَسَبَبًا مُخَفِّفًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ رَفَعَ عَنَّا إِثْمَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَالْخَطَأِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ.فَفِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ يُعْذَرُ النَّاسِي وَيُرْفَعُ عَنْهُ الْإِثْمُ مُطْلَقًا.

فَالنِّسْيَانُ- كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ السُّيُوطِيّ-: مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ مُطْلَقًا.وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

أَمَّا النِّسْيَانُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يُعَدُّ عُذْرًا مُخَفِّفًا؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَالْمُطَالَبَةِ، فَلَا يَكُونُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِيهَا.

السَّبَبُ الْخَامِسُ: الْجَهْلُ:

36- الْجَهْلُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِأَسْبَابِهَا.

وَالْجَهْلُ عُذْرٌ مُخَفِّفٌ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ اتِّفَاقًا، فَلَا إِثْمَ عَلَى مَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ أَوْ تَرَكَ الْوَاجِبَ جَاهِلاً، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.

أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّسْيَانِ، إِنْ وَقَعَ الْجَهْلُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ لَمْ يَسْقُطْ بَلْ يَجِبُ تَدَارُكُهُ، وَلَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَدَارُكٍ، أَوْ وَقَعَ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، أَوْ فِيهِ إِتْلَافٌ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ، كَمَا فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ قَطْعِ شَجَرِهِ.وَإِنْ كَانَ الْجَهْلُ فِي فِعْلِ مَا فِيهِ عُقُوبَةٌ كَانَ شُبْهَةً فِي إِسْقَاطِهَا، وَلَا يُؤَثِّرُ الْجَهْلُ فِي إِسْقَاطِ حُقُوقِ الْعِبَادِ.

وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِي الْعِلْمِ بِهِ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُقْبَلْ، مَا لَمْ يَكُنْ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ يَخْفَى فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ، كَتَحْرِيمِ الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْلُ فِيمَا يَخْفَى حُكْمُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَامِّيِّ دُونَ الْعَالِمِ، فَتُقْبَلُ فِيهِ دَعْوَى الْجَهْلِ مِنَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، كَكَوْنِ الْقَدْرِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنَ الْكَلَامِ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ، أَوْ كَوْنِ النَّوْعِ الَّذِي دَخَلَ جَوْفَهُ مُفْسِدًا لِلصَّوْمِ، فَالْأَصَحُّ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمُ الْبُطْلَانِ.

وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ قَدِيمِ الْإِسْلَامِ لِاشْتِهَارِهِ، وَتُقْبَلُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْخَوَاصُّ.

وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْهُ ذَلِكَ، كَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ فِيهِ، فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ.

السَّبَبُ السَّادِسُ: الْخَطَأُ:

37- الْخَطَأُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ أَوْ فِي الْقَصْدِ.فَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ: كَمَنْ يَرْمِي صَيْدًا فَيُصِيبُ إِنْسَانًا، أَوْ فِي قَصْدِهِ: كَمَنْ يَرْمِي شَخْصًا يَظُنُّهُ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ.وَكَمَنِ اجْتَهَدَ فِي التَّعَرُّفِ عَلَى الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا خِلَافُهَا.وَالْخَطَأُ بِنَوْعَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُخَفِّفَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَلَيْسَ الْخَطَأُ مُسْقِطًا حُقُوقَ الْعِبَادِ، فَلَوْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ خَطَأً فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ.

وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُخَفِّفًا فِي الْجِنَايَاتِ، دَارِئًا لِلْحُدُودِ، فَيُخَفِّفُ عَنِ الْقَاتِلِ خَطَأً مِنَ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ، وَيَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ الْوَاطِئِ غَيْرَ زَوْجَتِهِ خَطَأً.

أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَيَسْقُطُ الْإِثْمُ، وَقَدْ تَسْقُطُ مُطَالَبَةُ الشَّارِعِ بِإِعَادَةِ الْعِبَادَةِ مَرَّةً أُخْرَى.

هَذَا وَإِنَّ قَوَاعِدَ التَّخْفِيفِ الْمَذْكُورَةَ فِي أَبْوَابِ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالْخَطَأِ هِيَ قَوَاعِدُ غَالِبِيَّةٌ يَقَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الِاسْتِثْنَاءَاتِ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ كُتُبِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَكُتُبِ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ، حَصْرَهَا فَيُرْجَعُ إِلَيْهَا هُنَاكَ.وَانْظُرْ أَيْضًا (نِسْيَانٌ.جَهْلٌ.خَطَأٌ).

السَّبَبُ السَّابِعُ: الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى:

38- يَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْذَارُ الْغَالِبَةُ الَّتِي تَكْثُرُ الْبَلْوَى بِهَا وَتَعُمُّ فِي النَّاسِ، دُونَ مَا كَانَ مِنْهَا نَادِرًا، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ فَرَّقَ فِي الْأَعْذَارِ بَيْنَ غَالِبِهَا وَنَادِرِهَا، فَعَفَا عَنْ غَالِبِهَا لِمَا فِي اجْتِنَابِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ.وَإِنَّمَا تَكُونُ غَالِبَةً لِتَكَرُّرِهَا، وَكَثْرَتِهَا وَشُيُوعِهَا فِي النَّاسِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْهَا نَادِرًا فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ عُذْرًا لِانْتِفَاءِ الْمَشَقَّةِ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ عُسْرٌ كَمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَمَّا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ مِنْ رَشَاشِ الْبَوْلِ فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا.وَمَثَّلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِمَنْ أَتَى بِمَحْظُورِ الصَّلَاةِ نِسْيَانًا، فَإِنَّهُ إِنْ قَصُرَ زَمَانُهُ يُعْفَى عَنْهُ اتِّفَاقًا لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَإِنْ طَالَ زَمَانُهُ فَفِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَهِكِ الْحُرْمَةَ، وَالْآخَرُ: لَا يُعْفَى عَنْهُ لِأَنَّهُ نَادِرٌ.

وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الصَّلَاةَ حَتَّى لَا تَجِبَ وَلَا يَجِبَ قَضَاؤُهَا؛ لِتَكَرُّرِهَا كُلَّ شَهْرٍ، بِخِلَافِ قَضَاءِ مَا تُفْطِرُهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَجِبُ لِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً.وَأَيْضًا «قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْهِرَّةِ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» فَقَدْ عَلَّلَ طَهَارَتَهَا بِكَثْرَةِ طَوَافِهَا أَيْ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا لِكَثْرَةِ مُلَابَسَتِهَا لِثِيَابِ النَّاسِ وَآنِيَتِهِمْ، مَعَ كَوْنِهَا تَأْكُلُ الْفَأْرَ وَالْمَيْتَةَ.وَمَا رُوِيَ أَنَّ «أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ؟ قَالَ: يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ» وَقَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَ فِيهِمَا أَذًى أَوْ قَذَرًا فَلْيَمْسَحْهُ وَلِيُصَلِّ فِيهِمَا».

وَالتَّخْفِيفُ بِالْعُسْرِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى يَدْخُلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِيعَةِ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مَا جَمَعَهُ السُّيُوطِيّ وَغَيْرُهُ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ: بَيْعُ الرُّمَّانِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهِمَا فِي الْقِشْرِ، وَبَيْعُ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ السَّلَمُ، مَعَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِرُؤْيَةِ ظَاهِرِ الصُّبْرَةِ، وَأُنْمُوذَجِ الْمُتَمَاثِلِ.

السَّبَبُ الثَّامِنُ: النَّقْصُ:

39- إِنَّ الْإِنْسَانَ إِنْ كَانَتْ قُدُرَاتُهُ نَاقِصَةً يَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَمَّلَ مِثْلَ مَا يَحْمِلُهُ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ التَّخْفِيفَ.

فَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ.

وَمِنْهُ عَدَمُ تَكْلِيفِ الْأَرِقَّاءِ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْأَحْرَارِ، كَالْجُمُعَةِ، وَتَنْصِيفِ الْحُدُودِ وَالْعَدَدِ.

وَمِنْهُ التَّخْفِيفَاتُ الْوَارِدَةُ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ.فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ خَفَّفَتْ عَنْهُنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، فَرَفَعَتْ عَنْهُنَّ كَثِيرًا مِمَّا أُلْزِمَ بِهِ الرِّجَالُ مِنْ أَحْكَامٍ.وَمِنْ ذَلِكَ الْجَمَاعَةُ، وَالْجُمُعَةُ، وَأَبَاحَتْ بَعْضَ مَا حُرِّمَ عَلَى الرَّجُلِ كَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ.

السَّبَبُ التَّاسِعُ: الْوَسْوَسَةُ:

40- الْمُوَسْوِسُ هُوَ مَنْ يَشُكُّ فِي الْعِبَادَةِ وَيَكْثُرُ مِنْهُ الشَّكُّ فِيهَا حَتَّى يَشُكَّ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ الشَّيْءَ وَهُوَ قَدْ فَعَلَهُ.وَالشَّكُّ فِي الْأَصْلِ مُوجِبٌ لِلْعَوْدِ لِمَا شَكَّ فِي تَرْكِهِ، كَمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ وَشَكَّ هَلْ رَكَعَ أَمْ لَا، فَإِنَّ عَلَيْهِ الرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ.وَمَنْ شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا جَعَلَهَا ثَلَاثًا وَأَتَى بِوَاحِدَةٍ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.لَكِنْ إِنْ كَانَ مُوَسْوِسًا فَلَا يَلْتَفِتُ لِلْوَسْوَاسِ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي الْحَرَجِ، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ فِي الشَّرِيعَةِ، بَلْ يَمْضِي عَلَى مَا غَلَبَ فِي نَفْسِهِ.تَخْفِيفًا عَنْهُ وَقَطْعًا لِلْوَسْوَاسِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالِاحْتِيَاطُ حَسَنٌ مَا لَمْ يُفِضْ بِصَاحِبِهِ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى ذَلِكَ فَالِاحْتِيَاطُ تَرْكُ هَذَا الِاحْتِيَاطِ.

السَّبَبُ الْعَاشِرُ: التَّرْغِيبُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَحَدَاثَةُ الدُّخُولِ فِيهِ:

41- وَهَذَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّيْسِيرِ يُعْلَمُ بِتَتَبُّعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَمِمَّا شُرِعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْإِسْلَامِ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ بِالتَّحْرِيمِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُدُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّبَبِ الْخَامِسِ.

وَمِنْهُ سُقُوطُ الْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى السَّابِقَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا يُطَالَبُ بِقَضَائِهَا: حَتَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ؛ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَلِئَلاَّ تَكُونَ مَشَقَّةُ الْقَضَاءِ حَائِلاً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ.

وَمِنْهُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِلْكَافِرِ الَّذِي يُرْجَى إِسْلَامُهُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ لِتَمِيلَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَإِعْطَاءُ مَنْ أَسْلَمَ حَدِيثًا إِذَا كَانَ فِي إِعْطَائِهِ قُوَّةٌ لِلْإِسْلَامِ، أَوْ تَرْغِيبٌ لِنُظَرَائِهِ لِيُسْلِمُوا.

وَمِنْهُ تَوْرِيثُ الْكَافِرِ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ إِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ انْفَرَدُوا بِهِ؛ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.

الْمَشَاقُّ الْمُوجِبَةُ لِلتَّيْسِيرِ:

42- الْمَشَاقُّ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَشَاقَّ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا التَّكْلِيفُ غَالِبًا كَمَشَقَّةِ الْبَرْدِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَمَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَطُولِ النَّهَارِ، وَمَشَقَّةِ السَّفَرِ الَّتِي لَا انْفِكَاكَ لِلْحَجِّ وَالْجِهَادِ عَنْهَا غَالِبًا، وَمَشَقَّةِ أَلَمِ الْحُدُودِ كَرَجْمِ الزُّنَاةِ، وَقَتْلِ الْجُنَاةِ، وَقِتَالِ الْبُغَاةِ، فَلَا أَثَرَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ فِي إِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ الْوَاجِبِ، فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، أَيْ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِمَصَالِحَ يَعْلَمُهَا، فَيَكُونُ إِسْقَاطُهَا دَائِمًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُلَازِمَةِ إِلْغَاءً لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ.

وَالْقِسْمِ الثَّانِي: مَشَاقَّ يَنْفَكُّ عَنْهَا التَّكْلِيفُ غَالِبًا، فَمَا لَا يُطَاقُ مِنْهَا اقْتَضَى التَّخْفِيفَ بِالْإِسْقَاطِ أَوْ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً فَادِحَةً كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، أَوِ الْأَعْضَاءِ، فَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلتَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ، وَالْأَطْرَافِ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الدِّينِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلْفَوَاتِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِبَادَاتٍ يَفُوتُ بِهَا أَمْثَالُهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ خَفِيفَةً كَأَدْنَى وَجَعٍ فِي أُصْبُعٍ، أَوْ سُوءِ مِزَاجٍ خَفِيفٍ، فَهَذَا لَا أَثَرَ لَهُ، وَلَا يَتَرَخَّصُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَصَالِحِ الْعِبَادَاتِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا، وَالْمَشَقَّةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ مَا دَنَا مِنْهَا مِنَ الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ، أَوْ مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يُوجِبْهُ، كَحُمَّى خَفِيفَةٍ، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مِمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ غَالِبًا.وَلَا ضَبْطَ لِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ إِلاَّ بِالتَّقْرِيبِ.

قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَتَخْتَلِفُ الْمَشَاقُّ بِاخْتِلَافِ الْعِبَادَاتِ فِي اهْتِمَامِ الشَّرْعِ.فَمَا اشْتَدَّ اهْتِمَامُهُ بِهِ شَرَطَ فِي تَخْفِيفِهِ الْمَشَاقَّ الشَّدِيدَةَ أَوِ الْعَامَّةَ، وَمَا لَمْ يَهْتَمَّ بِهِ خَفَّفَهُ بِالْمَشَاقِّ الْخَفِيفَةِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ مَشَاقُّهُ مَعَ شَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لِتَكَرُّرِ مَشَاقِّهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى الْمَشَاقِّ الْعَامَّةِ الْكَثِيرَةِ الْوُقُوعِ.

وَمِنْ هُنَا جَاءَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ (الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ) وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ، يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُجْتَهِدُ وَالْمُفْتِي كَثِيرًا.

وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيّ: يَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَالِبُ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.

وَمِثْلُهَا قَاعِدَةُ (إِنَّ الْأَمْرَ إِذَا ضَاقَ اتَّسَعَ) وَالْمُرَادُ بِالِاتِّسَاعِ التَّرَخُّصُ عَنِ اتِّبَاعِ الْأَقْيِسَةِ وَطَرْدِ الْقَوَاعِدِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الضِّيقِ وَهُوَ الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ.

غَيْرَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ مُقَيَّدَتَانِ بِقَاعِدَةٍ أُخْرَى هِيَ أَنَّ (الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ) وَدَلِيلُهَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: «هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنَ الْأُصُولِ الشَّائِعَةِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُنْسَى مَا أُقِيمَتْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ».وَوَجْهُهَا أَنَّ الْعُسْرَ هُوَ سَبَبُ التَّخْفِيفِ، فَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ مَيْسُورًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْفِيفِ فِيهِ مَوْضِعٌ.

وَمِنْ فُرُوعِهَا: إِذَا كَانَ مَقْطُوعَ بَعْضِ الْأَطْرَافِ غَسَلَ الْبَاقِيَ جَزْمًا.وَالْقَادِرُ عَلَى سَتْرِ بَعْضِ عَوْرَتِهِ دُونَ بَعْضٍ سَتَرَ الْقَدْرَ الْمُمْكِنَ.وَالْقَادِرُ عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ دُونَ بَعْضٍ يَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ.وَمَنْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِي لِكُلِّ طَهَارَتِهِ اسْتَعْمَلَهُ.وَمَنْ وَجَدَ بَعْضَ صَاعٍ فِي الْفِطْرَةِ أَخْرَجَهُ.

وَهِيَ قَاعِدَةٌ غَالِبِيَّةٌ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهَا فُرُوعٌ مِنْهَا: وَاجِدُ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يُعْتِقُهَا، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى الْبَدَلِ.وَمِنْهَا: الْقَادِرُ عَلَى صَوْمِ بَعْضِ يَوْمٍ دُونَ كُلِّهِ لَا يَلْزَمُهُ إِمْسَاكُهُ، وَإِذَا وَجَدَ الشَّفِيعُ بَعْضَ الثَّمَنِ لَا يَأْخُذُ قِسْطَهُ مِنَ الشِّقْصِ.

تَعَارُضُ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالنَّصِّ:

43- ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي أَشْبَاهِهِ.

وَنَقَلَ عَنِ السَّرَخْسِيِّ قَوْلَهُ: «إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْبَلْوَى فِي مَوْضِعٍ لَا نَصَّ فِيهِ بِخِلَافِهِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ».ثُمَّ قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ ( بِحُرْمَةِ رَعْيِ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَقَطْعِهِ إِلاَّ الْإِذْخِرَ.

وَمِنْ فُرُوعِهَا أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ نُجَيْمٍ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِتَغْلِيظِ نَجَاسَةِ الْأَرْوَاثِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الرَّوْثَةِ: «إِنَّهَا رِكْسٌ» أَيْ نَجَسٌ، وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَهُ بِالْبَلْوَى فِي مَوْضِعِ النَّصِّ.

وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا؛ وَلِذَا خَالَفَ فِي الْفَرْعِ الْأَوَّلِ أَبُو يُوسُفَ، فَأَجَازَ رَعْيَ حَشِيشِ الْحَرَمِ؛ لِلْحَرَجِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْهُ.وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ رَعْيُهُ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ كَانَتْ تَدْخُلُ الْحَرَمَ فَتَكْثُرُ فِيهِ، فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَتْ تُسَدُّ أَفْوَاهُهَا؛ وَلِأَنَّ بِهِمْ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ، أَشْبَهَ قَطْعَ الْإِذْخِرِ.

أَنْوَاعُ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ:

44- أَوْرَدَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخْفِيفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الشَّرِيعَةِ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهَا غَيْرُهُ: فَالسِّتَّةُ هِيَ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: تَخْفِيفُ الْإِسْقَاطِ، فَيَسْقُطُ الْفِعْلُ عَنِ الْمُكَلَّفِ، كَإِسْقَاطِ الْجُمُعَةِ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، وَالْحَجِّ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، وَالْجِهَادِ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَمَقْطُوعِ الْيَدِ، وَكَإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: تَخْفِيفُ تَنْقِيصٍ، كَقَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ وَالِاكْتِفَاءِ بِرَكْعَتَيْنِ لِدَفْعِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، وَتَنْقِيصِ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرِيضُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَوَاتِ عَنِ الْحَدِّ الْأَدْنَى الْمُجْزِئِ لِغَيْرِ الْمَرِيضِ، كَتَنْقِيصِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِلَى الْحَدِّ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخْفِيفُ إِبْدَالٍ، كَإِجَازَةِ الشَّارِعِ لِلْمَرِيضِ إِبْدَالَ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ بِالتَّيَمُّمِ، وَإِبْدَالَ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ بِالْقُعُودِ، أَوِ الِاضْطِجَاعِ، وَإِبْدَالَ الصِّيَامِ لِلشَّيْخِ الْفَانِي بِالْإِطْعَامِ، وَإِبْدَالَ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ بِالْكَفَّارَاتِ عِنْدَ قِيَامِ الْأَعْذَارِ.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: تَخْفِيفُ تَقْدِيمٍ، كَإِجَازَةِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ فِي الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ وَالْحَاجِّ، وَإِجَازَةِ تَعْجِيلِ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عَنِ الْحَوْلِ لِدَاعٍ، وَتَقْدِيمِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ قَبْلَ يَوْمِ الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ، وَأَجَازَ الْبَعْضُ تَقْدِيمَهَا لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


22-موسوعة الفقه الكويتية (ثواب)

ثَوَابٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الثَّوَابُ: الْعِوَضُ: وَاللَّهُ يَأْجُرُ عَبْدَهُ، أَيْ يُثِيبُهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ ثَابَ أَيْ رَجَعَ، كَأَنَّ الْمُثِيبَ يُعَوِّضُ الْمُثَابَ مِثْلَ مَا أَسْدَى إِلَيْهِ

وَالثَّوَابُ: الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ يَعُودُ إِلَى الْمَجْزِيِّ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْإِثَابَةِ أَوِ التَّثْوِيبِ، مِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْهِبَةِ: مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ.

وَالثَّوَابُ: جَزَاءُ الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَثُوبَةُ، قَالَ تَعَالَى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} وَأَعْطَاهُ ثَوَابَهُ وَمَثُوبَتَهُ، أَيْ جَزَاءَ مَا عَمِلَهُ.

وَفِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ: الثَّوَابُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّفَاعَةَ مِنَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَقِيلَ: الثَّوَابُ هُوَ إِعْطَاءُ مَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ.

وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: الثَّوَابُ مِقْدَارٌ مِنَ الْجَزَاءِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ لِعِبَادِهِ فِي نَظِيرِ أَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ الْمَقْبُولَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحَسَنَةُ:

2- الْحَسَنَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَدْحُ فِي الْعَاجِلِ وَالثَّوَابُ فِي الْآجِلِ.وَهِيَ بِذَلِكَ تَكُونُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ.

ب- الطَّاعَةُ:

3- الطَّاعَةُ: الِانْقِيَادُ فَإِذَا كَانَتْ فِي الْخَيْرِ كَانَتْ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمَعْصِيَةِ كَانَتْ سَبَبًا فِي الْعِقَابِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ مِنْ أَحْكَامٍ.

لِلثَّوَابِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِطْلَاقَانِ:

أ- الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ جَزَاءَ طَاعَتِهِ.

ب- الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ (أَيْ الْعِوَضِ الْمَالِيِّ).

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا:

الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:

4- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، بَلِ الثَّوَابُ فَضْلُهُ وَالْعِقَابُ عَدْلُهُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} وَالتَّكَالِيفُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الْكُلِّ، لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ الطَّائِعِينَ، وَلَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِينَ.، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَامَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَسْبَابٍ رَبَطَهَا بِهَا، لِيَعْرِفَ الْعِبَادُ بِالْأَسْبَابِ أَحْكَامَهَا، فَيُسَارِعُوا بِذَلِكَ إِلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، إِذَا وَقَفُوا عَلَى الْأَسْبَابِ، فَأَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ كُلَّهُمْ وَنَهَاهُمْ، وَقَدْ وَعَدَ مَنْ أَطَاعَهُ بِالثَّوَابِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ عَصَاهُ بِالْعِقَابِ.

مَنْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ:

5- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُثَابُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى الْمَعَاصِي إِلاَّ أَنْ يَشْمَلَهُ اللَّهُ بِعَفْوِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.

6- أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ لِمَا لَهُ مِنْ قُدْرَةٍ قَاصِرَةٍ، وَتَصِحُّ عِبَادَتُهُ مِنْ صَلَاةٍ، وَصَوْمٍ، وَاعْتِكَافٍ، وَحَجٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ مَا يَعْمَلُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِبَادَتِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ» وَحَدِيثُ صَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ» وَحَدِيثُ تَصْوِيمِ الصَّحَابَةِ الصِّبْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.فَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ.قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ.فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ» وَقَدْ رَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ تَعَلُّقَ النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ بِالصَّبِيِّ دُونَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْبُلُوغُ، وَذَلِكَ لِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ مِنَ الشَّارِعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ أَمْرٌ بِالشَّيْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُسْلِمًا بَعْدَ الْجُنُونِ وَالْمُسْلِمُ يُثَابُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ: (صَبِيٌّ، جُنُونٌ، أَهْلِيَّةٌ).

7- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ثُمَّ يُسْلِمُ، هَلْ يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ السَّابِقُ أَوْ لَا يَنْفَعُهُ؟ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ «حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَمِنْ صِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ».

قَالَ الْحَرْبِيُّ: مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ لَكَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي عَمِلْتَهُ هُوَ لَكَ.وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي أَسْلَفَهُ، كُتِبَ لَهُ، لَكِنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَقَلَ عَنِ الْمَازِرِيِّ رِوَايَةً أُخْرَى فِي مَكَانٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّقَرُّبُ، فَلَا يُثَابُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الصَّادِرِ مِنْهُ فِي شِرْكِهِ...وَتَابَعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَلَى ذَلِكَ.

وَاسْتَضْعَفَ النَّوَوِيُّ رَأْيَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الثَّوَابِ وَقَالَ: الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ بَلْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ، وَقَدْ جَزَمَ بِمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْمُنِيرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.

أَمَّا مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ثُمَّ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا قَالَ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يُطْعَمُ فِي الدُّنْيَا بِمَا عَمِلَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا».

مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَشُرُوطُهُ:

8- مِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُثَابُ- بِفَضْلِ اللَّهِ- عَلَى مَا يُؤَدِّي مِنْ طَاعَاتٍ، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ مَنْدُوبَةً، وَعَلَى مَا يَتْرُكُ مِنْ مُحَرَّمَاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ.يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وَيَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ» لَكِنَّ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ لَيْسَ سَبَبًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ- لِلثَّوَابِ- مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُجْزِئًا وَمُبْرِئًا لِلذِّمَّةِ وَالتَّرْكُ كَافِيًا لِلْخُرُوجِ مِنَ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِحُصُولِ الثَّوَابِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ نِيَّةُ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.بَلْ إِنَّ الْمُبَاحَاتِ رَغْمَ أَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، لَكِنْ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّوَابُ بِجَعْلِهَا وَسِيلَةً لِلْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ افْتَقَرَتْ إِلَى نِيَّةٍ.

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَالْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا تَنْحَصِرُ، مِنْهَا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: لَا ثَوَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: قَرَّرَ الْمَشَايِخُ فِي حَدِيثِ.«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى، إِذْ لَا يَصِحُّ بِدُونِ تَقْدِيرٍ لِكَثْرَةِ وُجُودِ الْأَعْمَالِ بِدُونِهَا فَقَدَّرُوا مُضَافًا أَيْ حُكْمَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ الثَّوَابُ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ، وَدُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ، وَقَدْ أُرِيدَ الْأُخْرَوِيُّ بِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَسَاقَ ابْنُ نُجَيْمٍ الْأَمْثِلَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا تُشْتَرَطُ لِلثَّوَابِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ، بَلْ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً بِغَيْرِ تَعَمُّدِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى مُحْدِثًا عَلَى ظَنِّ طَهَارَتِهِ.

9- بَلْ إِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُثَابُ عَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْ، وَيَكُونُ الثَّوَابُ عَلَى النِّيَّةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً» وَقَوْلِهِ: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّيَ فِي اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ»

وَيُثَابُ كَذَلِكَ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الْمُنَاسِبَ، فَفِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثُ الْمُتَصَدِّقِ الَّذِي وَقَعَتْ صَدَقَتُهُ فِي يَدِ زَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ وَسَارِقٍ.وَحَدِيثُ «مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ الَّذِي أَخَذَ صَدَقَةَ أَبِيهِ مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي وُضِعَتْ عِنْدَهُ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقُرُبَاتِ الَّتِي لَا لُبْسَ فِيهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِيَّةٌ).

مَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِمَّا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ:

لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الثَّوَابَ يَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ وَاكْتِسَابِهِ، أَمَّا ثَوَابُ مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ.وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ:

أَوَّلًا- فِيمَا يَهَبُهُ الْإِنْسَانُ لِغَيْرِهِ مِنَ الثَّوَابِ:

10- يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ ثَوَابَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ صَلَاةً، أَمْ صَوْمًا، أَمْ حَجًّا، أَمْ صَدَقَةً، أَمْ قِرَاءَةً وَذِكْرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ لِظَاهِرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَدْ «ضَحَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْهُ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ» وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ». وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فَمَعْنَاهُ لَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ فِيمَا عَدَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا عَدَا الصَّلَاةَ، وَفِي الصِّيَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خِلَافٌ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

11- وَاخْتُلِفَ فِي إِهْدَاءِ الثَّوَابِ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَهُ الْآخَرُونَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي بَعْضِ فَتَاوِيهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الشَّارِعِ، لَكِنَّ الْحَطَّابَ قَالَ: التَّصَرُّفُ الْمَمْنُوعُ مَا يَكُونُ بِصِيغَةِ جَعَلْتُهُ لَهُ، أَوْ أَهْدَيْتُهُ لَهُ، أَمَّا الدُّعَاءُ بِجَعْلِ ثَوَابِهِ لَهُ فَلَيْسَ تَصَرُّفًا بَلْ سُؤَالٌ لِنَقْلِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ أَدَاءٌ (ف 14).

(الْمَوْسُوعَةُ 2 334).

ثَانِيًا- ثَوَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ:

12- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، لَكِنْ هَلْ يَحْصُلُ ثَوَابُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ؟

قَالَ الْفُقَهَاءُ: الثَّوَابُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَحْصُلُ لِفَاعِلِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ ثَوَابُ الْفِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ لِفَاعِلِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْفَاعِلِ فَيَسْتَوِي مَعَ الْفَاعِلِ فِي سُقُوطِ التَّكْلِيفِ، لَا فِي الثَّوَابِ وَعَدَمِهِ، نَعَمْ إِنْ كَانَ نَوَى الْفِعْلَ فَلَهُ الثَّوَابُ عَلَى نِيَّتِهِ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِغَيْرِ مَنْ رَدَّ السَّلَامَ- أَيْ بَعْدَ رَدِّ غَيْرِهِ- إِذَا نَوَى الرَّدَّ وَتَرَكَهُ لِأَجْلِ رَدِّ الْغَيْرِ، وَإِلاَّ فَلَا.وَنُقِلَ عَنِ الْأَبِيِّ أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ مُطْلَقًا قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: وَفِيهِ تَعَسُّفٌ.

ثَالِثًا- الْمَصَائِبُ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْإِنْسَانِ هَلْ يُثَابُ عَلَيْهَا أَمْ لَا

13- الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ، كَفَّرَ بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وَأَخَذَ بِهَا مِنْ أَجْرِ غَيْرِهِ، وَحَمَلَ غَيْرُهُ وِزْرَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- فِي الْمُفْلِسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: فَهِيَ كَفَّارَاتٌ فَقَطْ، أَوْ كَفَّارَاتٌ وَأُجُورٌ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْمَصَائِبُ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ قَطْعًا، سَوَاءٌ أَسَخِطَ، أَمْ رَضِيَ، غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ صَبَرَ وَرَضِيَ اجْتَمَعَ مَعَ التَّكْفِيرِ الثَّوَابُ، فَالْمَصَائِبُ لَا ثَوَابَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُصِيبَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ، وَالتَّكْفِيرُ بِالْمُصِيبَةِ يَقَعُ بِالْمُكْتَسَبِ وَغَيْرِ الْمُكْتَسَبِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةٌ لِذَنْبٍ يُوَازِيهَا، وَبِالرِّضَا يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَابِ ذَنْبٌ عُوِّضَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ بِمَا يُوَازِيهِ.

وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: مَا وَرَدَ بِهِ السَّمْعُ مِنْ وَعْدِ الرِّزْقِ، وَوَعْدِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَلَى أَلَمِ الْمُؤْمِنِ، وَأَلَمِ طِفْلِهِ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا مَحْضُ فَضْلٍ وَتَطَوُّلٍ مِنْهُ تَعَالَى لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ لِوَعْدِهِ الصَّادِقِ.

تَفَاوُتُ الثَّوَابِ:

يَتَفَاوَتُ الثَّوَابُ قِلَّةً وَكَثْرَةً بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلِي:

أ- مِنْ حَيْثُ الْمَشَقَّةُ:

14- الْأَصْلُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَلَكِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْجُمْلَةِ مُثَابٌ عَلَيْهَا إِذَا لَحِقَتْ فِي أَثْنَاءِ التَّكْلِيفِ، وَيَخْتَلِفُ أَجْرُ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ بِشِدَّةِ الْمَشَاقِّ وَخِفَّتِهَا، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ إِذَا اتَّحَدَا فِي الشَّرَفِ، وَالشَّرَائِطِ، وَالسُّنَنِ، وَالْأَرْكَانِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَا عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ، وَذَلِكَ كَالِاغْتِسَالِ فِي الصَّيْفِ وَالرَّبِيعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاغْتِسَالِ فِي شِدَّةِ بَرْدِ الشِّتَاءِ، فَيَزِيدُ أَجْرُ الِاغْتِسَالِ فِي الشِّتَاءِ لِأَجْلِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْبَرْدِ، وَكَذَلِكَ مَشَاقُّ الْوَسَائِلِ فِي مَنْ يَقْصِدُ الْمَسَاجِدَ، وَالْحَجَّ، وَالْغَزْوَ، مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، وَمَنْ يَقْصِدُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَإِنَّ ثَوَابَهَا يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْوَسِيلَةِ، وَيَتَسَاوَى مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ بِسُنَنِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا، فَإِنَّ الشَّرْعَ يُثِيبُ عَلَى الْوَسَائِلِ إِلَى الطَّاعَاتِ، كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْمَقَاصِدِ مَعَ تَفَاوُتِ أُجُورِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا الْمُصَلِّي إِلَى إِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ رَفْعَ دَرَجَةٍ وَحَطَّ خَطِيئَةٍ، وَجَعَلَ أَبْعَدَهُمْ مَمْشًى إِلَى الصَّلَاةِ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ أَقْرَبِهِمْ مَمْشًى إِلَيْهَا، وَجَعَلَ لِلْمُسَافِرِينَ إِلَى الْجِهَادِ بِمَا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الظَّمَأِ، وَالنَّصَبِ، وَالْمَخْمَصَةِ، وَالنَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَقَطْعِ الْأَوْدِيَةِ، وَبِمَا يَنَالُونَهُ مِنَ الْأَعْدَاءِ أَجْرَ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشَقَّاتٌ مُثَابًا عَلَيْهَا زِيَادَةً عَلَى مُعْتَادِ التَّكْلِيفِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لَهُ، وَإِلاَّ فَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ.

ب- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ:

15- مِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، وَتَفْضِيلُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَيَّامِ، وَتَفْضِيلُ الْعَمَلِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللَّيَالِيِ مَعَ مُسَاوَاتِهَا لِقِيَامِ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَتَفْضِيلُ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ.وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ.

مِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.

ج- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ:

16- تَفَضَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَضْعِيفِ الْأُجُورِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، فَجَعَلَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهِ، وَكَتَفْضِيلِ عَرَفَةَ، وَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَمُزْدَلِفَةَ، وَمِنًى، وَمَرْمَى الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِقَاعِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا.يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ». د- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْفِعْلِ:

17- مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالْخُلُوصُ مِنَ النَّارِ.

وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً.

بُطْلَانُ الثَّوَابِ:

18- لَا تَلَازُمَ بَيْنَ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَإِجْزَائِهَا وَبَيْنَ بُطْلَانِ ثَوَابِهَا، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً مُجْزِئَةً لِاسْتِكْمَالِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَلَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الثَّوَابَ، لِمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ الَّتِي تُبْطِلُ ثَمَرَتَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».

وَمِنْ ذَلِكَ الرِّيَاءُ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ.

19- وَقَدْ يَصِحُّ الْعَمَلُ وَيَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الثَّوَابَ وَلَكِنْ يُتْبِعُهُ بِمَا يُبْطِلُ هَذَا الثَّوَابَ، فَالْمَنُّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ أَجْرَ الصَّدَقَةِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَمَثَلُ صَاحِبِهَا وَبُطْلَانِ عَمَلِهِ {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} وَمِنَ الْمَعَاصِي مَا يُبْطِلُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً».

قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُ.

20- وَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ يُبْطِلُ صِحَّةَ الْعَمَلِ وَثَوَابَهُ لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (رِدَّةٌ).

ثَانِيًا:

الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ:

21- الْمَقْصُودُ بِالثَّوَابِ فِي الْهِبَةِ الْعِوَضُ الْمَالِيُّ، وَالْأَصْلُ فِي الْهِبَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا عِوَضٌ مَادِّيٌّ، لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَلَيْسَتْ مُعَاوَضَةً، إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْوِيضُ فِيهَا وَتُسَمَّى هِبَةَ الثَّوَابِ، وَهِيَ الْهِبَةُ الَّتِي يَتِمُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ إِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَا:

فَإِنِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ وَكَانَ مَعْلُومًا صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ نَظَرًا لِلْمَعْنَى عِنْدَهُمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ لِتَنَاقُضِهِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ يَقْتَضِي التَّبَرُّعَ.

وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ اعْتُبِرَ بَيْعًا أَوْ كَالْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ.وَيَكُونُ لَهُ أَحْكَامُ الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْخِيَارِ، وَحَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الرُّجُوعِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِإِسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ التَّقَابُضَ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُغَلَّبَ فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ فَلَا تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ.

22- وَإِذَا اشْتُرِطَ الْعِوَضُ وَكَانَ مَجْهُولًا صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ هِبَةً ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمُ الَّذِي يُجِيزُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دَفْعُ الْقِيمَةِ أَوْ رَدُّ الْهِبَةِ، فَإِذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ أُلْزِمَ الْوَاهِبُ قَبُولَهَا، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ كَانَ لِلْوَاهِبِ الرَّدُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بُطْلَانُ الْعَقْدِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.

23- وَإِنْ وَهَبَ مُطْلَقًا دُونَ تَقْيِيدٍ بِثَوَابٍ أَوْ عَدَمِهِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا ثَوَابَ إِنْ وَهَبَ الشَّخْصُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا الْأَعْلَى مِنْهُ فِي الْأَظْهَرِ وَلِنَظِيرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُصَدَّقُ الْوَاهِبُ فِي قَصْدِهِ مَا لَمْ يَشْهَدِ الْعُرْفُ بِضِدِّهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا تَقْتَضِي ثَوَابًا، أَيْ عِوَضًا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ هُوَ قِيمَةُ الْمَوْهُوبِ أَوْ مَا يُعْتَبَرُ ثَوَابًا لِمِثْلِهِ عَادَةً.

24- وَمِنْ أَحْكَامِ هِبَةِ الثَّوَابِ- غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، وَالْخِيَارِ، وَإِسْقَاطِ الرُّجُوعِ- أَنَّ وَلِيَّ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُعَاوَضَةً انْتِهَاءً، وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ فَلَمْ يَنْعَقِدْ هِبَةً، فَلَا يُتَصَوَّرُ صَيْرُورَتُهَا مُعَاوَضَةً يَمْلِكُهَا الْوَلِيُّ كَالْبَيْعِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْأَبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ؛ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ فِيهَا فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ، كَالْبَيْعِ.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (هِبَةٌ- شُفْعَةٌ- خِيَارٌ).

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


23-موسوعة الفقه الكويتية (جراح)

جِرَاحٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْجِرَاحُ لُغَةً، جَمْعُ جُرْحٍ وَهُوَ مِنَ الْجَرْحِ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَفَعَ.يُقَالُ: جَرَحَهُ يَجْرَحُهُ جَرْحًا إِذَا أَثَّرَ فِيهِ بِالسِّلَاحِ

وَالْجُرْحُ- بِضَمِّ الْجِيمِ- الِاسْمُ، وَالْجَمْعُ جُرُوحٌ، وَجِرَاحٌ، وَجَاءَ جَمْعُهُ عَلَى أَجْرَاحٍ، وَالْجِرَاحَةُ اسْمُ الضَّرْبَةِ أَوِ الطَّعْنَةِ.وَيُقَالُ امْرَأَةٌ جَرِيحٌ وَرَجُلٌ جَرِيحٌ، وَالِاسْتِجْرَاحُ: النُّقْصَانُ وَالْعَيْبُ وَالْفَسَادُ.يُقَالُ اسْتَجْرَحَتِ الْأَحَادِيثُ أَيْ فَسَدَتْ وَجُرِّحَ رُوَاتُهَا، وَيُقَالُ جَرَحَهُ بِلِسَانٍ جَرْحًا عَابَهُ وَتَنَقَّصَهُ، وَمِنْهُ جَرَحَ الشَّاهِدَ إِذَا طَعَنَ فِيهِ وَرَدَّ قَوْلَهُ وَأَظْهَرَ فِيهِ مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلْجِرَاحِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ.

وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ الْجِرَاحِ عَلَى أَبْوَابِ الْجِنَايَاتِ تَغْلِيبًا لِأَنَّهَا أَكْثَرُ طُرُقِ الزُّهُوقِ، وَاسْتَعْمَلَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ «الْجِنَايَاتِ» لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنَ الْجِرَاحِ، فَهِيَ تَشْمَلُ الْقَتْلَ بِالسَّمِّ، أَوْ بِالْمُثَقَّلِ، أَوْ بِالْخَنْقِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْقَتْلِ غَيْرِ الْجِرَاحِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الشِّجَاجُ:

2- الشِّجَاجُ جَمْعُ شَجَّةٍ، وَهِيَ الْجُرْحُ يَكُونُ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يَكُونُ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْجِسْمِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ.

وَاصْطِلَاحًا: يَسْتَعْمِلُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ «الشِّجَاجَ» فِي جِرَاحِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ، وَأُطْلِقَ لَفْظُ «جِرَاحٍ» عَلَى مَا كَانَ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ.

وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَعْمَلَ الشِّجَاجَ وَالْجِرَاحَ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا، فِي الْجِرَاحِ فِي جَمِيعِ الْجِسْمِ.

وَمَنْ فَرَّقَ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ اعْتَمَدَ عَلَى اللُّغَةِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ مُغَايَرَةِ الْعَرَبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَهُمَا، كَمَا اعْتَمَدَ عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْأَثَرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى شِجَاجِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ يَخْتَلِفُ عَنْ أَثَرِ الْجِرَاحِ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ.

وَذَلِكَ لِبَقَاءِ أَثَرِ الشِّجَاجِ غَالِبًا فَيَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ الشَّيْنُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الشَّيْنَ لَا يَلْحَقُ غَالِبًا إِلاَّ فِيمَا يَظْهَرُ كَالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ، أَمَّا سَائِرُ الْبَدَنِ فَالْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُغَطَّى فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ الشَّيْنُ.

وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ- مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- فِي بَيَانِ مُتَعَلَّقِ الْجِنَايَةِ فِي غَيْرِ النَّفْسِ: «إِنْ أَفَاتَتْ بَعْضَ الْجِسْمِ فَقَطْعٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَزَالَتْ اتِّصَالَ عَظْمٍ لَمْ يَبِنْ فَكَسْرٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَثَّرَتْ فِي الْجِسْمِ فَجَرْحٌ، وَإِلاَّ فَإِتْلَافُ مَنْفَعَةٍ».

ب- الْفَصْدُ:

3- الْفَصْدُ شَقُّ الْعِرْقِ وَقَطْعُهُ، يُقَالُ فَصَدَهُ يَفْصِدُهُ فَصْدًا وَفِصَادًا فَهُوَ مَفْصُودٌ وَفَصِيدٌ.وَفَصْدُ النَّاقَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَقُّ عِرْقِهَا لِيَسْتَخْرِجَ دَمَ الْعِرْقِ فَيَشْرَبَهُ، وَسُمِّيَ «الْفَصِيدَ»

وَالْفَصْدُ أَخَصُّ مِنَ الْجِرَاحِ؛ لِأَنَّ الْفَصْدَ يَكُونُ فِي الْعِرْقِ فَقَطْ، أَمَّا الْجِرَاحُ فَتَكُونُ فِي الْعِرْقِ وَغَيْرِهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- يَحْرُمُ إِحْدَاثُ جَرْحٍ فِي مَعْصُومِ الدَّمِ أَوْ مَالِهِ، وَصَيْدِ الْحَرَمِ وَصَيْدِ الْبَرِّ عُمُومًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْجِرَاحِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهَا.

تَطَهُّرُ الْجُرْحِ:

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ الْجَرِيحِ الَّذِي يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْلِ جِرَاحَتِهِ، أَنْ يَمْسَحَ عَلَى عَيْنِ الْجِرَاحَةِ إِذَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا لَا يَضُرُّهُ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ.وَخَوْفُ الضَّرَرِ الْمُجِيزُ لِلْمَسْحِ هُوَ الْخَوْفُ الْمُجِيزُ لِلتَّيَمُّمِ.عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي: (جَبِيرَةٌ).

وَفِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ كَانَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ نِصْفُهُ جَرِيحًا فَالْوَاجِبُ فِي حَقِّهِ التَّيَمُّمُ، وَالْكَثْرَةُ تُعْتَبَرُ بِعَدَدِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ صَحِيحًا غَسَلَ الصَّحِيحَ وَمَسَحَ الْجَرِيحَ، وَإِنْ ضَرَّهُ الْمَسْحُ تَرَكَهُ.وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالتَّيَمُّمِ إِذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَالِ الْجُرْحِ، فَلَهُ عِنْدَهُمْ حَالَتَانِ:

الْأُولَى: أَنْ لَا يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْلِ الْجُزْءِ الصَّحِيحِ الْمُحِيطِ بِالْجُرْحِ، فَالْوَاجِبُ فِي حَقِّهِ مَسْحُ الْجُرْحِ وُجُوبًا إِذَا خَافَ الْهَلَاكَ أَوْ شِدَّةَ الضَّرَرِ، وَجَوَازًا إِنْ خَافَ شِدَّةَ الْأَلَمِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَضَرَّرَ مِنْ غَسْلِ الصَّحِيحِ الْمُحِيطِ بِالْجُرْحِ، فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الْأَكْثَرَ أَوِ الْأَقَلَّ.كَمَا لَوْ عَمَّتِ الْجِرَاحَةُ جَمِيعَ جَسَدِهِ وَتَعَذَّرَ الْغَسْلُ فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ.

وَإِنْ تَكَلَّفَ الْجَرِيحُ وَغَسَلَ الْجُرْحَ أَوْ غَسَلَهُ مَعَ الصَّحِيحِ الضَّارِّ غَسْلُهُ أَجْزَأَ؛ لِإِتْيَانِهِ بِالْأَصْلِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ وَشَقَّ مَسُّ الْجُرْحِ بِالْمَاءِ، وَالْجِرَاحَةُ وَاقِعَةٌ فِي أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ تَرَكَهَا بِلَا غَسْلٍ وَلَا مَسْحٍ؛ لِتَعَذُّرِ مَسِّهَا وَتَوَضَّأَ وُضُوءًا نَاقِصًا، بِأَنْ يَغْسِلَ أَوْ يَمْسَحَ مَا عَدَاهَا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِرَاحُ فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

أَوَّلُهَا: يَتَيَمَّمُ لِيَأْتِيَ بِطَهَارَةٍ تُرَابِيَّةٍ كَامِلَةٍ.بِخِلَافِ مَا لَوْ تَوَضَّأَ كَانَتْ طَهَارَتُهُ نَاقِصَةً لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ غَسْلَ الْجُرْحِ.

ثَانِيهَا: يَغْسِلُ مَا صَحَّ وَيَسْقُطُ مَحَلُّ الْجِرَاحِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ.

ثَالِثُهَا: يَتَيَمَّمُ إِنْ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ أَكْثَرَ مِنَ الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْأَقَلَّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ.

رَابِعُهَا: يَجْمَعُ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالتَّيَمُّمِ فَيَغْسِلُ الصَّحِيحَ وَيَتَيَمَّمُ لِلْجَرِيحِ، وَيُقَدِّمُ الْغَسْلَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْجَرِيحَ الْمُحْدِثَ إِذَا أَرَادَ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ، وَخَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْخَوْفَ الْمُجَوِّزَ لِلتَّيَمُّمِ، بِأَنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْلِ الْجِرَاحَةِ أَوْ مَسْحِهَا، لَزِمَهُ غَسْلُ الصَّحِيحِ وَالتَّيَمُّمُ عَنِ الْجَرِيحِ.وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَإِنْ شَاءَ غَسَلَ الصَّحِيحَ ثُمَّ تَيَمَّمَ عَنِ الْجَرِيحِ، وَإِنْ شَاءَ تَيَمَّمَ ثُمَّ غَسَلَ إِذْ لَا تَرْتِيبَ فِي طَهَارَتِهِ.

أَمَّا فِي الْوُضُوءِ فَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ، فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْ عُضْوٍ إِلَى آخَرَ حَتَّى يُكْمِلَ طَهَارَتَهُ، فَإِذَا كَانَتِ الْجِرَاحَةُ فِي الْوَجْهِ مَثَلًا، وَجَبَ تَكْمِيلُ طَهَارَةِ الْوَجْهِ أَوَّلًا، فَإِنْ شَاءَ غَسَلَ صَحِيحَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ عَنْ جَرِيحِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَيَمَّمَ ثُمَّ غَسَلَ، فَيُخَيَّرُ بِلَا أَوْلَوِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ لَا يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ.وَالْأَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَقْدِيمُ التَّيَمُّمِ.

أَمَّا لَوْ غَسَلَ صَحِيحَ وَجْهِهِ ثُمَّ تَيَمَّمَ لِجَرِيحِهِ وَجَرِيحِ يَدَيْهِ تَيَمُّمًا وَاحِدًا لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْ جُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَفُوتُ التَّرْتِيبُ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَهُ الْمَسْحُ بِالْمَاءِ عَلَى الْجُرْحِ وَجَبَ مَسْحُهُ لِأَنَّ الْغَسْلَ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْمَسْحُ بَعْضُهُ، فَوَجَبَ كَمَنْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَدَرَ عَلَى الْإِيمَاءِ.فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ نَجِسًا تَيَمَّمَ وَلَمْ يَمْسَحْ، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَعْفُوًّا عَنْهَا أُلْغِيَتْ وَكَفَتْ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ، وَإِلاَّ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (طَهَارَةٌ، وَتَيَمُّمٌ، وَجَبِيرَةٌ، وَوُضُوءٌ).

غَسْلُ الْمَيِّتِ الْجَرِيحِ:

6- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ الْمَجْرُوحَ، وَالْمَجْدُورَ، وَذَا الْقُرُوحِ، وَمَنْ تَهَشَّمَ تَحْتَ الْهَدْمِ وَشِبْهَهُمْ، إِنْ أَمْكَنَ تَغْسِيلُهُ غُسِّلَ، وَإِلاَّ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ.فَإِنْ زَادَ أَمْرُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ خُشِيَ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ تَزَلُّعُهُ أَوْ تَقَطُّعُهُ فَإِنَّهُ يُيَمَّمُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَقَلُ إِلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْغُسْلِ لِخَوْفِ تَهَرِّيهِ؛ لِأَنَّ التَّطْهِيرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِإِزَالَةِ نَجَاسَةٍ فَوَجَبَ الِانْتِقَالُ فِيهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ.

أَمَّا لَوْ كَانَ بِهِ قُرُوحٌ وَخِيفَ مِنْ غَسْلِهِ إِسْرَاعُ الْبِلَى إِلَيْهِ بَعْدَ الدَّفْنِ وَجَبَ غُسْلُهُ لِأَنَّ الْجَمِيعَ صَائِرُونَ إِلَى الْبِلَى.

وَلَمْ يُوقَفْ عَلَى قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (غُسْلٌ، وَمَوْتٌ). حُكْمُ جَرِيحِ الْمَعْرَكَةِ:

7- الْأَصْلُ أَنَّ الشَّهِيدَ- وَهُوَ مَنْ مَاتَ فِي الْمَعْرَكَةِ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ- لَا يُغَسَّلُ، أَمَّا إِذَا جُرِحَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَرُفِعَ مِنَ الْمُعْتَرَكِ حَيًّا، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ نَامَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ طَالَ بَقَاؤُهُ عُرْفًا أَوْ تَدَاوَى، أَوْ ارْتَفَقَ بِمَرَافِقِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الشَّهَادَةُ بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ «تَغْسِيلُهُ - صلى الله عليه وسلم- سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ» وَلِأَنَّ الِارْتِفَاقَ لَا يَكُونُ إِلاَّ مِنْ ذِي حَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ، وَالْأَصْلُ وُجُوبُ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ بِالِارْتِفَاقِ خَفَّ أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ الَّذِي يَمُوتُ فِي أَرْضِهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ بِجِرَاحَةٍ يُقْطَعُ بِمَوْتِهِ مِنْهَا، وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَغَيْرُ شَهِيدٍ فِي الْأَظْهَرِ وَلَهُمْ فِي غَيْرِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ شَهِيدٍ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شَهِيدٌ، جَنَائِزُ، غُسْلٌ، ارْتِثَاثٌ).

حُكْمُ الْجُرُوحِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَعَلَى خِلَافٍ فِي التَّفْصِيلِ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ «أَنَسٍ فِي قِصَّةِ عَمَّتِهِ الرُّبَيِّعِ لَمَّا كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا، وَعَرَضُوا الْأَرْشَ فَأَبَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ».

وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ الْجُرُوحِ حَسَبَ مَوْقِعِهَا وَدَرَجَتِهَا وَأَثَرِهَا إِلَى أَقْسَامٍ، فَالَّذِي يَقَعُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَيُسَمَّى شِجَاجًا وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شِجَاجٌ).

9- وَأَمَّا الْجِرَاحُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهَا إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا، بِأَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى حَدٍّ كَأَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَظْمٍ بِشَرْطِ أَلَا تَكْسِرَهُ، أَوْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَفْصِلٍ كَالْكُوعِ وَالْمِرْفَقِ وَالْكَعْبِ.

وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ مِنَ الْجِرَاحِ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ لَا قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي جِرَاحِ سَائِرِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ.بَلْ تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ بِشَرْطِ أَنْ تَبْرَأَ وَيَبْقَى لَهَا أَثَرٌ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رضي الله عنه-.

10- فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، أَوْ لِلْعَفْوِ إِلَى الدِّيَةِ، وَكَانَتِ الْجُرُوحُ مِمَّا فِيهِ أَرْشٌ، مُقَدَّرٌ شَرْعًا، فَدِيَةُ الْمُوضِحَةِ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، وَالْهَاشِمَةِ عَشَرَةُ، وَالْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ. جَرْحُ حَيَوَانٍ تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ:

11- إِذَا جَرَحَ الصَّائِدُ حَيَوَانًا مَأْكُولًا، تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ بِآلَةٍ مُحَدَّدَةٍ، أَوْ بِإِرْسَالِ جَارِحَةٍ، كَالْكَلْبِ، وَنَحْوِهِ، فَمَاتَ فِي الْحَالِ، قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهِ حَلَّ أَكْلُهُ، لِخَبَرِ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، لَيْسَ الظُّفْرَ، وَالسِّنَّ» وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) أَوْ مُصْطَلَحِ: (جَارِحَةٌ).

جَرْحُ الصَّيْدِ:

12- لَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِصَيْدِ الْحَرَمِ الْبَرِّيِّ لِمُحْرِمٍ، وَلَا حَلَالٍ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ» كَمَا لَا يَجُوزُ لِمُحْرِمٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِصَيْدٍ بَرِّيٍّ وَحْشِيٍّ مُطْلَقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَإِذَا جُرِحَ صَيْدُ الْحَرَمِ، أَوْ جَرَحَ مُحْرِمٌ صَيْدًا بَرِّيًّا، فَإِنْ أَزْمَنَهُ لَزِمَهُ جَمِيعُ قِيمَتِهِ، لِأَنَّ الْإِزْمَانَ كَالْإِتْلَافِ.وَإِلاَّ لَزِمَهُ قِيمَةُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ مِثْلِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ، وَإِحْرَامٌ).

تَمَلُّكُ الصَّيْدِ بِالْجَرْحِ:

13- يُمْلَكُ الصَّيْدُ بِالْجَرْحِ إِذَا أَبْطَلَ بِهِ عَدْوَهُ وَطَيَرَانَهُ إِنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا يَمْتَنِعُ بِهِمَا، وَيَكْفِي فِي الْجَرْحِ إِبْطَالُ شِدَّةِ عَدْوِهِ بِحَيْثُ يَسْهُلُ لَحَاقُهُ.

وَإِنْ جَرَحَهُ اثْنَانِ فَإِنْ تَعَاقَبَ جَرْحُهُمَا فَهُوَ لِمَنْ أَزْمَنَهُ أَوْ ذَفَّفَهُ (أَجْهَزَ عَلَيْهِ) وَإِنْ أَثْخَنَهُ الْأَوَّلُ، وَقَتَلَهُ الثَّانِي فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَيَضْمَنُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا.

وَإِنْ جَرَحَا مَعًا فَقَتَلَاهُ كَانَ الصَّيْدُ حَلَالًا، وَمَلَكَاهُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


24-موسوعة الفقه الكويتية (جلد)

جِلْدٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْجِلْدُ فِي اللُّغَةِ: ظَاهِرُ الْبَشَرَةِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْجِلْدُ غِشَاءُ جَسَدِ الْحَيَوَانِ، وَالْجَمْعُ جُلُودٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}.وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَجْلَادٍ.وَيُطْلَقُ عَلَى الْجِلْدِ أَيْضًا (الْمَسْكُ)

وَسُمِّيَ الْجِلْدُ جِلْدًا لِأَنَّهُ أَصْلَبُ مِنَ اللَّحْمِ، مِنَ الْجَلَدِ وَهُوَ صَلَابَةُ الْبَدَنِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْأَدِيمُ:

2- الْأَدِيمُ: الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ، أَوِ الْجِلْدُ مَا كَانَ، أَوْ أَحْمَرُهُ.

وَالْأَدَمَةُ: بَاطِنُ الْجِلْدَةِ الَّتِي تَلِي اللَّحْمَ وَالْبَشَرَةُ ظَاهِرُهَا، أَوِ الْأَدَمَةُ ظَاهِرُ الْجِلْدَةِ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّعْرُ وَالْبَشَرَةُ بَاطِنُهَا، وَمَا ظَهَرَ مِنْ جِلْدَةِ الرَّأْسِ.

وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ الْأَدِيمِ عَلَى الْجِلْدِ، وَبَعْضُهُمْ يُطْلِقُهُ عَلَى الْمَدْبُوغِ مِنَ الْجِلْدِ وَبِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْأَدِيمُ مُرَادِفًا لِلْجِلْدِ.وَبِالْإِطْلَاقِ الثَّانِي يَكُونُ غَيْرَ مُرَادِفٍ.

ب- الْإِهَابُ:

3- الْإِهَابُ: الْجِلْدُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ، أَوْ هُوَ مَا لَمْ يُدْبَغْ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَالْجَمْعُ فِي الْقَلِيلِ آهِبَةٌ وَفِي الْكَثِيرِ أُهُبٌ، وَرُبَّمَا اسْتُعِيرَ لِجِلْدِ الْإِنْسَانِ، قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ: جَعَلَتِ الْعَرَبُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ إِهَابًا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ عَنْتَرَةَ: وَالْجَمْعُ فِي الْقَلِيلِ آهِبَةٌ وَفِي الْكَثِيرِ أُهُبٌ، وَرُبَّمَا اسْتُعِيرَ لِجِلْدِ الْإِنْسَانِ، قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ: جَعَلَتِ الْعَرَبُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ إِهَابًا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ عَنْتَرَةَ:

فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ إِهَابَهُ

وَعَنْ عَائِشَةَ فِي وَصْفِ أَبِيهَا- رضي الله عنهما-: حَقَنَ الدِّمَاءَ فِي أُهُبِهَا، أَيْ أَبْقَى دِمَاءَ النَّاسِ فِي أَجْسَادِهَا.

وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْإِهَابِ عَلَى الْجِلْدِ قَبْلَ دِبَاغِهِ، فَإِذَا دُبِغَ لَمْ يُسَمَّ إِهَابًا.

ج- فَرْوَةٌ:

4- الْفَرْوَةُ: الْجِلْدُ الَّذِي عَلَيْهِ شَعْرٌ أَوْ صُوفٌ، وَجِلْدَةُ الرَّأْسِ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ.

وَجَمْعُ الْفَرْوَةِ: فِرَاءٌ.

وَالْجِلْدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَبَرٌ أَوْ صُوفٌ لَمْ يُسَمَّ فَرْوَةً بَلْ يُسَمَّى جِلْدًا.

وَالْفَرْوَةُ أَخَصُّ مِنَ الْجِلْدِ.

د- الْمَسْكُ:

5- الْمَسْكُ الْجِلْدُ، وَخَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ جِلْدَ السَّخْلَةِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: مَا كَانَ عَلَى فِرَاشِي إِلاَّ مَسْكُ كَبْشٍ أَيْ جِلْدُهُ، وَالْمَسْكَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الْجِلْدِ.

فَالْمَسْكُ إِنْ خُصَّ بِهِ جِلْدُ السَّخْلَةِ أَخَصُّ مِنَ الْجِلْدِ، وَإِلاَّ فَهُوَ مُرَادِفٌ لَهُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجِلْدِ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاطِنِ:

أَوَّلًا: مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ:

6- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ، أَوْ أَصْغَرَ مَسُّ الْمُصْحَفِ، وَمِنْهُ جِلْدُهُ الْمُتَّصِلُ بِهِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُهُ اسْمُ الْمُصْحَفِ وَيَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَمَوْضِعِ الْبَيَاضِ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْقِيَاسِ، وَالْمَنْعُ أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي مَسِّ الْمُصْحَفِ وَالْخِلَافِ فِيهِ فِي مُصْطَلَحِ: (مُصْحَفٌ).

ثَانِيًا: تَعَلُّقُ الْجِلْدِ الْمَنْزُوعِ بِمَحَلِّ الطَّهَارَةِ:

7- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ: إِنْ كُشِطَ جِلْدٌ وَتَقَلَّعَ مِنَ الذِّرَاعِ، وَتَعَلَّقَ بِهِ أَوْ بِالْمِرْفَقِ وَتَدَلَّى مِنْ أَحَدِهِمَا، وَجَبَ غَسْلُ ظَاهِرِ هَذَا الْجِلْدِ وَبَاطِنِهِ، وَغَسْلُ مَا ظَهَرَ بَعْدَ الْكَشْطِ، وَالتَّقَلُّعِ مِنَ الذِّرَاعِ عِنْدَ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَإِنْ كُشِطَ الْجِلْدُ مِنَ الذِّرَاعِ وَبَلَغَ تَقَلُّعُهُ إِلَى الْعَضُدِ، ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَهُوَ الْعَضُدُ، وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ الْعَضُدِ وَتَدَلَّى مِنْهُ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّهُ تَدَلَّى مِنْ غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ الْعَضُدِ وَبَلَغَ التَّقَلُّعُ إِلَى الذِّرَاعِ، ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ لَزِمَهُ غَسْلُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مِنَ الذِّرَاعِ، وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْتَحَمَ بِالْآخَرِ لَزِمَهُ غَسْلُ مَا حَاذَى مِنْهُ مَحَلَّ الْفَرْضِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ الَّذِي عَلَى الذِّرَاعِ إِلَى الْعَضُدِ، فَإِنْ كَانَ مُتَجَافِيًا عَنْ ذِرَاعِهِ لَزِمَ غَسْلُ مَا تَحْتِهِ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ فِي الْوُضُوءِ.

ثَالِثًا- طَهَارَةُ الْجِلْدِ بِالذَّكَاةِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ جِلْدَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يُؤْكَلُ لَحْمُهُ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ مَأْكُولٍ، فَجَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَعْدَ الذَّكَاةِ كَاللَّحْمِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ الذَّكَاةِ فِي تَطْهِيرِ جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَجُمْلَةُ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ، إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهِ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي طَهَارَةِ جِلْدِهِ، بَلْ يَكُونُ نَجِسًا بِهَذِهِ الذَّكَاةِ كَمَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّ هَذِهِ الذَّكَاةَ لَا تُطَهِّرُ اللَّحْمَ وَلَا تُبِيحُ أَكْلَهُ، كَذَبْحِ الْمَجُوسِ، وَكُلِّ ذَبْحٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَلَا يَطْهُرُ بِهَا الْجِلْدُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ بِالذَّبْحِ أَكْلُ اللَّحْمِ، فَإِذَا لَمْ يُبِحْهُ هَذَا الذَّبْحُ فَلأَنْ لَا يُبِيحَ طَهَارَةَ الْجِلْدِ أَوْلَى.

وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بَيْنَ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ كَالْخِنْزِيرِ، وَالْمُخْتَلَفِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ كَالْحِمَارِ، وَالْمَكْرُوهِ أَكْلُهُ كَالسَّبُعِ، قَالُوا: إِنَّ الْمُخْتَلَفَ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ لَكِنْ لَا يُؤْكَلُ، وَأَمَّا مَكْرُوهُ الْأَكْلِ فَإِنْ ذُكِّيَ لِأَكْلِ لَحْمِهِ طَهُرَ جِلْدُهُ تَبَعًا لَهُ، وَإِنْ ذُكِّيَ لِأَخْذِ الْجِلْدِ فَقَطْ طَهُرَ وَلَمْ يُؤْكَلِ اللَّحْمُ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ لِعَدَمِ نِيَّةِ ذَكَاتِهِ بِنَاءً عَلَى تَبَعُّضِ النِّيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَعَلَى عَدَمِ تَبَعُّضِهَا يُؤْكَلُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ- عِنْدَهُمْ- بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ».أَلْحَقَ الذَّكَاةَ بِالدِّبَاغِ، ثُمَّ الْجِلْدُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَذَا بِالذَّكَاةِ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُشَارِكُ الدِّبَاغَ فِي إِزَالَةِ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَةِ النَّجِسَةِ فَتُشَارِكُهُ فِي إِفَادَةِ الطَّهَارَةِ.

رَابِعًا- ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ لِأَخْذِ جِلْدِهِ:

9- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِأَخْذِ جِلْدِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْحِمَارُ الزَّمِنُ وَالْبَغْلُ الْمُكَسَّرُ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَبْحُهُ لِجِلْدِهِ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا عَنْهُ جَوَازُهُ وَالثَّانِيَةُ تُحَرِّمُهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ لِأَجْلِ جِلْدِهِ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلَوْ كَانَ فِي النَّزْعِ.

خَامِسًا- تَطْهِيرُ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ:

10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ- بِصِفَةٍ عَامَّةٍ- يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «قَالَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا».

وَقَالُوا: إِنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فَجَازَ أَنْ يُطَهَّرَ كَجِلْدِ الْمُذَكَّاةِ إِذَا تَنَجَّسَ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّائِلَةِ، وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالدِّبَاغِ فَتَطْهُرُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ إِذَا غُسِلَ، وَلِأَنَّ الدِّبَاغَ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ عَلَى الْجِلْدِ، وَيُصْلِحُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَيَاةِ، ثُمَّ الْحَيَاةُ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ الْجِلْدِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ.ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كُلُّ إِهَابٍ دُبِغَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَةَ طَهُرَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُهَا لَا يَطْهُرُ، إِلاَّ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ لَا يَطْهُرُ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ نَجِسُ الْعَيْنِ بِمَعْنَى أَنَّ ذَاتَهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ نَجِسَةٌ حَيًّا وَمَيِّتًا فَلَيْسَتْ نَجَاسَتُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ كَنَجَاسَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَلِذَا لَمْ يَقْبَلِ التَّطْهِيرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلاَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِ «مُنْيَةِ الْمُصَلِّي».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: كُلُّ الْجُلُودِ النَّجِسَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْمُتَوَلِّدَ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُمَا بِالدِّبَاغِ، لِأَنَّ الدِّبَاغَ كَالْحَيَاةِ، ثُمَّ الْحَيَاةُ لَا تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ، وَلَا يَزِيدُ الدِّبَاغُ عَلَى الْحَيَاةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الدِّبَاغُ تَطْهِيرٌ لِلْجُلُودِ، وَلَا يُحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى تَطْهِيرٍ بِالْمَاءِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ- لَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ حَتَّى يُغْسَلَ بِالْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَا يُدْبَغُ بِهِ تَنَجَّسَ بِمُلَاقَاةِ الْجِلْدِ، فَإِذَا زَالَتْ نَجَاسَةُ الْجِلْدِ بَقِيَتْ نَجَاسَةُ مَا يُدْفَعُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُغْسَلَ حَتَّى يَطْهُرَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ- إِلَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ وَلَوْ دُبِغَ، وَلَا يُفِيدُ دَبْغُهُ طَهَارَتَهُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ الْمَائِعَاتِ.

وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ جِلْدُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ.

وَفِي بَقِيَّةِ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ تَفْصِيلٌ أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ.

وَفِي الدِّبَاغِ، وَمَا يُدْبَغُ بِهِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى فِعْلٍ لِلدَّبْغِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ..تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِبَاغَةٌ).

سَادِسًا- الِاسْتِنْجَاءُ بِالْجِلْدِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِيَابِسٍ (جَامِدٍ) طَاهِرٍ مُنَقٍّ (قَالِعٍ لِلنَّجَاسَةِ) غَيْرِ مُؤْذٍ وَلَا مُحَرَّمٍ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمُبْتَلٍّ، أَوْ نَجِسٍ، أَوْ أَمْلَسَ، أَوْ مُحَدَّدٍ، أَوْ مُحَرَّمٍ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا أَوْ حَقًّا لِلْغَيْرِ أَوْ لِشَرَفِهِ.

وَلَهُمْ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْجِلْدِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ- كَمَا وَرَدَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ- يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِنَحْوِ حَجَرٍ مُنَقٍّ كَالْمَدَرِ وَالتُّرَابِ وَالْعُودِ وَالْخِرْقَةِ وَالْجِلْدِ وَمَا أَشْبَهَهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِلْدَ الْمُذَكَّى الَّذِي تُحِلُّهُ الذَّكَاةُ يَطْهُرُ بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ.أَمَّا غَيْرُ الْمُذَكَّى فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ أَيْضًا لِنَجَاسَتِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الطَّاهِرُ مِنَ الْجِلْدِ ضَرْبَانِ:

الْأَوَّلُ: جِلْدُ الْمَأْكُولِ الْمُذَكَّى وَلَوْ غَيْرَ مَدْبُوغٍ، وَالْمَدْبُوغُ مِنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ، أَمَّا غَيْرُ الْمَدْبُوغِ فَفِي جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ كَالثِّيَابِ وَسَائِرِ الْأَعْيَانِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حُرْمَةٌ، فَلَيْسَتْ هِيَ بِحَيْثُ تَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ فِي سَائِرِ النَّجَاسَاتِ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ النَّجَاسَةِ.

وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ فِيهِ دُسُومَةً تَمْنَعُ التَّنْشِيفَ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْكُولٌ حَيْثُ يُؤْكَلُ الْجِلْدُ التَّابِعُ لِلرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ تَبَعًا لَهَا، فَصَارَ كَسَائِرِ الْمَطْعُومَاتِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَكَثِيرُونَ، وَحَمَلُوا مَا نُقِلَ مِنْ تَجْوِيزِ الِاسْتِنْجَاءِ عَلَى مَا بَعْدَ الدِّبَاغِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَدْبُوغُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ لِأَنَّ الدِّبَاغَ يُزِيلُ مَا فِيهِ مِنَ الدُّسُومَةِ، وَيَقْلِبُهُ عَنْ طَبْعِ اللُّحُومِ إِلَى طَبْعِ الثِّيَابِ.

وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَلُ وَيَجُوزُ أَكْلُهُ إِذَا دُبِغَ وَإِنْ كَانَ جِلْدَ مَيْتَةٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَمَا نُقِلَ مِنَ الْمَنْعِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الدِّبَاغِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الدَّبْغَ لَا يُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَلْ يَظَلُّ نَجِسًا، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَجِلْدُ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى يَحْرُمُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ لِأَنَّ لَهُ حُرْمَةَ الطَّعَامِ.

سَابِعًا- طَهَارَةُ الشَّعْرِ عَلَى الْجِلْدِ:

12- الشَّعْرُ عَلَى جِلْدِ الْحَيِّ الطَّاهِرِ حَالَ حَيَاتِهِ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَالشَّعْرُ عَلَى جِلْدِ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ طَاهِرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالشَّعْرُ مِنْ مَيْتَةِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ فِيهِ خِلَافٌ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِيمَا رَجَّحَهُ الْخِرَقِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ- إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْحَيَوَانِ (الطَّاهِرِ حَالَ حَيَاتِهِ) لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِيهِ قَبْلَ الْمَوْتِ الطَّهَارَةُ فَكَذَا بَعْدَهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُحِلُّهُ إِذْ لَيْسَ فِيهِ حَيَاةٌ فَلَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحُسُّ وَلَا يَتَأَلَّمُ، وَلَا يَحُسُّ الْحَيَوَانُ فِي حَيَاتِهِ وَلَا يَتَأَلَّمُ بِقَطْعِ الشَّعْرِ أَوْ قَصِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي الشَّعْرِ حَيَاةٌ لَتَأَلَّمَ الْحَيَوَانُ بِقَصِّهِ أَوْ قَطْعِهِ كَمَا يَتَأَلَّمُ بِقَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الصَّحِيحِ- إِلَى أَنَّ شَعْرَ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ حَالَ حَيَاتِهِ غَيْرَ الْآدَمِيِّ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمِ الْمَيْتَةُ} وَهُوَ عَامٌّ لِلشَّعْرِ وَغَيْرِهِ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّعْرَ لَا يَطْهُرُ بِدِبَاغِ الْجِلْدِ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّعْرُ.

وَفِي الْمَوْضُوعِ عِنْدَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي الْأَقْوَالِ وَخِلَافٌ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَعْرٌ).

ثَامِنًا- أَكْلُ الْجِلْدِ:

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْمَأْكُولَ الْمُذَكَّى، يُؤْكَلُ جِلْدُهُ قَبْلَ الدَّبْغِ مَا لَمْ يَغْلُظْ وَيَخْشُنْ وَيَصِرْ جِنْسًا آخَرَ غَيْرَ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُحِلُّ لَحْمَهُ وَجِلْدَهُ وَسَائِرَ مَا يَجُوزُ أَكْلُهُ مِنْهُ.

أَمَّا الْحَيَوَانُ الْمَأْكُولُ الَّذِي مَاتَ أَوْ ذُكِّيَ ذَكَاةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ، فَإِنَّ جِلْدَهُ قَبْلَ دَبْغِهِ لَا يُؤْكَلُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمِ الْمَيْتَةُ} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا» وَالْجِلْدُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ فَحَرُمَ أَكْلُهُ كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا.

هَذَا عَنِ الْحُكْمِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، أَمَّا بَعْدَهُ: فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ الْمُفْتَى بِهِ إِلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ لِلْآيَةِ وَالْحَدِيثِ السَّابِقَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ أَمْ غَيْرَ مَأْكُولٍ.

تَاسِعًا- لُبْسُ الْجِلْدِ وَاسْتِعْمَالُهُ:

14- يَخْتَلِفُ حُكْمُ لُبْسِ جِلْدِ الْحَيَوَانِ تَبَعًا لِلْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ (ف/10) إِلاَّ أَنَّ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَةِ شَيْءٍ مِنْهُ فَصَّلَ فِي حُكْمِ اللُّبْسِ وَالِاسْتِعْمَالِ.

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ فِي الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ قَبْلَ الدَّبْغِ، صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَمَّا لُبْسُهُ فَلَا يَجُوزُ.

وَأَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغِ: فَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيهِ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ- عَدَا الْخِنْزِيرَ- يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَيَجُوزُ لُبْسُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ بَعْدَ دَبْغِهِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسَاتِ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها-.

وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- لَمَّا فَتَحُوا فَارِسَ انْتَفَعُوا بِسُرُوجِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ، وَذَبَائِحِهِمْ مَيْتَةً، وَلِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَشْبَهَ الِاصْطِيَادَ بِالْكَلْبِ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَاءِ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا الصَّلَاةُ فِيهِ وَلَا عَلَيْهِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُبْسِ وَاسْتِعْمَالِ جُلُودِ الثَّعَالِبِ وَالسِّبَاعِ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُ جُلُودِ السِّبَاعِ أَوِ الرُّكُوبُ عَلَيْهَا، أَوِ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِحَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ عَامِرِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ».

«وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ- رضي الله عنه-: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ».

وَكَذَلِكَ حُكْمُ جُلُودِ الثَّعَالِبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهَا عَلَى الْأَصَحِّ لِعَدَمِ طَهَارَةِ الشَّعْرِ الَّذِي عَلَى تِلْكَ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ تُبْنَيَانِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى حِلِّهَا، فَإِنْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهَا فَحُكْمُ جُلُودِهَا حُكْمُ جُلُودِ بَقِيَّةِ السِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ السَّنَانِيرُ الْبَرِّيَّةُ، فَأَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَمُحَرَّمَةٌ، وَهَلْ تَطْهُرُ جُلُودُهَا بِالدِّبَاغِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.

وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْفَرْوِ مِنَ السِّبَاعِ كُلِّهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَةِ وَالْمُذَكَّاةِ، وَقَالَ: ذَكَاتُهَا دِبَاغُهَا، وَفِيهَا: وَلَا بَأْسَ بِجُلُودِ النُّمُورِ وَالسِّبَاعِ كُلِّهَا إِذَا دُبِغَتْ أَنْ يُجْعَلَ مِنْهَا مُصَلًّى.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ إِذَا ذُكِّيَتْ، وَكُلُّ مَا ذُكِّيَ الْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ.

عَاشِرًا- نَزْعُ الْمَلَابِسِ الْجِلْدِيَّةِ لِلشَّهِيدِ:

15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنِ الشَّهِيدِ عِنْدَ دَفْنِهِ الْجِلْدُ، وَالسِّلَاحُ وَالْفَرْوُ، وَالْحَشْوُ، وَالْخُفُّ، وَالْمِنْطَقَةُ، وَالْقَلَنْسُوَةُ، وَكُلُّ مَا لَا يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ».

وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهِيدٌ).

حَادِيَ عَشَرَ: بَيْعُ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ:

16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِهَا أَوْ أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ: «وَلَا تَبِيعُوا لُحُومَ الْهَدْيِ وَالْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَاسْتَمْتِعُوا بِجُلُودِهَا».

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ بَيْعِ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أُضْحِيَّةٌ).

ثَانِيَ عَشَرَ: السَّلَمُ فِي الْجِلْدِ:

17- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّلَمَ فِي الْجِلْدِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهِ مَعْلُومٌ (أَيْ مُنْضَبِطٌ) فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ السَّلَمِ فِيهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي جُلُودِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الْجُلُودَ لَا تُوزَنُ عَادَةً وَلَكِنَّهَا تُبَاعُ عَدَدًا، وَهِيَ عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِيهَا الصَّغِيرُ وَفِيهَا الْكَبِيرُ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ.وَالسَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ فِي أَبْعَاضِ الْحَيَوَانِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأَكَارِعِ وَالرُّءُوسِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأُدُمِ وَالْوَرَقِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ مِنَ الْأُدُمِ ضَرْبًا مَعْلُومَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْجَوْدَةِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ كَالثِّيَابِ، وَكَذَلِكَ الْأُدُمُ إِذَا كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا تُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجِلْدِ لِاخْتِلَافِ أَجْزَائِهِ فِي الرِّقَّةِ وَالْغِلَظِ، نَعَمْ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي قِطَعٍ مِنْهُ مَدْبُوغَةٍ وَزْنًا.

ثَالِثَ عَشَرَ: الْإِجَارَةُ عَلَى سَلْخِ حَيَوَانٍ بِجِلْدِهِ:

18- لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ سَلاَّخٍ لِسَلْخِ حَيَوَانٍ بِجِلْدِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَفْسُدُ بِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَهُنَا تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ بِالْغَرَرِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَتَقَطَّعُ الْجِلْدُ حَالَ سَلْخِهِ أَمْ يَنْفَصِلُ سَلِيمًا، وَهَلْ يَكُونُ ثَخِينًا أَمْ رَقِيقًا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنْ سَلَخَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ.

رَابِعَ عَشَرَ: ضَمَانُ الْجِلْدِ:

19- لِلْفُقَهَاءِ فِي ضَمَانِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ دَبْغِهِ وَبَعْدَ دَبْغِهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى ضَمَانِ جِلْدِ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَالْحُرْمَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الْمِلْكِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ جَزَّ صُوفَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلَوْ وَجَدَهُ صَاحِبُ الشَّاةِ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَلَوْ دَبَغَ جِلْدَهَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ فِي الدِّبَاغِ.

وَقَالُوا: لَوْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ فَلِصَاحِبِ الْجِلْدِ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيَرُدَّ عَلَى الْغَاصِبِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ، وَإِنِ اسْتَهْلَكَ الْغَاصِبُ الْجِلْدَ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَضْمَنُهُ مَدْبُوغًا وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ يَضْمَنْهُ بِإِجْمَاعِهِمْ.

وَلَوْ دَبَغَ الْغَاصِبُ الْجِلْدَ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ فَهُوَ لِمَالِكِهِ بِلَا شَيْءٍ، وَلَوِ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا، وَقِيلَ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ دُبِغَ أَمْ لَمْ يُدْبَغْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَصَحِّ الَّذِي نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ- لَوْ أَخَذَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ طَهُرَ وَإِنْ كَانَ مَالِكُهُ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ ثُمَّ أَخَذَهُ الدَّابِغُ فَهُوَ لِلدَّابِغِ، وَإِنْ كَانَ غَصَبَهُ فَهُوَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ مِلْكِهِ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَهُ، وَلَوْ أَعْرَضَ الْمَالِكُ عَنْهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِإِعْرَاضِهِ مَلَكَهُ آخِذُهُ، وَإِذَا لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ لَزِمَ الْغَاصِبَ رَدُّهُ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ، وَلَوْ أَتْلَفَ جِلْدًا لَمْ يُدْبَغْ، فَادَّعَى مَالِكُهُ تَذْكِيَتَهُ وَالْمُتْلِفُ عَدَمَهَا، صُدِّقَ الْمُتْلِفُ بِيَمِينِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّذْكِيَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَلْزَمُ رَدُّ جِلْدِ مَيْتَةٍ غُصِبَ لِأَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِدَبْغٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ قَوِيٍّ أَنَّهُ يَلْزَمُ رَدُّهُ أَيْ جِلْدُ الْمَيْتَةِ الَّذِي دُبِغَ إِنْ كَانَ بَاقِيًا لِمَنْ يَرَى طَهَارَتَهُ.

خَامِسَ عَشَرَ: الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْجِلْدِ:

20- جِلْدُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ الْمُذَكَّى، مَالٌ طَاهِرُ يُقْطَعُ سَارِقُهُ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ مَعَ تَوَفُّرِ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَبِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ.

أَمَّا جِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْلَ دَبْغِهِ فَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ بَعْدَ دَبْغِهِ يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِشُرُوطِ الْقَطْعِ، لَكِنَّ عِبَارَةَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْقِيمَةِ الَّتِي يُقْطَعُ فِيهَا: جِلْدُ مَيْتَةِ الْمَأْكُولِ أَوْ غَيْرِهِ يُقْطَعُ سَارِقُهُ بَعْدَ الدَّبْغِ إِنْ زَادَ دَبْغُهُ عَلَى قِيمَةِ أَصْلِهِ نِصَابًا، بِأَنْ يُقَالَ مَا قِيمَتُهُ غَيْرَ مَدْبُوغٍ أَنْ لَوْ كَانَ يُبَاعُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِذَا قِيلَ: دِرْهَمَانِ فَيُقَالُ: وَمَا قِيمَتُهُ مَدْبُوغًا فَإِذَا قِيلَ: خَمْسَةٌ قُطِعَ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ بَعْدَ دَبْغِهِ نِصَابًا لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ كَمَا لَوْ سَرَقَهُ غَيْرَ مَدْبُوغٍ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَوْ سَرَقَ جُلُودَ السِّبَاعِ الْمَدْبُوغَةَ وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ لَا يُقْطَعُ، وَلَوْ جُعِلَتْ مُصَلاَّةً أَوْ بِسَاطًا قُطِعَ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ جُلُودَ السِّبَاعِ لِتَغَيُّرِ اسْمِهَا وَمَعْنَاهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


25-موسوعة الفقه الكويتية (جنائز 2)

جَنَائِزُ -2

شُرُوطُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ:

22- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ مَا يُشْتَرَطُ لِبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بَدَنًا وَثَوْبًا وَمَكَانًا، وَالْحُكْمِيَّةُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةُ، سِوَى الْوَقْتِ.

وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا مَا يَلِي:

أَوَّلُهَا: إِسْلَامُ الْمَيِّتِ لقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}.

وَالثَّانِي: طَهَارَتُهُ مِنْ نَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ وَحَقِيقِيَّةٍ فِي الْبَدَنِ، فَلَا تَصِحُّ عَلَى مَنْ لَمْ يُغَسَّلْ، وَلَا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، وَهَذَا الشَّرْطُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَلَوْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ وَلَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُهُ إِلاَّ بِالنَّبْشِ سَقَطَ الْغُسْلُ وَصُلِّيَ عَلَى قَبْرِهِ بِلَا غُسْلٍ لِلضَّرُورَةِ (هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصَحَّحَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ مَعْزِيًّا إِلَى الْقُدُورِيِّ وَصَاحِبِ التُّحْفَةِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا بِلَا غُسْلٍ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ) بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُهَلْ عَلَيْهِ التُّرَابُ، فَإِنَّهُ يُخْرَجُ وَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.

وَلَوْ صُلِّيَ عَلَيْهِ بِلَا غُسْلٍ جَهْلًا مَثَلًا، ثُمَّ دُفِنَ وَلَا يُخْرَجُ إِلاَّ بِالنَّبْشِ أُعِيدَتِ الصَّلَاةُ عَلَى قَبْرِهِ اسْتِحْسَانًا، وَيُشْتَرَطُ طَهَارَةُ الْكَفَنِ إِلاَّ إِذَا شَقَّ ذَلِكَ؛ لِمَا فِي خِزَانَةِ الْفَتَاوَى مِنْ أَنَّهُ إِنْ تَنَجَّسَ الْكَفَنُ بِنَجَاسَةِ الْمَيِّتِ لَا يَضُرُّ، دَفْعًا لِلْحَرَجِ، بِخِلَافِ الْكَفَنِ الْمُتَنَجِّسِ ابْتِدَاءً.

وَكَذَا لَوْ تَنَجَّسَ بَدَنُهُ بِمَا خَرَجَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُكَفَّنَ غُسِّلَ، وَبَعْدَهُ لَا.وَأَمَّا طَهَارَةُ مَكَانِ الْمَيِّتِ، فَفِي الْهِنْدِيَّةِ وَالْفَوَائِدِ التَّاجِيَّةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَفِي مَرَاقِي الْفَلَاحِ وَالْقُنْيَةِ أَنَّهَا شَرْطٌ، فَإِذَا كَانَ الْمَكَانُ نَجِسًا، وَكَانَ الْمَيِّتُ عَلَى الْجِنَازَةِ (النَّعْشِ) تَجُوزُ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ فَفِي الْفَوَائِدِ لَا يَجُوزُ، (وَمَالَ إِلَى الْجَوَازِ قَاضِيخَانْ) وَجَزَمَ فِي الْقُنْيَةِ بِعَدَمِهِ.

وَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّ الْكَفَنَ حَائِلٌ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالنَّجَاسَةِ، وَوَجْهُ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ الْكَفَنَ تَابِعٌ فَلَا يُعَدُّ حَائِلًا.وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَكَانِ الْمَيِّتِ الْأَرْضَ، وَكَانَ الْمَيِّتُ عَلَى الْجِنَازَةِ، فَعَدَمُ اشْتِرَاطِ طَهَارَةِ الْأَرْضِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْجِنَازَةَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَخْتَلِفُ الْأَقْوَالُ فِيهِ كَمَا اخْتَلَفَتْ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ مَوْضُوعًا عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ).

قَالَ فِي الْقُنْيَةِ: الطَّهَارَةُ مِنَ النَّجَاسَةِ فِي ثَوْبٍ وَبَدَنٍ وَمَكَانٍ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطَانِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ وَالْإِمَامِ جَمِيعًا، فَلَوْ أَمَّ بِلَا طَهَارَةٍ، وَالْقَوْمُ بِهَا أُعِيدَتْ، وَبِعَكْسِهِ لَا؛ لِسُقُوطِ الْفَرْضِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ.

وَالثَّالِثُ: تَقْدِيمُ الْمَيِّتِ أَمَامَ الْقَوْمِ فَلَا تَصِحُّ عَلَى مَيِّتٍ مَوْضُوعٍ خَلْفَهُمْ.

وَالرَّابِعُ: حُضُورُهُ أَوْ حُضُورُ أَكْثَرِ بَدَنِهِ أَوْ نِصْفِهِ مَعَ رَأْسِهِ.

وَالْخَامِسُ: وَضْعُهُ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ عَلَى الْأَيْدِي قَرِيبًا مِنْهَا.

وَالسَّادِس: سَتْرُ عَوْرَتِهِ- هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ.

وَالسَّابِعُ: قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ: بَقِيَ مِنَ الشُّرُوطِ بُلُوغُ الْإِمَامِ، فَلَوْ أَمَّ صَبِيٌّ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ.وَلَكِنْ نُقِلَ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ جَامِعِ الْفَتَاوَى سُقُوطُ الْفَرْضِ بِفِعْلِهِ.

وَالثَّامِنُ: مُحَاذَاةُ الْإِمَامِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ وَاحِدًا، وَأَمَّا إِذَا كَثُرَتِ الْمَوْتَى فَيَجْعَلُهُمْ صَفًّا وَيَقُومُ عِنْدَ أَفْضَلِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْأَقْرَبُ كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ شَرْطًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجِبُ أَنْ يُسَامِتَ الْإِمَامُ الْمَيِّتَ فَإِنْ لَمْ يُسَامِتْهُ كُرِهَ، وَفِي تَعْلِيقِ الْغَايَةِ: لَعَلَّهُ مَا لَمْ يَفْحُشْ عُرْفًا، فَلَا تَصِحُّ إِنْ فَحُشَ.

23- وَقَدْ وَافَقَ الْحَنَابِلَةُ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى اشْتِرَاطِ إِسْلَامِ الْمَيِّتِ وَطَهَارَتِهِ، وَسَتْرِ عَوْرَتِهِ، وَحُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمَيِّتِ، وَعَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُصَلِّي مُكَلَّفًا، وَاجْتِنَابِهِ النَّجَاسَةَ، وَاسْتِقْبَالِهِ الْقِبْلَةَ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالنِّيَّةِ، مِنَ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمُصَلِّي.

وَخَالَفُوهُمْ فِي اشْتِرَاطِ حُضُورِ الْجِنَازَةِ فَجَوَّزُوا الصَّلَاةَ عَلَى غَائِبٍ عَنْ بَلَدٍ دُونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ، أَوْ فِي غَيْرِ قِبْلَتِهِ، وَعَلَى غَرِيقٍ وَأَسِيرٍ وَنَحْوِهِ، إِلَى شَهْرٍ بِالنِّيَّةِ، وَأَمَّا مَا اشْتَرَطُوهُ مِنْ حُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، فَمَعْنَاهُ أَنْ لَا تَكُونَ الْجِنَازَةُ مَحْمُولَةً، وَلَا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ، كَحَائِطٍ قَبْلَ دَفْنٍ، وَلَا فِي تَابُوتٍ مُغَطًّى.

وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَنَابِلَةَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ حُضُورِهِ، وَتَجْوِيزِ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ، وَوَافَقَتِ الْمَالِكِيَّةُ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى اشْتِرَاطِ حُضُورِهِ، وَأَمَّا وَضْعُهُ أَمَامَ الْمُصَلِّي بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَ مَنْكِبَيِ الْمَرْأَةِ وَوَسَطِ الرَّجُلِ فَمَنْدُوبٌ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّ مُحَاذَاةَ الْإِمَامِ بِجُزْءٍ مِنَ الْمَيِّتِ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْحَنَفِيَّةَ فِي اشْتِرَاطِ وَضْعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَقَالُوا: تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَحْمُولِ عَلَى دَابَّةٍ، أَوْ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ، أَوْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ.وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ الْإِمَامَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ رُشْدٍ، وَصَرَّحَ غَيْرُهُ بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ عَلَيْهِ، فَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ إِنْ صَلَّى عَلَيْهَا مُنْفَرِدًا أُعِيدَتْ نَدْبًا جَمَاعَةً.

وَالْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ التَّسْلِيمُ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ التَّسْلِيمُ مَرَّةً وَاحِدَةً رُكْنٌ، قَالُوا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ فِي الصَّلَاةِ».

وَوَرَدَ التَّسْلِيمُ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْجِنَازَةِ عَنْ سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ مَسْنُونَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

24- وَأَمَّا سُنَنُهَا فَتَفْصِيلُهَا كَمَا يَلِي:

الْأُولَى: قِيَامُ الْإِمَامِ بِحِذَاءِ صَدْرِ الْمَيِّتِ ذَكَرًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوْ أُنْثَى سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي حَوَاشِي الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى الْمَرَاقِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ سُنَنٌ بَلْ لَهَا مُسْتَحَبَّاتٌ، مِنْهَا وُقُوفُ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ حِذَاءَ وَسَطِ الرَّجُلِ، وَمَنْكِبَيْ الْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُمَا يَقُومَانِ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَ عَجُزِ الْمَرْأَةِ أَوِ الْخُنْثَى، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ، وَوَسَطِ الْأُنْثَى، وَسُنَّ ذَلِكَ مِنْ خُنْثَى.

الثَّانِيَةُ: الثَّنَاءُ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلاَّلِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا اسْتِفْتَاحَ مِنْهُ وَلَكِنِ النَّقْلُ وَالْعَادَةُ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتِحُونَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ.

وَقَالَ فِي «سَكْبِ الْأَنْهُرِ» الْأَوْلَى تَرْكُ: «وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ» إِلاَّ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: مُقْتَضَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حُصُولُ السُّنَّةِ بِأَيِّ صِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ الْحَمْدِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا ثَنَاءَ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَلَكِنِ ابْتِدَاءُ الدُّعَاءِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَنْدُوبٌ، أَيْ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: لَا يَسْتَفْتِحُ.

وَجَاءَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بِقَصْدِ الثَّنَاءِ كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِي: يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهَا بِنِيَّةِ الدُّعَاءِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.

الثَّالِثَةُ: وَمِنَ السُّنَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ إِلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ عَلَى الدُّعَاءِ وَتَقْدِيمَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمَا سُنَّةٌ، قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ الدُّعَاءِ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «اجْعَلُونِي فِي أَوَّلِ الدُّعَاءِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَنْدُوبَةٌ عَقِبَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الدُّعَاءِ، بِأَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ وَأَحْيَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، كَمَا يَدْعُو كَمَا سَيَأْتِي وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رُكْنٌ كَمَا مَرَّ.

25- الرَّابِعَةُ: وَمِنَ السُّنَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ دُعَاءُ الْمُصَلِّي لِلْمَيِّتِ وَلِنَفْسِهِ (وَإِذَا دَعَا لِنَفْسِهِ قَدَّمَ نَفْسَهُ عَلَى الْمَيِّتِ لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الدُّعَاءِ أَنْ يَبْدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ) وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ لِلدُّعَاءِ شَيْءٌ سِوَى كَوْنِهِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنْ إِنْ دَعَا بِالْمَأْثُورِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَبْلَغُ لِرَجَاءِ قَبُولِهِ.

فَمِنَ الْمَأْثُورِ مَا حَفِظَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى جِنَازَةٍ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ».

وَفِي الْأَصْلِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ، مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا».

(وَزَادَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلاَّ النَّسَائِيُّ) «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ».وَفِي رِوَايَةٍ «اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ».

فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ صَغِيرًا فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا أَجْرًا وَذُخْرًا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا شَافِعًا وَمُشَفَّعًا مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ كَمَا هُوَ فِي مُتُونِ الْمَذْهَبِ، أَوْ بَعْدَ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ كَمَا فِي حَوَاشِي الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى الْمَرَاقِي وَغَيْرِهَا.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ طِفْلًا اسْتُحِبَّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا سَلَفًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا.

وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ يَأْتِي بِأَيِّ دُعَاءٍ شَاءَ، وَقَالَ فِي الدُّرِّ: لَا يَسْتَغْفِرُ فِيهَا لِصَبِيٍّ، وَمَجْنُونٍ، وَمَعْتُوهٍ؛ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمْ، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ: «وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا» لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاسْتِيعَابُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوِ اسْتَمَرَّ مَجْنُونًا قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ذُخْرًا لِوَالِدَيْهِ- إِلَخْ وَظَاهِرُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ يَكُونُ بَدَلَ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ لِلْبَالِغِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، فَكَأَنَّ أَقْوَالَ الْأَرْبَعَةِ اتَّفَقَتْ فِي الدُّعَاءِ لِلصَّغِيرِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ.

الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ:

26- الدُّعَاءُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رُكْنٌ، وَلَكِنْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَدْعُو عَقِبَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ حَتَّى الرَّابِعَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ لَا يَجِبُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَقَلُّ الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَأَحْسَنُهُ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: اللَّهُمَّ إِنَّهُ عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ.

وَيَقُولُ فِي الْمَرْأَةِ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا أَمَتُكَ وَبِنْتُ عَبْدِكَ وَبِنْتُ أَمَتِكَ، وَيَسْتَمِرُّ فِي الدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ، وَيَقُولُ فِي الطِّفْلِ الذَّكَرِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ أَنْتَ خَلَقْتَهُ وَرَزَقْتَهُ، وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لِوَالِدَيْهِ سَلَفًا وَذُخْرًا، وَفَرَطًا وَأَجْرًا، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا، وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا، وَلَا تَفْتِنَّا وَإِيَّاهُمَا بَعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كَفَالَةِ إِبْرَاهِيمَ وَيَزِيدُ فِي الْكَبِيرِ: وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَعَافِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ جَهَنَّمَ.

فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى مَعًا يُغَلِّبُ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى فَيَقُولُ: إِنَّهُمَا عَبْدَاكَ وَابْنَا عَبْدَيْكَ وَابْنَا أَمَتَيْكَ...إِلَخْ.

وَكَذَا إِذَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، فَإِنَّهُ يُغَلِّبُ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عَبِيدُكَ وَأَبْنَاءُ عَبِيدِكَ...إِلَخْ.فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى نِسَاءٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُنَّ إِمَاؤُكَ، وَبَنَاتُ عَبِيدِكَ، وَبَنَاتُ إِمَائِكَ كُنَّ يَشْهَدْنَ..إِلَخْ.وَيَزِيدُ عَلَى الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ فِي حَقِّ كُلِّ مَيِّتٍ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ.اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَسْلَافِنَا، وَأَفْرَاطِنَا، وَمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ.

وَالْفَرْضُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَدْنَى دُعَاءٍ لِلْمَيِّتِ كَمَا تَقَدَّمَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ».

وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى طَلَبِ الْخَيْرِ لِلْمَيِّتِ الْحَاضِرِ، فَلَوْ دَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ دُعَاءٍ لَهُ لَا يَكْفِي، إِلاَّ إِذَا كَانَ صَبِيًّا، فَإِنَّهُ يَكْفِي كَمَا يَكْفِي الدُّعَاءُ لِوَالِدَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ أَمْرًا أُخْرَوِيًّا كَطَلَبِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، وَلَا يَتَقَيَّدُ الْمُصَلِّي فِي الدُّعَاءِ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَدْعُوَ بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ الَّذِي انْتَخَبَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَجْمُوعِ أَحَادِيثَ وَهُوَ: اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدَيْكَ، خَرَجَ مِنْ رَوْحِ الدُّنْيَا وَسِعَتِهَا، وَمَحْبُوبِهِ وَأَحِبَّائِهِ فِيهَا إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَمَا هُوَ لَاقِيهِ، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ إِنَّهُ نَزَلَ بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، وَأَصْبَحَ فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، وَقَدْ جِئْنَاكَ رَاغِبِينَ إِلَيْكَ شُفَعَاءَ لَهُ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ رِضَاكَ وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَهُ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَجَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ حَتَّى تَبْعَثَهُ آمِنًا إِلَى جَنَّتِكَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

27- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ قَبْلَهُ: الدُّعَاءَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ».

وَيُنْدَبُ أَنْ يَقُولَ: بَيْنَ الدُّعَاءَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُلَاحِظَ الْمُصَلِّي فِي دُعَائِهِ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ، وَالتَّثْنِيَةَ وَالْجَمْعَ، بِمَا يُنَاسِبُ حَالَ الْمَيِّتِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يُذَكِّرَ مُطْلَقًا بِقَصْدِ الشَّخْصِ، وَأَنْ يُؤَنِّثَ مُطْلَقًا بِقَصْدِ الْجِنَازَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الصَّغِيرِ بَدَلَ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا لِأَبَوَيْهِ، وَسَلَفًا، وَذُخْرًا وَعِظَةً، وَاعْتِبَارًا وَشَفِيعًا، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا، وَأَفْرِغِ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا، وَلَا تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ، وَلَا تَحْرِمْهُمَا أَجْرَهُ.

وَيَتَأَدَّى الرُّكْنُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِأَدْنَى دُعَاءٍ لِلْمَيِّتِ يَخُصُّهُ بِهِ نَحْوَ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ.

وَمَحَلُّ الدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ وَيَجُوزُ عَقِبَ الرَّابِعَةِ، وَلَا يَصِحُّ عَقِبَ سِوَاهُمَا.

وَالْمَسْنُونُ الدُّعَاءُ بِمَا وَرَدَ، وَمِنْهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، إِنَّكَ تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَيْهِمَا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ الْكَبِيرِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِلاَّ أَنَّهُ يُؤَنِّثُ الضَّمَائِرَ فِي الْأُنْثَى.

وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ صَغِيرًا أَوْ بَلَغَ مَجْنُونًا وَاسْتَمَرَّ عَلَى جُنُونِهِ حَتَّى مَاتَ قَالَ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ذُخْرًا لِوَالِدَيْهِ، وَفَرَطًا وَأَجْرًا، وَشَفِيعًا مُجَابًا، اللَّهُمَّ ثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا، وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا، وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِهِ بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ الْجَحِيمِ، يُقَالُ ذَلِكَ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى إِلاَّ أَنَّهُ يُؤَنَّثُ فِي الْمُؤَنَّثِ.

28- وَلَيْسَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَنٌ بَلْ لَهَا مُسْتَحَبَّاتٌ، وَهِيَ الْإِسْرَارُ بِهَا، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى فَقَطْ، حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ أُذُنَيْهِ، وَابْتِدَاءُ الدُّعَاءِ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَوُقُوفُ الْإِمَامِ عِنْدَ وَسَطِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَ مَنْكِبَيِ الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَقِفُ خَلْفَ الْإِمَامِ كَمَا يَقِفُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَاةِ، وَجَهْرُ الْإِمَامِ بِالسَّلَامِ وَالتَّكْبِيرِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ مَنْ خَلْفَهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيُسِرُّ فِيهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: سُنَّتُهَا التَّعَوُّذُ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ، وَالتَّأْمِينُ، وَالْإِسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ وَسَائِرِ الْأَقْوَالِ فِيهَا وَلَوْ فُعِلَتْ لَيْلًا، عَدَا التَّكْبِيرِ وَالسَّلَامِ فَيَجْهَرُ بِهَا، وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ، وَأَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ فَأَكْثَر إِذَا أَمْكَنَ، وَأَقَلُّ الصَّفِّ اثْنَانِ وَلَوْ بِالْإِمَامِ، وَلَا تُكْرَهُ مُسَاوَاةُ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ فِي الْوُقُوفِ، حِينَئِذٍ وَاخْتِيَارُ أَكْمَلِ صِيَغِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الْآلِ دُونَ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى النَّبِيِّ- عليه الصلاة والسلام-، وَالتَّحْمِيدُ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ، وَأَنْ يَقُولَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ قَبْلَ السَّلَامِ: اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ.ثُمَّ يَقْرَأُ {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وَأَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ أَوِ الْمُنْفَرِدُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَ عَجُزِ الْأُنْثَى أَوِ الْخُنْثَى، وَأَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ ثُمَّ يَضَعَهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ، وَأَنْ لَا تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ حَتَّى يُتِمَّ الْمَسْبُوقُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ تَكَرَّرَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ مِنْ أَشْخَاصٍ مُتَغَايِرِينَ، أَمَّا إِعَادَتُهَا مِمَّنْ أَقَامُوهَا أَوَّلًا فَمَكْرُوهَةٌ.

وَمِنَ السُّنَنِ تَرْكُ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ، وَتَرْكُ السُّورَةِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُكَفَّنَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: سُنَنُهَا فِعْلُهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَأَنْ لَا يَنْقُصَ عَدَدُ كُلِّ صَفٍّ عَنْ ثَلَاثَةٍ إِنْ كَثُرَ الْمُصَلُّونَ، وَإِنْ كَانُوا سِتَّةً جَعَلَهُمُ الْإِمَامُ صَفَّيْنِ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً جَعَلَ كُلَّ اثْنَيْنِ صَفًّا، وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَاةِ، وَأَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ وَوَسَطِ الْأُنْثَى، وَأَنْ يُسِرَّ بِالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ فِيهَا وَقَدْ ذَكَرُوا التَّعَوُّذَ وَالتَّسْمِيَةَ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَمْ يُطَّلَعْ عَلَى تَصْرِيحٍ لَهُمْ بِسُنِّيَّتِهَا.

29- وَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ سَبْعَةً قَامُوا ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ يَتَقَدَّمُ وَاحِدٌ وَيَقُومُ خَلْفَهُ ثَلَاثَةٌ، وَخَلْفَهُمُ اثْنَانِ، وَخَلْفَهُمَا وَاحِدٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ أَنْ لَا تَنْقُصَ الصُّفُوفُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، وَلَا يَنْقُصُ عَدَدُ كُلِّ صَفٍّ عَنْ ثَلَاثَةٍ إِنْ كَثُرَ الْمُصَلُّونَ، وَإِنْ كَانُوا سِتَّةً جَعَلَهُمُ الْإِمَامُ صَفَّيْنِ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً جَعَلَ كُلَّ اثْنَيْنِ صَفًّا، وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ سُنَنِهَا أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ إِذَا أَمْكَنَ، وَأَقَلُّ الصَّفِّ اثْنَانِ وَلَوْ بِالْإِمَامِ، وَلَا تُكْرَهُ مُسَاوَاةُ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ فِي الْوُقُوفِ حِينَئِذٍ.

وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلاَّ غُفِرَ لَهُ» وَقَدْ كَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ يَصُفُّ مَنْ يَحْضُرُ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ سَوَاءٌ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا.

صِفَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ:

30- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ يَقُومُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَوَاقِفِ الْإِمَامِ مِنَ الْمَيِّتِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَقَفَ فِي غَيْرِهِ جَازَ.

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَقُومُ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ مِنَ الرَّجُلِ، وَبِحِذَاءِ الصَّدْرِ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْدَبُ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ وَسْطَ الذَّكَرِ وَحَذْوَ مَنْكِبَيْ غَيْرِهِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ يَقُومُ نَدْبًا عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ، وَعَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «أَنَسًا صَلَّى عَلَى رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَعَلَى امْرَأَةٍ فَقَامَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا، فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: هَكَذَا كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا وَعَلَى الرَّجُلِ عِنْدَ رَأْسِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ» قَالُوا: لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي صِيَانَةِ الْمَرْأَةِ عَنِ الْبَاقِينَ.فَإِنْ وَقَفَ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي أَيِّ مَكَانٍ جَازَ وَخَالَفَ السُّنَّةَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَقُومُ عِنْدَ صَدْرِ رَجُلٍ، وَقِيلَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَوَسَطِ امْرَأَةٍ، وَبَيْنَ الصَّدْرِ وَالْوَسَطِ مِنَ الْخُنْثَى، لِحَدِيثِ أَنَسٍ وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ فَقَامَ وَسَطَ السَّرِيرِ.

31- وَيَنْوِي الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَمَنْ خَلْفَهُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ.وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ- وَلَوْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتْبَعْ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَلَكِنْ يُنْتَظَرُ سَلَامُهُ فِي الْمُخْتَارِ لِيُسَلِّمَ مَعَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ الْمَأْمُومُ إِذَا كَبَّرَ إِمَامُهُ التَّكْبِيرَةَ الزَّائِدَةَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمَأْمُومُ فِي الْخَامِسَةِ، بَلْ يُسَلِّمُ أَوْ يَنْتَظِرُ لِيُسَلِّمَ مَعَهُ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَخِلَافُ الْأَصَحِّ أَنَّهُ لَوْ تَابَعَهُ لَمْ يَضُرَّ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْأَوْلَى أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ وَيُتَابِعُ إِمَامَهُ فِيمَا زَادَ إِلَى سَبْعٍ فَقَطْ، وَيَحْرُمُ سَلَامٌ قَبْلَهُ، إِنْ جَاوَزَ سَبْعًا.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِذَا كَبَّرَ الْأُولَى مَعَ رَفْعِ يَدَيْهِ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ كَمَا مَرَّ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا كَبَّرَ الْأُولَى تَعَوَّذَ وَسَمَّى وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ قِرَاءَةٌ.

وَإِذَا كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهِيَ الصَّلَاةُ الْإِبْرَاهِيمِيَّةُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ ذَوَاتِ الرُّكُوعِ، وَإِذَا كَبَّرَ الثَّالِثَةَ يَدْعُو لِلْمَيِّتِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَلَا دُعَاءَ بَعْدَ الرَّابِعَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَقِيلَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَقُولُ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} إِلَخْ وَقِيلَ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} إِلَخْ وَقِيلَ: يُخَيَّرُ بَيْنَ السُّكُوتِ وَالدُّعَاءِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَدْعُو بَعْدَ الرَّابِعَةِ أَيْضًا- ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً أَوْ تَسْلِيمَتَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ.وَيَنْوِي التَّسْلِيمَ عَلَى الْمَيِّتِ مَعَ الْقَوْمِ كَمَا فِي الدُّرِّ وَمَرَاقِي الْفَلَاحِ.وَفِي الْهِنْدِيَّةِ: لَا يَنْوِي التَّسْلِيمَ عَلَى الْمَيِّتِ.

وَلَا يَجْهَرُ بِمَا يَقْرَأُ عَقِبَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ سَوَاءٌ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا لَيْلًا كَانَتِ الصَّلَاةُ أَوْ نَهَارًا.

وَهَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ؟ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ؛ لِأَنَّهُ لِلْإِعْلَامِ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مَشْرُوعٌ عَقِبَ التَّكْبِيرِ بِلَا فَصْلٍ، لَكِنِ الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ، وَفِي جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى: يَجْهَرُ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ.

وَرَوَى مُحَمَّدٌ فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ سَلَّمَ حَتَّى يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ فَيُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَيُسْمِعُ مَنْ يَلِيهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهُ لَا يَجْهَرُ كُلَّ الْجَهْرِ وَلَا يُسِرُّ كُلَّ الْإِسْرَارِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالتَّسْلِيمِ بِقَدْرِ التَّسْمِيعِ، وَيُنْدَبُ لِغَيْرِ الْإِمَامِ إِسْرَارُهَا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ جُمْهُورُهُمْ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً.وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالتَّسْلِيمِ؟ فَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولَانِ: يَجْهَرُ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ فِي السَّلَامِ عَلَى الْجَنَائِزِ: يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ وَهُوَ دُونَ سَلَامِ الْإِمَامِ، تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ- وَفِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَاحِدَةً قَدْرَ مَا يُسْمِعُ مَنْ يَلِيهِ، وَيُسَلِّمُ مَنْ وَرَاءَهُ وَاحِدَةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ أَسْمَعُوا مَنْ يَلِيهِمْ لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَقَالَتِ الْحَنَابِلَةُ: يُسَلِّمُ بِلَا تَشَهُّدٍ وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ، وَيَجُوزُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَيَجُوزُ ثَانِيَةٌ.

وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخَ اخْتَارُوا الرَّفْعَ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ.

وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ إِلاَّ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْجِبُنِي أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَاتِ الْأَرْبَعِ. وَالرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِهِمُ الْأَوَّلُ- وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الثَّوْرِيُّ، وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: نُدِبَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى فَقَطْ، وَفِي غَيْرِ الْأُولَى خِلَافُ الْأَوْلَى.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


26-موسوعة الفقه الكويتية (جهل)

جَهْلٌ

التَّعْرِيف:

1- الْجَهْلُ لُغَةً: نَقِيضُ الْعِلْمِ.يُقَالُ جَهِلْتُ الشَّيْءَ جَهْلًا وَجَهَالَةً بِخِلَافِ عَلِمْتُهُ، وَجَهِلَ عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ أَوْ خَطَأَ.

وَجَهِلَ الْحَقَّ أَضَاعَهُ، فَهُوَ جَاهِلٌ وَجَهْلٌ.وَجَهَّلْتُهُ- بِالتَّثْقِيلِ- نَسَبْتُهُ إِلَى الْجَهْلِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: بَسِيطٌ وَمُرَكَّبٌ.

أ- الْجَهْلُ الْبَسِيطُ: هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا.

ب- الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ: عِبَارَةٌ عَنِ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ.

وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ «جَهَالَةٌ» التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مُصْطَلَحَيْ (جَهْلٌ وَجَهَالَةٌ) فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ لَهُمَا حَيْثُ يَسْتَعْمِلُونَ الْجَهْلَ فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الْإِنْسَانِ بِهِ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَيَسْتَعْمِلُونَ الْجَهَالَةَ فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الشَّيْءِ الْمَجْهُولِ بِهَا (ر: جَهَالَةٌ).

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- النِّسْيَان:

2- النِّسْيَانُ لُغَةً لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ الذِّكْرِ لَهُ.

وَالثَّانِي: التَّرْكُ عَنْ تَعَمُّدٍ وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}

أَيْ: لَا تَقْصِدُوا التَّرْكَ وَالْإِهْمَالَ.وَنَسِيتُ رَكْعَةً أَهْمَلْتُهَا ذُهُولًا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْمَجَازِ نَسِيتُ الشَّيْءَ تَرَكْتُهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْلُومٍ فِي غَيْرِ حَالِ السُّنَّةِ، فَلَا يُنَافِي الْوُجُوبَ أَيْ: نَفْسَ الْوُجُوبِ، لَا وُجُوبَ الْأَدَاءِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: النِّسْيَانُ لَا إِثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، بِخِلَافِ الْجَهْلِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَعَلُّمُهُ.وَالنِّسْيَانُ أَيْضًا يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ، وَالْجَهْلُ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ.

قَالَ التَّهَانُوِيُّ: وَكَذَا الْغَفْلَةُ وَالذُّهُولُ وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ بَعْدَ الْعِلْمِ يُسَمَّى نِسْيَانًا.

قَالَ الْآمِدِيُّ: إِنَّ الذُّهُولَ وَالْغَفْلَةَ وَالنِّسْيَانَ عِبَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَكِنْ يَقْرُبُ أَنْ تَكُونَ مَعَانِيهَا مُتَّحِدَةً، وَكُلُّهَا مُضَادَّةٌ لِلْعِلْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا مَعَهُ.

ب- السَّهْو:

3- السَّهْوُ فِي اللُّغَةِ مِنْ سَهَا يَسْهُو سَهْوًا: أَيْ غَفَلَ، وَالسَّهْوَةُ: الْغَفْلَةُ.

وَفَرَّقُوا بَيْنَ السَّاهِي وَالنَّاسِي بِأَنَّ النَّاسِيَ، إِذَا ذَكَّرْتَهُ تَذَكَّرَ، وَالسَّاهِيَ بِخِلَافِهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ التَّهَانَوِيُّ: وَيَقْرَبُ مِنْهُ أَيْ مِنَ (الْجَهْلِ) السَّهْوُ وَكَأَنَّهُ جَهْلٌ بَسِيطٌ سَبَبُهُ عَدَمُ اسْتِثْبَاتِ التَّصَوُّرِ حَتَّى إِذَا نُبِّهَ السَّاهِي أَدْنَى تَنْبِيهٍ تَنَبَّهَ.

أَقْسَامُ الْجَهْلِ:

يَنْقَسِمُ الْجَهْلُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أَوَّلًا- الْجَهْلُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَصْلُحُ عُذْرًا:

4- وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصْلُحُ عُذْرًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَقَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ حَتَّى لَا يُقْتَلَ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ حَتَّى إِنَّهُ يُعَاقَبُ فِيهَا.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ جَهْلُ الْكُفَّارِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَصْلًا، لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ، وَكَذَا عَلَى حَقِّيَّةَ الرَّسُولِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.

وَكَذَا جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى الَّذِي يَقُولُ بِحُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَقُولُ بِعَدَمِ إِثْبَاتِ صِفَةٍ لَهُ سُبْحَانَهُ.

هَذَا مَا قَالَهُ الْحَمَوِيُّ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْجَهْلُ بِالصِّفَةِ هَلْ هُوَ جَهْلٌ بِالْمَوْصُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؟

الْمُرَجَّحُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِالذَّاتِ مِنْ حَيْثُ صِفَاتُهَا لَا مُطْلَقًا، وَمِنْ ثَمَّ لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.

وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا جَهْلُ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ، أَوْ عَمِلَ بِالْغَرِيبِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ أَصْلًا.

ثَانِيًا- الْجَهْلُ الَّذِي يَصْلُحُ عُذْرًا:

5- الْجَهْلُ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا هُوَ الْجَهْلُ الَّذِي يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ، بِأَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ كَالْمُحْتَجِمِ إِذَا أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْحِجَامَةَ مُفْطِرَةٌ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حِجَامَةٌ).

وَمِنَ الْجَهْلِ الَّذِي يَصْلُحُ عُذْرًا، الْجَهْلُ بِالشَّرَائِعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ عُذْرًا مِنْ مُسْلِمٍ أَسْلَمَ فِيهَا وَلَمْ يُهَاجِرْ، حَتَّى لَوْ مَكَثَ فِيهَا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَغَيْرَهُمَا وَلَمْ يُؤَدِّهَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ الْخِطَابُ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً بِالسَّمَاعِ وَتَقْدِيرًا بِالشُّهْرَةِ، فَيَصِيرُ جَهْلُهُ بِالْخِطَابِ عُذْرًا.بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِشُيُوعِ الْأَحْكَامِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ السُّؤَالِ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: كُلُّ مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ غَالِبُ النَّاسِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَى الْجَهْلِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ يَخْفَى فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ، كَتَحْرِيمِ الزِّنَى، وَالْقَتْلِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْخَمْرِ، وَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَوْ شَهِدَا بِقَتْلٍ ثُمَّ رَجَعَا وَقَالَا تَعَمَّدْنَا، لَكِنْ مَا عَرَفْنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِنَا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَصَحِّ، إِذْ لَمْ يَظْهَرْ تَعَمُّدُهُمَا لِلْقَتْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَعْنِي الَّذِي يُقْبَلُ فِيهِ دَعْوَى الْجَهْلِ مُطْلَقًا لِخَفَائِهِ كَوْنُ التَّنَحْنُحِ مُبْطِلًا لِلصَّلَاةِ، أَوْ كَوْنُ الْقَدْرِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنَ الْكَلَامِ مُحَرَّمًا، أَوِ النَّوْعِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مُفْطِرًا، فَالْأَصَحُّ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ عَدَمُ الْبُطْلَانِ.

وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْجَهْلِ فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَهِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ كَثُبُوتِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ رَجُلٍ قَدِيمِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْخَوَاصُّ.

6- هَذَا وَيَعْقِدُ الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَابًا لِعَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ، وَيَجْعَلُونَ الْجَهْلَ مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَقَدْ قَسَّمَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ الْجَهْلَ إِلَى أَنْوَاعٍ هِيَ:

الْأَوَّلُ: الْجَهْلُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْلِ وَتَرْكِ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ وَهُوَ جَهْلُ الْكَافِرِ، لَا يَكُونُ عُذْرًا بِحَالٍ، بَلْ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

الثَّانِي: الْجَهْلُ الَّذِي يَكُونُ عَنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْلِ وَتَرْكِ الْحُجَّةِ الْجَلِيَّةِ أَيْضًا، لَكِنَّ الْمُكَابَرَةَ فِيهِ أَقَلُّ مِنْهَا فِي الْأَوَّلِ؛ لِكَوْنِ هَذَا الْجَهْلِ نَاشِئًا عَنْ شُبْهَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ.وَهَذَا الْجَهْلُ لِلْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَهَذَا الْجَهْلُ لَا يَكُونُ عُذْرًا، وَلَا نَتْرُكُهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ، فَإِنَّ لَنَا أَنْ نَأْخُذَهُمْ بِالْحُجَّةِ لِقَبُولِهِمُ التَّدَيُّنَ بِالْإِسْلَامِ.

الثَّالِثُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَكِنْ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ بِأَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ.

وَحُكْمُهُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عُذْرًا فِي حَقِّ الْإِثْمِ لَكِنْ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِهِ.

الرَّابِعُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنِ اجْتِهَادٍ فِيهِ مَسَاغٌ كَالْمُجْتَهَدَاتِ وَهُوَ عُذْرٌ أَلْبَتَّةَ وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِهِ.

الْخَامِسُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنْ شُبْهَةٍ وَخَطَأٍ كَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَهَذَا عُذْرٌ يُسْقِطُ الْحَدَّ.

السَّادِسُ: جَهْلٌ لَزِمَهُ ضَرُورَةً بِعُذْرٍ وَهُوَ أَيْضًا عُذْرٌ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، كَجَهْلِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَلَا يُحَدُّ بِالشُّرْبِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الْجَهْلُ بِالتَّحْرِيمِ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ وَالْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ:

7- الْجَهْلُ بِالتَّحْرِيمِ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ وَالْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ لِمَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ لَمْ يُعْذَرْ.

وَلِهَذَا لَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ عُذِرَ، وَلَوْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ وَجَهِلَ الْإِبْطَالَ بَطَلَتْ.وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ جِنْسَ الْكَلَامِ يَحْرُمُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ التَّنَحْنُحَ وَالْمِقْدَارَ الَّذِي نَطَقَ بِهِ مُحَرَّمٌ فَمَعْذُورٌ فِي الْأَصَحِّ.وَقَدْ ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ هُنَا تَنْبِيهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا وَادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَكَانَ مِثْلُهُ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيمَا قَالَهُ (الْقَاضِي) نَظَرٌ قَوِيٌّ.

الثَّانِي: أَنَّ إِعْذَارَ الْجَاهِلِ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ لَا مِنْ حَيْثُ جَهْلُهُ.

وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ عُذِرَ الْجَاهِلُ لِأَجْلِ جَهْلِهِ لَكَانَ الْجَهْلُ خَيْرًا مِنَ الْعِلْمِ، إِذْ كَانَ يَحُطُّ عَنِ الْعَبْدِ أَعْبَاءَ التَّكْلِيفِ، وَيُرِيحُ قَلْبَهُ مِنْ ضُرُوبِ التَّعْنِيفِ، فَلَا حُجَّةَ لِلْعَبْدِ فِي جَهْلِهِ بِالْحُكْمِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ وَالتَّمْكِينِ؛ {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.

قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ تَدِقُّ وَيَغْمُضُ مَعْرِفَتُهَا هَلْ يُعْذَرُ فِيهَا الْعَامِّيُّ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ.

الْجَهْلُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ مُسْقِطٌ لِحُكْمِهِ:

8- إِذَا نَطَقَ الْأَعْجَمِيُّ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ، أَوْ إِيمَانٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إِعْتَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ.نَعَمْ، لَوْ قَالَ الْأَعْجَمِيُّ: أَرَدْتُ بِهِ مَا يُرَادُ عِنْدَ أَهْلِهِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلاَّ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى اللَّفْظِ لَمْ يَصِحَّ قَصْدُهُ.

وَلَوْ نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِكَلِمَاتٍ عَرَبِيَّةٍ لَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهَا فِي الشَّرْعِ، مِثْلُ قَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ، وَهُوَ جَاهِلٌ بِمَعْنَى اللَّفْظِ، أَوْ نَطَقَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوِ النِّكَاحِ، فَفِي الْقَوَاعِدِ لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ؛ إِذْ لَا شُعُورَ لَهُ بِمَدْلُولِهِ حَتَّى يَقْصِدَهُ بِاللَّفْظِ.قَالَ: وَكَثِيرًا مَا يُخَالِعُ الْجُهَّالُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَدْلُولَ لَفْظِ الْخُلْعِ وَيَحْكُمُونَ بِصِحَّتِهِ لِلْجَهْلِ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ.

مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ:

9- كُلُّ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْهُ ذَلِكَ، كَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ يُحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَقُّهُ الِامْتِنَاعَ، وَكَذَا لَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْقِصَاصُ، أَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَجَهِلَ كَوْنَهُ مُبْطِلًا يُبْطِلُ، أَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ تَجِبُ.

الْجَهْلُ عُذْرٌ فِي الْمَنْهِيَّاتِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:

10- الْجَهْلُ عُذْرٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْإِعَادَةِ لِجَهْلِهِ بِالنَّهْيِ».وَحَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: حَيْثُ «أَمَرَ - صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِيًّا بِنَزْعِ الْجُبَّةِ عَنْهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْفِدْيَةِ لِجَهْلِهِ».

وَاحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ فِي الْإِحْرَامِ جَاهِلًا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ إِقَامَةُ مَصَالِحِهَا.وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِفِعْلِهَا، وَالْمَنْهِيَّاتُ مَزْجُورٌ عَنْهَا بِسَبَبِ مَفَاسِدِهَا امْتِحَانًا لِلْمُكَلَّفِ بِالِانْكِفَافِ عَنْهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّعَمُّدِ لِارْتِكَابِهَا، وَمَعَ الْجَهْلِ لَمْ يَقْصِدْ الْمُكَلَّفُ ارْتِكَابَ الْمَنْهِيِّ، فَعُذِرَ بِالْجَهْلِ فِيهِ.

أَمَّا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَقَدْ لَا يُعْذَرُ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَرِيضًا جَهِلَ مَرَضَهُ ضَرْبًا يَقْتُلُ الْمَرِيضَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَصَحِّ.بِخِلَافِ مَا لَوْ حَبَسَ مَنْ بِهِ جُوعٌ وَعَطَشٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ مُدَّةً لَا يَمُوتُ فِيهَا الشَّبْعَانُ عِنْدَ الْحَبْسِ فَلَا قِصَاصَ.

وَكَأَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ أَمَارَاتِ الْمَرَضِ لَا تَخْفَى بِخِلَافِ الْجُوعِ.

أَحْكَامُ الْجَهْلِ:

لِلْجَهْلِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:

جَهْلُ الْمَرْأَةِ عَادَتَهَا:

11- الْمَرْأَةُ إِذَا جَهِلَتْ عَادَتَهَا لِنِسْيَانٍ أَوْ جُنُونٍ وَنَحْوِهِمَا (وَهِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ) سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَحَيُّرِهَا فِي أَمْرِهَا، وَهِيَ الْمُسْتَحَاضَةُ غَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ.لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِلْقَدْرِ وَالْوَقْتِ، أَوْ لِلْقَدْرِ دُونَ الْوَقْتِ، أَوْ بِالْعَكْسِ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (حَيْضٌ).

الْجَهْلُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ:

12- مَنْ جَهِلَ الْوَقْتَ لِعَارِضٍ كَغَيْمٍ، أَوْ حَبْسٍ، وَعَدِمَ ثِقَةً يُخْبِرُهُ بِهِ عَنْ عِلْمٍ، اجْتَهَدَ جَوَازًا إِنْ قَدَرَ عَلَى الْيَقِينِ بِالصَّبْرِ أَوِ الْخُرُوجِ وَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ مَثَلًا، وَإِلاَّ فَوُجُوبًا بِوِرْدٍ مِنْ قُرْآنٍ، وَدَرْسٍ، وَمُطَالَعَةٍ وَصَلَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِالنَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ:

13- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى حَامِلًا نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا وَلَا يَعْلَمُهَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ الْخَبَثِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ إِلاَّ حَالَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِالْمُطَهَّرِ وَسَاتِرِ الْعَوْرَةِ:

14- إِذَا اخْتَلَطَ مَاءٌ طَاهِرٌ بِآخَرَ نَجِسٍ، وَلَمْ يَعْلَمِ الطَّاهِرَ مِنْهُمَا، هَلْ يَجْتَهِدُ وَيَتَحَرَّى وَيَتَطَهَّرُ وَيُصَلِّي أَمْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (مَاءٌ وَصَلَاةٌ).

وَمِثْلُهُ إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِأُخْرَى نَجِسَةٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، وَلَنْ يَجِدَ مَا يُطَهِّرُهَا بِهِ وَاحْتَاجَ إِلَى الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُصَلِّي بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ اشْتِبَاهٌ مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ف 13 ج 4 ص 294

الْجَهْلُ بِالْقِبْلَةِ:

15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وَمَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ يَسْأَلُ مَنْ يَعْلَمُهَا، فَإِذَا تَعَذَّرَ السُّؤَالُ اجْتَهَدَ.

عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (اسْتِقْبَالٌ، وَاشْتِبَاهٌ).

الْجَهْلُ بِالْفَاتِحَةِ:

16- مَنْ جَهِلَ الْفَاتِحَةَ بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ مَعْرِفَتُهَا لِعَدَمِ مُعَلِّمٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَتَى فِي الصَّلَاةِ بِبَدَلِهَا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، أَتَى بِالذِّكْرِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي عَنْهُ.فَقَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ».وَلَا يُجْزِئُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُجْزِئُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ:

17- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ إِنْ جَحَدَهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِوُجُوبِهَا يَكْفُرُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا كَأَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ، أَوْ جَزِيرَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (رِدَّةٌ، صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِمُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ:

18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُعْذَرُ مَنْ يَجْهَلُ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ يُبْطِلُهَا عَالِمًا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَوْ جَاهِلًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ قَلِيلًا جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إِنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، بِخِلَافِ مَنْ بَعُدَ إِسْلَامُهُ وَقَرُبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ الْعِلْمِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).

قَضَاءُ الْفَوَائِتِ الْمَجْهُولَةِ:

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ لَا يَدْرِي عَدَدَهَا وَتَرَكَهَا لِعُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنَ الْفُرُوضِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ بِأَكْبَرِ رَأْيِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ يَقْضِي حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءُ الْفَوَائِتِ).

الْجَهْلُ بِوَقْتِ الصَّوْمِ:

20- لَوْ اشْتَبَهَ رَمَضَانُ عَلَى أَسِيرٍ وَمَحْبُوسٍ وَنَحْوِهِمَا، صَامَ وُجُوبًا شَهْرًا بِالِاجْتِهَادِ، كَمَا فِي اجْتِهَادِهِ لِلصَّلَاةِ فِي الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ بِأَمَارَةٍ كَخَرِيفٍ، أَوْ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، فَلَوْ صَامَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَوَافَقَ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِئْهُ لِتَرَدُّدِهِ فِي النِّيَّةِ، (انْظُرْ: اشْتِبَاهٌ ف 15 ج 4 ص 296 وَصَوْمٌ).

جِمَاعُ الصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ:

21- لَا كَفَّارَةَ عَلَى الصَّائِمِ الْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ إِذَا جَامَعَ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ، كَفَّارَةٌ).

جِمَاعُ مُحْرِمٍ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ:

22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ جِنَايَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْجَزَاءُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَغَيْرُهُمَا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَاهِلَ إِذَا كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ لَا يَفْسُدُ إِحْرَامُهُ بِالْجِمَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 170 ج 2 ص 190).

الْجَهْلُ لَا يُعْفِي مِنْ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ:

23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَهْلَ بِكَوْنِ الْمَالِ الْمُتْلَفِ مَالَ الْغَيْرِ لَا يُعْفِيهِ مِنَ الضَّمَانِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ).

الْحَجْرُ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِلِ:

24- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ.وَالطَّبِيبُ الْجَاهِلُ: هُوَ مَنْ يَسْقِي النَّاسَ دَوَاءً مُهْلِكًا، وَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِمُ الْمَرَضُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ ضَرَرِهِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْرٌ).

طَلَاقُ مَنْ جَهِلَ مَعْنَى الطَّلَاقِ:

25- لَا يَقَعُ طَلَاقُ مَنْ يَجْهَلُ مَعْنَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الطَّلَاقِ.

قَالَ فِي الْمُغْنِي: إِنْ قَالَ الْأَعْجَمِيُّ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ لِلطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمُكْرَهِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (طَلَاقٌ).

الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى:

26- يُعْذَرُ الْجَاهِلُ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى إِنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ أَوْ كَانَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ وَزَنَى قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْأَحْكَامَ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٌ، زِنًى).

الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ السَّرِقَةِ:

27- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ- بِشَرْطِهِ- سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ أَمْ جَاهِلًا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ يَدَ السَّارِقِ الْجَاهِلِ لَا تُقْطَعُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (سَرِقَةٌ).

الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ:

28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهَا خَمْرٌ لَا يُحَدُّ، أَمَّا إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا خَمْرٌ لَكِنَّهُ ادَّعَى الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (حُدُودٌ، سُكْرٌ).

تَوْلِيَةُ الْجَاهِلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَضَاءَ:

29- الْأَصْلُ فِيمَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِهِ الْقَضَاءَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدِ الْعَالِمُ.وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ).

الْجَهْلُ بِالْبَيْعَةِ لِلْإِمَامِ الْأَوَّلِ:

30- إِذَا عُقِدَتِ الْبَيْعَةُ لِإِمَامَيْنِ وَجُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ.وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى، وَبَيْعَةٌ).

التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ الْجَهْلِ:

31- قَالَ الْحَمَوِيُّ: إِنَّ مَنْ تَلَفَّظَ بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَنِ اعْتِقَادٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهَا

لَفْظُ الْكُفْرِ إِلاَّ أَنَّهُ أَتَى بِهِ عَنِ اخْتِيَارٍ فَيَكْفُرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكْفُرُ، وَالْجَهْلُ عُذْرٌ، وَبِهِ يُفْتَى؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ مَأْمُورٌ أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُوجِبُ التَّكْفِيرَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْجَهْلُ عُذْرًا لَحُكِمَ عَلَى الْجُهَّالِ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَلْفَاظَ الْكُفْرِ، وَلَوْ عَرَفُوا لَمْ يَتَكَلَّمُوا، قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَهُوَ حَسَنٌ لَطِيفٌ.

وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً فِي زَمَنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قِيلَ لَهَا: إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَتْ: لَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ عِبَادُهُ، فَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا كَفَرَتْ فَإِنَّهَا جَاهِلَةٌ، فَعَلَّمُوهَا حَتَّى عَلِمَتْ.

وَقَالَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَكْفُرُ مَنْ نَسَبَ الْأُمَّةَ إِلَى الضَّلَالِ، أَوِ الصَّحَابَةَ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ أَنْكَرَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ أَنْكَرَ الدَّلَالَةَ عَلَى اللَّهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي خَلْقِهِمَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، أَوْ أَنْكَرَ بَعْثَ اللَّهِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُمُ الْأَصْلِيَّةَ وَيُعِيدَ الْأَرْوَاحَ إِلَيْهَا، أَوْ أَنْكَرَ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ، أَوِ الْحِسَابَ أَوِ الثَّوَابَ أَوِ الْعِقَابَ أَوْ أَقَرَّ بِهَا لَكِنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ مَعَانِيهَا، أَوْ قَالَ: إِنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ وَأَكَلْتُ مِنْ ثِمَارِهَا وَعَانَقْتُ حُورَهَا، أَوْ قَالَ: الْأَئِمَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، هَذَا إِنْ عَلِمَ مَا قَالَهُ، لَا إِنْ جَهِلَ ذَلِكَ لِقُرْبِ إِسْلَامِهِ، أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَكْفُرُ لِعُذْرِهِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


27-موسوعة الفقه الكويتية (حدث 2)

حَدَثٌ -2

الشَّكُّ فِي الْحَدَثِ:

20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّكَّ لَا الْوُضُوءُ.فَلَوْ أَيْقَنَ بِالطَّهَارَةِ (أَيْ عَلِمَ سَبْقَهَا) وَشَكَّ فِي عُرُوضِ الْحَدَثِ بَعْدَهَا فَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَهُوَ عَلَى الْحَدَثِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».

وَلَوْ تَيَقَّنَهُمَا وَلَمْ يَعْلَمِ الْآخِرَ مِنْهُمَا، مِثْلَ مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مُتَطَهِّرًا مَرَّةً وَمُحْدِثًا أُخْرَى وَلَا يَعْلَمُ أَيَّهُمَا كَانَ لَاحِقًا يَأْخُذُ بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُمَا مُحْدِثًا فَهُوَ الْآنَ مُتَطَهِّرٌ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي تَأَخُّرِ الْحَدَثِ عَنْهَا وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَأَخُّرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُمَا مُتَطَهِّرًا فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي تَأَخُّرِ الطَّهَارَةِ عَنْهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَأَخُّرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا قَبْلَهُمَا لَزِمَهُ الْوُضُوءُ لِتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا قَبْلَهُمَا وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَهُمَا وَشَكَّ فِي السَّابِقِ فَهُوَ مُتَطَهِّرٌ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِشَكٍّ فِي حَدَثٍ بَعْدَ طُهْرٍ عُلِمَ، فَإِنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ شَكَّ فَلَمْ يَدْرِ أَأَحْدَثَ بَعْدَ الْوُضُوءِ أَمْ لَا فَلْيُعِدْ وُضُوءَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُسْتَنْكَحًا.قَالَ الْحَطَّابُ: هَذَا إِذَا شَكَّ قَبْلَ الصَّلَاةِ، أَمَّا إِذَا صَلَّى ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَحْدَث أَمْ لَا فَفِيهِ قَوْلَانِ.

وَذَكَرَ فِي التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ أَنَّ مَنْ شَكَّ أَثْنَاءَ صَلَاتِهِ هَلْ هُوَ عَلَى وُضُوءٍ أَمْ لَا فَتَمَادَى عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ عَلَى شَكِّهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ عَلَى وُضُوئِهِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ مُجْزِئَةٌ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِطَهَارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الشَّكُّ الطَّارِئُ.أَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِي طَهَارَتِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَلَا يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ إِلاَّ عَلَى طَهَارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ.

وَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا بِشَكٍّ فِي السَّابِقِ مِنَ الْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ سَوَاءٌ كَانَا مُحَقَّقَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ أَوْ مَشْكُوكَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُحَقَّقًا أَوْ مَظْنُونًا وَالْآخَرُ مَشْكُوكًا أَوْ أَحَدُهُمَا مُحَقَّقًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا.

وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: لَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ وُضُوئِهِ- وَهُوَ أَوَّلُ مَا شَكَّ- غَسَلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي شَكَّ فِيهِ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْحَدَثِ فِيهِ، وَإِنْ صَارَ الشَّكُّ فِي مِثْلِهِ عَادَةً لَهُ بِأَنْ يَعْرِضَ لَهُ كَثِيرًا لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ فَيَجِبُ قَطْعُهَا.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَيَقُولُ أَحْدَثْتَ أَحْدَثْتَ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شَكٌّ) (وَوَسْوَسَةٌ).

حُكْمُ الْحَدَثِ:

21- الْحَدَثُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ فَيُوجِبُ الْغُسْلَ، أَوْ أَصْغَرَ فَيُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ، أَمَّا أَحْكَامُ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ وَأَسْبَابُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَمُصْطَلَحِ: (غُسْلٌ).

وَفِيمَا يَأْتِي أَحْكَامُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ:

أَوَّلًا: مَا لَا يَجُوزُ بِالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ:

أ- الصَّلَاةُ:

22- يَحْرُمُ بِالْمُحْدِثِ (حَيْثُ لَا عُذْرَ) الصَّلَاةُ بِأَنْوَاعِهَا بِالْإِجْمَاعِ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» وَقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ» وَهُوَ يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، وَمِنْهَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَفِي مَعْنَى الصَّلَاةِ سَجْدَتَا التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ وَخُطْبَةُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ.وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ كَمَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَبِوَجْهِهِ جِرَاحَةٌ- كَمَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ أَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ- صَلَّى وُجُوبًا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (فَقْدُ الطَّهُورَيْنِ) هَذَا إِذَا كَانَ مُحْدِثًا قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ.

23- أَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحَدَثُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ، غَلَبَةً كَانَ الْحَدَثُ أَوْ نِسْيَانًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُصَلِّي فَذًّا أَمْ مَأْمُومًا أَمْ إِمَامًا، لَكِنْ لَا يَسْرِي بُطْلَانُ صَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُونَ الِاسْتِخْلَافَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا، لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ طَلْقٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ» وَلِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ إِلاَّ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ سَبَقَ الْمُصَلِّيَ حَدَثٌ تَوَضَّأَ وَبَنَى لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ» لِأَنَّ الْبَلْوَى فِيمَا سَبَقَ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ مَا يَتَعَمَّدُهُ.وَالِاسْتِئْنَافُ أَفْضَلُ تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ.

وَقَدْ فَصَّلَ الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ فَقَالَ: إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ تَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ ضَحِكَ أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي إِلاَّ لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ، وَكَذَا إِذَا جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَجْنَبَ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَكَانَ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ بُدٌّ وَكَذَا لَوْ أَدَّى رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ أَوْ مَكَثَ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَهُ مِنْهُ بُدٌّ، وَكَذَا لَوِ اسْتَقَى مِنَ الْبِئْرِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلَوْ مَشَى إِلَى الْوُضُوءِ فَاغْتَرَفَ الْمَاءَ مِنَ الْإِنَاءِ أَوِ اسْتَقَى مِنَ الْبِئْرِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فَتَوَضَّأَ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ لِأَنَّ الْوُضُوءَ أَمْرٌ لَا بُدَّ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ وَالْمَشْيُ وَالِاغْتِرَافُ وَالِاسْتِقَاءُ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوُضُوءِ، وَلَوِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ وَبَنَى لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ جَائِزٌ فَالْبِنَاءُ أَوْلَى، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْبِنَاءِ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ إِمَامًا.

فَإِنَّ كَانَ مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ وَإِنْ شَاءَ عَادَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ حَيْثُ هُوَ فَقَدْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ عَنِ الْمَشْيِ لَكِنَّهُ صَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ، وَإِنْ عَادَ إِلَى مُصَلاَّهُ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيُخَيَّرُ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بَعْدُ وَلَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ لَا يُجْزِيهِ.ثُمَّ إِذَا عَادَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ أَوَّلًا بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ فِي حَالِ تَشَاغُلِهِ بِالْوُضُوءِ، لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فَكَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَيَقُومُ مِقْدَارَ قِيَامِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَمِقْدَارَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَلَا يَضُرُّهُ إِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ، وَلَوْ تَابَعَ إِمَامَهُ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا يَسْتَخْلِفُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَالْأَمْرُ فِي مَوْضِعِ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ فِي الْمُقْتَدِي، لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْلَافِ تَحَوَّلَتِ الْإِمَامَةُ إِلَى الثَّانِي وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِ.

اسْتِخْلَافُ الْإِمَامِ فِي حَالَةِ الْحَدَثِ:

24- لِلْإِمَامِ إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمُ الصَّلَاةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمَّا طُعِنَ أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ فَأَتَمَّ بِهِمُ الصَّلَاةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ أَوْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ.

وَفِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْحَنَابِلَةِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تَصِحُّ بِإِمَامَيْنِ مَعًا، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَتَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ.

وَلِجَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِخْلَافٌ).

ب- الطَّوَافُ:

25- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الطَّوَافِ لِلْمُحْدِثِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا أَمْ وَاجِبًا أَمْ نَفْلًا، فِي نُسُكٍ أَمْ فِي غَيْرِهِ، وَيَعْتَبِرُونَ الطَّهَارَةَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلاَّ بِخَيْرٍ».وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ عَدُّوا الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهَا مِنَ السُّنَنِ.

قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: فَإِنْ طَافَ مُحْدِثًا جَازَ مَعَ النُّقْصَانِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ شَبِيهٌ بِالصَّلَاةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً، فَلِكَوْنِهِ طَوَافًا حَقِيقَةً يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ، وَلِكَوْنِهِ شَبِيهًا بِالصَّلَاةِ يُحْكَمُ بِالْكَرَاهَةِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ).

ج- مَسُّ الْمُصْحَفِ:

26- لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وَلِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ وَأَنْتَ طَاهِرٌ» وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تِلَاوَتِهِ لِمَنْ كَانَ مُحْدِثًا حَدَثًا أَصْغَر بِغَيْرِ لَمْسٍ.

وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَنْعِ مَسَّهُ فِي حَالَاتٍ خَاصَّةٍ كَمَا إِذَا كَانَ بِحَائِلٍ أَوْ عُودٍ طَاهِرَيْنِ أَوْ فِي وِعَائِهِ وَعِلَاقَتِهِ، أَوْ لِمُعَلِّمٍ وَمُتَعَلِّمٍ لِغَرَضِ التَّعْلِيمِ، أَوْ كَانَ حَمْلُهُ فِي حَالِ الْحَدَثِ غَيْرَ مَقْصُودٍ، كَأَنْ كَانَ فِي صُنْدُوقٍ ضِمْنَ الْأَمْتِعَةِ، وَيَكُونُ الْقَصْدُ حَمْلَ الْأَمْتِعَةِ وَفِي دَاخِلِهَا قُرْآنٌ.

وَلِتَفْصِيلِ كُلِّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَعَ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ (مُصْحَفٌ).

27- وَيَجُوزُ مَسُّ وَحَمْلُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَرَسَائِلَ فِيهَا قُرْآنٌ فِي حَالَةِ الْحَدَثِ إِذَا كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ مِنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا لِلتَّفْسِيرِ أَوْ يَكُونُ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَفِي مَسِّهِ لِلْمُحْدِثِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَفٌ).

28- هَذَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ (الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ) بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ. وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ مَا يَأْتِي:

1- تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِقَصْدِ التِّلَاوَةِ. (ر: تِلَاوَةٌ).

2- الِاعْتِكَافُ: كَمَا فُصِّلَ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ).

3- الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.أَمَّا دُخُولُ الْمَسْجِدِ عُبُورًا أَوْ مُجْتَازًا، فَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.

لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَحِلُّ لِجُنُبٍ وَلَا لِحَائِضٍ».

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ).

وَيَحْرُمُ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ الصِّيَامُ. (ر: حَيْضٌ، وَنِفَاسٌ).

ثَانِيًا- مَا يُرْفَعُ بِهِ الْحَدَثُ:

29- يُرْفَعُ الْحَدَثُ الْأَكْبَرُ بِالْغُسْلِ، وَالْأَصْغَرُ بِالْغُسْلِ وَبِالْوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُمَا فِي مُصْطَلَحَيْ: (غُسْلٌ، وَوُضُوءٌ).

أَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ لَكِنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُتَيَمِّمِ الصَّلَاةُ بِهِ وَنَحْوُهَا لِلضَّرُورَةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، فَيَرْفَعُ الْحَدَثَ إِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَيَجُوزُ بِهِ مَا يَجُوزُ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مُطْلَقًا.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّمٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


28-موسوعة الفقه الكويتية (خفاء)

خَفَاءٌ

التَّعْرِيفُ

1- الْخَفَاءُ فِي اللُّغَةِ مِنْ خَفَيْتُ الشَّيْءَ أُخْفِيهِ إِذَا كَتَمْتَهُ أَوْ أَظْهَرْتَهُ، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَشَيْءٌ خَفِيٌّ: خَافٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى خَفَايَا، وَخَفِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ يَخْفَى خَفَاءً، وَخَفِيَ الشَّيْءُ يَخْفَى خَفَاءً بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ.

وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ حَرْفَ الصِّلَةِ فَارِقًا فَيَقُولُ: خَفِيَ عَلَيْهِ: إِذَا اسْتَتَرَ، وَخَفِيَ لَهُ: إِذَا ظَهَرَ.

وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى الِاسْتِتَارِ وَعَدَمِ الظُّهُورِ، وَهُوَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَخْفَى الْمُرَادُ مِنْهَا بِسَبَبٍ فِي الصِّيغَةِ أَوْ خَارِجٍ عَنْهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاشْتِبَاهُ:

2- الِاشْتِبَاهُ: الِالْتِبَاسُ، وَاشْتَبَهَتِ الْأُمُورُ وَتَشَابَهَتْ، الْتَبَسَتْ فَلَمْ تَتَمَيَّزْ وَلَمْ تَظْهَرْ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ مِنَ الْأُمُورِ: الْمُشْكِلَاتُ.وَالْخَفَاءُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الِاشْتِبَاهِ إِمَّا لِتَعَدُّدِ الْمَعَانِي الْمُسْتَعْمَلَةِ لِلَّفْظِ، أَوْ لِإِجْمَالِ اللَّفْظِ وَاحْتِيَاجِهِ إِلَى الْبَيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ب- الْجَهْلُ وَالْجَهَالَةُ:

3- الْجَهْلُ وَالْجَهَالَةُ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ.

قَالَ الْجُرْجَانِيِّ: الْجَهْلُ هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ.

وَخَفَاءُ الشَّيْءِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِمَّا الْجَهْلُ بِوُجُودِهِ أَصْلًا، كَمَنْ يُنْكِرُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ جَهْلًا مِنْهُ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَإِمَّا الْجَهْلُ بِمَكَانِ الشَّيْءِ، كَمَنْ عَلِمَ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً، وَخَفِيَ عَلَيْهِ مَكَانُهَا.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَفَاءِ مِنْ أَحْكَامٍ:

أَوَّلًا: عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:

4- يُقَسِّمُ الْأُصُولِيُّونَ اللَّفْظَ بِاعْتِبَارِ خَفَاءِ الْمَعْنَى وَمَرَاتِبِ الْخَفَاءِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: الْخَفِيُّ، وَهُوَ مَا اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ وَخَفِيَ مُرَادُهُ (أَيِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ) بِعَارِضٍ غَيْرِ الصِّيغَةِ، فَالْخَفَاءُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنَّهُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فَلَفْظُ السَّارِقِ ظَاهِرٌ فِي كُلِّ سَارِقٍ لَمْ يُعْرَفْ بِاسْمٍ آخَرَ، لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلطَّرَّارِ الَّذِي يَسْرِقُ بِشَقِّ الثَّوْبِ، وَالنَّبَّاشِ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْخَفَاءِ، لِاخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ غَيْرِ السَّارِقِ.

وَإِزَالَةُ الْخَفَاءِ تَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ، وَبِالتَّأَمُّلِ يَظْهَرُ أَنَّ الْخَفَاءَ قَدْ يَكُونُ لِزِيَادَةٍ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ كَمَا فِي الطَّرَّارِ، فَإِنَّهُ سَارِقٌ كَامِلٌ يَأْخُذُ مِنْ حُضُورِ الْمَالِكِ، وَيَقِظَتِهِ فَلَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى السَّارِقِ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ يَأْخُذُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، وَلِذَلِكَ يَأْخُذُ الطَّرَّارُ حُكْمَ السَّارِقِ فَيُقْطَعُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

وَقَدْ يَكُونُ الْخَفَاءُ لِنَقْصٍ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ كَمَا فِي النَّبَّاشِ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى، فَفِيهِ شُبْهَةُ نُقْصَانِ الْحِرْزِ، وَعَدَمِ الْحَافِظِ لَهُ، وَلِذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ فَيُقْطَعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ)، وَلَا يُقْطَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.

5- الثَّانِي: الْمُشْكِلُ: وَهُوَ اسْمٌ لَمَّا يَشْتَبِهُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِدُخُولِهِ فِي إِشْكَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرَفُ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَشْكَالِ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ: هُوَ الَّذِي أَشْكَلَ عَلَى السَّامِعِ طَرِيقُ الْوُصُولِ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي، لِدِقَّةِ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ لَا بِعَارِضٍ.

فَالْخَفَاءُ فِي الْمُشْكِلِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ ذَاتِ اللَّفْظِ، وَلَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ ابْتِدَاءً إِلاَّ بِدَلِيلٍ مِنَ الْخَارِجِ، كَاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ وَلَا مُعَيِّنَ لِأَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فَلَفْظُ {أَنَّى} مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ لِاسْتِعْمَالِهِ كَأَيْنَ وَكَيْفَ، لَكِنْ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالطَّلَبِ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ (كَيْفَ) دُونَ (أَيْنَ) بِقَرِينَةِ الْحَرْثِ، وَدَلَالَةُ تَحْرِيمِ الْقُرْبَانِ فِي الْأَذَى الْعَارِضِ، وَهُوَ الْحَيْضُ، فَإِنَّهُ فِي الْأَذَى اللاَّزِمِ أَوْلَى.

6- الثَّالِثُ: الْمُجْمَلُ: وَهُوَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ خَفَاءً لَا يُدْرَكُ إِلاَّ بِبَيَانِ الْمُجْمَلِ كَلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالرِّبَا.فَالسَّبِيلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ هُوَ بَيَانُ الشَّارِعِ، كَالصَّلَاةِ مَثَلًا فَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الْمُرَادَ بِهَا فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ».

7- الرَّابِعُ: الْمُتَشَابِهُ: وَهُوَ مَا خَفِيَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَا يُرْجَى دَرْكُهُ أَصْلًا، كَالْمُقَطَّعَاتِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَبَعْضِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

هَذَا، وَالْخَفِيُّ هُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْخَفَاءِ، وَحُكْمُهُ الطَّلَبُ، أَيِ الْفِكْرُ الْقَلِيلُ لِنَيْلِ الْمُرَادِ.

وَيَلِيهِ الْمُشْكِلُ فِي الْخَفَاءِ، وَحُكْمُهُ التَّكَلُّفُ وَالِاجْتِهَادُ فِي الْفِكْرِ.

وَيَلِيهِ الْمُجْمَلُ، وَحُكْمُهُ الِاسْتِفْسَارُ وَطَلَبُ الْبَيَانِ مِنَ الْمُجْمِلِ.

وَيَلِي ذَلِكَ الْمُتَشَابِهُ، وَهُوَ أَشَدُّ خَفَاءً وَحُكْمُهُ التَّوَقُّفُ وَالتَّسْلِيمُ وَالتَّفْوِيضُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.هَذَا حَسَبَ تَفْصِيلِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ.

وَيُنْظَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ثَانِيًا: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

أَثَرُ الْخَفَاءِ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى:

8- يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى عَدَمُ وُقُوعِ التَّنَاقُضِ فِيهَا، لِذَلِكَ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى الَّتِي يَقَعُ فِيهَا التَّنَاقُضُ، إِلاَّ أَنَّ التَّنَاقُضَ يُغْتَفَرُ فِيمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ، فَفِي الْمَادَّةِ (1655) مِنْ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: يُعْفَى التَّنَاقُضُ إِذَا ظَهَرَتْ مَعْذِرَةُ الْمُدَّعِي وَكَانَ مَحَلَّ خَفَاءٍ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ زَيْدٌ عَنْ وَرَثَةٍ بَالِغِينَ وَخَلَّفَ حِصَّةً مِنْ دَارٍ وَصَدَّقَ الْوَرَثَةُ أَنَّ بَقِيَّةَ الدَّارِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، ثُمَّ ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مُوَرِّثَهُمْ الْمَذْكُورَ اشْتَرَى بَقِيَّةَ الدَّارِ مِنْ وَرَثَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فِي حَالِ صِغَرِ الْمُصَدِّقِينَ وَأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ فِي مَحَلِّ الْخَفَاءِ فَيَكُونُ عَفْوًا.

وَمِنْ ذَلِكَ دَعْوَى النَّسَبِ، أَوِ الْحُرِّيَّةِ، أَوِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ الْعُلُوقُ مِنَ الْمُدَّعِي، إِذْ هُوَ مِمَّا يَغْلِبُ خَفَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ، فَالتَّنَاقُضُ فِي مِثْلِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَالطَّلَاقُ يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ، وَالْحُرِّيَّةُ يَنْفَرِدُ بِهَا الْمَوْلَى.

وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَدِينُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَوْ بَرْهَنَ عَلَى إِبْرَاءِ الدَّائِنِ لَهُ.

وَالْمُخْتَلِعَةُ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْخُلْعِ لَوْ بَرْهَنَتْ عَلَى طَلَاقِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْخُلْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَهَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ فَإِنَّهُ يُعْفَى فِيهِ عَنِ التَّنَاقُضِ.

هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالدَّيْنِ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ فِي الْأُصُولِ، وَلَا تُقْبَلُ فِي الدَّيْنِ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ لِلْعُذْرِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا تُقْبَلُ لِلْمُنَاقَضَةِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُمْ بَعْدَ الْإِنْكَارِ.أَمَّا إِنْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ لِي بَيِّنَةً، ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةٍ، سُمِعَتْ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يَعْلَمْهَا ثُمَّ عَلِمَهَا.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (دَعْوَى).

خَفَاءُ النَّجَاسَةِ:

9- طَهَارَةُ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ إِزَالَتُهَا بِغَسْلِ الْجُزْءِ الَّذِي أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ، وَهَذَا إِذَا عُلِمَ مَكَانُهُ.

أَمَّا إِذَا خَفِيَ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ وَلَمْ يُعْلَمْ فِي أَيِّ جُزْءٍ هِيَ، فَبِالنِّسْبَةِ لِلثَّوْبِ وَالْبَدَنِ يَجِبُ غَسْلُ الثَّوْبِ كُلِّهِ أَوِ الْبَدَنِ كُلِّهِ.

وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَهُمْ أَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ لِلْمَانِعِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالنَّضْحُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا غَسَلَ مَوْضِعًا مِنَ الثَّوْبِ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبَاقِي، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ، وَهَذَا الْقَوْلُ (وَهُوَ غَسْلُ مَوْضِعٍ مِنَ الثَّوْبِ) حَكَاهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَجْهًا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ يَشُكُّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي نَجَاسَتِهِ وَالْأَصْلُ طَهَارَتُهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ النَّجَاسَةَ فِي هَذَا الثَّوْبِ وَشَكَّ فِي زَوَالِهَا.

وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ: إِذَا خَفِيَتِ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ، نَضَحَهُ كُلَّهُ، وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: يَتَحَرَّى مَكَانَ النَّجَاسَةِ فَيَغْسِلُهُ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي الْمَذْيِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ ثَوْبَكَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ ».فَأَمَرَهُ بِالتَّحَرِّي وَالنَّضْحِ.

10- وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَكَانِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَكَانٍ صَغِيرٍ كَمُصَلَّى صَغِيرٍ وَبَيْتٍ، وَخَفِيَ مَكَانُهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ حَتَّى يَغْسِلَهُ كُلَّهُ، إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ النَّجَاسَةِ مَا بَقِيَ جُزْءٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ وَاسِعًا كَالْفَضَاءِ الْوَاسِعِ وَالصَّحْرَاءِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مُنِعَ مِنَ الصَّلَاةِ أَفْضَى إِلَى أَنْ لَا يَجِدَ مَوْضِعًا يُصَلِّي فِيهِ، وَلَا يَجِبُ الِاجْتِهَادُ بَلْ يُسَنُّ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، قَالُوا: وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ بِلَا اجْتِهَادٍ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَصَابَتْهَا النَّجَاسَةُ وَلَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهَا: قَوْلٌ بِالْغَسْلِ حَكَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ اتِّفَاقًا، وَقَوْلٌ بِالنَّضْحِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَكَانِ الضَّيِّقِ وَالْأَرْضِ الْوَاسِعَةِ.

وَلَمْ نَطَّلِعْ لِلْحَنَفِيَّةِ عَلَى حُكْمٍ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَرْضَ تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدِهِ عَنِ « ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكُنْتُ فَتًى شَابًّا عَزَبًا وَكَانَتِ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ».

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَلَوْلَا اعْتِبَارُهَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ كَانَ ذَلِكَ تَبْقِيَةً لَهَا بِوَصْفِ النَّجَاسَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ إِذْ لَا بُدَّ مِنْهُ مَعَ صِغَرِ الْمَسْجِدِ وَعَدَمِ مَنْ يَتَخَلَّفُ لِلصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ، وَكَوْنِ ذَلِكَ يَكُونُ فِي بِقَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ،

لَا فِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ، حَيْثُ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ.

وَلَوْ أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ أَحَدَ الْكُمَّيْنِ فِي الثَّوْبِ وَلَمْ يُعْلَمْ فِي أَيِّ كُمٍّ هِيَ وَجَبَ غَسْلُهُمَا جَمِيعًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَتَحَرَّى مِنَ الْكُمَّيْنِ أَحَدُهُمَا فَيَغْسِلُهُ، كَالثَّوْبَيْنِ إِذَا تَنَجَّسَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْلَمْهُ، لَكِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا اتَّسَعَ الْوَقْتُ لِغَسْلِ الْكُمَّيْنِ وَوُجِدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَغْسِلُهُمَا مَعًا، فَإِنْ لَمْ يَسَعِ الْوَقْتُ إِلاَّ غَسْلَ وَاحِدٍ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مِنَ الْمَاءِ إِلاَّ مَا يَغْسِلُ وَاحِدًا، تَحَرَّى وَاحِدًا يَغْسِلُهُ فَقَطِ اتِّفَاقًا، ثُمَّ يَغْسِلُ الثَّانِيَ بَعْدَ الصَّلَاةِ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ، أَوْ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَسَعِ الْوَقْتُ غَسْلَ وَاحِدٍ أَوْ لَمْ يَسَعِ التَّحَرِّيَ صَلَّى بِدُونِ غَسْلٍ، لِأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْوَقْتِ أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ مِنَ الْخَبَثِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَتَحَرَّى لِأَنَّهُمَا عَيْنَانِ مُتَمَيِّزَتَانِ فَهُمَا كَالثَّوْبَيْنِ.قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ.

وَمَا مَضَى مِنَ الْحُكْمِ فِي خَفَاءِ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ، أَوِ الْمَكَانِ، هُوَ مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ النَّجَاسَةِ وَخَفَاءِ مَوْضِعِهَا مِنَ الثَّوْبِ، أَوِ الْبَدَنِ، أَوِ الْمَكَانِ، فَإِنْ شَكَّ فِي وُجُودِ النَّجَاسَةِ مَعَ تَيَقُّنِ سَبْقِ الطَّهَارَةِ جَازَتِ الصَّلَاةُ دُونَ غَسْلٍ، لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَرْفَعُ الْيَقِينَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الشَّكِّ فِي نَجَاسَةِ الْبَدَنِ وَنَجَاسَةِ غَيْرِهِ مِنْ ثَوْبٍ، أَوْ حَصِيرٍ مَثَلًا، فَيُوجِبُونَ غَسْلَ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِذَلِكَ وَيُوجِبُونَ نَضْحَ الثَّوْبِ وَالْحَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْسُدُ بِذَلِكَ، وَإِنْ غَسَلَ فَقَدْ فَعَلَ الْأَحْوَطَ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

خَفَاءُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ:

11- مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمَعْرُوفَةِ خِيَارُ الْعَيْبِ، أَوْ خِيَارُ النَّقِيصَةِ كَمَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ خِيَارٌ يُثْبِتُ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الرَّدِّ عِنْدَ ظُهُورِ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ فِي الْمَبِيعِ إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الَّتِي حَدَّدَهَا الْفُقَهَاءُ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً.

وَمِنَ الْعُيُوبِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ كَالْعَمَى وَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَفِيٌّ كَوَجَعِ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ، وَالْعُيُوبُ الْخَفِيَّةُ كَالظَّاهِرَةِ فِي إِثْبَاتِ حَقِّ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، كَجَهْلِ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ وَثُبُوتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي.إِلَخْ.مَعَ مُرَاعَاةِ تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ.

وَمِمَّا يُعْتَبَرُ مِنَ الْعُيُوبِ الْخَفِيَّةِ الْعَيْبُ الَّذِي يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَأْكُولِ كَالْبِطِّيخِ، وَالْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ وَلَا يُعْرَفُ إِلاَّ بِكَسْرِهِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَوْ عَلَفًا لِلدَّوَابِّ، فَلَهُ أَرْشُ الْعَيْبِ، إِلاَّ إِذَا رَضِيَ الْبَائِعُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَصْلًا رَجَعَ بِكُلِّ الثَّمَنِ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِذَا كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَبَيْضِ النَّعَامِ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُرَدُّ الْبَيْعُ بِظُهُورِ عَيْبٍ بَاطِنٍ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِتَغَيُّرٍ فِي ذَاتِهِ حَيَوَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، كَغِشِّ بَطْنِ الْحَيَوَانِ، وَسُوسِ الْخَشَبِ، وَفَسَادِ بَطْنِ الْجَوْزِ، وَالْبُنْدُقِ، وَالتِّينِ، وَمَرَارَةِ الْخِيَارِ، وَبَيَاضِ الْبِطِّيخِ، وَلَا قِيمَةَ لِمَا اشْتَرَاهُ، وَيُرَدُّ الْبَيْضُ لِظُهُورِ عَيْبِهِ لِأَنَّهُ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ بِدُونِ كَسْرِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَبْلَ كَسْرِهِ، فَإِنْ كَسَرَهُ الْمُشْتَرِي رَدَّهُ مَكْسُورًا وَرَجَعَ بِجَمِيعِ ثَمَنِهِ، وَهَذَا إِذَا كَسَرَهُ بِحَضْرَةِ بَائِعِهِ، فَإِنْ كَسَرَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ فَلَا يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَفَسَدَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَمْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِيمَا لَا يُرَدُّ كَعَيْبِ وُجُودِ السُّوسِ فِي الْخَشَبِ وَفَسَادِ بَطْنِ الْجَوْزِ: لَا يُرَدُّ إِنْ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَيُرَدُّ إِنْ كَانَ طَارِئًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَا لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَبَيْضِ النَّعَامِ يُرَدُّ وَلَا أَرْشَ فِي الْأَظْهَرِ، وَالثَّانِي يُرَدُّ وَلَكِنْ يُرَدُّ مَعَهُ الْأَرْشُ، وَالثَّالِثُ لَا يُرَدُّ أَصْلًا كَمَا فِي سَائِرِ الْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْعَيْبِ أَوْ يَغْرَمُ أَرْشَ الْحَادِثَةِ، أَمَّا مَا لَا قِيمَةَ لَهُ فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ فَسَادُ الْبَيْعِ لِوُرُودِهِ عَلَى غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَسَرَ الْمُشْتَرِي مَا لَيْسَ لِمَكْسُورِهِ قِيمَةٌ، كَبَيْضِ الدَّجَاجِ، رَجَعَ بِثَمَنِهِ لِتَبَيُّنِ فَسَادِ الْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ، وَإِنْ وَجَدَ الْبَعْضُ فَاسِدًا رَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ لِمَكْسُورِهِ قِيمَةٌ، كَبَيْضِ النَّعَامِ وَجَوْزِ الْهِنْدِ، خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَأَخْذِ أَرْشِ نَقْصِهِ، وَبَيْنَ رَدِّهِ مَعَ أَرْشِ كَسْرِهِ وَأَخْذِ ثَمَنِهِ. ظُهُورُ دَيْنٍ خَفِيٍّ عَلَى التَّرِكَةِ:

12- إِذَا اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ التَّرِكَةَ ثُمَّ ظَهَرَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ قَضَى الْوَرَثَةُ الدَّيْنَ مَضَتِ الْقِسْمَةُ وَلَا تُنْقَضُ، وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنَ الْأَدَاءِ يُطْلَبُ نَقْضُ الْقِسْمَةِ.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (قِسْمَةٌ، وَدَيْنٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


29-موسوعة الفقه الكويتية (خنزير)

خِنْزِيرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخِنْزِيرُ حَيَوَانٌ خَبِيثٌ.قَالَ الدَّمِيرِيُّ.الْخِنْزِيرُ يَشْتَرِكُ بَيْنَ الْبَهِيمِيَّةِ وَالسَّبُعِيَّةِ، فَالَّذِي فِيهِ مِنَ السَّبُعِ النَّابُ وَأَكْلُ الْجِيَفِ، وَالَّذِي فِيهِ مِنَ الْبَهِيمِيَّةِ الظِّلْفُ وَأَكْلُ الْعُشْبِ وَالْعَلَفِ.

أَحْكَامُ الْخِنْزِيرِ:

2- تَدُورُ أَحْكَامُ الْخِنْزِيرِ عَلَى اعْتِبَارَاتٍ:

الْأَوَّلُ: تَحْرِيمُ لَحْمِهِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ.

الثَّانِي: اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ عَيْنِهِ.

وَالثَّالِثُ: اعْتِبَارُ مَالِيَّتِهِ.وَتَرَتَّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ أَوْ عَلَى جَمِيعِهَا جُمْلَةٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

3- أَمَّا الِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى حُرْمَةِ أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى تَقْدِيمِ أَكْلِ الْكَلْبِ عَلَى الْخِنْزِيرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ أَكْلِ الْكَلْبِ.

كَمَا يُقَدَّمُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَكُلْيَتُهُ وَكَبِدُهُ عَلَى لَحْمِهِ، لِأَنَّ اللَّحْمَ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ.وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ مَيْتَةِ غَيْرِ الْخِنْزِيرِ عَلَى الْخِنْزِيرِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ حَرَامٌ لِذَاتِهِ، وَحُرْمَةَ الْمَيْتَةِ عَارِضَةٌ.

4- وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ الثَّانِي: وَهُوَ اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ عَيْنِهِ:

فَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ كَعَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَمَنِيِّهِ وَذَلِكَ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.وَالضَّمِيرُ فِي قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} رَاجِعٌ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ إِذَا صَلَحَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمُضَافِ وَهُوَ «اللَّحْمُ» وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ «الْخِنْزِيرُ» جَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِمَا.

وَعَوْدُهُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَوْلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ مَقَامُ تَحْرِيمٍ، لِأَنَّهُ لَوْ عَادَ إِلَى الْمُضَافِ وَهُوَ اللَّحْمُ لَمْ يَحْرُمْ غَيْرُهُ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ حَرُمَ اللَّحْمُ وَجَمِيعُ أَجْزَاءُ الْخِنْزِيرِ.

فَغَيْرُ اللَّحْمِ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْرُمَ وَأَنْ لَا يَحْرُمَ فَيَحْرُمُ احْتِيَاطًا وَذَلِكَ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ طَالَمَا أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَيُقَوِّي إِرْجَاعَ الضَّمِيرِ إِلَى «الْخِنْزِيرِ» أَنَّ تَحْرِيمَ لَحْمِهِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلتَّذْكِيَةِ فَيَنْجَسُ لَحْمُهُ بِالْمَوْتِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ حَالَ الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَيٍّ الطَّهَارَةُ، وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ، فَطَهَارَةُ عَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ عَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَدَمْعِهِ وَمُخَاطِهِ.

وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ: أَوَّلًا: دِبَاغُ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ جِلْدُ الْخِنْزِيرِ بِالدِّبَاغِ وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَالدِّبَاغُ كَالْحَيَاةِ، فَكَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْهُ، فَكَذَا الدِّبَاغُ.وَوَجَّهَ الْمَالِكِيَّةُ قَوْلَهُمْ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ بِالدِّبَاغِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلتَّذْكِيَةِ إِجْمَاعًا فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ فَكَانَ مَيْتَةً فَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ.

وَيَتَّفِقُ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ مِنْ أَيِّ حَيَوَانٍ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَلَكِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الِانْتِفَاعَ بِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ فِي غَيْرِ الْمَائِعَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْمَائِعَاتِ كَذَلِكَ مَعَ الْيَابِسَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ فَلَا تَتَنَاوَلُهُ الرُّخْصَةُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ.

وَيُقَابِلُ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا شَهَرَهُ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ الْفَرَسِ مِنْ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ كَجِلْدِ غَيْرِهِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ إِذَا دُبِغَ سَوَاءٌ ذُكِّيَ أَمْ لَا.

ثَانِيًا: سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ:

6- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْخِنْزِيرِ لِكَوْنِهِ نَجِسَ الْعَيْنِ، وَكَذَا لُعَابُهُ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ.

وَيَكُونُ تَطْهِيرُ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ بِأَنْ يُغْسَلَ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» وَفِي أُخْرَى: «طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».

قَالُوا: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْكَلْبِ فَالْخِنْزِيرُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ وَتَحْرِيمُهُ أَشَدُّ، لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يُقْتَنَى بِحَالٍ، وَلِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى قَتْلِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَلِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فَثَبَتَ وُجُوبُ غَسْلِ مَا وَلَغَ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ تَطْهِيرُ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ خِنْزِيرٌ بِأَنْ يُغْسَلَ ثَلَاثًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْخِنْزِيرِ وَذَلِكَ لِطَهَارَةِ لُعَابِهِ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ غَسْلُ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ تَعَبُّدًا فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخِنْزِيرُ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ: يُنْدَبُ الْغَسْلُ.

ثَالِثًا: حُكْمُ شَعْرِهِ:

7- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى نَجَاسَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَيْنِ النَّجِسَةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ خُرِزَ خُفٌّ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ لَمْ يَطْهُرْ مَحَلُّ الْخَرْزِ بِالْغَسْلِ أَوْ بِالتُّرَابِ لَكِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَيُصَلَّى فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ غَسْلُ مَا خُرِزَ بِهِ رَطْبًا وَيُبَاحُ اسْتِعْمَالُ مُنْخُلٍ مِنَ الشَّعْرِ النَّجِسِ فِي يَابِسٍ لِعَدَمِ تَعَدِّي نَجَاسَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الرَّطْبِ لِانْتِقَالِ النَّجَاسَةِ بِالرُّطُوبَةِ.

وَأَبَاحَ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِعْمَالَ شَعْرِهِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ فَإِذَا قُصَّ بِمِقَصٍّ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ وَقَعَ الْقَصُّ بَعْدَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ الشَّعْرَ مِمَّا لَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ، وَمَا لَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ لِلشَّكِّ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ.أَمَّا إِذَا نُتِفَ فَلَا يَكُونُ طَاهِرًا.

رَابِعًا: حُكْمُ التَّدَاوِي بِأَجْزَائِهِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ وَالْمُحَرَّمِ (فِي الْجُمْلَةِ) وَهُوَ شَامِلٌ لِلْخِنْزِيرِ.

وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ «تَدَاوِي».

خَامِسًا: تَحَوُّلُ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِاسْتِحَالَتِهِ إِلَى عَيْنٍ أُخْرَى، فَإِذَا اسْتَحَالَتْ عَيْنُ الْخِنْزِيرِ إِلَى مِلْحٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ لَا يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْخَمْرَ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَحَوُّلٌ ف 3- 5).

الِاعْتِبَارُ الثَّالِثُ: اعْتِبَارُ مَالِيَّةِ الْخِنْزِيرِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْخِنْزِيرِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فِي غَيْرِ الضَّرُورَاتِ، وَالْخِنْزِيرُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ وَلِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْ بَيْعِهِ كَمَا يَأْتِي.

وَيَظْهَرُ أَثَرُ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْخِنْزِيرِ مَالًا فِي الْآتِي:

أَوَّلًا: عَدَمُ صِحَّةِ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ:

أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ وَشِرَائِهِ، وَلِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ- سَوَاءٌ أَكَانَ ثَمَنًا أَمْ مُثَمَّنًا- أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَأَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ شَرْعًا.

وَالْأَصْلُ فِي حِلِّ مَا يُبَاعُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ لِأَنَّ بَيْعَ غَيْرِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ شَرْعًا لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الرِّضَا، فَيَكُونُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.

وَالْخِنْزِيرُ إِنْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ إِلاَّ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا، وَالْمَعْدُومُ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ إِذَا بِيعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَفَاسِدٌ إِذَا بِيعَ بِعَيْنٍ، عَلَى قَوْلِهِمْ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِهِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَبَيْنَ بَيْعِهِ بِعَيْنٍ، أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَةِ الْخِنْزِيرِ وَتَرْكِ إِعْزَازِهِ وَفِي شِرَائِهِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ إِعْزَازٌ لَهُ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فِي الْعَقْدِ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِلتَّمَلُّكِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخِنْزِيرُ، وَلِذَا كَانَ بَيْعُهُ بِهِمَا بَاطِلًا وَيَسْقُطُ التَّقَوُّمُ.

أَمَّا إِذَا بِيعَ بِعَيْنٍ كَالثِّيَابِ، فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَالْخِنْزِيرُ يُعْتَبَرُ مَالًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُعْتَبَرُ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَمَبِيعًا.وَرُجِّحَ اعْتِبَارُ الثَّوْبِ مَبِيعًا تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعُقَلَاءِ الَّذِي يَقْضِي بِأَنْ يَكُونَ الْإِعْزَازُ لِلثَّوْبِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ لَا الْخِنْزِيرُ.فَتَكُونُ تَسْمِيَةُ الْخِنْزِيرِ فِي الْعَقْدِ مُعْتَبَرَةً فِي تَمَلُّكِ الثَّوْبِ لَا فِي نَفْسِ الْخِنْزِيرِ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ لِفَسَادِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَتَجِبُ قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْخِنْزِيرِ.

إِقْرَارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخِنْزِيرِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُقَرُّونَ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ خَنَازِيرَ إِلاَّ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِهَا، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إِطْعَامِهَا مُسْلِمًا، فَإِذَا أَظْهَرُوهَا أُتْلِفَتْ وَلَا ضَمَانَ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ تَمْكِينِهِمْ مِنْ إِظْهَارِهَا بِأَنْ يَكُونُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا انْفَرَدُوا بِمَحَلَّةٍ مِنَ الْبَلَدِ، أَمَّا إِذَا انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ بِأَنْ لَمْ يُخَالِطْهُمْ مُسْلِمٌ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِجْبَارِ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى تَرْكِ أَكْلِ الْخِنْزِيرِ، لِأَنَّهُ مُنَفِّرٌ مِنْ كَمَالِ التَّمَتُّعِ، وَخَالَفَهُمْ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ عِنْدَهُمْ مَنْعُهَا مِنْهُ.

سَرِقَةُ الْخِنْزِيرِ أَوْ إِتْلَافُهُ:

12- (أ) اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ سَرَقَ أَوْ أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الْمُسْلِمِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ، وَلَا مُتَقَوِّمٍ، لِعَدَمِ جَوَازِ تَمَلُّكِهِ وَبَيْعِهِ وَاقْتِنَائِهِ.

(ب) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ إِذَا سَرَقَهُ.

وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» وَهُمْ يَدِينُونَ بِمَالِيَّةِ الْخِنْزِيرِ وَهُوَ مِنْ أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا.وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قَبِلُوهَا» يَعْنِي الْجِزْيَةَ «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِلْمُسْلِمِينَ التَّضْمِينُ بِإِتْلَافِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مَالًا فَكَذَا يَكُونُ الذِّمِّيُّ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالًا فِي حَقِّهِ أَصْلًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا غَصَبَ مُسْلِمٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ خِنْزِيرًا رُدَّ إِلَيْهِمْ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» فَإِذَا أَتْلَفَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ فَلَيْسَ لَهُ عِوَضٌ شَرْعِيٌّ، سَوَاءٌ أَظْهَرُوهُ أَوْ لَمْ يُظْهِرُوهُ.إِلاَّ أَنَّهُ يَأْثَمُ إِذَا أَتْلَفَهُ فِي حَالِ عَدَمِ إِظْهَارِهِمْ لَهُ.

13- الْخِنْزِيرُ الْبَحْرِيُّ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْهُ فَقَالَ أَنْتُمْ تُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا يَعْنِي أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُسَمِّيهِ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ فِي الْبَحْرِ خِنْزِيرًا وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ الدُّلْفِينُ.قَالَ الرَّبِيعُ سُئِلَ الشَّافِعِيُّ- رضي الله عنه- عَنْ خِنْزِيرِ الْمَاءِ فَقَالَ: يُؤْكَلُ وَرَوَى أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْعِرَاقَ قَالَ فِيهِ حَرَّمَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحَلَّهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَرَوَى هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهما- وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ، وَامْتَنَعَ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ فِيهِ شَيْئًا وَأَبْقَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى جِهَةِ الْوَرَعِ وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ ابْنِ خَيْرَانَ أَنَّ أَكَّارًا صَادَ لَهُ خِنْزِيرَ مَاءٍ وَحَمَلَهُ إِلَيْهِ فَأَكَلَهُ، وَقَالَ كَانَ طَعْمُهُ مُوَافِقًا لِطَعْمِ الْحُوتِ سَوَاءً، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ سَأَلْتُ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ عَنْهُ فَقَالَ إِنْ سَمَّاهُ النَّاسُ خِنْزِيرًا لَمْ يُؤْكَلْ لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


30-موسوعة الفقه الكويتية (روث)

رَوْث

التَّعْرِيفُ:

1- الرَّوْثُ لُغَةً: رَجِيعُ (فَضْلَةُ) ذِي الْحَافِرِ، وَاحِدُهُ رَوْثَةٌ وَالْجَمْعُ أَرْوَاثٌ.

وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِأَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ فَيُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى رَجِيعِ ذِي الْحَافِرِ وَغَيْرِهِ كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْخِثْيُ، وَالْخِثْيُ لِلْبَقَرِ، وَالْبَعْرُ لِلْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَالذَّرْقُ لِلطُّيُورِ.وَالْعَذِرَةُ لِلْآدَمِيِّ وَالْخُرْءُ لِلطَّيْرِ وَالْكَلْبِ وَالْجُرَذِ وَالْإِنْسَانِ.

وَالسِّرْجِينُ أَوِ السِّرْقِينُ هُوَ رَجِيعُ مَا سِوَى الْإِنْسَانِ.

حُكْمُ الرَّوْثِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:

2- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ أَنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ.

وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ.وَقَالَ: صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ».وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي مَوْضِعٍ فِيهِ أَبْعَارُ الْغَنَمِ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ تَقَدَّمْتَ إِلَى هَاهُنَا.قَالَ: هَذَا وَذَاكَ وَاحِدٌ.

وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ مَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْطِئَةِ وَالْمُصَلَّيَاتِ وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَرَابِضُ الْغَنَمِ لَا تَخْلُو مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا؛ وَلِأَنَّهُ مُتَحَلِّلٌ مُعْتَادٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَكَانَ طَاهِرًا.

أَمَّا رَوْثُ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَنَجِسٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِنَجَاسَةِ رَوْثِ مَكْرُوهِ الْأَكْلِ كَمُحَرَّمِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلِ النَّجَاسَةَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْمَذْهَبِ- بِنَجَاسَةِ الرَّوْثِ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِهَا.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ نَجَاسَةِ الْأَرْوَاثِ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ نَجَاسَةً خَفِيفَةً.

وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْغَلِيظَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا وَرَدَ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مُعَارِضٌ لَهُ يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ.وَالْخَفِيفَةُ مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْغَلِيظَةُ مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى نَجَاسَتِهِ.وَالْخَفِيفَةُ مَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَجَاسَتِهِ وَطَهَارَتِهِ.

3- بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَالْأَرْوَاثُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ وَرَدَ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- طَلَبَ مِنْهُ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَى بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ» أَيْ: نَجِسٌ.وَلَيْسَ لَهُ نَصٌّ مُعَارِضٌ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِطَهَارَتِهَا بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالِاجْتِهَادُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً.

وَعَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ نَجَاسَةُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ خَفِيفَةٌ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا.

كَمَا أَنَّ فِي الْأَرْوَاثِ ضَرُورَةً، وَعُمُومُ الْبَلِيَّةِ لِكَثْرَتِهَا فِي الطَّرَقَاتِ فَتَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ عَنْهَا، وَمَا عَمَّتْ بَلِيَّتُهُ خَفَّتْ قَضِيَّتُهُ.

وَيَتَفَرَّعُ عَنِ اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنَ الرَّوْثِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ دِرْهَمٍ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: يُجْزِئُهُ حَتَّى يَفْحُشَ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمَا بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ.

وَفِي كُلِّ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْفَاحِشُ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِالرُّبُعِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ.وَفِي رِوَايَةٍ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ.

وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّوْثِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا.وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا آخِرُ أَقَاوِيلِهِ حِينَ كَانَ بِالرَّيِّ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ بِهَا، فَرَأَى الطُّرُقَ وَالْخَانَاتِ مَمْلُوءَةً مِنَ الْأَرْوَاثِ وَلِلنَّاسِ فِيهَا بَلْوًى عَظِيمَةٌ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا فِي الطُّرُقِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تَطْرُقُهَا الدَّوَابُّ كَثِيرًا؛ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا أَصَابَ غَيْرَ الْخُفِّ وَالنَّعْلِ كَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ فَلَا عَفْوَ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَنَجَاسَةُ الرَّوْثِ عِنْدَهُمْ لَا يُعْفَى عَنْهَا إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ فَيُعْفَى عَنْهَا فِي قَوْلٍ.

وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ فَضَلَاتِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ.

وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ.وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: السِّرْقِينُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ لَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ وُقُودُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا اسْتَعْمَلُوهُ، كَمَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوا الْعَذِرَةَ.

وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَجَاسَة).

الِاسْتِنْجَاءُ بِالرَّوْثِ:

4- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ.

وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْفَرِيقُ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِمَا يَأْتِي:

1- حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَقَالَ: أَبْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا أَوْ نَحْوَهُ وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثٍ».

2- حَدِيثُ سَلْمَانَ- رضي الله عنه- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الرَّوْثِ وَالْعِظَامِ».

وَلِأَنَّ الرَّوْثَ نَجِسٌ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَتِهِ وَالنَّجِسُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ وَيَجُوزُ بِالطَّاهِرِ مِنْهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ الرَّوْثَ طَعَامُ دَوَابِّ الْجِنِّ يَرْجِعُ عَلَفًا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ كَرَاهَةَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ، وَقَدْ حَصَلَتْ بِالرَّوْثِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْأَحْجَارِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَرِهَهُ بِالرَّوْثِ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِعْمَالِ النَّجِسِ وَإِفْسَادِ عَلَفِ دَوَابِّ الْجِنِّ.

5- ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الِاعْتِدَادِ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ مَنْ خَالَفَ وَاسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ يَعْتَدُّ بِهِ إِنْ حَصَلَ بِهِ الْإِنْقَاءُ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ (اسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ) يَعْتَدُّ بِهِ عِنْدَنَا، فَيَكُونُ مُقِيمًا سُنَّةً (سُنَّةَ الِاسْتِنْجَاءِ) وَمُرْتَكِبًا كَرَاهَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فَيَكُونُ بِجِهَةٍ كَذَا وَبِجِهَةٍ كَذَا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ وَاسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ لَمْ يَصِحَّ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- «فِي سُؤَالِ الْجِنِّ الزَّادَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ، أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا، فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ».

وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَعَدَمَ الْإِجْزَاءِ.

6- أَمَّا مَنِ اسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ ثُمَّ اسْتَنْجَى بَعْدَهُ بِمُبَاحٍ كَحَجَرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ يَرَى عَدَمَ الصِّحَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ عَلَى الِاتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ:

1- عَدَمُ الْإِجْزَاءِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الِاتِّجَاهِ يَتَعَيَّنُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ بَعْدَهُ.

2- الْإِجْزَاءُ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

3- الْإِجْزَاءُ إِنْ أَزَالَ شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلٌ ذَكَرَهُ ابْنُ حَمْدَانَ الْحَنْبَلِيُّ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَاخْتَارَهُ.

وَأَجَازَ ابْنُ جَرِيرٍ الِاسْتِنْجَاءَ بِكُلِّ طَاهِرٍ وَنَجِسٍ مِنَ الْجَمَادَاتِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: اسْتِجْمَار، اسْتِنْجَاء).

بَيْعُ الرَّوْثِ:

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الرَّوْثِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي بَحْثِ (زِبْل).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


31-موسوعة الفقه الكويتية (ريش)

رِيش

التَّعْرِيفُ:

1- الرِّيشُ لُغَةً: كِسْوَةُ الطَّائِرِ، وَالْوَاحِدَةُ رِيشَةٌ، وَهُوَ يُقَابِلُ الشَّعْرَ فِي الْإِنْسَانِ وَنَحْوِهِ، وَالصُّوفَ لِلْغَنَمِ، وَالْوَبَرَ لِلْإِبِلِ، وَالْحَرَاشِفَ لِلزَّوَاحِفِ، وَالْقُشُورَ لِلْأَسْمَاكِ، وَالرِّيشُ أَيْضًا اللِّبَاسُ الْفَاخِرُ، وَالْأَثَاثُ، وَالْمَالُ، وَالْخِصْبُ، وَالْحَالَةُ الْجَمِيلَةُ.وَجَمْعُهُ أَرْيَاشٌ وَرِيَاشٌ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلْكَلِمَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الشَّعْرُ وَالْوَبَرُ وَالصُّوفُ:

2- الشَّعْرُ: مَا يَنْبُتُ عَلَى الْجِسْمِ مِمَّا لَيْسَ بِصُوفٍ وَلَا وَبَرٍ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ.

وَالشَّعْرُ يُقَابِلُهُ الرِّيشُ فِي الطُّيُورِ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرِّيشِ:

أ- طَهَارَةُ الرِّيشِ:

3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّيشَ يُوَافِقُ الشَّعْرَ فِي أَحْكَامِهِ، وَمَقِيسٌ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى طَهَارَةِ رِيشِ الطَّيْرِ الْمَأْكُولِ حَالَ حَيَاتِهِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِالطَّيْرِ، أَمَّا إِذَا نُتِفَ أَوْ تَسَاقَطَ فَيَرَى الْجُمْهُورُ- أَيْضًا- طَهَارَتَهُ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الطَّاهِرَ مِنْهُ هُوَ الزَّغَبُ، وَهُوَ مَا يُحِيطُ بِقَصَبِ الرِّيشِ، أَمَّا الْقَصَبُ فَنَجِسٌ، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الرِّيشَ الْمُتَسَاقِطَ وَالْمَنْتُوفَ نَجِسٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ» وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَالرِّيشُ مَقِيسٌ عَلَيْهَا، وَلَوْ قُصِرَ الِانْتِفَاعُ عَلَى مَا يَكُونُ عَلَى الْمُذَكَّى لَضَاعَ مُعْظَمُ الشُّعُورِ وَالْأَصْوَافِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا.أَحَدُ مَوْضِعَيْنِ خُصِّصَتِ السُّنَّةُ فِيهِمَا بِالْكِتَابِ، فَإِنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ».خُصَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا}.الْآيَةَ.

وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ- فِي الْجُمْلَةِ- طَهَارَةُ رِيشِ الطَّيْرِ الْمَأْكُولِ إِذَا مَاتَ.

وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ: قَالَ صَاحِبُ الِاخْتِيَارِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: شَعْرُ الْمَيْتَةِ وَعَظْمُهَا طَاهِرٌ، لِأَنَّ الْحَيَاةَ لَا يُحِلُّهُمَا، حَتَّى لَا يَتَأَلَّمَ الْحَيَوَانُ بِقَطْعِهِمَا، فَلَا يُحِلُّهُمَا الْمَوْتُ، وَهُوَ الْمُنَجِّسُ، وَكَذَلِكَ الْعَصَبُ وَالْحَافِرُ وَالْخُفُّ وَالظِّلْفُ وَالْقَرْنُ وَالصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالرِّيشُ وَالسِّنُّ وَالْمِنْقَارُ وَالْمِخْلَبُ لِمَا ذَكَرْنَا، لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} امْتَنَّ بِهَا عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْحَيِّ أَوِ الْمَيِّتِ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: - رضي الله عنها- إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ «لَحْمُهَا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا اللَّحْمَ لَا يَحْرُمُ، فَدَخَلَتِ الْأَجْزَاءُ الْمَذْكُورَةُ، وَفِيهَا أَحَادِيثُ أُخَرُ صَرِيحَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِيهَا قَبْلَ الْمَوْتِ الطَّهَارَةُ فَكَذَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحِلُّهَا.

وَقَيَّدَهَا فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: بِأَنْ تَكُونَ خَالِيَةً مِنَ الدُّسُومَةِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِرِيشِ الْمَيْتَةِ كَمَذْهَبِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّيشِ الْمَنْتُوفِ وَالْمُنْفَصِلِ، وَهُوَ أَنَّ الزَّغَبَ طَاهِرٌ دُونَ الْقَصَبِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِجَزِّ الزَّغَبِ وَلَوْ بَعْدَ نَتْفِ الرِّيشِ، وَيُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ بَعْدَ جَزِّهِ.

وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ يُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي طَهَارَةِ رِيشِ الْمَيْتَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ مِنْ ذَلِكَ أُصُولَ الرِّيشِ إِذَا نُتِفَ سَوَاءٌ أَكَانَ رَطْبًا أَمْ يَابِسًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ، أَشْبَهَ سَائِرَهَا؛ وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّعْرِ وَالرِّيشِ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ، لَمْ يَسْتَكْمِلْ شَعْرًا وَلَا رِيشًا.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ أَصْلَ الرِّيشِ إِذَا كَانَ رَطْبًا، وَنُتِفَ مِنَ الْمَيْتَةِ، فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ رَطْبٌ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ، وَهَلْ يَكُونُ طَاهِرًا بَعْدَ غَسْلِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ كَرُءُوسِ الشَّعْرِ إِذَا تَنَجَّسَ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ لَمْ يَسْتَكْمِلْ شَعْرًا وَلَا رِيشًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا سَبَقَ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ- فِي الصَّحِيحِ- أَنَّ رِيشَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَنَجُسَ بِالْمَوْتِ كَالْأَعْضَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَهَذَا عَامٌّ يَشْمَلُ الشَّعْرَ وَالرِّيشَ وَغَيْرَهُمَا.

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الرِّيشَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَلَكِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَلَا بَأْسَ بِصُوفِهَا وَشَعْرِهَا وَقُرُونِهَا إِذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ».

أَمَّا الطَّيْرُ غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي رِيشِهِ كَمَذْهَبِهِمْ فِي رِيشِ الطَّيْرِ الْمَأْكُولِ أَنَّهُ طَاهِرٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ رِيشِ الطَّيْرِ الْمَيِّتِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ لَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ.

قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَكُلُّ حَيَوَانٍ فَشَعْرُهُ- أَيْ وَرِيشُهُ- مِثْلُ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ، مَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ وَرِيشُهُ طَاهِرٌ، وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ- رِيشُهُ- كَذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَحَالَةِ الْمَوْتِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهَا لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ مِنْهَا، كَالسِّنَّوْرِ وَمَا دُونَهُ فِي الْخِلْقَةِ، فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَجِسَةٌ، لِأَنَّهَا كَانَتْ طَاهِرَةً مَعَ وُجُودِ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ لِمُعَارِضٍ، وَهُوَ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَفْوِ عَنْهَا لِلْمَشَقَّةِ، وَقَدِ انْتَفَتِ الْحَاجَةُ، فَتَنْتَفِي الطَّهَارَةُ.

وَالثَّانِي: هِيَ طَاهِرَةٌ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الْحَيَاةِ، وَالْمَوْتُ لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَهَا، فَتَبْقَى الطَّهَارَةُ.

حُكْمُ الرِّيشِ عَلَى عُضْوٍ مُبَانٍ مِنْ حَيٍّ:

4- قَالَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ جَنَاحُ طَائِرٍ مَأْكُولٍ فِي حَيَاتِهِ فَمَا عَلَيْهِ مِنَ الرِّيشِ نَجِسٌ تَبَعًا لِمَيْتَتِهِ.وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي: (شَعْر)

.حُكْمُ الرِّيشِ عَلَى الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ:

5- إِذَا دُبِغَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ (أَوْ رِيش) قَالَ فِي الْأُمِّ: لَا يَطْهُرُ لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَطْهِيرِهِ.وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ شَعْرٌ- رِيشٌ- نَابِتٌ عَلَى جِلْدٍ طَاهِرٍ فَكَانَ كَالْجِلْدِ فِي الطَّهَارَةِ، كَشَعْرِ الْحَيَوَانِ حَالَ الْحَيَاةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ: فِي (دِبَاغ)، (شَعْر).

حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى رِيشِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ أَوْ فِي الْحَرَمِ:

6- إِنْ نَتَفَ الْمُحْرِمُ رِيشَ الصَّيْدِ أَوْ شَعْرَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَعَادَ مَا نَتَفَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ زَالَ، أَشْبَهَ مَا لَوِ انْدَمَلَ الْجُرْحُ، فَإِنْ صَارَ الصَّيْدُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ بِنَتْفِ رِيشِهِ وَنَحْوِهِ فَكَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا صَارَ بِهِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ- أَيْ عَلَيْهِ جَزَاءُ جَمِيعِهِ- وَإِنْ نَتَفَهُ فَغَابَ وَلَمْ يَعْلَمْ خَبَرَهُ فَعَلَيْهِ نَقْصُهُ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (حَرَم)، (صَيْد).

الِاسْتِنْجَاءُ بِالرِّيشِ:

7- لَا يَحْرُمُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالرِّيشِ إِذَا كَانَ طَاهِرًا قَالِعًا، وَلَوِ اسْتَنْجَى بِشَيْءٍ مِنْهُ وَشَكَّ هَلْ وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الشُّرُوطُ أَوْ لَا؟ فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْإِجْزَاءُ.وَيُنْظَرُ (اسْتِنْجَاء)، (شَعْر).

السَّلَمُ فِي الرِّيشِ:

8- يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْوَبَرِ وَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالرِّيشِ مَا لَمْ يُعَيَّنْ حَيَوَانُهَا.

انْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي: (سَلَم)، (شَعْر)، (صُوف).

نَتْفُ الرِّيشِ بِالْمَاءِ الْحَارِّ:

9- فِي فَتَاوَى الْأَنْقِرْوِيِّ (نَقْلًا عَنْ فَتَاوَى ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ): سُئِلَ عَنِ الدَّجَاجِ إِذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ حَالَ الْغَلَيَانِ لِيُنْتَفَ رِيشُهُ، قَبْلَ شَقِّ بَطْنِهِ هَلْ يَتَنَجَّسُ؟ فَأَجَابَ: يَتَنَجَّسُ، وَلَكِنْ يُغْسَلُ بِالْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَطْهُرُ.وَجَاءَ فِي شَرْحِ الزَّرْقَانِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: لَيْسَ مِنَ اللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ بِالنَّجَاسَةِ الدَّجَاجُ الْمَذْبُوحُ، يُوضَعُ فِي مَاءٍ حَارٍّ لِإِخْرَاجِ رِيشِهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلِ الْمَذْبَحِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِطَبْخٍ حَتَّى تَدْخُلَ النَّجَاسَةُ فِي أَعْمَاقِهِ، بَلْ يُغْسَلُ وَيُؤْكَلُ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


32-موسوعة الفقه الكويتية (زبل)

زِبْل

التَّعْرِيفُ:

1- الزِّبْلُ لُغَةً: السِّرْقِينُ، وَهُمَا فَضْلَةُ الْحَيَوَانِ الْخَارِجَةُ مِنَ الدُّبُرِ، وَالْمَزْبَلَةُ مَكَانُ طَرْحِ الزِّبْلِ وَمَوْضِعُهُ، وَالْجَمْعُ مَزَابِلُ.وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِنَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَفَسَّرَ الْحَصْكَفِيُّ وَالْبُهُوتِيُّ السِّرْقِينَ بِالزِّبْلِ، وَفِي الشُّرُنْبُلَالِيَّةِ: هُوَ رَجِيعُ (فَضْلَةُ) مَا سِوَى الْإِنْسَانِ.

وَالسِّرْقِينُ أَصْلُهَا: (سِرْكِينُ) بِالْكَافِ فَعُرِّبَتْ إِلَى الْجِيمِ وَالْقَافِ، فَيُقَالُ سِرْجِينٌ وَسِرْقِينٌ، وَالرَّوْثُ وَالسِّرْقِينُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ.وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ السِّرْقِينَ الرَّوْثُ.وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ السِّرْقِينَ هُوَ رَجِيعُ مَا سِوَى الْإِنْسَانِ.وَيَخْتَلِفُ الزِّبْلُ عَنْ كُلٍّ مِنَ الرَّوْثِ، وَالْخِثْيِ، وَالْبَعْرِ، وَالْخُرْءِ، وَالنَّجْوِ، وَالْعَذِرَةِ.

فَالرَّوْثُ لِلْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَالْخِثْيُ لِلْبَقَرِ وَالْفِيلِ، وَالْبَعْرُ لِلْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَالذَّرْقُ لِلطُّيُورِ، وَالنَّجْوُ لِلْكَلْبِ، وَالْعَذِرَةُ لِلْإِنْسَانِ، وَالْخُرْءُ لِلطَّيْرِ وَالْكَلْبِ وَالْجُرَذِ وَالْإِنْسَانِ.

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَكَانَ بَعْضٍ تَوَسُّعًا.

حُكْمُ الزِّبْلِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَهَارَتِهِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَوْث).

الصَّلَاةُ فِي الْمَزْبَلَةِ:

2- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِي الْمَزْبَلَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِهَا نَجَاسَةٌ.

وَجَازَتِ الصَّلَاةُ بِمَزْبَلَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا أُمِنَتْ مِنَ النَّجِسِ- بِأَنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ طَهَارَتَهَا- أَمَّا إِذَا تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهَا أَوْ ظُنَّتْ فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَإِذَا صَلَّى أَعَادَ أَبَدًا، وَإِنْ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الرَّاجِحِ بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ الْأَصْلِ عَلَى الْغَالِبِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُعِيدُ أَبَدًا تَرْجِيحًا لِلْغَالِبِ عَلَى الْأَصْلِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَزْبَلَةِ وَلَوْ طَاهِرَةً.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: صَلَاة).

الصَّلَاةُ بِالثَّوْبِ الْمُصَابِ بِالزِّبْلِ:

3- الزِّبْلُ مِنْهُ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كَذَرْقِ الطُّيُورِ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَفَضْلَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُؤْكَلُ لَحْمُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْءٌ مِنْهَا بَدَنَ الْإِنْسَانِ أَوْ ثَوْبَهُ لَا يُنَجِّسُهُ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَهُمْ.

أَمَّا الزِّبْلُ النَّجِسُ، كَفَضْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، وَكَذَلِكَ فَضْلَةُ الْحَيَوَانَاتِ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهَا فَفِيهِ مَا يَأْتِي مِنَ التَّفْصِيلِ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النَّجَاسَةُ الْغَلِيظَةُ يُعْفَى عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ قَدْرَ الدِّرْهَمِ فَأَقَلَّ، وَالْخَفِيفَةُ يُعْفَى عَنْهَا قَدْرَ رُبُعِ الثَّوْبِ فَأَقَلَّ، وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا (ر: نَجَاسَة).

فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنَ الرَّوْثِ أَوْ مِنْ أَخْثَاءِ الْبَقَرِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «هَذَا رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ» لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ، فَيَكُونُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُجْزِئُهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَفْحُشَ، أَيْ يَصِلَ رُبُعَ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا فَيَثْبُتُ التَّخْفِيفُ فِي نَجَاسَتِهَا.وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً لِعَدَمِ خُلُوِّ الطُّرُقِ فِيهِ.

وَإِنْ أَصَابَهُ خُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالْحِدَأَةِ وَكَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ جَازَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهَا تَذْرِقُ مِنَ الْهَوَاءِ وَالتَّحَامِي عَنْهَا مُتَعَذِّرٌ فَتَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّخْفِيفَ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا لِعَدَمِ الْمُخَالَطَةِ.

اقْتِنَاءُ الزِّبْلِ وَاسْتِعْمَالُهُ.

4- الزِّبْلُ الطَّاهِرُ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الزِّرَاعَةِ وَالتَّسْخِينِ وَإِنْضَاجِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهَا.وَاخْتَلَفُوا فِي الزِّبْلِ النَّجِسِ.فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي تَنْمِيَةِ الزَّرْعِ وَإِنْضَاجِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِمَا.

كَذَلِكَ يَجُوزُ الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الزِّبْلِ وَاقْتِنَاؤُهُ لِلزِّرَاعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ.

وَقَالُوا: الزَّرْعُ النَّابِتُ عَلَى الزِّبْلِ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، لَكِنْ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا غُسِلَ طَهُرَ، وَإِذَا سَنْبَلَ فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ.

وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِنَجِسٍ، لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْهُ أَشْيَاءَ مِنْهَا: جَعْلُ عَذِرَةٍ بِمَاءِ سَقْيِ الزَّرْعِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْخُبْزَ الْمَخْبُوزَ عَلَى نَارِ الرَّوْثِ النَّجِسِ طَاهِرٌ وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّمَادِ.

وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى كَلَامٍ فِي اسْتِعْمَالِ الزِّبْلِ، لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الزِّبْلِ النَّجِسِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ.

بَيْعُ الزِّبْلِ:

5- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ بَيْعِ الزِّبْلِ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ.

وَذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي بَيْعِ الزِّبْلِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ لِلْمَالِكِيَّةِ:

أ- الْمَنْعُ، وَهُوَ قِيَاسُ ابْنِ الْقَاسِمِ لِلزِّبْلِ عَلَى الْعَذِرَةِ فِي الْمَنْعِ عِنْدَ مَالِكٍ.

ب- الْجَوَازُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِابْنِ الْقَاسِمِ.

ج- الْجَوَازُ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ.وَتُزَادُ الْكَرَاهَةُ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ وَفَهْمِ أَبِي الْحَسَنِ.هَذَا وَالْعَمَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الزِّبْلِ دُونَ الْعَذِرَةِ لِلضَّرُورَةِ.

قَالَ الْحَطَّابُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ هُوَ الْجَارِي عَلَى أَصْلِ الْمَذْهَبِ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ النَّجَاسَاتِ، وَالْقَوْلُ بِالْجَوَازِ لِمُرَاعَاةِ الضَّرُورَةِ.وَمَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ، وَرَأَى أَنَّ أَخْذَ الثَّمَنِ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ رَأَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْجَوَازِ إِنَّمَا هِيَ الِاضْطِرَارُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا بِوُجُودِ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بَيْعُ زِبْلِ الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ وَغَيْرِهَا بَاطِلٌ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ».وَلِأَنَّ الزِّبْلَ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْعَذِرَةِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ صِحَّةِ بَيْعِ الزِّبْلِ النَّجِسِ بِخِلَافِ الطَّاهِرِ مِنْهُ، كَرَوْثِ الْحَمَامِ، وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نَجَاسَة، وَبَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


33-موسوعة الفقه الكويتية (سؤر)

سُؤْرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- السُّؤْرُ لُغَةً: بَقِيَّةُ الشَّيْءِ، وَجَمْعُهُ أَسْآرٌ، وَأَسْأَرَ مِنْهُ شَيْئًا أَبْقَى، وَفِي الْحَدِيثِ «إِذَا شَرِبْتُمْ فَأَسْئِرُوا أَيْ أَبْقُوا شَيْئًا مِنَ الشَّرَابِ فِي قَعْرِ الْإِنَاءِ»، وَفِي حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ «مَا كُنْتُ أُوثِرُ عَلَى سُؤْرِكَ أَحَدًا».وَرَجُلٌ سَأْرٌ أَيْ يُبْقِي فِي الْإِنَاءِ مِنَ الشَّرَابِ.

وَيُقَالُ: سَأَرَ فُلَانٌ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ سُؤْرًا وَذَلِكَ إِذَا أَبْقَى بَقِيَّةً.وَبَقِيَّةُ كُلِّ شَيْءٍ سُؤْرُهُ.

وَالسُّؤْرُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: فَضْلَةُ الشُّرْبِ وَبَقِيَّةُ الْمَاءِ الَّتِي يُبْقِيهَا الشَّارِبُ فِي الْإِنَاءِ، أَوْ فِي الْحَوْضِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِبَقِيَّةِ الطَّعَامِ أَوْ غَيْرِهِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِهِمْ: سُؤْرُ الْحَيَوَانِ طَاهِرٌ أَوْ نَجَسٌ: لُعَابُهُ وَرُطُوبَةُ فَمِهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ الْأَسْآرِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:

أَحَدُهَا: يَذْهَبُ إِلَى طَهَارَةِ الْأَسْآرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.

وَالْآخَرُ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَرَوْنَ طَهَارَةَ بَعْضِ الْأَسْآرِ وَنَجَاسَةَ بَعْضِهَا.وَالتَّفْصِيلُ كَمَا يَلِي:

3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَقْسِيمِ الْأَسْآرِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: سُوَرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى طَهَارَتِهِ وَهُوَ سُؤْرُ الْآدَمِيِّ بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ جُنُبًا.وَقَدْ «أُتِيَ- عليه الصلاة والسلام- بِلَبَنٍ فَشَرِبَ بَعْضَهُ وَنَاوَلَ الْبَاقِيَ أَعْرَابِيًّا كَانَ عَلَى يَمِينِهِ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- فَشَرِبَ، وَقَالَ: الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ».

وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِي فَيَشْرَبُ»

وَلِأَنَّ سُؤْرَ الْآدَمِيِّ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ، فَكَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا، إِلاَّ فِي حَالِ شُرْبِ الْخَمْرِ فَيَكُونُ سُؤْرُهُ نَجِسًا؛ لِنَجَاسَةِ فَمِهِ بِالْخَمْرِ.

وَمِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ الْمُتَّفَقِ عَلَى طَهَارَتِهِ سُؤْرُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالطُّيُورِ إِلاَّ الْجَلاَّلَةَ وَالدَّجَاجَةَ الْمُخَلاَّةَ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ بَعِيرٍ أَوْ شَاةٍ» وَلِأَنَّ سُؤْرَهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهِ وَلَحْمَهُ طَاهِرٌ.

أَمَّا سُؤْرُ الْجَلاَّلَةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلاَّةِ وَهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ حَتَّى أَنْتَنَ لَحْمُهَا فَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِاحْتِمَالِ نَجَاسَةِ فَمِهَا وَمِنْقَارِهَا.

وَإِذَا حُبِسَتْ حَتَّى يَذْهَبَ نَتْنُ لَحْمِهَا فَلَا كَرَاهَةَ فِي سُؤْرِهَا.

وَأَمَّا سُؤْرُ الْفَرَسِ فَطَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ سُؤْرَهُ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ؛ وَلِأَنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ عِنْدَهُ لَيْسَتْ لِنَجَاسَتِهِ بَلْ لِاحْتِرَامِهِ؛ لِأَنَّهُ آلَةُ الْجِهَادِ وَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ فِي سُؤْرِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّ سُؤْرَهُ نَجِسٌ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ بِنَجَاسَةِ لَحْمِهِ.

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ: مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ أَيْ دَمٌ سَائِلٌ، سَوَاءٌ كَانَ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي غَيْرِهِ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ.

النَّوْعُ الثَّانِي: السُّؤْرُ الطَّاهِرُ الْمَكْرُوهُ وَهُوَ سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالْحِدَأَةِ وَنَحْوِهَا فَسُؤْرُهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا وَهُوَ عَظْمٌ جَافٌّ فَلَمْ يَخْتَلِطْ لُعَابُهَا بِسُؤْرِهَا؛ وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْأَوَانِي عَنْهَا مُتَعَذِّرَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَضُّ مِنَ الْجَوِّ فَتَشْرَبُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ سُؤْرُهَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ وَالْمَيْتَاتِ فَأَصْبَحَ مِنْقَارُهَا فِي مَعْنَى مِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلاَّةِ.وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ سِبَاعَ الطَّيْرِ إِنْ كَانَ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَيْتَاتِ مِثْلَ الْبَازِي الْأَهْلِيِّ وَنَحْوِهِ فَلَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِسُؤْرِهِ.

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ سُؤْرُ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ كَالْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْوَزَغَةِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُتَعَذَّرُ صَوْنُ الْأَوَانِي مِنْهَا.

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا: سُؤْرُ الْهِرَّةِ فَهُوَ طَاهِرٌ وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «السِّنَّوْرُ سَبُعٌ».وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ أَوْ آخِرُهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَإِذَا وَلَغَتْ فِيهِ الْهِرَّةُ غُسِلَ مَرَّةً».

وَالْمَعْنَى فِي كَرَاهَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ: وَهُوَ أَنَّ الْهِرَّةَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ لَحْمِهَا، وَسُؤْرُهَا نَجَسٌ مُخْتَلَطٌ بِلُعَابِهَا الْمُتَوَلِّدِ مِنْ لَحْمِهَا النَّجِسِ، وَلَكِنْ سَقَطَتْ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا اتِّفَاقًا، لِعِلَّةِ الطَّوَافِ الْمَنْصُوصَةِ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ».حَيْثُ إِنَّهَا تَدْخُلُ الْمَضَائِقَ وَتَعْلُو الْغُرَفَ فَيُتَعَذَّرُ صَوْنُ الْأَوَانِي مِنْهَا.

وَلَمَّا سَقَطَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ مِنْ سُؤْرِهَا لِضَرُورَةِ الطَّوَافِ بَقِيَتِ الْكَرَاهَةُ؛ لِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةَ وَلِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ أَنَّ الْهِرَّةَ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ- وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ- لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَفَى عَنْهَا النَّجَاسَةَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ».وَلَكِنْ يُكْرَهُ سُؤْرُهَا لِتَوَهُّمِ أَخْذِهَا الْفَأْرَةَ فَصَارَ فَمُهَا كَيَدِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ نَوْمِهِ.فَلَوْ أَكَلَتِ الْفَأْرَةَ ثُمَّ شَرِبَتِ الْمَاءَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَرِبَتْهُ عَلَى الْفَوْرِ تَنَجَّسَ الْمَاءُ، وَإِنْ مَكَثَتْ سَاعَةً وَلَحِسَتْ فَمَهَا ثُمَّ شَرِبَتْ فَلَا يَتَنَجَّسُ بَلْ يُكْرَهُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَاهُ فِي سُؤْرِ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَهُوَ أَنَّ صَبَّ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي التَّطْهِيرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّ مَا سِوَى الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ لَيْسَ بِطَهُورٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: السُّؤْرُ النَّجِسُ الْمُتَّفَقُ عَلَى نَجَاسَتِهِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ سُؤْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ.أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ لقوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} الْآيَةَ.وَلُعَابُهُ يُتَوَلَّدُ مِنْ لَحْمِهِ النَّجِسِ.وَأَمَّا الْكَلْبُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَلِسَانُهُ يُلَاقِي الْمَاءَ أَوْ مَا يَشْرَبُهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ الْأُخْرَى دُونَ الْإِنَاءِ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّجَاسَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ سُؤْرِهِمَا وَصِيَانَةُ الْأَوَانِي عَنْهُمَا، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ».وَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً لَمْ يَحُدَّهُ بِالْقُلَّتَيْنِ.

وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- خَرَجَ فِي رَكْبٍ فِيهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى وَرَدَا حَوْضًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ هَلْ تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّنَا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا.وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَاءُ يَتَنَجَّسُ بِشُرْبِهَا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِلسُّؤَالِ وَلَا لِلنَّهْيِ عَنِ الْجَوَابِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرُ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ وَيُمْكِنُ صَوْنُ الْأَوَانِي مِنْهَا، وَعِنْدَ شُرْبِهَا يَخْتَلِطُ لُعَابُهَا بِالْمَشْرُوبِ وَلُعَابُهَا نَجِسٌ لِتَحَلُّبِهِ مِنْ لَحْمِهَا وَهُوَ نَجِسٌ، فَكَانَ سُؤْرُهَا نَجِسًا.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْمَشْكُوكُ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِهِ وَهُوَ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَالْبَغْلُ فَسُؤْرُهُمَا مَشْكُوكٌ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، فَالْأَصْلُ فِي سُؤْرِهِمَا النَّجَاسَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو سُؤْرُهُمَا عَنْ لُعَابِهِمَا، وَلُعَابُهُمَا مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِمَا وَلَحْمُهُمَا نَجَسٌ، وَلِأَنَّ عَرَقَهُ طَاهِرٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا وَالْحَرُّ حَرُّ الْحِجَازِ، وَيُصِيبُ الْعَرَقُ ثَوْبَهُ، وَكَانَ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ».فَإِذَا كَانَ الْعَرَقُ طَاهِرًا فَالسُّؤْرُ أَوْلَى.

وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْآثَارُ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِ الْحِمَارِ وَنَجَاسَتِهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْحِمَارُ يَعْتَلِفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ.وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ رِجْسٌ، وَتَعَارَضَتِ الْأَخْبَارُ فِي أَكْلِ لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ كَمَا تَعَارَضَ تَحَقُّقُ أَصْلِ الضَّرُورَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُخَالَطَةِ كَالْهِرَّةِ فَلَا يَعْلُو الْغُرَفَ وَلَا يَدْخُلُ الْمَضَائِقَ، وَلَيْسَ فِي الْمُجَانَبَةِ كَالْكَلْبِ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالتَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ فَلَا يُنَجِّسُ سُؤْرُهُ الْأَشْيَاءَ الطَّاهِرَةَ، وَلَا يَطْهُرُ بِهِ النَّجَسُ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يُتَوَضَّأُ بِسُؤْرِهِ وَيُتَيَمَّمُ احْتِيَاطًا، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُطَهِّرَ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّرْتِيبِ.

وَقَالَ زُفَرُ: يُبْدَأُ بِالْوُضُوءِ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ أَوِ الْبَغْلِ لِيَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ حَقِيقَةً وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٍ، طَعَامٍ، طَهَارَةٍ).

4- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ سُؤْرَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالسِّبَاعِ وَالْهِرَّةِ وَالْفِئْرَانِ وَالطُّيُورِ وَالْحَيَّاتِ وَسَامٍ أَبْرَصَ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولَةِ- سُؤْرُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ إِلاَّ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تُوَلِّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.

فَإِذَا وَلَغَ أَحَدٌ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِي طَعَامٍ جَازَ أَكْلُهُ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَإِذَا شَرِبَ مِنْ مَاءٍ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ بِلَا كَرَاهَةٍ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} لِأَنَّ فِي تَنْجِيسِ سُؤْرِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ حَرَجًا، وَيَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ عَنْ بَعْضِهَا كَالْهِرَّةِ وَنَحْوِهَا مِنْ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ.

وَلِمَا وَرَدَ عَنْ كَبْشَةَ زَوْجَةِ أَبِي قَتَادَةَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ.فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ». وَلِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قِيلَ لَهُ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَا فَضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ: وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ».

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى نَاقَتِهِ، وَإِنَّ لُعَابَهَا يَسِيلُ بَيْنَ كَتِفَيَّ».

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ وَالْحُمُرُ، وَعَنِ الطَّهَارَةِ مِنْهَا، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا غَبَرَ طَهُورٌ» وَلِقَوْلِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ فَإِنَّنَا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا.

أَمَّا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَفَرَّعَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَسُؤْرُهُ نَجِسٌ، لقوله تعالى فِي الْخِنْزِيرِ: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} الْآيَةَ وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْكَلْبِ: «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيُرِقْهُ» أَيِ الْمَاءَ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ.وَالْإِرَاقَةُ لِلْمَاءِ إِضَاعَةُ مَالٍ، فَلَوْ كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ إِذْ قَدْ نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ.

وَإِنْ رَأَى شَخْصٌ هِرَّةً أَوْ نَحْوَهَا تَأْكُلُ نَجَاسَةً ثُمَّ وَرَدَتْ عَلَى مَاءٍ قَلِيلٍ أَيْ لَا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فَشَرِبَتْ مِنْهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:

أَصَحُّهَا: أَنَّهُ إِنْ غَابَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ لَمْ يَنْجُسِ الْمَاءُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَدْ وَرَدَتْ عَلَى مَاءٍ كَثِيرٍ فَطَهُرَ فَمُهَا وَلِأَنَّا- فِي هَذِهِ الْحَالَةِ- قَدْ تَيَقَّنَّا طَهَارَةَ الْمَاءِ وَشَكَكْنَا فِي نَجَاسَةِ فَمِهَا، فَلَا يَنْجُسُ الْمَاءُ الْمُتَيَقَّنُ بِالشَّكِّ.

وَالثَّانِي: يَنْجُسُ الْمَاءُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا نَجَاسَةَ فَمِهَا.

وَالثَّالِثُ: لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ بِحَالٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فَعُفِيَ عَنْهُ، وَدَلِيلُ هَذَا الْوَجْهِ حَدِيثُ: «إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ» وَهَذَا هُوَ الْأَحْسَنُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ وَعُسْرِ الِاحْتِرَازِ فَهِيَ كَالْيَهُودِيِّ وَشَارِبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ سُؤْرُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَكٍّ، طَهَارَةٍ، نَجَاسَةٍ).

5- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَقْسِيمِ الْحَيَوَانِ إِلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ نَجِسٌ وَقِسْمٌ طَاهِرٌ.

ثُمَّ قَسَّمُوا النَّجَسَ إِلَى نَوْعَيْنِ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا هُوَ نَجَسٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَهَذَا النَّوْعُ سُؤْرُهُ وَعَيْنُهُ وَجَمِيعُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ نَجِسٌ، لقوله تعالى فِي الْخِنْزِيرِ: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْكَلْبِ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».

فَإِذَا وَلَغَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ آخَرَ يَجِبُ إِرَاقَتُهُ، وَإِذَا أَكَلَ مِنْ طَعَامٍ فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ.

النَّوْعُ الثَّانِي: مَا اخْتُلِفَ فِي نَجَاسَتِهِ وَهُوَ سَائِرُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَالْبَغْلِ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجَسٌ إِلاَّ السِّنَّوْرَ وَمَا يُمَاثِلُهَا فِي الْخِلْقَةِ أَوْ دُونَهَا فِيهَا، فَإِذَا شَرِبَتْ مِنْ مَاءٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ تَرَكَهُ وَتَيَمَّمَ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ» فَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً لَمْ يَحُدَّهُ بِالْقُلَّتَيْنِ.«وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ: إِنَّهَا رِجْسٌ» وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ حَرُمَ أَكْلُهُ، لَا لِحُرْمَتِهِ مِثْلُ الْفَرَسِ- حَيْثُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِحُرْمَتِهِ- وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ الْكَلْبَ؛ وَلِأَنَّ السِّبَاعَ وَالْجَوَارِحَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا أَكْلُ الْمَيْتَاتِ، وَالنَّجَاسَاتِ فَتُنَجِّسُ أَفْوَاهَهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ مُطَهِّرٍ لَهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِنَجَاسَتِهَا كَالْكِلَابِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَ سُؤْرِهَا تَيَمَّمَ مَعَهُ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ تَجُزِ الطَّهَارَةُ بِهِ.وَرُوِيَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ: لَا بَأْسَ بِسُؤْرِ السِّبَاعِ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ فِيهَا: تَرِدُ عَلَيْنَا وَنَرِدُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي طَهَارَةُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَرْكَبُ الْحَمِيرَ وَالْبِغَالَ وَتُرْكَبُ فِي زَمَنِهِ، وَفِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَبَيَّنَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِمُقْتَنِيهَا فَأَشْبَهَ الْهِرَّةَ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الْجَلاَّلَةُ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجَسٌ، وَفِي أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، وَسُؤْرُهُ وَعَرَقُهُ طَاهِرَانِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:

الْأَوَّلُ: الْآدَمِيُّ، فَهُوَ طَاهِرٌ وَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ كَانَ الرَّجُلُ جُنُبًا لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ».وَلِحَدِيثِ «شَرِبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ سُؤْرِ عَائِشَةَ».

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ يَجُوزُ شُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ بِهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ جَلاَّلًا يَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ فَفِي سُؤْرِهِ الرِّوَايَتَانِ السَّابِقَتَانِ.وَيُكْرَهُ سُؤْرُ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلاَّةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَتُهُ.

الضَّرْبُ الثَّالِثُ: الْهِرَّةُ وَمَا يُمَاثِلُهَا مِنَ الْخِلْقَةِ أَوْ دُونَهَا كَالْفَأْرَةِ وَابْنُ عُرْسٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ، فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ يَجُوزُ شُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ بِهِ، وَلَا يُكْرَهُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «قَالَتْ: كُنْتُ أَتَوَضَّأُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ وَقَدْ أَصَابَتْ مِنْهُ الْهِرَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَتْ: وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِ الْهِرَّةِ».وَلِحَدِيثِ كَبْشَةَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ.

إِلاَّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: يُغْسَلُ الْإِنَاءُ الَّذِي وَلَغَتْ فِيهِ الْهِرَّةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: مَرَّةً، وَقَالَ طَاوُسٍ: سَبْعَ مَرَّاتٍ كَالْكَلْبِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَرِهَ الْوُضُوءَ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ وَالْحِمَارِ.

وَإِذَا أَكَلَتِ الْهِرَّةُ وَنَحْوُهَا نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَتْ مِنْ مَاءٍ يَسِيرٍ بَعْدَ أَنْ غَابَتْ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَفَى عَنْهَا النَّجَاسَةَ، وَتَوَضَّأَ بِفَضْلِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا تَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ.وَكَذَا إِنْ شَرِبَتْ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ فَسُؤْرُهَا طَاهِرٌ كَذَلِكَ فِي الرَّاجِحِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ عَفَا عَنْهَا مُطْلَقًا لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ.

وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: يَنْجُسُ الْمَاءُ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةٌ، وَقَالَ الْمَجْدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْأَقْوَى عِنْدِي أَنَّهَا إِنْ وَلَغَتْ عَقِيبَ الْأَكْلِ فَسُؤْرُهَا نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ بِزَمَنٍ يَزُولُ فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ بِالرِّيقِ لَمْ يَنْجُسْ، قَالَ: وَكَذَلِكَ يَقْوَى عِنْدِي جَعْلُ الرِّيقِ مُطَهِّرًا أَفْوَاهَ الْأَطْفَالِ وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَكُلَّ بَهِيمَةٍ أُخْرَى طَاهِرَةٍ، فَإِذَا أَكَلُوا نَجَاسَةً وَشَرِبُوا مِنْ مَاءٍ يَسِيرٍ أَوْ أَكَلُوا مِنْ طَعَامٍ فَسُؤْرُهُمْ طَاهِرٌ، وَقِيلَ: إِنْ غَابَتِ الْهِرَّةُ وَنَحْوُهَا بَعْدَ أَنْ أَكَلَتِ النَّجَاسَةَ غَيْبَةً يُمْكِنُ وُرُودُهَا عَلَى مَا يُطَهِّرُ فَمَهَا فَسُؤْرُهَا طَاهِرٌ وَإِلاَّ فَنَجَسٌ.

وَقِيلَ: إِنْ كَانَتِ الْغَيْبَةُ قَدْرَ مَا يُطَهِّرُ فَمَهَا فَطَاهِرٌ، وَإِلاَّ فَنَجَسٌ.

6- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ سُؤْرَ الْبَهَائِمِ جَمِيعًا طَاهِرٌ وَمُطَهَّرٌ إِذَا كَانَ مَاءً، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَهِيمَةُ مُحَرَّمَةَ اللَّحْمِ أَوْ كَانَتْ جَلاَّلَةً، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} فَأَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ إِلاَّ بِالطَّاهِرِ، وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لَا تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ، فَالْآدَمِيُّ وَمِثْلُهُ الذُّبَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالزُّنْبُورُ وَنَحْوُهَا طَاهِرٌ وَلَا يُبَاحُ أَكْلُهَا، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ مَعَ طَهَارَتِهِ تَعَبُّدًا، وَلَكِنْ يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِسُؤْرِ الْكَلْبِ وَالْجَلاَّلَةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلاَّةِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ كَالْهِرَّةِ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً آخَرَ يَتَوَضَّأُ بِهِ، أَوْ عَسُرَ الِاحْتِرَازُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تَتَّقِي النَّجَاسَةَ، أَوْ كَانَ السُّؤْرُ طَعَامًا فَلَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ سُؤْرِ مَا ذُكِرَ حِينَئِذٍ.وَلَمْ يُفَرِّقْ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَذَلِكَ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْهِرَّةِ: «لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ».

كَمَا ذَهَبُوا إِلَى طَهَارَةِ سُؤْرِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


34-موسوعة الفقه الكويتية (سبق الحدث)

سَبْقُ الْحَدَثِ

التَّعْرِيفُ:

1- السَّبْقُ مَصْدَرُ سَبَقَ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَدَمَةُ فِي الْجَرْيِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ.

وَالْحَدَثُ مِنْ حَدَثَ الشَّيْءُ حُدُوثًا: أَيْ تَجَدَّدَ وَيَتَعَدَّى بِالْأَلِفِ فَيُقَالُ: أَحْدَثَهُ، وَأَحْدَثَ الْإِنْسَانُ إِحْدَاثًا، وَالِاسْمُ: الْحَدَثُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَالَةِ النَّاقِضَةِ لِلطَّهَارَةِ، وَعَلَى الْحَادِثِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعْتَادٍ، وَلَا مَعْرُوفٍ فِي السُّنَّةِ.

وَسَبْقُ الْحَدَثِ فِي الِاصْطِلَاحِ: خُرُوجُ شَيْءٍ مُبْطِلٍ لِلطَّهَارَةِ مِنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي (مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ) فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا عِنْدَ إِحْرَامِهِ، عَامِدًا كَانَ أَمْ سَاهِيًا، كَمَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ إِذَا أَحْرَمَ مُتَطَهِّرًا ثُمَّ أَحْدَثَ عَمْدًا.وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَدَثِ الَّذِي يَسْبِقُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي: مِنْ غَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ رِيحٍ، وَكَذَا الدَّمُ السَّائِلُ مِنْ جُرْحٍ أَوْ دُمَّلٍ بِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ حَدَثٌ يُفْسِدُ الطَّهَارَةَ.

3- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا سَبَقَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ تَفْسُدُ طَهَارَتُهُ، وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ فَيَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدَ تَطَهُّرِهِ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ».

وَلِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ، وَالْعَبَادِلَةَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ- رضي الله عنهم-، قَالُوا بِالْبِنَاءِ عَلَى مَا مَضَى.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فَثَبَتَ الْبِنَاءُ عَنِ الصَّحَابَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا.

قَالُوا: وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ أَيْضًا وَيَسْتَأْنِفَ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّطَهُّرِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَا تَبْقَى مَعَ الْحَدَثِ، كَمَا لَا تَنْعَقِدُ مَعَهُ، لِفَوَاتِ أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْحَالَيْنِ بِفَوَاتِ الطَّهَارَةِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَبْقَى مَعَ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، كَمَا لَا يَنْعَقِدُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِيَّةٍ، فَلَا تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِأَدَاءِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَا تَبْقَى مَعَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَلِأَنَّ صَرْفَ الْوَجْهِ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَالْمَشْيِ لِلطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ مُنَافٍ لَهَا.وَلَكِنْ عَدَلَ عَنِ الْقِيَاسِ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.

وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

4- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَيَتَوَضَّأُ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ».وَحَدِيثُ عَلِيٍّ

- رضي الله عنه-: قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نُصَلِّي إِذِ انْصَرَفَ وَنَحْنُ قِيَامٌ ثُمَّ أَقْبَلَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَصَلَّى لَنَا الصَّلَاةَ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي ذَكَرْتُ أَنِّي كُنْتُ جُنُبًا حِينَ قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ لَمْ أَغْتَسِلْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ فِي بَطْنِهِ رِزًّا أَوْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَلْيَنْصَرِفْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَاجَتِهِ أَوْ غُسْلِهِ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَى صَلَاتِهِ».

وَلِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ الصَّلَاةِ- وَهُوَ الطَّهَارَةُ عَنِ الْحَدَثِ- فِي أَثْنَائِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ إِلاَّ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ، فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ تَنَجَّسَ نَجَاسَةً يَحْتَاجُ فِي إِزَالَتِهَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ.أَوِ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، وَلَمْ يَجِدِ السُّتْرَةَ إِلاَّ بَعِيدَةً مِنْهُ، أَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ، أَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: إِنْ كَانَ الْحَدَثُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ وَلَا يَبْنِي، أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا بَنَى؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ السَّبِيلَيْنِ أَغْلَظُ؛ وَلِأَنَّ الْأَثَرَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ.

شُرُوطُ الْبِنَاءِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ:

يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ:

5- أ- كَوْنُ السَّبْقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ، فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ إِذَا أَحْدَثَ عَمْدًا؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْبِنَاءِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ، لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ إِلاَّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَالْحَدَثُ الْعَمْدُ لَيْسَ كَالْحَدَثِ الَّذِي يَسْبِقُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ، فَلَوْ جُعِلَ مَانِعًا مِنَ الْبِنَاءِ لأَدَّى إِلَى حَرَجٍ، وَلَا حَرَجَ فِي الْحَدَثِ الْعَمْدِ.وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى الْبِنَاءِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ، فَنَظَرَ الشَّرْعُ لَهُ بِجَوَازِ الْبِنَاءِ صِيَانَةً لِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ مِنَ الْفَوَاتِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ، لِحُصُولِ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ، وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ مُتَعَمِّدَ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ جَانٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ.

ب- أَلاَّ يَأْتِي بَعْدَ الْحَدَثِ بِفِعْلٍ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْدَثَ، إِلاَّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيلُ الْأَفْعَالِ وَتَقْرِيبُ الْمَكَانِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلاَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ.فَإِنْ تَكَلَّمَ بَعْدَ الْحَدَثِ بِلَا حَاجَةٍ إِلَيْهِ، أَوْ ضَحِكَ أَوْ أَحْدَثَ حَدَثًا آخَرَ عَمْدًا، أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلَا يَبْنِي؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ الْمُنَافِي لِلضَّرُورَةِ.

عَوْدُهُ بَعْدَ التَّطَهُّرِ إِلَى مُصَلاَّهُ:

6- إِنْ كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ عَادَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ حَيْثُ هُوَ فَقَدْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ عَنِ الْحَرَكَةِ الْكَثِيرَةِ لَكِنَّهُ صَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ.وَإِنْ عَادَ إِلَى مُصَلاَّهُ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيَتَخَيَّرُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ.وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ، فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ إِمَامُهُ مِنَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي مَكَانِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ إِنْ صَلَّى مُقْتَدِيًا بِإِمَامِهِ لَمْ يَصِحَّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الِاقْتِدَاءِ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ، وَإِنْ صَلَّى فِي مَكَانِهِ مُنْفَرِدًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ فِي حَالِ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ تَغَايُرًا، وَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ مُقْتَدِيًا، وَمَا أَدَّى وَهُوَ الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا لَمْ يُوجَدْ لَهُ ابْتِدَاءً تَحْرِيمَةٌ، وَهُوَ بَعْضُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْتَقِلًا عَمَّا كَانَ فِيهِ إِلَى هَذَا، فَتَبْطُلُ.وَإِنْ كَانَ إِمَامًا يَسْتَخْلِفُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ.

هَذَا كُلُّهُ فِي حَدَثِ الرَّفَاهِيَةِ (أَيْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ) أَمَّا الْحَدَثُ الدَّائِمُ كَسَلَسِ الْبَوْلِ فَلَا يَضُرُّ. (ر: حَدَثٌ) (وَعُذْرٌ).

7- أَمَّا مَا سِوَى الْحَدَثِ مِنَ الْأَسْبَابِ النَّاقِضَةِ لِلصَّلَاةِ إِذَا طَرَأَ فِيهَا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ قَطْعًا، إِنْ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ طَرَأَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ إِذَا نُسِبَ إِلَيْهِ تَقْصِيرٌ، كَمَنْ مَسَحَ خُفَّهُ فَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ دَخَلَ الصَّلَاةَ وَهُوَ يُدَافِعُ الْحَدَثَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّمَاسُكِ إِلَى انْتِهَائِهَا.أَمَّا إِذَا طَرَأَ نَاقِضٌ لِلصَّلَاةِ لَا بِاخْتِيَارِهِ وَلَا بِتَقْصِيرِهِ كَمَنِ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَسَتَرَهَا فِي الْحَالِ، أَوْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يَابِسَةٌ فَنَفَضَهَا فِي الْحَالِ، أَوْ أَلْقَى الثَّوْبَ الَّذِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ فِي الْحَالِ فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ.

(ر: صَلَاةٌ، نَجَاسَةٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


35-موسوعة الفقه الكويتية (سجود التلاوة 2)

سُجُودُ التِّلَاوَةِ -2

الْقِيَامُ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ السُّجُودَ لِلتِّلَاوَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، هَلْ يَقُومُ فَيَسْتَوِي قَائِمًا ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَهْوِي لِلسُّجُودِ، أَمْ لَا:

ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ السُّجُودَ أَنْ يَقُومَ فَيَسْتَوِيَ ثُمَّ يُكَبِّرَ وَيَخِرَّ سَاجِدًا؛ لِأَنَّ الْخُرُورَ سُقُوطٌ مِنْ قِيَامٍ، وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَرَدَ بِهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا}.

وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ تَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ، فَإِذَا مَرَّتْ بِالسَّجْدَةِ قَامَتْ فَسَجَدَتْ وَتَشْبِيهًا لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِصَلَاةِ النَّفْلِ.وَالْأَصَحُّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُرِيدُ السُّجُودَ لِلتِّلَاوَةِ أَنْ يَقُومَ فَيَسْتَوِيَ ثُمَّ يُكَبِّرَ ثُمَّ يَهْوِيَ لِلسُّجُودِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُحَقِّقِينَ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَمْ أَرَ لِهَذَا الْقِيَامِ ذِكْرًا وَلَا أَصْلًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ هَذَا الْقِيَامَ وَلَا ثَبَتَ فِيهِ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ، فَالِاخْتِيَارُ تَرْكُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحْدَثَاتِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْمُحْدَثَاتِ.

التَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ:

13- مَنْ يَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ إِنْ قَالَ فِي سُجُودِهِ لِلتِّلَاوَةِ مَا يَقُولُهُ فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ جَازَ وَكَانَ حَسَنًا، وَسَوَاءٌ فِيهِ التَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ: سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ» وَإِنْ قَالَ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاقْبَلْهَا مِنِّي كَمَا قَبِلْتهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ- عليه السلام- فَهُوَ حَسَنٌ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ فَسَجَدْتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَرَأَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ سَاجِدُ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ»، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ اخْتِيَارَهُ أَنْ يَقُولَ السَّاجِدُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} قَالَ النَّوَوِيُّ: وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي مَدْحَ هَذَا فَهُوَ حَسَنٌ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُسَنُّ أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ التَّسْبِيحِ.

التَّسْلِيمُ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَسْلِيمَ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّسْلِيمِ مِنْهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الْمُقَابِلُ لِلْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا تَسْلِيمَ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، كَمَا لَا يُسَلِّمُ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ تَحْلِيلٌ مِنَ التَّحْرِيمِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا تَحْرِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، فَلَا يُعْقَلُ التَّحْلِيلُ بِالتَّسْلِيمِ.

وَالْأَصَحُّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمُخْتَارُ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ التَّسْلِيمُ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ صَلَاةٌ ذَاتُ إِحْرَامٍ فَافْتَقَرَتْ إِلَى السَّلَامِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِحَدِيثِ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ».

السُّجُودُ لِلتِّلَاوَةِ خَلْفَ التَّالِي:

15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ آيَةَ السَّجْدَةِ وَمَعَهُ قَوْمٌ، فَالسُّنَّةُ فِي أَدَاءِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَ التَّالِي وَيَصُفَّ السَّامِعُونَ خَلْفَهُ، فَيَسْجُدَ التَّالِي ثُمَّ يَسْجُدَ السَّامِعُونَ، لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْوَضْعِ وَلَا بِالرَّفْعِ؛ لِأَنَّ التَّالِيَ إِمَامُ السَّامِعِينَ، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ تَلَا عَلَى الْمِنْبَرِ سَجْدَةً فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّامِعَ يَتْبَعُ التَّالِيَ فِي السَّجْدَةِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِلتَّالِي: كُنْتَ إِمَامَنَا لَوْ سَجَدْتَ لَسَجَدْنَا مَعَكَ، وَلَيْسَ هَذَا اقْتِدَاءً حَقِيقَةً بَلْ صُورَةً، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَسْبِقُوهُ بِالْوَضْعِ وَلَا بِالرَّفْعِ، فَلَوْ كَانَ حَقِيقَةَ ائْتِمَامٍ لَوَجَبَ ذَلِكَ، وَلَوْ تَقَدَّمَ السَّامِعُونَ عَلَى التَّالِي أَوْ سَبَقُوهُ بِالْوَضْعِ أَوْ بِالرَّفْعِ أَجْزَأَهُمُ السُّجُودُ لِلتِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ مُشَارَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلِذَا لَوْ فَسَدَتْ سَجْدَةُ التَّالِي بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ لَا يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إِلَى الْبَاقِينَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يَسْجُدَ لِلتِّلَاوَةِ الْقَارِئُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَصَلَحَ لِلْإِمَامَةِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَجَلَسَ لِيُسْمِعَ النَّاسَ حُسْنَ قِرَاءَتِهِ أَمْ لَا.

وَيَسْجُدُ قَاصِدُ السَّمَاعِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ السَّمَاعَ فَلَا يَسْجُدْ.

وَيُشْتَرَطُ لِسُجُودِ الْمُسْتَمِعِ أَنْ يَجْلِسَ لِيَتَعَلَّمَ مِنَ الْقَارِئِ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، أَوْ أَحْكَامَهُ وَمَخَارِجَ حُرُوفِهِ، فَإِنْ جَلَسَ الْمُسْتَمِعُ لِمُجَرَّدِ الثَّوَابِ أَوْ لِلتَّدَبُّرِ وَالِاتِّعَاظِ، أَوِ السُّجُودِ فَقَطْ، فَلَا يَجِبُ السُّجُودُ عَلَيْهِ.كَمَا يَلْزَمُ السَّامِعَ السُّجُودُ وَلَوْ تَرَكَ الْقَارِئُ السَّجْدَةَ سَهْوًا؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ لَا يُسْقِطُ طَلَبَهُ مِنَ الْآخَرِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا وَتَرَكَهُ، فَيَتَّبِعُهُ مَأْمُومُهُ.وَسُجُودُ الْقَارِئِ لَيْسَ شَرْطًا فِي سُجُودِ الْمُسْتَمِعِ إِنْ صَلَحَ الْقَارِئُ لِيَؤُمَّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا سَجَدَ الْمُسْتَمِعُ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ مَعَ الْقَارِئِ لَا يَرْتَبِطُ بِهِ وَلَا يَنْوِي الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَلَهُ الرَّفْعُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَهُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ مَنْعُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، لَكِنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ الْقَاضِي وَالْبَغَوِيِّ جَوَازُهُ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: لَا يَتَوَقَّفُ سُجُودُ أَحَدِهِمَا عَلَى سُجُودِ الْآخَرِ، وَلَا يُسَنُّ الِاقْتِدَاءُ وَلَا يَضُرُّ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: شَرَطَ لِاسْتِحْبَابِ السُّجُودِ أَيْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ كَوْنَ الْقَارِئِ يَصْلُحُ إِمَامًا لِلْمُسْتَمِعِ فَلَا يَسْجُدُ مُسْتَمِعٌ إِنْ لَمْ يَسْجُدِ التَّالِي وَلَا قُدَّامَهُ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ مَعَ خُلُوِّ يَمِينِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الِائْتِمَامِ بِهِ إِذَنْ، وَلَا يَسْجُدُ رَجُلٌ بِتِلَاوَةِ امْرَأَةٍ وَخُنْثَى لِعَدَمِ صِحَّةِ ائْتِمَامِهِ بِهِمَا، وَلَا يَضُرُّ رَفْعُ رَأْسِ مُسْتَمِعٍ قَبْلَ رَأْسِ قَارِئٍ، وَكَذَا لَا يَضُرُّ سَلَامُهُ قَبْلَ سَلَامِ الْقَارِئِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إِمَامًا لَهُ حَقِيقَةً بَلْ بِمَنْزِلَتِهِ وَإِلاَّ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَرْفَعُ قَبْلَ إِمَامِهِ كَسُجُودِ الصُّلْبِ.

مَا يَقُومُ مَقَامَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ:

16- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ حَالَ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ- عَنِ السُّجُودِ لِلتِّلَاوَةِ فِي غَيْرِ الصَلَاةِ رُكُوعٍ أَوْ نَحْوِهِ.عَلَى تَفْصِيلٍ مَرَّ فِي كَيْفِيَّةِ سُجُودٍ.

وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَقُومُ مَقَامَ السُّجُودِ لِلتِّلَاوَةِ أَوِ الشُّكْرِ مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّحِيَّةِ لِمَنْ لَمْ يُرِدْ فِعْلَهَا وَلَوْ مُتَطَهِّرًا وَهُوَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ التتارخانية أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلتَّالِي أَوِ السَّامِعِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ أَنْ يَقُولَ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

قَالَ الشَّبْرامَلِّسِي: سُئِلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ قَوْلِ الشَّخْصِ: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، عِنْدَ تَرْكِ السُّجُودِ لآِيَةِ السَّجْدَةِ لِحَدَثٍ أَوْ عَجْزٍ عَنِ السُّجُودِ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ عِنْدَنَا هَلْ يَقُومُ الْإِتْيَانُ بِهَا مَقَامَ السُّجُودِ كَمَا قَالُوا بِذَلِكَ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَنَّهُ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ..إِلَخْ.فَإِنَّهَا تَعْدِلُ رَكْعَتَيْنِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ عَنِ الْإِحْيَاءِ، فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذَلِكَ لَا أَصْلَ لَهُ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ السَّجْدَةِ بَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ قَصَدَ الْقِرَاءَةَ وَلَا يَتَمَسَّكُ بِمَا فِي الْإِحْيَاءِ.أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ يَعْدِلُ رَكْعَتَيْنِ فِي الْفَضْلِ.وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ بِفَرْضِ صِحَّتِهِ فَكَيْفَ مَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ.وَأَمَّا ثَانِيًا فَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ صَحَّ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَسَاغٌ؛ لِأَنَّ قِيَامَ لَفْظٍ مَفْضُولٍ مَقَامَ فِعْلٍ فَاضِلٍ مَحْضُ فَضْلٍ، فَإِذَا صَحَّ فِي صُورَةٍ لَمْ يَجُزْ قِيَاسُ غَيْرِهَا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي التَّحِيَّةِ فِيهَا فَضَائِلُ وَخُصُوصِيَّاتٌ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا.ا هـ.وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ..إِلَخْ.لَا يَقُومُ مَقَامَ السُّجُودِ وَإِنْ قِيلَ بِهِ فِي التَّحِيَّةِ لِمَا ذَكَرَهُ.

سُجُودُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِلتِّلَاوَةِ:

17- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ يُجْزِئُهُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ الْإِيمَاءُ بِالسُّجُودِ لِعُذْرِهِ.

وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسَافِرَ الَّذِي يَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ فِي صَلَاتِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ يُجْزِئُهُ الْإِيمَاءُ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَبَعًا لِلصَّلَاةِ.

أَمَّا الْمُسَافِرُ الَّذِي يُرِيدُ السُّجُودَ لِلتِّلَاوَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ فَفِيهِ خِلَافٌ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُومِئُ بِالسُّجُودِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ عَامَ الْفَتْحِ سَجْدَةً فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، مِنْهُمُ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى إِنَّ الرَّاكِبَ لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ».وَلِأَنَّ السُّجُودَ لِلتِّلَاوَةِ أَمْرٌ دَائِمٌ بِمَنْزِلَةِ التَّطَوُّعِ، وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ تُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُسَبِّحُ (يَسْجُدُ) عَلَى بَعِيرِهِ إِلاَّ الْفَرَائِضَ» وَسُومِحَ فِيهَا لِمَشَقَّةِ النُّزُولِ وَإِنْ أَذْهَبَ الْإِيمَاءُ أَظْهَرَ أَرْكَانَ السُّجُودِ وَهُوَ تَمْكِينُ الْجَبْهَةِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْإِيمَاءُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِفَوَاتِ أَعْظَمِ أَرْكَانِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَهُوَ إِلْصَاقُ الْجَبْهَةِ مِنْ مَوْضِعِ السُّجُودِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَرْقَدٍ وَأَتَمَّ سُجُودَهُ جَازَ.وَالْمُسَافِرُ الَّذِي يَقْرَأُ آيَةَ السَّجْدَةِ أَوْ يَسْمَعُهَا وَهُوَ مَاشٍ لَا يَكْفِيهِ الْإِيمَاءُ بَلْ يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُومِئُ.

قِرَاءَةُ آيَةِ السَّجْدَةِ لِلسُّجُودِ:

18- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْجُمْلَةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَحْدَهَا دُونَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا بِقَصْدِ السُّجُودِ فَقَطْ.وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَصَدَ السَّجْدَةَ لَا التِّلَاوَةَ وَهُوَ خِلَافُ الْعَمَلِ، وَحَيْثُ كُرِهَ الِاقْتِصَارُ لَا يَسْجُدُ.

وَلَوْ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ لَا بِقَصْدِ السُّجُودِ فَلَا كَرَاهَةَ، وَكَذَا لَوْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَخَصَّ الرَّمْلِيُّ الْقِرَاءَةَ لِسَجْدَةِ: {الَم تَنْزِيلُ} فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ، فَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ كَزِيَادَةِ سُجُودٍ فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَيَدَعَ مَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ مُبَادَرَةٌ إِلَيْهَا؛ وَلِأَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةُ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ طَاعَةٌ كَقِرَاءَةِ سُورَةٍ مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ دَفْعًا لِوَهْمِ تَفْضِيلِ آيِ السَّجْدَةِ عَلَى غَيْرِهَا. مُجَاوَزَةُ آيَةِ السَّجْدَةِ:

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ أَوِ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا يَدَعُ آيَةَ السَّجْدَةِ حَتَّى لَا يَسْجُدَهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ السَّلَفِ بَلْ نُقِلَتْ كَرَاهَتُهُ، وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِنْكَافَ؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَتَغْيِيرٌ لِتَأْلِيفِهِ، وَاتِّبَاعُ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ مَأْمُورٌ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}.أَيْ تَأْلِيفَهُ، فَكَانَ التَّغْيِيرُ مَكْرُوهًا؛ وَلِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الْفِرَارِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ تَحْصِيلِهَا بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا فِيهِ صُورَةُ هَجْرِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآن مَهْجُورًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ مُجَاوَزَةُ مَحَلِّ السَّجْدَةِ بِلَا سُجُودٍ عِنْدَهُ لِمُتَطَهِّرٍ طَهَارَةً صُغْرَى وَقْتَ جَوَازٍ لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا أَوْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ نَهْيٍ فَالصَّوَابُ أَنْ يُجَاوِزَ الْآيَةَ بِتَمَامِهَا لِئَلاَّ يُغَيِّرَ الْمَعْنَى فَيَتْرُكَ تِلَاوَتَهَا بِلِسَانِهِ وَيَسْتَحْضِرَهَا بِقَلْبِهِ مُرَاعَاةً لِنِظَامِ التِّلَاوَةِ.

سُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ:

20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ- وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ عَنْ أَحْمَدَ- إِلَى أَنَّهُ لَا سُجُودَ لِلتِّلَاوَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِيهَا لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ».

وَعِنْدَهُمْ بَعْدَ هَذَا الْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ تَفْصِيلٌ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ تَلَا شَخْصٌ آيَةَ السَّجْدَةِ أَوْ سَمِعَهَا فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَأَدَّاهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ كَامِلَةً فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ كَالصَّلَاةِ، وَلَوْ تَلَاهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ وَسَجَدَهَا فِيهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَسَجَدَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ مَكْرُوهٍ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا نَاقِصَةً.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُجَاوِزُ الْقَارِئُ آيَةَ السَّجْدَةِ إِنْ كَانَ يَقْرَأُ وَقْتَ النَّهْيِ- كَوَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبِهَا أَوْ خُطْبَةِ جُمُعَةٍ- وَلَا يَسْجُدُ- عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ- مَا لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةِ فَرْضٍ، فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ فَرْضٍ قَرَأَ وَسَجَدَ قَوْلًا وَاحِدًا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ السُّجُودَ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَسْجُدُ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا تَطَوُّعًا، قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَمَّنْ قَرَأَ سُجُودَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ أَيَسْجُدُ؟ قَالَ: لَا، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَسْجُدُ.وَاسْتَدَلُّوا لِلرَّاجِحِ- رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ- بِعُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَبِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ: «كُنْتُ أَقُصُّ (أَغَطُّ) بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَأَسْجُدُ فَنَهَانِي ابْنُ عُمَرَ، فَلَمْ أَنْتَهِ، ثَلَاثَ مِرَارٍ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: إِنِّي صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ- رضي الله عنهم- فَلَمْ يَسْجُدُوا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ أَنْ قَاصًّا كَانَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَيَسْجُدُ فَنَهَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَقَالَ: إِنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.

وَقَالُوا: لَا يَنْعَقِدُ السُّجُودُ لِلتِّلَاوَةِ إِنِ ابْتَدَأَهُ مُصَلٍّ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَلَوْ كَانَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ أَوْ بِكَوْنِهِ وَقْتَ نَهْيٍ لِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْعِبَادَاتِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ

فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ.

تِلَاوَةُ آيَةِ السَّجْدَةِ فِي الْخُطْبَةِ:

21- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَلَا الْإِمَامُ آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ مَعَهُ مَنْ سَمِعَهَا.لِمَا وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَلَا سَجْدَةً عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي خُطْبَةِ جُمُعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَا يَسْجُدُ، وَهَلْ يُكْرَهُ السُّجُودُ أَوْ يَحْرُمُ، خِلَافٌ عِنْدَهُمْ وَالظَّاهِرُ الْكَرَاهَةُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ تَرْكُهَا لِلْخَطِيبِ إِذَا قَرَأَ آيَتَهَا عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ مَكَانَهُ لِكُلْفَةِ النُّزُولِ وَالصُّعُودِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ سَجَدَ مَكَانَهُ إِنْ خَشِيَ طُولَ الْفَصْلِ، وَإِلاَّ نَزَلَ وَسَجَدَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كُلْفَةٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَرَأَ سَجْدَةً فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، فَإِنْ شَاءَ نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَسَجَدَ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَجَدَ عَلَيْهِ اسْتِحْبَابًا، وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ فَلَا حَرَجَ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ.

قِرَاءَةُ الْإِمَامِ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي صَلَاةِ السِّرِّ:

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي صَلَاةٍ يُخَافِتُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ، لِأَنَّهُ إِذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالسُّنَّةَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ سَجَدَ فَقَدْ لَبَّسَ عَلَى الْقَوْمِ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ سَهَا عَنِ الرُّكُوعِ وَاشْتَغَلَ بِالسَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَيُسَبِّحُونَ وَلَا يُتَابِعُونَهُ، وَذَا مَكْرُوهٌ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَكْرُوهٍ كَانَ مَكْرُوهًا، وَتَرْكُ السَّبَبِ الْمُفْضِي إِلَى ذَلِكَ أَوْلَى، وَفِعْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ فَلَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَلَاهَا مَعَ ذَلِكَ سَجَدَ بِهَا لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ التِّلَاوَةُ، وَسَجَدَ الْقَوْمُ مَعَهُ لِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِمْ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ سُجُودٌ لِقِرَاءَةِ سَجْدَةٍ فِي صَلَاةِ سِرٍّ؛ لِأَنَّهُ يَخْلِطُ عَلَى الْمَأْمُومِينَ فَإِنْ سَجَدَ خُيِّرَ الْمَأْمُومُونَ بَيْنَ الْمُتَابَعَةِ لِلْإِمَامِ فِي سُجُودِهِ وَتَرْكِهَا لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا تَالِينَ وَلَا مُسْتَمِعِينَ، وَالْأَوْلَى السُّجُودُ مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ، لِعُمُومِ الْحَدِيثِ:...«وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِنْ قَرَأَ سُورَةَ سَجْدَةٍ فِي صَلَاةٍ سِرِّيَّةٍ اسْتُحِبَّ لَهُ تَرْكُ قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ، فَإِنْ قَرَأَهَا جَهَرَ بِهَا نَدْبًا، فَيَعْلَمُ الْمَأْمُومُونَ سَبَبَ سُجُودِهِ وَيَتْبَعُونَهُ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ بِقِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَسَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ اتَّبَعَ الْمَأْمُومُونَ الْإِمَامَ فِي سُجُودِهِ وُجُوبًا غَيْرَ شَرْطٍ..عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ سَهْوِ الْإِمَامِ، وَعِنْدَ سَحْنُونٍ: يُمْتَنَعُ أَنْ يَتْبَعُوهُ لِاحْتِمَالِ سَهْوِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتْبَعُوهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ لَيْسَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُقْتَدَى بِهِ فِيهَا أَصَالَةً، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ الَّذِي لَيْسَ شَرْطًا لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ قِرَاءَةُ آيَةِ السَّجْدَةِ وَلَوْ فِي صَلَاةٍ سِرِّيَّةٍ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَأْخِيرُ السُّجُودِ لِلتِّلَاوَةِ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ لِئَلاَّ يُشَوِّشَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَمَحَلُّهُ إِنْ قَصُرَ الْفَصْلُ.قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَيُؤْخَذُ مِنَ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْجَهْرِيَّةَ كَذَلِكَ إِذَا بَعُدَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ عَنِ الْإِمَامِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ قِرَاءَتَهُ وَلَا يُشَاهِدُونَ أَفْعَالَهُ، أَوْ أَخْفَى جَهْرَهُ، أَوْ وُجِدَ حَائِلٌ أَوْ صَمَمٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَلَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ السُّجُودَ لِلتِّلَاوَةِ سُنَّ لِلْمَأْمُومِ السُّجُودُ بَعْدَ السَّلَامِ إِنْ قَصُرَ الْفَصْلُ، وَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سَجَدَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ لِلتِّلَاوَةِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُسْمِعُهُمْ أَحْيَانًا الْآيَةَ، فَلَعَلَّهُ أَسْمَعَهُمْ آيَتَهَا مَعَ قِلَّتِهِمْ فَأَمِنَ عَلَيْهِمُ التَّشْوِيشَ، أَوْ قَصَدَ بَيَانَ جَوَازِ ذَلِكَ.

وَقْتُ أَدَاءِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ:

23- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ: فَإِنْ كَانَتْ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ- أَيْ وُجُوبِ السَّجْدَةِ- مُطْلَقَةٌ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ فَتَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا تَنْزِيهًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ مَكْرُوهًا، لِأَنَّهُ بِطُولِ الزَّمَانِ قَدْ يَنْسَاهَا، وَعِنْدَمَا يُؤَدِّيهَا بَعْدَ وَقْتِ الْقِرَاءَةِ يَكْفِيهِ أَنْ يَسْجُدَ عَدَدَ مَا عَلَيْهِ دُونَ تَعْيِينٍ وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا.

أَمَّا إِنْ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ- أَيْ عَلَى الْفَوْرِ- لِقِيَامِ دَلِيلِهِ وَهُوَ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَالْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَصَارَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا، وَلِذَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ مُضَيَّقًا كَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَمُقْتَضَى التَّضْيِيقِ فِي أَدَائِهَا حَالَ كَوْنِهَا فِي الصَّلَاةِ أَلاَّ تَطُولَ الْمُدَّةُ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالسَّجْدَةِ، فَإِذَا مَا طَالَتْ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي حَيِّزِ الْقَضَاءِ وَصَارَ آثِمًا بِالتَّفْوِيتِ عَنِ الْوَقْتِ.

وَكُلُّ سَجْدَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ تُؤَدَّ فِيهَا سَقَطَتْ وَلَمْ يَبْقَ السُّجُودُ لَهَا مَشْرُوعًا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، وَأَثِمَ مَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ، وَذَلِكَ إِذَا تَرَكَهَا عَمْدًا حَتَّى سَلَّمَ وَخَرَجَ مِنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا سَهْوًا وَتَذَكَّرَهَا وَلَوْ بَعْدَ السَّلَامِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ مُنَافِيًا فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهَا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.

قَالَ الزَّرْقَانِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَطَهِّرَ وَقْتَ جَوَازٍ إِذَا قَرَأَهَا وَلَمْ يَسْجُدْهَا يُطَالَبُ بِسُجُودِهَا مَا دَامَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَفِي وَقْتِ الْجَوَازِ، وَإِلاَّ لَمْ يُطَالَبْ بِقَضَائِهَا لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْفَرَائِضِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ عَقِبَ قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ أَوِ اسْتِمَاعِهَا، فَإِنْ أَخَّرَ وَقَصُرَ الْفَصْلُ سَجَدَ، وَإِنْ طَالَ فَاتَتْ، وَهَلْ تُقْضَى؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا لَا تُقْضَى؛ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْكُسُوفِ، وَضَبْطُ طُولِ الْفَصْلِ أَوْ قِصَرِهِ بِالْعُرْفِ.وَلَوْ قَرَأَ سَجْدَةً فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا سَجَدَ بَعْدَ سَلَامِهِ إِنْ قَصُرَ الْفَصْلُ، فَإِنْ طَالَ فَفِيهِ الْخِلَافُ، وَلَوْ كَانَ الْقَارِئُ أَوِ الْمُسْتَمِعُ مُحْدِثًا حَالَ الْقِرَاءَةِ فَإِنْ تَطَهَّرَ عَنْ قُرْبٍ سَجَدَ، وَإِلاَّ فَالْقَضَاءُ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي فَقَرَأَ قَارِئٌ السَّجْدَةَ وَسَمِعَهُ فَلَا يَسْجُدُ، فَإِنْ سَجَدَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ وَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سُجُودِهِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ لِأَنَّ قِرَاءَةَ غَيْرِ إِمَامِهِ لَا تَقْتَضِي سُجُودَهُ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَا يَقْتَضِي السُّجُودَ أَدَاءً فَالْقَضَاءُ بَعِيدٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ السُّجُودُ لِلْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ لَهُ وَلَوْ كَانَ السُّجُودُ بَعْدَ التِّلَاوَةِ وَالِاسْتِمَاعِ مَعَ قِصَرِ فَصْلٍ بَيْنَ السُّجُودِ وَسَبَبِهِ، فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ لَمْ يَسْجُدْ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، وَيَتَيَمَّمُ مُحْدِثٌ وَيَسْجُدُ مَعَ قِصَرِ الْفَصْلِ.

تَكْرَارُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ:

24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَكْرَارِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ بِتَكْرَارِ التِّلَاوَةِ أَوِ الِاسْتِمَاعِ أَوْ عَدَمِ تَكْرَارِهِ بِتَكْرَارِهِمَا..وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَدَاخُلٍ) ف 11 ج 11/ 86

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


36-موسوعة الفقه الكويتية (سماد)

سَمَاد

التَّعْرِيفُ:

1- السَّمَادُ مَا تُسَمَّدُ بِهِ الْأَرْضُ، مِنْ سَمَّدَ الْأَرْضَ؛ أَيْ أَصْلَحَهَا بِالسَّمَادِ.

وَتَسْمِيدُ الْأَرْضِ: أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا السَّمَادَ.

وَالسَّمَادُ مَا يُطْرَحُ فِي أُصُولِ الزَّرْعِ وَالْخُضَرِ مِنْ تُرَابٍ وَسِرْجِينٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِيَجُودَ نَبَاتُهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أ- الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ السَّمَادِ وَنَجَاسَتِهِ:

2- الْأَسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ رَجِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا مِنْ غَيْرِ الطُّيُورِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَتِهَا.

أَمَّا الْأَسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، وَهِيَ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ كَالشَّاهِينِ وَالْبَازِي، فَهِيَ نَجِسَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى طَهَارَتِهَا.

أَمَّا الْأَسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ رَجِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُؤْكَلُ لَحْمُهَا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا إِلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ مِنَ الطُّيُورِ أَوْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ طَهَارَةَ سَمَادِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِعَدَمِ أَكْلِهِ لِلنَّجَاسَاتِ، فَإِنْ أَكَلَ نَجِسًا فَسَمَادُهُ نَجِسٌ عِنْدَهُمْ أَيْضًا.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ رَجِيعَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، سَوَاءٌ الْمَأْكُولَةُ لُحُومُهَا أَمْ غَيْرُ الْمَأْكُولَةِ مِنْ طُيُورٍ أَوْ غَيْرِهَا نَجِسٌ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ مَا عَدَا زُفَرَ وَمُحَمَّدًا إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا ذَرْقَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَعَدُّوهُ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ.

وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ فِي الْمَسْأَلَةِ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (رَوْث، عَذِرَة، زِبْل، نَجَاسَة).

حُكْمُ التَّسْمِيدِ بِالنَّجَاسَةِ وَالْأَكْلِ مِنْ ثِمَارِ الْأَشْجَارِ الْمُسَمَّدَةِ بِهَا:

3- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الطَّاهِرِ الزَّرْعَ الَّذِي سُقِيَ بِنَجَسٍ أَوْ نَبَتَ مِنْ بَذْرٍ نَجِسٍ وَظَاهِرُهُ نَجَسٌ فَيُغْسَلُ قَبْلَ أَكْلِهِ وَإِذَا سَنْبَلَ فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ قَطْعًا وَلَا حَاجَةَ إِلَى غَسْلِهَا، وَهَكَذَا الْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ وَشَبِيهُهُمَا يَكُونُ طَاهِرًا وَلَا حَاجَةَ إِلَى غَسْلِهِ.وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ رَوْثَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَمْ يُجِيزُوا التَّسْمِيدَ بِأَيٍّ مِنْهُمَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسْمِيدُ بِالنَّجَاسَاتِ، وَالزُّرُوعُ الْمَسْقِيَّةُ بِالنَّجَاسَاتِ لَا تَحْرُمُ وَلَا تُكْرَهُ.

وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ تَحْرُمُ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: كُنَّا نُكْرِي أَرَاضِيَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَدْمُلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ وَلِأَنَّهُ تُتْرَكُ أَجْزَاءُ النَّبَاتِ بِالنَّجَاسَةِ، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ النَّجِسَ عِنْدَهُمْ.وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُمُ وَلَا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيلُ فِي بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ لَحْمًا وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- يَدْمُلُ أَرْضَهُ بِالْعَرَّةِ وَيَقُولُ: مِكْتَلُ عَرَّةٍ مِكْتَلُ بُرَّةٍ وَالْعَرَّةُ عَذِرَةُ النَّاسِ.ا هـ.

ب- بَيْعُ السَّمَادِ:

4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ السَّمَادِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمَأْكُولَةِ لُحُومُهَا أَمْ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَرِهُوا بَيْعَ الْعَذِرَةِ (رَجِيعِ بَنِي آدَمَ) خَالِصَةً بِخِلَافِ مَا خُلِطَ مِنْهَا بِالتُّرَابِ أَوِ الرَّمَادِ فَلَا كَرَاهَةَ.

وَفَصَّلَ (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا: بِجَوَازِ بَيْعِ الزِّبْلِ وَالسِّرْقِينِ وَالْأَسْمِدَةِ الطَّاهِرَةِ كَخُرْءِ الْحَمَامِ، وَخِثْيِ الْبَقَرِ وَبَعْرِ الْإِبِلِ وَنَحْوِهَا.

أَمَّا الْأَسْمِدَةُ النَّجِسَةُ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا حَيْثُ أَوْرَدُوا فِي بَابِ الْبَيْعِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا هُوَ نَجَاسَةٌ أَصْلِيَّةٌ أَوْ لَا يُمْكِنُ طَهَارَتُهُ كَزِبْلٍ مِنْ غَيْرِ مُبَاحٍ وَذَلِكَ لِاشْتِرَاطِهِمُ الطَّهَارَةَ فِي الْبَيْعِ، لَكِنِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الزِّبْلِ (الْأَسْمِدَةِ) غَيْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ عَذِرَةِ بَنِي آدَمَ وَذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْأَسْمِدَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ نَجَسٌ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ النَّجَسِ سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ تَطْهِيرُهُ كَسِرْجِينٍ وَأَسْمِدَةٍ وَغَيْرِهَا. (ر: نَجَاسَة).

ج- السَّمَادُ فِي الْمُزَارَعَةِ أَوِ الْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِهَا:

5- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الزِّرَاعَةِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكُ يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ تَسْمِيدُ الْأَرْضِ بِالزِّبْلِ، فَشِرَاءُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَمَلِ فَجَرَى مَجْرَى مَا يُلَقَّحُ بِهِ، وَتَفْرِيقُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْعَامِلِ كَالتَّلْقِيحِ.فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ تَأْكِيدًا، أَمَّا إِنْ شُرِطَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْءٌ مِمَّا يَلْزَمُ الْآخَرَ كَاشْتِرَاطِ شِرَاءِ السَّمَادِ عَلَى الْعَامِلِ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَأَفْسَدَهُ كَالْمُضَارَبَةِ إِذَا شُرِطَ الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ قَوْلَهُمْ: كُلُّ شَرْطٍ يَنْتَفِعُ بِهِ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يُفْسِدُهَا كَطَرْحِ السِّرْقِينِ (السَّمَادِ) فِي الْأَرْضِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


37-موسوعة الفقه الكويتية (شارب)

شَارِب

التَّعْرِيفُ:

1- الشَّارِبُ: اسْمُ فَاعِلِ شَرِبَ، يُقَالُ: شَرِبَ الْمَاءَ أَوْ غَيْرَهُ شُرْبًا فَهُوَ شَارِبٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}.

وَرَجُلٌ شَارِبٌ وَشَرُوبٌ وَشَرَّابٌ وَشِرِّيبٌ: مُولَعٌ بِالشَّرَابِ، كَخِمِّيرٍ، وَالشَّرْبُ وَالشُّرُوبُ: الْقَوْمُ يَشْرَبُونَ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّرَابِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الشَّرْبُ اسْمُ جَمْعٍ لِشَارِبٍ، كَرَكْبٍ وَرَجْلٍ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ، وَالشُّرُوبُ جَمْعُ شَارِبٍ، كَشَاهِدٍ وَشُهُودٍ.

وَالشَّارِبُ- أَيْضًا- اسْمٌ لِلشَّعْرِ الَّذِي يَسِيلُ عَلَى الْفَمِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا يَكَادُ يُثَنَّى، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَالَ الْكِلَابِيُّونَ: شَارِبَانِ، بِاعْتِبَارِ الطَّرَفَيْنِ، وَالْجَمْعُ شَوَارِبُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- اللِّحْيَةُ:

2- اللِّحْيَةُ: وَهِيَ- بِكَسْرِ اللاَّمِ وَفَتْحِهَا- الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الذَّقَنِ خَاصَّةً، وَالْجَمْعُ: لِحًى وَلُحِيٌّ مَا يَنْبُتُ مِنَ الشَّعْرِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّحْيِ، وَهُوَ فَكُّ الْحَنَكِ الْأَسْفَلُ.

وَالشَّارِبُ وَاللِّحْيَةُ كِلَاهُمَا مِنْ شَعْرِ الْوَجْهِ، لَكِنِ الشَّارِبُ يَكُونُ عَلَى الشَّفَةِ الْعُلْيَا، وَاللِّحْيَةُ تَكُونُ عَلَى الذَّقَنِ.

ب- الْعِذَارُ:

3- الْعِذَارُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ: هُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ الْمُحَاذِي لِلْأُذُنَيْنِ بَيْنَ الصُّدْغِ وَالْعَارِضِ وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ لِلْأَمْرَدِ غَالِبًا.

وَالشَّارِبُ وَالْعِذَارُ كِلَاهُمَا مِنْ شَعْرِ الْوَجْهِ، لَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنَ الْوَجْهِ.

ج- الْعَنْفَقَةُ:

4- الْعَنْفَقَةُ: شُعَيْرَاتٌ بَيْنَ الشَّفَةِ السُّفْلَى وَالذَّقَنِ، وَقِيلَ: الْعَنْفَقَةُ مَا بَيْنَ الذَّقَنِ وَطَرَفِ الشَّفَةِ السُّفْلَى كَانَ عَلَيْهَا شَعْرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقِيلَ: الْعَنْفَقَةُ مَا نَبَتَ عَلَى الشَّفَةِ السُّفْلَى مِنَ الشَّعْرِ.

د- الْعُثْنُونُ:

5- الْعُثْنُونُ: اللِّحْيَةُ أَوْ مَا فَضَلَ مِنْهَا بَعْدَ الْعَارِضَيْنِ، أَوْ مَا نَبَتَ عَلَى الذَّقَنِ وَتَحْتَهُ سُفْلًا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّارِبِ (مِنَ الشُّرْبِ):

6- يُطْلَقُ الشَّارِبُ- كَمَا سَبَقَ فِي التَّعْرِيفِ- عَلَى مَنْ شَرِبَ الْمَاءَ أَوْ غَيْرَهُ، وَلَكِنِ الشَّارِبُ الَّذِي عُنِيَ الْفُقَهَاءُ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ هُوَ شَارِبُ الْخَمْرِ وَسَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ.

وَشُرْبُ الْخَمْرِ مِنْ كَبَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، بَلْ إِنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْكَبَائِرِ كَمَا قَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ- رضي الله عنهما- وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهَا، قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.انْظُرْ: (أَشْرِبَة، سُكْر).

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّارِبِ (الشَّعْرِ عَلَى الشَّفَةِ الْعُلْيَا):

أَوَّلًا: تَطْهِيرُ الشَّارِبِ:

أ- فِي الْوُضُوءِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الشَّارِبِ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَعَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ بَشَرَةِ الشَّارِبِ إِذَا كَانَ خَفِيفًا بِحَيْثُ لَا يَسْتُرُ شَعْرُ الشَّارِبِ الْبَشَرَةَ؛ أَيِ الْجِلْدَ تَحْتَهُ، فَإِنْ لَمْ تُغْسَلِ الْبَشَرَةُ- أَيْ لَمْ يَصِلِ الْمَاءُ إِلَيْهَا- فَلَا يُجْزِئُ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ.

وَلَكِنِ الْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ إيصَالِ الْمَاءِ إِلَى بَشَرَةِ الشَّارِبِ فِي الْوُضُوءِ إِذَا كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْلُ بَاطِنِ شَعْرِ الشَّارِبِ وَإِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ تَحْتَهُ إِذَا كَانَ كَثِيفًا، لَكِنِ الشَّارِبُ إِذَا كَانَ طَوِيلًا يَسْتُرُ حُمْرَةَ الشَّفَتَيْنِ وَجَبَ تَخْلِيلُهُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ ظَاهِرًا وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الشَّفَةِ أَوْ بَعْضِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ كَثِيفًا، وَتَخْلِيلُهُ مُحَقِّقٌ لِوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ مَعَ غَسْلِ الْوَجْهِ غَسْلُ ظَاهِرِ الشَّعْرِ إِذَا كَانَ كَثِيفًا، وَيُكْرَهُ تَخْلِيلُ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ مَعَ غَسْلِ الْوَجْهِ غَسْلُ الشَّارِبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ تَحْتَهُ وَإِنْ كَثُفَ الشَّعْرُ؛ لِأَنَّ كَثَافَتَهُ نَادِرَةٌ فَأُلْحِقَ بِالْغَالِبِ، وَالْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ: الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِمَّا يَلِي الْوَجْهَ، وَبِالْبَاطِنِ: خِلَالُ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةُ الَّتِي تَحْتَهُ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، وَالْبَاطِنُ مَا بَيْنَهُمَا وَأُصُولُ الشَّعْرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الشَّارِبِ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ.فَإِنْ كَانَ شَعْرُ الشَّارِبِ كَثِيفًا لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ أَجْزَأَ غَسْلُ ظَاهِرِهِ، وَيُسَنُّ تَخْلِيلُ الشَّارِبِ إِذَا كَانَ كَثِيفًا وَغَسْلُ بَاطِنِهِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَكَرَ فِي الشَّارِبِ وَجْهًا آخَرَ فِي وُجُوبِ غَسْلِ بَاطِنِهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ عَادَةً، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ كَانَ نَادِرًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ.

ب- فِي الْغُسْلِ:

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْغُسْلِ تَعْمِيمُ الشَّارِبِ شَعْرًا وَبَشَرَةً بِالْمَاءِ، كَثِيفًا كَانَ الشَّارِبُ أَوْ خَفِيفًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ».وَلِمَا رَوَى عَلِيٌّ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهِ مِنَ النَّارِ كَذَا وَكَذَا» قَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: «فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ شَعْرِي ثَلَاثًا» وَكَانَ يَجُزُّ شَعْرَهُ.وَلِأَنَّ الْحَدَثَ فِي الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ عَمَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ فَوَجَبَ تَعْمِيمُهُ بِالْغُسْلِ، وَلِأَنَّ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ بَشَرَةٌ أَمْكَنَ إيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَزِمَ كَسَائِرِ بَشَرَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ فِي مَحَلِّ الْغُسْلِ فَوَجَبَ غَسْلُهُ؛ وَلِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ غَسْلِ الْبَشَرَةِ غَسْلُهُ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِهِ.

ج- إِعَادَةُ التَّطَهُّرِ بَعْدَ حَلْقِ الشَّارِبِ:

9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ ثُمَّ حَلَقَ شَارِبَهُ أَوْ قَصَّهُ، لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ غَسْلِ مَحَلِّ الْحَلْقِ أَوِ الْقَصِّ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِيمَا يَشْمَلُ هَذِهِ الْحَالَةَ: وَمَتَى غَسَلَ هَذِهِ الشُّعُورَ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي طَهَارَتِهِ، قَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: مَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلاَّ طَهَارَةً، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْغَسْلِ انْتَقَلَ إِلَى الشَّعْرِ أَصْلًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْبَشَرَةَ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجْزِهِ، بِخِلَافِ الْخُفَّيْنِ فَإِنَّ مَسْحَهُمَا بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فَيُجْزِئُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ دُونَ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ.

وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ ظُهُورَ بَشَرَةِ الْوَجْهِ بَعْدَ غَسْلِ شَعْرِهِ يُوجِبُ غَسْلَهَا قِيَاسًا عَلَى ظُهُورِ قَدَمِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ.

ثَانِيًا: الْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ مِنَ الشَّارِبِ مِنَ الْفِطْرَةِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ- أَوْ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ- الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ».

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَتَفْسِيرُ الْفِطْرَةِ بِالسُّنَّةِ هُنَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ قَصُّ الشَّوَارِبِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ».

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ مِنَ الشَّارِبِ مِنَ السُّنَّةِ لِلْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا».

11- لَكِنِ الْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي ضَابِطِ الْأَخْذِ مِنَ الشَّارِبِ، هَلْ يَكُونُ بِالْقَصِّ أَمْ بِالْحَلْقِ أَمْ بِالْإِحْفَاءِ؟.

فَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُسَنُّ فِي الشَّارِبِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ الْخِلَافَ فَقَالَ: الْمَذْهَبُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ الْقَصُّ، قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْقَصُّ حَسَنٌ وَالْحَلْقُ أَحْسَنُ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ.

وَأَمَّا طَرَفَا الشَّارِبِ، وَهُمَا السَّبَالَانِ، فَقِيلَ: هُمَا مِنْهُ، وَقِيلَ: مِنَ اللِّحْيَةِ، وَعَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِمَا، وَقِيلَ: يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ.وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَوْفِيرَ الشَّارِبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْغَازِي مَنْدُوبٌ؛ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ.

وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ قَصُّ الشَّارِبِ كُلَّ أُسْبُوعٍ، وَالْأَفْضَلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ لِمَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا تُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وَهُوَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لَيْسَ لِلرَّأْيِ فِيهَا مَدْخَلٌ فَيَكُونُ كَالْمَرْفُوعِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: قَصُّ الشَّارِبِ مِنَ الْفِطْرَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «قُصُّوا الشَّوَارِبَ» وَهُوَ سُنَّةٌ خَفِيفَةٌ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ لِلْوُجُوبِ، وَالسُّنَّةُ: الْقَصُّ لَا الْإِحْفَاءُ، وَالشَّارِبُ لَا يُحْلَقُ بَلْ يُقَصُّ، قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: يُؤْخَذُ مِنَ الشَّارِبِ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ وَهُوَ الْإِطَارُ، وَلَا يَجُزُّهُ فَيُمَثِّلَ بِنَفْسِهِ.

وَفِي قَصِّ السَّبَالَتَيْنِ عِنْدَهُمْ قَوْلَانِ.

وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ حَلْقُ مَا خُلِقَ لَهَا مِنْ شَارِبٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: قَصُّ الشَّارِبِ سُنَّةٌ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ فِي قَصِّ الشَّارِبِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ».وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقُصَّ شَارِبَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يَقُصَّهُ لَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ هَتْكِ مُرُوءَةٍ.

وَأَمَّا حَدُّ مَا يَقُصُّهُ: فَالْمُخْتَارُ أَنْ يَقُصَّ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ، وَلَا يَحُفُّهُ مِنْ أَصْلِهِ، قَالُوا: وَحَدِيثُ: «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ...» مَحْمُولٌ عَلَى مَا طَالَ عَلَى الشَّفَتَيْنِ، وَعَلَى الْحَفِّ مِنْ طَرَفِ الشَّفَةِ لَا مِنْ أَصْلِ الشَّعْرِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُصُّ أَوْ يَأْخُذُ مِنْ شَارِبِهِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ يَفْعَلُهُ»، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ خَمْسَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ وَيَعْفُونَ لِحَاهُمْ وَيُصَغِّرُونَهَا: أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ عَامِرٍ الثَّمَالِيُّ، وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيُّ، كَانُوا يَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ مَعَ طَرَفِ الشَّفَةِ.

وَقَالَ الْمُحَاطِيُّ وَغَيْرُهُ: يُكْرَهُ حَلْقُ الشَّارِبِ.

وَقَالَ الْبَاجُورِيُّ: إِحْفَاءُ الشَّارِبِ بِالْحَلْقِ أَوِ الْقَصِّ مَكْرُوهٌ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَحْلِقَ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى تَظْهَرَ الشَّفَةُ، وَأَنْ يَقُصَّ مِنْهُ شَيْئًا وَيُبْقِيَ مِنْهُ شَيْئًا.

وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ أَبِي حَامِدٍ وَالصَّيْمَرِيِّ؛ اسْتِحْبَابَ الْإِحْفَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ نَجِدْ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصًّا، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ كَالْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ كَانَا يُحْفِيَانِ شَوَارِبَهُمَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا أَخَذَا ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَزَعَمَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ.

وَلَا بَأْسَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِتَرْكِ السَّبَالَتَيْنِ، وَهُمَا طَرَفَا الشَّارِبِ، لِفِعْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُمَا لَا يَسْتُرَانِ الْفَمَ، وَلَا يَبْقَى فِيهِمَا غَمَرُ الطَّعَامِ إِذْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا.

وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَأْخِيرُ قَصِّ الشَّارِبِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالتَّأْخِيرُ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ أَشَدُّ كَرَاهَةً لِخَبَرِ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمِ.قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَمَعْنَى الْخَبَرِ أَنَّهُمْ لَا يُؤَخِّرُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَإِنْ أَخَّرُوهَا فَلَا يُؤَخِّرُونَهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ، لَا أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَهَا إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَالْأَخْذُ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ قَصُّ الشَّارِبِ- أَيْ قَصُّ الشَّعْرِ الْمُسْتَدِيرِ عَلَى الشَّفَةِ- أَوْ قَصُّ طَرَفِهِ، وَحَفُّهُ أَوْلَى نَصًّا، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إِحْفَاءُ الشَّوَارِبِ أَنْ تُبَالِغَ فِي قَصِّهَا، وَمِنَ الشَّارِبِ السَّبَالَانِ وَهُمَا طَرَفَاهُ، لِحَدِيثِ أَحْمَدَ: «قُصُّوا سِبَالَكُمْ وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ».

وَقَالُوا: يُسَنُّ الْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ كُلَّ جُمُعَةٍ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْخُذُ أَظْفَارَهُ وَشَارِبَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ» فَإِنْ تَرَكَهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كُرِهَ لِحَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ: «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ...» إِلَخْ؛ وَعَلَّلُوا الْأَخْذَ مِنَ الشَّارِبِ كُلَّ جُمُعَةٍ بِأَنَّهُ إِذَا تُرِكَ يَصِيرُ وَحْشًا.

ثَالِثًا: الْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ:

12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُرِيدُ حُضُورَ الْجُمُعَةِ تَحْسِينُ هَيْئَتِهِ بِقَصِّ الشَّارِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْدُوبَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما- الَّذِي رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لَهَا عَلَى أَحْسَنِ وَصْفٍ، وَإِظْهَارًا لِفَضِيلَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ سَيِّدُ الْأَيَّامِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَخْذَ مِنَ الشَّارِبِ يَكُونُ قَبْلَ حُضُورِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ لِتَنَالَهُ بَرَكَةُ الصَّلَاةِ.

رَابِعًا: إِزَالَةُ الشَّارِبِ فِي الْإِحْرَامِ:

13- مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إِزَالَةُ الشَّعْرِ مِنْ جَمِيعِ بَدَنِ الْمُحْرِمِ وَمِنْهُ الشَّارِبُ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} أَيْ: شُعُورَهَا، نَصَّ عَلَى حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَعَدَّى إِلَى شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، إِذْ حَلْقُهُ يُؤْذِنُ بِالرَّفَاهِيَةِ، وَهُوَ يُنَافِي الْإِحْرَامَ، لِكَوْنِ الْمُحْرِمِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَقِيسَ عَلَى الْحَلْقِ النَّتْفُ وَالْقَلْعُ وَنَحْوُهُمَا لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ مِنْ حَيْثُ إِزَالَةُ الشَّعْرِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْحَلْقِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ أَمَّا مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ فَيُنْظَرُ فِي (إِحْرَام) (وَحَلْق).

خَامِسًا: الْأَخْذُ مِنْ شَارِبِ الْمَيِّتِ:

14- إِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ شَارِبِهِ وَلَا مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ؛ مُرَاعَاةً لِإِحْرَامِهِ، لِأَنَّهُ يَظَلُّ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فَمَاتَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا».

وَأَمَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ مِنَ الْمَوْتَى فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْأَخْذِ مِنْ شَارِبِهِ: وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ:

قَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْصُلُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَخْذِ مِنْ شَارِبِ الْمَيِّتِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَالثَّانِي: لَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ، وَالثَّالِثُ: يُسْتَحَبُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الشَّارِبُ طَوِيلًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ».وَلِأَنَّ تَرْكَهُ يُقَبِّحُ مَنْظَرَهُ، وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ مَسْنُونٌ فِي الْحَيَاةِ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ فَشُرِعَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْغُسْلِ، وَمِمَّنِ اسْتَحَبَّهُ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.وَمِمَّنْ كَرِهَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَنَقَلَهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.

وَصَرَّحَ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْأَخْذُ مِنْ شَارِبِ الْمَيِّتِ بِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ يَكُونُ قَبْلَ الْغُسْلِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ- يَعْنِي جُمْهُورَ الْأَصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- لِدَفْنِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ مَعَ الْمَيِّتِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا يُصَرُّ فِي كَفَنِهِ، وَوَافَقَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ فِي الشَّعْرِ الْمُنَتَّفِ فِي تَسْرِيحِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُهُمْ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْحَادِي: الِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ مَعَهُ إِذْ لَا أَصْلَ لَهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أُخِذَ الشَّعْرُ جُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَيِّتِ فَيُسْتَحَبُّ جَعْلُهُ فِي أَكْفَانِهِ كَأَعْضَائِهِ، فَيُغَسَّلُ وَيُجْعَلُ مَعَهُ.

سَادِسًا: أَخْذُ الْمُعْتَكِفِ مِنْ شَارِبِهِ:

15- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ فِي الِاعْتِكَافِ أَخْذُ الْمُعْتَكِفِ مِنْ شَارِبِهِ إِذَا لَمْ يُلَوِّثِ الْمَسْجِدَ بِذَلِكَ، لِعَدَمِ وُرُودِ تَرْكِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا الْأَمْرِ بِهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْإِبَاحَةِ.

لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَارِبِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ جَمَعَ مَا يَأْخُذُهُ فِي ثَوْبِهِ وَأَلْقَاهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لِحُرْمَتِهِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ اعْتِكَافَهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ مِنْهُمْ بِإِبْطَالِ الِاعْتِكَافِ بِكُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ مَنْ خَصَّ الْإِبْطَالَ بِالْكَبِيرَةِ.

وَقَالُوا: إِذَا احْتَاجَ الْمُعْتَكِفُ إِلَى قَصِّ شَارِبِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُدْنِيَ رَأْسَهُ لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَيُصْلِحُهُ، وَلَا يَخْرُجُ فِي ذَلِكَ إِلَى بَيْتِهِ وَلَا إِلَى دُكَّانِ الْحَجَّامِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ صَوْنُ الْمَسَاجِدِ عَنْ كُلِّ قَذَرٍ كَقَصِّ الشَّارِبِ وَنَحْوِهِ.

سَابِعًا: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بَعْدَ قَصِّ الشَّارِبِ:

16- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الْوُضُوءُ لِمَنْ قَصَّ شَارِبَهُ، وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ.

ثَامِنًا: الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّارِبِ:

17- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الشَّارِبِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، لِأَنَّ الشَّارِبَ تَبَعٌ لِلِّحْيَةِ فَصَارَ كَبَعْضِ أَطْرَافِهَا.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ (حُكُومَة عَدْلٍ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


38-موسوعة الفقه الكويتية (شعر وصوف ووبر)

شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الشَّعْرُ لُغَةً: نَبْتَةُ الْجِسْمِ مِمَّا لَيْسَ بِصُوفٍ وَلَا وَبَرٍ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ الشَّعْرُ زَوَائِدُ خَيْطِيَّةٌ تَظْهَرُ عَلَى جِلْدِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنَ الثَّدْيِيَّاتِ وَيُقَابِلُهُ الرِّيشُ فِي الطُّيُورِ وَالْخَرَاشِيفُ فِي الزَّوَاحِفِ، وَالْقُشُورُ فِي الْأَسْمَاكِ، وَجَمْعُهُ أَشْعَارٌ وَشُعُورٌ.وَيُقَالُ: رَجُلٌ أَشْعَرُ وَشَعِرٌ وَشَعْرَانِيٌّ إِذَا كَانَ كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ.وَالصُّوفُ مَا يَكُونُ لِلضَّأْنِ وَمَا أَشْبَهَهُ أَخَصُّ مِنْهُ، وَالصُّوفُ لِلضَّأْنِ، كَالشَّعْرِ لِلْمَعْزِ، وَالْوَبَرِ لِلْإِبِلِ.

وَالْوَبَرُ مَا يَنْبُتُ عَلَى جُلُودِ الْإِبِلِ وَالْأَرَانِبِ وَنَحْوِهَا، وَالْجَمْعُ أَوْبَارٌ، وَيُقَالُ جَمَلٌ وَبِرٌ وَأَوْبَرُ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْوَبَرِ، وَالنَّاقَةُ وَبِرَةٌ وَوَبْرَاءُ.

وَالرِّيشُ مَا يَكُونُ عَلَى أَجْسَامِ الطُّيُورِ وَأَجْنِحَتِهَا.وَقَدْ يَخُصُّ الْجُنَاحَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِهِ.وَالْفَرْوُ: جُلُودُ بَعْضِ الْحَيَوَانِ كَالدِّبَبَةِ وَالثَّعَالِبِ تُدْبَغُ وَيُتَّخَذُ مِنْهَا مَلَابِسُ لِلدِّفْءِ وَلِلزِّينَةِ وَجَمْعُهُ فِرَاءٌ.

حُكْمُ شَعْرِ الْإِنْسَانِ:

2- شَعْرُ الْإِنْسَانِ طَاهِرٌ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الشَّعْرُ مُتَّصِلًا أَمْ مُنْفَصِلًا، وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَتِهِ بِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَاوَلَ أَبَا طَلْحَةَ شَعْرَهُ فَقَسَمَهُ بَيْنَ النَّاسِ».

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْآدَمِيِّ بَيْعًا وَاسْتِعْمَالًا؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}.

فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُهَانًا مُبْتَذَلًا.

شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ:

3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ إِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً حَالَ الْحَيَاةِ.

وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَوْلِ بِطَهَارَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ حَالَ الْحَيَاةِ، وَهَذَا إِذَا جُزَّ جَزًّا وَلَمْ يُنْتَفْ.فَإِنْ نُتِفَ فَإِنَّ أُصُولَهُ نَجِسَةٌ، وَأَعْلَاهُ طَاهِرٌ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}.

وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِلِامْتِنَانِ، فَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ.

وَبِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها-: «أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ حِينَ مَرَّ بِهَا: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا».- وَفِي لَفْظٍ- «إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ لَحْمُهَا وَرُخِّصَ لَكُمْ فِي مَسْكِهَا» أَيْ جِلْدِهَا.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي الْمَيْتَةِ حَالَ الْحَيَاةِ الطَّهَارَةُ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ الْمَوْتُ النَّجَاسَةَ فِيمَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ، وَالشُّعُورُ لَا تَحُلُّهَا الْحَيَاةُ.

فَلَا يَحُلُّهَا الْمَوْتُ، وَإِذَا لَمْ يَحُلَّهَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ الْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ الْمَعْهُودِ لِعَدَمِ الْمُزِيلِ.

فَالْأَصْلُ فِي طَهَارَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ أَنَّ مَا لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ- لِأَنَّهُ لَا يُحِسُّ وَلَا يَتَأَلَّمُ- لَا تَلْحَقُهُ النَّجَاسَةُ بِالْمَوْتِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ إِلاَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ وَدُبِغَ، وَكَذَلِكَ الشَّعْرُ الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ وَهُوَ حَيٌّ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}.وَهُوَ عَامٌّ فِي الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ.وَالْمَيْتَةُ اسْمٌ لِمَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ بِدُونِ تَذْكِيَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَعَامَّةٌ فِي الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ رَاجِحَةٌ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى وَهُوَ قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}.لِأَنَّ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَرَدَ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْآيَةُ الْأُولَى وَرَدَتْ لِلِامْتِنَانِ.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ يَنْجُسُ شَعْرُهُ وَصُوفُهُ.

شَعْرُ الْمَيْتِ:

أَوَّلًا: شَعْرُ رَأْسِ الرَّجُلِ الْمَيْتِ

4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَيْتِ وَلَا تَسْرِيحِهِ، لِأَنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ يَكُونُ لِلزِّينَةِ أَوْ لِلنُّسُكِ وَالْمَيْتُ لَا نُسُكَ عَلَيْهِ وَلَا يُزَيَّنُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا مَرَّتْ بِقَوْمٍ يُسَرِّحُونَ شَعْرَ مَيْتٍ فَنَهَتْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَتْ: عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ.أَيْ: لَا تُسَرِّحُوا رَأْسَهُ بِالْمُشْطِ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّعْرَ وَيَنْتِفُهُ، وَعَبَّرَتْ بِتَنُصُّونَ وَهُوَ الْأَخْذُ بِالنَّاصِيَةِ، أَيْ مِنْهَا، تَنْفِيرًا عَنْهُ وَيَدُلُّ لِعَدَمِ الْجَوَازِ الْقِيَاسُ عَلَى الْخِتَانِ حَيْثُ يُخْتَنُ الْحَيُّ وَلَا يُخْتَنُ الْمَيِّتُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَيْتِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمُ الْجَوَازَ بِمَا إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْمَيِّتِ حَلْقُهُ أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يُعْتَادُ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ ذَا جَمَّةٍ فَلَا يُحْلَقُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ الشَّعْرَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ، وَأَجْزَاؤُهُ مُحْتَرَمَةٌ؛ فَلَا تُنْتَهَكُ بِهَذَا، وَلَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ فِي هَذَا شَيْءٌ فَكُرِهَ فِعْلُهُ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ، وَفِي اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (شَارِبٌ، وَلِحْيَةٌ).

ثَانِيًا: شَعْرُ رَأْسِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ:

5- اتَّفَقَ.جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَ ضَفَائِرَ، قَرْنَيْهَا وَنَاصِيَتَهَا، وَيُسْدَلُ خَلْفَهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُجْعَلُ عَلَى صَدْرِهَا وَيُجْعَلُ ضَفِيرَتَيْنِ فَوْقَ الْقَمِيصِ تَحْتَ اللِّفَافَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ حَيَاتِهَا يُجْعَلُ وَرَاءَ ظَهْرِهَا لِلزِّينَةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ رُبَّمَا انْتَشَرَ الْكَفَنُ؛ فَيُجْعَلُ عَلَى صَدْرِهَا.

وَدَلِيلُ اسْتِحْبَابِ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ مَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ- رضي الله عنها- «أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، نَقَضْنَهُ ثُمَّ غَسَلْنَهُ ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ»، وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «أَنَّهُنَّ أَلْقَيْنَهَا خَلْفَهَا».

وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُفْعَلَ فِي الْمَيِّتِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّرْعِ مُحَقَّقٍ، فَالظَّاهِرُ إِطْلَاعُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَا فَعَلَتْ وَتَقْرِيرُهُ لَهُ.

وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ».

ثَالِثًا: شَعْرُ سَائِرِ الْبَدَنِ مِنَ الْمَيِّتِ كَاللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَشَعْرِ الْإِبْطِ وَالْعَانَةِ:

6- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ إِلَى كَرَاهَةِ حَلْقِ غَيْرِ مَا يَحْرُمُ حَلْقُهُ حَالَ الْحَيَاةِ.وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ،

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ.وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي كَرَاهَةِ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّعُورَ إِذَا أُزِيلَتْ أَنَّهَا تُصَرُّ وَتُضَمُّ مَعَ الْمَيِّتِ فِي كَفَنِهِ وَيُدْفَنُ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ آخَرَ: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ لَا تُدْفَنَ مَعَهُ بَلْ تُوَارَى فِي الْأَرْضِ فِي غَيْرِ الْقَبْرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ وَكَذَا تَحْرِيمُ حَلْقِ شَعْرِ الْعَانَةِ مِنَ الْمَيِّتِ لِمَا فِيهِ مِنْ لَمْسِ الْعَوْرَةِ وَرُبَّمَا احْتَاجَ إِلَى نَظَرِهَا، وَالنَّظَرُ مُحَرَّمٌ فَلَا يُرْتَكَبُ مِنْ أَجْلِ مَنْدُوبٍ، وَيُسَنُّ أَخْذُ شَعْرِ الْإِبِطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ.

مَسْحُ الشَّعْرِ فِي الْوُضُوءِ:

7- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ وَحْدَهُ مِنْ مَنَابِتِ الشَّعْرِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْمُقَدَّمِ إِلَى نَقْرَةِ الْقَفَا مَعَ مَسْحِ شَعْرِ صُدْغَيْهِ فَمَا فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاشِئِ مِنَ الْوَجْهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُمْسَحَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ وَلَوْ قَلَّ فَلَا يَتَقَدَّرُ وُجُوبُهُ بِشَيْءٍ بَلْ يَكْفِي فِيهِ مَا يُمْكِنُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْمَسْحِ هُوَ مَسْحُ مِقْدَارِ النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبُعُ الرَّأْسِ لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ وَبَيَانُ الْأَدِلَّةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ).

نَقْضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الشَّعْرِ:

8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُنْقَضُ بِلَمْسِ الشَّعْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ ذَلِكَ لِلشَّهْوَةِ غَالِبًا، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ اللَّذَّةُ وَتَثُورُ الشَّهْوَةُ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ لِلْإِحْسَاسِ.وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ لَمْسِ الشَّعْرِ وَالسِّنِّ وَالظُّفُرِ

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُقَابِلِ الْأَصَحِّ: يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الرَّجُلِ بِلَمْسِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الشَّعْرَ لَهُ حُكْمُ الْبَدَنِ فِي الْحِلِّ بِالنِّكَاحِ وَوُجُوبِ غَسْلِهِ بِالْجَنَابَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْتَقَضُ بِلَمْسِ الشَّعْرِ لِمَنْ يَلْتَذُّ بِهِ إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى.وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إِذَا كَانَ اللَّمْسُ بِحَائِلٍ خَفِيفٍ أَوْ كَثِيفٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ نَقْصِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الشَّعْرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي عَدَمِ النَّقْضِ بِالْمَسِّ مُطْلَقًا مَا لَمْ يُنْزِلْ.

غَسْلُ شَعْرِ الرَّأْسِ مِنَ الْجِنَابَةِ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ شَعْرِ الرَّأْسِ بِالْمَاءِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مُسْتَرْسِلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ» وَعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ» قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي، وَكَانَ يَجُزُّ شَعْرَهُ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَقْضِ ضَفَائِرِ الْمَرْأَةِ فِي الْغُسْلِ:

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ نَقْضُ الضُّفُرِ إِنْ كَانَ الْمَاءُ يَصِلُ إِلَى أُصُولِ شَعْرِهَا مِنْ غَيْرِ نَقْضٍ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلاَّ بِالنَّقْضِ لَزِمَهَا نَقْضُهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَغُسْلُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ «أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضُفُرَ رَأْسِي؛ أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضِ وَلِلْجَنَابَةِ؟ قَالَ: لَا.إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ».وَهُوَ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ- بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ: إِفْرَادِ ذِكْرِ الْجَنَابَةِ وَإِفْرَادِ ذِكْرِ الْحَيْضِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى أُصُولِ الشَّعْرِ بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ مِنْ وُجُوبِ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى أُصُولِ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ نَقْضِ الْمَرْأَةِ شَعْرَهَا فِي غُسْلِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.وَلَا يَجِبُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ إِذَا رَوَتْ أُصُولَ شَعْرِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مَشْدُودًا بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ تَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ أَوْ إِلَى بَاطِنِ الشَّعْرِ، وَالنَّقْضُ مُطْلَقًا مُسْتَحَبٌّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: إِذَا كُنْتِ حَائِضًا خُذِي مَاءَكِ وَسِدْرَكِ وَامْتَشِطِي».وَلَا يَكُونُ الْمَشْطُ إِلاَّ فِي شَعْرٍ غَيْرِ مَضْفُورٍ.وَلِلْبُخَارِيِّ: «انْفُضِي شَعْرَكِ وَامْتَشِطِي».

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «انْفُضِي شَعْرَكِ وَاغْتَسِلِي»

لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ نَقْضِ الشَّعْرِ لِتَحَقُّقِ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ وَعُفِيَ عَنْهُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ فَيَشُقُّ نَقْضُ الشَّعْرِ.

حَلْقُ شَعْرِ الْمَوْلُودِ:

10- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اسْتِحْبَابِ حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ السَّابِعِ، وَالتَّصَدُّقِ بِزِنَةِ شَعْرِهِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِضَّةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ تَحَرَّى وَتَصَدَّقَ بِهِ.وَيَكُونُ الْحَلْقُ بَعْدَ ذَبْحِ الْعَقِيقَةِ.

كَمَا وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِفَاطِمَةَ لَمَّا وَلَدَتِ الْحَسَنَ: احْلِقِي رَأْسَهُ وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْأَوْفَاضِ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الْمَوْلُودِ مُبَاحٌ، لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلَا وَاجِبٍ، وَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ الْعَقِيقَةَ مُبَاحَةٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «سُئِلَ عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ.مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَنْسُكْ عَنْهُ.عَنِ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ مُكَافَأَتَاهُ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةً» وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ الْعَقِيقَةِ سُنَّةً لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- عَلَّقَ الْعَقَّ بِالْمَشِيئَةِ وَهَذَا أَمَارَةُ الْإِبَاحَةِ.

وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّهَا نُسِخَتْ بِالْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَقِيقَةَ كَانَتْ مِنَ الْفَضَائِلِ فَعَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَتْ بِالْأُضْحِيَّةِ، فَمَتَى نُسِخَ الْفَضْلُ لَا يَبْقَى إِلاَّ الْكَرَاهَةُ.

النَّظَرُ إِلَى شَعْرِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى شَعْرِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهَا إِبْدَاؤُهُ لِلْأَجَانِبِ عَنْهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا.

بَيْعُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ:

12- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «نُهِيَ أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعِمَ وَلَا صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ وَلَا لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ».

وَلِأَنَّ الصُّوفَ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ فَلَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَأَعْضَائِهِ، وَلِأَنَّ الصُّوفَ عَلَى الظَّهْرِ قَبْلَ الْجَزِّ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الْحَيَوَانِ لِقِيَامِهِ بِهِ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ.وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الشَّاةِ فَلَا يُفْرَدُ بِالْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَلَ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ بِالْجَزَزِ تَحَرِّيًا، وَبِالْوَزْنِ مَعَ رُؤْيَةِ الْغَنَمِ عَلَى أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ الْجَزُّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ.

السَّلَمُ فِي الصُّوفِ:

13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ سَلَمًا بِالْوَزْنِ لَا بِالْجَزَزِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْجَزَزِ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ- عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ-

وَيَجِبُ بَيَانُ نَوْعِ الصُّوفِ وَأَصْلِهِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى لِأَنَّ صُوفَ الْإِنَاثِ أَنْعَمُ، وَيَذْكُرُ لَوْنَهُ وَوَقْتَهُ هَلْ هُوَ خَرِيفِيٌّ أَوْ رَبِيعِيٌّ، وَطُولَهُ وَقِصَرَهُ وَوَزْنَهُ وَلَا يَقْبَلُ إِلاَّ مُنَقًّى مِنَ الشَّعْرِ وَنَحْوِهِ، كَالشَّوْكِ وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ غَسْلِهِ.

وَصْلُ الشَّعْرِ:

14- يَحْرُمُ وَصْلُ شَعْرِ الْمَرْأَةِ بِشَعْرٍ نَجِسٍ أَوْ بِشَعْرِ آدَمِيٍّ.سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُزَوَّجَةُ وَغَيْرُهَا وَسَوَاءٌ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ».

وَاللَّعْنَةُ عَلَى الشَّيْءِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَعِلَّةُ التَّحْرِيمِ مَا فِيهِ مِنَ التَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ بِتَغَيُّرِ خَلْقِ اللَّهِ.

وَالْوَاصِلَةُ الَّتِي تَصِلُ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَالَّتِي يُوصَلُ شَعْرُهَا بِشَعْرٍ آخَرَ زُورًا، وَالْمُسْتَوْصِلَةُ الَّتِي يُوصَلُ لَهَا ذَلِكَ بِطَلَبِهَا.لِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْآدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُدْفَنَ شَعْرُهُ إِذَا انْفَصَلَ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَصْلُ بِغَيْرِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ وَهُوَ طَاهِرٌ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ إِلَى حُرْمَةِ الْوَصْلِ إِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يُكْرَهُ.

أَمَّا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: إِنْ وَصَلَتْ بِإِذْنِهِ جَازَ وَإِلاَّ حَرُمَ.

الثَّانِي: يَحْرُمُ مُطْلَقًا.الثَّالِثُ: لَا يَحْرُمُ وَلَا يُكْرَهُ مُطْلَقًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُرَخَّصُ لِلْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ تَتَّخِذُهُ لِتَزِيدَ قُرُونَهَا.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: لَيْسَتِ الْوَاصِلَةُ بِالَّتِي تَعْنُونَ، وَلَا بَأْسَ أَنْ تَعْرَى الْمَرْأَةُ عَنِ الشَّعْرِ فَتَصِلَ قَرْنًا مِنْ قُرُونِهَا بِصُوفٍ أَسْوَدَ وَإِنَّمَا الْوَاصِلَةُ الَّتِي تَكُونُ بَغِيًّا فِي شَبِيبَتِهَا فَإِذَا أَسَنَّتْ وَصَلَتْهَا بِالْقِيَادَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ التَّفْرِيقِ فِي التَّحْرِيمِ بَيْنَ الْوَصْلِ بِالشَّعْرِ وَبِغَيْرِهِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ تَحْرِيمَ وَصْلِ الشَّعْرِ بِشَعْرٍ سَوَاءٌ كَانَ شَعْرَ آدَمِيٍّ أَوْ شَعْرَ غَيْرِهِ.وَسَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ.قَالُوا وَلَا بَأْسَ بِمَا تَشُدُّ بِهِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا أَيْ مِنْ غَيْرِ الشَّعْرِ لِلْحَاجَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَصِلُ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا الشَّعْرَ وَلَا الْقَرَامِلَ وَلَا الصُّوفَ.

عَقْصُ الشَّعْرِ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ عَقْصِ الشَّعْرِ فِي الصَّلَاةِ.وَالْعَقْصُ هُوَ شَدُّ ضَفِيرَةِ الشَّعْرِ حَوْلَ الرَّأْسِ كَمَا تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ أَوْ يُجْمَعُ الشَّعْرُ فَيُعْقَدُ فِي مُؤَخَّرَةِ الرَّأْسِ.

وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ.فَلَوْ صَلَّى كَذَلِكَ فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ فِيهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ «ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِهِ فَقَامَ وَجَعَلَ يَحُلُّهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَالَكَ وَرَأْسِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «ذَاكَ كِفْلُ الشَّيْطَانِ».وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ..وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ».

وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، أَنَّ الشَّعْرَ يَسْجُدُ مَعَ الْمُصَلِّي وَلِهَذَا مَثَّلَهُ فِي الْحَدِيثِ بِالَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَنْ صَلَّى كَذَلِكَ، سَوَاءٌ تَعَمَّدَهُ لِلصَّلَاةِ أَمْ كَانَ كَذَلِكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَفَعَلَهَا لِمَعْنًى آخَرَ وَصَلَّى عَلَى حَالِهِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ.

وَيَدُلُّ لَهُ إِطْلَاقُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَنْقُولِ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: النَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلصَّلَاةِ.

وَيُنْظَرُ بَقِيَّةُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّعْرِ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْآتِيَةِ: (إِحْرَامٌ، وَتَرْجِيلٌ، وَتَنَمُّصٌ، وَإِحْدَادٌ، وَاخْتِضَابٌ، وَتَسْوِيدٌ، حَلْقٌ، وَدِيَاتٌ).

الْعِنَايَةُ بِشَعْرِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ:

16- يُسْتَحَبُّ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ» وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُحِبُّ التَّرْجِيلَ فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ».وَيُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِي التَّرْجِيلِ، وَيُسَنُّ الْإِغْبَابُ فِيهِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ مَكْرُوهٌ.كَمَا يُسْتَحَبُّ دَهْنُ الشَّعْرِ غِبًّا وَهُوَ أَنْ يُدْهَنَ ثُمَّ يُتْرَكَ حَتَّى يَجِفَّ الدُّهْنُ ثُمَّ يُدْهَنَ ثَانِيًا، وَقِيلَ يُدْهَنُ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَاتِ: (إِدْهَانٌ، وَامْتِشَاطٌ، وَتَرْجِيلٌ).

حُكْمُ شَعْرِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ:

17- شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَفِي كُلِّ حَالَةٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ.

18- أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ الْمُتَّصِلِ بِهِ إِذَا أُخِذَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَمِثْلُهُ الصُّوفُ وَالْوَبَرُ لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِلِامْتِنَانِ وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ وَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي شُمُولِهَا بِشَعْرِ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ.

وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ إِذَا جُزَّ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الْمَلَابِسِ وَالْمَفَارِشِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَعْرِ الْمُذَكَّيَاتِ كِفَايَةٌ لِحَاجَةِ النَّاسِ.

أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْحَيَاةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَتِهِ إِذَا جُزَّ جَزًّا.أَمَّا إِذَا نُتِفَ فَأُصُولُهُ الَّتِي فِيهَا الدُّسُومَةُ نَجِسَةٌ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ.فَهُوَ مَيِّتٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ فَهُوَ طَاهِرٌ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يُجَزَّ جَزًّا بِخِلَافِ مَا نُتِفَ نَتْفًا فَإِنَّ أُصُولَهُ تَكُونُ نَجِسَةً.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى طَهَارَتِهِ إِذَا جُزَّ وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ الْقِيَاسُ نَجَاسَتَهُ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الْحَيَاةِ وَلَكِنْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى طَهَارَتِهَا.

أَمَّا إِذَا انْفَصَلَ شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ فِي حَيَاتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ نُتِفَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّهُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَزِّ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، وَالْجَزُّ فِي الشَّعْرِ كَالذَّبْحِ، فِي الْحَيَوَانِ وَلَوْ ذُبِحَ الْحَيَوَانُ لَمْ يَنْجُسْ، فَكَذَلِكَ إِذَا جُزَّ شَعْرُهُ.

وَالثَّانِي: إِنَّهُ نَجِسٌ سَوَاءٌ انْفَصَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَتْفٍ لِأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ.

وَدَلِيلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.حَدِيثُ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَجُبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ وَيَقْطَعُونَ أَلْيَاتِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ».

غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اسْتَثْنَوْا الشَّعْرَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى طَهَارَتِهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ وَلِذَا اسْتَثْنَوْا الشَّعْرَ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ شَعْرَ كُلِّ حَيَوَانٍ كَبَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ مَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ طَاهِرٌ، وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ نَجِسٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ الْحَيَاةِ وَحَالَةِ الْمَوْتِ.

فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَفِي أُخْرَى طَاهِرٌ.

19- أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ الْمُتَّصِلِ بِهِ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْخِنْزِيرَ وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْخِنْزِيرَ وَالْكَلْبَ لِأَنَّ عَيْنَهُمَا نَجِسَةٌ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى طَهَارَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ أَنَّ كُلَّ حَيٍّ طَاهِرٌ.

أَمَّا شَعْرُ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ هُوَ طَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ، إِلاَّ مَا لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ كَالشَّعْرِ.وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُوَ طَاهِرٌ عِنْدَهُمْ إِذَا جُزَّ، لَا إِذَا نُتِفَ. (يُنْظَرُ فِي تَفْصِيلِ أَحْكَامِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ مُصْطَلَحُ: خِنْزِيرٌ ف 7).

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ لِأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ، فَمَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ طَاهِرٌ وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ نَجِسٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ شَعْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا طَاهِرٌ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


39-موسوعة الفقه الكويتية (شك 1)

شَكٌّ -1

تَعْرِيفُهُ:

1- الشَّكُّ لُغَةً: نَقِيضُ الْيَقِينِ وَجَمْعُهُ شُكُوكٌ.يُقَالُ شَكَّ فِي الْأَمْرِ وَتَشَكَّكَ إِذَا تَرَدَّدَ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، سَوَاءٌ اسْتَوَى طَرَفَاهُ أَوْ رَجَحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} أَيْ غَيْرَ مُسْتَيْقِنٍ، وَهُوَ يَعُمُّ حَالَتَيِ الِاسْتِوَاءِ وَالرُّجْحَانِ.وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» قِيلَ: إِنَّ مُنَاسَبَتَهُ تَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.حَيْثُ قَالَ قَوْمٌ- إِذْ ذَاكَ- شَكَّ إِبْرَاهِيمُ وَلَمْ يَشُكَّ نَبِيُّنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَاضُعًا مِنْهُ وَتَقْدِيمًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْسِهِ-: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» أَيْ أَنَا لَمْ أَشُكَّ مَعَ أَنَّنِي دُونَهُ فَكَيْفَ يَشُكُّ هُوَ؟.

وَالشَّكُّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: اسْتُعْمِلَ فِي حَالَتَيِ الِاسْتِوَاءِ وَالرُّجْحَانِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ لُغَةً فَقَالُوا: مَنْ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْ شَكَّ فِي الطَّلَاقِ، أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اسْتِوَاءِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا.وَمَعَ هَذَا فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فِي جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ.وَالشَّكُّ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: هُوَ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ لِوُجُودِ أَمَارَتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ فِي الطَّرَفَيْنِ أَوْ لِعَدَمِ الْأَمَارَةِ فِيهِمَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْيَقِينُ:

2- الْيَقِينُ مَصْدَرُ يَقِنَ الْأَمْرُ يَيْقَنُ إِذَا ثَبَتَ وَوَضَحَ، وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَبِالْيَاءِ، وَيُطْلَقُ- لُغَةً- عَلَى الْعِلْمِ الْحَاصِلِ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ يَقِينًا.وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ: الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ الثَّابِتِ.فَالْيَقِينُ ضِدُّ الشَّكِّ.فَيُقَالُ شَكَّ وَتَيَقَّنَ وَلَا يُقَالُ شَكَّ وَعَلِمَ لِأَنَّ الْعِلْمَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الثِّقَةِ.

ب- الِاشْتِبَاهُ:

3- الِاشْتِبَاهُ هُوَ مَصْدَرُ اشْتَبَهَ، يُقَالُ: اشْتَبَهَ الشَّيْئَانِ وَتَشَابَهَا، إِذَا أَشْبَهَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، كَمَا يُقَالُ: اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَيِ اخْتَلَطَ وَالْتَبَسَ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ أَهَمُّهَا الشَّكُّ، فَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا- إِذًا- سَبَبِيَّةٌ حَيْثُ يُعَدُّ الشَّكُّ سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الِاشْتِبَاهِ.كَمَا قَدْ يَكُونُ الِاشْتِبَاهُ سَبَبًا لِلشَّكِّ.

ج- الظَّنُّ:

4- الظَّنُّ مَصْدَرُ ظَنَّ مِنْ بَابِ قَتَلَ وَهُوَ خِلَافُ الْيَقِينِ، وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَا يُفَرِّقُونَ غَالِبًا بَيْنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ.

د- الْوَهْمُ:

5- الْوَهْمُ مَصْدَرُ وَهِمَ وَهُوَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ طَرَفُ الْمَرْجُوحِ مِنْ طَرَفَيِ الشَّكِّ.وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْحَمَوِيُّ- نَقْلًا عَنْ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ- حَيْثُ قَالَ: الْوَهْمُ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَضْعَفُ مِنَ الْآخَرِ.

وَالْمُتَأَكِّدُ أَنَّهُ لَا يَرْتَقِي لِإِحْدَاثِ اشْتِبَاهٍ.«إِذْ لَا عِبْرَةَ لِلتَّوَهُّمِ».وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ اسْتِنَادًا عَلَى وَهْمٍ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الشَّيْءِ الثَّابِتِ بِصُورَةٍ قَطْعِيَّةٍ بِوَهْمٍ طَارِئٍ.

أَقْسَامُ الشَّكِّ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ الْأَصْلِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ:

6- يَنْقَسِمُ الشَّكُّ- إِجْمَالًا- بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: شَكٌّ طَرَأَ عَلَى أَصْلٍ حَرَامٍ مِثْلِ أَنْ يَجِدَ الْمُسْلِمُ شَاةً مَذْبُوحَةً فِي بَلَدٍ يَقْطُنُهُ مُسْلِمُونَ وَمَجُوسٌ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا ذَكَاةُ مُسْلِمٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْحُرْمَةُ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الذَّكَاةِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا، فَلَوْ كَانَ مُعْظَمُ سُكَّانِ الْبَلَدِ مُسْلِمِينَ جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا وَالْأَكْلُ مِنْهَا عَمَلًا بِالْغَالِبِ الْمُفِيدِ لِلْحِلِّيَّةِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: شَكٌّ طَرَأَ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمُسْلِمُ مَاءً مُتَغَيِّرًا فَلَهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْهُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَغَيَّرَ بِنَجَاسَةٍ، أَوْ طُولِ مُكْثٍ، أَوْ كَثْرَةِ وُرُودِ السِّبَاعِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اسْتِنَادًا إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمِيَاهِ.مَعَ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفِ الْمُؤْمِنِينَ تَجَشُّمَ الْبَحْثِ لِلْكَشْفِ عَنْ طَهَارَتِهِ أَوْ نَجَاسَتِهِ تَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ، حَيْثُ وَرَدَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- خَرَجَ فِي رَكْبٍ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ- رضي الله عنه- حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ هَلْ تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا.

وَفِيهِ أَيْضًا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفْسَهُ كَانَ مَارًّا مَعَ صَاحِبٍ لَهُ فَسَقَطَ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ مِيزَابٍ، فَقَالَ صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُكَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْنَا، وَمَضَى.

فَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَاءٌ طَاهِرٌ وَمَاءٌ نَجِسٌ تَحَرَّى، فَمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى طَهَارَتِهِ تَوَضَّأَ بِهِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: شَكٌّ لَا يُعْرَفُ أَصْلُهُ مِثْلُ التَّعَامُلِ مَعَ شَخْصٍ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ دُونَ تَمْيِيزٍ لِهَذَا مِنْ ذَاكَ لِاخْتِلَاطِ النَّوْعَيْنِ مَعًا اخْتِلَاطًا يَصْعُبُ تَحْدِيدُهُ، فَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ لَا تَحْرُمُ مُبَايَعَتُهُ وَلَا التَّعَامُلُ مَعَهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَابِلُ حَلَالًا طَيِّبًا، وَلَكِنْ رَغْمَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّعَامُلِ مَعَهُ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ «الْمَشْكُوكَ فِي وُجُوبِهِ لَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا».

أَقْسَامُ الشَّكِّ بِحَسَبِ الْإِجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَإِلْغَائِهِ:

7- ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الشَّكَّ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مُجْمَعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ كَالشَّكِّ فِي الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ، فَالْحُكْمُ تَحْرِيمُهُمَا مَعًا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مُجْمَعٌ عَلَى إِلْغَائِهِ، كَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا؟ فَلَا شَيْءَ.عَلَيْهِ، وَشَكُّهُ يُعْتَبَرُ لَغْوًا.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَعْلِهِ سَبَبًا، كَمَنْ شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا؟ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ دُونَ الشَّافِعِيِّ.وَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَمِ اثْنَتَيْنِ؟ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ الطَّلْقَةَ الْمَشْكُوكَ فِيهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

الشَّكُّ لَا يُزِيلُ الْيَقِينَ، أَوِ «الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ» أَوْ «لَا شَكَّ مَعَ الْيَقِينِ»:

8- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ- عَلَى اخْتِلَافِ تَرَاكِيبِهَا- مِنْ أُمَّهَاتِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا تَدْخُلُ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَالْمَسَائِلُ الْمُخَرَّجَةُ عَنْهَا مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ تَبْلُغُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ عِلْمِ الْفِقْهِ.

الشَّكُّ فِي الْمِيرَاثِ:

9- الْمِيرَاثُ اسْتِحْقَاقٌ وَكُلُّ اسْتِحْقَاقٍ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِثُبُوتِ أَسْبَابِهِ وَتَوَفُّرِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، وَهَذِهِ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مَثَلًا ثُبُوتُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالشَّكِّ فِي طَرِيقِهِ وَبِالتَّالِي لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْمِيرَاثِ بِالشَّكِّ.

الشَّكُّ فِي الْأَرْكَانِ:

10- أَرْكَانُ الشَّيْءِ هِيَ أَجْزَاءُ مَاهِيَّتِهِ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا، وَهِيَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى تَوَفُّرِ شُرُوطِهَا.وَأَرْكَانُ أَيِّ عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ يُرَادُ بِهَا فَرَائِضُهَا الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْفَرْضِ إِلاَّ فِي الْحَجِّ حَيْثُ تَتَمَيَّزُ الْأَرْكَانُ فِيهِ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَالْفُرُوضِ بِعَدَمِ جَبْرِهَا بِالدَّمِ.

فَمَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ أَوْ فِي فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِهَا، هَلْ أَتَى بِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ الْمُحَقَّقِ عِنْدَهُ، وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِيهِ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ سَجْدَتَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ مَا شَكَّ فِيهِ، فَيَكُونَ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَحْضُ زِيَادَةٍ، وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَفِي غَلَبَةِ الظَّنِّ هُنَا قَوْلَانِ دَاخِلَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ: مِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهَا كَالشَّكِّ وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهَا كَالْيَقِينِ.

وَفِيمَا تَقَدَّمَ يَقُولُ الشَّيْخُ ابْنُ عَاشِرٍ- صَاحِبُ الْمُرْشِدِ الْمُعِينِ:

مَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ بَنَى عَلَى الْيَقِينْ

وَلْيَسْجُدُوا الْبَعْدِيَّ لَكِنْ قَدْ يَبِينْ

قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ مَيَّارَةَ: وَيُقَيَّدُ كَلَامُ صَاحِبِ هَذَا النَّظْمِ بِغَيْرِ الْمُوَسْوِسِ أَوْ كَالْمُسْتَنْكَحِ لِأَنَّ هَذَا لَا يَعْتَدُّ بِمَا شَكَّ فِيهِ، وَشَكُّهُ كَالْعَدَمِ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ، فَإِذَا شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا بَنَى عَلَى الْأَرْبَعِ وَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ.

وَإِجْمَالًا فَإِنَّ الشَّكَّ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَنْكِحٌ: أَيْ يَعْتَرِي صَاحِبَهُ كَثِيرًا وَهُوَ كَالْعَدَمِ لَكِنَّهُ يَسْجُدُ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَغَيْرُ مُسْتَنْكِحٍ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ مُدَّةٍ وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ، وَأَنَّ السَّهْوَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَنْكِحٌ وَغَيْرُ مُسْتَنْكِحٍ.

رَاجِعْ مُصْطَلَحَ (سَهْوٌ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَإِنَّ مَنْ شَكَّ فِي جُلُوسِهِ هَلْ كَانَ فِي الشَّفْعِ أَوْ فِي الْوَتْرِ؟ فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ لِمَالِكٍ أَنَّهُ يُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَضَافَ رَكْعَةَ الْوَتْرِ إِلَى رَكْعَتَيِ الشَّفْعِ مِنْ غَيْرِ سَلَامٍ فَيَصِيرُ قَدْ صَلَّى الشَّفْعَ ثَلَاثًا، وَمِنْ هُنَا طُولِبَ بِالسُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ: أَيْ مَسْأَلَةَ الشَّكِّ فِي الرُّكْنِ تَتَّفِقُ فِي الْحُكْمِ مَعَ مَسْأَلَةِ التَّحَقُّقِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِرُكْنٍ فَفِي الْأُولَى يُلْغَى الشَّكُّ وَيُبْنَى عَلَى الْيَقِينِ مَعَ السُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُجْبَرُ الرُّكْنُ وَيَقَعُ السُّجُودُ بَعْدَ السَّلَامِ.وَإِنَّ الَّذِي يَجْمَعُ هَذَا كُلَّهُ هُوَ قَوْلُهُمُ: الشَّكُّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ.وَلِذَلِكَ قَالَ الْوَنْشَرِيسِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: وَمِنْ ثَمَّ لَوْ شَكَّ أَصَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ أَتَى بِرَابِعَةٍ أَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ أَوِ السَّعْيِ أَوْ شَكَّ هَلْ أَتَى بِالثَّالِثَةِ أَمْ لَا؟ بَنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى الْيَقِينِ.وَتُتَمِّمُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى نَصُّهَا: الشَّكُّ فِي الزِّيَادَةِ كَتَحَقُّقِهَا.كَالشَّكِّ فِي حُصُولِ التَّفَاضُلِ فِي عُقُودِ الرِّبَا، وَالشَّكِّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الشَّكُّ فِي السَّبَبِ:

11- السَّبَبُ لُغَةً: هُوَ الْحَبْلُ أَوِ الطَّرِيقُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ مِنَ الْحَبْلِ لِيَدُلَّ عَلَى كُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ، كَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) أَيِ الْعَلَائِقُ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا سَتُوَصِّلُهُمْ إِلَى النَّعِيمِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ: «وَإِنْ كَانَ رِزْقُهُ فِي الْأَسْبَابِ» أَيْ فِي طُرُقِ السَّمَاءِ وَأَبْوَابِهَا.وَهُوَ- فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ- الْأَمْرُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ أَمَارَةً لِوُجُودِ الْحُكْمِ وَجَعَلَ انْتِفَاءَهُ أَمَارَةً عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ.

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ السَّبَبَ لَا يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجَعْلِ الْمُشَرِّعِ لَهُ كَذَلِكَ.

وَحَتَّى يَكُونَ السَّبَبُ وَاضِحَ التَّأْثِيرِ- بِجَعْلِ اللَّهِ- يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقَّنًا إِذْ لَا تَأْثِيرَ وَلَا أَثَرَ لِسَبَبٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَذَلِكَ كَالشَّكِّ فِي أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ بِأَنْوَاعِهَا.فَإِنَّهُ مَانِعٌ مِنْ حُصُولِ الْمِيرَاثِ بِالْفِعْلِ إِذْ لَا مِيرَاثَ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ.شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ الشَّكِّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ أَوْ وَقْتِ الْعَصْرِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْعِبَادَاتِ.

وَقَدْ خَصَّصَ الْقَرَافِيُّ فَرْقًا هَامًّا مَيَّزَ فِيهِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ.أَشَارَ فِي بِدَايَتِهِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَوْضُوعَ قَدْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ عَلَى جَمِيعِ الْفُضَلَاءِ، وَانْبَنَى عَلَى عَدَمِ تَحْرِيرِهِ إِشْكَالٌ آخَرُ فِي مَوَاضِعَ وَمَسَائِلَ كَثِيرَةٍ حَتَّى خَرَقَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ فِيهَا.

وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ حَسَبَ رَأْيِ الْقَرَافِيِّ: أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَ الْأَحْكَامَ وَشَرَعَ لَهَا أَسْبَابًا وَجَعَلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الشَّكَّ، فَشَرَعَهُ- حَيْثُ شَاءَ- فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ: فَإِذَا شَكَّ فِي الشَّاةِ وَالْمَيْتَةِ حَرُمَتَا مَعًا، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ، وَإِذَا شَكَّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ حَرُمَتَا مَعًا، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ، وَإِذَا شَكَّ فِي عَيْنِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ، وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَمْسِ هُوَ الشَّكُّ، وَإِذَا شَكَّ هَلْ تَطَهَّرَ أَمْ لَا؟ وَجَبَ الْوُضُوءُ، وَسَبَبُ وُجُوبِهِ هُوَ الشَّكُّ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّظَائِرِ.

فَالشَّكُّ فِي السَّبَبِ غَيْرُ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ: فَالْأَوَّلُ يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَلَا يَتَقَرَّرُ مَعَهُ حُكْمٌ، وَالثَّانِي لَا يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَتَتَقَرَّرُ مَعَهُ الْأَحْكَامُ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي النَّظَائِرِ السَّابِقَةِ وَلَا نَدَّعِي أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَصَبَ الشَّكَّ سَبَبًا فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ بَلْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِحَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَوِ النَّصُّ، وَقَدْ يُلْغِي صَاحِبُ الشَّرْعِ الشَّكَّ فَلَا يَجْعَلُ فِيهِ شَيْئًا: كَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا.فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالشَّكُّ لَغْوٌ، وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ هَلْ سَهَا أَمْ لَا؟.فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالشَّكُّ لَغْوٌ.فَهَذِهِ صُوَرٌ مِنَ الشَّكِّ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِيهَا، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ.

وَقِسْمٌ ثَالِثٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَصْبِهِ سَبَبًا: كَمَنْ شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا؟ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَمِ اثْنَتَيْنِ؟ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ الطَّلْقَةَ الْمَشْكُوكَ فِيهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَشَكَّ مَا هِيَ؟ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ.

الشَّكُّ فِي الشَّرْطِ:

12- الشَّرَطُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الْعَلَامَةُ وَالْجَمْعُ أَشْرَاطٌ مِثْلُ سَبَبٍ وَأَسْبَابٍ، وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، أَيْ عَلَامَاتُهَا وَدَلَائِلُهَا.وَالشَّرْطُ- بِسُكُونِ الرَّاءِ- يُجْمَعُ عَلَى شُرُوطٍ.تَقُولُ: شَرَطَ عَلَيْهِ شَرْطًا وَاشْتَرَطْتُ عَلَيْهِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ.

أَمَّا الشَّرْطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ: فَهُوَ مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُكَمِّلًا لِأَمْرٍ شَرْعِيٍّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِوُجُودِهِ: كَالطَّهَارَةِ؛ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُكَمِّلَةً لِلصَّلَاةِ فِيمَا يُقْصَدُ مِنْهَا مِنْ تَعْظِيمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِذِ الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ تَعَالَى مَعَ الطَّهَارَةِ الشَّامِلَةِ لِلْبَدَنِ وَالثِّيَابِ وَالْمَكَانِ أَكْمَلُ فِي مَعْنَى الِاحْتِرَامِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبِهَذَا الْوَضْعِ لَا تَتَحَقَّقُ الصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ إِلاَّ بِهَا، فَالشَّرْطُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَشْرُوطِ، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَلَا عَدَمُهُ.

«وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ مَانِعٌ مِنْ تَرَتُّبِ الْمَشْرُوطِ» وَهُوَ كَذَلِكَ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْمَشْرُوطِ.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَامْتَنَعَ الْقِصَاصُ مِنَ.

الْأَبِ فِي قَتْلِ ابْنِهِ.وَامْتَنَعَ الْإِرْثُ بِالشَّكِّ فِي مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ حَيَاةِ الْوَارِثِ، وَبِالشَّكِّ فِي انْتِفَاءِ الْمَانِعِ مِنَ الْمِيرَاثِ.

الشَّكُّ فِي الْمَانِعِ:

13- الْمَانِعُ لُغَةً: الْحَائِلُ.

أَمَّا الْمَانِعُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ عُرِّفَ بِقَوْلِهِمْ: هُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ أَجْلِ وُجُودِهِ الْعَدَمُ- أَيْ عَدَمُ الْحُكْمِ- وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَجْلِ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ.كَقَتْلِ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ عَمْدًا وَعُدْوَانًا فَإِنَّهُ يُعَدُّ مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ سَبَبُهُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ أَوِ الزَّوْجِيَّةُ أَوْ غَيْرُهُمَا.

فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْمَانِعِ فَهَلْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؟ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ «الشَّكَّ فِي الْمَانِعِ لَا أَثَرَ لَهُ» أَيْ إِنَّ الشَّكَّ مُلْغًى بِالْإِجْمَاعِ.وَمِنْ ثَمَّ أُلْغِيَ الشَّكُّ الْحَاصِلُ فِي ارْتِدَادِ زَيْدٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَمْ لَا؟ وَصَحَّ الْإِرْثُ مِنْهُ اسْتِصْحَابًا لِلْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ.كَمَا أُلْغِيَ الشَّكُّ فِي الطَّلَاقِ، بِمَعْنَى شَكُّ الزَّوْجِ هَلْ حَصَلَ مِنْهُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الشَّكَّ هُنَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِصْحَابُ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ قَبْلَ الشَّكِّ، لِأَنَّ الشَّكَّ هُنَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الشَّكِّ فِي حُصُولِ الْمَانِعِ وَهُوَ مُلْغًى وَسَيَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الشَّكِّ فِي الْحَدَثِ عِنْدَ تَنَاوُلِ الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ.

وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ أَيْضًا أُلْغِيَ الشَّكُّ فِي الْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَمَا إِلَيْهَا.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ- فِي خُصُوصِ الرَّضَاعِ-: هُوَ مِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي يَمْنَعُ وُجُودُهَا وُجُودَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَهُوَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَيَقْطَعُ اسْتِمْرَارَهُ- إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ- فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي حُصُولِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ «الشَّكُّ مُلْغًى» وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْأَحْوَطَ التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّخْصِ أَنْ يُقْدِمَ إِلاَّ عَلَى فَرْجٍ مَقْطُوعٍ بِحِلِّيَّتِهِ.

الشَّكُّ فِي الطَّهَارَةِ:

14- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ يَحَبُّ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَإِعَادَةُ الصَّلَاةِ إِنْ صَلَّى لِأَنَّ الذِّمَّةَ مَشْغُولَةٌ فَلَا تَبْرَأُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُنْقَضُ بِالشَّكِّ عِنْدَهُمْ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ-: مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وُجُوبًا- وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا- لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الشَّكَّ فِي أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْآخَرِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْكِحًا وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الْحَدِيثُ.

وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ مَعًا وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا: فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْدَثًا فَهُوَ الْآنَ مُتَطَهِّرٌ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدَثِ وَشَكَّ فِي انْتِقَاضِهَا، حَيْثُ لَا يَدْرِي هَلِ الْحَدَثُ الثَّانِي قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا؟، وَإِنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا وَكَانَ يَعْتَادُ التَّجْدِيدَ فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ حَدَثًا بَعْدَ تِلْكَ الطَّهَارَةِ وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ حَيْثُ لَا يَدْرِي هَلِ الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ أَمْ لَا؟.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْأَصْلِ حَدَثًا كَانَ أَوْ طَهَارَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا فَهُوَ عَلَى وُضُوئِهِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّ شَكَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً وَأَنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ فَرْضًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ عِنْدَهُمْ مُلْغًى، وَأَنَّ الْعَمَلَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْيَقِينِ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْفِقْهِ فَتَدَبَّرْهُ وَقِفْ عَلَيْهِ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا جَاءَ عَنِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ دَمَ الْحَيْضِ وَلَمْ تَدْرِ وَقْتَ حُصُولِهِ فَإِنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ مَنْ رَأَى مَنِيًّا فِي ثَوْبِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ حُصُولِهِ، أَيْ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُعِيدَ الصَّلَاةَ مِنْ آخِرِ نَوْمَةٍ، وَهَذَا أَقَلُّ الْأَقْوَالِ تَعْقِيدًا وَأَكْثَرُهَا وُضُوحًا.وَضَابِطُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ كَحُكْمِ الْحَيْضِ الْمُتَيَقَّنِ فِي تَرْكِ الْعِبَادَاتِ

وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ- فِي هَذَا الْمَوْضِعِ- مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ- كَمَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى السَّوَاءِ أَمْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ أَرْجَحَ.

الشَّكُّ فِي الصَّلَاةِ:

أ- الشَّكُّ فِي الْقِبْلَةِ:

15- مَنْ شَكَّ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا الْعَالِمِينَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْمَكَانِ إِنْ وُجِدُوا وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ لِمَا رَوَاهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} ».وَقِبْلَةُ الْمُتَحَرِّي- كَمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- هِيَ جِهَةُ قَصْدِهِ.وَالصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ لِجِهَةِ الْقَصْدِ هَذِهِ تُجْزِئُ الْمُصَلِّيَ وَتُسْقِطُ عَنْهُ الطَّلَبَ لِعَجْزِهِ، وَيَرَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِكُلِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ أَخْذًا بِالْأَحْوَطِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ شَكُّهُ دَائِرًا بَيْنَهَا أَمَّا إِذَا انْحَصَرَ شَكُّهُ فِي ثَلَاثِ جِهَاتٍ فَقَطْ مَثَلًا فَإِنَّ الرَّابِعَةَ لَا يُصَلِّي إِلَيْهَا، وَقَدِ اخْتَارَ اللَّخْمِيُّ مَا فَضَّلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

ب- الشَّكُّ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ:

16- مَنْ شَكَّ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ دُخُولِهِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الشَّكِّ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ وَافَقَ الْوَقْتَ، لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلَاتِهِ مِثْلَمَا هُوَ الْأَمْرُ فِيمَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ.

ج- الشَّكُّ فِي الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ:

17- مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ مِنْ يَوْمٍ مَا، وَلَا يَدْرِي أَيَّ صَلَاةٍ هِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ بِيَقِينٍ لَا بِشَكٍّ.

د- الشَّكُّ فِي رَكْعَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ:

18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً صَلَّى أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا؟ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَلَا يُجْزِئُهُ التَّحَرِّي، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَالطَّبَرِيِّ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ:

أَوَّلًا: بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى أَثْلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ.فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا، شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ».

وَثَانِيًا: بِالْقَاعِدَتَيْنِ الْفِقْهِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا مِمَّا يُوجِبُ الْبِنَاءَ عَلَى الْيَقِينِ.وَهُمَا: الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: «الْيَقِينُ لَا يُزِيلُهُ الشَّكُّ».وَالثَّانِيَةُ: «وَالشَّكُّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ».

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ الشَّكُّ يَحْدُثُ لَهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَمْ يَتَحَرَّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ صَلَاةً جَدِيدَةً.

وَإِنْ كَانَ الشَّكُّ يَعْتَادُهُ وَيَتَكَرَّرُ لَهُ يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ بِحُكْمِ التَّحَرِّي وَيَقْعُدُ وَيَتَشَهَّدُ بَعْدَ كُلِّ رَكْعَةٍ يَظُنُّهَا آخِرَ صَلَاتِهِ لِئَلاَّ يَصِيرَ تَارِكًا فَرْضَ الْقَعْدَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ظَنٌّ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ- فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ- يَتَحَرَّى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَتَحَرَّى، قَالَ: وَإِنْ نَامَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى؟ اسْتَأْنَفَ.

وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ كَانَ هَذَا شَيْئًا يَلْزَمُهُ وَلَا يَزَالُ يَشُكُّ أَجْزَأَهُ سَجْدَتَا السَّهْوِ عَنِ التَّحَرِّي، وَعَنِ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يَلْزَمُهُ اسْتَأْنَفَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَتَيْهَا.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الشَّكُّ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْيَقِينُ وَالتَّحَرِّي، فَمَنْ رَجَعَ إِلَى الْيَقِينِ أَلْغَى الشَّكَّ وَسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى التَّحَرِّي سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ.وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَبَّسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ»

وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّحَرِّي فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ» ثُمَّ- يَعْنِي- يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ.

الشَّكُّ فِي الزَّكَاةِ:

أ- الشَّكُّ فِي تَأْدِيَتِهَا:

19- لَوْ شَكَّ رَجُلٌ فِي الزَّكَاةِ فَلَمْ يَدْرِ أَزَكَّى أَمْ لَا؟ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا لِأَنَّ الْعُمُرَ كُلَّهُ وَقْتٌ لِأَدَائِهَا، وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ صَاحِبِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَبَيْنَ مَنْ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَصَلَّى أَمْ لَا؟ حَيْثُ ذَكَرُوا- كَمَا تَقَدَّمَ- إِعْفَاءَهُ مِنَ الْإِعَادَةِ لِأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ وَالزَّكَاةُ بِخِلَافِهَا.

ب- الشَّكُّ فِي تَأْدِيَةِ كُلِّ الزَّكَاةِ أَوْ بَعْضِهَا:

20- ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ حَادِثَةً وَقَعَتْ مُفَادُهَا: أَنَّ رَجُلًا شَكَّ هَلْ أَدَّى جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ أَوْ لَا؟ حَيْثُ كَانَ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مُتَفَرِّقًا مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ، فَتَمَّ إِفْتَاؤُهُ بِلُزُومِ الْإِعَادَةِ حَيْثُ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ دَفْعُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ ثَابِتَةٌ فِي ذِمَّتِهِ بِيَقِينٍ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالشَّكِّ.

ج- الشَّكُّ فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ:

21- إِذَا دَفَعَ الْمُزَكِّي الزَّكَاةَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي أَنَّ مَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ مَصْرِفٌ مِنْ مَصَارِفِهَا وَلَمْ يَتَحَرَّ، أَوْ تَحَرَّى وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَنَّهُ مَصْرِفٌ، فَهُوَ عَلَى الْفَسَادِ إِلاَّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مَصْرِفٌ.بِخِلَافِ مَا إِذَا دُفِعَتْ بِاجْتِهَادٍ وَتَحَرٍّ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ فِي الْوَاقِعِ كَالْغَنِيِّ وَالْكَافِرِ.فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ زَكَاةٌ (ف 188- 189 ج 23 233).

الشَّكُّ فِي الصِّيَامِ:

أ- الشَّكُّ فِي دُخُولِ رَمَضَانَ:

22- إِذَا شَكَّ الْمُسْلِمُ فِي دُخُولِ رَمَضَانَ فِي الْيَوْمِ الْمُوَالِي لِيَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يَبْنِي عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ سُحُبٌ وَلَا غُيُومٌ وَمَعَ ذَلِكَ عَزَمَ أَنْ يَصُومَ غَدًا بِاعْتِبَارِهِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ وَلَا يُجْزِئُهُ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَصْدٌ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِطُرُقِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَحَيْثُ انْتَفَى ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ قَصْدُهُ وَهُوَ رَأْيُ حَمَّادٍ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِأَنَّ الصَّائِمَ لَمْ يَجْزِمِ النِّيَّةَ بِصَوْمِهِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ إِلاَّ بَعْدَ خُرُوجِهِ.وَكَذَلِكَ لَوْ بَنَى عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحِسَابِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ وَإِنْ كَثُرَتْ إِصَابَتُهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَصِحُّ إِذَا نَوَاهُ مِنَ اللَّيْلِ- وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَصَدَ- لِأَنَّهُ نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَحَّ كَالْيَوْمِ الثَّانِي- وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يُوَافِقُ الْمَذْهَبَيْنِ.

ب الشَّكُّ فِي دُخُولِ شَوَّالٍ:

23- تَصِحُّ النِّيَّةُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ رَغْمَ أَنَّ هُنَاكَ احْتِمَالًا فِي أَنْ يَكُونَ مِنْ شَوَّالٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ رَمَضَانَ وَقَدْ أُمِرْنَا بِصَوْمِهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لَكِنْ إِذَا قَالَ الْمُكَلَّفُ: إِنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَوَّالٍ فَأَنَا مُفْطِرٌ فَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِنِيَّةِ الصِّيَامِ وَالنِّيَّةُ قَصْدٌ جَازِمٌ، وَقِيلَ: تَصِحُّ نِيَّتُهُ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ وَاقِعٌ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ رَمَضَانَ.

ج- الشَّكُّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ:

24- إِذَا شَكَّ الصَّائِمُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَأْكُلَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ، فَيَكُونُ الْأَكْلُ إِفْسَادًا لِلصَّوْمِ وَلِذَلِكَ كَانَ مَدْعُوًّا لِلْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».وَلَوْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَحَلُّ شَكٍّ وَالْأَصْلُ اسْتِصْحَابُ اللَّيْلِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّهَارُ وَهَذَا لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الْحُرْمَةِ رَغْمَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ، أَمَّا صَوْمُ النَّفْلِ فَقَدْ سَوَّى بَعْضُهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ فِي الْقَضَاءِ وَالْحُرْمَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا جَمَاعَةٌ فِي الْحُرْمَةِ حَيْثُ قَالُوا بِالْكَرَاهِيَةِ.

د- الشَّكُّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ:

25- لَوْ شَكَّ الصَّائِمُ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ الشَّكِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ، وَلَوْ أَفْطَرَ عَلَى شَكِّهِ دُونَ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْحَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اتِّفَاقًا.وَالْحُرْمَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا كَذَلِكَ.

وَعَدَمُ الْكَفَّارَةِ فِي الْأَكْلِ مَعَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا الْأَكْلُ مَعَ الشَّكِّ فِي الْغُرُوبِ فَمُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُهَا، فَإِنْ أَفْطَرَ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْلِ أَوْ حُصُولَ الْغُرُوبِ ثُمَّ طَرَأَ الشَّكُّ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلَا حُرْمَةٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


40-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة 7)

صَلَاةٌ-7

الْأَمَاكِنُ الَّتِي تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا:

105- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَإِلَيْكَ تَفْصِيلُ أَقْوَالِهِمْ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَالْكَنِيسَةِ، وَعَطَنِ الْإِبِلِ، وَالْمَقْبَرَةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ:

فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَقْبَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَفِي الْحَمَّامِ وَفِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ».

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: قَارِعَةُ الطَّرِيقِ هِيَ أَعْلَاهُ، وَقِيلَ: صَدْرُهُ، وَقِيلَ: مَا بَرَزَ مِنْهُ، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ الطَّرِيقِ، وَالْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ هِيَ لِشَغْلِهِ حَقَّ الْعَامَّةِ، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْمُرُورِ؛ وَلِشَغْلِ الْبَالِ عَنِ الْخُشُوعِ فَيَشْتَغِلُ بِالْخَلْقِ عَنِ الْحَقِّ.

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْبُنْيَانِ دُونَ الْبَرِّيَّةِ.

وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ- أَيْضًا- فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَلَوْ طَاهِرَةً.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ».وَالْمُرَادُ بِالْمَعَاطِنِ- هُنَا- مَبَارِكُهَا مُطْلَقًا.قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَلَا تَخْتَصُّ الْكَرَاهَةُ بِالْعَطَنِ، بَلْ مَأْوَاهَا وَمَقِيلُهَا وَمَبَارِكُهَا، بَلْ مَوَاضِعُهَا كُلُّهَا كَذَلِكَ.وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، «وَسُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا خُلِقَتْ بَرَكَةً».وَأَلْحَقُوا مَرَابِضَ الْبَقَرِ بِمَرَابِضِ الْغَنَمِ فَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا، قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَمَاكِنَ الْمَوَاشِي مُطْلَقًا إِنْ تَنَجَّسَتْ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِيهَا بِلَا حَائِلٍ، وَتَصِحُّ بِالْحَائِلِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.

وَوَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ وَمَعْطِنِ الْإِبِلِ، فَكَرِهُوا الصَّلَاةَ فِيهِمَا.وَأَلْحَقُوا بِالْكَنِيسَةِ كُلَّ مُتَعَبَّدٍ لِلْكُفَّارِ كَالْبِيعَةِ وَبَيْتِ النَّارِ، وَخَصُّوا كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ بِمَا إِذَا دَخَلَهَا مُخْتَارًا سَوَاءٌ كَانَتْ عَامِرَةً أَمْ دَارِسَةً، أَمَّا إِنْ دَخَلَهَا مُضْطَرًّا فَلَا كَرَاهَةَ، عَامِرَةً كَانَتْ أَمْ دَارِسَةً.وَقَالُوا بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ إِذَا نَزَلَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَصَلَّى عَلَى أَرْضِهَا أَوْ عَلَى فَرْشِهَا.

وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي مَعْطِنِ الْإِبِلِ وَلَوْ مَعَ أَمْنِ النَّجَاسَةِ.وَعِنْدَهُمْ فِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ: قَوْلٌ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ مُطْلَقًا عَامِدًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، وَقَوْلٌ يُعِيدُ النَّاسِي فِي الْوَقْتِ، وَالْعَامِدُ وَالْجَاهِلُ بِالْحُكْمِ أَبَدًا نَدْبًا.وَأَجَازُوا الصَّلَاةَ بِلَا كَرَاهَةٍ بِمَرْبِضِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ مِنْ غَيْرِ فَرْشٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَبِالْمَقْبَرَةِ بِلَا حَائِلٍ وَلَوْ عَلَى الْقَبْرِ، وَلَوْ لِمُشْرِكٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ عَامِرَةً أَمْ دَارِسَةً مَنْبُوشَةً، وَبِالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الزِّبْلِ أَوِ الدَّمِ، بَلْ فِي مَحَلٍّ لَا زِبْلَ فِيهِ، أَوْ لَا دَمَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْرِشَ شَيْئًا طَاهِرًا يُصَلِّي عَلَيْهِ.وَبِالْمَحَجَّةِ (وَسَطِ الطَّرِيقِ) وَبِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ (جَانِبِهِ).وَقَيَّدُوا جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَحَجَّةِ بِأَمْنِ النَّجَاسَةِ.

أَمَّا مَرْبِضُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَدَائِمًا مَأْمُونُ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ بَوْلَهَا وَرَجِيعَهَا طَاهِرَانِ.ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى أُمِنَتْ هَذِهِ الْأَمَاكِنُ مِنَ النَّجَسِ- بِأَنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ طَهَارَتَهَا- كَانَتِ الصَّلَاةُ جَائِزَةً وَلَا إِعَادَةَ أَصْلًا وَإِنْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهَا أَوْ ظُنَّتْ فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَإِذَا صَلَّى أَعَادَ أَبَدًا.وَإِنْ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا وَطَهَارَتِهَا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الرَّاجِحِ، بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ الْأَصْلِ عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُعِيدُ أَبَدًا إِنْ كَانَ عَامِدًا أَوْ جَاهِلًا تَرْجِيحًا لِلْغَالِبِ عَلَى الْأَصْلِ.وَهَذَا فِي غَيْرِ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ إِذَا صَلَّى فِيهَا لِضِيقِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا حِينَئِذٍ جَائِزَةٌ.وَلَا إِعَادَةَ مَعَ الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ وَعَدَمِهَا.

وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَقَالُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ مُطْلَقًا؛ لِحَدِيثِ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا: «لَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ».وَالْمَقْبَرَةُ ثَلَاثَةُ قُبُورٍ فَصَاعِدًا، فَلَا يُعْتَبَرُ قَبْرٌ وَلَا قَبْرَانِ مَقْبَرَةٌ.

وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ، دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ وَأَتُونِهِ (مُوقِدِ النَّارِ) وَكُلُّ مَا يُغْلَقُ عَلَيْهِ الْبَابُ وَيَدْخُلُ فِي الْبِيَعِ، لِشُمُولِ الِاسْمِ لِذَلِكَ كُلِّهِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ».وَمِثْلُهُ الْحُشُّ- وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ- وَلَوْ مَعَ طَهَارَتِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ.

وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ عِنْدَهُمْ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ- وَهِيَ مَا تُقِيمُ فِيهِ وَتَأْوِي إِلَيْهِ-؛ لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ» وَلَا تَدْخُلُ فِي النَّهْيِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُنَاخُ فِيهَا الْإِبِلُ لِعَلَفِهَا، أَوْ وُرُودِهَا الْمَاءَ، وَمَوَاضِعِ نُزُولِهَا فِي سَيْرِهَا، لِعَدَمِ تَنَاوُلِ اسْمِ الْأَعْطَانِ لَهَا.

وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ- أَيْضًا- فِي الْمَجْزَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ سَالِكٌ أَوْ لَا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ.

وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِلَا كَرَاهَةٍ بِطَرِيقِ الْبُيُوتِ الْقَلِيلَةِ، وَبِمَا عَلَا عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَتَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ بِلَا كَرَاهَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَجَّةٍ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ كُلَّ مَكَان لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ، فَكَذَا لَا تَصِحُّ عَلَى سَطْحِهِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، دَلِيلٌ أَنَّ الْجُنُبَ يُمْنَعُ مِنَ اللُّبْثِ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا يَحْنَثُ بِدُخُولِ سَطْحِهَا.وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ عُذْرٍ: كَأَنْ حُبِسَ بِحَمَّامٍ، أَوْ حُشٍّ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ، وَانْفَرَدَ الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ.لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَلَمْ تَصِحَّ، كَصَلَاةِ الْحَائِضِ.

106- وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِكَرَاهَةِ التَّثَاؤُبِ فِي الصَّلَاةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاوُبَ.، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فَمِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ».وَلِأَنَّهُ مِنَ التَّكَاسُلِ وَالِامْتِلَاءِ.قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِنْ غَلَبَهُ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ وَلَوْ بِأَخْذِ شَفَتِهِ بِسِنِّهِ، وَبِوَضْعِ يَدِهِ أَوْ كُمِّهِ عَلَى فَمِهِ.

وَيُكْرَهُ- أَيْضًا- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَضْعُ شَيْءٍ فِي فَمِهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ بَالَهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّيْءُ لَا يَذُوبُ، فَإِنْ كَانَ يَذُوبُ كَالسُّكَّرِ يَكُونُ فِي فِيهِ، فَإِنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إِذَا ابْتَلَعَ ذَوْبَهُ.

وَيُكْرَهُ- كَذَلِكَ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ النَّفْخُ.هَذَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ بِهِ حَرْفَانِ، فَإِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ.قَالُوا: لِأَنَّهُ عَبَثٌ، كَمَا صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الْبَصْقِ فِي الصَّلَاةِ قِبَلَ وَجْهِهِ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى».

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ شَمُّ طِيبٍ قَصْدًا، كَأَنْ يُدَلِّكَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ بِطِيبٍ، أَوْ يَضَعُ ذَا رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ عِنْدَ أَنْفِهِ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ لِيَسْتَنْشِقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ، أَمَّا لَوْ دَخَلَتِ الرَّائِحَةُ أَنْفَهُ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَلَا كَرَاهَةَ.قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: أَمَّا إِذَا أَمْسَكَهُ بِيَدِهِ وَشَمَّهُ فَالظَّاهِرُ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ مَنْ رَآهُ يَجْزِمُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَأَفَادَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمُنْيَةِ: أَنَّهَا لَا تَفْسُدُ بِذَلِكَ أَيْ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ كَثِيرًا.

مُبْطِلَاتُ الصَّلَاةِ:

أ- الْكَلَامُ:

107- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ» وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ.فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنُ تَعْلِيمًا مِنْهُ.فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ».

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْطِلَ لِلصَّلَاةِ مَا انْتَظَمَ مِنْهُ حَرْفَانِ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ الْحَرْفَيْنِ يَكُونَانِ كَلِمَةً كَأَبٍ وَأَخٍ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ وَالْحُرُوفُ، وَلَا تَنْتَظِمُ كَلِمَةٌ فِي أَقَلَّ مِنْ حَرْفَيْنِ، قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: الْحَرْفَانِ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ الْكَلَامُ حَرْفَانِ لِلِابْتِدَاءِ وَالْوَقْفِ، أَوْ حَرْفٌ مُفْهِمٌ نَحْوَ «قِ» مِنَ الْوِقَايَةِ، وَ «عِ» مِنَ الْوَعْيِ وَ «فِ» مِنَ الْوَفَاءِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ مَدَّةً بَعْدَ حَرْفٍ وَإِنْ لَمْ يُفْهِمْ نَحْوَ «آ» لِأَنَّ الْمَمْدُودَ فِي الْحَقِيقَةِ حَرْفَانِ وَهَذَا عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ قَدْ تَتَّفِقُ لِإِشْبَاعِ الْحَرَكَةِ وَلَا تُعَدُّ حَرْفًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْطِلَ لِلصَّلَاةِ هُوَ حَرْفٌ أَوْ صَوْتٌ سَاذِجٌ، سَوَاءٌ صَدَرَ مِنَ الْمُصَلِّي بِالِاخْتِيَارِ أَمْ بِالْإِكْرَاهِ، وَسَوَاءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ هَذَا الصَّوْتُ كَإِنْقَاذِ أَعْمَى أَوْ لَمْ يَجِبْ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامَ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، وَكَذَا اسْتَثْنَوْا الْكَلَامَ حَالَةَ السَّهْوِ إِذَا كَانَ كَثِيرًا فَإِنَّهُ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَيْضًا.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالْكَلَامِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي نَاسِيًا أَوْ نَائِمًا أَوْ جَاهِلًا، أَوْ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا، فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِكَلَامِ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا.قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».فَمَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ.

وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ السَّلَامَ سَاهِيًا لِلتَّحْلِيلِ قَبْلَ إِتْمَامِهَا عَلَى ظَنِّ إِكْمَالِهَا فَلَا يَفْسِدُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنَّهُ مُفْسِدٌ.وَكَذَا نَصُّوا عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ عَلَى إِنْسَانٍ لِلتَّحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كَانَ سَاهِيًا.وَبِرَدِّ السَّلَامِ بِلِسَانِهِ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِكَلَامِ النَّاسِي، وَالْجَاهِلِ بِالتَّحْرِيمِ إِنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ، إِنْ كَانَ الْكَلَامُ يَسِيرًا عُرْفًا، فَيُعْذَرُ بِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِلنَّاسِي بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى خَشَبَةَ الْمَسْجِدِ وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ».

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّهُ تَكَلَّمَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ، وَهُمْ تَكَلَّمُوا مُجَوِّزِينَ النَّسْخَ ثُمَّ بَنَى هُوَ وَهُمْ عَلَيْهَا.

وَلَا يُعْذَرُ فِي كَثِيرِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ نَظْمَ الصَّلَاةِ وَهَيْئَتَهَا، وَالْقَلِيلُ يُحْتَمَلُ لِقِلَّتِهِ وَلِأَنَّ السَّبْقَ وَالنِّسْيَانَ فِي كَثِيرٍ نَادِرٍ.

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَرْجِعُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إِلَى الْعُرْفِ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْكَلَامِ فَإِنَّهُ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ يَسِيرًا، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ لَا تَبْطُلُ كَالنَّاسِي.وَأَمَّا إِنْ كَانَ كَلَامُهُ كَثِيرًا فَتَبْطُلُ بِهِ جَزْمًا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِكَلَامِ السَّاهِي وَالْمُكْرَهِ، وَبِالْكَلَامِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، وَالْكَلَامِ لِتَحْذِيرٍ نَحْوَ ضَرِيرٍ.

وَلَا تَبْطُلُ عِنْدَهُمْ بِكَلَامِ النَّائِمِ إِذَا كَانَ النَّوْمُ يَسِيرًا، فَإِذَا نَامَ الْمُصَلِّي قَائِمًا أَوْ جَالِسًا، فَتَكَلَّمَ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَكَذَا إِذَا سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى لِسَانِهِ حَالَ الْقِرَاءَةِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَلِطَ فِي الْقِرَاءَةِ فَأَتَى بِكَلِمَةٍ مِنْ غَيْرِهِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ تَكَلَّمَ ظَانًّا أَنَّ صَلَاتَهُ تَمَّتْ، فَإِنْ كَانَ سَلَامًا لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، أَمَّا إِنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَكْمُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَوْ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ مِثْلَ كَلَامِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ذَا الْيَدَيْنِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ.

ب- الْخِطَابُ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ:

108- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ خَاطَبَ أَحَدًا بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي، كَقَوْلِهِ لِمَنِ اسْمُهُ يَحْيَى أَوْ مُوسَى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أَوْ {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى}، أَوْ لِمَنْ بِالْبَابِ {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}.فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- إِلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِكُلِّ مَا قُصِدَ بِهِ الْخِطَابُ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَفْسُدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُخَاطَبُ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ إِذَا قَصَدَ خِطَابَهُ.وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِالْخِطَابِ بِالْقُرْآنِ بِمَا إِنْ قَصَدَ بِهِ التَّفْهِيمَ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ.وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَاسْتُؤْذِنَ عَلَيْهِ فَقَطَعَهَا إِلَى آيَةِ {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍآمَنِينَ}، أَمَّا إِنْ قَصَدَ التَّفْهِيمَ بِهِ بِمَحَلِّهِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ كَأَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ شَخْصٌ وَهُوَ يَقْرَأُ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِقَوْلِهِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍآمَنِينَ} لِقَصْدِ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ، أَوْ يَبْتَدِئُ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِالْخِطَابِ بِالْقُرْآنِ بِمَا إِذَا قَصَدَ التَّفْهِيمَ فَقَطْ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ فِيهِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ فَلَا يَكُونُ قُرْآنًا إِلاَّ بِالْقَصْدِ، وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ مَعَ التَّفْهِيمِ الْقِرَاءَةَ لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ قُرْآنٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَصَدَ الْقُرْآنَ وَحْدَهُ؛ وَلِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- كَانَ يُصَلِّي فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ فَقَالَ: لَا حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَتَلَا عَلِيٌّ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}.

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَجْرِي فِي الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ بِالْقُرْآنِ، وَالْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ أَوِ التَّسْمِيعِ، فَإِنَّهُ إِنْ قَصَدَ الرَّدَّ مَعَ الْقِرَاءَةِ أَوْ الْقِرَاءَةَ- فَقَطْ- أَوْ قَصَدَ التَّكْبِيرَ أَوِ التَّسْمِيعَ- فَقَطْ- مَعَ الْإِعْلَامِ لَمْ تَبْطُلْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، وَإِنْ كَانَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ خَاطَبَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِمَا رَوَى الْخَلاَّلُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُآمَنِينَ} فَقُلْنَا: كَيْفَ صَنَعْتَ؟ قَالَ: اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُآمَنِينَ}، وَلِأَنَّهُ قُرْآنٌ فَلَمْ تَفْسُدْ بِهِ الصَّلَاةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدِ التَّنْبِيهَ.وَقَالَ الْقَاضِي: إِذَا قَصَدَ بِالْحَمْدِ الذِّكْرَ أَوِ الْقُرْآنَ لَمْ تَبْطُلْ، وَإِنْ قَصَدَ خِطَابَ آدَمِيٍّ بَطَلَتْ، وَإِنْ قَصَدَهُمَا فَوَجْهَانِ، فَأَمَّا إِنْ أَتَى بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ: يَا إِبْرَاهِيمُ وَنَحْوَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَلَامُ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ كَلَامِهِمْ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَاتٍ مُفَرَّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ خُذِ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ.

كَمَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِكُلِّ مَا قُصِدَ بِهِ الْجَوَابُ مِنَ الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، كَأَنْ قِيلَ.أَمَعَ اللَّهِ إِلَهٌ؟ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.أَوْ مَا مَالُكَ؟ فَقَالَ: الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْجَوَابُ بِمَا لَيْسَ بِثَنَاءٍ فَإِنَّهَا تَفْسُدُ اتِّفَاقًا، كَأَنْ قِيلَ: مَا مَالُكَ؟ فَقَالَ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْعَبِيدُ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَنَاءٍ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أُخْبِرَ بِخَبَرِ سُوءٍ فَاسْتَرْجَعَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ مَا كَانَ ثَنَاءً أَوْ قُرْآنًا لَا يَتَغَيَّرُ بِالنِّيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا يَتَغَيَّرُ، وَذَكَرَ فِي الْبَحْرِ: أَنَّهُ لَوْ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُرُّهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ فِي الصَّلَاةِ لِغَيْرِهِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ.فَلَوْ عَطَسَ شَخْصٌ فَقَالَ لَهُ الْمُصَلِّي: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ الْعَاطِسُ أَوِ السَّامِعُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ جَوَابًا إِلاَّ إِذَا أَرَادَ التَّعْلِيمَ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ، وَأَمَّا إِذَا عَطَسَ فَشَمَّتَ نَفْسَهُ فَقَالَ: يَرْحَمُكِ اللَّهُ يَا نَفْسِي لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ خِطَابًا لِغَيْرِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ كَمَا إِذَا قَالَ: يَرْحَمُنِي اللَّهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ إِلاَّ أَنْ يُخَاطِبَ كَقَوْلِهِ لِعَاطِسٍ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ.وَأَمَّا إِذَا كَانَ الذِّكْرُ لَا خِطَابَ فِيهِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، كَمَا لَوْ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.أَوْ سَمِعَ مَا يَغُمُّهُ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَوْ رَأَى مَا يُعْجِبُهُ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ قِيلَ لَهُ: وُلِدَ لَكَ غُلَامٌ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ؛ لِلِاخْتِلَافِ فِي إِبْطَالِهِ الصَّلَاةَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ، وَالِاسْتِرْجَاعِ مِنْ مُصِيبَةٍ أُخْبِرَ بِهَا وَنَحْوِهِ إِلاَّ أَنَّهُ يُنْدَبُ تَرْكُهُ كَمَا صَرَّحُوا بِجَوَازِ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالْحَوْقَلَةِ بِقَصْدِ التَّفْهِيمِ فِي أَيِّ مَحَلٍّ مِنَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ كُلَّهَا مَحَلٌّ لِذَلِكَ.

ج- التَّأَوُّهُ وَالْأَنِينُ وَالتَّأْفِيفُ وَالْبُكَاءُ وَالنَّفْخُ وَالتَّنَحْنُحُ:

109- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَنِينَ (وَهُوَ قَوْلُ: أُهْ بِالْقَصْرِ) وَالتَّأَوُّهَ (وَهُوَ قَوْلُ: آهٍ بِالْمَدِّ) وَالْبُكَاءَ وَنَحْوَهُ إِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ.وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِالْأَنِينِ وَالتَّأَوُّهِ وَالتَّأْفِيفِ وَالْبُكَاءِ، وَإِنْ حَصَلَ حُرُوفٌ لِلضَّرُورَةِ.

قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ الْأَنِينُ مِنْ وَجَعٍ، مِمَّا يُمْكِنُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ لَا يَقْطَعُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ إِنْ كَانَ الْمَرَضُ خَفِيفًا يَقْطَعُ، وَإِلاَّ فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقُعُودُ إِلاَّ بِالْأَنِينِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنْ يَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَتَكَلَّفْ إِخْرَاجَ حُرُوفٍ زَائِدَةٍ، كَمَا اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْبُكَاءَ مِنْ خَوْفِ الْآخِرَةِ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْخُشُوعِ.فَلَوْ أَعْجَبَتْهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: بَلَى أَوْ نَعَمْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْكَافِي: لِأَنَّ الْأَنِينَ وَنَحْوَهُ إِذَا كَانَ بِذِكْرِهِمَا صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ صَارَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا مُصَابٌ فَعَزُّونِي وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ تَفْسُدُ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبُكَاءُ مِنْ خَوْفِ الْآخِرَةِ أَمْ لَا فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْأَنِينِ لِأَجْلِ وَجَعٍ غَلَبَهُ، وَالْبُكَاءِ لِأَجْلِ الْخُشُوعِ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَنِينُ وَالْبُكَاءُ مِنْ غَلَبَةٍ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَالْعَمْدُ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالسَّهْوُ يُبْطِلُ إِنْ كَانَ كَثِيرًا وَيَسْجُدُ لَهُ إِنْ قَلَّ.قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَهَذَا فِي الْبُكَاءِ الْمَمْدُودِ وَهُوَ مَا كَانَ بِصَوْتٍ، وَأَمَّا الْمَقْصُورُ، وَهُوَ مَا كَانَ بِلَا صَوْتٍ فَلَا يَضُرُّ وَلَوِ اخْتِيَارًا مَا لَمْ يَكْثُرْ.

وَمِثْلُ الْمَالِكِيَّةِ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فَصَرَّحُوا بِعَدَمِ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالْبُكَاءِ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي وُسْعِهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ غَلَبَهُ نَحْوُ سُعَالٍ وَعُطَاسٍ وَتَثَاؤُبٍ وَبُكَاءٍ، وَلَوْ بَانَ مِنْهُ حَرْفَانِ، قَالَ مُهَنَّا: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَتَثَاءَبَ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَسَمِعْتُ لِتَثَاؤُبِهِ: هَاهْ، هَاهْ.وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْكَلَامِ.تَقُولُ: تَثَاءَبْتُ، عَلَى تَفَاعَلْتُ، وَلَا تَقُلْ: تَثَاوَبْتُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِدْعَاءُ بُكَاءٍ وَضَحِكٍ لِئَلاَّ يَظْهَرَ حَرْفَانِ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ.

110- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ التَّنَحْنُحَ (هُوَ أَنْ يَقُولَ أَحْ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ) لِغَيْرِ عُذْرٍ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ إِنْ ظَهَرَ حَرْفَانِ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ نَشَأَ مِنْ طَبْعِهِ، أَوْ غَلَبَهُ فَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَمِثْلُهُ مَا لَوْ فَعَلَهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، كَتَحْسِينِ الصَّوْتِ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِإِصْلَاحِ الْقِرَاءَةِ، وَمِنَ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ مَا لَوْ فَعَلَهُ لِيَهْتَدِيَ إِمَامُهُ إِلَى الصَّوَابِ، أَوْ لِلْإِعْلَامِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْقِيَاسُ الْفَسَادُ فِي الْكُلِّ إِلاَّ فِي الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ، وَالْكَلَامُ مُفْسِدٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَأَنَّهُمْ عَدَلُوا بِذَلِكَ عَنِ الْقِيَاسِ وَصَحَّحُوا عَدَمَ الْفَسَادِ بِهِ إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ لِوُجُودِ نَصٍّ، وَلَعَلَّهُ مَا فِي الْحِلْيَةِ مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ «عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَدْخَلَانِ: مَدْخَلٌ بِاللَّيْلِ وَمَدْخَلٌ بِالنَّهَارِ، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي يَتَنَحْنَحُ لِي».

وَبِمِثْلِ هَذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ فَأَجَازُوا النَّحْنَحَةَ لِحَاجَةٍ وَلَوْ بَانَ حَرْفَانِ.قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كُنْتُ آتِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَيَتَنَحْنَحُ فِي صَلَاتِهِ لِأَعْلَمَ أَنَّهُ يُصَلِّي.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْذَرُ مِنَ التَّنَحْنُحِ وَغَيْرِهِ: كَالسُّعَالِ وَالْعُطَاسِ الْيَسِيرِ عُرْفًا لِلْغَلَبَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ لِعَدَمِ التَّقْصِيرِ، وَكَذَا التَّنَحْنُحُ لِتَعَذُّرِ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَرْكَانِ الْقَوْلِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ، أَمَّا إِذَا كَثُرَ التَّنَحْنُحُ وَنَحْوُهُ لِلْغَلَبَةِ كَأَنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ مِنْ ذَلِكَ وَكَثُرَ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ، وَصَوَّبَ الْإِسْنَوِيُّ عَدَمَ الْبُطْلَانِ فِي التَّنَحْنُحِ وَالسُّعَالِ وَالْعُطَاسِ لِلْغَلَبَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ إِذْ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا.

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْأَوَّلِ مَا إِذَا لَمْ يَصِرِ السُّعَالُ وَنَحْوُهُ مَرَضًا مُلَازِمًا لَهُ، أَمَّا إِذَا صَارَ السُّعَالُ وَنَحْوُهُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ كَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ وَنَحْوُهُ بَلْ أَوْلَى.وَلَا يُعْذَرُ لَوْ تَنَحْنَحَ لِلْجَهْرِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ سُنَّةٌ، لَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّنَحْنُحِ لَهُ.وَفِي مَعْنَى الْجَهْرِ سَائِرُ السُّنَنِ.

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: لَوْ جَهِلَ بُطْلَانَهَا بِالتَّنَحْنُحِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فَمَعْذُورٌ لِخَفَاءِ حُكْمِهِ عَلَى الْعَوَامِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّنَحْنُحَ لِحَاجَةٍ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَلَا سُجُودَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَأَمَّا التَّنَحْنُحُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، بَلْ عَبَثًا فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ- أَيْضًا- وَلَا سُجُودَ فِيهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهُ الْأَبْهَرِيُّ وَاللَّخْمِيُّ وَخَلِيلٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِمَالِكٍ: أَنَّهُ كَالْكَلَامِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ.وَفَسَّرَ ابْنُ عَاشِرٍ الْحَاجَةَ بِضَرُورَةِ الطَّبْعِ، وَقَيَّدُوا عَدَمَ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالتَّنَحْنُحِ لِغَيْرِ الْحَاجَةِ بِمَا إِذَا قَلَّ وَإِلاَّ أَبْطَلَ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ.

111- وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَعَمُّدِ النَّفْخِ بِالْفَمِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ حَرْفٌ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَسَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، ظَهَرَ مَعَهُ حَرْفٌ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ كَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ.

وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُبْطِلُ مُطْلَقًا.وَقِيلَ: إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفٌ أَبْطَلَ وَإِلاَّ فَلَا.أَمَّا النَّفْخُ بِالْأَنْفِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ مَا لَمْ يَكْثُرْ أَوْ يَقْصِدُ عَبَثًا.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَإِنْ كَانَ عَبَثًا جَرَى عَلَى الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ.

وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِالنَّفْخِ فِيمَا إِذَا بَانَ حَرْفَانِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «مَنْ نَفَخَ فِي صَلَاتِهِ فَقَدْ تَكَلَّمَ» وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- -.

د- الضَّحِكُ:

112- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالضَّحِكِ إِنْ كَانَ قَهْقَهَةً، وَلَوْ لَمْ تَبِنْ حُرُوفٌ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الصَّلَاةَ وَلَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ» وَلِأَنَّهُ تَعَمَّدَ فِيهَا مَا يُنَافِيهَا، أَشْبَهَ خِطَابَ الْآدَمِيِّ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَسَوَاءٌ قَلَّتْ أَمْ كَثُرَتْ، وَسَوَاءٌ وَقَعَتْ عَمْدًا أَمْ نِسْيَانًا- لِكَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ- أَوْ غَلَبَةً، كَأَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ فِي صَلَاتِهِ أَوِ الِاسْتِمَاعَ لِمَا يُضْحِكُ فَيَغْلِبُهُ الضَّحِكُ فِيهَا.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَالْقَهْقَهَةُ اصْطِلَاحًا:

مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ وَلِجِيرَانِهِ بَدَتْ أَسْنَانُهُ أَوْ لَا، وَإِنْ عَرِيَ عَنْ ظُهُورِ الْقَافِ وَالْهَاءِ أَوْ أَحَدِهِمَا، كَمَا صَرَّحُوا بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالضَّحِكِ دُونَ قَهْقَهَةٍ، وَهُوَ مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَهُ فَقَطْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ بِالضَّحِكِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ وَإِلاَّ فَلَا وَأَمَّا التَّبَسُّمُ فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَبَسَّمَ فِيهَا فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: مَرَّ بِي مِيكَائِيلُ فَضَحِكَ لِي فَتَبَسَّمْتُ لَهُ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


41-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة الجمعة 2)

صَلَاةُ الْجُمُعَةِ-2

السَّعْيُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ:

29- مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ: وُجُوبُ السَّعْيِ إِلَيْهَا، وَتَرْكُ مُعَامَلَاتِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عِنْدَ الْأَذَانِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ- إِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَأْخِيرِ هَذَا السَّعْيِ الْوَاجِبِ عِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ.أَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ مِنْ بَيْعٍ، وَنَحْوِهِ بَدَلًا مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى السَّعْيِ فَفِي بُطْلَانِهِ، أَوْ كَرَاهَتِهِ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَحْكَامِ الْبَيْعِ (ر: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ج 9 ف 133).

الْمُسْتَحَبَّاتُ مِنْ كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ:

30- (1) الْأَذَانُ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ قَبْلَ الْبَدْءِ بِالْخُطْبَةِ إِذَا جَلَسَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهَذَا الْأَذَانُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُؤَذَّنُ لِكُلٍّ مِنَ الْوَقْتِ وَالْخُطْبَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَفِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- ثُمَّ رَأَى عُثْمَانُ- رضي الله عنه- أَنْ يُؤَذِّنَ أَذَانًا أَوَّلَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ النَّاسِ.وَأَبْقَى الْأَذَانَ الثَّانِيَ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ الْتِزَامًا لِلسُّنَّةِ.

(2) - أَنْ يَخْطُبَ الْخَطِيبُ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ يَفْتَتِحُهَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.

31- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ فِي الْخُطْبَةِ، فَذَهَبَ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ سُنَّةٌ فِي الْخُطْبَةِ وَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِهَا شَرْطًا فِيهَا.

وَدَلِيلُ الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا الطَّهَارَةَ فِيهَا: أَنَّ الْخُطْبَةَ مِنْ بَابِ الذِّكْرِ، وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعَانِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا دَلِيلُ الْآخَرِينَ: فَهُوَ مُوَاظَبَةُ السَّلَفِ عَلَى الطَّهَارَةِ فِيهَا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الصَّلَاةِ.

اسْتِحْبَابُ كَوْنِ الْخَطِيبِ وَالْإِمَامِ وَاحِدًا:

32- يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَؤُمَّ الْقَوْمَ إِلاَّ مَنْ خَطَبَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالْخُطْبَةَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ قَالَ فِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: فَإِنْ فَعَلَ بِأَنْ خَطَبَ صَبِيٌّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ وَصَلَّى بَالِغٌ جَازَ غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ.قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ: إِنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنَ الْخُطْبَةِ لَمْ يَجُزْ، وَيُصَلِّي بِهِمُ الظُّهْرَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، فَذَهَبُوا إِلَى وُجُوبِ كَوْنِ الْخَطِيبِ وَالْإِمَامِ وَاحِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ، وَكَأَنْ لَا يَقْدِرَ الْإِمَامُ عَلَى الْخُطْبَةِ، أَوْ لَا يُحْسِنَهَا.

مَا يُقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:

33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى (سُورَةَ الْجُمُعَةِ)، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ).لِمَا رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «صَلَّى بِنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَلَمَّا قَضَى أَبُو هُرَيْرَةَ الصَّلَاةَ أَدْرَكْتُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ، كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ».

كَمَا اسْتَحَبَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- أَيْضًا قِرَاءَةَ سُورَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَ {هَلْ أَتَاكَ} فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ.لِمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ».

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَكِنْ لَا يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَتِهَا بَلْ يَقْرَأُ غَيْرَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إِلَى هَجْرِ بَعْضِ الْقُرْآنِ، وَلِئَلاَّ تَظُنُّهُ الْعَامَّةُ حَتْمًا.

وَصَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ قِرَاءَةَ (الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقِينَ) أَوْلَى.

قَالَ النَّوَوِيُّ: كَانَ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ بِهَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ، وَهَاتَيْنِ فِي آخَرَ فَهُمَا سُنَّتَانِ،

وَصَرَّحَ الْمَحَلِّيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ (سُورَةِ الْجُمُعَةِ) فِي الْأُولَى قَرَأَهَا مَعَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ قَرَأَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الْأُولَى قَرَأَ (الْجُمُعَةَ) فِي الثَّانِيَةِ.كَيْ لَا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ- أَيْضًا- بِسُورَةِ {هَلْ أَتَاكَ}، أَوْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الثَّلَاثِ- {هَلْ أَتَاكَ} أَوْ {سَبِّحْ} أَوِ (الْمُنَافِقُونَ) - وَأَنَّ كُلًّا يَحْصُلُ بِهِ النَّدْبُ، لَكِنْ {هَلْ أَتَاكَ} أَقْوَى فِي النَّدْبِ، وَهَذَا مَا اعْتَمَدَهُ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيُّ.وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ قَوْلَيْنِ، وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى {هَلْ أَتَاكَ} مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الثَّلَاثِ قَوْلُ الْكَافِي.

مُفْسِدَاتُ الْجُمُعَةِ:

تَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ:

مُفْسِدَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَمُفْسِدَاتٍ خَاصَّةٍ:

34- فَأَمَّا الْمُفْسِدَاتُ الْمُشْتَرَكَةُ: فَهِيَ كُلُّ مَا يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ (ر.صَلَاة)

35- وَأَمَّا مُفْسِدَاتُهَا الْخَاصَّةُ بِهَا فَتَنْحَصِرُ فِي الْأُمُورِ التَّالِيَةِ:

أَوَّلِهَا: خُرُوجُ وَقْتِ الظُّهْرِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا، وَيَسْتَوِي فِي الْفَسَادِ خُرُوجُ الْوَقْتِ قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ بِهَا، وَخُرُوجُهُ بَعْدَ الْمُبَاشَرَةِ بِهَا وَقَبْلَ الِانْتِهَاءِ مِنْهَا هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَحْوُهُ لِلشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ ظُهْرًا وَلَا تَكُونُ جُمُعَةً، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَحْرَمُوا بِهَا فِي الْوَقْتِ فَهِيَ جُمُعَةٌ.

وَهَذَا يَعْنِي: أَنَّ اشْتِرَاطَ وَقْتِ الظُّهْرِ لَهَا مُسْتَمِرٌّ فِي الِاعْتِبَارِ إِلَى لَحْظَةِ الْفَرَاغِ مِنْهَا قَالَ فِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: لِأَنَّ الْوَقْتَ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ الِافْتِتَاحِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: شَرْطُ الْجُمُعَةِ وُقُوعُ كُلِّهَا بِالْخُطْبَةِ وَقْتَ الظُّهْرِ لِلْغُرُوبِ.

ثَانِيهَا: انْفِضَاضُ الْجَمَاعَةِ أَثْنَاءَ أَدَائِهَا، قَبْلَ أَنْ تُقَيَّدَ الرَّكْعَةُ الْأُولَى بِالسَّجْدَةِ فَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا.وَذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ أَدَاءٍ، وَأَمَّا عَلَى مَا رَجَّحَهُ الْآخَرُونَ، فَلَا أَثَرَ لِانْفِسَاخِهَا بَعْدَ الِانْعِقَادِ وَإِنْ لَمْ تُقَيَّدِ الرَّكْعَةُ الْأُولَى جَمَاعَةً.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَظْهَرُ: يُتِمُّهَا ظُهْرًا، وَالثَّانِي: إِنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ يُتِمُّهَا جُمُعَةً، وَالثَّالِثُ: إِنْ بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ يُتِمُّهَا جُمُعَةً.

وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ أَدَاءٍ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَهِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَرْطُ انْعِقَادٍ.

قَضَاءُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:

36- صَلَاة الْجُمُعَةُ لَا تُقْضَى بِالْفَوَاتِ، وَإِنَّمَا تُعَادُ الظُّهْرُ فِي مَكَانِهَا.قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَأَمَّا إِذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا، وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، سَقَطَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تُقْضَى؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ فَاتَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ، فَتَسْقُطُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ إِذَا فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ.

اجْتِمَاعُ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ:

37- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَافَقَ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُبَاحُ لِمَنْ شَهِدَ الْعِيدَ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَسَوَاءٌ مَنْ شَهِدَ الْعِيدَ بِمَنْزِلِهِ فِي الْبَلَدِ، أَوْ خَارِجَهَا.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَصَلَّوْا الْعِيدَ وَالظُّهْرَ جَازَ وَسَقَطَتِ الْجُمُعَةُ عَمَّنْ حَضَرَ الْعِيدَ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى الْعِيدَ، وَقَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ» وَصَرَّحُوا بِأَنَّ إِسْقَاطَ الْجُمُعَةِ حِينَئِذٍ إِسْقَاطُ حُضُورٍ لَا إِسْقَاطُ وُجُوبٍ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ أَوْ شُغْلٌ يُبِيحُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ وُجُوبُهَا فَتَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَيَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا.وَالْأَفْضَلُ لَهُ حُضُورُهَا خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامُ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ».

وَلِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَامْتَنَعَ فِعْلُهَا فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَنْ يُرِيدُهَا مِمَّنْ سَقَطَتْ عَنْهُ، وَقَالُوا: إِنْ قَدَّمَ الْجُمُعَةَ فَصَلاَّهَا فِي وَقْتِ الْعِيدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ: تُجْزِئُ الْأُولَى مِنْهُمَا.فَعَلَى هَذَا: تُجْزِيهِ عَنِ الْعِيدِ وَالظُّهْرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِلَى الْعَصْرِ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ الْجُمُعَةَ فِي وَقْتِ الْعِيدِ.

وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُوَافِقُ فِيهِ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ يَبْلُغُهُمُ النِّدَاءُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ: الرُّجُوعُ وَتَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ حَضَرُوا لِصَلَاةِ الْعِيدِ وَلَوْ رَجَعُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَاتَتْهُمُ الْجُمُعَةُ؛ فَيُرَخَّصُ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ.وَمِنْ ثَمَّ لَوْ تَرَكُوا الْمَجِيءَ لِلْعِيدِ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْحُضُورُ لِلْجُمُعَةِ، وَيُشْتَرَطُ- أَيْضًا- لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَنْصَرِفُوا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ.

آدَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُهَا:

اخْتَصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَاخْتَصَّتْ صَلَاتُهَا بِآدَابٍ تَشْمَلُ مَجْمُوعَةَ أَفْعَالٍ وَتُرُوكٍ، مُجْمَلُهَا فِيمَا يَلِي: -

أَوَّلًا: مَا يُسَنُّ فِعْلُهُ:

38- يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا وَيَتَجَمَّلَ، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- مَرْفُوعًا: «لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا»،، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: الْغُسْلُ لَهَا وَاجِبٌ.

قَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فِي بَيَانِ عِلَّةِ ذَلِكَ: لِأَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لَهَا عَلَى أَحْسَنِ وَصْفٍ كَمَا يُسَنُّ التَّبْكِيرُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْجَامِعِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْخَطِيبُ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا اتَّفَقَتِ الْأَئِمَّةُ عَلَى نَدْبِهِ، وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ- أَيْضًا- فَاشْتَرَطُوا فِي الْغُسْلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِوَقْتِ الذَّهَابِ إِلَى الْجَامِعِ، قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ الزَّكِيَّةِ: فَإِنِ اغْتَسَلَ وَاشْتَغَلَ بِغِذَاءٍ أَوْ نَوْمٍ أَعَادَ الْغُسْلَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِذَا خَفَّ الْأَكْلُ، أَوِ النَّوْمُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.

ثَانِيًا: مَا يُسَنُّ تَرْكُهُ:

39- أَوَّلًا: أَكْلُ كُلِّ ذِي رِيحٍ كَرِيهَةٍ: كَثُومٍ وَبَصَلٍ وَنَحْوِهِمَا.

40- ثَانِيًا: تَخَطِّي الرِّقَابِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ إِذَا كَانَ الْخَطِيبُ قَدْ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ، إِلاَّ أَنْ لَا يَجِدَ إِلاَّ فُرْجَةً أَمَامَهُ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلاَّ بِتَخَطِّي الرِّقَابِ، فَيُرَخَّصُ فِي ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ.

41- ثَالِثًا: تَجَنُّبُ الِاحْتِبَاءِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، حَيْثُ صَرَّحُوا بِكَرَاهَتِهِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الْحَبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ»

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: نَهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ يَجْلُبُ النَّوْمَ، فَيُعَرِّضُ طَهَارَتَهُ لِلنَّقْضِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ.وَلَمْ يَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِهِ بَأْسًا حَيْثُ صَرَّحُوا بِجَوَازِهِ (ر: احْتِبَاء) كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ أَوْ يَعْبَثُ حَالَ ذَهَابِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِهِ لَهَا

42- يَحْرُمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِنْشَاءُ سَفَرٍ بَعْدَ الزَّوَالِ (وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ) مِنَ الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يُدْرِكَ أَدَاءَهَا فِي مِصْرٍ آخَرَ.فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ عَلَى الرَّاجِحِ مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رُفْقَتِهِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- حَيْثُ صَرَّحُوا بِحُرْمَةِ السَّفَرِ بَعْدَ الزَّوَالِ.كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ السَّفَرِ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: إِلَى أَنَّ حُرْمَةَ السَّفَرِ تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ الْفَجْرِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ، وَدَلِيلُهُ: أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْجُمُعَةِ مُضَافَةٌ إِلَى الْيَوْمِ كُلِّهِ لَا إِلَى خُصُوصِ وَقْتِ الظُّهْرِ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ السَّعْيِ إِلَيْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ عَلَى بَعِيدِ الدَّارِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


42-موسوعة الفقه الكويتية (طهارة 2)

طَهَارَةٌ -2

طَهَارَةُ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ:

20- إِذَا تَنَجَّسَتْ الْأَرْضُ بِنَجَاسَةٍ مَائِعَةٍ- كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا- فَتَطْهِيرُهَا أَنْ تُغْمَرَ بِالْمَاءِ بِحَيْثُ يَذْهَبُ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا، وَمَا انْفَصَلَ عَنْهَا غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ بِهَا فَهُوَ طَاهِرٌ.

بِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةٍ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ» وَفِي لَفْظٍ فَدَعَاهُ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذِرِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» وَأَمَرَ رَجُلًا فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالذَّنُوبِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَغْمُرُ الْبَوْلَ، وَيُسْتَهْلَكُ فِيهِ الْبَوْلُ وَإِنْ أَصَابَ الْأَرْضَ مَاءُ الْمَطَرِ أَوِ السُّيُولُ فَغَمَرَهَا وَجَرَى عَلَيْهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ صَبَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةٌ وَلَا فِعْلٌ، فَاسْتَوَى مَا صَبَّهُ الْآدَمِيُّ وَمَا جَرَى بِغَيْرِ صَبِّهِ.

وَلَا تَطْهُرُ الْأَرْضُ حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرَائِحَتُهَا، وَلِأَنَّ بَقَاءَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَزُولُ لَوْنُهَا إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ سَقَطَ عَنْهُ إِزَالَتُهَا كَالثَّوْبِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الرَّائِحَةِ.

وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ أَرْضًا رَخْوَةً فَيُصَبُّ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَتَطْهُرُ، لِأَنَّهَا تُنَشِّفُ الْمَاءَ، فَيَطْهُرُ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهَا، ثُمَّ تُكْبَسُ الْحَفِيرَةُ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا الْغُسَالَةُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْض ف 3).

مَا تَطْهُرُ بِهِ الْأَرْضُ سِوَى الْمِيَاهِ:

21- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ إِذَا أَصَابَهَا نَجِسٌ، فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ أَوِ الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَذَهَبَ أَثَرُهُ طَهُرَتْ وَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا أَرْضٍ جَفَّتْ فَقَدْ ذَكَتْ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِغَيْرِ الْمَاءِ، لِأَمْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ ذَنُوبُ مَاءٍ، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَلَمْ يَطْهُرْ بِغَيْرِ الْغَسْلِ.

طَهَارَةُ النَّجَاسَةِ بِالِاسْتِحَالَةِ:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا صَارَتْ طَاهِرَةً.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيل ف 13، 14).

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا الْخَمْرَ مِنْ نَجِسِ الْعَيْنِ هَلْ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالِاسْتِحَالَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا» لِأَكْلِهَا النَّجَاسَةَ، وَلَوْ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ.

قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَلَا يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالْغَسْلِ مُطْلَقًا، وَلَا بِالِاسْتِحَالَةِ، كَمَيْتَةٍ وَقَعَتْ فِي مَلاَّحَةٍ فَصَارَتْ مِلْحًا، أَوْ أُحْرِقَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَلَا تَطْهُرُ نَجَاسَةٌ بِنَارٍ، فَالرَّمَادُ مِنَ الرَّوْثِ النَّجِسِ نَجِسٌ وَصَابُونٌ عُمِلَ مِنْ زَيْتٍ نَجِسٍ نَجِسٌ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ كَلْبٌ فِي مَلاَّحَةٍ فَصَارَ مِلْحًا، أَوْ فِي صَبَّانَةٍ فَصَارَ صَابُونًا.

لَكِنْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَحَوَّلَتِ الْعَلَقَةُ إِلَى مُضْغَةٍ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ طَاهِرَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نَجِسَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا بِصَيْرُورَتِهَا عَلَقَةً، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَادَتْ إِلَى أَصْلِهَا، كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجَاسَةِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَتَنْتَفِي الْحَقِيقَةُ بِانْتِفَاءِ بَعْضِ أَجْزَاءِ مَفْهُومِهَا، فَكَيْفَ بِالْكُلِّ؟.

وَنَظِيرُهُ فِي الشَّرْعِ النُّطْفَةُ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ عَلَقَةً وَهِيَ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ مُضْغَةً فَتَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ فَيَصِيرُ خَمْرًا فَيَنْجُسُ، وَيَصِيرُ خَلًّا فَيَطْهُرُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَالَ الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا اسْتَحَالَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ بِالنَّارِ، أَوْ زَالَ أَثَرُهَا بِهَا يَطْهُرُ.

كَمَا تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ عِنْدَهُمْ بِانْقِلَابِ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.

وَمِنْ تَفْرِيعَاتِ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمُجْتَبَى أَنَّهُ إِنْ جُعِلَ الدُّهْنُ النَّجِسُ فِي صَابُونٍ يُفْتَى بِطَهَارَتِهِ، لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ، وَالتَّغَيُّرُ يُطَهِّرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَيُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى، وَعَلَيْهِ يَتَفَرَّعُ مَا لَوْ وَقَعَ إِنْسَانٌ أَوْ كَلْبٌ فِي قِدْرِ الصَّابُونِ فَصَارَ صَابُونًا يَكُونُ طَاهِرًا لِتَبَدُّلِ الْحَقِيقَةِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْعِلَّةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ التَّغَيُّرُ وَانْقِلَابُ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّهُ يُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى، وَمُقْتَضَاهُ: عَدَمُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالصَّابُونِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ تَغَيُّرٌ وَانْقِلَابٌ حَقِيقَةً، وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى عَامَّةٌ.

كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا تَحَجَّرَتْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، لِزَوَالِ الْإِسْكَارِ مِنْهَا، وَأَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّارَ تَطْهُرُ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: سَوَاءٌ أَكَلَتِ النَّارُ النَّجَاسَةَ أَكْلًا قَوِيًّا أَوْ لَا، فَالْخُبْزُ الْمَخْبُوزُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ طَاهِرٌ وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّمَادِ، وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ قَبْلَ غَسْلِ الْفَمِ مِنْ أَكْلِهِ، وَيَجُوزُ حَمْلُهُ فِي الصَّلَاةِ.

مَا يَطْهُرُ مِنَ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغَةِ:

23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ جُلُودِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانَاتِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ: (دِبَاغَة ج 20 ف 8 وَمَا بَعْدَهَا).

تَطْهِيرُ الْخُفِّ مِنَ النَّجَاسَةِ:

24- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتْ أَسْفَلَ الْخُفِّ أَوِ النَّعْلِ نَجَاسَةٌ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِغَسْلِهِ، وَلَا يُجْزِئُ لَوْ دَلَكَهُ كَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ رَطْبَةً أَوْ جَافَّةً، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَةِ الْجَافَّةِ إِذَا دُلِكَتْ، أَصَحُّهُمَا: الْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَغْسِلَهُ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهِ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ؛ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا».

قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ وَهُوَ الْعَفْوُ فَلَهُ شُرُوطٌ.

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلنَّجَاسَةِ جِرْمٌ يَلْتَصِقُ بِالْخُفِّ، أَمَّا الْبَوْلُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَكْفِي دَلْكُهُ بِحَالٍ.

الثَّانِي: أَنْ يَدْلُكَهُ فِي حَالِ الْجَفَافِ، وَأَمَّا مَا دَامَ رَطْبًا فَلَا يَكْفِي دَلْكُهُ قَطْعًا.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُصُولُ النَّجَاسَةِ بِالْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَلَوْ تَعَمَّدَ تَلْطِيخَ.الْخُفِّ بِهَا وَجَبَ الْغَسْلُ قَطْعًا.

وَنَقَلَ الْبُهُوتِيُّ عَنِ الْإِنْصَافِ أَنَّ يَسِيرَ النَّجَاسَةِ إِذَا كَانَتْ عَلَى أَسْفَلِ الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ بَعْدَ الدَّلْكِ يُعْفَى عَنْهُ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الْخُفَّ نَجَاسَةٌ لَهَا جِرْمٌ، كَالرَّوْثِ وَالْعَذِرَةِ، فَجَفَّتْ، فَدَلَكَهُ بِالْأَرْضِ جَازَ، وَالرَّطْبُ وَمَا لَا جِرْمَ لَهُ كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلاَّ الْغَسْلُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُ الْمَسْحُ فِيهِمَا إِلاَّ الْبَوْلَ وَالْخَمْرَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ فِيهِمَا إِلاَّ الْغُسْلُ كَالثَّوْبِ.

وَلِأَبِي يُوسُفَ إِطْلَاقُ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَصَابَ خُفَّ أَحَدِكُمْ أَوْ نَعْلَهُ أَذًى فَلْيَدْلُكْهُمَا فِي الْأَرْضِ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ طَهُورٌ لَهُمَا» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَالْمُتَجَسِّدِ وَغَيْرِهِ، وَلِلضَّرُورَةِ الْعَامَّةِ.وَلِأَبِي حَنِيفَةَ هَذَا الْحَدِيثُ.إِلاَّ أَنَّ الرَّطْبَ إِذَا مُسِحَ بِالْأَرْضِ يَتَلَطَّخُ بِهِ الْخُفُّ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ، فَلَا يُطَهِّرُهُ بِخِلَافِ الْيَابِسِ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ لَا يَتَدَاخَلُهُ إِلاَّ شَيْءٌ يَسِيرٌ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالْخَمْرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُجْتَذَبُ مِثْلُ مَا عَلَى الْخُفِّ، فَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ، حَتَّى لَوْ لَصِقَ عَلَيْهِ طِينٌ رَطْبٌ فَجَفَّ، ثُمَّ دَلَكَهُ جَازَ، كَاَلَّذِي لَهُ جِرْمٌ، وَبِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُتَخَلَّلٌ فَتَتَدَاخَلُهُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ، فَلَا تَزُولُ بِالْمَسْحِ، فَيَجِبُ الْغَسْلُ.

وَلِمُحَمَّدٍ الْقِيَاسُ عَلَى الثَّوْبِ وَالْبِسَاطِ، بِجَامِعِ أَنَّ النَّجَاسَةَ تَدَاخَلَتْ فِي الْخُفِّ تَدَاخُلَهَا فِيهِمَا.

قَالَ الْكَمَالُ: وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى.

وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: وَهُوَ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِلضَّرُورَةِ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَإِذَا أَصَابَ الْخُفَّ شَيْءٌ مِنْ رَوْثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ إِنْ دُلِكَ بِتُرَابٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ نَحْوِهِ حَتَّى زَالَتِ الْعَيْنُ، وَكَذَا إِنْ جَفَّتِ النَّجَاسَةُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يُخْرِجُهُ الْغُسْلُ سِوَى الْحُكْمِ.

وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْعَفْوَ بِأَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ الْخُفِّ أَوِ النَّعْلِ بِالنَّجَاسَةِ بِمَوْضِعٍ يَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا- كَالطُّرُقِ- لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ نَقْلًا عَنِ الْبُنَانِيِّ: وَهَذَا الْقَيْدُ نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَالظَّاهِرُ اعْتِبَارُهُ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ لِتَعْلِيلِهِ بِالْمَشَقَّةِ، كَمَا ذَكَرَ خَلِيلٌ أَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا هُوَ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ بِمَوْضِعٍ لَا تَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا وَلَوْ دَلْكًا.

وَإِنْ أَصَابَ الْخُفَّ أَوِ النَّعْلَ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَاتِ غَيْرِ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، كَخُرْءِ الْكِلَابِ أَوْ فَضْلَةِ الْآدَمِيِّ أَوْ دَمٍ، فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ.

قَالَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: وَالْعِلَّةُ نُدُورُ ذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ، فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِيهَا صَارَ كَرَوْثِ الدَّوَابِّ.

تَطْهِيرُ مَا تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ مِنْ مَلَابِسِ النِّسَاءِ فِي الطُّرُقِ:

25- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ ذَيْلُ ثَوْبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْبَدَنِ، وَلَا يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَرْضِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ ذَيْلَ ثَوْبِ الْمَرْأَةِ الْيَابِسِ مِنَ النَّجَاسَةِ إِذَا مَرَّتْ بَعْدَ الْإِصَابَةِ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَابِسٍ، سَوَاءٌ كَانَ أَرْضًا أَوْ غَيْرَهُ.

وَقَيَّدُوا هَذَا الْعَفْوَ بِعِدَّةِ قُيُودٍ هِيَ:

أ- أَنْ يَكُونَ الذَّيْلُ يَابِسًا وَقَدْ أَطَالَتْهُ لِلسَّتْرِ، لَا لِلزِّينَةِ وَالْخُيَلَاءِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا تُطِيلُهُ لِلسَّتْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ لَابِسَةٍ لِخُفٍّ أَوْ جَوْرَبٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ لَابِسَةً لَهُمَا فَلَا عَفْوَ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ زِيِّهَا أَمْ لَا.

ب- وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي أَصَابَتْ ذَيْلَ الثَّوْبِ مُخَفَّفَةٌ جَافَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَالطِّينِ.

ج- وَأَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَمُرُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ طَاهِرًا يَابِسًا.

التَّطْهِيرُ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ وَبَوْلِ الْجَارِيَةِ:

26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ وَبَوْلِ الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَيْنِ أَكَلَا أَوْ لَا، يَكُونُ بِغَسْلِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَطْعَمِ الطَّعَامَ النَّضْحُ، وَيَكُونُ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَى الْمَكَانِ الْمُصَابِ وَغَمْرِهِ بِهِ بِلَا سَيَلَانٍ، فَقَدْ «رَوَتْ أُمُّ قَيْسِ بِنْتُ مُحْصَنٍ- رضي الله عنها- أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ» أَمَّا بَوْلُ الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ فَلَا يُجْزِئُ فِي تَطْهِيرِهِ النَّضْحُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْغَسْلِ، لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ «يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ، وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ»، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ الِائْتِلَافَ بِحَمْلِ الصَّبِيِّ يَكْثُرُ، فَيُخَفَّفُ فِي بَوْلِهِ، وَبِأَنَّ بَوْلَهُ أَرَقُّ مِنْ بَوْلِهَا، فَلَا يَلْصَقُ بِالْمَحَلِّ كَلَصْقِ بَوْلِهَا بِهِ.

قَالَ أَحْمَدُ: الصَّبِيُّ إِذَا طَعِمَ الطَّعَامَ وَأَرَادَهُ وَاشْتَهَاهُ غُسِلَ بَوْلُهُ، وَلَيْسَ إِذَا طَعِمَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَلْعَقُ الْعَسَلَ، وَمَا يَطْعَمُهُ لِغِذَائِهِ وَهُوَ يُرِيدُهُ وَيَشْتَهِيهِ يُوجِبُ الْغَسْلَ (ر: أُنُوثَة ف 16).

تَطْهِيرُ أَوَانِي الْخَمْرِ:

27- الْأَصْلُ فِي تَطْهِيرِ أَوَانِي الْخَمْرِ هُوَ غَسْلُهَا، بِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِيمَا كَانَ مُزَفَّتًا مِنَ الْآنِيَةِ.

وَفِي هَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا ثَلَاثًا بِحَيْثُ لَا تَبْقَى فِيهَا رَائِحَةُ الْخَمْرِ وَلَا أَثَرُهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ رَائِحَتُهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَائِعَاتِ سِوَى الْخَلِّ؛ لِأَنَّهُ بِجَعْلِهِ فِيهَا تَطْهُرُ وَإِنْ لَمْ تُغْسَلْ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْخَمْرِ يَتَخَلَّلُ بِالْخَلِّ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: الْكُوزُ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْرٌ تَطْهِيرُهُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ الْمَاءُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلَّ مَرَّةٍ سَاعَةً، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطْهُرُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا زَالَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ، وَيُنْدَبُ غَسْلُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».

فَنُدِبَ إِلَى الثَّلَاثِ لِلشَّكِّ فِي النَّجَاسَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ إِذَا تَيَقَّنَ وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً.

وَالْغَسْلُ الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُكَاثِرَ بِالْمَاءِ حَتَّى تُسْتَهْلَكَ النَّجَاسَةُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ: فِي طَهَارَةِ الْفَخَّارِ مِنْ نَجِسِ غَوَّاصٍ كَالْخَمْرِ قَوْلَانِ، قَالَ الْمَوَّاقُ نَقْلًا عَنِ النَّوَادِرِ فِي أَوَانِي الْخَمْرِ: تُغْسَلُ وَيُنْتَفَعُ بِهَا، وَلَا تَضُرُّهَا الرَّائِحَةُ.وَتَطْهُرُ أَوَانِيهِ إِذَا تَحَجَّرَتِ الْخَمْرُ فِيهَا أَوْ خُلِّلَتْ، وَيَطْهُرُ إِنَاؤُهَا تَبَعًا لَهَا وَلَوْ فَخَّارًا بِغَوَّاصٍ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي الْإِنَاءِ خَمْرٌ يَتَشَرَّبُهَا الْإِنَاءُ، ثُمَّ مَتَى جُعِلَ فِيهِ مَائِعٌ، سَوَاءٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ أَوْ لَوْنُهُ، لَمْ يَطْهُرْ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يَسْتَأْصِلُ أَجْزَاءَهُ مِنْ جِسْمِ الْإِنَاءِ، فَلَمْ يُطَهِّرْهُ.كَالسِّمْسِمِ إِذَا ابْتَلَّ بِالنَّجَاسَةِ، قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ: آنِيَةُ الْخَمْرِ مِنْهَا الْمُزَفَّتُ، فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الزِّفْتَ يَمْنَعُ وُصُولَ النَّجَاسَةِ إِلَى: جِسْمِ الْإِنَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِمُزَفَّتٍ، فَيَتَشَرَّبُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ، فَلَا يَطْهُرُ بِالتَّطْهِيرِ، فَإِنَّهُ مَتَى تُرِكَ فِيهِ مَائِعٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ وَلَوْنُهُ.

تَطْهِيرُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ وَمَلَابِسِهِمْ:

28- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ فِي آنِيَةِ الْكُفَّارِ: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ لِأَنَّ سُؤْرَهُمْ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ اللُّعَابُ، وَقَدْ تَوَلَّدَ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ، فَيَكُونُ طَاهِرًا، فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا مُشْرِكِينَ».

وَلَوْ كَانَ عَيْنُ الْمُشْرِكِ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ: وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّجَسُ فِي الْعَقِيدَةِ، فَمَتَى تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى مَا تَنَجَّسَ مِنْ أَوَانِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَسْلٍ وَغَيْرِهِ، إِذْ لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ، وَلَا يُكْرَهُ مِنْهَا إِلاَّ السَّرَاوِيلُ الْمُتَّصِلَةُ بِأَبْدَانِهِمْ لِاسْتِحْلَالِهِمُ الْخَمْرَ، وَلَا يَتَّقُونَهَا كَمَا لَا يَتَوَقَّوْنَ النَّجَاسَةَ وَالتَّنَزُّهَ عَنْهَا، فَلَوْ أَمِنَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لَهَا وَكَانَ التَّأَكُّدُ مِنْ طَهَارَتِهَا قَائِمًا، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لُبْسُهَا، وَإِذَا تَنَجَّسَتْ جَرَى عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى تَطْهِيرِ مَلَابِسِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا تُصِيبُهَا نَجَاسَةٌ، سَوَاءٌ بِالْغَسْلِ أَوْ غَيْرِهِ.

وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِعْمَالَ أَوَانِيَهُمْ وَثِيَابَهُمْ لِمَا «رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلاَّ أَنْ لَا تَجِدُوا بُدًّا، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا».وَلِأَنَّهُمْ لَا يَتَجَنَّبُونَ النَّجَاسَةَ فَكُرِهَ لِذَلِكَ.

فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ أَوَانِيهِمْ نُظِرَتْ: فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ صَحَّ الْوُضُوءُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» وَتَوَضَّأَ عُمَرُ- رضي الله عنه- مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيٍّ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ.

وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ الْوُضُوءُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ، وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ كَمَا يَتَدَيَّنُ.

الْمُسْلِمُونَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ أَوَانِيهِمْ وَثِيَابِهِمُ النَّجَاسَةُ.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ اسْتِعْمَالَ أَوَانِيهِمْ إِلاَّ إِذَا تَيَقَّنَ عَدَمَ طَهَارَتِهَا، وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَسْتَنْجُونَ وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنَ النَّجَاسَاتِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةَ، فَإِذَا تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِزَوَالِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَهُ صِفَةُ الطَّهُورِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِمَلَابِسِهِمْ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ مَا لَمْ يُصِبْهَا النَّجِسُ، وَلِذَا لَا يُصَلَّى فِي مَلَابِسِهِمْ أَيْ مَا يَلْبَسُونَهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهَا، فَحُمِلَ عَلَيْهَا عِنْدَ الشَّكِّ: أَمَّا إِنْ عُلِمَتْ أَوْ ظُنَّتْ طَهَارَتُهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى فِيهَا.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ فِي ثِيَابِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ مُبَاحَةُ الِاسْتِعْمَالِ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، وَأَضَافُوا: إِنَّ الْكُفَّارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ- أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ- فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَيُبَاحُ أَكْلُ طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَاسْتِعْمَالِ آنِيَتِهِمْ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ- رضي الله عنه- قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا.قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُتَبَسِّمًا».

وَرَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَضَافَهُ يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ»، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.

وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ- وَهُمُ الْمَجُوس وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَنَحْوُهُمْ- وَمَنْ يَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُمْ أَكْلُهُ، أَوْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، أَوْ يَذْبَحُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ فَحُكْمُ ثِيَابِهِمْ حُكْمُ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَأَمَّا أَوَانِيهِمْ فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: حُكْمُهَا حُكْمُ أَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ، يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهَا مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهَا، «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ.

وَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ نَجِسَةٌ، لَا يُسْتَعْمَلُ مَا اسْتَعْمَلُوهُ مِنْهَا إِلاَّ بَعْدَ غَسْلِهِ، لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِأَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ، فَتَتَنَجَّسُ بِهَا وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ: لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَعَامِهِمْ إِلاَّ الْفَاكِهَةُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَةُ آنِيَتِهِمُ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي أَطْعِمَتِهِمْ، وَمَتَى شَكَّ فِي الْإِنَاءِ هَلْ اسْتَعْمَلُوهُ أَمْ لَا؟ فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ.

تَطْهِيرُ الْمَصْبُوغِ بِنَجِسٍ:

29- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمَصْبُوغَ بِنَجِسٍ يَطْهُرُ بِغُسْلِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: يُغْسَلُ حَتَّى يَصِيرَ الْمَاءُ صَافِيًا، وَقِيلَ: يُغْسَلُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ حَتَّى يَزُولَ طَعْمُ النَّجِسِ، وَمَتَى زَالَ طَعْمُهُ فَقَدْ طَهُرَ وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ لَوْنِهِ وَرِيحِهِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: يُغْسَلُ حَتَّى يَنْفَصِلَ النَّجِسُ مِنْهُ وَلَمْ يَزِدِ الْمَصْبُوغُ وَزْنًا بَعْدَ الْغَسْلِ عَلَى وَزْنِهِ قَبْلَ الصَّبْغِ، وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لِعُسْرِ زَوَالِهِ، فَإِنْ زَادَ وَزْنُهُ ضَرَّ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ لِتَعَقُّدِهِ بِهِ لَمْ يَطْهُرْ، لِبَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهِ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- فِي الدَّمِ: «وَلَا يَضُرُّكَ أَثَرُهُ».

رَمَادُ النَّجِسِ الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ:

30- الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبِهِ يُفْتَى، وَالْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ: أَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ طَاهِرٌ، فَيَطْهُرُ بِالنَّارِ الْوَقُودُ الْمُتَنَجِّسُ وَالسِّرْقِينُ وَالْعَذِرَةُ تَحْتَرِقُ فَتَصِيرُ رَمَادًا تَطْهُرُ، وَيَطْهُرُ مَا تَخَلَّفَ عَنْهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَمَاد ج 23، ف 3).

تَطْهِيرُ مَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ:

31- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اللَّحْمِ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ، هَلْ يَطْهُرُ أَمْ لَا؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- عَدَا أَبِي يُوسُفَ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِذَا صَبَّ الطَّبَّاخُ فِي الْقِدْرِ مَكَانَ الْخَلِّ خَمْرًا غَلَطًا، فَالْكُلُّ نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُغْلَى ثَلَاثًا لَا يُؤْخَذُ بِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ مِنْ مَاءٍ، أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ حَالَ طَبْخِهِ قَبْلَ نُضْجِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، أَمَّا إِنْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ بَعْدَ نُضْجِهِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْسِلَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَرَقِ.

وَقَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ تَطُلْ إِقَامَةُ النَّجَاسَةِ فِيهِ، بِحَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهَا سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ طَهَارَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغْسَلُ ثُمَّ يُعْصَرُ كَالْبِسَاطِ، الثَّانِي: يُشْتَرَطُ أَنْ يَغْلِيَ بِمَاءٍ طَهُورٍ.وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِوُجُوبِ السَّقْي مَرَّةً ثَانِيَةً وَالْغَلْيِ، وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الِاكْتِفَاءَ بِالْغُسْلِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْفَخَّارِ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، هَلْ يَطْهُرُ أَمْ لَا؟

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَخَّارَ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ لَا يَطْهُرُ.

وَنَقَلَ الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْبُنَانِيِّ أَنَّ الْفَخَّارَ الْبَالِيَ إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةُ غَوَّاصَةٍ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ هُوَ الْفَخَّارُ الَّذِي لَمْ يُسْتَعْمَلْ قَبْلَ حُلُولِ الْغَوَّاصِ فِيهِ، أَوِ اسْتُعْمِلَ قَلِيلًا، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِثْلَ الْفَخَّارِ أَوَانِي الْخَشَبِ الَّذِي يُمْكِنُ سَرَيَانُ النَّجَاسَةِ إِلَى دَاخِلِهِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْخَزَفِ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ ثَلَاثًا، وَيُجَفَّفَ كُلَّ مَرَّةٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقْيَسُ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْسَعُ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بَاطِنُ حَبٍّ تَشَرَّبَ النَّجَاسَةَ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ طُبِخَتِ الْحِنْطَةُ فِي الْخَمْرِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُطْبَخُ ثَلَاثًا بِالْمَاءِ وَتُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا طُبِخَتْ فِي الْخَمْرِ لَا تَطْهُرُ أَبَدًا، وَبِهِ يُفْتَى، إِلاَّ إِذَا صُبَّ فِيهِ الْخَلُّ، وَتُرِكَ حَتَّى صَارَ الْكُلُّ خَلًّا.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّيْتُونَ الَّذِي مُلِّحَ بِنَجِسٍ، بِأَنْ جُعِلَ عَلَيْهِ مِلْحٌ نَجِسٌ يُصْلِحُهُ، إِمَّا وَحْدَهُ أَوْ مَعَ مَاءٍ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ بَعْدَ تَمْلِيحِهِ وَاسْتِوَائِهِ، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْجُبْنِ وَاللَّيْمُونِ وَالنَّارِنْجِ وَالْبَصَلِ وَالْجَزَرِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ، وَمَحَلُّ عَدَمِ الضَّرَرِ إِذَا لَمْ تَمْكُثِ النَّجَاسَةُ مُدَّةً يُظَنُّ أَنَّهَا سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.

كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْضَ الَّذِي سُلِقَ بِنَجِسٍ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمَسْلُوقُ فِيهِ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ أَمْ لَا.

وَقَالَ الْبُنَانِيِّ: الظَّاهِرُ- كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ- أَنَّ الْمَاءَ إِذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، ثُمَّ سُلِقَ فِيهِ الْبَيْضُ، فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُهُ، حَيْثُ إِنَّ الْمَاءَ حِينَئِذٍ طَهُورٌ وَلَوْ قَلَّ عَلَى الْمَشْهُورِ.

أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ عَلَى الْبَيْضِ الْمَسْلُوقِ نَجَاسَةٌ بَعْدَ سَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ شُوِيَ الْبَيْضُ الْمُتَنَجِّسُ قِشْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّبِنَ الْمُخْتَلِطَ بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ- كَالرَّوْثِ وَعِظَامِ الْمَيْتَةِ- نَجِسٌ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهِ لِعَيْنِ النَّجَاسَةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ طُبِخَ فَالْمَذْهَبُ- وَهُوَ الْجَدِيدُ- أَنَّهُ عَلَى نَجَاسَتِهِ.أَمَّا اللَّبِنُ غَيْرُ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ، بِأَنْ نَجِسَ بِسَبَبِ عَجْنِهِ بِمَاءٍ نَجِسٍ أَوْ بَوْلٍ، فَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَيَطْهُرُ بَاطِنُهُ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ عَجِينٌ تَنَجَّسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


43-موسوعة الفقه الكويتية (ظن)

ظَنٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الظَّنُّ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ظَنَّ، مِنْ بَابِ قَتَلَ وَهُوَ خِلَافُ الْيَقِينِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْمُلَاقُو رَبِّهِمْ} وَمِنْهُ الْمَظِنَّةُ بِكَسْرِ الظَّاءِ لِلْمَعْلَمِ وَهُوَ حَيْثُ يُعْلَمُ الشَّيْءُ، وَالْجَمْعُ الْمَظَانُّ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ مَظِنَّةُ الشَّيْءِ مَوْضِعُهُ وَمَأْلَفُهُ، وَالظِّنَّةُ بِالْكَسْرِ: التُّهْمَةُ.

وَالظَّنُّ فِي الِاصْطِلَاحِ- كَمَا عَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ- هُوَ: الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْيَقِينِ وَالشَّكِّ، وَقِيلَ: الظَّنُّ أَحَدُ طَرَفَيِ الشَّكِّ بِصِفَةِ الرُّجْحَانِ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ: أَنَّ الظَّنَّ مِنَ الْأَضْدَادِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ يَقِينًا وَيَكُونُ شَكًّا، كَالرَّجَاءِ يَكُونُ أَمْنًا وَخَوْفًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الظَّنَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَبِيلِ الشَّكِّ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ التَّرَدُّدَ بَيْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ، سَوَاءٌ اسْتَوَيَا أَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا.

وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ.

وَنَقَلَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ الزَّرْكَشِيَّ أَوْرَدَ ضَابِطَيْنِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الظَّنِّ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالظَّنِّ الْوَارِدِ فِيهِ بِمَعْنَى الشَّكِّ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ الظَّنُّ مَحْمُودًا مُثَابًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْيَقِينُ، وَحَيْثُ وُجِدَ مَذْمُومًا مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ فَهُوَ الشَّكُّ.

الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بِهِ (أَنْ) الْمُخَفَّفَةُ فَهُوَ شَكٌّ نَحْوُ قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} وَكُلُّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بِهِ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةُ فَهُوَ يَقِينٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّيمُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الشَّكُّ:

2- الشَّكُّ فِي اللُّغَةِ: الِارْتِيَابُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ: أَنَّ الشَّكَّ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَا يَمِيلُ الْقَلْبُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُطْرَحِ الْآخَرُ فَهُوَ ظَنٌّ، فَإِذَا طَرَحَهُ فَهُوَ غَالِبُ الظَّنِّ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ.

ب- الْوَهْمُ:

3- الْوَهْمُ فِي اللُّغَةِ: سَبْقُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ، أَيْ مَا يُقَابِلُ الظَّنَّ.

ج- الْيَقِينُ:

4- الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ يَقِينًا.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ: جَزْمُ الْقَلْبِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الظَّنُّ عَلَى أَضْرُبٍ: مَحْظُورٌ، وَمَأْمُورٌ بِهِ، وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَمُبَاحٌ.

فَأَمَّا الْمَحْظُورُ.فَمِنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ وَوَاجِبٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى مَحْظُورٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ يَقُولُ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ».

وَمِنَ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمُ الْعَدَالَةُ، فَعَنْ صَفِيَّةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ سَكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ- رضي الله عنهما-، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا أَوْ قَالَ: شَيْئًا»

ثُمَّ إِنَّ كُلَّ ظَنٍّ فِيمَا لَهُ سَبِيلٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِمَّا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَعَبَّدًا بِعِلْمِهِ، وَنُصِبَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتْبَعِ الدَّلِيلَ وَحَصَلَ عَلَى الظَّنِّ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ.

وَأَمَّا مَا لَمْ يَنْصِبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُوصِلُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ تُعُبِّدَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ فِيهِ، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَإِجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعُدُولِ، وَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ، وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِمَقَادِيرِهَا تَوْقِيفٌ، فَهَذِهِ وَمَا كَانَ مِنْ نَظَائِرِهَا قَدْ تُعُبِّدْنَا فِيهَا بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِ غَالِبِ الظَّنِّ.

وَأَمَّا الظَّنُّ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ فَهُوَ: حُسْنُ الظَّنِّ بِالْأَخِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مُثَابٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مِنَ الظَّنِّ مَنْدُوبًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَمَا كَانَ سُوءُ الظَّنِّ مَحْظُورًا لِوُجُودِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ احْتِمَالٌ أَنْ لَا يَظُنَّ بِهِ شَيْئًا فَكَانَ مَنْدُوبًا.

وَأَمَّا الظَّنُّ الْمُبَاحُ، فَمِنْهُ: ظَنُّ الشَّاكِّ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَلِ عَلَى مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ، فَإِنْ عَمِلَ بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ ظَنُّهُ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ جَائِزًا.

وَذَكَرَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الظَّنَّ يَنْقَسِمُ فِي الشَّرْعِ إِلَى وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ وَحَرَامٍ وَمُبَاحٍ، فَالْوَاجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَرَامُ سُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى، وَبِكُلٍّ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُبَاحُ الظَّنُّ بِمَنِ اشْتَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِمُخَالَطَةِ الرِّيَبِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْخَبَائِثِ فَلَا يَحْرُمُ ظَنُّ السُّوءِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ سَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَظُنَّ النَّاسُ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا، وَمَنْ دَخَلَ مَدْخَلَ السُّوءِ اتُّهِمَ، وَمَنْ هَتَكَ نَفْسَهُ ظَنَنَّا بِهِ السُّوءَ، مِنَ الظَّنِّ الْجَائِزِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَظُنُّ الشَّاهِدَانِ فِي التَّقْوِيمِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَمَا يَحْصُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ بِالْإِجْمَاعِ.

الْحُكْمُ بِالظَّنِّ:

6- ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ لِلظَّنِّ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ تُعْرَفُ وَتَقْوَى بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْأَدِلَّةِ فَيَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا، وَأَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ.

وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَقَعَ فِي النَّفْسِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ ضِدِّهِ، فَهَذَا هُوَ الشَّكُّ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} وَفِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ».

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الْأَحْكَامُ غَالِبًا، بَلِ الْمُرَادُ تَحْقِيقُ الظَّنِّ الَّذِي يَضُرُّ بِالْمَظْنُونِ بِهِ، وَكَذَا مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَائِلَ الظُّنُونِ إِنَّمَا هِيَ خَوَاطِرُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا، وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا».

عَدَمُ اعْتِبَارِ الظَّنِّ إِذَا ظَهَرَ خَطَؤُهُ:

7- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ: لَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الظَّنَّ الَّذِي يَظْهَرُ خَطَؤُهُ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ.

وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوْ ظَنَّ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ ثُمَّ عَاشَ وَفَعَلَهُ فَأَدَاءٌ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَمِنْ فُرُوعِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ مِنْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهَا، وَظَنَّ أَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ ضَاقَ، فَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ بَطَلَ الْفَجْرُ، فَإِذَا بَطَلَ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ثُمَّ يُعِيدُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَعَةٌ يُعِيدُ الْفَجْرَ فَقَطْ.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِلُ:

مِنْهَا: لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَظُنُّهُ مُتَطَهِّرًا، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ عَمَلًا بِظَنِّهِ.

وَمِنْهَا: مَا لَوْ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ رَكْبًا فَظَنَّ أَنَّ مَعَهُمْ مَاءً بَطَلَ تَيَمُّمُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مَاءٌ، لِتَوَجُّهِ الطَّلَبِ عَلَيْهِ.

وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْيَقِينِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّنِّ فِيمَا يُتَعَبَّدُ فِيهِ بِالنَّصِّ قَطْعًا، كَالْمُجْتَهِدِ الْقَادِرِ عَلَى النَّصِّ لَا يَجْتَهِدُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّنِّ فِيمَا لَمْ يُتَعَبَّدْ فِيهِ بِالنَّصِّ، كَالِاجْتِهَادِ بَيْنَ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ مِنَ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَاهِرٍ بِيَقِينٍ فِي الْأَصَحِّ، وَلَوِ اجْتَهَدَ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ جَازَتِ الصَّلَاةُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ عِلْمِهِ فِي الْأَصَحِّ.

أَثَرُ الظَّنِّ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ:

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّعَارُضَ لَا يَقَعُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ نَقْلِيَّيْنِ، وَكَذَلِكَ التَّرْجِيحُ لَا يَجُوزُ فِي الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّعَارُضِ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ قُوَّةً، وَيَثْبُتُ التَّعَارُضُ فِي دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْمَظْنُونِ نَجَاسَتُهُ:

9- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ ظَنَّ نَجَاسَتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا جَازَ وُضُوءُهُ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ مَاءُ الْبِئْرِ وَنَحْوُهَا، وَتَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي غَيَّرَهُ مِمَّا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ وَالطَّاهِرِيَّةَ لِقُرْبِهَا مِنَ الْمَرَاحِيضِ وَرَخَاوَةِ أَرْضِهَا فَإِنَّهُ يَضُرُّ، وَإِنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ مُغَيِّرَهُ مِمَّا لَا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ فَالْمَاءُ طَهُورٌ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، وَشَكَّ هَلْ هُوَ قُلَّتَانِ أَمْ لَا؟ فَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي وَآخَرُونَ أَنَّهُ نَجِسٌ، لِتَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ، وَلِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ احْتِمَالَانِ، وَالْمُخْتَارُ بَلِ الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ وَشَكَكْنَا فِي نَجَاسَةِ مُنَجِّسِهِ (أَيْ فِي تَنَجُّسِ الْمَاءِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ) وَلَا يَلْزَمُ مِنَ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ الَّذِي ظُنَّ نَجَاسَتُهُ مَكْرُوهٌ، بِخِلَافِ مَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ فَلَا يُكْرَهُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة).

الظَّنُّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ:

10- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَأَتَى بِهَا، فَبَانَ أَنَّهُ فَعَلَهَا فِي الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ..وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ أَذَانُ الْوَاحِدِ لَوْ عَدْلًا، وَإِلاَّ تَحَرَّى، وَبَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَرَدَّدَ الْمُصَلِّي هَلْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ أَوْ لَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ؟ أَوْ ظَنَّ دُخُولَهُ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الدُّخُولِ وَتَوَهَّمَ الدُّخُولَ، سَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ مَا ذُكِرَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ طَرَأَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تُجْزِيهِ، لِتَرَدُّدِ النِّيَّةِ وَعَدَمِ تَيَقُّنِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، سَوَاءٌ تَبَيَّنَ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا وَقَعَتْ قَبْلَهُ أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ قَوِيًّا، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ، كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ لِغَيْمٍ أَوْ حَبْسٍ فِي مُظْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا اجْتَهَدَ، مُسْتَدِلًّا بِالدَّرْسِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَوْرَادِ وَشَبَهِهَا، وَحَيْثُ لَزِمَ الِاجْتِهَادُ فَصَلَّى بِلَا اجْتِهَادٍ وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ صَادَفَ الْوَقْتَ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلَالَةٌ أَوْ كَانَتْ فَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ صَبَرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ دُخُولُ الْوَقْتِ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُؤَخِّرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ خَرَجَ الْوَقْتُ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ دُخُولِهِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الشَّكِّ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ وَافَقَ الْوَقْتَ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلَاتِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ.

وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى ظَنِّ بَقَاءِ الْوَقْتِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ نَظَرًا لِلْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ الْوَقْتِ.

الْأَخْذُ بِالظَّنِّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ:

11- مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ وَيُصَلِّي إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، فَإِنْ تَغَيَّرَ رَأْيُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِالِاجْتِهَادِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ، لِمَا وَرَدَ «أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَأُخْبِرُوا بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ» وَيَلْزَمُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَالِ تَغَيُّرِ ظَنِّهِ الِاسْتِدَارَةُ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَظُنُّ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَمَكَثَ قَدْرَ رُكْنٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ.

وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ إِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ وَخَالَفَهَا بِصَلَاتِهِ لِغَيْرِهَا عَامِدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ لَمْ يُصَادِفِ الْقِبْلَةَ فِي الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا، بَلْ وَإِنْ صَادَفَهَا فِي الْجِهَةِ الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا، فَيُعِيدُهَا أَبَدًا، لِدُخُولِهِ عَلَى الْفَسَادِ وَتَعَمُّدِهِ إِيَّاهُ.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ لِلْمُجْتَهِدِ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ أَعْرَض عَنْهُ وَاعْتَمَدَ الْجِهَةَ الَّتِي يَعْلَمُهَا أَوْ يَظُنُّهَا الْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ، بَلْ ظَنَّ أَنَّ الصَّوَابَ جِهَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الِاجْتِهَادِ الثَّانِي عِنْدَهُ أَوْضَحَ مِنَ الْأَوَّلِ الْآنَ اعْتَمَدَ الثَّانِيَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْضَحَ اعْتَمَدَهُ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يُصَلِّي إِلَى الْجِهَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.

الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَهُ وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ، سَوَاءٌ تَيَقَّنَ الصَّوَابَ أَيْضًا أَمْ لَا، وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ وَتَيَقَّنَ الصَّوَابَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الصَّوَابَ فَلَا إِعَادَةَ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْخَطَأَ بَلْ ظَنَّهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَلَوْ صَلَّى أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِاجْتِهَادَاتٍ فَلَا إِعَادَةَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ يَجِبُ إِعَادَةُ الْأَرْبَعِ، وَقِيلَ: يَجِبُ إِعَادَةُ غَيْرِ الْأَخِيرَةِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَظْهَرَ الصَّوَابُ مُقْتَرِنًا بِظُهُورِ الْخَطَأِ فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ مُتَيَقَّنًا فَيَبْنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَيَقُّنِ الْخَطَأِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بَلْ مَظْنُونًا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَلَا إِعَادَةَ كَالصَّلَوَاتِ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ الثَّانِي أَوْضَحَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا تَمَّمَ صَلَاتَهُ إِلَى الْجِهَةِ الْأُولَى وَلَا إِعَادَةَ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ الصَّوَابُ مَعَ الْخَطَأِ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوَابِ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى الْقُرْبِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ عَلَى الْقُرْبِ، فَهَلْ يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَالْأَوْلَى الِاسْتِئْنَافُ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فَفَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إِلَى مَحَارِيبِهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَحَارِيبُ لَزِمَهُ السُّؤَالُ عَنِ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَدِلَّتِهَا فَفَرْضُهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ إِنْ وَجَدَهُ، وَلَا يَجْتَهِدُ قِيَاسًا عَلَى الْحَاكِمِ إِذَا وَجَدَ النَّصَّ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَجَدَهُ يُخْبِرُهُ عَنْ ظَنٍّ فَفَرْضُهُ تَقْلِيدُهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَكَانَ عَالِمًا بِأَدَاتِهَا وَضَاقَ الْوَقْتُ وَإِلاَّ لَزِمَهُ التَّعَلُّمُ وَالْعَمَلُ بِاجْتِهَادِهِ.

وَإِنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ- وَكَانَ عَالِمًا بِأَدَاتِهَا- فَفَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَتِهَا لِأَنَّ مَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَجَبَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ عِنْدَ خَفَائِهِ كَالْحُكْمِ فِي الْحَادِثَةِ فَإِذَا اجْتَهَدَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ جِهَةٌ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ صَلَّى إِلَيْهَا لِتَعَيُّنِهَا قِبْلَةً لَهُ، إِقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ لِتَعَذُّرِهِ، فَإِنْ تَرَكَهَا- أَيِ الْجِهَةَ الَّتِي غَلَبَتْ عَلَى ظَنِّهِ- وَصَلَّى إِلَى غَيْرِهَا أَعَادَ مَا صَلاَّهُ إِلَى غَيْرِهَا وَإِنْ أَصَابَ لِأَنَّهُ تَرَكَ فَرْضَهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْقِبْلَةَ الْمُتَيَقَّنَةَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ- لِغَيْمٍ وَنَحْوِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَطْمُورًا أَوْ كَانَ بِهِ مَانِعٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ كَرَمَدٍ وَنَحْوِهِ أَوْ تَعَادَلَتْ عِنْدَهُ الْأَمَارَاتُ- صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ بِلَا إِعَادَةٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَال ف 28، وَاشْتِبَاه ف 20).

الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ:

12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اقْتَدَى بِإِمَامٍ لَا يَدْرِي أَمُسَافِرٌ هُوَ أَمْ مُقِيمٌ؟ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِحَالِ الْإِمَامِ شَرْطُ الْأَدَاءِ بِجَمَاعَةٍ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ مُصَلٍّ عَلَى قَوْمٍ ظَنَّ أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ فَظَهَرَ خِلَافُهُ، أَعَادَ أَبَدًا إِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مُسَافِرًا، لِمُخَالَفَةِ إِمَامِهِ نِيَّةً وَفِعْلًا إِنْ سَلَّمَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ أَتَمَّ فَقَدْ خَالَفَهُ نِيَّةً، وَفَعَلَ خِلَافَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ، وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَيْضًا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ، لِحُصُولِ الشَّكِّ فِي الصِّحَّةِ وَهُوَ يُوجِبُ الْبُطْلَانَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّاخِلُ مُقِيمًا فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُمْ عَلَى خِلَافِ ظَنِّهِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِلْإِمَامِ نِيَّةً وَفِعْلًا كَعَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَظُنَّهُمْ مُقِيمِينَ فَيَنْوِيَ الْإِتْمَامَ فَيَظْهَرَ أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُعِيدُ أَبَدًا إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ قَصَرَ لِمُخَالَفَةِ فِعْلِهِ لِنِيَّتِهِ، وَأَمَّا إِنْ أَتَمَّ فَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصِّحَّةَ كَاقْتِدَاءِ مُقِيمٍ بِمُسَافِرٍ.

وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَتَبَيَّنَ لَهُ الْمُخَالَفَةُ لَمْ يُغْتَفَرْ لَهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُقِيمِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَاغْتُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مُقِيمًا صَحَّتْ وَلَا إِعَادَةَ، لِأَنَّهُ مُقِيمٌ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا فَنَوَى الْقَصْرَ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسَافِرِ أَنْ يَنْوِيَهُ فَبَانَ مُقِيمًا أَتَمَّ لِتَقْصِيرِهِ فِي ظَنِّهِ إِذْ شِعَارُ الْإِقَامَةِ ظَاهِرٌ، أَوِ اقْتَدَى نَاوِيًا الْقَصْرَ بِمَنْ جَهِلَ سَفَرَهُ- أَيْ شَكَّ فِي أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُقِيمٌ أَتَمَّ- وَإِنْ بَانَ مُسَافِرًا قَاصِرًا، لِتَقْصِيرِهِ فِي ذَلِكَ، لِظُهُورِ شِعَارِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَالْأَصْلُ الْإِتْمَامُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا بَانَ كَمَا ذُكِرَ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ مَعَ مَنْ يَظُنُّهُ مُقِيمًا أَوْ شَكَّ فِيهِ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ وَإِنْ قَصَرَ إِمَامُهُ اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ لِدَلِيلٍ فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ وَيَتْبَعَ إِمَامَهُ، فَيَقْصُرَ بِقَصْرِهِ وَيُتِمَّ بِإِتْمَامِهِ، وَإِنْ أَحْدَثَ إِمَامُهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ فَلَهُ الْقَصْرُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ.

ظَنُّ الْخَوْفِ الْمُرَخَّصِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ:

13- لَوْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ اشْتِدَادَ الْخَوْفِ لَيْسَ شَرْطًا فِي أَدَاءِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، بَلِ الشَّرْطُ حُضُورُ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ فَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا ظَنُّوهُ عَدُوًّا صَلَّوْهَا، فَإِنْ تَبَيَّنَ كَمَا ظَنُّوا جَازَتْ لِتَبَيُّنِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ خِلَافُهُ لَمْ تَجُزْ إِلاَّ إِنْ ظَهَرَ بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَتِ الطَّائِفَةُ مِنْ نَوْبَتِهَا فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ تَتَجَاوَزَ الصُّفُوفَ، فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا اسْتِحْسَانًا، كَمَنِ انْصَرَفَ عَلَى ظَنِّ الْحَدَثِ يَتَوَقَّفُ الْفَسَادُ إِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ عَلَى مُجَاوَزَةِ الصُّفُوفِ.

وَيَكْفِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَمِ الْإِعَادَةِ مُجَرَّدُ الْخَوْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحَقَّقًا أَمْ مَظْنُونًا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ، لِوُجُودِ الْخَوْفِ عِنْدَ الصَّلَاةِ، كَسَوَادٍ ظُنَّ بِرُؤْيَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ أَنَّهُ عَدُوٌّ فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْتِحَامٍ أَوْ صَلَاةَ قَسْمٍ ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُ ذَلِكَ فَلَا إِعَادَةَ، وَالظَّنُّ الْبَيِّنُ خَطَؤُهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ إِذَا أَدَّى إِلَى تَعْطِيلِ حُكْمٍ، لَا إِلَى تَغَيُّرِ كَيْفِيَّةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ الْخَائِفِ مِنْ لِصٍّ وَنَحْوِهِ ثُمَّ يَظْهَرُ خِلَافُهُ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِشَرْطٍ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا لِسَوَادٍ ظَنُّوهُ عَدُوًّا فَبَانَ بِخِلَافِ ظَنِّهِمْ كَإِبِلٍ أَوْ شَجَرٍ قَضَوْا فِي الْأَظْهَرِ، لِتَرْكِهِمْ فُرُوضًا مِنَ الصَّلَاةِ بِظَنِّهِمْ الَّذِي تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ لِوُجُودِ الْخَوْفِ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْخِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} وَسَوَاءٌ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ أَكَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمْ دَارِ الْإِسْلَامِ، اسْتَنَدَ ظَنُّهُمْ إِلَى إِخْبَارٍ أَمْ لَا، وَقِيلَ: إِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يَسْتَنِدْ ظَنُّهُمْ إِلَى إِخْبَارٍ وَجَبَ الْقَضَاءُ قَطْعًا.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ رَأَى سَوَادًا فَظَنَّهُ عَدُوًّا فَصَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ عَدُوٍّ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ الْعُبُورَ أَعَادَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُبِيحُ، فَأَشْبَهَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ فَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ بِحَدَثِهِ.

ظَنُّ الصَّائِمِ غُرُوبَ الشَّمْسِ أَوْ طُلُوعَ الْفَجْرِ:

14- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ فَإِنَّ صَوْمَهُ يَبْطُلُ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (صَوْم).

الظَّنُّ فِي الْمَسْرُوقِ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ:

15- ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ ظَنَّ السَّارِقِ فِي تَعْيِينِ نَوْعِ مَا سَرَقَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْقَطْعِ، فَلَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوسًا، أَوْ سَرَقَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ يَظُنُّهَا حِينَ أَخْرَجَهَا مِنَ الْحِرْزِ أَنَّهَا فُلُوسٌ لَا تُسَاوِي قِيمَتُهَا النِّصَابَ قُطِعَ وَلَا يُعْذَرُ بِظَنِّهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الشَّكُّ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ فِي كَوْنِهِ هَلْ يَبْلُغُ نِصَابًا أَوْ لَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ.

ظَنُّ الْمُكْرَهِ سُقُوطَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ:

16- قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى طَلَلٍ عَلِمَ الْآمِرُ أَنَّهُ إِنْسَانٌ، وَظَنَّهُ الْمَأْمُورُ حَجَرًا أَوْ صَيْدًا، أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى سُتْرَةٍ وَرَاءَهَا إِنْسَانٌ وَعَلِمَهُ الْآمِرُ دُونَ الْمَأْمُورِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ آلَةٌ لَهُ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ، فَإِنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا تَجِبُ كُلُّهَا عَلَى الْآمِرِ وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيُّ، وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمَأْمُورِ، نِصْفُهَا.

لَا أَثَرَ لِلظَّنِّ فِي الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ بِيَقِينٍ:

17- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَرْتَفِعُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ «عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلَ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا يَنْفَتِلُ أَوْ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدُ رِيحًا».

وَمِنْ فُرُوعِهَا: أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ طَهَارَةً أَوْ حَدَثًا وَشَكَّ فِي ضِدِّهِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِيَقِينِهِ.

وَمِنْهَا: مَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنَ الْخَمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَمْسُ، لِاشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ بِكُلٍّ مِنْهَا يَقِينًا.

وَمِنْهَا: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مُسْتَيْقَنٌ، فَإِذَا شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا؟ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَهَلْ طَلَّقَ ثِنْتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَفْقُودَ لَا يُقْسَمُ مَالُهُ وَلَا تُنْكَحُ زَوْجَتُهُ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَمْثَالُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْحَيَاةِ مُتَيَقَّنٌ، فَلَا نَرْفَعُهُ إِلاَّ بِيَقِينٍ.

أَثَرُ الظَّنِّ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ:

18- إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ لِمَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، فَبَانَ خَطَؤُهُ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِجْزَاءُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.

وَالْآخَرُ: لَا يُجْزِئُهُ، وَفِي الِاسْتِرْدَادِ قَوْلَانِ.يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (خَطَأ ف 11).

أَثَرُ الظَّنِّ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:

19- لَوْ وَقَفَ الْحَجِيجُ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ التَّاسِعُ، فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خَطَأ ف 42).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


44-موسوعة الفقه الكويتية (عاج)

عَاجٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْعَاجُ فِي اللُّغَةِ: أَنْيَابُ الْفِيلِ، وَلَا يُسَمَّى غَيْرُ النَّابِ عَاجًا.

وَالْعَوَّاجُ: بَائِعُ الْعَاجِ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْعَاجُ: عَظْمُ الْفِيلِ، الْوَاحِدَةُ عَاجَةٌ، وَقَالَ شِمْرٌ: وَيُقَالُ لِلْمِسْكِ عَاجٌ.

قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ شِمْرٌ فِي الْعَاجِ: إِنَّهُ الْمِسْكُ، مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِثَوْبَانَ: اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ قِلَادَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ» لَمْ يُرِدْ بِالْعَاجِ مَا يُخْرَطُ مِنْ أَنْيَابِ الْفِيَلَةِ، لِأَنَّ أَنْيَابَهَا مَيْتَةٌ، وَإِنَّمَا الْعَاجُ الذَّبْلُ، وَهُوَ ظَهْرُ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، فَأَمَّا الْعَاجُ الَّذِي هُوَ لِلْفِيلِ فَنَجِسٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَطَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا عَنِ الْعَاجِ: إِنَّهُ الذَّبْلُ وَهُوَ عَظْمُ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا إِنَّهُ الْمَأْخُوذُ مِنْ نَابِ الْفِيلِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الذَّبْلُ:

2- فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الذَّبْلُ: ظَهْرُ السُّلَحْفَاةِ، وَفِي الْمُحْكَمِ: جِلْدُ السُّلَحْفَاةِ الْبَرِّيَّةِ، وَقِيلَ: الْبَحْرِيَّةِ يُجْعَلُ مِنْهُ الْأَمْشَاطُ، وَيُجْعَلُ مِنْهُ الْمِسْكُ أَيْضًا، وَقِيلَ: الذَّبْلُ: عِظَامُ ظَهْرِ دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ تَتَّخِذُ مِنْهُ نِسَاءٌ أَسْوِرَةً، وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: الذَّبْلُ الْقُرُونُ يُسَوَّى مِنْهُ الْمِسْكُ.

وَفِي الْمِصْبَاحِ: الذَّبْلُ: شَيْءٌ كَالْعَاجِ.

ب- الْمِسْكُ:

3- فِي اللِّسَانِ: الْمِسْكُ: الذَّبْلُ، وَالْمِسْكُ: الْأَسْوِرَةُ وَالْخَلَاخِيلُ مِنَ الذَّبْلِ وَالْقُرُونِ وَالْعَاجِ، وَاحِدَتُهُ مَسْكَةٌ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِسْكُ بِالتَّحْرِيكِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَبْلٍ أَوْ عَاجٍ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَاجِ:

أَوَّلًا: حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:

اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي طَهَارَةِ الْعَاجِ أَوْ نَجَاسَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

4- الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَجِسٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالُوا: إِنَّ الْعَاجَ الْمُتَّخَذَ مِنْ عَظْمِ الْفِيلِ نَجِسٌ لِأَنَّ عَظْمَهُ نَجِسٌ، وَسَوَاءٌ أُخِذَ الْعَظْمُ مِنَ الْفِيلِ وَهُوَ حَيٌّ أَوْ وَهُوَ مَيِّتٌ، لِأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ، وَسَوَاءٌ أُخِذَ مِنْهُ بَعْدَ ذَكَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى نَجَاسَتِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَالْعَظْمُ مِنْ جُمْلَتِهَا فَيَكُونُ مُحَرَّمًا وَالْفِيلُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَهُوَ نَجِسٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ كَذَلِكَ بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُدْهِنَ فِي عَظْمِ فِيلٍ، لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، وَالسَّلَفُ يُطْلِقُونَ الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا التَّحْرِيمَ، وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ.

وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- امْتَشَطَ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ» وَمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- طَلَبَ مِنْ ثَوْبَانَ أَنْ يَشْتَرِيَ لِفَاطِمَةَ- رضي الله عنها- قِلَادَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ» فَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ عَلَى الطَّهَارَةِ، لِأَنَّ الْعَاجَ هُوَ الذَّبْلُ وَهُوَ عَظْمُ ظَهْرِ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ عَظْمٍ عَاجًا.

5- الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ، قَالَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ- غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ- وَهُوَ طَرِيقٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْفُرُوعِ، وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا الطَّهَارَةَ، قَالَ فِي الْفَائِقِ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْقَوْلُ بِالطَّهَارَةِ هُوَ الصَّوَابُ.

وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْعَظْمَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا زَالَتْ حَيَاتُهُ لَا بِصُنْعِ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ، أَوْ بِصُنْعٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ وَلَا حَيَاةَ فِي الْعَظْمِ فَلَا يَكُونُ مَيْتَةً، كَمَا أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لِأَعْيَانِهَا، بَلْ لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، وَلَمْ تُوجَدْ فِي الْعَظْمِ.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْمَيْتَةِ حَلَالٌ إِلاَّ مَا أُكِلَ مِنْهَا» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ».

6- الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ ذَكَاةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْعَاجُ- وَهُوَ الْفِيلُ- أَوْ عَدَمِ ذَكَاتِهِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، جَاءَ فِي الدَّرْدِيرِ وَحَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ: الظَّاهِرُ مَا ذُكِّيَ مِنَ الْحَيَوَانِ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً، وَكَذَلِكَ جُزْؤُهُ مِنْ عَظْمِ لَحْمٍ وَظُفْرٍ وَسِنٍّ وَجِلْدٍ إِلاَّ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ كَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ الذَّكَاةَ لَا تَنْفَعُ فِيهَا وَالنَّجِسُ مَا أُبِينَ مِنْ حَيَوَانٍ نَجِسِ الْمَيْتَةِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا مِنْ قَرْنٍ وَعَظْمٍ وَظِلْفٍ وَظُفْرٍ وَعَاجٍ أَيْ سِنِّ فِيلٍ.

وَفِي الْمَوَّاقِ: قَالَ ابْنُ شَاسٍ: كُلُّ حَيَوَانٍ غَيْرِ الْخِنْزِيرِ يَطْهُرُ بِذَكَاتِهِ كُلُّ أَجْزَائِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَظْمٍ وَجِلْدٍ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا أُخِذَ الْعَاجُ مِنْ عِظَامِ الْفِيلِ وَهُوَ حَيٌّ، أَوْ وَهُوَ مَيِّتٌ لَمْ يُذَكَّ فَهُوَ نَجِسٌ، وَإِذَا أُخِذَ بَعْدَ ذَكَاتِهِ فَهُوَ طَاهِرٌ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَهُوَ وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ: وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّ الْفِيلَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا ذُكِّيَ كَانَ عَظْمُهُ طَاهِرًا.

ثَانِيًا: حُكْمُ الِانْتِفَاعِ بِالْعَاجِ:

أ- اتِّخَاذُ الْآنِيَةِ مِنْهُ:

7- الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ عَظْمِ الْفِيلِ- الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الْعَاجُ- وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ اتِّخَاذُ الْآنِيَةِ مِنْهُ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ»، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْآنِيَةِ مِنْ عَظْمِ الْفِيلِ.

وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِنَجَاسَتِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْآنِيَةِ مِنْهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي شَيْءٍ رَطْبٍ وَيَجُوزُ فِي يَابِسٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الْإِنَاءِ الْمُعَوَّجِ- أَيِ الْمُضَبَّبِ بِقِطْعَةٍ مِنْ عَظْمِ الْفِيلِ- إِنْ أَصَابَ الْمَاءُ تَعْوِيجَهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِلاَّ فَيَجُوزُ، وَالصُّورَةُ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ.

وَقَالُوا: لَوِ اتَّخَذَ مُشْطًا مِنْ عَظْمِ الْفِيلِ فَاسْتَعْمَلَهُ فِي رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ رُطُوبَةٌ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَنَجَّسَ شَعْرُهُ وَإِلاَّ فَلَا، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ وَلَوْ جُعِلَ الدُّهْنُ فِي عَظْمِ الْفِيلِ لِلِاسْتِصْبَاحِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فِي غَيْرِ الْبَدَنِ فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ.

وَكَرِهَ الْإِمَامُ مَالِكٌ الْأَدْهَانَ فِي أَنْيَابِ الْفِيلِ وَالْمُشْطَ بِهَا.

وَقَالَ النَّفْرَاوِيُّ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الشُّيُوخِ فِي نَجَاسَةِ الزَّيْتِ الْمَوْضُوعِ فِي إِنَاءِ الْعَاجِ، وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ يَقِينًا فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ.

ب- حُكْمُ بَيْعِهِ وَالتِّجَارَةُ فِيهِ:

8- الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ عَظْمِ الْفِيلِ أَجَازُوا بَيْعَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ.

جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: يَجُوزُ بَيْعُ عَظْمِ الْفِيلِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَالْمُقَاتَلَةِ.

وَفِي الْإِنْصَافِ: وَعَلَى الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ.

وَفِي الْمُغْنِي: وَرَخَّصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ وَابْنُ جُرَيْجٍ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اشْتَرَى لِفَاطِمَةَ- رضي الله عنها- قِلَادَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ».

9- أَمَّا الْقَائِلُونَ بِنَجَاسَتِهِ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَهُمْ.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَحِلُّ ثَمَنُهُ، وَبِهَذَا قَالَ طَاوُسٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

10- وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَا جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْأَدْهَانَ فِي أَنْيَابِ الْفِيلِ وَالْمُشْطَ بِهَا وَالتِّجَارَةَ فِيهَا أَيْ بَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا وَلَمْ يُحَرِّمْهُ فَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمُ الْآخَرُ عَلَى التَّنْزِيهِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: حَمْلُ الْكَرَاهَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ أَحْسَنُ خُصُوصًا وَقَدْ نَقَلَ حَمْلَهَا عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونَ عَنِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ يُونُسَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ.

وَسَبَبُ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ أَنَّ الْعَاجَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَيْتَةٍ لَكِنْ أُلْحِقَ بِالْجَوَاهِرِ فِي التَّزَيُّنِ فَأُعْطِيَ حُكْمًا وَسَطًا وَهُوَ كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ مُرَاعَاةً لِمَا قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ وَرَبِيعَةُ وَعُرْوَةُ مِنْ جَوَازِ الِامْتِشَاطِ بِهِ.

وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَاجِ الْمُتَّخَذِ مِنْ فِيلٍ مَيِّتٍ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ أَمَّا الْمُذَكَّى فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


45-موسوعة الفقه الكويتية (عدالة)

عَدَالَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْعَدَالَةُ فِي اللُّغَةِ التَّوَسُّطُ، وَالِاعْتِدَالُ: الِاسْتِقَامَةُ، وَالتَّعَادُلُ التَّسَاوِي، وَالْعَدَالَةُ صِفَةٌ تُوجِبُ مُرَاعَاتُهَا الِاحْتِرَازَ عَمَّا يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ عَادَةً ظَاهِرًا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَعَدَمُ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: الْعَدَالَةُ هِيَ اسْتِوَاءُ أَحْوَالِ الشَّخْصِ فِي دَيْنِهِ وَاعْتِدَالِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْعَدَالَةِ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: الْإِخْبَارُ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ وَدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَجِهَةُ الْقِبْلَةِ، وَالْإِمَامَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَشُرُوطُ عَامِلِ الزَّكَاةِ، وَشُرُوطُ الشَّاهِدَيْنِ لِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَشُرُوطُ الْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَوَلِيُّ النِّكَاحِ وَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، وَالْقَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَدْل).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


46-موسوعة الفقه الكويتية (عدل)

عَدْل

التَّعْرِيفُ:

1- الْعَدْلُ: خِلَافُ الْجَوْرِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ فِي الْأُمُورِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَالْعَدْلُ مِنَ النَّاسِ: هُوَ الْمَرْضِيُّ.قَوْلُهُ وَحُكْمُهُ، وَرَجُلٌ عَدْلٌ: بَيِّنُ الْعَدْلِ، وَالْعَدَالَةُ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ مَعْنَاهُ: ذُو عَدْلٍ.

وَالْعَدْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُطَابِقَ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَيُقَالُ: عَدْلَانِ، وَعُدُولٌ، وَفِي الْمُؤَنَّثَةِ: عِدْلَةٌ.

وَالْعَدَالَةُ: صِفَةٌ تُوجِبُ مُرَاعَاتُهَا الِاحْتِرَازَ عَمَّا يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ عَادَةً فِي الظَّاهِرِ.

وَالْعَدْلُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ تَكُونُ حَسَنَاتُهُ غَالِبَةً عَلَى سَيِّئَاتِهِ.وَهُوَ ذُو الْمُرُوءَةِ غَيْرُ الْمُتَّهَمِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقِسْطُ:

2- الْقِسْطُ فِي اللُّغَةِ: الْعَدْلُ وَالْجَوْرُ فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَأَقْسَطَ بِالْأَلِفِ عَدَلَ فَهُوَ مُقْسِطٌ إِذَا عَدَلَ، فَكَأَنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَقْسَطَ لِلسَّلْبِ كَمَا يُقَالُ شَكَا إِلَيْهِ فَأَشْكَاهُ.

فَقَسَطَ وَأَقْسَطَ لُغَتَانِ فِي الْعَدْلِ، أَمَّا فِي الْجَوْرِ فَلُغَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ قَسَطَ بِغَيْرِ أَلِفٍ.

وَالْقِسْطُ بِإِطْلَاقَيْهِ أَعَمُّ مِنَ الْعَدْلِ.

ب- الظُّلْمُ:

3- أَصْلُ الظُّلْمِ: الْجَوْرُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَمِنْهُ «قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْوُضُوءِ: فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ».

وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَالظُّلْمُ فِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنِ التَّعَدِّي عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ.

ج- الْفِسْقُ:

4- الْفِسْقُ هُوَ: الْخُرُوجُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَأَصْلُهُ خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، وَفَسَقَ فُلَانٌ أَيْ: خَرَجَ عَنْ حَجْرِ الشَّرْعِ، وَالظُّلْمُ أَعَمُّ مِنَ الْفِسْقِ.

أَحْكَامُ الْعَدْلِ:

5- الْعَدْلُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَانْتَظَمَ أَمْرُ الْخَلِيقَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحْكَامُ الْعَدْلِ فِي أَبْوَابٍ عَدِيدَةٍ مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مِنْهَا:

فِي إِمَامِ الصَّلَاةِ:

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ عَدْلًا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِمَامِ عَدْلًا، لِحَدِيثِ: «صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ».

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِمَامِ عَدْلًا، فَلَا تَصِحُّ إِمَامَةُ الْفَاسِقِ لقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا يَؤُمُّ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا» وَحَدِيثِ: «اجْعَلُوا أَئِمَّتَكُمْ خِيَارَكُمْ».

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِمَامَةُ الصَّلَاةِ) ف 24

فِي عَامِلِ الزَّكَاةِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الزَّكَاةِ الْعَدْلُ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ تَوْلِيَةُ الْفَاسِقِ وَجَعْلُهُ عَامِلًا لِلزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ وِلَايَةٍ فَاشْتُرِطَ فِيهَا الْعَدْلُ كَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ؛ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانَةِ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْعَدْلِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَاسِقٍ فِي عَمَلِهِ، وَلَيْسَ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا عَدْلَ الشَّهَادَةِ.

وَيُعَبِّرُ الْحَنَابِلَةُ فِي غَالِبِ كُتُبِهِمْ بِالْأَمَانَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْهَا الْعَدَالَةُ.

فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ:

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَرَى هِلَالَ رَمَضَانَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَالَةِ الْمَعْنِيَّةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي رَائِي هِلَالِ رَمَضَانَ هِيَ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِرُؤْيَةِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعَدَالَةَ الْمَقْصُودَةَ هِيَ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَسْتُورِ الْحَالِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِهِ، كَمَا لَا تُقْبَلُ مِنَ الْفَاسِقِ.

وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا بِوُجُوبِ الصِّيَامِ عَلَى مَنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ يَثِقُ بِهِ بِرُؤْيَتِهِ لِهِلَالِ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا غَيْرَ عَدْلٍ، كَمَا أَنَّ عَلَى رَائِي الْهِلَالِ أَنْ يَصُومَ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ أَوْ رُدَّتْ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ.

وَفِي رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الشُّهُورِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (رُؤْيَةُ الْهِلَالِ ف 6).

فِي الْقِبْلَةِ:

9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ أَوْ يُقَلِّدُهُ غَيْرُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ؛ لِقِلَّةِ دِينِهِ، وَتَطَرُّقِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ؛ وَلِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِخْبَارِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُقْبَلُ خَبَرُ الْفَاسِقِ فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ فِيهَا، كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ التَّوَجُّهُ إِلَى قِبْلَةِ الْفَاسِقِ فِي بَيْتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي عَمِلَهَا أَمَّا إِذَا عَمِلَهَا هُوَ فَكَإِخْبَارِهِ.

فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ:

10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، فَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَالْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ هُنَا هِيَ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ.

إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ: لَوْ أَخْبَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُسَّاقِ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ قُبِلَ خَبَرُهُمْ، وَكَذَا لَوْ أَخْبَرَ الْفَاسِقُ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْمَاءِ.

فِي وَلِيِّ النِّكَاحِ:

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ عَدْلًا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ عَدْلًا فِي النِّكَاحِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ: إِنَّهُ شَرْطُ كَمَالٍ يُسْتَحَبُّ وُجُودُهُ، وَيُكْرَهُ تَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْفَاسِقِ.

وَهَذَا الْخِلَافُ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ السُّلْطَانِ الَّذِي يُزَوِّجُ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا، أَمَّا هُوَ فَلَا تُشْتَرَطُ عَدَالَتُهُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي سَيِّدٍ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ كَمَا لَوْ آجَرَهَا.

فِي الْوَصِيِّ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْوَصِيِّ عَدْلًا:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ، وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ عَدْلًا هُنَا: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا حَسَنَ التَّصَرُّفِ حَافِظًا لِمَالِ الصَّبِيِّ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِيصَاء ف 11)

فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَاظِرَ الْوَقْفِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ وِلَايَةٌ كَالْوِصَايَةِ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا عَيَّنَ فَاسِقًا لَمْ يَصِحَّ تَعْيِينُهُ، وَتُزَالُ يَدُهُ مِنَ الْوَقْفِ، وَإِنْ وَلاَّهُ الْحَاكِمُ وَهُوَ عَدْلٌ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْفِسْقُ انْعَزَلَ وَنَزَعَ الْحَاكِمُ مِنْهُ الْوَقْفَ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْوَقْفِ أَهَمُّ مِنْ إِبْقَاءِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ عَلَيْهِ، قَالَ السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُعْتَبَرُ فِي مَنْصُوبِ الْحَاكِمِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي مَنْصُوبِ الْوَاقِفِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ النَّاظِرُ مَنْصُوبًا مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف)

فِي وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:

14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وَلِيِّ الصَّغِيرِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا أَوْ غَيْرَهُمَا؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ، وَتَفْوِيضُهَا إِلَى غَيْرِ الْعَدْلِ تَضْيِيعٌ لِلصَّبِيِّ وَلِمَالِ الصَّبِيِّ، وَالْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ هِيَ الظَّاهِرَةُ لَا الْبَاطِنَةُ، فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْأَبِ مَثَلًا إِذَا كَانَ مَسْتُورَ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ وَلَا فِسْقُهُ وَذَلِكَ؛ لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ وَكَمَالِهَا عَلَى وَلَدِهِ، وَمِثْلُ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ الْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وِلَايَةٌ) Cفِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى وَالْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مَنْ يَتَوَلَّى الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى أَوْ مَا شَابَهَهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ عَدْلًا؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ وَأَنَّ تَقْلِيدَ الْفَاسِقِ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَنُقِلَتْ فِي هَذَا رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمِثْلُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الْوُلَاةُ الْعَامُّونَ وَالْوُزَرَاءُ التَّنْفِيذِيُّونَ وَأَعْضَاءُ مَجْلِسِ الشُّورَى وَأُمَرَاءُ الْجُيُوشِ...

ر: مُصْطَلَحُ: (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى ف 11)

فِي الْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْمَظَالِمِ وَالْمُفْتِينَ وَالْمُسْتَخْلَفِينَ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْمُحَكَّمِينَ وَغَيْرِهِمْ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي وَنَحْوُهُ عُدُولًا.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ أَوْ يَتَصَدَّى لِلْفَتْوَى، فَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْفَاسِقِ لِلْقَضَاءِ وَلَا مَنْ فِيهِ نَقْصٌ يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ لَيْسَتْ شَرْطَ صِحَّةٍ فِي تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ وَيَجُوزُ تَقْلِيدُهَا لَهُ وَتَنْفُذُ قَضَايَاهُ إِذَا لَمْ يُجَاوِزْ فِيهَا حَدَّ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ إِلاَّ شَرْطَ كَمَالٍ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي عِنْدَهُمْ أَلاَّ يُقَلَّدَ الْفَاسِقُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَمَانَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالنُّفُوسِ، فَلَا يَقُومُ بِوَفَائِهَا إِلاَّ مَنْ كَمُلَ وَرَعُهُ وَتَمَّ تَقْوَاهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ قُلِّدَ الْفَاسِقُ مَعَ هَذَا جَازَ التَّقْلِيدُ فِي نَفْسِهِ وَصَارَ قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ تَقْلِيدِهِ الْقَضَاءَ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَصَمِّ مِثْلُ هَذَا حَيْثُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَاسِقًا؛ «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي ذَرٍّ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا.

قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ»

ر: مُصْطَلَحُ: (قَضَاءٌ) وَمُصْطَلَحُ: (وِلَايَةٌ)

فِي الشُّهُودِ:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الشَّاهِدِ عَدْلًا:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشُّهُودِ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالتَّوَقُّفِ عَنْ نَبَأِ الْفَاسِقِ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}

وَالشَّهَادَةُ نَبَأٌ فَيَجِبُ التَّثَبُّتُ.

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ»، وَلِأَنَّ دِينَ الْفَاسِقِ لَمْ يَزَعْهُ عَنِ ارْتِكَابِ مَحْظُورَاتٍ فِي الدِّينِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ لَا يَزَعَهُ عَنِ الْكَذِبِ فَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِشَهَادَتِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَدْلَ لَيْسَ شَرْطًا فِي أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ، وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَهُمْ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ، فَإِذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ فَاسِقٌ ثُمَّ تَابَ مِنْ فِسْقِهِ ثُمَّ شَهِدَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتُبْ فَيُمْنَعُ مِنَ الْأَدَاءِ؛ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ.

وَالْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ هِيَ الظَّاهِرَةُ، أَمَّا الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَهِيَ الْبَاطِنَةُ الثَّابِتَةُ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ بِالتَّعْدِيلِ، وَالتَّزْكِيَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ، مَا لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ فِي الشُّهُودِ، أَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ لَا يَكْتَفِيَ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، بَلْ يَسْأَلُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ؛ لِدَرْءِ الْحُدُودِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إِذَا لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، بَلْ يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}؛ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ Cالْحَقِيقِيَّةَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا فَيَجِبُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّاهِرَةِ.

وَذَهَبَ صَاحِبَاهُ: إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (شَهَادَةٌ ف 22)

فِي رَاوِي الْحَدِيثِ:

18- ذَهَبَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ- فِي الْحَدِيثِ- أَنْ يَكُونَ عَدْلًا سَالِمًا مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَأْخُذُوا الْعِلْمَ إِلاَّ عَمَّنْ تُجِيزُونَ شَهَادَتَهُ»، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ وَعَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَتَوُا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إِلَى سَمْتِهِ وَإِلَى صَلَاتِهِ وَإِلَى حَالِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ

وَتَثْبُتُ عَدَالَةُ الرَّاوِي إِمَّا بِتَنْصِيصِ مُعَدِّلِينَ، وَإِمَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ، فَمَنِ اشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ وَالْعِلْمِ، وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ اسْتُغْنِيَ فِيهِ بِذَلِكَ عَنْ بَيِّنَةٍ شَاهِدَةٍ بِعَدَالَتِهِ تَنْصِيصًا.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفَ الْعِنَايَةِ بِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ فِي أَمْرِهِ أَبَدًا عَلَى الْعَدَالَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ»

وَيُقْبَلُ التَّعْدِيلُ سَوَاءٌ فِي الرَّاوِي أَوْ فِي الشَّاهِدِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَهُ كَثِيرَةٌ يَصْعُبُ ذِكْرُهَا.

أَمَّا الْجَرْحُ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِلاَّ مُفَسَّرًا مُبَيَّنَ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَجْرَحُ وَمَا لَا يَجْرَحُ، فَقَدْ يُطْلِقُ أَحَدُهُمُ الْجَرْحَ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ اعْتَقَدَهُ جَرْحًا وَلَيْسَ بِجَرْحٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ سَبَبِهِ لِيُنْظَرَ هَلْ هُوَ قَادِحٌ أَوْ لَا؟ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ.

وَجَرْحُ الرَّاوِي أَوْ تَعْدِيلُهُ يَثْبُتُ- فِي Cالصَّحِيحِ- بِوَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي جَرْحِ رَاوِيهِ أَوْ تَعْدِيلِهِ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ.

وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ إِنِ اجْتَمَعَا فِي شَخْصٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُعَدِّلَ يُخْبِرُ عَمَّا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ، وَالْجَارِحَ يُخْبِرُ عَنْ بَاطِنٍ خَفِيَ عَلَى الْمُعَدِّلِ؛ وَلِأَنَّ الْجَارِحَ يَقُولُ: رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، وَالْمُعَدِّلُ مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، سَوَاءٌ كَانُوا مُتَسَاوِينَ أَوْ كَانَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ.

وَقِيلَ إِنْ كَانَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ فَالتَّعْدِيلُ أَوْلَى.

وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُمْ: إِذَا كَانَ الْجَارِحُونَ وَالْمُعَدِّلُونَ مُتَسَاوِينَ يُنْظَرُ أَيُّهُمَا أَعْدَلُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُهُمْ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي التَّعْدِيلِ أَمْ فِي التَّجْرِيحِ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَا يَكْفُرُ فِي بِدْعَتِهِ.فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّ رِوَايَتَهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ بِبِدْعَتِهِ، وَكَمَا اسْتَوَى فِي الْكُفْرِ الْمُتَأَوِّلُ وَغَيْرُ الْمُتَأَوِّلِ، يَسْتَوِي فِي الْفِسْقِ الْمُتَأَوِّلُ وَغَيْرُ الْمُتَأَوِّلِ،

وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ رِوَايَتَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ الْكَذِبَ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ أَوْ لِأَهْلِ مَذْهَبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلاَّ الْخَطَابِيَّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ.

وَقَالَ آخَرُونَ: تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً، وَلَا تُقْبَلُ إِذَا كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ

الْعَدْلُ فِي الْحُكْمِ:

19- تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ وَحُرْمَةِ جَوْرِ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ

وَأَصْلُ ذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}

وقوله تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».

وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ Cاللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلاَّ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ».

وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى ف 11)

20- الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:

تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْ وُجُوبِ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْوِيَة ف 8) 21- الْعَدْلُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ:

ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ مُرَاعَاةَ الْعَدْلِ فِي الْهِبَاتِ، وَالْعَطَايَا بَيْنَ الْأَوْلَادِ، وَعَدَمِ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِحَدِيثِ «النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنهما-: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً.فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا.قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهُ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ»

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْوِيَة ف 11)

(C

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


47-موسوعة الفقه الكويتية (عضو)

عُضْوٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْعُضْوُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، فِي اللُّغَةِ: كُلُّ عَظْمٍ وَافِرٍ بِلَحْمٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ إِنْسَانٍ أَمْ حَيَوَانٍ.

وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالتَّفْرِيقِ.يُقَالُ: عَضَى الشَّيْءَ: فَرَّقَهُ وَوَزَّعَهُ.وَالْعِضَةُ: الْقِطْعَةُ وَالْفُرْقَةُ.وَفِي التَّنْزِيلِ: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أَيْ: أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَةً، فَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ.

وَيُطْلَقُ الْعُضْوُ عَلَى جُزْءٍ مُتَمَيِّزٍ مِنْ مَجْمُوعِ الْجَسَدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ إِنْسَانٍ أَمْ حَيَوَانٍ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْأُذُنِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الطَّرَفُ:

2- الطَّرَفُ: النَّاحِيَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَطَرَفُ كُلِّ شَيْءٍ مُنْتَهَاهُ وَغَايَتُهُ وَجَانِبُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} وَالْجَمْعُ أَطْرَافٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَطْرَافِ الْبَدَنِ.

فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرِ الطَّرَفُ أَخَصُّ مِنَ الْعُضْوِ

الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعُضْوِ:

3- عُضْوُ الْآدَمِيِّ لَهُ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُخْتَلِفَةٌ، كَوُجُوبِ طَهَارَتِهِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ، وَالْمَسْحِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهَا، وَكَوُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَقَطْعِهِ فِي السَّرِقَةِ، وَحُكْمِ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ إِذَا وُجِدَ مُبَانًا فِي الْمَعْرَكَةِ وَغَيْرِهَا.

وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِيمَا يَلِي:

أ- الطَّهَارَةُ عَلَى الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ:

4- مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً وَسَلِيمَةً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةً، فَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ:

فَلَوْ قُطِعَ بَعْضُ يَدِ الْمُتَوَضِّئِ أَوْ رِجْلِهِ وَجَبَ غَسْلُ بَاقِيهَا إِلَى الْمِرْفَقِ أَوِ الْكَعْبِ، لِبَقَاءِ جُزْءٍ مِنْ مَحَلِّ الْعُضْوِ الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ، فَكُلُّ عُضْوٍ سَقَطَ بَعْضُهُ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِبَاقِيهِ غَسْلًا وَمَسْحًا.

أَمَّا إِذَا قُطِعَتَا مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ أَوِ الْكَعْبِ سَقَطَ الْغَسْلُ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ بَاقِي عَضُدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ الْفَرْضِ.

لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: نُدِبَ غَسْلُ بَاقِي عَضُدِهِ لِئَلاَّ يَخْلُوَ الْعُضْوُ عَنْ طَهَارَةٍ.

أَمَّا إِذَا قُطِعَتْ مِنَ الْمِرْفَقِ، بِأَنْ سُلَّ عَظْمُ الذِّرَاعِ وَبَقِيَ الْعَظْمَانِ الْمُسَمَّيَانِ بِرَأْسِ الْعَضُدِ، فَيَجِبُ غَسْلُ رَأْسِ عَظْمِ الْعَضُدِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الْعَظْمَيْنِ الْمُتَلَاقِيَيْنِ مِنَ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَاجِبٌ، فَإِذَا زَالَ أَحَدُهُمَا غُسِلَ الْآخَرُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَغْسِلُ أَقْطَعُ الْمِرْفَقَيْنِ مَوْضِعَ الْقَطْعِ، إِذْ قَدْ أَتَى عَلَيْهِمَا الْقَطْعُ، بِخِلَافِ أَقْطَعِ الرِّجْلَيْنِ، قَالَ الْحَطَّابُ فِي وَجْهِ التَّفْرِقَةِ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: الْكَعْبَانِ اللَّذَانِ إِلَيْهِمَا حَدُّ الْوُضُوءِ هُمَا اللَّذَانِ فِي السَّاقَيْنِ فَيُغْسَلَانِ، أَمَّا الْمِرْفَقُ فَهُوَ مِنَ الذِّرَاعَيْنِ وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ الْقَطْعُ فَلَا يُغْسَلُ

ب- الطَّهَارَةُ عَلَى الْعُضْوِ الزَّائِدِ فِي الْغَسْلِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ خُلِقَ لَهُ عُضْوٌ زَائِدٌ، كَإِصْبَعٍ زَائِدَةٍ أَوْ يَدٍ زَائِدَةٍ، فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا نَابِتَةٌ فِيهِ، فَتَأْخُذُ حُكْمَهُ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا نَبَتَتِ الزَّائِدَةُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، كَالْإِصْبَعِ أَوِ الْكَفِّ عَلَى الْعُضْوِ أَوِ الْمَنْكِبِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهُ، وَإِلاَّ فَلَا يَجِبُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ خُلِقَتْ لَهُ كَفٌّ بِمَنْكِبٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَدٌ غَيْرُهَا يَجِبُ غَسْلُهَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ يَدٌ سِوَاهَا فَلَا يَجِبُ غَسْلُ الْكَفِّ إِلاَّ إِذَا نَبَتَتْ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ وَكَانَ لَهَا مِرْفَقٌ، فَتُغْسَلُ لِلْمِرْفَقِ؛ لِأَنَّ لَهَا حُكْمَ الْيَدِ الْأَصْلِيَّةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِرْفَقٌ فَلَا غَسْلَ مَا لَمْ تَصِلْ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْعُضْوَ الزَّائِدَ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، كَالْعَضُدِ أَوِ الْمَنْكِبِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَصِيرًا أَمْ طَوِيلًا؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ فَأَشْبَهَ شَعْرَ الرَّأْسِ إِذَا نَزَلَ عَلَى الْوَجْهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوء)

ج- الْعُضْوُ الْمُبَانُ:

6- الْعُضْوُ الْمُبَانُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِنْسَانِ أَوْ يَكُونَ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَيِّ أَوْ مِنَ الْمَيِّتِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ كُلِّ حَالَةٍ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعُضْوَ الْمُبَانَ مِنَ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ يُدْفَنُ بِغَيْرِ غُسْلٍ وَصَلَاةٍ وَلَوْ كَانَ ظُفُرًا أَوْ شَعْرًا.

ثَانِيًا- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ:

يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ رَأْسُ الْمَيِّتِ أَوْ أَحَدُ شِقَّيْهِ أَوْ أَعْضَائِهِ الْأُخْرَى وَكَانَتْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِهِ فَإِنَّهَا لَا تُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهَا، قَالَ الدَّرْدِيرُ فِي تَعْلِيلِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْغُسْلِ وُجُودُ الْمَيِّتِ، فَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، وَلَا حُكْمَ لِلْيَسِيرِ.

أَمَّا إِذَا وُجِدَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ وَلَوْ بِلَا رَأْسٍ، فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا غُسْلَ دُونَ الْجُلِّ، يَعْنِي دُونَ ثُلُثَيِ الْجَسَدِ، فَإِذَا وُجِدَ نِصْفُ الْجَسَدِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَدُونَ الثُّلُثَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ لَمْ يُغَسَّلْ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ عُضْوُ مُسْلِمٍ عُلِمَ مَوْتُهُ بِغَيْرِ شَهَادَةٍ، وَلَوْ كَانَ ظُفُرًا أَوْ شَعْرًا صُلِّيَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ وُجُوبًا بَعْدَ غُسْلِهِ، كَمَا وَرَدَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قَالَ أَحْمَدُ: صَلَّى أَبُو أَيُّوبَ عَلَى رِجْلٍ، وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى رُءُوسٍ بِالشَّامِ؛ وَلِأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ جُمْلَةٍ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْأَكْثَرِ.

ثَالِثًا: الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْحَيَوَانِ:

لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعُضْوَ الْمُبَانَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ مَأْكُولِ اللَّحْمِ (غَيْرِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ) قَبْلَ ذَبْحِهِ يُعْتَبَرُ مَيْتَةً لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ» وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}.

أَمَّا مَا أُبِينَ مِنَ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ فَيَحِلُّ أَكْلُهُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَيْتَةَ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ يَحِلُّ أَكْلُهَا.فَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالطِّحَالُ وَالْكَبِدُ».

أَمَّا الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ أَوْ مِنَ الْمَيْتَةِ فَهُوَ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَطْعِمَة، وَصَيْد).

الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوِ الْآدَمِيِّ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا فِيهَا الْقِصَاصُ إِذَا أَمْكَنَ التَّمَاثُلُ، بِأَنْ كَانَ الْقَطْعُ مِنَ الْمِفْصَلِ مَثَلًا.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قِصَاصٌ).

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالشُّبْهَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَفِيهَا الدِّيَةُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَات ف 34 وَمَا بَعْدَهَا).

أَمَّا إِذَا جُرِحَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَمْ يُمْكِنِ الْقِصَاصُ فَيَجِبُ الْأَرْشُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُكُومَةُ عَدْلٍ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) (وَأَرْش ف 4) (وَدِيَات ف 34).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


48-موسوعة الفقه الكويتية (كلب)

كَلْبٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْكَلْبُ فِي اللُّغَةِ: كُلُّ سَبُعٍ عَقُورٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ أَكْلُبٌ وَكِلَابٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ: أَكَالِبُ، وَالْأُنْثَى كَلْبَةٌ وَجَمْعُهَا كِلَابٌ.أَيْضًا وَكَلْبَاتٌ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ النَّبَّاحُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْخِنْزِيرُ

2- الْخِنْزِيرُ حَيَوَانٌ خَبِيثٌ وَيَشْتَرِكُ الْخِنْزِيرُ مَعَ الْكَلْبِ فِي نَجَاسَةِ الْعَيْنِ، وَنَجَاسَةِ كُلِّ مَا نَتَجَ عَنْهُمَا وَحُرْمَةِ أَكْلِ لَحْمِهِمَا وَالِانْتِفَاعِ بِأَلْبَانِهِمَا وَأَشْعَارِهِمَا وَجُلُودِهِمَا وَلَوْ بَعْدَ الدَّبْغِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَيَفْتَرِقَانِ فِي جَوَازِ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ بِحَالٍ.

ب- السَّبُعُ

3- السَّبُعُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِهَا، وَقُرِئَ بِهِمَا قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أَيْ وَمَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ.

وَيُجْمَعُ عَلَى سِبَاعٍ، مِثْلُ رَجُلٍ وَرِجَالٍ وَلَا جَمْعَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَالسَّبُعُ: كُلُّ مَا لَهُ نَابٌ يَعْدُو بِهِ وَيَفْتَرِسُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ كُلُّ مُنْتَهِبٍ جَارِحٍ قَاتِلٍ عَادَةً.

وَالسَّبُعُ أَعَمُّ مِنَ الْكَلْبِ فَكُلُّ كَلْبٍ سَبُعٌ وَلَيْسَ كُلُّ سَبُعٍ كَلْبًا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَلْبِ:

هُنَاكَ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْكَلْبِ مِنْ حَيْثُ اقْتِنَاؤُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَحِلُّ صَيْدِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:

اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ: كَالصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ الَّتِي لَمْ يَنْهَ الشَّارِعُ عَنْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ اتِّخَاذُهُ لِغَيْرِ زَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِجَوَازِهِ.

وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ».

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ».

وَأَمَّا اقْتِنَاؤُهُ لِحِفْظِ الْبُيُوتِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَصَحِّ لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَيَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا زَالَتِ الْحَاجَةُ الَّتِي يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ لَهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ زَوَالُ الْيَدِ عَنِ الْكَلْبِ بِفَرَاغِهَا، وَقَالُوا يَجُوزُ تَرْبِيَةُ الْجِرْوِ الَّذِي يُتَوَقَّعُ تَعْلِيمُهُ لِذَلِكَ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- كَمَا فِي الْمُغْنِي- أَنَّ مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لِصَيْدٍ، ثُمَّ تَرَكَ الصَّيْدَ مُدَّةً، وَهُوَ يُرِيدُ الْعَوْدَ إِلَيْهِ، لَمْ يَحْرُمِ اقْتِنَاؤُهُ فِي مُدَّةِ تَرْكِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الزَّرْعِ.

وَلَوْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ، فَأَرَادَ شِرَاءَ غَيْرِهَا فَلَهُ إِمْسَاكُ كَلْبِهَا لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي الَّتِي يَشْتَرِيهَا.

وَإِنِ اقْتَنَى كَلْبًا لِصَيْدِ مَنْ لَا يَصِيدُ بِهِ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- اسْتَثْنَى كَلْبَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا، وَاحْتَمَلَ الْمَنْعَ، لِأَنَّهُ اقْتَنَاهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَشْبَهَ غَيْرَهُ مِنَ الْكِلَابِ.

وَقَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ لِأَمْرِهِ- عليه الصلاة والسلام- بِقَتْلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ اقْتِنَاؤُهُ لَمْ يَجُزْ تَعْلِيمُهُ، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ إِنَّمَا يَجُوزُ مَعَ جَوَازِ الْإِمْسَاكِ، فَيَكُونُ التَّعْلِيمُ حَرَامًا، وَالْحِلُّ لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَلِأَنَّهُ عُلِّلَ بِكَوْنِهِ شَيْطَانًا، وَمَا قَتَلَهُ الشَّيْطَانُ لَا يُبَاحُ أَكْلُهُ كَالْمُنْخَنِقَةِ.

وَتَجُوزُ تَرْبِيَةُ الْجِرْوِ الصَّغِيرِ لِأَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ- فِي أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ- عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ قَصَدَهُ لِذَلِكَ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَحْشِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ فِي الْحَالِ لِمَآلِهِ إِلَى الِانْتِفَاعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّخِذِ الصَّغِيرَ مَا أَمْكَنَ جَعْلُ الْكَلْبِ كَذَلِكَ، إِذْ لَا يَصِيرُ مُعَلَّمًا إِلاَّ بِالتَّعْلِيمِ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ إِلاَّ بِتَرْبِيَتِهِ وَاقْتِنَائِهِ مُدَّةً يُعَلِّمُهُ فِيهَا.

الْتِقَاطُ الْكَلْبِ:

5- يُبَاحُ الْتِقَاطُ كُلِّ حَيَوَانٍ لَا يَمْتَنِعُ بِنَفْسِهِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ الْتِقَاطُ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَعَلَى مُلْتَقِطِهِ أَنْ يُعَرِّفَهُ لِمُدَّةِ سَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُهُ صَارَ مِلْكًا لِمُلْتَقِطِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا لَيْسَ بِمَالٍ: كَكَلْبٍ يُقْتَنَى، فَمَيْلُ الْإِمَامِ وَالْآخِذِينَ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ إِلاَّ عَلَى قَصْدِ الْحِفْظِ أَبَدًا، لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ بِهِ بِعِوَضٍ مُمْتَنِعٌ، وَبِلَا عِوَضٍ يُخَالِفُ وَضْعَ اللُّقَطَةِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُعَرِّفُهُ سَنَةً، ثُمَّ يَخْتَصُّ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ صَاحِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ تَلِفَ فَلَا ضَمَانَ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُ مَا يَقْوَى عَلَى الِامْتِنَاعِ بِنَفْسِهِ: لِكِبَرِ جُثَّتِهِ، كَالْإِبِلِ، أَوْ لِطَيَرَانِهِ، أَوْ لِسُرْعَتِهِ، كَالظِّبَاءِ، أَوْ بِنَابِهِ، كَالْكِلَابِ وَالْفُهُودِ.

الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ:

6- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِنَجَاسَةٍ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ فِيهَا، كَكَلْبٍ مُعَلَّمٍ أَيْ قَابِلٍ لِلتَّعْلِيمِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ.

وَلَوْ أَوْصَى بِكَلْبٍ مِنْ كِلَابِهِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا فِي صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَعْطَى لِلْمُوصَى لَهُ أَحَدَهَا بِتَعْيِينِ الْوَارِثِ أَيْ حَسَبَ اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي كَلْبٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ لَغَتْ وَصِيَّتُهُ.

وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَكِلَابٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا، وَوَصَّى بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا، فَالْأَصَحُّ نُفُوذُهَا وَإِنْ كَثُرَتِ الْكِلَابُ الْمُوصَى بِهَا وَقَلَّ الْمَالُ، لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهَا، إِذْ لَا قِيمَةَ لَهَا.

وَالثَّانِي وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ، لَا تَنْفُذُ إِلاَّ فِي ثُلُثِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَالٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهِ حَتَّى تُضَمَّ إِلَيْهِ.

وَالثَّالِثُ: تُقَوَّمُ بِتَقْدِيرِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا، وَتُضَمُّ إِلَى الْمَالِ، وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ الْجَمِيعِ، أَيْ فِي قَدْرِهِ مِنَ الْكِلَابِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ الَّذِي يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ، لِأَنَّهَا نَقْلٌ لِلْيَدِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَتَصِحُّ هِبَتُهُ لِذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَصِحُّ، لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ عِوَضُهُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ.

وَقَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: وَإِنْ وَصَّى بِكَلْبٍ وَلَهُ كِلَابٌ، فَلِلْوَرَثَةِ إِعْطَاؤُهُ أَيَّ كَلْبٍ شَاءُوا.

وَإِنْ وَصَّى لِزَيْدٍ بِكِلَابِهِ، وَوَصَّى لآِخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ الْمَالِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْكِلَابِ ثُلُثُهَا، إِنْ لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ، لِأَنَّ مَا حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ ثُلُثَيِ الْمَالِ قَدْ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَلَمْ يُحْتَسَبْ عَلَى الْوَرَثَةِ بِالْكِلَابِ.

سَرِقَةُ الْكَلْبِ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْكَلْبِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ مُعَلَّمًا أَوْ لِحِرَاسَةٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا.

وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُوجَدُ مِنْ جِنْسِهِ مُبَاحُ الْأَصْلِ وَبِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَالِيَّتِهِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.

وَعَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ- وَلَوْ مِنْ ذِمِّيٍّ، لِأَنَّ الْقَطْعَ جُعِلَ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَتْ بِمَالٍ.

وَهَذَا خِلَافًا لِأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِ بِالْقَطْعِ فِي الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ.

غَصْبُ الْكَلْبِ:

8- مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ غَصْبَ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَيَجِبُ رَدُّهُ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَغْرَمُ إِذْ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ رَدُّ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَإِذَا أَتْلَفَهُ لَمْ يَغْرَمْهُ.

(ر: مُصْطَلَحَ غَصْبٌ ف 13).

مَا يُشْتَرَطُ لِحِلِّ صَيْدِ الْكَلْبِ:

9- يُشْتَرَطُ لِحِلِّ الصَّيْدِ أَنْ يَكُونَ كَلْبُ الصَّيْدِ مُعَلَّمًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}.وَلِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ، وَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ.فَقَالَ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ.قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: وَإِنْ قَتَلْنَ مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مَعَهَا».

وَيُعْتَبَرُ فِي تَعْلِيمِ الْكَلْبِ شُرُوطٌ إِذَا أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ اسْتَرْسَلَ، وَإِذَا زَجَرَهُ انْزَجَرَ وَإِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُلْ.

(وَالتَّفْصِيلُ: فِي مُصْطَلَحِ صَيْدٌ ف 38 وَمَا بَعْدَهَا).

الِانْتِفَاعُ بِالْكَلْبِ:

10- تَقَدَّمَ جَوَازُ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِحَاجَةٍ كَالصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِهِ الَّتِي لَمْ يَنْهَ الشَّارِعُ عَنْهَا

اسْتِئْجَارُ الْكَلْبِ:

11- مَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ إِجَارَةَ الْكَلْبِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحِرَاسَةِ بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْهِنْدِيَّةِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا بَيَّنَ لِذَلِكَ وَقْتًا مَعْلُومًا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اسْتِئْجَارُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ لِلصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ بَاطِلٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ يَجُوزُ، كَالْفَهْدِ وَالْبَازِيِّ، وَالشَّبَكَةِ لِلِاصْطِيَادِ، وَالْهِرَّةِ لِدَفْعِ الْفَأْرِ وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُحَرَّمٌ بَيْعُهُ لِخَبَثِهِ، فَحَرُمَتْ إِجَارَتُهُ كَالْخِنْزِيرِ.

(وَالتَّفْصِيلُ يُنْظَرُ فِي: مُصْطَلَحِ إِجَارَةٌ ف 101).

بَيْعُ الْكَلْبِ:

12- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ مُطْلَقًا «لِنَهْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً، إِلاَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهَا أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ.

وَحَكَى فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي أَنَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلًا بَيْنَ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَمَنَعُوا بِاتِّفَاقٍ بَيْعَ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، لِلْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ سَابِقًا.

وَأَمَّا الْمَأْذُونُ فِيهِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَهُمْ.

الْمَنْعُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْجَوَازُ.وَالْمَشْهُورُ مِنْهَا عَنْ مَالِكٍ الْمَنْعُ.

بَيْعُ جِلْدِ الْكَلْبِ:

13- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يُبَاعُ وَلَوْ دُبِغَ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَحْنُونٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ جُلُودَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ، لِحَدِيثِ «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» فَيَجُوزُ بَيْعُ جِلْدِ الْكَلْبِ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ.

وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ بِطَهَارَةِ جِلْدِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرِ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ بِالدَّبْغِ مَا عَدَا الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 12، دِبَاغَةٌ ف 8، جِلْدٌ ف 10 وَمَا بَعْدَهَا).

الِاسْتِصْبَاحُ بِدُهْنِهِ وَوَدَكِهِ:

14- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِمَا كَانَ نَجِسًا بِعَيْنِهِ، فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.

أَمَّا مَا كَانَ مُتَنَجِّسًا فَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ- مَعَ الْكَرَاهَةِ- فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ وَكَذَلِكَ دُهْنُ الدَّوَابِّ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِالْمُتَنَجِّسِ عَلَى الْمَشْهُورِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ».

أَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَلَا، لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْجِيسِهِ، كَذَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِلْأَذْرَعِيِّ وَالزَّرْكَشِيِّ،.وَصَرَّحَ.بِذَلِكَ.الْإِمَامُ.وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ وَدَكٍ نَحْوِ الْكَلْبِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ لِغِلَظِ نَجَاسَتِهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: مُصْطَلَحَ اسْتِصْبَاحٌ ف 4).

نَجَاسَةُ الْكَلْبِ:

15- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ سُؤْرُهُ وَرُطُوبَاتُهُ نَجِسَةٌ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ الْكَلْبَ طَاهِرُ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الطَّهَارَةِ.فَكُلُّ حَيٍّ- وَلَوْ كَلْبًا وَخِنْزِيرًا- طَاهِرٌ، وَكَذَا عَرَقُهُ وَدَمْعُهُ وَمُخَاطُهُ وَلُعَابُهُ، وَإِلاَّ مَا خَرَجَ مِنَ الْحَيَوَانِ مِنْ بَيْضٍ أَوْ مُخَاطٍ أَوْ دَمْعٍ أَوْ لُعَابٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِلَا ذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ- فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا، فَهَذَا فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي مِيتَتُهُ نَجِسَةٌ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ.

حُكْمُ شَعْرِ الْكَلْبِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ شَعْرِ الْكَلْبِ أَوْ طَهَارَتِهِ سَوَاءٌ أُخِذَ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى طَهَارَتِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ إِلَى نَجَاسَتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (مُصْطَلَحِ شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَرٌ ف 19).

حُكْمُ مُعَضِّ كَلْبِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ مُعَضِّ كَلْبِ الصَّيْدِ، مِمَّا يَصِيدُهُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى طَهَارَةِ مُعَضِّ الْكَلْبِ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى نَجَاسَتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (صَيْدٌ ف 44).

تَطْهِيرُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ:

18- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ سَبْعًا وَلَا تَتْرِيبَ مَعَ الْغَسْلِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبُ غَسْلِ الْإِنَاءِ ثَلَاثًا، وَلَهُمْ قَوْلٌ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا.

وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ تَعَدُّدَ الْغَسْلِ تَعَبُّدٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، لِطَهَارَةِ الْكَلْبِ.وَقِيلَ: لِقَذَارَتِهِ، وَقِيلَ: لِنَجَاسَتِهِ، وَعَلَيْهِمَا فَكَوْنُهُ سَبْعًا، تَعَبُّدًا، وَقِيلَ: لِتَشْدِيدِ الْمَنْعِ.

وَاخْتَارَ ابْنُ رُشْدٍ كَوْنَ الْمَنْعِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ الْكَلْبُ كَلِبًا، فَيَكُونُ قَدْ دَاخَلَ مِنْ لُعَابِهِ الْمَاءَ مَا يُشْبِهُ السُّمَّ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ تَحْدِيدُهُ بِالسَّبْعِ، لِأَنَّ السَّبْعَ مِنَ الْعَدَدِ مُسْتَحَبٌّ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ التَّدَاوِي، لَا سِيَّمَا فِيمَا يُتَوَقَّى مِنْهُ السُّمُّ، كَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمُ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ»

قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَرُدَّ عَلَيْهِ بِنَقْلِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ الْكَلْبَ الْكَلِبَ يَمْتَنِعُ عَنْ وُلُوغِ الْمَاءِ.

وَأَجَابَ حَفِيدُ ابْنُ رُشْدٍ، أَنَّهُ يَمْتَنِعُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ الْكَلْبُ، أَمَّا فِي أَوَائِلِهِ، فَلَا.

(ر: مُصْطَلَحَ تَتْرِيبٌ ف 2).

تَعَدُّدُ الْوُلُوغِ:

19- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَتَعَدَّدُ الْغَسْلُ سَبْعًا بِسَبَبِ وُلُوغِ كَلْبٍ وَاحِدٍ مَرَّاتٍ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ وُلُوغِ كِلَابٍ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ قَبْلَ غَسْلِهِ، لِتَدَاخُلِ مُسَبِّبَاتِ الْأَسْبَابِ الْمُتَّفِقَةِ فِي الْمُسَبَّبِ كَنَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَمُوجِبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ وَلَغَ كَلْبَانِ، أَوْ كَلْبٌ وَاحِدٌ مَرَّاتٍ فِي إِنَاءٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الصَّحِيحُ، أَنَّهُ يَكْفِيهِ لِلْجَمِيعِ سَبْعُ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ لِكُلِّ وَلْغَةٍ سَبْعٌ، وَالثَّالِثُ: يَكْفِي لِوَلَغَاتِ الْكَلْبِ الْوَاحِدِ سَبْعٌ، وَيَجِبُ لِكُلِّ كَلْبٍ سَبْعٌ.

وَلَا تَقُومُ الْغَسْلَةُ الثَّامِنَةُ، وَلَا غَمْسُ الْإِنَاءِ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ وَمُكْثُهُ فِيهِ قَدْرَ سَبْعِ غَسَلَاتٍ مَقَامَ التُّرَابِ عَلَى الْأَصَحِّ.

قَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ: وَكَفَتِ السَّبْعُ مَعَ التَّتْرِيبِ فِي إِحْدَاهَا وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْكِلَابُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَوْ كَانَتْ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ دَمَهُ أَوْ رَوَثَهُ، فَلَمْ يَزَلْ عَنْهُ إِلاَّ بِسِتِّ غَسَلَاتٍ، فَهَلْ يُحْسَبُ ذَلِكَ سِتَّةُ غَسَلَاتٍ، أَمْ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ، أَمْ لَا يُحْسَبُ مِنَ السَّبْعِ؟ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا وَاحِدَةٌ.

مُرُورُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي:

20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِمُرُورِ شَيْءٍ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَطْعِ الصَّلَاةِ بِمُرُورِ شَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ نَقْصُ الصَّلَاةِ لِشَغْلِ قَلْبِ الْمُصَلِّي بِمَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِبْطَالَ الصَّلَاةِ.

وَنَقَلَ الْجَمَاعَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- رحمه الله- أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَقْطَعُهَا إِلاَّ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ، قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: لَا يَقْطَعُهَا عِنْدِي شَيْءٌ إِلاَّ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ.

وَالْبَهِيمُ الَّذِي لَيْسَ فِي لَوْنِهِ شَيْءٌ سِوَى السَّوَادِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَتَانِ تُخَالِفَانِ لَوْنَهُ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا عَنْ كَوْنِهِ بَهِيمًا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ، مِنْ قَطْعِ الصَّلَاةِ، وَتَحْرِيمِ صَيْدِهِ وَإِبَاحَةِ قَتْلِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ: «عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ».

وَقَطْعُهُ لِلصَّلَاةِ قَوْلُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ طَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَمَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْأَحْوَصِ.

وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ».

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنَ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ».

أَكْلُ لَحْمِ الْكَلْبِ:

21- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ حُرْمَةَ أَكْلِ لَحْمِ كُلِّ ذِي نَابٍ يَفْتَرِسُ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَهْلِيَّةً كَالْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ الْأَهْلِيِّ، أَمْ وَحْشِيَّةً كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ.

اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ».

وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي أَكْلِ لَحْمِ الْكَلْبِ قَوْلَانِ: الْحُرْمَةُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَصَحَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ التَّحْرِيمَ، قَالَ الْحَطَّابُ وَلَمْ أَرَ فِي الْمَذْهَبِ مَنْ نَقَلَ إِبَاحَةَ أَكْلِ الْكِلَابِ.

(وَلِلتَّفْصِيلِ ر: أَطْعِمَةٌ ف 24).

هِبَةُ الْكَلْبِ:

22- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ- إِلَى صِحَّةِ هِبَةِ الْكَلْبِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَأَخَفُّ مِنَ الْبَيْعِ.

وَالْأَصَحُّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ- بُطْلَانُ هِبَةِ الْكَلْبِ قِيَاسًا عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِهِ.

وَقْفُ الْكَلْبِ:

23- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَدَمَ جَوَازِ وَقْفِ الْكَلْبِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ وَقْفُ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ أَوِ الَّذِي يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَالثَّانِي يَصِحُّ عَلَى رَأْيٍ، أَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ أَوِ الْقَابِلِ لِلتَّعْلِيمِ فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ وَقْفُهُ جَزْمًا.

رَهْنُ الْكَلْبِ:

24- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْكَلْبِ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ رَهْنُهُ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ رَهْنِهِ بِاعْتِبَارِهِ مَالًا.

(ر: رَهْنٌ ف9).

ضَمَانُ عَقْرِ الْكَلْبِ:

2- لِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ فِي ضَمَانِ جِنَايَةِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَكُلِّ حَيَوَانٍ خَطَرٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 109).

قَتْلُ الْكَلْبِ:

26- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ قَتْلُ كُلِّ كَلْبٍ أَضَرَّ وَمَا عَدَاهُ جَائِزٌ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ كِلَابِ الْمَاشِيَةِ وَالصَّيْدِ وَالزَّرْعِ.

قَالَ الْحَطَّابِ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مِنَ الْكِلَابِ أَسْوَدُ وَلَا غَيْرُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَقُورًا، مُؤْذِيًا، وَقَالُوا: الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ كَلْبًا مِنْ غَيْرِهِ.

وَاحْتَجُّوا- كَذَلِكَ- بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْكَلْبِ الَّذِي كَانَ يَلْهَثُ عَطَشًا، فَسَقَاهُ الرَّجُلُ، فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَقَالَ: قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» قَالُوا: فَإِذَا كَانَ الْأَجْرُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَالْوِزْرُ فِي الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ، وَلَا إِسَاءَةَ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ.

وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» مَا يَدُلُّ عَلَى قَتْلِهِ، لِأَنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَثِيرٌ، وَلَا يَجِبُ قَتْلُهُمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا لَا يَظْهَرُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا ضَرَرٌ- كَالْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ بِعَقُورٍ- يُكْرَهُ قَتْلُهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ بَعْضِهِمُ التَّحْرِيمُ.

وَالْمُرَادُ الْكَلْبُ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ مُبَاحَةً، فَأَمَّا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِلَا شَكٍّ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَسْوَدُ وَغَيْرُهُ.

وَالْأَمْرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ مَنْسُوخٌ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ: يَحْرُمُ قَتْلُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ.وَقَاتِلُهُ مُسِيءٌ ظَالِمٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ كَلْبٍ مُبَاحٌ إِمْسَاكُهُ، لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ، يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ، فَحَرُمَ إِتْلَافُهُ، كَالشَّاةِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَلَا غُرْمَ عَلَى قَاتِلِهِ.

قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ لَا يُبَاحُ قَتْلُ شَيْءٍ مِنَ الْكِلَابِ سِوَى الْأَسْوَدِ وَالْعَقُورِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟» وَيُبَاحُ قَتْلُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ.

فَكُلُّ مَا آذَى النَّاسَ وَضَرَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يُبَاحُ قَتْلُهُ، لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِلَا نَفْعٍ، أَشْبَهَ الذِّئْبَ، وَمَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ وَقَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: يَجِبُ قَتْلُهُ.

27- وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ فِي الْحَرَمِ لِلْحَدِيثِ: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ».

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ، عَمَلًا بِنَصِّ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ.

دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْكَلْبِ:

28- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْكَلْبِ غَيْرِ الْعَقُورِ وَحِفْظُ حَيَاتِهِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقَا، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ».

وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى مَنْ مَعَهُ مَاءٌ وَخَافَ- بِاسْتِعْمَالِهِ- مَرَضًا، أَوْ زِيَادَتَهُ، أَوْ تَأَخُّرَ بُرْءٍ، أَوْ عَطَشَ مُحْتَرَمٍ، مَعَهُ أَيْ مُحَرَّمٌ قَتْلُهُ، آدَمِيًّا كَانَ أَوْ بَهِيمِيًّا، وَمِنْهُ كَلْبُ الصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ، أَيْ فَيَجِبُ سَقْيُهُ، وَلَوْ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى التَّيَمُّمِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ كَمَا يَجِبُ بَذْلُ الْمَالِ لِإِبْقَاءِ الْآدَمِيِّ الْمَعْصُومِ يَجِبُ بَذْلُهُ لِإِبْقَاءِ الْبَهِيمَةِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْغَيْرِ، وَلَا يَجِبُ الْبَذْلُ لِلْحَرْبِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ.

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ كَلْبٌ- غَيْرُ عَقُورٍ- جَائِعٌ، وَشَاةٌ، لَزِمَهُ ذَبْحُ الشَّاةِ لِإِطْعَامِ الْكَلْبِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


49-موسوعة الفقه الكويتية (محاذاة)

مُحَاذَاةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُحَاذَاةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُقَابَلَةُ، يُقَالُ: حَاذَيْتُهُ مُحَاذَاةً مِنْ بَابِ قَاتَلَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: كَوْنُ الشَّيْئَيْنِ فِي مَكَانَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْجِهَاتِ.

قَالَ الْبَرَكَتِيُّ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحَاذَاةِ السَّاقُ وَالْكَعْبُ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُحَاذَاةِ مِنْ أَحْكَامٍ:

لِلْمُحَاذَاةِ أَحْكَامٌ وَرَدَتْ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلًا: الْمُحَاذَاةُ فِي الصَّلَاةِ

أ- مُحَاذَاةُ الْقِبْلَةِ:

2- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ وَأَمَّا النَّافِلَةُ فَتَصِحُّ فَوْقَهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ أَمَامَهُ شَاخِصٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ صَلَاةُ النَّفْلِ فَوْقَ الْكَعْبَةِ وَأَمَّا السُّنَنُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهَا فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ عَلَى الرَّاجِحِ، لَكِنَّهَا إِنْ صُلِّيَتْ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ لَا تُعَادُ بِخِلَافِ الْفَرْضِ فَإِنَّهُ يُعَادُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمُعْتَبَرُ فِي الْقِبْلَةِ الْعَرْصَةُ لَا الْبِنَاءُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ الْكَعْبَةُ الَّتِي هِيَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ، وَلِذَا لَوْ نُقِلَ الْبِنَاءُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَصُلِّيَ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ بَلْ تَجِبُ الصَّلَاةُ إِلَى أَرْضِهَا.

وَقَالُوا: تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ فَوْقَ الْكَعْبَةِ وَلَوْ بِلَا سُتْرَةٍ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ جَازَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ نُظِرَ: إِنْ وَقَفَ عَلَى طَرَفِهَا وَاسْتَدْبَرَ بَاقِيَهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِالِاتِّفَاقِ، لِعَدَمِ اسْتِقْبَالِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهَكَذَا لَوِ انْهَدَمَتْ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ فَوَقَفَ عَلَى طَرَفِ الْعَرْصَةِ وَاسْتَدْبَرَ بَاقِيَهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلَوْ وَقَفَ خَارِجَ الْعَرْصَةِ وَاسْتَقْبَلَهَا صَحَّ بِلَا خِلَافٍ.

أَمَّا إِذَا وَقَفَ فِي وَسْطِ السَّطْحِ أَوِ الْعَرْصَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ شَاخِصٌ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ.

وَمَنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ مُسْتَقْبِلًا مِنْ بِنَائِهَا قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ عَنْ مُحَاذَاةِ الشَّاخِصِ، وَكَذَا إِذَا اسْتَقْبَلَ شَاخِصًا مُتَّصِلًا بِالْكَعْبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا كَشَجَرَةٍ نَابِتَةٍ وَعَصًا مُسَمَّرَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْرَ قَامَتِهِ طُولًا وَعَرْضًا لِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْكَعْبَةِ، أَوْ إِلَى مَا هُوَ كَالْجُزْءِ مِنْهَا، حَتَّى وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ عَنْ مُحَاذَاةِ الشَّاخِصِ، لِأَنَّهُ مُوَاجِهٌ بِبَعْضِهِ جُزْءًا مِنَ الْكَعْبَةِ وَبِبَاقِيهِ هَوَاءَ الْكَعْبَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الشَّاخِصُ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَسُتْرَةِ الْمُصَلِّي فَاعْتُبِرَ فِيهِ قَدْرُهَا الَّذِي هُوَ مِثْلُ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوِ اسْتَقْبَلَ الشَّاخِصَ الْمَذْكُورَ فِي حَالِ قِيَامِهِ دُونَ بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ، كَأَنِ اسْتَقْبَلَ خَشَبَةً عَرْضُهَا ثُلُثَا ذِرَاعٍ مُعْتَرِضَةً فِي بَابِ الْكَعْبَةِ تُحَاذِي صَدْرَهُ فِي حَالِ قِيَامِهِ دُونَ بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ أَنَّهَا تَصِحُّ، ثُمَّ قَالَ: بَلِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّهَا لَا تَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلاَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ فِي حَالِ سُجُودِهِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَوْ وَقَفَ خَارِجَ الْعَرْصَةِ وَلَوْ عَلَى جَبَلٍ أَجْزَأَهُ وَلَوْ بِغَيْرِ شَاخِصٍ لِأَنَّهُ يُعَدُّ مُحَاذِيًا إِلَيْهَا بِخِلَافِ الْمُصَلَّى فِيهَا، وَلَوْ خَرَجَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ بِأَنْ وَقَفَ بِطَرَفِهَا وَخَرَجَ عَنْهُ بِبَعْضِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَكَذَا لَوِ امْتَدَّ صَفٌّ طَوِيلٌ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْمُحَاذَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقْبِلًا لَهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ إِذَا بَعُدُوا عَنْهَا حَاذَوْهَا وَصَحَّتْ صَلَاتُهُمْ، وَإِنْ طَالَ صَفُّهُمْ، لِأَنَّ صَغِيرَ الْحَجْمِ كُلَّمَا زَادَ بُعْدُهُ زَادَتْ مُحَاذَاتُهُ كَغَرَضِ الرُّمَاةِ.

وَلَوْ أُزِيلَ الشَّاخِصُ الَّذِي كَانَ يُحَاذِيهِ فِي أَثَنَاءِ صَلَاتِهِ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ.

ب- الْمُحَاذَاةُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ

3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي عِنْدَ افْتِتَاحِ صَلَاتِهِ رَفْعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ».

وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الرَّفْعِ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ ف 57 وَمَا بَعْدَهَا).

ج- الصَّلَاةُ فِي مُحَاذَاةِ النَّجَاسَةِ

4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى وَفِي مُحَاذَاتِهِ نَجَاسَةٌ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَضُرُّ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ نَجَسٌ يُحَاذِي صَدْرَ الْمُصَلِّي فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ، لِعَدَمِ مُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ لِبَدَنِهِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَكَانَ صَلَاتِهِ، فَتَعَيَّنَ طَهَارَتُهُ كَالَّذِي يُلَاقِيهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (نَجَاسَةٌ).

د- مُحَاذَاةُ الْمَأْمُومِ إِمَامَهُ فِي الصَّلَاةِ

5- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ الْمَأْمُومُ فِي عُلُوٍّ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ كَصُفَّةٍ مُرْتَفِعَةٍ وَسْطَ دَارٍ مَثَلًا، وَإِمَامُهُ فِي سُفْلٍ كَصَحْنِ تِلْكَ الدَّارِ أَوْ عَكْسِهِ شُرِطَ مَعَ وُجُوبِ اتِّصَالِ صَفٍّ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ: مُحَاذَاةُ بَعْضِ بَدَنِ الْمَأْمُومِ بَعْضَ بَدَنِ الْإِمَامِ، بِأَنْ يُحَاذِيَ رَأْسُ الْأَسْفَلِ قَدَمَ الْأَعْلَى مَعَ اعْتِدَالِ قَامَةِ الْأَسْفَلِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَصِيرًا، لَكِنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَدِلَهَا لَحَصَلَتِ الْمُحَاذَاةُ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ.

وَكَذَا لَوْ كَانَ قَاعِدًا وَلَوْ قَامَ لَحَاذَى كَفَى، أَمَّا إِذَا كَانَا فِي الْمَسْجِدِ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ مُطْلَقًا.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: يَجُوزُ عَدَمُ إِلْصَاقِ مَنْ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ أَوْ يَسَارِهِ بِمَنْ حَذْوَهُ أَيْ خَلْفَ ظَهْرِ الْإِمَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْجِوَازِ (عِنْدَهُمْ) خِلَافُ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ تَقْطِيعٌ لِلصَّفِّ وَوَصْلُهُ مُسْتَحَبٌّ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إِذَا جَاءَ الْمَأْمُومُ وَلَمْ يَجِدْ فِي الصَّفِّ فُرْجَةً انْتَظَرَ حَتَّى يَجِيءَ آخَرُ فَيَقِفَانِ خَلْفَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ يَخْتَارُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَجْذِبُهُ وَيَقِفَانِ خَلْفَهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ عَالَمًا يَقِفُ الصَّفَّ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ لِلضَّرُورَةِ.

هـ- صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي مُحَاذَاةِ امْرَأَةٍ

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِمُحَاذَاةِ الْمُصَلِّي امْرَأَةً سَوَاءٌ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَوْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا تَفْسُدُ لِمُحَاذَاةِ غَيْرِ الْمَرْأَةِ.

إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَا يَشْغَلُهُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ غَيْرَهُمَا، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اسْتُحِبَّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَجْعَلَ فِي مُحَاذَاتِهِ سَاتِرًا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَارَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ تَفْسُدُ إِذَا حَاذَتْهُ امْرَأَةٌ فِي صَلَاتِهِ.

وَقَالُوا: لَوْ قَامَتِ امْرَأَةٌ وَسْطَ الصَّفِّ تُفْسِدُ صَلَاةَ وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهَا وَصَلَاةَ وَاحِدٍ عَنْ يَسَارِهَا وَصَلَاةَ وَاحِدٍ خَلْفَهَا بِحِذَائِهَا.

وَشُرُوطُ الْمُحَاذَاةِ الْمُفْسِدَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تِسْعَةٌ:

أ- كَوْنُ الْمَرْأَةِ مُشْتَهَاةً وَلَوْ كَانَتْ مَحْرَمًا لِلرَّجُلِ أَوْ زَوْجَةً لَهُ، أَوْ كَانَتْ مَاضِيًا كَعَجُوزٍ شَوْهَاءَ.

ب- كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ بِالسَّاقِ وَالْكَعْبِ فِي الْأَصَحِّ وَفِي الدُّرِّ: الْمُعْتَبَرُ الْمُحَاذَاةُ بِعُضْوٍ وَاحِدٍ.

ج- كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ فِي أَدَاءِ رُكْنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي الْفَتْحِ وَجَزَمَ بِهِ الْحَلَبِيُّ أَوْ قَدَّرَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.

وَفِي الْخَانِيَّةِ: إِنَّ قَلِيلَ الْمُحَاذَاةِ وَكَثِيرَهَا مُفْسِدٌ وَنُسِبَ إِلَى أَبِي يُوسُفَ.

د- كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَلَوْ بِالْإِيمَاءِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ إِذْ لَا سُجُودَ لَهَا، فَهِيَ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ حَقِيقِيَّةٍ وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ.

هـ- كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ مِنْ حَيْثُ التَّحْرِيمَةُ وَذَلِكَ بِاقْتِدَاءِ الْمُصَلِّي وَالْمَرْأَةِ بِإِمَامٍ أَوِ اقْتِدَائِهَا بِهِ.

و- كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ فِي مَكَانٍ مُتَّحِدٍ وَلَوْ حُكْمًا، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمَكَانُ بِأَنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ بِحَيْثُ لَا يُحَاذِي شَيْءٌ مِنْهُ شَيْئًا مِنْهَا لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ.

ز- كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ بِلَا حَائِلٍ قَدْرَ ذِرَاعٍ فِي غِلَظِ أُصْبُعٍ، أَوْ فُرْجَةٌ تَسَعُ رَجُلًا.

ح- عَدَمُ إِشَارَةِ الْمُصَلِّي إِلَيْهَا لِتَتَأَخَّرَ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ تَتَأَخَّرْ بِإِشَارَاتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهَا لَا صَلَاتُهُ وَلَا يُكَلَّفُ بِالتَّقَدُّمِ عَنْهَا لِكَرَاهَتِهِ.

ط- وَتَاسِعُ شُرُوطِ الْمُحَاذَاةِ الْمُفْسِدَةِ: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ نَوَى إِمَامَتَهَا فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا لَا تَكُونُ فِي الصَّلَاةِ فَانْتَفَتِ الْمُحَاذَاةُ.

ثَانِيًا: الْمُحَاذَاةُ فِي الْحَجِّ

7- قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يَجِبُ عَلَى الطَّائِفِ أَنْ يَجْعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مُحَاذِيًا لَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ فِي مُرُورِهِ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَيَكْتَفِي بِمُحَاذَاةِ جُزْءٍ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ كَمَا اكْتَفَى بِمُحَاذَاةِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِجُزْءٍ مِنَ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ.

وَصِفَةُ الْمُحَاذَاةِ: أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْبَيْتَ وَيَقِفَ عَلَى جَانِبِ الْحَجَرِ مِنْ جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ بِحَيْثُ يَصِيرُ جَمِيعُ الْحَجَرِ عَنْ يَمِينِهِ وَمَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ عِنْدَ طَرَفِهِ ثُمَّ يَنْوِي الطَّوَافَ وَيَمُرُّ مُسْتَقْبِلًا إِلَى جِهَةِ يَمِينِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ الْحَجَرَ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالْمُحَاذَاةُ الْوَاجِبَةُ تَتَعَلَّقُ بِالرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ لَا بِالْحَجَرِ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ فُرِضَ- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- أَنَّهُ نُحِّيَ مِنْ مَكَانِهِ وَجَبَتْ مُحَاذَاةُ الرُّكْنِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِالطَّوَافِ مِنْ جَانِبِ الْحَجَرِ الَّذِي يَلِي الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ فَيَكُونُ مَارًّا عَلَى جَمِيعِ الْحَجَرِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ خِلَافِ مَنْ يَشْتَرِطُ الْمُرُورَ كَذَلِكَ عَلَيْهِ، وَشَرْحُهُ أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلًا عَلَى جَانِبِ الْحَجَرِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ جَمِيعُ الْحَجَرِ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ يَمْشِي كَذَلِكَ مُسْتَقْبِلًا حَتَّى يُجَاوِزَ الْحَجَرَ فَإِذَا جَاوَزَهُ انْفَتَلَ وَجَعَلَ يَسَارَهُ إِلَى الْبَيْتِ وَهَذَا فِي الِافْتِتَاحِ خَاصَّةً، وَلَوْ أَخَذَ عَنْ يَسَارِهِ فَهُوَ جَائِزٌ مَعَ الْإِسَاءَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


50-موسوعة الفقه الكويتية (مسح)

مَسْحٌ

التَّعْرِيفُ:

1- لِلْمَسْحِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ يُقَالُ مَسَحَ الشَّيْءَ الْمُتَلَطِّخَ أَوِ الْمُبْتَلَّ مَسْحًا: أَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ لِإِذْهَابِ مَا عَلَيْهِ مِنْ أَثَرِ مَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الشَّيْءِ بِالْمَاءِ أَوِ الدُّهْنِ: أَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ بِهِ، وَيُقَالُ: مَسَحَ بِالشَّيْءِ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وَمَسَحَ اللَّهُ الْعِلَّةَ عَنِ الْعَلِيلِ: شَفَاهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.

وَالْمَسْحُ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْغَسْلُ:

2- الْغَسْلُ لُغَةً: بِفَتْحِ الْغَيْنِ، مَصْدَرُ غَسَلَ، وَالِاسْمُ: الْغُسْلُ وَهُوَ تَمَامُ غَسْلِ الْجَسَدِ كُلِّهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: هُوَ سَيَلَانُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ بِنِيَّةٍ.

ب- التَّيَمُّمُ:

3- التَّيَمُّمُ التَّيَمُّمُ لُغَةً: الْقَصْدُ وَالتَّوَخِّي وَالتَّعَمُّدُ، يُقَالُ: تَيَمَّمَهُ بِالرُّمْحِ، تَقَصَّدَهُ وَتَوَخَّاهُ وَتَعَمَّدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ وَمِثْلُهُ تَأَمَّمَهُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَهُوَ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِتُرَابٍ طَهُورٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ كَمَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ.

وَالْمَسْحُ أَعَمُّ مِنَ التَّيَمُّمِ.

أَحْكَامُ الْمَسْحِ:

لِلْمَسْحِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَوَّلًا: مَسْحُ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ:

الْكَلَامُ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ فِي مَوَاضِعَ كَمَا يَلِي:

أ- مَسْحُ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ

4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء فِي أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مُطْلَقًا مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}.

ب- الْقَدْرُ الْمُجْزِئُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْحِ الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمُجْزِئَ هُوَ مَسْحُ رُبْعِ الرَّأْسِ، كَمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمُعْتَمَدَ رِوَايَةُ الرُّبْعِ وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُتَأَخِّرُونَ.

وَوَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالرُّبْعِ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ الرُّبْعِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ كَمَا فِي حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يَحِلُّ بِدُونِهِ.وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ، ذَكَرَهَا الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْقُدُورِيُّ، وَفِي الْهِدَايَةِ: وَهِيَ الرُّبْعُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النَّاصِيَةَ أَقَلُّ مِنَ الرُّبْعِ.وَوَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالنَّاصِيَةِ، أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنَ الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَلَا عَلَى بَعْضٍ مُطْلَقٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى مِقْدَارٍ يُسَمَّى الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَسْحًا فِي الْمُتَعَارَفِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، لَكِنْ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: بِفِعْلِهِ وَهُوَ مَا وَرَدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ بَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ».فَصَارَ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، رَوَاهَا هِشَامٌ، وَقِيلَ هِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَذُكِرَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ عَلَيْهَا الْفَتْوَى.

وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ يَقْتَضِي آلَةً، إِذِ الْمَسْحُ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْآلَةِ، وَآلَةُ الْمَسْحِ هِيَ أَصَابِعُ الْيَدِ عَادَةً، وَثَلَاثُ أَصَابِعِ الْيَدِ أَكْثَرُهَا، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الثَّلَاثِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ.وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}.

وَالْبَاءُ فِي الْآيَةِ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى وَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ.

كَمَا اسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِنَفْسِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ تُفِيدُ الِاسْتِيعَابَ، وَفِعْلُ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَعَ بَيَانًا لِلْآيَةِ، وَالْبَاءُ فِي الْآيَةِ لِلْإِلْصَاقِ أَيْ إِلْصَاقِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي فَرْضِ الْوُضُوءِ مُسَمَّى مَسْحٍ لِبَعْضِ بَشَرَةِ رَأْسِهِ أَوْ بَعْضِ شَعَرٍ وَلَوْ وَاحِدَةً أَوْ بَعْضَهَا فِي حَدِّ الرَّأْسِ بِأَنْ لَا يَخْرُجَ الشَّعَرُ بِالْمَدِّ عَنْهُ فَلَوْ خَرَجَ بِهِ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ نُزُولِهِ لَمْ يَكْفِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} وَوَرَدَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ»،، وَاكْتَفَى بِمَسْحِ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْمَسْحِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ.وَلِلْفُقَهَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ مَسْحِ الرَّأْسِ وَتَكْرَارِ الْمَسْحِ وَغَسْلِ الرَّأْسِ بَدَلَ الْمَسْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (وُضُوءٍ).

ثَانِيًا: مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ:

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ، وَهَلْ يُجَدَّدُ لَهُمَا الْمَاءُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٍ).

ثَالِثًا: مَسْحُ الرَّقَبَةِ:

7- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مَا عَدَا الرَّافِعِيَّ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنْدَبُ مَسْحُ الرَّقَبَةِ بَلْ يُكْرَهُ، لِأَنَّهُ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَسْحُ الرَّقَبَةِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رَقَبَةٌ ف 2).

رَابِعًا: الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، وَلِأَنَّهُ لَا تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ فِي نَزْعِهَا فَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهَا كَالْكُمَّيْنِ، لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ فِي نَزْعِ الْعِمَامَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي مُوَطَّئِهِ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ كَانَ ثُمَّ تُرِكَ، وَبِهَذَا قَالَ عُرْوَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْقَاسِمُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ إِلاَّ إِذَا خِيفَ بِنَزْعِهَا ضَرَرٌ وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى مَسْحِ مَا هِيَ مَلْفُوفَةٌ عَلَيْهِ كَالْقَلَنْسُوَةِ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ أَتَى بِهِ وَكَمَّلَ عَلَى الْعِمَامَةِ وُجُوبًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لِأَدَاءِ فَرْضِ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَسْحِ شَيْءٍ مِنْ شَعَرِ الرَّأْسِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنَ النَّاصِيَةِ، ثُمَّ يَجُوزُ لِأَدَاءِ سُنَّةِ مَسْحِ كُلِّ الرَّأْسِ مَسْحُ مَا ذُكِرَ وَالتَّكْمِيلُ عَلَى الْعِمَامَةِ بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْجَمَلُ هِيَ:

أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهَا نَحْوُ دَمِ الْبَرَاغِيثِ، وَأَنْ لَا يَمْسَحَ مِنْهُ مَا حَاذَى الْقَدْرَ الْمَسْمُوحَ مِنَ الرَّأْسِ وَأَنْ لَا يَكُونَ عَاصِيًا بِلُبْسِ الْعِمَامَةِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رضي الله عنه-، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ»،، وَلِأَنَّهُ حَائِلٌ فِي مَحَلِّ وُرُودِ الشَّرْعِ بِمَسْحِهِ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ كَالْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّ الرَّأْسَ عُضْوٌ يَسْقُطُ فَرْضُهُ فِي التَّيَمُّمِ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَى حَائِلِهِ كَالْقَدَمَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْزِئُ مَسْحُ أَكْثَرِ الْعِمَامَةِ لِأَنَّهَا أَحَدُ الْمَمْسُوحَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ.

شُرُوطُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ

9- وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ مَا يَلِي:

أ- أَنْ تَكُونَ سَاتِرَةً لِجَمِيعِ الرَّأْسِ إِلاَّ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِكَشَفِهِ كَمُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَيْنِ، لِأَنَّ هَذَا الْكَشْفَ جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الرَّأْسِ مَكْشُوفًا مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِكَشْفِهِ اسْتُحِبَّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ مَعَ الْعِمَامَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ عَلَى عِمَامَتِهِ وَنَاصِيَتِهِ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- رضي الله عنه-.

وَهَلِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاجِبٌ؟ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْهُ، فَيَخْرُجُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُهُ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الْعِمَامَةَ نَابَتْ عَمَّا اسْتَتَرَ، فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ كَالْجَبِيرَةِ، وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ: لِأَنَّ الْعِمَامَةَ نَابَتْ عَنِ الرَّأْسِ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا، وَانْتَقَلَ الْفَرْضُ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَبْقَ لِمَا ظَهَرَ حُكْمٌ، وَلِأَنَّ وُجُوبَهُمَا مَعًا يُفْضِي إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَالْخُفِّ.فَإِنْ كَانَ تَحْتَ الْعِمَامَةِ قَلَنْسُوَةٌ يَظْهَرُ بَعْضُهَا، فَالظَّاهِرُ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا صَارَا كَالْعِمَامَةِ الْوَاحِدَةِ.

ب- أَنْ تَكُونَ عَلَى صِفَةِ عَمَائِمِ الْمُسْلِمِينَ، بِأَنْ تَكُونَ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ، لِأَنَّ هَذِهِ عَمَائِمُ الْعَرَبِ، وَهِيَ أَكْثَرُ سَتْرًا مِنْ غَيْرِهَا وَيَشُقُّ نَزْعُهَا، فَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ لَهَا ذُؤَابَةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ.

ج- أَنْ لَا تَكُونَ الْعِمَامَةُ مُحَرَّمَةً كَعِمَامَةِ الْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبَةِ.

د- أَنْ يَكُونَ لَابِسُ الْعِمَامَةِ رَجُلًا، فَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ، فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي حَقِّهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا عُذْرٌ فَهَذَا يُنْدَرُ، وَلَا يَرْتَبِطُ الْحُكْمُ بِالنَّادِرِ.

التَّوْقِيتُ فِي مَسْحِ الْعِمَامَةِ:

10- التَّوْقِيتُ فِي مَسْحِ الْعِمَامَةِ كَالتَّوْقِيتِ فِي مَسْحِ الْخُفِّ، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يُمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ ثَلَاثًا فِي السَّفَرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ»،، وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ فَتُوَقَّتُ بِذَلِكَ كَالْخُفِّ.

نَزْعُ الْعِمَامَةِ بَعْدَ الْمَسْحِ:

11- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ نَزَعَ الْعِمَامَةَ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَيْهَا بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ، وَكَذَلِكَ إِنِ انْكَشَفَ رَأْسُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَكَذَلِكَ إِنِ انْتَقَضَتْ بَعْدَ مَسْحِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَزْعِهَا.

وَإِنِ انْتَقَضَ بَعْضُهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لَا تَبْطُلُ طَهَارَتُهُ، لِأَنَّهُ زَالَ بَعْضُ الْمَمْسُوحِ عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ مَسْتُورًا، فَلَمْ تَبْطُلِ الطَّهَارَةُ كَكَشْطِ الْخُفِّ مَعَ بَقَاءِ الْبِطَانَةِ.

وَالْأُخْرَى تَبْطُلُ طَهَارَتُهُ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَوِ انْتَقَضَ مِنْهَا كَوْرٌ وَاحِدٌ بَطَلَ الْمَسْحُ، لِأَنَّهُ زَالَ الْمَمْسُوحُ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ نَزْعَ الْخُفِّ.

خَامِسًا: الْمَسْحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ فِي الْوُضُوءِ:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ فِي الْوُضُوءِ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ بَدَلًا مِنَ الرَّأْسِ لِعَدَمِ الْحَرَجِ فِي نَزْعِهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ إِنْ خِيفَ مِنْ نَزْعِهَا ضَرَرٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَسُرَ رَفْعُ قَلَنْسُوَةٍ أَوْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ كَمَّلَ بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا وَحَصَلَ لَهُ سُنَّةُ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَإِنْ لَبِسَهَا عَلَى حَدَثٍ.

سَادِسًا: الْمَسْحُ عَلَى الْقُفَّازَيْنِ:

13- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقُفَّازَيْنِ لِأَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِتَعَذُّرِ النَّزْعِ، وَلَا حَرَجَ فِي نَزْعِ الْقُفَّازَيْنِ.

سَابِعًا: مَسْحُ الْمَرْأَةِ عَلَى الْخِمَارِ:

14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْسَحَ عَلَى خِمَارِهَا، لِمَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا أَدْخَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا، وَقَالَتْ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- »،، وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ لِرَأْسِ الْمَرْأَةِ، فَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ كَالْوِقَايَةِ وَالْوِقَايَةُ لَا يُجْزِئُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا بِلَا خِلَافٍ كَالطَّاقِيَّةِ لِلرَّجُلِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا لِأَنَّ الْوِقَايَةَ لَا يُشَقُّ نَزْعُهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْخِمَارُ رَقِيقًا يُنْفِذُ الْمَاءَ إِلَى شَعَرِهَا، فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِوُجُودِ الْإِصَابَةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ الْمَسْحُ عَلَى خُمُرِ النِّسَاءِ الْمُدَارَةِ تَحْتَ حُلُوقِهِنَّ لِأَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا وَعَنِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ لِلرَّأْسِ مُعْتَادٌ يُشَقُّ نَزْعُهُ فَأَشْبَهَ الْعِمَامَةَ.

ثَامِنًا: الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ نِيَابَةً عَنِ الْغُسْلِ أَوِ الْمَسْحِ الْأَصْلِيِّ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: كُسِرَ زَنْدِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَقَطَ اللِّوَاءُ مِنْ يَدِي، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: اجْعَلُوهَا فِي يَسَارِهِ، فَإِنَّهُ صَاحِبُ لِوَائِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَصْنَعُ بِالْجَبَائِرِ؟ فَقَالَ: امْسَحْ عَلَيْهَا».

وَالتَّفْصِيلُ فِي: (جَبِيرَةٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

كَيْفِيَّةُ الْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَيَمُّمٌ فِقْرَةُ 11).

مَا يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ:

أ- الْجِسْمُ الصَّقِيلُ:

17- فِي طَهَارَةِ الْجِسْمِ الصَّقِيلِ بِالْمَسْحِ إِذَا أَصَابَهُ نَجَاسَةٌ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ كُلُّ صَقِيلٍ لَا مَسَامَّ لَهُ كَمِرْآةٍ، وَظُفُرٍ، وَعَظْمٍ، وَزُجَاجٍ، وَآنِيَةٍ مَدْهُونَةٍ، سَوَاءٌ أَصَابَهُ نَجَسٌ لَهُ جُرْمٌ أَوْ لَا، رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا، لِأَنَّهُ لِصَلَابَتِهَا لَا يَتَدَاخَلُهَا شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَيَزُولُ بِالْمَسْحِ، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- كَانُوا يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ بِسُيُوفِهِمْ، ثُمَّ يَمْسَحُونَهَا، وَيُصَلُّونَ مَعَهَا، وَلِأَنَّهُ لَا تَتَدَاخَلُهَا النَّجَاسَةُ، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُولُ بِالْمَسْحِ.

وَأَمَّا الْحَدِيدُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ صَدَأٌ أَوْ كَانَ مَنْقُوشًا فَلَا يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَقِيلٍ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ الصَّقِيلُ لَا يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ لِأَنَّ لَهُ مَسَامًّا.

وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُعْفَى مَا أَصَابَ كُلَّ صَقِيلٍ لَا مَسَامَّ لَهُ كَسَيْفٍ، وَمِرْآةٍ وَجَوْهَرٍ سَوَاءٌ مَسَحَهُ مِنَ الدَّمِ أَمْ لَا، وَعَلَّلُوا الْحُكْمَ بِفَسَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْغُسْلِ، وَبَكَوْنِ الدَّمِ مُبَاحًا كَدَمِ جِهَادٍ وَقِصَاصٍ وَذَبْحٍ وَعَقْرِ صَيْدٍ فَإِذَا كَانَ دَمَ عُدْوَانٍ يَجِبُ الْغَسْلُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صَقِيلًا كَسَيْفٍ وَسِكِّينٍ وَمِرْآةٍ لَمْ يَطْهُرْ بِالْمَسْحِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ.

ب- مَوْضِعُ الْحِجَامَةِ:

18- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ مَوْضِعُ الْحِجَامَةِ إِذَا مَسَحَهَا بِثَلَاثِ خِرَقٍ رَطَبَاتٍ نِظَافٍ، وَقَاسَ صَاحِبُ الْفَتْحِ عَلَيْهِ مَا حَوْلَ مَحَلِّ الْفَصْدِ إِذَا تَلَطَّخَ، وَيُخَافُ مِنَ الْإِسَالَةِ السَّرَيَانُ إِلَى الثُّقْبِ.

وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ بِقَوْلِهِمْ: يُعْفَى عَنْ أَثَرِ دَمِ مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ أَوِ الْفَصَادَةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مُسِحَ عَنْهُ الدَّمُ، لِتَضَرُّرِ الْمُحْتَجِمِ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَيَسْتَمِرُّ الْعَفْوُ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، فَإِذَا بَرِئَ غُسِلَ الْمَوْضِعُ، ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْعَفْوِ إِذَا كَانَ أَثَرُ الدَّمِ الْخَارِجِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، وَإِلاَّ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْعَفْوِ مَسْحٌ.؟

ج- الْخُفُّ وَالنَّعْلُ:

19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ نَجَاسَةٌ: فَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً لَا تَزُولُ إِلاَّ بِالْغَسْلِ كَيْفَمَا كَانَتْ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ عَلَى التُّرَابِ كَيْفَمَا كَانَتْ: مُتَجَسِّدَةً أَوْ مَائِعَةً، وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جُرْمٌ كَالْبَوْلِ، وَالْخَمْرِ، وَالْمَاءِ النَّجَسِ، لَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِالْغَسْلِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا جُرْمٌ كَثِيفٌ: فَإِنْ كَانَ مَنِيًّا فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْحَتِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ كَالْعَذِرَةِ وَالدَّمِ الْغَلِيظِ، وَالرَّوْثِ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِالْغَسْلِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي: (طَهَارَةٍ ف 24).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


51-موسوعة الفقه الكويتية (مسك)

مِسْكٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمِسْكُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ: طِيبٌ مَعْرُوفٌ، وَثَوْبٌ مُمَسَّكٌ: مَصْبُوغٌ بِهِ، وَدَوَاءٌ مُمَسَّكٌ: فِيهِ مِسْكٌ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِسْكُ مِنَ الطِّيبِ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ الْمَشْمُومَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الْبُنَانِيُّ نَقْلًا عَنِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ: الْمِسْكُ دَمٌ يَجْتَمِعُ فِي سُرَّةِ الْغَزَالِ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ مِنَ السَّنَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ وَرِمَ الْمَوْضِعُ، فَيَمْرَضُ الْغَزَالُ إِلَى أَنْ يَسْقُطَ مِنْهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْعَنْبَرُ:

2- الْعَنْبَرُ فِي اللُّغَةِ: مَادَّةٌ صُلْبَةٌ لَا طَعْمَ لَهَا وَلَا رِيحَ إِلاَّ إِذَا سُحِقَتْ أَوْ أُحْرِقَتْ، يُقَالُ: إِنَّهُ رَوْثُ دَابَّةٍ بَحْرِيَّةٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ الْعَنْبَرَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ- أَيْ رَمَى بِهِ- إِلَى السَّاحِلِ.

وَالْعِلَاقَةُ بَيْنَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طِيبٌ، وَلَهُمَا أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِسْكِ:

أ- طَهَارَةُ الْمِسْكِ وَأَكْلُهُ

3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ طَاهِرٌ حَلَالٌ، يَجُوزُ أَكْلُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ بِكُلِّ حَالٍ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِضَرُورَةٍ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَمًا فَقَدْ تَغَيَّرَ، وَاسْتَحَالَ أَصْلُهُ إِلَى صَلَاحٍ، فَيَصِيرُ طَاهِرًا، وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَّ الْمِسْكَ أَطْيَبُ الطِّيبِ».

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: حَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ.

وَأَمَّا نَافِجَةُ الْمِسْكِ فَطَاهِرَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيلِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى طَهَارَتِهَا مُطْلَقًا، أَيْ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا، وَبَيْنَ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْمَذْبُوحِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ بِحَالِ لَوْ أَصَابَهَا الْمَاءُ لَمْ تَفْسُدْ فَهِيَ طَاهِرَةٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فَأْرَةُ الْمِسْكِ مَيْتَةٌ طَاهِرَةٌ إِجْمَاعًا لِانْتِقَالِهَا عَنِ الدَّمِ، كَالْخَمْرِ لِلْخَلِّ.

وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ انْفَصَلَتْ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ مُذَكَّاةٍ فَطَاهِرَةٌ وَتَكُونُ كَالرِّيشِ، وَإِنِ انْفَصَلَتْ مِنْ مَيْتَةٍ فَنَجِسَةٌ كَاللَّبَنِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمِسْكُ وَفَأْرَتُهُ (وِعَاؤُهُ) طَاهِرَانِ، لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ بِطَبْعِهِ، أَشْبَهَ الْوَلَدَ

ب- زَكَاةُ الْمِسْكِ

4- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمِسْكِ.

ج- بَيْعُ الْمِسْكِ وَفَأْرَتِهِ

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمِسْكِ فِي الْجُمْلَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: حَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ.

وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ بَيْعُ مِسْكٍ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ لِجَهْلِ الْمَقْصُودِ، وَلَوْ كَانَ قَدْرُ الْمِسْكِ مَعْلُومًا صَحَّ الْبَيْعُ، هَذَا إِذَا خَالَطَهُ لَا عَلَى وَجْهِ التَّرْكِيبِ، فَإِنْ كَانَ مَعْجُونًا بِغَيْرِهِ كَالْغَالِيَةِ، وَالنِّدِّ صَحَّ الْبَيْعُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ جَمِيعُهَا لَا الْمِسْكُ وَحْدَهُ.

وَكَذَلِكَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمِسْكِ فِي فَأْرَتِهِ مَعَهَا، أَوْ دُونَهَا، وَلَوْ فَتَحَ رَأْسَهَا كَاللَّحْمِ فِي الْجِلْدِ.

أَمَّا لَوْ رَأَى الْمِسْكَ خَارِجَ الْفَأْرَةِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ رَدِّهِ إِلَيْهَا، أَوْ رَأَى الْفَأْرَةَ فَارِغَةً، ثُمَّ مُلِئَتْ مِسْكًا لَمْ يَرَهُ، ثُمَّ رَأَى أَعْلَاهُ مِنْ رَأْسِهَا جَازَ، وَإِلاَّ فَلَا، لِأَنَّهُ بَيْعُ غَائِبٍ.

وَأَمَّا لَوْ بَاعَ الْمِسْكَ وَفَأْرَتَهُ كُلَّ رَطْلٍ أَوْ قِيرَاطٍ مَثَلًا بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا، شَرِيطَةَ أَنْ يَعْرِفَ وَزْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ لِلْفَأْرَةِ قِيمَةٌ، وَإِلاَّ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْبَيْعَ اشْتَمَلَ عَلَى اشْتِرَاطِ بَذْلِ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ مِسْكٍ فِي فَأْرَتِهِ مَا لَمْ يُفْتَحْ وَيُشَاهَدْ، لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ كَاللُّؤْلُؤِ فِي الصَّدَفِ، قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اشْتَرَى نَافِجَةَ مِسْكٍ، وَأَخْرَجَ الْمِسْكَ مِنْهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِرُؤْيَةٍ أَوْ عَيْبٍ، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ يُدْخِلُ فِيهِ عَيْبًا.

د- السَّلَمُ فِي الْمِسْكِ

6- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمِسْكِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَتَعَيَّنُ وَزْنُ فُتَاتِ الْمِسْكِ، وَلَا يَجُوزُ كَيْلًا لِأَنَّ الْكَيْلَ لَا يُعَدُّ ضَابِطًا فِيهِ لِعِظَمِ خَطَرِهِ؛ لِأَنَّ يَسِيرَهُ مَالِيَّةٌ كَثِيرَةٌ.

قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَيَصِفُهُ، وَيَضْبِطُهُ بِاللَّوْنِ، وَالْبَلَدِ وَمَا يُخْتَلَفُ بِهِ.

هـ- ضَمَانُ رَائِحَةِ الْمِسْكِ الْمَغْصُوبِ

7- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ نَقْصَ رَائِحَةِ الْمِسْكِ أَوْ نَحْوِهِ كَعَنْبَرٍ، لِأَنَّ قِيمَتَهُ تَخْتَلِفُ بِالنَّظَرِ إِلَى قُوَّةِ رَائِحَتِهِ، وَضَعْفِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْجَمِيعُ لَوَجَبَ قِيمَتُهُ، فَإِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَجَبَ قَدْرُهُ مِنَ الْقِيمَةِ.

و- اسْتِعْمَالُ الْمِسْكِ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ التَّطَيُّبِ بِالْمِسْكِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: «الْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ».

وَفِي اسْتِعْمَالِهِ لِلْمُحْرِمِ، وَالتَّدَاوِي بِهِ، وَأَكْلِهِ، وَشَمِّهِ خِلَافٌ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ ف 74- 78).

ز- اسْتِعْمَالُ الْمِسْكِ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ

9- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، بِأَنَّهُ يُسَنُّ اسْتِعْمَالُ الْمِسْكِ لِكُلِّ مُغْتَسِلَةٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِسْكًا فَطِيبًا آخَرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، قَالَ: خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ، فَتَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَطَهَّرِي، تَقُولُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: فَجَذَبْتُهَا إِلَيَّ، فَقُلْتُ: تَتَّبِعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ».

وَكَيْفِيَّةُ اسْتِعْمَالِهِ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ تَأْخُذَ الْمِسْكَ، وَتَجْعَلَهُ فِي قُطْنٍ، وَيُقَالُ لَهَا الْكُرْسُفُ أَوِ الْفِرْصَةُ وَتُدْخِلُهَا الْفَرْجَ، لِيَقْطَعَ رَائِحَةَ دَمِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ.

ح- إِفْطَارُ الصَّائِمِ بِشَمِّ رَائِحَةِ الْمِسْكِ

10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَمَّ الْمِسْكَ وَلَوْ ذَاكِرًا، أَوْ شَمَّ هَوَاءً تَطَيَّبَ بِرِيحِ الْمِسْكِ أَوْ شَبَهِهِ فَلَا يُفْطِرُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالزَّبَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ الْحَلْقَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْحَلْقِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَمَّا لَوْ وَصَلَ إِلَى الْحَلْقِ بِاخْتِيَارِهِ، أَيْ بِاسْتِنْشَاقِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْشِقُ صَانِعَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ شَمُّ مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَجْذِبَهُ نَفْسُهُ إِلَى حَلْقِهِ كَسَحِيقِ مِسْكٍ وَكَافُورٍ، وَكَبُخُورٍ، وَعَنْبَرٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


52-موسوعة الفقه الكويتية (مصحف 1)

مُصْحَفٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُصْحَفُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ الْمِصْحَفُ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهُوَ لُغَةً: اسْمٌ لِكُلِّ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الصُّحُفِ الْمَكْتُوبَةِ ضُمَّتْ بَيْنَ دَفَّتَيْنِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُصْحَفُ مُصْحَفًا لِأَنَّهُ أُصْحِفَ، أَيْ جُعِلَ جَامِعًا لِلصُّحُفِ الْمَكْتُوبَةِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.

وَالْمُصْحَفُ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ فِيهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.

وَيَصْدُقُ الْمُصْحَفُ عَلَى مَا كَانَ حَاوِيًا لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُسَمَّى مُصْحَفًا عُرْفًا وَلَوْ قَلِيلًا كَحِزْبٍ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْقَلْيُوبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَشْمَلُ مَا كَانَ مُصْحَفًا جَامِعًا أَوْ جُزْءًا أَوْ وَرَقَةً فِيهَا بَعْضُ سُورَةٍ أَوْ لَوْحًا أَوْ كَتِفًا مَكْتُوبَةً.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْقُرْآنُ:

2- الْقُرْآنُ لُغَةً: الْقِرَاءَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}.

وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْمٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمِّدٍ- صلى الله عليه وسلم- الْمُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ، الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْقُولِ إِلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتَرًا.

فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ: أَنَّ الْمُصْحَفَ اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمَجْمُوعِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَالْجِلْدِ، وَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَكْتُوبِ فِيهِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصْحَفِ:

تَتَعَلَّقُ بِالْمُصْحَفِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

لَمْسُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ لِلْمُصْحَفِ

3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمِّدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ إِلاَّ دَاوُدَ.

وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، فَلَا يَجُوزُ لأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ حَتَّى يَتَطَهَّرَ، إِلاَّ مَا يَأْتِي اسْتِثْنَاؤُهُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.

وَبِمَا فِي كِتَابِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ- رضي الله عنه- إِلَى أَهْلِ الْيُمْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ».

لَمْسُ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ لِلْمُصْحَفِ

4- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، وَجَعَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِمَّا لَا يَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا عَنْ غَيْرِ دَاوُدَ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقِيلَ: يَجُوزُ مَسُّهُ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ قَوْلًا غَرِيبًا بِعَدِمِ حُرْمَةِ مَسِّهِ مُطْلَقًا.

وَلَا يُبَاحُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ إِلاَّ إِذَا أَتَمَّ طَهَارَتَهُ، فَلَوْ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لَمْ يَجُزْ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ وُضُوءَهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ مَسُّهُ بِالْعُضْوِ الَّذِي تَمَّ غَسْلُهُ.

مَسُّ الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ لِلْمُصْحَفِ بِغَيْرِ بَاطِنِ الْيَدِ

5- يُسَوِّي عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِبَاطِنِ الْيَدِ، وَبَيْنَ مَسِّهِ بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَاقَى شَيْئًا، فَقَدْ مَسَّهُ إِلاَّ الْحَكَمَ وَحَمَّادًا، فَقَدْ قَالَا: يَجُوزُ مَسُّهُ بِظَاهِرِ الْيَدِ وَبِغَيْرِ الْيَدِ مِنَ الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّ آلَةَ الْمَسِّ الْيَدُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يُمْنَعُ مَسُّهُ بِأَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ وَلَا يُمْنَعُ مَسُّهُ بِغَيْرِهَا، وَنُقِلَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الزَّاهِدِيَّ أَنَّ الْمَنْعَ أَصَحُّ.

مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَمَا لَا كِتَابَةَ فِيهِ مِنْ وَرَقِهِ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَطَهِّرُ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ الْمُتَّصِلِ، وَالْحَوَاشِي الَّتِي لَا كِتَابَةَ فِيهَا مِنْ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ، وَالْبَيَاضِ بَيْنَ السُّطُورِ، وَكَذَا مَا فِيهِ مِنْ صَحَائِفَ خَالِيَةٍ مِنَ الْكِتَابَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمَكْتُوبِ وَحَرِيمٌ لَهُ، وَحَرِيمُ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.

حَمْلُ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ لِلْمُصْحَفِ وَتَقْلِيبُهُ لِأَوْرَاقِهِ وَكِتَابَتُهُ لَهُ

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الْجُنُبُ أَوِ الْمُحْدِثُ الْمُصْحَفَ بِعِلَاقَةٍ، أَوْ مَعَ حَائِلٍ غَيْرِ تَابِعٍ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَاسًّا لَهُ فَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ كَمَا لَوْ حَمَلَهُ فِي مَتَاعِهِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْمَسِّ وَلَا مَسَّ هُنَا، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَلَوْ حَمَلَهُ بِغِلَافِ غَيْرِ مَخِيطٍ بِهِ، أَوْ فِي خَرِيطَةٍ- وَهِيَ الْكِيسُ- أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يُكْرَهْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ خَرَّجَهَا الْقَاضِي عَنْ أَحَمْدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَا يَحْمِلْهُ غَيْرُ الطَّاهِرِ وَلَوْ عَلَى وِسَادَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، كَكُرْسِيِّ الْمُصْحَفِ، أَوْ فِي غِلَافٍ أَوْ بِعِلَاقَةِ، وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: لَا يَجُوزُ لَهُ حَمْلُ وَمَسُّ خَرِيطَةٍ أَوْ صُنْدُوقٍ فِيهِمَا مُصْحَفٌ، أَيْ إِنْ أُعِدَّا لَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَسُّ أَوْ حَمْلُ صُنْدُوقٍ أُعِدَّ لِلْأَمْتِعَةِ وَفِيهِ مُصْحَفٌ.

وَلَوْ قَلَّبَ غَيْرُ الْمُتَطَهِّرِ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِعُودٍ فِي يَدِهِ جَازَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسٍّ وَلَا حَمْلٍ، قَالَ: وَبَهْ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ التَّتَائِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَكْتُبُ الْقُرْآنَ عَلَى طَهَارَةٍ لِمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ كُلَّ سَاعَةٍ.

وَنُقِلَ عَنْ مُحَمِّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكْتُبَ الْمُصْحَفَ الْمُحْدِثُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ بِالْيَدِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَاسًّا بِالْقَلَمِ.

وَفِي تَقْلِيبِ الْقَارِئِ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِكُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي هُوَ لَابِسُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اخْتِلَافٌ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمَنْعُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَابِعٌ لِلَابِسِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَضَعَ عَلَى يَدِهِ مِنْدِيلًا أَوْ نَحْوَهُ مِنْ حَائِلٍ لَيْسَ تَابِعًا لِلْمُصْحَفِ وَلَا هُوَ مِنْ مُلَابَسِ الْمَاسِّ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَلَوِ اسْتَخْدَمَ لِذَلِكَ وِسَادَةً أَوْ نَحْوَهَا.

عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ عِنْدَ الْمَانِعِينَ حَمْلُ الْمُصْحَفِ وَمَسُّهُ لِلضَّرُورَةِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَمْلُهُ لِخَوْفِ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ تَنَجُّسٍ أَوْ خِيفَ وُقُوعُهُ فِي يَدِ كَافِرٍ أَوْ خِيفَ ضَيَاعُهُ أَوْ سَرِقَتُهُ، وَيَجِبُ عِنْدَ إِرَادَةِ حَمْلِهِ التَّيَمُّمُ أَيْ حَيْثُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ، وَصَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ.

مَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ مَسِّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ

أ- الصَّغِيرُ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، قَالُوا: لِمَا فِي مَنْعِ الصِّبْيَانِ مِنْ مَسِّهِ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَرَجِ، لِمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ لأَدَّى إِلَى تَنْفِيرِهِمْ مِنْ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمِهِ، وَتَعَلُّمُهُ فِي حَالِ الصِّغَرِ أَرْسَخُ وَأَثْبَتُ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَا بَأْسَ لِلْكَبِيرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَدْفَعَ الْمُصْحَفَ إِلَى صَبِيٍّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ، كَالْبَالِغِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُمْنَعُ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الْمُحْدِثُ وَلَوْ حَدَثًا أَكْبَرَ مِنْ مَسِّ وَلَا مِنْ حَمْلِ لَوْحٍ وَلَا مُصْحَفٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، أَيْ لَا يَجِبُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ لِحَاجَةِ تَعَلُّمِهِ وَمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِ مُتَطَهِّرًا، بَلْ يُسْتَحَبُّ.

قَالُوا: وَذَلِكَ فِي الْحَمْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالدِّرَاسَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ، أَوْ كَانَ لِغَرَضٍ آخَرَ مُنِعَ مِنْهُ جَزْمًا.

أَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَيَحْرُمُ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ لِئَلاَّ يَنْتَهِكَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ مَسُّ الْمُصْحَفِ، أَيْ لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ تَمْكِينُهُ مِنْ مَسِّهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْجَوَازِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا الْأَلْوَاحُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا الْقُرْآنُ فَلَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ مَسُّ الصَّبِيِّ الْمَكْتُوبِ فِي الْأَلْوَاحِ، وَعَنْهُ يَجُوزُ، وَأَطْلَقَهُمَا فِي التَّلْخِيصِ.

وَأَمَّا مَسُّ الصَّبِيِّ اللَّوْحَ أَوْ حَمْلُهُ فَيَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

ب- الْمُتَعَلِّمُ وَالْمُعَلِّمُ وَنَحْوُهُمَا:

9- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْحَائِضِ الَّتِي تَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ، أَوْ تُعَلِّمُهُ حَالَ التَّعْلِيمِ مَسَّ الْمُصْحَفِ سَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا أَوْ جُزْءًا مِنْهُ أَوِ اللَّوْحِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ، لِأَنَّ رَفْعَ حَدَثِهِ بِيَدِهِ وَلَا يَشُقُّ، كَالْوُضُوءِ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ فَإِنَّ رَفْعَ حَدَثِهَا لَيْسَ بِيَدِهَا، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجُنُبَ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، صَغِيرًا كَانَ أَوْ بَالِغًا يَجُوزُ لَهُ الْمَسُّ وَالْحَمْلُ حَالَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لِلْمَشَقَّةِ.

وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمُصْحَفِ لِلْمُطَالَعَةِ، أَوْ كَانَتْ لِلتَّذَكُّرِ بِنِيَّةِ الْحِفْظِ.

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَنَحْوَهَا مِمَّا فِيهِ قُرْآنٌ

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى الْجَوَازِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلِحِ (مَسٌّ ف 7).

مَسُّ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ الْمُصْحَفَ الْمَكْتُوبَ بِحُرُوفٍ أَعْجَمِيَّةٍ وَكُتُبَ تَرْجَمَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ

11- الْمُصْحَفُ إِنْ كُتِبَ عَلَى لَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ بِحُرُوفِ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ فَهُوَ مُصْحَفٌ وَلَهُ أَحْكَامُ الْمُصْحَفِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ وَتَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَلَوْ مَكْتُوبًا بِالْفَارِسِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ:

تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَا قِرَاءَتُهُ بِهَا، وَلَهَا حُكْمُ الْمُصْحَفِ فِي الْمَسِّ وَالْحَمْلِ.

أَمَّا تَرْجَمَةُ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِاللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ فَلَيْسَتْ قُرْآنًا، بَلْ هِيَ نَوْعٌ مِنَ التَّفْسِيرِ عَلَى مَا صَرَّحَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَعَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَمَسَّهَا الْمُحْدِثُ، عِنْدَ مَنْ لَا يَمْنَعُ مَسَّ الْمُحْدِثِ لِكُتُبِ التَّفْسِيرِ.

صِيَانَةُ الْمُصْحَفِ عَنِ الِاتِّصَالِ بِالنَّجَاسَاتِ

12- يَحْرُمُ تَنْجِيسُ الْمُصْحَفِ، فَمَنْ أَلْقَى الْمُصْحَفَ فِي النَّجَاسَاتِ أَوِ الْقَاذُورَاتِ مُتَعَمِّدًا مُخْتَارًا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ وَضْعُ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ عَلَى نَجِسٍ، وَمَسُّهَا بِشَيْءٍ نَجِسٍ وَلَوْ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَيَجِبُ غَسْلُ الْمُصْحَفِ إِنْ تَنَجَّسَ وَلَوْ أَدَّى غَسْلُهُ إِلَى تَلَفِهِ، وَلَوْ كَانَ لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَيَحْرُمُ كِتَابَتُهُ بِشَيْءِ نَجِسٍ، وَصَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِعُضْوٍ نَجِسٍ قِيَاسًا عَلَى مَسِّهِ مَعَ الْحَدَثِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى عُضْوٍ وَمَسَّهُ بِعُضْوٍ آخَرَ طَاهِرٍ فَلَا يَحْرُمُ، وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ يَتَنَجَّسُ بِبَوْلِ حَيَوَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَيَحْرُمُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ فِي وَرَقٍ نَجِسٍ أَوْ بِمِدَادٍ نَجِسٍ.

دُخُولُ الْخَلَاءِ بِمُصْحَفٍ

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ- وَلَا يَحْرُمُ- أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ وَمَعَهُ خَاتَمٌ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ تَعْظِيمًا لَهُ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: هُوَ مَكْرُوهٌ وَإِنْ حَرُمَ مِنْ حَيْثُ الْحَدَثُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ»، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِتَحْرِيمِهِ فِي الْمُصْحَفِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ: لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ قَطْعًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ دُخُولُ الْخَلَاءِ سَوَاءٌ أَكَانَ كَنِيفًا أَوْ غَيْرَهُ بِمُصْحَفٍ، كَامِلٍ أَوْ بَعْضِ مُصْحَفٍ، قَالُوا: لَكِنْ إِنْ دَخَلَهُ بِمَا فِيهِ بَعْضٌ مِنَ الْآيَاتِ لَا بَالَ لَهُ- أَيْ مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ- فَالْحُكْمُ الْكَرَاهَةُ لَا التَّحْرِيمُ.

قَالُوا: وَإِنْ خَافَ ضَيَاعَهُ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ بِهِ مَعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي سَاتِرٍ يَمْنَعُ وُصُولَ الرَّائِحَةِ إِلَيْهِ، وَلَا يَكْفِي وَضْعُهُ فِي جَيْبِهِ، لِأَنَّهُ ظَرْفٌ مُتَّسِعٌ.

جَعْلُ الْمُصْحَفِ فِي قِبْلَةِ الصَّلَاةِ

14- يُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ جَعْلُ الْمُصْحَفِ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي لِأَنَّهُ يُلْهِيهِ، قَالَ أَحَمْدُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْقِبْلَةِ شَيْئًا حَتَّى الْمُصْحَفَ، لَكِنَّ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَعَمُّدُ جَعْلِهِ فِي الْقِبْلَةِ لِيُصَلِّيَ إِلَيْهِ، وَلَا يُكْرَهُ إِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَاكَ مَوْضِعَهُ الَّذِي يُعَلَّقُ فِيهِ عَادَةً.

وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَهُ لِيَقْرَأَ مِنْهُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيمَا يُكْرَهُ اسْتِقْبَالُهُ فِي الصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ التَّشَبُّهِ بِعُبَّادِهَا، وَالْمُصْحَفُ لَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ، وَاسْتِقْبَالُ أَهْلُ الْكِتَابِ مَصَاحِفَهُمْ لِلْقِرَاءَةِ مِنْهَا لَا لِعِبَادَتِهَا، وَمِنْ هُنَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْمُصْحَفِ.

الْقِرَاءَةُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا

15- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ مِنَ الْمُصْحَفِ، فَإِنْ قَرَأَ بِالنَّظَرِ فِي الْمُصْحَفِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ مُطْلَقًا، أَيْ قَلِيلًا كَانَ مَا قَرَأَهُ أَوْ كَثِيرًا، إِمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْقِرَاءَةُ إِلاَّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ حَافِظٍ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَتَقْلِيبَ الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ تَلَقَّنَ مِنَ الْمُصْحَفِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا تَلَقَّنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَصَحَّحَ هَذَا الْوَجْهَ فِي الْكَافِي تَبَعًا لِتَصْحِيحِ السَّرَخْسِيِّ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْقِرَاءَةِ إِلاَّ مِنَ الْمُصْحَفِ فَصَلَّى بِلَا قِرَاءَةٍ فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ.

وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى تَجْوِيزِ الْقِرَاءَةِ لِلْمُصَلِّي مِنَ الْمُصْحَفِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي الْقِرَاءَةُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ لِكَثْرَةِ الشَّغْلِ بِذَلِكَ، لَكِنَّ كَرَاهَتَهُ عِنْدَهُمْ فِي النَّفْلِ إِنْ قَرَأَ فِي أَثْنَائِهِ، وَلَا يُكْرَهُ إِنْ قَرَأَ فِي أَوَّلِهِ، لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي النَّفْلِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْفَرْضِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي مَوْلًى لَهَا اسْمُهُ ذَكْوَانُ كَانَ يَؤُمُّهَا مِنَ الْمُصْحَفِ وَيُكْرَهُ فِي الْفَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَيُكْرَهُ لِلْحَافِظِ حَتَّى فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ يُشْغَلُ عَنِ الْخُشُوعِ وَعَنِ النَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ قَرَأَ فِي مُصْحَفٍ وَلَوْ قَلَّبَ أَوْرَاقَهُ أَحْيَانًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ أَوْ غَيْرُ مُتَوَالٍ لَا يُشْعِرُ بِالْإِعْرَاضِ.

أَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُصْحَفِ مُسْتَحَبَّةٌ لِاشْتِغَالِ الْبَصَرِ بِالْعِبَادَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَفْضِيلِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ عَلَى الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَعَ الْقِرَاءَةِ النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ، وَهُوَ عِبَادَةٌ أُخْرَى، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ زَادَ خُشُوعُهُ وَحُضُورُ قَلْبِهِ فِي الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ فَهُوَ أَفَضْلُ فِي حَقِّهِ.

اتِّبَاعُ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ:

16- ذَهَبَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ إِلَى وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ فِي رَسْمِ الْمَصَاحِفِ بِرَسْمِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه-، لِكَوْنِهِ قَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ.

سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: أَرَأَيْتَ مَنِ اسْتُكْتِبَ مُصْحَفًا الْيَوْمَ، أَتَرَى أَنْ يَكْتُبَ عَلَى مَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الْهِجَاءِ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُكْتَبُ عَلَى الْكِتْبَةِ الْأُولَى، وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْحُرُوفِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ الْوَاوِ وَالْأَلِفِ، أَتَرَى أَنْ تُغَيَّرَ مِنَ الْمُصْحَفِ إِذَا وُجِدَتْ فِيهِ كَذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ الدَّانِيُّ: يَعْنِي الْوَاوَ وَالْأَلِفَ الزَّائِدَتَيْنِ فِي الرَّسْمِ الْمَعْدُومَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ قَالَ: وَلَا مُخَالِفَ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: تَحْرُمُ مُخَالَفَةُ مُصْحَفِ الْإِمَامِ فِي وَاوٍ أَوْ يَاءٍ أَوْ أَلِفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: مَنْ كَتَبَ مُصْحَفًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْهِجَاءِ الَّذِي كَتَبُوا بِهِ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ وَلَا يُخَالِفَهُمْ فِيهِ، وَلَا يُغَيِّرَ مِمَّا كَتَبُوا شَيْئًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ عِلْمًا وَأَصْدَقَ لِسَانًا وَأَعْظَمَ أَمَانَةً مِنَّا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ بِأَنْفُسِنَا اسْتِدْرَاكًا عَلَيْهِمْ.

وَمِنْ هُنَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ فِي الصَّلَاةِ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ الْقُرْآنَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَهَذِهِ لَمْ يَثْبُتِ التَّوَاتُرُ بِهَا، فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا قُرْآنًا، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ إِذَا قَرَأَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِمَّا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، كَبَعْضِ مَا رُوِيَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-.

وَصَحَّحَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ الصَّحِيحَةَ لَا بُدَّ أَنْ تُوَافِقَ رَسْمَ مُصْحَفِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- وَلَوِ احْتِمَالًا.

وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْقُولٌ عَنْ عِزِّ الدِّينِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ قَوْلَهُ: لَا تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ الْآنَ عَلَى الرُّسُومِ الْأُولَى بِاصْطِلَاحِ الْأَئِمَّةِ لِئَلاَّ يُوقَعَ فِي تَغْيِيرِ الْجُهَّالِ.وَتَعَقَّبَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِقَوْلِهِ: لَا يَنْبَغِي إِجْرَاءُ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى دُرُوسِ الْعِلْمِ، وَشَيْءٍ أَحْكَمَتْهُ الْقُدَمَاءُ لَا يُتْرَكُ مُرَاعَاةً لِجَهْلِ الْجَاهِلِينَ، وَلَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ.

وَنُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.

آدَابُ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ

17- اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ كِتَابَةَ الْمَصَاحِفِ، وَتَحْسِينَ كِتَابَتِهَا وَتَجْوِيدَهَا، وَالتَّأَنُّقَ فِيهَا.

وَاسْتَحَبُّوا تَبْيِينَ الْحُرُوفِ وَإِيضَاحَهَا وَتَفْخِيمَهَا، وَالتَّفْرِيجَ بَيْنَ السُّطُورِ، وَتَحْقِيقَ الْخَطِّ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ أَنْ تُمَدَّ الْبَاءُ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى الْمِيمِ حَتَّى تُكْتَبَ السِّينُ، قَالَ: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَقْصًا.

وَنُقِلَتْ: كَرَاهَةُ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ بِخَطِّ دَقِيقٍ، وَتَصْغِيرِ حَجْمِ الْمُصْحَفِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنهما-.

وَيَحْرُمُ أَنْ يُكْتَبَ الْمُصْحَفُ بِمِدَادٍ نَجِسٍ أَوْ فِي وَرَقٍ أَوْ شَيْءٍ نَجِسٍ.

وَنَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمْ كَرِهُوا كِتَابَتَهُ بِالذَّهَبِ، وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ عَنِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ كِتَابَتَهُ بِالذَّهَبِ، وَأَجَازَ الْبُرْزُلِيُّ وَالْعَدَوِيُّ وَالْأُجْهُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ الْقَارِئَ عَنِ التَّدَبُّرِ.

إِصْلَاحُ مَا قَدْ يَقَعُ فِي كِتَابَةِ بَعْضِ الْمَصَاحِفِ مِنَ الْخَطَأِ

18- يَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِصْلَاحَ مَا قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ مِنَ الْخَطَأِ فِي كِتَابَتِهَا وَاجِبٌ، وَإِنْ تَرَكَ إِصْلَاحَهُ أَثِمَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُصْحَفُ لَيْسَ لَهُ بَلْ كَانَ عَارِيَّةً عِنْدَهُ، فَعَلَيْهِ إِصْلَاحُهُ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ رِضَا صَاحِبِهِ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ بِرِضَا مَالِكِهِ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: مَحَلُّ الْجَوَازِ إِذَا كَانَ بِخَطٍّ مُنَاسِبٍ وَإِلاَّ فَلَا.

النَّقْطُ وَالشَّكْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ

19- نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَرَاهَةُ إِدْخَالِ شَيْءٍ مِنَ النَّقْطِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَرُوا بِتَجْرِيدِ الْمُصْحَفِ مِنْ ذَلِكَ، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: جَرِّدُوا الْمُصْحَفَ وَلَا تَخْلِطُوهُ بِشَيْءِ، وَكَرِهَ النَّخَعِيُّ نَقْطَ الْمَصَاحِفِ، وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ النَّقْطَ وَالْفَوَاتِحَ وَالْخَوَاتِمَ.

وَكَانَ الْمُصْحَفُ الْعُثْمَانِيُّ خَالِيًا مِنَ النَّقْطِ حَتَّى إِنَّ الْبَاءَ وَالتَّاءَ وَالِثَاءَ مَثَلًا كَانَتْ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَتَمَيَّزُ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا الْقَارِئُ بِالْمَعْنَى.

وَالنَّقْطُ كَانَ أَوَّلًا لِبَيَانِ إِعْرَابِ الْحُرُوفِ، أَيْ حَرَكَاتِهَا، وَهُوَ الَّذِي عَمِلَهُ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ عَلَامَاتُ الشَّكْلِ الَّتِي اخْتَرَعَهَا الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، وَاسْتُخْدِمَ النَّقْطُ لِتَمْيِيزِ الْحُرُوفِ الْمُتَشَابِهَةِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ.

وَوَرَدَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمُ التَّرْخِيصُ فِي ذَلِكَ، قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا بَأْسَ بِشَكْلِهِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِالنَّقْطِ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي تَتَعَلَّمُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، أَمَّا الْأُمَّهَاتُ فَلَا.

وَقَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَالدَّانِيُّ: لَا يُشْكَلُ إِلاَّ مَا يُشْكِلُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: نَقْطُ الْمُصْحَفِ وَشَكْلُهُ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ صِيَانَةٌ لَهُ مِنَ اللَّحْنِ وَالتَّحْرِيفِ، قَالَ: وَأَمَّا كَرَاهَةُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ النَّقْطَ فَإِنَّمَا كَرِهَاهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ خَوْفًا مِنَ التَّغْيِيرِ فِيهِ، وَقَدْ أُمِنَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلَا مَنْعَ.

وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ الْعَمَلُ مُنْذُ أَمَدٍ طَوِيلٍ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَالْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَالدَّانِيِّ.

التَّعْشِيرُ وَالتَّحْزِيبُ وَالْعَلَامَاتُ الْأُخْرَى فِي الْمَصَاحِفِ

20- التَّعْشِيرُ: أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُلِّ عَشْرِ آيَاتٍ، وَالتَّخْمِيسُ: أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُلِّ خَمْسٍ، وَالتَّحْزِيبُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةٌ عِنْدَ مُبْتَدَإِ كُلِّ حِزْبٍ.

وَمِنْ أَوَّلِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي أُدْخِلَتْ فِي الْمَصَاحِفِ جَعْلُ ثَلَاثِ نِقَاطٍ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ: مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِمَّا أُحْدِثَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلاَّ النُّقَطَ الثَّلَاثَ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوَّلُ مَا أَحْدَثُوا النُّقَطُ عِنْدَ آخِرِ الْآيِ، ثُمَّ الْفَوَاتِحُ وَالْخَوَاتِمُ، أَيْ فَوَاتِحُ السُّوَرِ وَخَوَاتِمُهَا، وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ السَّلَفِ (انْظُرْ: تَعْشِيرٌ ف 3)، وَرَخَّصَ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَاسْتَقَرَّ الْعَمَلُ عَلَى إِدْخَالِ تِلْكَ الْعَلَامَاتِ لِنَفْعِهَا لِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَأُدْخِلَتْ أَيْضًا عَلَامَاتُ السَّجَدَاتِ وَالْوُقُوفِ وَأَسْمَاءُ السُّوَرِ وَعَدَدُ الْأَجْزَاءِ وَعَدَدُ الْآيَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، لَكِنْ بِوَضْعٍ يُمَيِّزُهَا عَمَّا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى.

أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ

21- اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنِ السَّلَفِ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَرِهَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.

وَأَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

وَإِلَى هَذَا الْأَخِيرِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا وَبَيَّنَ الْخَطَّ جَازَ.

تَحْلِيَةُ الْمَصَاحِفِ

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمَصَاحِفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ لِلرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الَّذِي يَجُوزُ تَحْلِيَتُهُ جِلْدُهُ مِنْ خَارِجٍ لَا كِتَابَتُهُ بِالذَّهَبِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَجَازُوا أَيْضًا كِتَابَتَهُ فِي الْحَرِيرِ وَتَحْلِيَتَهُ بِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ بِالْفِضَّةِ مُطْلَقًا، وَبِالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَتَحْرِيمِهِ بِالذَّهَبِ فِي مَصَاحِفِ الرِّجَالِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ تَحْلِيَتِهِ بِشَيْءِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى تَحْرِيمِ تَحْلِيَةِ الْقُرْآنِ بِالذَّهَبِ، وَقَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ سَوَاءٌ حَلاَّهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.

بَيْعُ الْمُصْحَفِ وَشِرَاؤُهُ

23- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ سَلَفًا وَخَلَفًا فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ وَشِرَائِهَا، فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى كَرَاهَةِ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا تَعْظِيمًا لَهَا وَتَكْرِيمًا، لِمَا فِي تَدَاوُلِهَا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنَ الِابْتِذَالِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرُوِيَتْ كَرَاهِيَةُ بَيْعِهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيِّ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَدِدْتُ أَنَّ الْأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِهَا، وَوَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يُشَدِّدُونَ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى إِجَازَةِ بَيْعِهَا، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ وَبَدَلَ عَمَلِ يَدِ الْكَاتِبِ، وَبَيْعُ ذَلِكَ مُبَاحٌ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْمُصْحَفِ، إِنَّمَا يَبِيعُ الْوَرَقَ وَعَمَلَ يَدَيْهِ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ- وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَكَرِهُوا الْبَيْعَ- وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ وَيَصِحُّ- وَأَجَازُوا الشِّرَاءَ وَالِاسْتِبْدَالَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اشْتَرِ الْمَصَاحِفَ وَلَا تَبِعْهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْبَيْعِ ابْتِذَالًا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ، فَفِيهِ اسْتِنْقَاذُ الْمُصْحَفِ وَبَذْلٌ لِلْمَالِ فِي سَبِيلِ اقْتِنَائِهِ وَذَلِكَ إِكْرَامٌ، قَالُوا: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَرَاهَةِ الْبَيْعِ كَرَاهَةُ الشِّرَاءِ، كَشِرَاءِ دُورِ مَكَّةَ وَرِبَاعِهَا، وَشِرَاءِ أَرْضِ السَّوَادِ، لَا يُكْرَهُ، وَيُكْرَهُ لِلْبَائِعِ.

إِجَارَةُ الْمُصْحَفِ

24- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجَارَةِ الْمُصْحَفِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعِلَّةُ الْمَنْعِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ أَكْثَرُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِمِثْلِ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ سَقْفًا لِيَنْظُرَ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ النُّقُوشِ أَوِ التَّصَاوِيرِ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ كَرْمًا لِيَنْظُرَ فِيهِ لِلِاسْتِئْنَاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَهُ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا إِجَارَةُ سَائِرِ الْكُتُبِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ فَقَدْ بَنَوْا تَحْرِيمَ إِجَارَتِهِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ، قَالُوا: وَلِمَا فِي إِجَارَتِهِ مِنَ الِابْتِذَالِ لَهُ.

وَأَمَّا ابْنُ حَبِيبٍ فَقَدْ مَنَعَ إِجَارَتَهُ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ يَرَى جَوَازَ بَيْعِهِ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ تَكُونُ كَالثَّمَنِ لِلْقُرْآنِ، أَمَّا بَيْعُهُ فَهُوَ ثَمَنٌ لِلْوَرَقِ وَالْجِلْدِ وَالْخَطِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِجَارَةِ الْمُصْحَفِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ، قَالُوا: مَا لَمْ يَقْصِدْ بِإِجَارَتِهِ التِّجَارَةَ، وَإِلاَّ كُرِهَتْ.

وَوَجْهُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ نَفْعٌ مُبَاحٌ تَجُوزُ الْإِعَارَةُ فِيهِ، فَجَازَتْ فِيهِ الْإِجَارَةُ كَسَائِرِ الْكُتُبِ الَّتِي يَجُوزُ بَيْعُهَا.

رَهْنُ الْمُصْحَفِ

25- الْقَاعِدَةُ: أَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَلِذَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمُصْحَفِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ رَهْنُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

وَقْفُ الْمُصْحَفِ

26- يَجُوزُ وَقْفُ الْمَصَاحِفِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهَا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، اسْتِثْنَاءً مِنْ عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولَاتِ لِجَرَيَانِ التَّعَارُفِ بِوَقْفِ الْمَصَاحِفِ، وَإِلَى قَوْلِهِ هَذَا ذَهَبَ عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ بِجِوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولَاتِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِهَا كَسَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ غَيْرِ آلَاتِ الْجِهَادِ.

ثُمَّ إِنْ وَقَفَهُ عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ يَجُوزُ، وَيَقْرَأُ بِهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَاصَّةً، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لَا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ بِعَيْنِهِ.

إِرْثُ الْمُصْحَفِ

27- يُورَّثُ الْمُصْحَفُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَمْلُوكٍ يُورَّثُ عَنْ مَالِكِهِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدً الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُورَّثُ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدَانِ أَحَدُهُمَا قَارِئٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ قَارِئٍ، يُعْطَى الْمُصْحَفُ لِلْقَارِئِ.

الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ

28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ سَارِقَ الْمُصْحَفِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِأَنَّ آخُذَهُ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ لَهُ لِاعْتِبَارِ الْمَكْتُوبِ فِيهِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُقْتَنَى الْمُصْحَفُ لِأَجْلِهِ، لَا لِأَجْلِ أَوْرَاقِهِ أَوْ جِلْدِهِ.

وَيَسْرِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا عَلَى الْمُصْحَفِ مِنَ الْحِلْيَةِ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ التَّابِعِ لَهُ، وَلِلتَّابِعِ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ، كَمَنْ سَرَقَ صَبِيًّا عَلَيْهِ ثِيَابٌ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ فَلَا يُقْطَعُ بِهَا، لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلصَّبِيِّ وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ، وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقَلَ عَنِ السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ.

وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ، وَلِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، كَكُتُبِ الْفِقْهِ وَالتَّارِيخِ وَغَيْرِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


53-موسوعة الفقه الكويتية (معارضة)

مُعَارَضَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُعَارَضَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَارَضَ، يُقَالُ: عَارَضَ فُلَانًا: نَاقَضَهُ فِي كَلَامِهِ وَقَاوَمَهُ، وَيُقَالُ: عَارَضْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ قَابَلْتَهُ بِهِ.

وَلِلْمُعَارَضَةِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ أُخْرَى.

وَالْمُعَارَضَةُ اصْطِلَاحًا: إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ مَا أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ.

وَفِي هَذَا التَّعْرِيفِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّعْرِيفَاتِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمُنَاظَرَةُ

2- الْمُنَاظَرَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّظِيرِ، أَوْ مِنَ النَّظَرِ بِالْبَصِيرَةِ.

وَاصْطِلَاحًا هِيَ: النَّظَرُ بِالْبَصِيرَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِظْهَارًا لِلصَّوَابِ.

وَالْمُنَاظَرَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُعَارَضَةِ.

ب- الْمُنَاقَضَةُ:

3- الْمُنَاقَضَةُ لُغَةً: إِبْطَالُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالْآخَرِ.

وَاصْطِلَاحًا هِيَ: مَنْعُ مُقَدِّمَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ، إِمَّا قَبْلَ تَمَامِهِ وَإِمَّا بَعْدَهُ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ: الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ فَكُلُّ مُنَاقَضٍ مُعَارَضٌ وَلَا عَكْسَ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

4- الْمُعَارَضَةُ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ الَّتِي تُورَدُ عَلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ أَقْوَاهَا وَأَهَمُّهَا.

وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْأَصْلِ، أَوْ فِي الْفَرْعِ، أَوْ فِي الْوَصْفِ.

5- وَصُورَةُ وُرُودِهَا فِي الْأَصْلِ: أَنْ يَذْكُرَ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ.كَأَنْ يَقُولَ: إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِيمَا يُقْتَاتُ: الْكَيْلُ فَلَا رِبَا فِيمَا لَا يُكَالُ: كَالْبِطِّيخِ فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: الدَّلِيلُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَا قُلْتَ فَعِنْدِي مَا يَنْفِيهِ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَصْلِ وَصْفًا آخَرَ صَالِحًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ وَهُوَ: الطُّعْمُ وَهُوَ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِي قَبُولِ مِثْلِ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ: فَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ سُؤَالًا وَلَا جَوَابًا، لِأَنَّ لِلْمُسْتَدِلِّ: أَنْ يَقُولَ: لَا تَنَافِي بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ بَلْ أَقُولُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَقِيلَ: يُقْبَلُ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ.

أَوْ أَنْ يَذْكُرَ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَيَذْكُرَ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةً أُخْرَى فِيهِ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ فِي الْفَرْعِ.كَأَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: يَصِحُّ صَوْمُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُ صَوْمُ عَيْنٍ فَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ كَصَوْمِ النَّفْلِ، فَيَذْكُرُ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةً أُخْرَى غَيْرَ الْعِلَّةِ الَّتِي عَلَّلَهَا الْمُسْتَدِلُّ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْفَرْعِ كَأَنْ يَقُولَ: إِنَّ عِلَّةَ حُكْمِ الْأَصْلِ- وَهِيَ صِحَّةُ صَوْمِ النَّفْلِ بِنِيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ- لَيْسَتْ بِمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّهُ صَوْمُ عَيْنٍ، بَلِ الْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ النَّفْلَ مِنْ عَمَلِ السُّهُولَةِ وَالْخَفَّةِ، فَجَازَ أَدَاؤُهُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الشُّرُوعِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْفَرْضِ.

6- أَمَّا كَوْنُ الْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ: فَهِيَ أَنْ يُعَارِضَ الْمُعْتَرِضُ حُكْمَ الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَهُ، أَوْ ضِدَّهُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ بِوُجُودِ مَانِعٍ، أَوْ بِفَوَاتِ شَرْطٍ وَيَقُولُ فِي اعْتِرَاضِهِ: إِنَّ مَا ذَكَرْتَ فِي الْوَصْفِ وَإِنِ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ فَتُوقِفُ دَلِيلَكَ.

وَمِثَالُ النَّقِيضِ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: إِذَا بَاعَ جَارِيَةً إِلاَّ حَمْلَهَا صَحَّ فِي وَجْهٍ، كَمَا لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصِّيعَانَ إِلاَّ صَاعًا، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ لَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ إِلاَّ يَدَهَا.

وَمِثَالُ الضِّدِّ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ قِيَاسًا عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ، بِجَامِعِ مُوَاظَبَةِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: فَيُسْتَحَبُّ قِيَاسًا عَلَى الْفَجْرِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفْعَلُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِفَرْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ.

فَإِنَّ الْوِتْرَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَالْفَجْرَ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ، وَلَمْ يُعْهَدْ مِنَ الشَّرْعِ وَضْعُ صَلَاتَيْ فَرْضٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً فِي إِثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ وَنَفْيِ حُكْمِهِ فَيُعَارِضُهُ خَصْمُهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ عِلَّةُ الْمُعَلِّلِ، فَتَتَعَارَضُ الْعِلَّتَانِ فَتَمْتَنِعَانِ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ بِتَرْجِيحِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى.

7- أَمَّا صُورَةُ وُرُودِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى الْوَصْفِ فَهِيَ: أَنْ يَمْنَعَ الْمُعْتَرِضُ كَوْنَ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ عِلَّةً، كَأَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْكَلْبِ: الْكَلْبُ حَيَوَانٌ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا فَلَا يَقْبَلُ جِلْدُهُ الدَّبْغَ، مُعَلِّلًا بِكَوْنِهِ يُغْسَلُ سَبْعًا مِنْ وُلُوغِهِ، فَيَمْنَعُ الْمُعْتَرِضُ كَوْنَ الْغَسْلِ سَبْعًا عِلَّةً لِعَدَمِ طَهَارَتِهِ بِالدَّبْغِ، فَيَكُونُ جَوَابُهُ بِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ بِمَسْلَكٍ مِنْ مَسَالِكِهَا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


54-موسوعة الفقه الكويتية (معاياة)

مُعَايَاةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُعَايَاةُ مَصْدَرُ عَايَا، يُقَالُ عَايَا فُلَانٌ: أَتَى بِكَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ لَا يُهْتَدَى لَهُ، وَعَايَا صَاحِبَهُ: أَلْقَى عَلَيْهِ كَلَامًا لَا يُهْتَدَى لِوَجْهِهِ.

وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْمُعَايَاةَ عَلَى بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَالِ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَبَذْلِ الْجَهْدِ بُغْيَةَ الْوُصُولِ إِلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ فِيهَا وَأَحْيَانًا يُطْلِقُونَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلْغَازًا فَيَقُولُونَ: يُلْغِزُ بِكَذَا ثُمَّ يَذْكُرُونَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي يُعَايَى بِهَا أَوْ يُلْغَزُ.وَاعْتَبَرَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ الْمَسْأَلَةَ الْأَكْدَرِيَّةَ فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُعَايَى بِهَا وَعَبَّرَ عَنْهَا الدُّسُوقِيُّ بِالْإِلْغَازِ.

وَأَغْلَبُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا هُوَ فِي مَسَائِلِ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَابْنِ نُجَيْمٍ عَقَدَ بَابًا سَمَّاهُ فَنُّ الْأَلْغَازِ جَمَعَ فِيهِ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَسَائِلِ فِي أَغْلَبِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ.

بَعْضُ أَمْثِلَةِ الْمُعَايَاةِ:

2- ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَمْثِلَةً عِدَّةً فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَمِنْ ذَلِكَ:

فِي الصَّلَاةِ:

أَيُّ صَلَاةٍ أَفْسَدَتْ خَمْسًا وَأَيُّ صَلَاةٍ صَحَّحَتْ خَمْسًا؟

وَجَوَابُهَا: رَجُلٌ تَرَكَ صَلَاةً وَصَلَّى بَعْدَهَا خَمْسًا ذَاكِرًا لِلْفَائِتَةِ، فَإِنْ قَضَى الْفَائِتَةَ فَسَدَتِ الْخَمْسُ، وَإِنْ صَلَّى السَّادِسَةَ قَبْلَ قَضَائِهَا صَحَّتِ الْخَمْسُ.

فِي الصَّوْمِ:

أَيُّ رَجُلٍ أَفْطَرَ بِلَا عُذْرٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؟

الْجَوَابُ: مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ.

فِي الزَّكَاةِ:

أَيُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاتُهُ ثُمَّ سَقَطَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَهْلِكْ؟

الْجَوَابُ: الْمَوْهُوبُ إِذَا رَجَعَ لِلْوَاهِبِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْوَاهِبِ أَيْضًا.

فِي النِّكَاحِ:

أَيُّ امْرَأَةٍ أَخَذَتْ ثَلَاثَةَ مُهُورٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَزْوَاجٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟

وَالْجَوَابُ: امْرَأَةٌ حَامِلٌ طُلِقَتْ ثُمَّ وَضَعَتْ فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ وَطُلِقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَمَاتَ.

وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْأَلْغَازِ غَيْرَ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالْأَيْمَانِ وَالْحُدُودِ وَالسِّيَرِ وَالْوَقْفِ وَالْبَيْعِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَاتِ.

3- وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ قَوْلُهُمْ:

قُلْ لِلْفَقِيهِ إِمَامِ الْعَصْرِ قَدْ مُزِجَتْ

ثَلَاثَةٌ بِإِنَاءٍ وَاحِدٍ نَسَبُوا

لَهَا الطَّهَارَةَ حَيْثُ الْبَعْضُ قُدِّمَ أَوْ

إِنْ قُدِّمَ الْبَعْضُ فَالتَّنْجِيسُ مَا السَّبَبُ؟

وَالْمَقْصُودُ بِالثَّلَاثَةِ: الْمَاءُ، السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ- أَوْ أَيَّ مَادَّةٍ أُخْرَى- النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ.

وَتَوْضِيحُ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ قَبْلَ إِضَافَةِ السُّكَّرِ أَوِ الْعَجِينِ أَوْ غَيْرِهِمَا ثُمَّ أُضِيفَ السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَجِسًا إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ فَهُنَا قُدِّمَتِ النَّجَاسَةُ فَحَلَّتْ فِي الْمَاءِ قَبْلَ إِضَافَةِ الْمَادَّةِ الْأُخْرَى فَالْمَاءُ طَاهِرٌ.

أَمَّا إِذَا أُضِيفَتْ مَادَّةُ السُّكَّرِ أَوِ الْعَجِينِ إِلَى الْمَاءِ ثُمَّ حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا فَهُنَا قُدِّمَ السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ عَلَى النَّجَاسَةِ الَّتِي حَلَّتْ.

وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ قَوْلُهُمْ: أَخْبَرَنِي عَنْ إِمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ وَحَصَلَ لَهُمْ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ وَلَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى؟

وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَحْصُلُ لِلْإِمَامِ إِلاَّ بِنِيَّةِ الْإِمَامَةِ وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَلَوْ صَلَّى شَخْصٌ مُنْفَرِدًا ثُمَّ جَاءَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ هُوَ بِذَلِكَ فَإِنَّ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ يَحْصُلُ لِلْمَأْمُومِ دُونَ الْإِمَامِ وَعَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى لِلْحُصُولِ عَلَى فَضْلِ الْجَمَاعَةِ.

4- وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ قَوْلُهُمْ:

لَنَا شَخْصٌ عَادَ لِسُنَّةٍ لَزِمَهُ فَرْضٌ وَتَوْضِيحُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ سُنَّةٌ وَمَحَلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُصَلِّي سَاهِيًا وَقَصُرَ الْفَصْلُ عُرْفًا فَلَهُ السُّجُودُ بَعْدَ قَصْدِ الْعَوْدِ إِلَى الصَّلَاةِ وَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الصَّلَاةِ فَلَوْ شَكَّ فِي تَرْكِ رُكْنٍ حِينَئِذٍ وَجَبَ عَلَيْهِ تَدَارُكُهُ قَبْلَ السُّجُودِ وَلِذَلِكَ يُلْغَزُ فَيُقَالُ: عَادَ لِسُنَّةٍ فَلَزِمَهُ فَرْضٌ.

5- وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي الطَّهَارَةِ قَالُوا:

مِمَّا يُعَايَى بِهِ: يُسْتَحَبُّ بَقَاءُ الدَّمِ عَلَى جِسْمِ الْإِنْسَانِ وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ وَيَجِبُ إِزَالَتُهُ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ دَمَ الشَّهِيدِ مُخْتَلَفٌ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ يُسْتَحَبُّ بَقَاءُ الدَّمِ عَلَيْهِ وَلَا يُزَالُ.

مِنْ مَسَائِلِ الْمِيرَاثِ:

6- أ- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثًا فَقَالَ: لَا تَقْتَسِمُوا فَإِنَّ لِي امْرَأَةً غَائِبَةً، فَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَرِثَتْ هِيَ وَلَمْ أَرِثْ أَنَا، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً وَرِثْتُ أَنَا

وَجَوَابُهَا: هَذِهِ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ أُمًّا وَأُخْتَيْنِ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتًا لِأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ هُوَ زَوْجُ أُخْتِهَا لِأُمِّهَا، فَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتِ لِأُمٍّ السُّدُسُ إِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَلَا يَبْقَى لِزَوْجِهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ فَإِنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَلَهُ الْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ.

ب- امْرَأَةٌ جَاءَتْ إِلَى قَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثًا فَقَالَتْ: لَا تَقْتَسِمُوا فَإِنِّي حُبْلَى فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَرِثَ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً لَمْ تَرِثْ.

صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَعَمًّا وَامْرَأَةً حُبْلَى مِنْ أَخِيهِ، فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا فَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ وَهُوَ عَصَبَةٌ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمِّ فَيَرِثُ وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً فَهِيَ بِنْتُ أَخٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَلَا تَرِثُ.

وَلَوْ قَالَتْ إِنْ وَلَدْتُ غُلَامًا لَا يَرِثُ وَإِنْ وَلَدْتُ جَارِيَةً وَرِثَتْ

صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: امْرَأَةٌ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَحَمْلٍ مِنَ الْأَبِ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَةُ الْأَبِ جَارِيَةً فَهِيَ أُخْتُهَا لِأَبِيهَا فَيَكُونُ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ تَعُولُ إِلَى تِسْعَةٍ وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِأَوْلَادِ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَلَا شَيْءَ لِلْغُلَامِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ.

ج- وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُعَايَى بِهَا فِي الْمِيرَاثِ الْمَسْأَلَةُ الْأَكْدَرِيَّةُ، فَيُقَالُ: أَرْبَعَةٌ وَرِثُوا مَالَ مَيِّتٍ فَأَخَذَ أَحَدُهُمْ ثُلُثَ الْمَالِ وَأَخَذَ الثَّانِي ثُلُثَ الْبَاقِي وَأَخَذَ الثَّالِثُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ وَأَخَذَ الرَّابِعُ الْبَاقِيَ.

وَالْمَسْأَلَةُ هِيَ: زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَهِيَ تَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ وَلِلْأُمِّ سِتَّةٌ وَلِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْأُخْتِ أَرْبَعَةٌ.

د- الْمَسْأَلَةُ الدِّينَارِيَّةُ فَيُعَايَى بِهَا فَيُقَالُ: رَجُلٌ خَلَّفَ سِتَّمِائَةَ دِينَارٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ وَارِثًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَأَصَابَ أَحَدُهُمْ دِينَارًا وَاحِدًا، وَالْمَسْأَلَةُ هِيَ: زَوْجَةٌ وَجَدَّةٌ وَبِنْتَانِ وَاثْنَا عَشَرَ أَخًا وَأُخْتًا وَاحِدَةً لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالتَّرِكَةُ سِتُّمِائَةُ دِينَارٍ، لِلْجَدَّةِ سُدُسُ مِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةُ دِينَارٍ وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لِكُلِّ أَخٍ دِينَارَانِ وَلِلْأُخْتِ دِينَارٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


55-موسوعة الفقه الكويتية (مني)

مَنِيٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَنِيُّ فِي اللُّغَةِ- مُشَدَّدَةَ الْيَاءِ وَالتَّخْفِيفُ لُغَةٌ- مَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَجَمْعُهُ مُنْيٌ وَمِنْهُ قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْمَاءُ الْغَلِيظُ الدَّافِقُ الَّذِي يَخْرُجُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الشَّهْوَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمَذْيُ:

2- الْمَذْيُ فِي اللُّغَةِ: مَاءٌ رَقِيقٌ يَخْرُجُ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ أَوِ التَّذَكُّرِ وَيَضْرِبُ إِلَى الْبَيَاضِ، وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ: فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ الْأُولَى: سُكُونُ الذَّالِ، وَالثَّانِيَةُ: كَسْرُهَا مَعَ تَثْقِيلِ الْيَاءِ، وَالثَّالِثَةُ: الْكَسْرُ مَعَ التَّخْفِيفِ.

وَالْمَذَّاءُ فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ الْمَذْيِ مِنْ مَذَى يَمْذِي.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَذْيِ وَالْمَنِيِّ: أَنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ بِشَهْوَةٍ، وَأَمَّا الْمَذْيُ فَيَخْرُجُ لَا عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ.

ب- الْوَدْيُ:

3- الْوَدْيُ فِي اللُّغَةِ بِإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا: الْمَاءُ الثَّخِينُ الْأَبْيَضُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي إِثْرِ الْبَوْلِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ بِشَهْوَةٍ، وَأَنَّ الْوَدْيَ يَخْرُجُ بِلَا شَهْوَةٍ عَقِبَ الْبَوْلِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَنِيِّ:

حُكْمُ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ بِالْيَدِ

4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ بِالْيَدِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِمْنَاءَ بِالْيَدِ حَرَامٌ وَفِيهِ التَّعْزِيرُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَحْرِيمًا الِاسْتِمْنَاءُ بِالْكَفِّ وَنَحْوِهِ بِدُونِ عُذْرٍ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فَلَمْ يُبِحِ الِاسْتِمْتَاعَ إِلاَّ بِالزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِ سَلْخَ الْمَاءِ وَتَهْيِيجَ الشَّهْوَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ.

أَمَّا إِذَا وُجِدَ عُذْرٌ كَمَا إِذَا تَعَيَّنَ الْخَلَاصُ مِنَ الزِّنَا بِالِاسْتِمْنَاءِ وَكَانَ عَزْبًا لَا زَوْجَةَ لَهُ وَلَا أَمَةَ أَوْ كَانَ إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا لِعُذْرٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ لِأَنَّهُ أَخَفُّ، وَعِبَارَةُ صَاحِبِ فَتْحِ الْقَدِيرِ: فَإِنْ غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ فَفَعَلَ إِرَادَةَ تَسْكِينِهَا بِهِ فَالرَّجَاءُ أَلاَّ يُعَاقَبَ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الِاسْتِمْنَاءَ بِالْيَدِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ حَرَامٌ وَفِيهِ التَّعْزِيرُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُكْرَهُ.

وَإِنْ كَانَ الِاسْتِمْنَاءُ خَوْفًا مِنَ الزِّنَى جَازَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.

قَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ: لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ كَالْمُضْطَرِّ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَلَوْ خَافَ الزِّنَى.

قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: لَا يُبَاحُ الِاسْتِمْنَاءُ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ثُمَّ قَالَ: وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الرَّجُلِ.

وَيَجُوزُ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ الِاسْتِمْنَاءُ بِيَدِ الزَّوْجَةِ

طَهَارَةُ الْمَنِيِّ وَنَجَاسَتُهُ

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ سَوَاءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ أَوْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا دُونَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمَنِيُّ نَجِسٌ إِذَا كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ مِنْ حَيَوَانٍ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، أَمَّا مَنِيُّ مُبَاحِ الْأَكْلِ فَفِيهِ خِلَافٌ.

فَقِيلَ بِطَهَارَتِهِ وَقِيلَ بِنَجَاسَتِهِ لِلِاسْتِقْذَارِ وَالِاسْتِحَالَةِ إِلَى فَسَادٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ بَقَّعَ الْمَاءُ فِي ثَوْبِهِ».

وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَدْ غَسَلَتِ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْغُسْلُ شَأْنُ النَّجَاسَاتِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ عَلِمَ بِهَذَا فَأَقَرَّهُ وَلَمْ يَقُلْ لَهَا أَنَّهُ طَاهِرٌ وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ فَكَانَ نَجِسًا كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِآثَارٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- فِي الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ: إِنْ رَأَيْتَهُ فَاغْسِلْهُ وَإِلاَّ فَاغْسِلِ الثَّوْبَ كُلَّهُ وَمِنِ التَّابِعِينَ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ الْمَنِيَّ بِمَنْزِلَةِ الْبَوْلِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ سَبَبَ نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ أَنَّهُ دَمٌ مُسْتَحِيلٌ إِلَى نَتْنٍ وَفَسَادٍ فَحُكِمَ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّ مَنَاطَ التَّنْجِيسِ كَوْنُهُ دَمًا مُسْتَحِيلًا إِلَى نَتْنٍ وَفَسَادٍ وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ الدَّرْدِيرُ.

وَبِأَنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ مُوجِبًا لِتَنْجِيسِهِ فَأُلْحِقَ الْمَنِيُّ بِالْبَوْلِ طَهَارَةً وَنَجَاسَةً.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ: إِنَّ مَنِيَّ الْإِنْسَانِ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الذَّكَرِ أَمِ الْأُنْثَى.

لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّهَا كَانَتْ تَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ» فَدَلَّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ وَالْمَنِيُّ عَلَى ثَوْبِهِ وَهَذَا شَأْنُ الطَّاهِرَاتِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبُصَاقِ أَوِ الْمُخَاطِ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ إِذْخِرٍ».

فَيَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ شَبَّهَ الْمَنِيَّ بِالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ وَأَمَرَ بِإِمَاطَتِهِ بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ كَانَتْ- وَلَوْ بِإِذْخِرٍ- لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ طَبْعًا وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهُ الْمَنِيُّ إِنْ كَانَ رَطْبًا مَسَحَهُ وَإِنْ كَانَ يَابِسًا حَتَّهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ وَلِأَنَّهُ مَبْدَأُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَكَانَ طَاهِرًا كَالطِّينِ وَكَذَلِكَ مَنِيُّ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ حَالَ حَيَاتِهَا فَإِنَّهُ مَبْدَأُ خَلْقِهَا وَيُخْلَقُ مِنْهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ.

وَفِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ نَجِسٌ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ نَجِسٌ مِنَ الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ بِنَاءً عَلَى نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِهَا وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا مَنِيُّ غَيْرِ الْآدَمِيِّ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ مَنِيَّ غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَنَحْوِ الْكَلْبِ نَجِسٌ كَسَائِرِ الْمُسْتَحِيلَاتِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْأَصَحَّ طَهَارَةُ مَنِيِّ غَيْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ أَصْلُ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فَأَشْبَهَ مَنِيَّ الْآدَمِيِّ.

وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ طَاهِرٌ مِنَ الْمَأْكُولِ نَجِسٌ مِنْ غَيْرِهِ كَلَبَنِهِ.

الْوُضُوءُ مِنَ الْمَنِيِّ

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ ف 6 وَمَا بَعْدَهَا).

الْغُسْلُ مِنَ الْمَنِيِّ

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ.

لِمَا وَرَدَ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ- رضي الله عنها- حَدَّثَتْ: «أَنَّهَا سَأَلَتْ نَبِيَّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ فَلْتَغْتَسِلْ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ- وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ ذَلِكَ- قَالَتْ: وَهَلْ يَكُونُ هَذَا؟ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟ إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا أَوْ سَبَقَ يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذْ هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ».

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ مَنِيًّا وَكَانَ مِمَّا لَا يَنَامُ فِيهِ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ لِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ- رضي الله عنهما- اغْتَسَلَا حِينَ رَأَيَاهُ فِي ثَوْبَيْهِمَا وَلِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِلاَّ مِنْهُ وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مِنْ أَحْدَثِ نَوْمَةٍ نَامَهَا فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَرَى إِمَارَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَهَا فَيُعِيدُ مِنْ أَدْنَى نَوْمَةٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ الرَّائِي لَهُ غُلَامًا يُمْكِنُ وُجُودُ الْمَنِيِّ مِنْهُ كَابْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَهُوَ كَالرِّجَالِ لِأَنَّهُ وَجَدَ دَلِيلَهُ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْوُجُودِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِ فَأَمَّا إِنْ وَجَدَ الرَّجُلُ مَنِيًّا فِي ثَوْبٍ يَنَامُ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْتَلِمُ فَلَا غُسْلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ مُفْرَدًا يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ فَوُجُوبُ الْغُسْلِ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا جُنُبٌ يَقِينًا فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمَا كَمَا لَوْ سَمِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَوْتَ رِيحٍ يَظُنُّ أَنَّهَا مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّهِمَا هِيَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (غُسْلٌ ف 5).

الْمَنِيُّ وَأَثَرُهُ فِي الصَّوْمِ

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الصَّائِمَ إِذَا قَبَّلَ وَلَمْ يُمْنِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ» وَوَرَدَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ مِنَ الْمَاءِ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ بِهِ قَالَ: فَمَهْ».

شَبَّهَ الْقُبْلَةَ بِالْمَضْمَضَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الشَّهْوَةِ وَأَنَّ الْمَضْمَضَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نُزُولُ الْمَاءِ لَمْ يُفْطِرْ.

وَإِنْ قَبَّلَ الصَّائِمُ فَأَمْنَى فَسَدَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ بِالْمُبَاشَرَةِ فَأَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْجِمَاعِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنَ الصَّائِمِ يَقَظَةً بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ فَسَدَ الصَّوْمُ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَأَمَّا إِنْ خَرَجَ بِلَا لَذَّةٍ أَوْ خَرَجَ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا يَرَى أَصْحَابُنَا الْقَضَاءَ عَلَى مَنْ أَمْنَى مِنْ لَمْسٍ وَقُبْلَةٍ اسْتِحْبَابًا وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْقُبْلَةُ حَرَّكَتِ الْمَنِيَّ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا إِنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَلَوِ اسْتَمْنَى الصَّائِمُ بِيَدِهِ فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقُبْلَةِ فِي إِثَارَةِ الشَّهْوَةِ وَإِنْ نَزَلَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ كَالَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَنِيُّ أَوِ الْمَذْيُ لِمَرَضٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَشْبَهَ الْبَوْلَ وَلِأَنَّهُ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَلَا تَسَبُّبٍ إِلَيْهِ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ، وَلَوِ احْتَلَمَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَ حَلْقَهُ شَيْءٌ وَهُوَ نَائِمٌ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ إِلَى وَجْهِهَا أَوْ فَرْجِهَا فَأَمْنَى- كَرَّرَ النَّظَرَ أَوْ لَا- لَا يُفْطِرُ فَصَارَ كَالْمُتَفَكِّرِ فِي امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ إِذَا أَمْنَى.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَمْنَى بِتَعَمُّدِ إِدَامَةِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِمُجَرَّدِ فِكْرٍ وَنَظَرٍ بِشَهْوَةٍ لَمْ يُفْطِرْ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَلَهُ حَالَتَانِ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهِ إِنْزَالٌ فَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِغَيْرِ خِلَافٍ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ فَيَفْسُدَ الصَّوْمُ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ بِفِعْلٍ يَتَلَذَّذُ بِهِ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ كَالْإِنْزَالِ بِاللَّمْسِ وَالْفِكْرِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ بِخِلَافِ تَكْرَارِ النَّظَرِ.

تَطْهِيرُ الثَّوْبِ مِنَ الْمَنِيِّ

9- نَظَرًا لِأَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ وَطَهَارَتِهِ فَقَدْ بَيَّنَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ وَسِيلَةَ تَطْهِيرِهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَنِيَّ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ فَإِنْ كَانَ رَطْبًا يَجِبُ غَسْلُهُ وَإِنْ جَفَّ عَلَى الثَّوْبِ أَجْزَأَ فِيهِ الْفَرْكُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَلِّ الْمَنِيِّ يَكُونُ بِغَسْلِهِ.لِمَا وَرَدَ عَنْ زُبَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ: أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- إِلَى الْجُرُفِ فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ قَدِ احْتَلَمَ وَصَلَّى وَلَمْ يَغْتَسِلْ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَانِي إِلاَّ احْتَلَمْتُ وَمَا شَعَرْتُ وَصَلَّيْتُ وَمَا اغْتَسَلْتُ قَالَ: فَاغْتَسَلَ وَغَسَلَ مَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ وَنَضَحَ مَا لَمْ يَرَ وَأَذَّنَ أَوْ أَقَامَ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى مُتَمَكِّنًا.

أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ طَاهِرٌ فَقَدْ بَيَّنُوا كَيْفِيَّةَ تَنْظِيفِهِ.

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْمَنِيِّ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.

أَثَرُ انْقِطَاعِ الْمَنِيِّ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلزَّوْجَةِ

10- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْخِصَاءَ لَا يَكُونُ عَيْبًا فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ طَالَمَا يَسْتَطِيعُ الْخَصِيُّ الْوِقَاعَ لِأَثَرِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: يُرَدُّ النِّكَاحُ لِأَرْبَعٍ: مِنَ الْجُذَامِ وَالْجُنُونِ وَالْبَرَصِ وَالْقَرَنِ وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرَدَّ لِلْخِصَاءِ ذُكِرَ بِخُصُوصِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ عُمُومِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْخِصَاءِ فِي الرِّجَالِ وَإِمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ أَوْ مَعْرِفَتِهِ فِيهِمْ وَأَنَّ الزَّوَاجَ انْعَقَدَ بِيَقِينٍ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ مُتَيَقَّنٍ وَلَمَّا كَانَ الِاتِّصَالُ مِنَ الْخَصِيِّ مَوْجُودًا كَانَ الضَّرَرُ فِي مُعَاشَرَتِهِ مُنْتَفِيًا فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ عَلَى الْعُنَّةِ لِلضَّرَرِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْخِصَاءَ عَيْبٌ يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمَرْأَةِ وَيُبَرِّرُ طَلَبَ التَّفْرِيقِ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِعَدَمِ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ فَإِنْ أَنْزَلَ مَنِيًّا فَلَا يُعْتَبَرُ خِصَاءً يُبَرِّرُ التَّفْرِيقَ.

وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَحَ (خِصَاءٌ ف 7).

أَثَرُ انْقِطَاعِ الْمَنِيِّ بِالْجِنَايَةِ

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَنَى شَخْصٌ جِنَايَةً عَلَى رَجُلٍ فَكَسَرَ صُلْبَهُ فَأَبْطَلَ قُوَّةَ إِمْنَائِهِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ كَامِلَةً.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 62).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


56-موسوعة الفقه الكويتية (مياه 2)

مِيَاهٌ -2

ثَانِيًا- حُكْمُ الْمَاءِ إِذَا تَغَيَّرَ بِمُجَاوَرَةِ طَاهِرٍ

16- إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمُجَاوَرَةِ طَاهِرٍ كَالدُّهْنِ وَالطَّاهِرَاتِ الصُّلْبَةِ كَالْعُودِ وَالْكَافُورِ، إِذَا لَمْ يَهْلِكْ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يُمْعَ فِيهِ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمُجَاوَرَةِ فَلَا يَضُرُّ، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَ الِاسْمِ عَلَيْهِ، فَهُوَ يُشْبِهُ تَرَوُّحَ الْمَاءِ بِرِيحِ شَيْءٍ عَلَى جَانِبِهِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مُتَغَيِّرٌ بِمُجَاوِرٍ طَاهِرٍ كَعُودٍ وَدُهْنٍ، مُطَيَّبَيْنِ أَوْ لَا، أَوْ بِتُرَابٍ طُرِحَ فِيهِ، لِأَنَّ تَغَيُّرَهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي الْأَوَّلِ تَرَوُّحًا، وَفِي الثَّانِي كُدُورَةً لَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ لَدَيْهِمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ: أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، قِيَاسًا عَلَى الْمُتَغَيِّرِ الْمُخْتَلَطِ.

أَمَّا إِذَا هَلَكَ الْمُجَاوِرُ الطَّاهِرُ وَمَاعَ فِي الْمَاءِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الطَّاهِرِ.

ثَالِثًا- حُكْمُ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَسٍ

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ، وَغَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، كَانَ نَجِسًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَغَيَّرَتْ لِلْمَاءِ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رَائِحَةً أَنَّهُ نَجِسٌ مَا دَامَ كَذَلِكَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، فَهُوَ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ كَثِيرًا أَمْ قَلِيلًا، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.

يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: اخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ الَّذِي خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ كَثِيرًا أَمْ قَلِيلًا، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ.

وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ إِذَا لَاقَتْهُ النَّجَاسَةُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ بِالتَّغَيُّرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ.

وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ».

الْقَوْلُ الثَّانِي: يُفَرِّقُ بَيْنَ كَوْنِهِ قَلِيلًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا يَنْجُسُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَنْجُسُ.

وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.

18- لَكِنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:

الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ يَرَى: أَنَّ الْمَاءَ إِنْ كَانَ بِحَالٍ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُصُ فَهُوَ كَثِيرٌ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْخُلُوصِ التَّحْرِيكُ، فَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ حُرِّكَ طَرَفٌ مِنْهُ يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الْآخَرُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَرَّكُ فَهُوَ مِمَّا لَا يَخْلُصُ.

وَاخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ التَّحْرِيكِ: فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالْوُضُوءِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ اغْتِسَالٍ وَلَا وُضُوءٍ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».

فَلَوْ كَانَ مَاءُ الْإِنَاءِ لَا يَنْجُسُ بِالْغَمْسِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ لِوَهْمِ النَّجَاسَةِ مَعْنًى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَاءَ الْإِنَاءِ إِذَا حَرَّكَهُ آدَمِيٌّ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ سَرَتِ الْحَرَكَةُ فِيهِ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ.

وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ: أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».

فَقَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- غَسْلَ الْإِنَاءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، وَوُلُوغُ الْكَلْبِ لَا يُغَيِّرُ لَوْنَ الْمَاءِ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ، وَإِنَّمَا يُحَرِّكُهُ.

الْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَيَرَى أَنَّهُ إِنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَهُوَ كَثِيرٌ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ».وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ، إِلاَّ إِنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ».فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ تُفِيدَانِ أَنَّ التَّغْيِيرَ وَعَدَمَهُ مُعْتَبَرٌ فِي مَعْرِفَةِ الطَّاهِرِ مِنَ النَّجِسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا إِذَا وَرَدَ الْمَاءُ عَلَى النَّجَاسَةِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى طَهَارَتِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.

الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ قَلِيلٌ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَالَ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ».

فَتَحْدِيدُ الْمَاءِ بِالْقُلَّتَيْنِ وَنَفْيُ النَّجَاسَةِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُمَا يَنْجُسُ، إِذْ لَوِ اسْتَوَى حُكْمُ الْقُلَّتَيْنِ وَمَا دُونَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْدِيدِ مَعْنًى.

وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إِذَا صَعُبَتْ إِزَالَتُهَا وَشَقَّ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا عُفِيَ عَنْهَا، كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَالِاسْتِحَاضَةِ.وَإِذَا لَمْ يَشُقَّ الِاحْتِرَازُ لَمْ يُعْفَ عَنْهَا كَغَيْرِ الدَّمِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلِيلَ الْمَاءِ لَا يَشُقُّ حِفْظُهُ، وَكَثِيرُهُ يَشُقُّ، فَعُفِيَ عَمَّا شَقَّ دُونَ غَيْرِهِ، وَضَبَطَ الشَّرْعُ حَدَّ الْقُلَّةِ بِقُلَّتَيْنِ فَتَعَيَّنَ اعْتِمَادُهُ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ الْعُدُولُ عَنْهُ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَسٍ فِي حَالَتَيِ الْجَرَيَانِ وَالرُّكُودِ

وَفِيمَا يَلِي أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ:

أَوَّلًا- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:

19- فَرَّقَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَاءِ جَارِيًا أَوْ رَاكِدًا:

فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ وَكَانَ جَارِيًا وَالنَّجَاسَةُ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ، وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ: فَهُوَ طَاهِرٌ عِنْدَهُمْ.

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: فَإِنْ وَقَعَ- أَيِ النَّجَسُ- فِي الْمَاءِ: فَإِنْ كَانَ جَارِيًا:

أ- فَإِنْ كَانَ النَّجَسُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا: لَا يَنْجُسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَيُتَوَضَّأُ مِنْهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النَّجَسُ أَوْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ.كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ.

ثُمَّ قَالَ: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَاهِلِ بَالَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي وَرَجُلٌ أَسْفَلَ مِنْهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، فَالْمَاءُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ.

ب- وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَاءِ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِيَقِينٍ، وَالنَّجِسُ لَا يَطْهُرُ بِالْجَرَيَانِ.

وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ.

وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ، وَالْأَكْثَرُ يَجْرِي عَلَى الطَّاهِرِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ، لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ.

وَإِنْ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهَا النِّصْفُ، أَوْ دُونَ النِّصْفِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ، فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ نَجِسًا بِالشَّكِّ.

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَدِّ الْجَرَيَانِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِالتِّبْنِ وَالْوَرَقِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ فِي الْمَاءِ عَرْضًا لَمْ يَنْقَطِعْ جَرَيَانُهُ فَهُوَ جَارٍ، وَإِلاَّ فَلَا.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ كَانَ بِحَالِ لَوِ اغْتَرَفَ إِنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ لَمْ يَنْحَسِرْ وَجْهُ الْأَرْضِ بِالِاغْتِرَافِ فَهُوَ جَارٍ، وَإِلاَّ فَلَا.

وَقِيلَ: مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا فَهُوَ جَارٍ، وَمَا لَا فَلَا.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ.

وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ رَاكِدًا وَكَانَ قَلِيلًا يَنْجُسُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَنْجُسُ.

ثَانِيًا- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:

20- قَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِنَّ الْمَاءَ الْيَسِيرَ- وَهُوَ مَا كَانَ قَدْرَ آنِيَةِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ فَمَا دُونَهُمَا- إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ كَالْقَطْرَةِ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي حُكْمِ خَبَثٍ وَمُتَوَقِّفٌ عَلَى طُهُورٍ كَالطَّهَارَةِ الْمَسْنُونَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.

وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعَادَاتِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، فَالْكَرَاهَةُ خَاصَّةٌ بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طُهُورٍ.

ثُمَّ قَالَ: الْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِقُيُودٍ سَبْعَةٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ يَسِيرًا، وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي حَلَّتْ فِيهِ قَطْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَأَنْ لَا تُغَيِّرَهُ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَادَّةٌ كَبِئْرٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ جَارِيًا، وَأَنْ يُرَادَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طُهُورٍ كَرَفْعِ حَدَثٍ وَحُكْمِ خَبَثٍ وَأَوْضِيَةٍ وَاغْتِسَالَاتٍ مَنْدُوبَةٍ.فَإِنِ انْتَفَى قَيْدٌ مِنْهَا فَلَا كَرَاهَةَ.

ثَالِثًا- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:

21- يَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاكِدًا أَوْ جَارِيًا، أَوْ بَعْضُهُ رَاكِدًا وَبَعْضُهُ جَارِيًا.

أ- فَإِنْ كَانَ رَاكِدًا: نَظَرْتَ فِي النَّجَاسَةِ: فَإِنْ كَانَتْ نَجَاسَةً يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ مِنْ خَمْرٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ مَيْتَةٍ لَهَا نَفْسٌ سَائِلَةٌ نَظَرْتَ: فَإِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ مِنْ طَعْمٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ رَائِحَةٍ فَهُوَ نَجِسٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ مَا غَيَّرَ رِيحَهُ أَوْ طَعْمَهُ».فَنَصَّ عَلَى الطَّعْمِ وَالرِّيحِ، وَقِيسَ اللَّوْنُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُمَا.

وَإِنْ تَغَيَّرَ بَعْضُهُ دُونَ الْبَعْضِ: نَجِسَ الْجَمِيعُ، لِأَنَّهُ مَاءٌ وَاحِدٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْجُسَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ.

وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ: نَظَرْتَ: فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا فَهُوَ طَاهِرٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ».وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فِي الظُّرُوفِ، وَالْكَثِيرُ لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَجَعَلَ الْقُلَّتَيْنِ حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَهُمَا.

ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مِمَّا لَا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ فَفِيهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا حُكْمَ لَهَا، لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فَهِيَ كَغُبَارِ السِّرْجِينِ.وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: حُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةٌ فَهِيَ كَالنَّجَاسَةِ الَّتِي يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ.

كَمَا بَيَّنَ حُكْمَهُ إِنْ كَانَ جَارِيًا، فَقَالَ:

ب- وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا وَفِيهِ نَجَاسَةٌ جَارِيَةٌ كَالْمَيْتَةِ، وَالْجَرْيَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ، فَالْمَاءُ الَّذِي قَبْلَهَا طَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى النَّجَاسَةِ، فَهُوَ كَالْمَاءِ الَّذِي يُصَبُّ عَلَى النَّجَاسَةِ مِنْ إِبْرِيقٍ، وَاَلَّذِي بَعْدَهَا طَاهِرٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ النَّجَاسَةُ، وَأَمَّا مَا يُحِيطُ بِالنَّجَاسَةِ مِنْ فَوْقِهَا وَتَحْتِهَا وَيَمِينِهَا وَشِمَالِهَا فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمَا فَهُوَ نَجِسٌ كَالرَّاكِدِ.

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ الْقَاصِّ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ الْجَارِي إِلاَّ لِتَغَيُّرٍ، لِأَنَّهُ مَاءٌ وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَنْجُسْ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ، كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ.

وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ وَاقِفَةً وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَيْهَا، فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا طَاهِرٌ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهَا إِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمَا فَهُوَ نَجِسٌ، وَكَذَلِك كُلُّ مَا يَجْرِي عَلَيْهَا بَعْدَهَا فَهُوَ نَجِسٌ، وَلَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَرْكُدَ فِي مَوْضِعٍ وَيَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ.

وَأَضَافَ الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ جَارِيًا وَبَعْضُهُ رَاكِدًا: بِأَنْ يَكُونَ فِي النَّهْرِ مَوْضِعٌ مُنْخَفِضٌ يَرْكُدُ فِيهِ الْمَاءُ، وَالْمَاءُ يَجْرِي بِجَنْبِهِ وَالرَّاكِدُ زَائِلٌ عَنْ سَمْتِ الْجَرْيِ، فَوَقَعَ فِي الرَّاكِدِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَرْيَةِ الَّتِي يُحَاذِيهَا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ.

وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَتَتَنَجَّسُ كُلُّ جَرْيَةٍ بِجَنْبِهَا إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ فِي مَوْضِعٍ قُلَّتَانِ فَيَطْهُرُ.

رَابِعًا- مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:

22- قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ فَهُوَ نَجِسٌ.

وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَهُوَ يَسِيرٌ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: يَنْجُسُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَعُمُومُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي النَّجَاسَةَ سَوَاءٌ أَدْرَكَهَا الطَّرْفُ أَوْ لَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَنْجُسُ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ.

وَأَمَّا الْجَارِي، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَالرَّاكِدِ إِنْ بَلَغَ جَمِيعُهُ قُلَّتَيْنِ دَفَعَ النَّجَاسَةَ إِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَإِلاَّ فَلَا وَهِيَ الْمَذْهَبُ.

قَالَ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ: وَلَا يَنْجُسُ قَلِيلٌ جَارٍ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَعَنْ أَحْمَدَ تُعْتَبَرُ كُلُّ جَرْيَةٍ بِنَفْسِهَا، اخْتَارَهَا الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، وَقَالَ: هِيَ الْمَذْهَبُ.

تَطْهِيرُ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ:

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي: قَالَ الْكَاسَانِيُّ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ فِي الْأَوَانِي وَنَحْوِهَا، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدَاوَنِيُّ وَأَبُو اللَّيْثِ: إِذَا دَخَلَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ فِي الْإِنَاءِ وَخَرَجَ بَعْضُهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَا تَسْتَبِينَ فِيهِ النَّجَاسَةُ، لِأَنَّهُ صَارَ مَاءً جَارِيًا، وَلَمْ يُسْتَيْقَنْ بِبَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشِ: لَا يَطْهُرُ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَاءُ فِيهِ، وَيَخْرُجَ مِنْهُ مِثْلَ مَا كَانَ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِهِ ثَلَاثًا.

وَقِيلَ: إِذَا خَرَجَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْمَاءِ النَّجَسِ يَطْهُرُ، كَالْبِئْرِ إِذَا تَنَجَّسَتْ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهَا بِنَزْحِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ يَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَمُكَاثَرَتِهِ حَتَّى يَزُولَ التَّغَيُّرُ.وَلَوْ زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (طَهَارَةٌ ف 16).

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُرَادُ تَطْهِيرُهُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ أَوْ يَزِيدُ.

أ- فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ: فَتَطْهِيرُهُ يَكُونُ بِالْمُكَاثَرَةِ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُكَاثَرَةِ صَبُّ الْمَاءِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَلِ الْمُرَادُ إِيصَالُ الْمَاءِ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، إِمَّا مِنْ سَاقِيَةٍ، وَإِمَّا دَلْوًا فَدَلْوًا، أَوْ يَسِيلُ إِلَيْهِ مَاءُ الْمَطَرِ.

غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَكُونُ التَّكْثِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاءُ الَّذِي كَاثَرَهُ بِهِ طَاهِرًا أَمْ نَجِسًا، قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ».

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَكُونُ التَّكْثِيرُ بِقُلَّتَيْنِ طَاهِرَتَيْنِ، لِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ لَوْ وَرَدَ عَلَيْهِمَا مَاءٌ نَجَسٌ لَمْ يُنَجِّسْهُمَا مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ بِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ وَارِدَةً، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِمَا طَهَارَةُ مَا اخْتَلَطَتَا بِهِ.

ب- وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بِالنَّجَاسَةِ، وَحِينَئِذٍ يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ لَا غَيْرُ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِهَا فَيَطْهُرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: بِالْمُكَاثَرَةِ إِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ، أَوْ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَزُولَ تَغَيُّرُهُ بِطُولِ مُكْثِهِ.

وَلَا يَطْهُرُ بِأَخْذِ بَعْضِهِ حِينَئِذٍ وَلَوْ زَالَ بِهِ التَّغَيُّرُ، لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عَنْ قُلَّتَيْنِ وَفِيهِ نَجَاسَةٌ.

ج- وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَزِيدُ عَنْ قُلَّتَيْنِ فَلَهُ حَالَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَجِسًا بِغَيْرِ التَّغَيُّرِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَطْهِيرِهِ بِغَيْرِ الْمُكَاثَرَةِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ فَتَطْهِيرُهُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: بِالْمُكَاثَرَةِ، أَوْ بِزَوَالِ تَغَيُّرِهِ بِمُكْثِهِ، أَوْ بِالْأَخْذِ مِنْهُ مَا يَزُولُ بِهِ التَّغَيُّرُ وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا.فَإِنْ بَقِيَ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ قَبْلَ زَوَالِ تَغَيُّرِهِ لَمْ يَبْقَ التَّغَيُّرُ عِلَّةَ تَنْجِيسِهِ، لِأَنَّهُ تَنَجَّسَ بِدُونِهِ فَلَا يَزُولُ التَّنْجِيسُ بِزَوَالِهِ، وَلِذَلِك طَهُرَ الْكَثِيرُ بِالنَّزْحِ وَطُولِ الْمُكْثِ وَلَمْ يَطْهُرِ الْقَلِيلُ، فَإِنَّ الْكَثِيرَ لَمَّا كَانَتْ عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ التَّغَيُّرَ زَالَ تَنْجِيسُهُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ كَالْخَمْرَةِ إِذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا، وَالْقَلِيلُ عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ الْمُلَاقَاةُ لَا التَّغَيُّرُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ زَوَالُهُ فِي زَوَالِ التَّنْجِيسِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي تَطْهِيرِهِ بِالتُّرَابِ أَوِ الْجِصِّ إِنْ زَالَ بِهِ التَّغَيُّرُ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: لَا يَطْهُرُ، كَمَا لَا يَطْهُرُ إِذَا طُرِحَ فِيهِ كَافُورٌ أَوْ مِسْكٌ فَزَالَتْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ، وَلِأَنَّ التُّرَابَ أَوِ الْجِصَّ لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالثَّانِي: يَطْهُرُ، لِأَنَّ عِلَّةَ نَجَاسَتِهِ التَّغَيُّرُ وَقَدْ زَالَ، فَيَزُولُ التَّنْجِيسُ كَمَا لَوْ زَالَ بِمُكْثِهِ أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ آخَرَ، وَيُفَارِقُ الْكَافُورَ وَالْمِسْكَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرَّائِحَةُ بَاقِيَةً، وَإِنَّمَا لَمْ تَظْهَرْ لِغَلَبَةِ رَائِحَةِ الْكَافُورِ وَالْمِسْكِ.

تَطْهِيرُ مِيَاهِ الْآبَارِ

24- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالتَّكْثِيرِ إِلَى أَنْ يَزُولَ التَّغَيُّرُ وَيَكُونَ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ وَيَصِلَ إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ هَذَا الْحَدَّ.

كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ النَّزْحِ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالنَّزْحِ فَقَطْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (آبَارٌ ف 21- 32).

اخْتِلَاطُ الْأَوَانِي وَاشْتِبَاهُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ الطَّهُورِ بِالْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ

25- إِذَا اخْتَلَطَتِ الْأَوَانِي اخْتِلَاطَ مُجَاوَرَةٍ، وَكَانَ فِي بَعْضِهَا مَاءٌ طَهُورٌ، وَفِي الْبَعْضِ الْآخَرِ مَاءٌ نَجِسٌ وَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى الشَّخْصِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إِيجَادِ مَاءٍ آخَرَ طَهُورٍ غَيْرِ الَّذِي فِي بَعْضِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي لِمَعْرِفَةِ الطَّهُورِ مِنْهَا، فَإِذَا اجْتَهَدَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهُورِيَّةُ أَحَدِهَا بِعَلَامَةٍ تَظْهَرُ جَازَ لَهُ التَّطَهُّرُ بِهِ، وَإِلاَّ فَلَا.

وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}.وَهَذَا وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ، وَوَجَبَ الِاجْتِهَادُ، وَبِأَنَّ التَّطَهُّرَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ، فَوَجَبَ قِيَاسًا عَلَى الْقِبْلَةِ، وَعَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ وَفِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ فِي الْخَطَأِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي إِذَا كَانَ عَدَدُ أَوَانِي الْمَاءِ الطَّهُورِ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ أَوَانِي النَّجِسِ، فَإِنْ كَانَ عَدَدُ أَوَانِي الْمَاءِ الطَّهُورِ مُسَاوِيًا لِعَدَدِ أَوَانِي النَّجِسِ أَوْ أَقَلَّ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، بَلْ يَتَيَمَّمُ.

وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».وَكَثْرَةُ النَّجِسِ تَرِيبُ، فَوَجَبَ تَرْكُهُ وَالْعُدُولُ إِلَى مَا لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ، وَبِأَنَّ الْأُصُولَ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْحَرَامِ وَاسْتِوَاءَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهِ فِي الْمَنْعِ كَأُخْتٍ أَوْ زَوْجَةٍ اخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ.

وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوِ اشْتَبَهَ مَاءٌ وَبَوْلٌ، فَإِنَّهُ لَا يَجْتَهِدُ فِيهِ بَلْ يَتَيَمَّمُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي الْمِيَاهِ الْمُخْتَلِطَةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مُطْلَقًا، بَلْ يَتْرُكُ الْجَمِيعَ وَيَتَيَمَّمُ.

وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ إِذَا اجْتَهَدَ قَدْ يَقَعُ فِي النَّجِسِ، وَأَنَّهُ اشْتَبَهَ طَاهِرٌ بِنَجِسٍ فَلَمْ يَجُزِ الِاجْتِهَادُ فِيهِ كَمَا لَوِ اشْتَبَهَ مَاءٌ وَبَوْلٌ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ: فَقَالَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: لَا يَتَيَمَّمُ حَتَّى يُرِيقَ الْمَاءَ لِتَحَقُّقِ عَدَمِ الْمَاءِ.

وَقَالَ سَحْنُونٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ: يَتَيَمَّمُ وَإِنْ لَمْ يُرِقْهُ لِأَنَّهُ كَالْمَعْدُومِ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ إِنَاءٍ.

وَبِهَذَا قَالَ ابن الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِسَحْنُونٍ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الشَّخْصَ فِي هَذِهِ الْحَالَة مَعَهُ مَاءٌ مُحَقَّقُ الطَّهَارَةِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَيَقُّنِ اسْتِعْمَالِهِ إِلاَّ بِالتَّوَضُّؤِ وَالصَّلَاةِ بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ إِنَاءٍ، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ.

الْقَوْلُ الْخَامِسُ: يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِأَيِّهَا شَاءَ بِلَا اجْتِهَادٍ وَلَا ظَنٍّ.

وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمَاءِ فِي كُلِّ الْأَوَانِي.

سَقْيُ أَرْضِ الْفِلَاحَةِ بِمَاءٍ نَجِسٍ

26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الزَّرْعَ الَّذِي يُسْقَى بِمَاءٍ نَجِسٍ طَاهِرٌ، فَإِنْ أَصَابَ الْمَاءُ النَّجِسُ ظَاهِرَ الزَّرْعِ تَنَجَّسَ وَوَجَبَ تَطْهِيرُهُ بِالْغَسْلِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا تَحْرُمُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كُنَّا نُكْرِي أَرْضَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَدْمُلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ»،، وَلِأَنَّهَا تَتَغَذَّى بِالنَّجَاسَاتِ وَتَتَرَقَّى فِيهَا أَجْزَاؤُهَا، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ، فَعَلَى هَذَا تَطْهُرُ إِذَا سُقِيَتِ الطَّاهِرَاتِ، كَالْجَلاَّلَةِ إِذَا حُبِسَتْ وَأُطْعِمَتِ الطَّاهِرَاتِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


57-موسوعة الفقه الكويتية (ميتة)

مَيْتَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- تُطْلَقُ الْمَيْتَةُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ.أَمَّا الْمِيتَةُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- فَهِيَ لِلْحَالِ وَالْهَيْئَةِ.يُقَالُ: مَاتَ مِيتَةً حَسَنَةً، وَمَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الْجَصَّاصُ: الْمَيْتَةُ فِي الشَّرْعِ اسْمُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ غَيْرِ الْمُذَكَّى، وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً بِأَنْ يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لآِدَمِيِّ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً بِسَبَبِ فِعْلِ الْآدَمِيِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ لَهُ.

كَمَا تُطْلَقُ الْمَيْتَةُ شَرْعًا عَلَى الْعُضْوِ الْمُبَانِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ، كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْأَلْيَةِ وَغَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ أَصْلُهُ مَأْكُولًا أَمْ غَيْرَ مَأْكُولٍ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، فَهِيَ مَيْتَةٌ».

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّذْكِيَةُ:

2- التَّذْكِيَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ ذَكَّى، وَالِاسْمُ الذَّكَاةُ، وَمَعْنَاهَا تَمَامُ الشَّيْءِ وَالذَّبْحُ، يُقَالُ: ذَكَّيْتُ الذَّبِيحَةَ إِذَا أَتْمَمْتُ ذَبْحَهَا، وَالْمُذَكَّاةُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ ذَكَّى.

وَالتَّذْكِيَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ هِيَ السَّبَبُ الْمُوصِلُ إِلَى حِلِّ أَكْلِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ اخْتِيَارًا وَقَدْ عَرَّفَهَا الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِقَوْلِهِ: هِيَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْهَارِ الدَّمِ وَفَرْيِ الْأَوْدَاجِ فِي الْمَذْبُوحِ، وَالنَّحْرِ فِي الْمَنْحُورِ، وَالْعَقْرِ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، مَقْرُونًا ذَلِكَ بِنِيَّةِ الْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى التَّضَادُّ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمُذَكَّاةَ يَحِلُّ أَكْلُهَا، أَمَّا الْمَيْتَةُ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهَا.

ب- الْمُنْخَنِقَةُ:

3- الْمُنْخَنِقَةُ هِيَ الَّتِي تَمُوتُ خَنْقًا- بِحَبْلٍ أَوْ بِغَيْرِ حَبْلٍ- إِمَّا قَصْدًا، وَإِمَّا اتِّفَاقًا بِأَنْ تَتَخَبَّطَ الدَّابَّةُ فِي وِثَاقِهَا، فَتَمُوتَ بِهِ.

قَالَ الرَّازِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَخْنُقُونَ الشَّاةَ، فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، وَمِنْهَا: مَا يُخْنَقُ بِحَبْلِ الصَّائِدِ.وَمِنْهَا: مَا يَدْخُلُ رَأْسُهَا بَيْنَ عُودَيْنِ فِي شَجَرَةٍ، فَتَخْتَنِقُ، فَتَمُوتُ.وَالْمُنْخَنِقَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا مَاتَتْ وَمَا سَالَ دَمُهَا، كَانَتْ كَالْمَيِّتِ حَتْفَ أَنْفِهِ، إِلاَّ أَنَّهَا فَارَقَتِ الْمَيْتَةَ بِكَوْنِهَا تَمُوتُ بِسَبَبِ انْعِصَارِ الْحَلْقِ بِالْخَنْقِ.

فَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ.

ج- الْمَوْقُوذَةُ:

4- الْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي ضُرِبَتْ إِلَى أَنْ مَاتَتْ، يُقَالُ: وَقَذَهَا وَأَوْقَذَهَا، إِذَا ضَرَبَهَا إِلَى أَنْ مَاتَتْ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَوْقُوذَةِ مَا رُمِيَ بِالْبُنْدُقِ فَمَاتَ.قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَ الْأَنْعَامَ بِالْخَشَبِ لآِلِهَتِهِمْ حَتَّى يَقْتُلُوهَا، فَيَأْكُلُوهَا.

وَالْمَوْقُوذَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَيْتَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَاتَتْ دُونَ تَذْكِيَةٍ.

وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمَوْقُوذَةِ.

د- الْمُتَرَدِّيَةُ:

5- الْمُتَرَدِّي: هُوَ الْوَاقِعُ فِي الرَّدَى، وَهُوَ الْهَلَاكُ.وَالْمُتَرَدِّيَةُ: هِيَ الَّتِي تَقَعُ مِنْ جَبَلٍ، أَوْ تَطِيحُ فِي بِئْرٍ، أَوْ تَسْقُطُ مِنْ شَاهِقٍ، فَتَمُوتُ.وَالْمُتَرَدِّيَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّهَا مَاتَتْ دُونَ تَذْكِيَةٍ.

وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُتَرَدِّيَةِ.

هـ- النَّطِيحَةُ:

6- النَّطِيحَةُ هِيَ الْمَنْطُوحَةُ إِلَى أَنْ مَاتَتْ، وَذَلِكَ مِثْلُ كَبْشَيْنِ تَنَاطَحَا إِلَى أَنْ مَاتَا أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا.

وَالنَّطِيحَةُ مِنَ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّهَا مَاتَتْ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ.

وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ النَّطِيحَةِ.

و- الْمَيِّتُ:

7- الْمَيِّتُ فِي اللُّغَةِ- بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ- يُقَالُ: مَيِّتٌ وَمَيْتٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَّكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، قَالَ تَعَالَى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَقَالَ: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} وَالْمَيِّتُ هُوَ الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ، وَجَمْعُهُ أَمْوَاتٌ وَمَوْتَى.

وَاصْطِلَاحًا: هُوَ الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ، وَالْمَوْتَى جَمْعُ مَنْ يَعْقِلُ، وَالْمَيِّتُونَ مُخْتَصٌّ بِذُكُورِ الْعُقَلَاءِ، وَالْمَيِّتَاتُ بِالتَّشْدِيدِ مُخْتَصَّةٌ لِإِنَاثِهِمْ، وَبِالتَّخْفِيفِ لِلْحَيَوَانَاتِ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتَةِ هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ فَارَقَ الْحَيَاةَ.

ز- الذَّبِيحَةُ عَلَى النُّصُبِ

8- النُّصُبُ هِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ مَنْصُوبَةً حَوْلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا وَيَشْرَحُونَ اللَّحْمَ عَلَيْهَا، وَيُعَظِّمُونَهَا بِذَلِكَ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا، قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: وَلَيْسَتْ هِيَ بِالْأَصْنَامِ، لِأَنَّ الْأَصْنَامَ مُصَوَّرَةٌ، وَالنُّصُبُ غَيْرُ مُصَوَّرَةٍ، وَتُسَمَّى الْأَنْصَابَ، وَالْمُفْرَدُ نِصَابٌ، وَقِيلَ: إِنَّ النُّصُبَ مُفْرَدٌ، وَجَمْعُهُ أَنْصَابٌ.

وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ دَاخِلٌ فِي الْمَيْتَةِ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.

ج- أَكِيلَةُ السَّبُعِ:

9- أَكِيلَةُ السَّبُعِ هِيَ مَا بَقِيَ مِمَّا أَكَلَهُ السَّبُعُ أَوِ افْتَرَسَهُ مِنَ الْمَاشِيَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا جَرَحَ السَّبُعُ شَيْئًا فَقَتَلَهُ، وَأَكَلَ بَعْضَهُ، أَكَلُوا مَا بَقِيَ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ دَاخِلَةٌ فِي الْمَيْتَةِ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنْهَا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَيْتَةِ:

تَتَعَلَّقُ بِالْمَيْتَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

حُرْمَةُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ:

10- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ فِي حَالَةِ السَّعَةِ وَالِاخْتِيَارِ لقوله تعالى: {إِنَّمَ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَقَدْ عَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ عَنْ حِكْمَةِ تَحْرِيمِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ الَّتِي نَفَقَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ الدَّمَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ جِدًّا، فَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ حَتْفَ أَنْفِهِ احْتَبَسَ الدَّمُ فِي عُرُوقِهِ وَتَعَفَّنَ وَفَسَدَ، وَحَصَلَ مِنْ أَكْلِهِ مَضَارُّ عَظِيمَةٌ.

وَأَمَّا حِكْمَةُ تَحْرِيمِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ الَّتِي قُتِلَتْ عَلَى هَيْئَةٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ (أَيْ بِدُونِ تَذْكِيَةٍ) فَقَدْ أَوْضَحَهَا الإُْمَامُ ابْنُ الْقُيِّمِ بِقَوْلِهِ: فَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، وَالْخَبَثُ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ قَدْ يَظْهَرُ لَنَا وَقَدْ يَخْفَى، فَمَا كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَنْصِبْ عَلَيْهِ الشَّارِعُ عَلَامَةً غَيْرَ وَصْفِهِ، وَمَا كَانَ خَفِيًّا نَصَبَ عَلَيْهِ عَلَامَةً تَدُلُّ عَلَى خَبَثِهِ.

فَاحْتِقَانُ الدَّمِ فِي الْمَيْتَةِ سَبَبٌ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَتَارِكِ التَّسْمِيَةِ وَمَنْ أَهَلَّ بِذَبِيحَتِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَنَفْسُ ذَبِيحَةِ هَؤُلَاءِ أَكْسَبَتِ الْمَذْبُوحَ خَبَثًا أَوْجَبَ تَحْرِيمَهُ، وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ اسْمِ الْأَوْثَانِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْجِنِّ عَلَى الذَّبِيحَةِ يُكْسِبُهَا خَبَثًا، وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ يُكْسِبُهَا طِيبًا إِلاَّ مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنْ حَقَائِقِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَذَوْقِ الشَّرِيعَةِ.

11- وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْإِلْجَاءِ وَالِاضْطِرَارِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَئِذٍ، فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ إِمَّا بِإِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ بِجُوعٍ فِي مَخْمَصَةٍ أَوْ بِفَقْرٍ لَا يَجِدُ مَعَهُ غَيْرَ الْمَيْتَةِ، حَلَّ لَهُ ذَلِكَ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ حَيْثُ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَفِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ مُبَاحٌ لِأَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.

12- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ.

الثَّانِي: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مَوْتًا أَوْ مَرَضًا مَخُوفًا أَوْ زِيَادَتَهُ أَوْ طُولَ مُدَّتِهِ، أَوِ انْقِطَاعَهُ عَنْ رُفْقَتِهِ، أَوْ خَوْفَ ضَعْفٍ عَنْ مَشْيٍ أَوْ رُكُوبٍ، فَيُسَمَّى هَذَا الْخَائِفُ مُضْطَرًّا.وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

الثَّالِثُ: خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِتَرْكِهِ الْأَكْلَ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَجِدُ فِيهِ غَيْرَ الْمَيْتَةِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا، وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهَا بِوَعِيدٍ يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ بَعْضَ أَعْضَائِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

هَذَا فِي مَيْتَةِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، وَأَمَّا مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (ضَرُورَةٌ ف 10).

13- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: الْوُجُوبُ، فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَجَبَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ وَصَبَرَ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} حَيْثُ أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ مَعَ إِمْكَانِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إِلْقَاءٌ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حَلَالٌ.

الثَّانِي.الْإِبَاحَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَسَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي إِسَحَاقَ الشِّيرَازِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَعَلَى ذَلِكَ: فَلَوِ امْتَنَعَ الْمُضْطَرُّ عَنْ أَكْلِهَا حَتَّى مَاتَ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْأَكْلِ رُخْصَةٌ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الرُّخَصِ.وَلِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَالْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ، وَرُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ، وَفَارَقَ الْحَلَالَ فِي الْأَصْلِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.

الثَّالِثُ: النَّدْبُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ (ضَرُورَةٌ ف 10، أَطْعِمَةٌ ف 90).

مِقْدَارُ مَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُلُهُ مِنَ الْمَيْتَةِ

14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ مَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُلُهُ مِنَ الْمَيْتَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ حَبِيْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ قَدْرَ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ أَيْ: مَا يَحْفَظُ بِهِ حَيَاتَهُ، قَالَ الصَّاوِيُّ: الْمُرَادُ بِالرَّمَقِ: الْحَيَاةُ، وَسَدُّهَا: حِفْظُهَا.

لِأَنَّ مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ، وَاسْتَثْنَى مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ، فَإِذَا انْدَفَعَتِ الضَّرُورَةُ، عَادَتِ الْحُرْمَةُ كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ، فَزَالَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ، لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ أَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا.

الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ حَتَّى يَشْبَعَ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ، فَتَعُودُ مُبَاحَةً كَسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ، فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ نَاقَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: اسْلُخْهَا حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ، فَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَكُلُوهَا».

الثَّالِثُ: لِعُبَيْدِ الَّلهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ: وَهُوَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا مَا يَسُدُّ جُوعَهُ، وَذَلِكَ فَوْقَ قَدْرِ إِمْسَاكِ الرَّمَقِ.

تَزَوُّدُ الْمُضْطَرِّ بِالْمَيْتَةِ:

15- إِذَا خَشِيَ الْمُضْطَرُّ اسْتِمْرَارَ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّدُ مِنَ الْمَيْتَةِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْأَصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنِ اسْتَغْنَى عَنْهَا طَرَحَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي اسْتِصْحَابِهَا وَلَا فِي إِعْدَادِهَا لِدَفْعِ ضَرُورَتِهِ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا إِلاَّ عِنْدَ ضَرُورَتِهِ.

وَالثَّانِي: لِأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَوَسَّعَ فِيمَا لَمْ يُبَحْ إِلاَّ لِلضَّرُورَةٍ.

حُكْمُ التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَنَاوُلِهَا لِلْعِلَاجِ، بِأَنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُ أَنَّ فِيهَا شِفَاءً، وَلَمْ يَجِدْ دَوَاءً غَيْرَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُنْفَرِدَةً أَمْ مَخْلُوطَةً بِغَيْرِهَا فِي بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ الْمُرَكَّبَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِبَاحَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَبَاحَ لِلْعُرَنِيِّينَ شُرْبَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا لِلتَّدَاوِي قَالَ العز بن عبد السلام: لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْعَافِيَةِ وَالسَّلَامَةِ أَكْمَلُ مِنْ مَصْلَحَةِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ.

وَالثَّانِي: عَدَمُ الْجَوَازِ.وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا».

قَالَ ابن القيم: وَالْمُعَالَجَةُ بِالْمُحَرَّمَاتِ قَبِيحَةٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، أَمَّا الشَّرْعُ فَلِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَأَمَّا الْعَقْلُ، فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا حَرَّمَهُ لِخُبْثِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ طَيِّبًا عُقُوبَةً لَهَا، كَمَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا حَرَّمَ لِخَبَثِهِ، وَتَحْرِيمُهُ لَهُ حَمِيَّةً لَهُمْ، وَصِيَانَةً عَنْ تَنَاوُلِهِ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ الشِّفَاءُ مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْعِلَلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَثَّرَ فِي إِزَالَتِهَا، لَكِنَّهُ يُعْقِبُ سُمًّا أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْقَلْبِ بِقُوَّةِ الْخُبْثِ الَّذِي فِيهِ، فَيَكُونُ الْمُدَاوَى بِهِ قَدْ سَعَى فِي إِزَالَةِ سَقَمِ الْبَدَنِ بِسَقَمِ الْقَلْبِ.

نَجَاسَةُ الْمَيْتَةِ

17- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْمَيْتَةَ نَجِسَةُ الْعَيْنِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَهَا بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَوَصَفَهَا بِالرِّجْسِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَذَرُ وَالنَّجَسُ، وَحَكَى الرَّازِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ هَذَا فِي مَيْتَةِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، أَمَّا مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نَجَاسَةٌ).

نَجَاسَةُ إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ

18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ، حَيْثُ إِنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي صِنَاعَةِ الْجُبْنِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَالْجُبْنُ الْمَعْقُودُ بِهَا مُتَنَجِّسٌ، لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَمِنْهَا الْإِنْفَحَةُ.

وَالثَّانِي: لِأَبِيْ يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ وِعَائِهَا، وَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَلُ.

وَالثَّالِثُ: لِأَبِيْ حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ رَجَّحَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- لَمَّا دَخَلُوا الْمَدَائِنَ أَكَلُوا الْجُبْنَ، وَهُوَ يُعْمَلُ بِالْإِنْفَحَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ صِغَارِ الْمَعْزِ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ.

نَجَاسَةُ لَبَنِ الْمَيْتَةِ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ اللَّبَنِ الْخَارِجِ مِنْ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِأَبِيْ حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ شَرْعًا وَدَلِيلُهُمْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَالِصًا، فَلَا يَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ مَجْرَاهُ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ سَائِغًا، وَهَذَا يَقْتَضِي الْحِلَّ، وَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِهِ، وَالْمِنَّةُ بِالْحَلَالِ لَا بِالْحَرَامِ.

وَالثَّانِي: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهُ نَجِسٌ، لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} حَيْثُ إِنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَمِنْهَا اللَّبَنُ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ، فَتَنَجَّسَ بِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ حُلِبَ فِي إِنَاءٍ نَجِسٍ.

نَجَاسَةُ الْبَيْضِ الْخَارِجِ مِنَ الْمَيْتَةِ:

20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْبَيْضِ الْمُنْفَصِلِ عَنْ مَيْتَةِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ أَنَّ الْبَيْضَةَ الَّتِي أُخْرِجَتْ مِنْ جَوْفِ مَيْتَةِ الدَّجَاجِ إِذَا صَلُبَتْ قِشْرَتُهَا فَهِيَ طَاهِرَةٌ، وَيَحِلُّ أَكْلُهَا، لِأَنَّ الْقِشْرَةَ إِذَا صَلُبَتْ حَجَزَتْ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ، فَتَحِلُّ.

أَمَّا قَبْلَ تَصَلُّبِ قِشْرَتِهَا فَهِيَ نَجِسَةٌ لَا تُؤْكَلُ.

وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ جُزْءًا مِنَ الْمَيْتَةِ وَإِنَّمَا هِيَ مُودَعَةٌ فِيهَا غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِهَا فَأَشْبَهَتِ الْوَلَدَ إِذَا خَرَجَ حَيًّا مِنَ الْمَيْتَةِ، وَلِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُخْلَقُ مِنْهَا مِثْلُ أَصْلِهَا، فَأَشْبَهَتِ الْوَلَدَ الْحَيَّ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْبَيْضَةِ نَجِسٌ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ يَجُوزُ أَكْلُهَا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ اشْتَدَّ قِشْرُهَا أَوْ لَمْ يَشْتَدَّ.

وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ مُطْلَقًا، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهَا، لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (أَطْعِمَةٌ ف 81).

مَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنَ الْمَيْتَةِ

21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ ثَمَّةَ اخْتِلَافٌ فِي ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- جِلْدُ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ

22- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ دَبْغِهِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ

الْأَوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ جُلُودَ الْمَيْتَةِ تَطْهُرُ كُلُّهَا بِالدِّبَاغِ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ الْكَلْبِ.

الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَشْهُورِ وَهُوَ عَدَمُ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَكِنْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ وَاسْتِعْمَالُهُ مَعَ نَجَاسَتِهِ فِي الْيَابِسَاتِ وَفِي الْمَاءِ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ.

الثَّالِثُ: لِأَبِيْ يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَلِسَحْنُونٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ الْجُلُودِ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ حَتَّى الْخِنْزِيرُ.

الرَّابِعُ: لِأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ جِلْدُ مَيْتَةِ مَا كَانَ طَاهِرًا حَالَ الْحَيَاةِ.

الْخَامِسُ: لِلْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِيْ َثْورٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ طَهَارَةُ جُلُودِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطْ.

(ر: دِبَاغَةٌ ف9 وَمَا بَعْدَهَا).

ب- صُوفُ الْمَيْتَةِ وَشَعْرُهَا:

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الِانْتِفَاعِ بِصُوفِ وَشَعْرِ وَوَبَرِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ صُوفَ الْمَيْتَةِ وَشَعْرَهَا وَوَبَرَهَا طَاهِرٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ اْلمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} فَعَمَّ اللَّهُ الْجَمِيعَ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُذَكَّى مِنْهَا وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ، وَلِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ، وَالْمِنَّةُ لَا تَقَعُ بِالنَّجِسِ الَّذِي لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَيْتَةِ: «إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا».

قَالَ الْجَصَّاُصُ: فَأَبَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْعَظْمُ وَنَحْوُهَا مِنَ الْمَأْكُولِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا التَّحْرِيمُ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ هَذِهِ الشُّعُورَ وَالْأَصْوَافَ وَالْأَوْبَارَ أَجْسَامٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا، لِعَدَمِ تَعَرُّضِهَا لِلتَّعَفُّنِ وَالْفَسَادِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِطَهَارَتِهَا كَالْجُلُودِ الْمَدْبُوغَةِ، وَلِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لِأَعْيَانِهَا، بَلْ لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَحُجَّتُنَا أَنَّهَا طَاهِرَةٌ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَتَكُونُ طَاهِرَةً بَعْدَهُ، عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَلْحَقُهَا، إِذِ الْمَوْتُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى يَحِلُّ بَعْدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ تَكُنِ الْحَيَاةُ فِي الصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ، فَيَخْلُفَهَا الْمَوْتُ فِيهَا.

الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ صُوفَ الْمَيْتَةِ وَشَعْرَهَا وَوَبَرَهَا نَجِسٌ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ سَائِرِ أَجْزَائِهَا.

ج- عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا:

24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الِانْتِفَاعِ بِعَظْمِ الْمَيْتَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ وَقَرْنِهَا وَظِلْفِهَا وَظُفُرِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} حَيْثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً، فَصَارَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ مَيْتَةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَيْتَةٌ، وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِعُمُومِ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَجْسَامٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا، غَيْرُ مُتَعَرِّضَةٍ لِلتَّعَفُّنِ وَالْفَسَادِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِطَهَارَتِهَا، كَالْجُلُودِ الْمَدْبُوغَةِ، وَلِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لِأَعْيَانِهَا، بَلْ لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.

د- إِطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْحَيَوَانِ:

25- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ بِإِطْعَامِهَا لِلدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ أَوِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالطَّيْرِ وَالْبَازِي الْمُعَلَّمِ وَنَحْوِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ ذَلِك، لِأَنَّهُ إِذَا أَطْعَمَ الْمَيْتَةَ لِلْحَيَوَانِ فَقَدِ انْتَفَعَ بِتِلْكَ الْمَيْتَةِ، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} دَالٌّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهَا.

قَالَ الْجَصَّاصُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ عَلَى وَجْهٍ، وَلَا يُطْعِمُهَا الْكِلَابَ وَالْجَوَارِحَ، لِأَنَّ ذَلِك ضَرْبٌ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُعَلَّقًا بِعَيْنِهَا، مُؤَكَّدًا بِهِ حُكْمُ الْحَظْرِ، فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ أَنْ يُخَصَّ شَيْءٌ مِنْهَا بِدَلِيلٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَرَى أَنْ يُطْعِمَ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ الْمَيْتَةَ، وَلَا الطَّيْرَ الْمُعَلَّمَ، لِأَنَّهُ يُضْرِيهِ عَلَى الْمَيْتَةِ، فَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا أَرَى صَاحِبَهُ حَرَجًا، وَلَعَلَّ أَحْمَدَ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ إِذَا صَادَ وَقَتَلَ أَكَلَ مِنْهُ، لِتَضْرِيَتِهِ بِإِطْعَامِهِ الْمَيْتَةَ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ جَوَازُ إِطْعَامِ كَلْبِهِ وَطَيْرِهِ الْبَازِي الْمُعَلَّمِ الْمَيْتَةَ، وَكَذَا عَلْفُ دَوَابِّهِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا الْمَيْتَةَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَتْ بِمَأْكُولَةِ اللَّحْمِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلْمَيْتَةِ فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ، وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ.

قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَكَذَا يُبَاحُ أَنْ يَعْلِفَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالْأَنْعَامِ الْأَطْعِمَةَ النَّجِسَةَ إِذَا كَانَ لَا يُرَادُ ذَبْحُهَا أَوْ حَلْبُهَا قَرِيبًا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهَا فِي الْمَرْعَى عَلَى اخْتِيَارِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا تَرْعَى النَّجَاسَةَ، وَيَحْرُمُ عَلْفُهَا النَّجَاسَةَ إِذَا كَانَتْ تُؤْكَلُ قَرِيبًا أَوْ تُحْلَبُ قَرِيبًا، وَإِنْ تَأَخَّرَ الذَّبْحُ أَوِ الْحَلْبُ.

وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ جَوَازُ عَلْفِ الدَّوَابِّ وَالْحَيَوَانَاتِ مُطْلَقًا الطَّعَامَ النَّجِسَ، مَا أُكِلَ لَحْمُهُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُؤْكَلْ، قَالَ ابْنُ الْجَلاَّبِ: وَلَا بَأْسَ بِعَلْفِ الدَّوَابِّ الطَّعَامَ النَّجِسَ مَا أُكِلَ لَحْمُهُ وَمَا لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ.

هـ- طِلَاءُ الْجُلُودِ وَالسُّفُنِ وَالِاسْتِصْبَاحُ بِدُهْنِ الْمَيْتَةِ

26- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِدُهْنِ الْمَيْتَةِ بِاسْتِصْبَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ تُطْلَى بِهِ ظُهُورُ السُّفُنِ وَالْجُلُودِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْأَصْنَامَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شُحُومُ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ.ثُمَّ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا، جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ».حَيْثُ بَيَّنَ النَّبِيُّ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَدَخَلَ تَحْتَ تَحْرِيمِهِ سَائِرُ ضُرُوبِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَمِنْهَا الْبَيْعُ.

وَالثَّانِي: لِعَطَاءٍ وَهُوَ جَوَازُ دَهْنِ ظُهُورِ السُّفُنِ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ.

وَالثَّالِثُ: لِابْنِ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالنَّجَاسَاتِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ شَحْمُ الْمَيْتَةِ وَغَيْرُهُ.

وَحَكَى أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ.

الْمَيْتَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنَ التَّحْرِيمِ

27- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى طَهَارَةِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ وَجَوَازِ أَكْلِهَا لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مَا صِيدَ مِنْهُ، وَطَعَامَهُ مَا مَاتَ فِيهِ.

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَاءِ الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى طَهَارَةِ مَيْتَةِ الْجَرَادِ، وَجَوَازِ أَكْلِهَا لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ».

وَقَدْ عَلَّلَ ابْنُ الْقَيِّمِ ذَلِكَ الْحُكْمَ الِاسْتِثْنَائِيَّ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْمَيْتَةَ إِنَّمَا حُرِّمَتْ لِاحْتِقَانِ الرُّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ وَالدَّمِ الْخَبِيثِ فِيهَا، وَالذَّكَاةُ لَمَّا كَانَتْ تُزِيلُ ذَلِكَ الدَّمَ وَالْفَضَلَاتِ كَانَتْ سَبَبَ الْحِلِّ، وَإِلاَّ فَالْمَوْتُ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، فَإِنَّهُ حَاصِلٌ بِالذَّكَاةِ كَمَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَيَوَانِ دَمٌ وَفَضَلَاتٌ تُزِيلُهَا الذَّكَاةُ لَمْ يَحْرُمْ بِالْمَوْتِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ لِحِلِّهِ ذَكَاةٌ كَالْجَرَادِ، وَلِهَذَا لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً كَالذُّبَابِ وَالنَّحْلَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالسَّمَكُ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ دَمٌ وَفَضَلَاتٌ تَحْتَقِنُ بِمَوْتِهِ لَمْ يَحِلَّ لِمَوْتِهِ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ.

(ر: أَطْعِمَةٌ ف 15، 53).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


58-موسوعة الفقه الكويتية (ميزاب)

مِيزَابٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمِيزَابُ فِي اللُّغَةِ: قَنَاةٌ أَوْ أُنْبُوبَةٌ يُصْرَفُ بِهَا الْمَاءُ مِنْ سَطْحِ بِنَاءٍ أَوْ مَوْضِعٍ عَالٍ.

وَالْمِرْزَابُ وَالْمِزْرَابُ بِمَعْنَى الْمِيزَابِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِيزَابِ:

يَتَعَلَّقُ بِالْمِيزَابِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

إِخْرَاجُهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ:

2- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمِيزَابِ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ لِأَنَّ «عُمَرَ- رضي الله عنه- خَرَجَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَقَطَرَ مِيزَابٌ عَلَيْهِ لِلْعَبَّاسِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُلِعَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَلَعْتَ مِيزَابِي، وَاللَّهِ مَا وَضَعَهُ حَيْثُ كَانَ إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ.فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: وَاللَّهِ لَا يَضَعُهُ إِلاَّ أَنْتَ بِيَدِكَ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَكَ سُلَّمٌ إِلاَّ عُمَرُ.قَالَ: فَوَضَعَ الْعَبَّاسُ رِجْلَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْ عُمَرَ ثُمَّ أَعَادَهُ حَيْثُ كَانَ».وَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلِغَيْرِهِ فِعْلُهُ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُهُ رَدُّ مَائِهِ إِلَى الدَّارِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمَيَازِيبِ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا إِلَى دَرْبٍ نَافِذٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَنَائِبِهِ وَأَهْلِهِ، لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ ضَرَّ بِالْمَارَّةِ أَوْ لَا، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَضُرَّ حَالًا فَقَدْ يَضُرُّ مَآلًا، كَمَا لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ نَافِذٍ وَلِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالطَّرِيقِ وَأَهْلِهَا، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ دِكَّةٍ فِيهَا أَوْ جُنَاحٍ يَضُرُّ بِأَهْلِهَا، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ فَإِنَّ مَاءَهُ يَقَعُ عَلَى الْمَارَّةِ وَرُبَّمَا جَرَى فِيهِ الْبَوْلُ أَوْ مَاءٌ نَجَسٌ فَيُنَجِّسُهُمْ، وَيَزْلِقُ الطَّرِيقَ وَيَجْعَلُ فِيهَا الطِّينَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (طَرِيقٌ ف 14).

الْخُصُومَةُ فِي الْمِيزَابِ:

الْخُصُومَةُ فِي إِخْرَاجِ الْمَيَازِيبِ إِلَى الطَّرِيقِ

3- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ مِيزَابًا فَلِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْوَضَعِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إِذَا أَرَادَ الْوَضْعَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّ فِيهِ الِافْتِيَاتَ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِيمَا إِلَيْهِ تَدْبِيرُهُ فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ الْمَنْعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ، لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي إِحْدَاثِهِ شَرْعًا فَهُوَ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ.

الْخُصُومَةُ فِي رَفْعِ الْمِيزَابِ:

4- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ أَخْرَجَ إِلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ مِيزَابًا فَلِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْخُصُومَةِ- كَالْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الْحُرِّ أَوِ الذِّمِّيِّ- مُطَالَبَتُهُ بِالنَّقْضِ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمُ الْمُرُورَ بِنَفْسِهِ وَبِدَوَابِّهِ فَيَكُونُ لَهُ الْخُصُومَةُ بِنَقْضِهِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسَ لِأَحَدِ ذَلِكَ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ كَالْمَأْذُونِ مِنَ الْإِمَامِ فَلَا يَرْفَعُهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ كَانَ قَبْلَ الْوَضْعِ لِكُلِّ أَحَدٍ يَدٌ فِيهِ فَالَّذِي يُحْدِثُ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي يَدِ نَفْسِهِ خَاصَّةً، أَمَا بَعْدَ الْوَضْعِ فَقَدْ صَارَ فِي يَدِهِ فَالَّذِي يُخَاصِمُهُ يُرِيدُ إِبْطَالَ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ مُتَعَنِّتٌ.

وَقَالَ الْأَتَاسِيُّ: دُورٌ فِي طَرِيقٍ لَهَا مَيَازِيبُ مِنَ الْقَدِيمِ مُنَصَّبَةٌ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ تَمْتَدُّ إِلَى عَرْصَةٍ وَاقِعَةٍ فِي أَسْفَلِهِ جَارِيَةٍ مِنَ الْقَدِيمِ، لَيْسَ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ سَدُّ ذَلِكَ الْمَسِيلِ الْقَدِيمِ، فَإِنْ سَدَّهُ يُرْفَعُ السَّدُّ مِنْ طَرَفِ الْحَاكِمِ وَيُعَادُ إِلَى وَضْعِهِ الْقَدِيمِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِالسَّدِّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ عَرْصَتِهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِالطَّرِيقِ الَّذِي تَنْصَبُّ إِلَيْهِ الْمَيَازِيبُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ذَلِكَ الطَّرِيقَ إِنْ كَانَ خَاصًّا فَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بِمِثْلِهِ وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بِالضَّرَرِ الْعَامِّ، وَيُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى رَفْعِ الْمَيَازِيبِ عَنِ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ لِأَنَّهَا قَدِيمَةٌ وَلَا عَنِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الضَّرَرُ حَيْثُ كَانَ مَسِيلُ مَاءٍ إِلَى الْعَرْصَةِ الْمَذْكُورَةِ قَدِيمًا، فَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّرِيقِ مَا يَعُمُّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ نَصَبَ مِيزَابًا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ فَلِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُطَالَبَتُهُ بِإِزَالَتِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، لَكِنْ لَا يُزِيلُهُ إِلاَّ الْحَاكِمُ لَا غَيْرُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَوَقُّعِ الْفِتْنَةِ.

الِاخْتِلَافُ فِي حَقِّ إِجْرَاءِ مَاءِ الْمِيزَابِ:

5- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْمِيزَابُ مَنْصُوبًا إِلَى دَارِ رَجُلٍ وَاخْتَلَفَا فِي حَقِّ إِجْرَاءِ الْمَاءِ وَإِسَالَتِهِ فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ عَدَمِ جَرَيَانِ الْمَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ إِجْرَاءَ الْمَاءِ وَإِسَالَتَهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَيْضًا أَنْ يَقْطَعَ الْمِيزَابَ.

وَحَكَى الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: أَنَّهُمُ اسْتَحْسَنُوا أَنَّ الْمِيزَابَ إِذَا كَانَ قَدِيمًا وَكَانَ تَصْوِيبُ السَّطْحِ إِلَى دَارِهِ وَعُلِمَ أَنَّ التَّصْوِيبَ قَدِيمٌ وَلَيْسَ بِمُحْدَثٍ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ حَقَّ التَّسْيِيلِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي حَالِ جَرَيَانِ الْمَاءِ قِيلَ: الْقَوْلُ لِصَاحِبِ الْمِيزَابِ وَيَسْتَحِقُّ إِجْرَاءَ الْمَاءِ، وَقِيلَ: لَا يَسْتَحِقُّ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقَّ الْمَسِيلِ وَبَيَّنُوا أَنَّهُ لِمَاءِ الْمَطَرِ مِنْ هَذَا الْمِيزَابِ فَهُوَ لِمَاءِ الْمَطَرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسِيلَ مَاءَ الِاغْتِسَالِ وَالْوُضُوءِ فِيهِ، وَإِنْ بَيَّنُوا أَنَّهُ لِمَاءِ الِاغْتِسَالِ وَالْوُضُوءِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسِيلَ مَاءَ الْمَطَرِ فِيهِ وَإِنْ قَالُوا لَهُ فِيهَا حَقُّ مَسِيلِ مَاءٍ وَلَمْ يُبَيِّنُوا لِمَاءِ الْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ صَحَّ، وَالْقَوْلُ لِرَبِّ الدَّارِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لِمَاءِ الْمَطَرِ أَوْ لِمَاءِ الْوُضُوءِ وَالْغُسَالَةِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي الْمَسِيلِ، وَفِي الطَّرِيقِ تُقْبَلُ.

الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِمَاءِ الْمِيزَابِ

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ تَحْتَ مِيزَابٍ أَوْ تَحْتَ مَطَرٍ نَاوِيًا الطَّهَارَةَ وَوَصَلَ الْمَاءُ إِلَى شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ وُضُوئِهِ أَوْ غُسْلِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْمُزَنِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْغُسْلِ إِفَاضَةُ الْمَاءِ عَلَى الْجَسَدِ دُونَ الدَّلْكِ.

قَالَ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: فِي مَاءِ الْمِيزَابِ الَّذِي يَظُنُّ نَجَاسَتَهُ وَلَا يَتَيَقَّنُ طَهَارَتَهُ وَلَا نَجَاسَتَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: وَالْمُخْتَارُ الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ انْغَسَلَتْ.

سُقُوطُ الْمِيزَابِ وَأَثَرُهُ فِي الضَّمَانِ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَشْرَعَ فِي الطَّرِيقِ مِيزَابًا فَسَقَطَ عَلَى إِنْسَانٍ فَعَطِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ لِتَلَفِهِ مُتَعَدٍّ بِشَغْلِهِ هَوَاءَ الطَّرِيقِ وَهَذَا مِنْ أَسِبَابِ الضَّمَانِ.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَخَرَجَ مِيزَابًا إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ يُنْظَرُ: إِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الَّذِي كَانَ فِي الْحَائِطِ لَا ضَمَانَ فِيهِ لِأَنَّهُ وَضَعَ ذَلِكَ الطَّرَفَ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الْخَارِجُ مِنَ الْحَائِطِ ضَمِنَ صَاحِبُ الْمِيزَابِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ حَيْثُ شَغَلَ بِهِ هَوَاءَ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَكِّبَهُ فِي الْحَائِطِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَا يُحْرَمُ فِي الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيَّهُمَا أَصَابَهُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الضَّمَانِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ النِّصْفَ، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا وَعَلِمَ ذَلِكَ وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَهَدْرُ النِّصْفِ، وَمَنْ صَبَّ الْمَاءَ فِي مِيزَابٍ لَهُ وَتَحْتَ الْمِيزَابِ مَتَاعٌ لِغَيْرِهِ يَفْسُدُ بِهِ كَانَ ضَامِنًا اسْتِحْسَانًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ سَقَطَ الْمِيزَابُ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ كَانَ مَضْمُونًا فِي الْجَدِيدِ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِالشَّارِعِ، فَجَوَازُهُ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ.

فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمِيزَابِ فِي الْجِدَارِ وَبَعْضُهُ خَارِجًا عَنْهُ فَسَقَطَ الْخَارِجُ مِنْهُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ فَأَتْلَفَ شَيْئًا فَكُلُّ الضَّمَانِ يَجِبُ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَإِنْ سَقَطَ كُلُّ الْمِيزَابِ دَاخِلُهُ وَخَارِجُهُ بِأَنْ قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ فَنِصْفُ الضَّمَانِ يَجِبُ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِالدَّاخِلِ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَبِالْخَارِجِ وَهُوَ مَضْمُونٌ فَوُزِّعَ عَلَى النَّوْعَيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْإِصَابَةُ بِالدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ اسْتَوَيَا بِالْقَدْرِ أَمْ لَا، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ يُوَزَّعُ عَلَى الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ فَيَجِبُ قِسْطُ الْخَارِجِ، وَيَكُونُ التَّوْزِيعُ بِالْوَزْنِ وَقِيلَ: بِالْمِسَاحَةِ.

وَلَوْ أَصَابَ الْمَاءُ النَّازِلُ مِنَ الْمِيزَابِ شَيْئًا فَأَتْلَفَهُ ضَمِنَ نِصْفَهَا إِنْ كَانَ بَعْضُهُ فِي الْجِدَارِ وَبَعْضُهُ خَارِجًا، وَلَوِ اتَّصَلَ مَاؤُهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ تَلِفَ بِهِ إِنْسَانٌ قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْقِيَاسُ التَّضْمِينُ أَيْضًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ سَقَطَ مِيزَابُهُ عَلَى رَأْسِ إِنْسَانٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لِضَرُورَةِ تَصْرِيفِ الْمِيَاهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ أَخْرَجَ مِيزَابًا فِي دَرْبٍ نَافِذٍ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى إِنْسَانٍ فَأَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبٍ مُتَعَدٍّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ بِلَا ضَرَرٍ أَوْ بِإِذْنِ أَهْلِ غَيْرِ النَّافِذِ فَلَا ضَمَانَ لِعَدَمِ الْعُدْوَانِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


59-موسوعة الفقه الكويتية (ميت)

مَيِّتٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَيْتُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاتٍ، وَالْمَيِّتُ، (بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ): مَنْ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ وَلَيْسَ بِهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاتٍ، وَمَوْتَى.

يُقَالُ: مَاتَ يَمُوتُ مَوْتًا فَهُوَ مَيِّتٌ بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْحَيُّ فَمَيِّتٌ بِالتَّثْقِيلِ لَا غَيْرُ، وَعَلَيْهِ قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أَيْ سَيَمُوتُونَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمَيِّتُ: الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحَيُّ:

2- الْحَيُّ لُغَةً: يُقَالُ: حَيِيَ يَحْيَى حَيَاةً مِنْ بَابِ تَعِبَ فَهُوَ حَيٌّ وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: أَحْيَاهُ اللَّهُ وَاسْتَحْيَيْتُهُ- بِيَاءَيْنِ- إِذَا تَرَكْتَهُ حَيًّا فَلَمْ تَقْتُلْهُ، فَالْحَيُّ ضِدُّ الْمَيِّتِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْحَيُّ الْمُتَّصِفُ بِالْحَيَاةِ وَهِيَ صِفَةٌ تُوجِبُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ ظَاهِرًا.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ التَّضَادُّ.ب- الْمُحْتَضَرُ:

3- الْمُحْتَضَرُ: هُوَ مَنْ فِي النَّزْعِ أَيْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ يُقَالُ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَاحْتَضَرَهُ: أَشْرَفَ فَهُوَ فِي النَّزْعِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُحْتَضَرِ وَالْمَيْتِ أَنَّ الِاحْتِضَارَ مُقَدِّمَةٌ لِلْمَوْتِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَيْتِ:

أ- تَقْبِيلُ وَجْهِ الْمَيِّتِ

4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ تَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ لِخَبَرِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ» وَلِمَا ثَبَتَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- قَبَّلَ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ مَوْتِهِ».

وَذَهَبَ السُّبْكِيُّ إِلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ، وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَيُكْرَهُ.

ب- تَغْمِيضُ عَيْنَيْ الْمَيِّتِ

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَغْمِيضِ عَيْنَيِ الْمَيِّتِ بَعْدَ ثُبُوتِ مَوْتِهِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ».

وَرَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحُ، وَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْمَيِّتِ».

وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ فَلَمْ يُغْمَضْ حَتَّى يَبْرُدَ بَقِيَ مَفْتُوحًا فَيَقْبُحُ مَنْظَرُهُ.

وَيَقُولُ مَنْ يُغْمِضُ الْمَيِّتَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ».

وَقَالَ أَحْمَدُ: تُغْمِضُ الْمَرْأَةُ عَيْنَهُ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ، وَقَالَ: يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ تَغْمِيضُهُ وَأَنْ تَقْرَبَاهُ.

ج- إِخْرَاجُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ مِنْ عِنْدِ الْمَيِّتِ

6- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي إِخْرَاجُ النُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ مِنْ عِنْدِ الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ فِي رَأْيٍ عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِمَنْ حَضَرَتْهُ عَلَامَاتُ الْمَوْتِ تَجَنُّبُ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَجُنُبٍ لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيْبٍ: يُسْتَحَبُّ أَلاَّ تَحْضُرَ الْحَائِضُ وَلَا الْكَافِرَةُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ وَقُرْبَهُ غَيْرُ طَاهِرٍ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ تَقْرُبَ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ الْمَيِّتَ لِحَدِيثِ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ».

(ر: احْتِضَارٌ ف 3).

د- تَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَلْقِينِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُلَقَّنُ.

انْظُرْ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَلْقِينٌ ف 5 احْتِضَارٌ ف 7).

هـ- غَسْلُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْمَيِّتَ

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ أَنْ يَغْسِلَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ الْمَيِّتَ بِلَا كَرَاهَةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْغَاسِلِ الطَّهَارَةُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ غَسْلِ الْجُنُبِ لِلْمَيْتِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ طُهْرَهُ وَلَا يُكْرَهُ تَغْسِيلُ الْحَائِضِ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ طُهْرَهَا.وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْحَائِضِ الْغُسْلَ لِأَنَّهَا لَوِ اغْتَسَلَتْ لِنَفْسِهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ فَكَذَا إِذَا غَسَّلَتْ.

و- شَدُّ لَحْيَيِ الْمَيِّتِ وَتَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ شَدِّ لَحْيَيِ الْمَيِّتِ بِعِصَابَةِ عَرِيضَةٍ تُرْبَطُ فَوْقَ رَأْسِهِ، لِئَلاَّ يَبْقَى فَمُهُ مَفْتُوحًا، فَتَدْخُلَهُ الْهُوَامُ وَيَتَشَوَّهُ خَلْقُهُ وَيَدْخُلَ الْمَاءُ عِنْدَ غَسْلِهِ.

وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَلْيِينِ مَفَاصِلِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ بِرِدِّ سَاعِدِهِ إِلَى عَضُدِهِ وَسَاقِهِ إِلَى فَخِذِهِ وَفَخِذِهِ إِلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ تُمَدُّ وَتَلِينُ أَصَابِعُهُ بِأَنْ تُرَدَّ إِلَى بَطْنِ كَفِّهِ ثُمَّ تُمَدُّ تَسْهِيلًا لِغَسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ، فَإِنَّ فِي الْبَدَنِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ بَقِيَّةُ حَرَارَةٍ فَإِذَا لُيِّنَتِ الْمَفَاصِلُ حِينَئِذٍ لَانَتْ وَإِلاَّ فَلَا يُمْكِنُ تَلْيِينُهَا.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ تَكُونُ وَلَوْ بِنَحْوِ دُهْنٍ إِنْ تَوَقَّفَ التَّلْيِينُ عَلَيْهِ لِيَسْهُلَ غُسْلُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَرْكِ تَلْيِينِ الْمَفَاصِلِ إِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تَنْكَسِرَ أَعْضَاؤُهُ وَصَيَّرَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْمُثْلَةِ.

ز- تَوْجِيهُ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ إِلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّهَا أَشَرَفُ الْجِهَاتِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقَةِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُوَجَّهَ الْمُحْتَضَرُ لِلْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ مِثْلَ تَوْجِيهِهِ فِي الْقَبْرِ وَجَازَ الِاسْتِلْقَاءُ عَلَى ظَهْرِهِ وَقَدَمَاهُ إِلَيْهَا وَلَكِنْ يُرْفَعُ رَأْسُهُ قَلِيلًا لِيَتَوَجَّهَ لِلْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ شُقَّ عَلَيْهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُهُ لِلْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى يَسَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى ظَهْرِهِ وَرِجْلَاهُ لِلْقِبْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى بَطْنِهِ وَرَأْسُهُ لَهَا، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ شُخُوصِ بَصَرِهِ لَا قَبْلَهُ لِئَلاَّ يُفْزِعَهُ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ كَمَا يُوضَعُ فِي اللَّحْدِ إِلَى الْقِبْلَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَ وَضْعُهُ عَلَى يَمِينِهِ لِضِيقِ مَكَانٍ أَوْ لِعِلَّةٍ فِي جَنْبِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ يُوضَعُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أُلْقِيَ عَلَى قَفَاهُ وَوَجْهُهُ وَأَخْمَصَاهُ لِلْقِبْلَةِ بِأَنْ يُرْفَعَ رَأْسُهُ قَلِيلًا، كَأَنْ يُوضَعَ تَحْتَ رَأْسِهِ مُرْتَفِعٌ لِيَتَوَجَّهَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ.

وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِلْقَاءَ أَفَضْلُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ وُضِعَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ.

وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْعَلُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَيُرْفَعَ رَأْسُهُ قَلِيلًا، لِيَصِيرَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ دُونَ السَّمَاءِ.

وَقَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ وَاسِعًا فَعَلَى جَنْبِهِ، وَإِلاَّ فَعَلَى ظَهْرِهِ.وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُوَجَّهُ قَبْلَ تَيَقُّنِ مَوْتِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْأَوْلَى التَّوْجِيهُ قَبْلَ ذَلِكَ.

ج- سَتْرُ بَدَنِ الْمَيِّتِ

11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الْمَيِّتِ حِينَ الْغُسْلِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُسْتَرُ وَيُغَطَّى.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الْمَيِّتِ حِينَ الْغُسْلِ، وَأَنَّ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ فِي السَّتْرِ هُوَ سَتْرُ عَوْرَتِهِ الْغَلِيظَةِ فَقَطْ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَقِيلَ مُطْلَقًا تُسْتَرُ عَوْرَتُهُ الْغَلِيظَةُ وَالْخَفِيفَةُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَسْتُرَ الْغَاسِلُ الْمَيِّتَ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ إِنْ كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْمَيِّتِ سَيِّدًا أَوْ زَوْجًا لَكِنْ إِنْ كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَهُ أَجْنَبِيًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ سَتْرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِثَوْبٍ خَفِيفٍ بَعْدَ نَزْعِ ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَيُجْعَلُ طَرَفُ الثَّوْبِ تَحْتَ رَأْسِهِ وَطَرَفُهُ الْآخَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ لِئَلاَّ يَنْكَشِفَ، وَاحْتُرِزَ بِالثَّوْبِ الْخَفِيفِ عَنِ الثَّقِيلِ لِأَنَّ الثَّقِيلَ يَحْمِيهِ فَيُغَيِّرُهُ وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: «سُجِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ مَاتَ بِثَوْبٍ حِبَرَةٍ».

أَمَّا الْمُحْرِمُ فَيُسْتَرُ مِنْهُ مَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ مِنْهُ.وَصَرَّحَ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُغَطَّى رَأْسُ الْمُحْرِمِ وَلَا وَجْهُ الْمُحْرِمَةِ وَيُغْسَلُ الْمَيِّتُ نَدْبًا فِي قَمِيصٍ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا شَرَعَ فِي غَسْلِهِ وَجَبَ سَتْرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «لَا تُبْرِزْ فَخِذَكَ، وَلَا تَنْظُرَنَّ إِلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» وَهَذَا فِي غَيْرِ مَنْ سِنُّهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ فَلَا بَأْسَ بِغَسْلِهِ مُجَرَّدًا.

وَقَالَ الْقَاضِي: السُّنَّةُ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ رَقِيقٍ يُنْزَلُ الْمَاءُ فِيهِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَدَنِهِ وَيُدْخِلَ يَدَهُ فِي كُمِّ الْقَمِيصِ فَيَمُرَّهَا عَلَى بَدَنِهِ وَالْمَاءُ يُصَبُّ فَإِنْ كَانَ الْقَمِيصُ ضَيِّقًا فَتَقَ رَأْسَ الدَّخَارِيصِ وَأَدْخَلَ يَدَهُ مِنْهُ.

ط- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَيِّتِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ

12- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْمَيِّتِ سُورَةَ (يس) وَكَذَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قِرَاءَةٌ ف 17، 18). ي- تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَغْسِيلَ الْمُسْلِمِ وَاجِبُ كِفَايَةٍ.

وَانْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَمَنْ يُغَسِّلُهُ، وَكَيْفِيَّةُ تَغْسِيلِهِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ).

ك- تَكْفِينُ الْمَيِّتِ

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَكْفِينَ الْمَيِّتِ بِمَا يَسْتُرُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.

وَانْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَكْفِينٌ).

ل- حَمْلُ الْمَيِّتِ

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَمْلَ الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا وَعَدَدِ حَامِلِيهَا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 11- 13).

م- دَفْنُ الْمَيِّتِ

16- دَفْنُ الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِجْمَاعًا إِنْ أَمْكَنَ.انْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَأَفْضَلَ مَكَانٍ لِدَفْنِهِ، وَالْأَحَقَّ بِدَفْنِهِ، وَكَيْفِيَّتَهُ وَوَقْتَهُ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ).

ن- نَبْشُ قَبْرُ الْمَيِّتِ

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ نَبْشِ الْقَبْرِ إِلاَّ لِعُذْرٍ وَغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَمِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُجِيزُ نَبْشَ الْقَبْرِ كَوْنُ الْأَرْضِ مَغْصُوبَةً أَوِ الْكَفَنِ مَغْصُوبًا أَوْ سَقَطَ مَالٌ فِي الْقَبْرِ.وَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي هَذِهِ الْأَعْذَارِ يُنْظَرُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (قَبْرٌ ف 21، وَنَبْشٌ).

س- نَقْلُ الْمَيِّتِ

18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمَيِّتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بَعْدَ الدَّفْنِ مُطْلَقًا.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ نَقْلُ الْمَيِّتِ قَبْلَ الدَّفْنِ وَكَذَا بَعْدَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بِشُرُوطِ.يُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 4، وَنَبْشٌ).

ع- قَذْفُ الْمَيِّتِ

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَهُ حَقُّ طَلَبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ طَلَبَ إِقَامَةِ الْحَدِّ يَرْجِعُ لِمَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِسَبَبِ قَذْفِ الْمَيِّتِ وَهُمُ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ وَإِنْ عَلَوْا أَوْ سَفَلُوا، وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ مَحْجُوبًا أَوْ مَحْرُومًا عَنِ الْمِيرَاثِ بِقِتْلٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ كَوْنِهِ وَلَدَ بِنْتٍ.وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ أَوْ عَفْوِهِ أَوْ تَصْدِيقِهِ لِلْقَاذِفِ لِلُحُوقِ الْعَارِ بِهِمْ بِسَبَبِ الْجُزْئِيَّةِ، أَيْ كَوْنُ الْمَيِّتِ جُزْءًا مِنْهُمْ أَوْ كَوْنُهُمْ جُزْءًا مِنْهُ.

وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ وَقَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ حَدِّ قَاذِفِهِ فَلِوَارِثِهِ الْقِيَامُ بِهِ وَلَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْإِرْثِ مَانِعٌ كَرِقٍّ وَقَتْلٍ وَكُفْرٍ إِنْ كَانَ قَذَفَهُ فِي حَيَاتِهِ.

وَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلِوَارِثِهِ الْقِيَامُ بِحَدِّهِ لِلِحُوقِ الْمَعَرَّةِ لَهُ.

وَأَمَّا الْوَرَثَةُ الَّذِينَ يَحِقُّ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ فَهُمْ: وَلَدُ الْمَقْذُوفِ وَيَشْمَلُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَأَبُ الْمَقْذُوفِ وَإِنْ عَلَا.

فَمَنْ قَذَفَ مَيِّتًا كَانَ لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَلِأَبِيهِ وَإِنْ عَلَا أَنْ يَقُومُوا بِذَلِكَ وَمَنْ قَامَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَخَذَهُ بِحَدِّهِ وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ عَيْبٌ يَلْزَمُهُمْ، وَلَيْسَ لِلْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْعَصَبَةِ قِيَامٌ مَعَ هَؤُلَاءِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ فَلِلْعَصَبَةِ الْقِيَامُ، وَلِلْأَخَوَاتِ وَالْجَدَّاتِ الْقِيَامُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْمَقْذُوفِ وَارِثٌ فَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَقُومَ بِحَدِّهِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَطَلَبُ إِقَامَةِ الْحَدِّ لِلْوَارِثِ إِلاَّ أَنْ يَعْفُوَ، وَلَوْ عَفَا وَارِثُ الْمَقْذُوفِ مُقَابِلَ مَالٍ يَأْخُذُهُ سَقَطَ الْحَدُّ وَلَمْ يَجِبِ الْمَالُ، وَلَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ فَلِلْبَاقِي أَنْ يَسْتَوْفُوا الْحَدَّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ عَارٌ، وَالْعَارُ يَلْزَمُ الْوَاحِدَ كَمَا يَلْزَمُ الْجَمِيعَ.

وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَنْ يَرِثُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى أَوْجُهٍ:

أَصَحُّهَا: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ كَالْمَالِ وَالْقِصَاصِ.

وَالثَّانِي: جَمِيعُهُمْ غَيْرُ الزَّوْجَيْنِ.

وَالثَّالِثُ: رِجَالُ الْعَصَبَاتِ فَقَطْ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْعَارِ كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ.

وَالرَّابِعُ: رِجَالُ الْعَصَبَةِ سِوَى الْبَنِينَ كَالتَّزْوِيجِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ لِلسُّلْطَانِ.

وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ مُوَرِّثَهُ، وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ إِنْ كَانَ حَائِزًا لِلْإِرْثِ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ بِخِلَافِ الْقَتْلِ.

وَلَوْ قَذَفَ وَلَدٌ أَبَاهُ فَمَاتَ الْأَبُ وَتَرَكَ الْقَاذِفَ وَابْنًا آخَرَ فَإِنَّ فِيهِ الْخِلَافَ فِيمَنْ يَرِثُ الْحَدَّ فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا عَفَا بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ كَانَ لِلْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْجَمِيعِ فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بِتَمَامِهِ، وَإِنْ قُلْنَا يَسْقُطُ الْجَمِيعُ فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ نَصِيبُ الْعَافِي فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ نِصْفِ الْحَدِّ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَالُوا إِذَا قُذِفَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُّ فِي الْحَيَاةِ، وَإِنْ قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ- مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً- حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَالَبَ الِابْنُ وَكَانَ مُسْلِمًا حُرًّا وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ وَلِأَنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ زِنَا وَلَا يَسْتَحِقُّ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وَلِذَلِكَ تُعْتَبَرُ حَصَانَتُهُ وَلَا تُعْتَبَرُ حَصَانَةُ أُمِّهِ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهُ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَذْفِ مَيْتَةٍ، وَكَذَلِكَ تُقَاسُ الْجَدَّةُ عَلَى الْأُمِّ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ.

وَأَمَّا إِنْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ لَاحِقًا لِلْمَيِّتِ وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ.

وَإِذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ وَلَمْ يُطَالِبْ بِالْحَدِّ سَقَطَ الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ طَالَبَ بِهِ فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ وَلِلْوَرَثَةِ طَلَبُهُ.

وَالْحَقُّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، حَتَّى لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُمْ سِوَى الزَّوْجَيْنِ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: هُوَ لِلْعَصَبَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَرِثُهُ الْإِمَامُ أَيْضًا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ.وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ حُدَّ لِلْبَاقِي كَامِلًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

ف- حَلْقُ شَعْرِ الْمَيِّتِ وَقَصُّ ظُفُرِهِ

20- لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ حَلْقِ شَعْرِ الْمَيِّتِ أَوْ تَسْرِيحِهِ أَوْ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ وَكَذَا سَائِرُ شَعْرِ الْبَدَنِ كَاللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَشَعْرِ الْإِبِطِ وَالْعَانَةِ.

وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَرٌ ف 4، 5، 6، حَلَقَ ف 14).

كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَقْلِيمِ أَظْفَارِ الْمَيِّتِ وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف9).

ص- تَغْسِيلُ السِّقْطِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ

21- السِّقْطُ هُوَ الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى يَسْقُطُ قَبْلَ تَمَامِهِ وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جَنِينٌ ف 22).

قِ- إِدْخَالُ الْمَيِّتِ الْمَسْجِدَ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِيهِ:

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ وَإِدْخَالُهُ فِيهِ تَحْرِيمًا وَقِيلَ تَنْزِيهًا وَرَجَّحَهُ الْكَمَالُ وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (جَنَائِزُ ف 38).

ر- الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ فِيهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.

وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 37).

ش- طَهَارَةُ جَسَدِ الْمَيِّتِ

24- ذَهَبَ عَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ هَلْ نَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ خَبَثٍ أَوْ حَدَثٍ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا نَجَاسَةُ خَبَثٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَلَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ قَبْلَ غَسْلِهِ نَجَّسَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَلَ مَيِّتًا قَبْلَ غَسْلِهِ وَصَلَّى بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلِذَلِكَ إِنَّمَا يَطْهُرُ الْمَيِّتُ بِالْغُسْلِ كَرَامَةً لِلْمُسْلِمِ.

أَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ نَجِسٌ وَلَوْ بَعْدَ غَسْلِهِ فَلَوْ وَقَعَ كَافِرٌ فِي بِئْرٍ بَعْدَ غُسْلِهِ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ الْبِئْرَ.

وَقِيلَ: هِيَ نَجَاسَةُ حَدَثٍ قَالَ فِي الْفَتْحِ:

وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا»،، فَإِنْ صَحَّ وَجَبَ تَرْجِيحُ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا». وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِي أَجْزَائِهِ، كَرَامَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ، وَالْآدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ الْغُسْلِ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ، وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عَنْ سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ، وَالْبَدَنُ فِي حَقِّ التَّطْهِيرِ لَا يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غَسْلُهُ كُلُّهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْبَلْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْآدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا طَاهِرَةٌ، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَقَضِيَّةُ تَكْرِيمِهِمْ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِمْ بِالْمَوْتِ، وَلِخَبَرِ «لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» قَالَ عِيَاضُ: وَلِأَنَّ غَسْلَهُ وَإِكْرَامَهُ يَأْبَى تَنْجِيسُهُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِغَسْلِ الْمَيْتَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعُذْرَةِ. وَأَمَّا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فَالْمُرَادُ نَجَاسَةُ الِاعْتِقَادِ أَوْ أَنَّا نَجْتَنِبُهُمْ كَالنَّجَاسَةِ لَا نَجَاسَةَ الْأَبَدَانِ، وَلِهَذَا رَبَطَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْأَسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي غَيْرِ أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَأَلْحَقَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ بِهِمُ الشُّهَدَاءَ.

وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي طَهَارَةِ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ وَنَجَاسَتِهَا فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.

فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى نَجَاسَةِ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْخَبَرَ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ. حُكْمُ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ

25- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ يَأْخُذُ حُكْمَهُ فِي الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهِ أَوْ بِنَجَاسَتِهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْآدَمِيِّ غَيْرَ الْمَنْتُوفِ طَاهِرٌ بِخِلَافِ الْمَنْتُوفِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ لِمَا يَحْمِلُ مِنْ دُسُومَةٍ.

وَكَذَلِكَ عَظْمُ الْمَيِّتِ وَعَصَبُهُ فَإِنَّهُمَا طَاهِرَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ سِنُّ الْمَيِّتِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا وَالْمُنَجَّسُ هُوَ الدَّمُ.

وَكَذَلِكَ ظُفُرُ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ إِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ الدُّسُومَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى طَهَارَةِ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَاءً عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ طَهَارَةِ مَيْتَتِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْمَذْهَبِ فَمَا أُبِينَ مِنْهُ نَجِسٌ مُطْلَقًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِلْحَاقِ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْآدَمِيِّ بِمَيْتَتِهِ فِي الطَّهَارَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: حُكْمُ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهَا أَجَزَاءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ فَكَانَ حُكْمُهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ وَالنَّجِسَةِ وَلِأَنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهَا نَجِسَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا.

ت- غَسْلُ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ:

26- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْمَيِّتِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ- رضي الله عنه- عَلَى رُءُوسٍ، وَصَلَّتِ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- عَلَى يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَلْقَاهَا طَائِرٌ بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ رَأْسُ آدَمِيٍّ أَوْ أَحَدُ شِقَّيْهِ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بَلْ يُدْفَنُ إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ وَلَوْ بِلَا رَأْسٍ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُغَسَّلُ دُونَ ثُلُثَيِ الْجَسَدِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَسَدِ مَا عَدَا الرَّأْسِ، فَإِذَا وُجِدَ نِصْفُ الْجَسَدِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَدُونَ الثُّلُثَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ لَمْ يُغْسَّلْ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ أَيْ يُكْرَهُ، لِأَنَّ شَرْطَ الْغُسْلِ وُجُودُ الْمَيِّتِ، فَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ وَلَا حُكْمَ لِلْيَسِيرِ وَهُوَ مَا دُونَ الثُّلُثَيْنِ.

وَالْعِلَّةُ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا دُونَ الْجُلِّ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الْمَكْرُوهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ عَلَى غَائِبٍ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ لِأَنَّا لَا نُخَاطَبُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ إِلاَّ بِشَرْطِ الْحُضُورِ، وَحُضُورُ جُلِّهِ كَحُضُورِ كُلِّهِ، وَحُضُورُ الْأَقَلِّ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ. (ر: تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف 26).

ث- تَنَازُعُ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ الْمَاءَ:

27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَجُنُبٌ وَحَائِضٌ وَمُحْدِثٌ وَكَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ، وَلِلْفُقَهَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا فَإِنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى بِالْمَاءِ مِنَ الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ وَالْمُحْدِثُ وَيَقْتَدِيَانِ بِهِ، لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ إِمَامًا. وَقِيلَ فِي السِّرَاجِ: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لِأَنَّ غُسْلَهُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ بِالتُّرَابِ.

وَعَنِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَفِي السِّرَاجِ أَيْضًا: لَوْ كَانَ الْمَاءُ يَكْفِي الْمُحْدِثَ فَقَطْ كَانَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مُشْتَرَكًا فَيَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَصْرِفَ نَصِيبَهُ لِلْمَيْتِ حَيْثُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَكْفِيهِ نَصِيبُهُ، وَلَا يُمَكَّنُ الْجُنُبُ وَلَا غَيْرُهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالْكُلِّ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحِصَّةِ الْمَيِّتِ، وَكَوْنُ الْجَنَابَةِ أَغْلَظُ لَا يُبِيحُ اسْتِعْمَالَ حِصَّةِ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَكُنِ الْجُنُبُ أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا فَإِنَّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ بِهِ رَفْعَ الْجَنَابَةِ كَانَ أَوْلَى.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَاءِ وَمَعَهُ شَخْصٌ حَيٌّ مُحْدِثٌ جُنُبٌ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنَّ الْمَيِّتَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُحْدِثِ الْحَيِّ لِحَقِيِّةِ الْمِلْكِ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَلَى الْحَيِّ الْعَطَشُ فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِهِ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ حِفْظًا لِلنَّفُوسِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْوَرَثَةِ.

أَمَّا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ يُقَدَّمُ الْحَيُّ وَلَوْ لَمْ يَخَفْ عَطَشًا لِتَرْجِيحِ جَانِبِهِ بِالشَّرِكَةِ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَجُنُبٌ وَحَائِضٌ انْقَطَعَ دَمُهَا وَهُنَاكَ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا كَانَ صَاحِبُ الْمَاءِ أَحَقَّ بِهِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ بَذَلَهُ لِلْآخَرِ وَتَيَمَّمَ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ.

وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا لَهُمَا كَانَا فِيهِ سَوَاءً.

وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا أَوْ لِغَيْرِهِمَا وَأَرَادَ أَنْ يَجُودَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَالْمَيِّتُ أَوْلَى لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ، وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ يَرْجِعَانِ إِلَى الْمَاءِ وَيَغْتَسِلَانِ.

وَإِذَا اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَحَيٌّ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَالْمَاءُ يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَاحِبَ النَّجَاسَةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَيْسَ لِطَهَارَتِهِ بَدَلٌ وَلِطَهَارَةِ الْمَيِّتِ بَدَلٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ فَكَانَ صَاحِبُ النَّجَاسَةِ أَحَقَّ بِالْمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ جُنُبٌ وَمَيِّتٌ وَمَنْ عَلَيْهَا غُسْلُ حَيْضٍ وَمَعَهُمْ مَاءٌ لَا يَكْفِي إِلاَّ أَحَدَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكَهُ الْمَيِّتُ أَوْ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لِغَيْرِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَجُودَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمْ فَعَنْ أَحْمَدَ- رحمه الله- رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: الْمَيِّتُ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّ غُسْلَهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ طَهَارَتُهُ كَامِلَةً، وَالْحَيُّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَاءِ فَيَغْتَسِلُ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ تَنْظِيفُهُ وَلَا يَحْصُلُ بِالتَّيَمُّمِ، وَالْحَيُّ يَقْصِدُ بِغُسْلِهِ إِبَاحَةَ الصَّلَاةِ وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتُّرَابِ.

وَالثَّانِيَةُ: الْحَيُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِالْغُسْلِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْمَيِّتُ قَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ.وَاخْتَارَ هَذَا الْخَلاَّلُ.

وَإِنْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي مَكَانٍ فَهُوَ لِلْأَحْيَاءِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَجِدُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ فَفَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ حَاضِرٌ فَلِلْحَيِّ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ إِتْلَافَهُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ لِأَنَّ

مَالِكَهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ لِلْعَطَشِ فَيَأْخُذَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


60-موسوعة الفقه الكويتية (نجاسة 1)

نَجَاسَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- النَّجَاسَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقَذَارَةُ، يُقَالُ: تَنَجَّسَ الشَّيْءُ: صَارَ نَجِسًا، وَتَلَطَّخَ بِالْقَذِرِ.

وَالنَّجَاسَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا: مُسْتَقْذِرٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا مُرَخِّصَ.

وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا مَنْعَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ أَوْ فِيهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الطَّهَارَةُ:

2- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّقَاءُ مِنَ الدَّنَسِ وَالنَّجِسِ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ مَا يَشِينُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ أَوْ فِيهِ أَوْ لَهُ.

فَالطَّهَارَةُ هِيَ الْمَدْخَلُ لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ إِلاَّ بِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلاَّ بِإِزَالَةِ مَا قَدْ يَكُونُ عَالِقًا وَقَائِمًا بِالْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَأَخْبَاثٍ.

ب- الِاسْتِنْجَاءُ:

3- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِنْجَاءِ لُغَةً: الْخَلَاصُ مِنَ الشَّيْءِ.يُقَالُ: اسْتَنْجَيْتُ الشَّجَرَةَ: قَطَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا.

وَالِاسْتِنْجَاءُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِزَالَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ سَوَاءٌ بِالْغَسْلِ أَوِ الْمَسْحِ بِالْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا عَنْ مَوْضِعِ الْخُرُوجِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ.

وَالِاسْتِنْجَاءُ خَاصٌّ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ السَّبِيلَيْنِ فَقَطْ، لَا عَنْ بَاقِي الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ وَالِاسْتِنْجَاءِ: أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ وَسِيلَةٌ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ الْمَحَلِّ وَتَطْهِيرِهِ.(ر: اسْتِنْجَاء ف 1).

مَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا وَمَا لَا يُعْتَبَرُ:

4- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ وَالنَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ.وَقَالُوا: كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يُوجِبُ خُرُوجُهُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ فَهُوَ مُغَلَّظٌ، كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ إِذَا مَلأَ الْفَمَ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَكَذَلِكَ بَوْلُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلَا أَوْ لَا، وَالْخَمْرُ وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَلَحْمُ الْمَيْتَةِ وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ وَالرَّوْثُ وَإِخْثَاءُ الْبَقَرِ وَالْعَذِرَةُ وَنَجْوُ الْكَلْبِ وَخُرْءُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالْأَوِزِّ وَخِرَاءُ السِّبَاعِ وَالسِّنَّوْرِ وَالْفَأْرِ وَخِرَاءُ الْحَيَّةِ وَبَوْلُهَا وَخِرَاءُ الْعَلَقِ وَدَمُ الْحَلَمَةِ وَالْوَزَغَةِ إِذَا كَانَ سَائِلاً، فَهَذِهِ الْأَعْيَانُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً.

وَعَدُّوا مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمُخَفَّفَةِ: بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَالْفَرَسُ وَخِرَاءُ طَيْرٍ لَا يُؤْكَلُ.

أَمَّا أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً، كَالْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَالسِّنِّ وَالْحَافِرِ وَالْخُفِّ وَالظِّلْفِ وَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْعَصَبِ وَالْإِنْفَحَةِ الصُّلْبَةِ فَلَيْسَتْ بِنَجِسٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِمَيْتَةٍ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ تَمْيِيزِ الْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ عَنِ النَّجِسَةِ:

أ- الْجَمَادَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ إِلاَّ الْمُسْكِرَ.

ب- وَالْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ.

ج- وَالْمَيْتَاتُ كُلُّهَا عَلَى النَّجَاسَةِ.

د- وَدُودُ الطَّعَامِ كُلُّهُ طَاهِرٌ، وَلَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مَعَ الطَّعَامِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَنْجَسُ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ.

وَفَصَّلُوا فِي ضَبْطِهَا فَقَالُوا: الْأَعْيَانُ جَمَادٌ وَحَيَوَانٌ.

فَالْجَمَادُ كُلُّهُ طَاهِرٌ.

وَالْحَيَوَانُ- أَيِ الْحَيُّ- كُلُّهُ طَاهِرٌ إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَفَرْعَ كُلٍّ مِنْهُمَا.

وَجُزْءُ الْحَيَوَانِ كَمَيْتَتِهِ.

وَالْمَيْتَةُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ، وَالْجَرَادَ، وَالْآدَمِيَّ، وَالْجَنِينَ بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالصَّيْدَ الَّذِي لَا تُدْرَكُ ذَكَاتُهُ.

وَالْمُنْفَصِلُ عَنِ الْحَيَوَانِ إِمَّا يَرْشَحُ رَشْحًا كَالْعَرَقِ، وَلَهُ حُكْمُ حَيَوَانِهِ- أَيِ الْحَيِّ- وَإِمَّا لَهُ اسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ كَالْبَوْلِ فَهُوَ نَجِسٌ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ.

تَقْسِيمُ النَّجَاسَةِ إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ:

5- مِنْ تَقْسِيمَاتِ النَّجَاسَةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ تَقْسِيمُهَا إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ تَعْنِي الْخَبَثَ، وَالْحُكْمِيَّةَ تَعْنِي الْحَدَثَ.

وَعَرَّفُوا الْخَبَثَ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ مُسْتَقْذَرَةٌ شَرْعًا.

وَعَرَّفُوا الْحَدَثَ بِأَنَّهُ: وَصْفٌ شَرْعِيٌّ يَحُلُّ فِي الْأَعْضَاءِ يُزِيلُ الطَّهَارَةَ.سَوَاءٌ كَانَ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ، فَلَا تَحِلُّ مَثَلاً صَلَاةٌ مَعَ وُجُودِهِ حَتَّى يَضَعَ مُرِيدُ الصَّلَاةِ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّهُ لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ» فَهُوَ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ.

وَيَطْهَرُ الْخَبَثُ بِزَوَالِهِ؛ «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي» فَإِنَّهُ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

وَيَمْنَعُ بَقَاءَ الْحُكْمِيَّةِ عَنِ الْمَشْرُوطِ بِزَوَالِهَا بَقَاءُ بَعْضِ الْمَحَلِّ وَإِنْ قَلَّ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةِ مُزِيلِهَا.فَالْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ يَمْنَعُهُ قِيَامُ هَذَا الْحَدَثِ مِنَ الصَّلَاةِ مَثَلاً حَتَّى يَتَوَضَّأَ حَالَةَ وُجُودِ الْمَاءِ أَوْ يَتَيَمَّمَ حَالَةَ فَقْدِهِ بِشُرُوطِهِ، وَالْمُحْدِثُ حَدَثًا أَكْبَرَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَغْتَسِلَ.وَعَلَى هَذَا فَقَلِيلُ الْحُكْمِيَّةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ بِالِاتِّفَاقِ.

وَالْعَيْنِيَّةُ تَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ غِلَظِهَا وَخِفَّتِهَا، وَقَلِيلُهَا عَفْوٌ، وَهُوَ دُونَ مُقَعَّرِ الْكَفِّ فِي الْغَلِيظَةِ، وَدُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ فِي الْخَفِيفَةِ، وَتَطْهَرُ بِزَوَالِ عَيْنِهَا فِي الْمَرْئِيِّ، وَبِالْغُسْلِ فِي غَيْرِهِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ هِيَ مَا لَا تَتَجَاوَزُ مَحَلَّ حُلُولِ مُوجِبِهَا كَالنَّجَاسَاتِ، وَالْحُكْمِيَّةَ هِيَ مَا تَتَجَاوَزُهُ بِغَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ وَبِنُزُولِ الْمَنِيِّ.

وَقَدْ تُطْلَقُ الْحُكْمِيَّةُ عَلَى مَا لَا وَصْفَ لَهُ مِنْ طَعْمٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ أَوْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ عِنْدَ مُوجِبِهِ.

وَالْخَبَثُ: هُوَ الْوَصْفُ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُونَ: النَّجَاسَةُ حَدَثٌ وَخَبَثٌ، فَالْحَدَثُ هُوَ الْمَنْعُ الْقَائِمُ بِالْأَعْضَاءِ لِمُوجِبٍ مِنْ بَوْلٍ وَنَحْوِهِ أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ.

وَإِنْ كَانَ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ ثَوْبًا أَوْ مَكَانًا فَهِيَ طَهَارَةُ خَبَثٍ أَيْ طَهَارَةٌ مِنْهُ.

وَالْحَدَثُ وَالْخَبَثُ لَا يُرْفَعَانِ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ.

وَالْحَدَثُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَكْبَرُ وَالْأَصْغَرُ، أَمَّا الْأَكْبَرُ فَهُوَ الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَالْأَصْغَرُ هُوَ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ.

وَأَمَّا الْخَبَثُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ بِالشَّخْصِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ.

وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْأَحْدَاثِ وَالْأَخْبَاثِ، وَلَا يَصِحُّ التَّطْهِيرُ مِنْهَا إِلاَّ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى خِلْقَتِهِ أَوْ تَغَيَّرَ بِمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا كَقَرَارِهِ وَالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وَالْمَاءُ الطَّهُورُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ، كَمَاءِ الْمَطَرِ وَالْبَحْرِ وَالْبِئْرِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ وَالرِّيحُ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ بِالْبَدَنِ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَزَوَالُ هَذَا الْوَصْفِ يَكُونُ بِالْوُضُوءِ فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَبِالْغُسْلِ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ (الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ).

وَالْخَبَثُ مَا كَانَ نَجِسًا مُسْتَقْذَرًا، وَتَطْهِيرُهُ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ، فَهُوَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَيُزِيلُ الْخَبَثَ لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» «وَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْخَبَثَ يَخْتَصُّ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَيُقَسِّمُونَ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ (الْخَبَثَ) إِلَى قِسْمَيْنِ: مُغَلَّظَةٌ وَمُخَفَّفَةٌ.

فَمَا تَوَافَقَتْ عَلَى نَجَاسَتِهِ الْأَدِلَّةُ فَمُغَلَّظٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى أَمْ لَا، وَإِلاَّ فَهُوَ مُخَفَّفٌ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَلْوَى فَمُغَلَّظٌ وَإِلاَّ فَمُخَفَّفٌ، وَلَا نَظَرَ لِلْأَدِلَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ (الْخَبَثُ) ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مُغَلَّظَةٌ أَوْ مُخَفَّفَةٌ أَوْ مُتَوَسِّطَةٌ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَنَجَّسَ بِبَوْلِ صَبِيٍّ لَمْ يُطْعَمْ غَيْرَ لَبَنٍ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا تَنَجَّسَ بِغَيْرِهِمَا.

طَهَارَةُ الْآدَمِيِّ وَنَجَاسَتُهُ:

6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى طَهَارَةِ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ» وَلَوْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمْ نَجِسَةً لَمْ يُنْزِلْهُمْ فِيهِ تَنْزِيهًا لَهُ.

وَأَمَّا الْآدَمِيُّ الْمَيِّتُ فَيَرَى عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا غُسِلَ يُحْكَمُ بِطِهَارَتِهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا كَرَامَةً لَهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ حَامِلِهِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا طَاهِرَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ شَعْبَانَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ نَجَاسَتُهُ.

قَالَ عِيَاضٌ: لِأَنَّ غَسْلَهُ وَإِكْرَامَهُ يَأْبَى تَنْجِيسَهُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِغَسْلِ الْمَيْتَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَذِرَةِ «وَلِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ- رضي الله عنه- فِي الْمَسْجِدِ» وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ الْمَوْتِ» وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ بِطَهَارَةِ الْآدَمِيِّ الْمَيِّتِ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَتَكْرِيمُهُمْ يَقْتَضِي طَهَارَتَهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَقَضِيَّةُ التَّكْرِيمِ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَغَيْرُهُ.وَأَمَّا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ

نَجَس}.فَالْمُرَادُ بِهِ نَجَاسَةُ الِاعْتِقَادِ أَوِ اجْتِنَابُهُمْ كَالنَّجِسِ لَا نَجَاسَةُ الْأَبْدَانِ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ فَلَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَنْجُسُ.

وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْآدَمِيَّةِ وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ.

7- وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ حُكْمَ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهَا أَجْزَاءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ وَلِأَنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ.

وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا نَجِسَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا.

طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ وَنَجَاسَتُهُ:

أ- الْكَلْبُ:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلْبِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ سُؤْرَهُ وَرُطُوبَاتِهِ نَجِسَةٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ طَاهِرُ الْعَيْنِ، لِقَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الطَّهَارَةُ، فَكُلُّ حَيٍّ وَلَوْ كَلْبًا طَاهِرٌ، وَكَذَا عَرَقُهُ وَدَمْعُهُ وَمُخَاطُهُ وَلُعَابُهُ.

كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ شَعْرِ الْكَلْبِ، وَحُكْمِ مَعَضِّ كَلْبِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب ف 15- 19، شَعْر وَصُوف وَوَبَر ف 19، صَيْد.ف 44).

ب- الْخِنْزِيرُ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ كَعَرَقِهِ وَلُعَابِهِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.وَالضَّمِيرُ فِي قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} رَاجِعٌ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ حَالَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَيٍّ الطَّهَارَةُ، وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ، فَطَهَارَةُ عَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ عَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَدَمْعِهِ وَمُخَاطِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (خِنْزِير ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

ج ـ سِبَاعُ الْبَهَائِمِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ:

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ أَوْ نَجَاسَتِهَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْقِرْدِ، وَنَجَاسَةِ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْحِدَأَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَّ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرٌ، وَقِيلَ بِنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُشْرِكِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِطَهَارَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَسْآرِهَا، إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ نَجِسٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحَيَوَانُ قِسْمَانِ: نَجِسٌ وَطَاهِرٌ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: النَّجِسُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ نَجِسٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَهَذَا نَجِسٌ عَيْنُهُ وَسُؤْرُهُ وَجَمِيعُ مَا خَرَجَ مِنْهُ.

وَالثَّانِي: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ سَائِرُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ إِلاَّ السِّنَّوْرَ وَمَا دُوَنَهُ فِي الْخِلْقَةِ، وَكَذَلِكَ جَوَارِحُ الطَّيْرِ وَالْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَالْبَغْلُ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجِسٌ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: طَاهِرٌ فِي نَفَسِهِ وَسُؤْرِهِ وَعَرَقِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: الْآدَمِيُّ، وَالثَّانِي: مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَالثَّالِثُ: السِّنَّوْرُ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ.

طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ وَنَجَاسَتُهُ:

أ- مَيْتَةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ:

11- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَنَحْوِهِمِا إِذَا وَقَعَ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ أَوْ مَائِعٍ وَمَاتَ فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ» وَقَدْ يُفْضِي غَمْسُهُ إِلَى مَوْتِهِ فَلَوْ نَجَّسَ لَمَا أَمَرَ بِهِ.

وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ كَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ تَنْشَأْ فِيهِ، فَإِنْ نَشَأَتْ فِيهِ وَمَاتَتْ كَدُودِ الْخَلِّ لَمْ تُنَجِّسْهُ جَزْمًا.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ مِنَ الْحَيَوَانِ نَوْعَانِ: مَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الطَّاهِرَاتِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّجَاسَاتِ كَصَرَاصِرِ الْحَشِّ وَدُودِهِ فَهُوَ نَجِسٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ النَّجَاسَةِ فَكَانَ نَجِسًا كَوَلَدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.

قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: صَرَاصِرُ الْكَنِيفِ وَالْبَالُوعَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْإِنَاءِ أَوِ الْحَبِّ صُبَّ، وَصَرَاصِرُ الْبِئْرِ لَيْسَتْ بِقَذِرَةٍ وَلَا تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ.

ب- مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ وَالْبَرْمَائِيِّ:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ مَائِيَّ الْمَوْلِدِ مِنَ الْحَيَوَانِ فَمَوْتُهُ فِي الْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ كَالسَّمَكِ وَالضِّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَهُوَ يُفِيدُ عَدَمَ تَنَجُّسِهِ بِالْمَوْتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَا يُنَجِّسُ مَا يُجَاوِرُهُ.وَكَذَا لَوْ مَاتَ خَارِجَ الْمَاءِ ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ.

وَلَوْ مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ وَسَوَاءٌ فِيهِ الْمُنْتَفِخُ وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ: أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الضِّفْدَعِ الْبَرِّيِّ وَالْمَائِيِّ.وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلْبَرِّيِّ دَمٌ سَائِلٌ أَفْسَدَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دَوَابُّ الْمَاءِ طَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»، فَمَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ طَاهِرَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَسَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَوُجِدَ طَافِيًا، أَوْ بِسَبَبِ شَيْءٍ فُعِلَ بِهِ: مِنِ اصْطِيَادِ مُسْلِمٍ أَوْ مَجُوسِيٍّ، أَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، أَوْ دُسَّ فِي طِينٍ وَمَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ فِي بَطْنِ حُوتٍ أَوْ طَيْرٍ مَيِّتًا.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَطُولُ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ كَحُوتٍ، أَوْ تَطُولُ حَيَاتُهُ كَالضِّفْدَعِ الْبَحْرِيِّ وَالسُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ.

وَعَنْ عَبْدِ الْحَقِّ: وَأَمَّا مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ فَنَجِسَةٌ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي مَيْتَةِ مَا تَطُولُ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْبَحْرِ كَالتِّمْسَاحِ الطَّهَارَةُ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْمُدُنِ وَالْأَمْصَارِ إِلاَّ مَنْ شَذَّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَيْتَةُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ طَاهِرَةٌ وَحَلَالٌ أَكْلُهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

وَقَالُوا: مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ وَفِي الْبَرِّ كَطَيْرِ الْمَاءِ مِثْلِ الْبَطِّ وَالْأَوِزِّ وَنَحْوِهِمَا حَلَالٌ، إِلاَّ مَيْتَتَهَا لَا تَحِلُّ قَطْعًا، وَالضِّفْدَعُ وَالسَّرَطَانُ مُحَرَّمَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَذَوَاتُ السُّمُومِ حَرَامٌ قَطْعًا، وَيَحْرُمُ التِّمْسَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالسُّلَحْفَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُبَاحُ مَيْتَةُ السَّمَكِ وَسَائِرِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ الَّذِي لَا يَعِيشُ إِلاَّ فِي الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ أَكْلُهُ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَمْ يُمْنَعْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.

وَحَيَوَانُ الْبَحْرِ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ كَالضِّفْدَعِ وَالتِّمْسَاحِ وَشِبْهِهِمَا يُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ، فَيُنَجَّسُ الْمَاءَ الْقَلِيلَ إِذَا مَاتَ فِيهِ، وَالْكَثِيرَ إِذَا غَيَّرَهُ، لِأَنَّهَا تُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ فَتُنَجِّسُ الْمَاءَ كَحَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ فَأَشْبَهَ طَيْرَ الْمَاءِ.وَيُفَارِقُ السَّمَكَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ وَلَا يُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ.

ج- مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ:

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْحَيَوَانِ كُلَّهَا نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَيْتَة).

د- مَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ:

14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ».

وَاخْتَلَفُوا فِي أُمُورٍ أُخْرَى وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ غَيْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهَا وَعَصَبَهَا- عَلَى الْمَشْهُورِ- وَحَافِرَهَا وَقَرْنَهَا الْخَالِيَةَ عَنِ الدُّسُومَةِ، وَكَذَا كُلُّ مَا لَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ وَهُوَ مَا لَا يَتَأَلَّمُ الْحَيَوَانُ بِقَطْعِهِ كَالرِّيشِ وَالْمِنْقَارِ وَالظِّلْفِ طَاهِرٌ.

وَاخْتُلِفَ فِي أُذُنَيْهِ فَفِي الْبَدَائِعِ نَجِسَةٌ، وَفِي الْخَانِيَةِ: لَا، وَفِي الْأَشْبَاهِ: الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَتِهِ إِلاَّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فَطَاهِرٌ وَإِنْ كَثُرَ.

(ر: أَطْعِمَة ف 74 وَمَا بَعْدَهَا).

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ نَجِسَةٌ إِلاَّ الشَّعْرَ وَشِبْهَهَا مِنَ الرِّيشِ.

وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْحَيَوَانِ فَإِنْ قُطِعَتْ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَهِيَ نَجِسَةٌ إِجْمَاعًا إِلاَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْوَبَرَ.وَإِنْ قُطِعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ قِيلَ بِطَهَارَتِهِ فَأَجْزَاؤُهُ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِنْ قِيلَ بِالنَّجَاسَةِ فَلَحْمُهُ نَجِسٌ.

وَأَمَّا الْعَظْمُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْقَرْنِ وَالسِّنِّ وَالظِّلْفِ فَهِيَ نَجِسَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالشَّعْرُ فَهِيَ طَاهِرَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الْجُزْءُ الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَةِ ذَلِكَ الْحَيِّ: إِنْ كَانَ طَاهِرًا فَطَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ لِخَبَرِ: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ»، فَالْمُنْفَصِلُ مِنَ الْآدَمِيِّ أَوِ السَّمَكِ أَوِ الْجَرَادِ طَاهِرٌ، وَمِنْ غَيْرِهَا نَجِسٌ إِلاَّ شَعْرَ الْمَأْكُولِ أَوْ صُوفَهُ أَوْ رِيشَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَطَاهِرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ نُتِفَ مِنْهَا.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أُخِذَ بَعْدَ التَّذْكِيَةِ أَوْ فِي الْحَيَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ.

وَقَالُوا: دَخَلَ فِي نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا مِنْ عَظْمٍ وَشَعْرٍ وَصُوفٍ وَوَبَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا وَظُفْرُهَا وَعَصَبُهَا وَحَافِرُهَا، وَأُصُولُ شَعْرِهَا إِذَا نُتِفَ، وَأُصُولُ رِيشِهَا إِذَا نُتِفَ وَهُوَ رَطْبٌ أَوْ يَابِسٌ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ أَشْبَهَ سَائِرَهَا، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّعْرِ وَالرِّيشِ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ لَمْ يَسْتَكْمِلْ شَعْرًا وَلَا رِيشًا.

وَصُوفُ مَيْتَةٍ طَاهِرَةٍ فِي الْحَيَاةِ كَالْغَنَمِ طَاهِرٌ، وَشَعْرُهَا وَوَبَرُهَا وَرِيشُهَا طَاهِرٌ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كَهِرٍّ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ، لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِلِامْتِنَانِ، فَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِحَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالرِّيشُ مَقِيسٌ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.

وَمَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ مِنْ قَرْنٍ وَإِلْيَةٍ وَنَحْوِهِمَا كَحَافِرٍ وَجِلْدٍ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ طَهَارَةً أَوْ نَجَاسَةً لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ».

وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (شَعْر وَصُوف وَوَبَر ف 17 وَمَا بَعْدَهَا، وَعَظْم ف 2، وَأَظْفَار ف 12).

هـ- جِلْدُ الْحَيَوَانِ:

15- جِلْدُ الْحَيَوَانِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِلْدَ مَيْتَةٍ، أَوْ جِلْدَ حَيَوَانٍ حَيٍّ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ.

أَمَّا جِلْدُ الْمَيْتَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغَةِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي جِلْدِ مَيْتَةِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ- إِلَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ تُطَهِّرُ جُلُودَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ عِنْدَهُمْ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُمَا بِطَهَارَةِ جِلْدِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِالدِّبَاغَةِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ الْكَلْبِ، كَمَا اسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جِلْدَ الْفِيلِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ.

وَأَمَّا جِلْدُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّذْكِيَةَ لَا تُطَهِّرُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ عِنْدَهُمْ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ مَا سَبَقَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (جِلْد ف 8، 10، وَدِبَاغَة ف9 وَمَا بَعْدَهَا، وَطَهَارَة ف 23).

حُكْمُ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَبْدَانِ النَّاسِ وَالْحَيَوَانَاتِ:

أ- الرِّيقُ وَالْمُخَاطُ وَالْبَلْغَمُ:

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ الْبَلْغَمِ، فَمَنْ قَاءَ بَلْغَمًا لَا يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ وَإِنْ مَلأَ الْفَمَ لِطَهَارَتِهِ، «لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ» وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ النَّازِلُ مِنَ الرَّأْسِ بِالْإِجْمَاعِ، هُوَ لِلُزُوجَتِهِ لَا تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ، وَأَمَّا مَا يُجَاوِرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَالْقَلِيلُ غَيْرُ نَاقِضٍ، بِخِلَافِ الصَّفْرَاءِ فَإِنَّهَا تُمَازِجُهَا.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ مِنَ الْجَوْفِ نَقَضَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ فَأَشْبَهَ الصَّفْرَاءَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ حَيٍّ بَحْرِيًّا كَانَ أَوْ بَرِّيًّا، كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ آدَمِيًّا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، لُعَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ- وَهُوَ مَا سَالَ مِنْ فَمِهِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ- طَاهِرٌ، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ الْمَعِدَةِ بِصُفْرَتِهِ وَنُتُونَتِهِ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ، وَلَا يُسَمَّى حِينَئِذٍ لُعَابًا، وَيُعْفَى عَنْهُ إِذَا لَازَمَ وَإِلاَّ فَلَا، وَمُخَاطُهُ كَذَلِكَ طَاهِرٌ، وَهُوَ مَا سَالَ مِنْ أَنْفِهِ.

وَالْبَلْغَمُ طَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُنْعَقِدُ كَالْمُخَاطِ يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ أَوْ يَسْقُطُ مِنَ الرَّأْسِ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، حَيْثُ يَقُولُونَ بِطِهَارَةِ الْمَعِدَةِ لِعِلَّةِ الْحَيَاةِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا طَاهِرٌ، وَعِلَّةُ نَجَاسَةِ الْقَيْءِ الِاسْتِحَالَةُ إِلَى فَسَادٍ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَا انْفَصَلَ عَنْ بَاطِنِ الْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ لَهُ اجْتِمَاعٌ وَاسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَرْشَحُ رَشْحًا كَاللُّعَابِ وَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْمُخَاطِ، فَلَهُ حُكْمُ الْحَيَوَانِ الْمُتَرَشَّحِ مِنْهُ، إِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ، وَإِلاَّ فَطَاهِرٌ.

وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْبَلْغَمَ الصَّاعِدَ مِنَ الْمَعِدَةِ

نَجِسٌ، بِخِلَافِ النَّازِلِ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ أَوِ الصَّدْرِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ رِيقَ الْآدَمِيِّ وَمُخَاطَهُ وَنُخَامَتَهُ طَاهِرٌ، فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُؤِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ- أَوْ: إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ- فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا» وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا أَمَرَ بِمَسْحِهَا فِي ثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تَحْتَ قَدَمِهِ.

وَلَا فَرْقَ فِي الْبَلْغَمِ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّأْسِ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ.

وَرِيقُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ طَاهِرٌ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، فَهُمَا نَجِسَانِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِمَا وَفَضَلَاتِهِمَا وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُمَا.

الثَّانِي: مَا عَدَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَفَضَلَاتِهَا إِلاَّ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَتِهَا، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْآدَمِيِّ.

ب- الْقَيْءُ وَالْقَلْسُ:

17- يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِنَجَاسَةِ الْقَيْءِ، لِأَنَّهُ طَعَامٌ اسْتَحَالَ فِي الْجَوْفِ إِلَى النَّتْنِ وَالْفَسَادِ فَكَانَ نَجِسًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارٍ- رضي الله عنه-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ...وَعَدَّ مِنْهَا الْقَيْءَ».

وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَجِسٌ إِذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ أَمَّا مَا دُونَهُ فَطَاهِرٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ النَّجِسَ مِنْهُ هُوَ الْمُتَغَيِّرُ عَنْ حَالِ الطَّعَامِ، فَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُهُ لِصَفْرَاءَ أَوْ بَلْغَمٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ فَطَاهِرٌ.

فَإِذَا تَغَيَّرَ بِحُمُوضَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَهُوَ نَجِسٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ.

18- أَمَّا الْقَلْسُ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ اللاَّمِ- فَهُوَ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَاءٌ تَقْذِفُهُ الْمَعِدَةُ أَوْ يَقْذِفُهُ رِيحٌ مِنْ فَمِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ طَعَامٌ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَلْسَ نَجِسٌ، فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ».

وَقَالُوا: إِنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْقَلْسَ طَاهِرٌ كَالْقَيْءِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ كَانَ نَجِسًا.

ج- الْجِرَّةُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُجْتَرِّ:

19- الْجِرَّةُ بِالْكَسْرِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: مَا يَصْدُرُ مِنْ جَوْفِ الْبَعِيرِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ إِلَى فِيهِ.

وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ جَوْفِهِ لِلِاجْتِرَارِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَرَوْثِهِ، لِأَنَّهُ وَارَاهُ جَوْفُهُ، كَالْمَاءِ إِذَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَوْلِهِ، فَكَذَا الْجِرَّةُ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّوْثِ، وَلَا يَجْتَرُّ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلاَّ مَا لَهُ كَرِشٌ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ مَعِدَةَ مُبَاحِ الْأَكْلِ طَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ لِعِلَّةِ الْحَيَاةِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ مَرَارَةٍ وَصَفْرَاءَ.

د- عَرَقُ الْحَيَوَانِ:

20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَهَارَةِ عَرَقِ الْحَيَوَانِ أَوْ نَجَاسَتِهِ.

فَذَهَبُوا إِلَى طَهَارَةِ عَرَقِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَرَق ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

هـ- اللَّبَن:

21- اللَّبَن إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ حَيٍّ فَهُوَ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ طَاهِرٌ بِلَا خِلَافٍ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي حِلِّ أَكْلِ الْحَيَوَانِ، فَمَا حَلَّ أَكْلُهُ كَانَ لَبَنُهُ طَاهِرًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (لَبَن ف 2 وَمَا بَعْدَهَا).

و- الْإِنْفَحَةُ:

22- الْإِنْفَحَةُ: مَادَّةٌ بَيْضَاءُ صَفْرَاوِيَّةٌ فِي وِعَاءٍ جِلْدِيٍّ يُسْتَخْرَجُ مِنْ بَطْنِ الْجَدْيِ أَوِ الْحَمَلِ الرَّضِيعِ يُوضَعُ مِنْهَا قَلِيلٌ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبِ فَيَنْعَقِدُ وَيَتَكَاثَفُ وَيَصِيرُ جُبْنًا، وَجِلْدَةُ الْإِنْفَحَةِ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى كَرِشًا إِذَا رَعَى الْحَيَوَانُ الْعُشْبَ.

وَالْإِنْفَحَةُ إِنْ أُخِذَتْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً فَهِيَ طَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَلاَّ يُطْعَمَ الْمُذَكَّى غَيْرُ اللَّبَنِ.

وَإِنْ أُخِذَتْ مِنْ مَيِّتٍ، أَوْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ فَهِيَ نَجِسَةٌ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَطَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ صُلْبَةً أَمْ مَائِعَةً قِيَاسًا عَلَى اللَّبَنِ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ وِعَائِهَا بِالْمَوْتِ فَلَا تُؤْكَلُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: أَطْعِمَة ف 85).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


61-موسوعة الفقه الكويتية (نجاسة 2)

نَجَاسَةٌ -2

ز- الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ:

23- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الدَّمِ، لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ» وَكَذَلِكَ الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ لِأَنَّهُمَا مِثْلُهُ.

وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ دَمَ الشَّهِيدِ عَلَيْهِ فَقَالُوا بِطَهَارَتِهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِقَتْلَى أُحُدٍ: «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلاَّ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ».فَإِنِ انْفَصَلَ الدَّمُ عَنِ الشَّهِيدِ كَانَ الدَّمُ نَجِسًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ دَمِ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَا يَسِيلُ عَنْ رَأْسِ جُرْحِهِ، وَيُعْفَى أَيْضًا عَنْ دَمِ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَفِيهِ حَرَجٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ إِذَا انْفَصَلَ عَنِ الْحَيَوَانِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ فِي الْعُرْفِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَفْسِهِ كَأَنِ انْفَصَلَ مِنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، إِلاَّ دَمَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعَ أَحَدِهِمَا فَلَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ لِغِلَظِ نَجَاسَتِهِ، وَأَمَّا دَمُ الشَّخْصِ نَفْسِهِ الَّذِي لَمْ يَنْفَصِلْ مِنْهُ كَدَمِ الدَّمَامِيلِ وَالْقُرُوحِ وَمَوْضِعِ الْفَصْدِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، انْتَشَرَ بِعَرَقٍ أَمْ لَا.

وَيُعْفَى عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَالْقَمْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَمَحَلُّ الْعَفْوِ عَنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ مَا لَمْ يَخْتَلِطْ بِأَجْنَبِيٍّ، فَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِهِ كَأَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ دَمٌ أَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ.

وَأَمَّا مَا لَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فَيُعْفَى عَنْهُ وَلَوْ مِنَ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمٍ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ فِي غَيْرِ مَائِعٍ وَمَطْعُومٍ، أَيْ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَالِبًا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ وَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقَدْرُ الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ هُوَ مَا لَا يَفْحُشُ فِي النَّفْسِ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنَ الْقَيْحِ وَنَحْوِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ مِنَ الدَّمِ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ خَارِجًا مِنْ غَيْرِ سَبِيلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ سَبِيلٍ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، وَلَا يُعْفَى عَنِ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ حَيَوَانٍ نَجِسٍ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيُضَمُّ مُتَفَرِّقٌ فِي ثَوْبٍ مِنْ دَمٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ فَحُشَ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، وَيُعْفَى عَنْ دَمِ بَقٍّ وَقَمْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً. (ر: عَفُوف 7 وَمَا بَعْدَهَا، مَعْفُوَّات ف 3 وَمَا بَعْدَهَا).

ح- دَمُ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَالنِّفَاسِ:

24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي».

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَثَرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ فِي مَنْعِ الْعِبَادَاتِ تَنْظُرُ مُصْطَلَحَاتِ: (اسْتِحَاضَة ف 25 وَمَا بَعْدَهَا، حَيْض ف 33 وَمَا بَعْدَهَا، نِفَاس).

ط- الْمِسْكُ وَالزَّبَادُ وَالْعَنْبَرُ:

25- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ طَاهِرٌ حَلَالٌ، فَيُؤْكَلُ بِكُلِّ حَالٍ، وَكَذَا نَافِجَتُهُ طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا، وَبَيْنَ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْمَذْبُوحَةِ وَغَيْرِهَا، وَبَيْنَ كَوْنِهَا بِحَالِ لَوْ أَصَابَهَا الْمَاءُ فَسَدَتْ أَوْ لَا.

وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ لِاسْتِحَالَتِهِ إِلَى الطِّيبِيَّةِ.

وَكَذَا الْعَنْبَرُ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى، قَالَ فِي خِزَانَةِ الرِّوَايَاتِ نَاقِلًا عَنْ جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى: الزَّبَادُ طَاهِرٌ، وَفِي الْمِنْهَاجِيَّةِ مِنْ مُخْتَصَرِ الْمَسَائِلِ: الْمِسْكُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَمًا لَكِنَّهُ تَغَيَّرَ، وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ، وَكَذَا الْعَنْبَرُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ- كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ- طَاهِرٌ، وَفِي فَأْرَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي حَيَاةِ الظَّبْيَةِ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ الطَّهَارَةُ كَالْجَنِينِ، فَإِنِ انْفَصَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا فَنَجِسَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ كَاللَّبَنِ، وَطَاهِرَةٌ فِي وَجْهٍ كَالْبَيْضِ الْمُتَصَلِّبِ.

وَالزَّبَادُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَبَنُ سِنَّوْرٍ بَحْرِيٍّ أَوْ عَرَقُ سِنَّوْرٍ بَرِّيٍّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِ شَعَرٍ فِيهِ عُرْفًا فِي مَأْخُوذٍ جَامِدٍ، وَفِي مَأْخُوذٍ مِنْهُ مَائِعٍ.

وَالْعَنْبَرُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ نَبَاتٌ بَحْرِيٌّ عَلَى الْأَصَحِّ، نَعَمْ مَا يَبْتَلِعُهُ مِنْهُ حَيَوَانُ الْبَحْرِ ثُمَّ يُلْقِيهِ نَجِسٌ لِأَنَّهُ مِنَ الْقَيْءِ وَيُعْرَفُ بِسَوَادِهِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي طَهَارَةِ الْمِسْكِ وَحِلِّ أَكْلِهِ، وَهُوَ الدَّمُ الْمُنْعَقِدُ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ كَالْغَزَالِ وَاسْتَحَالَ إِلَى صَلَاحٍ، وَكَذَا فَأْرَتُهُ وَهِيَ وِعَاؤُهُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَخْصُوصِ، لِأَنَّه- عليه الصلاة والسلام- تَطَيَّبَ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا مَا تَطَيَّبَ بِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمِسْكُ وَفَأْرَتُهُ طَاهِرَانِ وَهُوَ سُرَّةُ الْغَزَالِ، وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ عَرَقُ سِنَّوْرٍ بَرِّيٍّ، وَفِي الْإِقْنَاعِ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ عَرَقُ حَيَوَانٍ أَكْبَرَ مِنَ الْهِرِّ، وَالْعَنْبَرُ طَاهِرٌ.

ي- الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ:

26- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْلِ وَعَذِرَةِ الْآدَمِيِّ وَبَوْلِ وَرَوْثِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْمَنِيِّ».

وَاخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ بَوْلِ وَرَوْثِ الْحَيَوَانِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَكَذَا خُرْءُ الطَّيْرِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى طَهَارَتِهِمَا فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ أَوْ بَعْدَ ذَكَاتِهِ لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ فَإِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَلِصَلَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَوْلُ وَرَوْثُ الْحَيَوَانِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ نَجِسًا لَتَنَجَّسَتِ الْحُبُوبُ الَّتِي تَدُوسُهَا الْبَقَرُ فَإِنَّهَا لَا تَسْلَمُ مِنْ أَبْوَالِهَا.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً، أَمَّا رَوْثُهُ فَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَجَاسَتُهُ خَفِيفَةٌ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْخَفِيفَةِ وَقِلَّةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْغَلِيظَةِ، لَا فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْهِيرِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْغِلَظِ وَالْخِفَّةِ.

وَأَمَّا خُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ فَهُوَ نَجِسٌ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَخُرْءُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ طَاهِرٌ إِلاَّ الدَّجَاجَ وَالْبَطَّ الْأَهْلِيَّ وَالْأَوِزَّ فَنَجَاسَةُ خُرْئِهَا غَلِيظَةٌ لِنَتْنِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَوْلَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ نَجِسٌ وَكَذَلِكَ رَوْثُهُ، وَكَذَا ذَرْقُ الطَّيْرِ، لِمَا وَرَدَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا جِيءَ لَهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ لِيَسْتَنْجِيَ بِهَا أَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَدَّ الرَّوْثَةَ وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ» وَالرِّكْسُ النَّجَسُ.

وَأَمَّا أَمْرُهُ- صلى الله عليه وسلم- الْعُرَنِيِّينَ بِشُرْبِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ فَكَانَ لِلتَّدَاوِي، وَالتَّدَاوِي بِالنَّجِسِ جَائِزٌ عِنْدَ فَقْدِ الطَّاهِرِ إِلاَّ خَالِصَ الْخَمْرِ، وَلِأَنَّ أَبْوَالَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَأَرْوَاثَهَا مِمَّا اسْتَحَالَ بِالْبَاطِنِ، وَكُلُّ مَا اسْتَحَالَ بِالْبَاطِنِ نَجِسٌ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (ذَرْق ف 3- 5، رَوْث ف 2- 3).

ك- الْمَنِيُّ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ:

27- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الْمَذْيِ، لِلْأَمْرِ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْهُ وَالْوُضُوءِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ» وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ سَبِيلِ الْحَدَثِ لَا يَخْلُقُ مِنْهُ طَاهِرٌ فَهُوَ كَالْبَوْلِ.

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الْوَدْيِ كَذَلِكَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ أَوْ طَهَارَتِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَذْي ف 4، وَمَنِيّ ف 5، وَوَدْي).

ل- رُطُوبَةُ الْفَرْجِ:

28- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ الدَّاخِلِيِّ كَسَائِرِ رُطُوبَاتِ الْبَدَنِ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى نَجَاسَتِهِ.

أَمَّا رُطُوبَةُ الْفَرْجِ الْخَارِجِيِّ فَطَاهِرَةٌ اتِّفَاقًا.

وَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَحَلِّهَا فَلَا عِبْرَةَ بِهَا بِاتِّفَاقٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ مِنْ غَيْرِ مُبَاحِ الْأَكْلِ نَجِسَةٌ، أَمَّا مِنْ مُبَاحِ الْأَكْلِ فَطَاهِرَةٌ مَا لَمْ يَتَغَذَّ بِنَجِسٍ، وَرُطُوبَةُ فَرْجِ الْآدَمِيِّ نَجِسَةٌ عَلَى الرَّاجِحِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ مِنَ الْآدَمِيِّ أَوْ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ وَلَوْ غَيْرِ مَأْكُولٍ لَيْسَتْ بِنَجِسٍ فِي الْأَصَحِّ بَلْ طَاهِرَةٌ لِأَنَّهَا كَعَرَقِهِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّهَا نَجِسَةٌ، لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ يَنْجُسُ بِهَا ذَكَرُ الْمُجَامِعِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ رُطُوبَةَ فَرْجِ الْمَرْأَةِ طَاهِرَةٌ لِلْحُكْمِ بِطَهَارَةِ مَنِيِّهَا، فَلَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِهَا لَزِمَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ مَنِيِّهَا.

وَقَالُوا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ- اخْتَارَهَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِفَادَاتِ- إِنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ نَجِسَةٌ، وَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَصَابَ مِنْهُ فِي حَالِ الْجِمَاعِ نَجِسٌ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْمَذْيِ.

حُكْمُ الْخَمْرِ:

29- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ، لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا وَتَسْمِيَتِهَا رِجْسًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: الشَّيْءُ الْقَذِرُ أَوِ النَّتِنُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ وَالصَّنْعَانِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ إِلَى طَهَارَتِهَا تَمَسُّكًا بِالْأَصْلِ، وَحَمَلُوا الرِّجْسَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْقَذَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَشْرِبَة ف 30- 32 وَمَا بَعْدَهَا، وَتَخْلِيل ف 13- 14).

مَا تُلَاقِيهِ النَّجَاسَةُ:

أ- تَلَاقِي الْجَافَّيْنِ أَوِ الطَّاهِرِ الْجَافِّ بِالنَّجِسِ الْمَائِعِ أَوِ الْمُبْتَلِّ وَعَكْسِهِ:

30- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ ابْتَلَّ فِرَاشٌ أَوْ تُرَابٌ نَجِسَانِ مِنْ عَرَقِ نَائِمٍ أَوْ بَلَلِ قَدَمٍ وَظَهَرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ وَالْقَدَمِ تَنَجَّسَا وَإِلاَّ فَلَا، كَمَا لَا يَنْجُسُ ثَوْبٌ جَافٌّ طَاهِرٌ لُفَّ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ رَطْبٍ لَا يَنْعَصِرُ الرَّطْبُ لَوْ عُصِرَ، وَلَا يَنْجُسُ ثَوْبٌ رَطْبٌ بِنَشْرِهِ عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ يَابِسَةٍ فَتَنَدَّتْ مِنْهُ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهَا فِيهِ، وَلَا بِرِيحٍ هَبَّتْ عَلَى نَجَاسَةٍ فَأَصَابَتِ الثَّوْبَ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهَا فِيهِ أَيِ الثَّوْبِ، وَقِيلَ: يَنْجُسُ إِنْ كَانَ مَبْلُولًا لِاتِّصَالِهَا بِهِ.

وَلَوْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ وَمَقْعَدَتُهُ مَبْلُولَةٌ فَالصَّحِيحُ طَهَارَةُ الرِّيحِ الْخَارِجَةِ فَلَا تُنَجِّسُ الثِّيَابَ الْمُبْتَلَّةَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ زَالَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ عَنِ الْمَحَلِّ بِغَيْرِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ مِنْ مُضَافٍ وَبَقِيَ بَلَلُهُ، فَلَاقَى جَافًّا، أَوْ جَفَّ وَلَاقَى مَبْلُولًا لَمْ يَتَنَجَّسْ مُلَاقِي مَحَلِّهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، إِذْ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْحُكْمُ وَهُوَ لَا يَنْتَقِلُ، وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُضَافَ قَدْ يَتَنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ فَالْبَاقِي نَجِسٌ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا لَاقَى الْمَحَلُّ الْمَبْلُولُ جَافًّا، أَوْ لَاقَى الْمَحَلَّ الْجَافَّ شَيْءٌ مَبْلُولٌ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْأَعْيَانَ الطَّاهِرَةَ إِذَا لَاقَاهَا شَيْءٌ نَجِسٌ وَأَحَدُهُمَا رَطْبٌ وَالْآخَرُ يَابِسٌ فَيُنَجَّسُ الطَّاهِرُ بِمُلَاقَاتِهَا.

ب- وُقُوعُ النَّجَاسَةِ فِي مَائِعٍ أَوْ جَامِدٍ:

31- إِذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي سَمْنٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهَا تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُنْتَفَعُ بِالْبَاقِي، لِمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ» أَمَّا إِذَا كَانَ السَّمْنُ وَنَحْوُهُ مَائِعًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمَائِعَ كَالْمَاءِ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ بِمَا يَنْجُسُ بِهِ الْمَاءُ.

32- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ فِي إِمْكَانِ تَطْهِيرِ الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ.لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ.

وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَائِع ف 3- 4، وَطَهَارَة ف 15).

ج- الْمِيَاهُ الَّتِي تُلَاقِي النَّجَاسَةَ:

33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَغَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ كَانَ نَجِسًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ لِلْمَاءِ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً أَنَّهُ نَجِسٌ مَا دَامَ كَذَلِكَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ عَلَى أَقْوَالٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه ف 17- 23).

د- الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ مَحَلِّ التَّطْهِيرِ:

34- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَاءِ الَّذِي أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوْ خَبَثٌ مِنْ حَيْثُ بَقَاؤُهُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ أَوْ فَقْدُهُ الطَّهُورِيَّةَ، وَمِنْ حَيْثُ نَجَاسَتُهُ أَوْ عَدَمُ نَجَاسَتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه ف9- 12).

هـ- تَنَجُّسُ الْآبَارِ:

35- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْبِئْرَ الصَّغِيرَةَ- وَهِيَ مَا دُونَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةٍ- يَنْجُسُ مَاؤُهَا بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ فِيهَا، وَإِنْ قَلَّتِ النَّجَاسَةُ مِنْ غَيْرِ الْأَرْوَاثِ كَقَطْرَةِ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ، وَلِكَيْ تَطْهُرَ يُنْزَحُ مَاؤُهَا كَمَا تُنْزَحُ بِوُقُوعِ خِنْزِيرٍ فِيهَا وَلَوْ خَرَجَ حَيًّا وَلَمْ يُصِبْ فَمُهُ الْمَاءَ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ.

وَتُنْزَحُ بِمَوْتِ كَلْبٍ فِيهَا، فَإِذَا لَمْ يَمُتْ وَخَرَجَ حَيًّا وَلَمْ يَصِلْ فَمُهُ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ نَجِسِ الْعَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ.

كَمَا تُنْزَحُ أَيْضًا بِمَوْتِ شَاةٍ أَوْ مَوْتِ آدَمِيٍّ فِيهَا، لِنَزْحِ مَاءِ زَمْزَمَ بِمَوْتِ زِنْجِيٍّ وَأَمْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنهم- بِهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.

وَتُنْزَحُ بِانْتِفَاخِ حَيَوَانٍ وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا لِانْتِشَارِ النَّجَاسَةِ، فَلَوْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا نُزِحَ مِنْهَا وُجُوبًا مِائَتَا دَلْوٍ وَسَطٍ، وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي تِلْكَ الْبِئْرِ، وَقَدَّرَ مُحَمَّدٌ- رحمه الله- الْوَاجِبَ بِمِائَتَيْ دَلْوٍ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا، وَأَفْتَى بِهِ لَمَّا شَاهَدَ آبَارَ بَغْدَادَ كَثِيرَةَ الْمِيَاهِ لِمُجَاوَرَةِ دِجْلَةَ.

وَإِنْ مَاتَ فِي الْبِئْرِ دَجَاجَةٌ أَوْ هِرَّةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا فِي الْجُثَّةِ وَلَمْ يَنْتَفِخْ لَزِمَ نَزْحُ أَرْبَعِينَ دَلْوًا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْوَاقِعِ مِنْهَا، رُوِيَ التَّقْدِيرُ بِالْأَرْبَعِينَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- فِي الدَّجَاجَةِ، وَمَا قَارَبَهَا يُعْطَى حُكْمَهَا، وَتُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ إِلَى خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ.

وَإِنْ مَاتَ فِيهَا فَأْرَةٌ أَوْ نَحْوُهَا كَعُصْفُورٍ وَلَمْ يَنْتَفِخْ لَزِمَ نَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ، لِقَوْلِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- فِي فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ وَأُخْرِجَتْ مِنْ سَاعَتِهَا: يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا، وَتُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ إِلَى ثَلَاثِينَ لِاحْتِمَالِ زِيَادَةِ الدَّلْوِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَثَرِ عَلَى مَا قُدِّرَ بِهِ مِنَ الْوَسَطِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَنْزُوحُ طَهَارَةً لِلْبِئْرِ وَالدَّلْوِ وَالرِّشَا وَالْبَكَرَةِ وَيَدِ الْمُسْتَسْقَى، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ، لِأَنَّ نَجَاسَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ، فَتَكُونُ طَهَارَتُهَا بِطَهَارَتِهِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ، كَطَهَارَةِ دَنِّ الْخَمْرِ بِتَخَلُّلِهَا، وَطَهَارَةِ عُرْوَةِ الْأَبْرِيقِ بِطَهَارَةِ الْيَدِ إِذَا أَخَذَهَا كُلَّمَا غَسَلَ يَدَهُ.

وَلَا تُنَجَّسُ الْبِئْرُ بِالْبَعْرِ وَهُوَ لِلْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَالرَّوْثِ- لِلْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَالْخِثْيِ لِلْبَقَرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ آبَارِ الْأَمْصَارِ وَالْفَلَوَاتِ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِشُمُولِ الضَّرُورَةِ، فَلَا تُنَجَّسُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، وَهُوَ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاظِرُ أَوْ أَنْ لَا يَخْلُوَ دَلْوٌ عَنْ بَعْرَةٍ وَنَحْوِهَا كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَالْقَلِيلُ مَا يَسْتَقِلُّهُ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ.

وَلَا يُنَجَّسُ الْمَاءُ بِخُرْءِ حَمَامٍ وَعُصْفُورٍ، وَلَا بِمَوْتِ مَا لَا دَمَ لَهُ فِيهِ كَسَمَكٍ وَضُفْدَعٍ، وَلَا بِوُقُوعِ آدَمِيٍّ وَمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِذَا خَرَجَ حَيًّا وَلَمْ يَكُنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةً، وَلَا بِوُقُوعِ بَغْلٍ وَحِمَارٍ وَسِبَاعِ طَيْرٍ وَوَحْشٍ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنْ وَصَلَ لُعَابُ الْوَاقِعِ إِلَى الْمَاءِ أَخَذَ حُكْمَهُ، وَوُجُودُ حَيَوَانٍ مَيِّتٍ فِيهَا يُنَجِّسُهَا مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمُنْتَفِخٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ وَلَيَالِيهَا إِنْ لَمْ يُعْلَمْ وَقْتُ وُقُوعِهِ.

36- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا مَاتَ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ فِي بِئْرٍ فَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا وَجَبَ نَزْحُهُ حَتَّى يَزُولَ التَّغَيُّرُ وَيَعُودَ كَهَيْئَتِهِ أَوَّلًا طَاهِرًا مُطَهِّرًا، فَإِنْ زَالَ بِنَفْسِهِ فَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ إِلَى أَصْلِهِ، فَيَصِيرُ طَهُورًا خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَ الْبُنَانِيُّ: الْأَرْجَحُ أَنَّهُ يَطْهُرُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَالْأَجْهُورِيُّ، وَقَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: لَا يَطْهُرُ، وَرَجَّحَ ابْنُ رُشْدٍ قَوْلَ ابْنِ وَهْبٍ.وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ نُدِبَ النَّزْحُ بِقَدْرِ الْمَاءِ قِلَّةً وَكَثْرَةً، وَالْحَيَوَانِ صِغَرًا وَكِبَرًا، وَأَمَّا إِنْ وَقَعَ حَيًّا أَوْ طُرِقَ مَيِّتًا وَأُخْرِجَ فَلَا نَزْحَ وَلَا كَرَاهَةَ.

وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: إِنْ مَاتَ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ بِمَاءٍ لَا مَادَّةَ لَهُ كَالْجُبِّ لَا يُشْرَبُ مِنْهَا وَلَا يُتَوَضَّأُ، وَيُنْزَحُ الْمَاءُ كُلُّهُ، بِخِلَافِ مَا لَهُ مَادَّةٌ.

وَفِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ فِي ثِيَابٍ أَصَابَهَا مَاءُ بِئْرٍ وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَمَاتَتْ وَتَسَلَّخَتْ: يُغْسَلُ الثَّوْبُ وَتُعَادُ الصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ: وَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَوِ الْكَثِيرِ لَهُ مَادَّةٌ أَوْ لَا كَالصَّهَارِيجِ- وَكَانَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ أَيْ دَمٌ يَجْرِي مِنْهُ إِذَا جُرِحَ- فَإِنَّهُ يُنْدَبُ النَّزْحُ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَيَوَانِ مَنْ كِبَرٍ أَوْ صِغَرٍ، وَبِقَدْرِ الْمَاءِ مِنْ قِلَّةٍ وَكَثْرَةٍ، إِلَى ظَنِّ زَوَالِ الْفَضَلَاتِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ فِيهِ حَالَ خُرُوجِ رُوحِهِ فِي الْمَاءِ.

وَيُنْقِصُ النَّازِحُ الدَّلْوَ لِئَلاَّ تَطْفُوَ الدُّهْنِيَّةُ فَتَعُودَ لِلْمَاءِ ثَانِيًا، وَالْمَدَارُ عَلَى ظَنِّ زَوَالِ الْفَضَلَاتِ.

فَلَوْ أُخْرِجَ الْحَيَوَانُ مِنَ الْمَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَوْ وَقَعَ فِيهِ مَيِّتًا، أَوْ كَانَ جَارِيًا أَوْ مُسْتَبْحِرًا كَغَدِيرٍ عَظِيمٍ جِدًّا، أَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ بَحْرِيًّا كَحُوتٍ، أَوْ بَرِّيًّا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَعَقْرَبٍ وَذُبَابٍ، لَمْ يُنْدَبِ النَّزْحُ، فَلَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا لَا يُكْرَهُ بَعْدَ النَّزْحِ.هَذَا مَا لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَاءُ بِالْحَيَوَانِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رِيحًا تَنَجَّسَ لِأَنَّ مَيْتَتَهُ نَجِسَةٌ. 37- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَاءَ الْبِئْرِ كَغَيْرِهِ فِي قَبُولِ النَّجَاسَةِ وَزَوَالِهَا، فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَتَنَجَّسَ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْزَحَ لِيَنْبُعَ الْمَاءُ الطَّهُورُ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ نُزِحَ فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى نَجِسًا، وَقَدْ تَنْجُسُ جُدْرَانُ الْبِئْرِ أَيْضًا بِالنَّزْحِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لِيَزْدَادَ فَيَبْلُغَ حَدَّ الْكَثْرَةِ.

وَإِنْ كَانَ نَبْعُهَا قَلِيلًا لَا تُتَوَقَّعُ كَثْرَتُهُ صُبَّ فِيهَا مَاءٌ لِيَبْلُغَ الْكَثْرَةَ وَيَزُولَ التَّغَيُّرُ إِنْ كَانَ تَغَيَّرَ.

وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا طَاهِرًا وَتَفَتَّتَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا فَقَدْ يَبْقَى عَلَى طَهُورِيَّتِهِ لِكَثْرَتِهِ وَعَدَمِ التَّغَيُّرِ، لَكِنْ يَتَعَذَّرُ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَنْزَحُ دَلْوًا إِلاَّ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَقَى الْمَاءُ كُلُّهُ لِيَخْرُجَ الشَّعْرُ مِنْهُ.

فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فَوَّارَةً وَتَعَذَّرَ نَزْحُ الْجَمِيعِ نَزَحَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الشَّعْرَ خَرَجَ كُلُّهُ مَعَهُ، فَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبِئْرِ وَمَا يَحْدُثُ طَهُورٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَيْقِنِ النَّجَاسَةِ وَلَا مَظْنُونِهَا، وَلَا يَضُرُّ احْتِمَالُ بَقَاءِ الشَّعْرِ.

فَإِنْ تَحَقَّقَ شَعْرًا بَعْدَ ذَلِكَ حَكَمَ بِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ النَّزْحِ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ دَلْوٍ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ لَكِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ قَوْلَانِ.

38- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدْ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ بِئْرٍ بَالَ فِيهَا إِنْسَانٌ؟ قَالَ: تُنْزَحُ حَتَّى تَغْلِبَهُمْ، قُلْتُ: مَا حَدُّهُ؟ قَالَ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَزْحِهَا، وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْغَدِيرُ يُبَالُ فِيهِ، قَالَ: الْغَدِيرُ أَسْهَلُ وَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَقَالَ فِي الْبِئْرِ يَكُونُ لَهَا مَادَّةٌ: هُوَ وَاقِفٌ لَا يَجْرِي لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجْرِي، يَعْنِي أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِالْبَوْلِ فِيهِ إِذَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَوْلِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ بِئْرٍ غَزِيرَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ خِرْقَةٌ أَصَابَهَا بَوْلٌ.قَالَ: تُنْزَحُ، وَقَالَ فِي قَطْرَةِ بَوْلٍ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ: لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ النَّجَاسَاتِ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَإِذَا كَانَتْ بِئْرُ الْمَاءِ مُلَاصِقَةً لِبِئْرٍ فِيهَا بَوْلٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ وَشَكَّ فِي وُصُولِهَا إِلَى الْمَاءِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ، قَالَ أَحْمَدُ: يَكُونُ بَيْنَ الْبِئْرِ وَالْبَالُوعَةِ مَا لَمْ يُغَيِّرْ طَعْمًا وَلَا رِيحًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ أَحَبَّ عِلْمَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَلْيَطْرَحْ فِي الْبِئْرِ النَّجِسَةِ نِفْطًا، فَإِنْ وَجَدَ رَائِحَتَهُ فِي الْمَاءِ عَلِمَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ وَإِلاَّ فَلَا.

وَإِذَا نَزَحَ مَاءَ الْبِئْرِ النَّجِسَ فَنَبَعَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَاءٌ أَوْ صُبَّ فِيهِ فَهُوَ طَاهِرٌ، لِأَنَّ أَرْضَ الْبِئْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ الَّتِي تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِمُرُورِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَجُسَتْ جَوَانِبُ الْبِئْرِ فَهَلْ يَجِبُ غَسْلُهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: يَجِبُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَأَشْبَهَ رَأْسَ الْبِئْرِ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجِبُ لِلْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِذَلِكَ فَعُفِيَ عَنْهُ كَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ وَأَسْفَلِ الْحِذَاءِ.

صَلَاةُ حَامِلِ النَّجَاسَةِ وَمَنْ تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ:

39- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ صَلَّى حَامِلًا بَيْضَةً مَذِرَةً صَارَ مُحُّهَا دَمًا جَازَ لِأَنَّهُ فِي مَعْدِنِهِ، وَالشَّيْءُ مَا دَامَ فِي مَعْدِنِهِ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَمَلَ قَارُورَةً مَضْمُومَةً فِيهَا بَوْلٌ فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَعْدِنِهِ.

وَلَوْ أَصَابَ رَأْسُهُ خَيْمَةً نَجِسَةً تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمُصَلِّي فِي صَلَاةٍ وَلَوْ نَفْلًا مُبْطِلٌ لَهَا وَيَقْطَعُهَا- وَلَوْ مَأْمُومًا- إِنِ اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا وَلَمْ تَكُنْ مِمَّا يُعْفَى عَنْهُ، بِشَرْطِ أَنْ يَتَّسِعَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ اخْتِيَارِيًّا أَوْ ضَرُورِيًّا بِأَنْ يَبْقَى مِنْهُ مَا يَسَعُ وَلَوْ رَكْعَةً، وَأَنْ يَجِدَ لَوْ قَطَعَ مَا يُزِيلُهَا بِهِ أَوْ ثَوْبًا آخَرَ يَلْبَسُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَا فِيهِ النَّجَاسَةُ مَحْمُولًا لِغَيْرِهِ وَإِلاَّ فَلَا يَقْطَعُ لِعَدَمِ بُطْلَانِهَا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ تَعَلَّقَ صَبِيٌّ نَجِسُ الثِّيَابِ أَوِ الْبَدَنِ بِمُصَلٍّ- وَالصَّبِيُّ مُسْتَقِرٌّ بِالْأَرْضِ- فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ عَلَى الظَّاهِرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ حَمَلَ حَيَوَانًا طَاهِرًا فِي صَلَاتِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا» وَلِأَنَّ مَا فِي الْحَيَوَانِ مِنَ النَّجَاسَةِ فِي مَعْدِنِ النَّجَاسَةِ فَهُوَ كَالنَّجَاسَةِ الَّتِي فِي جَوْفِ الْمُصَلِّي، وَإِنْ حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ وَقَدْ سَدَّ رَأْسَهَا فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْهَا كَمَا لَوْ حَمَلَ حَيَوَانًا طَاهِرًا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حَمَلَ نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا فَأَشْبَهَ مَا إِذَا حَمَلَ النَّجَاسَةَ فِي كُمِّهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ مَسْدُودَةٌ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَمَلَهَا فِي كُمِّهِ.

وَقَالُوا إِذَا سَقَطَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ أَوْ أَزَالَهَا فِي الْحَالِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ فِي نَعْلَيْهِ خَلَعَهُمَا وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ» وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِ زَمَنِهَا كَكَشْفِ الْعَوْرَةِ.

تَوَقِّي النَّجَاسَاتِ:

40- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجِسٍ، كَمَا لَا يَجُوزُ إِلْقَاؤُهُ فِي نَجَاسَةٍ أَوْ تَلْطِيخُهُ بِنَجِسٍ.

وَلَا يَجُوزُ كَذَلِكَ إِلْقَاءُ شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَوِ الْحَدِيثِ أَوِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فِي نَجَاسَةٍ أَوْ تَلْطِيخُهُ بِنَجِسٍ.

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ عَنِ النَّجَاسَاتِ، فَلَا يَجُوزُ إِدْخَالُ النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ دُخُولُ مَنْ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ نَجَاسَةٌ، وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِخَشْيَةِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ بِنَجِسٍ أَوْ مُتَنَجِّسٍ.

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ تَوَقِّي النَّجَاسَةِ فِي الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْمَكَانِ عِنْدَ الصَّلَاةِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوَقِّي الْمَلَاعِنِ الثَّلَاثِ، وَهِيَ الْبَوْلُ وَالْبَرَازُ فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ مَوْرِدِ مَاءٍ أَوْ ظِلٍّ يُنْتَفَعُ بِهِ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ» وَكَذَلِكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ وَفِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ تَطْهِيرُ النَّجَاسَاتِ:

41- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَاتِ وَاجِبٌ مِنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ: «تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ، وَتُصَلِّي فِيهِ»

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (طَهَارَة ف 7 وَمَا بَعْدَهَا).

تَطْهِيرُ الدُّبَّاءِ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ الْخَمْرُ:

42- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا انْتُبِذَ فِي الدُّبَّاءِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْآنِيَةِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَمْرِ فَلَا إِشْكَالَ فِي حِلِّهِ وَطَهَارَتِهِ.وَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِيهَا الْخَمْرُ ثُمَّ انْتُبِذَ فِيهَا يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْعَتِيقِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ غَسْلِ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ.

وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُمْلأَُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إِذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


62-موسوعة الفقه الكويتية (نجاسة 3)

نَجَاسَةٌ -3

بَيْعُ النَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ:

43- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ النَّجِسِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي هَذَا قَالُوا: إِنَّ بَيْعَ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِهَانَةً لَهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَجَازُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ لِلْخَرَزِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ

كَمَا لَمْ يُجِيزُوا بَيْعَ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ لِأَنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ بِالدِّبَاغِ، أَمَّا قَبْلَ الدِّبَاغِ فَهِيَ نَجِسَةٌ

وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسَّبُعِ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَالًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ»

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا».

وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمُوجِبِ الْبَيْعَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مُحْتَاجُونَ إِلَى مُبَاشَرَتِهَا كَالْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ خَاصَّةً فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَصِيرِ وَعَقْدَهُمْ عَلَى الْخِنْزِيرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الشَّاةِ، لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ- رضي الله عنه-: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَّاتِ إِذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْأَدْوِيَةِ وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ فَلَا يَجُوزُ.

وَيَجُوزُ بَيْعُ الدُّهْنِ النَّجِسِ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِلِاسْتِصْبَاحِ فَهُوَ كَالسِّرْقِينِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ، وَأَمَّا الْعَذِرَةُ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا إِلاَّ إِذَا خُلِطَتْ بِالتُّرَابِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إِلاَّ تَبَعًا لِلتُّرَابِ الْمَخْلُوطِ، بِخِلَافِ الدَّمِ يُمْنَعُ مُطْلَقًا

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ لَدَيْهِمْ إِلَى أَنَّ الْمُتَنَجِّسَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمَا لَا يَقْبَلُهُ كَالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ

وَفِي أَسْهَلِ الْمَدَارِكِ عَنِ الْخَرَشِيِّ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ وَالْمَأْخُوذِ مِنَ الْحَيِّ نَجِسٌ، وَلَوْ دُبِغَ عَلَى الْمَشْهُورِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَلَا يُؤَثِّرُ دَبْغُهُ طَهَارَةً فِي ظَاهِرِهِ وَلَا بَاطِنِهِ

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ طَهَارَةُ عَيْنِهِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ نَجِسِ الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ أَمْ لَا كَالسِّرْجِينِ وَالْكَلْبِ وَلَوْ مُعَلَّمًا وَالْخَمْرِ وَلَوْ مُحْتَرَمَةً، لِخَبَرِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم-: «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ» وَقَالَ كَذَلِكَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ» وَقِيسَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهُ.

وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَالصَّبْغِ وَالْآجُرِّ الْمَعْجُونِ بِالزِّبْلِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَجِسِ الْعَيْنِ، أَمَّا مَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِإِمْكَانِ طُهْرِهِ

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: وَفْقُ ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ تَحْرِيمُ بَيْعِ النَّجِسِ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى فِي الزَّيْتِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ: لُتُّوهُ بِالسَّوِيقِ وَبِيعُوهُ وَلَا تَبِيعُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَبَيِّنُوهُ.

وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً؛ أَنَّهُ يُبَاعُ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ بِنَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ وَيَسْتَبِيحُونَ أَكْلَهُ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ وَلَا يَجُوزُ لَنَا بَيْعُهُ لَهُمْ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ

الِانْتِفَاعُ بِالنَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ دُونَ تَطْهِيرٍ:

44- ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْفَتْحِ يَقُولُ وَهُوَ بِمَكَّةَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ.فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا.هُوَ حَرَامٌ»

كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ وَلِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِمُتَنَجِّسٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ كَزَيْتٍ وَلَبَنٍ وَخَلٍّ وَنَبِيذٍ، أَمَّا النَّجِسُ وَهُوَ مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً كَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، إِلاَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ الدَّبْغِ فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ، أَوْ مَيْتَةً تُطْرَحُ لِكِلَابٍ إِذْ طَرْحُ الْمَيْتَةِ لِلْكِلَابِ فِيهِ انْتِفَاعٌ لِتَوْفِيرِ مَا كَانَتْ تَأْكُلُهُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِهَا، أَوْ شَحْمَ مَيْتَةٍ لِدُهْنِ عِجْلَةٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ عَظْمَ مَيْتَةٍ لِوَقُودٍ عَلَى طُوبٍ أَوْ حِجَارَةٍ لِتَصِيرَ جِيرًا، أَوْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ كَإِسَاغَةِ غُصَّةٍ بِخَمْرٍ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ، وَكَأَكْلِ مَيْتَةٍ لِمُضْطَرٍّ، أَوْ جَعْلَ عَذِرَةٍ بِمَاءٍ لِسَقْيِ الزَّرْعِ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لَا فِيهِ، فَلَا يُوقَدُ بِزَيْتٍ تَنَجَّسَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمِصْبَاحُ خَارِجَهُ وَالضَّوْءُ فِيهِ فَيَجُوزُ، وَلَا يُبْنَى بِالْمُتَنَجِّسِ فَإِنْ بُنِيَ بِهِ لَا يُهْدَمُ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَفِي غَيْرِ أَكْلِ وَشُرْبِ آدَمِيٍّ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْآدَمِيِّ أَكْلُ وَشُرْبُ الْمُتَنَجِّسِ لِتَنْجِيسِهِ جَوْفَهُ وَعَجْزِهِ عَنْ تَطْهِيرِهِ، وَلَا يُدْهَنُ بِهِ، إِلاَّ أَنَّ الِادِّهَانَ بِهِ مَكْرُوهٌ عَلَى الرَّاجِحِ إِنْ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُ بِهِ النَّجَاسَةَ، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الْمَسْجِدِ وَأَكْلِ الْآدَمِيِّ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ وَيُعْمَلَ بِهِ صَابُونٌ، ثُمَّ تُغْسَلَ الثِّيَابُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْغَسْلِ بِهِ، وَيُدْهَنَ بِهِ حَبْلٌ وَعَجَلَةٌ وَسَاقِيَةٌ وَيُسْقَى بِهِ وَيُطْعَمَ لِلدَّوَابِّ

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ كَاسْتِعْمَالِ الْإِنَاءِ مِنَ الْعَظْمِ النَّجِسِ، وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَإِيقَادُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ لَكِنْ يُكْرَهُ

وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الِاسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ إِبَاحَتُهُ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَمَرَ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، لِحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ»

وَفِي إِبَاحَةِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ قَالُوا: إِنَّهُ زَيْتٌ أُمْكِنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَجَازَ كَالطَّاهِرِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْعَجِينِ الَّذِي عُجِنَ بِمَاءٍ مِنْ آبَارِ ثَمُودَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ وَهَذَا الزَّيْتُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ شُحُومِهَا فَيَتَنَاوَلُهُ الْخَبَرُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَصْبَحُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمَسُّهُ وَلَا تَتَعَدَّى نَجَاسَتُهُ إِلَيْهِ.

وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ تُدْهَنَ بِهَا الْجُلُودُ وَقَالَ: يُجْعَلُ مِنْهُ الْأَسْقِيَةُ وَالْقِرَبُ.

وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تُدْهَنُ بِهِ الْجُلُودُ، وَعَجِبَ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا وَقَالَ: إِنَّ فِي هَذَا لَعَجَبًا! ! شَيْءٌ يُلْبَسُ يُطَيَّبُ بِشَيْءٍ فِيهِ مَيْتَةٌ؟! ! فَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ: كُلُّ انْتِفَاعٍ يُفْضِي إِلَى تَنْجِيسِ إِنْسَانٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إِلَى ذَلِكَ جَازَ، فَأَمَّا أَكْلُهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» وَلِأَنَّ النَّجِسَ خَبِيثٌ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْخَبَائِثَ.

فَأَمَّا شُحُومُ الْمَيْتَةِ وَشَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِاسْتِصْبَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَلَا الْجُلُودُ، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ».

وَإِذَا اسْتُصْبِحَ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَدُخَانُهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ جُزْءٌ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تَطْهُرُ، فَإِنْ عَلِقَ بِشَيْءٍ وَكَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ.

اسْتِعْمَالُ مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ:

45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِ مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ الْغَسْلِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِيهَا قَبْلَ الْغَسْلِ جَازَ، وَلَا يَكُونُ آكِلًا وَشَارِبًا حَرَامًا.وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِنَجَاسَةِ الْأَوَانِي، فَأَمَّا إِذَا عَلِمَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَبَ وَيَأْكُلَ مِنْهَا قَبْلَ الْغَسْلِ، وَلَوْ شَرِبَ أَوْ أَكَلَ كَانَ شَارِبًا وَآكِلًا حَرَامًا، وَهُوَ نَظِيرُ سُؤْرِ الدَّجَاجَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مِنْقَارِهَا نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ.

وَالصَّلَاةُ فِي سَرَاوِيلِ الْمُشْرِكِينَ نَظِيرُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ أَوَانِيهِمْ: إِنْ عَلِمَ أَنَّ سَرَاوِيلَهُمْ نَجِسَةٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَلَوْ صَلَّى يَجُوزُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى فَرْضٌ أَوْ نَفْلٌ بِلِبَاسِ كَافِرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، كِتَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، بَاشَرَ جِلْدَهُ أَوْ لَمْ يُبَاشِرْهُ، كَانَ مِمَّا الشَّأْنُ أَنْ تَلْحَقَهُ النَّجَاسَةُ كَالذَّيْلِ وَمَا حَاذَى الْفَرْجَ، أَوْ لَا كَعِمَامَتِهِ وَالشَّالِ، جَدِيدًا أَوْ لَا، إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ أَوْ تُظَنَّ طَهَارَتُهُ، بِخِلَافِ نَسْجِهِ أَيْ مَنْسُوجِ الْكَافِرِ، فَيُصَلَّى فِيهِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهُ أَوْ تُظَنَّ لِحَمْلِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَكَذَا سَائِرُ صَنَائِعِهِ يُحْمَلُ فِيهَا عَلَى الطَّهَارَةِ عِنْدَ الشَّكِّ- وَلَوْ صَنَعَهَا فِي بَيْتِ نَفْسِهِ- خِلَافًا لِابْنِ عَرَفَةَ.

وَيَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى بِمَا يَنَامُ فِيهِ مُصَلٍّ آخَرُ، أَيْ غَيْرُ مُرِيدِ الصَّلَاةِ بِهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهُ بِمَنِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْ يَظُنَّ أَنَّ مَنْ يَنَامُ فِيهِ مُحْتَاطٌ فِي طَهَارَتِهِ، وَإِلاَّ صَلَّى فِيهِ، وَكَذَا يُصَلَّى فِيهِ إِذَا أَخْبَرَ صَاحِبُهُ بِطَهَارَتِهِ إِذَا كَانَ ثِقَةً. وَأَمَّا مَا يُفْرَشُ فِي الْمَضَايِفِ وَالْقِيعَانِ وَالْمَقَاعِدِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّائِمَ عَلَيْهِ يَلْتَفُّ فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ ذَلِكَ الْفَرْشِ، فَإِذَا حَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ مَثَلًا فَإِنَّمَا يُصِيبُ مَا هُوَ مُلْتَفٌّ بِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ عَلَى طَهَارَتِهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتِ النَّجَاسَةُ فِي شَيْءٍ وَالْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ كَثِيَابِ مُدْمِنِي الْخَمْرِ، وَالنَّجَاسَةُ كَالْمَجُوسِ وَالْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَالْجَزَّارِينَ..حُكِمَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَكَذَا مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى كَعَرَقِ الدَّوَابِّ وَلُعَابِهَا..وَنَحْوِ ذَلِكَ

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ثِيَابَ الْكُفَّارِ وَأَوَانِيَهُمْ طَاهِرَةٌ إِنْ جَهِلَ حَالَهَا كَمَا لَوْ عُلِمَتْ طَهَارَتُهَا، وَكَذَا آنِيَةُ مُدْمِنِي الْخَمْرِ وَثِيَابُهُمْ، وَآنِيَةُ مَنْ لَابَسَ النَّجَاسَةَ كَثِيرًا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ.

وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِ الْمُرْضِعَةِ وَالْحَائِضِ وَالصَّبِيِّ وَنَحْوِهِمْ كَمُدْمِنِي الْخَمْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهَا، مَعَ الْكَرَاهَةِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ، مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهَا.

الصَّبْغُ لِلثِّيَابِ وَالِاخْتِضَابُ بِمَادَّةٍ نَجِسَةٍ:

46- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَا خُضِّبَ أَوْ صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ يُطَهَّرُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا، فَلَوِ اخْتَضَبَ الرَّجُلُ أَوِ اخْتَضَبَتِ الْمَرْأَةُ بِالْحِنَّاءِ الْمُتَنَجِّسِ وَغُسِلَ كُلٌّ ثَلَاثًا طَهُرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الِاخْتِضَابُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ فَلَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِزَوَالِ عَيْنِهَا وَطَعْمِهَا وَرِيحِهَا وَخُرُوجِ الْمَاءِ صَافِيًا، وَيُعْفَى عَنْ بَقَاءِ اللَّوْنِ لِأَنَّ الْأَثَرَ الَّذِي يَشُقُّ زَوَالُهُ لَا يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْمَصْبُوغُ بِالدَّمِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَالْمَصْبُوغُ بِالدُّودَةِ غَيْرِ الْمَائِيَّةِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ فَإِنَّهَا مَيْتَةٌ يَتَجَمَّدُ الدَّمُ فِيهَا وَهُوَ نَجِسٌ.

وَأَضَافَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صَفَاءِ غُسَالَةِ ثَوْبٍ صُبِغَ بِنَجِسٍ، وَيَكْفِي غَمْرُ مَا صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ أَوْ صَبُّ مَاءٍ قَلِيلٍ عَلَيْهِ كَذَلِكَ فَيَطْهُرُ هُوَ وَصِبْغُهُ.

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (اخْتِضَاب ف 15).

الِاسْتِجْمَارُ بِالنَّجِسِ:

47- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِجْمَارُ بِالنَّجِسِ وَلَا بِالْمُتَنَجِّسِ، وَمِمَّا اشْتَرَطُوهُ فِيمَا يَصِحُّ الِاسْتِجْمَارُ بِهِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، أَيْ غَيْرَ نَجِسٍ وَلَا مُتَنَجِّسٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِجْمَار ف 28). التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ:

48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلاَّ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَدَاوِي ف 8).

سَقْيُ الزُّرُوعِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ وَالتَّسْمِيدُ بِالنَّجَاسَاتِ:

49- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي سَقْيِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ أَنَّهَا لَا تَتَنَجَّسُ وَلَا تَحْرُمُ. (ر: أَطْعِمَة ف 11).

وَفِي هَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: الزَّرْعُ الْمَسْقِيُّ بِنَجِسٍ طَاهِرٌ وَإِنْ تَنَجَّسَ ظَاهِرُهُ فَيُغْسَلُ مَا أَصَابَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَوْ جَعَلَ الْعَذِرَةَ فِي الْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ جَازَ وَأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ بِالنَّجِسِ كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا نَجِسٌ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَادَاتِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، لَكِنْ يُسْقَى بِهِ الزَّرْعُ وَالْبَهَائِمُ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الزَّرْعُ النَّابِتُ عَلَى السِّرْجِينِ قَالَ عَنْهُ الْأَصْحَابُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ

الْعَيْنِ لَكِنْ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا غُسِلَ طَهُرَ، وَإِذَا سَنْبَلَ فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ وَلَوْ أَكَلَتْ بَهِيمَةٌ حَبًّا ثُمَّ أَلْقَتْهُ صَحِيحًا: فَإِنْ كَانَتْ صَلَابَتُهُ بَاقِيَةً بِحَيْثُ لَوْ زُرِعَ نَبَتَ فَعَيْنُهُ طَاهِرَةٌ، وَيَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ غِذَاءً لَهَا فَمَا تَغَيَّرَ إِلَى فَسَادٍ، فَصَارَ كَمَا لَوِ ابْتَلَعَ نَوَاةً، وَإِنْ زَالَتْ صَلَابَتُهُ بِحَيْثُ لَا يَنْبُتُ فَنَجِسُ الْعَيْنِ.

وَحَرَّمَ الْحَنَابِلَةُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ الَّتِي سُقِيَتَ بِالنَّجِسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كُنَّا نُكْرِي أَرْضَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَدْمِلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ».وَلِأَنَّهَا تَتَغَذَّى بِالنَّجَاسَاتِ وَأَجْزَاؤُهَا تَتَحَلَّلُ فِيهَا، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ.

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُمَ، وَلَا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيلُ فِي بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- يَدْخُلُ أَرْضَهُ بِالْمَعَرَّةِ وَيَقُولُ: مِكْتَلُ عَرَّةٍ مِكْتَلُ بُرٍّ، وَالْعَرَّةُ عَذِرَةُ النَّاسِ.

وَكَرِهُوا لِذَلِكَ أَكْلَ الزُّرُوعِ الَّتِي تُسَمَّدُ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ تُسْقَى بِمُتَنَجِّسٍ مِنْ زَرْعٍ وَثَمَرٍ، وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يُسْقَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ يَسْتَهْلِكُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ، وَنُقِلَ فِي الْإِنْصَافِ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلَا مُحَرَّمٍ، بَلْ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ لَبَنًا، وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّبْصِرَةِ.

وَقَالُوا: إِنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ فَالتَّسْمِيدُ بِهِ لَا يُحَرِّمُ الزَّرْعَ.

إِطْعَامُ الْحَيَوَانَاتِ عَلَفًا نَجِسًا أَوْ مُتَنَجِّسًا:

50- أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِطْعَامَ الْعَلَفِ النَّجِسِ أَوِ الْمُتَنَجِّسِ لِلدَّوَابِّ كَمَا أَجَازُوا سَقْيَ الْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجِسِ لِلْبَهَائِمِ وَالزَّرْعِ.

وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ بِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ فِي التَّدَاوِي بِالِاحْتِقَانِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَالْإِقْطَارِ فِي الْإِحْلِيلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجِسِ حَرَامٌ، فَإِذَا حَرُمَ سَقْيُ الدَّوَابِّ بِالنَّجِسِ حَرُمَ إِطْعَامُهَا بِهِ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ إِطْعَامَ ذَلِكَ لِمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يُجِيزُوا إِطْعَامَهُ لِمَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى الْجَلاَّلَةِ، فَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ خَبَّازٍ خَبَزَ خُبْزًا فَبَاعَ مِنْهُ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْمَاءِ الَّذِي عَجَنَ مِنْهُ فَإِذَا فِيهِ فَأْرَةٌ؟ فَقَالَ: لَا يَبِيعُ الْخُبْزَ مِنْ أَحَدٍ، وَإِنْ بَاعَهُ اسْتَرَدَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ تَصَّدَّقَ بِثَمَنِهِ، وَيُطْعِمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَلَا يُطْعِمُ لِمَا يُؤْكَلُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى الْجَلاَّلَةِ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ إِنَّمَا اشْتُبِهَ عَلَيْهِ، قِيلَ لَهُ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْحَجَّامِ يُطْعِمُ النَّوَاضِحَ، قَالَتْ هَذَا أَشَدُّ عِنْدِي لَا يُطْعِمُ الرَّقِيقَ لَكِنْ يَعْلِفُهُ الْبَهَائِمَ، قِيلَ لَهُ: أَيْنَ الْحُجَّةُ؟ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ صَخْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ قَوْمًا اخْتَبَزُوا مِنْ آبَارِ الَّذِينَ مُسِخُوا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئَارِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَ تَرِدُهَا النَّاقَةُ».

دَرَجَاتُ النَّجَاسَاتِ:

أ- النَّجَاسَاتُ الْمُغَلَّظَةُ:

51- الْمُغَلَّظُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا وَرَدَ فِي نَجَاسَتِهِ نَصٌّ وَلَمْ يُعَارِضْهُ آخَرُ وَلَا حَرَجَ فِي اجْتِنَابِهِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اتُّفِقَ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَا بَلْوَى فِي إِصَابَتِهِ.

وَالْقَدْرُ الَّذِي يَمْنَعُ الصَّلَاةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ أَنْ تَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً إِنْ كَانَ مَائِعًا وَوَزْنًا إِنْ كَانَ كَثِيفًا.

وَقَالُوا: كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّطْهِيرِ فَنَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، كَذَلِكَ الْمَنِيُّ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «إِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسَةً فَافْرُكِيهِ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَنِيَّ» وَلَوْ أَصَابَ الْبَدَنَ وَجَفَّ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَطْهُرُ لِأَنَّ الْبَلْوَى فِيهِ أَعَمُّ، وَالِاكْتِفَاءَ بِالْفَرْكِ لَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْفَرْكِ، فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ حَتَّى إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ يَعُودُ نَجِسًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا.

وَكَذَلِكَ الرَّوْثُ وَالْإِخْثَاءُ وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا ثَبَتَتْ بِنَصٍّ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُه- عليه الصلاة والسلام- فِي الرَّوْثَةِ: «هِيَ رِجْسٌ» وَالْإِخْثَاءُ مِثْلُهُ، وَلِأَنَّهُ اسْتَحَالَ إِلَى نَتَنٍ وَفَسَادٍ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ حَيَوَانٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَصَارَ كَالْآدَمِيِّ. وَكَذَلِكَ بَوْلُ الْفَأْرَةِ وَخُرْؤُهَا، لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ» وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنٌ فِي الْمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ فَيُعْفَى عَنْهُ فِيهِمَا.

وَكَذَلِكَ بَوْلُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلَا أَوْ لَا، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ نَضْحِ بَوْلِ الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ فِيمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ، وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ» فَالنَّضْحُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْغَسْلِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْمَذْيِ: «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ» أَيِ اغْسِلْهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا.

وَالْبَطُّ الْأَهْلِيُّ وَالدَّجَاجُ نَجَاسَتُهُمَا غَلِيظَةٌ بِإِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمُغَلَّظَ مَا نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مُتَوَلِّدٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.

وَالنَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً كَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْمُتَنَجِّسُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْأَصْلِ وَأَصَابَهُ نَجَاسَةٌ.

وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرِهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.

الْأَوَّلُ: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْلِ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.

الثَّانِي: نَجَاسَةُ بِوْلِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.

الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ الْمُتَنَجِّسَاتِ وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ مُنْقِيَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ.

ب- النَّجَاسَاتُ الْمُخَفَّفَةُ:

52- الْمُخَفَّفُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالنَّصِّ. وَالنَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ لَا تَمْنَعُ الصَّلَاةَ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ رُبُعَ الثَّوْبِ، لِأَنَّ لِلرُّبُعِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَحَلْقِهِ، وَثُمَّ قِيلَ: رُبُعُ جَمِيعِ الثَّوْبِ، وَقِيلَ: رُبُعُ مَا أَصَابَهُ كَالْكُمِّ وَالذَّيْلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَعَنْهُ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْمُخْتَارُ الرُّبُعُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى، لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الِاسْتِفْحَاشِ.

وَمِنَ النَّجَسِ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الرَّوْثُ وَالْإِخْثَاءُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فِي الطُّرُقَاتِ وَوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ.

وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبَوْلُ الْفَرَسِ وَدَمُ السَّمَكِ وَلُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَخُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ نَجَاسَتُهُ مُخَفَّفَةٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ، لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُوَ «أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَيْنَةَ أَتَوُا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا- أَيْ لَمْ تُوَافِقْهُمْ- فَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ وَانْتَفَخَتْ بُطُونُهُمْ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَخَرَجُوا وَشَرِبُوا فَصَحُّوا».فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْإِبِلِ نَجِسًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِشُرْبِهِ لِكَوْنِهِ حَرَامًا- وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».

وَيَدْخُلُ فِي الطَّاهِرِ بَوْلُ الْفَرَسِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا، وَدَمُ السَّمَكِ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَبْيَضُّ بِالشَّمْسِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَلِذَا قِيلَ بِخِفَّتِهِ لِذَلِكَ، وَلُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ لِتَعَارُضِ النُّصُوصِ، وَخُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِأَنَّهَا تَزْرِقُ مِنَ الْهَوَاءِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ لِأَنَّهَا لَا تُخَالِطُ النَّاسَ فَلَا بَلْوَى.

وَالْمُخَفَّفَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هِيَ خُصُوصُ بَوْلِ الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَبْلُغِ الْحَوْلَيْنِ وَلَمْ يَتَغَذَّ إِلاَّ بِاللَّبَنِ، بِخِلَافِ الْأُنْثَى وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ بَوْلَ الصَّبِيِّ عِنْدَمَا يُرَادُ تَطْهِيرُ مَحَلِّ إِصَابَتِهِ يُرَشُّ عَلَى مَحَلِّ الْإِصَابَةِ بِمَاءٍ يَعُمُّ النَّجَاسَةَ وَإِنْ لَمْ يَسِلْ، أَمَّا الْأُنْثَى وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ، وَيَتَحَقَّقُ الْغَسْلُ بِالسَّيَلَانِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ».وَأُلْحِقَ الْخُنْثَى بِالْأُنْثَى.

وَلَهُمْ تَقْسِيمٌ ثَالِثٌ وَهُوَ النَّجَاسَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ، وَهِيَ مَا عَدَا النَّجَاسَةَ الْمُغَلَّظَةَ وَالْمُخَفَّفَةَ.

فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا، وَهِيَ مَا تُيُقِّنَ وُجُودُهَا، وَلَا يُدْرَكُ لَهَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رِيحٌ كَفَى فِي تَطْهِيرِهَا جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى مَحَلِّهَا بِحَيْثُ يَسِيلُ زَائِدًا عَلَى النَّضْحِ.

وَإِنْ كَانَتْ عَيْنِيَّةً وَجَبَ بَعْدَ زَوَالِ عَيْنِهَا إِزَالَةُ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَإِنْ عَسُرَ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.

وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ فَيُطَهَّرُ الْمَحَلُّ لِلْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَهُلَ فَيَضُرُّ بَقَاؤُهُ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.

وَفِي الرِّيحِ قَوْلُهُ أَنَّهُ يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ بَقِيَا مَعًا بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ ضَرَّا عَلَى الصَّحِيحِ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَالثَّانِي لَا يَضُرُّ لِاغْتِفَارِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ، فَكَذَا مُجْتَمِعَيْنِ.

وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرُهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْلِ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.

وَالثَّانِي: نَجَاسَةُ بَوْلِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.

الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ النَّجَاسَاتِ، وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ مُنْقِيَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ.

ج ـ النَّجَاسَاتُ الْمَعْفُوُّ عَنْهَا:

53- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ عَنْ أُمُورٍ: فَيُعْفَى قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَزْنًا فِي النَّجَاسَةِ الْكَثِيفَةِ وَقُدِّرَ بِعِشْرِينَ قِيرَاطًا، وَفِي النَّجَاسَةِ الرَّقِيقَةِ أَوِ الْمَائِعَةِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً، وَقُدِّرَ بِمُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِلَ مَفَاصِلِ الْأَصَابِعِ، وَالْمَقْصُودُ بِعَفْوِ الشَّارِعِ عَنْهَا: الْعَفْوُ عَنْ فَسَادِ الصَّلَاةِ، وَإِلاَّ فَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بَاقِيَةٌ إِجْمَاعًا إِنْ بَلَغَتِ الدِّرْهَمَ، وَتَنْزِيهًا إِنْ لَمْ تَبْلُغْ.

وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِ الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَخُرْئِهِمَا فِيمَا تَظْهَرُ فِيهِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، فَيُعْفَى عَنْ خُرْءِ الْفَأْرَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْحِنْطَةِ وَلَمْ يَكْثُرْ حَتَّى يَظْهَرَ أَثَرُهُ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِهَا إِذَا سَقَطَ فِي الْبِئْرِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا ثَوْبًا أَوْ إِنَاءً مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِ الْهِرَّةِ إِذَا وَقَعَ عَلَى نَحْوِ ثَوْبٍ لِظُهُورِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَصَابَ خُرْؤُهَا أَوْ بَوْلُهَا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ.

وَيُعْفَى عَنْ بُخَارِ النَّجِسِ وَغُبَارِ سِرْقِينٍ، فَلَوْ مَرَّتِ الرِّيحُ بِالْعَذِرَاتِ وَأَصَابَتِ الثَّوْبَ لَا يَتَنَجَّسُ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ، وَقِيلَ: يَتَنَجَّسُ إِنْ كَانَ مَبْلُولًا لِاتِّصَالِهَا بِهِ.

وَيُعْفَى عَنْ رَشَاشِ الْبَوْلِ إِذَا كَانَ رَقِيقًا كَرُءُوسِ الْإِبَرِ بِحَيْثُ لَا يُرَى وَلَوْ مَلأَ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْعَدَمِ لِلضَّرُورَةِ، وَمِثْلُهُ الدَّمُ الَّذِي يُصِيبُ الْقَصَّابَ فَيُعْفَى عَنْهُ فِي حَقِّهِ لِلضَّرُورَةِ، فَلَوْ أَصَابَ الرَّشَاشُ ثَوْبًا ثُمَّ وَقَعَ ذَلِكَ الثَّوْبُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ تَنَجَّسَ الْمَاءُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ حِينَئِذٍ، وَمِثْلُ هَذَا أَثَرُ الذُّبَابِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى نَجَاسَةٍ ثُمَّ أَصَابَ ثَوْبَ الْمُصَلِّي فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ. وَيُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ الْغَاسِلَ مِنْ غُسَالَةِ الْمَيِّتِ مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ مَا دَامَ فِي تَغْسِيلِهِ.

وَيُعْفَى عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ وَلَوْ كَانَ مَخْلُوطًا بِنَجَاسَةٍ غَالِبَةٍ مَا لَمْ يُرَ عَيْنُهَا.

وَيُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَمَّا دُونَ رُبُعِ الثَّوْبِ كُلِّهِ أَوْ رُبُعِ الْبَدَنِ كُلِّهِ.

وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْخِفَّةُ فِي غَيْرِ الْمَائِعِ، لِأَنَّ الْمَائِعَ مَتَى أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ تَنَجَّسَ، لَا فَرْقَ بَيْنَ مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ، وَلَا عِبْرَةَ فِيهِ لِوَزْنٍ أَوْ مِسَاحَةٍ.

وَيُعْفَى عَنْ بَعْرِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، مَا لَمْ يَكْثُرْ كَثْرَةً فَاحِشَةً أَوْ يَتَفَتَّتْ فَيَتَلَوَّنَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي خَالَطَهُ.

وَالْقَلِيلُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ مَا يَسْتَقِلُّهُ النَّاظِرُ إِلَيْهِ، وَالْكَثِيرُ عَكْسُهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


63-موسوعة الفقه الكويتية (نسيان 1)

نِسْيَانٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- النِّسْيَانُ لُغَةً: بِكَسْرِ النُّونِ ضِدُّ الذِّكْرِ وَالْحِفْظِ، يُقَالُ: نَسِيَهُ نِسْيَانًا وَنِسَاوَةً وَنَسَاوَةً، وَيَأْتِي بِمَعْنَى التَّرْكِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}.أَيْ تَرَكُوا اللَّهَ فَتَرَكَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ النِّسْيَانُ ضَرْبًا مِنَ التَّرْكِ وَضَعَهُ مَوْضِعَهُ، أَوْ أَنْسَاهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}.وَرَجُلٌ نَسْيَانٌ بِفَتْحِ النُّونِ: كَثِيرُ النِّسْيَانِ لِلشَّيْءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}.أَيْ نَأْمُرُكُمْ بِتَرْكِهَا.

وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ: نَسِيتُ الشَّيْءَ أَنْسَاهُ نِسْيَانًا، مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الشَّيْءِ ذُهُولًا وَغَفْلَةً، وَذَلِكَ خِلَافُ الذِّكْرِ لَهُ، تَقُولُ: تَرَكْتُ رَكْعَةً أَهْمَلْتُهَا ذُهُولًا، وَالثَّانِي: التَّرْكُ مَعَ التَّعَمُّدِ، وَعَلَيْهِ قوله تعالى: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُم.أَيْ لَا تَقْصِدُوا التَّرْكَ وَالْإِهْمَالَ.وَيَأْتِي النِّسْيَانُ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:.أَيْ لَا تَقْصِدُوا التَّرْكَ وَالْإِهْمَالَ.وَيَأْتِي النِّسْيَانُ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:

إِنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أَقْضِيهَا

لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلَا مُنْسِيهَا

أَيْ وَلَا مُؤَخِّرِهَا

وَالنِّسْيَانُ اصْطِلَاحًا: قَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ تَرْكُ الْإِنْسَانِ ضَبْطَ مَا اسْتَوْدَعَ إِمَّا لِضَعْفِ قَلْبِهِ، وَإِمَّا عَنْ غَفْلَةٍ، وَإِمَّا عَنْ قَصْدٍ حَتَّى يَنْحَذِفَ عَنِ الْقَلْبِ ذِكْرُهُ

وَعَرَّفَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ بِأَنَّهُ: عَدَمُ تَذَكُّرِ الشَّيْءِ وَقْتَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْخَطَأُ:

2- الْخَطَأُ لُغَةً: ضِدُّ الصَّوَابِ وَضِدُّ الْعَمْدِ أَيْضًا، وَأَخْطَأَ الطَّرِيقَ: عَدَلَ عَنْهُ، وَأَخْطَأَ الرَّامِي الْغَرَضَ: لَمْ يُصِبْهُ.

وَاصْطِلَاحًا: هُوَ مَا لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ قَصْدٌ وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ عَدَمُ إِصَابَةِ الْمَقْصُودِ فِي كُلٍّ.

أَثَرُ النِّسْيَانِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ:

3- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ النِّسْيَانِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ: فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ حَالَ النِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ عَلَى وَجْهِ الِامْتِثَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّ الِامْتِثَالَ عِبَارَةٌ عَنْ إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الطَّاعَةِ.

وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ نَحْوَهُ وَبِالْفِعْلِ، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا لِعَدَمِ الْفَهْمِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

وَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ وَضَمَانُ الْمَتْلَفَاتِ وَنُفُوذُ الطَّلَاقِ وَغَيْرُهَا مِنْ أَحْكَامِ النَّاسِي، فَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ، بَلْ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ؛ لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي بِهَا يَسْتَعِدُّ لِقُوَّةِ الْفَهْمِ بَعْدَ الْحَالَةِ الَّتِي امْتَنَعَ تَكْلِيفُهُ مِنْ أَجْلِهَا بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: نِسْيَانُ الْأَحْكَامِ بِسَبَبِ قُوَّةِ الشَّهَوَاتِ لَا يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ، كَمَنْ رَأَى امْرَأَةً جَمِيلَةً وَهُوَ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا نَاسِيًا عَنْ تَحْرِيمِ النَّظَرِ

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْعَقْلَ، وَلَا حُكْمَ الْفِعْلِ، وَلَا الْقَوْلَ، وَلَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الْقَصْدَ، إِذِ الْقَصْدُ إِلَى فِعْلٍ بِعَيْنِهِ لَا يُقْصَدُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ.

قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: النِّسْيَانُ سَبَبٌ لِلْعَجْزِ؛ لِأَنَّ النَّاسِيَ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ بِسَبَبِ النِّسْيَانِ، فَيَمْنَعُ وُجُودَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ كَسَائِرِ الْأَعْذَارِ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا، لَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحُقُوقِ، فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْأَهْلِيَّةِ، وَإِيجَابُ الْحُقُوقِ عَلَى النَّاسِي لَا يُؤَدِّي إِلَى إِيقَاعِهِ فِي الْحَرَجِ لِيَمْتَنِعَ الْوُجُوبُ بِهِ، إِذِ الْإِنْسَانُ لَا يَنْسَى عِبَادَاتٍ مُتَوَالِيَةً تَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ غَالِبًا، فَصَارَ فِي حُكْمِ النَّوْمِ، وَلِهَذَا قَرَنَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ نِسْيَانِ الصَّلَاةِ وَالنَّوْمِ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: «إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا».وَفِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يُجْعَلُ النِّسْيَانُ عُذْرًا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مُحْتَرَمَةٌ لِحَقِّهِمْ، جَبْرًا لِلْفَائِتِ، لَا ابْتِلَاءً، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى شُرِعَتِ ابْتِلَاءً لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْخَلْقِ، وَلَكِنَّهُ ابْتَلَاهُمْ، لِأَنَّهُ إِلَهُنَا وَنَحْنُ عَبِيدُهُ، وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَمْلُوكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ النِّسْيَانُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ أَصْلِيٌّ، وَيُرَادُ بِهِ مَا يَقَعُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّذَكُّرِ، وَهَذَا الْقِسْمُ يَصْلُحُ عُذْرًا لِغَلَبَةِ وَجُودِهِ.وَضَرْبٌ غَيْرُ أَصْلِيٍّ أَوْ طَارِئٌ يَقَعُ الْمَرْءُ فِيهِ بِالتَّقْصِيرِ: بِأَنْ لَمْ يُبَاشِرْ سَبَبَ التَّذَكُّرِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الضَّرْبُ يَصْلُحُ لِلْعِتَابِ، أَيْ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا لِلتَّقْصِيرِ لِعَدَمِ غَلَبَةِ وَجُودِهِ.

قَالَ الْبَزْدَوِيُّ: إِنَّمَا يَصِيرُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي حَقِّ الشَّرْعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ غَفْلَةٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ غَفْلَةٍ فَلَا يَكُونُ عُذْرًا، كَنِسْيَانِ الْمَرْءِ مَا حَفِظَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تِذْكَارِهِ بِالتَّكْرَارِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ فِيهِ بِتَقْصِيرِهِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعِتَابِ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ مَنْ نَسِيَ الْقُرْآنَ بَعْدَمَا حَفِظَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّذَكُّرِ بِالتَّذْكَارِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ النِّسْيَانَ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يُقْدَحُ وَالْجَهْلَ يُقْدَحُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعِلْمُ بِمَا يُقْدِمُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ وَاجِبًا كَانَ الْجَاهِلُ فِي الصَّلَاةِ عَاصِيًا بِتَرْكِ الْعِلْمِ، فَهُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ التَّرْكَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ: إِنِ الْجَهْلَ فِي الصَّلَاةِ كَالْعَمْدِ وَالْجَاهِلَ كَالْمُتَعَمِّدِ لَا كَالنَّاسِي، وَأَمَّا النَّاسِي فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَا إِثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ النِّسْيَانَ يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ، وَالْجَهْلَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى النِّسْيَانِ:

يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّسْيَانِ أَحْكَامٌ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

أَوَّلًا: الْحُكْمُ الْأُخْرَوِيُّ:

4- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ مُطْلَقًا لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.

وَقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْحَقِيقَةِ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْخَطَأِ وَأَخَوَيْهِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ، فَالْمُرَادُ حُكْمُهَا وَهُوَ نَوْعَانِ: أُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ الْمَأْثَمُ، وَدُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الْفَسَادُ، وَالْحُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَصَارَ بَعْدَ كَوْنِهِ مَجَازًا مُشْتَرَكًا لَا يَعُمُّ، فَإِذَا ثَبَتَ الْأُخْرَوِيُّ إِجْمَاعًا لَمْ يَثْبُتِ الْآخَرُ.

ثَانِيًا: الْحُكْمُ الدُّنْيَوِيُّ:

5- إِنْ وَقَعَ النِّسْيَانُ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ لَمْ يَسْقُطْ، بَلْ يَجِبُ تَدَارُكُهُ وَلَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الِائْتِمَارِ.

وَإِنْ وَقَعَ النِّسْيَانُ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ.

أَمَّا إِنْ وَقَعَ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فِيهِ إِتْلَافٌ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ، فَإِنْ وَقَعَ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ يُوجِبُ عُقُوبَةً كَانَ النِّسْيَانُ شُبْهَةً فِي إِسْقَاطِهَا.

أَقْسَامُ النِّسْيَانِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: النِّسْيَانُ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ:

قَدْ يَقَعُ النِّسْيَانُ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ يَقَعُ فِي الْمُعَامَلَاتِ.

فَأَمَّا النِّسْيَانُ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ فِي الْعِبَادَاتِ فَمِنْهُ:

أ- نِسْيَانُ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ:

6- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ فَذَكَرَهَا خِلَالَ الْوُضُوءِ فَسَمَّى لَا تَحْصُلُ السُّنَّةُ، بِخِلَافِ نَحْوِهِ فِي الْأَكْلِ، تَحْصُلُ السُّنَّةُ فِي الْبَاقِي لِاسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ».وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ».وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ فَضَائِلِ الْوُضُوءِ، وَاسْتَحْسَنَهَا مَالِكٌ مَرَّةً، وَأَنْكَرَهَا مَرَّةً، وَالْفَضِيلَةُ لَا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهَا إِذَا تَرَكَهَا وَلَا بِالْإِعَادَةِ، أَمَّا السُّنَّةُ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِفِعْلِهَا إِذَا تَرَكَهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، فَلَوْ نَسِيَهَا فِي الِابْتِدَاءِ أَتَى بِهَا مَتَى ذَكَرَهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ كَمَا فِي الطَّعَامِ، فَإِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا صَحَّتْ طَهَارَتُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، فَإِنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ: إِذَا نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي الْوُضُوءِ؟ قَالَ: أَرْجُو أَلاَّ يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، فَعَلَى هَذَا إِذَا ذَكَرَهَا فِي أَثْنَاءِ طَهَارَتِهِ أَتَى بِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَفَى عَنْهَا مَعَ السَّهْوِ فِي جُمْلَةِ الْوُضُوءِ فَفِي بَعْضِهَا أَوْلَى، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ تَتَغَايَرُ أَفْعَالُهَا، فَكَانَ فِي وَاجِبَاتِهَا مَا يَسْقُطُ بِالسَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ كَالصَّلَاةِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ وَالطَّهَارَةِ، لِأَنَّ تِلْكَ تَأَكَّدَ وُجُوبُهَا بِخِلَافِ التَّسْمِيَةِ.وَعَنْ أَحْمَدَ- وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ وَاجِبَةٌ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا، قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ وَالْمَجْدُ وَابْنُ عَبْدُوسٍ وَصَاحِبُ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ وَابْنُ عُبَيْدَانَ، وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمُنَوَّرِ وَقَدَّمَهُ فِي الْمُحَرَّرِ: إِنَّ التَّسْمِيَةَ فَرْضٌ لَا تَسْقُطُ بِالسَّهْوِ، لِظَاهِرِ قَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ، وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» وَقِيَاسًا لَهَا عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ.

ب- نِسْيَانُ غَسْلِ عُضْوٍ فِي الْوُضُوءِ:

7- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَنْ نَسِيَ غَسْلَ عُضْوٍ هُوَ فَرْضٌ فِي الْوُضُوءِ أَوْ لُمْعَةٍ فِي ذَلِكَ الْعُضْوِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَدَارُكُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (وُضُوء).

ج- نِسْيَانُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ:

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الْمُتَوَضِّي سُنَّةً مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، فَإِنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ.وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوء).

د- تَيَمُّمُ الْجُنُبِ لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ نَاسِيًا الْجَنَابَةَ:

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَنَسِيَ جَنَابَةً عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي النِّيَّةِ.فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صَلَاتَهُ بِهَذَا التَّيَمُّمِ لَا تُجْزِئُهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ مُجْزِئَةٌ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي النِّيَّةِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ، حَتَّى لَوْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ يُرِيدُ بِهِ الْوُضُوءَ جَازَ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمم ف9).

هـ- التَّيَمُّمُ عِنْدَ نِسْيَانِ الْمَاءِ:

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ تَيَمَّمَ عِنْدَ نِسْيَانِ الْمَاءِ.فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُطَرِّفٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ لَمْ يُجْزِئْهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِلصَّلَاةِ.وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَاءُ يُبَاعُ وَنَسِيَ ثَمَنَهُ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى لَمْ يُجْزِئْهُ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ وَاجِدًا لِلْمَاءِ، وَشَرْطُ إِبَاحَةِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ الْوِجْدَانِ، وَلِأَنَّ التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ يَجِبُ مَعَ الذِّكْرِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالنِّسْيَانِ كَالْحَدَثِ، وَلِوُجُودِ الْمَاءِ مَعَهُ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى لَمْ يُعِدِ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا، وَلَوْ أُدْرِجَ الْمَاءُ فِي رَحْلِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَقْطَعِ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَقْضِ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ مَعَ النِّسْيَانِ، وَعَجْزُهُ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ وَهُوَ النِّسْيَانُ.وَكَذَلِكَ لَوْ حَصَلَ الْعَجْزُ بِسَبَبِ الْبُعْدِ أَوِ الْمَرَضِ أَوْ عَدَمِ الدَّلْوِ وَالرِّشَا، فَالنِّسْيَانُ جِبِلَّةٌ فِي الْبَشَرِ خُصُوصًا إِذَا مَرَّ بِهِ أَمْرٌ يَشْغَلُهُ عَمَّا وَرَاءَهُ، وَالسَّفَرُ مَحَلُّ الْمَشَقَّاتِ وَمَكَانُ الْمَخَاوِفِ فَنِسْيَانُ الْأَشْيَاءِ فِيهِ غَيْرُ نَادِرٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْمَاءُ حَالَ الصَّلَاةِ فَلَا يَقْضِي.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مَاءٌ فِي رَحْلِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ- وَهَذَا يَتَنَاوَلُ حَالَ النِّسْيَانِ وَغَيْرِهِ- وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ مَاءَهُ قَدْ فَنِيَ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَبْطُلُ بِالظَّنِّ فَكَانَ الطَّلَبُ وَاجِبًا بِخِلَافِ النِّسْيَانِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَضْدَادِ الْعِلْمِ.وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَاءُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ أَوْ كَانَ الْمَاءُ مُعَلَّقًا فِي عُنُقِهِ، فَنَسِيَهُ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نَادِرٌ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُعَلَّقًا عَلَى الْإِكَافِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ كَانَ رَاكِبًا أَوْ سَائِقًا، فَإِنْ كَانَ رَاكِبًا وَكَانَ الْمَاءُ فِي مُؤَخَّرَةِ الرَّحْلِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ نِسْيَانَهُ نَادِرٌ، وَإِنْ كَانَ سَائِقًا فَالْجَوَابُ عَلَى الْعَكْسِ وَهُوَ إِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُبْصِرُهُ فَكَانَ النِّسْيَانُ نَادِرًا وَإِنْ كَانَ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ: إِنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى نَاسِيًا لِلْمَاءِ فِي رَحْلِهِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ.

و- نِسْيَانُ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مَفْرُوضَةً وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» وَالصَّلَاةُ الْمَتْرُوكَةُ نِسْيَانًا إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَإِذَا كَانَتْ وَاحِدَةً: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْرُوفَةً بِعَيْنِهَا كَالظُّهْرِ مَثَلًا أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ.وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ: فَإِمَّا أَنْ يُعْرَفَ تَرْتِيبُ كُلٍّ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنَ الْفَوَائِتِ أَوْ لَا يُعْرَفُ.فَإِنْ عُرِفَتِ الصَّلَاةُ الْمَتْرُوكَةُ وَعُرِفَ تَرْتِيبُهَا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ وَلِلْفَوَائِتِ غَيْرِهَا، قُضِيَتِ الْمَتْرُوكَةُ بِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مُطْلَقًا، إِلاَّ لِعُذْرٍ.وَإِنْ لَمْ تُعْرَفِ الصَّلَاةُ الْمَتْرُوكَةُ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ تَرْتِيبُهَا كَمَا سَبَقَ قُضِيَتْ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاء الْفَوَائِت ف 17- 25).

ز- تَرْكُ شَيْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ نِسْيَانًا:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْمُصَلِّي فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ كَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّدَارُكُ بِالْقَضَاءِ يَقْضِي، وَإِلاَّ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ.وَإِذَا تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَضَمِّ سُورَةٍ عَلَيْهَا، وَرِعَايَةِ التَّرْتِيبِ فِي كُلِّ فِعْلٍ مُكَرَّرٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَوْ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَرَكَهُ نَاسِيًا يُجْبَرُ بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَإِنْ تَرَكَهُ عَامِدًا لَا يُجْبَرُ بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ السُّجُودُ فِي الْعَمْدِ وَإِنَّمَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ جَبْرًا لِنُقْصَانِهِ.

وَأَمَّا إِذَا تَرَكَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ- كَجَهْرِ الْإِمَامِ بِالتَّكْبِيرِ، وَكَالِاسْتِفْتَاحِ- فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسَدُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الصَّلَاةِ بِأَرْكَانِهَا، وَقَدْ وُجِدَتْ، وَلَا يُجْبَرُ بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمُصَلِّي إِذَا تَرَكَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ- كَرُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ- سَهْوًا، وَطَالَ بِحَيْثُ لَا يَتَدَارَكُهُ- إِمَّا بِالْعُرْفِ وَإِمَّا بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ- فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ، وَأَمَّا مَعَ الْعَمْدِ فَلَا يَتَقَيَّدُ الْبُطْلَانُ بِالطُّولِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ: فَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ- عَمْدًا أَوْ جَهْلًا- لِتَلَاعُبِهِ، وَقَدْ شَهَرَهُ فِي الْبَيَانِ.وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَشَهَرَهُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِ هَذِهِ السُّنَّةِ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِكَوْنِ الْعِبَادَةِ قَدْ حُوفِظَ عَلَى أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ إِنَّمَا هُوَ لِلسَّهْوِ.وَكَلَامُ خَلِيلٍ يَحْتَمِلُ وَحْدَةَ السُّنَّةِ، كَمَا عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَأَمَّا إِنْ كَثُرَتِ السُّنَنُ الْمَتْرُوكَةُ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ.

وَيَحْتَمِلُ كَلَامُهُ الْجِنْسَ فَيَتَنَاوَلُ السُّنَّةَ وَلَوْ كَثُرَتْ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا تَرَكَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ- كَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ- عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَمَا بَعْدَ الْمَتْرُوكِ لَغْوٌ، فَإِنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ بُلُوغِ مِثْلِهِ فَعَلَهُ، وَإِلاَّ تَمَّتْ بِهِ رَكْعَتُهُ، وَتَدَارَكَ الْبَاقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ.وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ سُنَّةً مِنَ الْأَبْعَاضِ- وَهِيَ الْقُنُوتُ، وَالْقِيَامُ لَهُ وَالتَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَالْجُلُوسُ لَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى آلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ- أَتَى بِسُجُودِ السَّهْوِ إِذَا تَرَكَهَا سَهْوًا، وَكَذَا إِذَا تَرَكَهَا عَمْدًا فِي الْأَظْهَرِ.وَأَمَّا سَائِرُ السُّنَنِ غَيْرُ الْأَبْعَاضِ فَلَا تُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ- كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ- لَا تَسْقُطُ فِي عَمْدٍ وَلَا سَهْوٍ وَلَا جَهْلٍ، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا أَوْ جَاهِلًا.وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ كَالتَّكْبِيرِ لِلِانْتِقَالِ، وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا سَاهِيًا أَوْ جَاهِلًا أَتَى بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ.وَأَمَّا السُّنَنُ- كَالِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ- فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا وَلَوْ عَمْدًا وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاة ف 10- 14، 115- 124).

ح- نِسْيَانُ النَّجَاسَةِ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي أَوْ ثَوْبِهِ:

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ نَاسِيًا فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ عَنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَمَكَانِهِ وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، فَمَنْ صَلَّى بِهَا فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا قَادِرًا أَعَادَ الصَّلَاةَ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ عَاجِزًا حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَعَادَ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ نَدْبًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِنَجَسٍ لَا يُعْفَى عَنْهُ لَمْ يَعْلَمْهُ فِي ابْتِدَاءِ صَلَاتِهِ ثُمَّ عَلِمَ كَوْنَهُ فِيهَا وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، وَفِي الْقَدِيمِ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِعُذْرِهِ بِالنِّسْيَانِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا، وَلِحَدِيثِ خَلْعِ النَّعْلَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِيهِ: فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا».وَالرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْتَأْنِفِ الصَّلَاةَ، وَاخْتَارَ هَذَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَإِنْ عَلِمَ بِالنَّجَسِ ثُمَّ نَسِيَ فَصَلَّى ثُمَّ تَذَكَّرَ فِي الْوَقْتِ أَوْ قَبْلَهُ أَعَادَهَا، أَوْ بَعْدَهُ وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَقْطُوعِ بِهِ لِتَفْرِيطِهِ بِتَرْكِ التَّطْهِيرِ لَمَّا عَلِمَ بِهِ.وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا الْإِعَادَةَ فَيَجِبُ إِعَادَةُ كُلِّ صَلَاةٍ تَيَقَّنَ فِعْلُهَا مَعَ النَّجَاسَةِ، فَإِنِ احْتَمَلَ حُدُوثُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَادِثٍ تَقْدِيرُ وُجُودِهِ فِي أَقْرَبِ زَمَنٍ، وَالْأَصْلَ عَدَمُ وُجُودِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ فِي الْأَنْوَارِ: إِذَا صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ مَثَلًا نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَالْمَرْجُوُّ مِنْ عَفْوِ اللَّهِ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ صَلَّى وَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَلَكِنْ جَهِلَهَا أَوْ نَسِيَ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فَيُعِيدُهَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ.وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.

ط- نِسْيَانُ سُجُودِ السَّهْوِ:

14- إِذَا سَهَا الْمُصَلِّي عَنْ سُجُودِ السَّهْوِ فَانْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ دُونَ سُجُودٍ فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَيْهِ وَيُؤَدِّيهِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (سُجُود السَّهْو ف9).

ي- زَكَاةُ الْمَالِ الْمَنْسِيِّ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَالِ الضِّمَارِ، مِنْ حَيْثُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ إِذَا وَصَلَ إِلَى يَدِ مَالِكِهِ بَعْدَ إِيَاسِهِ مِنَ الْحُصُولِ عَلَيْهِ.وَمِنْ صُوَرِهِ: الْمَالُ الْمُودَعُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ إِذَا نَسِيَ شَخْصَهُ سِنِينَ ثُمَّ تَذَكَّرَهُ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ يَدُهُ.الثَّانِي: لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَيَسْتَقْبِلُ مَالِكُهُ حَوْلًا مُسْتَأْنِفًا مِنْ يَوْمِ قَبْضِهِ.الثَّالِثُ: يُزَكِّيهِ مَالِكُهُ إِذَا قَبَضَهُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (ضِمَار ف 3، 12 وَمَا بَعْدَهَا).

ك- نِسْيَانُ قَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَسِيَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالسُّيُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ، فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ يَصُومُ رَمَضَانَ الْحَاضِرَ ثُمَّ يَقْضِي الْأَوَّلَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ.وَمِنَ الْأَعْذَارِ النِّسْيَانُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ.وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِذَلِكَ الْإِثْمُ لَا الْفِدْيَةُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى التَّرَاخِي عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَعْنَى التَّرَاخِي أَنَّهُ يَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ، فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، إِلاَّ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَثْنَاةَ، وَلَا يَجُوزُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ اللَّيْلِ بِخِلَافِ الْأَدَاءِ، وَالْفِدْيَةُ شَرْطُ الْعَجْزِ عَنِ الْقَضَاءِ عَجْزًا لَا تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ.

وَقَالَ الْبُرْزُلِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ النَّاسِيَ لِقَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَلَا يُعْذَرُ إِلاَّ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ مِنْ زَمَنِ تَعَيُّنِ وَقْتِهِ إِلَى دُخُولِ رَمَضَانَ الثَّانِي.

ل- أَثَرُ النِّسْيَانِ فِي قَطْعِ تَتَابُعِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ تَتَابُعُهُ: وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ نِسْيَانًا:

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ نِسْيَانًا فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ الْوَاجِبِ التَّتَابُعُ فِيهَا لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْمَشْهُورِ- وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ، إِلَى أَنَّهُ يَقْطَعُهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَرْكُ النِّيَّةِ نِسْيَانًا فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ تَتَابُعُهُ:

18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نِسْيَانَ النِّيَّةِ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ تَتَابُعُهُ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَتَرْكِهَا عَمْدًا، وَلَا يُجْعَلُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تَكْفِي نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِكُلِّ صَوْمٍ يَجِبُ تَتَابُعُهُ كَرَمَضَانَ وَالْكَفَّارَاتِ الَّتِي يَجِبُ تَتَابُعُ الصَّوْمِ فِيهَا وَقَالُوا: لَوْ بَيَّتَ الْفِطْرَ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ حَيْثُ عَذَرَهُ فِي تَفْرِيقِ الصَّوْمِ بِالنِّسْيَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَطْءُ الْمُظَاهِرِ نِسْيَانًا:

19- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِنْ جَامَعَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَلَوْ نَاسِيًا انْقَطَعَ التَّتَابُعُ وَيَسْتَقْبِلُ الصَّوْمَ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ جَامَعَ الْمُظَاهِرُ امْرَأَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا بِاللَّيْلِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ أَوْ أَثْنَاءَ شَهْرَيْ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ أَثِمَ؛ لِأَنَّهُ جَامَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَلَا يَبْطُلُ التَّتَابُعُ لِأَنَّ جِمَاعَهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الصَّوْمِ فَلَمْ يَقْطَعِ التَّتَابُعَ كَالْأَكْلِ بِاللَّيْلِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ: إِذَا جَامَعَ الْمُظَاهِرُ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا بِالنَّهَارِ نَاسِيًا أَوْ بِاللَّيْلِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا لَا يَسْتَأْنِفُ الصَّوْمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ، إِذْ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ.

م- نِسْيَانُ نَذْرِ صَوْمِ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ:

20- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ نَسِيَهُ صَامَ الْجُمْعَةَ كُلَّهَا عَلَى الْمُخْتَارِ، فَإِنْ صَامَ الْيَوْمَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي نَذَرَهُ، ثُمَّ أَفْطَرَ فِيهِ نَاسِيًا ثُمَّ نَسِيَ أَيَّ يَوْمٍ كَانَ مِنَ الْجُمْعَةِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ يَوْمٌ وَاحِدٌ يَنْوِي بِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَوْمٌ بِعَيْنِهِ فَنَوَاهُ لِقَضَائِهِ ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَذَرَ يَوْمًا عَيَّنَهُ مِنْ أُسْبُوعٍ ثُمَّ نَسِيَهُ صَامَ آخِرَ الْأُسْبُوعِ وَهُوَ الْجُمْعَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْيَوْمَ الَّذِي عَيَّنَهُ وَقَعَ صَوْمُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ قَضَاءً عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فَقَدْ وَفَى بِمَا الْتَزَمَهُ.

ن- نِسْيَانُ مَا أَحْرَمَ الشَّخْصُ بِهِ مِنَ النُّسُكِ:

21- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ بِإِحْرَامِهِ شَيْئًا مِنَ النُّسُكِ وَنَسِيَهُ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ احْتِيَاطًا لِيَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ، وَلَا يَكُونُ قَارِنًا، فَإِنْ أُحْصِرَ تَحَلَّلَ بِدَمٍ وَاحِدٍ وَيَقْضِي حَجَّةً وَعُمْرَةً، وَإِنْ جَامَعَ مَضَى فِيهِمَا وَيَقْضِيهِمَا، إِنْ شَاءَ جَمَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ.وَإِنْ أَحْرَمَ بِشَيْئَيْنِ وَنَسِيَهُمَا لَزِمَهُ فِي الْقِيَاسِ حَجَّتَانِ وَعُمْرَتَانِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ؛ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الْمَسْنُونِ وَالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْقِرَانُ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ إِذْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ إِحْرَامَهُ كَانَ بِشَيْئَيْنِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ إِحْرَامًا وَنَسِيَ مَا أَحْرَمَ بِهِ أَهُوَ إِفْرَادٌ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ قِرَانٌ؟ فَقِرَانٌ، بِأَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ وَيَهْدِيَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحْرَمَ أَوَّلًا بِحَجٍّ أَوْ قِرَانٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَقَدْ أَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَيْهَا، وَبَرِئَ مِنَ الْحَجِّ فَقَطْ لَا مِنَ الْعُمْرَةِ، فَيَأْتِي بِهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ الْأَوَّلُ بِإِفْرَادٍ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الْمُحْرِمُ مَا أَحْرَمَ بِهِ جَعَلَ نَفْسَهُ قَارِنًا وَعَمِلَ أَعْمَالَ النُّسُكَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَلَبَّسَ بِالْإِحْرَامِ يَقِينًا فَلَا يَتَحَلَّلُ إِلاَّ بِيَقِينِ الْإِتْيَانِ بِالْمَشْرُوعِ فِيهِ وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكِ تَمَتُّعٍ أَوْ إِفْرَادٍ أَوْ قِرَانٍ، أَوْ أَحْرَمَ بِنَذْرٍ وَنَسِيَ مَا أَحْرَمَ بِهِ، أَوْ نَسِيَ مَا نَذَرَهُ قَبْلَ طَوَافٍ، صَرَفَهُ لِلْعُمْرَةِ نَدْبًا؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ، وَيَجُوزُ صَرْفُ إِحْرَامِهِ لِغَيْرِ الْعُمْرَةِ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمَانِعِ، وَيَلْزَمُهُ دَمُ مُتْعَةٍ بِشُرُوطِهِ.وَإِنْ نَسِيَ مَا أَحْرَمَ بِهِ، أَوْ نَذَرَهُ بَعْدَ طَوَافٍ وَلَا هَدْيَ مَعَ النَّاسِي، يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ إِلَى الْعُمْرَةِ؛ لِامْتِنَاعِ إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَيْهَا بَعْدَ طَوَافِهَا لِمَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ.وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَطَافَ ثُمَّ نَسِيَ مَا أَحْرَمَ بِهِ صَرَفَ إِحْرَامَهُ لِلْحَجِّ وُجُوبًا، وَأَجْزَأَ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ لِصِحَّتِهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ قَبْلَ تَمَامِ نُسُكِهِ.

س- نِسْيَانُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الْأَكْلِ أَوِ الشُّرْبِ أَتَى بِهَا؛ حَيْثُ ذَكَرَهَا لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ».وَالتَّفْصِيلُ فِي (أَكْل ف 11، بَسْمَلَة ف 10).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


64-موسوعة الفقه الكويتية (وسوسة)

وَسْوَسَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْوَسْوَسَةُ وَالْوَسْوَاسُ لُغَةً: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ مِنْ رِيحٍ وَنَحْوِهِ.

وَالْوَسْوَسَةُ وَالْوِسْوَاسُ- بِالْكَسْرِ- حَدِيثُ النَّفْسِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}.وَحَدِيثُ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَسْوَسَ الرَّجُلُ إِذَا اخْتَلَطَ كَلَامُهُ وَدُهِشَ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حَزِنُوا عَلَيْهِ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يُوَسْوَسُ، قَالَ عُثْمَانُ: وَكُنْتُ مِنْهُمْ يُرِيدُ أَنَّهُ اخْتَلَطَ كَلَامُهُ وَدُهِشَ لِمَوْتِهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَرَجُلٌ مُوَسْوَسٌ إِذَا غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْوَسْوَسَةُ.وَالْوَسْوَاسُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ بِصَدْرِ الرَّجُلِ، وَيُوَسْوِسُ إِلَيْهِ.

وَالْوَسْوَسَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ يَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعَانٍ:

الْأَوَّلُ: الْوَسْوَسَةُ: بِمَعْنَى حَدِيثِ النَّفْسِ، وَهُوَ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ التَّرَدُّدِ هَلْ يَفْعَلُ أَوْ لَا يَفْعَلُ.

الثَّانِي: الْوَسْوَسَةُ بِمَعْنَى مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي رُوعِ الْإِنْسَانِ.

الثَّالِثُ: الْوَسْوَسَةُ وَهِيَ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِمَّا يَنْشَأُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاحْتِيَاطِ وَالتَّوَرُّعِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَفْعَلُ الشَّيْءَ، ثُمَّ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ فَيُعِيدُهُ مِرَارًا وَتِكْرَارًا، وَقَدْ يَصِلُ إِلَى حَدِّ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ.

الرَّابِعُ: الْمُوَسْوَسُ هُوَ الْمُصَابُ فِي عَقْلِهِ إِذَا تَكَلَّمَ بِغَيْرِ نِظَامٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاحْتِيَاطُ:

2- الِاحْتِيَاطُ لُغَةً: هُوَ طَلَبُ الْأَحَظِّ وَالْأَخْذُ بِأَوْثَقِ الْوُجُوهِ.

وَالِاحْتِيَاطُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ الْأَخْذُ بِالثِّقَةِ فِيمَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَالِاحْتِيَاطِ التَّبَايُنُ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ مَبْنَاهُ عَلَى الثِّقَةِ، وَالْوَسْوَسَةُ نَاشِئَةٌ عَنِ التَّرَدُّدِ.

ب- الْوَرَعُ:

3- الْوَرَعُ فِي اللُّغَةِ: الْكَفُّ، مِنْ وَرَعَ يَرِعُ وَرَعًا: تَحَرَّجَ وَتَوَقَّى عَنِ الْمَحَارِمِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْكَفِّ عَنِ الْحَلَالِ الْمُبَاحِ.

وَالْوَرَعُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ اجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَرَعِ وَالْوَسْوَسَةِ أَنَّ الْوَرَعَ مَحْمُودٌ شَرْعًا، وَالْوَسْوَسَةُ مَذْمُومَةٌ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَسْوَسَةِ:

أَوَّلًا: الْوَسْوَسَةُ بِمَعْنَى حَدِيثِ النَّفْسِ:

4- حَدِيثُ النَّفْسِ أَقْوَى مِنَ الْهَاجِسِ وَالْخَاطِرِ، وَأَقْوَى مِنْهُ الْهَمُّ وَالْعَزْمُ.

وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ وَمَا كَانَ أَضْعَفَ مِنْهُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَا إِثْمَ فِيهِ إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ أَوْ قَوْلٌ، كَمَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنْ يَسْرِقَ أَوْ يَخُونَ.

وَلَوْ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ، أَوْ يُنْذِرُ لِلَّهِ تَعَالَى شَيْئًا، وَلَمْ يَنْطِقْ بِذَلِكَ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، وَلَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ- أَوْ حَدَّثَتْ- بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ».

وَقَالَ قَتَادَةُ بَعْدَ أَنْ رَوَى الْحَدِيثَ: إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمُوَسْوَسِ.

وَعَلَّقَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ شَارِحًا لَهُ: أَيْ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ حَدِيثُ النَّفْسِ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ بِمَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ.

الْوَسْوَسَةُ فِي الصَّلَاةِ:

5- مُدَافَعَةُ حَدِيثِ النَّفْسِ فِي الصَّلَاةِ مَشْرُوعَةٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يَسْهُو فِيهِمَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- بِلَفْظِ: «ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ: «لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ» الْمُرَادُ بِهِ مَا تَسْتَرْسِلُ النَّفْسُ مَعَهُ، وَيُمْكِنُ الْمَرْءَ قَطْعُهُ، فَأَمَّا مَا يَهْجُمُ مِنَ الْخَطَرَاتِ وَالْوَ سَاوِسِ وَيَتَعَذَّرُ دَفْعُهُ فَذَلِكَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ حَدِيثُ النَّفْسِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِلَفْظِ: لَمْ يَسِرْ فِيهِمَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ الْفَضِيلَةُ تَحْصُلُ مَعَ طَرَيَانِ الْخَوَاطِرِ الْعَارِضَةِ غَيْرِ الْمُسْتَقِرَّةِ.

وَمَنِ اتَّفَقَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ عَدَمُ حَدِيثِ النَّفْسِ أَصْلًا أَعْلَى دَرَجَةً بِلَا رَيْبٍ.

6- وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِغَلَبَةِ الْوَسْوَاسِ.

فَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِذَا غَلَبَ الْوَسْوَاسُ عَلَى أَكْثَرِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا؛ لِأَنَّ الْخُشُوعَ سُنَّةٌ، وَالصَّلَاةُ لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ سُنَّةٍ.

وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ: تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ غَلَبَ الْوَسْوَاسُ عَلَى أَكْثَرِ صَلَاتِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَجِيهِ الدِّينِ حَيْثُ صَرَّحَ بِأَنَّ الْخُشُوعَ وَاجِبٌ، وَعَلَيْهِ فَتَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ غَلَبَ الْوَسْوَاسُ عَلَى أَكْثَرِ صِلَاتِهِ.لَكِنْ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: مُرَادُ الشَّيْخِ وَجِيهِ الدِّينِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- وُجُوبُ الْخُشُوعِ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ وَإِنْ أَرَادَ فِي كُلِّهَا، فَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ بِتَرْكِهِ فَخِلَافُ قَاعِدَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ بَطَلَ بِهِ فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَكِلَاهُمَا خِلَافُ الْأَخْبَارِ.وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْعَابِثَ بِلِحْيَتِهِ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ مَعَ قَوْلِهِ: «لَوْ خَشَعَ قَلَبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي حُكْمِ الْخُشُوعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خُشُوعٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

ثَانِيًا: وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ

7- الْوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ هِيَ الْخَوَاطِرُ الْمُحَرِّكَةُ لِلرَّغْبَةِ فِي الشَّرِّ، وَالْأَمْرِ بِالْفَحْشَاءِ، وَالتَّخْوِيفِ عِنْدَ الْهَمِّ بِالْخَيْرِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.ثُمَّ قَرَأَ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} ».

دَفْعُ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ

8- يَكُونُ دَفْعُ الْوَسْوَسَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {تَذَكَّرُوا} أَيْ عِقَابَ اللَّهِ وَجَزِيلَ ثَوَابِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَتَابُوا وَأَنَابُوا وَاسْتَعَاذُوا بِاللَّهِ وَرَجَعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْوَسْوَاسُ أَصْنَافٌ:

الْأَوَّلُ: يَكُونُ مِنْ جِهَةِ التَّلْبِيسِ بِالْحَقِّ، كَأَنْ يَقُولَ: أَتَتْرُكُ التَّنَعُّمَ بِاللَّذَّاتِ؟ فَإِنَّ الْعُمُرَ طَوِيلٌ، وَالصَّبْرُ عَنْهَا طُولَ الْعُمُرِ أَلَمُهُ عَظِيمٌ.فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ عَظِيمَ حَقِّ اللَّهِ، وَعَظِيمَ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَقَالَ لِنَفْسِهِ: الصَّبْرُ عَنِ الشَّهَوَاتِ شَدِيدٌ لَكِنَّ الصَّبْرَ عَلَى النَّارِ أَشَدُّ مِنْهُ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ وَعْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدَهُ، وَجَدَّدَ إِيمَانَهُ وَيَقِينَهُ، خَنَسَ الشَّيْطَانُ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِتَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَدَفْعُهَا بِالْعِلْمِ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى.

الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْوَسْوَسَةُ بِمُجَرَّدِ الْخَوَاطِرِ وَالْفِكْرِ فِي أَمْرٍ غَيْرِ الصَّلَاةِ.فَإِنْ أَقْبَلَ الْإِنْسَانُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ انْدَفَعَتْ، ثُمَّ تَعُودُ.وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْوَسْوَسَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مَعَ الذِّكْرِ، كَأَنَّهُمَا فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْقَلْبِ.

مُدَافَعَةُ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي شَأْنِ الْإِيمَانِ:

9- يَتَعَرَّضُ الشَّيْطَانُ لِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَخَاصَّةً أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْهُمْ بِوَسَاوِسَ الْكُفْرِ الَّتِي يُلْقِيهَا إِلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ فِتْنَتِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْمُؤْمِنُ يُبْتَلَى بِوَسَاوِسَ الْكُفْرِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا صَدْرُهُ، كَمَا وَرَدَ «أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لأَنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْوَسْوَسَةِ: قَالَ: تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ».

يَعْنِي أَنَّ حُصُولَ هَذَا الْوَسْوَاسِ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ الْعَظِيمَةِ لَهُ وَدَفْعِهِ عَنِ الْقَلْبِ- هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْإِيمَانِ، كَالْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاءَهُ الْعَدُوُّ فَدَافَعَهُ حَتَّى غَلَبَهُ.وَإِنَّمَا صَارَ صَرِيحًا لَمَّا كَرِهُوا تِلْكَ الْوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةَ فَدَفَعُوهَا، فَخَلُصَ الْإِيمَانُ فَصَارَ صَرِيحًا، قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجِيبُ تِلْكَ الْوَسَاوِسَ فَيَصِيرُ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا، قَالَ: وَالشَّيْطَانُ يَكْثُرُ تَعَرُّضُهُ لِلْعَبْدِ إِذَا أَرَادَ الْإِنَابَةَ إِلَى رَبِّهِ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ، وَالِاتِّصَالَ بِهِ، فَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلْمُصَلِّينَ مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ، وَيَعْرِضُ لِلْخَاصَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْعَامَّةِ، قَالَ: وَلِهَذَا يُوجَدُ عِنْدَ طُلاَّبِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنَ الْوَسَاوِسِ وَالشُّبَهَاتِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.

وَمِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا نَبَّهَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي قَوْلِهِ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبُّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ».

ثَالِثًا: الْوَسْوَسَةُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَعِ:

10- الْوَسْوَسَةُ نَوْعٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ، حَتَّى يَخْرُجَ الْمُوَسْوَسُ مِنْ حَدِّ الْوَرَعِ إِلَى مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ التَّشَدُّدُ فِي الدِّينِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ سَمَاحَتِهِ وَيُسْرِهِ، وَعَنْ مَسْلَكِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ.

قَالَ الْهَيْتَمِيُّ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» إِنَّ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَتَنَازَعْهُ دَلِيلَانِ فَهُوَ حَلَالٌ بَيِّنٌ أَوْ حَرَامٌ بَيِّنٌ، وَإِنْ تَنَازَعَهُ سَبَبَاهُمَا، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ مُجَرَّدَ تَوَهُّمٍ وَتَقْدِيرٍ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، كَتَرْكِ التَّزَوُّجِ مِنْ نِسَاءِ بَلَدٍ كَبِيرٍ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مُحَرَّمٌ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، وَتَرْكِ اسْتِعْمَالِ مَاءٍ لِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ وُقُوعِ نَجَاسَةٍ فِيهِ، أُلْغِيَ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ Bبِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّجْوِيزَ هَوَسٌ، فَالْوَرَعُ فِيهِ وَسْوَسَةٌ شَيْطَانِيَّةٌ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشُّبْهَةِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَوْعُ قُوَّةٍ فَالْوَرَعُ مُرَاعَاتُهُ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ «قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا-: وَكَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ دَعْهَا عَنْكَ» «وَقَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ سَوْدَةَ- رضي الله عنها- لَمَّا اخْتَصَمَ أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي ابْنِ وَلِيدَةِ أَبِيهَا زَمْعَةَ، فَأَلْحَقَهُ- صلى الله عليه وسلم- بِأَبِيهَا بِحُكْمِ الْفِرَاشِ، وَلَكِنَّهُ رَأَى فِيهِ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ أَخِي سَعْدٍ-: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ».

وَصْفُ حَالِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَسْوَسَةِ:

11- قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ الشَّافِعِيُّ: مِنَ الَّذِينَ يَعْتَرِيهِمُ الْوَسْوَاسُ مَنْ يَرْكَبُ رَأْسَهُ، وَيُجَاوِزُ حُدُودَ الْأُصُولِ، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْهُمْ مَنْ يُكَرِّرُ تَحْرِيمَتَهُ لِلْمَكْتُوبَةِ حَتَّى يُشْرِفَ وَقْتُهَا عَلَى الِانْقِضَاءِ، أَوْ تَفُوتَهُ الْجُمُعَةُ مَعَ الْإِمَامِ، أَوْ رَكْعَةٌ مِنْهَا.وَإِذَا تَعَاطَى الْمَاءَ لِلطَّهَارَةِ أَسْرَفَ مِنْهُ قُلَّةً أَوْ قِلَالًا.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَبَعْضُ الْمُوَسْوَسِينَ يَغْسِلُ الثَّوْبَ الطَّاهِرَ مِرَارًا، وَرُبَّمَا لَمَسَهُ مُسْلِمٌ فَيَغْسِلُهُ.وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْسِلُ ثِيَابَهُ فِي دِجْلَةَ، لَا يَرَى غَسْلَهَا فِي الْبَيْتِ يُجْزِئُ.

قَالَ: وَمَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ تَعْمَلُ هَذَا، بَلْ قَدْ صَلَّوْا فِي ثِيَابِ فَارِسَ لَمَّا فَتَحُوهَا، وَاسْتَعْمَلُوا أَكْسِيَتَهُمْ، وَالشَّرِيعَةُ سَمْحَةٌ سَلِيمَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ.

الشُّبْهَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْوَسْوَسَةِ وَكَشْفُهَا:

12- تَنْشَأُ الشُّبْهَةُ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ مِنَ التَّصَوُّرِ الْخَاطِئِ لِمَعْنَى الِاحْتِيَاطِ وَاتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ الْمَفْهُومِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».وَقَوْلِهِ: B«مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ».

وَقَدْ جَرَتْ كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ عَلَى قَاعِدَةِ الِاحْتِيَاطِ، فَظَنَّ الْمُوَسْوَسُونَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْوَسْوَسَةِ دَاخِلٌ فِي قَاعِدَةِ الِاحْتِيَاطِ، وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ التَّفْرِيطِ، كَمَنْ لَا يُبَالِي كَيْفَ يَتَوَضَّأُ، وَلَا بِأَيِّ مَاءٍ تَوَضَّأَ، وَلَا بِأَيِّ مَكَانٍ صَلَّى، وَلَا يُبَالِي مَا أَصَابَ ثَوْبَهُ، فَيَحْمِلُ الْأُمُورَ كُلَّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ، وَرَأَوْا أَنَّ الِاسْتِقْصَاءَ وَالتَّشْدِيدَ وَالِاجْتِهَادَ فِي الِاحْتِيَاطِ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مَعْرِضِ كَشْفِ شُبُهَاتِ أَهْلِ الْوَسْوَسَةِ: إِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ هُوَ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَمَا خَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ مِنَ السُّبُلِ الْجَائِرَةِ، فَالْمِيزَانُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الِاسْتِقَامَةُ وَالْجَوْرُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ، وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» وَنَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ التَّشْدِيدِ فِي الدِّينِ.

وَأَهْلُ الْوَسْوَاسِ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ حَتَّى اسْتَحْكَمَ ذَلِكَ فِيهِمْ وَصَارَ صِفَةً لَازِمَةً لَهُمْ.

فَمَنْ أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ فَلْيَسْتَشْعِرْ أَنَّ الْحَقَّ فِي اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَلْيَعْزِمْ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقَتِهِ عَزِيمَةَ مَنْ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَأَنَّ مَا خَالَفَهُ فَهُوَ مِنْ تَسْوِيلِ إِبْلِيسَ وَوَسْوَسَتِهِ، وَلْيَنْظُرْ فِي أَحْوَالِ السَّلَفِ فَلْيَقْتَدِ بِهِمْ.

فَفِي مَسْأَلَةِ الْإِسْرَافِ فِي مَاءِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ «قَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ».

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ» وَوَرَدَ فِي Bحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ».

الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِأَهْلِ الْوَسْوَاسِ:

أ- تَقْدِيرُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِثَلَاثِ غَسَلَاتٍ فِي حَقِّ الْمُوَسْوَسِ:

13- الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا قَالَ الْحَصْكَفِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّ طَهَارَةَ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ بِقَلْعِهَا، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ أَثَرٍ لَازِمٍ، وَطَهَارَةُ مَحَلِّ نَجَاسَةٍ غَيْرِ مَرْئِيَّةٍ تَحْصُلُ بِغَلَبَةِ ظَنِّ غَاسِلِهَا طَهَارَةُ مَحَلِّهَا.وَيُقَدَّرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُوَسْوَسِ بِغَسْلٍ وَعَصْرٍ ثَلَاثًا فِيمَا يَنْعَصِرُ.

ب- اجْتِنَابُ الْبَوْلِ فِي مَكَانِ الِاسْتِحْمَامِ خَشْيَةَ الْوَسْوَاسِ:

14- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْبَوْلِ فِي مَكَانِ الِاسْتِحْمَامِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ «وَفِي رِوَايَةٍ»: ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ».وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْلَكٌ يَذْهَبُ فِيهِ الْبَوْلُ، أَوْ كَانَ الْمَكَانُ صُلْبًا فَيُوهَمُ الْمُغْتَسِلُ أَنَّهُ أَصَابَهُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَحْصُلُ بِهِ الْوَسْوَاسُ.

ج- الِانْتِضَاحُ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْ أَجْلِ قَطْعِ الْوَسْوَاسِ:

15- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ أَنْ يَنْضَحَ فَرْجَهُ وَسَرَاوِيلَهُ قَطْعًا لِلْوَسْوَاسِ وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِذَا تَوَضَّأْتَ فَانْضَحْ».

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ يَعْرِضُ لَهُ الشَّيْطَانُ كَثِيرًا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، بَلْ يَنْضَحُ فَرْجَهُ أَوْ سَرَاوِيلَهُ بِمَاءٍ حَتَّى إِذَا شَكَّ حَمَلَ الْبَلَلَ عَلَى ذَلِكَ النَّضْحِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ خِلَافَهُ.وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يَنْضَحُ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَنْ ظَنَّ خُرُوجَ شَيْءٍ مِنَ الْبَوْلِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ: لَا تَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، حَتَّى تَتَيَقَّنَ، وَالْهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

د- أَثَرُ بُلُوغِ الشَّكِّ فِي نِيَّةِ الطَّهَارَةِ إِلَى دَرَجَةِ الْوَسْوَاسِ:

16- يُصَرِّحُ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إِنْ شَكَّ فِي أَثْنَاءِ طَهَارَتِهِ أَنَّهُ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ شَكَّ فِي شَرْطِهَا وَهُوَ فِيهَا، فَلَمْ تَصِحَّ كَالصَّلَاةِ، وَلَا يَصِحُّ مَا فَعَلَهُ مِنْهُ.لَكِنْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّكُّ مِنْ قَبِيلِ الْوَهْمِ كَالْوَسْوَاسِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ يَعْنِي أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ فِي وُضُوئِهِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ.

هـ- التَّلَفُّظُ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ:

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ سُنَّةٌ لِيُوَافِقَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْوَسْوَاسِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ مَكْرُوهٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَوْلَى تَرَكُهُ إِلاَّ الْمُوَسْوَسُ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ التَّلَفُّظُ لِيَذْهَبَ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ.

(ر: نِيَّةٌ ف 11).

و- الْوَسْوَسَةُ بِإِتْيَانِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ:

18- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ شَكَّ الْمُوَسْوَسِ كَالْعَدَمِ، فَإِنَّهُ يَعْمِدُ بِمَا شَكَّ فِيهِ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ، فَإِذَا شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا بَنَى عَلَى الْأَرْبَعِ وَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ.

وَالْمُوَسْوَسُ- كَمَا قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ- هُوَ الَّذِي يَطْرَأُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَوْ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَطْرَأْ لَهُ ذَلِكَ Bإِلاَّ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَيْسَ بِمُوَسْوَسٍ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ مِثْلُ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا رَفَعَ الْمُصَلِّي رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ثُمَّ شَكَّ هَلْ رَكَعَ أَمْ لَا؟ أَوْ هَلْ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمُجْزِئِ أَمْ لَا؟ لَمْ يُعْتَدَّ بِرُكُوعِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَرْكَعَ حَتَّى يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّكُّ وِسْوَاسًا، فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، يَعْنِي يَسْتَمِرُّ فِي صَلَاتِهِ وَلَا يَأْتِي بِرُكُوعٍ آخَرَ غَيْرَ الَّذِي شَكَّ فِيهِ، وَهَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَرْكَانِ.

(ر: شَكٌّ ف 10)

ز- تَخَلُّفُ الْمَأْمُومُ عَنْ إِمَامِهِ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بِسَبَبِ الْوَسْوَسَةِ:

19- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ.

فَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنَيْنِ فِعْلِيَّيْنِ بَطَلَتْ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ، وَالْعُذْرُ كَأَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ، وَالْمُقْتَدِي بَطِيءَ الْقِرَاءَةِ لِعَجْزٍ خِلْقِيٍّ لَا لِوَسْوَسَةٍ ظَاهِرَةٍ، أَمَّا الْوَسْوَسَةُ الْخَفِيفَةُ فَهِيَ عُذْرٌ، وَأَمَّا الْوَسْوَسَةُ الظَّاهِرَةُ وَهِيَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّخَلُّفِ بِرُكْنَيْنِ فِعْلِيَّيْنِ فَلَا يَسْقُطُ بِهَا عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ، كَمُتَعَمِّدِ تَرْكِهَا، فَلَهُ التَّخَلُّفُ لِإِتْمَامِهَا إِلَى أَنْ يَقْرُبَ إِمَامُهُ مِنْ فَرَاغِ الرُّكْنِ الثَّانِي، وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ إِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا لِإِتْمَامِهِ لِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِشُرُوعِ إِمَامِهِ فِيمَا بَعْدَهُ.

وَالْأَوْجَهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ اسْتِمْرَارِيَّةِ الْوَسْوَسَةِ بَعْدَ رُكُوعِ الْإِمَامِ أَوْ تَرْكِهِ لَهَا بَعْدَهُ إِذْ تَفْوِيتُ إِكْمَالِهَا قَبْلَ رُكُوعِ إِمَامِهِ نَشَأَ مِنْ تَقْصِيرِهِ بِتَرْدِيدِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ غَيْرِ بُطْءٍ خِلْقِيٍّ فِي لِسَانِهِ، سَوَاءٌ أَنَشَأَ ذَلِكَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي التَّعَلُّمِ، أَمْ مِنْ شَكِّهِ فِي إِتْمَامِ الْحُرُوفِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا.

رَابِعًا الْمُوَسْوَسُ بِمَعْنَى الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ:

أ- طَلَاقُ الْمُوَسْوَسِ:

20- نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ اللَّيْثِ: فِي مَسْأَلَةِ طَلَاقِ الْمُوَسْوَسِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمُوَسْوَسِ، قَالَ: يَعْنِي الْمَغْلُوبَ فِي عَقْلِهِ.

وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ الْمُطْلِّقَ إِنْ كَانَ زَائِلَ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ وَسْوَسَةٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، قَالَ: وَهَذَا الْمَخْلَصُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَ- اءِ الْأُمَّةِ.

ب- رِدَّةُ الْمُوَسْوَسِ:

21- إِنْ تَكَلَّمَ الْمُوَسْوَسُ بِكَلَامٍ يَقْتَضِي الرِّدَّةَ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّهِ رِدَّةٌ.صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، يَعْنُونَ الْمَغْلُوبَ فِي عَقْلِهِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


65-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 1)

وُضُوءٌ-1

التَّعْرِيفُ:

1- الْوُضُوءُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْوَضَاءَةِ: أَيِ الْحُسْنِ وَالنَّظَافَةِ، وَقَدْ وَضُؤَ- مِنْ بَابِ كَرُمَ- وَضَاءَةً، مِثْلُ ضَخُمَ ضَخَامَةً: حَسُنَ وَنَظُفَ، وَوَضَّأَهُ: جَعَلَهُ يَتَوَضَّأُ، وَتَوَضَّأَ: غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ وَنَظَّفَهَا، وَتَوَضَّأَ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ: أَدْرَكَا حَدَّ الْبُلُوغِ.

وَالْمِيضَأَةُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ: الْمَوْضِعُ يُتَوَضَّأُ فِيهِ وَمِنْهُ، وَالْمِطْهَرَةُ: يُتَوَضَّأُ مِنْهَا.

وَالْوُضُوءُ- بِالضَّمِّ- الْفِعْلُ، وَبِالْفَتْحِ: الْمَاءُ يُتَوَضَّأُ بِهِ.

وَقِيلَ: الْوُضُوءُ بِالْفَتْحِ- مَصْدَرٌ أَيْضًا، أَوْ هُمَا لُغَتَانِ قَدْ يُعْنَى بِهِمَا الْمَصْدَرُ، وَقَدْ يُعْنَى بِهِمَا الْمَاءُ.

وَالْوُضُوءُ شَرْعًا: عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتِ مِنْهَا: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْوُضُوءُ هُوَ الْغَسْلُ وَالْمَسْحُ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ طِهَارَةٌ مَائِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِأَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ- وَهِيَ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ- عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالنِّيَّةِ، أَوْ هُوَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ مُفْتَتَحًا بِالنِّيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: هُوَ اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ، (وَهِيَ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ، وَالرَّأْسُ، وَالرِّجْلَانِ)، عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الشَّرْعِ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِهَا مُرَتَّبَةً مُتَوَالِيَةً مَعَ بَاقِي الْفُرُوضِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْغَسْلُ:

2- الْغَسْلُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ غَسَلَ، يُقَالُ: غَسَلَ يَغْسِلُهُ غَسْلًا: أَزَالَ عَنْهُ الْوَسَخَ وَنَظَّفَهُ بِالْمَاءِ، وَيُضَمُّ- أَيْ تُضَمُّ الْغَيْنُ- أَوْ: بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْمَضْمُومَ وَالْمَفْتُوحَ بِمَعْنًى، وَعَزَاهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ.

وَمِنْ مَعَانِي الْغُسْلِ- بِالضَّمِّ- فِي اللُّغَةِ: تَمَامُ الطِّهَارَةِ.كَمَا قَالَ ابْنُ الْقُوطِيَّةِ.

وَالْغُسْلُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَافِعٌ لِلْحَدَثِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ، وَالْغُسْلَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ.

ب- الطَّهَارَةُ:

3- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ النَّجَاسَةِ، وَهِيَ النَّقَاءُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالدَّنَسِ.يُقَالُ: طَهَّرَهُ بِالْمَاءِ: غَسَلُهُ بِهِ، وَالتَّطَهُّرُ: التَّنَزُّهُ، وَالْكَفُّ عَنِ الْإِثْمِ.

وَالطَّهَارَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ- أَكْبَرَ كَانَ أَوْ أَصْغَرَ، أَيْ زَوَالُ الْوَصْفِ الْمَانِعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا- وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَزَوَالُ النَّجَسِ أَوِ ارْتِفَاعُ حُكْمِ ذَلِكَ.

وَالصِّلَةُ أَنَّ الطَّهَارَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوُضُوءِ.

ج- التَّيَمُّمُ:

4- التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: التَّوَخِّي وَالتَّعَمُّدُ وَالْقَصْدُ، يُقَالُ: تَيَمَّمْتُ الصَّعِيدَ تَيَمُّمًا وَتَأَمَّمْتُ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أَيِ اقْصِدُوا الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ: مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِصَعِيدٍ طَاهِرٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ طَهَارَةٌ وَرَفْعٌ لِلْحَدَثِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَهُوَ طَهَارَةٌ مَائِيَّةٌ، أَمَّا التَّيَمُّمُ فَيَكُونُ مِنْ أَيٍّ مِنَ الْحَدَثَيْنِ: الْأَصْغَرِ أَوِ الْأَكْبَرِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ الصَّعِيدُ الطَّاهِرُ.

الْوُضُوءُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ:

5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ- إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «ثُمَّ دَعَا- أَيِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي» وَمَا ثَبَتَ لِلْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَثْبُتُ لِأُمَمِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ «إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام- لَمَّا مَرَّ عَلَى الْجَبَّارِ وَمَعَهُ سَارَّةُ.أَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى الْجَبَّارِ تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ وَدَعَتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» وَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ لَمَّا رَمَوْهُ بِالْمَرْأَةِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ لِلْغُلَامِ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: هَذَا الرَّاعِي.

وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ، أَوْ أَثَرُ الْوُضُوءِ، وَهُوَ بَيَاضُ مَحَلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُسَمَّى بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ خَصَائِصَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ».

مَكَانُ فَرْضِ الْوُضُوءِ وَزَمَانُهُ:

6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ مَعَ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا لِلْمَكَانِ لَا لِلزَّمَانِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ الِافْتِرَاضِ بِلَا وُضُوءٍ، وَقَدْ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَطْعًا، وَلَمْ يُصَلِّ قَطُّ إِلاَّ بِوُضُوءٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مِمَّا لَا يَجْهَلُهُ عَالِمٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ وُقُوعُ صَلَاةٍ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِدُونِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» أَيْ بِالْمَاءِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ» فَأَطْلَقَ الشَّارِعُ عَلَى التَّيَمُّمِ أَنَّهُ وُضُوءٌ لِكَوْنِهِ قَامَ مَقَامَهُ.

وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْوُضُوءَ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ نَسْخُهُ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ نُزُولِ آيَةِ الْوُضُوءِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ: تَقْرِيرُ حُكْمِهِ الثَّابِتِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، بَلْ تَابِعًا لِلصَّلَاةِ احْتُمِلَ أَنْ لَا تَهْتَمَّ الْأُمَّةُ بِشَأْنِهِ، وَأَنْ يَتَسَاهَلُوا فِي شَرَائِطِهِ وَأَرْكَانِهِ بِطُولِ الْعَهْدِ عَنْ زَمَنِ الْوَحْيِ وَانْتِقَاصِ النَّاقِلِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ الْمُتَوَاتِرِ الْبَاقِي فِي كُلِّ زَمَانٍ وَعَلَى كُلِّ لِسَانٍ.

وَمِنَ الْفَائِدَةِ كَذَلِكَ تَأَتِّي اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِي هُوَ رَحْمَةٌ، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ، كَالنِّيَّةِ، وَالدَّلْكِ، وَالتَّرْتِيبِ، وَقَدْرِ الْمَسْمُوحِ، وَنَقْضِهِ بِالْمَسِّ، وَكَذَلِكَ اشْتِمَالُ الْآيَةِ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا يُصَلُّونَ إِلاَّ بِالْوُضُوءِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ أَوِ النَّظَافَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ، كَمَا دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا.

وَكَانَ الْوُضُوءُ وَاجِبًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ثُمَّ نُسِخَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ- إِلاَّ مَعَ الْحَدَثِ- وَصَارَ يُؤَدَّى بِهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ مَعَ بَقَاءِ طَلَبِهِ. (ر: شَرْع مَنْ قَبْلَنَا ف 3).

مَشْرُوعِيَّةُ الْوُضُوءِ:

7- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ:

فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.قَالُوا: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ، أَوْ هِيَ آيَةُ الْوُضُوءِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَظَاهِرُهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ- مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ- وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، قَالُوا: مَعْنَاهُ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ.وَإِنَّمَا أَضْمَرَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ آيَةَ الطَّهَارَةِ بِذِكْرِ الْحَدَثِ كَمَا قَالَ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَلَمْ يَقُلْ هُدًى لِلضَّالِّينَ الصَّائِرِينَ إِلَى التَّقْوَى بَعْدَ الضَّلَالِ، كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ أُولَى الزَّهْرَاوَيْنِ بِذِكْرِ الضَّلَالَةِ.

وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ».

وَأَجْمَعَ أَهِلُ السِّيَرِ أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ مَعَ فَرْضِ الصَّلَاةِ بِتَعْلِيمِ جِبْرِيلَ- عليه السلام-، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوُضُوءِ وَوُجُوبِهِ.

مُنْكِرُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ:

8- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ يَكْفُرُ، لِإِنْكَارِهِ النَّصَّ الْقَطْعِيَّ، وَهُوَ آيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وَلِإِنْكَارِهِ الْإِجْمَاعَ.

وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مُنْكِرَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ إِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ، لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِ آيَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.

تَرَكَ الْوُضُوءَ عَمْدًا ثُمَّ صَلَّى مُحْدِثًا:

9- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَخِفُّ بِالدِّينِ يَكْفُرُ- كَالصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ عَمْدًا-.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ تَرَكَ الطَّهَارَةَ يُقْتَلُ بِهَا كَالصَّلَاةِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ الْوُضُوءِ ثُمَّ صَلَّى مُحْدِثًا، اسْتُتِيبَ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ حَدًّا لَا كُفْرًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ تَرَكَ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ رُكْنًا كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَهُوَ كَتَارِكِهَا، حُكْمُهُ حُكْمُهُ، وَقَالُوا: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ- جَاحِدًا أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ- دُعِيَ إِلَيْهَا فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ صَلَّى وَإِلاَّ قُتِلَ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْوُضُوءِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَا يُتَوَضَّأُ لِأَجْلِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ فَرْضًا:

أ- الصَّلَاةُ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فَرْضٌ عَلَى الْمُحْدِثِ إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ أَوِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةً مِنْ غَيْرِ طَهُورٍ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فَرْضٌ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَامِلَةً.وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، إِذْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَهُمْ مَا يُشْتَرَطُ لِبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ أَوِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بَدَنًا وَثَوْبًا وَمَكَانًا وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةِ.

(ر: جَنَائِز ف22)

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ.

(ر: سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ ف3)

ب- الطَّوَافُ

11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِلطَّوَافِ فَرْضِهِ وَنَفْلِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلاَّ بِخَيْرٍ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ وَاجِبٌ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْآنِفِ الذِّكْرِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمَّا أَشْبَهَ الطَّوَافُ الصَّلَاةَ مِنْ وَجْهٍ قُلْنَا بِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَعَدَمِ تَوَقُّفِ صِحَّتِهِ عَلَيْهَا، وَزَادُوا: إِذَا طَافَ الطَّائِفُ الْفَرْضَ مُحْدِثًا وَجَبَ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَبَدَنَةٌ، وَإِذَا طَافَ الْوَاجِبَ كَالْوَدَاعِ أَوِ النَّفْلَ مُحْدِثًا فَصَدَقَةٌ، وَجُنُبًا فَدَمٌ.

ج- مَسُّ الْمُصْحَفِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.

(ر: مُصْحَف ف 4- 11) ثَانِيًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ سُنَّةً:

13- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ غَيْرَ الْبَغَوِيِّ بِأَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيثِ: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ».

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ وُضُوءُ الْجُنُبِ لِلنَّوْمِ سُنَّةٌ وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّ النُّوَّمَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ.

ثَالِثًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ مَنْدُوبًا:

ضَابِطُ الْوُضُوءِ الْمَنْدُوبِ: كُلُّ وُضُوءٍ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ مَا يُفْعَلُ بِهِ بَلْ مِنْ كَمَالَاتِ مَا يُفْعَلُ بِهِ.

يَكُونُ الْوُضُوءُ مَنْدُوبًا فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: أ- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ وَرِوَايَتِهِ.

ب- ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:

15- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

(ر: ذِكْر ف 28).

ج- الْأَذَانُ:

5 ام- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ: الْوُضُوءُ لِلْأَذَانِ.

(ر: أَذَان ف33).

د- الْإِقَامَةُ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوُضُوءِ لِلْإِقَامَةِ. (ر: إِقَامَة ف 11).

هـ- الْخُطْبَةُ:

17- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي عَقِبَ الْخُطْبَةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهُوَ سُنَّةٌ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْمَشْهُورِ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنِ الْحَدَثِ مِنْ شُرُوطِ الْخُطْبَةِ.

(ر: خُطْبَة ف11)

و- دِرَاسَةُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ:

18- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِدِرَاسَةِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَقَالَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ الشَّبِيبِيِّ: مِنَ الْمُبَاحِ الْوُضُوءُ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

ز- الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:

19- يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِشَرَفِ الْمَكَانِ وَمُبَاهَاةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالْوَاقِفِينَ، كَمَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَشَرَفِ الْمَكَانَيْنِ.

ح- زِيَارَةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَعْظِيمًا لِحَضْرَتِهِ وَدُخُولِ مَسْجِدِهِ.

ط- الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ:

21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ.

(ر: تَجْدِيد ف2) ي- وُضُوءُ الْجُنُبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ:

22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْجُنُبِ الْوُضُوءُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ».

وَلِحَدِيثِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» وَلِحَدِيثِ «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ».

قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: أَمَّا الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ وَعِنْدَ النَّوْمِ فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّرْعِيُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ».

أَمَّا الْوُضُوءُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْمُرَادُ بِهِ اللُّغَوِيُّ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ يَدَيْهِ» قَالَ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ بَلْ هُوَ جَائِزٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ عَلَى الْجُنُبِ وُضُوءٌ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَوْ مُعَاوَدَةِ الْجِمَاعِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُ يَدَيْهِ مِنَ الْأَذَى إِذَا أَرَادَ الْأَكْلَ كَمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُ فَرْجِهِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ الْجِمَاعَ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ فَفِي وُضُوئِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ الْوُضُوءُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ الْوُضُوءُ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوء.

ك- الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ:

23- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ، وَتَفْسِيرُهُ: أَنْ يَتَوَضَّأَ كُلَّمَا أَحْدَثَ لِيَكُونَ عَلَى الْوُضُوءِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا.

ل- الْوُضُوءُ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ:

24- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا إِذَا مَسَّ امْرَأَةً مُشْتَهَاةً غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ فَرْجَهُ بِبَطْنِ كَفِّهِ لِتَكُونَ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْإِفْسَادِ.

(ر: مُرَاعَاة الْخِلَاف فِقْرَة 2- 4)

رَابِعًا: مَا يُبَاحُ لَهُ الْوُضُوءُ:

25- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْوُضُوءَ الْمُبَاحَ هُوَ الْوُضُوءُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّبَرُّدِ، وَقَالَ الشَّبِيبِيُّ: مِنَ الْمُبَاحِ الْوُضُوءُ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْوُضُوءُ الْمُبَاحُ هُوَ الْوُضُوءُ لِلدُّخُولِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَلِرُكُوبِ الْبَحْرِ وَشِبْهِهِ مِنَ الْمَخَاوِفِ، وَلِيَكُونَ الشَّخْصُ عَلَى طَهَارَةٍ وَلَا يُرِيدَ بِهِ اسْتِبَاحَةَ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ.ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا كُلِّهِ: إِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِبَّاتِ.

وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ فِي هَذَا كُلِّهِ الِاسْتِحْبَابَ مَا عَدَا التَّنْظِيفَ وَالتَّبَرُّدَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ.

وَهَذَا الْوُضُوءُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَا لَمْ يَنْوِهِ؛ لِأَنَّ مَا قَصَدَهُ يَصِحُّ فِعْلُهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ.

خَامِسًا: الْوُضُوءُ الْمَمْنُوعُ:

26- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْمَمْنُوعَ هُوَ الْمُجَدَّدُ قَبْلَ أَنْ تُفْعَلَ بِهِ عِبَادَةٌ، وَالْوُضُوءُ لِغَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ الْوُضُوءُ أَوْ أُبِيحَ.

انْظُرِ الْمُصْطَلَحَ (تَجْدِيد ف2)

فَضِيلَةُ الْوُضُوءِ:

27- وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي فَضْلِ الْوُضُوءِ وَسُقُوطِ الْخَطَايَا بِهِ، مِنْهَا:

مَا رَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ».

وَرَوَى «عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وَعَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ».

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ، أَوْ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، إِلاَّ فُتِّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ، «وَفِي رِوَايَةٍ»: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».

وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ».

شُرُوطُ الْوُضُوءِ:

28- شُرُوطُ الْوُضُوءِ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ وَصِحَّتِهِ مَعًا.

وَالْمُرَادُ بِشُرُوطِ الْوُجُوبِ: هِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَتْ وَجَبَتِ الطَّهَارَةُ عَلَى الشَّخْصِ.

وَشُرُوطُ الصِّحَّةِ هِيَ مَا لَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ إِلاَّ بِهَا، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بَلْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَجْهِيٌّ.

أَوَّلًا: شُرُوطُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ:

أ- الْعَقْلُ:

29- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ إِذْ لَا خِطَابَ بِدُونِ الْعَقْلِ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَصِحَّتِهِ مَعًا وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ.

ب- الْبُلُوغُ:

30- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ لِعَدَمِ تَكْلِيفِ الْقَاصِرِ، أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ وُضُوؤُهُ.

ج- الْإِسْلَامُ:

31- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ، إِذْ لَا يُخَاطَبُ كَافِرٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.

كَمَا يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ مَعًا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.

د- انْقِطَاعُ مَا يُنَافِي الْوُضُوءَ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ:

32- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ انْقِطَاعَ مَا يُنَافِي الْوُضُوءَ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَصِحَّتِهِ مَعًا.

هـ- وُجُودُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ الطَّهُورِ الْكَافِي:

33- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وُجُودَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ الطَّهُورِ الْكَافِي.

فَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ تَنْفِيهِ حُكْمًا، فَلَا قُدْرَةَ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْكَافِي لِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَغَيْرُهُ كَالْعَدَمِ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وُجُودَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَالْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُطْلَقٌ وَلَوْ ظَنًّا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى اشْتِرَاطِ طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ.

و- الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:

34- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى عَاجِزٍ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ، وَلَا عَلَى مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ، وَرِجْلَاهُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ.

ز- وُجُودُ الْحَدَثِ:

35- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ وُجُودَ الْحَدَثِ الْمُوجِبِ لِلْوُضُوءِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ.

نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ فِي مُوجِبِهِ أَوْجُهًا:

أَحَدُهَا: الْحَدَثُ مَعَ الِانْقِطَاعِ فَيَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا.

ثَانِيهَا: الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.

ثَالِثُهَا: هُمَا مَعًا وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي التَّحْقِيقِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثُ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ.

وَفِي الِانْتِصَارِ: يَجِبُ بِإِرَادَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْحَدَثِ.قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا تَجِبُ الطَّهَارَةُ قَبْلَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ بَلْ تُسْتَحَبُّ.

أَمَّا إِذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ وَتَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (شَكّ ف 14).

ح- ضِيقُ الْوَقْتِ:

36- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ ضِيقَ الْوَقْتِ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ الْمُضَيَّقِ، لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ مُضَيَّقًا حِينَئِذٍ وَمُوَسَّعًا فِي ابْتِدَائِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مُوَسَّعٌ بِدُخُولِ الْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ، فَإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ صَارَ الْوُجُوبُ فِيهِمَا مُضَيَّقًا.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ دُخُولَ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ وَتَذَكُّرَ الْفَائِتَةِ.

وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُتَوَجَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إِذَنْ وَوُجُوبِ الشَّرْطِ بِوُجُوبِ الْمَشْرُوطِ.

ط- بُلُوغُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

37- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ وَوُجُوبِهِ بُلُوغَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُكَلَّفِ.

ثَانِيًا: شُرُوطُ صِحَّةِ الْوُضُوءِ:

أ- عُمُومُ الْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ:

38- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ عُمُومَ الْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ، أَيْ بِأَنْ يَعُمَّ الْمَاءُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ الْوَاجِبِ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَغْرِزِ إِبْرَةٍ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ مِنَ الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ لَمْ يَصِحَّ الْوُضُوءُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ أَنْ يَغْسِلَ مَعَ الْمَغْسُولِ جُزْءًا يَتَّصِلُ بِالْمَغْسُولِ وَيُحِيطُ بِهِ، لِيَتَحَقَّقَ بِهِ اسْتِيعَابُ الْمَغْسُولِ.

ب- زَوَالُ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْجَسَدِ:

39- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ زَوَالُ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْجَسَدِ لِجِرْمِهِ الْحَائِلِ كَشَمْعٍ وَشَحْمٍ وَعَجِينٍ وَطِينٍ.

وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِزَالَةَ مَانِعِ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَأَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعُضْوِ مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ تَغَيُّرًا مُضِرًّا.قَالَ فِي الْإِمْدَادِ: وَمِنْهُ الطِّيبُ الَّذِي يُحَسَّنُ بِهِ الشَّعْرُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنَشَّفُ وَيَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ لِلْبَاطِنِ، فَيَجِبُ إِزَالَتُهُ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ.

ج- انْقِطَاعُ الْحَدَثِ حَالَ التَّوَضُّؤِ:

40- يَرَى الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ انْقِطَاعَ الْحَدَثِ حَالَ التَّوَضُّؤِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ بِظُهُورِ بَوْلٍ وَسَيَلَانٍ نَاقِضٍ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ.

د- الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ:

41- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ- ضِمْنَ شُرُوطِ الْوُضُوءِ- مَعْرِفَةَ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يُمَيِّزَ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مِنْ سُنَنِهِ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِيهِ فَرْضًا وَسُنَّةً وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزْ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا فَرْضٌ.

وَالْمُضِرُّ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِيهِ فُرُوضًا وَسُنَنًا وَيَعْتَقِدَ أَنَّ الْفَرْضَ سُنَّةٌ.

وَهَذَا فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، أَمَّا الْعَالِمُ فَلَا بُدَ فِيهِ مِنَ التَّمْيِيزِ.

هـ- عَدَمُ الصَّارِفِ عَنِ الْوُضُوءِ:

42- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ عَدَمَ صَارِفٍ عَنِ الْوُضُوءِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِدَوَامِ النِّيَّةِ حُكْمًا: بِأَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَافٍ لِلنِّيَّةِ كَرِدَّةٍ أَوْ قَوْلِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّكِ أَوْ قَطْعٍ لِلنِّيَّةِ.

و- جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ:

43- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ جَرْيَ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَقَالُوا: لَا يَمْنَعُ مَنْ عَدَّ هَذَا شَرْطًا كَوْنَهُ مَعْلُومًا مِنْ مَفْهُومِ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ النَّضْحَ.

ز- النِّيَّةُ:

44- عَدَّ الْحَنَابِلَةُ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ النِّيَّةَ لِخَبَرِ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» أَيْ لَا عَمَلَ جَائِزٌ وَلَا فَاضِلٌ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَلِأَنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَى الثَّوَابِ فِي كُلِّ وُضُوءٍ وَلَا ثَوَابَ فِي غَيْرِ مَنْوِيٍّ؛ وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ وَمِنْ شُرُوطِ الْعِبَادَةِ النِّيَّةُ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُعْلَمْ إِلاَّ مِنَ الشَّارِعِ فَهُوَ عِبَادَةٌ.

ح- إِبَاحَةُ الْمَاءِ:

45- يَرَى الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ إِبَاحَةَ الْمَاءِ لِحَدِيثِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» فَلَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ بِمَاءٍ مُحَرَّمِ الِاسْتِعْمَالِ كَالْمَغْصُوبِ وَنَحْوِهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ وَتُكْرَهُ.

شُرُوطُ الْوُضُوءِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ:

46- يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِوُضُوءِ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ- وَهُوَ مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ كَسَلَسٍ وَاسْتِحَاضَةٍ- دَخَلَ الْوَقْتُ وَلَوْ ظَنًّا؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ طَهَارَةُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، فَتَقَيَّدَتْ بِالْوَقْتِ كَالتَّيَمُّمِ، وَتَقْدِيمِ الِاسْتِنْجَاءِ أَوِ الِاسْتِجْمَارِ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ التَّحَفُّظِ حَيْثُ احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الِاسْتِنْجَاءِ وَالتَّحَفُّظِ، وَالْمُوَالَاةَ بَيْنَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ، وَالْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.

وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَس ف 5)، (وَاسْتِحَاضَة ف 30 وَمَا بَعْدَهَا)

أَسْبَابُ الْوُضُوءِ:

47- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَرَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- إِلَى أَنَّ سَبَبَ فَرِيضَةِ الْوُضُوءِ إِرَادَةُ الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}.) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثُ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، فَلَوْلَاهُ لَمْ يَجِبِ الْوُضُوءُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْوُضُوءِ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ أَوْ نَحْوَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ.

وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- نُقِلَ عَنِ الْفُرُوعِ- أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ.

فُرُوضُ الْوُضُوءِ:

48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ، وَغَسْلَ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحَ الرَّأْسِ، وَغَسْلَ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي عَدِّ النِّيَّةِ وَالْمُوَالَاةِ (وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْفَوْرِ) وَالتَّرْتِيبِ وَالدَّلْكِ مِنْ فَرَائِضِهِ.

وَنُوَضِّحُ كُلَّ فَرْضٍ مِنْ هَذِهِ الْفُرُوضِ فِيمَا يَلِي

أَوَّلًا: الْفَرَائِضُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ:

الْفَرْضُ الْأَوَّلُ: غَسْلُ الْوَجْهِ:

49- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ ظَاهِرِ الْوَجْهِ بِكَامِلِهِ مَرَّةً فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.).

وَلِمَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ- رضي الله عنه- دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا».

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ بِكَامِلِهِ فِي الْوُضُوءِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


66-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 3)

وُضُوءٌ-3

الْفَرْضُ الثَّالِثُ: مَسْحُ الرَّأْسِ:

73- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ فُرُوضِهِ؛ لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} وَلِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي وَصْفِ وُضُوئِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَخَاصَّةً حَدِيثُ عُثْمَانَ «وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ) » وَلِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ.

وَالْمَسْحُ هُوَ: إِمْرَارُ الْيَدِ الْمُبْتَلَّةِ بِالْمَاءِ عَلَى الرَّأْسِ بِلَا تَسْيِيلٍ.

وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ:

الْقَدْرُ الْمُجْزِئُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ:

74- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ الرَّأْسِ كُلِّهِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفْصِيلِ:

فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ مَسْحُ جَمِيعِ رَأْسِهِ مِنْ جِلْدٍ أَوْ شَعْرٍ، وَذَلِكَ مِنْ مَنَابِتِ الشَّعْرِ الْمُعْتَادِ غَالِبًا مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ إِلَى نُقْرَةِ الْقَفَا، مَعَ مَسْحِ شَعْرِ صُدْغَيْهِ مِمَّا فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاتِئِ فِي الْوَجْهِ، وَأَمَّا الْعَظْمُ النَّاتِئُ فَهُوَ مِنَ الْوَجْهِ، فَلَا يُمْسَحُ مَعَ الرَّأْسِ بَلْ يُغْسَلُ مَعَ الْوَجْهِ.

وَيَدْخُلُ فِي الرَّأْسِ الْبَيَاضُ الَّذِي فَوْقَ وَتَدَيِ الْأُذُنَيْنِ.

وَقَالَ أَشْهَبُ: يَكْفِي مَسْحُ النِّصْفِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ مَسْحَ النَّاصِيَةِ مُجْزِئٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يُجْزِئُ مَسْحُ الثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ: يُجْزِئُ مَسْحُ الثُّلُثِ وَيُدْخِلُ الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ تَحْتَ الشَّعْرِ فِي رَدِّ الْمَسْحِ حَيْثُ طَالَ: إِذْ لَا يَحْصُلُ التَّعْمِيمُ إِلاَّ بِهَذَا الرَّدِّ.وَيُطَالَبُ بِالسُّنَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الشَّعْرُ الْقَصِيرُ فَيَحْصُلُ التَّعْمِيمُ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ، فَالرَّدُّ سُنَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّأْسِ شَعْرٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى بِكُلٍّ مِنْ أَثَرِ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَإِلاَّ سَقَطَتْ سُنَّةُ الرَّدِّ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ جَمِيعِ ظَاهِرِ الرَّأْسِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: يُجْزِئُ مَسْحُ أَكْثَرِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ وَأَبُو الْخَطَّابِ: أَكْثَرُهُ الثُّلُثَانِ فَصَاعِدًا، وَالْيَسِيرُ الثُّلُثُ فَمَا دُونَهُ، وَأَطْلَقَ الْأَكْثَرَ فَالْأَكْثَرَ فَشَمِلَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ وَلَوْ بِيَسِيرٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا: يُجْزِئُ مَسْحُ قَدْرِ النَّاصِيَةِ، وَعَنْهُ: يُجْزِئُ بِمَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ.

وَذَكَرَ فِي الِانْتِصَارِ احْتِمَالًا: يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهِ فِي التَّجْدِيدِ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَنْهُ يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهِ لِلْمَرْأَةِ دُونَ غَيْرِهَا.

وَقَالُوا: لَوْ مَسَحَ الْبَشَرَةَ فَقَطْ لَمْ يُجْزِئْ كَمَا لَوْ غَسَلَ بَاطِنَ اللِّحْيَةِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ رُكْنَ الْوُضُوءِ مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً فَوْقَ الْأُذُنَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ مَسْحُهُ، وَأَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ رُبُعُ الرَّأْسِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ، وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهَا مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، رَوَاهَا هِشَامٌ عَنِ الْإِمَامِ، وَقِيلَ: هِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَفِي الْبَدَائِعِ: أَنَّهَا رِوَايَةُ الْأُصُولِ، وَصَحَّحَهَا فِي التُّحْفَةِ وَغَيْرِهَا وَفِي الظَّهِيرَيْنِ وَعَلَيْهَا الْفَتْوَى.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ مُسَمَّى مَسْحٍ فَيُجْزِئُ مَسْحٌ لِبَعْضِ بَشَرَةِ الرَّأْسِ أَوْ بَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَلَوْ وَاحِدَةً أَوْ بَعْضَهَا فِي حَدِّ الرَّأْسِ بِأَنْ لَا يَخْرُجُ بِالْمَدِّ مِنْ جِهَةِ نُزُولِهِ، فَلَوْ خَرَجَ بِالْمَدِّ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ مِنْ جِهَةِ نُزُولِهِ لَمْ يَكْفِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُتَجَمِّعًا بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ لَخَرَجَ عَنِ الرَّأْسِ وَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، أَوْ قَدْرَ بَعْضِ شَعْرهِ مِنَ الْبَشَرَةِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْبَشَرَةِ وَالشَّعْرِ أَصْلٌ فِي الْمَسْحِ؛ وَلِذَا خُيِّرَ بَيْنَهَا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الرَّأْسِ عُرْفًا؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ اسْمٌ لِمَا رَأَسَ وَعَلَا.

كَيْفِيَّةُ مَسْحِ الرَّأْسِ الْوَاجِبِ فِي الْوُضُوءِ:

75- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ ثَلَاثُ أَصَابِعَ مِنَ الْيَدِ، فَلَوْ مَسَحَ بِإِصْبَعٍ أَوْ إِصْبَعَيْنِ لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْ مَسَحَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ مَفْتُوحَتَيْنِ فَبَعْضُهُمَا مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَفِّ عَلَى رَأْسِهِ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا إِصْبَعَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَفِّ قَدْرُ إِصْبَعٍ، فَيَصِيرُ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ.وَلَوْ وَضَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ وَلَمْ يَمُدَّهَا جَازَ عَلَى رِوَايَةِ الثَّلَاثِ أَصَابِعَ لَا الرُّبُعِ، وَلَوْ مَسَحَ بِهَا مَنْصُوبَةً غَيْرَ مَوْضُوعَةٍ وَلَا مَمْدُودَةٍ فَلَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُجْزِئُ الْمَسْحُ عَلَى أَيِّ كَيْفِيَّةٍ فَعَلَ بِيَدِهِ وَبِحَائِلٍ، قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمَسْحَ بِحَائِلٍ يُجْزِئُ مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَسْحُ بِخَشَبَةٍ وَخِرْقَةٍ مَبْلُولَتَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ وَلَمْ يُمِرَّهَا عَلَيْهَا، أَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ خِرْقَةً مَبْلُولَةً أَوْ بَلَّهَا وَهِيَ عَلَيْهِ- لَمْ يُجْزِئْ فِي الْأَصَحِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ.

مَا نَزَلْ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ:

76- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا يَجِبُ مَسْحُ مَا نَزَلَ عَنِ الرَّأْسِ مِنَ الشَّعْرِ لِعَدَمِ مُشَارَكَتِهِ الرَّأْسَ فِي التَّرَؤُّسِ وَلَا يُجْزِئُ مَسْحُهُ عَنِ الرَّأْسِ سَوَاءٌ رَدَّهُ فَعَقَدَهُ فَوْقَ رَأْسِهِ أَوْ لَمْ يَرُدَّهُ، وَإِنْ نَزَلَ الشَّعْرُ عَنْ مَنْبَتِهِ وَلَمْ يَنْزِلْ عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ فَمَسَحَ عَلَيْهِ- أَجْزَأَهُ وَلَوْ كَانَ الَّذِي تَحْتَهُ مَحْلُوقًا كَمَا لَوْ كَانَ بَعْضُ شَعْرِهِ دُونَ بَعْضِهِ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ: يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَرْخَى مِنَ الشَّعْرِ وَلَوْ طَالَ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ وَيَجِبُ عِنْدَهُمْ- فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ- مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ.

غَسْلُ الرَّأْسِ بَدَلُ مَسْحِهِ:

77- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّهُ إِنْ غَسَلَ الْمُتَوَضِّئُ رَأْسًا عِوَضًا عَنْ مَسْحِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ مَسْحٌ وَزِيَادَةٌ.

وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ بِأَنْ يُمِرَّ الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ عَلَى الرَّأْسِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: يُجْزِئُهُ غَسْلُهُ وَإِنْ لَمْ يُمِرَّ يَدَهُ.

كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ غَسْلُ الرَّأْسِ بَدَلًا مِنْ مَسْحِهِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَأْمُورِ بِهِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ غَسْلُ الرَّأْسِ مِنْ مَسْحِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَسْحًا، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ أَمَرَّ يَدَهُ.

حَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ بَعْدَ الْوُضُوءِ:

78- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ رَأْسِهِ بَعْدَ الْوُضُوءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْوُضُوءِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يُعَادُ الْوُضُوءُ بِحَلْقِ رَأْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ لَيْسَ بَدَلًا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْبَشَرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَسْحِ الْبَشَرَةِ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا لَمْ يَجُزْ.وَلَا يُعَادُ بَلِ الْمَحَلُّ بِذَلِكَ.

وَحُكِيَ فِي رَأْيٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ إِعَادَةُ مَسْحِ الرَّأْسِ بَعْدَ الْحَلْقِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ: هُوَ ضَعِيفٌ.

وَحُكِيَ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، حَيْثُ أَلْحَقَهُ بِخَلْعِ الْخُفِّ بَعْدَ مَسْحِهِ.

وَعَنِ ابْنِ رَجَبٍ: اسْتَحَبَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ إِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ أَنْ يَمَسَّهُ بِالْمَاءِ وَلَمْ يُوجِبْهُ.

تَكْرَارُ الْمَسْحِ:

79- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الرَّأْسِ يَكُونُ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ بِالتَّكْرَارِ يَصِيرُ غَسْلًا، وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْمَسْحُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ.لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ أَنَّ مَسْحَ رَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَذَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالُوا فِيهَا: «وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ» وَلَمْ يَذْكُرُوا عَدَدًا كَمَا ذَكَرُوا فِي غَيْرِهِ.لَا يُقَالُ: إِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَثَلَاثًا لِيُبَيِّنَ الْفَضِيلَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: هَذَا طَهُورُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَهُورَهُ عَلَى الدَّوَامِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَثْلِيثُ مَسْحِ الرَّأْسِ.

الشُّعُورُ الْمَضْفُورَةُ:

80- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَا ضُفِّرَ مِنَ الشَّعْرِ بِنَفْسِهِ لَا يُنْقَضُ فِي الْوُضُوءِ مُطْلَقًا.اشْتَدَّ أَمْ لَا، وَمَا ضُفِّرَ بِخُيُوطٍ ثَلَاثَةٍ يَجِبُ نَقْضُهُ مُطْلَقًا.اشْتَدَّ أَمْ لَا، وَمَا ضُفِّرَ بِأَقَلَّ مِنْهَا يَجِبُ نَقْضُهُ إِنِ اشْتَدَّ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَدَّ فَلَا يَجِبُ نَقْضُهُ.

وَنَبَّهَ الصَّاوِيُّ عَلَى أَنْ يَنْفَعَ النِّسَاءَ فِي الْوُضُوءِ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ.

الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ:

81- فِي إِجْزَاءِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ- مَعَ مَسْحِ الْفَرْضِ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ بَدَلًا عَنْهُ- أَوْ عَدَمِ إِجْزَائِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْح ف 8- 12، عِمَامَة ف13).

الْفَرْضُ الرَّابِعُ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ:

82- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ أَوْ مَسْحِهِمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ الظَّاهِرَتَيْنِ السَّلِيمَتَيْنِ- غَيْرِ الْمَسْتُورَتَيْنِ بِخُفٍّ أَوْ جَبِيرَةٍ- إِلَى الْكَعْبَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: « {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} » وَلِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَمِنْهَا: «ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِهِمَا؛ وَلِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ عُضْوَانِ مَحْدُودَانِ، فَكَانَ وَاجِبُهُمَا الْغَسْلَ كَالْيَدَيْنِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِتَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُدَلِّكُ بِخِنْصَرِهِ مَا بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغَسْلِ، فَإِنَّ الْمَمْسُوحَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِيعَابِ وَالدَّلْكِ، وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- غَسَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ، لَا يَجْحَدُهُ مُسْلِمٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ بَيَانَ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ.

وَثَبَتَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ بِالْإِجْمَاعِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفَرْضُهَا عَنْ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ الْغَسْلُ دُونَ الْمَسْحِ.

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنْ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: فَرْضُ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحُ دُونَ الْغَسْلِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ.

وَقَدْ ثَبَتَ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلُوا الْأَقْدَامَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: قَرَأَ عَلَيَّ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ( (: فَقَرَآ {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فَسَمِعَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- ذَلِكَ وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ: (وَأَرْجُلَكُمْ) هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ مِنَ الْكَلَامِ.

وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ مَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ غَسْلَتَيْنِ وَمَسْحَتَيْنِ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: ثَبَتَ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا (فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) بِالنَّصْبِ، وَقَالَ: عَادَ الْأَمْرُ إِلَى الْغُسْلِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ الْحَجَّاجِ «اغْسِلُوا الْقَدَمَيْنِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، وَخَلِّلُوا مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبَ إِلَى الْخَبَثِ مِنْ قَدَمَيْهِ» فَقَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ، وَتَلَا الْآيَةَ (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قَرَأَهَا جَرًّا.

وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْوُضُوءُ مَغْسُولَانِ وَمَمْسُوحَانِ، فَالْمَمْسُوحَانِ يَسْقُطَانِ فِي التَّيَمُّمِ.وَهُوَ قَوْلٌ لِلطَّبَرِيِّ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَالشَّعْبِيِّ- رضي الله عنهم- مِنْ أَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحُ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا، إِلاَّ مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِهِمَا.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى وُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، بِحُجَّةِ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ هُنَا لِعَدَمِ التَّنَافِي، إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

وَيَجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِدْخَالُ الْكَعْبَيْنِ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي ذَلِكَ إِلاَّ زُفَرُ وَالْكَلَامُ فِي الْكَعْبَيْنِ نَحْوُ الْكَلَامِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ.

وَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي أَسْفَلِ السَّاقِ (ر: كَعْب ف1 وَمَا بَعْدَهَا).

ثَانِيًا: الْفَرَائِضُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فِي الْوُضُوءِ:

أ- النِّيَّةُ:

83- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ:

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ إِلاَّ بِهَا.

وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا فَرْضٌ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (نِيَّة ف 44).

رَفْضُ نِيَّةِ الْوُضُوءِ:

84- إِذَا رَفَضَ الْمُتَوَضِّئُ النِّيَّةَ بَعْدَ كَمَالِ الْوُضُوءِ، فَلَا يُؤَثِّرُ هَذَا الرَّفْضُ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ كَذَلِكَ.

وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَبْطُلُ، أَمَّا إِذَا رَفَضَهَا أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِفَرْضِيَّتِهَا أَوْ شَرْطِيَّتِهَا فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ: إِذَا نَوَى قَطْعَ الْوُضُوءِ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَبْطُلْ وَيَسْتَأْنِفُ النِّيَّةَ لِمَا بَقِيَ إِنْ جَوَّزْنَا تَفْرِيقَهَا، وَإِلاَّ اسْتَأْنَفَ الْوُضُوءَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ: يَبْطُلُ مَا مَضَى مِنَ الطَّهَارَةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ اسْتَأْنَفَ، وَقِيلَ: لَا يَبْطُلُ مَا مَضَى فِيهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ غَسَلَ الْبَاقِيَ بِنِيَّةٍ أُخْرَى قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ صَحَّتْ طَهَارَتُهُ، وَإِنْ طَالَ انْبَنَى عَلَى وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ وَعَدَمِهِ.

فَأَمَّا إِنْ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ وَبَعْضَهَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ ثُمَّ أَعَادَ غَسْلَ مَا نَوَى بِهِ التَّبَرُّدَ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ أَجْزَأَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ: لَا يُغْتَفَرُ رَفْضُ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ فَيَبْطُلُ.

وَقِيلَ: يُغْتَفَرُ الرَّفْضُ فَلَا يَبْطُلُ الْوُضُوءُ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ عِنْدَهُمْ فِي الرَّفْضِ الْوَاقِعِ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ إِذَا كَمَّلَهُ بِالْقُرْبِ بِالنِّيَّةِ الْأُولَى.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُكْمِلْهُ أَوْ كَمَّلَهُ بِنْيَةٍ أُخْرَى أَوْ بَعْدَ طُولٍ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي بُطْلَانِهِ.

ب: الْمُوَالَاةُ:

85- الْمُوَالَاةُ: هِيَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ بِحَيْثُ لَا يَجِفُّ الْعُضْوُ الْأَوَّلُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الثَّانِي.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الْجَدِيدِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ.وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- وَالْأَوْزَاعِيُّ.

(ر: مُوَالَاة ف 3)

ج: التَّرْتِيبُ:

86- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فِي الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ، هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّرْتِيبِ أَنْ يَأْتِيَ بِالطَّهَارَةِ عُضْوًا بَعْدَ عُضْوٍ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَغْسِلَ الْوَجْهَ ثُمَّ الْيَدَيْنِ، ثُمَّ يَمْسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَغْسِلَ الرِّجْلَيْنِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.

حَيْثُ دَخَلَ الْمَسْحُ بَيْنَ الْغَسْلَيْنِ وَقُطِعَ حُكْمُ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ إِيجَابَ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرَتْ أَشْيَاءَ مُتَجَانِسَةً وَغَيْرَ مُتَجَانِسَةٍ جَمَعَتِ الْمُتَجَانِسَةَ عَلَى نَسَقٍ، ثُمَّ عَطَفَتْ غَيْرَهَا، وَلَا يُخَالِفُونَ ذَلِكَ إِلاَّ لِفَائِدَةٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا لَمَا قَطَعَ النَّظِيرَ عَنْ نَظِيرِهِ، وَلِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ الْوُضُوءِ الْوَاجِبِ، لَا لِلْمَسْنُونِ، حَيْثُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ السُّنَنِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَكَاهُ مُرَتَّبًا مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ الْمَوَاطِنِ الَّتِي حَكَوْهَا وَفِعْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- بَيَانٌ لِلْوُضُوءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى أَفْعَالٍ مُتَغَايِرَةٍ يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَوَجَبَ فِيهَا التَّرْتِيبُ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَلَيْسَ مِنْ أَرْكَانِهِ وَلَا مِنْ وَاجِبَاتِهِ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمَكْحُولٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالزَّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ فِي الْآيَةِ بِغَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا، فَكَيْفَمَا غَسَلَ الْمُتَوَضِّئُ أَعْضَاءَهُ كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ.

وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ» وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ طَهَارَةٌ فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا تَرْتِيبٌ كَالْجَنَابَةِ، وَكَتَقْدِيمِ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اغْتَسَلَ الْمُحْدِثُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ارْتَفَعَ حَدَثُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ لَا يَجِبُ.

(ر: تَرْتِيب ف4) 50.

د- الدَّلْكُ

87- الدَّلْكُ لُغَةً: مَصْدَرُ «دَلَكَ»، يُقَالُ: دَلَكْتُ الشَّيْءَ دَلْكًا مِنْ بَابِ «قَتَلَ»: مَرَسْتَهُ بِيَدِكَ، وَدَلَكْتَ النَّعْلَ بِالْأَرْضِ: مَسَحْتَهَا بِهَا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ- كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ-: إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْعُضْوِ إِمْرَارًا مُتَوَسِّطًا وَلَوْ لَمْ تَزُلِ الْأَوْسَاخُ وَلَوْ بَعْدَ صَبِّ الْمَاءِ قَبْلَ جَفَافِهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الدَّلْكِ فِي الْوُضُوءِ هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ؟

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الدَّلْكَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيُبَالِغُ فِي الْعَقِبِ خُصُوصًا فِي الشِّتَاءِ، فَقَدْ وَرَدَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: هُوَ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ، قَالَ الْحَطَّابُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الدَّلْكِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْمَشْهُورُ: الْوُجُوبُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي حُصُولِ مُسَمَّى الْغَسْلِ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ: لِقَوْلِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «وَادْلُكِي جَسَدَكِ بِيَدِكِ» وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ عِلَّتَهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جَسَدِهِ عَلَى وَجْهٍ يُسَمَّى غَسْلًا، وَقَدْ فَرَّقَ أَهْلُ اللُّغَةِ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالِانْغِمَاسِ.

وَالثَّانِي: نَفْيُ وُجُوبِهِ، وَهُوَ لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ بِنَاءً عَلَى صِدْقِ اسْمِ الْغَسْلِ بِدُونِهِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ لَا لِنَفْسِهِ بَلْ لِتَحَقُّقِ إِيصَالِ الْمَاءِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ إِيصَالَ الْمَاءِ لِطُولِ مُكْثٍ أَجْزَأَهُ، وَعَزَاهُ اللَّخْمِيُّ لِأَبِي الْفَرَجِ وَذَكَرَ ابْنُ نَاجِي أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ عَزَاهُ لَهُ.

سُنَنُ الْوُضُوءِ:

أَوَّلًا: التَّسْمِيَةُ:

ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ وَعِنْدَ غَسْلِ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.

وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- التَّسْمِيَةُ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ:

88- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ) إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَقِيلَ: إِنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وَأَنَّهَا تُكْرَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ.

(ر: بَسْمَلَة ف 6)

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَتَحْصُلُ التَّسْمِيَةُ بِكُلِّ ذِكْرٍ، فَلَوْ كَبَّرَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ حَمِدَ كَانَ مُقِيمًا لِأَصْلِ السُّنَّةِ، لَكِنَّ الْوَارِدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمَنْقُولَ عَنِ السَّلَفِ: بِسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ.وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَعْدَ التَّعَوُّذِ، وَفِي الْمُجْتَبِي: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ الْعَيْنِيُّ: الْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: بِسْمِ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهَا بِسْمِ اللَّهِ، وَأَكْمَلُهَا كَمَالُهَا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثُمَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَنِعْمَتِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْمَاءَ طَهُورًا، وَزَادَ الْغَزَالِيُّ: رَبِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونَ، وَحَكَى الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمُ التَّعَوُّذَ قَبْلَهَا.

وَالْمُرَادُ بِأَوَّلِ الْوُضُوءِ: أَوَّلُ غَسْلِ الْكَفَّيْنِ، فَيَنْوِي الْوُضُوءَ وَيُسَمِّي اللَّهَ عِنْدَهُ بِأَنْ يُقْرِنَ النِّيَّةَ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ أَوَّلِ غَسْلِهِمَا، ثُمَّ يَتَلَفَّظُ النِّيَّةَ، ثُمَّ يُكْمِلُ غَسْلَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَةِ سُنَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِمَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- عَلَى الْمَشْهُورِ-: يَقُولُ الْمُتَوَضِّئُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ وُضُوئِهِ أَيْ عِنْدَ غَسْلِ يَدَيْهِ إِلَى كُوعَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَفِي زِيَادَةٍ: - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ- قَوْلَانِ رُجِّحَ كُلٌّ مِنْهُمَا، فَابْنُ نَاجِي رَجَّحَ الْقَوْلَ بِعَدَمِ زِيَادَتِهِمَا، وَالْفَاكِهَانِيُّ وَابْنُ الْمُنِيرِ رَجَّحَا الْقَوْلَ بِزِيَادَتِهِمَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: صِفَةُ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ، لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، فَلَوْ قَالَ: بِسْمِ الرَّحْمَنِ أَوِ الْقُدُّوسِ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَقَالَ الْمُرْدَاوِيُّ: الْأُولَى الْإِجْزَاءُ، وَمَحَلُّ التَّسْمِيَةِ اللِّسَانُ؛ لِأَنَّهَا ذِكْرٌ، وَوَقْتُهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ وُجُوبًا وَأَوَّلِ الْمَسْنُونَاتِ اسْتِحْبَابًا.

ب- التَّسْمِيَةُ عِنْدَ غَسْلِ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ:

89- نَصَّ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ غَسْلِ كُلِّ عُضْوٍ فِي الْوُضُوءِ أَوْ عِنْدَ مَسْحِ مَا يُمْسَحُ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَالتَّسْمِيَةُ تَكُونُ بِالصِّيغَةِ الْوَارِدَةِ وَهِيَ: بِسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَزَادَ بَعْضُهُمُ التَّشَهُّدَ هُنَا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ قَالَ فِي الْحِلْيَةِ: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ حِينَ يَتَوَضَّأُ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ يَقُولُ بِكُلِّ عُضْوٍ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَقُولُ حِينَ يَفْرَغُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ، فَإِنْ قَامَ مِنْ وَقْتِ ذَلِكَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا وَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ، انْفَتَلَ مِنْ صِلَاتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ».

وَنَصَّ ابْنُ مُفْلِحٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ.

ثَانِيًا: غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ:

90- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ غَسْلُ الْيَدَيْنِ الطَّاهِرَتَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ؛ لِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَدْ «رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ- رضي الله عنه- صِفَةَ وُضُوءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْإِنَاءِ».

وَإِنْ كَانَتَا نَجِسَتَيْنِ فَيَجِبُ غَسْلُهُمَا اتِّفَاقًا.

(ر: رُسْغ ف 2، كَفّ ف 3، نَوْم، يَد).

ثَالِثًا: الْمَضْمَضَةُ:

91- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَضْمَضَةِ فِي الْوُضُوءِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَضْمَضَةَ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمَضْمَضَةُ فِي الْوُضُوءِ وَاجِبَةٌ.

وَانْظُرْ تَفْصِيلَ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْمَضْمَضَةِ وَأَدِلَّةِ كُلِّ رَأْيٍ وَكَيْفِيَّتِهَا، وَالتَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَالْمُبَالَغَةِ فِيهَا، وَحُكْمِهَا لِلصَّائِمِ فِي مُصْطَلَحِ (مَضْمَضَة ف 2- 8).

رَابِعًا- الِاسْتِنْشَاقُ:

92- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الِاسْتِنْشَاقِ فِي الْوُضُوءِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الِاسْتِنْشَاقَ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِنْشَاقَ فِي الْوُضُوءِ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ.

وَانْظُرْ تَفْصِيلَ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الِاسْتِنْشَاقِ وَأَدِلَّةَ كُلِّ رَأْيٍ وَكَيْفِيَّتَهُ فِي مُصْطَلَحِ (مَضْمَضَة ف 3- 8، اسْتِنْشَاق ف 2).

خَامِسًا- الِاسْتِنْثَارُ:

93- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِنْثَارَ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِهِ؛ لِحَدِيثِ «إِذَا اسْتَنْشَقْتَ فَانْتَثِرْ» وَبِمَا وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ مِنْ مَاءٍ».

وَالِاسْتِنْثَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: طَرْحُ الْمُتَوَضِّئِ الْمَاءَ مِنَ الْأَنْفِ بِالنَّفَسِ وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةَ وَالْإِبْهَامَ مِنَ الْيَدِ الْيُسْرَى عَلَيْهِ عِنْدَ نَثْرِهِ، مُمْسِكًا لَهُ مِنْ أَعْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي النَّظَافَةِ، فَإِنْ لَمْ يَضَعْ إِصْبَعَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ وَلَا أَنْزَلَ الْمَاءَ مِنَ الْأَنْفِ بِالنَّفَسِ- وَإِنَّمَا نَزَلَ الْمَاءُ بِنَفْسِهِ- فَلَا يُسَمَّى هَذَا اسْتِنْثَارًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْإِصْبَعَيْنِ مِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَكَوْنُ الْإِصْبَعَيْنِ مِنَ الْيَدِ الْيُسْرَى مُسْتَحَبٌّ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْإِصْبَعَيْنِ السَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ.

وَالِاسْتِنْثَارُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يُخْرِجَ الْمُتَوَضِّئُ بَعْدَ الِاسْتِنْشَاقِ مَا فِي أَنْفِهِ مِنْ مَاءٍ وَأَذًى بِخِنْصَرِ يَدِهِ الْيُسْرَى.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ اسْتِنْثَارُهُ بِيَسَارِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


67-موسوعة الفقه الكويتية (ولوغ)

وُلُوغٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْوُلُوغُ فِي اللُّغَةِ: شُرْبُ السِّبَاعِ بِأَلْسِنَتِهَا يُقَالُ: وَلَغَ الْكَلْبُ يَلَغُ وَلْغًا مِنْ بَابِ نَفَعَ، وَوُلُوغًا: شَرِبَ مَا فِي الْإِنَاءِ بِأَطْرَافِ لِسَانِهِ أَوْ أَدْخَلَ فِيهِ لِسَانِهِ فَحَرَّكَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» أَيْ شَرِبَ مِنْهُ بِلِسَانِهِ.وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ يُقَالُ: أَوْلَغْتُهُ إِذَا سَقَيْتَهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- السُّؤْرُ:

2- السُّؤْرُ فِي اللُّغَةِ: الْبَقِيَّةُ وَالْفَضْلَةُ مِنْ سَأَرَ وَجَمْعُهُ أَسْآرٌ، وَأَسْأَرَ مِنْهُ شَيْئًا: أَبْقَى، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا شَرِبْتُمْ فَأَسْئِرُوا» أَيْ أَبْقُوا شَيْئًا مِنَ الشَّرَابِ فِي قَعْرِ الْإِنَاءِ.

وَالسُّؤْرُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ بَقِيَّةُ الْمَاءِ الَّتِي يُبْقِيهَا الشَّارِبُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِبَقِيَّةِ الطَّعَامِ غَيْرُهُ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ السُّؤْرِ وَالْوُلُوغُ أَنَّ السُّؤْرَ هُوَ الْبَاقِي مِنَ الشُّرْبِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ وُلُوغٍ أَوْ غَيْرِهِ.

ب- الشُّرْبُ:

3- الشُّرْبُ فِي اللُّغَةِ جَرْعُ كُلِّ مَائِعٍ: مَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.

يُقَالُ: شَرِبَ الْمَاءَ وَنَحْوَهُ شُرْبًا: جَرَعَهُ فَهُوَ شَارِبٌ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوُلُوغِ وَالشُّرْبِ أَنَّ الشُّرْبَ أَعَمُّ مِنَ الْوُلُوغِ فَكُلُّ وُلُوغٍ شُرْبٌ وَلَا يَلْزَمُ الْعَكْسُ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوُلُوغِ

يَتَعَلَّقُ بِالْوُلُوغِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَوَّلًا: وُلُوغُ الْكَلْبِ

أـ نَجَاسَةُ إِنَاءٍ يَلْغُ فِيهِ الْكَلْبُ:

4 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ وُلُوغَ الْكَلْبِ فِي الْإِنَاءِ يُنَجِّسُهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ وُلُوغَ الْكَلْبِ لَا يُنَجِّسُ الْإِنَاءَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (سُؤْر ف 3 ـ 6، وَكَلْب ف 15، 18).

وَأَمَّا وُلُوغُ سَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فِي الْإِنَاءِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فِي مُصْطَلَحِ (سُؤْر ف 3 ـ 6).

ب ـ عَدَدُ الْغَسَلَاتِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ:

5 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَفِي عَدَدِ الْغَسَلَاتِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب ف 18، وَتَتْرِيب ف 2).

6 ـ وَأَمَّا غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ سَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ فِي عَدَدِ غَسَلَاتِهِ:

ـ فَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْكَلْبِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فِي تَطْهِيرِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهَا وَعَدَدِ الْغَسَلَاتِ، إِذْ يُغْسَلُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَسَبْعًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ غَسْلُهَا ثَلَاثًا وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عِنْدَهُمْ: تُكَاثَرُ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ.

ـ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ وُجُوبِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِنَّمَا قَالُوا بِنَدْبِ غَسْلِ الْإِنَاءِ، مِنْ وُلُوغِهِمَا سَبْعًا بِلَا تَتْرِيبٍ.

- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذْ وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ عَدَا الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ.

جـ ـ تَعَدُّدُ الْوُلُوغِ:

7 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْغَسْلِ بِسَبَبِ تَعَدُّدِ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ.فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ) عَدَمَ تَعَدُّدِ الْغَسْلِ بِسَبَبِ وُلُوغِ كَلْبٍ وَاحِدٍ مَرَّاتٍ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ وُلُوغِ كِلَابٍ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ قَبْلَ غَسْلِهِ لِتَدَاخُلِ مُسَبِّبَاتِ الْأَسْبَابِ الْمُتَّفِقَةِ فِي الْمُسَبِّبِ كَنَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَمُوجِبَاتِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَتَعَدَّدُ الْغَسْلُ بِوُلُوغِ كَلْبٍ أَوْ كِلَابٍ.

وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ عِنْدِ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ لِكُلِّ وَلْغَةٍ سَبْعٌ.

وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ: يَكْفِي لِوَلْغَاتِ الْكَلْبِ الْوَاحِدِ سَبْعٌ، وَيَجِبُ لِكُلِّ كَلْبٍ سَبْعٌ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (كَلْب ف 19).

د- شَهَادَةُ ثِقَةٍ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ:

8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَهُ رَجُلٌ ثِقَةٌ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ فِي أَحَدِ الْإِنَائَيْنِ بِعَيْنِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ إِنَاءَانِ يَعْلَمُ أَنَّ الْكَلْبَ وَلَغَ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يَعْلَمُ عَيْنَهُ، فَيَجِبُ قَبُولُ خَبَرِهِ وَيُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ وَطَهَارَةِ الْآخَرِ وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا إِذَا أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِوُلُوغِهِ فِي هَذَا، وَثِقَةٌ بِوُلُوغِهِ فِي ذَاكَ فَيُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِمَا مِنَ احْتِمَالِ الْوُلُوغِ فِي وَقْتَيْنِ، وَمَتَى أَمْكَنَ صِدْقُ الْخَبَرَيْنِ الثِّقَتَيْنِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِمَا.

وَإِذَا أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِوُلُوغِهِ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ حِينَ بَدَأَ حَاجِبُ الشَّمْسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ مَثَلًا، فَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ وَلَغَ فِي ذَاكَ دُونَ ذَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيهَا، فَقَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِيهِمَا وَيَسْتَعْمِلُ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى نَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا فَلَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ قَوْلِهِمَا.

وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجُمْهُورُ الْخُرَاسَانِيِّينَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ تُبْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا، أَصَحُّهَمَا تَسْقُطَانِ.

وَالثَّانِي يُسْتَعْمَلَانِ.وَفِي الِاسْتِعْمَالِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: بِالْقُرْعَةِ، وَالثَّانِي: بِالْقِسْمَةِ، وَالثَّالِثُ: يُوقَفُ حَتَّى يَصْطَلِحَ الْمُتَنَازِعَانِ.

وَقَالَ: إِنْ قُلْنَا يَسْقُطَانِ سَقَطَ خَبَرُ الثِّقَتَيْنِ وَبَقِيَ الْمَاءُ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ فَيَتَوَضَّأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِمَا جَمِيعًا، قَالُوا: لِأَنَّ تَكَاذُبَهُمَا وَهَّنَ خَبَرَهُمَا، وَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِمَا لِلتَّعَارُضِ فَسَقَطَ، قَالُوا: وَإِنْ قُلْنَا تُسْتَعْمَلَانِ لِمَ يَجِئْ قَوْلُ الْقِسْمَةِ بِلَا خِلَافٍ وَامْتِنَاعُهُ وَاضِحٌ، وَأَمَّا الْقُرْعَةُ فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهَا لَا تَجِيءُ أَيْضًا كَمَا قَطَعَ بِهِ الشِّيرَازِيُّ، وَحَكَىَ صَاحِبُ الْمُذْهَبِ وَجْهًا: أَنَّهُ يُقْرِعُ وَيَتَوَضَّأُ بِمَا اقْتَضَتِ الْقَرْعَةُ طَهَارَتَهُ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ.وَأَمَّا الْوَقْفُ فَقَدْ جَزَمَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَجِيءُ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مَجِيءُ الْوَقْفِ.

فَعَلَى هَذَا يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مَاءٌ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ، وَوَجْهُ جَرَيَانِ الْوَقْفِ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا مَا يَمْنَعُهُ بِخِلَافِ الْقِسْمَةِ وَالْقُرْعَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِ الشِّيرَازِيِّ: لَا يَجِيءُ الْوَقْفُ، الْقِيَاسُ عَلَى مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِنَاءَانِ وَاجْتَهَدَ وَتَحَيَّرَ فِيهِمَا فَإِنَّهُ يُرِيقُهُمَا وَيُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ بِلَا إِعَادَةٍ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي الْإِرَاقَةِ وَلَمْ يَقُولُوا بِالْوَقْفِ، فَكَذَا هُنَا.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ أَخَبْرَهُ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ لَزِمَ قَبُولُ خَبَرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَصِيرًا أَوْ ضَرِيرًا؛ لِأَنَّ لِلضَّرِيرِ طَرِيقًا إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَالْحِسِّ.وَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ وَلَمْ يَلْغُ فِي هَذَا.وَقَالَ آخَرُ: لَمْ يَلْغُ فِي الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا وَلَغَ فِي الثَّانِي، وَجَبَ اجْتِنَابُهُمَا، فَيُقْبَلُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا خَفِيَ عَلَى الْآخَرِ، إِلاَّ أَنْ يُعِيِّنَا وَقْتًا مُعَيَّنًا وَكَلْبًا وَاحِدًا يَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ شُرْبِهِ مِنْهُمَا فَيَتَعَارَضُ قَوْلَاهُمَا وَيَسْقُطَانِ.وَيُبَاحُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: شَرِبَ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ، وَقَالَ الْآخَرُ: نَزَلَ وَلَمْ يَشْرَبْ.قُدِّمَ قَوْلُ الْمُثْبِتِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَحَقَّقْ شُرْبُهُ مِثْلُ الضَّرِيرِ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ حِسِّهِ، فَيُقَدَّمُ قَوْلُ الْبَصِيرِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ قَبُولُ خَبَرِ مُسْلِمٍ عَدْلٍ ـ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً ـ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ فِيهِ، وَأَمَّا الْفَاسِقُ وَالْمَسْتُورُ فَيَتَحَرَّى الْمُسْلِمُ فِي خَبَرِهِ.

وَلَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَعَدْلٌ بِنَجَاسَتِهِ حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


68-الغريبين في القرآن والحديث (روم)

(روم)

وفي حديث بعض التابعين: (أنه أوصى رجلا في طهارته، فقال: تعهد المغفلة، والمنشلة، والروم) قال الأزهري: الروم: شحمة الأذن، والمغفلة يعني: العنفقة التي يغفل عنها المتوضئ والمنشلة: موضع الخاتم، نشل وانتشل، إذا نزع.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


69-المعجم الغني (قَدَاسَةٌ)

قَدَاسَةٌ- [قدس]، (مصدر: قَدُسَ):

1- "قَدَاسَةُ الْمَكَانِ": طَهَارَتُهُ وَجَلَالُهُ.

2- "قَدَاسَةُ الْبَابَا": لَقَبُ الْحَبْرِ الأَعْظَمِ، وَهُوَ رَأْسُ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ. "صَاحِبُ الْقَدَاسَةِ".

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


70-الأفعال المتداولة (أَحْدَثَ)

أَحْدَثَ: أَحْدَثَ الرّجلُ. (وقع منه ما ينقض طهارته)

الأفعال المتداولة-محمد الحيدري-صدر: 1423هـ/2002م


71-تاج العروس (روم)

[روم]: الرَّوْمُ: الطَّلَبُ، كالمَرامِ، وقد رَوَامَهُ يَرومُهُ رَوْمًا ومَرامًا: طَلَبَهُ.

والرَّوْمُ: شَحْمَةُ الأُذُنِ؛ ومنه حَدِيْث أَبي بكْرٍ: أَنَّه أَوصْى رجُلًا في طهَارَتِه فقالَ: «تَعَهَّد المَغْفَلَة والمَنْشَلَةَ والرَّوْمَ»؛ هو بالفتحِ ويُضَمُّ.

قالَ الجوْهَرِيُّ: والرَّوْمُ الذي ذَكَرَه سِيْبَوَيْه حَرَكَةٌ مُخْتَلَسَة مُخْتَفاةٌ بضَرْبٍ مِن التَّخْفيفِ، وهي أَكْثَرُ من الإِشْمامِ لأنَّها تُسْمَعُ، وهي بزِنةِ الحرَكَةِ وإِن كانت مُخْتَلَسَةً مِثْل هَمْزَة بينَ بينَ، كما قالَ:

أَأَن زُمَّ أَجْمالٌ وفارقَ جِيْرة *** وصاح غُراب البَيْنِ: أَنتَ حَزِينُ

قوْلُه: أَأَن زُمَّ: تَقْطيعُهُ فَعُوْلَنُ، ولا يجوزُ تَسْكين العَيْن، وكَذلِكَ قوْلُه تعالَى: {شَهْرُ رَمَضانَ}، فيمَنْ أَخْفَى إنَّما هو بحَرَكَةٍ مُخْتلَسةٍ، ولا يَجوزُ أَن تكونَ الرَّاءُ الْأُولَى ساكِنَةً لأنَّ الهاءَ قبْلَها ساكِنٌ، فيُؤَدِّي إلى الجَمْع بينَ السَّاكِنَيْن في الوَصْلِ مِن غيرِ أَنْ يكونَ قَبْلها حَرْفُ لينٍ؛ قالَ: وهذا غيرُ مَوْجودٍ في شي‌ءٍ مِن لغاتِ العَرَبِ.

قالَ: وكَذلِكَ قوْلُه تعالَى: {إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} و {أَمَّنْ لا يَهِدِّي} * و {يَخِصِّمُونَ} ** وأَشْباهُ ذلِكَ، قالَ: ولا يُعْتبرُ بقولِ القُرَّاء إنَّ هذا ونَحْوَه مُدْغَمٌ لأنَّهم لا يُحَصِّلون هذا البابَ، ومَنْ جَمَعَ بينَ ساكِنَيْن في موْضِعٍ لا يصحُّ فيه اخْتِلاسُ الحَرَكَةِ فهو مُخْطئٌ كقِراءَةِ حَمْزَةَ في قوْلِهِ تعالَى: {فَمَا اسْتَطاعُوا}، لأَنَّ سِيْن الاسْتِفْعال لا يَجوزُ تَحْريكُها بوَجْهٍ مِن الوجُوه، انتَهى.

والرُّوْمُ، بالضمِّ: جِيلٌ من وَلَدِ الرُّومِ بنِ عيصو بنِ إسْحقَ، عليه‌السلام، سُمُّوا باسْمِ جَدِّهِم؛ قيلَ: كانَ لعِيصُو ثَلاثُونَ ولدًا منهم الرُّومُ، ودخَلَ في الرُّومِ طَوائِفَ مِن تنوخ ونَهْد وسُلَيْم وغيرِهِم مِن غَسَّان كانوا بالشأمِ، فلمَّا أَجْلاهُم المُسْلِمون عنها دَخَلُوا بِلادَ الرُّومِ فاسْتَوْطنُوها فاخْتَلَطَتْ أَنْسابُهم. رجُلٌ رُوميٌّ الجمع: رومٌ.

قالَ الفارِسِيُّ: هو مِن بابِ زَنْجِيّ وزُنْج.

قالَ ابنُ سِيْدَه: ومثلُه عنْدِي فارِسِيّ وفُرْسٌ، قالَ وليسَ بينَ الواحِدِ والجَمْع إلَّا الياء المُشَدَّدةِ كما قالوا تَمْرَةٌ وتَمْرٌ، ولم يكنْ بينَ الواحِدِ والجَمْع إلَّا الهاء.

قالَ: والرُّومَةُ، بالضمِّ، غيرُ مَهْموزٍ: الغِراءُ الذي يُلْصَقُ به ريشُ السَّهْمِ.

قالَ أَبو عبيدٍ: هي بغيرِ هَمْزٍ. وحَكَاها ثَعْلَب مَهْموزَةً، وقد تقدَّمَ.

ورُومَةُ: قرية بطَبَرَيَّةَ. وفي اللِّسانِ: مَوْضِعٌ بالسِّرْيانيَّة.

ورُومَةُ: بئرٌ بالمدينةِ، على ساكِنِها أَفْضل الصَّلاة والسَّلام، وهي التي حَفَرَها عُثْمانُ، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه، وقيلَ: اشْتَرَاها وسَبَلَها.

وقالَ نَصْر: وهي بوادِي العقيقِ وماؤُها عَذْبٌ.

ورَوَّمَ: لَبِثَ.

وقالَ ابنُ الأعْرَابيِّ: رَوَّمَ فُلانًا، ورَوَّمَ به: إذا جَعَلَه يَطْلُبُ الشَّي‌ءَ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.

ورَوَّمَ الرَّجُلُ رأْيَهُ إذا هَمَّ بشي‌ءٍ بعد شي‌ءٍ.

ورامةُ: موضع بالبادِيَةِ؛ قيلَ: بالعَقيقِ.

وقالَ عمارَةُ ابنُ عقيلٍ: وَرَاء القَرْيتينِ في طَريقِ البَصْرةِ إلى مكَّةَ. وقيلَ: إِنَّه مِن دِيارِ عامِرٍ، قالَ أَوْسُ بنُ حجرٍ:

ولو شَهِدَ الفَوارِسُ مِن نُمَيرٍ *** بِرامَةَ أَبو بنفق لِوى القَصِيمُ

وقالَ القطاميُّ:

حلّ الشقيقٌ من العقيقِ ظعائن *** فَنَزلنَ رامَةَ أَوْ حَلَلْنَ بَرَاهَا

ومنه المَثَلُ: تَسْأَلُني برامَتَيْنِ سَلْجَمَا.

قالَ الأصْمعيُّ: قيلَ لرجُلٍ مِن رامَةَ: إنَّ قاعَكُم هذا طَيِّبٌ فلو زَرَعْتُموه، قالَ زَرَعْناه، قالَ: وما زَرَعْتُموه؟ قالَ سَلْجَمًا، قالَ: ما جَرَّأَكُم على ذلِكَ؟ قالَ: مُعانَدَة لقوْلِ الشاعِرِ:

تَسْأَلُني برَامَتَيْنِ سَلْجَمَا *** يا مَيُّ لو سأَلتِ شَيئًا أَمَما

جاءَ به الكَرِيُّ أَو تَجَشَّما

ويُكْثِرونَ من تَثْنِيَتِه في الشِّعرِ فيَقولُونَ: رامَتَيْن كأَنَّها قسمتْ جزْأَيْن، كما قالوا للبَعيرِ ذُو عَثانِينَ كأَنَّها قسمت أَجْزاء، وأَنْشَدَ النُّحاةُ لجريرٍ:

بانَ الخَلِيطُ برَامَتَيْنِ فوَدِّعوا

وقالَ كثيِّرٌ:

خليليَّ حُثَّا العِيسَ نُصْبِحْ وقد بَدَتْ *** لنا مِن جِبالِ الرامَتَيْنِ، مناكِبُ

ورومانُ بالضمِّ: موضع. ورومانُ الرومِيُّ: هو سَفِينَةُ مَوْلَى النبيِّ، صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، أَصْلُه مِن بلخ.

ورُومانُ بنُ نَعْجَةَ ذَكَرَه ابنُ شَاهِينَ، صَحابيَّانِ: وقالَ ابنُ فهْدٍ في الأخيرِ: كأَنَّه تابعِيٌّ.

وأُمُّ رومانَ بنْتُ عامرِ بنِ عُوَيْمرٍ الكِنانيَّة أُمُّ عائِشَةَ الصِّدِّيقة، رَضِيَ اللهُ تعالَى عليه وسلَّم في قبْرِها واسْتَغْفرَ لها، وكانت حيَّةً في الإفْكِ، رَوَى لها البُخارِيُّ حدِيثًا واحِدًا مِن حدِيْثِ الإفْكِ مِن رِوايَةِ مَسْروق عنها ولم يَلْقها.

وقد قالَ بعضُ الرُّواةِ عن مَسْروق: حدَّثَتْني أُمُّ رومانَ وذلِكَ وَهَمٌ؛ وقد قيلَ عن مَسْروق عن عبدِ اللهِ بنِ مَسْعود عن أمِّ رومانَ.

قلْتُ: ومَسْروقُ على ما في التَّجريدِ أَدْرَكَ الجاهِلِيَّةَ وسَمِعَ عليًّا ورَوَى عن أَبي بكْرٍ الصِّدِّيق.

والرومانيُّ: موضع باليَمَامَةِ. ورومِيَّةُ: بلد بالمَدائِن خَربٌ الآنَ.

ورومِيَّةُ أَيْضًا: بلد بالرُّومِ يُعْرَفُ برومِيَّةَ الكُبْرى، له ذِكْرٌ في كُتُبِ الجَفْرِ، بَناهُ روميس مَلِكُ الرُّومِ، يقالُ: سُوقُ الدَّجاجِ فيه فَرْسَخٌ، وسُوقُ البُرِّ ثلاثَةُ فَراسِخَ وتَقِفُ المراكِبُ فيه على دَكاكينِ التُّجَّارِ في خَليجٍ مَعْمولٍ من النُّحاسِ، وارْتفاعُ سُورِهِ ثَمانُونَ ذِراعًا في عَرْضِ عشرينَ ذِراعًا فيمَا ذَكَرَه ابنُ خُرْداذِيهِ، بضمِ الخاءِ وسكونِ الراءِ وفتحِ الدالِ بعدَها أَلِف وكسْرِ الذالِ المعْجمةِ وسكونِ الياءِ التَّحْتيَّةِ وآخِرُه هاء.

قالَ ياقوتُ في المعْجمِ: فإن يَكُ كاذِبًا فعليه كَذِبُه.

وتَرَوَّمَ به، وفي نسخةٍ: بها، إذا تَهَزَّأَ.

والرُّوَامُ، كغُرابٍ: اللُّغامُ، زِنَةً ومعْنًى، وقد ذَكَرَه في رَامَ أَيْضًا.

والرُّومِيُّ، بالضَّمِّ: شِراعُ السَّفينةِ الفارغَةِ، والمُرْبعُ: شِراعُ الْمَلْأَى، قالَهُ أَبو عَمْرو.

والرُّومِيُّ بنُ مالِكٍ: شاعِرٌ.

وأَبو الحَسَنِ عليُّ بنُ العبَّاسِ بنِ صالِحٍ بنِ الرُّوميِّ: شاعِرٌ مُتَأَخِّرٌ مجوِّدٌ، تُوفي سَنَة أَرْبَع وثَمَانِيْن ومائتين.

وأَبو رُومَى، كطُوبَى، مَذْكورٌ في حَدِيْثٍ واهٍ لابنِ الجوزيّ عن ابنِ عبَّاسٍ أَخْرَجَه ابنُ مَنْده. وأَبو الرومِ بنُ عُمَيْرِ بنِ هاشِمٍ العَبْدريُّ هاجَرَ إلى الحَبَشة مع أخيهِ مصْعب، قُتِلَ باليَرْموكِ، يقالُ إنَّ اسْمَه مَنْصورٌ صَحابيَّانِ، رَضِيَ اللهُ تعالى عنهما. والرَّامُ: شجرٌ.

والمَرَامُ: المَطْلَبُ، كما في المُحْكَمِ. يقالُ: هو ثَبْتُ المقامِ بَعِيدُ المَرامِ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الرُّوَّامُ، كرُمَّانٍ: الطُّلَّابُ.

ويُجْمَعُ الروميُّ على أَرْوام.

قالَ الجوْهَرِيُّ: والنِّسْبَةُ إلى رامَةَ رامِيٌّ على غيرِ قِياسٍ، قالَ: وكَذلِكَ النِّسْبةُ إلى رامَهُرْمُز رامِيٌّ، وإن شِئْتَ هُرْمزيٌّ.

قالَ ابنُ بَرِّي: بل النِّسْبَة إلى رامَةَ رامِيٌّ على القِياسِ، وكَذلِكَ النَّسَبُ إلى رامَتَيْنِ رَامِيٌّ على القِياسِ، كما يقالُ في النَّسَبِ إلى الزَّيْدَيْنِ زَيْدِيٌّ؛ فقوْلُه على غيرِ قِياسٍ لا معْنًى له، قالَ وكَذلِكَ النَّسَبُ إلى رامَهُرْمُز رَامِيٌّ على القِياسِ.

ورُوَيْمٌ، كزُبَيْرٍ: اسْمٌ.

ورُوَيْمُ بنُ محمدِ بنِ رُوَيْمٍ البَغْدادِيُّ أَخَذَ عن أَبي القاسِمِ الجنيدِ، وعنه محمدُ بنُ خفيفٍ الشِّيْرازِيّ.

ورُومانُ: أَبو قَبيلَةٍ.

ورُوَامُ، كغُرابٍ: موْضِعٌ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


72-تاج العروس (حبو)

[حبو]: وحَبَا الشَّي‌ءُ حُبُوَّا، كسُمُوِّ: دَنَا؛ أَنْشَدَ ابنُ الأَعْرابيِّ:

وأَحْوَى كأيْمِ الضَّالِ أَطْرَقَ بعدَ ما *** حَبَا تَحْتَ فَيْنانٍ من الظِّلِّ وارفِ

ومنه حَبَوْتُ للخَمْسِين: دَنَوْتُ لها.

وقالَ ابنُ سِيدَه: دَنَوْتُ منها.

قالَ ابنُ الأَعْرابي: حَبَاها وحَبا لَها أَي دَنَا لَها.

وحَبَتِ الشَّراسِيفُ حَبْوًا: طالَتْ فَتَدانَتْ؛ وإنَّه لحَابِي الشَّراسِيفِ أَي مُشْرِفُ الجَنْبَيْنِ.

وحَبَتِ الأَضْلاعُ إلى الصُّلْبِ: اتَّصَلّتْ ودَنَتْ، قالَ العجَّاج:

حَابِي الجيودِ فارِضُ الحُنْجُورِ

قالَ الأَزْهريّ: يعْنِي اتِّصالَ رُؤوس الأَضْلاعِ بَعْضها بِبَعْضٍ، وقالَ أَيْضًا:

حابِي جُيُودِ الزَّوْرِ دَوْسَرِيّ

وقالَ آخَرُ:

تَحْبُوا إلى أَصْلابِه أَمعاؤُه

وقالَ أَبو الدُّقَيْشِ: تَحْبُو هنا تَتَّصل.

وحَبَا المَسِيلُ: دَنا بعضُهُ من بعضً، وبه فُسَّرَ قوْلُ الراجزِ:

تحبُو إلى أَصْلابِه أَمعاؤُه

والمِعَى: كُلُّ مِذْنَبٍ بقَرارِ الحَضِيضِ.

وحَبَا الرَّجُلُ حَبْوًا: مَشَى على يَدَيْه وبَطْنِه، أَو على يَدَيْه ورُكْبَتَيْه، وقيلَ: على المقْعدَةِ، وقيلَ: على المَرافِقِ والرُّكَبِ؛ ومنه الحدِيثُ: «لو يَعْلَمونَ ما فِي العَتْمةِ والفَجْرِ لأَتَوْهما ولو حَبْوًا».

وحَبَا الصَّبيُّ حَبْوًا، كسَهْوٍ: مَشَى على اسْتِهِ وأَشْرَفَ بصَدْرهِ.

وقالَ الجَوهري: هو إذا زَحَفَ؛ وأَنْشَدَ لعَمْرو بنِ شَقِيقٍ:

لو لا السِّفَارُ وبُعْدُ خرقٍ مَهْمَهِ *** لَتَركْتُها تَحْبُو على العُرْقوبِ

* قُلْتُ: هكذا رَوَاهُ ابنُ القَطَّاع، ويُروَى: وبُعْدُه مِن مَهْمَهِ.

قالَ اللَّيْثُ: الصَّبيُّ يَحْبُو قبْلَ أَن يقومَ، والبَعيرُ المَعْقُول يَحْبُو فيزْحَفُ حَبْوًا.

ويقالُ: ما جاءَ إلَّا حَبْوًا؛ أَي زَحْفًا، وما نَجا فلانٌ إلَّا حَبْوًا.

وحَبَتِ السَّفِينَةُ حَبْوًا: جَرَتْ.

وحَبَا ما حَوْلَه حَبْوًا: حَمَاهُ ومَنَعَهُ؛ نقَلَهُ الجَوْهري عن الأَصْمعيّ؛ وأَنْشَدَ لابنِ أَحمر:

ورَاحَتِ الشَّوْلُ ولم يَحْبُها *** فَحْلٌ ولم يَعْتَسَّ فيها مُدِرّ

وقالَ أَبو حنيفَةَ: لم يَحْبُها لم يَلْتَتفِتْ إليها أَي أَنَّه شُغِل بنَفْسِه، ولو لا شغْله بنَفْسِه لحازَها ولم يُفارِقُها.

قالَ الجَوْهريُّ: كحبَّاهُ تَحْبِيَةً. وحَبَا المالُ حَبْوًا: رَزِمَ فلم يَتَحَرَّكْ هُزالًا.

وحَبَا الشَّي‌ءُ له: اعْتَرَضَ، فهو حابٍ وحَبِيُّ، كغَنِيِّ؛ قالَ العجَّاج يَصِفُ قُرْقُورًا:

فهو إذا حَبَا له حَبِيُّ

أَي اعْتَرَضَ له مَوْجٌ.

وحَبَا فلانًا حَبْوًا وحَبْوةً: أَعْطاهُ بِلا جَزاءٍ ولا مَنِّ، أَو عامٌّ؛ ومنه حدِيثُ صلاةِ التّسْبيح: «أَلا أَمْنَحُكَ أَلا أَحْبُوكَ».

والاسمُ الحِباءُ، ككِتابٍ، والحَبْوَةُ، مُثَلَّثَةً.

وجَعَلَ اللحْيانيُّ جَمِيعَ ذلِكَ مَصادِرِ، وشاهِدُ الحِباءِ قَوْلُ الفَرَزْدق:

خالِي الذي اغْتَصَبَ المُلُوكَ نُفُوسَهُم *** وإلَيْهِ كان حِباءُ جَفْنَةَ يُنْقَلُ

وحَبَاهُ يَحْبُو حِبَاءً: مَنَعَهُ؛ عن ابنِ الأعْرابيِّ ولم يَحْكِه غيرُهُ، ومنه المُحابَاةُ في البَيْعِ، فهو ضِدٌّ.

والحابِي مِن الرِّجالِ: المُرْتَفِعُ المَنْكِبَيْنِ إلى العُنُقِ؛ وكَذلِكَ البَعيرُ.

ومِن المجازِ: الحابِي مِن السِّهامِ ما يَزْحَفُ إلى الهَدَفِ إذا رُمِيَ به.

وقالَ القتيبيُّ: هو الذي يَقَعُ دونَ الهَدَفِ ثم يَزْحَفُ إليه على الأرضِ، وقد حَبَا يَحْبُو، وإن أَصابَ الرُّقْعة فهو خازِقٌ وخاسِقٌ، فإن جاوَزَ الهَدَفَ ووَقَعَ خلْفَه فهو زاهِقٌ.

ومنه حدِيثُ عبدِ الرحمنِ: «إنَّ حابِيًا خيرٌ من زاهِقٍ»، أَرادَ: أَنَّ الحابِي وإن كانَ ضَعِيفًا وقد أَصابَ الهَدَفَ خيرٌ مِن الزاهِقِ الذي جازَهُ بشِدَّةِ مَرِّهِ وقُوَّتِه ولم يُصِبِ الهَدَفَ؛ ضَرَب السَّهْمَيْن مَثَلَيْن لوَالِيَيْن أَحَدُهما ينالُ الحقَّ أَو بعضَه وهو ضعيفٌ، والآخرُ يجوزُ الحقَّ ويبعدُ عنه وهو قوِيٌّ.

والحابِي: نَبْتٌ سُمِّي به لحُبُوِّه وعُلُوِّه.

والحابِيَةُ، بهاءِ رَمْلَةٌ مُرْتفعَةٌ مُشْرِفةٌ تُنْبِتُهُ.

واحْتَبَى بالثَّوْبِ: اشْتَمَلَ، أَو جَمع بينَ ظَهْرِه وساقَيْه بعِمامَةٍ ونَحْوِها؛ ومنه الحدِيثُ: «نَهَى عن الاحْتِباءِ في ثَوْبٍ واحِدٍ.

قالَ ابنُ الأثيرِ: هو أَن يَضُمَّ الإِنْسانُ رِجْلَيْه على بَطْنِه بثَوْبٍ يَجْمَعُهما به مع ظَهْرِه ويَشُدُّه عليهما، قالَ: وقد يكونُ الاحْتِباءُ باليَدَيْنِ عِوَضَ الثّوْبِ، وإنَّما نَهَى عنه لأنَّه إذا لم يكنْ عليه إلَّا ثَوْبٌ واحِدٌ رُبَّما تَحَرَّك أَو زالَ الثَّوْبُ فتَبْدُو عَوْرَته.

ومنه: الاحْتِباءُ حِيطَانُ العَرَبِ؛ أَي ليسَ في البرارِي حِيطَانٌ، فإذا أَرادَ أَنْ يَسْتَنِدَ احْتَبى لأنَّ الاحْتِباءَ يَمْنَعهم مِن السُّقوطِ ويَصِير لهم كالجِدارِ.

والاسمُ الحَبْوَةُ، ويُضَمُّ، والحِبْيَةُ، بالكسْرِ، والحِباءُ، بالكسْرِ والضَّمِّ؛ الأَخيرَتانِ عن الكِسائي جاءَ بهما في بابِ المَمْدودِ؛ ومنه الحدِيثُ: نُهِيَ عن الحَبْوةِ يوْم الجُمُعة والإِمامُ يخْطَبُ لأنَّ الاحْتِباءَ يَجْلَبُ النَّومْ ويُعَرِّضُ طَهارَتَه للانْتِقاضِ. ويقُولونَ: الحِباءُ حِيطَانُ العَرَبِ.

وفي حَدِيثِ الأَحْنف: وقيلَ له في الحَرْبِ أَيْنَ الحِلْمُ؟ فقالَ: عنْدَ الحِباءِ، أَرادَ: أَنَّ الحِلْمَ يَحْسُن في السِّلْم لا في الحَرْبِ.

وحَاباهُ مُحاباةً وحِباءَ، بالكسْرِ: نَصَرَهُ واخْتَصَّه ومالَ إليه؛ قالَ الشَّاعِرُ:

اصْبِرْ يزيدُ فقدْ فارَقْتَ ذائِقَةٍ *** واشْكُر حِباءَ الذي بالمُلْكِ حَابَاكَا

والحَبِيُّ، كغَنِيِّ، ويُضَمُّ أَي كعُتِيِّ: السَّحابُ يُشْرِق، كذا في النُّسخ والصَّوابُ يُشْرِفُ؛ مِن الأُفُقِ على الأَرضِ؛ أَو الذي يَتَراكَمُ بعضُه فَوْقَ بعضٍ.

وقالَ الجَوْهرِيُّ: الذي يَعْترضُ اعْتِراضَ الجَبَلِ قبْلَ أَنْ يُطَبِّقَ السَّماءَ؛ وأَنْشَدَ لامْرِئِ القَيْسِ:

أَصاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَه *** كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيِّ مُكَلَّلِ

قيلَ له حَبِيٌّ من حَبَا، كما يقالُ له سَحابٌ مِن سَحَبَ أَهْدابَه؛ وقد جاءَ بِكلَيْهما شِعْرُ العَرَبِ؛ قالتِ امْرأَةٌ:

وأَقْبلَ يَزْحفُ زَحْفَ الكَبِير *** سِياقَ الرِّعاءِ البِطَاء العِشَارَا

وقالَ أَوْس:

دانٍ مُسِفٌّ فُوَيْقَ الأرضِ هَيْدَبُه *** يكادُ يَدْفعُه مَنْ قامَ بالرَّاحِ

وقالتْ صبيَّةٌ منهم لأَبيها فتجَاوَزَتْ ذلكَ:

أَناخَ بذِي بَقَرِ بَرْكَهُ *** كأَنَّ على عَضُدَيْه كِتافَا

وقال الجَوْهريُّ: يقالُ سُمِّي لدنُوِّه مِن الأَرضِ.

وَرَمَى فأَحْبَى: وَقَعَ سَهْمُهُ دونَ الغَرَضِ ثم تَقافَزَ حتى يصيبَ الغَرَضَ؛ عن ابنِ الأَعْرابي.

والحُبَةُ، كثُبَةٍ: حَبَّةُ العِنَبِ. وقيلَ: هي العِنَبُ أَوَّلُ ما ينبتُ مِن الحَبِّ ما لم يُغْرَسْ، الجمع: حُبَى كَهُدَى.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

حَبَا الرَّمْلُ يَحْبُو حَبْوًا: أَشْرَفَ مُعْتَرِضًا، فهو حابٍ، قالَ:

كأَنَّ بَيْنَ المِرْطِ والشُّقُوفِ *** رَمْلًا حَبا من عَقَدِ العَرِيفِ

والعَرِيفْ: مِن رِمالِ بَني سَعْدٍ: وقالَ ابنُ الأَعْرابي: الحَبْوُ: اتِّساعُ الرَّمْل.

وتَحَبَّى: احْتَبَى؛ قالَ سَاعِدَةُ بنُ جُوءَيَّة:

أَرْيُ الجَوارِسِ في ذُؤابةِ مُشْرِفٍ *** فيه النُّسُورُ كما تَحَبَّى المَوْكِبُ

يقولُ: اسْتَدارَتِ النُّسُورُ فيه كأَنَّهم رَكْبٌ مُحْتَبُونَ.

وجَمْعُ الحُبْوَةِ للثَّوْبِ الحِبا، بالضَّمِّ وبالكسْر؛ ذَكَرَهُما يَعْقُوبُ في الإِصْلاحِ؛ قالَ: ويُرْوَى بيتُ الفَرَزْدقِ:

وما حُلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلَمائِنا *** ولا قائِلُ المَعْروفِ فينا يُعَنَّفُ

بالوَجْهَيْن جَمِيعًا، فَمَنْ كَسَرَ كانَ كسِدْرَةٍ وسِدَرٍ، ومَنْ ضَمَّ فَمِثْل غُرْفَةٍ وغُرَف.

وحَبا البَعيرُ حَبْوًا: بَرَكَ وزَحَفَ مِنَ الإِعْياءِ.

وقيلَ: كُلِّفَ تَسَنُّمَ صَعْبِ الرَّمْلِ فأَشْرَفَ بصَدْرِهِ ثم زَحَفَ؛ قالَ رُؤْبَة:

أَوْدَيْتَ إن لم تَحْبُ حَبْوَ المُعْتَبَك

والحَبَا، كالعَصَا: السَّحابُ سُمِّي لدنُوِّه من الأرضِ، نَقَلَه الجَوهريُّ، وأَنْشَدَ ابنُ بُرِّي للشاعِرِ يصِفُ جَعْبة السِّهامِ:

هي ابْنةُ جَوْبٍ أُمُّ تِسْعين آزَرَتْ *** أَخا ثِقَةً يَمْرِي حَباها ذَوائِبُ

وفي حدِيثِ وهبٍ: «كأَنَّه الجبلُ الحابِي»؛ أَي الثَّقيلُ المُشْرِفُ.

وحابَيْته في البَيْعِ مُحاباةً؛ نَقَلَهُ الجوْهرِيُّ.

والحِباءُ، ككِتابٍ: مَهْرُ المرْأَةِ، قالَ المُهَلْهِلُ:

أَنْكَحَهما فقدُها الأَراقِمَ من *** جَنْبٍ وكانَ الحِباءُ منْ أَدَمِ

أَرادَ: أَنَّهم لم يكونوا أَرْبابَ نَعَمٍ فيُمْهرُوها الإِبلَ وجَعَلهم دَبَّاغِين للأَدَمِ.

ورجُلٌ أَحْبَى: ضَبِسٌ شِرِّيرٌ، عن ابنِ الأَعرابيِّ؛ وأَنْشَدَ:

والَّدهْرُ أَحْبَى لا يَزالُ أَلَمُهْ *** تَدُقُّ أَرْكانَ الجِبالِ ثُلَمُهْ

وحَبَى جُعَيْرانَ: نَبتٌ.

وحُبَيٌّ، كسُمَيِّ، والحُبيَّا، كثُرَيَّا: مَوْضِعانِ؛ قالَ الرَّاعِي:

جَعَلْن حُبَيَّا باليَمِينِ ونَكَّبَتْ *** كُبَيْسًا لوِرْدٍ من ضَييدةِ باكِرِ

وقالَ القُطاميُّ:

مِنْ عَنْ يَمينِ الحُبَيَّا نَظْرةٌ قَبَلُ

وكَذلِكَ حُبَيَّات؛ قالَ عُمَرُ بنُ أَبي رَبيعَةَ:

أَلَمْ تَسْأَل الأَطْلالَ والمُتَرَبَّعا *** ببَطْنِ حُبَيَّاتِ دَوارِسَ بَلْقَعا

وقالَ نَصْر: حُبَيُّ مَوْضِعُ تِهامِيُّ كانَ دارَ الأَسَدِ وكِنانَةَ؛ وحُبَيَّا مَوْضِعٌ شامِيٌّ، وأَظُنُّ بالحِجازِ أَيْضًا؛ ورُبَّما قالوا الحُبَيَّا وأَرادُوا الحُبَيّ، انتَهَى.

والحبيان: الضَّعيفُ، عاميَّةٌ.

وقالَ أَبو العباسِ: فلانٌ يَحْبُو قَصاهُم ويَحُوطُ قَصَاهُمْ بمعْنىَ واحِدٍ؛ وأَنْشَدَ لأبي وَجْزَةَ:

يَحْبُو قَصاها مُلْبِدٌ سِنادُ *** أَحْمَرُ من ضِئْضِئِها مَيَّادُ

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


73-المصباح المنير (شكك)

الشَّكُّ الِارْتِيَابُ وَيُسْتَعْمَلُ الْفِعْلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا بِالْحَرْفِ فَيُقَالُ شَكَّ الْأَمْرُ يَشُكُّ شَكًّا إذَا الْتَبَسَ وَشَكَكْتُ فِيهِ قَالَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ الشَّكُّ خِلَافُ الْيَقِينِ فَقَوْلُهُمْ خِلَافُ الْيَقِينِ هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ سَوَاءٌ اسْتَوَى طَرَفَاهُ أَوْ رَجَحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94].

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ أَيْ غَيْرَ مُسْتَيْقِنٍ وَهُوَ يَعُمُّ الْحَالَتَيْنِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنْ التَّهْذِيبِ الظَّنُّ هُوَ الشَّكُّ وَقَدْ يُجْعَلُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ الشَّكُّ نَقِيضُ الْيَقِينِ فَفَسَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ بِالْآخَرِ وَكَذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ الظَّنُّ يَكُونُ شَكًّا وَيَقِينًا وَيُقَالُ أَصْلُ الشَّكِّ اضْطِرَابُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ الشَّكَّ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى وَفْقِ اللُّغَةِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ مَنْ شَكَّ فِي الطَّلَاقِ وَمَنْ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ وَسَوَاءٌ رَجَحَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ أَمْ لَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ.

مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ وَعَكْسُهُ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَخَالَفَ الرَّافِعِيُّ فَقَالَ مَنْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَظَنَّ الطَّهَارَةَ عَمِلَ بِالظَّنِّ وَوَافَقَ فِيمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ أَوْ ظَنَّهُ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ وَهُوَ كَالْمُنْفَرِدِ بِالْفَرْقِ وَقَدْ نَاقَضَ قَوْلَهُ فَقَالَ فِي بَابِ مَا الْغَالِبُ فِي مِثْلِهِ النَّجَاسَةُ يَسْتَصْحِبُ طَهَارَتَهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَمَسُّكًا بِالْأَصْلِ الْمُسْتَيْقَنِ إلَى أَنْ يَزُولَ بِيَقِينٍ بَعْدَهُ كَمَا فِي الْأَحْدَاثِ فَقَوْلُهُ إلَى أَنْ يَزُولَ بِيَقِينٍ بَعْدَهُ كَالنَّصِّ فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا وَقَالَ الرَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي بَابِ الْوُضُوءِ إذَا شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ بَعْدَ يَقِينِ الْحَدَثِ يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ وَهُوَ كَمَا لَوْ ظَنَّ لِأَنَّ الشَّكَّ تَرَدُّدٌ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلظَّنِّ لُغَةً وَفِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الظَّنَّ هُوَ رَاجِحُ الِاحْتِمَالَيْنِ فَمَا خَرَجَ الظَّنُّ عَنْ كَوْنِهِ شَكًّا وَبِالْجُمْلَةِ فَالظَّنُّ لَا يُسَاوِي الْيَقِينَ فَكَيْفَ يَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ حَتَّى يُعَارِضَهُ وَقْدَ ثَبَتَ أَنَّ الْأَقْوَى لَا يُرْفَعُ بِأَضْعَفَ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بِالْيَقِينِ فِي الْفُرُوعِ الظَّنُّ الْمُؤَكَّدُ قِيلَ سَلَّمْنَاهُ فَلَا

يُرْفَعُ إلَّا بِأَقْوَى مِنْهُ وَلَا يُقَالُ يَكْفِي فِي الطَّهَارَةِ ظَنُّ حُصُولِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَضَّأَ بِمَا يُظَنُّ طُهُورِيَّتَهُ لِأَنَّا نَقُولُ مُجَرَّدُ الظَّنِّ غَيْرُ كَافٍ فِي الْحُكْمِ بِإِيقَاعِ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِيقَاعِ وَلِأَنَّ شُغُلَ الذِّمَّةِ يَقِينٌ فَلَا تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ إلَّا بِيَقِينٍ كَمَا لَوْ أَجْنَبَ وَظَنَّ أَنَّهُ اغْتَسَلَ وَكَذَا لَوْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَظَنَّ أَنَّهُ صَلَّى أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لِهَذَا الظَّنِّ وَأَمَّا ظَنُّ الطَّهُورِيَّةِ فَهُوَ عَمَلٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ طَارِئٍ يُزِيلُهَا وَذَلِكَ تَأْكِيدٌ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ بَلْ لَوْ شَكَّ فِي مُزِيلِ الطَّهُورِيَّةِ سَاغَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ فَذَلِكَ عَمَلٌ بِالْأَصْلِ لَا بِالظَّنِّ وَأَمَّا ظَنُّ الْوُضُوءِ فَهُوَ عَمَلٌ بِطَارِئٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَهُوَ إيقَاعُ التَّطْهِيرِ

وَشَكَكْتُهُ بِالرُّمْحِ شَكًّا طَعَنْتُهُ وَشَكَّ الْقَوْمُ بُيُوتَهُمْ جَعَلُوهَا مُصْطَفَّةً مُتَقَارِبَةً وَمِنْهُ يُقَالُ شَكَّتْ الْأَرْحَامُ إذَا اتَّصَلَتْ وَكُلُّ شَيْءٍ ضَمَمْتَهُ فَقَدْ شَكَكْتَهُ.

المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م


74-لسان العرب (شكل)

شكل: الشَّكْلُ، بِالْفَتْحِ: الشِّبْه والمِثْل، وَالْجَمْعُ أَشْكَالٌ وشُكُول؛ وأَنشد أَبو عُبَيْدٍ:

فَلَا تَطلُبَا لِي أَيِّمًا، إِن طَلَبْتُما، ***فإِن الأَيَامَى لَسْنَ لِي بشُكُولٍ

وَقَدْ تَشَاكَلَ الشَّيْئَانِ وشَاكَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صاحبَه.

أَبو عَمْرٍو: فِي فُلَانٍ شَبَهٌ مِنْ أَبيه وشَكْلٌ وأَشْكَلَةٌ وشُكْلَةٌ وشَاكِلٌ ومُشَاكَلَة.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ}؛ قرأَ النَّاسُ وَآخَرُ إِلَّا مُجَاهِدًا فإِنه قرأَ: وأُخَرُ؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ قرأَ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ؛ فآخَرُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ أَي وعَذاب" آخَرُ مِنْ شَكْلِه أَي مِنْ مِثْل ذَلِكَ الأَول، وَمَنْ قرأَ وأُخَرُ فَالْمَعْنَى وأَنواع أُخَرُ مِنْ شَكْلِه لأَن مَعْنَى قَوْلِهِ أَزْواجٌ أَنواع.

والشَّكْل: المِثْل، تَقُولُ: هَذَا عَلَى شَكْل هَذَا أَي عَلَى مِثَاله.

وَفُلَانٌ شَكْلُ فُلَانٍ أَي مِثْلُه فِي حَالَاتِهِ.

وَيُقَالُ: هَذَا مِنْ شَكْل هَذَا أَي مِنْ ضَرْبه وَنَحْوِهِ، وَهَذَا أَشْكَلُ بِهَذَا أَي أَشْبَه.

والمُشَاكَلَة: المُوافَقة، والتَّشَاكُلُ مِثْلُهُ.

والشَّاكِلَةُ: النَّاحِيَةُ والطَّريقة والجَدِيلة.

وشاكِلَةُ الإِنسانِ: شَكْلُه وَنَاحِيَتُهُ وَطَرِيقَتُهُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ}؛ أَي عَلَى طَرِيقَتِهِ وجَدِيلَته ومَذْهَبه؛ وَقَالَ الأَخفش: عَلَى شَاكِلَته أَي عَلَى نَاحِيَتِهِ وَجِهَتِهِ وخَلِيقته.

وَفِي الْحَدِيثِ: «فسأَلت أَبي عَنْ شَكْل النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، » أَي عَنْ مَذْهَبه وقَصْده، وَقِيلَ: عَمَّا يُشَاكِلُ أَفعالَه.

والشِّكْل، بِالْكَسْرِ: الدَّلُّ، وَبِالْفَتْحِ: المِثْل والمَذْهب.

وَهَذَا طَرِيقٌ ذُو شَواكِل أَي تَتَشَعَّب مِنْهُ طُرُقٌ جماعةٌ.

وشَكْلُ الشَّيْءِ: صورتُه الْمَحْسُوسَةُ والمُتَوَهَّمة، وَالْجَمْعُ كَالْجَمْعِ.

وتَشَكَّل الشيءُ: تَصَوَّر، وشَكَّلَه: صَوَّرَه.

وأَشْكَل الأَمْرُ: الْتَبَس.

وأُمورٌ أَشْكَالٌ: مُلْتَبِسَةٌ، وبَيْنَهم أَشْكَلَة أَي لَبْسٌ.

وَفِي حَدِيثِ عليٍّ، عَلَيْهِ السلام: «وأَن لَا يَبِيعَ مِنْ أَولاد نَخْل هَذِهِ القُرَى وَدِيَّةً حَتَّى تُشْكِل أَرْضُها غِرَاسًا»أَي حَتَّى يكثُرَ غِراسُ النَّخْل فِيهَا فَيَرَاهَا النَّاظِرُ عَلَى غَيْرِ الصِّفَةِ الَّتِي عَرَفها بِهَا فيُشْكِل عَلَيْهِ أَمْرُها.

والأَشْكَلَة والشَّكْلاءُ: الحاجةُ.

اللَّيْثُ: الأَشْكال الأُمورُ والحوائجُ المُخْتَلِفة فِيمَا يُتكَلَّف مِنْهَا ويُهْتَمُّ لَهَا؛ وأَنشد للعَجَّاج: " وتَخْلُجُ الأَشْكالُ دُونَ الأَشْكال "الأَصمعي: يُقَالُ لَنَا عِنْدَ فُلَانٍ رَوْبَةٌ وأَشْكَلَةٌ وَهُمَا الْحَاجَةُ، وَيُقَالُ لِلْحَاجَّةِ أَشْكَلَة وشَاكِلةٌ وشَوْكَلاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

والأَشْكَل مِنَ الإِبل وَالْغَنَمِ: الَّذِي يَخْلِط سوادَه حُمْرةٌ أَو غُبْرةٌ كأَنه قَدْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ لونُه، وَتَقُولُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَلوان: إِنَّ فِيهِ لَشُكْلَةً مِنْ لَوْنِ كَذَا وَكَذَا، كَقَوْلِكَ أَسْمر فِيهِ شُكْلَة مِنْ سَوَادٍ؛ والأَشْكَل فِي سَائِرِ الأَشياء: بياضٌ وحُمْرة قَدِ اخْتَلَطَا؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

يَنْفَحْنَ أَشْكَلَ مَخْلُوطًا تَقَمَّصَه ***مَناخِرُ العَجْرَفِيَّاتِ المَلاجِيج

وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَمَا زالَتِ القَتْلى تَمُور دِماؤها ***بِدِجْلَة، حَتَّى ماءُ دِجْلَة أَشْكَلُ

قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: الأَشْكَل فِيهِ بياضٌ وحُمْرة.

ابْنُ الأَعرابي: الضَّبُع فِيهَا غُثْرة وشُكْلة لَوْنان فِيهِ سَوادٌ وصُفْرة سَمِجَة.

وَقَالَ شَمِر: الشُّكْلة الحُمْرة تَخْتَلِطُ بِالْبَيَاضِ.

وَهَذَا شيءٌ أَشْكَلُ، وَمِنْهُ قِيلَ للأَمر المشتَبه مُشْكِلٌ.

وأَشْكَل عَلَيَّ الأَمُر إِذا اخْتَلَط، وأَشْكَلَتْ عليَّ الأَخبار وأَحْكَلَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

والأَشْكَل عِنْدَ الْعَرَبِ: اللَّوْنَانِ الْمُخْتَلِطَانِ.

ودَمٌ أَشْكَلُ إِذا كَانَ فِيهِ بَيَاضٌ وحُمْرَة؛ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: إِنما سُمِّي الدَّمُ أَشْكَلَ لِلْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ المُخْتَلَطَيْن فِيهِ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والأَشْكَلُ مِنْ سَائِرِ الأَشياء الَّذِي فِيهِ حُمْرَةٌ وَبَيَاضٌ قَدِ اخْتَلَطَ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي فِيهِ بياضٌ يَضْرِب إِلى حُمْرة وكُدْرة؛ قال: " كَشَائطِ الرُّبِّ عَلَيْهِ الأَشْكَلِ وَصَفَ الرُّبَّ بالأَشْكَل لأَنه مِنْ أَلْوانِه، وَاسْمُ اللَّوْنِ الشُّكْلة، والشُّكْلة فِي الْعَيْنِ مِنْهُ، وَقَدْ أَشْكَلَتْ.

وَيُقَالُ: فِيهِ شُكْلة مِنْ سُمْرة وشُكْلة مِنْ سَوَادٍ، وعَيْنٌ شَكْلاءُ بَيِّنة الشَّكَلِ، ورَجُل أَشْكَلُ الْعَيْنِ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنه: «فِي عَيْنيه شُكْلةٌ»؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: الشُّكْلة كَهَيْئَةِ الحُمْرة تَكُونُ فِي بَيَاضِ الْعَيْنِ، فإِذا كَانَتْ فِي سَوَادِ الْعَيْنِ فَهِيَ شُهْلة؛ وأَنشد:

وَلَا عَيْبَ فِيهَا غَير شُكْلة عَيْنِها، ***كَذَاكَ عِتَاقُ الطَّيْر شُكْلٌ عُيُونُها

عِتَاقُ الطَّيرِ: هِيَ الصُّقُور والبُزَاة وَلَا تُوصَفُ بالحُمْرة، وَلَكِنْ تُوصَفُ بزُرقة الْعَيْنِ وشُهْلتها.

قَالَ: وَيُرْوَى هَذَا الْبَيْتُ: غَيْرَ شُهْلةِ عَيْنها؛ وَقِيلَ: الشُّكْلَة فِي الْعَيْنِ الصُّفْرة الَّتِي تُخَالِط بَيَاضَ الْعَيْنِ الَّذِي حَوْلَ الحَدَقة عَلَى صِفَة عَيْنِ الصَّقْر، ثُمَّ قَالَ: ولَكِنَّا لَمْ نَسْمَعِ الشُّكْلَة إِلا فِي الحُمْرة وَلَمْ نَسْمَعْهَا فِي الصُّفْرة؛ وأَنشد:

ونَحْنُ حَفَزْنَا الحَوْفَزَان بطَعْنَةٍ، ***سَقَتْه نَجِيعًا، مِنْ دَمِ الجَوْف، أَشْكلا

قَالَ: فَهُوَ هَاهُنَا حُمْرة لَا شَكَّ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ ضَلِيعَ الفَم أَشْكَلَ الْعَيْنِ مَنْهُوسَ العَقِبين "؛ فَسَّرَهُ سِمَاك بْنُ حَرْب بأَنه طَوِيلُ شَقِّ العَيْن؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا نَادِرٌ، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَن يَكُونَ مِنَ الشُّكْلة الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَالَ ابْنُ الأَثير فِي صِفَةِ أَشْكَلَ الْعَيْنِ قَالَ: أَي فِي بَيَاضِهَا شَيْءٌ مِنْ حُمْرة وَهُوَ مَحْمود مَحْبوب؛ يُقَالُ: مَاءٌ أَشْكَلُ إِذا خَالَطَهُ الدَّمُ.

وَفِي حَدِيثِ مَقْتَل" عُمَر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَخَرج النَّبِيذُ مُشْكِلًا»أَي مُخْتَلِطًا بِالدَّمِ غَيْرَ صَرِيحٍ، وَكُلُّ مُخْتَلِطٍ مُشْكِلٌ.

وتَشَكَّلَ العِنَبُ: أَيْنَعَ بعضُه.

الْمُحْكَمُ: شَكَّلَ العِنَبُ وتَشَكَّلَ اسْوَدَّ وأَخَذَ فِي النُّضْج؛ فأَما قَوْلُهُ أَنشده ابْنُ الأَعرابي:

ذَرَعَتْ بِهِمْ دَهْسَ الهِدَمْلَةِ أَيْنُقٌ ***شُكْلُ الغُرورِ، وَفِي العُيون قُدُوحُ

فإِنه عَنَى بالشُّكْلة هُنَا لَوْنَ عَرَقها، والغُرور هُنَا: جَمْعُ غَرٍّ وَهُوَ تَثَنِّي جُلودها وَفِيهِ شُكْلَةٌ مِنْ دَمٍ أَي شَيْءٌ يَسِيرٌ.

وشَكَلَ الكِتابَ يَشْكُله شَكْلًا وأَشْكَلَه: أَعجمه.

أَبو حَاتِمٍ: شَكَلْت الْكِتَابَ أَشْكَلَه فَهُوَ مَشْكُول إِذا قَيَّدْتَه بالإِعْراب، وأَعْجَمْت الكِتابَ إِذا نَقَطْته.

وَيُقَالُ أَيضًا: أَشْكَلْت الكتابَ بالأَلف كأَنك أَزَلْت بِهِ عَنْهُ الإِشْكال وَالِالْتِبَاسَ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهَذَا نَقَلْتُهُ مِنْ كِتَابٍ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ.

وحَرْف مُشْكِلٌ: مُشْتَبِهٌ ملتَبِس.

والشِّكَال: العِقَال، وَالْجَمْعُ شُكْلٌ؛ وشَكَلْت الطائرَ وشَكَلْت الفرسَ بالشِّكَال.

وشَكَل الدَّابَّة يَشْكُلُها شَكْلًا وشَكَّلَها: شَدَّ قَوَائِمَهَا بحَبْل، وَاسْمُ ذَلِكَ الحَبْلِ الشِّكَالُ، وَالْجَمْعُ شُكُلٌ.

والشِّكَال فِي الرَّحْل: خَيط يُوضَعُ بَيْنَ الحَقَبِ والتَّصْدِيرِ لِئَلَّا يُلِحَّ الحَقَبُ عَلَى ثِيلِ البَعِيرِفيَحْقَب أَي يَحْتبس بولُه، وَهُوَ الزِّوار أَيضًا.

والشِّكال أَيضًا: وِثَاقٌ بَيْنَ الحَقَب والبِطَان، وَكَذَلِكَ الْوِثَاقُ بَيْنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ.

وشَكَلْت عَنِ الْبَعِيرِ إِذا شَدَدت شِكَاله بَيْنَ التَّصْدِيرِ والحَقَب، أَشْكُلُ شَكْلًا.

والمَشْكُولُ مِنَ العَرُوض: مَا حُذف ثَانِيهِ وسابعُه نَحْوُ حَذْفِكَ أَلفَ فَاعِلَاتُنْ والنونَ مِنْهَا، سُمِّي بِذَلِكَ لأَنك حَذَفْتَ مِنْ طَرَفِهِ الآخِر وَمِنْ أَوّله فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الدابَّة الَّذِي شُكِلَت يَدُه ورجلُه.

والمُشاكِلُ مِنَ الأُمور: مَا وَافَقَ فاعِلَه ونظيرَه.

وَيُقَالُ: شَكَلْت الطيرَ وشَكَلْت الدَّابَّة.

والأَشْكَالُ: حَلْيٌ يُشاكِلُ بعضُه بَعْضًا يُقَرَّط بِهِ النساءُ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

سَمِعْت مِنْ صَلاصِل الأَشْكَالِ ***أَدْبًا عَلَى لَبَّاتِها الحَوَالي،

هَزَّ السَّنَى فِي لَيْلَةِ الشَّمَالِ "وشَكَّلَتِ المرأَةُ شَعَرَها: ضَفَرَت خُصْلَتين مِنْ مُقَدَّم رأْسها عَنْ يَمِينٍ وَعَنْ شِمَالٍ ثُمَّ شَدَّت بِهَا سَائِرَ ذَوَائِبِهَا.

والشِّكَال فِي الْخَيْلِ: أَن تَكُونَ ثلاثُ قَوائم مِنْهُ مُحَجَّلةً وَالْوَاحِدَةُ مُطْلَقة؛ شُبِّه بالشِّكال وَهُوَ العِقال، وإِنما أُخِذ هَذَا مِنَ الشِّكَال الَّذِي تُشْكَل بِهِ الْخَيْلُ، شُبِّه بِهِ لأَن الشِّكَال إِنما يَكُونُ فِي ثَلَاثِ قَوَائِمَ، وَقِيلَ: هُوَ أَن تَكُونَ الثلاثُ مُطْلَقة وَالْوَاحِدَةُ مُحَجَّلة، وَلَا يَكُونُ الشِّكَال إِلا فِي الرِّجْل وَلَا يَكُونُ فِي الْيَدِ، والفرسُ مَشْكُولٌ، وَهُوَ يُكْرَه.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِه الشِّكال فِي الْخَيْلِ»؛ وَهُوَ أَن تَكُونَ ثلاثُ قَوَائِمَ مُحَجَّلة وَوَاحِدَةٌ مُطْلَقة تَشْبِيهًا بالشِّكَال الَّذِي تُشْكَل بِهِ الخيلُ لأَنه يَكُونُ فِي ثَلَاثِ قَوَائِمَ غَالِبًا، وَقِيلَ: هُوَ أَن تَكُونَ الْوَاحِدَةُ محجَّلة وَالثَّلَاثُ مُطْلَقة، وَقِيلَ: هُوَ أَن تَكُونَ إِحدى يَدَيْهِ وإِحدى رِجْلَيْهِ مِنْ خِلَافٍ مُحَجَّلتين، وإِنما كَرِهه لأَنه كَالْمَشْكُولِ صُورَةً تَفَاؤُلًا، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَن يَكُونَ جَرَّب ذَلِكَ الْجِنْسَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَجَابة، وَقِيلَ: إِذا كَانَ مَعَ ذَلِكَ أَغَرَّ زَالَتِ الْكَرَاهَةُ لِزَوَالِ شَبَهِ الشِّكَال.

ابْنُ الأَعرابي: الشِّكَال أَن يَكُونَ الْبَيَاضُ فِي رِجْلَيْهِ وَفِي إِحدى يَدَيْهِ.

وفَرَسٌ مَشْكُول: ذُو شِكَال.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَقَدْ رَوَى" أَبو قَتَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: خَيْرُ الخَيْلِ الأَدْهَمُ الأَقْرَحُ المُحَجَّل الثَّلَاثُ طَلْقُ اليُمْنى أَو كُمَيْتٌ مِثْلُهُ "؛ قَالَ الأَزهري: والأَقْرَحُ الَّذِي غُرَّتُه صَغِيرَةٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَوْلُهُ طَلْق الْيُمْنَى لَيْسَ فِيهَا مِنَ الْبَيَاضِ شَيْءٌ، والمُحَجَّل الثَّلَاثُ الَّتِي فِيهَا بَيَاضٌ.

وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: الشِّكَال أَن يَكُونَ بَيَاضُ التَّحْجِيلِ فِي رِجْل وَاحِدَةٍ ويَدٍ مِنْ خِلافٍ قَلَّ البياضُ أَو كَثُر، وَهُوَ فَرَسٌ مَشْكُول.

ابْنُ الأَعرابي: الشَّاكِل الْبَيَاضُ الَّذِي بَيْنَ الصُّدْغِ والأُذُنِ.

وحُكي عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ: " أَنه أَوْصَى رَجُلًا فِي طَهارته فَقَالَ تَفَقَّدِ المَنْشَلَة والمَغْفَلة والرَّوْمَ والفَنِيكَيْن والشَّاكِلَ والشَّجْر.

وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَيضًا: تَفَقَّدوا فِي الطُّهور الشَّاكِلَة والمَغْفَلة والمَنْشَلة "؛ المَغْفَلة: العَنْفَقة نفسُها، والمَنْشَلةُ: مَا تَحْتَ حَلْقة الخاتَم مِنَ الإِصْبَع، والرَّوْمُ: شَحْمَة الأُذُن، والشَّاكِل: مَا بَيْنَ العِذَار والأُذُن مِنَ الْبَيَاضِ.

وشَاكِلَة الشَّيْءِ: جانبُه؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

وعَمْدًا تَصدَّت، يَوْمَ شَاكِلَة الحِمى، ***لِتَنْكأَ قَلْبًا قد صَحَا وتَنَكَّرا

وشَاكِلَةُ الفَرس: الَّذِي بَيْنَ عَرْض الْخَاصِرَةِ والثَّفِنة، وَهُوَ مَوْصِلُ الفَخِذ فِي السَّاقِ.

والشَّاكِلَتان: ظاهرُ الطَّفْطَفَتين مِنْ لَدُنْ مَبْلَغ القُصَيْرَى إِلى حَرْف الحَرْقَفة مِنْ جَانِبَيِ الْبَطْنِ.

والشَّاكِلَةُ: الخاصِرةُ، وَهِيَ الطَّفْطَفة.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن ناضِحًا تَرَدَّى فِي بِئر فُذكِّي مِنْ قِبَل شَاكِلَتِه»أَي خاصِرِته.

والشَّكْلاء مِنَ النِّعاج: البيضاءُ الشَّاكِلة.

ونَعْجة شَكْلاء إِذا ابْيَضَّتْ شاكِلَتاها وسائرُها أَسودُ وَهِيَ بَيِّنَة الشَّكَل.

والأَشْكَل مِنَ الشَّاءِ: الأَبيضُ الشاكِلة.

والشَّواكِلُ مِنَ الطُّرُق: مَا انْشَعَب عَنِ الطَّرِيقِ الأَعظم.

والشِّكْل: غُنْجُ المرأَة وغَزَلُها وحُسْن دَلِّها؛ شَكِلَتْ شَكَلًا، فَهِيَ شَكِلَةٌ؛ يُقَالُ: إِنها شَكِلة مُشْكِلةٌ حَسَنة الشِّكْل؛ وَفِي تَفْسِيرِ المرأَة العَرِبَة أَنها الشَّكِلَة، بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِ الْكَافِ، وَهِيَ ذاتُ الدَّلّ.

والشَّكْل: المِثْل.

والشِّكْل، بِالْكَسْرِ: الدَّلُّ، وَيَجُوزُ هَذَا فِي هَذَا وَهَذَا فِي هَذَا.

والشِّكْلُ للمرأَة: مَا تَتَحسَّن بِهِ مِنَ الغُنْج.

يُقَالُ: امرأَة ذَاتُ شِكْل.

وأَشْكَلَ النَّخلُ: طَابَ رُطَبُه وأَدْرَك.

والأَشْكَل: السِّدْر الجَبَليُّ، وَاحِدَتُهُ أَشْكَلَة.

قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: أَخبرني بَعْضُ الْعَرَبِ أَن الأَشْكَلَ شَجَرٌ مِثْلُ شَجَرِ العُنَّاب فِي شَوْكه وعَقَف أَغْصانه، غَيْرَ أَنه أَصغر وَرَقًا وأَكثر أَفْنانًا، وَهُوَ صُلْبٌ جِدًّا وَلَهُ نُبَيْقَةٌ حَامِضَةٌ شَدِيدَةُ الحُمُوضة، مَنابِته شواهقُ الْجِبَالِ تُتَّخَذ مِنْهُ القِسِيُّ، وإِذا لَمْ تَكُنْ شَجَرَتُهُ عَتِيقة مُتقادِمة كَانَ عُودُها أَصفر شَدِيدَ الصُّفْرة، وإِذا تقادَمَتْ شجرتُه واسْتَتمَّت جَاءَ عودُها نِصْفَيْنِ: نِصْفًا شَدِيدَ الصُّفْرَةِ، وَنِصْفًا شَدِيدَ السَّوَادِ؛ قَالَ العَجَّاج ووَصَفَ المَطايا وسُرْعَتَها: " مَعْجَ المَرامي عَنْ قِياس الأَشْكَلِ "قَالَ: ونَبات الأَشْكَل مِثْلُ شَجَرِ الشَّرْيان؛ وَقَدْ أَوردوا هَذَا الشِّعْرَ الَّذِي لِلْعَجَّاجِ:

يَغْلُو بِهَا رُكْبانُها وتَغْتَلي ***عُوجًا، كَمَا اعْوَجَّتْ قِياسُ الأَشْكَل

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الَّذِي فِي شِعْرِهِ: مَعْجَ المَرامي عَنْ قِياس الأَشْكَل "والمَعْجُ: المَرُّ، والمَرامي السِّهامُ، الْوَاحِدَةُ مِرْماةٌ؛ وَقَالَ آخَرُ: " أَو وَجْبَة مِنْ جَناةِ أَشْكَلَةٍ "يَعْنِي سِدْرة جَبَلِيَّة.

ابْنُ الأَعرابي: الشَّكْلُ ضَرْب مِنَ النَّبَاتِ أَصفر وأَحمر.

وشَكْلةُ: اسْمُ امرأَة.

وبَنُو شَكَل: بَطْنٌ مِنَ الْعَرَبِ.

والشَّوْكَل: الرَّجَّالَةُ، وَقِيلَ المَيْمنة والمَيْسَرة؛ كلُّ ذَلِكَ عَنِ الزَّجَّاجي.

الْفَرَّاءُ: الشَّوْكَلَةُ الرَّجَّالَةُ، والشَّوْكَلَةُ النَّاحِية، والشَّوْكَلَةُ العَوْسَجَة.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


75-لسان العرب (روم)

روم: رَامَ الشيءَ يَرومُهُ رَوْمًا ومَرامًا: طَلَبَهُ، وَمِنْهُ رَوْمُ الْحَرَكَةِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَرْفُوعِ وَالْمَجْرُورِ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَما الَّذِينَ رَامُوا الْحَرَكَةَ فإِنه دَعَاهُمْ إِلى ذَلِكَ الحِرْصُ عَلَى أَن يُخرجوها مِنْ حالِ مَا لَزِمَهُ إِسكانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وأَن يُعلموا أَن حَالَهَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ كَحَالِ مَا سَكَنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَذَلِكَ أَراد الَّذِينَ أَشَمُّوا إِلا أَن هَؤُلَاءِ أَشد تَوْكِيدًا؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: رَوْمُ الْحَرَكَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ حَرَكَةٌ مُخْتَلَسَةٌ مُخْتفاةٌ لِضَرْبٍ مِنَ التَّخْفِيفِ، وَهِيَ أَكثر مِنَ الإِشمام لأَنها تُسْمَعُ، وَهِيَ بِزِنَةِ الْحَرَكَةِ وإِن كَانَتْ مُخْتلَسة مِثْلَ هَمْزَةٍ بَيْنَ بَيْنَ كَمَا قَالَ:

أَأَن زُمَّ أَجْمالٌ وفارقَ جِيرَةً، ***وَصَاحَ غُراب البَيْنِ: أَنتَ حَزِينُ

قَوْلُهُ أَأَن زُمَّ: تَقْطِيعُهُ فَعُولُنْ، وَلَا يَجُوزُ تَسْكِينُ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ}، فِيمَنْ أَخفى إِنما هُوَ بِحَرَكَةٍ مُخْتَلَسَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَن تَكُونَ الرَّاءُ الأُولى سَاكِنَةً لأَن الْهَاءَ قَبْلَهَا سَاكِنٌ، فَيُؤَدِّي إِلى الْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنِينَ فِي الْوَصْلِ مِنْ غَيْرِ أَن يَكُونَ قَبْلَهَا حَرْفُ لِينٍ، قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي شَيْءٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وأَمَّنْ لا يَهِدِّي ويَخِصِّمُونَ، وأَشباه ذَلِكَ، قَالَ: وَلَا مُعْتَبَر بِقَوْلِ القُرَّاء إِن هَذَا وَنَحْوَهُ مُدْغَمٌ لأَنهم لَا يُحَصِّلون هَذَا الْبَابَ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ السَّاكِنِينَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَصِحُّ فِيهِ اخْتِلَاسُ الْحَرَكَةِ فَهُوَ مُخْطِئٌ كقراءَة حَمْزَةَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَمَا اسْطاعُوا، لأَنَّ سِينَ الِاسْتِفْعَالِ لَا يَجُوزُ تَحْرِيكُهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والمَرامُ المَطْلَبُ.

ابْنُ الأَعرابي: رَوَّمْتُ فُلَانًا ورَوَّمْتُ بِفُلَانٍ إِذا جَعَلْتَهُ يَطْلُبُ الشَّيْءَ.

والرامُ: ضَرْبٌ مِنَ الشَّجَرِ.

والرَّوْمُ: شَحْمة الأُذن.

وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنه أَوصى رَجُلًا فِي طَهَارَتِهِ فَقَالَ: تَعَهَّد المَغْفَلَةَ والمَنْشَلَةَ والرَّوْمَ»؛ هُوَ شَحْمَةُ الأُذن.

والرُّومُ: جِيلٌ مَعْرُوفٌ، وَاحِدُهُمْ رُوميّ، يَنْتَمون إِلى عِيصُو بْنِ إِسحاق النَّبِيِّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.

ورُومانُ، بِالضَّمِّ: اسْمُ رَجُلٍ، قَالَ الْفَارِسِيُّ: رُومٌ ورُومِيّ مِنْ بَابِ زَنْجِيّ وَزَنْج؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَمِثْلُهُ عِنْدِي فارِسيّ وفُرْسٌ، قَالَ: وَلَيْسَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ إِلا الْيَاءَ الْمُشَدَّدَةَ كَمَا قَالُوا تَمْرَةٌ وَتَمْرٌ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ إِلا الْهَاءُ.

قَالَ: والرُّومَة بِغَيْرِ هَمْزٍ الغِراء الَّذِي يُلْصَقُ بِهِ رِيشُ السَّهْمِ؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: هِيَ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَحَكَاهَا ثَعْلَبٌ مَهْمُوزَةً.

ورُومة: بِئْرٌ بِالْمَدِينَةِ.

وَبِئْرُ رُومَةَ، بِضَمِّ الرَّاءِ: الَّتِي حَفَرَهَا عُثْمَانُ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: اشْتَرَاهَا وسَبَّلها.

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: الرُّومِيُّ شِراعُ السَّفِينَةِ الْفَارِغَةِ، والمُرْبعُ شِراع المَلأَى.

ورامَةُ: اسْمُ مَوْضِعٍ بِالْبَادِيَةِ؛ وَفِيهِ جَاءَ الْمَثَلُ: " تَسْألُني برامَتَيْنِ سَلْجَما "وَالنِّسْبَةُ إِليهم رامِيّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ النِّسْبَةُ إِلى رامَهُرْمُزَ، وَهُوَ بَلَدٌ، وإِن شِئْتَ هُرْمُزِيّ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَالَ أَبو حَنِيفَةَ سَلْجَمُ مُعَرَّبٌ وأَصله بِالشِّينِ، قَالَ: وَالْعَرَبُ لَا تَتَكَلَّمُ بِهِ إِلا بِالسِّينِ غَيْرَ الْمُعْجَمَةِ؛ وَقِيلَ لرامِيٍّ: لمَ زَرَعْتُمُ السَّلْجَمَ؟ فَقَالَ: مُعَانَدَةً لِقَوْلِهِ:

تَسْأَلُني برامَتَيْنِ سَلْجَما، ***يَا مَيُّ، لَوْ سأَلتِ شَيْئًا أَمَما،

جَاءَ بِهِ الكَرِيُّ أَو تَجَشَّما "قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ عِنْدَ قَوْلِ الْجَوْهَرِيِّ وَالنِّسْبَةُ إِلى رَامَةٍ رامِيّ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، قَالَ: هُوَ عَلَى الْقِيَاسِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ النَّسَبُ إِلى رامَتَيْن رامِيّ، كَمَا يُقَالُ فِي النَّسَبِ إِلى الزَّيْدَيْنِ زَيْدِيّ، قَالَ: فَقَوْلُهُ رَامِيٌّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لَا مَعْنَى لَهُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ النَّسَبِ إِلى رامَهُرْمُز رامِيّ عَلَى الْقِيَاسِ.

ورُومَةُ: مَوْضِعٌ، بِالسُّرْيَانِيَّةِ.

ورُوَيْمٌ: اسْمٌ.

ورُومانُ: أَبو قَبِيلَةٍ.

ورُوام: مَوْضِعٌ، وَكَذَلِكَ رامَةُ؛ قَالَ زُهَيْرٌ:

لِمَنْ طَلَلٌ برامَةَ لَا يَرِيمُ ***عَفَا، وخِلالُهُ حُقُبٌ قَدِيمُ؟

فأَما إِكثارهم مِنْ تَثْنِيَةِ رامَةَ فِي الشِّعْرِ فَعَلَى قَوْلِهِمْ لِلْبَعِيرِ ذُو عَثانِينَ، كأَنه قَسَّمَهَا جُزْئَيْنِ كَمَا قَسَّمَ تِلْكَ أَجزاء؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وإِنما قَضَيْنَا عَلَى رامَتَيْنِ أَنها تَثْنِيَةٌ سُمِّيَتْ بِهَا الْبَلْدَةُ لِلضَّرُورَةِ، لأَنهما لَوْ كَانَتَا أَرْضَين لَقِيلَ الرَّامَتَيْنِ بالأَلف وَاللَّامِ كَقَوْلِهِمُ الزَّيْدَانِ، وَقَدْ جَاءَ الرامَتان بِاللَّامِ؛ قَالَ كثيِّر:

خَلِيلَيَّ حُثَّا العِيسَ نُصْبِحْ، وَقَدْ بَدَتْ، ***لَنَا مِنْ جِبَالِ الرامَتَيْنِ، مَناكِبُ

ورامَهُرْمُزَ: مَوْضِعٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا فِيهَا مِنَ اللغات والنسب إِليها.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


76-لسان العرب (حبا)

حبا: حَبَا الشيءُ: دَنا؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

وأَحْوَى، كأَيْمِ الضَّالِ أَطْرَقَ بعدَ ما ***حَبَا تَحْتَ فَيْنانٍ، مِنَ الظِّلِّ، وارفِ

وحَبَوْتُ للخَمْسِين: دَنَوْتُ لَهَا.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: دنوتُ مِنْهَا.

قَالَ ابْنُ الأَعرابي: حَبَاهَا وحَبَا لَها أَي دَنا لَها.

وَيُقَالُ: إِنه لَحَابِي الشَّراسِيف أَي مُشْرِفُ الجَنْبَيْنِ.

وحَبَتِ الشَّراسِيفُ حَبْوًا: طالتْ وتَدانَتْ.

وحَبَتِ الأَضْلاعُ إِلى الصُّلْب: اتَّصَلَتْ ودَنَتْ.

وحَبَا المَسِيلُ: دَنَا بَعْضُه إِلَى بَعْضٍ.

الأَزهري: يُقَالُ حَبَتِ الأَضْلاعُ وَهُوَ اتِّصالُها؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " حَابِي الحُيودِ فارِضُ الحُنْجُورِ "يعني اتصالَ رؤوس الأَضلاع بَعْضِهَا بِبَعْضٍ؛ وَقَالَ أَيضًا: " حَابِي حُيُودِ الزَّوْرِ دَوْسَرِيُ "وَيُقَالُ للمَسايِل إِذا اتَّصلَ بعضُها إِلى بَعْضٍ: حَبَا بعضُها إِلى بَعْضٍ؛ وأَنشد: " تَحْبُو إِلى أَصْلابه أَمْعاؤُه "قَالَ أَبو الدُّقَيْش: تَحْبُو هَاهُنَا تَتَّصل، قَالَ: والمِعَى كُلُّ مِذْنَبٍ بقَرار الحَضيض؛ وأَنشد:

كأَنَّ، بَيْنَ المِرْطِ والشُّفُوفِ، ***رَمْلًا حَبَا مِنْ عَقَدِ العَزِيفِ

والعَزيف: مِنْ رِمَالِ بَنِي سَعْدٍ.

وحَبَا الرملُ يَحْبُو حَبْوًا أَي أَشَرَفَ مُعْتَرِضًا، فَهُوَ حَابٍ.

والحَبْوُ: اتِّساعُ الرَّمْل.

وَرَجُلٌ حَابِي المَنْكِبَيْن: مُرْتَفعُهما إِلى العُنُق، وَكَذَلِكَ الْبَعِيرُ.

وَقَدِ احْتَبَى بِثَوْبِهِ احْتِبَاءً، والاحْتِبَاءُ بِالثَّوْبِ: الاشتمالُ، وَالِاسْمُ الحِبْوَةُ.

والحُبْوَةُ والحِبْيَةُ؛ وَقَوْلُ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّة:

أَرْيُ الجَوارِسِ فِي ذُؤابةِ مُشْرِفٍ، ***فِيهِ النُّسُورُ كَمَا تَحَبَّى المَوْكِبُ

يَقُولُ: اسْتَدَارَتِ النُّسورُ فيه كأَنهم رَكْبٌ "مُحْتَبُونَ.

والحِبْوَة والحُبْوَة: الثوبُ الَّذِي يُحْتَبَى بِهِ، وَجَمْعُهَا حِبىً، مَكْسُورُ الأَول؛ عَنْ يَعْقُوبَ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وحُبىً أَيضًا عَنْ يَعْقُوبَ ذَكَرَهُمَا مَعًا فِي إِصلاحه؛ قَالَ: ويُرْوَى بيتُ الْفَرَزْدَقِ وَهُوَ:

وَمَا حُلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبَى حُلَمائنا، ***وَلَا قائلُ المعروفِ فِينَا يُعَنَّفُ

بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، فَمَنْ كَسَر كَانَ مِثْلَ سِدْرة وسِدَرٍ وَمَنْ ضَمَّ فَمِثْلُ غُرْفَةٍ وغُرَف.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه نَهَى عَنِ الاحْتِباء فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ »؛ ابْنُ الأَثير: هُوَ أَن يَضُمَّ الإِنسانُ رِجْلَيْهِ إِلى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ يَجْمَعُهُمَا بِهِ مَعَ ظَهْرِهِ ويَشُدُّه عَلَيْهَا، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الاحْتِبَاء بِالْيَدَيْنِ عِوَضَ الثَّوْبِ، وإِنما نَهَى عَنْهُ لأَنه إِذا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ رُبَّمَا تَحَرَّكَ أَو زَالَ الثَّوْبُ فَتَبْدُو عَوْرَتُهُ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: « الاحْتِبَاءُ حِيطَانُ العَرب أَي لَيْسَ فِي الْبَرَارِيِّ حِيطانٌ، فإِذا أَرادوا أَن يَسْتَنِدُوا احْتَبَوْا لأَن الاحْتِبَاء يَمْنَعُهُمْ مِنَ السُّقوط وَيَصِيرُ لَهُمْ كَالْجِدَارِ».

وَفِي الْحَدِيثِ: « نُهِيَ عَنْ الحَبْوَةِ يومَ الْجُمُعَةَ والإِمامُ يَخْطُبُ لأَن الاحْتِبَاءَ يَجْلُب النومَ وَلَا يَسْمَعُ الخُطْبَةَ ويُعَرِّضُ طهارتَه لِلِانْتِقَاضِ».

وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ: « نَبَطِيٌّ فِي حِبْوَتِه »؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَشْهُورُ بِالْجِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: الحِبَا حِيطَانُ الْعَرَبِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ، وَقَدِ احْتَبَى بِيَدِهِ احْتِبَاءً.

الْجَوْهَرِيُّ: احْتَبَى الرجلُ إِذا جَمَع ظَهْرَهُ وَسَاقَيْهِ بِعِمَامَتِهِ، وَقَدْ يَحْتَبِي بِيَدَيْهِ.

يُقَالُ: حَلَّ حِبْوَته وحُبْوَتَه.

وَفِي حَدِيثِ الأَحْنف: « وَقِيلَ لَهُ فِي الْحَرْبِ أَين الحِلْمُ؟ فَقَالَ: عِنْدَ الحُبَى »؛ أَراد أَن الْحِلْمَ يَحْسُن فِي السِّلْم لَا فِي الْحَرْبِ.

والحَابِيةُ: رَمْلَةٌ مُرْتَفِعَةٌ مُشْرِفة مُنْبتة.

والحَابِي: نَبْتٌ سُمِّيَ بِهِ لِحُبُوّه وعُلُوِّه.

وحَبَا حُبُوًّا: مَشَى عَلَى يَدَيْهِ وَبَطْنِهِ.

وحَبَا الصَّبِيُّ حَبْوًا: مَشَى عَلَى اسْتِه وأَشرف بِصَدْرِهِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ إِذا زَحَفَ؛ قَالَ عَمْرُو بْنُ شَقِيقٍ:

لَوْلَا السِّفَارُ وبُعْدُه مِنْ مَهْمَهٍ، ***لَتَركْتُها تَحْبُو عَلَى العُرْقُوبِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: رَوَاهُ ابْنُ الْقَطَّاعِ: وبُعْدُ خَرْقٍ مَهْمَهٍ، وبُعْدُه مِنْ مَهْمَهٍ.

اللَّيْثُ: الصَّبِيُّ يَحْبُو قَبْلَ أَن يَقُومَ، وَالْبَعِيرُ المَعْقُول يَحْبُو فَيَزْحَفُ حَبْوًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: « لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمةِ وَالْفَجْرِ لأَتوهما وَلَوْ حَبْوًا »؛ الحَبْوُ: أَن يَمْشِيَ عَلَى يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ أَو اسْتِهِ.

وحَبَا البعيرُ إِذا بَرَك وزَحَفَ مِنَ الإِعْياء.

والحَبِيُّ: السحابُ الَّذِي يُشرِفُ مِنَ الأُفُق عَلَى الأَرض، فَعِيل، وَقِيلَ: هُوَ السَّحَابُ الَّذِي بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ؛ قَالَ: " يُضِيءُ حَبِيًّا فِي شَمارخ بيضِ "قِيلَ لَهُ حَبِيٌّ مِنْ حَبَا كَمَا يُقَالُ لَهُ سَحاب مِنْ سَحَب أَهدابه، وَقَدْ جَاءَ بِكِلَيْهِمَا شعرُ الْعَرَبِ؛ قَالَتِ امرأَة:

وأَقْبلَ يَزْحَفُ زَحْفَ الكَبِير، ***سِياقَ الرِّعاءِ البِطَاء العِشَارَا

وَقَالَ أَوسٌ:

دانٍ مُسِفٌّ فُوَيْقَ الأَرضِ هَيْدَبُه، ***يَكادُ يَدْفَعُهُ مَنْ قامَ بالرَّاحِ

وَقَالَتْ صَبِيَّةٌ مِنْهُمْ لأَبيها فَتَجَاوَزَتْ ذَلِكَ:

أَناخَ بذِي بَقَرٍ بَرْكَهُ، ***كأَنَّ عَلَى عَضُدَيْه كِتافا

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: والحَبِيُّ مِنَ السَّحاب الَّذِي يَعْترِض اعتراضَ الْجَبَلِ قَبْلَ أَن يُطَبِّقَ السماءَ؛ قَالَ" امْرُؤُ الْقَيْسِ:

أَصاحِ، تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَه، ***كَلَمْعِ اليَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ

قَالَ: والحَبَا مِثْلُ العَصا مثْلُه، وَيُقَالُ: سُمِّيَ لدنُوِّه مِنَ الأَرض.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يَعْنِي مِثْلَ الحَبِيِّ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَصِفُ جَعبة السِّهَامِ:

هِيَ ابْنةُ حَوْبٍ أُمُّ تِسعين آزَرَتْ ***أَخًا ثِقةً يَمْرِي حَبَاها ذَوائِبُه

والحَبِيُّ: سَحَابٌ فَوْقَ سَحَابٍ.

والحَبْوُ: امْتِلَاءُ السَّحَابِ بِالْمَاءِ.

وكلُّ دانٍ فَهُوَ حَابٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ حَدِيثِ وَهْبٍ: كأَنه الجبلُ الحَابِي "، يَعْنِي الثقيلَ المُشْرِفَ.

والحَبِيُّ مِنَ السَّحَابِ: المُتَراكِمُ.

وحَبَا البعيرُ حَبْوًا: كُلِّفَ تَسَنُّمَ صَعْبِ الرَّمْلِ فأَشرَف بِصَدْرِهِ ثُمَّ زحَف؛ قَالَ رُؤْبَةُ: " أَوْدَيْتَ إِن لَمْ تَحْبُ حَبْوَ المُعْتَنِك وَمَا جَاءَ إِلَّا حَبْوًا أَي زَحْفًا.

وَيُقَالُ مَا نَجا فُلَانٌ إِلا حَبْوًا.

والحَابِي مِنَ السِّهام: الَّذِي يَزْحَف إِلى الهَدَف إِذا رُمِيَ بِهِ.

الْجَوْهَرِيُّ: حَبَا السهمُ إِذا زَلَجَ عَلَى الأَرض ثُمَّ أَصاب الهَدَف.

وَيُقَالُ: رَمَى ف أَحْبَى أَي وَقَعَ سهمُه دُونَ الغرَض ثُمَّ تَقافَزَ حَتَّى يُصِيبَ الْغَرَضَ.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: « إِنَّ حَابِيًا خيرٌ مِنْ زاهِقٍ».

قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: الحَابِي مِنَ السِّهَامِ هُوَ الَّذِي يَقَعُ دُونَ الهَدَف ثُمَّ يَزْحَفُ إِليه عَلَى الأَرض، يُقَالُ: حَبَا يَحْبُو، وإِن أَصاب الرُّقْعة فَهُوَ خازِقٌ وخاسِق، فإِن جَاوَزَ الهدَف وَوَقَعَ خلْفه فَهُوَ زاهِقٌ؛ أَراد أَن الحابِيَ، وإِن كَانَ ضَعِيفًا وَقَدْ أَصاب الهدَف، خَيْرٌ مِنَ الزَّاهِقِ الَّذِي جازَه بشدَّة مَرِّه وَقُوَّتِهِ وَلَمْ يُصِبِ الهدَف؛ ضرَب السَّهْمَيْنِ مَثَلًا لِوالِيَيْن أَحدهما يَنَالُ الْحَقَّ أَو بعضَه وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْآخَرُ يَجُوزُ الحقَّ ويَبْعد، عَنْهُ وَهُوَ.

قويٌّ.

وحَبَا المالُ حَبْوًا: رَزَمَ فَلَمْ يَتَحَرَّك هُزالًا.

وحَبَت السفينةُ: جَرَتْ.

وحَبَا لَهُ الشيءُ، فَهُوَ حَابٍ وحَبِيٌّ: اعْتَرَضَ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ قُرْقُورًا: " فَهْوَ إِذا حَبَا لَهُ حَبِيُ "فَمَعْنَى إِذا حَبَا لَهُ حَبِيٌّ: اعترضَ لَهُ مَوْجٌ.

والحِبَاءُ: مَا يَحْبُو بِهِ الرجلُ صاحَبه وَيُكْرِمُهُ بِهِ.

والحِبَاءُ: مِنَ الاحْتِبَاءِ؛ وَيُقَالُ فِيهِ الحُباءُ، بِضَمِّ الْحَاءِ، حَكَاهُمَا الْكِسَائِيُّ، جَاءَ بِهِمَا فِي بَابِ الْمَمْدُودِ.

وحَبَا الرجلَ حَبْوةً أَي أَعطاه.

ابْنُ سِيدَهْ: وحَبَا الرجُلَ حَبْوًا أَعطاهُ، والاسم الحَبْوَة والحِبْوَة [الحُبْوَة] والحِبَاءُ، وَجَعَلَ اللِّحْيَانِيُّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَصَادِرَ؛ وَقِيلَ: الحِبَاءُ العَطاء بِلَا مَنٍّ وَلَا جَزاءٍ، وَقِيلَ: حَبَاه أَعطاه ومَنَعَه؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي لَمْ يَحْكِهِ غَيْرُهُ.

وَتَقُولُ: حَبَوْته أَحْبُوه حِباءً، وَمِنْهُ اشتُقّت المُحَابَاة، وحَابَيْتُه فِي الْبَيْعِ مُحَابَاة، والحِبَاءُ: الْعَطَاءُ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

خالِي الذَّي اغْتَصَبَ المُلُوكَ نُفُوسَهُم، ***وإِلَيْه كَانَ حِبَاءُ جَفْنَةَ يُنْقَلُ

وَفِي حَدِيثِ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ: « أَلا أَمْنَحُكَ أَلا أَحْبُوكَ؟ »حَبَاه كَذَا إِذا أَعطاه.

ابْنُ سِيدَهْ: حَبَا مَا حَوْله يَحْبُوه حَماهُ وَمَنَعَهُ؛ قَالَ ابْنُ أَحمر:

ورَاحَتِ الشَّوْلُ ولَمْ يَحْبُها ***فَحْلٌ، وَلَمْ يَعْتَسَّ فِيهَا مُدِرّ

وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: لَمْ يَحْبُها لم يتلفت إِليها أَي أَنَّهُ شُغِل بِنَفْسِهِ، وَلَوْلَا شُغْلُهُ بِنَفْسِهِ لحازَها وَلَمْ يُفَارِقْهَا؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَكَذَلِكَ حَبَّى مَا حَوْله تَحْبِيَة.

وحابَى الرجلَ حِباءً: نَصَرَهُ واخْتَصَّه ومالَ إِليه؛ قَالَ:

اصْبِرْ يزيدُ، فقدْ فارَقْتَ ذَا ثِقَةٍ، ***واشْكُر حِباءَ الَّذِي بالمُلْكِ حَابَاكا

وَجَعَلَ المُهَلْهِلُ مَهْرَ المرأَةِ حِباءً فَقَالَ:

أَنكَحَها فقدُها الأَراقِمَ فِي ***جَنْبٍ، وَكَانَ الحِباءُ منْ أَدَمِ

أَراد أَنهم لَمْ يَكُونُوا أَرباب نَعَمٍ فيُمْهِروها الإِبِلَ وَجَعَلَهُمْ دَبَّاغِين للأَدَمِ.

وَرَجُلٌ أَحْبَى: ضَبِسٌ شِرِّيرٌ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:

والدَّهْرُ أَحْبَى لَا يَزالُ أَلَمُهْ ***تَدُقُّ أَرْكانَ الجِبال ثُلَمُهْ

وحَبا جُعَيْرانَ: نَبَاتٌ.

وحُبَيٌّ والحُبَيَّا: مَوْضِعَانِ؛ قَالَ الرَّاعِي:

جَعلْنا حُبَيًّا باليَمِينِ، ونَكَّبَتْ ***كُبَيْسًا لوِرْدٍ مِنْ ضَئِيدَةَ باكِرِ

وَقَالَ الْقَطَامِيُّ: مِنْ عَنْ يَمينِ الحُبَيّا نَظْرةٌ قبَلُ "وَكَذَلِكَ حُبَيَّات؛ قَالَ عُمر بْنُ أَبي رَبِيعَةَ:

أَلمْ تَسل الأَطْلالَ والمُتَرَبَّعا، ***ببَطْنِ حُبَيَّاتٍ، دَوارِسَ بَلْقَعا

الأَزهري: قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ فُلَانٌ يَحْبُو قَصَاهُم ويَحُوطُ قَصاهُمْ بِمَعْنًى؛ وأَنشد:

أَفْرِغْ لِجُوفٍ وِرْدُها أَفْرادُ ***عَباهِلٍ عَبْهَلَها الوُرَّادُ

يَحْبُو قَصاها مُخْدَرٌ [مُخْدِرٌ] سِنادُ، ***أَحْمَرُ مِنْ ضِئْضِئِها مَيّادُ

سِنادٌ: مُشْرف، ومَيَّاد: يجيء ويذهب.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


77-تهذيب اللغة (شكل)

شكل: (أبو العباس عن عمرو عن أبيه): في فلانٍ شَبَهٌ من أبيه وشَكْلٌ وأَشْكَلَةٌ، وشُكْلَةٌ وشاكلٌ ومشاكلةٌ.

وقال الفرّاء في قوله جلَّ وعزَّ: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ} [ص: 58] قرأ الناسُ وآخَرُ إلا مُجاهدًا فإنه قرأ: {وأُخر من شكله}.

وقال الزّجَّاج: من قرأ: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58)) فآخَر عطفٌ على قولِه: (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي وعذابٌ آخر مِن شكله أي من مثل ذلك الأول.

ومن قرأ (وأُخَرُ مِن شكِله) فالمعنى وأنواعٌ أُخَر من شكله، لأن معنى قوله (أَزْواجٌ): أنواع.

وقال الليث: الشِّكْلُ: غُنْجُ المرأة وحُسنُ دَلِّها.

يقال: إنها شَكِلَةٌ مُشَكَّلةٌ: حَسنةُ الشِّكل.

قال: الشَّكلُ: المِثل، تقولُ هذا على شكلِ هذا أي على مثاله، وفلانٌ شكلُ فلانٍ أي مثله في حالاتِه.

وأخبرني المنذريُّ عن أبي العباس أنه قال: الشَّكلُ: المِثلُ، والشِّكلُ: الدَّلُّ، ويجوزُ هذا في هذا، وهذا في هذا.

قال: وقال ابن الأعرابي: الشَّكْلُ: ضربٌ من النبات أصفرُ وأحمرُ.

وقال الفراء في قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84].

قال: الشاكِلة: الناحيةُ والطَّريقةُ والجَدِيلة.

وقال الزَّجاج: يقال: هذا طريقٌ ذُو شَوَاكِلَ، أي تَتشعَّبُ منه طُرقٌ جَماعةٌ.

وقال الأخْفَشُ: «عَلى شاكِلَتِهِ» أي على ناحيته وخَلِيقَتِه.

قال، ويقال: هذا مِن شَكل هذا أي مِن ضَرْبه ونحوه.

وأمَّا الشِّكل للمرأة: فما تتحسَّن به من الغُنْجِ.

(سَلَمةُ عن الفرّاء) قال: الشَّوْكَلَةُ: الرَّجَّالةُ، والشَّوْكلَة: الناحِيَةُ، والشَوْكلة: العَوْسَجة.

وقال الليث: الأَشْكَلُ في ألْوان الإِبل والغَنم ونحوِه: أن يَكون مع السوادِ غُبْرَةٌ وحُمْرَةٌ، كأنه قد أَشكَلَ عليك لَوْنُه، وتقول في غير ذلك من الألوان إن فيه لشُكْلَةً من لَوْن كذا وكذا، كقولكَ أَسمَرُ فيه شُكْلَةٌ من سوادٍ، والأشكلُ في سائر الأشياء: بياضٌ وحُمْرَةٌ قد اختلَطَا.

قال ذو الرُّمّة:

يَنْفَحْنَ أشكَلَ مَخْلوطًا تَقَمَّصَهُ *** مَنَاخِرُ العَجْرَفِيَّاتِ المَلَاجِيجِ

جمع مِلجاج تلج في هديرها.

وقال جَرِيرٌ يُنكِرُ الدّماء:

فما زالَت القَتْلى تمورُ دماؤُها *** بدِجْلةَ حتى ماءُ دِجْلةَ أشْكَلُ

وقال أبو عبيدة: الأشكلُ فيه بياضٌ وحُمرةٌ.

(ثعلب عن ابن الأعرابيّ): الضَّبُعُ فيها غُثْرَةٌ وشُكْلَةٌ لَوْنان فيه سوادٌ وصُفرةٌ سَمِجَةٌ.

وقال شمر: الشُّكْلة: الحُمْرَةُ تختلط بالبياض، وهذا شيءٌ أشكلُ.

ومنه قيل للأمر المشتبِه: مُشْكِلٌ.

(المنذريُّ، عن الصَّيْداوِيّ عن الرِّياشِيِّ) يقال: أشكَل عَلَيَّ الأمر إذا اختلط.

وَيقال: شَكَلْتُ الطيرَ، وشكَلتُ الدّابة.

(سَلمة عن الفرّاء) قال: أَشكلَتْ عَلَيَّ الأخبارُ وأَحْكلَتْ بمعنىً واحدٍ.

وقال ابن الأنباريّ: أَشكلَ عَلَيَّ الأمرُ أي اختَلط، والأشكلُ عند العرب: اللونانِ المختلطان.

وقال: في قوله في صفة النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم: «سألته عن شَكْلِه»، قال: معناه عما يشاكلُ أفعالَه.

وفي حديث عليٍّ رضي‌الله‌عنه في صفة النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم: «في عَينيه شُكْلَةٌ».

قال أبو عبيد: الشُّكلةُ كهيئة الحُمْرة تكون في بياض العين، فإذا كانت في سواد العين حُمرةٌ فهي شُهْلةٌ.

وأنشد:

ولا عيبَ فيها غيرَ شُكْلةِ عينِها *** كذاكَ عِتاقُ الطيْرِ شُكْلٌ عيونُها

قال شمر: عتاق الطير هي الصقور والبزاة، ولا توصف بالحُمرةِ، ولكن توصف بزرقة العين وشهلتها.

قال: ورُوِي هذا البيت: شهلة عينها.

قال وقال غير أبي عبيدٍ: الشكلة في العين: الصفرة التي تخالط بياض العين التي حَوْلَ الحَدَقة على صفة عين الصقر، ثم قال: ولكنا لم نسمع الشكلة إِلّا في الحمرة، ولم نسمعها في الصفرة.

وأنشد:

ونحن حَفزْنا الحَوْفزانَ بطعنة *** سقتْه نجيعًا مِن دم الجوف أَشكلا

قال: فهو هاهنا حُمرةٌ لا شك فيه.

قال: ورَوَى أبو عدنان عن الأصمعي، يقال: في عينه شكلة، وهي حُمرةٌ تخالط البياض.

وقال الليث الأشكالُ: الأمور والحَوائجُ المختلفةُ فيما يُتكلَّفُ منها ويُهتمُّ لها وأنشد للعجاج: وتَخلُجُ الأشكالُ دونَ الأشكالْ

(أبو عبيد عن الأصمعي) يقال: لنَا قِبلَ فُلانٍ أَشْكَلَةٌ وهي الحاجةُ.

وقال (ابن الأعرابي) يقال للحاجةِ: أشْكَلَةٌ، وشَاكلَةٌ وشَوْكَلاءُ ونَوَاةٌ، بمعنى واحدٍ.

وقال أَبو زيد: نَعْجَةٌ شَكْلَاءُ إذا ابْيَضَّتْ شَاكلتَاها، وسَائرُهَا أَسْوَدُ.

وقال الليث: الشَّاكلتَانِ: ظَاهِرُ الطِّفْطِفَتَيْن

من لَدُنْ مَبْلغِ القُصَيْرَى إِلى حَرْفِ الحَرْقَفَةِ من جانِبَي البَطْنِ.

قال: والمشَاكِلُ من الأمورِ: ما وَافَقَ فَاعِلَهُ ونَظِيرَهُ.

وروي عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أَنه كَرِهَ الشِكَالَ في الخَيْلِ.

قال أبو عبيد يَعْنِي أَنْ تكون ثلاثُ قَوَائمَ منه مُحَجَّلةً وَوَاحِدَةٌ مُطْلَقَةً وإنَّمَا أُخِذَ هذا من الشِّكالِ الذي يُشْكَلُ بهِ الخَيْلُ، شُبِّهَ بهِ لأنَ الشِّكالَ إِنما يكونُ في ثلاثِ قَوائم أَو أَنْ تكونَ الثَّلَاثُ مُطْلَقَةً ورِجْلٌ مُحَجَّلةٌ، وليس يكون الشِّكالُ إِلَّا في الرِّجلِ، ولا يكون في اليَدِ.

وروى أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي أنهُ قال: الشِّكالُ: أَنْ يكون البَيَاضُ في يُمنَى يَدَيْهِ وفي يُمنَى رِجْلَيْهِ.

قال أبو العباس وقال آخرُ: الشكالُ: أَنْ يكون البَيَاضُ في يُسْرَى يَديهِ وفي يُسْرَى رِجْلَيْهِ.

وقال آخر: الشِّكالُ: أَنْ يكون البَيَاضُ في يَديهِ حَسْبُ.

وقال آخرُ: الشِّكالُ: أن يكون البَيَاضُ في يَدَيهِ وفي إحدى رِجْليهِ.

وقال آخرُ: الشِّكالُ: أَنْ يكون البَيَاضُ في رِجليهِ وفي إِحدى يَديهِ.

(قلت): وروى أبو قَتادة عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أَنه قال: «خَيْرٌ الخَيْلُ الأَدْهَمُ الأَقْرَحُ المحجَّلُ الثَّلَاثِ طَلْقُ اليمنَى أَوْ كميْتٌ مثلُه».

(قلت): والأَقْرَحُ الذي غُرَّتُهُ صَغيرةٌ بين عينيه، وقوله: طَلْقُ اليمنى: ليس فيها من البَيَاضِ شيءٌ، والمحجَّلُ الثَّلاثِ: التي فيها بَيَاضٌ.

وقال أبو عبيدة: الشِّكالُ أن يكون بَيَاضُ التّحْجِيلِ في رِجْلٍ واحدةٍ ويَدٍ من خِلافٍ، قَلَّ البَيَاضُ أَوْ كَثُرَ، وهو فَرَسٌ مَشْكُولٌ.

وقال شمر عن عبد الغفار عن أبي عبيدة قال: إذا كان البَيَاضُ بيدٍ ورجْلٍ من خلافٍ قَلَّ أَوْ كثُرَ فهو مَشكُولٌ.

وقال غيره: الأشْكالُ: حُلِيٌ يشاكلُ بعضها بعضًا يُقَرَّطُ بها النِّساءُ، وقال ذو الرُّمَّةِ:

*سَمِعْت مِنْ صَلَاصِلِ الأشْكالِ* *** *أَدْبًا عَلَى لَبَّاتِها الحَوَالِي*

* هَزَّ السَّنَا في لَيْلَةِ الشَّمالِ*

(أبو حاتم): شَكَلْتُ الكِتابَ أشْكُلُهُ فهو مَشْكُولٌ إذا قَيَّدْتَهُ.

قال: وأَعْجَمْتُ الكتابَ إذا نَقَطْتَه، وحَرْفٌ مُشِكلٌ: مُشتَبِهٌ مُلْتَبِسٌ.

(ثعلب عن ابن الأعرابي) قال: الشَّاكِلُ: البَيَّاضُ الذي بين الصُّدْغِ والأُذُنِ، وحُكيَ عن بعضِ التَابعينَ أنه أوْصى رَجُلًا في طَهَارَتِهِ فقال: تَفقُدِ المَنْشَلَةَ والمَغْفَلةَ والرَّوْمَ والفَنِيكَينِ والشَّاكلَ والشَّجْرَ.

قال: المْغَفَلَةُ: العَنْفَقةُ نفسُها، والرَّوْمُ:

شَحْمَةُ الأُذُنِ، والمَنْشَلَةُ: مَوْضِعُ حَلْقَةِ الخاتَمِ.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com