نتائج البحث عن (طَهَارَتُهَا)

1-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (نخم)

(نخم) - في حديث الحُدَيْبِية: "ما يَتَنَخَّم نُخَامَةً إلَّا وَقَعَتْ في يدِ رَجُلٍ"

النُّخامَةُ: النُّخاعَة؛ وهي ما يَخرُج من الخَيْشُومِ، وقد تنخَّمَ، وفيه دَليلٌ على طَهارَتِها.

- فيه حديث الشَّعْبىّ: "فغَنَّى ناخِمُهم".

النَّخْمُ: أجْوَدُ الغِناء.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


2-المعجم الاشتقاقي المؤصل (زكو)

(زكو): {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]

الزكا - مقصور: الشفع من العدد ضدُّ الخَسَا، والزوجان ضد الفرد. أرض زَكِيّة: طيبة سمينة. زكا الزرع يزكو زَكاء: نما. الزكاء: النماء والرَيْع.

° المعنى المحوري

زيادة الشيء في ذاته مع جودة نوعه. كالزكا فهو أزيد

من الخسا في أدنى ما يطلقان عليه. وكالأرض الزكية تُنَمَّى الزرع مع كونه جيدًا بين جنسه. وكذلك زكاء الزرع نموه مع رَيْعه، فرَيْعُه أن يفوق مثله أو يكون على خير حالِ مثله. ومنه استعمال التركيب في الطهارة المادية كقول الإمام (الباقر) محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم "زكاة الأرض يُبْسها "يريد طهارتها من النجاسة كالبول وأشباهه أن يجف ويذهب أثره. ومن القريب لذلك قولهم "زكّى الشيء - ض: أصلحه ".

فمن ذلك الأصل "الزكاة: ما أخرجته من مالك (أي تبرعًا في المصارف الشرعية) لتطهره به "فمعناها يجمع الزيادة (القدر الذي يُخرج، والأصل فيه أن يكون فضلًا أي زائدًا عن الحاجة، وأيضًا فإن المال الأصلي يُبارَك - أي ينمو وبطول نفعُه - بإخراج زكاته)، كما يجمع الجودة، وهي أنها تطهِّر المال وصاحبه من التبعة الدينية فيه. وكل كلمة (الزكاة) في القرآن هي بمعنى زكاة المال هذه، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وسائر ما في القرآن من مفردات التركيب هو بمعنى طهارة النفس {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]. زكّى الله نفسه بالطاعة/ زكّى (هو) نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال [قر 20/ 77] , {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]. (لا تنسبوها إلى الزكاء: الصلاح وزيادة الإيمان تمدُّحًا) {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم: 13] الزكاة: التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر. أي جعلناه مباركًا للناس يهديهم. وقيل المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تُزكِّى الشهود إنسانًا. وقيل "زكاة "صدقة به على أبويه. [قر 11/ 88]. والأول أولاهن.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


3-موسوعة الفقه الكويتية (آبار 1)

آبَارٌ -1

الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ

تَعْرِيفُ الْآبَارِ وَبَيَانُ أَحْكَامِهَا الْعَامَّةِ

1- الْآبَارُ جَمْعُ بِئْرٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ «بَأَرَ» أَيْ حَفَرَ. وَيُجْمَعُ أَيْضًا جَمْعَ قِلَّةٍ عَلَى أَبُورٍ وَآبُرٍ. وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ مِنْهُ بِئَارٌ.

وَيَنْقُلُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ عَنْ «النُّتَفِ»: الْبِئْرُ هِيَ الَّتِي لَهَا مَوَادُّ مِنْ أَسْفَلِهَا، أَيْ لَهَا مِيَاهٌ تَمُدُّهَا وَتَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهَا. وَقَالَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ يَخْرُجُ الصِّهْرِيجُ وَالْجُبُّ وَالْآبَارُ الَّتِي تُمْلأُ مِنَ الْمَطَرِ، أَوْ مِنَ الْأَنْهَارِ، وَالَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الرَّكِيَّةِ (عَلَى وَزْنِ عَطِيَّةٍ) كَمَا هُوَ الْعُرْفُ، إِذِ الرَّكِيَّةُ هِيَ الْبِئْرُ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ. لَكِنْ فِي الْعُرْفِ هِيَ بِئْرٌ يَجْتَمِعُ مَاؤُهَا مِنَ الْمَطَرِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الصِّهْرِيجِ. وَفِي حَاشِيَةِ الْبُجَيْرِمِيِّ عَلَى شَرْحِ الْخَطِيبِ أَنَّ «الْبِئْرَ» قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، وَهِيَ الْحَاصِلُ الَّذِي تَحْتَ بَيْتِ الرَّاحَةِ. وَيُسَمَّى الْآنَ بِالْخَزَّانِ. وَيُقَالُ عَنْ هَذِهِ الْبِئْرِ: بِئْرُ الْحُشِّ، وَالْحُشُّ هُوَ بَيْتُ الْخَلَاءِ.

2- وَالْأَصْلُ فِي مَاءِ الْآبَارِ الطَّهُورِيَّةُ (أَيْ كَوْنُهُ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ)، فَيَصِحُّ التَّطْهِيرُ بِهِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ إِذَا تَنَجَّسَ الْمَاءُ أَوْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي التَّغَيُّرِ يُعْرَفُ فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ. غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ آبَارًا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ كَرَاهَةِ التَّطْهِيرِ بِمَائِهَا لِأَنَّهَا فِي أَرْضٍ مَغْضُوبٍ عَلَيْهَا. وَهُنَاكَ مِنَ الْآبَارِ مَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْفَضْلِ، وَرَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ.

الْمَبْحَثُ الثَّانِي

حَفْرُ الْآبَارِ لِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَتَعَلُّقُ حَقِّ النَّاسِ بِمَائِهَا

أَوَّلًا: حَفْرُ الْبِئْرِ لِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ:

3- حَفْرُ الْبِئْرِ وَخُرُوجُ الْمَاءِ مِنْهَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْإِحْيَاءِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَمَّ تَفْجِيرُ الْمَاءِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْإِنْبَاتِ، مَعَ نِيَّةِ التَّمَلُّكِ، يَتِمُّ بِهِ الْإِحْيَاءُ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ تَفْجِيرَ الْمَاءِ يَتِمُّ بِهِ الْإِحْيَاءُ فِي الْجُمْلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ إِعْلَانَ النِّيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ بِئْرَ مَاشِيَةٍ. وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ يَشْتَرِطُونَ الْغَرْسَ إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ لِبُسْتَانٍ، كَمَا يَشْتَرِطُونَ نِيَّةَ التَّمَلُّكِ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ طَيَّهَا (أَيْ بِنَاءَ جُدْرَانِهَا) إِذَا كَانَتْ فِي أَرْضٍ رَخْوَةٍ أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَا يَتِمُّ بِتَفْجِيرِ الْمَاءِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا بِالْحَفْرِ وَسَقْيِ الْأَرْضِ.

وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلْبِئْرِ فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ حَرِيمًا، لِحَاجَةِ الْحَفْرِ وَالِانْتِفَاعِ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي حَرِيمِهِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِلْبِئْرِ حَرِيمًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يُعْتَبَرُ حَرِيمًا، فَحَدَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْأَذْرُعِ حَسَبَ نَوْعِ الْبِئْرِ. وَيَسْتَنِدُ الْمَذْهَبَانِ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارٍ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدَّرُوهُ بِمَا لَا يَضِيقُ عَلَى الْوَارِدِ، وَلَا عَلَى مُنَاخِ إِبِلِهَا، وَلَا مَرَابِضِ مَوَاشِيهَا عِنْدَ الْوُرُودِ، وَلَا يَضُرُّ بِمَاءِ الْبِئْرِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ «إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ».

ثَانِيًا: تَعَلُّقُ حَقِّ النَّاسِ بِمَاءِ الْآبَارِ:

4- الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَاهُ الْخَلاَّلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَنَّهُ قَالَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ». كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ إِلاَّ مَا حُمِلَ مِنْهُ». وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَاءِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ غَيْرُ الْمُحْرَزِ.

وَعَلَى هَذَا فَمِيَاهُ الْآبَارِ الْعَامَّةِ مُبَاحَةٌ وَلَا مِلْكَ فِيهَا لِأَحَدٍ إِلاَّ بِالِاغْتِرَافِ. وَأَمَّا مِيَاهُ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ فَإِنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ الْإِبَاحَةِ الْعَامَّةِ. وَلَمَّا كَانَتْ حَاجَةُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْمَاءِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ حَيَوَانِهِ مِمَّا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ بِحَقِّ الشَّفَةِ مَاسَّةً وَمُتَكَرِّرَةً، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْمَاءِ قَبْلَ جَرَيَانِهِ فِي الْمِلْكِ الْخَاصِّ مُبَاحٌ، وَأَنَّ مِيَاهَ الْآبَارِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ مُتَّصِلَةٌ بِالْمَجْرَى الْعَامِّ، أَوْجَدَ ذَلِكَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فِي مَاءِ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ، لَكِنَّهَا إِبَاحَةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى حَقِّ الشَّفَةِ دُونَ حَقِّ الشُّرْبِ.

5- وَاتِّجَاهَاتُ الْفُقَهَاءِ مُخْتَلِفَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمِلْكِيَّةِ مَاءِ آبَارِ الدُّورِ وَالْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ النَّاسِ بِهَا. فَقِيلَ بِأَنَّ لِلنَّاسِ حَقًّا فِيهَا. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَاءٌ قَرِيبٌ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَفِضْ عَنْ حَاجَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَيَّدَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ يَفِيضُ عَنْ حَاجَتِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْبِئْرَ مَا وُضِعَ لِلْإِحْرَازِ، وَلِأَنَّ فِي بَقَاءِ حَقِّ الشَّفَةِ ضَرُورَةً، وَلِأَنَّ الْبِئْرَ تَتْبَعُ الْأَرْضَ دُونَ الْمَاءِ، وَلِخَبَرِ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ». وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ حَفْرُ الْبِئْرِ بِقَصْدِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ، أَوْ حُفِرَ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ آبَارِ الدُّورِ وَالْحَوَائِطِ الْمُسَوَّرَةِ. وَقَيَّدَ ذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ فِي أَرْضٍ لَا يَضُرُّهَا الدُّخُولُ فِيهَا.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ، وَمِلْكِيَّتُهُ خَالِصَةٌ لِصَاحِبِهِ. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لآِبَارِ الدُّورِ وَالْحَوَائِطِ الْمُسَوَّرَةِ، وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنَ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ فِي الْأَرَاضِيِ الْمَمْلُوكَةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ يَمْلِكُ الْمَنْبَعَ، أَوْ كَانَ حَفَرَهَا بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ. فَلِصَاحِبِ الْبِئْرِ عَلَى هَذَا أَنْ يَمْنَعَ الْغَيْرَ مِنْ حَقِّ الشَّفَةِ أَيْضًا، وَأَنْ يَبِيعَ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُحْرَزِ. وَيُقَيَّدُ الْمَنْعُ بِغَيْرِ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ. وَفِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ فِي الْأَمْلَاكِ، كَالْقَارِ وَالنَّفْطِ.

الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ

حَدُّ الْكَثْرَةِ فِي مَاءِ الْبِئْرِ وَأَثَرُ اخْتِلَاطِهِ بِطَاهِرٍ وَانْغِمَاسُ آدَمِيٍّ فِيهِ طَاهِرٍ أَوْ بِهِ نَجَاسَةٌ

6- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ. وَيَخْتَلِفُونَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، فَيُقَدِّرُهَا الْحَنَفِيَّةُ بِمَا يُوَازِي عَشْرَ أَذْرُعٍ فِي عَشْرٍ دُونَ اعْتِبَارٍ لِلْعُمْقِ مَا دَامَ الْقَاعُ لَا يَظْهَرُ بِالِاغْتِرَافِ. وَالذِّرَاعُ سَبْعُ قَبَضَاتٍ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، اعْتِبَارًا بِالْمَاءِ الْجَارِي. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَطْهُرَ، لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ لِلْآثَارِ، وَمَسَائِلُ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْآثَارِ. وَالْمُفْتَى بِهِ الْقَوْلُ بِالْعَشْرِ وَلَوْ حُكْمًا لِيَعُمَّ مَا لَهُ طُولٌ بِلَا عَرْضٍ فِي الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدْرِ الْكَثِيرِ رَأْيُ الْمُبْتَلَى بِهِ، بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ثُبُوتِ تَقْدِيرٍ شَرْعًا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْكَثِيرَ مَا زَادَ قَدْرُهُ عَنْ آنِيَةِ الْغُسْلِ، وَكَذَا مَا زَادَ عَنْ قَدْرِ آنِيَةِ الْوُضُوءِ، عَلَى الرَّاجِحِ. وَيَتَّفِقُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ مَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، لِحَدِيثِ «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ». وَإِنْ نَقَصَ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ بِرِطْلٍ أَوْ رِطْلَيْنِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْقُلَّتَيْنِ.

7- إِذَا اخْتَلَطَ بِمَاءِ الْبِئْرِ طَاهِرٌ، مَائِعًا كَانَ أَوْ جَامِدًا، وَكَانَتْ الْبِئْرُ مِمَّا يُعْتَبَرُ مَاؤُهَا قَلِيلًا، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَاءِ الْقَلِيلِ الْمُخْتَلِطِ بِطَاهِرٍ، وَيُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ إِلَى تَفْصِيلَاتِ الْمَذَاهِبِ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه).

انْغِمَاسُ الْآدَمِيِّ فِي مَاءِ الْبِئْرِ:

8- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْآدَمِيَّ إِذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ طَاهِرًا مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، وَكَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا، فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يُعْتَبَرُ مُسْتَعْمَلًا، وَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ طَهُورِيَّتِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهُ عِشْرُونَ دَلْوًا.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَأَنَّ مَوْتَ الْآدَمِيِّ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ إِلاَّ إِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِ الْمَاءِ تَغَيُّرًا فَاحِشًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ». وَلِأَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، كَالشَّهِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْلِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْآدَمِيَّةِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ نَزْحَ كُلِّ مَاءِ الْبِئْرِ بِمَوْتِ الْآدَمِيِّ فِيهِ، إِذْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ بِمَوْتِ سِنَّوْرَيْنِ أَوْ كَلْبٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ آدَمِيٍّ. وَمَوْتُ الْكَلْبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ انْغَمَسَ وَأُخْرِجَ حَيًّا يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ.

9- وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُنَجِّسَ الْكَافِرُ الْمَاءَ بِانْغِمَاسِهِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ.

وَإِذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ مَنْ بِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ، بِأَنْ كَانَ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى بِالِانْغِمَاسِ رَفْعَ الْحَدَثِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَصْدِ التَّبَرُّدِ أَوْ إِحْضَارِ الدَّلْوِ.

فَإِنْ كَانَ الْبِئْرُ مَعِينًا- أَيْ مَاؤُهُ جَارٍ- فَإِنَّ انْغِمَاسَ الْجُنُبِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ لَا يُنَجِّسُهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ. وَهُوَ اتِّجَاهُ مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ لِغَلَبَةِ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ، أَوْ لِأَنَّ الِانْغِمَاسَ لَا يُصَيِّرُهُ مُسْتَعْمَلًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ.

10- وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ انْغِمَاسِ الْجُنُبِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي الْبِئْرِ، وَإِنْ كَانَ مَعِينًا، لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ». وَهُوَ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ. وَإِلَى هَذَا يَتَّجِهُ مَنْ يَرَى مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَاءَ بِالِانْغِمَاسِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجِسٌ يُنْزَحُ كُلُّهُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ دَلْوًا لَوْ كَانَ مُحْدِثًا، وَيُنْزَحُ جَمِيعُهُ لَوْ كَانَ جُنُبًا أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ بَدَنَ الْكَافِرِ لَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ، إِلاَّ إِذَا تَثَبَّتْنَا مِنْ طَهَارَتِهِ وَقْتَ انْغِمَاسِهِ.

11- وَإِذَا كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ قَلِيلًا وَانْغَمَسَ فِيهِ بِغَيْرِ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، فَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُجَاوِرَ فَقَطْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْمَاءُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ. وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ تَرْمِزُ لَهَا كُتُبُهُمْ «مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ جحط» وَيَرْمِزُونَ بِالْجِيمِ إِلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ الْبَعْضِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ، وَالرَّجُلُ نَجِسٌ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، أَوْ لِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَيَرْمِزُونَ بِالْحَاءِ لِرَأْيِ أَبِي يُوسُفَ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ عَلَى حَالِهِ مِنَ الْحَدَثِ، لِعَدَمِ الصَّبِّ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُ، وَالْمَاءُ عَلَى حَالِهِ لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، وَعَدَمِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ. وَيَرْمِزُونَ بِالطَّاءِ لِرَأْيِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ طَاهِرٌ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الصَّبِّ، وَكَذَا الْمَاءُ، لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ.

12- أَمَّا إِذَا انْغَمَسَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، كَانَ الْمَاءُ كُلُّهُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لَكِنْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَبْقَى الْمَاءُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَلَا يُرْفَعُ الْحَدَثُ. وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ تَدَلَّكَ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ التَّدَلُّكَ فِعْلٌ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ. 13- أَمَّا إِذَا انْغَمَسَ إِنْسَانٌ فِي مَاءِ الْبِئْرِ وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، أَوْ أُلْقِيَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، فَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، عَلَى مَا سَبَقَ.

غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فِي أَشْهَرِ رِوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ، إِلاَّ بِبَوْلِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ عَذِرَتِهِمُ الْمَائِعَةِ. وَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ». وَكَذَلِكَ إِذَا مَا سَقَطَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، وَفِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ بِالتَّغَيُّرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ.

14- وَقَدْ فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا بِمَا لَمْ يُفَصِّلْهُ غَيْرُهُمْ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ بِخُرْءِ الْحَمَامِ وَالْعُصْفُورِ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ اسْتِحْسَانًا، بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ اقْتِنَاءِ الْحَمَامِ فِي الْمَسَاجِدِ، حَتَّى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِهَا. وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عَدَمِ نَجَاسَتِهِ. وَخُرْءُ الْعُصْفُورِ كَخُرْءِ الْحَمَامَةِ، فَمَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ ذَاكَ. وَكَذَلِكَ خُرْءُ جَمِيعِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ عَلَى الْأَرْجَحِ.

الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ

أَثَرُ وُقُوعِ حَيَوَانٍ فِي الْبِئْرِ

15- الْأَصْلُ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ بِتَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِهِ كَمَا سَبَقَ. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، إِذَا مَا وَقَعَ فِي مَاءِ الْبِئْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَتِهِ، كَالنَّحْلِ، لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَقَعَتْ فِيهِ دَابَّةٌ لَيْسَ لَهَا دَمٌ فَمَاتَتْ فَهُوَ حَلَالٌ». وَمِمَّا قِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ أَنَّ الْمُنَجِّسَ لَهُ الدِّمَاءُ السَّائِلَةُ، فَمَا لَا دَمَ لَهُ سَائِلًا لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ مَا مَاتَ فِيهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ. وَكَذَا مَا كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ أَنَّ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ مَخْرَجِهِ نَجَاسَةً، وَخَرَجَ حَيًّا، مَا دَامَ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي تَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِ الْمَاءِ، عَدَا مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ. وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ السُّؤْرُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِلْ فَمُهُ إِلَى الْمَاءِ لَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ وَصَلَ وَكَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا فَإِنَّهُ طَاهِرٌ. يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَقَالَ الْبَعْضُ: الْمُعْتَبَرُ السُّؤْرُ. وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَكُلُّ حَيَوَانٍ حُكْمُ جِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَلُعَابِهِ حُكْمُ سُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ. وَيُنْظَرُ حُكْمُ السُّؤْرِ فِي مُصْطَلَحِ «سُؤْر».

16- وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ يَتَّجِهُونَ إِلَى عَدَمِ التَّوَسُّعِ فِي الْحُكْمِ بِالتَّنَجُّسِ بِوُقُوعِ الْحَيَوَانِ ذِي النَّفْسِ السَّائِلَةِ (الدَّمِ السَّائِلِ) عُمُومًا، وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُ اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ.

فَالْمَالِكِيَّةُ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الرَّاكِدَ، أَوِ الَّذِي لَهُ مَادَّةٌ، أَوْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا، إِذَا مَاتَ فِيهِ حَيَوَانٌ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ، أَوْ حَيَوَانٌ بَحْرِيٌّ، لَا يَنْجُسُ، وَإِنْ كَانَ يُنْدَبُ نَزْحُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ، لِاحْتِمَالِ نُزُولِ فَضَلَاتٍ مِنَ الْمَيِّتِ، وَلِأَنَّهُ تَعَافُهُ النَّفْسُ. وَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأُخْرِجَ حَيًّا، أَوْ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ مَاتَ بِالْخَارِجِ، فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ وَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ لَا يُطْلَبُ بِسَبَبِهِ النَّزْحُ. وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْخِلَافَ فِيهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا. وَمَوْتُ الدَّابَّةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فِيهَا. وَلِأَنَّ سُقُوطَ الدَّابَّةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي الْمَاءِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ سُقُوطِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ، وَذَاتُهَا صَارَتْ نَجِسَةً بِالْمَوْتِ. فَلَوْ طُلِبَ النَّزْحُ فِي سُقُوطِهَا مَيِّتَةً لَطُلِبَ فِي سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ فِي الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ النَّزْحُ بِحَسَبِ كِبَرِ الدَّابَّةِ وَصِغَرِهَا، وَكَثْرَةِ مَاءِ الْبِئْرِ وَقِلَّتِهِ.

وَعَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغَ: أَنَّ الْآبَارَ الصِّغَارَ مِثْلَ آبَارِ الدُّورِ، تَفْسُدُ بِمَا وَقَعَ فِيهَا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فِيهَا، مِنْ شَاةٍ أَوْ دَجَاجَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَلَا تَفْسُدُ بِمَا وَقَعَ فِيهَا مَيِّتًا حَتَّى تَتَغَيَّرَ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِيهَا مَيِّتًا فَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا مَاتَ فِيهِ، وَقِيلَ: لَا تَفْسُدُ حَتَّى تَتَغَيَّرَ. وَقَالُوا: إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا بِتَفَسُّخِ الْحَيَوَانِ فِيهِ تَنَجَّسَ.

17- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا طَاهِرًا، وَتَفَتَّتَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا بِحَيْثُ لَا يَخْلُو دَلْوٌ مِنْ شَعْرَةٍ، فَهُوَ طَهُورٌ كَمَا كَانَ إِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشَّعْرَ نَجِسٌ يُنْزَحُ الْمَاءُ كُلُّهُ لِيَذْهَبَ الشَّعْرُ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ الْيَسِيرَ عُرْفًا مِنَ الشَّعْرِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مَا عَدَا شَعْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.

وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ قَلِيلًا فَإِنَّهُ يَتَنَجَّسُ وَلَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمَاجِشُونَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْآبَارِ الصِّغَارِ إِذَا مَاتَ فِيهَا حَيَوَانٌ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ.

18- وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ أَوِ الْهِرَّةُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ حَيَّةً، فَهُوَ طَاهِرٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ. وَإِصَابَةُ الْمَاءِ لِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَكُلُّ حَيَوَانٍ حُكْمُ جِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَلُعَابِهِ حُكْمُ سُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ. وَيُفْهَمُ مِنْ قَيْدِ «ثُمَّ خَرَجَتْ حَيَّةً» أَنَّهَا لَوْ مَاتَتْ فِيهِ يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ تَقْيِيدِ الْمَاءِ «بِالْيَسِيرِ» أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ وَصْفُهُ.

19- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ أَكْثَرُوا مِنَ التَّفْصِيلَاتِ، فَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْفَأْرَةَ إِذَا وَقَعَتْ هَارِبَةً مِنَ الْقِطِّ يُنْزَحُ كُلُّ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَجْرُوحَةً أَوْ مُتَنَجِّسَةً. وَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْبِئْرُ مَعِينًا، أَوِ الْمَاءُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ، لَكِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا، نُزِحَ قَدْرُ مَا كَانَ فِيهَا.

20- وَإِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ غَيْرَ مَعِينٍ، وَلَا عَشْرًا فِي عَشْرٍ، نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، إِلَى ثَلَاثِينَ نَدْبًا، بِمَوْتِ فَأْرَةٍ أَوْ عُصْفُورٍ أَوْ سَامٍّ أَبْرَصَ. وَلَوْ وَقَعَ أَكْثَرُ مِنْ فَأْرَةٍ إِلَى الْأَرْبَعِ فَكَالْوَاحِدَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ خَمْسًا إِلَى التِّسْعِ كَالدَّجَاجَةِ، وَعَشْرًا كَالشَّاةِ، وَلَوْ فَأْرَتَيْنِ كَهَيْئَةِ الدَّجَاجَةِ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَإِذَا مَاتَ فِيهَا حَمَامَةٌ أَوْ دَجَاجَةٌ أَوْ سِنَّوْرٌ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ وُجُوبًا إِلَى سِتِّينَ اسْتِحْبَابًا. وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى خَمْسِينَ.

وَيُنْزَحُ كُلُّهُ لِسِنَّوْرَيْنِ وَشَاةٍ، أَوِ انْتِفَاخِ الْحَيَوَانِ الدَّمَوِيِّ، أَوْ تَفَسُّخِهِ وَلَوْ صَغِيرًا. وَبِانْغِمَاسِ كَلْبٍ حَتَّى لَوْ خَرَجَ حَيًّا. وَكَذَا كُلُّ مَا سُؤْرُهُ نَجِسٌ أَوْ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَقَالُوا فِي الشَّاةِ: إِنْ خَرَجَتْ حَيَّةً فَإِنْ كَانَتْ هَارِبَةً مِنَ السَّبُعِ نُزِحَ كُلُّهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ بَيْنَ أَفْخَاذِهَا فَلَا تَخْلُو مِنَ الْبَوْلِ. وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ نَزْحَ عِشْرِينَ دَلْوًا، لِأَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً، وَقَدِ ازْدَادَ خِفَّةً بِسَبَبِ الْبِئْرِ فَيَكْفِي نَزْحُ أَدْنَى مَا يُنْزَحُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ، لِاسْتِوَاءِ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ فِي حُكْمِ تَنَجُّسِ الْمَاءِ.

الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ

تَطْهِيرُ الْآبَارِ وَحُكْمُ تَغْوِيرِهَا

21- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ التَّكْثِيرَ طَرِيقُ تَطْهِيرِهِ عِنْدَ تَنَجُّسِهَا إِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ. وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ وَيَصِلَ حَدَّ الْكَثْرَةِ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ هَذَا الْحَدَّ.

وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ طُرُقًا أُخْرَى، إِذْ يَقُولُونَ: إِذَا تَغَيَّرَ مَاءُ الْبِئْرِ بِتَفَسُّخِ الْحَيَوَانِ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا يَطْهُرُ بِالنَّزْحِ أَوْ بِزَوَالِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ. بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا زَالَتِ النَّجَاسَةُ مِنْ نَفْسِهَا طَهُرَ. وَقَالُوا فِي بِئْرِ الدَّارِ الْمُنْتِنَةِ: طَهُورُ مَائِهَا بِنَزْحِ مَا يُذْهِبُ نَتْنَهُ.

22- وَيَقْصُرُ الشَّافِعِيَّةُ التَّطْهِيرَ عَلَى التَّكْثِيرِ فَقَطْ إِذَا كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا (دُونَ الْقُلَّتَيْنِ) إِمَّا بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ عَلَيْهِ لِيَكْثُرَ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ النَّزْحَ لِيَنْبُعَ الْمَاءُ الطَّهُورُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ نُزِحَ فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى نَجِسًا كَمَا تَتَنَجَّسُ جُدْرَانُ الْبِئْرِ بِالنَّزْحِ. وَقَالُوا فِيمَا إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ شَيْءٌ نَجِسٌ، كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا، فَإِنَّ الْمَاءَ يُنْزَحُ لَا لِتَطْهِيرِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا بِقَصْدِ التَّخَلُّصِ مِنَ الشَّعْرِ.

23- وَيُفَصِّلُ الْحَنَابِلَةُ فِي التَّطْهِيرِ بِالتَّكْثِيرِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُتَنَجِّسُ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا لَا يَشُقُّ نَزْحُهُ، وَيَخُصُّونَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ تَنَجَّسَ الْمَاءُ بِغَيْرِ بَوْلِ الْآدَمِيِّ أَوْ عَذِرَتِهِ. وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِإِضَافَةِ مَاءٍ طَهُورٍ كَثِيرٍ، حَتَّى يَعُودَ الْكُلُّ طَهُورًا بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ تَنَجُّسُ الْمَاءِ بِبَوْلِ الْآدَمِيِّ أَوْ عَذِرَتِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَزْحُ مَائِهَا، فَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِزَوَالِ تَغَيُّرِهِ، سَوَاءٌ بِنَزْحِ مَا لَا يَشُقُّ نَزْحُهُ، أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ إِلَيْهِ، أَوْ بِطُولِ الْمُكْثِ. عَلَى أَنَّ النَّزْحَ إِذَا زَالَ بِهِ التَّغَيُّرُ وَكَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ كَثِيرًا (قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ) يُعْتَبَرُ مُطَهِّرًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

24- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَقْصُرُونَ التَّطْهِيرَ عَلَى النَّزْحِ فَقَطْ، لِكُلِّ مَاءِ الْبِئْرِ، أَوْ عَدَدٍ مُحَدَّدٍ مِنَ الدِّلَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَإِذَا كَانَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اعْتَبَرُوا النَّزْحَ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ عِنْدَهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُحَدِّدُوا مِقْدَارًا مِنَ الدِّلَاءِ وَإِنَّمَا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ لِتَقْدِيرِ النَّازِحِ. وَمِنْ أَجْلِ هَذَا نَجِدُ الْحَنَفِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ فَصَّلُوا الْكَلَامَ فِي النَّزْحِ، وَهُمُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا عَلَى آلَةِ النَّزْحِ، وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَجْمُهَا.

25- فَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ نُزِحَتْ، وَكَانَ نَزْحُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ طَهَارَةً لَهَا. لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبِئْرِ أَنَّهُ وُجِدَ فِيهَا قِيَاسَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ أَصْلًا، لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ، لِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْأَوْحَالِ وَالْجُدْرَانِ.

الثَّانِي: لَا تَنْجَسُ، إِذْ يَسْقُطُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ أَوِ التَّطْهِيرِ. وَقَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ، وَضَرْبٍ مِنَ الْفِقْهِ الْخَفِيِّ وَقَالُوا: إِنَّ مَسَائِلَ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْآثَارِ. أَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «يُنْزَحُ مِنْهَا ثَلَاثُونَ دَلْوًا».

وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يُنْزَحُ عِشْرُونَ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلَاثُونَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي دَجَاجَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا أَمَرَا بِنَزْحِ مَاءِ زَمْزَمَ حِينَ مَاتَ فِيهَا زِنْجِيٌّ. وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ.

وَأَمَّا الْفِقْهُ الْخَفِيُّ فَهُوَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَمًا سَائِلًا وَقَدْ تَشَرَّبَ فِي أَجْزَائِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَجَّسَهَا. وَقَدْ جَاوَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَاءَ، وَهُوَ يَنْجُسُ أَوْ يَفْسُدُ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ، حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ذَنَبُ فَأْرَةٍ، يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ بِلَّةٍ، فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهَا.

26- وَقَالُوا: لَوْ نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ، وَبَقِيَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ، وَإِنْ انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ، وَنُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، طَهُرَ. وَأَمَّا إِذَا انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ، وَلَمْ يُنَحَّ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ فِيهِ، لَا يَطْهُرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَطْهُرُ.

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجِسَ انْفَصَلَ مِنَ الطَّاهِرِ، فَإِنَّ الدَّلْوَ الْأَخِيرَ تَعَيَّنَ لِلنَّجَاسَةِ شَرْعًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا نُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ يَبْقَى الْمَاءُ طَاهِرًا، وَمَا يَتَقَاطَرُ فِيهَا مِنَ الدَّلْوِ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ.

وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ إِلاَّ بَعْدَ انْفِصَالِ النَّجِسِ عَنْهَا، وَهُوَ مَاءُ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْفِصَالُ إِلاَّ بَعْدَ تَنْحِيَةِ الدَّلْوِ عَنْ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ مَاءَهُ مُتَّصِلٌ بِمَاءِ الْبِئْرِ. وَاعْتِبَارُ نَجَاسَةِ الْقَطَرَاتِ لَا يَجُوزُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يُعْطَى لِهَذَا الدَّلْوِ حُكْمُ الِانْفِصَالِ بَعْدَ انْعِدَامِ التَّقَاطُرِ، بِالتَّنْحِيَةِ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ.

27- وَإِذَا وَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ يَنْبَغِي أَنْ تُسَدَّ جَمِيعُ مَنَابِعِ الْمَاءِ إِنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ يُنْزَحَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَدُّ مَنَابِعِهِ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَةُ دَلْوٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَتَا دَلْوٍ، أَوْ ثَلَاثُمِائَةِ دَلْوٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَةٍ: يُحْفَرُ بِجَانِبِهَا حُفْرَةٌ مِقْدَارُ عَرْضِ الْمَاءِ وَطُولِهِ وَعُمْقِهِ، ثُمَّ يُنْزَحُ مَاؤُهَا وَيُصَبُّ فِي الْحُفْرَةِ حَتَّى تَمْتَلِئَ، فَإِذَا امْتَلأَتْ حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يُرْسَلُ فِيهَا قَصَبَةٌ، وَيُجْعَلُ لِمَبْلَغِ الْمَاءِ عَلَامَةٌ، ثُمَّ يُنْزَحُ مِنْهَا عَشْرُ دِلَاءٍ مَثَلًا، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ انْتَقَصَ، فَيُنْزَحُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إِلاَّ إِذَا كَانَ دَوْرُ الْبِئْرِ مِنْ أَوَّلِ حَدِّ الْمَاءِ إِلَى مَقَرِّ الْبِئْرِ مُتَسَاوِيًا، وَإِلاَّ لَا يَلْزَمُ إِذَا نَقَصَ شِبْرٌ بِنَزْحِ عَشْرِ دِلَاءٍ مِنْ أَعْلَى الْمَاءِ أَنْ يَنْقُصَ شِبْرٌ بِنَزْحِ مِثْلِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ.

وَالْأَوْفَقُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ أَنَّهُ يُؤْتَى بِرَجُلَيْنِ لَهُمَا بَصَرٌ فِي أَمْرِ الْمَاءِ فَيُنْزَحُ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ يُرْجَعُ فِيهِ لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ.

28- وَالْمَالِكِيَّةُ كَمَا بَيَّنَّا يَرَوْنَ أَنَّ النَّزْحَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ التَّطْهِيرِ. وَلَمْ يُحَدِّدُوا قَدْرًا لِلنَّزْحِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُتْرَكُ مِقْدَارُ النَّزْحِ لِظَنِّ النَّازِحِ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي لِلتَّطْهِيرِ أَنْ تُرْفَعَ الدِّلَاءُ نَاقِصَةً؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْحَيَوَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ مَوَادُّ دُهْنِيَّةٌ، وَشَأْنُ الدُّهْنِ أَنْ يَطْفُوَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَإِذَا امْتَلأَ الدَّلْوُ خُشِيَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْبِئْرِ.

وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: لَا يَجِبُ غَسْلُ جَوَانِبِ بِئْرٍ نُزِحَتْ، ضَيِّقَةً كَانَتْ أَوْ وَاسِعَةً، وَلَا غَسْلُ أَرْضِهَا، بِخِلَافِ رَأْسِهَا. وَقِيلَ: يَجِبُ غَسْلُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْبِئْرِ الْوَاسِعَةِ. أَمَّا الضَّيِّقَةُ فَيَجِبُ غَسْلُهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَا يَرَوْنَ التَّطْهِيرَ بِمُجَرَّدِ النَّزْحِ.

آلَةُ النَّزْحِ:

29- مَنْهَجُ الْحَنَفِيَّةِ- الْقَائِلُ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الدِّلَاءِ لِلتَّطْهِيرِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ- يَتَطَلَّبُ بَيَانَ حَجْمِ الدَّلْوِ الَّذِي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ. فَقَالَ الْبَعْضُ: الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ دَلْوٌ يَسَعُ قَدْرَ صَاعٍ. وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَلَوْ نُزِحَ بِدَلْوٍ عَظِيمٍ مَرَّةً مِقْدَارُ عِشْرِينَ دَلْوًا جَازَ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بِتَوَاتُرِ الدَّلْوِ يَصِيرُ كَالْمَاءِ الْجَارِي.

وَبِطَهَارَةِ الْبِئْرِ يَطْهُرُ الدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ وَالْبَكَرَةُ وَنَوَاحِي الْبِئْرِ وَيَدُ الْمُسْتَقِي. رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ نَجَاسَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَجَاسَةِ الْبِئْرِ، فَتَكُونُ طَهَارَتُهَا بِطَهَارَتِهَا، نَفْيًا لِلْحَرَجِ. وَقِيلَ: لَا تَطْهُرُ الدَّلْوُ فِي حَقِّ بِئْرٍ أُخْرَى، كَدَمِ الشَّهِيدِ طَاهِرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ.

30- وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى- عَلَى مَا نَعْلَمُ- لِمِقْدَارِ آلَةِ النَّزْحِ. وَكُلُّ مَا قَالُوهُ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ قَلِيلًا، وَتَنَجَّسَ، فَإِنَّ الدَّلْوَ إِذَا مَا غُرِفَ بِهِ مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ الْقَلِيلِ تَنَجَّسَ مِنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ مِقْدَارَ قُلَّتَيْنِ فَقَطْ، وَفِيهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ، وَغُرِفَ بِالدَّلْوِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ، وَلَمْ تُغْرَفْ الْعَيْنُ النَّجِسَةُ فِي الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ، فَبَاطِنُ الدَّلْوِ طَاهِرٌ، وَظَاهِرُهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ غَرْفِ الدَّلْوِ يَكُونُ الْمَاءُ الْبَاقِي فِي الْبِئْرِ وَالَّذِي احْتَكَّ بِهِ ظَاهِرُ الدَّلْوِ قَلِيلًا نَجِسًا. وَاسْتَظْهَرَ الْبُهُوتِيُّ مِنْ قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ بِعَدَمِ غَسْلِ جَوَانِبِ الْبِئْرِ لِلْمَشَقَّةِ وَوُجُوبِ غَسْلِ رَأْسِهَا لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ، وُجُوبَ غَسْلِ آلَةِ النَّضْحِ إِلْحَاقًا لَهَا بِرَأْسِ الْبِئْرِ فِي عَدَمِ مَشَقَّةِ الْغَسْلِ. وَقَالَ: إِنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ: الْمَنْزُوحُ طَهُورٌ، أَنَّ الْآلَةَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا ذَلِكَ لِلْحَرَجِ.

تَغْوِيرُ الْآبَارِ:

31- كُتُبُ الْمَذَاهِبِ تَذْكُرُ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إِلَى تَخْرِيبٍ وَإِتْلَافِ بَعْضِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَتَغْوِيرِ الْآبَارِ لِقَطْعِ الْمَاءِ عَنْهُمْ جَازَ ذَلِكَ.

بِدَلِيلِ «فِعْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


4-موسوعة الفقه الكويتية (آنية)

آنِيَة

أَوَّلًا: التَّعْرِيفُ:

1- الْآنِيَةُ جَمْعُ إِنَاءٍ، وَالْإِنَاءُ الْوِعَاءُ، وَهُوَ كُلُّ ظَرْفٍ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْعِبَ غَيْرَهُ. وَجَمْعُ الْآنِيَةِ أَوَانٍ. وَيُقَارِبُهُ الظَّرْفُ، وَالْمَاعُونُ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ.

ثَانِيًا: أَحْكَامُ الْآنِيَةِ مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُهَا:

أ- بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهَا (مَادَّتِهَا):

2- الْآنِيَةُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهَا أَنْوَاعٌ: آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ- الْآنِيَةُ الْمُفَضَّضَةُ- الْآنِيَةُ الْمُمَوَّهَةُ- الْآنِيَةُ النَّفِيسَةُ لِمَادَّتِهَا أَوْ صَنْعَتِهَا- آنِيَةُ الْجِلْدِ- آنِيَةُ الْعَظْمِ- آنِيَةٌ مِنْ غَيْرِ مَا سَبَقَ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

3- هَذَا النَّوْعُ مَحْظُورٌ لِذَاتِهِ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ». وَنَهَى- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ، فَقَالَ: «مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ». وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِيهَا مَا يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ مِنَ الْفَخْرِ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ.

وَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ مَوْجُودَةٌ فِي الطَّهَارَةِ مِنْهَا وَاسْتِعْمَالِهَا كَيْفَمَا كَانَ.

وَإِذَا حَرُمَ الِاسْتِعْمَالُ فِي غَيْرِ الْعِبَادَةِ فَفِيهَا أَوْلَى، وَفِي الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا.

فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْهَا أَوِ اغْتَسَلَ، صَحَّتْ طَهَارَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الطَّهَارَةِ وَمَاءَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَالطَّهَارَةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْمُحَرَّمَ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. وَالتَّحْرِيمُ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الْآنِيَةُ الْمُفَضَّضَةُ وَالْمُضَبَّبَةُ بِالْفِضَّةِ:

4- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِ الْآنِيَةِ الْمُفَضَّضَةِ وَالْمُضَبَّبَةِ بِالْفِضَّةِ: فَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْآنِيَةِ الْمُفَضَّضَةِ وَالْمُضَبَّبَةِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفِضَّةِ.

وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِعْمَالُ إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ قَلِيلَةً.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُفَضَّضَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا الْمَنْعُ، وَالْأُخْرَى الْجَوَازُ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمُ الْجَوَازَ.

وَأَمَّا الْآنِيَةُ الْمُضَبَّبَةُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ شَدُّهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمُضَبَّبِ بِالذَّهَبِ، كَثُرَتِ الضَّبَّةُ أَوْ قَلَّتْ، لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُضَبَّبَ بِالذَّهَبِ كَالْمُضَبَّبِ بِالْفِضَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَلِغَيْرِ زِينَةٍ، جَازَتْ، وَإِنْ كَانَتْ لِلزِّينَةِ حَرُمَتْ وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً. وَالْمَرْجِعُ فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ الْعُرْفُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُضَبَّبَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، ذَهَبًا كَانَ أَوْ فِضَّةً، لِحَاجَةٍ وَلِغَيْرِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُبَاحُ الْيَسِيرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مِنَ الذَّهَبِ إِلاَّ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ. وَأَمَّا الْفِضَّةُ فَيُبَاحُ مِنْهَا الْيَسِيرُ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُبَاحُ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يُبَاحُ الْيَسِيرُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ.

وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمْ مُبَاشَرَةُ مَوْضِعِ الْفِضَّةِ بِالِاسْتِعْمَالِ، كَيْ لَا يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا لَهَا.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الْإِنَاءِ الْمُضَبَّبِ وَالْمُفَضَّضِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ مُحَمَّدٍ. وَحُجَّةُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ

وَافَقَهُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَابِعٌ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّوَابِعِ، كَالْجُبَّةِ الْمَكْفُوفَةِ بِالْحَرِيرِ، وَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ، وَمِسْمَارِ الذَّهَبِ فِي الْفَصِّ.

وَحُجَّةُ مَنْ جَوَّزَ قَلِيلَ الْفِضَّةِ لِلْحَاجَةِ «أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ» وَأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ سَرَفٌ وَلَا خُيَلَاءُ، فَأَشْبَهَ الضَّبَّةَ مِنَ الصُّفْرِ (النُّحَاسِ).

وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي ضَبَّةِ الْفِضَّةِ مِنَ السَّلَفِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَغَيْرُهُمْ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْآنِيَةُ الْمُمَوَّهَةُ وَالْمُغَشَّاةُ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ:

5- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ الْآنِيَةَ الْمُمَوَّهَةَ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ جَائِزٌ اسْتِعْمَالُهَا، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ التَّمْوِيهُ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهُ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: «وَأَمَّا الْأَوَانِي الْمُمَوَّهَةُ بِمَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، الَّذِي لَا يَخْلُصُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ». وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهُ فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَضَّضِ وَالْمُضَبَّبِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ الِاسْتِعْمَالُ إِذَا كَانَ التَّمْوِيهُ يَسِيرًا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُمَوَّهَ وَالْمَطْلِيَّ وَالْمُطَعَّمَ وَالْمُكَفَّتَ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ.

أَمَّا آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا غُشِيَتْ بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِيهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ. وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيَّةُ إِذَا كَانَ سَاتِرًا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِفُقْدَانِ عِلَّةِ الْخُيَلَاءِ.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْآنِيَةُ النَّفِيسَةُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

6- الْآنِيَةُ النَّفِيسَةُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، نَفَاسَتُهَا إِمَّا لِذَاتِهَا (أَيْ مَادَّتِهَا) وَإِمَّا لِصَنْعَتِهَا:

أ- النَّفِيسَةُ لِذَاتِهَا:

7- الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْأَوَانِي النَّفِيسَةِ، كَالْعَقِيقِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفَاسَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَمْثَالِهَا حُرْمَةُ اسْتِعْمَالِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ فَيَبْقَى عَلَيْهِ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ التَّحْرِيمِ بِالْأَثْمَانِ (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)، الَّتِي هِيَ وَاقِعَةٌ فِي مَظِنَّةِ الْكَثْرَةِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْأَوَانِي النَّفِيسَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

ب- الْآنِيَةُ النَّفِيسَةُ لِصَنْعَتِهَا:

8- النَّفِيسُ بِسَبَبِ الصَّنْعَةِ، كَالزُّجَاجِ الْمَخْرُوطِ وَغَيْرِهِ لَا يَحْرُمُ بِلَا خِلَافٍ.

وَذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمَجْمُوعِ، وَلَكِنْ نَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ صَاحِبَ الْبَيَانِ فِي زَوَائِدِهِ حَكَى الْخِلَافَ أَيْضًا فِيمَا كَانَتْ نَفَاسَتُهُ بِسَبَبِ الصَّنْعَةِ، وَقَالَ: إِنَّ الْجَوَازَ هُوَ الصَّحِيحُ.

النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْجِلْدِ:

9- قَالَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ: إِنَّ جِلْدَ كُلِّ مَيْتَةٍ نَجِسٌ قَبْلَ الدَّبْغِ، وَأَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ نَجِسٌ أَيْضًا. وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ اللُّغَوِيَّةِ (أَيْ النَّظَافَةِ) لَا الشَّرْعِيَّةِ. وَمُؤَدَّى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى بِهِ أَوْ عَلَيْهِ.

وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ أَنَّهُ يَطْهُرُ الْجِلْدُ بِالدِّبَاغَةِ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ، فَيُصَلَّى بِهِ وَعَلَيْهِ.

وَيُرْوَى الْقَوْلُ بِالنَّجَاسَةِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم-.

وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَطْهُرُ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ جِلْدُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ.

وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَغَيْرِهِمْ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا ذُبِحَ حَيَوَانٌ يُؤْكَلُ لَمْ يَنْجُسْ بِالذَّبْحِ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ. وَإِنْ ذُبِحَ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ نَجُسَ بِذَبْحِهِ، كَمَا يَنْجُسُ بِمَوْتِهِ، فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ. وَكُلُّ حَيَوَانٍ نَجُسَ بِالْمَوْتِ طَهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ، عَدَا الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَلِأَنَّ الدِّبَاغَ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ عَلَى الْجِلْدِ، وَيُصْلِحُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، كَالْحَيَاةِ. ثُمَّ الْحَيَاةُ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ الْجِلْدِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ. أَمَّا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُمَا بِالدِّبَاغِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ، عَدَا الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا، يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ الْحَقِيقِيَّةِ كَالْقَرَظِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ وَالشَّبِّ، كَمَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ الْحُكْمِيَّةِ، كَالتَّتْرِيبِ وَالتَّشْمِيسِ وَالْإِلْقَاءِ فِي الْهَوَاءِ. فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَعَلَيْهِ، وَالْوُضُوءُ مِنْهُ.

وَعَدَمُ طَهَارَةِ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ بِالدِّبَاغَةِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، وَجِلْدِ الْآدَمِيِّ لِحُرْمَتِهِ، صَوْنًا لِكَرَامَتِهِ، وَإِنْ حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ.

النَّوْعُ السَّادِسُ: الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْعَظْمِ:

10- الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ عَظْمِ حَيَوَانٍ مَأْكُولِ اللَّحْمِ مُذَكًّى يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهَا إِجْمَاعًا. وَأَمَّا الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، فَإِنْ كَانَ مُذَكًّى فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، لِقَوْلِهِمْ بِطَهَارَةِ الْقَرْنِ وَالظُّفُرِ وَالْعَظْمِ، مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ» وَهُوَ عَظْمُ الْفِيلِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا لَمَا امْتَشَطَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْآنِيَةِ مِنْ عَظْمِ الْفِيلِ. وَهُوَ أَحَدُ رَأْيَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَأْيُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ. وَحُجَّةُ أَصْحَابِ هَذَا الرَّأْيِ أَنَّ الْعَظْمَ وَالسِّنَّ وَالْقَرْنَ وَالظِّلْفَ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ، لَا يُحِسُّ وَلَا يَأْلَمُ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا». وَذَلِكَ حَصْرٌ لِمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَيْتَةِ فَيَبْقَى مَا عَدَاهَا عَلَى الْحِلِّ.

وَالرَّأْيُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

11- وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَظْمُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مُذَكًّى (سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولِهِ) فَالْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي طَهَارَتِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَسَمٌ، فَلَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِإِزَالَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْعَظْمُ هُنَا نَجِسٌ، وَلَا يَطْهُرُ بِحَالٍ.

هَذَا وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ اسْتِعْمَالِ عَظْمِ الْخِنْزِيرِ، لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، وَعَظْمِ الْآدَمِيِّ- وَلَوْ كَافِرًا- لِكَرَامَتِهِ.

12- وَأَلْحَقَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْفِيلَ بِالْخِنْزِيرِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ عِنْدَهُ. وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ الْكَلْبَ بِالْخِنْزِيرِ. وَكَرِهَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِظَامَ الْفِيَلَةِ. وَرَخَّصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ وَابْنُ جَرِيرٍ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اشْتَرَى لِفَاطِمَةَ قِلَادَةً مِنْ عَصْبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ». وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالنَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} وَالْعَظْمُ مِنْ جُمْلَتِهَا، فَيَكُونُ مُحَرَّمًا، وَالْفِيلُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَهُوَ نَجِسٌ ذُكِّيَ أَوْ لَمْ يُذَكَّ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ اسْتِعْمَالَ عَظْمِ الْفِيلِ مَكْرُوهٌ. وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَفِي قَوْلٍ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ: إِنَّ الْفِيلَ إِنْ ذُكِّيَ فَعَظْمُهُ طَاهِرٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ نَجِسٌ.

النَّوْعُ السَّابِعُ: الْأَوَانِي مِنْ غَيْرِ مَا سَبَقَ:

13- الْأَوَانِي مِنْ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُبَاحٌ اسْتِعْمَالُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ ثَمِينَةً كَبَعْضِ أَنْوَاعِ الْخَشَبِ وَالْخَزَفِ، وَكَالْيَاقُوتِ وَالْعَقِيقِ وَالصُّفْرِ، أَمْ غَيْرَ ثَمِينَةٍ كَالْأَوَانِي الْعَادِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْآنِيَةِ لَهَا حُكْمٌ خَاصٌّ مِنْ حَيْثُ الِانْتِبَاذُ فِيهَا، فَقَدْ نَهَى الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام- أَوَّلًا عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ إِلاَّ فِي ظُرُوفِ الْأُدْمِ، فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَلاَّ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا».

وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْآنِيَةِ عَلَى أَنْ يُحْذَرَ مِنْ تَخَمُّرِ مَا فِيهَا نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا بِطَبِيعَتِهَا يُسْرِعُ التَّخَمُّرُ إِلَى مَا يُنْبَذُ فِيهَا.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ الِانْتِبَاذَ فِي الْآنِيَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَنَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ لَمْ يُنْسَخْ عِنْدَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم-، وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.

ب- آنِيَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:

14- آنِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلاَّ إِذَا تُيُقِّنَ عَدَمُ طَهَارَتِهَا. فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ «سُؤْرَ الْآدَمِيِّ وَمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ اللُّعَابُ، وَقَدْ تَوَلَّدَ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ فَيَكُونُ طَاهِرًا. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالْكَافِرُ.» وَمَا دَامَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا فَاسْتِعْمَالُ آنِيَتِهِ جَائِزٌ مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ» وَكَانُوا مُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانَ عَيْنُ الْمُشْرِكِ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّجَسُ فِي الِاعْتِقَادِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَهْلُ الْكِتَابِ وَآنِيَتُهُمْ. وَذَلِكَ لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ «دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَالْتَزَمْتُهُ وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا. فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَبْتَسِمُ». وَرَوَى أَنَسٌ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَضَافَهُ يَهُودِيٌّ بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ».

وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.

وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْفُرُوقِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَسْتَنْجُونَ وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنَ النَّجَاسَاتِ، مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا، مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةَ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلاَّ أَنْ يُتَيَقَّنَ طَهَارَتُهَا، فَلَا كَرَاهَةَ، وَسَوَاءٌ الْمُتَدَيِّنُ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ وَغَيْرُهُ. وَدَلِيلُهُمْ مَا رَوَى «أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ كِتَابٍ، أَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلاَّ إِنْ لَمْ تَجِدُوا عَنْهَا بُدًّا، فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ، ثُمَّ كُلُوا فِيهَا». وَأَقَلُّ أَحْوَالِ النَّهْيِ الْكَرَاهَةُ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَةَ، فَكُرِهَ لِذَلِكَ. عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ أَوَانِيَهُمُ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي الْمَاءِ أَخَفُّ كَرَاهَةً. 15- آنِيَةُ الْمُشْرِكِينَ:

يُسْتَفَادُ مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا أَنَّ أَوَانِيَ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَأَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.

وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ أَنَّ مَا اسْتَعْمَلَهُ الْكُفَّارُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْأَوَانِي لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِأَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ. وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ، فَتَكُونُ نَجِسَةً.

ثَالِثًا: حُكْمُ اقْتِنَاءِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

16- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ مُخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ اقْتِنَاءِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ اقْتِنَاءُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِجَوَازِ بَيْعِهَا، وَلِاعْتِبَارِ شَقِّهَا بَعْدَ بَيْعِهَا عَيْبًا.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، حُرْمَةُ اتِّخَاذِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ مُطْلَقًا حَرُمَ اتِّخَاذُهُ عَلَى هَيْئَةِ الِاسْتِعْمَالِ.

رَابِعًا: حُكْمُ إِتْلَافِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

17- مَنْ يَرَى جَوَازَ اقْتِنَاءِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَرَى أَنَّ إِتْلَافَهَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْجَوَازِ فَإِنَّ إِتْلَافَهَا لَا يُوجِبُ ضَمَانَ الصَّنْعَةِ إِنْ كَانَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الْقِيمَةِ. وَالْكُلُّ مُجْمِعٌ عَلَى ضَمَانِ مَا يُتْلِفُهُ مِنَ الْعَيْنِ.

خَامِسًا: زَكَاةُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

18- آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا بَلَغَ كُلٌّ مِنْهُمَا النِّصَابَ وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْطِنُهُ أَبْوَابُ الزَّكَاةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


5-موسوعة الفقه الكويتية (استحاضة 2)

اسْتِحَاضَةٌ -2

اسْتِحَاضَةُ الْمُتَحَيِّرَةِ:

21- الْمُتَحَيِّرَةُ: هِيَ الَّتِي نَسِيَتْ عَادَتَهَا بَعْدَ اسْتِمْرَارِ الدَّمِ وَتُوصَفُ بِالْمُحَيِّرَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهَا تُحَيِّرُ الْمُفْتِيَ، وَبِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِأَنَّهَا حُيِّرَتْ بِسَبَبِ نِسْيَانِهَا وَتُدْعَى أَيْضًا الْمُضِلَّةَ؛ لِأَنَّهَا أَضَلَّتْ عَادَتَهَا.

وَمَسَائِلُ الْمُحَيِّرَةِ مِنْ أَصْعَبِ مَسَائِلِ الْحَيْضِ وَأَدَقِّهَا، وَلَهَا صُوَرٌ كَثِيرَةٌ وَفُرُوعٌ دَقِيقَةٌ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ حِفْظُ عَادَتِهَا فِي الزَّمَانِ وَالْعَدَدِ.

وَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُبْنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ تَشْدِيدٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلَيْسَ الْقَصْدُ التَّشْدِيدَ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْتَكِبْ مَحْظُورًا.

وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْمُتَحَيِّرَةِ فِي مُصْطَلَحِهَا.

مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ مِنَ الدَّمِ أَثْنَاءَ حَمْلِهَا:

22- إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ الدَّمَ حَالَ الْحَبَلِ وَقَبْلَ الْمَخَاضِ، فَلَيْسَ بِحَيْضٍ وَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا بَالِغًا نِصَابَ الْحَيْضِ، بَلْ هُوَ اسْتِحَاضَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَكَذَلِكَ مَا تَرَاهُ حَالَةَ الْمَخَاضِ وَقَبْلَ خُرُوجِ أَكْثَرِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الدَّمَ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِلُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ دَمُ نِفَاسٍ وَإِنْ كَانَ لَا يُعَدُّ مِنْ مُدَّةِ النِّفَاسِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ: بِقَوْلِ عَائِشَةَ الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ حَيْضٌ فِي حَقِّ تَرْكِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ الْقُرْبَانِ، لَا فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ، وَاحْتَجَّ بِمَا يُرْوَى عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِذَا أَقْبَلَ قُرْؤُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ.وَلِأَنَّ الْحَامِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إِلاَّ أَنَّ حَيْضَهَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ فَرَاغُ الرَّحِمِ، وَحَيْضُهَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا رَأَتْ دَمًا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي يُعْتَبَرُ حَيْضًا، وَتُعَامَلُ كَأَنَّهَا حَامِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَسْتَبِينُ- عَادَةً- فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَأَمَّا إِذَا رَأَتْ دَمًا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ أَوِ الرَّابِعِ أَوِ الْخَامِسِ وَاسْتَمَرَّ كَانَ أَثَرُ حَيْضِهَا عِشْرِينَ يَوْمًا، وَمَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ.

وَإِنَّمَا فَرَّقُوا فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ بَيْنَ الْحَامِلِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يَحْبِسُ الدَّمَ، فَإِذَا خَرَجَ كَانَ زَائِدًا، وَرُبَّمَا اسْتَمَرَّ لِطُولِ الْمُكْثِ.وَأَمَّا إِنْ رَأَتْهُ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ أَوِ الثَّامِنِ أَوِ التَّاسِعِ وَاسْتَمَرَّ نَازِلًا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ فِي حَقِّهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا.وَأَمَّا إِنْ رَأَتْهُ فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ فَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ مَا إِذَا حَاضَتْ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ شُيُوخُ إِفْرِيقِيَّةَ فَرَأَوْا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَبَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ يُعْتَبَرُ اسْتِحَاضَةً.

مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الدَّمِ بَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ (إِنْ كَانَتْ حَامِلًا بِتَوْأَمَيْنِ):

23- التَّوْأَمُ: اسْمُ وَلَدٍ إِذَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، فَالتَّوْأَمَانِ هُمَا الْوَلَدَانِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ تَوْأَمٌ، وَلِلْأُنْثَى تَوْأَمَةٌ.

فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالدَّمُ الَّذِي تَرَاهُ النُّفَسَاءُ بَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ دَمٌ صَحِيحٌ، أَيْ نِفَاسٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ دَمٌ فَاسِدٌ أَيِ اسْتِحَاضَةٌ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا وَلَدَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ، فَالنِّفَاسُ مِنَ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْوَلَدِ الثَّانِي، وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَلَدِ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ.

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: أَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ مَا فِي الْبَطْنِ، كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْوَلَدِ الْأَخِيرِ، وَهَذَا لِأَنَّهَا لَا تَزَالُ حُبْلَى، وَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الْحَمْلِ بِدُونِ وَضْعِ الْحَمْلِ، لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ النِّفَاسِ مِنَ الْحُبْلَى؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ، فَكَانَ الْمَوْجُودُ قَبْلَ وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي نِفَاسًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنْهَا بِالشَّكِّ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: أَنَّ النِّفَاسَ إِنْ كَانَ دَمًا يَخْرُجُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ فَقَدْ وُجِدَ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَبَقَاءُ الْوَلَدِ الثَّانِي فِي الْبَطْنِ لَا يُنَافِي النِّفَاسَ.

وَيَتَّفِقُ الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مَعَ الشَّيْخَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ أَوَّلَ النِّفَاسِ مِنَ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ.وَتَبْدَأُ لِلثَّانِي بِنِفَاسٍ جَدِيدٍ.

24- وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الدَّمُ الَّذِي بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ نِفَاسٌ، وَقِيلَ حَيْضٌ، وَالْقَوْلَانِ فِي الْمُدَوَّنَةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ كَاَلَّتِي رُوِيَتْ عَنِ الْحَنَابِلَةِ.

أَحْكَامُ الْمُسْتَحَاضَةِ:

25- دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ حُكْمُهُ كَالرُّعَافِ الدَّائِمِ، أَوْ كَسَلَسِ الْبَوْلِ، حَيْثُ تُطَالَبُ الْمُسْتَحَاضَةُ بِأَحْكَامٍ خَاصَّةٍ تَخْتَلِفُ عَنْ أَحْكَامِ الْأَصِحَّاءِ، وَعَنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَهِيَ:

أ- يَجِبُ رَدُّ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، أَوْ تَخْفِيفُهُ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِرِبَاطٍ أَوْ حَشْوٍ أَوْ بِالْقِيَامِ أَوْ بِالْقُعُودِ، كَمَا إِذَا سَالَ أَثْنَاءَ السُّجُودِ وَلَمْ يَسِلْ بِدُونِهِ، فَتُومِئُ مِنْ قِيَامٍ أَوْ مِنْ قُعُودٍ، وَكَذَا لَوْ سَالَ الدَّمُ عِنْدَ الْقِيَامِ صَلَّتْ مِنْ قُعُودٍ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السُّجُودِ أَوِ الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ أَهْوَنُ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ.

وَهَكَذَا إِذَا كَانَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ تَسْتَطِيعُ مَنْعَ سَيَلَانِ الدَّمِ بِالِاحْتِشَاءِ فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ، فَإِذَا نَفَذَتِ الْبِلَّةُ أَوْ أَخْرَجَتِ الْحَشْوَةَ الْمُبْتَلَّةَ انْتَقَضَ وُضُوءُهَا.

فَإِذَا رَدَّتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الدَّمَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ نَحْوِهَا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ صَاحِبَةَ عُذْرٍ.

وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُسْتَحَاضَةَ صَاحِبَةَ عُذْرٍ كَمَنْ بِهِ سَلَسٌ، فَإِذَا فَارَقَهَا الدَّمُ أَكْثَرَ زَمَنِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ تُعَدَّ صَاحِبَةَ عُذْرٍ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا إِذَا رَأَتِ الدَّمَ عِنْدَ الْوُضُوءِ فَإِذَا قَامَتْ ذَهَبَ عَنْهَا، قَالَ مَالِكٌ: تَشُدُّ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ الشَّدِّ أَوِ الِاحْتِشَاءِ أَمْرَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ تَتَضَرَّرَ الْمُسْتَحَاضَةُ مِنَ الشَّدِّ أَوِ الِاحْتِشَاءِ.

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صَائِمَةً فَتَتْرُكُ الِاحْتِشَاءَ نَهَارًا لِئَلاَّ يَفْسُدَ صَوْمُهَا.

وَإِذَا قَامَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ بِالشَّدِّ أَوِ الِاحْتِشَاءِ ثُمَّ خَرَجَ الدَّمُ رَغْمَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْتَدَّ، أَوْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَاسْتَمَرَّ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلٍ، فَلَا يَمْنَعُ خُرُوجُ الدَّمِ أَوْ وُجُودُهُ مِنْ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي»،، وَفِي رِوَايَةٍ: «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ»،، وَفِي رِوَايَةٍ: «تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ».

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ وَلِغَيْرِهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ:

الْأَوَّلُ: شَرْطُ الثُّبُوتِ: حَيْثُ لَا يَصِيرُ مَنِ اُبْتُلِيَ بِالْعُذْرِ مَعْذُورًا، وَلَا تَسْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَعْذُورِينَ، حَتَّى يَسْتَوْعِبَهُ الْعُذْرُ وَقْتًا كَامِلًا لِصَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ وَلَوْ حُكْمًا، وَلَيْسَ فِيهِ انْقِطَاعٌ- فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْوَقْتِ- زَمَنًا بِقَدْرِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

الثَّانِيَ: شَرْطُ الدَّوَامِ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الْعُذْرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ آخَرَ، سِوَى الْوَقْتِ الْأَوَّلِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْعُذْرُ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً.

الثَّالِثَ: شَرْطُ الِانْقِطَاعِ، وَبِهِ يَخْرُجُ صَاحِبُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَعْذُورًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ الِانْقِطَاعُ وَقْتًا كَامِلًا فَيَثْبُتُ لَهُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ مِنْ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ.

مَا تَمْتَنِعُ عَنْهُ الْمُسْتَحَاضَةُ:

26- قَالَ الْبِرْكَوِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: الِاسْتِحَاضَةُ حَدَثٌ أَصْغَرُ كَالرُّعَافِ.فَلَا تَسْقُطُ بِهَا الصَّلَاةُ وَلَا تَمْنَعُ صِحَّتَهَا أَيْ عَلَى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا تُحَرِّمُ الصَّوْمَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَلَا تَمْنَعُ الْجِمَاعَ- لِحَدِيثِ حَمْنَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً وَكَانَ زَوْجُهَا يَأْتِيهَا- وَلَا قِرَاءَةَ قُرْآنٍ، وَلَا مَسَّ مُصْحَفٍ، وَلَا دُخُولَ مَسْجِدٍ، وَلَا طَوَافًا إِذَا أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ.وَحُكْمُ الِاسْتِحَاضَةِ كَالرُّعَافِ الدَّائِمِ، فَتُطَالَبُ الْمُسْتَحَاضَةُ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.

وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، قَالُوا: لَا تَمْتَنِعُ الْمُسْتَحَاضَةُ عَنْ شَيْءٍ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ فِي وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْوَطْءِ، فَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْهُ بِالْمَنْعِ كَالْحَيْضِ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ كَمَا فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: هِيَ طَاهِرٌ حَقِيقَةً.

وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ، فَإِنَّ لَهَا أَحْكَامًا خَاصَّةً تُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ (مُتَحَيِّرَة).

طَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:

27- يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ الِاحْتِيَاطُ فِي طَهَارَتَيِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، فَتَغْسِلُ عَنْهَا الدَّمَ، وَتَحْتَشِي بِقُطْنَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ دَفْعًا لِلنَّجَاسَةِ أَوْ تَقْلِيلًا لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعِ الدَّمُ بِذَلِكَ وَحْدَهُ تَحَفَّظَتْ بِالشَّدِّ وَالتَّعْصِيبِ.وَهَذَا الْفِعْلُ يُسَمَّى اسْتِثْفَارًا وَتَلَجُّمًا، وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ التَّعْصِيبَ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا الْحَشْوُ وَالشَّدُّ وَاجِبٌ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَتَأَذَّى بِالشَّدِّ.وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صَائِمَةً فَتَتْرُكَ الْحَشْوَ نَهَارًا وَتَقْتَصِرَ عَلَى الشَّدِّ وَالتَّلَجُّمِ

فَإِذَا اسْتَوْثَقَتْ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ خَرَجَ دَمُهَا بِلَا تَفْرِيطٍ لَمْ تَبْطُلْ طَهَارَتُهَا وَلَا صَلَاتُهَا

28- وَأَمَّا إِذَا خَرَجَ الدَّمُ لِتَقْصِيرِهَا فِي التَّحَفُّظِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ طُهْرُهَا.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ رَدُّ عُذْرِهِ، أَوْ تَقْلِيلُهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ.وَبِرَدِّهِ لَا يَبْقَى ذَا عُذْرٍ.أَمَّا إِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرَّبْطِ أَوْ مَنْعِ النَّشِّ فَهُوَ مَعْذُورٌ.

وَأَمَّا غَسْلُ الْمَحَلِّ وَتَجْدِيدُ الْعِصَابَةِ وَالْحَشْوِ لِكُلِّ فَرْضٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُنْظَرُ إِنْ زَالَتِ الْعِصَابَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا زَوَالًا لَهُ تَأْثِيرٌ، أَوْ ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى جَوَانِبِهَا، وَجَبَ التَّجْدِيدُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَثُرَتْ وَأَمْكَنَ تَقْلِيلُهَا وَالِاحْتِرَازُ عَنْهَا.فَإِنْ لَمْ تَزُلِ الْعِصَابَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا وَلَا ظَهَرَ الدَّمُ، فَوَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَصَحُّهُمَا: وُجُوبُ التَّجْدِيدِ كَمَا يَجِبُ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ، وَالثَّانِي: إِذْ لَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَعَ اسْتِمْرَارِهَا، بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِتَجْدِيدِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ مَعَ اسْتِمْرَارِهِ فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ فِي التَّيَمُّمِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَلْزَمُهَا إِعَادَةُ الْغُسْلِ وَالْعَصْبِ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِنْ لَمْ تُفَرِّطْ، قَالُوا: لِأَنَّ الْحَدَثَ مَعَ قُوَّتِهِ وَغَلَبَتِهِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ «اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ب- حُكْمُ مَا يَسِيلُ مِنْ دَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى الثَّوْبِ:

إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنَ الدَّمِ مِقْدَارُ مُقَعَّرِ الْكَفِّ فَأَكْثَرَ وَجَبَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَسْلُهُ، إِذَا كَانَ الْغَسْلُ مُفِيدًا، بِأَنْ كَانَ لَا يُصِيبُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، حَتَّى لَوْ لَمْ تَغْسِلْ وَصَلَّتْ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَجِبُ مَا دَامَ الْعُذْرُ قَائِمًا.أَيْ إِنْ كَانَ لَوْ غَسَلَتِ الثَّوْبَ تَنَجَّسَ ثَانِيًا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، جَازَ أَلاَّ تَغْسِلَ؛ لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهَا التَّطْهِيرَ مَشَقَّةً وَحَرَجًا.

وَإِنْ كَانَ لَوْ غَسَلَتْهُ لَا يَتَنَجَّسُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ بَقَائِهِ، إِلاَّ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا تَحَفَّظَتْ لَمْ يَضُرَّ خُرُوجُ الدَّمِ، وَلَوْ لَوَّثَ مَلْبُوسَهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ خَاصَّةً.

وَلَا يَضُرُّ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِقَوْلِهِمْ: إِنْ غَلَبَ الدَّمُ وَقَطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ طَهَارَتُهَا.

مَتَى يَلْزَمُ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ:

29- نَقَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا:

الْأَوَّلُ: تَغْتَسِلُ عِنْدَمَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا.وَلَيْسَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ الْوُضُوءُ وَيُجْزِيهَا ذَلِكَ.وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.«لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَدَعِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي، وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.وَلِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ».

الثَّانِيَ: أَنَّهَا تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ.رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ «أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوا: إِنَّ ذِكْرَ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا.وَمِنْ هُنَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ.وَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ لِلِاسْتِحْبَابِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَغْتَسِلُ لِكُلِّ يَوْمٍ غُسْلًا وَاحِدًا، رُوِيَ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.

الرَّابِعُ: تَجْمَعُ بَيْنَ كُلِّ صَلَاتَيْ جَمْعٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَتَغْتَسِلُ لِلصُّبْحِ.

وُضُوءُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَعِبَادَتُهَا:

30- قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَتَوَضَّأُ الْمُسْتَحَاضَةُ لِكُلِّ فَرْضٍ وَتُصَلِّي مَا شَاءَتْ مِنَ النَّوَافِلِ، لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ السَّابِقِ؛ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ طَهَارَتِهَا ضَرُورَةٌ لِأَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ، فَلَا تَبْقَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا.

وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ: تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.فَمَالِكٌ عَمِلَ بِمُطْلَقِ اسْمِ الصَّلَاةِ، وَالشَّافِعِيُّ قَيَّدَهُ بِالْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرْضِ، وَالنَّوَافِلُ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ الْفَرَائِضِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهَا، فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِأَجْزَائِهَا، وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ وَاقِعَةٌ لَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، بِخِلَافِ فَرْضٍ آخَرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ، بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: تَتَوَضَّأُ الْمُسْتَحَاضَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ، وَتُصَلِّي بِهِ فِي الْوَقْتِ مَا شَاءَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنُّذُورِ وَالنَّوَافِلِ وَالْوَاجِبَاتِ، كَالْوِتْرِ وَالْعِيدِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «وَتَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ».

وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْمُسْتَحَاضَةِ بِتَجَدُّدِ الْعُذْرِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ فِي حَالِ سَيَلَانِ الدَّمِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَلَوْ تَوَضَّأَتْ مَعَ الِانْقِطَاعِ ثُمَّ سَالَ الدَّمُ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ.

وَلَوْ تَوَضَّأَتْ مِنْ حَدَثٍ آخَرَ- غَيْرِ الْعُذْرِ- فِي فَتْرَةِ انْقِطَاعِ الْعُذْرِ، ثُمَّ سَالَ الدَّمُ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ أَيْضًا.

وَكَذَا لَوْ تَوَضَّأَتْ مِنْ عُذْرِ الدَّمِ، ثُمَّ أَحْدَثَتْ حَدَثًا آخَرَ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ.

بَيَانُ ذَلِكَ: لَوْ كَانَ مَعَهَا سَيَلَانٌ دَائِمٌ مَثَلًا، وَتَوَضَّأَتْ لَهُ، ثُمَّ أَحْدَثَتْ بِخُرُوجِ بَوْلٍ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ.

31- ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، هَلْ تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ؟ أَمْ عِنْدَ دُخُولِهِ؟ أَمْ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَعْذُورِ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَقْتِ فَإِذَا خَرَجَ ظَهَرَ الْحَدَثُ.

وَقَالَ زُفَرُ: عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِحَدِيثِ «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ».

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا، أَيْ لِلِاحْتِيَاطِ.وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجَدَ الْخُرُوجُ بِلَا دُخُولٍ، كَمَا إِذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَإِنَّ طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَأَحْمَدَ لَا تُنْتَقَضُ لِعَدَمِ دُخُولِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الظُّهْرِ لَيْسَ بِوَقْتِ صَلَاةٍ، بَلْ هُوَ وَقْتٌ مُهْمَلٌ.

وَالثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ الدُّخُولُ بِلَا خُرُوجٍ، كَمَا إِذَا تَوَضَّأَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَإِنَّ طَهَارَتَهَا لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَأَحْمَدَ تُنْتَقَضُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ.

فَلَوْ تَوَضَّأَتْ لِصَلَاةِ الضُّحَى أَوْ لِصَلَاةِ الْعِيدِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ، عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَأَحْمَدَ، بَلْ تُنْتَقَضُ الطَّهَارَةُ لِدُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَتَجُوزُ لِعَدَمِ خُرُوجِ الْوَقْتِ.

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُنْتَقَضُ وُضُوءُهَا بِمُجَرَّدِ أَدَاءِ أَيِّ فَرْضٍ، وَلَوْ لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ أَوْ يَدْخُلْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهِيَ طَاهِرٌ حَقِيقَةً عَلَى مَا سَبَقَ.

بُرْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَشِفَاؤُهَا:

32- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمُسْتَحَاضَةِ انْقِطَاعًا مُحَقَّقًا حَصَلَ مَعَهُ بُرْؤُهَا وَشِفَاؤُهَا مِنْ عِلَّتِهَا، وَزَالَتِ اسْتِحَاضَتُهَا، نُظِرَ:

إِنْ حَصَلَ هَذَا خَارِجَ الصَّلَاةِ:

أ- فَإِنْ كَانَ بَعْدَ صَلَاتِهَا، فَقَدْ مَضَتْ صَلَاتُهَا صَحِيحَةً، وَبَطَلَتْ طَهَارَتُهَا فَلَا تَسْتَبِيحُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ نَافِلَةً.

ب- وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا، وَلَمْ تَسْتَبِحْ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَلَا غَيْرَهَا.

أَمَّا إِذَا حَصَلَ الِانْقِطَاعُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُ طَهَارَتِهَا وَصَلَاتِهَا.

وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ كَالتَّيَمُّمِ.

وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ.

وَإِذَا تَطَهَّرَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ وَصَلَّتْ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا.

وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهَا مَعْذُورَةً لِوُجُودِ الْعُذْرِ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ لَحْظَةً كَمَا سَبَقَ.وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا طَاهِرٌ حَقِيقَةً.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ.قَالُوا: إِنْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعٍ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِلْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ تَعَيَّنَ فِعْلُهُمَا فِيهِ.وَإِنْ عَرَضَ هَذَا الِانْقِطَاعُ لِمَنْ عَادَتُهَا الِاتِّصَالُ بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا، وَلَزِمَ اسْتِئْنَافُهَا.فَإِنْ وُجِدَ الِانْقِطَاعُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزِ الشُّرُوعُ فِيهَا.وَإِنْ عَرَضَ الِانْقِطَاعُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَبْطَلَهَا مَعَ الْوُضُوءِ.وَمُجَرَّدُ الِانْقِطَاعِ يُوجِبُ الِانْصِرَافَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعٍ يَسِيرٍ.وَلَوْ تَوَضَّأَتْ ثُمَّ بَرِئَتْ بَطَلَ وُضُوءُهَا إِنْ وُجِدَ مِنْهَا دَمٌ بَعْدَ الْوُضُوءِ.

عِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:

33- سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِهَا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


6-موسوعة الفقه الكويتية (استحالة)

اسْتِحَالَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِحَالَةِ لُغَةً: تَغَيُّرُ الشَّيْءِ عَنْ طَبْعِهِ وَوَصْفِهِ، أَوْ عَدَمِ الْإِمْكَانِ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ لِلَفْظِ (اسْتِحَالَةٍ) عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ اللُّغَوِيَّيْنِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوْطِنُ الْبَحْثِ:

يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالَاتِ الْفِقْهِيَّةِ أَوِ الْأُصُولِيَّةِ:

2- الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ الْأَوَّلُ: بِمَعْنَى تَحَوُّلِ الشَّيْءِ وَتَغَيُّرِهِ عَنْ وَصْفِهِ.وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِحَالَةُ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ.وَبِمَ تَكُونُ الِاسْتِحَالَةُ؟

الْأَعْيَانُ النَّجِسَةُ، كَالْعَذِرَةِ، وَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، قَدْ تَتَحَوَّلُ عَنْ أَعْيَانِهَا وَتَتَغَيَّرُ أَوْصَافُهَا، وَذَلِكَ بِالِاحْتِرَاقِ أَوْ بِالتَّخْلِيلِ، أَوْ بِالْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ طَاهِرٍ، كَالْخِنْزِيرِ يَقَعُ فِي الْمِلَاحَةِ، فَيَصِيرُ مِلْحًا.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِاسْتِحَالَتِهَا بِنَفْسِهَا خَلًّا، وَيَخْتَلِفُونَ فِي طَهَارَتِهَا بِالتَّخْلِيلِ.

أَمَّا النَّجَاسَاتُ الْأُخْرَى الَّتِي تَتَحَوَّلُ عَنْ أَصْلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهَا.

وَيُفَصِّلُ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي مَبْحَثِ الْأَنْجَاسِ، وَكَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهَا، فَمَنْ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهَا يَقُولُ: إِنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَالَ الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.

وَيُرَتِّبُونَ عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا كَثِيرَةً، تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَحَوُّل).

3- الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ الثَّانِي: بِمَعْنَى عَدَمِ إِمْكَانِ الْوُقُوعِ.وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِحَالَةُ وُقُوعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتِحَالَةُ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَنَحْوُهُ.

فَمِنَ الشَّرَائِطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: أَلاَّ يَكُونَ مُسْتَحِيلَ التَّحَقُّقِ عَقْلًا أَوْ عَادَةً، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مُتَصَوِّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً أَوْ عَادَةً، وَيَضْرِبُونَ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً، كَمَنْ يَحْلِفُ: لأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ، وَلَا مَاءَ فِيهِ، وَهَذَا فِي الْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً.وَكَحَلِفِهِ لَيَصْعَدَنَّ إِلَى السَّمَاءِ، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً.

وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْحِنْثِ وَعَدَمِهِ، وَالْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهَا، وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي يَمِينِ الْبِرِّ أَوِ الْحِنْثِ؟ وَهَلِ الْحُكْمُ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ مُؤَقَّتَةً أَوْ مُطْلَقَةً؟ وَيُفَصِّلُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ، وَمَسَائِلِ الطَّلَاقِ، وَمَسَائِلِ الْعِتْقِ.

الِاسْتِعْمَالُ الْأُصُولِيُّ:

4- يَسْتَعْمِلُ الْأُصُولِيُّونَ لَفْظَ اسْتِحَالَةٍ بِمَعْنَى: عَدَمِ إِمْكَانِ الْوُقُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُ التَّكْلِيفِ بِالْمُسْتَحِيلِ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْتَنِعِ، وَقَسَّمُوهُ إِلَى: مُمْتَنِعٍ لِذَاتِهِ، وَمُمْتَنِعٍ لِغَيْرِهِ.فَالْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ.اخْتَارَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ.

وَالْمُسْتَحِيلُ لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَتِ اسْتِحَالَتُهُ عَادَةً، كَالتَّكْلِيفِ بِحَمْلِ الْجَبَلِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ عَقْلًا، وَعَدَمِ وُقُوعِهِ شَرْعًا.وَإِنْ كَانَتِ اسْتِحَالَتُهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ بِهِ، كَإِيمَانِ أَبِي جَهْلٍ، فَالْكُلُّ مُجْمِعٌ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا، وَوُقُوعِهِ شَرْعًا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (الأشربة 2)

الْأَشْرِبَةُ -2

طُرُقُ إِثْبَاتِ السُّكْرِ:

25- إِنَّ إِثْبَاتَ الشُّرْبِ الْمُوجِبِ لِعُقُوبَةِ الْحَدِّ لِأَجْلِ إِقَامَتِهِ عَلَى الشَّارِبِ بِوَاسِطَةِ الشَّهَادَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ أَوِ الْقَيْءِ وَنَحْوِهَا تَفْصِيلُهُ فِي حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِثْبَاتٌ).

حُرْمَةُ تَمَلُّكِ وَتَمْلِيكِ الْخَمْرِ:

26- يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ تَمَلُّكُ أَوْ تَمْلِيكُ الْخَمْرِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ الِاخْتِيَارِيَّةِ أَوِ الْإِرَادِيَّةِ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا».وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ» أَمَّا إِذَا كَانَ التَّمَلُّكُ لِلْخَمْرِ بِسَبَبٍ جَبْرِيٍّ كَالْإِرْثِ، فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ وَتُورَثُ، كَمَا إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لِذِمِّيٍّ فَأَسْلَمَ، أَوْ تَخَمَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِ عَصِيرُ الْعِنَبِ قَبْلَ تَخَلُّلِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَالْخَمْرُ فِي حَوْزَتِهِ، فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ مِلْكِيَّتُهَا إِلَى وَارِثِهِ بِسَبَبٍ غَيْرِ إِرَادِيٍّ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّمَلُّكِ وَالتَّمْلِيكِ الِاخْتِيَارِيِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.وَيَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَمْرَ هَلْ هِيَ مَالٌ أَوْ لَا؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، لَكِنْ يَجُوزُ إِتْلَافُهَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَتُضْمَنُ إِذَا أُتْلِفَتْ لِذِمِّيٍّ.فِي حِينِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ- وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ إِتْلَافُهَا، لِمُسْلِمٍ كَانَتْ أَوْ ذِمِّيٍّ.أَمَّا غَيْرُ الْخَمْرِ مِنَ الْمُسْكِرِ الْمَائِعِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِتْلَافُهُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحَيْ (بَيْعٌ) (وَإِتْلَافٌ).

ضَمَانُ إِتْلَافِ الْخَمْرِ أَوْ غَصْبِهَا:

27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إِنْ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ فَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمَانِ مَنْ أَتْلَفَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْقَوْلِ بِالضَّمَانِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الضَّمَانِ، لِانْتِفَاءِ تَقَوُّمِهَا كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا تُرَاقُ الْخَمْرَةُ الْمَغْصُوبَةُ مِنْ مُسْلِمٍ إِذَا كَانَتْ مُحْتَرَمَةً- وَهِيَ الَّتِي عُصِرَتْ لَا بِقَصْدِ الْخَمْرِيَّةِ، وَإِنَّمَا بِقَصْدِ التَّخْلِيلِ- وَتُرَدُّ إِلَى الْمُسْلِمِ، لِأَنَّ لَهُ إِمْسَاكَهَا لِتَصِيرَ خَلًّا.وَالضَّمَانُ هُنَا إِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لَا بِالْمِثْلِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِهِ وَتَمَلُّكِهِ إِيَّاهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْزَازِهَا.وَإِذَا وَجَبَ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْمِثْلِ.وَيُنْظَرُ أَيْضًا مُصْطَلَحُ (إِتْلَافٌ) (وَضَمَانٌ).

حُكْمُ الِانْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ:

28- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ لِلْمُدَاوَاةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَوْجُهِ الِانْتِفَاعِ، كَاسْتِخْدَامِهَا فِي دُهْنٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ بَلْ طِينٍ.وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ «أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٌ- رضي الله عنه- سَأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ- أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا- فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ».وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُحَدُّ مَنْ شَرِبَهَا لِدَوَاءٍ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ حَرَامٌ فِي الْأَصَحِّ إِذَا كَانَتْ صَرْفًا غَيْرَ مَمْزُوجَةٍ بِشَيْءٍ آخَرَ تُسْتَهْلَكُ فِيهِ، وَيَجِبُ الْحَدُّ.أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ آخَرَ تُسْتَهْلَكُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ عِنْدَ فَقْدِ مَا يَقُومُ بِهِ التَّدَاوِي مِنَ الطَّاهِرَاتِ، وَحِينَئِذٍ تَجْرِي فِيهِ قَاعِدَةُ الضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ.وَإِذًا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِذَلِكَ لِتَعْجِيلِ شِفَاءٍ، بِشَرْطِ إِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ بِذَلِكَ، أَوْ مَعْرِفَتِهِ لِلتَّدَاوِي بِهِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمُسْتَعْمَلُ قَلِيلًا لَا يُسْكِرُ.وَذَهَبَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ إِلَى الْجَزْمِ بِحُرْمَتِهَا فَقَالَ: الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي.

حُكْمُ سَقْيِهَا لِغَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ:

29- يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَسْقِيَ الْخَمْرَ الصَّبِيَّ، أَوِ الْمَجْنُونَ، فَإِنْ أَسْقَاهُمْ فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الشَّارِبِ، وَلَا حَدَّ عَلَى الشَّارِبِ، لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ.وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ» وَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَآكِلَ ثَمَنِهَا» (4).وَيَحْرُمُ أَيْضًا عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُسْقِيَ الْخَمْرَ لِلدَّوَابِّ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

الِاحْتِقَانُ أَوِ الِاسْتِعَاطُ بِالْخَمْرِ:

30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا الِاحْتِقَانُ بِالْخَمْرِ (بِأَخْذِهَا حُقْنَةً شَرَجِيَّةً) أَوْ جَعْلِهَا فِي سَعُوطٍ، لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْمُحَرَّمِ النَّجِسِ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْحَدَّ مُرْتَبِطٌ بِالشُّرْبِ، فَهُوَ سَبَبُ تَطْبِيقِ الْحَدِّ.وَيُلَاحَظُ- كَمَا سَبَقَ- أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ عُقُوبَةً أُخْرَى زَاجِرَةً بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الِاحْتِقَانَ بِهَا يُعْتَبَرُ حَرَامًا.وَخِلَافُهُمْ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي التَّسْمِيَةِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يُسَمُّونَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ تَرْكَهُ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ وَالْإِلْزَامِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا، وَالْجُمْهُورُ يُسَمُّونَهُ حَرَامًا.وَهُمْ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي حَالَةِ الِاحْتِقَانِ بِالْخَمْرِ، لِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ، وَلَا حَاجَةَ لِلزَّجْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَرْغَبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَادَةً.وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِي حَالَةِ الِاسْتِعَاطِ، لِأَنَّ الشَّخْصَ أَوْصَلَ الْخَمْرَ إِلَى بَاطِنِهِ مِنْ حَلْقِهِ.

حُكْمُ مُجَالَسَةِ شَارِبِي الْخَمْرِ:

31- يَحْرُمُ مُجَالَسَةُ شُرَّابِ الْخَمْرِ وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا، أَوِ الْأَكْلُ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ خَمْرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقْعُدْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ».

نَجَاسَةُ الْخَمْرِ:

32- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً مُغَلَّظَةً، كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا وَتَسْمِيَتِهَا رِجْسًا.كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: الشَّيْءُ الْقَذِرُ وَالنَّتِنُ.أَمَّا الْأَشْرِبَةُ الْأُخْرَى الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَالْحُكْمُ بِالْحُرْمَةِ يَسْتَتْبِعُ عِنْدَهُمُ الْحُكْمَ بِنَجَاسَتِهَا.وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ وَالصَّنْعَانِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ، إِلَى طَهَارَتِهَا، تَمَسُّكًا بِالْأَصْلِ، وَحَمَلُوا الرِّجْسَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْقَذَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ.أَمَّا الْبَهِيمَةُ إِذَا سُقِيَتْ خَمْرًا، فَهَلْ تَحِلُّ أَوْ تَحْرُمُ لِأَجْلِ الْخَمْرِ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ).

أَثَرُ تَخَلُّلِ الْخَمْرِ وَتَخْلِيلِهَا:

33- إِذَا تَخَلَّلَتِ الْخَمْرُ بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ قَصْدِ التَّخْلِيلِ يَحِلُّ ذَلِكَ الْخَلُّ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «نِعْمَ الْأُدْمُ الْخَلُّ».وَيُعْرَفُ التَّخَلُّلُ بِالتَّغَيُّرِ مِنَ الْمَرَارَةِ إِلَى الْحُمُوضَةِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهَا مَرَارَةٌ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ فِيهَا بَعْضُ الْمَرَارَةِ لَا يَحِلُّ شُرْبُهَا، لِأَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُ لَا تَصِيرُ خَلًّا إِلاَّ بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَلِيَّةِ فِيهِ.كَمَا لَا يَصِيرُ الْعَصِيرُ خَمْرًا إِلاَّ بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: تَصِيرُ الْخَمْرُ خَلًّا بِظُهُورِ قَلِيلٍ مِنَ الْحُمُوضَةِ فِيهَا، اكْتِفَاءً بِظُهُورِ الْخَلِّيَّةِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْعَصِيرَ يَصِيرُ خَمْرًا بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَمْرِيَّةِ، كَمَا أَشَرْنَا فِي بَيَانِ مَذْهَبِهِمَا.

تَخْلِيلُ الْخَمْرِ بِعِلَاجٍ:

34- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ لَا يَحِلُّ تَخْلِيلُ الْخَمْرِ بِالْعِلَاجِ كَالْخَلِّ وَالْبَصَلِ وَالْمِلْحِ، أَوْ إِيقَادُ نَارٍ عِنْدَهَا، وَلَا تَطْهُرُ حِينَئِذٍ، لِأَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِاجْتِنَابِهَا، فَيَكُونُ التَّخْلِيلُ اقْتِرَابًا مِنَ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَطْرُوحَ فِي الْخَمْرِ يَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاتِهَا فَيُنَجِّسُهَا بَعْدَ انْقِلَابِهَا خَلًّا، وَلِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِإِهْرَاقِ الْخَمْرِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ بِتَحْرِيمِهَا.وَعَنْ «أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، فَقَالَ: أَهْرِقْهَا، قَالَ: أَفَلَا أُخَلِّلُهَا؟ قَالَ: لَا» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا؟ فَقَالَ: لَا، فَسَارَّهُ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: بِمَ سَارَرْتَهُ؟ فَقَالَ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، فَفَتَحَ الرَّجُلُ الْمَزَادَتَيْنِ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِمَا».

فَقَدْ أَرَاقَ الرَّجُلُ مَا فِي الْمَزَادَتَيْنِ بِحَضْرَةِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَازَ تَخْلِيلُهَا لَمَا أَبَاحَ لَهُ إِرَاقَتَهَا، وَلَنَبَّهَهُ عَلَى تَخْلِيلِهَا.وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَلَوْ كَانَ إِلَى اسْتِصْلَاحِهَا سَبِيلٌ مَشْرُوعٌ لَمْ تَجُزْ إِرَاقَتُهَا، بَلْ أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ، سِيَّمَا وَهِيَ لِأَيْتَامٍ يَحْرُمُ التَّفْرِيطُ فِي أَمْوَالِهِمْ.وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ- كَمَا يَقُولُونَ- فَقَدْ رَوَى أَسْلَمُ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: لَا تَأْكُلْ خَلًّا مِنْ خَمْرٍ أُفْسِدَتْ، حَتَّى يَبْدَأَ اللَّهُ تَعَالَى إِفْسَادَهَا، وَذَلِكَ حِينَ طَابَ الْخَلُّ، وَلَا بَأْسَ عَلَى امْرِئٍ أَصَابَ خَلًّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَبْتَاعَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا إِفْسَادَهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ النَّهْيُ.وَهَذَا قَوْلٌ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ لِأَنَّهُ إِعْلَانٌ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ.وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ.وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَحِلُّ شُرْبُهَا، وَيَكُونُ التَّخْلِيلُ جَائِزًا أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِصْلَاحٌ، وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ، قِيَاسًا عَلَى دَبْغِ الْجِلْدِ، فَإِنَّ الدِّبَاغَ يُطَهِّرُهُ، لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَقَالَ عَنْ جِلْدِ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ: «إِنَّ دِبَاغَهَا يُحِلُّهُ كَمَا يُحِلُّ خَلٌّ الْخَمْرَ» فَأَجَازَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- التَّخْلِيلَ، كَمَا ثَبَتَ حِلُّ الْخَلِّ شَرْعًا، بِدَلِيلِ قَوْلِه- صلى الله عليه وسلم- أَيْضًا: «خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ» وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ أَيْضًا: «نِعْمَ الْأُدْمُ الْخَلُّ»، فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّخَلُّلِ بِنَفْسِهِ وَالتَّخْلِيلِ، فَالنَّصُّ مُطْلَقٌ.وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ يُزِيلُ الْوَصْفَ الْمُفْسِدَ، وَيَجْعَلُ فِي الْخَمْرِ صِفَةَ الصَّلَاحِ، وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ إِرَاقَةَ الْخَمْرِ.وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنْ مَالِكٍ- وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ- أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ.

تَخْلِيلُ الْخَمْرِ بِنَقْلِهَا، أَوْ بِخَلْطِهَا بِخَلٍّ:

35- إِذَا نُقِلَتِ الْخَمْرُ مِنَ الظِّلِّ إِلَى الشَّمْسِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَلَوْ بِقَصْدِ التَّخْلِيلِ، فَتَخَلَّلَتْ يَحِلُّ الْخَلُّ الْحَاصِلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى الْخَمْرِ بِلَا نَقْلٍ، كَرَفْعِ سَقْفٍ كَانَ فَوْقَهَا، لَا يَحِلُّ نَقْلُهَا.وَعَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ الْحِلَّ بِقَوْلِهِمْ: لِأَنَّ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ (أَيِ الْإِسْكَارَ) الَّتِي هِيَ عِلَّةُ النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمِ، قَدْ زَالَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعَقِّبَ نَجَاسَةً فِي الْوِعَاءِ، فَتَطْهُرُ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نُقِلَتِ الْخَمْرُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ، فَتَخَلَّلَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَدَ تَخْلِيلَهَا حَلَّتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ تَخْلِيلُهَا احْتَمَلَ أَنْ تَطْهُرَ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ الْقَصْدُ، فَلَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا.وَيُحْتَمَلُ أَلاَّ تَطْهُرَ، لِأَنَّهَا خُلِّلَتْ بِفِعْلٍ، كَمَا لَوْ أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ.

إِمْسَاكُ الْخَمْرِ لِتَخْلِيلِهَا:

36- اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ إِمْسَاكِ الْخَمْرِ بِقَصْدِ تَخْلِيلِهَا.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ، وَهَذَا الْخَلُّ عِنْدَهُمْ حَلَالٌ طَاهِرٌ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ إِمْسَاكِ الْخَمْرِ بِقَصْدِ تَخْلِيلِهَا، لَكِنْ يَحِلُّ عِنْدَهُمْ لِلْخَلاَّلِ إِمْسَاكُ الْخَمْرِ لِيَتَخَلَّلَ، لِئَلاَّ يَضِيعَ مَالُهُ.

طَهَارَةُ الْإِنَاءِ:

37- إِذَا تَخَلَّلَتِ الْخَمْرَةُ وَطَهُرَتْ- حَسَبَ اخْتِلَافِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ السَّابِقَةِ فِي طَهَارَتِهَا أَوْ نَجَاسَتِهَا- فَإِنَّ الْإِنَاءَ الَّذِي فِيهِ الْخَمْرُ يَطْهُرُ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ.وَهُنَاكَ اخْتِلَافٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حَوْلَ طَهَارَةِ أَعْلَى الْإِنَاءِ، لَكِنْ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ الْجَزْمُ بِالطَّهَارَةِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِهِمْ أَنَّ أَعْلَى الْإِنَاءِ يَطْهُرُ تَبَعًا.وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ أَعْلَاهُ لَا يَطْهُرُ، لِأَنَّهُ خَمْرٌ يَابِسَةٌ إِلاَّ إِذَا غُسِلَ بِالْخَلِّ، فَتَخَلَّلَ مِنْ سَاعَتِهِ فَيَطْهُرُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (أهل الكتاب)

أَهْلُ الْكِتَابِ

التَّعْرِيفُ:

1- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ (أَهْلَ الْكِتَابِ) هُمُ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِفِرَقِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَتَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمْ: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِنَبِيٍّ وَيُقِرُّ بِكِتَابٍ، وَيَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ آمَنَ بِزَبُورِ دَاوُدَ، وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ.وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ دِينًا سَمَاوِيًّا مُنَزَّلًا بِكِتَابٍ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} قَالُوا: وَلِأَنَّ تِلْكَ الصُّحُفَ كَانَتْ مَوَاعِظَ وَأَمْثَالًا لَا أَحْكَامَ فِيهَا، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَحْكَامٍ.

وَالسَّامِرَةُ مِنَ الْيَهُودِ، وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَهُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّابِئَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى.وَفِي قَوْلٍ لِأَحْمَد، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنَ النَّصَارَى.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُمْ إِنْ وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُولِ دِينِهِمْ، مِنْ تَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ كَانُوا مِنْهُمْ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ، وَكَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ.

أَمَّا الْمَجُوسُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانُوا يُعَامَلُونَ مُعَامَلَتَهُمْ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ.وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَبُو ثَوْرٍ، فَاعْتَبَرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ أَحْكَامِهِمْ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ..» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَا تَوَقَّفَ عُمَرُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ حَتَّى رُوِيَ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْكُفَّارُ

2- الْكُفَّارُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ أَهْلُ كِتَابٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمْ، وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ، وَهُمُ الْمَجُوسُ، وَقِسْمٌ لَا كِتَابَ لَهُمْ وَلَا شُبْهَةَ كِتَابٍ، وَهُمْ مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ.وَعَلَى ذَلِكَ فَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْكُفَّارِ.فَالْكُفَّارُ أَعَمُّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ.

ب- أَهْلُ الذِّمَّةِ:

3- أَهْلُ الذِّمَّةِ هُمُ: الْمُعَاهَدُونَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُقِيمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.وَيُقِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدْ يَكُونُ ذِمِّيًّا غَيْرَ كِتَابِيٍّ، وَقَدْ يَكُونُ كِتَابِيًّا غَيْرَ ذِمِّيٍّ، وَهُمْ مَنْ كَانَ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ (الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) إِذَا قُوبِلُوا بِالْمَجُوسِ.فَالْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ وَأَمَّا الْيَهُودِيَّةُ إِذَا قُوبِلَتْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ فَاخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى الِاتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ.وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَالِ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ وَالْفُقَهَاءِ، الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّنْ رَتَّبُوا أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً كَثِيرَةً عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ أَيِّ تَفْرِقَةٍ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، مِثْلُ: جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَوَازِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَجَوَازِ أَكْلِ ذَبِيحَتِهِمْ، وَحِلِّ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ؛ وَلِأَنَّهُ يَجْمَعُهُمُ اعْتِقَادُ الشِّرْكِ وَالْإِنْكَارِ لِنُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ.

وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، مِنْهُمُ ابْنُ نُجَيْمٍ وَصَاحِبُ الدُّرَرِ وَابْنُ عَابِدِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَفَرَّعُوا عَلَى هَذَا الْفَرْقِ بِقَوْلِهِمْ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْوَلَدِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ وَنَصْرَانِيٍّ أَوْ عَكْسِهِ تَبَعًا لِلْيَهُودِيِّ لَا النَّصْرَانِيِّ.

وَفَائِدَتُهُ خِفَّةُ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ، حَيْثُ إِنَّ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ النَّصْرَانِيُّ أَشَدَّ عَذَابًا؛ لِأَنَّ نِزَاعَ النَّصَارَى فِي الْإِلَهِيَّاتِ، وَنِزَاعَ الْيَهُودِ فِي النُّبُوَّاتِ.

وَكَذَا فِي الدُّنْيَا؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ مِنْ كِتَابِ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ: يُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْ طَعَامِ الْمَجُوسِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَجُوسِيَّ يَطْبُخُ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ، وَالنَّصْرَانِيَّ لَا ذَبِيحَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ ذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ أَوْ يَخْنُقُهَا، وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ الْيَهُودِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِيِّ أَوِ الْمُسْلِمِ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِيِّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْضًا.

وَالِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ، مَنْقُولًا عَنِ الْخُلَاصَةِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ كُفْرَ الْيَهُودِ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى؛ لِأَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا- عليه السلام- وَنُبُوَّةَ عِيسَى- عليه السلام-، وَكُفْرُ النَّصَارَى أَخَفُّ لِأَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّ الْيَهُودَ أَشَدُّ جَمِيعِ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَصْلَبُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَهُمْ أَلْيَنُ عَرِيكَةً مِنَ الْيَهُودِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ.

عَقْدُ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ:

5- يَجُوزُ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يُبْرِمَ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمُرَادِ بِهِمْ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَدَلِيلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ أَنْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْإِمَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْتِزَامِ الْأَحْكَامِ: قَبُولُ مَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ، وَأَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَالْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ: الْتِزَامُهُ وَالْإِجَابَةُ إِلَى بَذْلِهِ، لَا حَقِيقَةَ الْإِعْطَاءِ وَلَا جَرَيَانَ الْأَحْكَامِ فِعْلًا، وَبِالْعَقْدِ تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ كَالْخَلَفِ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي إِفَادَةِ الْعِصْمَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا طَلَبَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَقْدَ الذِّمَّةِ، وَكَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إِجَابَتُهُمْ إِلَيْهِ.

وَلِتَفْصِيلِ أَحْكَامِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَمَا يَنْعَقِدُ بِهِ، وَمِقْدَارُ الْجِزْيَةِ، وَعَلَى مَنْ تُفْرَضُ، وَبِمَ تَسْقُطُ، وَمَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (أَهْلِ الذِّمَّةِ) (وَجِزْيَةٌ).

ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ:

6- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إِبَاحَةِ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} يَعْنِي ذَبَائِحَهُمْ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةَ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ إِبَاحَةَ صَيْدِهِمْ أَيْضًا، قَالَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ثَبَتَ عَنْهُ تَحْرِيمُ صَيْدِ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ فِي إِبَاحَةِ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ مِنْهُمْ، وَتَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ مَنْ سِوَاهُ.وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا.وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِمْ.

فَإِنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيِ الْكِتَابِيِّ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَالْآخَرُ مِمَّنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ وَلَا ذَبِيحَتُهُ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الْأَبُ غَيْرَ كِتَابِيٍّ لَا تَحِلُّ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ كِتَابِيًّا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تُبَاحُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ.وَالثَّانِي: لَا تُبَاحُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ، فَغَلَبَ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ بِكُلِّ حَالٍ لِعُمُومِ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّهُ كِتَابِيٌّ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ، فَتَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ ابْنَ كِتَابِيَّيْنِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ ابْنَ وَثَنِيَّيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ (وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تَحْرِيمُهُ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ حِلُّهُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِدِينِ الذَّابِحِ لَا بِدِينِ أَبِيهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ بِذَلِكَ، وَلِعُمُومِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ

وَأَمَّا ذَبْحُ الْكِتَابِيِّ لِمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ أَوْ مَنْعِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَجَعَلَ ابْنُ عَرَفَةَ الْكَرَاهَةَ قَوْلًا ثَالِثًا، وَالرَّاجِحُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ.

أَمَّا غَيْرُ الْمَالِكِيَّةِ فَلَمْ نَعْثُرْ لَهُمْ عَلَى نَصٍّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقُوا الْقَوْلَ فِي حِلِّ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ كَمَا سَبَقَ.وَلَمْ يُفَصِّلُوا كَمَا فَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ.وَالظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَاتِهِمُ الْحِلُّ.

نِكَاحُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ:

7- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ لِلْكِتَابِيَّةِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ نِسَاءِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ.وَالصَّحِيحُ عَنْهُ: أَنَّهُمْ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ خَصَّ الْجَوَازَ بِنِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ دُونَ أَهْلِ الْحَرْبِ.وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا.

وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (نِكَاحٍ).

اسْتِعْمَالُ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ إِذَا تَيَقَّنَ عَدَمَ طَهَارَتِهَا.وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلاَّ أَنْ يَتَيَقَّنَ طَهَارَتَهَا فَلَا كَرَاهَةَ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ (آنِيَةٍ)

دِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ:

9- دِيَةُ الْكِتَابِيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَالْمَرْأَةُ مِنْهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ دِيَةُ الْكِتَابِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (دِيَةٍ).

مُجَاهَدَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ:

10- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.

أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمُقَاتَلَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَخَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ لِتَعَاظُمِ مَسْئُولِيَّتِهِمْ؛ لِمَا أُوتُوا مِنْ كُتُبٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَلِكَوْنِهِمْ عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ، وَخُصُوصًا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَمِلَّتِهِ وَأُمَّتِهِ، فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَعَظُمَتْ مِنْهُمُ الْجَرِيمَةُ، فَنَبَّهَ عَلَى مَحَلِّهِمْ، ثُمَّ جَعَلَ لِلْقِتَالِ غَايَةً، وَهِيَ إِعْطَاءُ الْجِزْيَةِ بَدَلًا مِنَ الْقَتْلِ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِذَا طَلَبُوا الْكَفَّ عَنِ الْقِتَالِ، لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (أَهْلُ الْحَرْبِ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ، وَجِزْيَةٌ).

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ قِتَالِ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَأْتِي مِنْ مَرْوَ لِغَزْوِ الرُّومِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ «النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لأُِمِّ خَلاَّدٍ: إِنَّ ابْنَكِ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ، قَالَتْ: وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ».

الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْقِتَالِ:

11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ الْمُنْذِرِ، وَابْنَ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ إِلَى: جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: اسْتَعَانَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ سَنَةَ ثَمَانٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ»

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِمَامُ حُسْنَ رَأْيِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ وَيَأْمَنَ خِيَانَتَهُمْ، فَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مَأْمُونِينَ لَمْ تَجُزِ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ؛ لِأَنَّنَا إِذَا مَنَعْنَا الِاسْتِعَانَةَ بِمَنْ لَا يُؤْمِنُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ الْمُخْذِلِ وَالْمُرْجِفِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى.

كَمَا شَرَطَ الْإِمَامُ الْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ: أَنْ يَكْثُرَ الْمُسْلِمُونَ، بِحَيْثُ لَوْ خَانَ الْمُسْتَعَانُ بِهِمْ، وَانْضَمُّوا إِلَى الَّذِينَ يَغْزُونَهُمْ، أَمْكَنَهُمْ مُقَاوَمَتُهُمْ جَمِيعًا.

وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنْ يُخَالِفُوا مُعْتَقَدَ الْعَدُوِّ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ حَبِيبٍ، وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْجُوزَجَانِيُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِمُشْرِكٍ؛ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- «فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ».

وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونُوا فِي غَيْرِ الْمُقَاتِلَةِ، بَلْ فِي خَدَمَاتِ الْجَيْشِ.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ (ر: جِهَادٌ).

تَرْكُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا يَدِينُونَ:

12- إِنْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَهْلَ ذِمَّةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَغَرَامَاتِ الْمُتْلَفَاتِ، وَيُتْرَكُونَ وَمَا يَدِينُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَقَائِدِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ بِشُرُوطٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْلِ الذِّمَّةِ).

الْأَحْكَامُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ:

13- يَشْتَرِكُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ فِي أَحْكَامٍ مِنْهَا: أ- أَنَّهُ يُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ، وَلَوْ دَخَلَ الْمُشْرِكُ الْحَرَمَ مُتَسَتِّرًا وَمَاتَ، نُبِشَ قَبْرُهُ، وَأُخْرِجَتْ عِظَامُهُ، فَلَيْسَ لَهُمُ الِاسْتِيطَانُ وَلَا الِاجْتِيَازُ.

فَإِذَا جَاءَ رَسُولٌ مِنْهُمْ خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَى الْحِلِّ لِيَسْمَعَ مَا يَقُولُ.

وَأَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ التَّرَدُّدِ مُسَافِرِينَ، وَيُضْرَبُ لَهُمْ أَجَلٌ لِلْخُرُوجِ خِلَالَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كَمَا ضَرَبَ عُمَرُ- رضي الله عنه- حِينَ أَجَلَاهُمْ.

وَفِيمَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ، وَأَحْكَامُ دُخُولِ الْكُفَّارِ إِلَيْهَا يُنْظَرُ (أَرْضُ الْعَرَبِ).

ب- وَمِنْهَا أَنْ يُمْنَعَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا، وَبِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ مُسْتَدِلًّا بِالْآيَةِ {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} إِلَخْ، وَدُخُولُ الْكُفَّارِ فِيهَا يُنَاقِضُ رَفْعَهُمَا.

وَعِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، خَاصَّةً بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ غَيْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ بِالْمَنْعِ.وَالثَّانِيَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِعَدَمِ الْمَنْعِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنَ الْحَرَمِ بِكُلِّ حَالٍ. فَإِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ دَفْعِ الْجِزْيَةِ يُقَاتَلُونَ كَمَا يُقَاتَلُ الْمُشْرِكُونَ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْصِمُونَ دِمَاءَهُمْ بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ.

فَإِذَا مَنَعُوهَا سَاوَوُا الْمُشْرِكِينَ فِي إِهْدَارِ دَمِهِمْ.

ج- وَمِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ أَلاَّ يُحْدِثُوا مَعْبَدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَلاَّ يُدْفَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.

وِلَايَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ:

14- لَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، لَا وِلَايَةً عَامَّةً وَلَا خَاصَّةً، فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ إِمَامًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا قَاضِيًا عَلَيْهِمْ، وَلَا شَاهِدًا، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي زَوَاجِ مُسْلِمَةٍ، وَلَا حَضَانَةَ لَهُ لِمُسْلِمٍ، وَلَا يَكُونُ وَلِيًّا عَلَيْهِ وَلَا وَصِيًّا.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}.

وَالتَّوْلِيَةُ شَقِيقَةُ التَّوَلِّي، فَكَانَتْ تَوْلِيَتُهُمْ نَوْعًا مِنْ تَوَلِّيهِمْ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ تَوَلاَّهُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلاَّ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، وَالْوِلَايَةُ تُنَافِي الْبَرَاءَةَ، فَلَا تَجْتَمِعُ الْبَرَاءَةُ وَالْوِلَايَةُ أَبَدًا.

وَالْوِلَايَةُ إِعْزَازٌ، فَلَا تَجْتَمِعُ هِيَ وَإِذْلَالُ الْكُفْرِ أَبَدًا. وَالْوِلَايَةُ صِلَةٌ، فَلَا تُجَامِعُ مُعَادَاةَ الْكُفَّارِ.

وَالتَّفْصِيلَاتُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِ النِّكَاحِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (كُفْرٍ).

بُطْلَانُ زَوَاجِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمُسْلِمَاتِ:

15- وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلُهُ {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} الْآيَةُ: أَيْ لَمْ يُحِلَّ اللَّهُ مُؤْمِنَةً لِكَافِرٍ، وَلَا نِكَاحَ مُؤْمِنٍ لِمُشْرِكَةٍ.

الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ الْمُسْلِمَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ:

16- الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ- وَلَوْ مُخْتَلِفَاتٍ فِي الدِّينِ- وَاجِبٌ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْقَسَمَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسَمَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ، كَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

حُكْمُ التَّعَامُلِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ:

17- التَّعَامُلُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ جَائِزٌ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ سِلْعَةً إِلَى الْمَيْسَرَةِ» وَثَبَتَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُعَامَلَتِهِمْ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ زَارَعَهُمْ وَسَاقَاهُمْ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ «أَكَلَ مِنْ طَعَامِهِمْ» وَهُنَاكَ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ غَيْرَ مَا ذُكِرَ، وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ فِي مُشَارَكَتِهِمْ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (إيماء)

إِيمَاءٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِيمَاءُ لُغَةً: الْإِشَارَةُ بِالْيَدِ أَوْ بِالرَّأْسِ أَوْ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالْحَاجِبِ.وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ: الْإِيمَاءُ لُغَةً: هُوَ الْإِشَارَةُ الْخَفِيَّةُ.وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْإِشَارَةُ حِسِّيَّةً أَمْ مَعْنَوِيَّةً.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.

2- وَالْإِيمَاءُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: دَلَالَةُ النَّصِّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْقَرِينَةِ، لَا بِصَرَاحَةِ اللَّفْظِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِشَارَةُ:

3- الْإِشَارَةُ لُغَةً أَعَمُّ مِنَ الْإِيمَاءِ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْإِيمَاءَ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ.أَمَّا مَنْ يَرَى أَنَّهُ مُطْلَقُ الْإِشَارَةِ فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: الْإِشَارَةُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَى لَمْ يُسَقِ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ.نَحْوَ دَلَالَةِ قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ لِلْأَبِ، وَأَنَّ الْأَبَ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ، فَالْإِيمَاءُ عِنْدَهُمْ أَخَصُّ مِنَ الْإِيمَاءِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَاللُّغَوِيِّينَ، سَوَاءٌ أَخَذَ فِي مَفْهُومِ الْإِيمَاءِ الْإِشَارَةُ مُطْلَقًا أَوِ الْخَفِيَّةُ.

وَأَجَازَ الْغَزَالِيُّ تَسْمِيَةَ الْإِيمَاءِ إِشَارَةً.

ب- الدَّلَالَةُ:

4- الدَّلَالَةُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ بِحَالَةٍ يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَقِيلَ: كَوْنُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَالْأَوَّلُ يُسَمَّى الدَّالُّ، وَالثَّانِي يُسَمَّى الْمَدْلُولُ

وَالدَّلَالَةُ اللَّفْظِيَّةُ إِمَّا عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ، أَوْ عَلَى جُزْئِهِ، أَوْ عَلَى خَارِجٍ عَنْهُ لَازِمٍ لَهُ، كَدَلَالَةِ لَفْظِ «السَّقْفِ» عَلَى الْحَائِطِ أَوِ التَّحَيُّزِ أَوِ الظِّلِّ، وَمِنْ هَذِهِ الدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ الْإِيمَاءُ؛ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ غَيْرِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّعْلِيلِ عَلَى التَّعْلِيلِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أَوَّلًا: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

5- الْمُصَلِّي الْعَاجِزُ عَنِ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ لِمَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ، وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ.وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ، وَأَبْوَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ.

وَفِي اعْتِبَارِ الْإِيمَاءِ بِالرَّأْسِ وَنَحْوِهِ فِي الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مِنَ النَّاطِقِ وَالْأَخْرَسِ وَالْمُعْتَقَلِ لِسَانُهُ تَفْصِيلٌ (ر: إِشَارَةٌ.وَعَقْدٌ، وَطَلَاقٌ).

وَفِي مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ (ر: مُفْسِدَاتُ الصَّلَاةِ).

ثَانِيًا: عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:

6- الْإِيمَاءُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَنْطُوقِ.لَكِنَّهُ غَيْرُ صَرِيحٍ.وَيَذْكُرُونَهُ فِي الدَّلَالَاتِ مِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ، وَمَسَالِكُ الْعِلَّةِ مِنْ مَبَاحِثِ الْقِيَاسِ.

أَنْوَاعُ الْإِيمَاءِ:

7- أَنْوَاعُ الْإِيمَاءِ كَثِيرَةٌ، حَتَّى قَالَ الْغَزَالِيُّ: وُجُوهُ التَّنْبِيهِ لَا تَنْضَبِطُ إِلاَّ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا الْأَنْوَاعَ التَّالِيَةَ:

أ- أَنْ يَقَعَ الْحُكْمُ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ.وَمِثَالُهُ «قَوْلُ الرَّجُلِ الْأَنْصَارِيِّ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِقَاعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عِلَّةٌ لِلْإِعْتَاقِ.وَوَجْهُ فَهْمِ التَّعْلِيلِ هُنَا: أَنَّ غَرَضَ الْأَنْصَارِيِّ مَعْرِفَةُ حُكْمِ مَا فَعَلَ، وَمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- جَوَابٌ لَهُ لِيَحْصُلَ غَرَضُهُ، فَصَارَ الْجَوَابُ مُقَدَّرًا فِيهِ السُّؤَالُ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَفِّرْ لِأَنَّكَ وَاقَعْتَ.وَهُوَ لَوْ صَرَّحَ بِحَرْفِ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: كَفِّرْ لِأَنَّكَ وَاقَعْتَ، لَمْ يَكُنْ مُومِئًا لِلْعِلِّيَّةِ، بَلْ يَكُونُ مُصَرَّحًا بِهَا.

وَقَدْ يَجْتَمِعُ التَّصْرِيحُ بِالْعِلَّةِ وَالْإِيمَاءِ بِهَا، وَمِثَالُهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَلَا، إِذَنْ» فَإِنَّ «إِذَنْ» صَرِيحٌ فِي التَّعْلِيلِ.

وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ «إِذَنْ» لَفُهِمَ التَّعْلِيلُ مِنَ الْقَرِينَةِ، فَاجْتَمَعَا.

ب- أَنْ يَقْتَرِنَ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ بِالْحُكْمِ فِي كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ: وَمِثَالُهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْهِرَّةِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ»، فَأَفْهَمَ أَنَّ عِلَّةَ طَهَارَتِهَا الطَّوَافُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَصْفُ عِلَّةً لَكَانَ لَغْوًا، أَوْ- عَلَى تَعْبِيرِ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ- لَكَانَ بَعِيدًا جِدًّا، فَيُحْمَلُ الْوَصْفُ عَلَى التَّعْلِيلِ، صِيَانَةً لِكَلَامِ الشَّارِعِ عَنِ اللَّغْوِ وَالْعَبَثِ.

ج- وَمِنْهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ بِوَصْفَيْنِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا عِلَّةٌ لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَالْآخَرَ عِلَّةٌ لِلْآخَرِ.

وَالتَّفْرِيقُ يَكُونُ بِطُرُقٍ:

(1) إِمَّا بِصِيغَةِ صِفَةٍ.مِثْلُ حَدِيثِ «لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ» وَمِثْلُ «الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ» وَقَدْ ثَبَتَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ تَوْرِيثُ الْعَصَبَاتِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.

(2) وَإِمَّا بِصِيغَةِ الْغَايَةِ، نَحْوَ {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}.

(3) وَإِمَّا بِصِيغَةِ الشَّرْطِ، نَحْوَ «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» نَاطَ الْجَوَازَ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ.

(4) أَوْ بِصِيغَةِ اسْتِدْرَاكٍ.نَحْوَ {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِانْعِقَادَ عِلَّةُ الْكَفَّارَةِ.

(5) أَوْ بِصِيغَةِ اسْتِثْنَاءٍ نَحْوَ قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} يُفِيدُ عِلِّيَّةَ الْعَفْوِ لِسُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ.

الْإِيمَاءُ بِذِكْرِ النَّظِيرِ:

8- قَدْ يَكُونُ الْإِيمَاءُ إِلَى الْعِلَّةِ بِذِكْرِ نَظِيرٍ لِمَحَلِّ السُّؤَالِ.

وَمِثَالُهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِامْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَقَدْ سَأَلَتْهُ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ».

سَأَلَتْهُ عَنْ دَيْنِ اللَّهِ فَذَكَرَ نَظِيرَهُ، وَهُوَ دَيْنُ الْآدَمِيِّ.فَنَبَّهَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِهِ، وَإِلاَّ لَزِمَ الْعَبَثُ.

فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ نَظِيرَهُ- وَهُوَ دِينُ اللَّهِ- كَذَلِكَ عِلَّةٌ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ.

مَرَاتِبُ الْإِيمَاءِ:

9- أ- قَدْ يُذْكَرُ الْحُكْمُ وَالْوَصْفُ كُلٌّ مِنْهُمَا صَرِيحًا، نَحْوَ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» فَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْغَضَبَ عِلَّةُ عَدَمِ جَوَازِ الْحُكْمِ، وَمِثْلُ: أَكْرِمِ الْعُلَمَاءَ وَأَهِنِ الْجُهَّالَ فَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِكْرَامِ الْعِلْمُ، وَعِلَّةَ الْإِهَانَةِ الْجَهْلُ.فَهَذَا النَّوْعُ إِيمَاءٌ بِالِاتِّفَاقِ.

ب- وَقَدْ يُذْكَرُ الْوَصْفُ صَرِيحًا وَالْحُكْمُ مُسْتَنْبَطٌ.

نَحْوَ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فَالْوَصْفُ إِحْلَالُ الْبَيْعِ، وَالْحُكْمُ الصِّحَّةُ، أَوْ يُذْكَرُ الْحُكْمُ وَالْوَصْفُ مُسْتَنْبَطٌ، نَحْوَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، وَلَا تُذْكَرُ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، وَهِيَ الْوَصْفُ.فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَقِيلَ: هُمَا مِنَ الْإِيمَاءِ، وَقِيلَ: لَا لِعَدَمِ الِاقْتِرَانِ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ لَفْظًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (تنجيس)

تَنْجِيسٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّنْجِيسُ مَصْدَرُ نَجَّسَ.يُقَالُ: نَجَّسَ الشَّيْءَ إِذَا أَلْحَقَ بِهِ نَجَاسَةً، أَوْ نَسَبَهُ إِلَيْهَا.

وَإِذَا أُطْلِقَ النَّجَسُ (بِفَتْحَتَيْنِ) فِي الشَّرْعِ فَهُوَ يَعُمُّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْخَبَثُ، النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ الَّتِي هِيَ الْحَدَثُ، فَالنَّجَسُ أَعَمُّ مِنَ النَّجَاسَةِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: كَمَا يُطْلَقُ (النَّجَسُ) عَلَى الْحَقِيقِيِّ يُطْلَقُ عَلَى الْحُكْمِيِّ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: النَّجَاسَةُ إِمَّا حُكْمِيَّةٌ بِأَنْ جَاوَزَتْ مَحَلَّهَا كَالْجَنَابَةِ، وَإِمَّا عَيْنِيَّةٌ لَمْ تُجَاوِزْهُ وَهَذِهِ تُطْلَقُ عَلَى الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ وَعَلَى الْوَصْفِ الْقَائِمِ بِمَحَلِّهَا.

وَصَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ: الْحَدَثُ لَيْسَ بِنَجَاسَةٍ، وَالْمُحْدِثُ لَيْسَ نَجِسًا، وَالنَّجَاسَةُ قِسْمَانِ عَيْنِيَّةٌ وَحُكْمِيَّةٌ».

وَالْحُكْمِيَّةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ النَّجَاسَةُ الطَّارِئَةُ عَلَى مَحَلٍّ طَاهِرٍ وَيُقَابِلُهَا النَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ وَهِيَ الذَّوَاتُ النَّجِسَةُ كَالْبَوْلِ.وَالنَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ لَا تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا بِحَالٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّقْذِيرُ:

2- الْقَذَرُ لُغَةً: ضِدُّ النَّظَافَةِ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

فَالْقَذَرُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنَ النَّجَسِ، فَكُلُّ نَجَسٍ قَذَرٌ وَلَا عَكْسَ

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَأَكْمَلُ الْغُسْلِ إِزَالَةُ الْقَذَرِ طَاهِرًا كَانَ كَالْمَنِيِّ أَوْ نَجَسًا كَالْوَدْيِ

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: الِاسْتِقْذَارُ عِلَّةٌ تَقْتَضِي النَّجَاسَةَ مَا لَمْ يُعَارِضْهَا مُعَارِضٌ، كَمَشَقَّةِ التَّكْرَارِ فِي نَحْوِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ.

ب- التَّطْهِيرُ:

3- التَّطْهِيرُ مَصْدَرُ طَهَّرَ، وَالطُّهْرُ وَالطَّهَارَةُ لُغَةً: نَقِيضُ النَّجَاسَةِ، وَالطَّهَارَةُ النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ عَنِ الْأَقْذَارِ.

وَالتَّطْهِيرُ شَرْعًا: «رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ، أَوْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالتُّرَابِ».وَالطَّهَارَةُ نَوْعَانِ: طَهَارَةٌ كُبْرَى، وَهِيَ الْغُسْلُ أَوْ نَائِبُهُ وَهُوَ التَّيَمُّمُ عَنِ الْجَنَابَةِ، وَطَهَارَةٌ صُغْرَى، وَهُوَ الْوُضُوءُ أَوْ نَائِبُهُ وَهُوَ التَّيَمُّمُ عَنِ الْحَدَثِ.

فَالتَّطْهِيرُ ضِدُّ التَّنْجِيسِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَكْلَ الْمُتَنَجِّسِ أَوِ اسْتِعْمَالَهُ حَرَامٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَحِلُّ إِلاَّ بِتَطَهُّرِهِ أَوْ تَطْهِيرِهِ.وَكَيْفِيَّةُ تَطْهِيرِ الْمُتَنَجِّسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُنَجِّسِ.

فَإِنْ كَانَ الْمُنَجِّسُ كَلْبًا فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ الْمُتَنَجِّسُ إِلاَّ بِغَسْلِهِ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ التُّرَابَ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى قِيَامِ الْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُنَظِّفَاتِ مَقَامَ التُّرَابِ وَلَوْ مَعَ وُجُودِهِ وَعَدَمِ تَضَرُّرِ الْمَحَلِّ بِهِ.

وَقَدْ أَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْخِنْزِيرَ بِالْكَلْبِ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْمُتَنَجِّسِ بِهِ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.

وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الْغَسْلَ سَبْعًا بِمَا إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ فَقَطْ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّتْرِيبُ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا إِذَا أَدْخَلَ الْكَلْبُ رِجْلَهُ أَوْ لِسَانَهُ بِلَا تَحْرِيكٍ فِي الْإِنَاءِ، أَوْ كَانَ الْإِنَاءُ فَارِغًا وَلَعِقَهُ الْكَلْبُ فَلَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ عِنْدَهُمْ، وَالْحُكْمُ بِالْغَسْلِ سَبْعًا تَعَبُّدِيٌّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِطَهَارَةِ الْكَلْبِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَنَجِّسَ بِرِيقِ الْكَلْبِ كَالْمُتَنَجِّسِ بِغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلْبَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِنَجَسِ الْعَيْنِ بَلْ نَجَاسَتُهُ بِنَجَاسَةِ لَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَأَمَّا شَعْرُهُ فَطَاهِرٌ.

وَإِنْ كَانَ الْمُنَجِّسُ بَوْلَ صَبِيٍّ لَمْ يَطْعَمْ غَيْرَ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِالنَّضْحِ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ بَوْلِ الصَّبِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ.

5- وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُنَجِّسُ غَيْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ الْمُغَلَّظَةِ نَجَاسَتُهَا وَبَوْلِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَطْعَمْ غَيْرَ اللَّبَنِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً عَلَى الْمُتَنَجِّسِ فَلَا يَطْهُرُ الْمَحَلُّ إِلاَّ بِغَسْلِهَا وَزَوَالِ عَيْنِهَا، وَيَجِبُ كَذَلِكَ أَنْ يَزُولَ الْأَثَرُ، إِنْ كَانَ مِمَّا يَزُولُ أَثَرُهُ، فَإِنْ عَسِرَ لَمْ يُشْتَرَطْ زَوَالُهُ غَيْرَ الطَّعْمِ فَيَجِبُ إِزَالَتُهُ سَوَاءٌ عَسِرَ زَوَالُهُ أَمْ لَا، وَأَمَّا اللَّوْنُ وَالرِّيحُ فَلَا يُشْتَرَطُ زَوَالُهُمَا إِنْ عَسِرَا، سَوَاءٌ بَقِيَ أَحَدُهُمَا أَوْ بَقِيَا مَعًا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ: إِلَى عَدَمِ طَهَارَةِ الْمُتَنَجِّسِ إِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ وَالرِّيحُ مَعًا لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.

6- وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ عَلَى الْمُتَنَجِّسِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ طَهَارَتِهَا إِلاَّ بِالْغَسْلِ وَلَوْ دُونَ الثَّلَاثِ وَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى غَالِبِ رَأْيِهِ وَأَكْبَرِ ظَنِّهِ بِأَنَّهَا طَهُرَتْ وَلَيْسَتِ الْغَسَلَاتُ الثَّلَاثُ بِلَازِمَةٍ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذْ مَيَّزَ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ غَسَلَهُ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزْ غَسَلَ الْجَمِيعَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي التَّطْهِيرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَقَالُوا: بِوُجُوبِ الْغَسْلِ سَبْعًا، وَإِنْ لَمْ يُنَقَّ الْمَحَلُّ الْمُتَنَجِّسُ بِالسَّبْعِ زَادَ حَتَّى يُنَقَّى الْمَحَلُّ، لَكِنْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَاخْتَارَهُ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْغَسْلِ عَدَدٌ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- شَيْءٌ فِي غَيْرِ الْكَلْبِ لَا فِي قَوْلِهِ وَلَا فِي فِعْلِهِ وَالْعِبْرَةُ بِالْإِنْقَاءِ.

وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ إِنَّ مَنِيَّ الْآدَمِيِّ طَاهِرٌ، وَيَجِبُ غَسْلُهُ رَطْبًا وَفَرْكُهُ يَابِسًا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَجَسٌ وَلَكِنْ يَطْهُرُ بِالْحَكِّ وَالْفَرْكِ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ وَكَانَ جَافًّا، أَمَّا إِنْ كَانَ رَطْبًا فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ.

7- ثُمَّ هُنَاكَ مِنَ الْمُتَنَجِّسَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ كَالزَّيْتِ وَالدُّهْنِ الْمَائِعِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَائِعِ غَيْرِ الْمَاءِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُصَبّ فِيهِ مَاءٌ بِقَدْرِهِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى مَكَانِهِ، وَالدُّهْنُ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَيَغْلِي فَيَعْلُو الدُّهْنُ الْمَاءَ فَيُرْفَعُ بِشَيْءٍ، يَفْعَلُ هَكَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.أَمَّا إِنْ كَانَ الدُّهْنُ جَامِدًا وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ يُقَوِّرُ مَكَانَ النَّجَاسَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَقَدْ تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُطَهِّرَاتِ كَثِيرًا حَتَّى أَوْصَلُوهَا إِلَى نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ.

وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَجَاسَةٌ)

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-موسوعة الفقه الكويتية (تيسير 2)

تَيْسِيرٌ -2

مَوَاضِعُ الْيُسْرِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ:

28- الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ خَمْسَةٌ: الْإِبَاحَةُ، وَالنَّدْبُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِيجَابُ، وَالتَّحْرِيمُ.

فَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَلَا مَشَقَّةَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِي فِعْلِهَا أَوْ تَرْكِهَا إِلَى الْمُكَلَّفِ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَدْعُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ.

وَأَمَّا الْمَنْدُوبَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ فَنَظَرًا إِلَى عَدَمِ اسْتِلْزَامِ فِعْلِهَا أَوْ تَرْكِهَا لِعُقُوبَةٍ يُعْلَمُ أَنَّ لِلْمُكَلَّفِ فِيهَا خِيَارًا كَذَلِكَ، وَإِنْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبِ وَتَرْكِ الْمَكْرُوهِ لِتَحْصِيلِ الْأَجْرِ، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا شَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَنْدُوبَ أَوْ يَفْعَلَ الْمَكْرُوهَ رِفْقًا بِنَفْسِهِ كَمَا يَأْتِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ.

هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُكَلَّفَ بِهِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ لِذَاتِهِ، بَلِ الَّذِي نَدَبَ الشَّارِعُ إِلَى فِعْلِهِ مِنْ صَلَاةٍ، أَوْ صَوْمٍ، أَوِ اعْتِكَافٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَخْرُجُ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْمَشَقَّاتِ، وَكَذَا مَا كَرِهَ لَنَا فِعْلَهُ لَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْعَادَةِ.

وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ فِيمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ أَلْزَمَ بِتَرْكِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّهَا بِالْإِلْزَامِ وَفَرْضِ الْعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الْأُخْرَوِيَّةِ، أَوْ كِلَيْهِمَا عَلَى الْمُخَالِفِ لَا يَكُونُ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِمَا خِيَارٌ.

فَأَمَّا بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ التَّيْسِيرَ فِيهِ وَاضِحٌ، فَإِنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ بِرَحْمَتِهِ ضَيَّقَ بَابَ التَّحْرِيمِ جِدًّا، حَتَّى إِنَّ مُحَرَّمَاتِ الْأَطْعِمَةِ يُورِدُهَا الْقُرْآنُ غَالِبًا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فَالْأَصْلُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَنَحْوِهَا الْإِبَاحَةُ، وَالتَّحْرِيمُ اسْتِثْنَاءٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ مَا يَشُقُّ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ كَالْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ أَوِ اللِّبَاسِ أَوِ الْمَسْكَنِ.وَإِنَّمَا انْصَبَّ التَّحْرِيمُ عَلَى أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ مِمَّا لَا يَشُقُّ تَرْكُهُ.وَتِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ إِنَّمَا حَرَّمَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَضْرَارِ عَلَى صِحَّةِ الْإِنْسَانِ، أَوْ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ كَمَا فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ إِلاَّ شَيْئًا مُتَمَحِّضًا لِلضَّرَرِ، أَوْ ضَرَرُهُ أَغْلَبُ مِنْ نَفْعِهِ.وَهَذَا الَّذِي قَدْ يَكُونُ فِيهِ نَفْعٌ يَكُونُ فِي الْحَلَالِ عِوَضٌ عَنْهُ.ثُمَّ إِن اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إِلَى الْمُحَرَّمِ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الشُّعْبَةِ الثَّانِيَةِ.

وَأَمَّا الْفَرَائِضُ وَالْوَاجِبَاتُ فَلَمْ يُكَلِّفْنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَلَا تَرَكَ الْعِبَادَ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ، بَلْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ فِي هَذَا الْأَمْرِ جَارِيَةً عَلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ الْأَعْدَلِ: لَا تَمِيلُ إِلَى فَرْضِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ تَبْهَظُ الْمُكَلَّفَ أَوْ تُقْعِدُهُ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْحَالِ أَوِ الْمَآلِ، أَوْ تُدْخِلُ عَلَيْهِ الْخَلَلَ فِي نَفْسِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ مَالِهِ.

وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: مَا تَرَكَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِنْسَانَ دُونَ تَكْلِيفٍ يَحْصُلُ بِهِ الِابْتِلَاءُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا وَلَمْ يُتْرَكْ سُدًى، بَلْ كَلَّفَتْهُ بِتَكَالِيفَ تَقْتَضِي فِيهِ غَايَةَ التَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ، كَتَكَالِيفِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ.

وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْيُسْرَ، فَإِنَّ الْيُسْرَ يُنَاقِضُهُ الْعُسْرُ، أَمَّا الْوَسَطُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْيُسْرِ؛ إِذْ لَا عُسْرَ فِيهِ.

وَالْوَسَطُ- كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ- هُوَ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ، فَهِيَ وَسَطٌ بَيْنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ.

فَمُعْظَمُهَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّوَسُّطِ، لَا عَلَى مُطْلَقِ التَّخْفِيفِ وَلَا عَلَى مُطْلَقِ التَّشْدِيدِ.

فَالصَّلَاةُ مَثَلاً: خَمْسُ مَرَّاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، كُلُّ صَلَاةٍ مِنْهَا رَكَعَاتٌ مَعْدُودَةٌ، لَا تَتَضَمَّنُ فِعْلاً شَاقًّا، بَلْ مَا فِيهَا مِنَ الْقِيَامِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْأَذْكَارِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُيَسَّرَةٌ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَفْتَرِضْ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا إِلاَّ الْقَلِيلَ، وَلَا مِنَ الْأَذْكَارِ إِلاَّ الْقَلِيلَ، وَتَعَلُّمُهَا وَحِفْظُهَا أَمْرٌ مَيْسُورٌ.وَلَكِنْ قَدْ تَأْتِي الْمَشَقَّةُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَمْثَلِ وَمِنْ جِهَةِ الِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ عَلَيْهَا، مَعَ مُخَالَفَتِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِرَاحَةِ الْبَدَنِ؛ وَلِلِانْطِلَاقِ مَعَ الْأَعْمَالِ وَهَوَى النُّفُوسِ، لَكِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشَقَّةٍ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ أَهْلِ التَّقْوَى.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.

وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ تُفْرَضُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مَالِهِ مَرَّةً كُلَّ عَامٍ، وَذَلِكَ مَيْسُورٌ غَيْرُ مَعْسُورٍ، وَلَمْ تُفْرَضْ إِلاَّ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ أَوِ الْقَابِلَةِ لِلنَّمَاءِ دُونَ مَا لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَاكِنِ وَالْأَثَاثِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ الَّتِي هِيَ لِلِاسْتِعْمَالِ الْخَاصِّ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَى الْمُؤْمِنِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ».وَفُرِضَتْ بِنِسَبٍ يَسِيرَةٍ تَتَفَاوَتُ غَالِبًا تَبَعًا لِلْجُهْدِ الْمَبْذُولِ.

فَالْخُمُسُ فِي الرِّكَازِ؛ لِأَنَّ الْجُهْدَ فِيهِ يَسِيرٌ جِدًّا مَعَ عِظَمِ مَا يَحْصُلُ بِهِ، وَالْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ مِنِ الْأَرْضِ إِنْ كَانَتْ بَعْلاً، وَنِصْفُ الْعُشْرِ إِنْ سُقِيَتْ بِالنَّضْحِ، وَرُبُعُ الْعُشْرِ فِي الْأَمْوَالِ النَّاضَّةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ فِي السَّائِمَةِ، حَتَّى إِنَّ الْغَنَمَ الَّتِي تَبْلُغُ (400) إِلَى (499) شَاةٌ، فِيهَا فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ وَاحِدٌ بِالْمِائَةِ أَوْ أَقَلُّ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا فِي فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّيْسِيرِ الَّتِي تُعْلَمُ بِتَتَبُّعِ أَحْكَامِهَا فِي كُتُبِ الشَّرِيعَةِ.

وَهَكَذَا غَيْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ تُعْرَفُ أَوْجُهَ مَا فِيهَا مِنَ الْيُسْرِ، وَأَنَّهَا أَفْعَالٌ، وَأَقْوَالٌ، وَتَكَالِيفُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ الْبَشَرِ دُونَ مُبَالَغَةٍ وَلَا تَشْدِيدٍ.

أَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِيعَةُ لِتَسْهِيلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا وَالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهَا فَهِيَ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: التَّوْسِيعُ فِي الْوَاجِبَاتِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ، كَصَلَوَاتِ الْفَرَائِصِ، فَإِنَّ فِعْلَهَا لَا يَسْتَغْرِقُ إِلاَّ جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ وَقْتِهَا، فَيَكُونُ لَدَى الْمُكَلَّفِ الْفُرْصَةُ لِأَدَائِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي.

وَمِنْهَا التَّخْيِيرُ فِي الْأَدَاءِ بَيْنَ أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ أَدَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ.

وَمِنَ التَّيْسِيرِ أَيْضًا مَا يَقْبَلُ التَّدَاخُلَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْعُمْرَةُ تَدْخُلُ فِي الْحَجِّ لِمَنْ قَرَنَ.

وَمَوَاضِعُ الْيُسْرِ فِي الشَّرِيعَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَمَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ.وَيُنْظَرُ: (تَخْيِيرٌ، وَتَدَاخُلٌ، وَتَرَاخِي).

الشُّعْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْيُسْرُ التَّخْفِيفِيُّ:

29- وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَرِدَ التَّكْلِيفُ الْعَامُّ بِمَا مَشَقَّتُهُ فِي الْأَصْلِ مُعْتَادَةٌ، وَلَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي فِيهَا مَشَقَّةٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ.

حُكْمُ الْأَخْذِ بِالتَّخْفِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ:

30- التَّثْقِيلُ الَّذِي يَعْتَرِي الْمُكَلَّفَ فِي عِبَادَاتِهِ أَوْ مُعَامَلَاتِهِ، يُقَابِلُهُ تَخْفِيفٌ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ.

وَالتَّخْفِيفُ حُكْمٌ طَارِئٌ عَلَى الْأَصْلِ، رُوعِيَ فِي تَشْرِيعِهِ ضَرُورَاتُ الْعِبَادِ وَأَعْذَارُهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ فُسْحَةً لَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ التَّضْيِيقِ، بِحُصُولِ الْجَوَازِ لِلْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ.

وَالتَّخْفِيفُ قَدْ يُوجِبُ الشَّارِعُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْأَخْذَ بِهِ، وَقَدْ يَجْعَلُهُ مَنْدُوبًا فِي حَقِّهِ، وَقَدْ يَجْعَلُ الْأَخْذَ بِهِ خِلَافَ الْأَوْلَى كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ، وَقَدْ يُبِيحُهُ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَوْ يَتْرُكَهُ عَلَى السَّوَاءِ.

وَمِنَ التَّخْفِيفِ الَّذِي يُنْدَبُ الْأَخْذُ بِهِ، قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُوجِبُ الْقَصْرَ عَلَى الْمُسَافِرِ.وَيُنْدَبُ الْإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ لقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَمِنَ التَّخْفِيفِ الَّذِي هُوَ مَكْرُوهٌ، أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى، الْفِطْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ إِذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ، وَكَذَا الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَمِنْهُ التَّيَمُّمُ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الثَّمَنِ.وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ خِلَافٌ فِي حُكْمِهَا، فَيُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِهَا.

وَمِنَ التَّخْفِيفِ الْمُبَاحِ مَا رُخِّصَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ كَبَيْعِ السَّلَمِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ رَخَّصَ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ إِذِ الْأَصْلُ مَنْعُهُ، لَكِنْ رَخَّصَ فِيهِ تَخْفِيفًا عَلَى النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ، وَكَذَا الْمُسَاقَاةُ، وَالْقِرَاضُ، وَبَيْعُ الْعَرَايَا.

أَسْبَابُ التَّخْفِيفِ:

31- لِلتَّخْفِيفِ أَسْبَابٌ بُنِيَتْ عَلَى الْأَعْذَارِ.وَقَدْ رَخَّصَ الشَّارِعُ لِأَصْحَابِهَا بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ: فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْبُيُوعِ، وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا.

فَكُلُّ مَا تَعَسَّرَ أَمْرُهُ، وَشَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَضْعُهُ، يَسَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِالتَّخْفِيفِ، وَضَبَطَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْقَوَاعِدِ الْمُحْكَمَةِ.

وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْأَعْذَارِ الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْعِبَادِ: الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَالْإِكْرَاهُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالْجَهْلُ، وَالْعُسْرُ، وَعُمُومُ الْبَلْوَى.

السَّبَبُ الْأَوَّلُ: الْمَرَضُ:

32- الْمَرِيضُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بَدَنُهُ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ وَالِاعْتِيَادِ فَيَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْهُ.

وَقَدْ خَصَّتِ الشَّرِيعَةُ الْمَرِيضَ بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنَ التَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ مَظِنَّةٌ لِلْعَجْزِ.فَخَفَّفَ عَنْهُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الْوُضُوءِ، أَوْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، أَوْ خَوْفِهِ زِيَادَةَ الْمَرَضِ، وَكُلُّ مَا كَانَ الْمَاءُ سَبَبًا فِي الْهَلَاكِ أَوْ تَأَخُّرِ شِفَائِهِ، أَوْ زِيَادَةِ الْمَرَضِ، رَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ تَخْفِيفًا، وَالِانْتِقَالِ إِلَى التَّيَمُّمِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمِ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.

كَمَا خَفَّفَ عَنْهُ غَسْلَ الْعُضْوِ الْمُجَبَّرِ، إِلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ، مَوْقُوتًا بِالْبُرْءِ.وَخَفَّفَ عَنْهُ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ، فِي أَدَائِهَا قَاعِدًا، أَوْ مُضْطَجِعًا، أَوْ مُومِئًا، أَوْ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ عَجْزِهِ الَّذِي سَبَّبَهُ الْمَرَضُ، يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ أَصَابَهُ الْمَرَضُ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».وَخَفَّفَ عَنِ الْمَرِيضِ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.وَخَفَّفَ عَنْهُ بِإِجَازَةِ التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الطَّبِيبِ لِلْعَوْرَةِ وَلَوْ لِلسَّوْأَتَيْنِ.

وَخَفَّفَ أَيْضًا عَنِ الْمَرِيضِ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الصِّيَامِ، بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ، وَقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَخَفَّفَ عَنِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ، فَخَصَّهُ بِجَوَازِ إِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ بَدَلاً عَنِ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.

وَأُجِيزَ لِلْمَرِيضِ الْخُرُوجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ.

وَخَفَّفَ الشَّرْعُ عَنِ الْمَرِيضِ أَيْضًا بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَأَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ، مَعَ ذَبْحِ هَدْيٍ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ.

وَأَجَازَ لَهُ الِاسْتِنَابَةَ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، وَأَبَاحَ لَهُ فِعْلَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، مِنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَنَحْوِهِ، كَمَا أَبَاحَ لَهُ حَلْقَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ قَمْلٌ وَاحْتَاجَ إِلَى الْحَلْقِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَرَضَ سَبَبًا فِي التَّخْفِيفِ عَنِ الْمَرِيضِ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ بِتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِ، بِمَا يُصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ أَلَمٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ غَمٍّ.

يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».

هَذَا بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ، مِمَّا وَرَدَ فِي التَّخْفِيفِ عَنِ الْمَرِيضِ فِي الْعِبَادَاتِ.

وَهُنَاكَ تَخْفِيفَاتٌ أُخْرَى وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ، يَضِيقُ الْمَقَامُ عَنْ ذِكْرِهَا.

وَالِاسْتِحَاضَةُ، وَالسَّلَسُ، مِنْ قَبِيلِ الْمَرَضِ، وَلَهُمَا تَخْفِيفَاتُهُمَا الْمَعْرُوفَةُ

.السَّبَبُ الثَّانِي: السَّفَرُ:

33- السَّفَرُ سَبَبٌ لِلتَّخْفِيفِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةٍ؛ وَلِحَاجَةِ الْمُسَافِرِ إِلَى التَّقَلُّبِ فِي حَاجَاتِهِ، وَقَضَاءِ مَآرِبِهِ مِنْ سَفَرِهِ؛ وَلِذَا شُرِعَ التَّخْفِيفُ عَنِ الْمُسَافِرِ فِي الْعِبَادَاتِ.

قَالَ السُّيُوطِيّ نَقْلاً عَنِ النَّوَوِيِّ: وَرُخَصُ السَّفَرِ ثَمَانٍ: فَمِنْهَا الْقَصْرُ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}.

وَمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى مَكَّةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ».

وَمِنْهَا: رُخْصَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ».

وَمِنْهَا: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا.

وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلسَّفَرِ الْمُجَوِّزِ لِلتَّخْفِيفِ شُرُوطًا مِنْهَا- عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ- أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مَشْرُوعًا- وَلَوْ مُبَاحًا- كَالسَّفَرِ لِلْحَجِّ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالتِّجَارَةِ لِئَلاَّ يَكُونَ التَّخْفِيفُ إِعَانَةً لِلْعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ.

السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْإِكْرَاهُ:

34- الْإِكْرَاهُ هُوَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ لَا يَرْضَاهُ وَذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ، أَوْ بِقَطْعِ طَرَفٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا، إِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا يُطْلَبْ مِنْهُ (وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ إِكْرَاهٌ)، وَقَدْ عَدَّ الشَّارِعُ الْإِكْرَاهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عُذْرًا مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُخَفِّفَةِ، الَّتِي تَسْقُطُ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتُخُفِّفَ عَنِ الْمُكْرَهِ مَا يَنْتُجُ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ دُنْيَوِيَّةٍ، أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ، بِحُدُودِهِ.

وَشَبِيه بِمَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ مَسْأَلَةُ التَّقِيَّةِ فَإِنَّ التَّقِيَّةَ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمُحَرَّمَ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ مَكْرُوهٍ دُونَ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ إِكْرَاهٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ يَتْرُكَ الْوَاجِبَ لِأَجْلِ ذَلِكَ.وَلَهَا ضَوَابِطُ فِيمَا يَحِلُّ بِهَا (ر: تَقِيَّةٌ).

السَّبَبُ الرَّابِعُ: النِّسْيَانُ:

35- النِّسْيَانُ هُوَ عَدَمُ اسْتِحْضَارِ الْإِنْسَانِ مَا كَانَ يَعْلَمُهُ، بِدُونِ نَظَرٍ وَتَفْكِيرٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ.وَقَدْ جَعَلَتْهُ الشَّرِيعَةُ عُذْرًا وَسَبَبًا مُخَفِّفًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ رَفَعَ عَنَّا إِثْمَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَالْخَطَأِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ.فَفِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ يُعْذَرُ النَّاسِي وَيُرْفَعُ عَنْهُ الْإِثْمُ مُطْلَقًا.

فَالنِّسْيَانُ- كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ السُّيُوطِيّ-: مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ مُطْلَقًا.وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

أَمَّا النِّسْيَانُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يُعَدُّ عُذْرًا مُخَفِّفًا؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَالْمُطَالَبَةِ، فَلَا يَكُونُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِيهَا.

السَّبَبُ الْخَامِسُ: الْجَهْلُ:

36- الْجَهْلُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِأَسْبَابِهَا.

وَالْجَهْلُ عُذْرٌ مُخَفِّفٌ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ اتِّفَاقًا، فَلَا إِثْمَ عَلَى مَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ أَوْ تَرَكَ الْوَاجِبَ جَاهِلاً، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.

أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّسْيَانِ، إِنْ وَقَعَ الْجَهْلُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ لَمْ يَسْقُطْ بَلْ يَجِبُ تَدَارُكُهُ، وَلَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَدَارُكٍ، أَوْ وَقَعَ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، أَوْ فِيهِ إِتْلَافٌ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ، كَمَا فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ قَطْعِ شَجَرِهِ.وَإِنْ كَانَ الْجَهْلُ فِي فِعْلِ مَا فِيهِ عُقُوبَةٌ كَانَ شُبْهَةً فِي إِسْقَاطِهَا، وَلَا يُؤَثِّرُ الْجَهْلُ فِي إِسْقَاطِ حُقُوقِ الْعِبَادِ.

وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِي الْعِلْمِ بِهِ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُقْبَلْ، مَا لَمْ يَكُنْ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ يَخْفَى فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ، كَتَحْرِيمِ الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْلُ فِيمَا يَخْفَى حُكْمُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَامِّيِّ دُونَ الْعَالِمِ، فَتُقْبَلُ فِيهِ دَعْوَى الْجَهْلِ مِنَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، كَكَوْنِ الْقَدْرِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنَ الْكَلَامِ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ، أَوْ كَوْنِ النَّوْعِ الَّذِي دَخَلَ جَوْفَهُ مُفْسِدًا لِلصَّوْمِ، فَالْأَصَحُّ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمُ الْبُطْلَانِ.

وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ قَدِيمِ الْإِسْلَامِ لِاشْتِهَارِهِ، وَتُقْبَلُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْخَوَاصُّ.

وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْهُ ذَلِكَ، كَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ فِيهِ، فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ.

السَّبَبُ السَّادِسُ: الْخَطَأُ:

37- الْخَطَأُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ أَوْ فِي الْقَصْدِ.فَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ: كَمَنْ يَرْمِي صَيْدًا فَيُصِيبُ إِنْسَانًا، أَوْ فِي قَصْدِهِ: كَمَنْ يَرْمِي شَخْصًا يَظُنُّهُ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ.وَكَمَنِ اجْتَهَدَ فِي التَّعَرُّفِ عَلَى الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا خِلَافُهَا.وَالْخَطَأُ بِنَوْعَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُخَفِّفَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَلَيْسَ الْخَطَأُ مُسْقِطًا حُقُوقَ الْعِبَادِ، فَلَوْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ خَطَأً فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ.

وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُخَفِّفًا فِي الْجِنَايَاتِ، دَارِئًا لِلْحُدُودِ، فَيُخَفِّفُ عَنِ الْقَاتِلِ خَطَأً مِنَ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ، وَيَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ الْوَاطِئِ غَيْرَ زَوْجَتِهِ خَطَأً.

أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَيَسْقُطُ الْإِثْمُ، وَقَدْ تَسْقُطُ مُطَالَبَةُ الشَّارِعِ بِإِعَادَةِ الْعِبَادَةِ مَرَّةً أُخْرَى.

هَذَا وَإِنَّ قَوَاعِدَ التَّخْفِيفِ الْمَذْكُورَةَ فِي أَبْوَابِ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالْخَطَأِ هِيَ قَوَاعِدُ غَالِبِيَّةٌ يَقَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الِاسْتِثْنَاءَاتِ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ كُتُبِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَكُتُبِ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ، حَصْرَهَا فَيُرْجَعُ إِلَيْهَا هُنَاكَ.وَانْظُرْ أَيْضًا (نِسْيَانٌ.جَهْلٌ.خَطَأٌ).

السَّبَبُ السَّابِعُ: الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى:

38- يَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْذَارُ الْغَالِبَةُ الَّتِي تَكْثُرُ الْبَلْوَى بِهَا وَتَعُمُّ فِي النَّاسِ، دُونَ مَا كَانَ مِنْهَا نَادِرًا، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ فَرَّقَ فِي الْأَعْذَارِ بَيْنَ غَالِبِهَا وَنَادِرِهَا، فَعَفَا عَنْ غَالِبِهَا لِمَا فِي اجْتِنَابِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ.وَإِنَّمَا تَكُونُ غَالِبَةً لِتَكَرُّرِهَا، وَكَثْرَتِهَا وَشُيُوعِهَا فِي النَّاسِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْهَا نَادِرًا فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ عُذْرًا لِانْتِفَاءِ الْمَشَقَّةِ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ عُسْرٌ كَمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَمَّا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ مِنْ رَشَاشِ الْبَوْلِ فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا.وَمَثَّلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِمَنْ أَتَى بِمَحْظُورِ الصَّلَاةِ نِسْيَانًا، فَإِنَّهُ إِنْ قَصُرَ زَمَانُهُ يُعْفَى عَنْهُ اتِّفَاقًا لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَإِنْ طَالَ زَمَانُهُ فَفِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَهِكِ الْحُرْمَةَ، وَالْآخَرُ: لَا يُعْفَى عَنْهُ لِأَنَّهُ نَادِرٌ.

وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الصَّلَاةَ حَتَّى لَا تَجِبَ وَلَا يَجِبَ قَضَاؤُهَا؛ لِتَكَرُّرِهَا كُلَّ شَهْرٍ، بِخِلَافِ قَضَاءِ مَا تُفْطِرُهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَجِبُ لِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً.وَأَيْضًا «قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْهِرَّةِ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» فَقَدْ عَلَّلَ طَهَارَتَهَا بِكَثْرَةِ طَوَافِهَا أَيْ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا لِكَثْرَةِ مُلَابَسَتِهَا لِثِيَابِ النَّاسِ وَآنِيَتِهِمْ، مَعَ كَوْنِهَا تَأْكُلُ الْفَأْرَ وَالْمَيْتَةَ.وَمَا رُوِيَ أَنَّ «أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ؟ قَالَ: يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ» وَقَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَ فِيهِمَا أَذًى أَوْ قَذَرًا فَلْيَمْسَحْهُ وَلِيُصَلِّ فِيهِمَا».

وَالتَّخْفِيفُ بِالْعُسْرِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى يَدْخُلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِيعَةِ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مَا جَمَعَهُ السُّيُوطِيّ وَغَيْرُهُ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ: بَيْعُ الرُّمَّانِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهِمَا فِي الْقِشْرِ، وَبَيْعُ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ السَّلَمُ، مَعَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِرُؤْيَةِ ظَاهِرِ الصُّبْرَةِ، وَأُنْمُوذَجِ الْمُتَمَاثِلِ.

السَّبَبُ الثَّامِنُ: النَّقْصُ:

39- إِنَّ الْإِنْسَانَ إِنْ كَانَتْ قُدُرَاتُهُ نَاقِصَةً يَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَمَّلَ مِثْلَ مَا يَحْمِلُهُ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ التَّخْفِيفَ.

فَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ.

وَمِنْهُ عَدَمُ تَكْلِيفِ الْأَرِقَّاءِ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْأَحْرَارِ، كَالْجُمُعَةِ، وَتَنْصِيفِ الْحُدُودِ وَالْعَدَدِ.

وَمِنْهُ التَّخْفِيفَاتُ الْوَارِدَةُ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ.فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ خَفَّفَتْ عَنْهُنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، فَرَفَعَتْ عَنْهُنَّ كَثِيرًا مِمَّا أُلْزِمَ بِهِ الرِّجَالُ مِنْ أَحْكَامٍ.وَمِنْ ذَلِكَ الْجَمَاعَةُ، وَالْجُمُعَةُ، وَأَبَاحَتْ بَعْضَ مَا حُرِّمَ عَلَى الرَّجُلِ كَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ.

السَّبَبُ التَّاسِعُ: الْوَسْوَسَةُ:

40- الْمُوَسْوِسُ هُوَ مَنْ يَشُكُّ فِي الْعِبَادَةِ وَيَكْثُرُ مِنْهُ الشَّكُّ فِيهَا حَتَّى يَشُكَّ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ الشَّيْءَ وَهُوَ قَدْ فَعَلَهُ.وَالشَّكُّ فِي الْأَصْلِ مُوجِبٌ لِلْعَوْدِ لِمَا شَكَّ فِي تَرْكِهِ، كَمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ وَشَكَّ هَلْ رَكَعَ أَمْ لَا، فَإِنَّ عَلَيْهِ الرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ.وَمَنْ شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا جَعَلَهَا ثَلَاثًا وَأَتَى بِوَاحِدَةٍ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.لَكِنْ إِنْ كَانَ مُوَسْوِسًا فَلَا يَلْتَفِتُ لِلْوَسْوَاسِ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي الْحَرَجِ، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ فِي الشَّرِيعَةِ، بَلْ يَمْضِي عَلَى مَا غَلَبَ فِي نَفْسِهِ.تَخْفِيفًا عَنْهُ وَقَطْعًا لِلْوَسْوَاسِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالِاحْتِيَاطُ حَسَنٌ مَا لَمْ يُفِضْ بِصَاحِبِهِ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى ذَلِكَ فَالِاحْتِيَاطُ تَرْكُ هَذَا الِاحْتِيَاطِ.

السَّبَبُ الْعَاشِرُ: التَّرْغِيبُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَحَدَاثَةُ الدُّخُولِ فِيهِ:

41- وَهَذَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّيْسِيرِ يُعْلَمُ بِتَتَبُّعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَمِمَّا شُرِعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْإِسْلَامِ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ بِالتَّحْرِيمِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُدُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّبَبِ الْخَامِسِ.

وَمِنْهُ سُقُوطُ الْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى السَّابِقَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا يُطَالَبُ بِقَضَائِهَا: حَتَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ؛ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَلِئَلاَّ تَكُونَ مَشَقَّةُ الْقَضَاءِ حَائِلاً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ.

وَمِنْهُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِلْكَافِرِ الَّذِي يُرْجَى إِسْلَامُهُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ لِتَمِيلَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَإِعْطَاءُ مَنْ أَسْلَمَ حَدِيثًا إِذَا كَانَ فِي إِعْطَائِهِ قُوَّةٌ لِلْإِسْلَامِ، أَوْ تَرْغِيبٌ لِنُظَرَائِهِ لِيُسْلِمُوا.

وَمِنْهُ تَوْرِيثُ الْكَافِرِ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ إِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ انْفَرَدُوا بِهِ؛ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.

الْمَشَاقُّ الْمُوجِبَةُ لِلتَّيْسِيرِ:

42- الْمَشَاقُّ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَشَاقَّ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا التَّكْلِيفُ غَالِبًا كَمَشَقَّةِ الْبَرْدِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَمَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَطُولِ النَّهَارِ، وَمَشَقَّةِ السَّفَرِ الَّتِي لَا انْفِكَاكَ لِلْحَجِّ وَالْجِهَادِ عَنْهَا غَالِبًا، وَمَشَقَّةِ أَلَمِ الْحُدُودِ كَرَجْمِ الزُّنَاةِ، وَقَتْلِ الْجُنَاةِ، وَقِتَالِ الْبُغَاةِ، فَلَا أَثَرَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ فِي إِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ الْوَاجِبِ، فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، أَيْ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِمَصَالِحَ يَعْلَمُهَا، فَيَكُونُ إِسْقَاطُهَا دَائِمًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُلَازِمَةِ إِلْغَاءً لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ.

وَالْقِسْمِ الثَّانِي: مَشَاقَّ يَنْفَكُّ عَنْهَا التَّكْلِيفُ غَالِبًا، فَمَا لَا يُطَاقُ مِنْهَا اقْتَضَى التَّخْفِيفَ بِالْإِسْقَاطِ أَوْ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً فَادِحَةً كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، أَوِ الْأَعْضَاءِ، فَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلتَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ، وَالْأَطْرَافِ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الدِّينِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلْفَوَاتِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِبَادَاتٍ يَفُوتُ بِهَا أَمْثَالُهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ خَفِيفَةً كَأَدْنَى وَجَعٍ فِي أُصْبُعٍ، أَوْ سُوءِ مِزَاجٍ خَفِيفٍ، فَهَذَا لَا أَثَرَ لَهُ، وَلَا يَتَرَخَّصُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَصَالِحِ الْعِبَادَاتِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا، وَالْمَشَقَّةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ مَا دَنَا مِنْهَا مِنَ الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ، أَوْ مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يُوجِبْهُ، كَحُمَّى خَفِيفَةٍ، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مِمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ غَالِبًا.وَلَا ضَبْطَ لِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ إِلاَّ بِالتَّقْرِيبِ.

قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَتَخْتَلِفُ الْمَشَاقُّ بِاخْتِلَافِ الْعِبَادَاتِ فِي اهْتِمَامِ الشَّرْعِ.فَمَا اشْتَدَّ اهْتِمَامُهُ بِهِ شَرَطَ فِي تَخْفِيفِهِ الْمَشَاقَّ الشَّدِيدَةَ أَوِ الْعَامَّةَ، وَمَا لَمْ يَهْتَمَّ بِهِ خَفَّفَهُ بِالْمَشَاقِّ الْخَفِيفَةِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ مَشَاقُّهُ مَعَ شَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لِتَكَرُّرِ مَشَاقِّهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى الْمَشَاقِّ الْعَامَّةِ الْكَثِيرَةِ الْوُقُوعِ.

وَمِنْ هُنَا جَاءَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ (الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ) وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ، يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُجْتَهِدُ وَالْمُفْتِي كَثِيرًا.

وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيّ: يَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَالِبُ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.

وَمِثْلُهَا قَاعِدَةُ (إِنَّ الْأَمْرَ إِذَا ضَاقَ اتَّسَعَ) وَالْمُرَادُ بِالِاتِّسَاعِ التَّرَخُّصُ عَنِ اتِّبَاعِ الْأَقْيِسَةِ وَطَرْدِ الْقَوَاعِدِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الضِّيقِ وَهُوَ الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ.

غَيْرَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ مُقَيَّدَتَانِ بِقَاعِدَةٍ أُخْرَى هِيَ أَنَّ (الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ) وَدَلِيلُهَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: «هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنَ الْأُصُولِ الشَّائِعَةِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُنْسَى مَا أُقِيمَتْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ».وَوَجْهُهَا أَنَّ الْعُسْرَ هُوَ سَبَبُ التَّخْفِيفِ، فَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ مَيْسُورًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْفِيفِ فِيهِ مَوْضِعٌ.

وَمِنْ فُرُوعِهَا: إِذَا كَانَ مَقْطُوعَ بَعْضِ الْأَطْرَافِ غَسَلَ الْبَاقِيَ جَزْمًا.وَالْقَادِرُ عَلَى سَتْرِ بَعْضِ عَوْرَتِهِ دُونَ بَعْضٍ سَتَرَ الْقَدْرَ الْمُمْكِنَ.وَالْقَادِرُ عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ دُونَ بَعْضٍ يَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ.وَمَنْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِي لِكُلِّ طَهَارَتِهِ اسْتَعْمَلَهُ.وَمَنْ وَجَدَ بَعْضَ صَاعٍ فِي الْفِطْرَةِ أَخْرَجَهُ.

وَهِيَ قَاعِدَةٌ غَالِبِيَّةٌ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهَا فُرُوعٌ مِنْهَا: وَاجِدُ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يُعْتِقُهَا، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى الْبَدَلِ.وَمِنْهَا: الْقَادِرُ عَلَى صَوْمِ بَعْضِ يَوْمٍ دُونَ كُلِّهِ لَا يَلْزَمُهُ إِمْسَاكُهُ، وَإِذَا وَجَدَ الشَّفِيعُ بَعْضَ الثَّمَنِ لَا يَأْخُذُ قِسْطَهُ مِنَ الشِّقْصِ.

تَعَارُضُ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالنَّصِّ:

43- ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي أَشْبَاهِهِ.

وَنَقَلَ عَنِ السَّرَخْسِيِّ قَوْلَهُ: «إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْبَلْوَى فِي مَوْضِعٍ لَا نَصَّ فِيهِ بِخِلَافِهِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ».ثُمَّ قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ ( بِحُرْمَةِ رَعْيِ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَقَطْعِهِ إِلاَّ الْإِذْخِرَ.

وَمِنْ فُرُوعِهَا أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ نُجَيْمٍ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِتَغْلِيظِ نَجَاسَةِ الْأَرْوَاثِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الرَّوْثَةِ: «إِنَّهَا رِكْسٌ» أَيْ نَجَسٌ، وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَهُ بِالْبَلْوَى فِي مَوْضِعِ النَّصِّ.

وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا؛ وَلِذَا خَالَفَ فِي الْفَرْعِ الْأَوَّلِ أَبُو يُوسُفَ، فَأَجَازَ رَعْيَ حَشِيشِ الْحَرَمِ؛ لِلْحَرَجِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْهُ.وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ رَعْيُهُ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ كَانَتْ تَدْخُلُ الْحَرَمَ فَتَكْثُرُ فِيهِ، فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَتْ تُسَدُّ أَفْوَاهُهَا؛ وَلِأَنَّ بِهِمْ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ، أَشْبَهَ قَطْعَ الْإِذْخِرِ.

أَنْوَاعُ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ:

44- أَوْرَدَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخْفِيفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الشَّرِيعَةِ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهَا غَيْرُهُ: فَالسِّتَّةُ هِيَ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: تَخْفِيفُ الْإِسْقَاطِ، فَيَسْقُطُ الْفِعْلُ عَنِ الْمُكَلَّفِ، كَإِسْقَاطِ الْجُمُعَةِ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، وَالْحَجِّ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، وَالْجِهَادِ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَمَقْطُوعِ الْيَدِ، وَكَإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: تَخْفِيفُ تَنْقِيصٍ، كَقَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ وَالِاكْتِفَاءِ بِرَكْعَتَيْنِ لِدَفْعِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، وَتَنْقِيصِ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرِيضُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَوَاتِ عَنِ الْحَدِّ الْأَدْنَى الْمُجْزِئِ لِغَيْرِ الْمَرِيضِ، كَتَنْقِيصِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِلَى الْحَدِّ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخْفِيفُ إِبْدَالٍ، كَإِجَازَةِ الشَّارِعِ لِلْمَرِيضِ إِبْدَالَ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ بِالتَّيَمُّمِ، وَإِبْدَالَ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ بِالْقُعُودِ، أَوِ الِاضْطِجَاعِ، وَإِبْدَالَ الصِّيَامِ لِلشَّيْخِ الْفَانِي بِالْإِطْعَامِ، وَإِبْدَالَ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ بِالْكَفَّارَاتِ عِنْدَ قِيَامِ الْأَعْذَارِ.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: تَخْفِيفُ تَقْدِيمٍ، كَإِجَازَةِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ فِي الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ وَالْحَاجِّ، وَإِجَازَةِ تَعْجِيلِ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عَنِ الْحَوْلِ لِدَاعٍ، وَتَقْدِيمِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ قَبْلَ يَوْمِ الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ، وَأَجَازَ الْبَعْضُ تَقْدِيمَهَا لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (رطوبة)

رُطُوبَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الرُّطُوبَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ رَطُبَ، تَقُولُ رَطُبَ الشَّيْءُ بِالضَّمِّ إِذَا نَدِيَ، وَهُوَ خِلَافُ الْيَابِسِ الْجَافِّ، وَالرُّطُوبَةُ بِمَعْنَى الْبَلَلِ وَالنَّدَاوَةِ.

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَى الرُّطُوبَةِ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الرُّطُوبَةِ وَالْبَلَلِ.قَالَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ:...لَوْ قَطَعَ بِالسَّيْفِ الْمُتَنَجِّسِ وَنَحْوِهِ بَعْدَ مَسْحِهِ قَبْلَ غَسْلِهِ فَمَا فِيهِ بَلَلٌ كَبِطِّيخٍ وَنَحْوِهِ نَجَّسَهُ لِمُلَاقَاةِ الْبَلَلِ لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَطَعَهُ بِهِ رَطْبًا لَا بَلَلَ فِيهِ كَجُبْنٍ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ بِهِ يَابِسًا؛ لِعَدَمِ تَعَدِّي النَّجَاسَةِ إِلَيْهِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أ- رُطُوبَةُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ:

2- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ مَاءٌ أَبْيَضُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَذْيِ وَالْعَرَقِ.

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَتِهَا، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ رُطُوبَةَ الْوَلَدِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ طَاهِرَةٌ.

وَمَحَلُّ الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَمٌ، وَلَمْ يُخَالِطْ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ مَذْيٌ أَوْ مَنِيٌّ مِنَ الرَّجُلِ، أَوِ الْمَرْأَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ تَنْجِيسُ ذَكَرِ الْوَاطِئِ أَوْ مَا يَدْخُلُ مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ أُصْبُعٍ.

وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: طَاهِرَةٍ قَطْعًا، وَهِيَ مَا تَكُونُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَظْهَرُ عِنْدَ جُلُوسِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْغُسْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ، وَنَجِسَةٍ قَطْعًا وَهِيَ الرُّطُوبَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ بَاطِنِ الْفَرْجِ، وَهُوَ مَا وَرَاءَ ذَكَرِ الْمُجَامِعِ، وَطَاهِرَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ وَهِيَ مَا يَصِلُهُ ذَكَرُ الْمُجَامِعِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (فَرْج).

ب- رُطُوبَةُ فَرْجِ الْحَيَوَانِ:

3- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ السَّخْلَةِ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ أُمِّهَا وَكَذَا الْبَيْضَةُ، فَلَا يَتَنَجَّسُ بِهَا الثَّوْبُ وَلَا الْمَاءُ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ، وَإِنْ كَرِهُوا التَّوَضُّؤَ بِهِ لِلِاخْتِلَافِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رُطُوبَةُ الْفَرْجِ طَاهِرَةٌ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ وَلَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ.

وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ طَهَارَةَ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْحَيَوَانِ بِالْمُبَاحِ الْأَكْلِ فَقَطْ، وَقَيَّدُوهُ بِقَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَلاَّ يَتَغَذَّى عَلَى نَجَسٍ، وَثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَحِيضُ كَالْإِبِلِ، وَإِلاَّ كَانَتْ نَجِسَةً عَقِبَ حَيْضِهِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَطَاهِرَةٌ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (فَرْج، نَجَاسَة).

ج- مُلَاقِي رُطُوبَةِ النَّجَاسَةِ:

4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مُلَاقِيَ رُطُوبَةِ النَّجَاسَةِ لَا يَنْجُسُ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا لُفَّ طَاهِرٌ جَافٌّ فِي نَجَسٍ مُبْتَلٍّ وَاكْتَسَبَ الطَّاهِرُ مِنْهُ الرُّطُوبَةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ فَقِيلَ: يَتَنَجَّسُ الطَّاهِرُ، وَاخْتَارَ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ إِنْ كَانَ الطَّاهِرُ بِحَيْثُ لَا يَسِيلُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَتَقَاطَرُ لَوْ عُصِرَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ النَّجِسُ الرَّطْبُ هُوَ الَّذِي لَا يَتَقَاطَرُ بِعَصْرِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ مُلَاقِي رُطُوبَةِ النَّجَاسَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَجَاسَة).

د- مَسَائِلُ فِي الِاسْتِجْمَارِ:

5- اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ جَافًّا لَا رُطُوبَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ غَيْرَ الْجَافِّ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِنْقَاءُ.

كَمَا شَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِجَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ بِالْحَجَرِ أَلاَّ يَجِفَّ الْغَائِطُ بِأَنْ يَكُونَ رَطْبًا، فَإِنْ جَفَّ تَعَيَّنَ الْمَاءُ وَلَا يُجْزِيهِ الْحَجَرُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِنْجَاء).

هـ- الْمَنِيُّ الرَّطْبُ:

6- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَنِيِّ الرَّطْبِ عَنِ الْمَنِيِّ الْيَابِسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ الْمَنِيِّ الْيَابِسِ يَطْهُرُ بِفَرْكِهِ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ أَثَرِهِ، فَإِنْ كَانَ رَطْبًا فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ وَلَا يُجْزِئُ الْفَرْكُ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ إِلاَّ بِالْغَسْلِ فِيمَا لَا يَفْسُدُ بِالْغَسْلِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسَنُّ غَسْلُ الْمَنِيِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ رَطْبًا أَوْ جَافًّا.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُسَنُّ غَسْلُهُ رَطْبًا وَفَرْكُهُ جَافًّا؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي الْمَنِيِّ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَرْكًا، فَيُصَلِّي فِيهِ» عِلْمًا بِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِطَهَارَتِهِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَجَاسَة، وَمَنِيّ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-موسوعة الفقه الكويتية (زبل)

زِبْل

التَّعْرِيفُ:

1- الزِّبْلُ لُغَةً: السِّرْقِينُ، وَهُمَا فَضْلَةُ الْحَيَوَانِ الْخَارِجَةُ مِنَ الدُّبُرِ، وَالْمَزْبَلَةُ مَكَانُ طَرْحِ الزِّبْلِ وَمَوْضِعُهُ، وَالْجَمْعُ مَزَابِلُ.وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِنَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَفَسَّرَ الْحَصْكَفِيُّ وَالْبُهُوتِيُّ السِّرْقِينَ بِالزِّبْلِ، وَفِي الشُّرُنْبُلَالِيَّةِ: هُوَ رَجِيعُ (فَضْلَةُ) مَا سِوَى الْإِنْسَانِ.

وَالسِّرْقِينُ أَصْلُهَا: (سِرْكِينُ) بِالْكَافِ فَعُرِّبَتْ إِلَى الْجِيمِ وَالْقَافِ، فَيُقَالُ سِرْجِينٌ وَسِرْقِينٌ، وَالرَّوْثُ وَالسِّرْقِينُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ.وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ السِّرْقِينَ الرَّوْثُ.وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ السِّرْقِينَ هُوَ رَجِيعُ مَا سِوَى الْإِنْسَانِ.وَيَخْتَلِفُ الزِّبْلُ عَنْ كُلٍّ مِنَ الرَّوْثِ، وَالْخِثْيِ، وَالْبَعْرِ، وَالْخُرْءِ، وَالنَّجْوِ، وَالْعَذِرَةِ.

فَالرَّوْثُ لِلْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَالْخِثْيُ لِلْبَقَرِ وَالْفِيلِ، وَالْبَعْرُ لِلْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَالذَّرْقُ لِلطُّيُورِ، وَالنَّجْوُ لِلْكَلْبِ، وَالْعَذِرَةُ لِلْإِنْسَانِ، وَالْخُرْءُ لِلطَّيْرِ وَالْكَلْبِ وَالْجُرَذِ وَالْإِنْسَانِ.

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَكَانَ بَعْضٍ تَوَسُّعًا.

حُكْمُ الزِّبْلِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَهَارَتِهِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَوْث).

الصَّلَاةُ فِي الْمَزْبَلَةِ:

2- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِي الْمَزْبَلَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِهَا نَجَاسَةٌ.

وَجَازَتِ الصَّلَاةُ بِمَزْبَلَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا أُمِنَتْ مِنَ النَّجِسِ- بِأَنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ طَهَارَتَهَا- أَمَّا إِذَا تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهَا أَوْ ظُنَّتْ فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَإِذَا صَلَّى أَعَادَ أَبَدًا، وَإِنْ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الرَّاجِحِ بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ الْأَصْلِ عَلَى الْغَالِبِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُعِيدُ أَبَدًا تَرْجِيحًا لِلْغَالِبِ عَلَى الْأَصْلِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَزْبَلَةِ وَلَوْ طَاهِرَةً.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: صَلَاة).

الصَّلَاةُ بِالثَّوْبِ الْمُصَابِ بِالزِّبْلِ:

3- الزِّبْلُ مِنْهُ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كَذَرْقِ الطُّيُورِ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَفَضْلَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُؤْكَلُ لَحْمُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْءٌ مِنْهَا بَدَنَ الْإِنْسَانِ أَوْ ثَوْبَهُ لَا يُنَجِّسُهُ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَهُمْ.

أَمَّا الزِّبْلُ النَّجِسُ، كَفَضْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، وَكَذَلِكَ فَضْلَةُ الْحَيَوَانَاتِ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهَا فَفِيهِ مَا يَأْتِي مِنَ التَّفْصِيلِ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النَّجَاسَةُ الْغَلِيظَةُ يُعْفَى عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ قَدْرَ الدِّرْهَمِ فَأَقَلَّ، وَالْخَفِيفَةُ يُعْفَى عَنْهَا قَدْرَ رُبُعِ الثَّوْبِ فَأَقَلَّ، وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا (ر: نَجَاسَة).

فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنَ الرَّوْثِ أَوْ مِنْ أَخْثَاءِ الْبَقَرِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «هَذَا رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ» لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ، فَيَكُونُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُجْزِئُهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَفْحُشَ، أَيْ يَصِلَ رُبُعَ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا فَيَثْبُتُ التَّخْفِيفُ فِي نَجَاسَتِهَا.وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً لِعَدَمِ خُلُوِّ الطُّرُقِ فِيهِ.

وَإِنْ أَصَابَهُ خُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالْحِدَأَةِ وَكَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ جَازَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهَا تَذْرِقُ مِنَ الْهَوَاءِ وَالتَّحَامِي عَنْهَا مُتَعَذِّرٌ فَتَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّخْفِيفَ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا لِعَدَمِ الْمُخَالَطَةِ.

اقْتِنَاءُ الزِّبْلِ وَاسْتِعْمَالُهُ.

4- الزِّبْلُ الطَّاهِرُ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الزِّرَاعَةِ وَالتَّسْخِينِ وَإِنْضَاجِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهَا.وَاخْتَلَفُوا فِي الزِّبْلِ النَّجِسِ.فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي تَنْمِيَةِ الزَّرْعِ وَإِنْضَاجِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِمَا.

كَذَلِكَ يَجُوزُ الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الزِّبْلِ وَاقْتِنَاؤُهُ لِلزِّرَاعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ.

وَقَالُوا: الزَّرْعُ النَّابِتُ عَلَى الزِّبْلِ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، لَكِنْ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا غُسِلَ طَهُرَ، وَإِذَا سَنْبَلَ فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ.

وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِنَجِسٍ، لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْهُ أَشْيَاءَ مِنْهَا: جَعْلُ عَذِرَةٍ بِمَاءِ سَقْيِ الزَّرْعِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْخُبْزَ الْمَخْبُوزَ عَلَى نَارِ الرَّوْثِ النَّجِسِ طَاهِرٌ وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّمَادِ.

وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى كَلَامٍ فِي اسْتِعْمَالِ الزِّبْلِ، لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الزِّبْلِ النَّجِسِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ.

بَيْعُ الزِّبْلِ:

5- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ بَيْعِ الزِّبْلِ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ.

وَذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي بَيْعِ الزِّبْلِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ لِلْمَالِكِيَّةِ:

أ- الْمَنْعُ، وَهُوَ قِيَاسُ ابْنِ الْقَاسِمِ لِلزِّبْلِ عَلَى الْعَذِرَةِ فِي الْمَنْعِ عِنْدَ مَالِكٍ.

ب- الْجَوَازُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِابْنِ الْقَاسِمِ.

ج- الْجَوَازُ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ.وَتُزَادُ الْكَرَاهَةُ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ وَفَهْمِ أَبِي الْحَسَنِ.هَذَا وَالْعَمَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الزِّبْلِ دُونَ الْعَذِرَةِ لِلضَّرُورَةِ.

قَالَ الْحَطَّابُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ هُوَ الْجَارِي عَلَى أَصْلِ الْمَذْهَبِ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ النَّجَاسَاتِ، وَالْقَوْلُ بِالْجَوَازِ لِمُرَاعَاةِ الضَّرُورَةِ.وَمَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ، وَرَأَى أَنَّ أَخْذَ الثَّمَنِ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ رَأَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْجَوَازِ إِنَّمَا هِيَ الِاضْطِرَارُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا بِوُجُودِ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بَيْعُ زِبْلِ الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ وَغَيْرِهَا بَاطِلٌ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ».وَلِأَنَّ الزِّبْلَ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْعَذِرَةِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ صِحَّةِ بَيْعِ الزِّبْلِ النَّجِسِ بِخِلَافِ الطَّاهِرِ مِنْهُ، كَرَوْثِ الْحَمَامِ، وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نَجَاسَة، وَبَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (سماد)

سَمَاد

التَّعْرِيفُ:

1- السَّمَادُ مَا تُسَمَّدُ بِهِ الْأَرْضُ، مِنْ سَمَّدَ الْأَرْضَ؛ أَيْ أَصْلَحَهَا بِالسَّمَادِ.

وَتَسْمِيدُ الْأَرْضِ: أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا السَّمَادَ.

وَالسَّمَادُ مَا يُطْرَحُ فِي أُصُولِ الزَّرْعِ وَالْخُضَرِ مِنْ تُرَابٍ وَسِرْجِينٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِيَجُودَ نَبَاتُهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أ- الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ السَّمَادِ وَنَجَاسَتِهِ:

2- الْأَسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ رَجِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا مِنْ غَيْرِ الطُّيُورِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَتِهَا.

أَمَّا الْأَسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، وَهِيَ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ كَالشَّاهِينِ وَالْبَازِي، فَهِيَ نَجِسَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى طَهَارَتِهَا.

أَمَّا الْأَسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ رَجِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُؤْكَلُ لَحْمُهَا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا إِلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ مِنَ الطُّيُورِ أَوْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ طَهَارَةَ سَمَادِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِعَدَمِ أَكْلِهِ لِلنَّجَاسَاتِ، فَإِنْ أَكَلَ نَجِسًا فَسَمَادُهُ نَجِسٌ عِنْدَهُمْ أَيْضًا.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ رَجِيعَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، سَوَاءٌ الْمَأْكُولَةُ لُحُومُهَا أَمْ غَيْرُ الْمَأْكُولَةِ مِنْ طُيُورٍ أَوْ غَيْرِهَا نَجِسٌ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ مَا عَدَا زُفَرَ وَمُحَمَّدًا إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا ذَرْقَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَعَدُّوهُ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ.

وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ فِي الْمَسْأَلَةِ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (رَوْث، عَذِرَة، زِبْل، نَجَاسَة).

حُكْمُ التَّسْمِيدِ بِالنَّجَاسَةِ وَالْأَكْلِ مِنْ ثِمَارِ الْأَشْجَارِ الْمُسَمَّدَةِ بِهَا:

3- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الطَّاهِرِ الزَّرْعَ الَّذِي سُقِيَ بِنَجَسٍ أَوْ نَبَتَ مِنْ بَذْرٍ نَجِسٍ وَظَاهِرُهُ نَجَسٌ فَيُغْسَلُ قَبْلَ أَكْلِهِ وَإِذَا سَنْبَلَ فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ قَطْعًا وَلَا حَاجَةَ إِلَى غَسْلِهَا، وَهَكَذَا الْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ وَشَبِيهُهُمَا يَكُونُ طَاهِرًا وَلَا حَاجَةَ إِلَى غَسْلِهِ.وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ رَوْثَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَمْ يُجِيزُوا التَّسْمِيدَ بِأَيٍّ مِنْهُمَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسْمِيدُ بِالنَّجَاسَاتِ، وَالزُّرُوعُ الْمَسْقِيَّةُ بِالنَّجَاسَاتِ لَا تَحْرُمُ وَلَا تُكْرَهُ.

وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ تَحْرُمُ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: كُنَّا نُكْرِي أَرَاضِيَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَدْمُلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ وَلِأَنَّهُ تُتْرَكُ أَجْزَاءُ النَّبَاتِ بِالنَّجَاسَةِ، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ النَّجِسَ عِنْدَهُمْ.وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُمُ وَلَا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيلُ فِي بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ لَحْمًا وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- يَدْمُلُ أَرْضَهُ بِالْعَرَّةِ وَيَقُولُ: مِكْتَلُ عَرَّةٍ مِكْتَلُ بُرَّةٍ وَالْعَرَّةُ عَذِرَةُ النَّاسِ.ا هـ.

ب- بَيْعُ السَّمَادِ:

4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ السَّمَادِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمَأْكُولَةِ لُحُومُهَا أَمْ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَرِهُوا بَيْعَ الْعَذِرَةِ (رَجِيعِ بَنِي آدَمَ) خَالِصَةً بِخِلَافِ مَا خُلِطَ مِنْهَا بِالتُّرَابِ أَوِ الرَّمَادِ فَلَا كَرَاهَةَ.

وَفَصَّلَ (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا: بِجَوَازِ بَيْعِ الزِّبْلِ وَالسِّرْقِينِ وَالْأَسْمِدَةِ الطَّاهِرَةِ كَخُرْءِ الْحَمَامِ، وَخِثْيِ الْبَقَرِ وَبَعْرِ الْإِبِلِ وَنَحْوِهَا.

أَمَّا الْأَسْمِدَةُ النَّجِسَةُ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا حَيْثُ أَوْرَدُوا فِي بَابِ الْبَيْعِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا هُوَ نَجَاسَةٌ أَصْلِيَّةٌ أَوْ لَا يُمْكِنُ طَهَارَتُهُ كَزِبْلٍ مِنْ غَيْرِ مُبَاحٍ وَذَلِكَ لِاشْتِرَاطِهِمُ الطَّهَارَةَ فِي الْبَيْعِ، لَكِنِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الزِّبْلِ (الْأَسْمِدَةِ) غَيْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ عَذِرَةِ بَنِي آدَمَ وَذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْأَسْمِدَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ نَجَسٌ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ النَّجَسِ سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ تَطْهِيرُهُ كَسِرْجِينٍ وَأَسْمِدَةٍ وَغَيْرِهَا. (ر: نَجَاسَة).

ج- السَّمَادُ فِي الْمُزَارَعَةِ أَوِ الْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِهَا:

5- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الزِّرَاعَةِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكُ يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ تَسْمِيدُ الْأَرْضِ بِالزِّبْلِ، فَشِرَاءُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَمَلِ فَجَرَى مَجْرَى مَا يُلَقَّحُ بِهِ، وَتَفْرِيقُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْعَامِلِ كَالتَّلْقِيحِ.فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ تَأْكِيدًا، أَمَّا إِنْ شُرِطَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْءٌ مِمَّا يَلْزَمُ الْآخَرَ كَاشْتِرَاطِ شِرَاءِ السَّمَادِ عَلَى الْعَامِلِ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَأَفْسَدَهُ كَالْمُضَارَبَةِ إِذَا شُرِطَ الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ قَوْلَهُمْ: كُلُّ شَرْطٍ يَنْتَفِعُ بِهِ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يُفْسِدُهَا كَطَرْحِ السِّرْقِينِ (السَّمَادِ) فِي الْأَرْضِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-موسوعة الفقه الكويتية (شعر وصوف ووبر)

شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الشَّعْرُ لُغَةً: نَبْتَةُ الْجِسْمِ مِمَّا لَيْسَ بِصُوفٍ وَلَا وَبَرٍ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ الشَّعْرُ زَوَائِدُ خَيْطِيَّةٌ تَظْهَرُ عَلَى جِلْدِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنَ الثَّدْيِيَّاتِ وَيُقَابِلُهُ الرِّيشُ فِي الطُّيُورِ وَالْخَرَاشِيفُ فِي الزَّوَاحِفِ، وَالْقُشُورُ فِي الْأَسْمَاكِ، وَجَمْعُهُ أَشْعَارٌ وَشُعُورٌ.وَيُقَالُ: رَجُلٌ أَشْعَرُ وَشَعِرٌ وَشَعْرَانِيٌّ إِذَا كَانَ كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ.وَالصُّوفُ مَا يَكُونُ لِلضَّأْنِ وَمَا أَشْبَهَهُ أَخَصُّ مِنْهُ، وَالصُّوفُ لِلضَّأْنِ، كَالشَّعْرِ لِلْمَعْزِ، وَالْوَبَرِ لِلْإِبِلِ.

وَالْوَبَرُ مَا يَنْبُتُ عَلَى جُلُودِ الْإِبِلِ وَالْأَرَانِبِ وَنَحْوِهَا، وَالْجَمْعُ أَوْبَارٌ، وَيُقَالُ جَمَلٌ وَبِرٌ وَأَوْبَرُ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْوَبَرِ، وَالنَّاقَةُ وَبِرَةٌ وَوَبْرَاءُ.

وَالرِّيشُ مَا يَكُونُ عَلَى أَجْسَامِ الطُّيُورِ وَأَجْنِحَتِهَا.وَقَدْ يَخُصُّ الْجُنَاحَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِهِ.وَالْفَرْوُ: جُلُودُ بَعْضِ الْحَيَوَانِ كَالدِّبَبَةِ وَالثَّعَالِبِ تُدْبَغُ وَيُتَّخَذُ مِنْهَا مَلَابِسُ لِلدِّفْءِ وَلِلزِّينَةِ وَجَمْعُهُ فِرَاءٌ.

حُكْمُ شَعْرِ الْإِنْسَانِ:

2- شَعْرُ الْإِنْسَانِ طَاهِرٌ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الشَّعْرُ مُتَّصِلًا أَمْ مُنْفَصِلًا، وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَتِهِ بِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَاوَلَ أَبَا طَلْحَةَ شَعْرَهُ فَقَسَمَهُ بَيْنَ النَّاسِ».

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْآدَمِيِّ بَيْعًا وَاسْتِعْمَالًا؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}.

فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُهَانًا مُبْتَذَلًا.

شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ:

3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ إِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً حَالَ الْحَيَاةِ.

وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَوْلِ بِطَهَارَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ حَالَ الْحَيَاةِ، وَهَذَا إِذَا جُزَّ جَزًّا وَلَمْ يُنْتَفْ.فَإِنْ نُتِفَ فَإِنَّ أُصُولَهُ نَجِسَةٌ، وَأَعْلَاهُ طَاهِرٌ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}.

وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِلِامْتِنَانِ، فَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ.

وَبِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها-: «أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ حِينَ مَرَّ بِهَا: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا».- وَفِي لَفْظٍ- «إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ لَحْمُهَا وَرُخِّصَ لَكُمْ فِي مَسْكِهَا» أَيْ جِلْدِهَا.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي الْمَيْتَةِ حَالَ الْحَيَاةِ الطَّهَارَةُ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ الْمَوْتُ النَّجَاسَةَ فِيمَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ، وَالشُّعُورُ لَا تَحُلُّهَا الْحَيَاةُ.

فَلَا يَحُلُّهَا الْمَوْتُ، وَإِذَا لَمْ يَحُلَّهَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ الْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ الْمَعْهُودِ لِعَدَمِ الْمُزِيلِ.

فَالْأَصْلُ فِي طَهَارَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ أَنَّ مَا لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ- لِأَنَّهُ لَا يُحِسُّ وَلَا يَتَأَلَّمُ- لَا تَلْحَقُهُ النَّجَاسَةُ بِالْمَوْتِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ إِلاَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ وَدُبِغَ، وَكَذَلِكَ الشَّعْرُ الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ وَهُوَ حَيٌّ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}.وَهُوَ عَامٌّ فِي الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ.وَالْمَيْتَةُ اسْمٌ لِمَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ بِدُونِ تَذْكِيَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَعَامَّةٌ فِي الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ رَاجِحَةٌ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى وَهُوَ قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}.لِأَنَّ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَرَدَ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْآيَةُ الْأُولَى وَرَدَتْ لِلِامْتِنَانِ.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ يَنْجُسُ شَعْرُهُ وَصُوفُهُ.

شَعْرُ الْمَيْتِ:

أَوَّلًا: شَعْرُ رَأْسِ الرَّجُلِ الْمَيْتِ

4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَيْتِ وَلَا تَسْرِيحِهِ، لِأَنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ يَكُونُ لِلزِّينَةِ أَوْ لِلنُّسُكِ وَالْمَيْتُ لَا نُسُكَ عَلَيْهِ وَلَا يُزَيَّنُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا مَرَّتْ بِقَوْمٍ يُسَرِّحُونَ شَعْرَ مَيْتٍ فَنَهَتْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَتْ: عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ.أَيْ: لَا تُسَرِّحُوا رَأْسَهُ بِالْمُشْطِ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّعْرَ وَيَنْتِفُهُ، وَعَبَّرَتْ بِتَنُصُّونَ وَهُوَ الْأَخْذُ بِالنَّاصِيَةِ، أَيْ مِنْهَا، تَنْفِيرًا عَنْهُ وَيَدُلُّ لِعَدَمِ الْجَوَازِ الْقِيَاسُ عَلَى الْخِتَانِ حَيْثُ يُخْتَنُ الْحَيُّ وَلَا يُخْتَنُ الْمَيِّتُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَيْتِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمُ الْجَوَازَ بِمَا إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْمَيِّتِ حَلْقُهُ أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يُعْتَادُ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ ذَا جَمَّةٍ فَلَا يُحْلَقُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ الشَّعْرَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ، وَأَجْزَاؤُهُ مُحْتَرَمَةٌ؛ فَلَا تُنْتَهَكُ بِهَذَا، وَلَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ فِي هَذَا شَيْءٌ فَكُرِهَ فِعْلُهُ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ، وَفِي اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (شَارِبٌ، وَلِحْيَةٌ).

ثَانِيًا: شَعْرُ رَأْسِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ:

5- اتَّفَقَ.جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَ ضَفَائِرَ، قَرْنَيْهَا وَنَاصِيَتَهَا، وَيُسْدَلُ خَلْفَهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُجْعَلُ عَلَى صَدْرِهَا وَيُجْعَلُ ضَفِيرَتَيْنِ فَوْقَ الْقَمِيصِ تَحْتَ اللِّفَافَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ حَيَاتِهَا يُجْعَلُ وَرَاءَ ظَهْرِهَا لِلزِّينَةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ رُبَّمَا انْتَشَرَ الْكَفَنُ؛ فَيُجْعَلُ عَلَى صَدْرِهَا.

وَدَلِيلُ اسْتِحْبَابِ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ مَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ- رضي الله عنها- «أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، نَقَضْنَهُ ثُمَّ غَسَلْنَهُ ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ»، وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «أَنَّهُنَّ أَلْقَيْنَهَا خَلْفَهَا».

وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُفْعَلَ فِي الْمَيِّتِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّرْعِ مُحَقَّقٍ، فَالظَّاهِرُ إِطْلَاعُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَا فَعَلَتْ وَتَقْرِيرُهُ لَهُ.

وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ».

ثَالِثًا: شَعْرُ سَائِرِ الْبَدَنِ مِنَ الْمَيِّتِ كَاللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَشَعْرِ الْإِبْطِ وَالْعَانَةِ:

6- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ إِلَى كَرَاهَةِ حَلْقِ غَيْرِ مَا يَحْرُمُ حَلْقُهُ حَالَ الْحَيَاةِ.وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ،

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ.وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي كَرَاهَةِ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّعُورَ إِذَا أُزِيلَتْ أَنَّهَا تُصَرُّ وَتُضَمُّ مَعَ الْمَيِّتِ فِي كَفَنِهِ وَيُدْفَنُ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ آخَرَ: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ لَا تُدْفَنَ مَعَهُ بَلْ تُوَارَى فِي الْأَرْضِ فِي غَيْرِ الْقَبْرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ وَكَذَا تَحْرِيمُ حَلْقِ شَعْرِ الْعَانَةِ مِنَ الْمَيِّتِ لِمَا فِيهِ مِنْ لَمْسِ الْعَوْرَةِ وَرُبَّمَا احْتَاجَ إِلَى نَظَرِهَا، وَالنَّظَرُ مُحَرَّمٌ فَلَا يُرْتَكَبُ مِنْ أَجْلِ مَنْدُوبٍ، وَيُسَنُّ أَخْذُ شَعْرِ الْإِبِطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ.

مَسْحُ الشَّعْرِ فِي الْوُضُوءِ:

7- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ وَحْدَهُ مِنْ مَنَابِتِ الشَّعْرِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْمُقَدَّمِ إِلَى نَقْرَةِ الْقَفَا مَعَ مَسْحِ شَعْرِ صُدْغَيْهِ فَمَا فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاشِئِ مِنَ الْوَجْهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُمْسَحَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ وَلَوْ قَلَّ فَلَا يَتَقَدَّرُ وُجُوبُهُ بِشَيْءٍ بَلْ يَكْفِي فِيهِ مَا يُمْكِنُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْمَسْحِ هُوَ مَسْحُ مِقْدَارِ النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبُعُ الرَّأْسِ لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ وَبَيَانُ الْأَدِلَّةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ).

نَقْضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الشَّعْرِ:

8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُنْقَضُ بِلَمْسِ الشَّعْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ ذَلِكَ لِلشَّهْوَةِ غَالِبًا، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ اللَّذَّةُ وَتَثُورُ الشَّهْوَةُ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ لِلْإِحْسَاسِ.وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ لَمْسِ الشَّعْرِ وَالسِّنِّ وَالظُّفُرِ

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُقَابِلِ الْأَصَحِّ: يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الرَّجُلِ بِلَمْسِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الشَّعْرَ لَهُ حُكْمُ الْبَدَنِ فِي الْحِلِّ بِالنِّكَاحِ وَوُجُوبِ غَسْلِهِ بِالْجَنَابَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْتَقَضُ بِلَمْسِ الشَّعْرِ لِمَنْ يَلْتَذُّ بِهِ إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى.وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إِذَا كَانَ اللَّمْسُ بِحَائِلٍ خَفِيفٍ أَوْ كَثِيفٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ نَقْصِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الشَّعْرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي عَدَمِ النَّقْضِ بِالْمَسِّ مُطْلَقًا مَا لَمْ يُنْزِلْ.

غَسْلُ شَعْرِ الرَّأْسِ مِنَ الْجِنَابَةِ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ شَعْرِ الرَّأْسِ بِالْمَاءِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مُسْتَرْسِلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ» وَعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ» قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي، وَكَانَ يَجُزُّ شَعْرَهُ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَقْضِ ضَفَائِرِ الْمَرْأَةِ فِي الْغُسْلِ:

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ نَقْضُ الضُّفُرِ إِنْ كَانَ الْمَاءُ يَصِلُ إِلَى أُصُولِ شَعْرِهَا مِنْ غَيْرِ نَقْضٍ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلاَّ بِالنَّقْضِ لَزِمَهَا نَقْضُهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَغُسْلُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ «أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضُفُرَ رَأْسِي؛ أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضِ وَلِلْجَنَابَةِ؟ قَالَ: لَا.إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ».وَهُوَ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ- بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ: إِفْرَادِ ذِكْرِ الْجَنَابَةِ وَإِفْرَادِ ذِكْرِ الْحَيْضِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى أُصُولِ الشَّعْرِ بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ مِنْ وُجُوبِ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى أُصُولِ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ نَقْضِ الْمَرْأَةِ شَعْرَهَا فِي غُسْلِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.وَلَا يَجِبُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ إِذَا رَوَتْ أُصُولَ شَعْرِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مَشْدُودًا بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ تَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ أَوْ إِلَى بَاطِنِ الشَّعْرِ، وَالنَّقْضُ مُطْلَقًا مُسْتَحَبٌّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: إِذَا كُنْتِ حَائِضًا خُذِي مَاءَكِ وَسِدْرَكِ وَامْتَشِطِي».وَلَا يَكُونُ الْمَشْطُ إِلاَّ فِي شَعْرٍ غَيْرِ مَضْفُورٍ.وَلِلْبُخَارِيِّ: «انْفُضِي شَعْرَكِ وَامْتَشِطِي».

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «انْفُضِي شَعْرَكِ وَاغْتَسِلِي»

لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ نَقْضِ الشَّعْرِ لِتَحَقُّقِ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ وَعُفِيَ عَنْهُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ فَيَشُقُّ نَقْضُ الشَّعْرِ.

حَلْقُ شَعْرِ الْمَوْلُودِ:

10- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اسْتِحْبَابِ حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ السَّابِعِ، وَالتَّصَدُّقِ بِزِنَةِ شَعْرِهِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِضَّةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ تَحَرَّى وَتَصَدَّقَ بِهِ.وَيَكُونُ الْحَلْقُ بَعْدَ ذَبْحِ الْعَقِيقَةِ.

كَمَا وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِفَاطِمَةَ لَمَّا وَلَدَتِ الْحَسَنَ: احْلِقِي رَأْسَهُ وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْأَوْفَاضِ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الْمَوْلُودِ مُبَاحٌ، لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلَا وَاجِبٍ، وَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ الْعَقِيقَةَ مُبَاحَةٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «سُئِلَ عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ.مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَنْسُكْ عَنْهُ.عَنِ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ مُكَافَأَتَاهُ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةً» وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ الْعَقِيقَةِ سُنَّةً لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- عَلَّقَ الْعَقَّ بِالْمَشِيئَةِ وَهَذَا أَمَارَةُ الْإِبَاحَةِ.

وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّهَا نُسِخَتْ بِالْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَقِيقَةَ كَانَتْ مِنَ الْفَضَائِلِ فَعَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَتْ بِالْأُضْحِيَّةِ، فَمَتَى نُسِخَ الْفَضْلُ لَا يَبْقَى إِلاَّ الْكَرَاهَةُ.

النَّظَرُ إِلَى شَعْرِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى شَعْرِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهَا إِبْدَاؤُهُ لِلْأَجَانِبِ عَنْهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا.

بَيْعُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ:

12- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «نُهِيَ أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعِمَ وَلَا صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ وَلَا لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ».

وَلِأَنَّ الصُّوفَ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ فَلَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَأَعْضَائِهِ، وَلِأَنَّ الصُّوفَ عَلَى الظَّهْرِ قَبْلَ الْجَزِّ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الْحَيَوَانِ لِقِيَامِهِ بِهِ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ.وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الشَّاةِ فَلَا يُفْرَدُ بِالْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَلَ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ بِالْجَزَزِ تَحَرِّيًا، وَبِالْوَزْنِ مَعَ رُؤْيَةِ الْغَنَمِ عَلَى أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ الْجَزُّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ.

السَّلَمُ فِي الصُّوفِ:

13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ سَلَمًا بِالْوَزْنِ لَا بِالْجَزَزِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْجَزَزِ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ- عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ-

وَيَجِبُ بَيَانُ نَوْعِ الصُّوفِ وَأَصْلِهِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى لِأَنَّ صُوفَ الْإِنَاثِ أَنْعَمُ، وَيَذْكُرُ لَوْنَهُ وَوَقْتَهُ هَلْ هُوَ خَرِيفِيٌّ أَوْ رَبِيعِيٌّ، وَطُولَهُ وَقِصَرَهُ وَوَزْنَهُ وَلَا يَقْبَلُ إِلاَّ مُنَقًّى مِنَ الشَّعْرِ وَنَحْوِهِ، كَالشَّوْكِ وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ غَسْلِهِ.

وَصْلُ الشَّعْرِ:

14- يَحْرُمُ وَصْلُ شَعْرِ الْمَرْأَةِ بِشَعْرٍ نَجِسٍ أَوْ بِشَعْرِ آدَمِيٍّ.سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُزَوَّجَةُ وَغَيْرُهَا وَسَوَاءٌ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ».

وَاللَّعْنَةُ عَلَى الشَّيْءِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَعِلَّةُ التَّحْرِيمِ مَا فِيهِ مِنَ التَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ بِتَغَيُّرِ خَلْقِ اللَّهِ.

وَالْوَاصِلَةُ الَّتِي تَصِلُ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَالَّتِي يُوصَلُ شَعْرُهَا بِشَعْرٍ آخَرَ زُورًا، وَالْمُسْتَوْصِلَةُ الَّتِي يُوصَلُ لَهَا ذَلِكَ بِطَلَبِهَا.لِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْآدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُدْفَنَ شَعْرُهُ إِذَا انْفَصَلَ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَصْلُ بِغَيْرِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ وَهُوَ طَاهِرٌ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ إِلَى حُرْمَةِ الْوَصْلِ إِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يُكْرَهُ.

أَمَّا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: إِنْ وَصَلَتْ بِإِذْنِهِ جَازَ وَإِلاَّ حَرُمَ.

الثَّانِي: يَحْرُمُ مُطْلَقًا.الثَّالِثُ: لَا يَحْرُمُ وَلَا يُكْرَهُ مُطْلَقًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُرَخَّصُ لِلْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ تَتَّخِذُهُ لِتَزِيدَ قُرُونَهَا.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: لَيْسَتِ الْوَاصِلَةُ بِالَّتِي تَعْنُونَ، وَلَا بَأْسَ أَنْ تَعْرَى الْمَرْأَةُ عَنِ الشَّعْرِ فَتَصِلَ قَرْنًا مِنْ قُرُونِهَا بِصُوفٍ أَسْوَدَ وَإِنَّمَا الْوَاصِلَةُ الَّتِي تَكُونُ بَغِيًّا فِي شَبِيبَتِهَا فَإِذَا أَسَنَّتْ وَصَلَتْهَا بِالْقِيَادَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ التَّفْرِيقِ فِي التَّحْرِيمِ بَيْنَ الْوَصْلِ بِالشَّعْرِ وَبِغَيْرِهِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ تَحْرِيمَ وَصْلِ الشَّعْرِ بِشَعْرٍ سَوَاءٌ كَانَ شَعْرَ آدَمِيٍّ أَوْ شَعْرَ غَيْرِهِ.وَسَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ.قَالُوا وَلَا بَأْسَ بِمَا تَشُدُّ بِهِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا أَيْ مِنْ غَيْرِ الشَّعْرِ لِلْحَاجَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَصِلُ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا الشَّعْرَ وَلَا الْقَرَامِلَ وَلَا الصُّوفَ.

عَقْصُ الشَّعْرِ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ عَقْصِ الشَّعْرِ فِي الصَّلَاةِ.وَالْعَقْصُ هُوَ شَدُّ ضَفِيرَةِ الشَّعْرِ حَوْلَ الرَّأْسِ كَمَا تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ أَوْ يُجْمَعُ الشَّعْرُ فَيُعْقَدُ فِي مُؤَخَّرَةِ الرَّأْسِ.

وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ.فَلَوْ صَلَّى كَذَلِكَ فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ فِيهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ «ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِهِ فَقَامَ وَجَعَلَ يَحُلُّهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَالَكَ وَرَأْسِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «ذَاكَ كِفْلُ الشَّيْطَانِ».وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ..وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ».

وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، أَنَّ الشَّعْرَ يَسْجُدُ مَعَ الْمُصَلِّي وَلِهَذَا مَثَّلَهُ فِي الْحَدِيثِ بِالَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَنْ صَلَّى كَذَلِكَ، سَوَاءٌ تَعَمَّدَهُ لِلصَّلَاةِ أَمْ كَانَ كَذَلِكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَفَعَلَهَا لِمَعْنًى آخَرَ وَصَلَّى عَلَى حَالِهِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ.

وَيَدُلُّ لَهُ إِطْلَاقُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَنْقُولِ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: النَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلصَّلَاةِ.

وَيُنْظَرُ بَقِيَّةُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّعْرِ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْآتِيَةِ: (إِحْرَامٌ، وَتَرْجِيلٌ، وَتَنَمُّصٌ، وَإِحْدَادٌ، وَاخْتِضَابٌ، وَتَسْوِيدٌ، حَلْقٌ، وَدِيَاتٌ).

الْعِنَايَةُ بِشَعْرِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ:

16- يُسْتَحَبُّ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ» وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُحِبُّ التَّرْجِيلَ فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ».وَيُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِي التَّرْجِيلِ، وَيُسَنُّ الْإِغْبَابُ فِيهِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ مَكْرُوهٌ.كَمَا يُسْتَحَبُّ دَهْنُ الشَّعْرِ غِبًّا وَهُوَ أَنْ يُدْهَنَ ثُمَّ يُتْرَكَ حَتَّى يَجِفَّ الدُّهْنُ ثُمَّ يُدْهَنَ ثَانِيًا، وَقِيلَ يُدْهَنُ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَاتِ: (إِدْهَانٌ، وَامْتِشَاطٌ، وَتَرْجِيلٌ).

حُكْمُ شَعْرِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ:

17- شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَفِي كُلِّ حَالَةٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ.

18- أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ الْمُتَّصِلِ بِهِ إِذَا أُخِذَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَمِثْلُهُ الصُّوفُ وَالْوَبَرُ لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِلِامْتِنَانِ وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ وَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي شُمُولِهَا بِشَعْرِ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ.

وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ إِذَا جُزَّ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الْمَلَابِسِ وَالْمَفَارِشِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَعْرِ الْمُذَكَّيَاتِ كِفَايَةٌ لِحَاجَةِ النَّاسِ.

أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْحَيَاةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَتِهِ إِذَا جُزَّ جَزًّا.أَمَّا إِذَا نُتِفَ فَأُصُولُهُ الَّتِي فِيهَا الدُّسُومَةُ نَجِسَةٌ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ.فَهُوَ مَيِّتٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ فَهُوَ طَاهِرٌ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يُجَزَّ جَزًّا بِخِلَافِ مَا نُتِفَ نَتْفًا فَإِنَّ أُصُولَهُ تَكُونُ نَجِسَةً.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى طَهَارَتِهِ إِذَا جُزَّ وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ الْقِيَاسُ نَجَاسَتَهُ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الْحَيَاةِ وَلَكِنْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى طَهَارَتِهَا.

أَمَّا إِذَا انْفَصَلَ شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ فِي حَيَاتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ نُتِفَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّهُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَزِّ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، وَالْجَزُّ فِي الشَّعْرِ كَالذَّبْحِ، فِي الْحَيَوَانِ وَلَوْ ذُبِحَ الْحَيَوَانُ لَمْ يَنْجُسْ، فَكَذَلِكَ إِذَا جُزَّ شَعْرُهُ.

وَالثَّانِي: إِنَّهُ نَجِسٌ سَوَاءٌ انْفَصَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَتْفٍ لِأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ.

وَدَلِيلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.حَدِيثُ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَجُبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ وَيَقْطَعُونَ أَلْيَاتِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ».

غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اسْتَثْنَوْا الشَّعْرَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى طَهَارَتِهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ وَلِذَا اسْتَثْنَوْا الشَّعْرَ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ شَعْرَ كُلِّ حَيَوَانٍ كَبَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ مَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ طَاهِرٌ، وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ نَجِسٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ الْحَيَاةِ وَحَالَةِ الْمَوْتِ.

فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَفِي أُخْرَى طَاهِرٌ.

19- أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ الْمُتَّصِلِ بِهِ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْخِنْزِيرَ وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْخِنْزِيرَ وَالْكَلْبَ لِأَنَّ عَيْنَهُمَا نَجِسَةٌ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى طَهَارَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ أَنَّ كُلَّ حَيٍّ طَاهِرٌ.

أَمَّا شَعْرُ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ هُوَ طَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ، إِلاَّ مَا لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ كَالشَّعْرِ.وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُوَ طَاهِرٌ عِنْدَهُمْ إِذَا جُزَّ، لَا إِذَا نُتِفَ. (يُنْظَرُ فِي تَفْصِيلِ أَحْكَامِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ مُصْطَلَحُ: خِنْزِيرٌ ف 7).

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ لِأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ، فَمَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ طَاهِرٌ وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ نَجِسٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ شَعْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا طَاهِرٌ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


16-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة 7)

صَلَاةٌ-7

الْأَمَاكِنُ الَّتِي تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا:

105- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَإِلَيْكَ تَفْصِيلُ أَقْوَالِهِمْ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَالْكَنِيسَةِ، وَعَطَنِ الْإِبِلِ، وَالْمَقْبَرَةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ:

فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَقْبَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَفِي الْحَمَّامِ وَفِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ».

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: قَارِعَةُ الطَّرِيقِ هِيَ أَعْلَاهُ، وَقِيلَ: صَدْرُهُ، وَقِيلَ: مَا بَرَزَ مِنْهُ، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ الطَّرِيقِ، وَالْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ هِيَ لِشَغْلِهِ حَقَّ الْعَامَّةِ، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْمُرُورِ؛ وَلِشَغْلِ الْبَالِ عَنِ الْخُشُوعِ فَيَشْتَغِلُ بِالْخَلْقِ عَنِ الْحَقِّ.

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْبُنْيَانِ دُونَ الْبَرِّيَّةِ.

وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ- أَيْضًا- فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَلَوْ طَاهِرَةً.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ».وَالْمُرَادُ بِالْمَعَاطِنِ- هُنَا- مَبَارِكُهَا مُطْلَقًا.قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَلَا تَخْتَصُّ الْكَرَاهَةُ بِالْعَطَنِ، بَلْ مَأْوَاهَا وَمَقِيلُهَا وَمَبَارِكُهَا، بَلْ مَوَاضِعُهَا كُلُّهَا كَذَلِكَ.وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، «وَسُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا خُلِقَتْ بَرَكَةً».وَأَلْحَقُوا مَرَابِضَ الْبَقَرِ بِمَرَابِضِ الْغَنَمِ فَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا، قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَمَاكِنَ الْمَوَاشِي مُطْلَقًا إِنْ تَنَجَّسَتْ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِيهَا بِلَا حَائِلٍ، وَتَصِحُّ بِالْحَائِلِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.

وَوَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ وَمَعْطِنِ الْإِبِلِ، فَكَرِهُوا الصَّلَاةَ فِيهِمَا.وَأَلْحَقُوا بِالْكَنِيسَةِ كُلَّ مُتَعَبَّدٍ لِلْكُفَّارِ كَالْبِيعَةِ وَبَيْتِ النَّارِ، وَخَصُّوا كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ بِمَا إِذَا دَخَلَهَا مُخْتَارًا سَوَاءٌ كَانَتْ عَامِرَةً أَمْ دَارِسَةً، أَمَّا إِنْ دَخَلَهَا مُضْطَرًّا فَلَا كَرَاهَةَ، عَامِرَةً كَانَتْ أَمْ دَارِسَةً.وَقَالُوا بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ إِذَا نَزَلَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَصَلَّى عَلَى أَرْضِهَا أَوْ عَلَى فَرْشِهَا.

وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي مَعْطِنِ الْإِبِلِ وَلَوْ مَعَ أَمْنِ النَّجَاسَةِ.وَعِنْدَهُمْ فِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ: قَوْلٌ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ مُطْلَقًا عَامِدًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، وَقَوْلٌ يُعِيدُ النَّاسِي فِي الْوَقْتِ، وَالْعَامِدُ وَالْجَاهِلُ بِالْحُكْمِ أَبَدًا نَدْبًا.وَأَجَازُوا الصَّلَاةَ بِلَا كَرَاهَةٍ بِمَرْبِضِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ مِنْ غَيْرِ فَرْشٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَبِالْمَقْبَرَةِ بِلَا حَائِلٍ وَلَوْ عَلَى الْقَبْرِ، وَلَوْ لِمُشْرِكٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ عَامِرَةً أَمْ دَارِسَةً مَنْبُوشَةً، وَبِالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الزِّبْلِ أَوِ الدَّمِ، بَلْ فِي مَحَلٍّ لَا زِبْلَ فِيهِ، أَوْ لَا دَمَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْرِشَ شَيْئًا طَاهِرًا يُصَلِّي عَلَيْهِ.وَبِالْمَحَجَّةِ (وَسَطِ الطَّرِيقِ) وَبِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ (جَانِبِهِ).وَقَيَّدُوا جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَحَجَّةِ بِأَمْنِ النَّجَاسَةِ.

أَمَّا مَرْبِضُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَدَائِمًا مَأْمُونُ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ بَوْلَهَا وَرَجِيعَهَا طَاهِرَانِ.ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى أُمِنَتْ هَذِهِ الْأَمَاكِنُ مِنَ النَّجَسِ- بِأَنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ طَهَارَتَهَا- كَانَتِ الصَّلَاةُ جَائِزَةً وَلَا إِعَادَةَ أَصْلًا وَإِنْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهَا أَوْ ظُنَّتْ فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَإِذَا صَلَّى أَعَادَ أَبَدًا.وَإِنْ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا وَطَهَارَتِهَا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الرَّاجِحِ، بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ الْأَصْلِ عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُعِيدُ أَبَدًا إِنْ كَانَ عَامِدًا أَوْ جَاهِلًا تَرْجِيحًا لِلْغَالِبِ عَلَى الْأَصْلِ.وَهَذَا فِي غَيْرِ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ إِذَا صَلَّى فِيهَا لِضِيقِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا حِينَئِذٍ جَائِزَةٌ.وَلَا إِعَادَةَ مَعَ الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ وَعَدَمِهَا.

وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَقَالُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ مُطْلَقًا؛ لِحَدِيثِ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا: «لَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ».وَالْمَقْبَرَةُ ثَلَاثَةُ قُبُورٍ فَصَاعِدًا، فَلَا يُعْتَبَرُ قَبْرٌ وَلَا قَبْرَانِ مَقْبَرَةٌ.

وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ، دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ وَأَتُونِهِ (مُوقِدِ النَّارِ) وَكُلُّ مَا يُغْلَقُ عَلَيْهِ الْبَابُ وَيَدْخُلُ فِي الْبِيَعِ، لِشُمُولِ الِاسْمِ لِذَلِكَ كُلِّهِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ».وَمِثْلُهُ الْحُشُّ- وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ- وَلَوْ مَعَ طَهَارَتِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ.

وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ عِنْدَهُمْ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ- وَهِيَ مَا تُقِيمُ فِيهِ وَتَأْوِي إِلَيْهِ-؛ لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ» وَلَا تَدْخُلُ فِي النَّهْيِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُنَاخُ فِيهَا الْإِبِلُ لِعَلَفِهَا، أَوْ وُرُودِهَا الْمَاءَ، وَمَوَاضِعِ نُزُولِهَا فِي سَيْرِهَا، لِعَدَمِ تَنَاوُلِ اسْمِ الْأَعْطَانِ لَهَا.

وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ- أَيْضًا- فِي الْمَجْزَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ سَالِكٌ أَوْ لَا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ.

وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِلَا كَرَاهَةٍ بِطَرِيقِ الْبُيُوتِ الْقَلِيلَةِ، وَبِمَا عَلَا عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَتَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ بِلَا كَرَاهَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَجَّةٍ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ كُلَّ مَكَان لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ، فَكَذَا لَا تَصِحُّ عَلَى سَطْحِهِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، دَلِيلٌ أَنَّ الْجُنُبَ يُمْنَعُ مِنَ اللُّبْثِ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا يَحْنَثُ بِدُخُولِ سَطْحِهَا.وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ عُذْرٍ: كَأَنْ حُبِسَ بِحَمَّامٍ، أَوْ حُشٍّ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ، وَانْفَرَدَ الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ.لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَلَمْ تَصِحَّ، كَصَلَاةِ الْحَائِضِ.

106- وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِكَرَاهَةِ التَّثَاؤُبِ فِي الصَّلَاةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاوُبَ.، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فَمِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ».وَلِأَنَّهُ مِنَ التَّكَاسُلِ وَالِامْتِلَاءِ.قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِنْ غَلَبَهُ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ وَلَوْ بِأَخْذِ شَفَتِهِ بِسِنِّهِ، وَبِوَضْعِ يَدِهِ أَوْ كُمِّهِ عَلَى فَمِهِ.

وَيُكْرَهُ- أَيْضًا- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَضْعُ شَيْءٍ فِي فَمِهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ بَالَهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّيْءُ لَا يَذُوبُ، فَإِنْ كَانَ يَذُوبُ كَالسُّكَّرِ يَكُونُ فِي فِيهِ، فَإِنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إِذَا ابْتَلَعَ ذَوْبَهُ.

وَيُكْرَهُ- كَذَلِكَ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ النَّفْخُ.هَذَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ بِهِ حَرْفَانِ، فَإِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ.قَالُوا: لِأَنَّهُ عَبَثٌ، كَمَا صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الْبَصْقِ فِي الصَّلَاةِ قِبَلَ وَجْهِهِ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى».

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ شَمُّ طِيبٍ قَصْدًا، كَأَنْ يُدَلِّكَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ بِطِيبٍ، أَوْ يَضَعُ ذَا رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ عِنْدَ أَنْفِهِ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ لِيَسْتَنْشِقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ، أَمَّا لَوْ دَخَلَتِ الرَّائِحَةُ أَنْفَهُ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَلَا كَرَاهَةَ.قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: أَمَّا إِذَا أَمْسَكَهُ بِيَدِهِ وَشَمَّهُ فَالظَّاهِرُ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ مَنْ رَآهُ يَجْزِمُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَأَفَادَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمُنْيَةِ: أَنَّهَا لَا تَفْسُدُ بِذَلِكَ أَيْ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ كَثِيرًا.

مُبْطِلَاتُ الصَّلَاةِ:

أ- الْكَلَامُ:

107- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ» وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ.فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنُ تَعْلِيمًا مِنْهُ.فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ».

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْطِلَ لِلصَّلَاةِ مَا انْتَظَمَ مِنْهُ حَرْفَانِ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ الْحَرْفَيْنِ يَكُونَانِ كَلِمَةً كَأَبٍ وَأَخٍ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ وَالْحُرُوفُ، وَلَا تَنْتَظِمُ كَلِمَةٌ فِي أَقَلَّ مِنْ حَرْفَيْنِ، قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: الْحَرْفَانِ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ الْكَلَامُ حَرْفَانِ لِلِابْتِدَاءِ وَالْوَقْفِ، أَوْ حَرْفٌ مُفْهِمٌ نَحْوَ «قِ» مِنَ الْوِقَايَةِ، وَ «عِ» مِنَ الْوَعْيِ وَ «فِ» مِنَ الْوَفَاءِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ مَدَّةً بَعْدَ حَرْفٍ وَإِنْ لَمْ يُفْهِمْ نَحْوَ «آ» لِأَنَّ الْمَمْدُودَ فِي الْحَقِيقَةِ حَرْفَانِ وَهَذَا عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ قَدْ تَتَّفِقُ لِإِشْبَاعِ الْحَرَكَةِ وَلَا تُعَدُّ حَرْفًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْطِلَ لِلصَّلَاةِ هُوَ حَرْفٌ أَوْ صَوْتٌ سَاذِجٌ، سَوَاءٌ صَدَرَ مِنَ الْمُصَلِّي بِالِاخْتِيَارِ أَمْ بِالْإِكْرَاهِ، وَسَوَاءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ هَذَا الصَّوْتُ كَإِنْقَاذِ أَعْمَى أَوْ لَمْ يَجِبْ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامَ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، وَكَذَا اسْتَثْنَوْا الْكَلَامَ حَالَةَ السَّهْوِ إِذَا كَانَ كَثِيرًا فَإِنَّهُ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَيْضًا.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالْكَلَامِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي نَاسِيًا أَوْ نَائِمًا أَوْ جَاهِلًا، أَوْ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا، فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِكَلَامِ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا.قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».فَمَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ.

وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ السَّلَامَ سَاهِيًا لِلتَّحْلِيلِ قَبْلَ إِتْمَامِهَا عَلَى ظَنِّ إِكْمَالِهَا فَلَا يَفْسِدُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنَّهُ مُفْسِدٌ.وَكَذَا نَصُّوا عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ عَلَى إِنْسَانٍ لِلتَّحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كَانَ سَاهِيًا.وَبِرَدِّ السَّلَامِ بِلِسَانِهِ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِكَلَامِ النَّاسِي، وَالْجَاهِلِ بِالتَّحْرِيمِ إِنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ، إِنْ كَانَ الْكَلَامُ يَسِيرًا عُرْفًا، فَيُعْذَرُ بِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِلنَّاسِي بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى خَشَبَةَ الْمَسْجِدِ وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ».

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّهُ تَكَلَّمَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ، وَهُمْ تَكَلَّمُوا مُجَوِّزِينَ النَّسْخَ ثُمَّ بَنَى هُوَ وَهُمْ عَلَيْهَا.

وَلَا يُعْذَرُ فِي كَثِيرِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ نَظْمَ الصَّلَاةِ وَهَيْئَتَهَا، وَالْقَلِيلُ يُحْتَمَلُ لِقِلَّتِهِ وَلِأَنَّ السَّبْقَ وَالنِّسْيَانَ فِي كَثِيرٍ نَادِرٍ.

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَرْجِعُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إِلَى الْعُرْفِ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْكَلَامِ فَإِنَّهُ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ يَسِيرًا، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ لَا تَبْطُلُ كَالنَّاسِي.وَأَمَّا إِنْ كَانَ كَلَامُهُ كَثِيرًا فَتَبْطُلُ بِهِ جَزْمًا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِكَلَامِ السَّاهِي وَالْمُكْرَهِ، وَبِالْكَلَامِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، وَالْكَلَامِ لِتَحْذِيرٍ نَحْوَ ضَرِيرٍ.

وَلَا تَبْطُلُ عِنْدَهُمْ بِكَلَامِ النَّائِمِ إِذَا كَانَ النَّوْمُ يَسِيرًا، فَإِذَا نَامَ الْمُصَلِّي قَائِمًا أَوْ جَالِسًا، فَتَكَلَّمَ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَكَذَا إِذَا سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى لِسَانِهِ حَالَ الْقِرَاءَةِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَلِطَ فِي الْقِرَاءَةِ فَأَتَى بِكَلِمَةٍ مِنْ غَيْرِهِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ تَكَلَّمَ ظَانًّا أَنَّ صَلَاتَهُ تَمَّتْ، فَإِنْ كَانَ سَلَامًا لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، أَمَّا إِنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَكْمُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَوْ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ مِثْلَ كَلَامِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ذَا الْيَدَيْنِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ.

ب- الْخِطَابُ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ:

108- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ خَاطَبَ أَحَدًا بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي، كَقَوْلِهِ لِمَنِ اسْمُهُ يَحْيَى أَوْ مُوسَى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أَوْ {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى}، أَوْ لِمَنْ بِالْبَابِ {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}.فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- إِلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِكُلِّ مَا قُصِدَ بِهِ الْخِطَابُ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَفْسُدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُخَاطَبُ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ إِذَا قَصَدَ خِطَابَهُ.وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِالْخِطَابِ بِالْقُرْآنِ بِمَا إِنْ قَصَدَ بِهِ التَّفْهِيمَ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ.وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَاسْتُؤْذِنَ عَلَيْهِ فَقَطَعَهَا إِلَى آيَةِ {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍآمَنِينَ}، أَمَّا إِنْ قَصَدَ التَّفْهِيمَ بِهِ بِمَحَلِّهِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ كَأَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ شَخْصٌ وَهُوَ يَقْرَأُ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِقَوْلِهِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍآمَنِينَ} لِقَصْدِ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ، أَوْ يَبْتَدِئُ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِالْخِطَابِ بِالْقُرْآنِ بِمَا إِذَا قَصَدَ التَّفْهِيمَ فَقَطْ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ فِيهِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ فَلَا يَكُونُ قُرْآنًا إِلاَّ بِالْقَصْدِ، وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ مَعَ التَّفْهِيمِ الْقِرَاءَةَ لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ قُرْآنٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَصَدَ الْقُرْآنَ وَحْدَهُ؛ وَلِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- كَانَ يُصَلِّي فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ فَقَالَ: لَا حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَتَلَا عَلِيٌّ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}.

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَجْرِي فِي الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ بِالْقُرْآنِ، وَالْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ أَوِ التَّسْمِيعِ، فَإِنَّهُ إِنْ قَصَدَ الرَّدَّ مَعَ الْقِرَاءَةِ أَوْ الْقِرَاءَةَ- فَقَطْ- أَوْ قَصَدَ التَّكْبِيرَ أَوِ التَّسْمِيعَ- فَقَطْ- مَعَ الْإِعْلَامِ لَمْ تَبْطُلْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، وَإِنْ كَانَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ خَاطَبَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِمَا رَوَى الْخَلاَّلُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُآمَنِينَ} فَقُلْنَا: كَيْفَ صَنَعْتَ؟ قَالَ: اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُآمَنِينَ}، وَلِأَنَّهُ قُرْآنٌ فَلَمْ تَفْسُدْ بِهِ الصَّلَاةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدِ التَّنْبِيهَ.وَقَالَ الْقَاضِي: إِذَا قَصَدَ بِالْحَمْدِ الذِّكْرَ أَوِ الْقُرْآنَ لَمْ تَبْطُلْ، وَإِنْ قَصَدَ خِطَابَ آدَمِيٍّ بَطَلَتْ، وَإِنْ قَصَدَهُمَا فَوَجْهَانِ، فَأَمَّا إِنْ أَتَى بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ: يَا إِبْرَاهِيمُ وَنَحْوَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَلَامُ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ كَلَامِهِمْ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَاتٍ مُفَرَّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ خُذِ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ.

كَمَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِكُلِّ مَا قُصِدَ بِهِ الْجَوَابُ مِنَ الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، كَأَنْ قِيلَ.أَمَعَ اللَّهِ إِلَهٌ؟ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.أَوْ مَا مَالُكَ؟ فَقَالَ: الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْجَوَابُ بِمَا لَيْسَ بِثَنَاءٍ فَإِنَّهَا تَفْسُدُ اتِّفَاقًا، كَأَنْ قِيلَ: مَا مَالُكَ؟ فَقَالَ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْعَبِيدُ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَنَاءٍ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أُخْبِرَ بِخَبَرِ سُوءٍ فَاسْتَرْجَعَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ مَا كَانَ ثَنَاءً أَوْ قُرْآنًا لَا يَتَغَيَّرُ بِالنِّيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا يَتَغَيَّرُ، وَذَكَرَ فِي الْبَحْرِ: أَنَّهُ لَوْ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُرُّهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ فِي الصَّلَاةِ لِغَيْرِهِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ.فَلَوْ عَطَسَ شَخْصٌ فَقَالَ لَهُ الْمُصَلِّي: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ الْعَاطِسُ أَوِ السَّامِعُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ جَوَابًا إِلاَّ إِذَا أَرَادَ التَّعْلِيمَ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ، وَأَمَّا إِذَا عَطَسَ فَشَمَّتَ نَفْسَهُ فَقَالَ: يَرْحَمُكِ اللَّهُ يَا نَفْسِي لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ خِطَابًا لِغَيْرِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ كَمَا إِذَا قَالَ: يَرْحَمُنِي اللَّهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ إِلاَّ أَنْ يُخَاطِبَ كَقَوْلِهِ لِعَاطِسٍ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ.وَأَمَّا إِذَا كَانَ الذِّكْرُ لَا خِطَابَ فِيهِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، كَمَا لَوْ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.أَوْ سَمِعَ مَا يَغُمُّهُ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَوْ رَأَى مَا يُعْجِبُهُ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ قِيلَ لَهُ: وُلِدَ لَكَ غُلَامٌ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ؛ لِلِاخْتِلَافِ فِي إِبْطَالِهِ الصَّلَاةَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ، وَالِاسْتِرْجَاعِ مِنْ مُصِيبَةٍ أُخْبِرَ بِهَا وَنَحْوِهِ إِلاَّ أَنَّهُ يُنْدَبُ تَرْكُهُ كَمَا صَرَّحُوا بِجَوَازِ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالْحَوْقَلَةِ بِقَصْدِ التَّفْهِيمِ فِي أَيِّ مَحَلٍّ مِنَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ كُلَّهَا مَحَلٌّ لِذَلِكَ.

ج- التَّأَوُّهُ وَالْأَنِينُ وَالتَّأْفِيفُ وَالْبُكَاءُ وَالنَّفْخُ وَالتَّنَحْنُحُ:

109- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَنِينَ (وَهُوَ قَوْلُ: أُهْ بِالْقَصْرِ) وَالتَّأَوُّهَ (وَهُوَ قَوْلُ: آهٍ بِالْمَدِّ) وَالْبُكَاءَ وَنَحْوَهُ إِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ.وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِالْأَنِينِ وَالتَّأَوُّهِ وَالتَّأْفِيفِ وَالْبُكَاءِ، وَإِنْ حَصَلَ حُرُوفٌ لِلضَّرُورَةِ.

قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ الْأَنِينُ مِنْ وَجَعٍ، مِمَّا يُمْكِنُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ لَا يَقْطَعُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ إِنْ كَانَ الْمَرَضُ خَفِيفًا يَقْطَعُ، وَإِلاَّ فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقُعُودُ إِلاَّ بِالْأَنِينِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنْ يَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَتَكَلَّفْ إِخْرَاجَ حُرُوفٍ زَائِدَةٍ، كَمَا اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْبُكَاءَ مِنْ خَوْفِ الْآخِرَةِ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْخُشُوعِ.فَلَوْ أَعْجَبَتْهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: بَلَى أَوْ نَعَمْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْكَافِي: لِأَنَّ الْأَنِينَ وَنَحْوَهُ إِذَا كَانَ بِذِكْرِهِمَا صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ صَارَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا مُصَابٌ فَعَزُّونِي وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ تَفْسُدُ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبُكَاءُ مِنْ خَوْفِ الْآخِرَةِ أَمْ لَا فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْأَنِينِ لِأَجْلِ وَجَعٍ غَلَبَهُ، وَالْبُكَاءِ لِأَجْلِ الْخُشُوعِ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَنِينُ وَالْبُكَاءُ مِنْ غَلَبَةٍ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَالْعَمْدُ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالسَّهْوُ يُبْطِلُ إِنْ كَانَ كَثِيرًا وَيَسْجُدُ لَهُ إِنْ قَلَّ.قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَهَذَا فِي الْبُكَاءِ الْمَمْدُودِ وَهُوَ مَا كَانَ بِصَوْتٍ، وَأَمَّا الْمَقْصُورُ، وَهُوَ مَا كَانَ بِلَا صَوْتٍ فَلَا يَضُرُّ وَلَوِ اخْتِيَارًا مَا لَمْ يَكْثُرْ.

وَمِثْلُ الْمَالِكِيَّةِ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فَصَرَّحُوا بِعَدَمِ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالْبُكَاءِ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي وُسْعِهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ غَلَبَهُ نَحْوُ سُعَالٍ وَعُطَاسٍ وَتَثَاؤُبٍ وَبُكَاءٍ، وَلَوْ بَانَ مِنْهُ حَرْفَانِ، قَالَ مُهَنَّا: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَتَثَاءَبَ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَسَمِعْتُ لِتَثَاؤُبِهِ: هَاهْ، هَاهْ.وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْكَلَامِ.تَقُولُ: تَثَاءَبْتُ، عَلَى تَفَاعَلْتُ، وَلَا تَقُلْ: تَثَاوَبْتُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِدْعَاءُ بُكَاءٍ وَضَحِكٍ لِئَلاَّ يَظْهَرَ حَرْفَانِ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ.

110- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ التَّنَحْنُحَ (هُوَ أَنْ يَقُولَ أَحْ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ) لِغَيْرِ عُذْرٍ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ إِنْ ظَهَرَ حَرْفَانِ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ نَشَأَ مِنْ طَبْعِهِ، أَوْ غَلَبَهُ فَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَمِثْلُهُ مَا لَوْ فَعَلَهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، كَتَحْسِينِ الصَّوْتِ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِإِصْلَاحِ الْقِرَاءَةِ، وَمِنَ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ مَا لَوْ فَعَلَهُ لِيَهْتَدِيَ إِمَامُهُ إِلَى الصَّوَابِ، أَوْ لِلْإِعْلَامِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْقِيَاسُ الْفَسَادُ فِي الْكُلِّ إِلاَّ فِي الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ، وَالْكَلَامُ مُفْسِدٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَأَنَّهُمْ عَدَلُوا بِذَلِكَ عَنِ الْقِيَاسِ وَصَحَّحُوا عَدَمَ الْفَسَادِ بِهِ إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ لِوُجُودِ نَصٍّ، وَلَعَلَّهُ مَا فِي الْحِلْيَةِ مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ «عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَدْخَلَانِ: مَدْخَلٌ بِاللَّيْلِ وَمَدْخَلٌ بِالنَّهَارِ، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي يَتَنَحْنَحُ لِي».

وَبِمِثْلِ هَذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ فَأَجَازُوا النَّحْنَحَةَ لِحَاجَةٍ وَلَوْ بَانَ حَرْفَانِ.قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كُنْتُ آتِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَيَتَنَحْنَحُ فِي صَلَاتِهِ لِأَعْلَمَ أَنَّهُ يُصَلِّي.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْذَرُ مِنَ التَّنَحْنُحِ وَغَيْرِهِ: كَالسُّعَالِ وَالْعُطَاسِ الْيَسِيرِ عُرْفًا لِلْغَلَبَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ لِعَدَمِ التَّقْصِيرِ، وَكَذَا التَّنَحْنُحُ لِتَعَذُّرِ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَرْكَانِ الْقَوْلِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ، أَمَّا إِذَا كَثُرَ التَّنَحْنُحُ وَنَحْوُهُ لِلْغَلَبَةِ كَأَنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ مِنْ ذَلِكَ وَكَثُرَ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ، وَصَوَّبَ الْإِسْنَوِيُّ عَدَمَ الْبُطْلَانِ فِي التَّنَحْنُحِ وَالسُّعَالِ وَالْعُطَاسِ لِلْغَلَبَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ إِذْ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا.

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْأَوَّلِ مَا إِذَا لَمْ يَصِرِ السُّعَالُ وَنَحْوُهُ مَرَضًا مُلَازِمًا لَهُ، أَمَّا إِذَا صَارَ السُّعَالُ وَنَحْوُهُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ كَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ وَنَحْوُهُ بَلْ أَوْلَى.وَلَا يُعْذَرُ لَوْ تَنَحْنَحَ لِلْجَهْرِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ سُنَّةٌ، لَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّنَحْنُحِ لَهُ.وَفِي مَعْنَى الْجَهْرِ سَائِرُ السُّنَنِ.

قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: لَوْ جَهِلَ بُطْلَانَهَا بِالتَّنَحْنُحِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فَمَعْذُورٌ لِخَفَاءِ حُكْمِهِ عَلَى الْعَوَامِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّنَحْنُحَ لِحَاجَةٍ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَلَا سُجُودَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَأَمَّا التَّنَحْنُحُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، بَلْ عَبَثًا فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ- أَيْضًا- وَلَا سُجُودَ فِيهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهُ الْأَبْهَرِيُّ وَاللَّخْمِيُّ وَخَلِيلٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِمَالِكٍ: أَنَّهُ كَالْكَلَامِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ.وَفَسَّرَ ابْنُ عَاشِرٍ الْحَاجَةَ بِضَرُورَةِ الطَّبْعِ، وَقَيَّدُوا عَدَمَ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالتَّنَحْنُحِ لِغَيْرِ الْحَاجَةِ بِمَا إِذَا قَلَّ وَإِلاَّ أَبْطَلَ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ.

111- وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَعَمُّدِ النَّفْخِ بِالْفَمِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ حَرْفٌ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَسَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، ظَهَرَ مَعَهُ حَرْفٌ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ كَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ.

وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُبْطِلُ مُطْلَقًا.وَقِيلَ: إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفٌ أَبْطَلَ وَإِلاَّ فَلَا.أَمَّا النَّفْخُ بِالْأَنْفِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ مَا لَمْ يَكْثُرْ أَوْ يَقْصِدُ عَبَثًا.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَإِنْ كَانَ عَبَثًا جَرَى عَلَى الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ.

وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِالنَّفْخِ فِيمَا إِذَا بَانَ حَرْفَانِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «مَنْ نَفَخَ فِي صَلَاتِهِ فَقَدْ تَكَلَّمَ» وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- -.

د- الضَّحِكُ:

112- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالضَّحِكِ إِنْ كَانَ قَهْقَهَةً، وَلَوْ لَمْ تَبِنْ حُرُوفٌ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الصَّلَاةَ وَلَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ» وَلِأَنَّهُ تَعَمَّدَ فِيهَا مَا يُنَافِيهَا، أَشْبَهَ خِطَابَ الْآدَمِيِّ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَسَوَاءٌ قَلَّتْ أَمْ كَثُرَتْ، وَسَوَاءٌ وَقَعَتْ عَمْدًا أَمْ نِسْيَانًا- لِكَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ- أَوْ غَلَبَةً، كَأَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ فِي صَلَاتِهِ أَوِ الِاسْتِمَاعَ لِمَا يُضْحِكُ فَيَغْلِبُهُ الضَّحِكُ فِيهَا.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَالْقَهْقَهَةُ اصْطِلَاحًا:

مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ وَلِجِيرَانِهِ بَدَتْ أَسْنَانُهُ أَوْ لَا، وَإِنْ عَرِيَ عَنْ ظُهُورِ الْقَافِ وَالْهَاءِ أَوْ أَحَدِهِمَا، كَمَا صَرَّحُوا بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالضَّحِكِ دُونَ قَهْقَهَةٍ، وَهُوَ مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَهُ فَقَطْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ بِالضَّحِكِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ وَإِلاَّ فَلَا وَأَمَّا التَّبَسُّمُ فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَبَسَّمَ فِيهَا فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: مَرَّ بِي مِيكَائِيلُ فَضَحِكَ لِي فَتَبَسَّمْتُ لَهُ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


17-موسوعة الفقه الكويتية (طهارة 2)

طَهَارَةٌ -2

طَهَارَةُ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ:

20- إِذَا تَنَجَّسَتْ الْأَرْضُ بِنَجَاسَةٍ مَائِعَةٍ- كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا- فَتَطْهِيرُهَا أَنْ تُغْمَرَ بِالْمَاءِ بِحَيْثُ يَذْهَبُ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا، وَمَا انْفَصَلَ عَنْهَا غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ بِهَا فَهُوَ طَاهِرٌ.

بِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةٍ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ» وَفِي لَفْظٍ فَدَعَاهُ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذِرِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» وَأَمَرَ رَجُلًا فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالذَّنُوبِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَغْمُرُ الْبَوْلَ، وَيُسْتَهْلَكُ فِيهِ الْبَوْلُ وَإِنْ أَصَابَ الْأَرْضَ مَاءُ الْمَطَرِ أَوِ السُّيُولُ فَغَمَرَهَا وَجَرَى عَلَيْهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ صَبَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةٌ وَلَا فِعْلٌ، فَاسْتَوَى مَا صَبَّهُ الْآدَمِيُّ وَمَا جَرَى بِغَيْرِ صَبِّهِ.

وَلَا تَطْهُرُ الْأَرْضُ حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرَائِحَتُهَا، وَلِأَنَّ بَقَاءَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَزُولُ لَوْنُهَا إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ سَقَطَ عَنْهُ إِزَالَتُهَا كَالثَّوْبِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الرَّائِحَةِ.

وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ أَرْضًا رَخْوَةً فَيُصَبُّ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَتَطْهُرُ، لِأَنَّهَا تُنَشِّفُ الْمَاءَ، فَيَطْهُرُ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهَا، ثُمَّ تُكْبَسُ الْحَفِيرَةُ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا الْغُسَالَةُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْض ف 3).

مَا تَطْهُرُ بِهِ الْأَرْضُ سِوَى الْمِيَاهِ:

21- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ إِذَا أَصَابَهَا نَجِسٌ، فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ أَوِ الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَذَهَبَ أَثَرُهُ طَهُرَتْ وَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا أَرْضٍ جَفَّتْ فَقَدْ ذَكَتْ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِغَيْرِ الْمَاءِ، لِأَمْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ ذَنُوبُ مَاءٍ، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَلَمْ يَطْهُرْ بِغَيْرِ الْغَسْلِ.

طَهَارَةُ النَّجَاسَةِ بِالِاسْتِحَالَةِ:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا صَارَتْ طَاهِرَةً.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيل ف 13، 14).

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا الْخَمْرَ مِنْ نَجِسِ الْعَيْنِ هَلْ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالِاسْتِحَالَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا» لِأَكْلِهَا النَّجَاسَةَ، وَلَوْ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ.

قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَلَا يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالْغَسْلِ مُطْلَقًا، وَلَا بِالِاسْتِحَالَةِ، كَمَيْتَةٍ وَقَعَتْ فِي مَلاَّحَةٍ فَصَارَتْ مِلْحًا، أَوْ أُحْرِقَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَلَا تَطْهُرُ نَجَاسَةٌ بِنَارٍ، فَالرَّمَادُ مِنَ الرَّوْثِ النَّجِسِ نَجِسٌ وَصَابُونٌ عُمِلَ مِنْ زَيْتٍ نَجِسٍ نَجِسٌ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ كَلْبٌ فِي مَلاَّحَةٍ فَصَارَ مِلْحًا، أَوْ فِي صَبَّانَةٍ فَصَارَ صَابُونًا.

لَكِنْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَحَوَّلَتِ الْعَلَقَةُ إِلَى مُضْغَةٍ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ طَاهِرَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نَجِسَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا بِصَيْرُورَتِهَا عَلَقَةً، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَادَتْ إِلَى أَصْلِهَا، كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجَاسَةِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَتَنْتَفِي الْحَقِيقَةُ بِانْتِفَاءِ بَعْضِ أَجْزَاءِ مَفْهُومِهَا، فَكَيْفَ بِالْكُلِّ؟.

وَنَظِيرُهُ فِي الشَّرْعِ النُّطْفَةُ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ عَلَقَةً وَهِيَ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ مُضْغَةً فَتَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ فَيَصِيرُ خَمْرًا فَيَنْجُسُ، وَيَصِيرُ خَلًّا فَيَطْهُرُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَالَ الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا اسْتَحَالَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ بِالنَّارِ، أَوْ زَالَ أَثَرُهَا بِهَا يَطْهُرُ.

كَمَا تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ عِنْدَهُمْ بِانْقِلَابِ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.

وَمِنْ تَفْرِيعَاتِ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمُجْتَبَى أَنَّهُ إِنْ جُعِلَ الدُّهْنُ النَّجِسُ فِي صَابُونٍ يُفْتَى بِطَهَارَتِهِ، لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ، وَالتَّغَيُّرُ يُطَهِّرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَيُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى، وَعَلَيْهِ يَتَفَرَّعُ مَا لَوْ وَقَعَ إِنْسَانٌ أَوْ كَلْبٌ فِي قِدْرِ الصَّابُونِ فَصَارَ صَابُونًا يَكُونُ طَاهِرًا لِتَبَدُّلِ الْحَقِيقَةِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْعِلَّةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ التَّغَيُّرُ وَانْقِلَابُ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّهُ يُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى، وَمُقْتَضَاهُ: عَدَمُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالصَّابُونِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ تَغَيُّرٌ وَانْقِلَابٌ حَقِيقَةً، وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى عَامَّةٌ.

كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا تَحَجَّرَتْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، لِزَوَالِ الْإِسْكَارِ مِنْهَا، وَأَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّارَ تَطْهُرُ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: سَوَاءٌ أَكَلَتِ النَّارُ النَّجَاسَةَ أَكْلًا قَوِيًّا أَوْ لَا، فَالْخُبْزُ الْمَخْبُوزُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ طَاهِرٌ وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّمَادِ، وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ قَبْلَ غَسْلِ الْفَمِ مِنْ أَكْلِهِ، وَيَجُوزُ حَمْلُهُ فِي الصَّلَاةِ.

مَا يَطْهُرُ مِنَ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغَةِ:

23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ جُلُودِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانَاتِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ: (دِبَاغَة ج 20 ف 8 وَمَا بَعْدَهَا).

تَطْهِيرُ الْخُفِّ مِنَ النَّجَاسَةِ:

24- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتْ أَسْفَلَ الْخُفِّ أَوِ النَّعْلِ نَجَاسَةٌ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِغَسْلِهِ، وَلَا يُجْزِئُ لَوْ دَلَكَهُ كَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ رَطْبَةً أَوْ جَافَّةً، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَةِ الْجَافَّةِ إِذَا دُلِكَتْ، أَصَحُّهُمَا: الْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَغْسِلَهُ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهِ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ؛ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا».

قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ وَهُوَ الْعَفْوُ فَلَهُ شُرُوطٌ.

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلنَّجَاسَةِ جِرْمٌ يَلْتَصِقُ بِالْخُفِّ، أَمَّا الْبَوْلُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَكْفِي دَلْكُهُ بِحَالٍ.

الثَّانِي: أَنْ يَدْلُكَهُ فِي حَالِ الْجَفَافِ، وَأَمَّا مَا دَامَ رَطْبًا فَلَا يَكْفِي دَلْكُهُ قَطْعًا.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُصُولُ النَّجَاسَةِ بِالْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَلَوْ تَعَمَّدَ تَلْطِيخَ.الْخُفِّ بِهَا وَجَبَ الْغَسْلُ قَطْعًا.

وَنَقَلَ الْبُهُوتِيُّ عَنِ الْإِنْصَافِ أَنَّ يَسِيرَ النَّجَاسَةِ إِذَا كَانَتْ عَلَى أَسْفَلِ الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ بَعْدَ الدَّلْكِ يُعْفَى عَنْهُ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الْخُفَّ نَجَاسَةٌ لَهَا جِرْمٌ، كَالرَّوْثِ وَالْعَذِرَةِ، فَجَفَّتْ، فَدَلَكَهُ بِالْأَرْضِ جَازَ، وَالرَّطْبُ وَمَا لَا جِرْمَ لَهُ كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلاَّ الْغَسْلُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُ الْمَسْحُ فِيهِمَا إِلاَّ الْبَوْلَ وَالْخَمْرَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ فِيهِمَا إِلاَّ الْغُسْلُ كَالثَّوْبِ.

وَلِأَبِي يُوسُفَ إِطْلَاقُ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَصَابَ خُفَّ أَحَدِكُمْ أَوْ نَعْلَهُ أَذًى فَلْيَدْلُكْهُمَا فِي الْأَرْضِ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ طَهُورٌ لَهُمَا» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَالْمُتَجَسِّدِ وَغَيْرِهِ، وَلِلضَّرُورَةِ الْعَامَّةِ.وَلِأَبِي حَنِيفَةَ هَذَا الْحَدِيثُ.إِلاَّ أَنَّ الرَّطْبَ إِذَا مُسِحَ بِالْأَرْضِ يَتَلَطَّخُ بِهِ الْخُفُّ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ، فَلَا يُطَهِّرُهُ بِخِلَافِ الْيَابِسِ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ لَا يَتَدَاخَلُهُ إِلاَّ شَيْءٌ يَسِيرٌ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالْخَمْرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُجْتَذَبُ مِثْلُ مَا عَلَى الْخُفِّ، فَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ، حَتَّى لَوْ لَصِقَ عَلَيْهِ طِينٌ رَطْبٌ فَجَفَّ، ثُمَّ دَلَكَهُ جَازَ، كَاَلَّذِي لَهُ جِرْمٌ، وَبِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُتَخَلَّلٌ فَتَتَدَاخَلُهُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ، فَلَا تَزُولُ بِالْمَسْحِ، فَيَجِبُ الْغَسْلُ.

وَلِمُحَمَّدٍ الْقِيَاسُ عَلَى الثَّوْبِ وَالْبِسَاطِ، بِجَامِعِ أَنَّ النَّجَاسَةَ تَدَاخَلَتْ فِي الْخُفِّ تَدَاخُلَهَا فِيهِمَا.

قَالَ الْكَمَالُ: وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى.

وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: وَهُوَ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِلضَّرُورَةِ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَإِذَا أَصَابَ الْخُفَّ شَيْءٌ مِنْ رَوْثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ إِنْ دُلِكَ بِتُرَابٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ نَحْوِهِ حَتَّى زَالَتِ الْعَيْنُ، وَكَذَا إِنْ جَفَّتِ النَّجَاسَةُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يُخْرِجُهُ الْغُسْلُ سِوَى الْحُكْمِ.

وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْعَفْوَ بِأَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ الْخُفِّ أَوِ النَّعْلِ بِالنَّجَاسَةِ بِمَوْضِعٍ يَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا- كَالطُّرُقِ- لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ نَقْلًا عَنِ الْبُنَانِيِّ: وَهَذَا الْقَيْدُ نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَالظَّاهِرُ اعْتِبَارُهُ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ لِتَعْلِيلِهِ بِالْمَشَقَّةِ، كَمَا ذَكَرَ خَلِيلٌ أَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا هُوَ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ بِمَوْضِعٍ لَا تَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا وَلَوْ دَلْكًا.

وَإِنْ أَصَابَ الْخُفَّ أَوِ النَّعْلَ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَاتِ غَيْرِ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، كَخُرْءِ الْكِلَابِ أَوْ فَضْلَةِ الْآدَمِيِّ أَوْ دَمٍ، فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ.

قَالَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: وَالْعِلَّةُ نُدُورُ ذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ، فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِيهَا صَارَ كَرَوْثِ الدَّوَابِّ.

تَطْهِيرُ مَا تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ مِنْ مَلَابِسِ النِّسَاءِ فِي الطُّرُقِ:

25- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ ذَيْلُ ثَوْبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْبَدَنِ، وَلَا يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَرْضِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ ذَيْلَ ثَوْبِ الْمَرْأَةِ الْيَابِسِ مِنَ النَّجَاسَةِ إِذَا مَرَّتْ بَعْدَ الْإِصَابَةِ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَابِسٍ، سَوَاءٌ كَانَ أَرْضًا أَوْ غَيْرَهُ.

وَقَيَّدُوا هَذَا الْعَفْوَ بِعِدَّةِ قُيُودٍ هِيَ:

أ- أَنْ يَكُونَ الذَّيْلُ يَابِسًا وَقَدْ أَطَالَتْهُ لِلسَّتْرِ، لَا لِلزِّينَةِ وَالْخُيَلَاءِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا تُطِيلُهُ لِلسَّتْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ لَابِسَةٍ لِخُفٍّ أَوْ جَوْرَبٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ لَابِسَةً لَهُمَا فَلَا عَفْوَ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ زِيِّهَا أَمْ لَا.

ب- وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي أَصَابَتْ ذَيْلَ الثَّوْبِ مُخَفَّفَةٌ جَافَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَالطِّينِ.

ج- وَأَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَمُرُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ طَاهِرًا يَابِسًا.

التَّطْهِيرُ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ وَبَوْلِ الْجَارِيَةِ:

26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ وَبَوْلِ الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَيْنِ أَكَلَا أَوْ لَا، يَكُونُ بِغَسْلِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَطْعَمِ الطَّعَامَ النَّضْحُ، وَيَكُونُ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَى الْمَكَانِ الْمُصَابِ وَغَمْرِهِ بِهِ بِلَا سَيَلَانٍ، فَقَدْ «رَوَتْ أُمُّ قَيْسِ بِنْتُ مُحْصَنٍ- رضي الله عنها- أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ» أَمَّا بَوْلُ الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ فَلَا يُجْزِئُ فِي تَطْهِيرِهِ النَّضْحُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْغَسْلِ، لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ «يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ، وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ»، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ الِائْتِلَافَ بِحَمْلِ الصَّبِيِّ يَكْثُرُ، فَيُخَفَّفُ فِي بَوْلِهِ، وَبِأَنَّ بَوْلَهُ أَرَقُّ مِنْ بَوْلِهَا، فَلَا يَلْصَقُ بِالْمَحَلِّ كَلَصْقِ بَوْلِهَا بِهِ.

قَالَ أَحْمَدُ: الصَّبِيُّ إِذَا طَعِمَ الطَّعَامَ وَأَرَادَهُ وَاشْتَهَاهُ غُسِلَ بَوْلُهُ، وَلَيْسَ إِذَا طَعِمَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَلْعَقُ الْعَسَلَ، وَمَا يَطْعَمُهُ لِغِذَائِهِ وَهُوَ يُرِيدُهُ وَيَشْتَهِيهِ يُوجِبُ الْغَسْلَ (ر: أُنُوثَة ف 16).

تَطْهِيرُ أَوَانِي الْخَمْرِ:

27- الْأَصْلُ فِي تَطْهِيرِ أَوَانِي الْخَمْرِ هُوَ غَسْلُهَا، بِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِيمَا كَانَ مُزَفَّتًا مِنَ الْآنِيَةِ.

وَفِي هَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا ثَلَاثًا بِحَيْثُ لَا تَبْقَى فِيهَا رَائِحَةُ الْخَمْرِ وَلَا أَثَرُهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ رَائِحَتُهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَائِعَاتِ سِوَى الْخَلِّ؛ لِأَنَّهُ بِجَعْلِهِ فِيهَا تَطْهُرُ وَإِنْ لَمْ تُغْسَلْ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْخَمْرِ يَتَخَلَّلُ بِالْخَلِّ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: الْكُوزُ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْرٌ تَطْهِيرُهُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ الْمَاءُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلَّ مَرَّةٍ سَاعَةً، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطْهُرُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا زَالَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ، وَيُنْدَبُ غَسْلُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».

فَنُدِبَ إِلَى الثَّلَاثِ لِلشَّكِّ فِي النَّجَاسَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ إِذَا تَيَقَّنَ وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً.

وَالْغَسْلُ الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُكَاثِرَ بِالْمَاءِ حَتَّى تُسْتَهْلَكَ النَّجَاسَةُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ: فِي طَهَارَةِ الْفَخَّارِ مِنْ نَجِسِ غَوَّاصٍ كَالْخَمْرِ قَوْلَانِ، قَالَ الْمَوَّاقُ نَقْلًا عَنِ النَّوَادِرِ فِي أَوَانِي الْخَمْرِ: تُغْسَلُ وَيُنْتَفَعُ بِهَا، وَلَا تَضُرُّهَا الرَّائِحَةُ.وَتَطْهُرُ أَوَانِيهِ إِذَا تَحَجَّرَتِ الْخَمْرُ فِيهَا أَوْ خُلِّلَتْ، وَيَطْهُرُ إِنَاؤُهَا تَبَعًا لَهَا وَلَوْ فَخَّارًا بِغَوَّاصٍ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي الْإِنَاءِ خَمْرٌ يَتَشَرَّبُهَا الْإِنَاءُ، ثُمَّ مَتَى جُعِلَ فِيهِ مَائِعٌ، سَوَاءٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ أَوْ لَوْنُهُ، لَمْ يَطْهُرْ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يَسْتَأْصِلُ أَجْزَاءَهُ مِنْ جِسْمِ الْإِنَاءِ، فَلَمْ يُطَهِّرْهُ.كَالسِّمْسِمِ إِذَا ابْتَلَّ بِالنَّجَاسَةِ، قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ: آنِيَةُ الْخَمْرِ مِنْهَا الْمُزَفَّتُ، فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الزِّفْتَ يَمْنَعُ وُصُولَ النَّجَاسَةِ إِلَى: جِسْمِ الْإِنَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِمُزَفَّتٍ، فَيَتَشَرَّبُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ، فَلَا يَطْهُرُ بِالتَّطْهِيرِ، فَإِنَّهُ مَتَى تُرِكَ فِيهِ مَائِعٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ وَلَوْنُهُ.

تَطْهِيرُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ وَمَلَابِسِهِمْ:

28- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ فِي آنِيَةِ الْكُفَّارِ: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ لِأَنَّ سُؤْرَهُمْ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ اللُّعَابُ، وَقَدْ تَوَلَّدَ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ، فَيَكُونُ طَاهِرًا، فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا مُشْرِكِينَ».

وَلَوْ كَانَ عَيْنُ الْمُشْرِكِ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ: وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّجَسُ فِي الْعَقِيدَةِ، فَمَتَى تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى مَا تَنَجَّسَ مِنْ أَوَانِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَسْلٍ وَغَيْرِهِ، إِذْ لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ، وَلَا يُكْرَهُ مِنْهَا إِلاَّ السَّرَاوِيلُ الْمُتَّصِلَةُ بِأَبْدَانِهِمْ لِاسْتِحْلَالِهِمُ الْخَمْرَ، وَلَا يَتَّقُونَهَا كَمَا لَا يَتَوَقَّوْنَ النَّجَاسَةَ وَالتَّنَزُّهَ عَنْهَا، فَلَوْ أَمِنَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لَهَا وَكَانَ التَّأَكُّدُ مِنْ طَهَارَتِهَا قَائِمًا، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لُبْسُهَا، وَإِذَا تَنَجَّسَتْ جَرَى عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى تَطْهِيرِ مَلَابِسِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا تُصِيبُهَا نَجَاسَةٌ، سَوَاءٌ بِالْغَسْلِ أَوْ غَيْرِهِ.

وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِعْمَالَ أَوَانِيَهُمْ وَثِيَابَهُمْ لِمَا «رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلاَّ أَنْ لَا تَجِدُوا بُدًّا، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا».وَلِأَنَّهُمْ لَا يَتَجَنَّبُونَ النَّجَاسَةَ فَكُرِهَ لِذَلِكَ.

فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ أَوَانِيهِمْ نُظِرَتْ: فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ صَحَّ الْوُضُوءُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» وَتَوَضَّأَ عُمَرُ- رضي الله عنه- مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيٍّ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ.

وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ الْوُضُوءُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ، وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ كَمَا يَتَدَيَّنُ.

الْمُسْلِمُونَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ أَوَانِيهِمْ وَثِيَابِهِمُ النَّجَاسَةُ.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ اسْتِعْمَالَ أَوَانِيهِمْ إِلاَّ إِذَا تَيَقَّنَ عَدَمَ طَهَارَتِهَا، وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَسْتَنْجُونَ وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنَ النَّجَاسَاتِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةَ، فَإِذَا تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِزَوَالِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَهُ صِفَةُ الطَّهُورِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِمَلَابِسِهِمْ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ مَا لَمْ يُصِبْهَا النَّجِسُ، وَلِذَا لَا يُصَلَّى فِي مَلَابِسِهِمْ أَيْ مَا يَلْبَسُونَهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهَا، فَحُمِلَ عَلَيْهَا عِنْدَ الشَّكِّ: أَمَّا إِنْ عُلِمَتْ أَوْ ظُنَّتْ طَهَارَتُهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى فِيهَا.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ فِي ثِيَابِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ مُبَاحَةُ الِاسْتِعْمَالِ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، وَأَضَافُوا: إِنَّ الْكُفَّارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ- أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ- فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَيُبَاحُ أَكْلُ طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَاسْتِعْمَالِ آنِيَتِهِمْ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ- رضي الله عنه- قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا.قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُتَبَسِّمًا».

وَرَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَضَافَهُ يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ»، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.

وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ- وَهُمُ الْمَجُوس وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَنَحْوُهُمْ- وَمَنْ يَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُمْ أَكْلُهُ، أَوْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، أَوْ يَذْبَحُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ فَحُكْمُ ثِيَابِهِمْ حُكْمُ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَأَمَّا أَوَانِيهِمْ فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: حُكْمُهَا حُكْمُ أَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ، يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهَا مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهَا، «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ.

وَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ نَجِسَةٌ، لَا يُسْتَعْمَلُ مَا اسْتَعْمَلُوهُ مِنْهَا إِلاَّ بَعْدَ غَسْلِهِ، لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِأَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ، فَتَتَنَجَّسُ بِهَا وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ: لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَعَامِهِمْ إِلاَّ الْفَاكِهَةُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَةُ آنِيَتِهِمُ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي أَطْعِمَتِهِمْ، وَمَتَى شَكَّ فِي الْإِنَاءِ هَلْ اسْتَعْمَلُوهُ أَمْ لَا؟ فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ.

تَطْهِيرُ الْمَصْبُوغِ بِنَجِسٍ:

29- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمَصْبُوغَ بِنَجِسٍ يَطْهُرُ بِغُسْلِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: يُغْسَلُ حَتَّى يَصِيرَ الْمَاءُ صَافِيًا، وَقِيلَ: يُغْسَلُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ حَتَّى يَزُولَ طَعْمُ النَّجِسِ، وَمَتَى زَالَ طَعْمُهُ فَقَدْ طَهُرَ وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ لَوْنِهِ وَرِيحِهِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: يُغْسَلُ حَتَّى يَنْفَصِلَ النَّجِسُ مِنْهُ وَلَمْ يَزِدِ الْمَصْبُوغُ وَزْنًا بَعْدَ الْغَسْلِ عَلَى وَزْنِهِ قَبْلَ الصَّبْغِ، وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لِعُسْرِ زَوَالِهِ، فَإِنْ زَادَ وَزْنُهُ ضَرَّ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ لِتَعَقُّدِهِ بِهِ لَمْ يَطْهُرْ، لِبَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهِ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- فِي الدَّمِ: «وَلَا يَضُرُّكَ أَثَرُهُ».

رَمَادُ النَّجِسِ الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ:

30- الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبِهِ يُفْتَى، وَالْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ: أَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ طَاهِرٌ، فَيَطْهُرُ بِالنَّارِ الْوَقُودُ الْمُتَنَجِّسُ وَالسِّرْقِينُ وَالْعَذِرَةُ تَحْتَرِقُ فَتَصِيرُ رَمَادًا تَطْهُرُ، وَيَطْهُرُ مَا تَخَلَّفَ عَنْهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَمَاد ج 23، ف 3).

تَطْهِيرُ مَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ:

31- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اللَّحْمِ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ، هَلْ يَطْهُرُ أَمْ لَا؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- عَدَا أَبِي يُوسُفَ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِذَا صَبَّ الطَّبَّاخُ فِي الْقِدْرِ مَكَانَ الْخَلِّ خَمْرًا غَلَطًا، فَالْكُلُّ نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُغْلَى ثَلَاثًا لَا يُؤْخَذُ بِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ مِنْ مَاءٍ، أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ حَالَ طَبْخِهِ قَبْلَ نُضْجِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، أَمَّا إِنْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ بَعْدَ نُضْجِهِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْسِلَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَرَقِ.

وَقَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ تَطُلْ إِقَامَةُ النَّجَاسَةِ فِيهِ، بِحَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهَا سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ طَهَارَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغْسَلُ ثُمَّ يُعْصَرُ كَالْبِسَاطِ، الثَّانِي: يُشْتَرَطُ أَنْ يَغْلِيَ بِمَاءٍ طَهُورٍ.وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِوُجُوبِ السَّقْي مَرَّةً ثَانِيَةً وَالْغَلْيِ، وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الِاكْتِفَاءَ بِالْغُسْلِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْفَخَّارِ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، هَلْ يَطْهُرُ أَمْ لَا؟

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَخَّارَ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ لَا يَطْهُرُ.

وَنَقَلَ الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْبُنَانِيِّ أَنَّ الْفَخَّارَ الْبَالِيَ إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةُ غَوَّاصَةٍ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ هُوَ الْفَخَّارُ الَّذِي لَمْ يُسْتَعْمَلْ قَبْلَ حُلُولِ الْغَوَّاصِ فِيهِ، أَوِ اسْتُعْمِلَ قَلِيلًا، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِثْلَ الْفَخَّارِ أَوَانِي الْخَشَبِ الَّذِي يُمْكِنُ سَرَيَانُ النَّجَاسَةِ إِلَى دَاخِلِهِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْخَزَفِ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ ثَلَاثًا، وَيُجَفَّفَ كُلَّ مَرَّةٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقْيَسُ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْسَعُ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بَاطِنُ حَبٍّ تَشَرَّبَ النَّجَاسَةَ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ طُبِخَتِ الْحِنْطَةُ فِي الْخَمْرِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُطْبَخُ ثَلَاثًا بِالْمَاءِ وَتُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا طُبِخَتْ فِي الْخَمْرِ لَا تَطْهُرُ أَبَدًا، وَبِهِ يُفْتَى، إِلاَّ إِذَا صُبَّ فِيهِ الْخَلُّ، وَتُرِكَ حَتَّى صَارَ الْكُلُّ خَلًّا.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّيْتُونَ الَّذِي مُلِّحَ بِنَجِسٍ، بِأَنْ جُعِلَ عَلَيْهِ مِلْحٌ نَجِسٌ يُصْلِحُهُ، إِمَّا وَحْدَهُ أَوْ مَعَ مَاءٍ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ بَعْدَ تَمْلِيحِهِ وَاسْتِوَائِهِ، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْجُبْنِ وَاللَّيْمُونِ وَالنَّارِنْجِ وَالْبَصَلِ وَالْجَزَرِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ، وَمَحَلُّ عَدَمِ الضَّرَرِ إِذَا لَمْ تَمْكُثِ النَّجَاسَةُ مُدَّةً يُظَنُّ أَنَّهَا سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.

كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْضَ الَّذِي سُلِقَ بِنَجِسٍ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمَسْلُوقُ فِيهِ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ أَمْ لَا.

وَقَالَ الْبُنَانِيِّ: الظَّاهِرُ- كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ- أَنَّ الْمَاءَ إِذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، ثُمَّ سُلِقَ فِيهِ الْبَيْضُ، فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُهُ، حَيْثُ إِنَّ الْمَاءَ حِينَئِذٍ طَهُورٌ وَلَوْ قَلَّ عَلَى الْمَشْهُورِ.

أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ عَلَى الْبَيْضِ الْمَسْلُوقِ نَجَاسَةٌ بَعْدَ سَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ شُوِيَ الْبَيْضُ الْمُتَنَجِّسُ قِشْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّبِنَ الْمُخْتَلِطَ بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ- كَالرَّوْثِ وَعِظَامِ الْمَيْتَةِ- نَجِسٌ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهِ لِعَيْنِ النَّجَاسَةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ طُبِخَ فَالْمَذْهَبُ- وَهُوَ الْجَدِيدُ- أَنَّهُ عَلَى نَجَاسَتِهِ.أَمَّا اللَّبِنُ غَيْرُ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ، بِأَنْ نَجِسَ بِسَبَبِ عَجْنِهِ بِمَاءٍ نَجِسٍ أَوْ بَوْلٍ، فَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَيَطْهُرُ بَاطِنُهُ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ عَجِينٌ تَنَجَّسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


18-موسوعة الفقه الكويتية (متحيرة 2)

مُتَحَيِّرَةٌ -2

ب- الِاحْتِيَاطُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَقَضَائِهِ

11- اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ تَصُومُ رَمَضَانَ كَامِلًا وُجُوبًا، لِاحْتِمَالِ طَهَارَتِهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ.

وَقَدْ أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لَهَا صِيَامَ التَّطَوُّعِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ مَنَعُوهَا مِنْهُ.

وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَضَاءِ رَمَضَانَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تَصُومُ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرًا آخَرَ كَامِلًا ثَلَاثِينَ يَوْمًا مُتَوَالِيَةً، فَيَحْصُلُ لَهَا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَذَا إِذَا كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا، فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهَا مِنْهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَيَبْقَى لَهَا يَوْمَانِ سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا أَوْ نَاقِصًا، وَذَلِكَ إِنْ لَمْ تَعْتَدْ الِانْقِطَاعَ لَيْلًا كَأَنِ اعْتَادَتْهُ نَهَارًا، أَوْ شَكَّتْ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَحِيضَ فِيهِمَا أَكْثَرَ الْحَيْضِ، وَيَطْرَأُ الدَّمُ فِي يَوْمٍ وَيَنْقَطِعُ فِي يَوْمٍ آخَرَ، فَيَفْسُدُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ كُلٍّ مِنَ الشَّهْرَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اعْتَادَتْ الِانْقِطَاعَ لَيْلًا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَيْهَا شَيْءٌ.

وَإِذَا بَقِيَ عَلَيْهَا يَوْمَانِ فَأَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَلَهَا فِي قَضَائِهِ طَرِيقَانِ: إِحْدَاهُمَا: طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ: وَتُجْرَى فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَمَا دُونَهَا، وَذَلِكَ أَنْ تُضَعِّفَ مَا عَلَيْهَا وَتَزِيدَ عَلَيْهِ يَوْمَيْنِ، وَتَقْسِمَ الْجَمِيعَ نِصْفَيْنِ فَتَصُومَ نِصْفَهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَنِصْفَهُ فِي أَوَّلِ النِّصْفِ الْآخَرِ، وَالْمَقْصُودُ بِالشَّهْرِ هُنَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا مَتَى شَاءَتِ ابْتَدَأَتْ، وَعَلَى هَذَا إِذَا أَرَادَتْ صَوْمَ يَوْمَيْنِ فَإِنَّهَا تَصُومُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثَلَاثَةً أَوَّلَهَا وَثَلَاثَةً مِنْ آخِرِهَا فَيَحْصُلُ الْيَوْمَانِ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُفْسِدُهُ الْحَيْضُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا فَيَحْصُلُ لَهَا يَوْمَانِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، لِأَنَّ الْحَيْضَ إِنْ طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ صَوْمِهَا انْقَطَعَ فِي أَثْنَاءِ السَّادِسَ عَشَرَ فَيَحْصُلُ الْيَوْمَانِ بَعْدَهُ، أَوْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي انْقَطَعَ فِي السَّابِعَ عَشَرَ فَيَحْصُلُ الْأَوَّلُ وَالْأَخِيرُ أَوْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَيَحْصُلُ الْيَوْمَانِ الْأَوَّلَانِ، أَوْ فِي الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ انْقَطَعَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ فَيَحْصُلُ لَهَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ، أَوْ فِي السَّابِعَ عَشَرَ انْقَطَعَ فِي الثَّانِي فَيَحْصُلُ لَهَا السَّادِسَ عَشَرَ وَالثَّالِثُ، أَوْ فِي الثَّامِنَ عَشَرَ انْقَطَعَ فِي الثَّالِثِ فَيَحْصُلُ لَهَا السَّادِسَ عَشَرَ وَالسَّابِعَ عَشَرَ.

وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: طَرِيقَةُ الدَّارِمِيِّ وَاسْتَحْسَنَهَا النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ، وَتُجْرَى فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا، أَنْ تَصُومَ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهَا بِزِيَادَةِ يَوْمٍ مُتَفَرِّقٍ بِأَيِّ وَجْهٍ شَاءَتْ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تُعِيدُ الصَّوْمَ كُلَّ يَوْمٍ غَيْرَ الزِّيَادَةِ يَوْمَ سَابِعَ عَشَرَ، وَلَهَا تَأْخِيرُهُ إِلَى خَامِسَ عَشَرَ ثَانِيَةً، فَيُمْكِنُ قَضَاءُ يَوْمٍ بِصَوْمِ يَوْمٍ، ثُمَّ الثَّالِثُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالسَّابِعَ عَشَرَ مِنْهُ، لِأَنَّهَا قَدْ صَامَتْ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهَا أَوَّلًا بِزِيَادَةِ يَوْمٍ مُتَفَرِّقًا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبِقَدْرِ مَا عَلَيْهَا فِي سَابِعَ عَشَرَ فَيَقَعُ لَهَا فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثِ فِي الطُّهْرِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.

وَهَذَا فِي غَيْرِ الصَّوْمِ الْمُتَتَابِعِ، أَمَّا الْمُتَتَابِعُ بِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ: فَإِنْ كَانَ سَبْعَةً فَمَا دُونَهَا صَامَتْهُ وَلَاءً تَصُومُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الثَّالِثَةُ مِنْهَا فِي سَابِعَ عَشَرَ شُرُوعُهَا فِي الصَّوْمِ بِشَرْطِ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ كُلِّ مَرَّتَيْنِ مِنَ الثَّلَاثِ بِيَوْمٍ فَأَكْثَرَ حَيْثُ يَتَأَتَّى الْأَكْثَرُ، وَذَلِكَ فِيمَا دُونَ السَّبْعِ فَلِقَضَاءِ يَوْمَيْنِ وَلَاءً تَصُومُ يَوْمًا وَثَانِيَهُ، وَلِسَابِعَ عَشْرَةَ وَثَامِنَ عَشْرَةَ وَيَوْمَيْنِ بَيْنَهُمَا وَلَاءً غَيْرَ مُتَّصِلَيْنِ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّوْمَيْنِ فَتَبْرَأُ، لِأَنَّ الْحَيْضَ إِنْ فُقِدَ فِي الْأَوَّلَيْنِ صَحَّ صَوْمُهُمَا، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِمَا صَحَّ الْأَخِيرَانِ إِذْ لَمْ يَفْدِ فِيهِمَا، وَإِلاَّ فَالمُتَوَسِّطَانِ، وَإِنْ وُجِدَ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي صَحَّا- أَيْضًا- أَوْ بِالْعَكْسِ.

فَإِنِ انْقَطَعَ قَبْلَ السَّابِعَ عَشَرَ صَحَّ مَعَ مَا بَعْدَهُ، وَإِنِ انْقَطَعَ فِيهِ صَحَّ الْأَوَّلُ وَالثَّامِنَ عَشَرَ، وَتَخَلُّلُ الْحَيْضِ لَا يَقْطَعُ الْوَلَاءَ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ الَّذِي تَخَلَّلَهُ قَدْرًا يَسَعُ وَقْتَ الطُّهْرِ لِضَرُورَةِ تَحَيُّرِ الْمُسْتَحَاضَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَتَابِعُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَمَا دُونَهَا صَامَتْ لَهُ سِتَّةَ عَشَرَ وَلَاءً، ثُمَّ تَصُومُ قَدْرَ الْمُتَتَابِعِ أَيْضًا وَلَاءً بَيْنَ أَفْرَادِهِ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ السِّتَّةَ عَشَرَ، فَلِقَضَاءِ ثَمَانِيَةٍ مُتَتَابِعَةٍ تَصُومُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَلَاءً فَتَبْرَأُ إِذِ الْغَايَةُ بُطْلَانُ سِتَّةَ عَشَرَ، فَيَبْقَى لَهَا ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ مِنَ الْآخَرِ أَوْ مِنْهُمَا أَوْ مِنَ الْوَسَطِ، وَلِقَضَاءِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ تَصُومُ ثَلَاثِينَ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلَيْهَا شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ صَامَتْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَاءً فَتَبْرَأُ، إِذْ يَحْصُلُ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَيَحْصُلُ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ، وَمِنْ عِشْرِينَ الْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ.

وَإِنَّمَا وَجَبَ الْوَلَاءُ لِأَنَّهَا لَوْ فَرَّقَتِ احْتَمَلَ وُقُوعَ الْفِطْرِ فِي الطُّهْرِ فَيَقْطَعُ الْوَلَاءَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ لَا تُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ أَصْلًا، لِاحْتِمَالِ طَهَارَتِهَا كُلَّ يَوْمٍ ثُمَّ إِنَّ لَهَا حَالَاتٍ، لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ حَيْضَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً أَوْ لَا، وَعَلَى كُلٍّ إِمَّا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ، أَوْ لَا تَعْلَمُ، وَعَلَى كُلٍّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ كَامِلًا أَوْ نَاقِصًا، وَعَلَى كُلٍّ إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا.

فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ دَوْرَتَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةٌ وَأَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا بِاللَّيْلِ أَوِ النَّهَارِ، أَوْ عَلِمَتْ أَنَّهُ بِالنَّهَارِ وَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ إِنْ قَضَتْ مَوْصُولًا بِرَمَضَانَ، وَثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ إِنْ قَضَتْ مَفْصُولًا، لِأَنَّهَا إِذَا عَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَهُ بِالنَّهَارِ يَكُونُ تَمَامُ حَيْضِهَا فِي الْحَادِي عَشَرَ وَإِذَا لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ بِاللَّيْلِ أَوِ النَّهَارِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ بِالنَّهَارِ أَيْضًا لِأَنَّهُ الْأَحْوَطُ، وَحِينَئِذٍ فَأَكْثَرُ مَا فَسَدَ مِنْ صَوْمِهَا فِي الشَّهْرِ سِتَّةَ عَشَرَ.

إِمَّا أَحَدَ عَشَرَ مِنْ أَوَّلِهِ وَخَمْسَةٌ مِنْ آخِرِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَعَلَيْهَا قَضَاءُ ضِعْفِهَا وَذَلِكَ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَحِيضَ فِي رَمَضَانَ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَّا عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَحِيضَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَقَعُ لَهَا فِيهِ طُهْرٌ كَامِلٌ وَبَعْضُ طُهْرٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَحِيضَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، وَحِينَئِذٍ فَيَصِحُّ لَهَا صَوْمُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتُعَامَلُ بِالْأَضَرِّ احْتِيَاطًا فَتَقْضِي سِتَّةَ عَشَرَ، لَكِنْ لَا تَتَيَقَّنُ بِصِحَّتِهَا كُلِّهَا إِلاَّ بِقَضَاءِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَوْصُولِ أَنْ تَبْتَدِئَ مِنْ ثَانِي شَوَّالٍ لِأَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ لَا يَجُوزُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ رَمَضَانُ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا، فَيَوْمُ الْفِطْرِ هُوَ السَّادِسُ مِنْ حَيْضِهَا الثَّانِي فَلَا تَصُومُهُ، ثُمَّ لَا يُجْزِيهَا صَوْمُ خَمْسَةٍ بَقِيَّةَ حَيْضِهَا ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ، ثُمَّ لَا يُجْزِيهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي يَوْمَيْنِ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، وَإِنَّمَا كَانَ قَضَاءُ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ فِي الْمَفْصُولِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقَضَاءِ وَافَقَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ حَيْضِهَا فَلَا يُجْزِيهَا الصَّوْمُ فِي أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ يُجْزِي فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ، ثُمَّ لَا يُجْزِي فِي أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ يُجْزِي فِي يَوْمَيْنِ، فَالْجُمْلَةُ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ يَجِبُ عَلَيْهَا صَوْمُهَا لِتَتَيَقَّنَ بِجَوَازِ سِتَّةَ عَشَرَ مِنْهَا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي شَرْحِ رِسَالَةِ الْبَرْكَوِيِّ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَضَاءُ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ إِلاَّ إِذَا فَرَضْنَا فَسَادَ سِتَّةَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ مَعَ فَرْضِ مُصَادَفَةِ أَوَّلِ الْقَضَاءِ لِأَوَّلِ الْحَيْضِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُمْكِنِ اجْتِمَاعُ الْفَرْضَيْنِ لَا يَلْزَمُ قَضَاءُ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ بَلْ أَقَلُّ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا طَرْدَ بَعْضِ الْفَصْلِ بِالتَّسْوِيَةِ تَيْسِيرًا عَلَى الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي بِإِسْقَاطِ مُؤْنَةِ الْحِسَابِ، فَمَتَى قَاسَتْ مُؤْنَتَهُ فَلَهَا الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ.

وَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ بِحَالِهَا وَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَإِنَّهَا تَقْضِي فِي الْوَصْلِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَفِي الْفَصْلِ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ، وَإِنَّمَا تَقْضِي فِي الْوَصْلِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِجَوَازِ الصَّوْمِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَبِفَسَادِهِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ لَا يَجْزِيهَا الصَّوْمُ فِي سَبْعَةٍ مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ لِأَنَّهَا بَقِيَّةُ حَيْضِهَا عَلَى تَقْدِيرِ حَيْضِهَا بِأَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَلَا يُجْزِيهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي يَوْمٍ.

وَكَانَ قَضَاؤُهَا فِي الْفَصْلِ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ لِجَوَازِ أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُهَا ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا فَلَا يُجْزِيهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ لَا يُجْزِيهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي يَوْمٍ، وَقَوْلُ ابْنِ عَابِدِينَ السَّابِقُ يَجْرِي هُنَا أَيْضًا.

وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا بِاللَّيْلِ وَشَهْرُ رَمَضَانَ ثَلَاثُونَ فَتَقْضِي فِي الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَإِنْ كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ تَقْضِي فِي الْوَصْلِ عِشْرِينَ وَفِي الْفَصْلِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ قَضَاؤُهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فِي الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ، أَمَّا فِي الْوَصْلِ فَلِاحْتِمَالِ أَنَّ حَيْضَهَا خَمْسَةً مِنْ أَوَّلِ رَمَضَانَ بَقِيَّةُ الْحَيْضِ، ثُمَّ طُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ حَيْضُهَا عَشْرَةٌ، فَالْفَاسِدُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِذَا قَضَتْهَا مَوْصُولَةً فَيَوْمُ الْعِيدِ أَوَّلُ طُهْرِهَا وَلَا تَصُومُهُ، ثُمَّ يُجْزِيهَا الصَّوْمُ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ لَا يُجْزِي فِي عَشْرَةٍ ثُمَّ يُجْزِي فِي يَوْمٍ وَالْجُمْلَةُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ حَيْضَهَا عَشَرَةٌ مِنْ أَوَّلِ رَمَضَانَ وَخَمْسَةٌ مِنْ آخِرِهِ تَصُومُ أَرْبَعَةً مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ لَا تُجْزِيهَا لِأَنَّهَا بَقِيَّةُ حَيْضِهَا، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ تُجْزِيهَا، وَالْجُمْلَةُ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَحْوَطُ فَيَلْزَمُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَأَمَّا فِي الْفَصْلِ فَلِاحْتِمَالِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقَضَاءِ وَافَقَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ حَيْضِهَا فَلَا يُجْزِيهَا الصَّوْمُ فِي عَشْرَةٍ ثُمَّ يُجْزِي فِي خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ إِنَّهَا تَقْضِي فِي الْوَصْلِ عِشْرِينَ إِنْ كَانَ رَمَضَانُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، لِأَنَّهَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَحِيضَ خَمْسَةً مِنْ أَوَّلِ رَمَضَانَ وَتِسْعَةً مِنْ آخِرِهِ، أَوْ عَشْرَةً مِنْ أَوَّلِهِ وَأَرْبَعَةً مِنْ آخِرِهِ، فَالْفَاسِدُ فِيهِمَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَحِيضَ فِي أَثْنَائِهِ كَأَنْ حَاضَتْ لَيْلَةَ السَّادِسِ وَطَهُرَتْ لَيْلَةَ السَّادِسَ عَشَرَ وَالْفَاسِدُ فِيهِ عَشْرَةٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ أَوَّلُ الْقَضَاءِ وَهُوَ ثَانِي شَوَّالٍ أَوَّلَ طُهْرِهَا فَتَصُومُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَتُجْزِيهَا، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ ثَانِي شَوَّالٍ سَادِسَ يَوْمٍ مِنْ حَيْضِهَا فَتَصُومُ خَمْسَةً لَا تُجْزِيهَا، ثُمَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتُجْزِيَهَا، وَالْجُمْلَةُ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَعَلَى الثَّالِثِ يَكُونُ أَوَّلُ الْقَضَاءِ أَوَّلَ الْحَيْضِ فَتَصُومُ عَشَرَةً لَا تُجْزِي ثُمَّ عَشْرَةً مِنَ الطُّهْرِ فَتُجْزِيهَا عَنِ الْعَشْرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا وَالْجُمْلَةُ عِشْرُونَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُجْزِيهَا قَضَاءُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَعَلَى الثَّانِي تِسْعَةَ عَشَرَ، وَعَلَى الثَّالِثِ عِشْرِينَ فَتَلْزَمُهَا احْتِيَاطًا، كَمَا أَنَّهَا تَقْضِي فِي الْفَصْلِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْفَاسِدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَأَنَّ الْقَضَاءَ وَافَقَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ حَيْضِهَا فَتَصُومُ عَشَرَةً لَا تُجْزِي ثُمَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ تُجْزِي وَالْجُمْلَةُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ.

وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةٌ وَعَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَهُ بِالنَّهَارِ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ بِالنَّهَارِ فَإِنَّهَا تَقْضِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ مُطْلَقًا بِالْوَصْلِ وَالْفَصْلِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِالنَّهَارِ يَفْسُدُ مِنْ صَوْمِهَا أَحَدَ عَشَرَ، فَإِذَا قَضَتْ مُطْلَقًا احْتَمَلَ أَنْ يُوَافِقَ أَوَّلُ الْقَضَاءِ أَوَّلَ الْحَيْضِ فَتَصُومُ أَحَدَ عَشَرَ لَا تُجْزِئُ ثُمَّ أَحَدَ عَشَرَ تُجْزِئُ، وَالْجُمْلَةُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ تَخْرُجُ بِهَا عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ.

وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَهُ بِاللَّيْلِ تَقْضِي عِشْرِينَ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ صَوْمِهَا عَشْرَةٌ فَتَقْضِي ضِعْفَهَا لِاحْتِمَالِ مُوَافَقَةِ الْقَضَاءِ أَوِ الْحَيْضِ، وَصَلَتْ أَوْ فَصَلَتْ، هَذَا كُلُّهُ إِنْ لَمْ تَعْلَمِ الْمَرْأَةُ عَدَدَ أَيَّامِهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ.

أَمَّا إِنْ عَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ تِسْعَةٌ وَطُهْرَهَا بَقِيَّةُ الشَّهْرِ، وَعَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَهُ بِاللَّيْلِ، فَإِنَّهَا تَقْضِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مُطْلَقًا وَصَلَتْ أَوْ فَصَلَتْ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمِ ابْتِدَاءَهُ أَوْ عَلِمَتْ أَنَّهُ بِالنَّهَارِ فَإِنَّهَا تَقْضِي عِشْرِينَ مُطْلَقًا، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فَسَدَ مِنْ صَوْمِهَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تِسْعَةٌ وَفِي الثَّانِي عَشَرَةٌ، فَتَقْضِي ضِعْفَ ذَلِكَ، لِاحْتِمَالِ اعْتِرَاضِ الْحَيْضِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْقَضَاءِ.

وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَنَسِيَتْ طُهْرَهَا فَإِنَّهُ يُحْمَلُ طُهْرُهَا عَلَى الْأَقَلِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ رَمَضَانُ تَامًّا وَعَلِمَتِ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا بِاللَّيْلِ فَإِنَّهَا تَقْضِي تِسْعَةً مُطْلَقًا، وَصَلَتْ أَوْ فَصَلَتْ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا حَاضَتْ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ ثَلَاثَةً ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ حَاضَتْ ثَلَاثَةً ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَقَدْ فَسَدَ مِنْ صَوْمِهَا سِتَّةٌ، فَإِذَا وَصَلَتِ الْقَضَاءَ جَازَ لَهَا بَعْدَ الْفِطْرِ خَمْسَةٌ ثُمَّ تَحِيضُ ثَلَاثَةً فَتَفْسُدُ، ثُمَّ تَصُومُ يَوْمًا فَتَصِيرُ تِسْعَةً، وَإِذَا فَصَلَتِ احْتَمَلَ اعْتِرَاضَ الْحَيْضِ فِي أَوَّلِ يَوْمِ الْقَضَاءِ، فَيَفْسُدُ صَوْمُهَا فِي ثَلَاثَةٍ ثُمَّ يَجُوزُ فِي سِتَّةٍ فَتَصِيرُ تِسْعَةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا فَإِذَا وَصَلَتْ جَازَ لَهَا بَعْدَ الْفِطْرِ سِتَّةٌ تَكْفِيهَا، وَأَمَّا إِذَا فَصَلَتْ فَتَقْضِي تِسْعَةً كَمَا فِي التَّمَامِ.

وَإِنْ لَمْ تَعْلَمِ ابْتِدَاءَهُ، أَوْ عَلِمَتْ أَنَّهُ بِالنَّهَارِ فَإِنَّهَا تَقْضِي اثْنَيْ عَشَرَ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا حَاضَتْ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ فَيَفْسُدُ صَوْمُهَا فِي أَرْبَعَةٍ ثُمَّ يَجُوزُ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ يَفْسُدُ فِي أَرْبَعَةٍ فَقَدْ فَسَدَ ثَمَانِيَةٌ، فَإِذَا قَضَتْ مَوْصُولًا جَازَ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ خَمْسَةٌ تَكْمِلَةَ طُهْرِهَا الثَّانِي، ثُمَّ يَفْسُدُ أَرْبَعَةٌ ثُمَّ يَجُوزُ ثَلَاثَةٌ تَمَامَ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَإِذَا فَصَلَتِ احْتَمَلَ عُرُوضَ الْحَيْضِ فِي أَوَّلِ الْقَضَاءِ، فَيَفْسُدُ فِي أَرْبَعَةٍ ثُمَّ يَجُوزُ فِي ثَمَانِيَةٍ وَالْجُمْلَةُ اثْنَا عَشَرَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا فَإِذَا وَصَلَتْ جَازَ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ سِتَّةٌ تَكْمِلَةَ طُهْرِهَا الثَّانِي، ثُمَّ يَفْسُدُ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ يَجُوزُ يَوْمَانِ تَمَامَ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَإِذَا فَصَلَتِ احْتَمَلَ عُرُوضَ الْحَيْضِ فِي أَوَّلِ الْقَضَاءِ فَيَفْسُدُ فِي أَرْبَعَةٍ ثُمَّ يَجُوزُ فِي ثَمَانِيَةٍ فَالْجُمْلَةُ اثْنَا عَشَرَ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الِاحْتِيَاطِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: النَّاسِيَةُ لِوَقْتِهَا وَعَدَدِهَا تَجْلِسُ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً يَكُونُ ذَلِكَ حَيْضَهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَهِيَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَحَاضَةٌ تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتَطُوفُ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَجْلِسُ أَقَلَّ الْحَيْضِ.

ثُمَّ إِنْ كَانَتْ تَعْرِفُ شَهْرَهَا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ جَلَسَتْ ذَلِكَ مِنْ شَهْرِهَا، وَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ شَهْرَهَا جَلَسَتْ مِنَ الشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ.

ج- الِاحْتِيَاطُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ

12- اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لِاحْتِمَالِ الْحَيْضِ، وَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لَهَا أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ مُطْلَقًا فَاتِحَةً أَوْ غَيْرَهَا.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّهَا تَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً قَصِيرَةً فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ إِلاَّ الْأَخِيرَةَ أَوِ الْأَخِيرَتَيْنِ مِنَ الْفَرْضِ، فَلَا تَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ السُّورَةَ بَلْ تَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فَقَطْ لِوُجُوبِهَا، كَمَا صَرَّحُوا بِجَوَازِ قِرَاءَتِهَا لِلْقُنُوتِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِلْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَكَذَا تُقْرَأُ سَائِرُ الدَّعَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ.

وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تُبَاحُ لَهَا الْقِرَاءَةُ مُطْلَقًا خَوْفَ النِّسْيَانِ بِخِلَافِ الْجُنُبِ لِقِصَرِ زَمَنِ الْجَنَابَةِ.

وَقِيلَ: تَحْرُمُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ كَالْجُنُبِ الْفَاقِدِ لِلطَّهُورَيْنِ.

كَمَا اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى حُرْمَةِ مَسِّهَا لِلْمُصْحَفِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ حَمْلَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا تَمْنَعُ الِاسْتِحَاضَةُ شَيْئًا مِمَّا يَمْنَعُ مِنْهُ الْحَيْضُ.

د- الِاحْتِيَاطُ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالطَّوَافِ

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ.

وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لَهَا أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ وَتُصَلِّيَ فِيهِ لَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَمْكُثَ فِيهِ، قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: وَهُوَ مُتَّجَهٌ إِنْ كَانَ لِغَرَضِ دُنْيَوِيٍّ أَوْ لَا لِغَرَضٍ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِنْ أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ.

وَأَمَّا الطَّوَافُ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لَا تَطُوفُ إِلاَّ لِلزِّيَارَةِ وَالْوَدَاعِ، أَمَّا الزِّيَارَةُ فَلِأَنَّهُ رُكْنُ الْحَجِّ فَلَا يُتْرَكُ لِاحْتِمَالِ الْحَيْضِ، وَأَمَّا الْوَدَاعُ فَلِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِ الْمَكِّيِّ، ثُمَّ إِنَّهَا تُعِيدُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ دُونَ الْوَدَاعِ بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ لِيَقَعَ أَحَدُهُمَا فِي طُهْرٍ بِيَقِينٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَطُوفَ مُطْلَقًا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا وَكَيْفِيَّةُ طَوَافِهَا أَنْ تَفْعَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِشَرْطِ الْإِمْهَالِ كَمَا فِي الصَّوْمِ، فَإِذَا أَرَادَتْ طَوَافًا وَاحِدًا أَوْ عَدَدًا اغْتَسَلَتْ وَطَافَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَصَلَّتْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تُمْهِلُ قَدْرًا يَسَعُ مِثْلَ طَوَافِهَا وَغَسْلِهِ وَرَكْعَتَيْهِ ثُمَّ تَفْعَلُ ذَلِكَ ثَانِيَةً، ثُمَّ تُمْهِلُ حَتَّى يَمْضِيَ تَمَامُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ أَوَّلِ اشْتِغَالِهَا بِغُسْلِ الطَّوَافِ الْأَوَّلِ، وَتُمْهِلُ بَعْدَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ لَحْظَةً تَسَعُ الْغُسْلَ وَالطَّوَافَ وَرَكْعَتَيْهِ وَيَكُونُ قَدْرَ الْإِمْهَالِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَطُوفُ وَتُصَلِّي رَكْعَتَيْهِ مَرَّةً ثَالِثَةً، وَالْغُسْلُ وَاجِبٌ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِلطَّوَافِ.

وَأَمَّا الرَّكْعَتَانِ فَإِنْ قُلْنَا هُمَا سُنَّةٌ كَفَى لَهَا غُسْلُ الطَّوَافِ وَإِنْ قُلْنَا وَاجِبَتَانِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يَجِبُ لِلصَّلَاةِ وُضُوءٌ لَا تَجْدِيدُ غُسْلٍ،

وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ تَجْدِيدُ غُسْلٍ وَلَا وُضُوءٌ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلطَّوَافِ كَجُزْءٍ مِنْهُ وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي. وَالثَّالِثُ: يَجِبُ تَجْدِيدُ الْغُسْلِ حَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ.

هـ- الِاحْتِيَاطُ فِي الْوَطْءِ وَالْعِدَّةِ

- اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمُتَحَيِّرَةِ لِاحْتِمَالِ الْحَيْضِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ بِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ عِلَّةٌ مُزْمِنَةٌ وَالتَّحْرِيمُ دَائِمًا مُوقِعٌ فِي الْفَسَادِ.

وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، إِذْ إِنَّهُمْ يَرَوْنَ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَا يُبَاحُ وَطْؤُهَا حَتَّى وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَحَيِّرَةً إِلاَّ أَنْ يَخَافَ الزَّوْجُ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ بِهَا أَذًى فَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا كَالْحَائِضِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ وَطْءَ الْحَائِضِ مُعَلِّلًا بِالْأَذَى بِقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} أَمَرَ بِاعْتِزَالِهِنَّ عَقِيبَ الْأَذَى مَذْكُورًا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ذُكِرَ مَعَ وَصْفٍ يَقْتَضِيهِ وَيَصْلُحُ لَهُ عُلِّلَ بِهِ، وَالْأَذَى يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَيُعَلَّلَ بِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهَا. نَفَقَةُ الْمُتَحَيِّرَةِ

15- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ الْمُتَحَيِّرَةِ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَيْهِ: الْغَزَالِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ.

وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إِيجَابِ النَّفَقَةِ احْتِبَاسٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الزَّوْجُ بِالْوَطْءِ أَوْ بِدَوَاعِيهِ وَالثَّانِي مَوْجُودٌ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ، وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا نَفَقَةَ الرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ بَذَلَتِ الرَّتْقَاءُ أَوِ الْحَائِضُ أَوِ النُّفَسَاءُ أَوِ النِّضْوَةُ الْخَلْقِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا أَوِ الْمَرِيضَةُ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ حَدَثَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ مُمْكِنٌ وَلَا تَفْرِيطَ مِنْ جِهَتِهَا.

وَالْمَالِكِيَّةُ تَخْرُجُ الْمُتَحَيِّرَةُ عِنْدَهُمْ مِنْ تَحَيُّرِهَا بِاسْتِيفَاءِ تَمَامِ حَيْضِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ أَوْ بِالِاسْتِظْهَارِ ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ طَاهِرٌ تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتُوطَأُ فَتَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّ شُرُوطَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هِيَ: السَّلَامَةُ مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ، وَبُلُوغُ الزَّوْجِ، وَإِطَاقَةُ الزَّوْجَةِ لِلْوَطْءِ وَالْمُسْتَحَاضَةُ صَالِحَةٌ لِلْوَطْءِ.

عِدَّةُ الْمُتَحَيِّرَةِ

16- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لِاشْتِمَالِ كُلِّ شَهْرٍ عَلَى طُهْرٍ وَحَيْضٍ غَالِبًا، وَلِعِظَمِ مَشَقَّةِ الِانْتِظَارِ إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ، وَلِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُرْتَابَةٌ فَدَخَلَتْ فِي قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ - رضي الله عنها- أَنْ تَجْلِسَ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً فَجَعَلَ لَهَا حَيْضَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ تَتْرُكُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَيَثْبُتُ فِيهَا سَائِرُ أَحْكَامِ الْحَيْضِ فَيَجِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ الَّذِي طَلُقَتْ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عُدَّتِ الْبَقِيَّةُ قُرْءًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى طُهْرٍ لَا مَحَالَةَ، وَتَعْتَدُّ بَعْدَهُ بِهِلَالَيْنِ، فَإِنْ بَقِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَقَلُّ لَمْ تُحْتَسَبْ تِلْكَ الْبَقِيَّةُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَيْضٌ فَتَبْتَدِئُ الْعِدَّةَ مِنَ الْهِلَالِ؛

لِأَنَّ الْأَشْهُرَ لَيْسَتْ مُتَأَصِّلَةً فِي حَقِّ الْمُتَحَيِّرَةِ، وَإِنَّمَا حُسِبَ كُلُّ شَهْرٍ فِي حَقِّهَا قُرْءًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى حَيْضٍ وَطُهْرٍ غَالِبًا بِخِلَافِ مَنْ لَمْ تَحِضْ وَالْآيِسَةِ حَيْثُ يُكْمِلَانِ الْمُنْكَسِرَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ هَذَا فِي شَأْنِ الْمُتَحَيِّرَةِ الَّتِي لَمْ تَحْفَظْ قَدْرَ دَوْرَتِهَا، أَمَّا إِذَا حَفِظَتْ قَدْرَ الْأَدْوَارِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةٍ مِنْهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَمْ أَقَلَّ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، وَكَذَا لَوْ شَكَّتْ فِي قَدْرِ أَدْوَارِهَا وَلَكِنَّهَا قَالَتْ: أَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُجَاوِزُ سَنَةً مَثَلًا: أَخَذَتْ بِالْأَكْثَرِ وَتَجْعَلُ السَّنَةَ دَوْرَهَا، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ وَوَافَقَهُ النَّوَوِيُّ.

وَقِيلَ: تَعْتَدُّ الْمُتَحَيِّرَةُ بِمَا ذُكِرَ بَعْدَ الْيَأْسِ لِأَنَّهَا قَبْلَهُ مُتَوَقِّعَةٌ لِلْحَيْضِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَأَضَافُوا: إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِتَحْرِيمِ نِكَاحِهَا، أَمَّا الرَّجْعَةُ وَحَقُّ السُّكْنَى، فَإِلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَقَطْ قَطْعًا.

وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَهُمْ فِي الِانْقِضَاءِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ النَّاسِيَةِ لِعَادَتِهَا لَا يَصِحُّ إِلاَّ فِيمَا إِذَا طَلَّقَهَا أَوَّلَ الشَّهْرِ، أَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَمَا مَضَى مِنَ الشَّهْرِ قَدْرُ مَا يَصِحُّ حَيْضَةً يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ غَيْرَ بَاقِي هَذَا الشَّهْرِ وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ تَعْتَدُّ سَنَةً بِمَنْزِلَةِ مَنْ رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهَا قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا كَانَتْ قَدِ اخْتَلَطَتْ وَلَمْ تَعْلَمْ إِقْبَالَ الدَّمِ وَإِدْبَارَهُ اعْتَدَّتْ لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ؟ تَجْلِسُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَبِنْ بِهَا حَمْلٌ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَذَلِكَ سَنَةٌ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ تَعْتَدُّ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ اسْتِبْرَاءً لِزَوَالِ الرِّيبَةِ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْحَمْلِ غَالِبًا ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَتَحِلُّ بَعْدَ السَّنَةِ، حُرَّةً كَانَتْ أَمْ أَمَةً، وَقِيلَ: إِنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا عِدَّةٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ.

وَالْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَمَّا مُمْتَدَّةُ الْحَيْضِ أَيْ مُمْتَدَّةُ الدَّمِ أَوِ الْمُسْتَحَاضَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمُتَحَيِّرَةُ الَّتِي نَسِيَتْ عَادَتَهَا، فَالْمُفْتَى بِهِ كَمَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ تَقْدِيرُ طُهْرِهَا بِشَهْرَيْنِ فَسِتَّةُ أَشْهُرٍ لِلْأَطْهَارِ، وَثَلَاثُ حِيَضٍ بِشَهْرٍ احْتِيَاطًا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ حَاصِلُهُ: أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ.

وَيَرَى الْمَيْدَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ- أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ يُقَدَّرُ حَيْضُهَا بِعَشَرَةٍ وَطُهْرُهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلاَّ سَاعَةً فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِتِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ غَيْرَ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ حَيْضِهَا فَلَا تَحْسِبُ هَذِهِ الْحَيْضَةَ وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ إِلاَّ سَاعَةً، ثُمَّ يُحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَثَلَاثِ حِيَضٍ.

وَقَالَ فِي عُمَدِ الْأَدِلَّةِ: الْمُسْتَحَاضَةُ النَّاسِيَةُ لِوَقْتِ حَيْضِهَا تَعْتَدُّ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّنَا مَتَى حَكَمْنَا بِأَنَّ حَيْضَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَمَضَى لَهَا شَهْرَانِ بِالْهِلَالِ وَسَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الثَّالِثِ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ قُلْنَا الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ فَطَلَّقَهَا فِي آخِرِ شَهْرٍ ثُمَّ مَرَّ لَهَا شَهْرَانِ وَهَلَّ الثَّالِثُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا.

ثَانِيًا: الْمُتَحَيِّرَةُ فِي النِّفَاسِ

17- يَجِبُ عَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ حِفْظُ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عَدَدًا وَمَكَانًا فَإِنْ أَضَلَّتْ عَادَتَهَا فِي النِّفَاسِ وَلَمْ يُجَاوِزِ الدَّمُ أَرْبَعِينَ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ كُلَّهُ نِفَاسٌ كَيْفَ كَانَتْ عَادَتُهَا وَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ، فَلَا تَقْضِي شَيْئًا مِنَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ.

فَإِنْ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ تَتَحَرَّى، فَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ ظَنُّهَا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَرْبَعِينَ أَنَّهُ كَانَ عَادَةً لَهَا قَضَتْ صَلَاةَ الْأَرْبَعِينَ لِجَوَازِ أَنَّ نِفَاسَهَا كَانَ سَاعَةً، وَلِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ كَمْ عَادَتُهَا حَتَّى تُرَدَّ إِلَيْهَا عِنْدَ الْمُجَاوَزَةِ عَلَى الْأَكْثَرِ، فَإِنْ قَضَتْهَا فِي حَالِ اسْتِمْرَارِ الدَّمِ تُعِيدُ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِاحْتِمَالِ حُصُولِ الْقَضَاءِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الْعِبَادَاتِ وَاجِبٌ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ حُكْمَ صَوْمِهَا إِذَا أَضَلَّتْ عَادَتَهَا فِي النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ مَعًا، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّهَا إِذَا وَلَدَتْ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ وَكَانَ الشَّهْرُ كَامِلًا، وَعَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ أَيْضًا تَصُومُ رَمَضَانَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ نِفَاسَهَا سَاعَةٌ، ثُمَّ إِذَا قَضَتْ مَوْصُولًا تَقْضِي تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ لِأَنَّهَا تُفْطِرُ يَوْمَ الْعِيدِ ثُمَّ تَصُومُ تِسْعَةً يُحْتَمَلُ أَنَّهَا تَمَامُ نِفَاسِهَا فَلَا تُجْزِيهَا ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ وَهِيَ طُهْرٌ فَتُجْزِي، ثُمَّ عَشَرَةً تَحْتَمِلُ الْحَيْضَ فَلَا تُجْزِي، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ هِيَ طُهْرٌ فَتُجْزِي، وَالْجُمْلَةُ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ صَحَّ مِنْهَا ثَلَاثُونَ.

وَلَوْ وَلَدَتْ نَهَارًا وَعَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا بِالنَّهَارِ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ تَقْضِي اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ لِأَنَّهَا تُفْطِرُ يَوْمَ الْعِيدِ، ثُمَّ تَصُومُ عَشَرَةً لَا تُجْزِئُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا آخِرُ نِفَاسِهَا ثُمَّ تَصُومُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا يُجْزِيهَا مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَلَا تُجْزِي أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ تَصُومُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ لَهَا فِي الطُّهْرَيْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ تَصُومُ يَوْمَيْنِ تَمَامَ الثَّلَاثِينَ، وَالْجُمْلَةُ اثْنَانِ وَسِتُّونَ.

وَعَلَى هَذَا يُسْتَخْرَجُ حُكْمُ مَا إِذَا قَضَتْهُ مَفْصُولًا وَمَا إِذَا كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا وَمَا إِذَا عَلِمَتْ عَدَدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا فَقَطْ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ أَكْثَرَ زَمَنِ النِّفَاسِ إِذَا تَمَادَى مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا سِتُّونَ يَوْمًا ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ وَلَا تُسْتَظْهَرُ عَلَى السِّتِّينَ كَبُلُوغِ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَالَ الْخَرَشِيُّ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا الْقَوْلِ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَا تُعَوِّلُ عَلَى عَادَتِهَا خِلَافًا لِمَا فِي الْإِرْشَادِ وَفِي الْإِرْشَادِ: تُعَوِّلُ عَلَى عَادَتِهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَادَةَ النَّاسِيَةَ لِعَادَتِهَا فِي النِّفَاسِ يَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ الْجَارِي فِي الْمُتَحَيِّرَةِ فِي الْحَيْضِ، فَفِي قَوْلٍ هِيَ كَالْمُبْتَدَأَةِ فَتُرَدُّ إِلَى لَحْظَةٍ فِي قَوْلٍ، وَإِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي قَوْلٍ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ تُؤْمَرُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَرَجَّحَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ- هُنَا- الرَّدَّ إِلَى مَرَدِّ الْمُبْتَدَأَةِ لِأَنَّ أَوَّلَ النِّفَاسِ مَعْلُومٌ وَتَعْيِينُ أَوَّلِ الْهِلَالِ لِلْحَيْضِ تَحَكُّمٌ لَا أَصْلَ لَهُ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَإِذَا قُلْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فِي الْحَيْضِ وَجَبَ الِاحْتِيَاطُ أَبَدًا، لِأَنَّ أَوَّلَ حَيْضِهَا مَجْهُولٌ، وَالْمُبْتَدَأَةُ إِذَا جَهِلَتِ ابْتِدَاءَ دَمِهَا كَانَتْ كَالْمُتَحَيِّرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً نَاسِيَةً لِعَادَتِهَا اسْتَمَرَّتْ- أَيْضًا- عَلَى الِاحْتِيَاطِ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَتْ ذَاكِرَةً لِعَادَةِ الْحَيْضِ فَقَدِ الْتَبَسَ عَلَيْهَا الدَّوْرُ لِالْتِبَاسِ آخِرِ النِّفَاسِ فَهِيَ كَمَنْ نَسِيَتْ وَقْتَ الْحَيْضِ دُونَ قَدْرِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ زَادَ دَمُ النُّفَسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَصَادَفَ عَادَةَ الْحَيْضِ فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ عَادَةَ الْحَيْضِ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ، قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَإِنْ كَانَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا الَّذِي تَقْعُدُهُ أَمْسَكَتْ عَنِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَأْتِهَا زَوْجُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَيَّامٌ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي إِنْ أَدْرَكَهَا رَمَضَانُ وَلَا تَقْضِي وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


19-موسوعة الفقه الكويتية (مسك)

مِسْكٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمِسْكُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ: طِيبٌ مَعْرُوفٌ، وَثَوْبٌ مُمَسَّكٌ: مَصْبُوغٌ بِهِ، وَدَوَاءٌ مُمَسَّكٌ: فِيهِ مِسْكٌ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِسْكُ مِنَ الطِّيبِ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ الْمَشْمُومَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الْبُنَانِيُّ نَقْلًا عَنِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ: الْمِسْكُ دَمٌ يَجْتَمِعُ فِي سُرَّةِ الْغَزَالِ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ مِنَ السَّنَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ وَرِمَ الْمَوْضِعُ، فَيَمْرَضُ الْغَزَالُ إِلَى أَنْ يَسْقُطَ مِنْهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْعَنْبَرُ:

2- الْعَنْبَرُ فِي اللُّغَةِ: مَادَّةٌ صُلْبَةٌ لَا طَعْمَ لَهَا وَلَا رِيحَ إِلاَّ إِذَا سُحِقَتْ أَوْ أُحْرِقَتْ، يُقَالُ: إِنَّهُ رَوْثُ دَابَّةٍ بَحْرِيَّةٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ الْعَنْبَرَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ- أَيْ رَمَى بِهِ- إِلَى السَّاحِلِ.

وَالْعِلَاقَةُ بَيْنَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طِيبٌ، وَلَهُمَا أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِسْكِ:

أ- طَهَارَةُ الْمِسْكِ وَأَكْلُهُ

3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ طَاهِرٌ حَلَالٌ، يَجُوزُ أَكْلُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ بِكُلِّ حَالٍ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِضَرُورَةٍ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَمًا فَقَدْ تَغَيَّرَ، وَاسْتَحَالَ أَصْلُهُ إِلَى صَلَاحٍ، فَيَصِيرُ طَاهِرًا، وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَّ الْمِسْكَ أَطْيَبُ الطِّيبِ».

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: حَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ.

وَأَمَّا نَافِجَةُ الْمِسْكِ فَطَاهِرَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيلِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى طَهَارَتِهَا مُطْلَقًا، أَيْ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا، وَبَيْنَ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْمَذْبُوحِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ بِحَالِ لَوْ أَصَابَهَا الْمَاءُ لَمْ تَفْسُدْ فَهِيَ طَاهِرَةٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فَأْرَةُ الْمِسْكِ مَيْتَةٌ طَاهِرَةٌ إِجْمَاعًا لِانْتِقَالِهَا عَنِ الدَّمِ، كَالْخَمْرِ لِلْخَلِّ.

وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ انْفَصَلَتْ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ مُذَكَّاةٍ فَطَاهِرَةٌ وَتَكُونُ كَالرِّيشِ، وَإِنِ انْفَصَلَتْ مِنْ مَيْتَةٍ فَنَجِسَةٌ كَاللَّبَنِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمِسْكُ وَفَأْرَتُهُ (وِعَاؤُهُ) طَاهِرَانِ، لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ بِطَبْعِهِ، أَشْبَهَ الْوَلَدَ

ب- زَكَاةُ الْمِسْكِ

4- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمِسْكِ.

ج- بَيْعُ الْمِسْكِ وَفَأْرَتِهِ

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمِسْكِ فِي الْجُمْلَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: حَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ.

وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ بَيْعُ مِسْكٍ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ لِجَهْلِ الْمَقْصُودِ، وَلَوْ كَانَ قَدْرُ الْمِسْكِ مَعْلُومًا صَحَّ الْبَيْعُ، هَذَا إِذَا خَالَطَهُ لَا عَلَى وَجْهِ التَّرْكِيبِ، فَإِنْ كَانَ مَعْجُونًا بِغَيْرِهِ كَالْغَالِيَةِ، وَالنِّدِّ صَحَّ الْبَيْعُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ جَمِيعُهَا لَا الْمِسْكُ وَحْدَهُ.

وَكَذَلِكَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمِسْكِ فِي فَأْرَتِهِ مَعَهَا، أَوْ دُونَهَا، وَلَوْ فَتَحَ رَأْسَهَا كَاللَّحْمِ فِي الْجِلْدِ.

أَمَّا لَوْ رَأَى الْمِسْكَ خَارِجَ الْفَأْرَةِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ رَدِّهِ إِلَيْهَا، أَوْ رَأَى الْفَأْرَةَ فَارِغَةً، ثُمَّ مُلِئَتْ مِسْكًا لَمْ يَرَهُ، ثُمَّ رَأَى أَعْلَاهُ مِنْ رَأْسِهَا جَازَ، وَإِلاَّ فَلَا، لِأَنَّهُ بَيْعُ غَائِبٍ.

وَأَمَّا لَوْ بَاعَ الْمِسْكَ وَفَأْرَتَهُ كُلَّ رَطْلٍ أَوْ قِيرَاطٍ مَثَلًا بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا، شَرِيطَةَ أَنْ يَعْرِفَ وَزْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ لِلْفَأْرَةِ قِيمَةٌ، وَإِلاَّ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْبَيْعَ اشْتَمَلَ عَلَى اشْتِرَاطِ بَذْلِ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ مِسْكٍ فِي فَأْرَتِهِ مَا لَمْ يُفْتَحْ وَيُشَاهَدْ، لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ كَاللُّؤْلُؤِ فِي الصَّدَفِ، قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اشْتَرَى نَافِجَةَ مِسْكٍ، وَأَخْرَجَ الْمِسْكَ مِنْهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِرُؤْيَةٍ أَوْ عَيْبٍ، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ يُدْخِلُ فِيهِ عَيْبًا.

د- السَّلَمُ فِي الْمِسْكِ

6- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمِسْكِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَتَعَيَّنُ وَزْنُ فُتَاتِ الْمِسْكِ، وَلَا يَجُوزُ كَيْلًا لِأَنَّ الْكَيْلَ لَا يُعَدُّ ضَابِطًا فِيهِ لِعِظَمِ خَطَرِهِ؛ لِأَنَّ يَسِيرَهُ مَالِيَّةٌ كَثِيرَةٌ.

قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَيَصِفُهُ، وَيَضْبِطُهُ بِاللَّوْنِ، وَالْبَلَدِ وَمَا يُخْتَلَفُ بِهِ.

هـ- ضَمَانُ رَائِحَةِ الْمِسْكِ الْمَغْصُوبِ

7- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ نَقْصَ رَائِحَةِ الْمِسْكِ أَوْ نَحْوِهِ كَعَنْبَرٍ، لِأَنَّ قِيمَتَهُ تَخْتَلِفُ بِالنَّظَرِ إِلَى قُوَّةِ رَائِحَتِهِ، وَضَعْفِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْجَمِيعُ لَوَجَبَ قِيمَتُهُ، فَإِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَجَبَ قَدْرُهُ مِنَ الْقِيمَةِ.

و- اسْتِعْمَالُ الْمِسْكِ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ التَّطَيُّبِ بِالْمِسْكِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: «الْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ».

وَفِي اسْتِعْمَالِهِ لِلْمُحْرِمِ، وَالتَّدَاوِي بِهِ، وَأَكْلِهِ، وَشَمِّهِ خِلَافٌ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ ف 74- 78).

ز- اسْتِعْمَالُ الْمِسْكِ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ

9- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، بِأَنَّهُ يُسَنُّ اسْتِعْمَالُ الْمِسْكِ لِكُلِّ مُغْتَسِلَةٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِسْكًا فَطِيبًا آخَرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، قَالَ: خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ، فَتَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَطَهَّرِي، تَقُولُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: فَجَذَبْتُهَا إِلَيَّ، فَقُلْتُ: تَتَّبِعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ».

وَكَيْفِيَّةُ اسْتِعْمَالِهِ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ تَأْخُذَ الْمِسْكَ، وَتَجْعَلَهُ فِي قُطْنٍ، وَيُقَالُ لَهَا الْكُرْسُفُ أَوِ الْفِرْصَةُ وَتُدْخِلُهَا الْفَرْجَ، لِيَقْطَعَ رَائِحَةَ دَمِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ.

ح- إِفْطَارُ الصَّائِمِ بِشَمِّ رَائِحَةِ الْمِسْكِ

10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَمَّ الْمِسْكَ وَلَوْ ذَاكِرًا، أَوْ شَمَّ هَوَاءً تَطَيَّبَ بِرِيحِ الْمِسْكِ أَوْ شَبَهِهِ فَلَا يُفْطِرُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالزَّبَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ الْحَلْقَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْحَلْقِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَمَّا لَوْ وَصَلَ إِلَى الْحَلْقِ بِاخْتِيَارِهِ، أَيْ بِاسْتِنْشَاقِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْشِقُ صَانِعَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ شَمُّ مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَجْذِبَهُ نَفْسُهُ إِلَى حَلْقِهِ كَسَحِيقِ مِسْكٍ وَكَافُورٍ، وَكَبُخُورٍ، وَعَنْبَرٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


20-موسوعة الفقه الكويتية (ميت)

مَيِّتٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَيْتُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاتٍ، وَالْمَيِّتُ، (بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ): مَنْ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ وَلَيْسَ بِهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاتٍ، وَمَوْتَى.

يُقَالُ: مَاتَ يَمُوتُ مَوْتًا فَهُوَ مَيِّتٌ بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْحَيُّ فَمَيِّتٌ بِالتَّثْقِيلِ لَا غَيْرُ، وَعَلَيْهِ قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أَيْ سَيَمُوتُونَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمَيِّتُ: الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحَيُّ:

2- الْحَيُّ لُغَةً: يُقَالُ: حَيِيَ يَحْيَى حَيَاةً مِنْ بَابِ تَعِبَ فَهُوَ حَيٌّ وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: أَحْيَاهُ اللَّهُ وَاسْتَحْيَيْتُهُ- بِيَاءَيْنِ- إِذَا تَرَكْتَهُ حَيًّا فَلَمْ تَقْتُلْهُ، فَالْحَيُّ ضِدُّ الْمَيِّتِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْحَيُّ الْمُتَّصِفُ بِالْحَيَاةِ وَهِيَ صِفَةٌ تُوجِبُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ ظَاهِرًا.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ التَّضَادُّ.ب- الْمُحْتَضَرُ:

3- الْمُحْتَضَرُ: هُوَ مَنْ فِي النَّزْعِ أَيْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ يُقَالُ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَاحْتَضَرَهُ: أَشْرَفَ فَهُوَ فِي النَّزْعِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُحْتَضَرِ وَالْمَيْتِ أَنَّ الِاحْتِضَارَ مُقَدِّمَةٌ لِلْمَوْتِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَيْتِ:

أ- تَقْبِيلُ وَجْهِ الْمَيِّتِ

4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ تَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ لِخَبَرِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ» وَلِمَا ثَبَتَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- قَبَّلَ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ مَوْتِهِ».

وَذَهَبَ السُّبْكِيُّ إِلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ، وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَيُكْرَهُ.

ب- تَغْمِيضُ عَيْنَيْ الْمَيِّتِ

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَغْمِيضِ عَيْنَيِ الْمَيِّتِ بَعْدَ ثُبُوتِ مَوْتِهِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ».

وَرَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحُ، وَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْمَيِّتِ».

وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ فَلَمْ يُغْمَضْ حَتَّى يَبْرُدَ بَقِيَ مَفْتُوحًا فَيَقْبُحُ مَنْظَرُهُ.

وَيَقُولُ مَنْ يُغْمِضُ الْمَيِّتَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ».

وَقَالَ أَحْمَدُ: تُغْمِضُ الْمَرْأَةُ عَيْنَهُ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ، وَقَالَ: يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ تَغْمِيضُهُ وَأَنْ تَقْرَبَاهُ.

ج- إِخْرَاجُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ مِنْ عِنْدِ الْمَيِّتِ

6- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي إِخْرَاجُ النُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ مِنْ عِنْدِ الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ فِي رَأْيٍ عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِمَنْ حَضَرَتْهُ عَلَامَاتُ الْمَوْتِ تَجَنُّبُ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَجُنُبٍ لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيْبٍ: يُسْتَحَبُّ أَلاَّ تَحْضُرَ الْحَائِضُ وَلَا الْكَافِرَةُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ وَقُرْبَهُ غَيْرُ طَاهِرٍ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ تَقْرُبَ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ الْمَيِّتَ لِحَدِيثِ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ».

(ر: احْتِضَارٌ ف 3).

د- تَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَلْقِينِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُلَقَّنُ.

انْظُرْ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَلْقِينٌ ف 5 احْتِضَارٌ ف 7).

هـ- غَسْلُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْمَيِّتَ

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ أَنْ يَغْسِلَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ الْمَيِّتَ بِلَا كَرَاهَةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْغَاسِلِ الطَّهَارَةُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ غَسْلِ الْجُنُبِ لِلْمَيْتِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ طُهْرَهُ وَلَا يُكْرَهُ تَغْسِيلُ الْحَائِضِ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ طُهْرَهَا.وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْحَائِضِ الْغُسْلَ لِأَنَّهَا لَوِ اغْتَسَلَتْ لِنَفْسِهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ فَكَذَا إِذَا غَسَّلَتْ.

و- شَدُّ لَحْيَيِ الْمَيِّتِ وَتَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ شَدِّ لَحْيَيِ الْمَيِّتِ بِعِصَابَةِ عَرِيضَةٍ تُرْبَطُ فَوْقَ رَأْسِهِ، لِئَلاَّ يَبْقَى فَمُهُ مَفْتُوحًا، فَتَدْخُلَهُ الْهُوَامُ وَيَتَشَوَّهُ خَلْقُهُ وَيَدْخُلَ الْمَاءُ عِنْدَ غَسْلِهِ.

وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَلْيِينِ مَفَاصِلِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ بِرِدِّ سَاعِدِهِ إِلَى عَضُدِهِ وَسَاقِهِ إِلَى فَخِذِهِ وَفَخِذِهِ إِلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ تُمَدُّ وَتَلِينُ أَصَابِعُهُ بِأَنْ تُرَدَّ إِلَى بَطْنِ كَفِّهِ ثُمَّ تُمَدُّ تَسْهِيلًا لِغَسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ، فَإِنَّ فِي الْبَدَنِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ بَقِيَّةُ حَرَارَةٍ فَإِذَا لُيِّنَتِ الْمَفَاصِلُ حِينَئِذٍ لَانَتْ وَإِلاَّ فَلَا يُمْكِنُ تَلْيِينُهَا.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ تَكُونُ وَلَوْ بِنَحْوِ دُهْنٍ إِنْ تَوَقَّفَ التَّلْيِينُ عَلَيْهِ لِيَسْهُلَ غُسْلُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَرْكِ تَلْيِينِ الْمَفَاصِلِ إِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تَنْكَسِرَ أَعْضَاؤُهُ وَصَيَّرَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْمُثْلَةِ.

ز- تَوْجِيهُ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ إِلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّهَا أَشَرَفُ الْجِهَاتِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقَةِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُوَجَّهَ الْمُحْتَضَرُ لِلْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ مِثْلَ تَوْجِيهِهِ فِي الْقَبْرِ وَجَازَ الِاسْتِلْقَاءُ عَلَى ظَهْرِهِ وَقَدَمَاهُ إِلَيْهَا وَلَكِنْ يُرْفَعُ رَأْسُهُ قَلِيلًا لِيَتَوَجَّهَ لِلْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ شُقَّ عَلَيْهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُهُ لِلْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى يَسَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى ظَهْرِهِ وَرِجْلَاهُ لِلْقِبْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى بَطْنِهِ وَرَأْسُهُ لَهَا، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ شُخُوصِ بَصَرِهِ لَا قَبْلَهُ لِئَلاَّ يُفْزِعَهُ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ كَمَا يُوضَعُ فِي اللَّحْدِ إِلَى الْقِبْلَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَ وَضْعُهُ عَلَى يَمِينِهِ لِضِيقِ مَكَانٍ أَوْ لِعِلَّةٍ فِي جَنْبِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ يُوضَعُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أُلْقِيَ عَلَى قَفَاهُ وَوَجْهُهُ وَأَخْمَصَاهُ لِلْقِبْلَةِ بِأَنْ يُرْفَعَ رَأْسُهُ قَلِيلًا، كَأَنْ يُوضَعَ تَحْتَ رَأْسِهِ مُرْتَفِعٌ لِيَتَوَجَّهَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ.

وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِلْقَاءَ أَفَضْلُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ وُضِعَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ.

وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْعَلُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَيُرْفَعَ رَأْسُهُ قَلِيلًا، لِيَصِيرَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ دُونَ السَّمَاءِ.

وَقَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ وَاسِعًا فَعَلَى جَنْبِهِ، وَإِلاَّ فَعَلَى ظَهْرِهِ.وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُوَجَّهُ قَبْلَ تَيَقُّنِ مَوْتِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْأَوْلَى التَّوْجِيهُ قَبْلَ ذَلِكَ.

ج- سَتْرُ بَدَنِ الْمَيِّتِ

11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الْمَيِّتِ حِينَ الْغُسْلِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُسْتَرُ وَيُغَطَّى.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الْمَيِّتِ حِينَ الْغُسْلِ، وَأَنَّ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ فِي السَّتْرِ هُوَ سَتْرُ عَوْرَتِهِ الْغَلِيظَةِ فَقَطْ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَقِيلَ مُطْلَقًا تُسْتَرُ عَوْرَتُهُ الْغَلِيظَةُ وَالْخَفِيفَةُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَسْتُرَ الْغَاسِلُ الْمَيِّتَ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ إِنْ كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْمَيِّتِ سَيِّدًا أَوْ زَوْجًا لَكِنْ إِنْ كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَهُ أَجْنَبِيًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ سَتْرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِثَوْبٍ خَفِيفٍ بَعْدَ نَزْعِ ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَيُجْعَلُ طَرَفُ الثَّوْبِ تَحْتَ رَأْسِهِ وَطَرَفُهُ الْآخَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ لِئَلاَّ يَنْكَشِفَ، وَاحْتُرِزَ بِالثَّوْبِ الْخَفِيفِ عَنِ الثَّقِيلِ لِأَنَّ الثَّقِيلَ يَحْمِيهِ فَيُغَيِّرُهُ وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: «سُجِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ مَاتَ بِثَوْبٍ حِبَرَةٍ».

أَمَّا الْمُحْرِمُ فَيُسْتَرُ مِنْهُ مَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ مِنْهُ.وَصَرَّحَ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُغَطَّى رَأْسُ الْمُحْرِمِ وَلَا وَجْهُ الْمُحْرِمَةِ وَيُغْسَلُ الْمَيِّتُ نَدْبًا فِي قَمِيصٍ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا شَرَعَ فِي غَسْلِهِ وَجَبَ سَتْرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «لَا تُبْرِزْ فَخِذَكَ، وَلَا تَنْظُرَنَّ إِلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» وَهَذَا فِي غَيْرِ مَنْ سِنُّهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ فَلَا بَأْسَ بِغَسْلِهِ مُجَرَّدًا.

وَقَالَ الْقَاضِي: السُّنَّةُ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ رَقِيقٍ يُنْزَلُ الْمَاءُ فِيهِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَدَنِهِ وَيُدْخِلَ يَدَهُ فِي كُمِّ الْقَمِيصِ فَيَمُرَّهَا عَلَى بَدَنِهِ وَالْمَاءُ يُصَبُّ فَإِنْ كَانَ الْقَمِيصُ ضَيِّقًا فَتَقَ رَأْسَ الدَّخَارِيصِ وَأَدْخَلَ يَدَهُ مِنْهُ.

ط- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَيِّتِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ

12- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْمَيِّتِ سُورَةَ (يس) وَكَذَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قِرَاءَةٌ ف 17، 18). ي- تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَغْسِيلَ الْمُسْلِمِ وَاجِبُ كِفَايَةٍ.

وَانْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَمَنْ يُغَسِّلُهُ، وَكَيْفِيَّةُ تَغْسِيلِهِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ).

ك- تَكْفِينُ الْمَيِّتِ

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَكْفِينَ الْمَيِّتِ بِمَا يَسْتُرُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.

وَانْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَكْفِينٌ).

ل- حَمْلُ الْمَيِّتِ

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَمْلَ الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا وَعَدَدِ حَامِلِيهَا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 11- 13).

م- دَفْنُ الْمَيِّتِ

16- دَفْنُ الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِجْمَاعًا إِنْ أَمْكَنَ.انْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَأَفْضَلَ مَكَانٍ لِدَفْنِهِ، وَالْأَحَقَّ بِدَفْنِهِ، وَكَيْفِيَّتَهُ وَوَقْتَهُ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ).

ن- نَبْشُ قَبْرُ الْمَيِّتِ

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ نَبْشِ الْقَبْرِ إِلاَّ لِعُذْرٍ وَغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَمِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُجِيزُ نَبْشَ الْقَبْرِ كَوْنُ الْأَرْضِ مَغْصُوبَةً أَوِ الْكَفَنِ مَغْصُوبًا أَوْ سَقَطَ مَالٌ فِي الْقَبْرِ.وَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي هَذِهِ الْأَعْذَارِ يُنْظَرُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (قَبْرٌ ف 21، وَنَبْشٌ).

س- نَقْلُ الْمَيِّتِ

18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمَيِّتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بَعْدَ الدَّفْنِ مُطْلَقًا.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ نَقْلُ الْمَيِّتِ قَبْلَ الدَّفْنِ وَكَذَا بَعْدَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بِشُرُوطِ.يُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 4، وَنَبْشٌ).

ع- قَذْفُ الْمَيِّتِ

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَهُ حَقُّ طَلَبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ طَلَبَ إِقَامَةِ الْحَدِّ يَرْجِعُ لِمَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِسَبَبِ قَذْفِ الْمَيِّتِ وَهُمُ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ وَإِنْ عَلَوْا أَوْ سَفَلُوا، وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ مَحْجُوبًا أَوْ مَحْرُومًا عَنِ الْمِيرَاثِ بِقِتْلٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ كَوْنِهِ وَلَدَ بِنْتٍ.وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ أَوْ عَفْوِهِ أَوْ تَصْدِيقِهِ لِلْقَاذِفِ لِلُحُوقِ الْعَارِ بِهِمْ بِسَبَبِ الْجُزْئِيَّةِ، أَيْ كَوْنُ الْمَيِّتِ جُزْءًا مِنْهُمْ أَوْ كَوْنُهُمْ جُزْءًا مِنْهُ.

وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ وَقَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ حَدِّ قَاذِفِهِ فَلِوَارِثِهِ الْقِيَامُ بِهِ وَلَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْإِرْثِ مَانِعٌ كَرِقٍّ وَقَتْلٍ وَكُفْرٍ إِنْ كَانَ قَذَفَهُ فِي حَيَاتِهِ.

وَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلِوَارِثِهِ الْقِيَامُ بِحَدِّهِ لِلِحُوقِ الْمَعَرَّةِ لَهُ.

وَأَمَّا الْوَرَثَةُ الَّذِينَ يَحِقُّ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ فَهُمْ: وَلَدُ الْمَقْذُوفِ وَيَشْمَلُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَأَبُ الْمَقْذُوفِ وَإِنْ عَلَا.

فَمَنْ قَذَفَ مَيِّتًا كَانَ لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَلِأَبِيهِ وَإِنْ عَلَا أَنْ يَقُومُوا بِذَلِكَ وَمَنْ قَامَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَخَذَهُ بِحَدِّهِ وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ عَيْبٌ يَلْزَمُهُمْ، وَلَيْسَ لِلْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْعَصَبَةِ قِيَامٌ مَعَ هَؤُلَاءِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ فَلِلْعَصَبَةِ الْقِيَامُ، وَلِلْأَخَوَاتِ وَالْجَدَّاتِ الْقِيَامُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْمَقْذُوفِ وَارِثٌ فَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَقُومَ بِحَدِّهِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَطَلَبُ إِقَامَةِ الْحَدِّ لِلْوَارِثِ إِلاَّ أَنْ يَعْفُوَ، وَلَوْ عَفَا وَارِثُ الْمَقْذُوفِ مُقَابِلَ مَالٍ يَأْخُذُهُ سَقَطَ الْحَدُّ وَلَمْ يَجِبِ الْمَالُ، وَلَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ فَلِلْبَاقِي أَنْ يَسْتَوْفُوا الْحَدَّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ عَارٌ، وَالْعَارُ يَلْزَمُ الْوَاحِدَ كَمَا يَلْزَمُ الْجَمِيعَ.

وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَنْ يَرِثُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى أَوْجُهٍ:

أَصَحُّهَا: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ كَالْمَالِ وَالْقِصَاصِ.

وَالثَّانِي: جَمِيعُهُمْ غَيْرُ الزَّوْجَيْنِ.

وَالثَّالِثُ: رِجَالُ الْعَصَبَاتِ فَقَطْ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْعَارِ كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ.

وَالرَّابِعُ: رِجَالُ الْعَصَبَةِ سِوَى الْبَنِينَ كَالتَّزْوِيجِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ لِلسُّلْطَانِ.

وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ مُوَرِّثَهُ، وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ إِنْ كَانَ حَائِزًا لِلْإِرْثِ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ بِخِلَافِ الْقَتْلِ.

وَلَوْ قَذَفَ وَلَدٌ أَبَاهُ فَمَاتَ الْأَبُ وَتَرَكَ الْقَاذِفَ وَابْنًا آخَرَ فَإِنَّ فِيهِ الْخِلَافَ فِيمَنْ يَرِثُ الْحَدَّ فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا عَفَا بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ كَانَ لِلْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْجَمِيعِ فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بِتَمَامِهِ، وَإِنْ قُلْنَا يَسْقُطُ الْجَمِيعُ فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ نَصِيبُ الْعَافِي فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ نِصْفِ الْحَدِّ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَالُوا إِذَا قُذِفَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُّ فِي الْحَيَاةِ، وَإِنْ قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ- مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً- حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَالَبَ الِابْنُ وَكَانَ مُسْلِمًا حُرًّا وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ وَلِأَنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ زِنَا وَلَا يَسْتَحِقُّ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وَلِذَلِكَ تُعْتَبَرُ حَصَانَتُهُ وَلَا تُعْتَبَرُ حَصَانَةُ أُمِّهِ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهُ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَذْفِ مَيْتَةٍ، وَكَذَلِكَ تُقَاسُ الْجَدَّةُ عَلَى الْأُمِّ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ.

وَأَمَّا إِنْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ لَاحِقًا لِلْمَيِّتِ وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ.

وَإِذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ وَلَمْ يُطَالِبْ بِالْحَدِّ سَقَطَ الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ طَالَبَ بِهِ فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ وَلِلْوَرَثَةِ طَلَبُهُ.

وَالْحَقُّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، حَتَّى لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُمْ سِوَى الزَّوْجَيْنِ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: هُوَ لِلْعَصَبَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَرِثُهُ الْإِمَامُ أَيْضًا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ.وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ حُدَّ لِلْبَاقِي كَامِلًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

ف- حَلْقُ شَعْرِ الْمَيِّتِ وَقَصُّ ظُفُرِهِ

20- لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ حَلْقِ شَعْرِ الْمَيِّتِ أَوْ تَسْرِيحِهِ أَوْ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ وَكَذَا سَائِرُ شَعْرِ الْبَدَنِ كَاللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَشَعْرِ الْإِبِطِ وَالْعَانَةِ.

وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَرٌ ف 4، 5، 6، حَلَقَ ف 14).

كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَقْلِيمِ أَظْفَارِ الْمَيِّتِ وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف9).

ص- تَغْسِيلُ السِّقْطِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ

21- السِّقْطُ هُوَ الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى يَسْقُطُ قَبْلَ تَمَامِهِ وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جَنِينٌ ف 22).

قِ- إِدْخَالُ الْمَيِّتِ الْمَسْجِدَ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِيهِ:

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ وَإِدْخَالُهُ فِيهِ تَحْرِيمًا وَقِيلَ تَنْزِيهًا وَرَجَّحَهُ الْكَمَالُ وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (جَنَائِزُ ف 38).

ر- الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ فِيهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.

وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 37).

ش- طَهَارَةُ جَسَدِ الْمَيِّتِ

24- ذَهَبَ عَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ هَلْ نَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ خَبَثٍ أَوْ حَدَثٍ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا نَجَاسَةُ خَبَثٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَلَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ قَبْلَ غَسْلِهِ نَجَّسَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَلَ مَيِّتًا قَبْلَ غَسْلِهِ وَصَلَّى بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلِذَلِكَ إِنَّمَا يَطْهُرُ الْمَيِّتُ بِالْغُسْلِ كَرَامَةً لِلْمُسْلِمِ.

أَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ نَجِسٌ وَلَوْ بَعْدَ غَسْلِهِ فَلَوْ وَقَعَ كَافِرٌ فِي بِئْرٍ بَعْدَ غُسْلِهِ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ الْبِئْرَ.

وَقِيلَ: هِيَ نَجَاسَةُ حَدَثٍ قَالَ فِي الْفَتْحِ:

وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا»،، فَإِنْ صَحَّ وَجَبَ تَرْجِيحُ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا». وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِي أَجْزَائِهِ، كَرَامَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ، وَالْآدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ الْغُسْلِ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ، وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عَنْ سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ، وَالْبَدَنُ فِي حَقِّ التَّطْهِيرِ لَا يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غَسْلُهُ كُلُّهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْبَلْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْآدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا طَاهِرَةٌ، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَقَضِيَّةُ تَكْرِيمِهِمْ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِمْ بِالْمَوْتِ، وَلِخَبَرِ «لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» قَالَ عِيَاضُ: وَلِأَنَّ غَسْلَهُ وَإِكْرَامَهُ يَأْبَى تَنْجِيسُهُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِغَسْلِ الْمَيْتَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعُذْرَةِ. وَأَمَّا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فَالْمُرَادُ نَجَاسَةُ الِاعْتِقَادِ أَوْ أَنَّا نَجْتَنِبُهُمْ كَالنَّجَاسَةِ لَا نَجَاسَةَ الْأَبَدَانِ، وَلِهَذَا رَبَطَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْأَسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي غَيْرِ أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَأَلْحَقَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ بِهِمُ الشُّهَدَاءَ.

وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي طَهَارَةِ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ وَنَجَاسَتِهَا فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.

فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى نَجَاسَةِ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْخَبَرَ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ. حُكْمُ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ

25- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ يَأْخُذُ حُكْمَهُ فِي الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهِ أَوْ بِنَجَاسَتِهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْآدَمِيِّ غَيْرَ الْمَنْتُوفِ طَاهِرٌ بِخِلَافِ الْمَنْتُوفِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ لِمَا يَحْمِلُ مِنْ دُسُومَةٍ.

وَكَذَلِكَ عَظْمُ الْمَيِّتِ وَعَصَبُهُ فَإِنَّهُمَا طَاهِرَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ سِنُّ الْمَيِّتِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا وَالْمُنَجَّسُ هُوَ الدَّمُ.

وَكَذَلِكَ ظُفُرُ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ إِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ الدُّسُومَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى طَهَارَةِ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَاءً عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ طَهَارَةِ مَيْتَتِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْمَذْهَبِ فَمَا أُبِينَ مِنْهُ نَجِسٌ مُطْلَقًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِلْحَاقِ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْآدَمِيِّ بِمَيْتَتِهِ فِي الطَّهَارَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: حُكْمُ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهَا أَجَزَاءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ فَكَانَ حُكْمُهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ وَالنَّجِسَةِ وَلِأَنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهَا نَجِسَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا.

ت- غَسْلُ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ:

26- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْمَيِّتِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ- رضي الله عنه- عَلَى رُءُوسٍ، وَصَلَّتِ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- عَلَى يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَلْقَاهَا طَائِرٌ بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ رَأْسُ آدَمِيٍّ أَوْ أَحَدُ شِقَّيْهِ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بَلْ يُدْفَنُ إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ وَلَوْ بِلَا رَأْسٍ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُغَسَّلُ دُونَ ثُلُثَيِ الْجَسَدِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَسَدِ مَا عَدَا الرَّأْسِ، فَإِذَا وُجِدَ نِصْفُ الْجَسَدِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَدُونَ الثُّلُثَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ لَمْ يُغْسَّلْ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ أَيْ يُكْرَهُ، لِأَنَّ شَرْطَ الْغُسْلِ وُجُودُ الْمَيِّتِ، فَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ وَلَا حُكْمَ لِلْيَسِيرِ وَهُوَ مَا دُونَ الثُّلُثَيْنِ.

وَالْعِلَّةُ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا دُونَ الْجُلِّ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الْمَكْرُوهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ عَلَى غَائِبٍ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ لِأَنَّا لَا نُخَاطَبُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ إِلاَّ بِشَرْطِ الْحُضُورِ، وَحُضُورُ جُلِّهِ كَحُضُورِ كُلِّهِ، وَحُضُورُ الْأَقَلِّ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ. (ر: تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف 26).

ث- تَنَازُعُ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ الْمَاءَ:

27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَجُنُبٌ وَحَائِضٌ وَمُحْدِثٌ وَكَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ، وَلِلْفُقَهَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا فَإِنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى بِالْمَاءِ مِنَ الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ وَالْمُحْدِثُ وَيَقْتَدِيَانِ بِهِ، لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ إِمَامًا. وَقِيلَ فِي السِّرَاجِ: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لِأَنَّ غُسْلَهُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ بِالتُّرَابِ.

وَعَنِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَفِي السِّرَاجِ أَيْضًا: لَوْ كَانَ الْمَاءُ يَكْفِي الْمُحْدِثَ فَقَطْ كَانَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مُشْتَرَكًا فَيَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَصْرِفَ نَصِيبَهُ لِلْمَيْتِ حَيْثُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَكْفِيهِ نَصِيبُهُ، وَلَا يُمَكَّنُ الْجُنُبُ وَلَا غَيْرُهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالْكُلِّ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحِصَّةِ الْمَيِّتِ، وَكَوْنُ الْجَنَابَةِ أَغْلَظُ لَا يُبِيحُ اسْتِعْمَالَ حِصَّةِ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَكُنِ الْجُنُبُ أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا فَإِنَّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ بِهِ رَفْعَ الْجَنَابَةِ كَانَ أَوْلَى.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَاءِ وَمَعَهُ شَخْصٌ حَيٌّ مُحْدِثٌ جُنُبٌ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنَّ الْمَيِّتَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُحْدِثِ الْحَيِّ لِحَقِيِّةِ الْمِلْكِ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَلَى الْحَيِّ الْعَطَشُ فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِهِ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ حِفْظًا لِلنَّفُوسِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْوَرَثَةِ.

أَمَّا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ يُقَدَّمُ الْحَيُّ وَلَوْ لَمْ يَخَفْ عَطَشًا لِتَرْجِيحِ جَانِبِهِ بِالشَّرِكَةِ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَجُنُبٌ وَحَائِضٌ انْقَطَعَ دَمُهَا وَهُنَاكَ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا كَانَ صَاحِبُ الْمَاءِ أَحَقَّ بِهِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ بَذَلَهُ لِلْآخَرِ وَتَيَمَّمَ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ.

وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا لَهُمَا كَانَا فِيهِ سَوَاءً.

وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا أَوْ لِغَيْرِهِمَا وَأَرَادَ أَنْ يَجُودَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَالْمَيِّتُ أَوْلَى لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ، وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ يَرْجِعَانِ إِلَى الْمَاءِ وَيَغْتَسِلَانِ.

وَإِذَا اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَحَيٌّ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَالْمَاءُ يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَاحِبَ النَّجَاسَةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَيْسَ لِطَهَارَتِهِ بَدَلٌ وَلِطَهَارَةِ الْمَيِّتِ بَدَلٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ فَكَانَ صَاحِبُ النَّجَاسَةِ أَحَقَّ بِالْمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ جُنُبٌ وَمَيِّتٌ وَمَنْ عَلَيْهَا غُسْلُ حَيْضٍ وَمَعَهُمْ مَاءٌ لَا يَكْفِي إِلاَّ أَحَدَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكَهُ الْمَيِّتُ أَوْ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لِغَيْرِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَجُودَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمْ فَعَنْ أَحْمَدَ- رحمه الله- رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: الْمَيِّتُ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّ غُسْلَهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ طَهَارَتُهُ كَامِلَةً، وَالْحَيُّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَاءِ فَيَغْتَسِلُ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ تَنْظِيفُهُ وَلَا يَحْصُلُ بِالتَّيَمُّمِ، وَالْحَيُّ يَقْصِدُ بِغُسْلِهِ إِبَاحَةَ الصَّلَاةِ وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتُّرَابِ.

وَالثَّانِيَةُ: الْحَيُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِالْغُسْلِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْمَيِّتُ قَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ.وَاخْتَارَ هَذَا الْخَلاَّلُ.

وَإِنْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي مَكَانٍ فَهُوَ لِلْأَحْيَاءِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَجِدُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ فَفَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ حَاضِرٌ فَلِلْحَيِّ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ إِتْلَافَهُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ لِأَنَّ

مَالِكَهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ لِلْعَطَشِ فَيَأْخُذَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-موسوعة الفقه الكويتية (نجاسة 1)

نَجَاسَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- النَّجَاسَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقَذَارَةُ، يُقَالُ: تَنَجَّسَ الشَّيْءُ: صَارَ نَجِسًا، وَتَلَطَّخَ بِالْقَذِرِ.

وَالنَّجَاسَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا: مُسْتَقْذِرٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا مُرَخِّصَ.

وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا مَنْعَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ أَوْ فِيهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الطَّهَارَةُ:

2- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّقَاءُ مِنَ الدَّنَسِ وَالنَّجِسِ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ مَا يَشِينُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ أَوْ فِيهِ أَوْ لَهُ.

فَالطَّهَارَةُ هِيَ الْمَدْخَلُ لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ إِلاَّ بِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلاَّ بِإِزَالَةِ مَا قَدْ يَكُونُ عَالِقًا وَقَائِمًا بِالْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَأَخْبَاثٍ.

ب- الِاسْتِنْجَاءُ:

3- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِنْجَاءِ لُغَةً: الْخَلَاصُ مِنَ الشَّيْءِ.يُقَالُ: اسْتَنْجَيْتُ الشَّجَرَةَ: قَطَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا.

وَالِاسْتِنْجَاءُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِزَالَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ سَوَاءٌ بِالْغَسْلِ أَوِ الْمَسْحِ بِالْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا عَنْ مَوْضِعِ الْخُرُوجِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ.

وَالِاسْتِنْجَاءُ خَاصٌّ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ السَّبِيلَيْنِ فَقَطْ، لَا عَنْ بَاقِي الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ وَالِاسْتِنْجَاءِ: أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ وَسِيلَةٌ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ الْمَحَلِّ وَتَطْهِيرِهِ.(ر: اسْتِنْجَاء ف 1).

مَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا وَمَا لَا يُعْتَبَرُ:

4- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ وَالنَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ.وَقَالُوا: كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يُوجِبُ خُرُوجُهُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ فَهُوَ مُغَلَّظٌ، كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ إِذَا مَلأَ الْفَمَ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَكَذَلِكَ بَوْلُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلَا أَوْ لَا، وَالْخَمْرُ وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَلَحْمُ الْمَيْتَةِ وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ وَالرَّوْثُ وَإِخْثَاءُ الْبَقَرِ وَالْعَذِرَةُ وَنَجْوُ الْكَلْبِ وَخُرْءُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالْأَوِزِّ وَخِرَاءُ السِّبَاعِ وَالسِّنَّوْرِ وَالْفَأْرِ وَخِرَاءُ الْحَيَّةِ وَبَوْلُهَا وَخِرَاءُ الْعَلَقِ وَدَمُ الْحَلَمَةِ وَالْوَزَغَةِ إِذَا كَانَ سَائِلاً، فَهَذِهِ الْأَعْيَانُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً.

وَعَدُّوا مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمُخَفَّفَةِ: بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَالْفَرَسُ وَخِرَاءُ طَيْرٍ لَا يُؤْكَلُ.

أَمَّا أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً، كَالْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَالسِّنِّ وَالْحَافِرِ وَالْخُفِّ وَالظِّلْفِ وَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْعَصَبِ وَالْإِنْفَحَةِ الصُّلْبَةِ فَلَيْسَتْ بِنَجِسٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِمَيْتَةٍ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ تَمْيِيزِ الْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ عَنِ النَّجِسَةِ:

أ- الْجَمَادَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ إِلاَّ الْمُسْكِرَ.

ب- وَالْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ.

ج- وَالْمَيْتَاتُ كُلُّهَا عَلَى النَّجَاسَةِ.

د- وَدُودُ الطَّعَامِ كُلُّهُ طَاهِرٌ، وَلَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مَعَ الطَّعَامِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَنْجَسُ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ.

وَفَصَّلُوا فِي ضَبْطِهَا فَقَالُوا: الْأَعْيَانُ جَمَادٌ وَحَيَوَانٌ.

فَالْجَمَادُ كُلُّهُ طَاهِرٌ.

وَالْحَيَوَانُ- أَيِ الْحَيُّ- كُلُّهُ طَاهِرٌ إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَفَرْعَ كُلٍّ مِنْهُمَا.

وَجُزْءُ الْحَيَوَانِ كَمَيْتَتِهِ.

وَالْمَيْتَةُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ، وَالْجَرَادَ، وَالْآدَمِيَّ، وَالْجَنِينَ بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالصَّيْدَ الَّذِي لَا تُدْرَكُ ذَكَاتُهُ.

وَالْمُنْفَصِلُ عَنِ الْحَيَوَانِ إِمَّا يَرْشَحُ رَشْحًا كَالْعَرَقِ، وَلَهُ حُكْمُ حَيَوَانِهِ- أَيِ الْحَيِّ- وَإِمَّا لَهُ اسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ كَالْبَوْلِ فَهُوَ نَجِسٌ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ.

تَقْسِيمُ النَّجَاسَةِ إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ:

5- مِنْ تَقْسِيمَاتِ النَّجَاسَةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ تَقْسِيمُهَا إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ تَعْنِي الْخَبَثَ، وَالْحُكْمِيَّةَ تَعْنِي الْحَدَثَ.

وَعَرَّفُوا الْخَبَثَ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ مُسْتَقْذَرَةٌ شَرْعًا.

وَعَرَّفُوا الْحَدَثَ بِأَنَّهُ: وَصْفٌ شَرْعِيٌّ يَحُلُّ فِي الْأَعْضَاءِ يُزِيلُ الطَّهَارَةَ.سَوَاءٌ كَانَ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ، فَلَا تَحِلُّ مَثَلاً صَلَاةٌ مَعَ وُجُودِهِ حَتَّى يَضَعَ مُرِيدُ الصَّلَاةِ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّهُ لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ» فَهُوَ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ.

وَيَطْهَرُ الْخَبَثُ بِزَوَالِهِ؛ «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي» فَإِنَّهُ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

وَيَمْنَعُ بَقَاءَ الْحُكْمِيَّةِ عَنِ الْمَشْرُوطِ بِزَوَالِهَا بَقَاءُ بَعْضِ الْمَحَلِّ وَإِنْ قَلَّ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةِ مُزِيلِهَا.فَالْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ يَمْنَعُهُ قِيَامُ هَذَا الْحَدَثِ مِنَ الصَّلَاةِ مَثَلاً حَتَّى يَتَوَضَّأَ حَالَةَ وُجُودِ الْمَاءِ أَوْ يَتَيَمَّمَ حَالَةَ فَقْدِهِ بِشُرُوطِهِ، وَالْمُحْدِثُ حَدَثًا أَكْبَرَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَغْتَسِلَ.وَعَلَى هَذَا فَقَلِيلُ الْحُكْمِيَّةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ بِالِاتِّفَاقِ.

وَالْعَيْنِيَّةُ تَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ غِلَظِهَا وَخِفَّتِهَا، وَقَلِيلُهَا عَفْوٌ، وَهُوَ دُونَ مُقَعَّرِ الْكَفِّ فِي الْغَلِيظَةِ، وَدُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ فِي الْخَفِيفَةِ، وَتَطْهَرُ بِزَوَالِ عَيْنِهَا فِي الْمَرْئِيِّ، وَبِالْغُسْلِ فِي غَيْرِهِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ هِيَ مَا لَا تَتَجَاوَزُ مَحَلَّ حُلُولِ مُوجِبِهَا كَالنَّجَاسَاتِ، وَالْحُكْمِيَّةَ هِيَ مَا تَتَجَاوَزُهُ بِغَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ وَبِنُزُولِ الْمَنِيِّ.

وَقَدْ تُطْلَقُ الْحُكْمِيَّةُ عَلَى مَا لَا وَصْفَ لَهُ مِنْ طَعْمٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ أَوْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ عِنْدَ مُوجِبِهِ.

وَالْخَبَثُ: هُوَ الْوَصْفُ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُونَ: النَّجَاسَةُ حَدَثٌ وَخَبَثٌ، فَالْحَدَثُ هُوَ الْمَنْعُ الْقَائِمُ بِالْأَعْضَاءِ لِمُوجِبٍ مِنْ بَوْلٍ وَنَحْوِهِ أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ.

وَإِنْ كَانَ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ ثَوْبًا أَوْ مَكَانًا فَهِيَ طَهَارَةُ خَبَثٍ أَيْ طَهَارَةٌ مِنْهُ.

وَالْحَدَثُ وَالْخَبَثُ لَا يُرْفَعَانِ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ.

وَالْحَدَثُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَكْبَرُ وَالْأَصْغَرُ، أَمَّا الْأَكْبَرُ فَهُوَ الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَالْأَصْغَرُ هُوَ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ.

وَأَمَّا الْخَبَثُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ بِالشَّخْصِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ.

وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْأَحْدَاثِ وَالْأَخْبَاثِ، وَلَا يَصِحُّ التَّطْهِيرُ مِنْهَا إِلاَّ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى خِلْقَتِهِ أَوْ تَغَيَّرَ بِمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا كَقَرَارِهِ وَالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وَالْمَاءُ الطَّهُورُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ، كَمَاءِ الْمَطَرِ وَالْبَحْرِ وَالْبِئْرِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ وَالرِّيحُ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ بِالْبَدَنِ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَزَوَالُ هَذَا الْوَصْفِ يَكُونُ بِالْوُضُوءِ فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَبِالْغُسْلِ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ (الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ).

وَالْخَبَثُ مَا كَانَ نَجِسًا مُسْتَقْذَرًا، وَتَطْهِيرُهُ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ، فَهُوَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَيُزِيلُ الْخَبَثَ لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» «وَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْخَبَثَ يَخْتَصُّ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَيُقَسِّمُونَ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ (الْخَبَثَ) إِلَى قِسْمَيْنِ: مُغَلَّظَةٌ وَمُخَفَّفَةٌ.

فَمَا تَوَافَقَتْ عَلَى نَجَاسَتِهِ الْأَدِلَّةُ فَمُغَلَّظٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى أَمْ لَا، وَإِلاَّ فَهُوَ مُخَفَّفٌ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَلْوَى فَمُغَلَّظٌ وَإِلاَّ فَمُخَفَّفٌ، وَلَا نَظَرَ لِلْأَدِلَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ (الْخَبَثُ) ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مُغَلَّظَةٌ أَوْ مُخَفَّفَةٌ أَوْ مُتَوَسِّطَةٌ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَنَجَّسَ بِبَوْلِ صَبِيٍّ لَمْ يُطْعَمْ غَيْرَ لَبَنٍ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا تَنَجَّسَ بِغَيْرِهِمَا.

طَهَارَةُ الْآدَمِيِّ وَنَجَاسَتُهُ:

6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى طَهَارَةِ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ» وَلَوْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمْ نَجِسَةً لَمْ يُنْزِلْهُمْ فِيهِ تَنْزِيهًا لَهُ.

وَأَمَّا الْآدَمِيُّ الْمَيِّتُ فَيَرَى عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا غُسِلَ يُحْكَمُ بِطِهَارَتِهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا كَرَامَةً لَهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ حَامِلِهِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا طَاهِرَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ شَعْبَانَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ نَجَاسَتُهُ.

قَالَ عِيَاضٌ: لِأَنَّ غَسْلَهُ وَإِكْرَامَهُ يَأْبَى تَنْجِيسَهُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِغَسْلِ الْمَيْتَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَذِرَةِ «وَلِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ- رضي الله عنه- فِي الْمَسْجِدِ» وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ الْمَوْتِ» وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ بِطَهَارَةِ الْآدَمِيِّ الْمَيِّتِ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَتَكْرِيمُهُمْ يَقْتَضِي طَهَارَتَهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَقَضِيَّةُ التَّكْرِيمِ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَغَيْرُهُ.وَأَمَّا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ

نَجَس}.فَالْمُرَادُ بِهِ نَجَاسَةُ الِاعْتِقَادِ أَوِ اجْتِنَابُهُمْ كَالنَّجِسِ لَا نَجَاسَةُ الْأَبْدَانِ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ فَلَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَنْجُسُ.

وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْآدَمِيَّةِ وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ.

7- وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ حُكْمَ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهَا أَجْزَاءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ وَلِأَنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ.

وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا نَجِسَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا.

طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ وَنَجَاسَتُهُ:

أ- الْكَلْبُ:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلْبِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ سُؤْرَهُ وَرُطُوبَاتِهِ نَجِسَةٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ طَاهِرُ الْعَيْنِ، لِقَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الطَّهَارَةُ، فَكُلُّ حَيٍّ وَلَوْ كَلْبًا طَاهِرٌ، وَكَذَا عَرَقُهُ وَدَمْعُهُ وَمُخَاطُهُ وَلُعَابُهُ.

كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ شَعْرِ الْكَلْبِ، وَحُكْمِ مَعَضِّ كَلْبِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب ف 15- 19، شَعْر وَصُوف وَوَبَر ف 19، صَيْد.ف 44).

ب- الْخِنْزِيرُ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ كَعَرَقِهِ وَلُعَابِهِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.وَالضَّمِيرُ فِي قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} رَاجِعٌ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ حَالَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَيٍّ الطَّهَارَةُ، وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ، فَطَهَارَةُ عَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ عَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَدَمْعِهِ وَمُخَاطِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (خِنْزِير ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

ج ـ سِبَاعُ الْبَهَائِمِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ:

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ أَوْ نَجَاسَتِهَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْقِرْدِ، وَنَجَاسَةِ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْحِدَأَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَّ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرٌ، وَقِيلَ بِنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُشْرِكِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِطَهَارَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَسْآرِهَا، إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ نَجِسٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحَيَوَانُ قِسْمَانِ: نَجِسٌ وَطَاهِرٌ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: النَّجِسُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ نَجِسٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَهَذَا نَجِسٌ عَيْنُهُ وَسُؤْرُهُ وَجَمِيعُ مَا خَرَجَ مِنْهُ.

وَالثَّانِي: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ سَائِرُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ إِلاَّ السِّنَّوْرَ وَمَا دُوَنَهُ فِي الْخِلْقَةِ، وَكَذَلِكَ جَوَارِحُ الطَّيْرِ وَالْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَالْبَغْلُ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجِسٌ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: طَاهِرٌ فِي نَفَسِهِ وَسُؤْرِهِ وَعَرَقِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: الْآدَمِيُّ، وَالثَّانِي: مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَالثَّالِثُ: السِّنَّوْرُ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ.

طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ وَنَجَاسَتُهُ:

أ- مَيْتَةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ:

11- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَنَحْوِهِمِا إِذَا وَقَعَ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ أَوْ مَائِعٍ وَمَاتَ فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ» وَقَدْ يُفْضِي غَمْسُهُ إِلَى مَوْتِهِ فَلَوْ نَجَّسَ لَمَا أَمَرَ بِهِ.

وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ كَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ تَنْشَأْ فِيهِ، فَإِنْ نَشَأَتْ فِيهِ وَمَاتَتْ كَدُودِ الْخَلِّ لَمْ تُنَجِّسْهُ جَزْمًا.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ مِنَ الْحَيَوَانِ نَوْعَانِ: مَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الطَّاهِرَاتِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّجَاسَاتِ كَصَرَاصِرِ الْحَشِّ وَدُودِهِ فَهُوَ نَجِسٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ النَّجَاسَةِ فَكَانَ نَجِسًا كَوَلَدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.

قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: صَرَاصِرُ الْكَنِيفِ وَالْبَالُوعَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْإِنَاءِ أَوِ الْحَبِّ صُبَّ، وَصَرَاصِرُ الْبِئْرِ لَيْسَتْ بِقَذِرَةٍ وَلَا تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ.

ب- مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ وَالْبَرْمَائِيِّ:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ مَائِيَّ الْمَوْلِدِ مِنَ الْحَيَوَانِ فَمَوْتُهُ فِي الْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ كَالسَّمَكِ وَالضِّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَهُوَ يُفِيدُ عَدَمَ تَنَجُّسِهِ بِالْمَوْتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَا يُنَجِّسُ مَا يُجَاوِرُهُ.وَكَذَا لَوْ مَاتَ خَارِجَ الْمَاءِ ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ.

وَلَوْ مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ وَسَوَاءٌ فِيهِ الْمُنْتَفِخُ وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ: أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الضِّفْدَعِ الْبَرِّيِّ وَالْمَائِيِّ.وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلْبَرِّيِّ دَمٌ سَائِلٌ أَفْسَدَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دَوَابُّ الْمَاءِ طَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»، فَمَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ طَاهِرَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَسَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَوُجِدَ طَافِيًا، أَوْ بِسَبَبِ شَيْءٍ فُعِلَ بِهِ: مِنِ اصْطِيَادِ مُسْلِمٍ أَوْ مَجُوسِيٍّ، أَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، أَوْ دُسَّ فِي طِينٍ وَمَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ فِي بَطْنِ حُوتٍ أَوْ طَيْرٍ مَيِّتًا.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَطُولُ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ كَحُوتٍ، أَوْ تَطُولُ حَيَاتُهُ كَالضِّفْدَعِ الْبَحْرِيِّ وَالسُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ.

وَعَنْ عَبْدِ الْحَقِّ: وَأَمَّا مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ فَنَجِسَةٌ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي مَيْتَةِ مَا تَطُولُ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْبَحْرِ كَالتِّمْسَاحِ الطَّهَارَةُ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْمُدُنِ وَالْأَمْصَارِ إِلاَّ مَنْ شَذَّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَيْتَةُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ طَاهِرَةٌ وَحَلَالٌ أَكْلُهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

وَقَالُوا: مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ وَفِي الْبَرِّ كَطَيْرِ الْمَاءِ مِثْلِ الْبَطِّ وَالْأَوِزِّ وَنَحْوِهِمَا حَلَالٌ، إِلاَّ مَيْتَتَهَا لَا تَحِلُّ قَطْعًا، وَالضِّفْدَعُ وَالسَّرَطَانُ مُحَرَّمَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَذَوَاتُ السُّمُومِ حَرَامٌ قَطْعًا، وَيَحْرُمُ التِّمْسَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالسُّلَحْفَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُبَاحُ مَيْتَةُ السَّمَكِ وَسَائِرِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ الَّذِي لَا يَعِيشُ إِلاَّ فِي الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ أَكْلُهُ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَمْ يُمْنَعْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.

وَحَيَوَانُ الْبَحْرِ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ كَالضِّفْدَعِ وَالتِّمْسَاحِ وَشِبْهِهِمَا يُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ، فَيُنَجَّسُ الْمَاءَ الْقَلِيلَ إِذَا مَاتَ فِيهِ، وَالْكَثِيرَ إِذَا غَيَّرَهُ، لِأَنَّهَا تُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ فَتُنَجِّسُ الْمَاءَ كَحَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ فَأَشْبَهَ طَيْرَ الْمَاءِ.وَيُفَارِقُ السَّمَكَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ وَلَا يُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ.

ج- مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ:

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْحَيَوَانِ كُلَّهَا نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَيْتَة).

د- مَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ:

14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ».

وَاخْتَلَفُوا فِي أُمُورٍ أُخْرَى وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ غَيْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهَا وَعَصَبَهَا- عَلَى الْمَشْهُورِ- وَحَافِرَهَا وَقَرْنَهَا الْخَالِيَةَ عَنِ الدُّسُومَةِ، وَكَذَا كُلُّ مَا لَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ وَهُوَ مَا لَا يَتَأَلَّمُ الْحَيَوَانُ بِقَطْعِهِ كَالرِّيشِ وَالْمِنْقَارِ وَالظِّلْفِ طَاهِرٌ.

وَاخْتُلِفَ فِي أُذُنَيْهِ فَفِي الْبَدَائِعِ نَجِسَةٌ، وَفِي الْخَانِيَةِ: لَا، وَفِي الْأَشْبَاهِ: الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَتِهِ إِلاَّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فَطَاهِرٌ وَإِنْ كَثُرَ.

(ر: أَطْعِمَة ف 74 وَمَا بَعْدَهَا).

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ نَجِسَةٌ إِلاَّ الشَّعْرَ وَشِبْهَهَا مِنَ الرِّيشِ.

وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْحَيَوَانِ فَإِنْ قُطِعَتْ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَهِيَ نَجِسَةٌ إِجْمَاعًا إِلاَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْوَبَرَ.وَإِنْ قُطِعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ قِيلَ بِطَهَارَتِهِ فَأَجْزَاؤُهُ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِنْ قِيلَ بِالنَّجَاسَةِ فَلَحْمُهُ نَجِسٌ.

وَأَمَّا الْعَظْمُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْقَرْنِ وَالسِّنِّ وَالظِّلْفِ فَهِيَ نَجِسَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالشَّعْرُ فَهِيَ طَاهِرَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الْجُزْءُ الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَةِ ذَلِكَ الْحَيِّ: إِنْ كَانَ طَاهِرًا فَطَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ لِخَبَرِ: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ»، فَالْمُنْفَصِلُ مِنَ الْآدَمِيِّ أَوِ السَّمَكِ أَوِ الْجَرَادِ طَاهِرٌ، وَمِنْ غَيْرِهَا نَجِسٌ إِلاَّ شَعْرَ الْمَأْكُولِ أَوْ صُوفَهُ أَوْ رِيشَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَطَاهِرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ نُتِفَ مِنْهَا.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أُخِذَ بَعْدَ التَّذْكِيَةِ أَوْ فِي الْحَيَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ.

وَقَالُوا: دَخَلَ فِي نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا مِنْ عَظْمٍ وَشَعْرٍ وَصُوفٍ وَوَبَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا وَظُفْرُهَا وَعَصَبُهَا وَحَافِرُهَا، وَأُصُولُ شَعْرِهَا إِذَا نُتِفَ، وَأُصُولُ رِيشِهَا إِذَا نُتِفَ وَهُوَ رَطْبٌ أَوْ يَابِسٌ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ أَشْبَهَ سَائِرَهَا، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّعْرِ وَالرِّيشِ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ لَمْ يَسْتَكْمِلْ شَعْرًا وَلَا رِيشًا.

وَصُوفُ مَيْتَةٍ طَاهِرَةٍ فِي الْحَيَاةِ كَالْغَنَمِ طَاهِرٌ، وَشَعْرُهَا وَوَبَرُهَا وَرِيشُهَا طَاهِرٌ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كَهِرٍّ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ، لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِلِامْتِنَانِ، فَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِحَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالرِّيشُ مَقِيسٌ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.

وَمَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ مِنْ قَرْنٍ وَإِلْيَةٍ وَنَحْوِهِمَا كَحَافِرٍ وَجِلْدٍ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ طَهَارَةً أَوْ نَجَاسَةً لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ».

وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (شَعْر وَصُوف وَوَبَر ف 17 وَمَا بَعْدَهَا، وَعَظْم ف 2، وَأَظْفَار ف 12).

هـ- جِلْدُ الْحَيَوَانِ:

15- جِلْدُ الْحَيَوَانِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِلْدَ مَيْتَةٍ، أَوْ جِلْدَ حَيَوَانٍ حَيٍّ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ.

أَمَّا جِلْدُ الْمَيْتَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغَةِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي جِلْدِ مَيْتَةِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ- إِلَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ تُطَهِّرُ جُلُودَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ عِنْدَهُمْ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُمَا بِطَهَارَةِ جِلْدِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِالدِّبَاغَةِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ الْكَلْبِ، كَمَا اسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جِلْدَ الْفِيلِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ.

وَأَمَّا جِلْدُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّذْكِيَةَ لَا تُطَهِّرُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ عِنْدَهُمْ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ مَا سَبَقَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (جِلْد ف 8، 10، وَدِبَاغَة ف9 وَمَا بَعْدَهَا، وَطَهَارَة ف 23).

حُكْمُ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَبْدَانِ النَّاسِ وَالْحَيَوَانَاتِ:

أ- الرِّيقُ وَالْمُخَاطُ وَالْبَلْغَمُ:

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ الْبَلْغَمِ، فَمَنْ قَاءَ بَلْغَمًا لَا يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ وَإِنْ مَلأَ الْفَمَ لِطَهَارَتِهِ، «لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ» وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ النَّازِلُ مِنَ الرَّأْسِ بِالْإِجْمَاعِ، هُوَ لِلُزُوجَتِهِ لَا تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ، وَأَمَّا مَا يُجَاوِرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَالْقَلِيلُ غَيْرُ نَاقِضٍ، بِخِلَافِ الصَّفْرَاءِ فَإِنَّهَا تُمَازِجُهَا.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ مِنَ الْجَوْفِ نَقَضَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ فَأَشْبَهَ الصَّفْرَاءَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ حَيٍّ بَحْرِيًّا كَانَ أَوْ بَرِّيًّا، كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ آدَمِيًّا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، لُعَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ- وَهُوَ مَا سَالَ مِنْ فَمِهِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ- طَاهِرٌ، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ الْمَعِدَةِ بِصُفْرَتِهِ وَنُتُونَتِهِ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ، وَلَا يُسَمَّى حِينَئِذٍ لُعَابًا، وَيُعْفَى عَنْهُ إِذَا لَازَمَ وَإِلاَّ فَلَا، وَمُخَاطُهُ كَذَلِكَ طَاهِرٌ، وَهُوَ مَا سَالَ مِنْ أَنْفِهِ.

وَالْبَلْغَمُ طَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُنْعَقِدُ كَالْمُخَاطِ يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ أَوْ يَسْقُطُ مِنَ الرَّأْسِ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، حَيْثُ يَقُولُونَ بِطِهَارَةِ الْمَعِدَةِ لِعِلَّةِ الْحَيَاةِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا طَاهِرٌ، وَعِلَّةُ نَجَاسَةِ الْقَيْءِ الِاسْتِحَالَةُ إِلَى فَسَادٍ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَا انْفَصَلَ عَنْ بَاطِنِ الْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ لَهُ اجْتِمَاعٌ وَاسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَرْشَحُ رَشْحًا كَاللُّعَابِ وَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْمُخَاطِ، فَلَهُ حُكْمُ الْحَيَوَانِ الْمُتَرَشَّحِ مِنْهُ، إِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ، وَإِلاَّ فَطَاهِرٌ.

وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْبَلْغَمَ الصَّاعِدَ مِنَ الْمَعِدَةِ

نَجِسٌ، بِخِلَافِ النَّازِلِ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ أَوِ الصَّدْرِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ رِيقَ الْآدَمِيِّ وَمُخَاطَهُ وَنُخَامَتَهُ طَاهِرٌ، فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُؤِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ- أَوْ: إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ- فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا» وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا أَمَرَ بِمَسْحِهَا فِي ثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تَحْتَ قَدَمِهِ.

وَلَا فَرْقَ فِي الْبَلْغَمِ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّأْسِ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ.

وَرِيقُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ طَاهِرٌ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، فَهُمَا نَجِسَانِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِمَا وَفَضَلَاتِهِمَا وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُمَا.

الثَّانِي: مَا عَدَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَفَضَلَاتِهَا إِلاَّ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَتِهَا، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْآدَمِيِّ.

ب- الْقَيْءُ وَالْقَلْسُ:

17- يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِنَجَاسَةِ الْقَيْءِ، لِأَنَّهُ طَعَامٌ اسْتَحَالَ فِي الْجَوْفِ إِلَى النَّتْنِ وَالْفَسَادِ فَكَانَ نَجِسًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارٍ- رضي الله عنه-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ...وَعَدَّ مِنْهَا الْقَيْءَ».

وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَجِسٌ إِذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ أَمَّا مَا دُونَهُ فَطَاهِرٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ النَّجِسَ مِنْهُ هُوَ الْمُتَغَيِّرُ عَنْ حَالِ الطَّعَامِ، فَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُهُ لِصَفْرَاءَ أَوْ بَلْغَمٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ فَطَاهِرٌ.

فَإِذَا تَغَيَّرَ بِحُمُوضَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَهُوَ نَجِسٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ.

18- أَمَّا الْقَلْسُ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ اللاَّمِ- فَهُوَ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَاءٌ تَقْذِفُهُ الْمَعِدَةُ أَوْ يَقْذِفُهُ رِيحٌ مِنْ فَمِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ طَعَامٌ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَلْسَ نَجِسٌ، فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ».

وَقَالُوا: إِنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْقَلْسَ طَاهِرٌ كَالْقَيْءِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ كَانَ نَجِسًا.

ج- الْجِرَّةُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُجْتَرِّ:

19- الْجِرَّةُ بِالْكَسْرِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: مَا يَصْدُرُ مِنْ جَوْفِ الْبَعِيرِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ إِلَى فِيهِ.

وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ جَوْفِهِ لِلِاجْتِرَارِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَرَوْثِهِ، لِأَنَّهُ وَارَاهُ جَوْفُهُ، كَالْمَاءِ إِذَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَوْلِهِ، فَكَذَا الْجِرَّةُ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّوْثِ، وَلَا يَجْتَرُّ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلاَّ مَا لَهُ كَرِشٌ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ مَعِدَةَ مُبَاحِ الْأَكْلِ طَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ لِعِلَّةِ الْحَيَاةِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ مَرَارَةٍ وَصَفْرَاءَ.

د- عَرَقُ الْحَيَوَانِ:

20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَهَارَةِ عَرَقِ الْحَيَوَانِ أَوْ نَجَاسَتِهِ.

فَذَهَبُوا إِلَى طَهَارَةِ عَرَقِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَرَق ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

هـ- اللَّبَن:

21- اللَّبَن إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ حَيٍّ فَهُوَ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ طَاهِرٌ بِلَا خِلَافٍ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي حِلِّ أَكْلِ الْحَيَوَانِ، فَمَا حَلَّ أَكْلُهُ كَانَ لَبَنُهُ طَاهِرًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (لَبَن ف 2 وَمَا بَعْدَهَا).

و- الْإِنْفَحَةُ:

22- الْإِنْفَحَةُ: مَادَّةٌ بَيْضَاءُ صَفْرَاوِيَّةٌ فِي وِعَاءٍ جِلْدِيٍّ يُسْتَخْرَجُ مِنْ بَطْنِ الْجَدْيِ أَوِ الْحَمَلِ الرَّضِيعِ يُوضَعُ مِنْهَا قَلِيلٌ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبِ فَيَنْعَقِدُ وَيَتَكَاثَفُ وَيَصِيرُ جُبْنًا، وَجِلْدَةُ الْإِنْفَحَةِ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى كَرِشًا إِذَا رَعَى الْحَيَوَانُ الْعُشْبَ.

وَالْإِنْفَحَةُ إِنْ أُخِذَتْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً فَهِيَ طَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَلاَّ يُطْعَمَ الْمُذَكَّى غَيْرُ اللَّبَنِ.

وَإِنْ أُخِذَتْ مِنْ مَيِّتٍ، أَوْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ فَهِيَ نَجِسَةٌ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَطَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ صُلْبَةً أَمْ مَائِعَةً قِيَاسًا عَلَى اللَّبَنِ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ وِعَائِهَا بِالْمَوْتِ فَلَا تُؤْكَلُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: أَطْعِمَة ف 85).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


22-موسوعة الفقه الكويتية (نجاسة 2)

نَجَاسَةٌ -2

ز- الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ:

23- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الدَّمِ، لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ» وَكَذَلِكَ الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ لِأَنَّهُمَا مِثْلُهُ.

وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ دَمَ الشَّهِيدِ عَلَيْهِ فَقَالُوا بِطَهَارَتِهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِقَتْلَى أُحُدٍ: «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلاَّ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ».فَإِنِ انْفَصَلَ الدَّمُ عَنِ الشَّهِيدِ كَانَ الدَّمُ نَجِسًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ دَمِ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَا يَسِيلُ عَنْ رَأْسِ جُرْحِهِ، وَيُعْفَى أَيْضًا عَنْ دَمِ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَفِيهِ حَرَجٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ إِذَا انْفَصَلَ عَنِ الْحَيَوَانِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ فِي الْعُرْفِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَفْسِهِ كَأَنِ انْفَصَلَ مِنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، إِلاَّ دَمَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعَ أَحَدِهِمَا فَلَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ لِغِلَظِ نَجَاسَتِهِ، وَأَمَّا دَمُ الشَّخْصِ نَفْسِهِ الَّذِي لَمْ يَنْفَصِلْ مِنْهُ كَدَمِ الدَّمَامِيلِ وَالْقُرُوحِ وَمَوْضِعِ الْفَصْدِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، انْتَشَرَ بِعَرَقٍ أَمْ لَا.

وَيُعْفَى عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَالْقَمْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَمَحَلُّ الْعَفْوِ عَنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ مَا لَمْ يَخْتَلِطْ بِأَجْنَبِيٍّ، فَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِهِ كَأَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ دَمٌ أَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ.

وَأَمَّا مَا لَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فَيُعْفَى عَنْهُ وَلَوْ مِنَ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمٍ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ فِي غَيْرِ مَائِعٍ وَمَطْعُومٍ، أَيْ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَالِبًا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ وَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقَدْرُ الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ هُوَ مَا لَا يَفْحُشُ فِي النَّفْسِ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنَ الْقَيْحِ وَنَحْوِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ مِنَ الدَّمِ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ خَارِجًا مِنْ غَيْرِ سَبِيلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ سَبِيلٍ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، وَلَا يُعْفَى عَنِ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ حَيَوَانٍ نَجِسٍ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيُضَمُّ مُتَفَرِّقٌ فِي ثَوْبٍ مِنْ دَمٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ فَحُشَ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، وَيُعْفَى عَنْ دَمِ بَقٍّ وَقَمْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً. (ر: عَفُوف 7 وَمَا بَعْدَهَا، مَعْفُوَّات ف 3 وَمَا بَعْدَهَا).

ح- دَمُ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَالنِّفَاسِ:

24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي».

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَثَرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ فِي مَنْعِ الْعِبَادَاتِ تَنْظُرُ مُصْطَلَحَاتِ: (اسْتِحَاضَة ف 25 وَمَا بَعْدَهَا، حَيْض ف 33 وَمَا بَعْدَهَا، نِفَاس).

ط- الْمِسْكُ وَالزَّبَادُ وَالْعَنْبَرُ:

25- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ طَاهِرٌ حَلَالٌ، فَيُؤْكَلُ بِكُلِّ حَالٍ، وَكَذَا نَافِجَتُهُ طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا، وَبَيْنَ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْمَذْبُوحَةِ وَغَيْرِهَا، وَبَيْنَ كَوْنِهَا بِحَالِ لَوْ أَصَابَهَا الْمَاءُ فَسَدَتْ أَوْ لَا.

وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ لِاسْتِحَالَتِهِ إِلَى الطِّيبِيَّةِ.

وَكَذَا الْعَنْبَرُ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى، قَالَ فِي خِزَانَةِ الرِّوَايَاتِ نَاقِلًا عَنْ جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى: الزَّبَادُ طَاهِرٌ، وَفِي الْمِنْهَاجِيَّةِ مِنْ مُخْتَصَرِ الْمَسَائِلِ: الْمِسْكُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَمًا لَكِنَّهُ تَغَيَّرَ، وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ، وَكَذَا الْعَنْبَرُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ- كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ- طَاهِرٌ، وَفِي فَأْرَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي حَيَاةِ الظَّبْيَةِ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ الطَّهَارَةُ كَالْجَنِينِ، فَإِنِ انْفَصَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا فَنَجِسَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ كَاللَّبَنِ، وَطَاهِرَةٌ فِي وَجْهٍ كَالْبَيْضِ الْمُتَصَلِّبِ.

وَالزَّبَادُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَبَنُ سِنَّوْرٍ بَحْرِيٍّ أَوْ عَرَقُ سِنَّوْرٍ بَرِّيٍّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِ شَعَرٍ فِيهِ عُرْفًا فِي مَأْخُوذٍ جَامِدٍ، وَفِي مَأْخُوذٍ مِنْهُ مَائِعٍ.

وَالْعَنْبَرُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ نَبَاتٌ بَحْرِيٌّ عَلَى الْأَصَحِّ، نَعَمْ مَا يَبْتَلِعُهُ مِنْهُ حَيَوَانُ الْبَحْرِ ثُمَّ يُلْقِيهِ نَجِسٌ لِأَنَّهُ مِنَ الْقَيْءِ وَيُعْرَفُ بِسَوَادِهِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي طَهَارَةِ الْمِسْكِ وَحِلِّ أَكْلِهِ، وَهُوَ الدَّمُ الْمُنْعَقِدُ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ كَالْغَزَالِ وَاسْتَحَالَ إِلَى صَلَاحٍ، وَكَذَا فَأْرَتُهُ وَهِيَ وِعَاؤُهُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَخْصُوصِ، لِأَنَّه- عليه الصلاة والسلام- تَطَيَّبَ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا مَا تَطَيَّبَ بِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمِسْكُ وَفَأْرَتُهُ طَاهِرَانِ وَهُوَ سُرَّةُ الْغَزَالِ، وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ عَرَقُ سِنَّوْرٍ بَرِّيٍّ، وَفِي الْإِقْنَاعِ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ عَرَقُ حَيَوَانٍ أَكْبَرَ مِنَ الْهِرِّ، وَالْعَنْبَرُ طَاهِرٌ.

ي- الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ:

26- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْلِ وَعَذِرَةِ الْآدَمِيِّ وَبَوْلِ وَرَوْثِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْمَنِيِّ».

وَاخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ بَوْلِ وَرَوْثِ الْحَيَوَانِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَكَذَا خُرْءُ الطَّيْرِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى طَهَارَتِهِمَا فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ أَوْ بَعْدَ ذَكَاتِهِ لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ فَإِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَلِصَلَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَوْلُ وَرَوْثُ الْحَيَوَانِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ نَجِسًا لَتَنَجَّسَتِ الْحُبُوبُ الَّتِي تَدُوسُهَا الْبَقَرُ فَإِنَّهَا لَا تَسْلَمُ مِنْ أَبْوَالِهَا.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً، أَمَّا رَوْثُهُ فَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَجَاسَتُهُ خَفِيفَةٌ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْخَفِيفَةِ وَقِلَّةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْغَلِيظَةِ، لَا فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْهِيرِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْغِلَظِ وَالْخِفَّةِ.

وَأَمَّا خُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ فَهُوَ نَجِسٌ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَخُرْءُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ طَاهِرٌ إِلاَّ الدَّجَاجَ وَالْبَطَّ الْأَهْلِيَّ وَالْأَوِزَّ فَنَجَاسَةُ خُرْئِهَا غَلِيظَةٌ لِنَتْنِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَوْلَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ نَجِسٌ وَكَذَلِكَ رَوْثُهُ، وَكَذَا ذَرْقُ الطَّيْرِ، لِمَا وَرَدَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا جِيءَ لَهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ لِيَسْتَنْجِيَ بِهَا أَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَدَّ الرَّوْثَةَ وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ» وَالرِّكْسُ النَّجَسُ.

وَأَمَّا أَمْرُهُ- صلى الله عليه وسلم- الْعُرَنِيِّينَ بِشُرْبِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ فَكَانَ لِلتَّدَاوِي، وَالتَّدَاوِي بِالنَّجِسِ جَائِزٌ عِنْدَ فَقْدِ الطَّاهِرِ إِلاَّ خَالِصَ الْخَمْرِ، وَلِأَنَّ أَبْوَالَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَأَرْوَاثَهَا مِمَّا اسْتَحَالَ بِالْبَاطِنِ، وَكُلُّ مَا اسْتَحَالَ بِالْبَاطِنِ نَجِسٌ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (ذَرْق ف 3- 5، رَوْث ف 2- 3).

ك- الْمَنِيُّ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ:

27- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الْمَذْيِ، لِلْأَمْرِ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْهُ وَالْوُضُوءِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ» وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ سَبِيلِ الْحَدَثِ لَا يَخْلُقُ مِنْهُ طَاهِرٌ فَهُوَ كَالْبَوْلِ.

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الْوَدْيِ كَذَلِكَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ أَوْ طَهَارَتِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَذْي ف 4، وَمَنِيّ ف 5، وَوَدْي).

ل- رُطُوبَةُ الْفَرْجِ:

28- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ الدَّاخِلِيِّ كَسَائِرِ رُطُوبَاتِ الْبَدَنِ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى نَجَاسَتِهِ.

أَمَّا رُطُوبَةُ الْفَرْجِ الْخَارِجِيِّ فَطَاهِرَةٌ اتِّفَاقًا.

وَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَحَلِّهَا فَلَا عِبْرَةَ بِهَا بِاتِّفَاقٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ مِنْ غَيْرِ مُبَاحِ الْأَكْلِ نَجِسَةٌ، أَمَّا مِنْ مُبَاحِ الْأَكْلِ فَطَاهِرَةٌ مَا لَمْ يَتَغَذَّ بِنَجِسٍ، وَرُطُوبَةُ فَرْجِ الْآدَمِيِّ نَجِسَةٌ عَلَى الرَّاجِحِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ مِنَ الْآدَمِيِّ أَوْ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ وَلَوْ غَيْرِ مَأْكُولٍ لَيْسَتْ بِنَجِسٍ فِي الْأَصَحِّ بَلْ طَاهِرَةٌ لِأَنَّهَا كَعَرَقِهِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّهَا نَجِسَةٌ، لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ يَنْجُسُ بِهَا ذَكَرُ الْمُجَامِعِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ رُطُوبَةَ فَرْجِ الْمَرْأَةِ طَاهِرَةٌ لِلْحُكْمِ بِطَهَارَةِ مَنِيِّهَا، فَلَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِهَا لَزِمَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ مَنِيِّهَا.

وَقَالُوا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ- اخْتَارَهَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِفَادَاتِ- إِنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ نَجِسَةٌ، وَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَصَابَ مِنْهُ فِي حَالِ الْجِمَاعِ نَجِسٌ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْمَذْيِ.

حُكْمُ الْخَمْرِ:

29- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ، لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا وَتَسْمِيَتِهَا رِجْسًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: الشَّيْءُ الْقَذِرُ أَوِ النَّتِنُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ وَالصَّنْعَانِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ إِلَى طَهَارَتِهَا تَمَسُّكًا بِالْأَصْلِ، وَحَمَلُوا الرِّجْسَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْقَذَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَشْرِبَة ف 30- 32 وَمَا بَعْدَهَا، وَتَخْلِيل ف 13- 14).

مَا تُلَاقِيهِ النَّجَاسَةُ:

أ- تَلَاقِي الْجَافَّيْنِ أَوِ الطَّاهِرِ الْجَافِّ بِالنَّجِسِ الْمَائِعِ أَوِ الْمُبْتَلِّ وَعَكْسِهِ:

30- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ ابْتَلَّ فِرَاشٌ أَوْ تُرَابٌ نَجِسَانِ مِنْ عَرَقِ نَائِمٍ أَوْ بَلَلِ قَدَمٍ وَظَهَرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ وَالْقَدَمِ تَنَجَّسَا وَإِلاَّ فَلَا، كَمَا لَا يَنْجُسُ ثَوْبٌ جَافٌّ طَاهِرٌ لُفَّ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ رَطْبٍ لَا يَنْعَصِرُ الرَّطْبُ لَوْ عُصِرَ، وَلَا يَنْجُسُ ثَوْبٌ رَطْبٌ بِنَشْرِهِ عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ يَابِسَةٍ فَتَنَدَّتْ مِنْهُ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهَا فِيهِ، وَلَا بِرِيحٍ هَبَّتْ عَلَى نَجَاسَةٍ فَأَصَابَتِ الثَّوْبَ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهَا فِيهِ أَيِ الثَّوْبِ، وَقِيلَ: يَنْجُسُ إِنْ كَانَ مَبْلُولًا لِاتِّصَالِهَا بِهِ.

وَلَوْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ وَمَقْعَدَتُهُ مَبْلُولَةٌ فَالصَّحِيحُ طَهَارَةُ الرِّيحِ الْخَارِجَةِ فَلَا تُنَجِّسُ الثِّيَابَ الْمُبْتَلَّةَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ زَالَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ عَنِ الْمَحَلِّ بِغَيْرِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ مِنْ مُضَافٍ وَبَقِيَ بَلَلُهُ، فَلَاقَى جَافًّا، أَوْ جَفَّ وَلَاقَى مَبْلُولًا لَمْ يَتَنَجَّسْ مُلَاقِي مَحَلِّهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، إِذْ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْحُكْمُ وَهُوَ لَا يَنْتَقِلُ، وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُضَافَ قَدْ يَتَنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ فَالْبَاقِي نَجِسٌ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا لَاقَى الْمَحَلُّ الْمَبْلُولُ جَافًّا، أَوْ لَاقَى الْمَحَلَّ الْجَافَّ شَيْءٌ مَبْلُولٌ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْأَعْيَانَ الطَّاهِرَةَ إِذَا لَاقَاهَا شَيْءٌ نَجِسٌ وَأَحَدُهُمَا رَطْبٌ وَالْآخَرُ يَابِسٌ فَيُنَجَّسُ الطَّاهِرُ بِمُلَاقَاتِهَا.

ب- وُقُوعُ النَّجَاسَةِ فِي مَائِعٍ أَوْ جَامِدٍ:

31- إِذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي سَمْنٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهَا تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُنْتَفَعُ بِالْبَاقِي، لِمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ» أَمَّا إِذَا كَانَ السَّمْنُ وَنَحْوُهُ مَائِعًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمَائِعَ كَالْمَاءِ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ بِمَا يَنْجُسُ بِهِ الْمَاءُ.

32- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ فِي إِمْكَانِ تَطْهِيرِ الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ.لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ.

وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَائِع ف 3- 4، وَطَهَارَة ف 15).

ج- الْمِيَاهُ الَّتِي تُلَاقِي النَّجَاسَةَ:

33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَغَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ كَانَ نَجِسًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ لِلْمَاءِ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً أَنَّهُ نَجِسٌ مَا دَامَ كَذَلِكَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ عَلَى أَقْوَالٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه ف 17- 23).

د- الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ مَحَلِّ التَّطْهِيرِ:

34- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَاءِ الَّذِي أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوْ خَبَثٌ مِنْ حَيْثُ بَقَاؤُهُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ أَوْ فَقْدُهُ الطَّهُورِيَّةَ، وَمِنْ حَيْثُ نَجَاسَتُهُ أَوْ عَدَمُ نَجَاسَتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه ف9- 12).

هـ- تَنَجُّسُ الْآبَارِ:

35- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْبِئْرَ الصَّغِيرَةَ- وَهِيَ مَا دُونَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةٍ- يَنْجُسُ مَاؤُهَا بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ فِيهَا، وَإِنْ قَلَّتِ النَّجَاسَةُ مِنْ غَيْرِ الْأَرْوَاثِ كَقَطْرَةِ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ، وَلِكَيْ تَطْهُرَ يُنْزَحُ مَاؤُهَا كَمَا تُنْزَحُ بِوُقُوعِ خِنْزِيرٍ فِيهَا وَلَوْ خَرَجَ حَيًّا وَلَمْ يُصِبْ فَمُهُ الْمَاءَ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ.

وَتُنْزَحُ بِمَوْتِ كَلْبٍ فِيهَا، فَإِذَا لَمْ يَمُتْ وَخَرَجَ حَيًّا وَلَمْ يَصِلْ فَمُهُ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ نَجِسِ الْعَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ.

كَمَا تُنْزَحُ أَيْضًا بِمَوْتِ شَاةٍ أَوْ مَوْتِ آدَمِيٍّ فِيهَا، لِنَزْحِ مَاءِ زَمْزَمَ بِمَوْتِ زِنْجِيٍّ وَأَمْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنهم- بِهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.

وَتُنْزَحُ بِانْتِفَاخِ حَيَوَانٍ وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا لِانْتِشَارِ النَّجَاسَةِ، فَلَوْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا نُزِحَ مِنْهَا وُجُوبًا مِائَتَا دَلْوٍ وَسَطٍ، وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي تِلْكَ الْبِئْرِ، وَقَدَّرَ مُحَمَّدٌ- رحمه الله- الْوَاجِبَ بِمِائَتَيْ دَلْوٍ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا، وَأَفْتَى بِهِ لَمَّا شَاهَدَ آبَارَ بَغْدَادَ كَثِيرَةَ الْمِيَاهِ لِمُجَاوَرَةِ دِجْلَةَ.

وَإِنْ مَاتَ فِي الْبِئْرِ دَجَاجَةٌ أَوْ هِرَّةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا فِي الْجُثَّةِ وَلَمْ يَنْتَفِخْ لَزِمَ نَزْحُ أَرْبَعِينَ دَلْوًا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْوَاقِعِ مِنْهَا، رُوِيَ التَّقْدِيرُ بِالْأَرْبَعِينَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- فِي الدَّجَاجَةِ، وَمَا قَارَبَهَا يُعْطَى حُكْمَهَا، وَتُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ إِلَى خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ.

وَإِنْ مَاتَ فِيهَا فَأْرَةٌ أَوْ نَحْوُهَا كَعُصْفُورٍ وَلَمْ يَنْتَفِخْ لَزِمَ نَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ، لِقَوْلِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- فِي فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ وَأُخْرِجَتْ مِنْ سَاعَتِهَا: يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا، وَتُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ إِلَى ثَلَاثِينَ لِاحْتِمَالِ زِيَادَةِ الدَّلْوِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَثَرِ عَلَى مَا قُدِّرَ بِهِ مِنَ الْوَسَطِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَنْزُوحُ طَهَارَةً لِلْبِئْرِ وَالدَّلْوِ وَالرِّشَا وَالْبَكَرَةِ وَيَدِ الْمُسْتَسْقَى، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ، لِأَنَّ نَجَاسَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ، فَتَكُونُ طَهَارَتُهَا بِطَهَارَتِهِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ، كَطَهَارَةِ دَنِّ الْخَمْرِ بِتَخَلُّلِهَا، وَطَهَارَةِ عُرْوَةِ الْأَبْرِيقِ بِطَهَارَةِ الْيَدِ إِذَا أَخَذَهَا كُلَّمَا غَسَلَ يَدَهُ.

وَلَا تُنَجَّسُ الْبِئْرُ بِالْبَعْرِ وَهُوَ لِلْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَالرَّوْثِ- لِلْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَالْخِثْيِ لِلْبَقَرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ آبَارِ الْأَمْصَارِ وَالْفَلَوَاتِ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِشُمُولِ الضَّرُورَةِ، فَلَا تُنَجَّسُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، وَهُوَ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاظِرُ أَوْ أَنْ لَا يَخْلُوَ دَلْوٌ عَنْ بَعْرَةٍ وَنَحْوِهَا كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَالْقَلِيلُ مَا يَسْتَقِلُّهُ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ.

وَلَا يُنَجَّسُ الْمَاءُ بِخُرْءِ حَمَامٍ وَعُصْفُورٍ، وَلَا بِمَوْتِ مَا لَا دَمَ لَهُ فِيهِ كَسَمَكٍ وَضُفْدَعٍ، وَلَا بِوُقُوعِ آدَمِيٍّ وَمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِذَا خَرَجَ حَيًّا وَلَمْ يَكُنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةً، وَلَا بِوُقُوعِ بَغْلٍ وَحِمَارٍ وَسِبَاعِ طَيْرٍ وَوَحْشٍ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنْ وَصَلَ لُعَابُ الْوَاقِعِ إِلَى الْمَاءِ أَخَذَ حُكْمَهُ، وَوُجُودُ حَيَوَانٍ مَيِّتٍ فِيهَا يُنَجِّسُهَا مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمُنْتَفِخٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ وَلَيَالِيهَا إِنْ لَمْ يُعْلَمْ وَقْتُ وُقُوعِهِ.

36- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا مَاتَ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ فِي بِئْرٍ فَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا وَجَبَ نَزْحُهُ حَتَّى يَزُولَ التَّغَيُّرُ وَيَعُودَ كَهَيْئَتِهِ أَوَّلًا طَاهِرًا مُطَهِّرًا، فَإِنْ زَالَ بِنَفْسِهِ فَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ إِلَى أَصْلِهِ، فَيَصِيرُ طَهُورًا خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَ الْبُنَانِيُّ: الْأَرْجَحُ أَنَّهُ يَطْهُرُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَالْأَجْهُورِيُّ، وَقَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: لَا يَطْهُرُ، وَرَجَّحَ ابْنُ رُشْدٍ قَوْلَ ابْنِ وَهْبٍ.وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ نُدِبَ النَّزْحُ بِقَدْرِ الْمَاءِ قِلَّةً وَكَثْرَةً، وَالْحَيَوَانِ صِغَرًا وَكِبَرًا، وَأَمَّا إِنْ وَقَعَ حَيًّا أَوْ طُرِقَ مَيِّتًا وَأُخْرِجَ فَلَا نَزْحَ وَلَا كَرَاهَةَ.

وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: إِنْ مَاتَ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ بِمَاءٍ لَا مَادَّةَ لَهُ كَالْجُبِّ لَا يُشْرَبُ مِنْهَا وَلَا يُتَوَضَّأُ، وَيُنْزَحُ الْمَاءُ كُلُّهُ، بِخِلَافِ مَا لَهُ مَادَّةٌ.

وَفِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ فِي ثِيَابٍ أَصَابَهَا مَاءُ بِئْرٍ وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَمَاتَتْ وَتَسَلَّخَتْ: يُغْسَلُ الثَّوْبُ وَتُعَادُ الصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ: وَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَوِ الْكَثِيرِ لَهُ مَادَّةٌ أَوْ لَا كَالصَّهَارِيجِ- وَكَانَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ أَيْ دَمٌ يَجْرِي مِنْهُ إِذَا جُرِحَ- فَإِنَّهُ يُنْدَبُ النَّزْحُ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَيَوَانِ مَنْ كِبَرٍ أَوْ صِغَرٍ، وَبِقَدْرِ الْمَاءِ مِنْ قِلَّةٍ وَكَثْرَةٍ، إِلَى ظَنِّ زَوَالِ الْفَضَلَاتِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ فِيهِ حَالَ خُرُوجِ رُوحِهِ فِي الْمَاءِ.

وَيُنْقِصُ النَّازِحُ الدَّلْوَ لِئَلاَّ تَطْفُوَ الدُّهْنِيَّةُ فَتَعُودَ لِلْمَاءِ ثَانِيًا، وَالْمَدَارُ عَلَى ظَنِّ زَوَالِ الْفَضَلَاتِ.

فَلَوْ أُخْرِجَ الْحَيَوَانُ مِنَ الْمَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَوْ وَقَعَ فِيهِ مَيِّتًا، أَوْ كَانَ جَارِيًا أَوْ مُسْتَبْحِرًا كَغَدِيرٍ عَظِيمٍ جِدًّا، أَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ بَحْرِيًّا كَحُوتٍ، أَوْ بَرِّيًّا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَعَقْرَبٍ وَذُبَابٍ، لَمْ يُنْدَبِ النَّزْحُ، فَلَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا لَا يُكْرَهُ بَعْدَ النَّزْحِ.هَذَا مَا لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَاءُ بِالْحَيَوَانِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رِيحًا تَنَجَّسَ لِأَنَّ مَيْتَتَهُ نَجِسَةٌ. 37- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَاءَ الْبِئْرِ كَغَيْرِهِ فِي قَبُولِ النَّجَاسَةِ وَزَوَالِهَا، فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَتَنَجَّسَ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْزَحَ لِيَنْبُعَ الْمَاءُ الطَّهُورُ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ نُزِحَ فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى نَجِسًا، وَقَدْ تَنْجُسُ جُدْرَانُ الْبِئْرِ أَيْضًا بِالنَّزْحِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لِيَزْدَادَ فَيَبْلُغَ حَدَّ الْكَثْرَةِ.

وَإِنْ كَانَ نَبْعُهَا قَلِيلًا لَا تُتَوَقَّعُ كَثْرَتُهُ صُبَّ فِيهَا مَاءٌ لِيَبْلُغَ الْكَثْرَةَ وَيَزُولَ التَّغَيُّرُ إِنْ كَانَ تَغَيَّرَ.

وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا طَاهِرًا وَتَفَتَّتَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا فَقَدْ يَبْقَى عَلَى طَهُورِيَّتِهِ لِكَثْرَتِهِ وَعَدَمِ التَّغَيُّرِ، لَكِنْ يَتَعَذَّرُ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَنْزَحُ دَلْوًا إِلاَّ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَقَى الْمَاءُ كُلُّهُ لِيَخْرُجَ الشَّعْرُ مِنْهُ.

فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فَوَّارَةً وَتَعَذَّرَ نَزْحُ الْجَمِيعِ نَزَحَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الشَّعْرَ خَرَجَ كُلُّهُ مَعَهُ، فَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبِئْرِ وَمَا يَحْدُثُ طَهُورٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَيْقِنِ النَّجَاسَةِ وَلَا مَظْنُونِهَا، وَلَا يَضُرُّ احْتِمَالُ بَقَاءِ الشَّعْرِ.

فَإِنْ تَحَقَّقَ شَعْرًا بَعْدَ ذَلِكَ حَكَمَ بِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ النَّزْحِ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ دَلْوٍ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ لَكِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ قَوْلَانِ.

38- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدْ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ بِئْرٍ بَالَ فِيهَا إِنْسَانٌ؟ قَالَ: تُنْزَحُ حَتَّى تَغْلِبَهُمْ، قُلْتُ: مَا حَدُّهُ؟ قَالَ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَزْحِهَا، وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْغَدِيرُ يُبَالُ فِيهِ، قَالَ: الْغَدِيرُ أَسْهَلُ وَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَقَالَ فِي الْبِئْرِ يَكُونُ لَهَا مَادَّةٌ: هُوَ وَاقِفٌ لَا يَجْرِي لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجْرِي، يَعْنِي أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِالْبَوْلِ فِيهِ إِذَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَوْلِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ بِئْرٍ غَزِيرَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ خِرْقَةٌ أَصَابَهَا بَوْلٌ.قَالَ: تُنْزَحُ، وَقَالَ فِي قَطْرَةِ بَوْلٍ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ: لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ النَّجَاسَاتِ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَإِذَا كَانَتْ بِئْرُ الْمَاءِ مُلَاصِقَةً لِبِئْرٍ فِيهَا بَوْلٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ وَشَكَّ فِي وُصُولِهَا إِلَى الْمَاءِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ، قَالَ أَحْمَدُ: يَكُونُ بَيْنَ الْبِئْرِ وَالْبَالُوعَةِ مَا لَمْ يُغَيِّرْ طَعْمًا وَلَا رِيحًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ أَحَبَّ عِلْمَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَلْيَطْرَحْ فِي الْبِئْرِ النَّجِسَةِ نِفْطًا، فَإِنْ وَجَدَ رَائِحَتَهُ فِي الْمَاءِ عَلِمَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ وَإِلاَّ فَلَا.

وَإِذَا نَزَحَ مَاءَ الْبِئْرِ النَّجِسَ فَنَبَعَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَاءٌ أَوْ صُبَّ فِيهِ فَهُوَ طَاهِرٌ، لِأَنَّ أَرْضَ الْبِئْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ الَّتِي تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِمُرُورِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَجُسَتْ جَوَانِبُ الْبِئْرِ فَهَلْ يَجِبُ غَسْلُهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: يَجِبُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَأَشْبَهَ رَأْسَ الْبِئْرِ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجِبُ لِلْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِذَلِكَ فَعُفِيَ عَنْهُ كَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ وَأَسْفَلِ الْحِذَاءِ.

صَلَاةُ حَامِلِ النَّجَاسَةِ وَمَنْ تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ:

39- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ صَلَّى حَامِلًا بَيْضَةً مَذِرَةً صَارَ مُحُّهَا دَمًا جَازَ لِأَنَّهُ فِي مَعْدِنِهِ، وَالشَّيْءُ مَا دَامَ فِي مَعْدِنِهِ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَمَلَ قَارُورَةً مَضْمُومَةً فِيهَا بَوْلٌ فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَعْدِنِهِ.

وَلَوْ أَصَابَ رَأْسُهُ خَيْمَةً نَجِسَةً تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمُصَلِّي فِي صَلَاةٍ وَلَوْ نَفْلًا مُبْطِلٌ لَهَا وَيَقْطَعُهَا- وَلَوْ مَأْمُومًا- إِنِ اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا وَلَمْ تَكُنْ مِمَّا يُعْفَى عَنْهُ، بِشَرْطِ أَنْ يَتَّسِعَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ اخْتِيَارِيًّا أَوْ ضَرُورِيًّا بِأَنْ يَبْقَى مِنْهُ مَا يَسَعُ وَلَوْ رَكْعَةً، وَأَنْ يَجِدَ لَوْ قَطَعَ مَا يُزِيلُهَا بِهِ أَوْ ثَوْبًا آخَرَ يَلْبَسُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَا فِيهِ النَّجَاسَةُ مَحْمُولًا لِغَيْرِهِ وَإِلاَّ فَلَا يَقْطَعُ لِعَدَمِ بُطْلَانِهَا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ تَعَلَّقَ صَبِيٌّ نَجِسُ الثِّيَابِ أَوِ الْبَدَنِ بِمُصَلٍّ- وَالصَّبِيُّ مُسْتَقِرٌّ بِالْأَرْضِ- فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ عَلَى الظَّاهِرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ حَمَلَ حَيَوَانًا طَاهِرًا فِي صَلَاتِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا» وَلِأَنَّ مَا فِي الْحَيَوَانِ مِنَ النَّجَاسَةِ فِي مَعْدِنِ النَّجَاسَةِ فَهُوَ كَالنَّجَاسَةِ الَّتِي فِي جَوْفِ الْمُصَلِّي، وَإِنْ حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ وَقَدْ سَدَّ رَأْسَهَا فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْهَا كَمَا لَوْ حَمَلَ حَيَوَانًا طَاهِرًا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حَمَلَ نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا فَأَشْبَهَ مَا إِذَا حَمَلَ النَّجَاسَةَ فِي كُمِّهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ مَسْدُودَةٌ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَمَلَهَا فِي كُمِّهِ.

وَقَالُوا إِذَا سَقَطَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ أَوْ أَزَالَهَا فِي الْحَالِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ فِي نَعْلَيْهِ خَلَعَهُمَا وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ» وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِ زَمَنِهَا كَكَشْفِ الْعَوْرَةِ.

تَوَقِّي النَّجَاسَاتِ:

40- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجِسٍ، كَمَا لَا يَجُوزُ إِلْقَاؤُهُ فِي نَجَاسَةٍ أَوْ تَلْطِيخُهُ بِنَجِسٍ.

وَلَا يَجُوزُ كَذَلِكَ إِلْقَاءُ شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَوِ الْحَدِيثِ أَوِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فِي نَجَاسَةٍ أَوْ تَلْطِيخُهُ بِنَجِسٍ.

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ عَنِ النَّجَاسَاتِ، فَلَا يَجُوزُ إِدْخَالُ النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ دُخُولُ مَنْ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ نَجَاسَةٌ، وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِخَشْيَةِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ بِنَجِسٍ أَوْ مُتَنَجِّسٍ.

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ تَوَقِّي النَّجَاسَةِ فِي الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْمَكَانِ عِنْدَ الصَّلَاةِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوَقِّي الْمَلَاعِنِ الثَّلَاثِ، وَهِيَ الْبَوْلُ وَالْبَرَازُ فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ مَوْرِدِ مَاءٍ أَوْ ظِلٍّ يُنْتَفَعُ بِهِ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ» وَكَذَلِكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ وَفِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ تَطْهِيرُ النَّجَاسَاتِ:

41- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَاتِ وَاجِبٌ مِنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ: «تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ، وَتُصَلِّي فِيهِ»

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (طَهَارَة ف 7 وَمَا بَعْدَهَا).

تَطْهِيرُ الدُّبَّاءِ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ الْخَمْرُ:

42- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا انْتُبِذَ فِي الدُّبَّاءِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْآنِيَةِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَمْرِ فَلَا إِشْكَالَ فِي حِلِّهِ وَطَهَارَتِهِ.وَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِيهَا الْخَمْرُ ثُمَّ انْتُبِذَ فِيهَا يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْعَتِيقِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ غَسْلِ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ.

وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُمْلأَُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إِذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


23-موسوعة الفقه الكويتية (نجاسة 3)

نَجَاسَةٌ -3

بَيْعُ النَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ:

43- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ النَّجِسِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي هَذَا قَالُوا: إِنَّ بَيْعَ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِهَانَةً لَهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَجَازُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ لِلْخَرَزِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ

كَمَا لَمْ يُجِيزُوا بَيْعَ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ لِأَنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ بِالدِّبَاغِ، أَمَّا قَبْلَ الدِّبَاغِ فَهِيَ نَجِسَةٌ

وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسَّبُعِ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَالًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ»

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا».

وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمُوجِبِ الْبَيْعَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مُحْتَاجُونَ إِلَى مُبَاشَرَتِهَا كَالْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ خَاصَّةً فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَصِيرِ وَعَقْدَهُمْ عَلَى الْخِنْزِيرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الشَّاةِ، لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ- رضي الله عنه-: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَّاتِ إِذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْأَدْوِيَةِ وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ فَلَا يَجُوزُ.

وَيَجُوزُ بَيْعُ الدُّهْنِ النَّجِسِ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِلِاسْتِصْبَاحِ فَهُوَ كَالسِّرْقِينِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ، وَأَمَّا الْعَذِرَةُ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا إِلاَّ إِذَا خُلِطَتْ بِالتُّرَابِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إِلاَّ تَبَعًا لِلتُّرَابِ الْمَخْلُوطِ، بِخِلَافِ الدَّمِ يُمْنَعُ مُطْلَقًا

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ لَدَيْهِمْ إِلَى أَنَّ الْمُتَنَجِّسَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمَا لَا يَقْبَلُهُ كَالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ

وَفِي أَسْهَلِ الْمَدَارِكِ عَنِ الْخَرَشِيِّ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ وَالْمَأْخُوذِ مِنَ الْحَيِّ نَجِسٌ، وَلَوْ دُبِغَ عَلَى الْمَشْهُورِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَلَا يُؤَثِّرُ دَبْغُهُ طَهَارَةً فِي ظَاهِرِهِ وَلَا بَاطِنِهِ

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ طَهَارَةُ عَيْنِهِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ نَجِسِ الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ أَمْ لَا كَالسِّرْجِينِ وَالْكَلْبِ وَلَوْ مُعَلَّمًا وَالْخَمْرِ وَلَوْ مُحْتَرَمَةً، لِخَبَرِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم-: «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ» وَقَالَ كَذَلِكَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ» وَقِيسَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهُ.

وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَالصَّبْغِ وَالْآجُرِّ الْمَعْجُونِ بِالزِّبْلِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَجِسِ الْعَيْنِ، أَمَّا مَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِإِمْكَانِ طُهْرِهِ

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: وَفْقُ ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ تَحْرِيمُ بَيْعِ النَّجِسِ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى فِي الزَّيْتِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ: لُتُّوهُ بِالسَّوِيقِ وَبِيعُوهُ وَلَا تَبِيعُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَبَيِّنُوهُ.

وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً؛ أَنَّهُ يُبَاعُ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ بِنَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ وَيَسْتَبِيحُونَ أَكْلَهُ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ وَلَا يَجُوزُ لَنَا بَيْعُهُ لَهُمْ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ

الِانْتِفَاعُ بِالنَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ دُونَ تَطْهِيرٍ:

44- ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْفَتْحِ يَقُولُ وَهُوَ بِمَكَّةَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ.فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا.هُوَ حَرَامٌ»

كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ وَلِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِمُتَنَجِّسٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ كَزَيْتٍ وَلَبَنٍ وَخَلٍّ وَنَبِيذٍ، أَمَّا النَّجِسُ وَهُوَ مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً كَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، إِلاَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ الدَّبْغِ فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ، أَوْ مَيْتَةً تُطْرَحُ لِكِلَابٍ إِذْ طَرْحُ الْمَيْتَةِ لِلْكِلَابِ فِيهِ انْتِفَاعٌ لِتَوْفِيرِ مَا كَانَتْ تَأْكُلُهُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِهَا، أَوْ شَحْمَ مَيْتَةٍ لِدُهْنِ عِجْلَةٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ عَظْمَ مَيْتَةٍ لِوَقُودٍ عَلَى طُوبٍ أَوْ حِجَارَةٍ لِتَصِيرَ جِيرًا، أَوْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ كَإِسَاغَةِ غُصَّةٍ بِخَمْرٍ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ، وَكَأَكْلِ مَيْتَةٍ لِمُضْطَرٍّ، أَوْ جَعْلَ عَذِرَةٍ بِمَاءٍ لِسَقْيِ الزَّرْعِ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لَا فِيهِ، فَلَا يُوقَدُ بِزَيْتٍ تَنَجَّسَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمِصْبَاحُ خَارِجَهُ وَالضَّوْءُ فِيهِ فَيَجُوزُ، وَلَا يُبْنَى بِالْمُتَنَجِّسِ فَإِنْ بُنِيَ بِهِ لَا يُهْدَمُ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَفِي غَيْرِ أَكْلِ وَشُرْبِ آدَمِيٍّ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْآدَمِيِّ أَكْلُ وَشُرْبُ الْمُتَنَجِّسِ لِتَنْجِيسِهِ جَوْفَهُ وَعَجْزِهِ عَنْ تَطْهِيرِهِ، وَلَا يُدْهَنُ بِهِ، إِلاَّ أَنَّ الِادِّهَانَ بِهِ مَكْرُوهٌ عَلَى الرَّاجِحِ إِنْ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُ بِهِ النَّجَاسَةَ، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الْمَسْجِدِ وَأَكْلِ الْآدَمِيِّ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ وَيُعْمَلَ بِهِ صَابُونٌ، ثُمَّ تُغْسَلَ الثِّيَابُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْغَسْلِ بِهِ، وَيُدْهَنَ بِهِ حَبْلٌ وَعَجَلَةٌ وَسَاقِيَةٌ وَيُسْقَى بِهِ وَيُطْعَمَ لِلدَّوَابِّ

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ كَاسْتِعْمَالِ الْإِنَاءِ مِنَ الْعَظْمِ النَّجِسِ، وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَإِيقَادُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ لَكِنْ يُكْرَهُ

وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الِاسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ إِبَاحَتُهُ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَمَرَ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، لِحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ»

وَفِي إِبَاحَةِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ قَالُوا: إِنَّهُ زَيْتٌ أُمْكِنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَجَازَ كَالطَّاهِرِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْعَجِينِ الَّذِي عُجِنَ بِمَاءٍ مِنْ آبَارِ ثَمُودَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ وَهَذَا الزَّيْتُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ شُحُومِهَا فَيَتَنَاوَلُهُ الْخَبَرُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَصْبَحُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمَسُّهُ وَلَا تَتَعَدَّى نَجَاسَتُهُ إِلَيْهِ.

وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ تُدْهَنَ بِهَا الْجُلُودُ وَقَالَ: يُجْعَلُ مِنْهُ الْأَسْقِيَةُ وَالْقِرَبُ.

وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تُدْهَنُ بِهِ الْجُلُودُ، وَعَجِبَ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا وَقَالَ: إِنَّ فِي هَذَا لَعَجَبًا! ! شَيْءٌ يُلْبَسُ يُطَيَّبُ بِشَيْءٍ فِيهِ مَيْتَةٌ؟! ! فَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ: كُلُّ انْتِفَاعٍ يُفْضِي إِلَى تَنْجِيسِ إِنْسَانٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إِلَى ذَلِكَ جَازَ، فَأَمَّا أَكْلُهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» وَلِأَنَّ النَّجِسَ خَبِيثٌ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْخَبَائِثَ.

فَأَمَّا شُحُومُ الْمَيْتَةِ وَشَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِاسْتِصْبَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَلَا الْجُلُودُ، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ».

وَإِذَا اسْتُصْبِحَ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَدُخَانُهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ جُزْءٌ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تَطْهُرُ، فَإِنْ عَلِقَ بِشَيْءٍ وَكَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ.

اسْتِعْمَالُ مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ:

45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِ مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ الْغَسْلِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِيهَا قَبْلَ الْغَسْلِ جَازَ، وَلَا يَكُونُ آكِلًا وَشَارِبًا حَرَامًا.وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِنَجَاسَةِ الْأَوَانِي، فَأَمَّا إِذَا عَلِمَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَبَ وَيَأْكُلَ مِنْهَا قَبْلَ الْغَسْلِ، وَلَوْ شَرِبَ أَوْ أَكَلَ كَانَ شَارِبًا وَآكِلًا حَرَامًا، وَهُوَ نَظِيرُ سُؤْرِ الدَّجَاجَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مِنْقَارِهَا نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ.

وَالصَّلَاةُ فِي سَرَاوِيلِ الْمُشْرِكِينَ نَظِيرُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ أَوَانِيهِمْ: إِنْ عَلِمَ أَنَّ سَرَاوِيلَهُمْ نَجِسَةٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَلَوْ صَلَّى يَجُوزُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى فَرْضٌ أَوْ نَفْلٌ بِلِبَاسِ كَافِرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، كِتَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، بَاشَرَ جِلْدَهُ أَوْ لَمْ يُبَاشِرْهُ، كَانَ مِمَّا الشَّأْنُ أَنْ تَلْحَقَهُ النَّجَاسَةُ كَالذَّيْلِ وَمَا حَاذَى الْفَرْجَ، أَوْ لَا كَعِمَامَتِهِ وَالشَّالِ، جَدِيدًا أَوْ لَا، إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ أَوْ تُظَنَّ طَهَارَتُهُ، بِخِلَافِ نَسْجِهِ أَيْ مَنْسُوجِ الْكَافِرِ، فَيُصَلَّى فِيهِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهُ أَوْ تُظَنَّ لِحَمْلِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَكَذَا سَائِرُ صَنَائِعِهِ يُحْمَلُ فِيهَا عَلَى الطَّهَارَةِ عِنْدَ الشَّكِّ- وَلَوْ صَنَعَهَا فِي بَيْتِ نَفْسِهِ- خِلَافًا لِابْنِ عَرَفَةَ.

وَيَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى بِمَا يَنَامُ فِيهِ مُصَلٍّ آخَرُ، أَيْ غَيْرُ مُرِيدِ الصَّلَاةِ بِهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهُ بِمَنِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْ يَظُنَّ أَنَّ مَنْ يَنَامُ فِيهِ مُحْتَاطٌ فِي طَهَارَتِهِ، وَإِلاَّ صَلَّى فِيهِ، وَكَذَا يُصَلَّى فِيهِ إِذَا أَخْبَرَ صَاحِبُهُ بِطَهَارَتِهِ إِذَا كَانَ ثِقَةً. وَأَمَّا مَا يُفْرَشُ فِي الْمَضَايِفِ وَالْقِيعَانِ وَالْمَقَاعِدِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّائِمَ عَلَيْهِ يَلْتَفُّ فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ ذَلِكَ الْفَرْشِ، فَإِذَا حَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ مَثَلًا فَإِنَّمَا يُصِيبُ مَا هُوَ مُلْتَفٌّ بِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ عَلَى طَهَارَتِهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتِ النَّجَاسَةُ فِي شَيْءٍ وَالْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ كَثِيَابِ مُدْمِنِي الْخَمْرِ، وَالنَّجَاسَةُ كَالْمَجُوسِ وَالْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَالْجَزَّارِينَ..حُكِمَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَكَذَا مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى كَعَرَقِ الدَّوَابِّ وَلُعَابِهَا..وَنَحْوِ ذَلِكَ

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ثِيَابَ الْكُفَّارِ وَأَوَانِيَهُمْ طَاهِرَةٌ إِنْ جَهِلَ حَالَهَا كَمَا لَوْ عُلِمَتْ طَهَارَتُهَا، وَكَذَا آنِيَةُ مُدْمِنِي الْخَمْرِ وَثِيَابُهُمْ، وَآنِيَةُ مَنْ لَابَسَ النَّجَاسَةَ كَثِيرًا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ.

وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِ الْمُرْضِعَةِ وَالْحَائِضِ وَالصَّبِيِّ وَنَحْوِهِمْ كَمُدْمِنِي الْخَمْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهَا، مَعَ الْكَرَاهَةِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ، مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهَا.

الصَّبْغُ لِلثِّيَابِ وَالِاخْتِضَابُ بِمَادَّةٍ نَجِسَةٍ:

46- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَا خُضِّبَ أَوْ صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ يُطَهَّرُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا، فَلَوِ اخْتَضَبَ الرَّجُلُ أَوِ اخْتَضَبَتِ الْمَرْأَةُ بِالْحِنَّاءِ الْمُتَنَجِّسِ وَغُسِلَ كُلٌّ ثَلَاثًا طَهُرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الِاخْتِضَابُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ فَلَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِزَوَالِ عَيْنِهَا وَطَعْمِهَا وَرِيحِهَا وَخُرُوجِ الْمَاءِ صَافِيًا، وَيُعْفَى عَنْ بَقَاءِ اللَّوْنِ لِأَنَّ الْأَثَرَ الَّذِي يَشُقُّ زَوَالُهُ لَا يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْمَصْبُوغُ بِالدَّمِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَالْمَصْبُوغُ بِالدُّودَةِ غَيْرِ الْمَائِيَّةِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ فَإِنَّهَا مَيْتَةٌ يَتَجَمَّدُ الدَّمُ فِيهَا وَهُوَ نَجِسٌ.

وَأَضَافَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صَفَاءِ غُسَالَةِ ثَوْبٍ صُبِغَ بِنَجِسٍ، وَيَكْفِي غَمْرُ مَا صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ أَوْ صَبُّ مَاءٍ قَلِيلٍ عَلَيْهِ كَذَلِكَ فَيَطْهُرُ هُوَ وَصِبْغُهُ.

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (اخْتِضَاب ف 15).

الِاسْتِجْمَارُ بِالنَّجِسِ:

47- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِجْمَارُ بِالنَّجِسِ وَلَا بِالْمُتَنَجِّسِ، وَمِمَّا اشْتَرَطُوهُ فِيمَا يَصِحُّ الِاسْتِجْمَارُ بِهِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، أَيْ غَيْرَ نَجِسٍ وَلَا مُتَنَجِّسٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِجْمَار ف 28). التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ:

48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلاَّ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَدَاوِي ف 8).

سَقْيُ الزُّرُوعِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ وَالتَّسْمِيدُ بِالنَّجَاسَاتِ:

49- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي سَقْيِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ أَنَّهَا لَا تَتَنَجَّسُ وَلَا تَحْرُمُ. (ر: أَطْعِمَة ف 11).

وَفِي هَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: الزَّرْعُ الْمَسْقِيُّ بِنَجِسٍ طَاهِرٌ وَإِنْ تَنَجَّسَ ظَاهِرُهُ فَيُغْسَلُ مَا أَصَابَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَوْ جَعَلَ الْعَذِرَةَ فِي الْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ جَازَ وَأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ بِالنَّجِسِ كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا نَجِسٌ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَادَاتِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، لَكِنْ يُسْقَى بِهِ الزَّرْعُ وَالْبَهَائِمُ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الزَّرْعُ النَّابِتُ عَلَى السِّرْجِينِ قَالَ عَنْهُ الْأَصْحَابُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ

الْعَيْنِ لَكِنْ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا غُسِلَ طَهُرَ، وَإِذَا سَنْبَلَ فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ وَلَوْ أَكَلَتْ بَهِيمَةٌ حَبًّا ثُمَّ أَلْقَتْهُ صَحِيحًا: فَإِنْ كَانَتْ صَلَابَتُهُ بَاقِيَةً بِحَيْثُ لَوْ زُرِعَ نَبَتَ فَعَيْنُهُ طَاهِرَةٌ، وَيَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ غِذَاءً لَهَا فَمَا تَغَيَّرَ إِلَى فَسَادٍ، فَصَارَ كَمَا لَوِ ابْتَلَعَ نَوَاةً، وَإِنْ زَالَتْ صَلَابَتُهُ بِحَيْثُ لَا يَنْبُتُ فَنَجِسُ الْعَيْنِ.

وَحَرَّمَ الْحَنَابِلَةُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ الَّتِي سُقِيَتَ بِالنَّجِسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كُنَّا نُكْرِي أَرْضَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَدْمِلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ».وَلِأَنَّهَا تَتَغَذَّى بِالنَّجَاسَاتِ وَأَجْزَاؤُهَا تَتَحَلَّلُ فِيهَا، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ.

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُمَ، وَلَا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيلُ فِي بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- يَدْخُلُ أَرْضَهُ بِالْمَعَرَّةِ وَيَقُولُ: مِكْتَلُ عَرَّةٍ مِكْتَلُ بُرٍّ، وَالْعَرَّةُ عَذِرَةُ النَّاسِ.

وَكَرِهُوا لِذَلِكَ أَكْلَ الزُّرُوعِ الَّتِي تُسَمَّدُ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ تُسْقَى بِمُتَنَجِّسٍ مِنْ زَرْعٍ وَثَمَرٍ، وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يُسْقَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ يَسْتَهْلِكُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ، وَنُقِلَ فِي الْإِنْصَافِ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلَا مُحَرَّمٍ، بَلْ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ لَبَنًا، وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّبْصِرَةِ.

وَقَالُوا: إِنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ فَالتَّسْمِيدُ بِهِ لَا يُحَرِّمُ الزَّرْعَ.

إِطْعَامُ الْحَيَوَانَاتِ عَلَفًا نَجِسًا أَوْ مُتَنَجِّسًا:

50- أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِطْعَامَ الْعَلَفِ النَّجِسِ أَوِ الْمُتَنَجِّسِ لِلدَّوَابِّ كَمَا أَجَازُوا سَقْيَ الْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجِسِ لِلْبَهَائِمِ وَالزَّرْعِ.

وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ بِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ فِي التَّدَاوِي بِالِاحْتِقَانِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَالْإِقْطَارِ فِي الْإِحْلِيلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجِسِ حَرَامٌ، فَإِذَا حَرُمَ سَقْيُ الدَّوَابِّ بِالنَّجِسِ حَرُمَ إِطْعَامُهَا بِهِ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ إِطْعَامَ ذَلِكَ لِمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يُجِيزُوا إِطْعَامَهُ لِمَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى الْجَلاَّلَةِ، فَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ خَبَّازٍ خَبَزَ خُبْزًا فَبَاعَ مِنْهُ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْمَاءِ الَّذِي عَجَنَ مِنْهُ فَإِذَا فِيهِ فَأْرَةٌ؟ فَقَالَ: لَا يَبِيعُ الْخُبْزَ مِنْ أَحَدٍ، وَإِنْ بَاعَهُ اسْتَرَدَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ تَصَّدَّقَ بِثَمَنِهِ، وَيُطْعِمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَلَا يُطْعِمُ لِمَا يُؤْكَلُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى الْجَلاَّلَةِ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ إِنَّمَا اشْتُبِهَ عَلَيْهِ، قِيلَ لَهُ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْحَجَّامِ يُطْعِمُ النَّوَاضِحَ، قَالَتْ هَذَا أَشَدُّ عِنْدِي لَا يُطْعِمُ الرَّقِيقَ لَكِنْ يَعْلِفُهُ الْبَهَائِمَ، قِيلَ لَهُ: أَيْنَ الْحُجَّةُ؟ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ صَخْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ قَوْمًا اخْتَبَزُوا مِنْ آبَارِ الَّذِينَ مُسِخُوا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئَارِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَ تَرِدُهَا النَّاقَةُ».

دَرَجَاتُ النَّجَاسَاتِ:

أ- النَّجَاسَاتُ الْمُغَلَّظَةُ:

51- الْمُغَلَّظُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا وَرَدَ فِي نَجَاسَتِهِ نَصٌّ وَلَمْ يُعَارِضْهُ آخَرُ وَلَا حَرَجَ فِي اجْتِنَابِهِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اتُّفِقَ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَا بَلْوَى فِي إِصَابَتِهِ.

وَالْقَدْرُ الَّذِي يَمْنَعُ الصَّلَاةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ أَنْ تَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً إِنْ كَانَ مَائِعًا وَوَزْنًا إِنْ كَانَ كَثِيفًا.

وَقَالُوا: كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّطْهِيرِ فَنَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، كَذَلِكَ الْمَنِيُّ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «إِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسَةً فَافْرُكِيهِ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَنِيَّ» وَلَوْ أَصَابَ الْبَدَنَ وَجَفَّ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَطْهُرُ لِأَنَّ الْبَلْوَى فِيهِ أَعَمُّ، وَالِاكْتِفَاءَ بِالْفَرْكِ لَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْفَرْكِ، فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ حَتَّى إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ يَعُودُ نَجِسًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا.

وَكَذَلِكَ الرَّوْثُ وَالْإِخْثَاءُ وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا ثَبَتَتْ بِنَصٍّ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُه- عليه الصلاة والسلام- فِي الرَّوْثَةِ: «هِيَ رِجْسٌ» وَالْإِخْثَاءُ مِثْلُهُ، وَلِأَنَّهُ اسْتَحَالَ إِلَى نَتَنٍ وَفَسَادٍ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ حَيَوَانٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَصَارَ كَالْآدَمِيِّ. وَكَذَلِكَ بَوْلُ الْفَأْرَةِ وَخُرْؤُهَا، لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ» وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنٌ فِي الْمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ فَيُعْفَى عَنْهُ فِيهِمَا.

وَكَذَلِكَ بَوْلُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلَا أَوْ لَا، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ نَضْحِ بَوْلِ الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ فِيمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ، وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ» فَالنَّضْحُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْغَسْلِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْمَذْيِ: «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ» أَيِ اغْسِلْهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا.

وَالْبَطُّ الْأَهْلِيُّ وَالدَّجَاجُ نَجَاسَتُهُمَا غَلِيظَةٌ بِإِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمُغَلَّظَ مَا نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مُتَوَلِّدٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.

وَالنَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً كَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْمُتَنَجِّسُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْأَصْلِ وَأَصَابَهُ نَجَاسَةٌ.

وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرِهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.

الْأَوَّلُ: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْلِ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.

الثَّانِي: نَجَاسَةُ بِوْلِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.

الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ الْمُتَنَجِّسَاتِ وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ مُنْقِيَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ.

ب- النَّجَاسَاتُ الْمُخَفَّفَةُ:

52- الْمُخَفَّفُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالنَّصِّ. وَالنَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ لَا تَمْنَعُ الصَّلَاةَ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ رُبُعَ الثَّوْبِ، لِأَنَّ لِلرُّبُعِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَحَلْقِهِ، وَثُمَّ قِيلَ: رُبُعُ جَمِيعِ الثَّوْبِ، وَقِيلَ: رُبُعُ مَا أَصَابَهُ كَالْكُمِّ وَالذَّيْلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَعَنْهُ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْمُخْتَارُ الرُّبُعُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى، لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الِاسْتِفْحَاشِ.

وَمِنَ النَّجَسِ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الرَّوْثُ وَالْإِخْثَاءُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فِي الطُّرُقَاتِ وَوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ.

وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبَوْلُ الْفَرَسِ وَدَمُ السَّمَكِ وَلُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَخُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ نَجَاسَتُهُ مُخَفَّفَةٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ، لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُوَ «أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَيْنَةَ أَتَوُا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا- أَيْ لَمْ تُوَافِقْهُمْ- فَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ وَانْتَفَخَتْ بُطُونُهُمْ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَخَرَجُوا وَشَرِبُوا فَصَحُّوا».فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْإِبِلِ نَجِسًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِشُرْبِهِ لِكَوْنِهِ حَرَامًا- وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».

وَيَدْخُلُ فِي الطَّاهِرِ بَوْلُ الْفَرَسِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا، وَدَمُ السَّمَكِ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَبْيَضُّ بِالشَّمْسِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَلِذَا قِيلَ بِخِفَّتِهِ لِذَلِكَ، وَلُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ لِتَعَارُضِ النُّصُوصِ، وَخُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِأَنَّهَا تَزْرِقُ مِنَ الْهَوَاءِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ لِأَنَّهَا لَا تُخَالِطُ النَّاسَ فَلَا بَلْوَى.

وَالْمُخَفَّفَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هِيَ خُصُوصُ بَوْلِ الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَبْلُغِ الْحَوْلَيْنِ وَلَمْ يَتَغَذَّ إِلاَّ بِاللَّبَنِ، بِخِلَافِ الْأُنْثَى وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ بَوْلَ الصَّبِيِّ عِنْدَمَا يُرَادُ تَطْهِيرُ مَحَلِّ إِصَابَتِهِ يُرَشُّ عَلَى مَحَلِّ الْإِصَابَةِ بِمَاءٍ يَعُمُّ النَّجَاسَةَ وَإِنْ لَمْ يَسِلْ، أَمَّا الْأُنْثَى وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ، وَيَتَحَقَّقُ الْغَسْلُ بِالسَّيَلَانِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ».وَأُلْحِقَ الْخُنْثَى بِالْأُنْثَى.

وَلَهُمْ تَقْسِيمٌ ثَالِثٌ وَهُوَ النَّجَاسَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ، وَهِيَ مَا عَدَا النَّجَاسَةَ الْمُغَلَّظَةَ وَالْمُخَفَّفَةَ.

فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا، وَهِيَ مَا تُيُقِّنَ وُجُودُهَا، وَلَا يُدْرَكُ لَهَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رِيحٌ كَفَى فِي تَطْهِيرِهَا جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى مَحَلِّهَا بِحَيْثُ يَسِيلُ زَائِدًا عَلَى النَّضْحِ.

وَإِنْ كَانَتْ عَيْنِيَّةً وَجَبَ بَعْدَ زَوَالِ عَيْنِهَا إِزَالَةُ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَإِنْ عَسُرَ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.

وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ فَيُطَهَّرُ الْمَحَلُّ لِلْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَهُلَ فَيَضُرُّ بَقَاؤُهُ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.

وَفِي الرِّيحِ قَوْلُهُ أَنَّهُ يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ بَقِيَا مَعًا بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ ضَرَّا عَلَى الصَّحِيحِ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَالثَّانِي لَا يَضُرُّ لِاغْتِفَارِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ، فَكَذَا مُجْتَمِعَيْنِ.

وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرُهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْلِ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.

وَالثَّانِي: نَجَاسَةُ بَوْلِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.

الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ النَّجَاسَاتِ، وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ مُنْقِيَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ.

ج ـ النَّجَاسَاتُ الْمَعْفُوُّ عَنْهَا:

53- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ عَنْ أُمُورٍ: فَيُعْفَى قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَزْنًا فِي النَّجَاسَةِ الْكَثِيفَةِ وَقُدِّرَ بِعِشْرِينَ قِيرَاطًا، وَفِي النَّجَاسَةِ الرَّقِيقَةِ أَوِ الْمَائِعَةِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً، وَقُدِّرَ بِمُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِلَ مَفَاصِلِ الْأَصَابِعِ، وَالْمَقْصُودُ بِعَفْوِ الشَّارِعِ عَنْهَا: الْعَفْوُ عَنْ فَسَادِ الصَّلَاةِ، وَإِلاَّ فَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بَاقِيَةٌ إِجْمَاعًا إِنْ بَلَغَتِ الدِّرْهَمَ، وَتَنْزِيهًا إِنْ لَمْ تَبْلُغْ.

وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِ الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَخُرْئِهِمَا فِيمَا تَظْهَرُ فِيهِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، فَيُعْفَى عَنْ خُرْءِ الْفَأْرَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْحِنْطَةِ وَلَمْ يَكْثُرْ حَتَّى يَظْهَرَ أَثَرُهُ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِهَا إِذَا سَقَطَ فِي الْبِئْرِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا ثَوْبًا أَوْ إِنَاءً مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِ الْهِرَّةِ إِذَا وَقَعَ عَلَى نَحْوِ ثَوْبٍ لِظُهُورِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَصَابَ خُرْؤُهَا أَوْ بَوْلُهَا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ.

وَيُعْفَى عَنْ بُخَارِ النَّجِسِ وَغُبَارِ سِرْقِينٍ، فَلَوْ مَرَّتِ الرِّيحُ بِالْعَذِرَاتِ وَأَصَابَتِ الثَّوْبَ لَا يَتَنَجَّسُ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ، وَقِيلَ: يَتَنَجَّسُ إِنْ كَانَ مَبْلُولًا لِاتِّصَالِهَا بِهِ.

وَيُعْفَى عَنْ رَشَاشِ الْبَوْلِ إِذَا كَانَ رَقِيقًا كَرُءُوسِ الْإِبَرِ بِحَيْثُ لَا يُرَى وَلَوْ مَلأَ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْعَدَمِ لِلضَّرُورَةِ، وَمِثْلُهُ الدَّمُ الَّذِي يُصِيبُ الْقَصَّابَ فَيُعْفَى عَنْهُ فِي حَقِّهِ لِلضَّرُورَةِ، فَلَوْ أَصَابَ الرَّشَاشُ ثَوْبًا ثُمَّ وَقَعَ ذَلِكَ الثَّوْبُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ تَنَجَّسَ الْمَاءُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ حِينَئِذٍ، وَمِثْلُ هَذَا أَثَرُ الذُّبَابِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى نَجَاسَةٍ ثُمَّ أَصَابَ ثَوْبَ الْمُصَلِّي فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ. وَيُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ الْغَاسِلَ مِنْ غُسَالَةِ الْمَيِّتِ مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ مَا دَامَ فِي تَغْسِيلِهِ.

وَيُعْفَى عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ وَلَوْ كَانَ مَخْلُوطًا بِنَجَاسَةٍ غَالِبَةٍ مَا لَمْ يُرَ عَيْنُهَا.

وَيُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَمَّا دُونَ رُبُعِ الثَّوْبِ كُلِّهِ أَوْ رُبُعِ الْبَدَنِ كُلِّهِ.

وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْخِفَّةُ فِي غَيْرِ الْمَائِعِ، لِأَنَّ الْمَائِعَ مَتَى أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ تَنَجَّسَ، لَا فَرْقَ بَيْنَ مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ، وَلَا عِبْرَةَ فِيهِ لِوَزْنٍ أَوْ مِسَاحَةٍ.

وَيُعْفَى عَنْ بَعْرِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، مَا لَمْ يَكْثُرْ كَثْرَةً فَاحِشَةً أَوْ يَتَفَتَّتْ فَيَتَلَوَّنَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي خَالَطَهُ.

وَالْقَلِيلُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ مَا يَسْتَقِلُّهُ النَّاظِرُ إِلَيْهِ، وَالْكَثِيرُ عَكْسُهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


24-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 5)

وُضُوءٌ-5

السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ- تَنْشِيفُ الْأَعْضَاءِ مِنْ بَلَلِ مَاءِ الْوُضُوءِ:

119- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَنْشِيفِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مِنْ بَلَلِ مَائِهِ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّنْشِيفُ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى سَلْمَانُ- رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ ثُمَّ قَلَبَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ» «وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ غُسْلِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ نَاوَلَتْهُ مَيْمُونَةُ- رضي الله عنها- خِرْقَةً فَلَمْ يَرُدَّهَا فَجَعَلَ يَنْفُضُ بِيَدِهِ».

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ تَرْكَ التَّنْشِيفَ أَفْضَلُ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ التَّنْشِيفَ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ أَنَّ الْمَسْنُونَ تَرْكُ التَّنْشِيفِ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ أَثَرَ الْعِبَادَةِ.

وَقَالُوا: إِذَا كَانَ التَّنْشِيفُ لِعُذْرٍ فَلَا يُسَنُّ تَرْكُهُ بَلْ يَتَأَكَّدُ سَنُّهُ، كَأَنْ خَرَجَ عَقِبَ وُضُوئِهِ فِي هُبُوبِ رِيحٍ تَنَجَّسَ، أَوْ آلَمَهُ شِدَّةٌ نَحْوَ بَرْدٍ، أَوْ كَانَ يَتَيَمَّمُ عَقِبَ الْوُضُوءِ لِكَيْ لَا يَمْنَعَ الْبَلَلُ فِي وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ التَّيَمُّمَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي رَأْيٍ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّنْشِيفُ.

(ر: تَنْشِيفٌ ف 3).

السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ- تَرْكُ نَفْضِ الْيَدِ أَوِ الْمَاءِ:

120- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَدَمِ نَفْضِ مَاءِ الْوُضُوءِ عَنِ الْأَعْضَاءِ أَوْ عَنِ الْيَدِ:

فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ عَدَمُ نَفْضِ يَدِهِ، لِحَدِيثِ: «إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَلَا تَنْفُضُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّهَا مَرَاوِحُ الشَّيْطَانِ» وَلِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِكَرَاهَةِ أَمْرِ الطَّهَارَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ نَفْضُ الْمَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الشَّرْحِ: لَا يُكْرَهُ نَفْضُ الْمَاءِ بِيَدَيْهِ عَنْ بَدَنِهِ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها- وَيُكْرَهُ نَفْضُ يَدِهِ.

وَقَالَ فِي غَايَةِ الْمَطْلَبِ- كَمَا نَقَلَ عَنْهُ الْبُهُوتِيُّ- هَلْ يُبَاحُ نَفْضُ يَدِهِ أَوْ يُكْرَهُ؟- وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ: لَا يُكْرَهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُتَوَضِّئِ نَفْضُ الْمَاءِ وَتَرْكُهُ.

الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: الشُّرْبُ مِنْ فَضْلِ مَاءِ الْوُضُوءِ:

121- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ أَنْ يَشْرَبَ الْمُتَوَضِّئُ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي زَادَ فِي الْإِنَاءِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُهُ.

قَالَ الْكَمَالُ: يَشْرَبُ الْمُتَوَضِّئُ فَضْلَ وُضُوئِهِ قَائِمًا مُسْتَقْبِلًا، قِيلَ: وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا.

وَقَالَ الْحَصَكْفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ وَغَيْرُهُمَا: يَشْرَبُ الْمُتَوَضِّئُ بَعْدَ الْوُضُوءِ مِنْ فَضْلِ وُضُوئِهِ- التَّشْبِيهُ فِي الشُّرْبِ مُسْتَقْبِلًا قَائِمًا لَا فِي كَوْنِهِ بَعْدَ الْوُضُوءِ- مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا.وَالْمُرَادُ شُرْبُ كُلِّ الْفَضْلِ أَوْ بَعْضِهِ.

وَيَقُولُ عَقِبَ الشُّرْبِ: اللَّهُمَّ اشْفِنِي بِشِفَائِكَ، وَدَاوِنِي بِدَوَائِكَ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْوَهَلِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْأَوْجَاعِ.قَالَ فِي الْحِلْيَةِ: وَالْوَهَلُ هُنَا- بِالتَّحْرِيكِ- الضَّعْفُ وَالْفَزَعُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ مَأْثُورًا، وَهُوَ حَسَنٌ.

التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ- صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عَقِبَ الْوُضُوءِ:

122- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُتَوَضِّئُ رَكْعَتَيْنِ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ؛ لِحَدِيثِ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ يُصَلِّي سُنَّةَ الْوُضُوءِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ الْأَوْقَاتُ الْخَمْسَةُ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَكْرُوه أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْدُوبِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فَأَكْثَرَ عَقِبَ كُلِّ وُضُوءٍ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَيَفْعَلُ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ لَهَا سَبَبًا.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ يُنْظَرُ (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ ف 23 وَمَا بَعْدَهَا)

الثَّلَاثُونَ- تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ:

123- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ.أَيِّ التَّوَضُّؤِ عَلَى وُضُوءٍ قَائِمٍ لَمْ يُنْقَضْ.

فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ قَبْلَ أَنْ تُفْعَلَ بِهِ عِبَادَةٌ

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ.

وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: مُصْطَلَحُ تَجْدِيدٍ ف 2) الْوَاحِدُ وَالثَّلَاثُونَ- عَدَمُ نَقْصِ مَاءِ الْوُضُوءِ عَنْ مُدٍّ:

124- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَنْقُصَ مَاءُ الْوُضُوءِ عَنْ مُدٍّ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ مَاءَ الْوُضُوءِ لَا يُحَدُّ بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ، وَالْمَقْصُودُ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ هُوَ فَضِيلَةُ الِاقْتِصَادِ وَتَرْكُ الْإِسْرَافِ.أَوْرَدَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْحِلْيَةِ: نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَا يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ، وَمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّ أَدْنَى مَا يَكْفِي فِي الْغُسْلِ صَاعٌ وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ؛ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «كَانَ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ» لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ بَيَانُ أَدْنَى الْقَدْرِ الْمَسْنُونِ.

وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ مُدٍّ فِي الْوُضُوءِ وَلَا أَقَلُّ مِنْ صَاعٍ فِي الْغُسْلِ.

وَلِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمُدِّ وَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ (ر: مَقَادِيرُ ف 25).

الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: عَدَمُ النَّفْخِ فِي الْمَاءِ حَالَ غَسْلِ الْوَجْهِ:

125- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ عَدَمُ نَفْخِ الْمُتَوَضِّئِ فِي الْمَاءِ حَالَ غَسْلِ الْوَجْهِ.وَأَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ مُتَوَضَّأِ الْعَامَّةِ.

الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: التَّرْتِيبُ بَيْنَ السُّنَنِ:

126- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَرْتِيبُ سُنَنِ الْوُضُوءِ فِيمَا بَيْنَهَا.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ تَرْتِيبُ سُنَنِ الْوُضُوءِ فِي أَنْفُسِهَا.

فَلَوْ حَصَلَ تَنْكِيسٌ بَيْنَ السُّنَنِ أَوْ بَيْنَ السُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ لَمْ تُطْلَبِ الْإِعَادَةُ لِمَا نَكَّسَهُ وَلَا لِمَا بَعْدَهُ لِلتَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إِذَا فَاتَ لَا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ.

وَقَالَ الْمَرْدَاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: اخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ عَدَمَ وُجُودِ التَّرْتِيبِ فِي نَفْلِ الْوُضُوءِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَسْنُونَةِ فِي الْوُضُوءِ وَاجِبٌ، فَإِنْ نَكَّسَ وَخَالَفَ التَّرْتِيبَ لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يُقَدِّمْهُ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي فَرْضِهِ اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي مَسْنُونِهِ قِيَاسًا عَلَى أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ لَوْ جَدَّدَ لَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ التَّجْدِيدُ فِيهِ مَسْنُونًا.

الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَخْذُ الْمُتَوَضِّئِ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ:

127- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي نُصَّ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ صِفَةَ غَسْلِ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَبَّةَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُتَوَضِّئُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا؛ لِمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَدْخَلَ يَدَيْهِ فَاغْتَرَفَ بِهِمَا، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ».

وَلِأَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَمْكَنُ وَأَسْبَغُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ يَأْخُذُ الْمُتَوَضِّئُ الْمَاءَ بِيَدِهِ.لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا».

وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ لِزَاهِرٍ السَّرَخْسِيِّ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ يَغْرِفُ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى، وَيَضَعُ ظَهْرَهَا عَلَى بَطْنِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَيَصُبُّهُ مِنْ أَعْلَى جَبْهَتِهِ لِمَا وَرَدَ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الْأُخْرَى فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ».

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي مَعْرِضِ الْكَلَامِ عَنْ صِفَةِ الْوُضُوءِ الْكَامِلِ: ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ فَيَأْخُذُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، أَوْ يَغْتَرِفُ بِيَمِينِهِ، وَيَضُمُّ إِلَيْهَا الْأُخْرَى وَيَغْسِلُ بِهِمَا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدِ اسْتَفَاضَتْ بِهِ.

الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ- تَدَارُكُ مَا فَاتَ مِنَ الْوُضُوءِ:

128- التَّدَارُكُ وَهُوَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ، أَوْ فِعْلُ جُزْئِهَا إِذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ فِعْلَ ذَلِكَ فِي مَحِلِّهِ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا مَا لَمْ يَفُتْ.

وَقَدْ تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ تَدَارُكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ بِالْإِتْيَانِ بِالْفَائِتِ ثُمَّ الْإِتْيَانِ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ تَدَارُكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الْوُضُوءِ، أَوْ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَدَارُكٍ، فِقْرَاتِ 4- 7).

مَكْرُوهَاتُ الْوُضُوءِ:

عَدَّدَ الْفُقَهَاءُ أُمُورًا اعْتَبَرُوهَا مِنْ مَكْرُوهَاتِ الْوُضُوءِ، مِنْهَا:

أَوَّلًا: لَطْمُ الْوَجْهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ:

129- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ لَطْمِ الْوَجْهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ، وَخُصَّ الْوَجْهُ بِالذِّكْرِ لِمَا لَهُ مِنْ مَزِيدِ الشَّرَفِ.

ثَانِيًا: التَّقْتِيرُ فِي الْوُضُوءِ:

130- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّقْتِيرُ فِي التَّوَضُّؤِ بِأَنْ يَقْرُبَ إِلَى حَدِّ دَهْنِ الْأَعْضَاءِ بِالْمَاءِ، وَيَكُونُ التَّقَاطُرُ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا لِيَكُونَ غَسْلًا- فِيمَا يُغْسَلُ- بِيَقِينٍ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنَ الثَّلَاثِ.

ثَالِثًا: الْإِسْرَافُ فِي التَّوَضُّؤِ:

131- يُكْرَهُ الْإِسْرَافُ فِي التَّوَضُّؤِ.بِأَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنَ الْمَاءِ فَوْقَ الْحَاجَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: «مَا هَذَا السَّرَفُ؟» فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ».

وَلِأَنَّهُ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ الْمُوجِبِ لِلْوَسْوَسَةِ وَفِي الْحَدِيثِ «لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ» نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الْمَاءَ الْمَوْقُوفَ عَلَى مَنْ يَتَطَهَّرُ بِهِ وَمِنْ مَاءِ الْمَدَارِسِ فَالْإِسْرَافُ فِيهِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مَأْذُونٍ بِهَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُوقَفُ وَيُسَاقُ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ وَلَمْ يَقْصِدْ إِبَاحَتَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا لَيْسَ بِجَارٍ، أَمَّا الْجَارِي فَهُوَ مِنَ الْمُبَاحِ.

رَابِعًا: التَّوَضُّؤُ بِفَضْلِ مَاءِ الْمَرْأَةِ:

132- قَالَ الشِّرْوَانِيُّ: الْمُرَادُ بِفَضْلِ مَاءِ الْمَرْأَةِ مَا فَضَلَ عَنْ طَهَارَتِهَا وَإِنْ لَمْ تَمَسَّهُ، دُونَ مَا مَسَّتْهُ فِي شُرْبٍ أَوْ أَدْخَلَتْ يَدَهَا فِيهِ بِلَا نِيَّةٍ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّطَهُّرِ بِفَضْلِ مَاءِ الْمَرْأَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ التَّوَضُّؤَ بِفَضْلِ مَاءِ الْمَرْأَةِ مَكْرُوهٌ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ إِلَى أَنَّ فَضْلَ مَاءِ الْمَرْأَةِ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ يَرْفَعُ الْحَدَثَ مُطْلَقًا، فَلَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «- رضي الله عنهما- قَالَ: اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي جَفْنَةٍ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا، فَقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ».

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الطَّهَارَةُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ.

لِحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ».

وَقَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: مَنْعُ الرَّجُلِ مِنَ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ تَعَبُّدِيٌّ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ.نَصَّ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يُبَاحُ لِامْرَأَةٍ سِوَاهَا وَلَهَا التَّطَهُّرُ بِهِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ مَخْصُوصٌ بِالرَّجُلِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَيَجِبُ قَصْرُهُ عَلَى مَوْرِدِهِ.

خَامِسًا: تَثْلِيثُ الْمَسْحِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ:

133- نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ.

سَادِسًا: الْوُضُوءُ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ:

134- يُكْرَهُ فِعْلُ الْوُضُوءِ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ: فَيَتَنَحَّى عَنِ الْمَكَانِ النَّجِسِ أَوْ مِنْ مَا شَأْنُهُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ لِمَاءِ الْوُضُوءِ حُرْمَةً، وَلِئَلاَّ يَتَطَايَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَتَقَاطَرُ مِنْ أَعْضَائِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ النَّجَاسَةُ وَذَلِكَ فِي الْمَكَانِ النَّجِسِ بِالْفِعْلِ.نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَنْزِيهًا إِلْقَاءُ النُّخَامَةِ وَالِامْتِخَاطُ فِي الْمَاءِ.

سَابِعًا: التَّوَضُّؤُ فِي الْمَسْجِدِ:

135- يُكْرَهُ التَّوَضُّؤُ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي إِنَاءٍ أَوْ فِي مَوْضِعٍ أُعِدَّ لِذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَإِنْ جَعَلَهُ فِي طَسْتٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: يُبَاحُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يُؤْذِ بِهِ أَحَدًا، وَلَمْ يُؤْذِ الْمَسْجِدَ.

وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِصَحْنِ الْمَسْجِدِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} فَوَجَبَ أَنْ تُرْفَعَ وَتُنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِيهَا؛ لِمَا يَسْقُطُ فِيهَا مِنْ غُسَالَةِ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَالتَّمَضْمُضِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ لِلصَّلَاةِ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ آخَرُ فَيَتَأَذَّى بِالْمَاءِ الْمُهْرَاقِ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «اجْعَلُوا مَطَاهِرَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ».

ثَامِنًا: إِرَاقَةُ مَاءِ الْوُضُوءِ فِي الْمَسْجِدِ:

136- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ إِرَاقَةُ مَاءِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي الْمَسْجِدِ، وَتُكْرَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَيْضًا إِرَاقَتُهُ فِي مَكَانٍ يُدَاسُ فِيهِ كَالطَّرِيقِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: لَا يُكْرَهُ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ تَكُونُ الْكَرَاهَةُ تَنْزِيهًا لِلْمَاءِ.وَفِي وَجْهٍ: تَكُونُ الْكَرَاهَةُ تَنْزِيهًا لِلطَّرِيقِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِسْقَاطُ مَاءِ الْوُضُوءِ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يَتَأَذَّ بِهِ النَّاسُ.

تَاسِعًا: الْوُضُوءُ بِمَاءِ الشَّمْسِ:

137- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.

(ر: مِيَاه ف 13).

عَاشِرًا- تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ:

138- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُتَوَضِّئِ تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا سُنَّ لَهُ فِعْلُهَا لِمَا يَسْتَقْبِلُ مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْمَطْلَبِ بِأَنَّ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا.

نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ:

139- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ هُوَ: إِخْرَاجُ الْوُضُوءِ عَنْ إِفَادَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ انْتِهَاءُ حُكْمِ الْوُضُوءِ الْمَنْقُوضِ أَوْ رَفْعُ اسْتِمْرَارِ حُكْمِهِ مِمَّا كَانَ يُبَاحُ بِهِ مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا كَمَا يَنْتَهِي حُكْمُ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ، بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:

أَوَّلًا- الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَوْ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْهُمَا:

140- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ- فِي الْجُمْلَةِ- إِلَى أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي النَّاقِضَةِ لِلْوُضُوءِ، أَيِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي إِخْرَاجِ الْوُضُوءِ عَمَّا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِهِ- خُرُوجَ شَيْءٍ مِنَ السَّبِيلَيْنِ؛ لقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}.

وَالْغَائِطُ حَقِيقَةً: الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ النَّاسُ حَاجَتَهُمْ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ مُرَادَةً، فَجُعِلَ مَجَازًا عَنِ الْأَمْرِ الْمُحْوِجِ إِلَى الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ، وَلِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحَوُّجٌ إِلَيْهِ لِتُفْعَلَ فِيهِ تَسَتُّرًا عَنِ النَّاسِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ، حَتَّى لَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنَ الْغَائِطِ أَيِ الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ إِجْمَاعًا.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَوْنِ الْخَارِجِ مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ أَوْ غَيْرَ مُعْتَادٍ، بَلْ يَكُونُ نَادِرًا كَالدُّودِ وَالْحَصَى، وَفِي كَوْنِ الْخَارِجِ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ- الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ- أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، مِنْ تَحْتِ الْمَعِدَةِ أَوْ مِنْ فَوْقِهَا، وَكَانَ السَّبِيلَانِ مَفْتُوحَيْنِ أَوْ مَسْدُودَيْنِ أَوْ..الخ.

(ر: حَدَث ف 6- 10).

ثَانِيًا: خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ:

141- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ، أَوْ عَدَمِ نَقْضِهِ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ غَيْرَ السَّبِيلَيْنِ.

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ غَيْرُ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ تَطْهِيرُ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَيَبْقَى الْوُضُوءُ إِلاَّ إِذَا انْتَقَضَ بِسَبَبٍ آخَرَ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةَ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ غَيْرَ السَّبِيلَيْنِ- كَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهِمَا- نَاقِضَةٌ لِلْوُضُوءِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.

(ر: حَدَث ف 10).

ثَالِثًا: زَوَالُ الْعَقْلِ (الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ):

زَوَالُ الْعَقْلِ قَدْ يَكُونُ بِالنَّوْمِ أَوِ الْجُنُونِ أَوِ السُّكْرِ أَوِ الْإِغْمَاءِ أَوِ الْغَشْيُ.

أ- النَّوْمُ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ إِلَى رَأْيَيْنِ:

142- الرَّأْيُ الْأَوَّلُ:

يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ النَّوْمَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَحَدِيثِ «إِنَّ الْعَيْنَيْنِ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ».

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ:

143- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالنَّائِمُ عِنْدَهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَوَرِّكًا، أَوْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا عَلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيلَ عَنْهُ لَسَقَطَ، أَوْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ سَاجِدًا.

أ- فَإِنْ كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَوَرِّكًا نُقِضَ وُضُوؤُهُ لِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا» إِنَّ مَنِ اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ غَايَةَ الِاسْتِرْخَاءِ بِحَالَةِ الِاضْطِجَاعِ، فَيَكُونُ بِمَظِنَّةِ خُرُوجِ الرِّيحِ.

ب- وَأُلْحِقَ بِهِ مَنْ نَامَ مُتَوَرِّكًا لِزَوَالِ مَقْعَدَيْهِمَا مِنَ الْأَرْضِ.

وَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيلَ عَنْهُ لَسَقَطَ: فَهَذَا لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْعَدَتُهُ زَائِلَةً مِنَ الْأَرْضِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ زَائِلَةً نَقَضَ بِالْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَئِمَّتِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ زَائِلَةٍ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ يَنْقُضُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الطَّحَاوِيِّ.

وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ، وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

ج- وَإِنْ كَانَ النَّائِمُ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ سَاجِدًا» وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ إِنْ كَانَ عَلَى هَيْئَةِ السُّجُودِ بِأَنْ كَانَ رَافِعًا بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ مُجَافِيًا عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَإِلاَّ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ.

د- وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرِيضِ إِذَا كَانَ يُصَلِّي مُضْطَجِعًا فَنَامَ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: فَالصَّحِيحُ انْتِفَاضُ وُضُوئِهِ؛ لِلْحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا».

هـ- وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ أَوْ جَنْبِهِ، إِنِ انْتَبَهَ قَبْلَ سُقُوطِهِ، أَوْ حَالَةَ سُقُوطِهِ، أَوْ سَقَطَ نَائِمًا وَانْتَبَهَ مِنْ سَاعَتِهِ- لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ، وَإِنِ اسْتَقَرَّ بَعْدَ السُّقُوطِ نَائِمًا ثُمَّ انْتَبَهَ انْتَقَضَ؛ لِوُجُودِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَنْتَقِضُ بِالسُّقُوطِ؛ لِزَوَالِ الِاسْتِمْسَاكِ حَيْثُ سَقَطَ.

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: إِنِ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ تُزَايِلَ مَقْعَدَتُهُ الْأَرْضَ لَمْ يَنْتَقِضْ، وَإِنْ زَايَلَهَا وَهُوَ نَائِمٌ انْتَقَضَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الصَّحِيحُ أَنَّ النَّوْمَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَإِنَّمَا الْحَدَثُ: مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ النَّائِمُ، فَأُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ- وَهُوَ النَّوْمُ هُنَا- مَقَامَهُ كَالسَّفَرِ وَنَحْوِهِ.

144- وَلِلْمَالِكِيَّةِ طَرِيقَتَانِ فِي اعْتِبَارِ النَّوْمِ نَاقِضًا:

الْأُولَى: طَرِيقَةُ اللَّخْمِيِّ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي النَّقْضِ صِفَةُ النَّوْمِ وَلَا عِبْرَةَ بِهَيْئَةِ النَّائِمِ مِنَ اضْطِجَاعٍ أَوْ قِيَامٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَمَتَى كَانَ النَّوْمُ ثَقِيلًا: نُقِضَ، سَوَاءٌ كَانَ النَّائِمُ مَضْطَجِعًا أَوْ سَاجِدًا أَوْ جَالِسًا أَوْ قَائِمًا، وَعَلَامَةُ النَّوْمِ الثَّقِيلِ هُوَ مَا لَا يَشْعُرُ صَاحِبُهُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ أَوْ كَانَ بِيَدِهِ مِرْوَحَةٌ فَسَقَطَتْ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا، وَإِنْ كَانَ النَّوْمُ غَيْرَ ثَقِيلٍ فَلَا يَنْتَقِضُ عَلَى أَيِّ حَالٍ.

الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: اعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ صِفَةَ النَّوْمِ مَعَ الثِّقَلِ، وَصِفَةَ النَّائِمِ مَعَ النَّوْمِ غَيْرِ الثَّقِيلِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّوْمَ ثَقِيلٌ يَجِبُ مِنْهُ الْوُضُوءُ عَلَى أَيِّ حَالٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الثَّقِيلِ فَيَجِبُ الْوُضُوءُ فِي الِاضْطِجَاعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا يَجِبُ فِي الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ.

وَعُزِيَ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ لِعَبْدِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِ.

وَلَكِنَّ الطَّرِيقَةَ الْأُولَى هِيَ الْأَشْهَرُ عِنْدَهُمْ.

145- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ النَّوْمَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَيْفَمَا كَانَ إِلاَّ نَوْمَ الْمُتَمَكِّنِ مَقْعَدُهُ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ، وَإِنِ اسْتَنَدَ إِلَى مَا لَوْ زَالَ لَسَقَطَ لِأَمْنِ خُرُوجِ شَيْءٍ حِينَئِذٍ مِنْ دُبُرِهِ.

وَلَا عِبْرَةَ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ قُبُلِهِ، لِأَنَّهُ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ، وَلِأَثَرِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ.وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ.

وَحُمِلَ عَلَى نَوْمِ الْمُتَمَكِّنِ مَقْعَدُهُ فِي الْأَرْضِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا لَوْ نَامَ مُحْتَبِيًا.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ نَوْمَ الْمُتَمَكِّنِ مَقْعَدُهُ لَا يَنْقُضُ وَغَيْرُهُ يَنْقُضُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ لِلنَّائِمِ مُمَكَّنًا أَنْ يَتَوَضَّأَ؛ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِ حَدَثٍ، وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ تَيَقَّنَ النَّوْمَ وَشَكَّ هَلْ كَانَ مُمَكَّنًا أَمْ لَا فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نَامَ جَالِسًا فَزَالَتْ أَلْيَاهُ أَوْ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأَرْضِ، فَإِنْ زَالَتْ قَبْلَ الِانْتِبَاهِ انْتَقَضَ؛ لِأَنَّهُ مَضَى لَحْظَةٌ وَهُوَ نَائِمٌ غَيْرَ مُمَكَّنٍ، وَإِنْ زَالَتْ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ أَوْ مَعَهُ، أَوْ لَمْ يَدْرِ أَيَّهُمَا سَبَقَ لَمْ يَنْتَقِضْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَهَ مِنَ الْأَرْضِ مُسْتَنِدًا إِلَى حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَ الْحَائِطُ لَسَقَطَ أَمْ لَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَلِيلُ النَّوْمِ وَكَثِيرُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، فَنَوْمُ لَحْظَةٍ وَنَوْمُ يَوْمَيْنِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا فَرْقَ فِي نَوْمِ الْقَاعِدِ الْمُمَكَّنِ بَيْنَ قُعُودِهِ مُتَرَبِّعًا أَوْ مُفْتَرِشًا أَوْ مُتَوَرِّكًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْحَالَاتِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَقْعَدُهُ لَاصِقًا بِالْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا مُتَمَكِّنًا، وَسَوَاءٌ الْقَاعِدُ عَلَى الْأَرْضِ وَرَاكِبُ السَّفِينَةِ، وَالْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الدَّوَابِّ، فَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.

وَلَوْ نَامَ مُحْتَبِيًا- وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَيْهِ رَافِعًا رُكْبَتَيْهِ مُحْتَوِيًا عَلَيْهِمَا بِيَدَيْهِ أَوْ غَيْرِهِمَا- فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: أَحَدُهَا: لَا يَنْتَقِضُ كَالْمُتَرَبِّعِ، وَالثَّانِي: يَنْتَقِضُ كَالْمُضْطَجِعِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ نَحِيفَ الْبَدَنِ بِحَيْثُ لَا تَنْطَبِقُ أَلْيَاهُ عَلَى الْأَرْضِ انْتَقَضَ، وَإِلاَّ فَلَا، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِذَا نَامَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَأَلْصَقَ أَلْيَيْهِ بِالْأَرْضِ فَإِنَّهُ يُسْتَبْعَدُ خُرُوجُ الْحَدَثِ مِنْهُ، وَلَكِنِ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَالْجَالِسِ الْمُمَكَّنِ، فَلَوِ اسْتَثْفَرَ وَتَلَجَّمَ بِشَيْءٍ فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الِانْتِقَاضُ أَيْضًا.

146- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: النَّوْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أ- نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ، فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَسِيرُهُ وَكَثِيرُهُ فِي قَوْلِ كُلِّ مَنْ يَقُولُ بِنَقْضِهِ بِالنَّوْمِ.

ب- وَنَوْمُ الْقَاعِدِ إِنْ كَانَ كَثِيرًا نَقَضَ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَنْقُضْ.

وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ: «فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ» وَحَدِيثِ: «فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ»

وَقَوْلِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ- رضي الله عنه-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ» وَقَالُوا: وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهُمَا فِي الْيَسِيرِ: لِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنَامُونَ ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ كَثْرَةٍ وَلَا قِلَّةٍ، فَإِنَّ النَّائِمَ يَخْفِقُ رَأْسُهُ فِي يَسِيرِ النَّوْمِ، فَهُوَ يَقِينٌ فِي الْيَسِيرِ فَيَعْمَلُ بِهِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لَا يُتْرَكُ لَهُ الْعُمُومُ الْمُتَيَقَّنُ، وَلِأَنَّ نَقْضَ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ يُعَلَّلُ بِإِفْضَائِهِ إِلَى الْحَدَثِ، وَمَعَ الْكَثْرَةِ وَالْغَلَبَةِ يُفْضِي إِلَيْهِ، وَلَا يَحِسُّ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْيَسِيرِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَثِيرِ عَلَى الْيَسِيرِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى الْحَدَثِ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ، وَعَنْهُ: لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الْجَالِسِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا.

وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَحُكِيَ عَنْهُ لَا يَنْقُضُ غَيْرُ نَوْمِ الْمُضْطَجِعِ.

ج- وَمَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ هُوَ «نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ» فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ رِوَايَاتٌ إِحْدَاهَا: يَنْقُضُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي تَخْصِيصِهِ مِنْ عُمُومِ أَحَادِيثِ النَّقْضِ نَصٌّ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ؛ لِكَوْنِ الْقَاعِدِ مُتَحَفِّظًا لِاعْتِمَادِهِ بِمَحَلِّ الْحَدَثِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالرَّاكِعُ وَالسَّاجِدُ يَنْفَرِجُ مَحَلُّ الْحَدَثِ مِنْهُمَا.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يَنْقُضُ إِلاَّ إِذَا كَثُرَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ.

وَالثَّالِثَةُ: لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الرَّاكِعِ، وَيَنْقُضُ نَوْمُ السَّاجِدِ.

وَأَمَّا نَوْمُ الْقَاعِدِ الْمُسْتَنِدِ وَالْمُحْتَبِي فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْوُضُوءِ.

فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْقُضُ يَسِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَمِدٌ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ كَالْمُضْطَجِعِ.

وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يَنْقُضُ يَسِيرُهُ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ قِيلَ لَهُ: الْوُضُوءُ مِنَ النَّوْمِ؟ قَالَ: إِذَا طَالَ، قِيلَ: فَالْمُحْتَبِي؟ قَالَ: يَتَوَضَّأُ، قِيلَ: فَالْمُتَّكِئُ؟ قَالَ: الِاتِّكَاءُ شَدِيدٌ، وَالْمُتَسَانِدُ كَأَنَّهُ أَشَدُّ- يَعْنِي مِنَ الِاحْتِبَاءِ- وَرَأَى مِنْهَا كُلِّهَا الْوُضُوءَ إِلاَّ أَنْ يَغْفُوَ قَلِيلًا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ مُعْتَمِدًا بِمَحَلِّ الْحَدَثِ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ لَا يَنْقُضَ مِنْهُ إِلاَّ الْكَثِيرُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ انْتِفَاءِ النَّقْضِ فِي الْقَاعِدِ لَا تَفْرِيقَ فِيهِ فَيُسَوَّى بَيْنَ أَحْوَالِهِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّوْمِ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

فَقَالَ أَبُو يَعْلَى: لَيْسَ لِلْقَلِيلِ حَدٌّ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَقِيلَ: حَدُّ الْكَثِيرِ: مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ النَّائِمُ عَنْ هَيْئَتِهِ: مِثْلَ أَنْ يَسْقُطَ عَلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهَا أَنْ يَرَى حُلْمًا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِتَوْقِيفٍ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي هَذَا، فَمَتَى وَجَدْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ: مِثْلَ سُقُوطِ الْمُتَمَكِّنِ وَغَيْرِهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ شَكَّ فِي كَثْرَتِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مُتَيَقِّنَةٌ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ.

وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى عَقْلِهِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي قوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} هِيَ ابْتِدَاءُ النُّعَاسِ فِي الرَّأْسِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَلْبِ صَارَ نَوْمًا، وَلِأَنَّ النَّاقِضَ زَوَالُ الْعَقْلِ، وَمَتَى كَانَ ثَابِتًا وَحِسُّهُ غَيْرُ زَائِلٍ، مِثْلَ مَنْ يَسْمَعُ مَا يُقَالُ عِنْدَهُ وَيَفْهَمُهُ فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ النَّقْضِ مِنْ حَقِّهِ.

وَإِنْ شَكَّ: هَلْ نَامَ أَمْ لَا، أَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا يَدْرِي أَرُؤْيَا هُوَ أَمْ حَدِيثُ نَفْسٍ؟ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ.

الرَّأْيُ الثَّانِي:

147- حُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنه- وَأَبِي مِجْلَزٍ وَحُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ النَّوْمَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ».

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ مِرَارًا مُضْطَجِعًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ، وَالْحَدَثُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ.

قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: نَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ: لَا يَنْقُضُ النَّوْمُ الْوُضُوءَ بِحَالٍ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِنْ ظَنَّ بَقَاءَ طُهْرِهِ، وَقَالَ الْخَلاَّلُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ خَطَأٌ بَيِّنٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


25-الغريبين في القرآن والحديث (ذكا)

(ذكا)

قوله: {إلا ما ذكيتم} معنى التذكية: أن يدركها وفيها بقية تشخب معها الأوداج وتضطرب اضطراب المذبوح، قال: وأصل الذكاة: تمام السن وبلوغ كل شيء منتهاه، وذكيت النار: إذا أتممت إشعالها.

وفي حديث محمد بن علي الباقر: (ذكاة الأرض يبسها) يريد طهارتها من النجاسة إذا نجست كانت بمنزلة الميتة فإذا جفت ذكت أي حييت، وسمعت بعضهم يقول: الذكاة، في الذبيحة تطهير لها وإباحة لأكلها، فجعل يبس [244 أ] الأرض بعد النجاسة تطهيرًا لها وإباحة للصلاة، فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة، وهو قول أهل العراق.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


26-المعجم الغني (زَكاةٌ)

زَكاةٌ- الجمع: زَكًا، زَكَواتٌ. [زكو]، (مصدر: زَكا):

1- "زَكاةُ التِّجارَةِ والْمُمْتَلَكاتِ": النَّماءُ والبَرَكَةُ والزِّيادَةُ.

2- "زَكاةُ النَّفْسِ": طَهارَتُها، نَقاوَتُها، صَفاؤُها.

3- "مِنْ أَرْكانِ الإِسْلامِ الْخَمْسَةِ: الزَّكاةُ": نَصيبٌ يَتِمُّ إِخْراجُهُ مِنَ الْمالِ لِيُقَدَّمَ صَدَقَةً لِلْفُقَراءِ والْمُحْتاجِينَ حَسَبَ شُروطٍ خاصَّةٍ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


27-طِلبة الطلبة (عدد)

(عدد):

وَاعْتَدِّي أَمْرٌ بِالِاعْتِدَادِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ افْتِعَالٌ مِنْ الْعَدِّ مِنْ حَدِّ دَخَلَ وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك أَمْرٌ بِتَعَرُّفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَهِيَ طَهَارَتُهَا مِنْ الْمَاءِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الِاعْتِدَادِ الَّذِي شُرِعَ لِهَذَا.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


28-تاج العروس (زكو)

[زكو]: وزَكا المالُ والزَّرْعُ وغيرُهما يَزْكُو زَكاءً، بالمدِّ، وزَكْوًا، بالفتْحِ، كذا في النُّسخِ وفي المُحْكَم: كعُلُوٍّ*؛ نَمَا وراعَ.

وفي حديثِ عليٍّ: «المالُ تنقُصُه النَّفَقَة والعِلْم يَزْكُو على الإِنْفاقِ»، فاسْتَعارَ له الزَّكاءَ وإن لم يَكُ ذا جِرْمٍ.

وكلُّ شي‌ءٍ يَزْدادُ ويَسْمَنُ. فهو يَزْكُو زَكاءً.

وقالَ شيْخُنا: قوْلُه يَزْكو مُسْتَدركٌ، لأنَّ اصْطِلاحَه أن عَدَم ذِكْر المُضارع دَليلٌ على أنَّه ككَتَبَ.

كأَزْكَى؛ نقلَهُ صاحِبُ المِصْباح.

وزَكَّاهُ اللهُ تعالى تَزْكِيةً وأَزْكاهُ: أَنْماهُ وجَعَلَ فيه بركةً؛ واقْتَصَر الجوهرِيُّ على أَزْكاهُ.

وزَكا الرَّجُلُ يَزْكُو زكوًا: صَلُحَ؛ وبه فُسِّر قوْلُه تعالى: {ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ} {أَحَدٍ}؛ أَي ما صَلُحَ.

وزَكا يَزْكُو: تَنَعَّمَ وكانَ في خِصْبٍ: نقلَهُ الجوهريُّ عن الأُمويّ؛ فهو زكِيٌّ مِن قوْمٍ أَزْكياءَ فيهما.

والزَّكاةُ: صَفْوَةُ الشَّي‌ءِ؛ عن أَبي عليِّ.

والزَّكاةُ: ما أَخْرَجْتَه من مالِكَ لتُطَهِّرَهُ به؛ كذا في المُحْكَم.

وفي المِصْباحِ: سُمِّي القَدَر المُخْرَجُ مِن المالِ زَكاةٌ لأنَّه سببٌ يُرْجى به الزَّكاةُ.

وقالَ ابنُ الأثيرِ: الزَّكاةُ في اللُّغَةِ الطَّهارةُ والنَّماءُ والبركةُ والمَدْحُ، وكلُّ ذلك قد اسْتُعْمِل في القُرْآنِ والحدِيثِ، ووَزْنُها فَعلةٌ كالصَّدَقَةِ، فلمَّا تَحرَّكَتِ الواوُ وانْفتَحَ ما قَبْلَها انْقَلَبَتْ ألفًا، وهي مِنَ الأَسماءِ المُشْتركةِ بينَ المُخْرَج والفِعْل، فتُطْلَق على العَيْنِ وهي الطَّائفةُ مِن المالِ المُزَكَّى بها، وعلى المعْنَى، وهو التَّزْكِية؛ وبه فُسِّر قوْلُه تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ}، فإنَّما المُرادُ به التَّزْكِيَة لا العَيْن؛ فالزَّكاةُ طُهْرةٌ للأَمْوالِ وزَكاةُ الفِطْرِ طُهْرةٌ للأَبْدانِ، انتَهَى.

وأَجْمَع ما رأَيْت في هذا الحَرْف كَلامُ الراغبِ، رحِمَه الله تعالى في كتابهِ المَفْردَات، وهذا نَصُّه: أَصْلُ الزَّكاةِ النُّموُّ الحاصِلُ عن بَرَكةِ اللهِ، عزّ وجلّ، ويُعْتَبر ذلكَ بالأُمورِ الدّنيويَّةِ والأُخْروِيَّةِ، يقالُ: زَكا الزَّرْعُ يَزْكُو إذا حَصَلَ منه نُموٌّ وبركَةٌ.

وقوْلُه، عزّ وجلّ: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعامًا}، إشارَة إلى ما يكونُ حَلالًا لا يُسْتَوْخَم عُقْباهُ؛ ومنه الزَّكاةُ لمَا يُخْرجُه الإِنْسانُ مِن حَقِّ اللهِ، عزّ وجلّ، إلى الفُقراءِ، وتَسْمِيَته بذلِكَ لمَا يكونُ فيها مِن رَجاءِ البَركَةِ، أَو لتَزْكِيةِ النَّفْس؛ أَي تَنْمِيتها بالخَيْراتِ والبَرَكاتِ أَو لَهُما جَمِيعًا، فَإنَّ الخَيْرينِ مَوْجُودَان فيهما، وقَرَنَ اللهُ، عزّ وجلّ، الزَّكاةَ بالصَّلاةِ في القُرْآنِ بقوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ}؛ وبزكَاءِ النَّفْسِ وطَهارَتِها يَصِيرُ الإِنْسانُ بحيثُ يسْتَحقُّ في الدُّنيا الأَوْصافَ المَحْمودَةَ وفي الآخِرَةِ الأَجْرَ والمَثُوبَةَ، وهو أن يَتحرَّى الإِنْسانُ ما فيه تَطْهِيره، وذلك يُنْسَبُ تارَةً إلى العَبْد لاكْتِسابه ذلكَ نَحْو قوْلِه، عزّ وجلّ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها}؛ وتارَةً يُنْسَبُ إلى اللهِ، عزّ وجلّ، لكوْنِه فاعِلًا لذلِكَ في الحقِيقَةِ نَحْو: {وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ}؛ وتارَةً إلى النبيِّ صَلَى الله عليه وسلّم لكوْنه واسِطَة في وُصولِ ذلكَ إليهم نَحْو قوْلِه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وقوْلُه: (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ) آياتِهُ (وَيُزَكِّيكُمْ)؛ وتارَةً إلى العِبادَةِ التي هي آلَةٌ في ذلِك نَحْو: (وَحَنانًا مِنْ لَدُنّا وَزَكاةً)، وقوْله تعالى: (لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا) زَكِيًّا أَي مُزَكىً بالخِلْقَةِ وذلكَ على طَريقِ ما ذَكَرْناه من الاجْتِباءِ، وهو أنْ يجعَل بعضَ عِبادِهِ عالِمًا لا بالتَّعَلُّمِ والمُمارَسَةِ، بل بقوَّةٍ إلهيَّةٍ كما يكونُ لكلِّ الأَنْبياءِ والرُّسُل.

ويجوزُ أن يكونَ تَسْمِيَته بالمُزَكّى لمَا يكونُ عليه في الاسْتِقبالِ لا في الحالِ، والمَعْنى سيُزَكّى؛ وقوْلُه تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ} أي يَفْعلُونَ ما يَفْعلُونَ مِنَ العِبادَةِ ليُزَكِّيهم اللهُ، عزّ وجلّ، أَو ليُزَكّوا أَنْفُسَهُم، والمَعْنيانِ واحِدٌ، وليسَ قَوْلُه عزّ وجلّ، للزَّكاةِ مَفْعولًا لقوْلِهِ {فاعِلُونَ}، بل اللام فيه للقَصْدِ والعلَّةِ، وتَزْكِيَة الإِنْسانِ نَفْسه ضَرْبان: أَحَدُهما بالفِعْلِ وهو مَحْمودٌ وإليه قَصَد بقوْلِه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها}، وقوْلُه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى}.

والثاني بالقَوْلِ كتَزْكِيَةِ العدلِ وغَيره وهو مَذْمُومٌ، وقد نَهَى اللهُ، عزّ وجلّ عنه بقوْلِهِ: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى}؛ ونَهْيه عن ذلِكَ تأْدِيبًا لقبْحِ مَدْحِ الإِنْسانِ نَفْسه عَقْلًا وشَرْعًا، ولهذا قيلَ لحكيم: ما الذي لا يحسنُ وإن كان حقًّا؟ فقالَ: مَدْحُ الرَّجُل نَفْسه، انتَهَى.

والزَّكَاة، مَقْصورًا: الشَّفْعُ من العددِ، والخَسَا للفَرْدِ منه، وقد تقدَّمَ، قيلَ للشَّفْع زَكًا لأنَّ الزَّوْجَيْن أَزْكَى مِن واحِد، وخَسا وزَكا حِكَايَة لا يُنَوَّنانِ وقد يُنَوَّنانِ عن بعضٍ، ولا يَدْخلهما الألفُ واللَّامُ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

زَكَّى مالَهُ تَزْكِيةً: أَدى عنه زَكاتَهُ.

وزكَّى نَفْسَه تَزْكيةً: مَدَحَها.

وزَكَّاهُ: أَخَذَ زَكاتَهُ.

وتَزَكَّى: تصدَّقَ.

وأَيْضًا: تَطَهَّرَ.

وهذا الأَمْرُ لا يَزْكُو بفلانٍ: أَي لا يليقُ به.

وغُلامٌ زاكٍ وزَكِيٌّ بمعْنَى؛ وقد زَكَا زُكُوًّا، كعُلُوِّ، وزَكاءً، كسَحابٍ، عن الأَخْفَش، كلُّ ذلِكَ في الصِّحاحِ.

والزَّكاءُ: ما أَخْرَجَهُ اللهُ من الثَّمرِ.

والزَّكاةُ: الصَّلاحُ، وبه فُسِّر قوْلُه تعالى: {خَيْرًا مِنْهُ زَكاةً}، وقيلَ: مَعْناه أَي عَمَلًا صالحًا.

وزَكَّاه تَزْكيةً أَصْلَحَهُ.

وقُرِئَ قَوْلُه تعالى: ما زَكَّى منْكُم مِن أَحَدٍ، بالتَّشْديدِ؛ أَي ما أَصْلَحَ، {وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي} أَي يُصْلحُ.

ويقالُ: هو يُخَسِّي ويُزَكِّي إذا قَبَضَ على شي‌ءٍ في كَفِّه، فقالَ: أَزَكا أَمْ خَسَا.

والمُزَكِّي، كمُحَدِّثٍ: مَنْ يُزَكِّي الشُّهودَ ويُعَرِّفُ القاضِي أَحْوالَهم؛ منهم أَبو إسحق إبراهيمُ بنُ محمدِ بنِ يَحْيَى المُزَكِّي شيخُ نَيْسابُورَ في عصْرِهِ، رَوَى عنه الحاكِمُ.

وزَكَاةُ الأرضِ: يُبْسُها؛ أَي طَهارَتُها مِن النجاسَةِ.

وأَزْكَى المالَ: أَوْعاهُ، هكذا فَسَّره أَبو موسَى؛ كذا في النِّهايَةِ.

وإذا نُسِبَ إلى الزَّكاةِ وَجَبَ حذْفُ الهاءِ وقَلْب الألفِ واوًا فيُقالُ زَكَوِيُّ، كما يُقالُ في الحَصَاةِ حَصَويٌّ. وقوْلُهم: زَكَاتِيَّة عاميَّةٌ، والصَّوابُ زَكَوِيَّة؛ كذا في المِصْباح.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


29-لسان العرب (ذكا)

ذكا: ذَكَتِ النارُ تَذْكُو ذُكُوًّا وَذَكًا، مَقْصُورٌ، واسْتَذْكَتْ، كُلُّه: اشْتَدَّ لهَبُها واشْتَعلت، ونارٌ ذكِيَّةٌ عَلَى النَّسب؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

يَنْفَحْنَ مِنْهُ لهَبًا مَنْفُوحَا ***لَمْعًا يُرى، لَا ذَكِيًا مَقْدُوحا

وأَراد يَنْفُخْنَ مِنْهُ لَهَبًا مَنْفُوخًا، فأَبدل الْحَاءَ مَكَانَ الْخَاءِ لِيُوَافِقَ رَوِيّ هَذَا الرَّجَزِ كُلِّهِ لأَن هَذَا الرَّجَزَ حَائِيٌّ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ رُؤْبَةُ:

غَمْرُ الأَجارِيِّ كَرِيمُ السِّنْحِ، ***أَبلَجُ لَمْ يُولَدْ بنَجْم الشُّحَ

يُرِيدُ: كَرِيمُ السِّنْخِ.

وأَذْكَاها وذَكَّاها: رَفَعها وأَلقى عَلَيْهَا مَا تَذْكُو بِهِ.

والذُّكْوَة والذُّكْيَة: مَا ذَكَّاها بِهِ مِنْ حَطَب أَو بَعَر، الأَخيرة مِنْ بَابِ جَبَوتُ الخَراج جِبايةً.

والذُّكْوة والذَّكا: الْجَمْرَةُ المُلْتهبة.

وأَذْكَيْتُ الحَرْبَ إِذَا أَوْقَدْتها؛ وأَنشد: " إنَّا إِذَا مُذْكِي الحُروب أَرَّجا وتَذْكِيَةُ النَّارِ: رَفْعُها.

وَفِي حَدِيثِ ذِكْرِ النَّارِ: « قَشَبَني ريحُها وأَحْرَقَني ذَكاؤها »؛ الذَّكاءُ: شدةُ وهَجِ النارِ؛ يُقَالُ: ذَكَّيْتُ النارَ إِذَا أَتْمَمْتَ إشْعالَها ورفَعْتها، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}؛ ذبْحُهُ عَلَى التَّمام.

والذَّكا: تمامُ إيقادِ النارِ، مقصورٌ يُكْتَبُ بالأَلف؛ وأَنشد:

ويُضْرِم فِي القَلْبِ اضْطِرامًا، كأَنه ***ذَكا النارِ تُرْفِيهِ الرِّياحُ النَّوافحُ

وذُكاءُ، بِالضَّمِّ: اسمُ الشَّمْسِ، مَعْرِفَةٌ لَا يَنْصَرِف وَلَا تدْخُلها الأَلِفُ وَاللَّامُ، تَقُولُ: هَذِهِ ذُكاءُ طالِعةً، وَهِيَ مُشْتَقَّة مِنْ ذَكَتِ النارُ تَذْكُو، وَيُقَالُ للصُّبْح ابنُ ذُكاء لأَنه مِنْ ضَوْئها؛ وأَنشد:

فَوَرَدَتْ قَبْلَ انبِلاج الفجرِ، ***وابنُ ذُكاءَ كامِنٌ فِي كَفْرِ

وَقَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَير الْمَازِنِيُّ يَصِفُ ظَلِيمًا ونَعامة:

فتذَكَّرا ثَقَلَا رَثِيدًا، بَعْدَ ما ***أَلْقَتْ ذُكاءُ يمينَها فِي كافِرِ

والذَّكَاءُ، ممدودٌ: حِدَّةُ الْفُؤَادِ.

والذَّكَاءُ: سُرْعة الفِطْنَة.

اللَّيْثُ: الذَّكَاءُ مِنْ قَوْلِكَ قلبٌ ذَكِيٌّ وصَبِيٌّ ذكِيٌّ إِذَا كَانَ سريعَ الفِطْنَةِ، وَقَدْ ذكِيَ، بِالْكَسْرِ، يَذْكَى ذَكًا.

وَيُقَالُ: ذَكا يَذْكُو ذَكاءً، وذَكُوَ فَهُوَ ذكِيٌّ.

وَيُقَالُ: ذَكُوَ قَلْبُه يَذْكُو إِذَا حَيَّ بَعْدَ بَلادَةٍ، فَهُوَ ذَكِيٌّ عَلَى فَعِيلٍ، وَقَدْ يُسْتَعْمل ذَلِكَ فِي البَعِير.

وذَكا الريحِ: شِدَّتها مَنْ طِيبٍ أَو نَتْنٍ.

ومِسْكٌ ذَكِيٌّ وذاكٍ: ساطِعُ الرائِحَةِ، وَهُوَ مِنْهُ.

ومِسْكٌ ذَكِيٌّ وذَكِيَّة، فَمَنْ أَنَّث ذَهَبَ بِهِ إِلَى الرائْحة؛ وَقَالَ أَبو هَفَّانَ: المِسْكُ والعَنْبَر يُؤنَّثان ويُذَكَّران.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَتَقُولُ هُوَ ذَكِيُّ الرائِحة وذَاكِيالرائِحَة؛ قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ:

كأَنَّ القَرَنْفُل والزَّنْجَبِيل ***وذَاكِي العَبِيرِ بِجِلْبابِها

والذَّكَاءُ: السِّنُّ.

وَقَالَ الحَجَّاج: فُرِرتُ عَنْ ذَكَاءٍ.

وبَلَغَت الدَّابَّةُ الذَّكَاءَ أَي السِّنَّ.

وذَكَّى الرجلُ: أَسَنَّ وبَدُنَ.

والمُذَكِّي أَيضًا: المُسِنُّ مِنْ كلِّ شَيْءٍ، وَخَصَّ بعضُهم بِهِ ذواتِ الحافِرِ، وَهُوَ أنْ يُجاوِزَ القُرُوحَ بسَنَةٍ.

والمَذاكِي: الخيلُ الَّتِي أَتى عَلَيْهَا بعدَ قُروحها سنَةٌ أَو سَنَتان، الْوَاحِدُ مُذَكٍّ مِثْلُ المُخْلِفِ مِنَ الإِبل.

والمُذَكِّي أَيضًا مِنَ الخَيْلِ: الَّذِي يَذْهَب حُضْرُه ويَنْقَطِعُ.

وَفِي الْمَثَلِ: جَرْيُ المُذَكِّياتِ غِلابٌ أَي جَرْيُ المَسانِّ القُرَّحِ مِنَ الْخَيْلِ أَن تُغالِبَ الجَرْيَ غِلابًا، وتأويلُ تمَام السِّنِّ النهايةُ فِي الشَّبَابِ، فَإِذَا نقَص عَنْ ذَلِكَ أَو زَادَ فَلَا يُقَالُ لَهُ الذكاءُ.

والذَّكَاءُ فِي الفَهْمِ: أَن يَكُونَ فَهْمًا تَامًّا سَرِيعَ القَبُولِ.

ابْنُ الأَنباري فِي ذَكَاءِ الفَهْمِ والذَّبْحِ: إِنَّهُ التَّمامُ، وَإِنَّهُمَا ممدودانِ.

والتَّذْكِيَة الذَّبْحُ.

والذَّكَاءُ والذَّكَاةُ: الذَّبْحُ؛ عَنْ ثَعْلَبٍ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: ذَكَاةُ الجِنين ذَكاةُ أُمِّهِ أَي إِذَا ذُبْحتِ الأُمُّ ذُبح الجنينُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « ذَكاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّه».

ابْنُ الأَثير: التَّذْكِيَةُ الذَّبْحُ والنَّحْرُ؛ يُقَالُ: ذَكَّيْت الشَّاةَ تَذْكِيَة، وَالِاسْمُ الذَّكاةُ، والمَذْبوحُ ذَكِيٌّ، وَيُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ بالرفْع والنَّصب، فَمَنْ رَفَع جَعَلَه خبرَ المبتدإِ الَّذِي هُوَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ، فَتَكُونُ ذَكَاةُ الأُمِّ هِيَ ذَكَاةَ الْجَنِينِ فَلَا يَحتاجُ إِلَى ذَبْحٍ مُسْتَأنَفٍ، وَمَنْ نَصَب كَانَ التَّقْدِيرُ ذَكاةُ الجِنينِ كذَكاة أُمِّه، فَلَمَّا حُذِفَ الجارُّ نُصِب، أَو عَلَى تَقْديرِ يُذَكَّى تَذْكِيَةً مِثْلَ ذكاةِ أُمِّه، فحَذَفَ المَصْدرَ وصِفَتَه وأَقام الْمُضَافَ إِلَيْهِ مُقامه، فَلَا بدَّ عِنْدَهُ مِنْ ذَبْحِ الجنِين إِذَا خَرَجَ حَيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْويه بِنَصْبِ الذّكاتَيْن أَي ذَكُّوا الجنينَ ذكاةَ أُمِّه.

ابْنُ سِيدَهْ: وذَكاءُ الْحَيَوَانِ ذبْحُه؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " يُذَكِّيها الأَسَلْ وَقَوْلُهُ تعالى: {وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}؛ قَالَ أَبو إِسْحَاقَ: معناهُ إلَّاما أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَه مِنْ هَذِهِ الَّتِي وَصَفْنَا.

وكلُّ ذَبْحٍ ذَكاةٌ.

وَمَعْنَى التَّذْكِية: أَنْ تُدْرِكَها وَفِيهَا بَقِيَّة تَشْخُب مَعَها الأَوْداج وتَضْطَرِبُ اضْطرابَ المَذْبوح الَّذِي أُدْرِكَتْ ذَكاتُه، وأَهل الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنْ أَخْرَجَ السبُعُ الحِشْوَةَ [الحُشْوَةَ] أَو قَطَع الجَوْفَ قَطْعًا تَخْرُجُ مَعَهُ الحِشْوة [الحُشْوة] فَلَا ذَكاةَ لِذَلِكَ، وتأْويلُه أَن يَصِيرَ فِي حَالَةِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي حَيَاتِهِ الذَّبْحُ.

وَفِي حَدِيثِ الصَّيْدِ: « كُلْ مَا أَمْسَكَتْ عَلَيْك كلابُكَ ذَكِيٌّ وغيرُ ذَكِيّ »؛ أَراد بالذَّكيِّ مَا أُمْسِكَ عَلَيْهِ فأَدْرَكَه قبلَ زُهُوقِ رُوحه فذَكَّاه فِي الحَلْقِ واللَّبَّةِ، وأَراد بِغَيْرِ الذَّكيِّ مَا زَهَقَتْ روحُه قَبْلَ أَن يُدْركَه فيُذَكِّيَهُ ممَّا جَرَحَه الكلبُ بسِنِّه أَو ظفْرِه.

وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: « ذَكَاةُ الأَرض يُبْسُها »؛ يُرِيدُ طَهارَتَها مِنَ النَّجَاسَةِ، جَعَلَ يُبْسَها مِنَ النَّجَاسَةِ الرَّطْبة فِي التَّطْهِير بمَنْزِلة تَذْكِيَةِ الشاةِ فِي الإِحْلالِ لأَن الذَّبْحَ يُطَهِّرُهَا ويحلِّل أَكْلَها.

وأَصل الذَكَاة فِي اللُّغَةِ كُلِّها إتْمامُ الشَّيْءِ، فَمِنْ ذَلِكَ الذَّكَاءُ فِي السِّنِّ والفَهْمِ وَهُوَ تَمَامُ السنِّ.

قَالَ: وَقَالَ الْخَلِيلُ الذَّكَاءُ فِي السنِّ أَن يأْتي عَلَى قُرُوحه سَنَةٌ وَذَلِكَ تمامُ اسْتِتْمامِ القُوَّة؛ قَالَ زهير:

يُفَضّلُه، إذا اجْتَهَدُوا عليْهِ، ***تمامُ السِّنِّ مِنْهُ والذَّكَاءُ

وجَدْيٌ ذَكِيٌّ: ذَبيْحٌ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ واويَّة، وأَما ذ ك ي فَعَدَمٌ، وَقَدْ ذَكَرْتُ أَن الذَّكِيَّة نادرٌ.

وأَذْكَيْتُ عَلَيْهِ العُيونَ إِذَا أَرْسَلْتَ عَلَيْهِ الطَّلائع؛ قَالَ أَبو خِراشٍ الهُذلي:

وظَلَّ لَنَا يَومٌ، كأَنَّ أُوارَهُ ***ذَكا النَّارِ مِنْ نَجْمِ الفُرُوعِ طَويلُ

الفُروعُ، بِعَيْنٍ مُهْمِلَةٍ: فُروعُ الْجَوْزَاءِ، وَهِيَ أَشدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَرِّ.

وذَكْوَانُ: قبيلةٌ مِنْ سُلَيْم.

والذَّكَاوِينُ: صِغارُ السَّرْح، واحِدَتُها ذَكْوَانَةٌ.

ابْنُ الأَعرابي: الذَّكْوَان شَجَرٌ، الواحدةُ ذَكْوَانَةٌ.

ومَذَاكِي السَّحابِ: الَّتِي مَطَرَتْ مَرَّة بَعْدَ أُخرى، الْوَاحِدَةُ مُذْكِيَة؛ قَالَ الرَّاعِي:

وتَرْعى القَرارَ الجَوّ، حيثُ تَجاوَبَتْ ***مَذاكٍ وأَبْكارٌ، مِنَ المُزْنِ، دُلَّحُ

وذَكْوَانُ: اسْمٌ.

وذَكْوَةُ: قَرْيةٌ؛ قَالَ الرَّاعِي:

يَبِتْنَ سجُودًا مِنْ نَهِيتِ مُصَدَّرٍ ***بذَكْوَةَ، إطْراقَ الظِّباءِ مِنَ الوَبلِ

وَقِيلَ: هِيَ مأسَدة فِي ديار قَيْسٍ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


30-لسان العرب (زكا)

زكا: الزَّكاء، مَمْدُودُ: النَّماء والرَّيْعُ، زَكَا يَزْكو زَكاء وزُكُوًّا.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: « المالُ تنقُصه النَّفقة والعِلم يَزْكُو عَلَى الإِنْفاقِ »، فَاسْتَعَارَ لَهُ الزَّكاء وإِن لَمْ يَكُ ذَا جِرْمٍ، وَقَدْ زَكَّاه اللهُ وأَزْكَاه.

والزَّكاء: مَا أَخرجه اللَّهُ مِنَ الثَّمَرِ.

وأَرضٌ زَكِيَّةٌ: طيِّبةٌ سَمِينَةٌ؛ حَكَاهُ أَبو حَنِيفَةَ.

زَكَا، والزَّرع يَزْكو زَكاء، مَمْدُودٌ، أَي نَمَا.

وأَزْكَاه اللَّهُ، وكلُّ شَيْءٍ يَزْدَادُ ويَنْمي فَهُوَ يَزْكُو زَكَاء وَتَقُولُ: هَذَا الأَمر لَا يَزْكُو بِفُلَانٍ زَكاء أَي لَا يَلِيقُ بِهِ؛ وأَنشد:

والمالُ يَزْكو بِكَ مُسْتَكْبرًا، ***يَخْتال قَدْ أَشرق للناظرِ

ابْنُ الأَنْباري فِي قَوْلُهُ تعالى: {وَحَنانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً}؛ مَعْنَاهُ وَفَعَلْنَا ذَلِكَ رحمةً لأَبويه وتَزْكِيةً لَهُ؛ قَالَ الأَزهري: أَقام الِاسْمَ مُقامَ الْمَصْدَرِ الْحَقِيقِيِّ.

والزَّكَاةُ: الصلاحُ.

وَرَجُلٌ تقيٌّ زَكِيٌّ أَي زاكٍ مِنْ قَوْمٍ أَتْقياء أَزْكِياء، وَقَدْ زَكا زَكاء وزُكُوًّا وزَكِيَ وتَزَكَّى، وزَكَّاه الله، وزَكَّى نفسَه تَزْكِيةً: مدَحها.

وَفِي حَدِيثِ زينبَ: « كَانَ اسمُها بَرَّةَ فغَّيره وَقَالَ تُزَكِّي نفسَها».

وزَكَّى الرَّجُلُ نفسَه إِذا وَصَفَهَا وأَثنى عَلَيْهَا.

والزَّكَاةُ: زَكاةُ الْمَالِ مَعْرُوفَةٌ، وَهُوَ تَطْهِيرُهُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ زَكَّى يُزَكِّي تَزْكِيةً إِذا أَدّى عَنْ مَالِهِ زَكاته غَيْرُهُ: الزَّكاة مَا أَخرجته من مالك لتهطره بِهِ، وَقَدْ زَكَّى المالَ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِها}؛ قَالُوا: تُطهِّرُهم بِهَا.

قَالَ أَبو عَلِيٍّ: الزَّكَاةُ صفوةُ الشَّيْءِ.

وزَكَّاه إِذا أَخذ زَكاتَه.

وتَزَكَّى أَي تصدَّق.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ}؛ قَالَ بعضُهم: الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ مُؤْتُون، وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِينَ هُمْ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فاعِلُون، وقال تعالى: {خَيْرًا مِنْهُ زَكاةً}؛ أَي خَيْرًا مِنْهُ عَمَلًا صَالِحًا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: زَكاةً" صَلَاحًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَنانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً}؛ قَالَ: صَلَاحًا.

أَبو زَيْدٍ النَّحْوِيُّ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ}؛ وَقُرِئَ مَا زَكَّى مِنْكُمْ، فَمَنْ قرأَ مَا زَكى" فَمَعْنَاهُ مَا صَلَحَ مِنْكُمْ، وَمَنْ قرأَ مَا زَكَّى فَمَعْنَاهُ مَا أَصلح، وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ "أَي يُصلح، وَقِيلَ لِمَا يُخْرَج مِنَ الْمَالِ لِلْمَسَاكِينِ مِنْ حُقُوقِهِمْ زَكاةٌ لأَنه تطهيرٌ لِلْمَالِ وتَثْميرٌ وإِصْلاحٌ وَنَمَاءٌ، كُلُّ ذَلِكَ قِيلَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الزَّكاةِ والتَّزْكِيةِ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ: وأَصل الزَّكَاةِ فِي اللُّغَةِ الطَّهَارَةُ والنَّماء والبَركةُ والمَدْح وَكُلُّهُ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَوَزْنُهَا فَعَلةٌ كالصَّدَقة، فَلَمَّا تحرَّكت الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا انْقَلَبَتْ أَلفًا، وَهِيَ مِنَ الأَسماء الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ المُخْرَج وَالْفِعْلِ، فَيُطْلَقُ عَلَى الْعَيْنِ وَهِيَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْمَالِ المُزَكَّى بِهَا، وَعَلَى المَعنى وَهِيَ التَّزْكِيَة؛ قَالَ: وَمِنَ الْجَهْلِ بِهَذَا الْبَيَانِ أَتى مَنْ ظَلَمَ نفسَه بِالطَّعْنِ عَلَى قَوْلِهِ تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ}؛ ذَاهِبًا إِلى الْعَيْنِ، وإِنما الْمُرَادُ الْمَعْنَى الذي هو التَّزْكِيةُ، ف الزَّكاة طُهرةٌ للأَموال وزَكاةُ الفِطْرِ طهرةٌ للأَبدان.

وَفِي حَدِيثِ الْبَاقِرِ أَنه قَالَ: « زَكاةُ الأَرض يُبْسُها »، يُرِيدُ طَهارَتَها مِنَ النَّجَاسَةِ كَالْبَوْلِ وأَشباهه بأَن يَجِفَّ وَيَذْهَبَ أَثرُه.

والزَّكا، مَقْصُورٌ: الشَّفْعُ مِنَ العدد.

الجوهري: "وزَكًا الشَّفْعُ.

يُقَالُ: خَسًا أَو زَكًا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْفَرْدِ خَسًا وَلِلزَّوْجَيْنِ اثْنَيْنِ زَكًا، وَقِيلَ لَهُمَا زَكًا لأَن اثْنَيْنِ أَزْكَى مِنْ وَاحِدٍ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " عَنْ قبْضِ مَنْ لَاقَى أَخاسٍ أَمْ زَكا "ابْنُ السِّكِّيتِ: الأَخاسي جَمْعُ خَسًا، وَهُوَ الْفَرْدُ.

اللِّحْيَانِيُّ: زَكِيَ الرَّجُلُ يَزْكَى وزَكا يَزْكو زُكوًّا وزَكاءً، وَقَدْ زَكَوْتَ وزَكِيتَ أَي صِرْتَ زَاكِيًا.

ابْنُ الأَنباري: الزَّكاءُ الزِّيادة مِنْ قَوْلِكَ زَكا يَزْكو زَكَاءً، وَهَذَا مَمْدُودٌ، وَزَكًا، مقصورٌ: الزَّوْجَانِ، وَيَجُوزُ خَسًا وَزَكًا بالإِجْراء، وَمَنْ لَمْ يُجْرِهما جَعَلَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ، وَمَنْ أَجراهما جَعَلَهُمَا نَكِرَتَيْنِ.

وَقَالَ أَحمد بْنُ عُبَيْدٍ: خَسا وزَكا لَا ينوَّنان وَلَا تَدَخُلُهُمَا الأَلف وَاللَّامُ لأَنهما عَلَى مَذْهَبِ فَعَل مِثْلُ وَهَى وعَفا؛ وأَنشد لِلْكُمَيْتِ:

لَادَى خَسا أَو زَكا مِنْ سِنِيك ***إِلَى أَربعٍ فَيَقُولُ انْتِظَارَا

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُكْتَبُ خَسا بالأَلف لأَنه مِنْ خَسأَ، مَهْمُوزٌ، وَزَكَا يُكْتَبُ بالأَلف لأَنه مِنْ يَزْكُو، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلزَّوْجِ زَكًا وَلِلْفَرْدِ خَسًا فَتُلْحِقُهُ بِبَابِ فَتًى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ زَكا وخَسا فَيُلْحِقُهُ بِبَابِ زُفَرَ.

وَيُقَالُ: هُوَ يُخَسِّي ويُزَكِّي إِذَا قَبَضَ عَلَى شَيْءٍ فِي كَفِّهِ وَقَالَ أَزَكا أَم خَسا، وَهُوَ مَهْمُوزٌ.

الأَصمعي: رَجُلٌ زُكأَةٌ أَي مُوسِرٌ.

اللِّحْيَانِيُّ: إِنَّهُ لمَلِيءٌ زُكأَةٌ أَي حَاضِرُ النَّقْد عاجِله.

وَيُقَالُ: قَدْ زَكأَه إِذَا عجَّل نَقْدَهُ.

وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَنه قدِم الْمَدِينَةَ بِمَالٍ فَسَأَلَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَقِيلَ إِنَّهُ بِمَكَّةَ فأَزْكى المالَ وَمَضَى، فلحِق الْحَسَنَ فَقَالَ: « قدِمْتُ بِمَالٍ فَلَمَّا بَلَغَنِي شُخُوصُك أَزْكَيْتُه، وَهَا هُوَ ذَا »؛ قَالَ: كأَنه يُرِيدُ أَوْعَيْتُه.

وزَكا الرجلُ يَزْكو زُكوًّا: تَنَعَّم وَكَانَ فِي خِصْب.

وزَكِيَ يَزْكى: عَطِشَ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: أَثبته في الواو لعدم ز ك ي وَوُجُودِ ز ك و؛ قَالَهُ ثَعْلَبٌ؛ وأَنشد:

كصاحِبِ الخَمْرِ يَزْكى كُلَّما نَفِدَتْ ***عَنْهُ، وإنْ ذاقَ شِرْبًا هَشَّ لِلعَلَلِ

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com