نتائج البحث عن (عَبَّرُوا)

1-العربية المعاصرة (حمق)

حمُقَ يَحمُق، حُمْقًا وحَماقةً، فهو أَحمقُ.

* حمُق الرَّجلُ:

1 - قَلّ عقلُه، فسَد عقلُه (ربَّما أراد الأحمقُ نفعك فضرَّك [مثل] - ما يُداوي الأحمقُ بمثل الإعراض عنه [مثل] - لكلّ داءٍ دواء يستطبُّ بهِ.. إلاّ الحماقة أعيت من يداويها) (*) أحمق من نعامة [مثل]: قيل ذلك لأنها تحتضن بيض غيرها، وتُضيِّع مبيض نفسها.

2 - غضب وتصرَّف تصرُّفَ الطّائش (يحمُق لأَتْفَه الأمور) (*) عبروا إلى الحماقة: صاروا إلى التّهديد والوعيد والشّتائم والسِّباب.

حمِقَ يَحمَق، حَمَقًا، فهو أحْمَقُ.

* حمِق فلانٌ: حمُق، قلَّ عقلُه، فسَد عقلُه.

أحمقَ يُحمق، إحماقًا، فهو مُحمِق، والمفعول مُحمَق.

* أحمق فلانًا: عدَّه قليل العَقْل طائشه.

استحمقَ يستحمق، استحماقًا، فهو مُستحمِق، والمفعول مُستحمَق (للمتعدِّي).

* استحمق الشَّخصُ: حمُق؛ قلّ عقلُه وتصرَّف تصرُّف الطائش.

* استحمق فلانًا: أحمقه؛ عدَّه قليل العَقْلِ طائشه (حدَّثتُه فاستحمقتُه).

انحمقَ ينحمق، انحماقًا، فهو مُنحمِق.

* انحمق الشَّخصُ:

1 - حَمُقَ؛ قلَّ عقلُه وتصرَّف تصرُّف الطائش.

2 - اندَفَعَ بلا رَوِيَّة.

تحامقَ يتحامق، تحامُقًا، فهو متحامِق.

* تحامق الشَّخصُ: تَظاهَرَ بقلَّة العقل والغباء (تحامق المُتَّهمُ حتَّى يبرِّئ نفسَه).

تحمَّقَ يتحمَّق، تحمُّقًا، فهو مُتحمِّق.

* تحمَّق فلانٌ: تكلَّف قلَّة العقل والغباء (تحمَّق المجرمُ أمام ضابط الشرطة- يتحمَّق أحيانًا ليُضحكَ أصحابَه).

حمَّقَ يحمِّق، تحميقًا، فهو مُحمِّق، والمفعول مُحمَّق.

* حمَّق فلانًا:

1 - جعله كقليل العقل أو فاسده (حمَّق شابًّا طائشًا).

2 - نسبه إلى قلَّة العقل والطّيْش (حمَّقه عندما رأى تصرُّفاته الدَّالّة على الحُمْق).

أَحْمَقُ [مفرد]: جمعه حُمْق وحَمْقَى، والمؤنث حمقاءُ، والجمع المؤنث حمقاوات وحُمْق: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من حمُقَ وحمِقَ.

* البقلة الحمقاء/بقلة الحمقاء: [في النبات] الرِّجلة.

حَماق/حُماق [مفرد]: [في الطب] داء كالجُدريّ أو شبهه يصيب الإنسانَ فيتفرَّق في الجسد.

حَماقة [مفرد]: مصدر حمُقَ.

حَمَق [مفرد]: مصدر حمِقَ.

حُمْق [مفرد]: مصدر حمُقَ.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-المعجم الوسيط (اليَقِينُ)

[اليَقِينُ]: العِلْمُ الذي لا شكَّ معه.

و- (في الفلسفة): اطمئنانُ النَّفس إِلى حكمٍ مع الاعتقاد بصحَّته.

(مما أقره مجمع اللغة العربية بالقاهرة).

ويقال: عَلِمَه يقينًا.

وعِلْمُ اليقينِ، وعلمٌ يَقينٌ: ليس فيه شكٌّ.

وربما عبَّروا بالظنّ عن اليقين، وباليقين عن الظنَّ.

قال دريد بن الصمة:

فقلتُ لهم ظُنُّوا بأَلْفَيْ مُدَجّجٍ *** سَراتُهُم في الفارسيّ المسرَّدِ

أَي أَيقنوا.

وقال أَبو سِدرةَ الأَسديُّ:

تَحسَّبَ هَوّاسٌ وأَيقنَ أَنَّني *** بها مُفْتدٍ من واحدٍ لا أُغامرُه

أَي ظَنَّ ذلك.

و- الموتُ.

وفي التنزيل العزيز: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر: 99].

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


3-معجم ما استعجم (بانقيا)

بانقيا: بزيادة ألف بين الباء والنون، وكسر النون، بعدها قاف وياء معجمة باثنتين من تحتها: أرض بالنّجف دون الكوفة؛ قال الأغشى:

«فما نيل مصر إذ تسامى عبابه *** ولا بحر بانقيا إذا راح مفعما»

وقال أيضا:

«قد طفت ما بين بانقيا إلى عدن *** وطال فى العجم ترحالى وتسيارى»

وقال أحمد بن يحيى ثعلب فى شرحه لشعر الأعشى، عند ذكر هذا البيت:

سبب بانقيا الذي سمّيت به، أن إبراهيم ولوطا عليهما السلام مرّا بها، يريدان بيت المقدس مهاجرين، فنزلا بها، وكانت تزلزل فى كلّ ليلة، وكانت ضخمة جدّا، فراسخ، فلمّا باتا بها لم تزلزل، فمشى بعضهم إلى بعض، تعجّبا من عافيتهم فى ليلتهم. فقال صاحب منزل إبراهيم: ما دفع عنكم إلّا بشيخ بات عندى، كان يصلّى ليله ويبكى؛ فاجتمعوا إليه، فسألوه المقام عندهم، على أن يجمعوا له من أموالهم، فيكون أكثرهم مالا؛ فقال: لم أومر بذلك، وإنما أمرت بالهجرة. فخرج حتّى أتى النّجف، فلمّا رآه رجع أدراجه، فتباشروا برجوعه، وظنّوا أنه رغب فيما عندهم، فقال: لمن تلك الأرض؟

يعنى النّجف. قالوا: لنا. قال: فتبيعونيها؟ قالوا: هى لك، فو الله ما تنبت شيئا. فقال: لا أحبّ إلّا أن تكون شراء؛ فدفع إليهم غنيمات كنّ معه، والغنم بالنبطية يقال لها نقيا. وذكر إبراهيم عليه السلام أنّه يحشر من ولده من ذلك الظهر سبعون ألف شهيد. فاليهود تنقل موتاها إلى بانقيا، لمكان هذا الحديث.

ثم نزل إبراهيم القادسية، فغسل بها رأسه، ثم دعا لها أن يقدّسها الله، فسمّت القادسية؛ ثم أخذ فضل الماء، فصبّه يمنة ويسرة، فحيث انتهى ذلك الماء منتهى العمران؛ ثم ارتحل إلى البيت الحرام. قال: وزعم الكلبى أن القادسية سمّيت بالنّريمان الهروىّ، وكان من أهل قادس هراة، أنزله كسرى بها فى أربعة آلاف، مسلحة بينه وبين العرب، وقال له: لا ترى قادس هراة أبدا.

وروى أبو عبيد فى كتاب الأموال، عن عبّاد بن العوّام، عن حجّاج عن الحكم، عن عبد الله بن مغفل، أنّه قال: لا تشترين من أرض السواد إلّا من أهل الحيرة وأهل بانقيا وأهل ألّيس. يعنى أن أرض السواد افتتحت عنوة، إلّا أن أهل الحيرة كان خالد بن الوليد صالحهم فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه. وأمّا أهل بانقيا وألّيس فإنهم دلّوا أبا عبيد وجرير بن عبد الله على مخاضة، حتّى عبروا إلى فارس، فذلك كان صلحهم وأمانهم، وفيه أحاديث، وأبو عبيد هذا هو أبو المختار، وكان له هنالك مشاهد وآثار.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


4-التوقيف على مهمات التعاريف (الخواص)

الخواص: اسم جمع الخاصية بمعنى الأثر، يقال: ما خاصية ذلك الشيء؟ أي ما أثره الناشيء، ذكره السيد الشريف قال: وأما قول الأطباء هذا الدواء يعمل بالخاصية فقد عبروا بها عن السبب المجهول للأثر المعلوم.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


5-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (عبد)

(عبد) - في قِصَّة العَبَّاس بن مِرْدَاس، - رضي الله عنه - وشِعْرِه

أَتَجْعَل نَهْبِى ونَهْبِ العُبَيْـ

ـدِ بين عُيَيْنَةَ والأَقْرعِ

العُبَيْد: اسْمُ فَرَسِه.

- في الحديث: "ثلاثَةٌ أنا خَصْمُهم: رجل اعْتَبَد مُحَرَّرًا"

وفي رِوَاية: "أَعبَدَ مُحَرَّرًا"

: أي اتَّخذه عَبْدًا، وهو أن يُعتِقَه، ثم يكْتُمَه إيّاه، أو يَعْتَقِلَه بَعد العِتْق، فيَسْتَخْدِمَه كُرهًا. يقال: عَبَدْتُه وأَعْبَدْته: جَعلتُه عَبدًا، وتَعَّبْدته واستَعْبَدْتُه: صَيَّرتُه كالعَبْد، واعْتَبَدتُه وأَعْبَدْتُه: اتَّخذتُه عَبدًا، والقِياسُ أن يكون اعْتَبَده: اتَّخذَه عَبدًا، وأَعْبَده: جَعلَه عَبدًا. وأَعبدْتُه فلانًا: مَلّكْتُه إيَّاه.

- في كلام عَلِىّ، - رضي الله عنه -: "عَبِدْتُ فصَمَتُّ"

: أي أَنِفْت.

- في حَديثِ أَبِى هُرَيرة، - رضي الله عنه - "لا يَقُل أَحدُكم لممْلُوكِه عَبْدِى وأَمَتِى".

وَجْه الجَمْعَ بينَه وبين قَولِ الله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُم وإمَائِكم}

وَقولُه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا}

أنَّ الآيةَ على نِسْبَة غَير المَوالى إليهم، والحَدِيثُ على إضافة المالكين إياهم إلى أَنفسِهم وفي ذلك مَعنَى استِكْبَارِهم عليهم

- في حديث وَرَقة: "كان يَكْتُب بالعِبْرانِية"

قال الخَطّابي: هو مَأخوذٌ من العَرْبَانِيَّة، فقدموا الباء وأَخَّرُوا الرَّاء.

قال: وأَكْثَر العِبْرانية فيما يَقُولُه أَهلُ المعرفة بها مَقْلُوب عن لسان العَرَب بِتَقدِيمِ الحُروف وتأخيرها.

وقال غَيرُه: إنه من عُبُورهم المَاءَ. وقيل: أي عَبَرُوا من السُّرْيَانِيَّة إليها.

- في الحديث: "فعَبَروا النَّهْر"

بَلَغُوا عَبْرَه، وهو شَطُّه، وكذا مَعْبَره، والمِعْبَر - بالكسر - الآلَةُ. والعُبُور: المُرُور.

والعِبْرة: الاسْمُ، من الاعْتبار، وهو مَعرِفة الحَقَائِق بالدّلَالاتِ.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


6-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بدأ)

(بدأ): {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]

البَدِئ: البئرُ التي حُفِرَتْ في الإسلام حديثةً وليست بعادِيّة (العاديّ: القديم جدًّا كأنه منسوب إلى قوم عاد). بُدِئ الرجل - للمفعول: خَرَج به بَثْرٌ شِبْهُ الجُدَرِيّ، أو حُصِبَ. أبدأ الصبيُّ: خرجت أسنانه بعد سقوطها ".

° المعنى المحوري

هو: ظهور الشيء أو تكونه لأول مرة: كالبئر المستحدثة، وكذلك البَثْر الذي يظهر جديدًا على الجلد، وأسنان الصبي التي تخرج بعد سقوط الأولى هي الأسنان الدائمة، وكأن نباتها بدءٌ آخر؛ ولذا عبروا

بـ (أبدأ) دون (بدأ)، كان المعنى: صار صاحب بدء حقيقي للأسنان.

ومن الظهور أو التكون لأول مرة جاء معنيان للبدء: الأول: إنشاء الشيء أي إيجاده لأول مرة {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 11]، {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34]، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت: 19]، {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7]. وكل ما جاء في القرآن من التركيب هو من معنى الإيجاد هذا، ويستعمل فيه (بدأ) و (أبدأ) وذلك عدا ما أتى بالمعنى الآخر الآتي.

والآخر: هو كونُ الشيء أَوَّلَ فعل الفاعل في أَمْر ما {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76]، أو سبقُه آخرَ في أمر {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13]. وقوله تعالى {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] في [قر 14/ 313] "ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى: أي شيء. أي جاء الحق فأي شيء بقى للباطل حتى يعيده ويبدئه؟ أي فلم يبق له شيء. اهـ.

ومما في الأوّلية من معنى السبق والتقدم قالوا: "البَدْءُ: السيد/ السيد الأول في السيادة. والثُنْيانُ: الذي يليه في السؤدد ". وقولهما البَدْءُ: الشابّ المستجاد الرأي المستشار "تشبيه بالسيادة أو هو صورة منها.

ومن الجدّة التي في إنشاء الشيء لأول مرة جاء معنى العجب: "جاء بأمر بدئٍ أي عجيب. والبدئُ: الأمرُ البديع، وأبدأ الرجل: إذا جاء به "وهذا كقوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


7-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بيض)

(بيض): {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49]

"بيضة الطائر: معروفة. وبيضة الدار: وَسَطها. وبيضة القوم: ساحتهم.

(page)

أرض بيضاء: لا نبات فيها. بياض الجلد: ما لا شعر عليه، بياض الأرض: ما لا عِمارة فيه. وبيّضَ الإناءَ والسقاء - ض: ملأه."

° المعنى المحوري

هو: احتباسٌ في الباطن لما شأنه النفاذ إلى الظاهر فيكون الظاهر مجرّدا (ويلزم من تجرده لمعانه). كالبيضة في جوفها الفرخ مع تجرد ظاهرها، وكبيضة الدار مقصورة على أهلها، وكحبس ما يملأ الإناء فيه وما شأنه أن ينبت من الأرض والجلد مع تجرد ظاهرهن. ونُظر في "بياض الأرض "إلى تجرده.

ومن اللمعان اللازم للتجرد - مع الاعتداد بالتجرد نفسه أيضًا - أُخذ معنى البياض: اللون المعروف. ويؤيد صحة هذا الأخذ:

أ) أن السواد الذي هو ضد البياض مأخوذ من الكثافة (السَواد: الشخص. السواد: العدد الكثير من الناس، وعامتهم، وهم الجمهور الأعظم، وجماعة النخل والشجر).

ب) أنهم عبروا عن الجائحة بما معناه التجريد كما عبروا عنها بالبياض "القَرْعاء:

الشديدة من شدائد الدهر. أنزل الله به قَرْعاء وقارعة ومُقْرِعة، وأنزل الله به

بيضاء ومبيّضه وهي المصيبة التي لا تدع مالًا ولا غيره ". [تاج سود، قرع].

فمن البياض اللون {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107]. وكل ما في القرآن من التركيب هو من بياض اللون هذا - ما عدا كلمة (بَيْض) في التشبيه الآتي بعد. وفي {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] "إنما هو سواد الليل وبياض النهار "عنه - صلى الله عليه وسلم - [قر 2/ 319] أي بدء بياض النهار وهو الفجر. {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:

46] خمر الجنّة أشدّ بياضًا من اللبن [قر 15/ 78].

ومن التشبيه بالبيض في الصيانة والرقة قال تعالى عن الحور العين: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49].

أما قولهم: "باض الحر: اشتد "فهو من احتباس الهواء والحرارة. وقولهم: "باض بالمكان: أقام به "هو من الاحتباس في المكان - كما هو واضح.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


8-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بكك بكبك)

(بكك - بكبك): {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].

البَكْبَاك - بالفتح: القصير جدًّا إذا مشى تَدَحْرج من قِصَره. والبُكُك - بضمتين: الأحداث الأشداء. بَكَّهُ: زاحمه، وتباكّ القوم: تزاحموا. والبَكْبَكة: طرحُ بعض الشيء. وتباكّ: تراكم.

° المعنى المحوري

هو: ضغط يؤدي إلى تداخل جرم الشيء وانضغاطه بعضه في بعض (1): كما في المزاحمة، والقصيرُ يُتَوَهّم أنه مضغوط، كما عبروا عنه بالمتكاكئ.

ومن ذلك: "بَكَّ الرجلُ: خَشُن بدنُه شجاعةً " (هذا الاستعمال اللازم غريب، لكن يتأتى قبوله باعتبار أن الشجاع كالمصمت المدكوك ليس فيه خور)، وافتَقَر (انسحق بالشدة). ومنه: بَكّه: خَرَقَه (كأنه ضغطه بشدة حتى خرق جرمه)، وفلانًا: رَدَّ نخوته ووضَعَه (دَكَّه - كَبَسه)، وعنقَهُ: دقها. و "بكّة "يطلق هذا الاسم على مكة المكرمة، أو ما بين جَبَلَيْها، أو المَطاف، للزحام، أو لدق أعناق الجبابرة: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ}. وأرى أنه أطلق على ما بين جبليها حيث يبدو موضعُها وكأنه دُكَّ دَكًّا عن مستوى ما حوله، أو لمكانة زمزم منها؛ إذ نشأت بهَزْمَة (أي بَكّة) من جناح الملَك. والقصة معروفة.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


9-المعجم الاشتقاقي المؤصل (جدد جدجد)

(جدد - جدجد): {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3].

الجَدَدُ - محركة: الأرض الغليظة/ الصُلْبة/ ما استوى من الأرض وأصحر لا رمل فيه ولا جَبَل ولا أَكمَة. والجَدْجَدُ - بالفتح: الأرض الغليظة/ الصُلْبة المستوية. والجَدّ - بالفتح والكسر وكسبب وجميل: وجهُ الأرض. والجُدّة - بالضم: ساحل البحر وضِفّة النهر وشاطئه. ومفازة جدّاء: يابسه/ لا ماء بها.

° المعنى المحوري

عِظَم الجرم مع تماسكه مستويا ممتدًّا أو منبسطًا (1)

كالأرض المذكورة فهي مادة كثيفة متماسكة فيعظم جرمها، وهي ممتدة طولًا أو اتساعًا كشاطئ البحر والنهر، وكالأرض المستوية والمفازة المذكورة. والاستواء منصوص عليه في أكثر الاستعمالات.

ومن مادى ذلك "الجادّة: المَحَجَّة المسلوكة (امتداد طولي مع استواء) وكذلك الجُدّة - بالضم: الطريقة في الجبل. (وفي السماء) وجمعُها كزُمَر {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27].

ومن المتانة اللازمة للتماسك "الجِدّة - بالكسر: نقيض البِلى ""ثوب جديد ومِلْحَفَة جديدة ". ولارتباط المتانة بالحداثة استعمل الجديد في المحدَث {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر: 16]. وتأمل {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] , {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]

10]، {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7]، {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49]. يستبعدون التئام أجسامهم وتماسكَها وعَوْدَها صحيحة مَتينة بعد ارفتاتها. وكذا سائر ما في القرآن من كلمة (جديد).

ومن الامتداد في المعنى المحوري "الجد أبو الأب "لأنه أصل تمتد منه الفروع.

ومن العِظم المادي يأتى عظم القدْر "الجَدّ - بالفتح بمعنى الحظ في الدنيا/ الحظّ والغنى في الدنيا/ الحُظوة والرزق " [تاج] فهذا انبساط حال. ومنه يؤخذ أيضًا معنى جلال القَدْر الذي عبروا عنه بالعظَمة. "الجَدّ: العَظَمة ""إذا قرأ سورتي البقرة وآل عمران جدّ فينا "أي جلّ قدره وعظُم. أما قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3] فقد ذكر [طب التركي 23/ 312 - 317] في معنى (جد ربنا) أقوالًا:

أ) أمرُ ربنا أي تعالى أمره (= شأنه) عن أن يتخذ صاحبة أو ولدًا. ب) جلال ربنا وعظمته. ج) غِنَى ربنا (أي هو غني عن ذلك - أخذًا من أحد معاني الجدّ في اللغة وهو الغنى). د) الجدّ أبو الأب - على أن ذلك كان جهْلةً من كلام الجن أو كان من كلام جَهَلة الجن. هـ) ذكرُه عز وجل.

وأقول إن الصواب هو تفسير {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} بـ (تعالى جلالُه وعظمته) وهو التفسير رقم ب هنا. أولًا: لأن هذا يؤخذ مباشرة من معنى العِظم المادي مع الاتساع والانبساط الذي استعمل العرب لفظ (جدد) فيه: "الأرض الغليظة الصُلبة/ ما استوى من الأرض وأصحر " (الاتساع لازم للاستواء). وثانيًا: لأن

لهذا نظيرًا صحيحًا هو أخذ (الجلال) و (الجلالة) - كسحاب وسحابة: بمعنى عِظَم القدر من الجِلال - ككتاب وهو ثوب عظيم الاتساع يغطَّي به كالحَجَلة، وكذلك، الجِلّ - بالكسر من المتاع: البُسُط والأكسية. وثالثًا: لأن لفظ جَلّ يستعمل للتنزيه [ينظر تاج جلل] والآية هنا أيضًا للتنزيه عن اتخاذ الصاحبة والولد. وتفسير {جَدُّ رَبِّنَا} بـ (جلال ربنا) هو الذي انتهى إليه [قر 19/ 9] بعد ذكره أقوالا أخرى. أما تفسير {جَدُّ رَبِّنَا} بأمره وشأنه فهو قريب وليس كافيًا، وتفسيره بالغنى أقل قربًا، وبالذكر - لا يؤخذ من ألفاظ الآية، والتفسير رقم (د) ذُكر في [قر] أيضًا، وهو سهو، ونسبته إلى الجن تتطلب من ناسبيه إليهم توثيقا. وليس في القرآن من التركيب إلا (الجُدَد)، و (الجديد)، و (الجَدّ)

ومن استواء الظاهر يتأتى "الجَدّ بمعنى القطع "الذي يتمثل في تجريد الشيء مما تفرع منه فيبقى على استوائه وعدم تشعبه (ينظر تم، وجبّ هنا). فمن ذلك "الجَدَاد - كسحاب وكِتاب: صِرَام النخْل، وهو قطع ثمرها (كانوا يقطعون العُذوق المتدلية من أصلها) و "الجَدّاء: الشاة المقطوعة الأذنين " (فيبقى رأسها أجمَّ مستويًا لا تشعب فيه) ومِلحفة جديد وجديدة: حين جدّها الحائك (النسّاج) أي قطعها، وثوب جديد في معنى مجدود يراد به حين جدّه الحائك أي قطعه (كذا قالوا، وقد قلنا إنه من المتانة) وحَبْل جديد أي مقطوع ". فكأنهم توسعوا فاستعملوا التركيب في مطلق القطع. ومما يتأتى أن يؤخذ من الاستواء (أو من القطع اللازم له) مع الجفاف (اللازم للكثافة أو الصلابة) قولهم "امرأة جدّاء: قصيرة الثديين. حَلُوبة (شاة، ناقة، أتان) جدّاء: لا لبن لها، لآفة أيبست ضرعها، وسنة جَدّاء: مَحْلة ".

ومن هذا الاستواء والجفاف أيضًا جاء "الجِدّ - بالكسر: ضد الهزل ". لما فيه من عدم الرخاوة والتميع. يقال "جدّ في السير وفي الأمر ".

أما "الجُدْجُد - بالضم: بثرة تخرج في أصل الحدقة "فهي من الصلابة والشدة اللازمة للتماسك؛ لأنها زيادة في ذلك الموضع الحساس مع شدة وقعها خَشِنَةً جافة كالشوكة هناك، وكذلك "الجُدْجُد: صرّار الليل " (لحدة صوته وشدته مع تقطيعه)، وكذا "الجُدْجُد: الحرّ العظيم "لشدته أيضًا وعمومه. وانتشارُه امتداد وانبساط.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


10-المعجم الاشتقاقي المؤصل (جزأ)

(جزأ): {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة: 260].

الجُزْأة - بالضم: نِصاب السِكَين والإشْفَى والمِخْصَف والمِيثَرَة، وأصلُ مَغْرِز ذَنَب البعير.

° المعنى المحوري

طرف أو بعض من الشيء مقدَّر - يُقْبَض أو يحاط به. كالذي يحيط به أصل مغرز الذنب منه، وكالذي يحيط به النِصَاب من حديد السكين الخ. ومنه الجُزْء - بالضم والفتح: البَعْض/ النَصيب والقِطْعة من الشيء {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} [البقرة: 260] وقد تكون التجزئة باعتداد حكم لبعض الشيء دون سائره. {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15]

هو جعلهم الملائكة - وهم من عباده عز وجل - بناتِ الله. {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 44].

ومن الأصل قولهم طعامٌ لا جَزْء له - بالفتح: أي لا يُجْتَزأ بقليله " (الغذاء عصير يؤخذ من الطعام. فالمراد: لا يُتحصّل منه بما يكفي). ومنه "جَزأَتْ الإبلُ: اكتفَتْ بالرُطْب (العُشْب) عن الماء. والجوازئ: البقرُ والظباءُ التي جَزَأَتْ بالرُطب عن الماء " (ومن هذه كانوا يسمون البنت جازية أي جازئة - تشبيهًا بالظبية).

ومن قبض البعضية أُخِذ الإجزاء الذي عبروا عنه بالكفاية والغَنَاء "أجزأت عنك شاة: أي قَضَتْ. أجزأه: كفاه. ماله جَزْءٌ وإجزاءٌ أي كفاية "والتحرير أن تعبيرهم بالكفاية والغناء تسامح، لأنه لا يقال في الشيء إنه "يُجزئ "إلا إذا كان أقل من المعتاد أو الأمثل ولكنه يقبل.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


11-المعجم الاشتقاقي المؤصل (حور)

(حور): {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54]

الحَوْر -بالفتح: القعر، والعمق. والحَوْراء: الكَيّة. والمحارة: الصَدَفة أو نحوها من العَظْم، وباطِنُ الحنك، وجَوْف الأذن.

° المعنى المحوري

تجوف مع استدارة: كما هو واضح في القعر وأثر الكية إلخ. ومن التجوف يؤخذ الغئور نحو الجوف وهو من صور النقص. كما يؤخذ من الاستدارة الدَوْرُ والرُجوع إلى ما بُدئ منه. فمن الغئور والنقص "حارَ عامته: نَقَضَها. وحوّر الخبازُ الخَبُزَ بالمحور -ض: بَسَطه " (بعد أن كان كتلة كالكرة) "والحَوْر- بالفتح والضم: النُقْصان بعد الزيادة. وحارت الغُضَّة: انْحَدَرت في الجوف. واستُحِير الشرابُ -للمفعول: أُسِيغ. والمِحْور- بالكسر: الحديدة التي تدور عليها البكرة، وهنة يدور فيها لسان الإبزيم " (غائران في الباطن).

"وما أحار له جوابًا: مارَدّ (من جوفه -كالإجابة من الجوبة) والمحاورة المجاوبة من هذا: سمعت حِوارَهما وحَوِيرَهما. واستحارَه: استنقطه (استخرج ذلك من جوفه) {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1]، وكذا {يُحَاوِرُهُ} في [الكهف: 34، 37].

ومن الاستدارة وهي عَوْدٌ على بدء (تتبّعُ خط الدائرة يعيد إلى نقطة البداية) {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] (لن يرجع حيًّا أو لن يرجع إلينا).

وحُوار الناقة -كغراب: ولد الناقة من حين يولد إلى أن يفطم ويُفْصَل "". (من الْتفافه حول أُمّه تعلقًا بها. كما قالوا له بعد فطامه فصيل)."

وقد استعملت بعض مفردات التركيب بمعنى "البياض "وهو يتأتى من الانكشاف بعد الانتقاص من الظاهر -كما عبروا عن شديد البياض بالأقشر، ويتأتى البياض أيضًا من الخلاء المرتب على الغئور إلى الباطن (فقد عبروا عن الخالي بالأبيض، واستعملوا السواد في التجسم وانشغال الظاهر -ينظر سود، بيض) كما يتأتى (البياض) من لزوم الجوف (أي البيوت) بالنسبة لنساء المدن، أمما اللاتي يخرجن إلى المرعى في البادية فتُلَوّحُهُنّ الشمسُ. كما قال العرب لابنته. {فالزَمِي الخُصّ واخفِضِي تبيضِضِّي} [ل بيض]، والأعراب يسمون نساء الأمصار: الحَواريات "لبياضهن وتباعدهن عن قشف الأعراب بنظافهن. والأحورِىّ: الأبيض الناعم من أهل القرى، والحوراء: البيضاء لا يقصد بذلك حَوَر عينها "وجمعهن حُور {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] وكذا كل (حُور). وقالوا أيضًا في الحُور إنهن الشديداتُ بياضِ بياضِ العين أو هذا مع شدة سَواد السواد (وهذا يتضح أكثرَ بالعَيَن وهو اتساع العين) وقد ربطوا ذلك ببياض البَدَن أيضًا. وقد قال الأصمعي لا أدري ما الحَوَر في العين. وما جاء في [قر 16/ 153] أن الحَوَر أن تسود العين كلها "= لا وجه له.

و"الحُوَّارَى -كشُقارى: الدقيق الأبيض وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه (من القِشْر) (فهو باطن الحَبّ) والجَفْنة المحوَّرة التي يعلوها الشحم ". (لبياضه، وأنه من الجوف).

و"الحَواريون: صفوة الأنبياء الذين قد خَلَصوا لهم "يترجح لدى أنه من الاستدارة أي لقربهم منهم ومداخلتهم والالتفاف حولهم (ولا سند لزعم تعريبها) وتعريف بعض اللغوين إياهم "بخُلَصاء الأنبياء وصَفْوتهم "هو تعبير

آخر عن هذا إلا أنهم نظروا إلى خُلوص اللون أي نقائه في لُباب البُرّ [التهذيب 5/ 229] {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52] وكذا كل (الحواريون/ الحواريين). أما أنهم كانوا قَصَّارين يحوِّرون الثياب أي يبيضونها غَسلًا فلو صح لكانت ظاهرة لا تُغْفل. وإنما. أوردوا في الأناجيل الموجودة أنه كان منهم الصياد والصيرف والطبيب.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


12-المعجم الاشتقاقي المؤصل (دحح دحدح)

(دحح- دحدح): رجل دِحْدِح -بالفتح والكسر، ودَحْداح ودَحْدَاحة -بالفتح، وكتماضر، ودُحَيدِحَة: قَصيرٌ غليظ البطن/ سمين/ مستدير مُلَمْلَم. والدَحُّ: الضربُ بالكف منشورة أيَّ طوائف الجسد أصابَتْ. والدحُّ: الدفع وإلصاقُ الشيء بالأرض. دَحَّهُ: وضعه على الأرض ثم دَسَّه حتى لَزِقَ بها.

° المعنى المحوري

صدمٌ أو ضغطٌ بعرض على جرم الشيء حتى يتداخل بعضه في بعض ويَعْرُض مُلَمْلمَا دون أن يرتفع (1): كالدح بمعانيه المذكورة.

والقصير الغليظُ البطن كالمضغوط المُلَمْلَم، كما عبّروا عنه بـ "المتكأكئ ".

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


13-المعجم الاشتقاقي المؤصل (ورق)

(ورق): {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59]

وَرَقُ الكتب -محركة: معروف. ووَرَق (الشجر): كلّ ما تَبَسَّط تَبَسُّطًا وكان له عَيْرٌ (= عِرْق صُلب) في وسطه يَنْتَشِر عنه حاشيتاه. واحدهُ وَرَقة. والورَقُ كذلك أَدَمٌ رِقَاقٌ منها وَرَق المصحف أي صُحُفه. والوَرَاق -كسحاب: خُضْرة الأَرْض من الحشيش.

° المعنى المحوري

طبقات رقاق عِرَاض لطيفة (= ناعمة طرية) (تتولد وتكسو). كورق الشجر (ومنه ما نفي آية الرأس) وكالأَدَم، وكطبقة الخضرة من الحشيش. {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22، طه: 121].

ومن ذلك "الوَرَق من الدم -محركة: وهو الذي يَسْقط من الجراحة عَلَقًا قِطَعًا/ ما استدار مِنْه على الأرض (لتماسكه مع عِرَضه ورقته) (وشبهه ابن فارس بورق الشجر) وكذلك وَرَقُ القوم: أَحْدَاثهم " (رقة معنوية هي غضاضة الحداثة وصغر الحجم، والتولد عن قومهم)، و "هو طيب الوَرَق أي النَسَب " (التولد) ومن التشبيه بورق الشجر من حيث هو كسوة خضراء: "ما أحسن وَرَاقه -كسحاب، وأوراقه أي لِبْسَتَه وشارته ".

ومن معنوى ذلك "الوَرَقُ -محركة: المالُ من غَنَم وإبل وغيرها "-كما سُمِّىَ ريشًا {وَرِيشًا} [الأعراف: 26]. وفي [قر 7/ 184] هو ما كان من المال واللباس).

ومن ملحظ الرقة: "أوْرَقَ الحابل: لم يقع في حِبالته صَيْدٌ، والغازي: لم يغنم،

والطالبُ: لم ينل " (الرقة هنا تجرده وعدم علوقه شيئًا، ولعلهم عبروا بذلك تلطفًا بدلًا من التعبير بالخيبة). وفي نظرة أخرى قالوا "رجل وَرَق -محركة: خَسِيس ناقصُ القَدْر والخُلُق " (فنظروا لرقة السمك على أنها دقة قَدْر. كما قالوا فلان رقيق الدين).

وأما "الوَرِق -ككتف وبالفتح والكسر وكعدة: الدراهم المضروبة (من الفضة) فلأنها تكون بالسَكّ رِقَاقًا بعد أن كانت قبله سبائك مكعبة غليظة. وفيها لطف كونها عَيْنًا أي مالًا). {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19]. والوُرْقَهَ -بالضم في اللون "من ذلك لأنها لَوْنُ الفضة التي كانت تصنع منها الدراهم، إذ الوُرْقة بياض إلى سواد. وأيضًا فإن بين هذا اللون ولون ورق الشجر تناسبًا ما. وقد ذكروا في الجَمَل الأَوْرَق أنه أقل الجِمال شِدَّةً عل العمل وأطيبُها لحمًا. لكن الوُرْقة لم تختص بالإبل.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


14-المعجم الاشتقاقي المؤصل (صرف)

(صرف): {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 34]

الصريف: اللبن الذي يُنْصَرَفُ به عن الضَرْع حارًّا، والسَعَفُ اليابس. والصرف -بالكسر: الخالص من الشراب والخمر وكل شئ.

° المعنى المحوري

تحول مع حدة. كاللبن الذي يُنْصَرَف به (= يتحول به) عن الضَرع حارًّا، وكالسَعَف الذي يبس (تحول عن الخضرة إلى الجفاف)، وكالشراب الذي خَلُص (= تحول إلى حالة الصفاء) وهو حينئذ في أقوى حالاته.

ومنه "صَرَفَتْ ذاتُ الظِلْف والمِخْلَب صُروفًا: اشْتَهَت الفَحْل (تحول من حال العزوبة أو شبهها، وقد عبروا عن نحو هذا بقولهم حائل من التحول) والصِرْف -بالكسر: صبغ أحمر يُدْبَغ به الأديمُ وتُصْبَغ به شُرُك النعال (يحولّ

اللون)، والصِرْف والصَرَفَان: الرَصَاصُ القَلَعِيّ (جيّد السرعة في ذوبانه وجموده أي تحوله من حال إلى حال). وصرفت الصبيان: قَلَبتهم (حولتهم من الكُتّاب إلى منازلهم) وكذا صَرَفْتُ الرجلَ عني، وفُلانًا: رَدَدْته عن وجهه {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} [الأعراف: 146]: أي عن هداية آياتي " {ثُمَّ انْصَرَفُوا} [التوبة: 127]، عن المكان أو العمل بما سمعوا {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: تكملة 127]. أَضَلَّهم مجازاة. وكل (صَرَف) ومضارعها وأمرها والمبني للمفعول منها كلها بمعنى التحويل، والحرف الذي تُعدَّى به (إلى، عن) يوجه المعنى، وكذا الظرفان (تلقاء، أَنَّى). ومنه {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8] {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53] (مكانا يتحولون عنها إليه) {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} [البقرة: 164]. تحويلها من جهة إلى أخرى {كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} [الأنعام: 46] تصريف الآيات الإتيانُ بها من جهات: من إعذار وإنذار وترغيب وترهيب ونحو ذلك [قر 6/ 428]. ومنه "الصَرْف: بيع الذهب بالفضة (تحويل) والصَرْفُ: التقلب والحيلة. يقال هو يتصرف لعياله {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا} [الفرقان: 19]: صرف العذاب ولا نصر أنفسهم. وهو صَيْرَف وصَيْرفي: مُحْتال متصرف في الأمور مجرب لها. (كما قالوا حُوّل قُلّب). وصَرْف الدهر: حَدَثانه ونوائبه " (تحوِّل الأحوال).

أما صريف الأنياب والأقلام والبَكَرة فهو إما صوت تحولها وإما أن الكلمة حكاية صوت.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


15-المعجم الاشتقاقي المؤصل (ظنن)

(ظنن): {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]

"البئر الظَنون: القليلة الماء. مَظِنَّةُ الشيء: موضعه ومألفه الذي يُظن كونه

(page)

فيه، المَظِنّة والمِظَنة -بفتح الميم وكسر الظاء وبالعكس: بيت يظن فيه الشيء. المظانّ جمع مَظِنّة بكسر الظاء، وهي موضع الشيء ومَعْدِنُه مَفْعِلةٌ من الظن بمعنى العلم (1)."

° المعنى المحوري

توقع وجود شي مهم (في باطنٍ) لأمارة قوية على

ذلك (1). كالماء الذي في البئر الموصوفة فهو في باطنها، ولا يخرج إلا قليلًا قليلًا، وكالمَظِنّة لوجود الشيء أي موضعه ومعدنه الذي يوجد فيه عادة. (وينبغي أن يُسْتَحْضَر أن صَبَّ اللغويين وصف القلة على ماء البئر هو استنباط من كون الخارج منها قليلًا. ولكن هذا لا يقطع بكون كل ما في باطنها قليلًا، فقد يكون كثيرًا لكن هناك ما يحول دون اندفاعه منها. فالماء القليل الذي يخرج من البئر الظنون هو مجرد (أَمَارة على وجوده فيها). ومن هذا الأصل استعملت (ظن) في المعنى المشهور. وأَرْجَح عبارات اللغويين عنه هي عبارة الراغب. فعبارة المناوي: "الظن هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض " (2) وعبارة المحكم لابن سيده "الظن شك ويقين، إلا أنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبر "وعبارة الراغب "الظن: اسم لما يحصل من أمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضَعُفَت لم تجاوز حد الوهم "اهـ. المراد. والذي أقوله أن الظن اعتقاد قلبي (قائم على أمارات أو بحث ونظر) لكنه قد يتخلف (وهذا قريب من عبارة الراغب) - واحتمال التخلف ناشئ عن أنه يؤخذ من أمارات أو بحث، وهما عرضة للغلط. ويشهد لما أقوله (أ) بيت عميرة بن طارق [طب في تفسير البقرة 46].

بأن تغتزوا قومي وأقعدَ فيكمو... وأجعلَ مني الظنَّ غيبًا مُرَجمًا

فهو يرفض أن يَعُدّ ما ظنه (اعتقده) من أمارات دالة على أنهم يغزون قومه

= رَجْما بالغيب. فالظن عنده اعتقاد أخذه من أمارات كوّنته ورسّخته، فليس بوسعه أن يتجاهله ويظل مقيمًا بين الذين يغزون قومه.

(ب) بيت دريد الصمة [ل ظن]:

فقلت لهم ظُنُّوا بألفي مدجج... سَرَاتُهم في الفارِسيّ المُسَرَّد

فهو يقول لهم اعتقدوا ذلك وانتظروه.

ج) ثم بيت أوس بن حجر (البيضاوي عند تفسير البقرة 46).

فأرسلته مستيقِنَ الظنّ أنه... مخالطُ ما بين الشراسيف جائفُ

فهذا يتحدث عن سهم أو نحوه، وأنه أطلقه مستيقنًا أنه سيخالط ضلوع عدوّه وجوفه. والشاهد أنه جعل الظن مرحلة من الاعتقاد مغايرة لليقين، لكنها قد تبلغه -كما يقضي سياق البيت.

ثم أقول إن طبيعة هذا الاعتقاد -من حيث كونه حكمًا في النفس يقوم على أمارات أو بحث ونظر = تسمح بالتفاوت في درجة تركيزه. ومن هنا يتفق المستوى الأعلى منه مع مستوى علم اليقين الذي يقوم هو أيضًا على النظر أي البحث والبراهين العقلية. وعبّر الجوهريّ عن هذا بقوله: "وربما عبّروا بالظن عن اليقين، وباليقين عن الظن "وشاهد الأخير قول أبي سدرة الأسدي (ويقال: الهجيمي) (1).

نحسَّبَ هوّاسٌ وأيقن أنني... بها مُفْتَدٍ من واحد لا أغامره

(يقول إن هَوّاسا (الأسد) ظن أني أترك له ناقتي ليأكلها فداء لنفسي. وقد عبّر عن ظن الأسد بقوله (أيقن). بعد قوله تحسّبَ - بيانا لها.

ومما جاء في القرآن الكريم من الظن بمعناه المشهور وهو الاعتقاد المبني على أمارات قوية {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 2] {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس: 24]، {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22]، {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] رجَّح أن اللَّه لن يضيق عليه الأمر في هَجْره دائرة دعوته، لأن اللَّه تعالى يعلم كم عانى منهم وصابَرَهم، {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح: 12]، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5]، {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] إلخ. كل ذلك بمعنى الاعتقاد الذي تخلّف أي تبين -بعدُ- أنه غير صحيح. وهناك ظن بمعنى الاعتقاد الذي تبين -بعد- أنه صحيح كما في قوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} [يوسف: 42]. فقد نجا، وربما أيضًا {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24]. وهناك ما هو اعتقاد راجح لكنه أقرب إلى التعادل -مثل ما في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة: 230]. وعدم التحقق لا يعني ضرورة أنه كان توهمًا، إذ يمكن أن تكون الأمارات حقيقية وقوية، لكن يقع التخلف لأمور أخرى. أكاد أقول إن كل ما في القرآن الكريم هو من قبيل هذا الاعتقاد، باستثناء ما جاء منه في سياق الإزراء على الظن، فهذا يكون من الظنّ الذي يتخلف.

يتمثل إشكال هذا التركيب في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]، {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، وقوله تعالى على لسان المؤمن الذي أوتى كتابه بيمينه يوم القيامة {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] حيث إن المطلوب في الإيمان أن يكون الاعتقادُ في لقاء اللَّه عز وجل (= البعث والحساب)، وكذا الإيمان بتحقق وعِد اللَّه بنصر المؤمنين وإن كانوا قلة - أن يكون الاعتقاد بهذين وسائر ما هو من باب العقيدة التي يتطلبها قبول الإيمان = أن يكون عقيدة مستيقنة -لا ظنًّا (حسب الانطباع الخاطى أن الظن شك).

وهنا بدأت الاجتهادات. وأشهرها وأخصرها أيضًا أن (ظن) من الألفاظ التي يستعمل الواحد منها لمعنيين متضادين: فهي تستعمل بمعنى اليقين وبمعنى الشك حسب ما يقضي السياق. وأنا لا أسلم بأن في اللغة ألفاظًا يستعمل الواحد منها للمعنى وضده، لأن هذا خلاف الأصل، فاللغة وضعت للتوضيح والتحديد لا للإلباس، وما أوردوه من ألفاظ منسوبة لهذا النوع وشواهدها كلها لها مَشْرَع آخر.

فإذا تجاوزنا هذا الاتجاه وجدنا (أ) التابعي مجاهد بن جبر (104 هـ) يقول "كل ظن في القرآن فهو يقين ". وفي رواية فهو "علم ". وأقول أنا إن هذا التعميم مردود. تشهد لرده بعض الآيات التي ذكرناها، ويردّه نصًا قوله تعالى حكاية عن كلام للكفار، لكنه يعبر عن الشائع العامّ أن الظن يخالف اليقين {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] فنفوا أن يفسَّر ظنهم باليقين. وقوله تعالى ردًّا على الذين ادعوا أنهم قتلوا المسيح {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ

وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157]. (فهم قطعا لم يقتلوه، ولم يبحثوا عن اليقين في أمره، بل اتبعوا ظنهم، لأنه يوافق هواهم أن يُقْتَل). وقد قدّمنا قولة مجاهد هنا لنفرغ لغيره.

ب) وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في آية البقرة 46 {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}: "لأنهم لم يعاينوا، فكان ظنهم يقينًا، وليس ظنًّا في شك "، وقرأ {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] [طب شاكر 2/ 19]. وقد تبنى هذه المقولة [طب شاكر 16/ 309] في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110]، حيث قال: ".. مع أن الظن إنا استعمله العرب في موضع العلم في ما كان من عِلْم أُدْرِك من جهة الخبر أو من غير وَجْه المشاهدة والمعاينة. فأما ما كان من عِلْم أُدْرِك من وجه المشاهدة والمعاينة فإنها لا تستعمل فيه الظن. لا تكاد تقول: "أظنني حيًّا، وأظنني إنسانًا "بمعنى: أَعلَمُني إنسانًا، وأَعلَمُني حيًّا ". كما تبناها ابن عطية في المحرر الوجيز [قطر 1/ 278] وكذلك [قر 15/ 179] (وفي النص هنا لفظ [إلا] مقحم)، وأبو حيان [بحر 6/ 130] (وفي الكلام هنا خطآن مطبعيان)، كما تبناها ابن سيده. حيث قال في استعمال (ظن) لليقين: "إنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبُّر، فأما يقين العيان فلا يقال فيه إلا علم " [ل]. والحكم الذي استولده الطبري من عبارة ابن زيد، واتبعه الأئمة وهو أن "يقين العيان لا يعبَّر عنه إلا بالعلم "هو حكم يحتاج شيئًا من التحرير، فقد يكون الموقف يقين عيان، ولكن هناك ما يدعو إلى التعبير عنه بالظن، كأن يكون يقينًا مكروهًا فيُخَفَّف على النْفس باستعمال الظن تعلُّقًا بنسبة من الأمل حتى لو كانت غير حقيقية. كما في {وَرَأَى

الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]. وقوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171]، {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22]، {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة: 28] فالعيان فيهن واضح، ولكن المُعَرَّض لهلاك محقَّق يظل عنده نسبة من الأمل لآخر لحظة، مما يسوّغ استعمال الظن بدلًا من العلم.

أما صدر عبارة الطبري، وهو أن ما لم يُعايَن (لا يمكن أن) يُستعمل فيه العلم بمعناه الحقيقيّ التام اليقينية فإننا نسلّمه؛ إذ لا ينكر أحد أن ما يكون مصدره الخبر أو النظر والاستدلال فإن اليقين به لا يبلغ درجة العِيان والمباشرة، لكنه قد يُعَدُّ من درجات اليقين. وهذا معنى ما تبناه الطبري عن ابن زيد، وهو الذي تجرى عليه الأمور في الحياة، إذ يُبْنَى عُظْم ما فيها على الأخبار الموثوق بها والاستدلالات وما إليها. فهذا المستوى من اليقين مقبول ومعترف به عند بني الإنسان. وسيأتي ما يؤيد ذلك.

وبالعود إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] وأختيها نقول إن الظن فيهن يفسَّر بالاعتقاد الذي هو الدرجة العليا من الظن، وهي درجة يقين دون درجة العِيان. حسب ما أسلفت، وحسب ما يأتي. ويؤيد هذا الذي أقول ما سبق به الإمامُ البيضاويّ حيث قال في هذه الآية {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]: أي يتوقعون لقاء اللَّه تعالى ونَيْلَ ما عنده، أو يتيقنون أنهم يحشرون إلى اللَّه فيجازيهم. ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود (يعلمون)، وكان الظن لما أشبه العلمَ في الرجحان، أُطلق عليه؛ لتضمين معنى التوقع. قال أوس بن حجر:

فأرسلتُه مستيقِنَ الظنِّ أنه... مخالطُ ما بين الشراسيف جائفُ

انتهى ما قال البيضاوي. وليُلْحَظ استعماله التوقع، واتكاؤه في التأويل على تشبيه الظن بالعلم في الرجحان، وعودته إلى التوقع.

وأما عن قبول هذا المستوى في الإيمان. فعلينا أن نستحضر:

أ) أن اليقين بأمر ما = تتفاوت درجاته بين علم اليقين، وهو أدناها ويكون عن النظر والبرهان، وعين اليقين وهو أوسطها ويكون عن المعاينة، وحق اليقين وهو أعلاها. ويكون عن الانغمار والمخالطة (1).

ب) وأن الإيمان بالغيب هو شطر الإيمان {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 1 - 3] والغيب هو الخفي الذي لا يدركه الحِسّ ولا يقتضيه بديهة العقل. وهو قسمان: قسم لا دليل عليه، وهو المعنى بقوله تعالى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] وقسم نُصب عليه دليل كالصانع وصفاته والوم الآخر وأحواله، وهو المراد به في هذه الآية "اهـ من أنوار التنزيل. بل أقول إن التأمل في آية الغيب هذه وتفسيرها قد يجزم بأن الإيمان بالغيب هو محور هذا الدين -وليس الشطر فحسب. والذي نحن فيه في {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] وأختيها هو أمر غيب بكل جوانبه أعني اعتقاد لقاء اللَّه. فهي عقيدة في القلب في شيء مغيَّب غير معايَن.

ج) أن المعتمد أن الإيمان يزيد وينقص [ينظر صحيح البخاري باب زيادة الإيمان ونقصانه رقم 34]. ولا معنى لزيادته ونقصانه إلا درجة اليقين أي درجة الاعتقاد للأمر المغيب بين علم اليقين وعن اليقين وحق اليقين).

د) فمن رحمة اللَّه تعالى. وهو الأعلم بطبائع نفوسنا {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] أن يتقبل هذا المستوى من الإيمان. جاء في [كليات الكفوي 594] "وقد صرّحوا بأن الظن الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض يكفي في الإيمان "والحمد للَّه الذي لا تحصى نعمه.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


16-المعجم الاشتقاقي المؤصل (علم)

(علم): {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]

"العلامة والعَلَم -بالتحريك: شيء يُنْصَب في الفلوات تهتدي به الضالّة. يقال لما يُبْنَى في جوادّ الطريق من المنازل يُستدلّ بها على الطريق: أعلام، واحدها

عَلَم. المَعْلم: ما جُعل عَلَامة وعَلَمًا للطرق والحدود مثلُ أعلام الحرم ومعالمه المضروبة عليه. العَلَم: الجبل الطويل، والعَلَم: الراية التي يجتمع إليها الجند."

° المعنى المحوري

الدلالة والهداية -بمرتفع- إلى معنًى: اتجاه أو طريق أو حدّ أو غير ذلك. كما يدل العَلَم في الصحراء على الاتجاهات والطرق والمواقع (وكما يُتَّخَذ الجبل علمًا على مثل ذلك)، وأعلام الحرم كالأعمدة المنصوبة على حدوده أي هي تبين حدوده وهي كالعُمُد البالغة الغِلَظ راسخة ترتفع إلى نحو ثلاثة أمتار، وكما تدل الراية الجندَ على الموقع، والانتماء فيجتمعون عندها. ومنه "العَلَم: الفصل بين الأَرْضين " (فيه دلالة على أن هذه حدود ملك فلان مثلًا، والمعتاد أن يكون حجارة منصوبة ولكن ربما لا تكون بالغة الارتفاع).

ونُوَثِّقُ جزئيات معنى هذا التركيب، لأنه يؤخذ منه معنى العِلْم.

أ) فأما عن الارتفاع فهو ارتفاع تراكمي قوي المادة، فقد عبروا عن العَلَم بأنه (يُبنَى)، وأنه يُنْصَب أي يقام ويرفع. وفي الفلوات لم يكن يتأتى الرفع اللافت إِلَّا برَكْم حجارة كثيرة بعضها على بعض حتى ترتفع. جاء في [ل أرم] و "الإِرَم - كعنب: حجارة تُنْصَب عَلَمًا في المفازة..، الآرام الأعلام وهي حجارة تجمع وتنصب في المفازة يُهْتَدَي بها واحدها إرم كعنب.. وكان من عادة الجاهلية أنهم إذا وجدوا شيئًا في طريقهم ولا يمكنهم استصحابه تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا عادوا أخذوه "الإِرَم والأَرِم (أي كعنب وكَتف): الحجارة، والآرام: الأعلام " (ووضع العلامة على اللُقَطَة وظيفة أخرى من جنس الأولى ولكن الأُولى (الاهتداء للطرق والاتجاهات) هي المقصودة هنا وهي الأهم، والأخيرة متفرعة عنها).

ب) كون ذلك التراكم دالًّا أي لافتًا إلى معنى هو الذي يحقق الهدف من هذه الآرام أو الأعلام. فلا بد أنهم حرصوا على أن تكون لافتة بارتفاعها حتى تُرَى من بعيد ولا تخفى، وبهيأة إقامتها حتى لا يظن أنها من الأحجار التي تبدو عشوائية في الصحراء، كما لا بد أنهم كانوا يراعون مواقعها بالنسبة للطرق والاتجاهات بحيث يتضح أنها دالّة.

ج) كون ذلك التجمع التراكميّ مقصودًا به أن يكون ثابتًا ضروريٌّ أيضًا لأنه لا يتأتى افتراض أنهم يقصدون غير ذلك والحال أنها في وسط مجاهل الصحراء لا تتاح فرصة إقامتها كل حين.

د) كونه قويًّا واضحٌ في أنه من صخر وحجارة تتسق معًا حتى ترتفع.

ومما يدخل في معنى التراكم الدالّ من استعمالات (علم) "العَيْلَم: البئر الكثيرة الماء.. وقيل الواسعة، والعيلم البحر (فيها دلالة على عدم نفاد الماء) والعيلم التَارّ الناعم " (تجمُّع للشحم وهو حدّة وقد يستدل به على القوة أو التنعم) أما "العيلام: الضِبْعان وهو ذَكَر الضباع "فلعله لقوته أو ضخامة بدنه، و "العَلْماء: الدرع "لأن بدن الفارس يحشوها وهي تحيط به. و "العُلام - كرخام: الصقر " (قوي يصل إلى ما يصيده من الطيْر خطفًا من أعلاه).

ثم إنهم عمموا استعمال اللفظ في كل ما يَدُلّ على شيء ما "العَلَم: العلامة "أي على أي شيء "العلامة: السِمة. (وهي تدل على ملكية البعير) والعُلّام - كتفاح: الخِنّاء ". (تلفت إلى جمال الكفّ)، و "مَعْلم كل شيء مَظِنَّته (أي مكان وجوده)، واعتلم البرق: لمع في العَلَم (أي سطع على الجبل أو الإِرَم) والعَلَم: رسم الثوب، وعَلَمُه: رَقْمه في أطرافه ". ومثل هذا الأخير "العَلَمَة الشق في

الشفة العليا للجمل "فكل منهما مجرد أثر ظاهري.

ومن ذلك المعنى المحوري أخذ معنى العِلْم وهو "الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع " [تاج] فكونه اعتقادًا هو أنه مَعْنًى أو حكم تربّى في القلب أخذًا من دلالةٍ أو لافتٍ قوي أو حجة قوية، وكونه جازمًا يؤخذ من قوة اللافت، وكونه ثابتًا يؤخذ من ثبات اللافت واللَفْت، وكونه مطابقًا للواقع يرجع أيضًا إلى قوة اللفت ودقته.

والذي جاء في القرآن الكريم من التركيب هو:

أ) الأعلام: الجبال {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32]: الجبال.

ب) العلَم والعلامات {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] في قراءة للأعمش شاذة، {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، وصفًا للرَّوَاسِى في الآية السابقة لهذه.

ج) العِلْم الذي هو ضد الجهل، ويؤخذ من الأصل اتساع معنى العلم ليشمل أنواعًا. وقد جاء في [ل] "عَلِمْت بالشيء: شَعَرْت به. ويستعمل بمعنى المعرفة {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] وبمعنى ما يتكون في القلب من حكم على الشيء {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤءْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلمْتَنَا} [البقرة: 32] وقد سبق الفرق بين العلم والمعرفة في (عرف). وقول أبي حيان [1/ 466] "المعرفة العلم المتعلق بالمفردات ويسبقه الجهل بخلاف أصل العلم فإنه يتعلق بالنِسَب، وقد لا يسبقه الجهل، ولذلك لم يوصف اللَّه تعالى بالمعرفة، ووصف بالعلم "إضافة

جيدة {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]: أنك خِيرتُه من خَلقه، وأهل لإنزاله عليك لقيامك بكل حقوقه. أو بعلمه بما يحتاج إليه العباد [وانظر بحر 3/ 415].

ومنه "العالَم: الخَلْق كله أي أن معناه هو جميع المخلوقات. قالوا: ولا واحد للعالم من لفظه، لأن (عالمًا) جمعُ أشياء مختلفة. فإن جُعِل (عالمٌ) اسمًا لواحد منها صار جمعًا لأشياء متفقة. والجمع عالَمون ولا يجمع شيء على فاعَل بالواو والنون إِلَّا هذا [ل 315] {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قال ابن عباس: رب الجن والإنس. وقال قتادة: رب الخلق كلهم. قال الأزهري: الدليل على صحة قول ابن عباس قوله عزَّ وجلَّ {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]. وليس النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نذيرًا للبهائم ولا للملائكة وهم كلهم خلق اللَّه، وإنا بعث -صلى اللَّه عليه وسلم- نذيرًا للجن والإنس. {وَأنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47، 122، وكذا ما في الأعراف: 140، الجاثية: 16] في [بحر 1/ 364] أي عالَمِي زمانهم، أو على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. ويدفع هذا القولَ الأخير قوله تعالى لأمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]... قال القشيري: أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم، وأشهد المسلمين فضل نفسه هو سبحانه فقال {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] وشتان بين مَن مشهوده فضلُ ربه، ومن مشهوده فضل نفسه. فالأول يقتضي الثناء، والثاني يقتضي الإعجاب. اهـ. وأضيفُ أن اللَّه تعالى قال {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:

86] فإسماعيل -وهو جد النبي سيدنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وجدّ العرب- مفضل على العالمين وحفيده سيدنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أفضل الخلق على الإطلاق، وأمته قال اللَّه لها {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].

أما عن سر التسمية بلفظ عالَم فقد قال الزمخشري: "العالَم اسم لذوي العِلْم من الملائكة والثقلين (الجن والإنس)، وقيل (لكل) ما عُلِمَ به الخالق من الأجسام والأعراض "أي أن العلة هي أنهم من أهل العلم أو أن اللَّه عزَّ وجلَّ يُعْلَم بهم أي يُسْتَدَلّ بهم على أنه سبحانه وتعالى موجود قادر حكيم عليم.

وكل ما في القرآن من التركيب هو العِلْم والتعليم وما إليهما، ثم العالمين والأعلام والعلامات. وقوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] أولو العلم هنا تشمل الأنبياء والموفقين من العلماء باللَّه تعالى الذين تتجلى لهم حكمته في كل ما يجريه في ملكوته فيشهدون [وفي بحر 2/ 420] أن أولي العلم علماء المؤمنين، ومن كان من البشر عالمًا.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


17-المعجم الاشتقاقي المؤصل (فرح)

(فرح): {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]

الفَرْحانة -بضم أو بفتح: الكَمْأَة البيظء، ورجل مُفْرَح - كمكرم: فقير لا مال له.

° المعنى المحوري

خُلُوّ الجَوْف أو الحَوْزة بخروج الغليظ أو ذي القيمة منه أي نفاذه منه: كما تنفذ الكمأة من الأرض، إذ هي تنمو في باطنها (كالبطاطس) ثم شأنُها أن تخرج ولا بدّ، وكخلو الحوزة من المال وهو ذو قَدْر لنفعه العظيم.

ومن معنوي هذا جاء "الفَرَح: نقيض الحزن "، فهو لازم لذهاب الغلظ والثقل من النفس أو القلب فينشرح الصدر "قال ثعلب: هو أن يجد في قلبه خفة ": {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّه} [الروم: 4 - 5] (لذهاب ما ثقل على قلوبهم من انتصار الفرس)، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58].

والتخلص مما يُثقل ويُهمّ يخفف، وقد يؤدي إلى التجاوز بغيًا وطغيانًا أو ما هو إليه، ومن هنا جاء النهيُ عن نوع من الفرح وذمُّه: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]: لا تأشَر ولا تبطر (لا تبغ) إن اللَّه لا يحب البطرين (الباغين) [قر 13/ 213 - 214]. ومنه {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [غافر: 75] {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44]: بَطِروا وَأشروا وأُعْجبوا وظنوا أن ذلك لا يبيد [قر 6/ 426]. ولعل منه أيضًا {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36] (كأن المراد أنكم تعظّمون قدر المال

فتتجاوزون في تقدير أثره)، قال [قر 13/ 201] بعده: "لأنكم أهل مفاخرة ومكاثرة في الدنيا ". والذي جاء في القرآن من التركيب أصله الفرح: السرور وخفة النفس، ثم إذا كان سببه مشروعًا، والتُزِمَ في التعبر عنه والاستمتاع به أدبُ الشرع، فهو نِعمة طيبة يَحِل -بل يجب- السرور بها. وإن كان سببه غير مشروع فلا يحل السرور به، وإذا كان مشروعًا فإن التجاوز في التعبير عن الفرح بالبغي والطغيان أو الفساد حرام. وسياق كلٍّ في القرآن واضح.

وقد عبروا عن "الفقير الذي لا مال له بالمَفْروح "وهذا من المعنى الأصلي لأنه خالي الحوزة، ثم عبروا بالمفروح عن الذي أثقله الدين، والذي أثقله العيال وإن لم يكن مدينًا. وهذا كاللازم لمن لا مال له. ثم حاولوا جر هذا المعنى ليؤدي معنى الغَمّ فقالوا: "والمثقل بالحقوق مغموم مكروب إلى أن يخرج عنها "وذلك لتصبح اللفظة من الأضداد، لكنها ليست كذلك؛ لأن المثقل بالحقوق تعميم للمثقل بالديون، وكم من مثقل بهما لا يبالي، فالغم والكرب لهما أبواب أخرى، والعياذ باللَّهِ من الجميع.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


18-المعجم الاشتقاقي المؤصل (فلح)

(فلح): {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]

الفَلَح - محركة: شَقٌّ في الشَفَة السفلى، وفي رِجْله فُلوح أي شقوق. فَلَح الفَلَّاحُ الأرض: شَقَّها للحرث. وفلح شَفَته ورأسه: شَقّه ".

° المعنى المحوري

شق بجفاف أو جفاء في جِرْم ملتئم: كالشق في جِرْم الأرض وفي الشفة والرأس. ويلزمه إمكان النفاذ. ولما كانوا يعبرون عن الفوز والنجح بما يدل على النفاذ والفتح - كما قالوا "فازَ, وفَلَج على خصمه: ظَفِر وفَازَ، والفتح: النصر، والفَتَاحة النُصْرة، واستفتح اللهَ على فلان: سأله النصر عليه "فهنا أيضا قالوا أفلح (أي فاز عَبرَ أمرًا شديدًا). {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] الفلاح: الفوز والظفر بإدارك البغية، أو البقاءُ [بحر 1/ 168]. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] كأنما عَبَروا إلى حيث انفتح

وانفسح أمامهم الوجه فَنَجَوْا وفازوا. "وإنما قيل لأهل الجنة مفلحون لفوزهم ببقاء الأبد " [ل]. ويلحظ ذكر [بحر، ل] (البقاء) معنًى للفلاح، وهو ثابت نقلًا [ينظر ل] ويؤخذ اشتقاقيا من النفاذ، كأنه إفلات. لكن تفسير الفلاح المذكور في القرآن بالبقاء غير مناسب {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] وكل ما في القرآن من التركيب فهو من الفلاح بمعنى الفوز.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


19-المعجم الاشتقاقي المؤصل (قطط قطقط)

(قطط - قطقط): {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16]

القَطّاط - كشَدّاد: الخَرّاط الذي يَعْمَل الحُقَق. والقِطَاط - ككتاب: المِثَال الذي يَحْذُو عليه الحَاذِي، وحَرْفُ الجبلِ والصخرة، ومَدَار حافرِ الدابة - قَطّ الحُقَّةَ ونحوَها: قَطَعَها على حَذْوٍ مَسْبُور. وقَطّ القَصَبَة على عَظْم، وقَطّ القَلَم. والقِطْقِط - بالكَسْر: المَطَرُ الصغيرُ الذي كأنه شَذْر، وقيل صِغَارُ البَرَد. وكان علي (كرم الله وجهه) إذا اعترض قط أي قطع عرْضًا.

° المعنى المحوري

قطع الامتداد (الغليط) بتحديد وتدقيق واستدارة أو تسوية وتمام (1): كخرط الخشب للحُقَق، والقَطْع على المثال، ومَدَار حافر الدابة،

وقَطّ القصبة والقلم وكلها قطع عن الامتداد أو الانتشار، وكلها القطع فيه مُحَدَّدٌ مُسَوَّى. وحرف الجبل والصخرة منظور فيهما إلى الانتهاء عند الحرف كأنما قُطِعا عنده وتَمّا. والقِطْقِطُ دقيق مستدير. ومنه "الشَعَرُ القَطَط - محركة: الجَعْدُ القصير " (القصر انقطاع والجعودة استدارة) ومنه كذلك "الرجل الأَقَطّ: الذي انسحقت أسنانه حتى ظهرت درادرها " (الأسنان تمتد من الدرادر). ومنه مَثَل: "امتلأ الحوض وقال قَطْني (كفاني امتلأتُ فانْتهِ) وكذا قَطَاطِ - مبنية كقطام: بمعنى حسبي وقطني ". وإذا امتلأ الحوض استوى ما فيه بأعلاه.

ومما في الأصل من قطع الامتداد "قَطَّ السِعْرُ يقِط - بالكسر: غَلا " (كأن المعنى طَفَر وقَفَز. والقَفْز لا يبرز فيه التدرج بل هو طَفْر مسافات من باب القطع، والغلاء المتدرج لا يُشعَر به) وأما "ما رأيت مثله قط "وهو ما عبروا عنه بالأبد الماضي فهو من القطع أي قطعًا (كما يقال بتا - وبتاتا) أو فيما مضى وانقضى من عمري ".

ومنه "القِطّ: السِنَّوْر "سمي بذلك لصغر جسمه بين الحيوانات المألوفة كأنه قطعة.

ومن الأصل "القِطّ - بالكسر: النصيب (الحظ المقطوع له)، والصَكُّ بالجائزة والرزق يأمر بها الأمير لشخص فتخرج له مكتوبة في رقعة. فهي من

الأصل إما لأنها تحمل حظًّا ورزقًا محددًا لصاحبها، أو لأنها في رقعة أي قطعة من الجلد أو الورق [ل] وقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} فُسِّرت بنصيبهم من العذاب أو الجنة، أو الرزق، وبما يكفيهم، وبكُتُب حسابهم [قر 15/ 157] وكل جائز لغويًّا. لكن الأول أرجح كما قالوا {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


20-المعجم الاشتقاقي المؤصل (قلب)

(قلب): {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174]

قُلْب النخلة - مثلثة: لُبّها وشَحْمتها...، وقلوب الشجر: ما رَخُص من أجوافها وعروقِها التي تَقُودها. وقَلْب كل شيء: لُبّه وخالصه ومَحْضُه. والمِقْلَب - كمنجل: الحديدة التي تقلب بها الأرض للزراعة.

° المعنى المحوري

باطنُ الشيء ولُبُّه: كالقلوب المذكورة، وقَلْبُ الأرض إخراجٌ لباطنها. ومن ذلك: "القَلْب: المضغة المعروفة "؛ لأنها أهم ما في الباطن وأقواه. والأصل يسمح بإطلاقها على القوة الباطنة: العقل: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] عقل/ تفهم وتدبر. ولعل كل ما في القرآن الكريم من كلمة (قلب) وجمعها متعلَّق الكلام فيها هو ما أسنده القرآن إلى القلب من (وظائف) الفقه والتدبر والإيمان وضده وما إلى ذلك عدا آيتي [الأحزاب: 10] وكذا {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [غافر: 18]. فالمقصود فيهما المضغة عينها حتى لو كان الكلام تصويرًا للرعب الذي يكاد يقتل. ومن قلب النخلة والإنسان ونحوهما، وهو اللب، قيل "قَلْبُ كل شيء: لبه وخالصه ومحضه. وكان علي - رضي الله عنه - قرشيًا قَلْبًا أي محض النسب خالصًا من صميم قريش ". ومن مادّي الأصل: "القليب: البئر لم تُطْوَ (موضع أُخْرِج باطنُه بالحفر)، والقَلَب - محركة: انقلاب في الشفة العليا واسترخاء فيبدو باطن الشفة (قَلْبها). وقَلَبْت الخُبزَ: نَضِجَ ظاهره فحوّلْته لينضَج باطنه، وكذلك

قَلَب الثوبَ والشئَ, وَتَقَلَّبَ الحيةُ (كل هذا لإظهار الجانب الباطن أو الخفي كأنه باطن - بذلك التقليب) {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] - كناية عن الندم والحسرة. ومن تكثير ذلك مع كونه معنويًّا {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. ثم عبروا به عن مجرد التغيير الكثير. ومنه "تقليب الأمور: بحثُها والنظر في عواقبها (ووجوهها المختلفة بقلبها على هذا الوجه ثم ذلك، ليُرَى كيف تكون {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} [التوبة: 48] صَرّفوها وأجالوا الرأي في إبطال ما جئت به " [قر 8/ 157]. ومن تكثير ذلك مع كونه معنويًّا {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].

ومنه دَلّ على تغيير الأحوال إلى عكس ما كانت (أي تقليبها). وكل الفعل (قلّب) ض ومضارعه، وكذا مضارع (تَقَلّب)، وكذا المصدر (تقلُّب)، وصيغة (مُتَقَلَّب) هو من التقلب الحسيّ أو المجازي.

ومن التغيير بإخراج الباطن إلى الظاهر أي عكس الحال عبروا بالتركيب عن الرجوع إذ هو عكس الذهاب {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت: 21]، {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ} [المطففين: 31]: رجعوا {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} [آل عمران: 144] يرتدّ عن الإسلام {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174] رجعوا ظافرين بها. وقالوا: "قَلَبَ المعلم الصبيان: صَرَفَهم ورَجَعَهم إلى منازلهم ". وكذا كل (انقلب) وما تصرف منها فهي في القرآن بمعنى الرجوع هذا حقيقة أو مجازًا. ومن ذلك التقَلُّبِ "قَلَبَتْ البسرةُ (قاصر): احْمَرَّت، وشاة قَالبُ لون: جاءت على غير لون أمها " (فذلك التغير عكس

للوضع الذي كان ينبغي أي انقلاب ذلك الوضع).

أما "القُلْب - بالضم: سوار المرأة إذا كان قَلْدًا واحدًا " (القَلْد - بالفتح: السِوار سِلْكًا من فِضّه) فمن الأصل إما لأن اليد تخترق جوفه وقَلْبَه، أو من الفَتْل وهو لَيّ وقَلْبٌ كما سبق. وكذا "القالَب - بفتح اللام وكسرها: الشيء الذي تُفْرَغ فيه الجواهرُ ليكون مِثالًا لما يصاغ منها " (فهي توضع في جوفه كقلبه) وكذا "قالَب الخف ونحوه "يكون كالقلب للخف. وواضح أن زعم تعريب القالب لا وجه له.

وأخيرًا فالقِلِّيب - كسِكّير، وسَفُّود، وشَكُّور: الذئب " (يمانية) من الأصل مما اشتهر به من الحِيل للإيقاع بفريسته. والحيَلُ تَقَلّب.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


21-المعجم الاشتقاقي المؤصل (لمح)

(لمح): {وَمَا أَمْرُنَا إلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]

مَلامح الإنسان: ما يُلمَح من ظاهر وجهه محاسنُه ومساويه. ولمَحَ البرقُ والنجمُ كلمع: بدا لمن يَلمح.

° المعنى المحوري

لُمَعٌ سطحية لطيفة تنتشر على ظاهر الشيء وتميّزه: كلمْح البرق، والملامح لَوَافتُ في الشيء كالنتوء والغئور وضخم الأنف والحواجب ولون البشرة ونِسَب القَسَمات. والنِسبُ بين معالم الوجه بعضِها إلى بعض تميزُ إنسانًا حتى وإن ظهرت مشابهُ لها في غيره. ومنه "لَمَحَ إليه وألمح: اختلس النظر، واللَمْحة: النظرة بالعَجَلة / بنظر خفيف " (لَقطة خفيفة لشيء يعرِض في مجال الرؤية -كما يلفت الإنسانُ حدقتَه دون وجهه نحو أحَد ثم يرُدُّها بسرعة، وكما يوجّه بصرَه عابرًا نحو شيء ثم يَصرفه. وهذا ما يفهم من الحديث الوارد أنه - صلى الله عليه وسلم - "كان يَلمح ولا يَلتفت ". ويصدُق اللمحُ أيضًا بالرؤية العابرة لشخص أو شيء يظهر ثم يختفي في أقل زمن. وورد من هذا "أَلْمحَتْ المرأةُ من وجهها: إذا أَمْكنتْ من أن تُلمَح تفعل ذلك تُرِى محاسنَها. ثم تُخفيها ". وعن الأول عبَّروا باختلاس النظر. {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 77 وكذا ما في القمر: 50] قال الفراء: كخَطْفة بالبصر [ل].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


22-المعجم الاشتقاقي المؤصل (هجد)

(هجد): {وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى} [الإسراء: 79]

"قال لبيد يصف رفيقًا له في السفر غلبه النعاس:

ومَجُودٍ من صُبَابات الكَرَى... عَاطِفِ النُمْرق صَدْقِ المُبتَذَل

قلت هَجِّدْنا فقد طال السُرَى... وقَدَرْنا إن خَنَا الدَهر غَفَل

كأنه قال: نَومنا (أي دَعْنا نَنَم) فإن السُرَى طال حتى غَلَبنا النوم اهـ ويقال: ""أَهجَدَ البعيرُ: إذا وضع جِرانه على الأرض (جرانه: مقدم عنقه من مذبحه إلى مَنْحَره يَمُدُّهُ على الأرض استنادًا وتمكنًا أثناء القيام أو البروك بسبب تَعَبه). قال الأزهري: والمعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم، وأن المتهجد هو القائم إلى الصلاة من النوم ""اهـ."

° المعنى المحوري

التركيب يعبر عن النوم وهو تمدد مع همود وسكون (بعد تعب وإرهاق) -كما يشهد له طلب النوم بعد الكَلَل من السُرَى في البيت الثاني)، وكمَدّ العنق مع الاعتماد عليه -والاعتماد ضغط وشدة- أو مع ملحظ أن هذا لا يكون إلا بسبب التعب والإعياء وهو شدة سلبية.

أما تعبير (تهجد) عن القيام من النوم لأجل الصلاة، فهو من ذلك، لكن

بأثر الصيغة. فالحقيقة أن معنى (تهَجّد): قاوم الهجود وعَالجَه -كما يقال مَرَّضَه بمعنى عالج وقاوَم مَرَضه بالأدوية ومساعدةِ المريض لا بمعنى سَلب وأزال المرض -كما عبروا. فليس هناك سَلْب ولا إزالة للمرض.

وقد ورد في [ل] عن الصحاح وفي [تاج]: هَجَد بمعنى نام، وبمعنى قام للصلاة. فأما الأولى فنعم، وأما الثانية فهي متكلَّفة من تجريد تهَجّدَ. وكأن المقصود أنها يمكن أن تأتي من تَهجّد.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


23-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (البوذية-الأديان الشرقية)

البوذية

التعريف:

هي فلسفة وضعية انتحلت الصبغة الدينية، وقد ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية الهندوسية في القرن الخامس قبل الميلاد. وكانت في البداية تناهض الهندوسية وتتجه إلى العناية بالإنسان، كما أن فيها دعوة إلى التصوف والخشونة ونبذ الترف والمناداة بالمحبة والتسامح وفعل الخير. وبعد موت مؤسسها تحولت إلى معتقدات باطلة، ذات طابع وثني، ولقد غالى أتباعها في مؤسسها حتى ألَّهوه.

وهي تعتبر نظامًا أخلاقيًا ومذهبًا فكريًا مبنيًا على نظريات فلسفية، وتعاليمها ليست وحيًا، وإنما هي آراء وعقائد في إطار ديني. وتختلف البوذية القديمة عن البوذية الجديدة في أن الأولى صبغته أخلاقية، في حين أن البوذية الجديدة هي تعاليم بوذا مختلطة بآراء فلسفية وقياسات عقلية عن الكون والحياة.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

أسسها سدهارتا جوتاما الملقب ببوذا 560 – 480 ق.م وبوذا تعني العالم ويلقب أيضًا بسكيا موني ومعناه المعتكف. وقد نشأ بوذا في بلدة على حدود نيبال، وكان أميرًا فشبَّ مترفًا في النعيم وتزوج في التاسعة عشرة من عمره ولما بلغ السادسة والعشرين هجر زوجته منصرفًا إلى الزهد والتقشُّف والخشونة في المعيشة والتأمل في الكون ورياضة النفس وعزم على أن يعمل على تخليص الإنسان من آلامه التي منبعها الشهوات ثم دعا إلى تبني وجهة نظره حيث تبعه أناس كثيرون.

اجتمع أتباع بوذا بعد وفاته في مؤتمر كبير في قرية راجاجراها عام 483 ق.م لإزالة الخلاف بين أتباع المذهب ولتدوين تعاليم بوذا خشية ضياع أصولها وعهدوا بذلك إلى ثلاثة رهبان هم:

1- كاشيابا وقد اهتم بالمسائل العقلية.

2- أويالي وقد اهتم بقواعد تطهير النفس.

3- أناندا وقد دون جميع الأمثال والمحاورات.

الأفكار والمعتقدات:

يعتقد البوذيون أن بوذا هو ابن الله، وهو المخلّص للبشرية من مآسيها وآلامها وأنه يتحمل عنهم جميع خطاياهم.

يعتقدون أن تجسد بوذا قد تم بواسطة حلول روح القدس على العذراء مايا.

ويقولون إنه قد دل على ولادة بوذا نجم ظهر في أفق السماء ويدعونه نجم بوذا.

ويقولون أيضًا إنه لما ولد بوذا فرحت جنود السماء ورتلت الملائكة أناشيد المحبة للمولود المبارك.

وقد قالوا: لقد عرف الحكماء بوذا وأدركوا أسرار لاهوته. ولم يمض يوم واحد على ولادته حتى حيَّاهُ الناس، وقد قال بوذا لأمه وهو طفل إنه أعظم الناس جميعًا.

وقالوا: دخل بوذا مرة أحد الهياكل فسجدت له الأصنام. وقد حاول الشيطان إغواءه فلم يفلح.

ويعتقد البوذيون أن هيئة بوذا قد تغيَّرت في أخر أيامه، وقد نزل عليه نور أحاط برأسه. وأضاء من جسده نور عظيم فقال الذين رأوه: ما هذا بشرًا إن هو إلا إله عظيم.

يصلي البوذيون لبوذا ويعتقدون أنه سيدخلهم الجنة. والصلاة عندهم تؤدى في اجتماعات يحضرها عدد كبر من الأتباع.

لما مات بوذا قال أتباعه: صعد إلى السماء بجسده بعد أن أكمل مهمته على الأرض.

يؤمنون برجعة بوذا ثانية إلى الأرض ليعيد السلام والبركة إليها.

يعتقدون أن بوذا هو الكائن العظيم الواحد الأزلي وهو عندهم ذاتٌ من نور غير طبيعية، وأنه سيحاسب الأموات على أعمالهم.

يعتقدون أن بوذا ترك فرائض ملزمة للبشر إلى يوم القيامة، ويقولون إن بوذا أسس مملكة دينية على الأرض.

قال بعض الباحثين إن بوذا أنكر الألوهية والنفس الإنسانية وأنه كان يقول بالتناسخ.

الجانب الأخلاقي في الديانة البوذية:

في تعاليم بوذا دعوة إلى المحبة والتسامح والتعامل بالحسنى والتصدق على الفقراء وترك الغنى والترف وحمل النفس على التقشف والخشونة وفيها تحذير من النساء والمال وترغيب في البعد عن الزواج.

يجب على البوذيِّ التقيد بثمانية أمور حتى يتمكن من الانتصار على نفسه وشهواته:

1- الاتجاه الصحيح المستقيم الخالي من سلطان الشهوة واللذة وذلك عند الإقدام على أي عمل.

2- التفكير الصحيح المستقيم الذي لا يتأثر بالأهواء.

3- الإشراق الصحيح المستقيم.

4- الاعتقاد المستقيم الذي يصحبه ارتياح واطمئنان إلى ما يقوم به.

5- مطابقة اللسان لما في القلب.

6- مطابقة السلوك للقلب واللسان.

7- الحياة الصحيحة التي يكون قوامها هجر اللذات.

8- الجهد الصحيح المتجه نحو استقامة الحياة على العلم والحق وترك الملاذ.

في تعاليم بوذا أن الرذائل ترجع إلى أصول ثلاثة:

1- الاستسلام للملاذ والشهوات.

2- سوء النية في طلب الأشياء.

3- الغباء وعدم إدراك الأمور على وجهها الصحيح.

من وصايا بوذا: لا تقض على حياة حي، لا تسرق ولا تغتصب، لا تكذب، لا تتناول مسكرًا، لا تزن، لا تأكل طعامًا نضج في غير أوانه، لا ترقص ولا تحضر مرقصًا ولا حفل غناء، لا تتخذ طبيبًا، لا تقتن فراشًا وثيرًا، لا تأخذ ذهبًا ولا فضة.

ينقسم البوذيون إلى قسمين:

1- البوذيون المتدينون: وهؤلاء يأخذون بكل تعاليم بوذا وتوصياته.

2- البوذيون المدنيون: هؤلاء يقتصرون على بعض التعاليم والوصايا فقط.

الناس في نظر بوذا سواسية لا فضل لأحد إلا بالمعرفة والسيطرة على الشهوات.

وقد احتفظت البوذية ببعض صورها الأولى في منطقة جنوب آسيا وخاصة في سيلان وبورما، أما في الشمال وعلى الأخص في الصين واليابان فقد ازدادت تعقيدًا وانقسمت إلى مذهبين هما:

1- مذهب ماهايانا (مذهب الشمال) ويدعو إلى تأليه بوذا وعبادته وترسُّم خطاه.

2- مذهب هنايانا (مذهب الجنوب) وقد حافظ على تعاليم بوذا، ويعتبر أتباع هذا المذهب أن بوذا هو المعلم الأخلاقي العظيم الذي بلغ أعلى درجة من الصفاء الروحي.

وقد عبروا عن بلوغ النفس الكمال الأسمى والسعادة القصوى وانطلاقها من أسر المادة وانعتاقها من ضرورة التناسخ بالينرفانا وتعني الخلاص من أسر المعاناة والرغبة، واكتساب صفاء الدين والروح، والتحرر من أسر العبودية واللذة، وانبثاق نور المعرفة عن طريق تعذيب النفس ومقاومة النزعات، مع بذل الجهد والتأمل والتركيز الفكري والروحي، وهو هدف البوذية الأسمى.

علاقتهم بالمسلمين الآن لا تحمل طابع العداء العنيف ويمكن أن يكونوا مجالًا خصبًا للدّعوة الإسلامية.

كتب البوذية: كتبهم ليست منزلة ولا هم يدّعون ذلك بل هي عباراتٌ منسوبة إلى بوذا أو حكاية لأفعاله سجلها بعض أتباعه، ونصوص تلك الكتب تختلف بسبب انقسام البوذيين، فبوذيو الشمال اشتملت كتبهم على أوهام كثيرة تتعلق ببوذا أما كتب الجنوب فهي أبعد قليلًا عن الخرافات.

تنقسم كتبهم إلى ثلاثة أقسام:

1- مجموعة قوانين البوذية ومسالكها.

2- مجموعة الخطب التي ألقاها بوذا.

3- الكتاب الذي يحوي أصل المذهب والفكرة التي نبع منها.

وتعتمد جميع كتبهم على الآراء الفلسفية ومخاطبة الخيال وتختلف في الصين عنها في الهند لأنها تخضع لتغيرات الفلاسفة.

شعار البوذية عبارة عن قوس نصف دائري وفي وسطه قائم ثالث على رأسه ما يشبه الوردة وأمام هذا التمثال صورة مجسمة لجرة الماء وبجوارها فيل يتربع عليه بوذا في لباسه التقليدي.

الجذور الفكرية والعقائدية:

ليس هناك ما يثبت أن للبوذية جذورًا فكرية أو عقائدية إلا أن الناظر في الديانات الوضعية التي سبقتها أو عاصرتها يجد بينها وبين البوذية شبهًا من بعض الجوانب مثل:

الهندوسية: في القول بالتناسخ والاتجاه نحو التصوف.

الكونفوشيوسية: في الاتجاه إلى الاعتناء بالإنسان وتخليصه من آلامه.

ينبغي أن يلاحظ التشابه الكبير بينها وبين النصرانية وبخاصة فيما يتعلق بظروف ولادة المسيح وحياته والظروف التي مرّ بها بوذا مما يؤكد تأثر النصرانية بها في كثير من معتقدات هذه الأخيرة.

الانتشار ومواقع النفوذ:

الديانة البوذية منتشرة بين عدد كبير من الشعوب الآسيوية حيث يدين بها أكثر من ستمائة مليون نسمة، ولهم معبد ضخم في كاتمندو بالنيبال، وهو عبارة عن مبنى دائري الشكل وتتوسطه قبة كبيرة وعالية وبها رسم لعينين مفتوحتين وجزء من الوجه، ويبلغ قطر المبنى 40 مترًا، أما الارتفاع فيزيد عن خمسة أدوار مقارنة بالمباني ذات الأدوار، والبوذية مذهبان كما تقدم:

المذهب الشمالي: وكتبه المقدسة مدونة باللغة السنسكريتية، وهو سائد في الصين واليابان والتبت ونيبال وسومطره.

المذهب الجنوبي: وكتبه المقدسة مدونة باللغة البالية، وهو سائد في بورما وسيلان وسيام.

ويمكن تقسيم انتشار البوذية إلى خمس مراحل:

1- من مطلع البوذية حتى القرن الأول الميلادي وقد دفع الملك آسوكا البوذية خارج حدود الهند وسيلان.

2- من القرن الأول حتى القرن الخامس الميلادي وفيها أخذت البوذية في الانتشار نحو الشرق إلى البنغال ونحو الجنوب الشرقي إلى كمبوديا وفيتنام ونحو الشمال الغربي إلى كشمير وفي القرن الثالث اتخذت طريقها إلى الصين وأواسط آسيا ومن الصين إلى كوريا.

3- من القرن السادس حتى القرن العاشر الميلادي وفيه انتشرت في اليابان ونيبال والتبت وتعد من أزهى مراحل انتشار البوذية.

4- من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر وفيها ضعفت البوذية واختفى كثير من آثارها لعودة النشاط الهندوسي وظهور الإسلام في الهند فاتجهت البوذية إلى لاوس ومنغوليا وبورما وسيام.

5- من القرن السادس عشر حتى الآن وفيه تواجه البوذية الفكر الغربي بعد انتشار الاستعمار الأوروبي وقد اصطدمت البوذية في هذه الفترة بالمسيحية ثم بالشيوعية بعد أن صار الحكم في أيدي الحكومات الشيوعية.

ويتضح مما سبق:

أن البوذية فلسفة وضعية انتحلت الصبغة الدينية وقد ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية، وقامت على أساس أن بوذا هو ابن الله ومخلص البشرية من مآسيها، وقد قال لأمه وهو طفل إنه أعظم الناس جميعًا، ولما مات بوذا قال أتباعه: إنه صعد إلى السماء بجسده بعد أن أكمل مهمته على الأرض وإنه سيرجع ثانية إلى الأرض ليعيد السلام والبركة إليها، ويقول البعض: إن بوذا أنكر الألوهية والنفس الإنسانية وأنه كان يقول بالتناسخ، وتعتمد جميع كتب البوذيين على الآراء الفلسفية ومخاطبة الخيال وتختلف البوذية في الصين عنها في الهند بحسب نظرة الفلاسفة.

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


24-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الرأسمالية-من الفلسفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية)

الرأسمالية

التعريف:

الرأسمالية نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية، يقوم على أساس إشباع حاجات الإنسان الضرورية والكمالية، وتنمية الملكية الفردية والمحافظة عليها، متوسعًا في مفهوم الحرية، معتمدًا على سياسة فصل الدين نهائيًا عن الحياة. ولقد ذاق العلم بسببه ويلات كثيرة نتيجة إصراره على كون المنفعة واللذة هما أقصى ما يمكن تحقيقه من السعادة للإنسان. وما تزال الرأسمالية تمارس ضغوطها وتدخلها السياسي والاجتماعي والثقافي وترمي بثقلها على مختلف شعوب الأرض.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

كانت أوروبا محكومة بنظام الإمبراطورية الرومانية التي ورثها النظام الإقطاعي Feudal System.

لقد ظهرت ما بين القرن الرابع عشر والسادس عشر الطبقة البرجوازية Bourgeois تالية لمرحلة الإقطاع ومتداخلة معها.

تلت مرحلة البرجوازية مرحلة الرأسمالية وذلك منذ بداية القرن السادس عشر ولكن بشكل متدرج.

فقد ظهرت أولًا الدعوة إلى الحرية Liberation وكذلك الدعوة إلى إنشاء القوميات اللادينية.

ظهر المذهب الحر (الطبيعي) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في فرنسا حيث ظهر الطبيعيون Phisiocrates Les ومن أشهر دعاة هذا المذهب:

- فرنسوا كنزني Francois Quensnay 1694 – 1778م ولد في فرساي بفرنسا، وعمل طبيبًا في بلاط لويس الخامس عشر، لكنه اهتم بالاقتصاد وأسس المذهب الطبيعي، فلقد نشر في سنة 1756م مقالين عن الفلاحين وعن الجنوب، ثم أصدر في سنة 1758م الجدول الاقتصادي Tableau Economique

- جول لوك Jonn Locke 1632 – 1704م صاغ النظرية الطبيعية الحرة حيث يقول عن الملكية الفردية: "وهذه الملكية حق من حقوق الطبيعة وغريزة تنشأ مع نشأة الإنسان، فليس لأحد أن يعارض هذه الغريزة".

- ومن ممثلي هذا الاتجاه أيضًا تورجو Turgot وميرابو Mirabour وجان باتست ساي J.B. Say وباستيا.

ظهر بعد ذلك المذهب الكلاسيكي الذي تبلورت أفكاره على أيدي عدد من المفكرين من أبرزهم:

آدم سميث A. Smith 1723 – 1790م وهو أشهر الكلاسيكيين على الإطلاق، ولد في مدينة كيركالدي في اسكوتلنده، ودرس الفلسفة، وكان أستاذًا لعلم المنطق في جامعة جلاسجو. سافر إلى فرنسا سنة 1766م والتقى هناك بأصحاب المذهب الحر. وفي سنة 1776م أصدر كتاب بحث في طبيعة وأ

- دافيد ريكاردو David ricardo 1772 – 1823م قام بشرح قوانين توزيع الدخل في الاقتصاد الرأسمالي، وله النظرية المعروفة باسم قانون تناقص الغلة ويقال بأنه كان ذا اتجاه فلسفي ممتزج بالدوافع الأخلاقية لقوله: "إن أي عمل يعتبر منافيًا للأخلاق ما لم يصدر عن شعور بال

- جون استيوارت مل J. Stuart Mill 1806 – 1873م يعدُّ حلقة اتصال بين المذهب الفردي والمذهب الاشتراكي فقد نشر سنة 1836م كتابه مبادىء الاقتصاد السياسي.

- اللورد كينز Keyns 1883 – 1946م صاحب النظرية التي عرفت باسمه التي تدور حول البطالة والتشغيل وقد تجاوزت غيرها من النظريات إذ يرجع إليه الفضل في تحقيق التشغيل الكامل للقوة العاملة في المجتمع الرأسمالي. وقد ذكر نظريته هذه ضمن كتابه النظرية العامة في التشغيل

- دافيد هيوم 1711 – 1776م صاحب نظرية النفعية Pragmatism التي وضعها بشكل متكامل والتي تقول بأن "الملكية الخاصة تقليد اتبعه الناس وينبغي عليهم أن يتبعوه لأن في ذلك منفعتهم".

- أدمون برك من المدافعين عن الملكية الخاصة على أساس النظرية التاريخية أو نظرية تقادم الملكية.

الأفكار والمعتقدات:

أسس الرأسمالية:

البحث عن الربح بشتى الطرق والأساليب إلا ما تمنعه الدولة لضرر عام كالمخدرات مثلًا.

- تقديس الملكية الفردية وذلك بفتح الطريق لأن يستغل كل إنسان قدراته في زيادة ثروته وحمايتها وعدم الاعتداء عليها وتوفير القوانين اللازمة لنموها واطرادها وعدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية إلا بالقدر الذي يتطلبه النظام العام وتوطيد الأمن.

- المنافسة والمزاحمة في الأسواق Perfect Competition.

- نظام حرية الأسعار Price System وإطلاق هذه الحرية وفق متطلبات العرض والطلب، واعتماد قانون السعر المنخفض في سبيل ترويج البضاعة وبيعها.

أشكال رأسمالية:

- الرأسمالية التجارية التي ظهرت في القرن السادس عشر إثر إزالة الإقطاع، إذ أخذ التاجر يقوم بنقل المنتجات من مكان إلى آخر حسب طلب السوق فكان بذلك وسيطًا بين المنتج والمستهلك.

- الرأسمالية الصناعية التي ساعد على ظهورها تقدم الصناعة وظهور الآلة البخارية التي اخترعها جيمس وات سنة 1770م والمغزل الآلي سنة 1785م مما أدى إلى قيام الثورة الصناعية في إنجلترا أولًا وفي أوروبا عامة إبان القرن التاسع عشر. وهذه الرأسمالية الصناعية تقوم على

- نظام الكارتل Cartel System الذي يعني اتفاق الشركات الكبيرة على اقتسام السوق العالمية فيما بينها مما يعطيها فرصة احتكار هذه الأسواق وابتزاز الأهالي بحرية تامة. وقد انتشر هذا المذهب في ألمانيا واليابان.

- نظام الترست Trust System والذي يعني تكون شركة من الشركات المتنافسة لتكون أقدر في الإنتاج وأقوى في التحكم والسيطرة على السوق.

أفكار معتقدات أخرى:

إن المذهب الطبيعي الذي هو أساس الرأسمالية إنما يدعو إلى أمور منها:

- الحياة الاقتصادية تخضع لنظام طبيعي ليس من وضع أحد حيث يحقق بهذه الصفة نموًا للحياة وتقدمًا تلقائيًا لها.

- أنه يدعو إلى عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وأن تقصر مهمتها على حماية الأفراد والأموال والمحافظة على الأمن والدفاع عن البلاد.

- الحرية الاقتصادية لكل فرد حيث إن له الحق في ممارسة واختيار العمل الذي يلائمه وقد عبروا عن ذلك بالمبدأ المشهور: "دعه يعمل دعه يمر" Laser Faire, Laisser Passer.

- أن إيمان الرأسمالية بالحرية الواسعة أدى إلى فوضى في الاعتقاد وفي السلوك مما تولدت عنه هذه الصراعات الغريبة التي تجتاح العالم معبرة عن الضياع الفكري والخواء الروحي.

- أن انخفاض الأجور وشدة الطلب على الأيدي العاملة دفع الأسرة لأن يعمل كل أفرادها مما أدى إلى تفكك عرى الأسرة وانحلال الروابط الاجتماعية فيما بينها.

- من أهم آراء آدم سميث أن نمو الحياة الاقتصادية وتقدمها وازدهارها إنما يتوقف على الحرية الاقتصادية، وتتمثل هذه الحرية في نظره بما يلي: -

- الحرية الفردية التي تتيح للإنسان حرية اختيار عمله الذي يتفق مع استعداداته ويحقق له الدخل المطلوب.

- يرى الرأسماليون بأن الحرية Liberation ضرورية للفرد من أجل تحقيق التوافق بينه وبين المجتمع، ولأنها قوة دافعة للإنتاج، لكونها حقًا إنسانيًا يعبر عن الكرامة البشرية.

عيوب الرأسمالية:

- الرأسمالية نظام وضعي يقف على قدم المساواة مع الشيوعية وغيرها من النظم التي وضعها البشر بعيدًا عن منهج الله الذي ارتضاه لعباده ولخلقه من بني الإنسان، ومن عيوبها:

- الأنانية: حيث يتحكم فرد أو أفراد قلائل بالأسواق تحقيقًا لمصالحهم الذاتية دون تقدير لحاجة المجتمع أو احترام للمصلحة العامة.

- الاحتكار: إذ يقوم الشخص الرأسمالي باحتكار البضائع وتخزينها حتى إذا ما فقدت من الأسواق نزل بها ليبيعها بسعر مضاعف يبتز به المستهلكين الضعفاء.

- لقد تطرفت الرأسمالية في تضخيم شأن الملكية الفردية كما تطرفت الشيوعية في الغاء هذه الملكية.

- المزاحمة والمنافسة: إن بنية الرأسمالية تجعل الحياة ميدان سباق مسعور إذ يتنافس الجميع في سبيل إحراز الغلبة، وتتحول الحياة عندها إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، وكثيرًا ما يؤدي ذلك إلى إفلاس المصانع والشركات بين عشية وضحاها.

- إبتزاز الأيدي العاملة: ذلك أن الرأسمالية تجعل الأيدي العاملة سلعة خاضعة لمفهومي العرض والطلب مما يجعل العامل معرضًا في كل لحظة لأن يُستبدَل به غيره ممن يأخذ أجرًا أقل أو يؤدي عملًا أكثر أو خدمة أفضل.

- البطالة: وهي ظاهرة مألوفة في المجتمع الرأسمالي، وتكون شديدة البروز إذا كان الإنتاج أكثر من الاستهلاك مما يدفع بصاحب العمل إلى الاستغناء عن الزيادة في هذه الأيدي التي تثقل كاهله.

- الحياة المحمومة: وذلك نتيجة للصراع القائم بين طبقتين إحداهما مبتزة يهمها جمع المال من كل السبل وأخرى محروقة تبحث عن المقومات الأساسية لحياتها، دون أن يشملها شيء من التراحم والتعاطف المتبادل.

- الاستعمار: ذلك أن الرأسمالية بدافع البحث عن المواد الأولية، وبدافع البحث عن أسواق جديدة لتسويق المنتجات تدخل في غمار استعمار الشعوب والأمم استعمارًا اقتصاديًّا أولًا وفكريًّا وسياسيًّا وثقافيًّا ثانيًا، وذلك فضلًا عن استرقاق الشعوب وتسخير الأيدي العاملة

- الحروب والتدمير: فلقد شهدت البشرية ألوانًا عجيبة من القتل والتدمير وذلك نتيجة طبيعية للاستعمار الذي أنزل بأمم الأرض أفظع الأهوال وأشرسها.

- الرأسماليون يعتمدون على مبدأ الديمقراطية في السياسة والحكم، وكثيرًا ما تجنح الديمقراطية مع الأهواء بعيدة عن الحق والعدل والصواب، وكثيرًا ما تستخدم لصالح طائفة الرأسماليين أو من يسمون أيضًا (أصحاب المكانة العالية).

- إن النظام الرأسمالي يقوم على أساس ربوي، ومعروف أن الربا هو جوهر العلل التي يعاني منها العالم أجمع.

- إن الرأسمالية تنظر إلى الإنسان على أنه كائن مادي وتتعامل معه بعيدًا عن ميوله الروحية والأخلاقية، داعية إلى الفصل بين الاقتصاد وبين الأخلاق.

- تعمد الرأسمالية إلى حرق البضائع الفائضة، أو تقذفها في البحر خوفًا من أن تتدنى الأسعار لكثرة العرض، وبينما هي تقدم على هذا الأمر تكون كثير من الشعوب أشدَ معاناة وشكوى من المجاعات التي تجتاحها.

- يقوم الرأسماليون بإنتاج المواد الكمالية ويقيمون الدعايات الهائلة لها دونما التفات إلى الحاجات الأساسية للمجتمع ذلك إنهم يفتشون عن الربح والمكسب أولًا وأخرًا.

- يقوم الرأسمالي في أحيان كثيرة بطرد العامل عندما يكبر دون حفظ لشيخوخته إلا أن أمرًا كهذا أخذت تخف حدته في الآونة الأخيرة بسبب الإصلاحات التي طرأت على الرأسمالية والقوانين والتشريعات التي سنتها الأمم لتنظيم العلاقة بين صاحب رأس المال والعامل.

الإصلاحات التي طرأت على الرأسمالية:

- كانت إنجلترا حتى سنة 1875م من أكبر البلاد الرأسمالية تقدمًا. ولكن في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ظهرت كل من الولايات المتحدة وألمانيا، وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت اليابان.

- في عام 1932م باشرت الدولة تدخلها بشكل أكبر في انجلترا، وفي الولايات المتحدة زاد تدخل الدولة إبتداء من سنة 1933م، وفي ألمانيا بدءً من العهد الهتلري وذلك لأجل المحافظة على استمرارية النظام الرأسمالي.

- لقد تمثل تدخل الدولة في المواصلات والتعليم ورعاية حقوق المواطنين وسن القوانين ذات الصبغة الاجتماعية، كالضمان الاجتماعي والشيخوخة والبطالة والعجز والرعاية الصحية وتحسين الخدمات ورفع مستوى المعيشة.

- لقد توجهت الرأسمالية هذا التوجه الإصلاحي الجزئي بسبب ظهور العمال كقوة انتخابية في البلدان الديمقراطية وبسبب لجان حقوق الإنسان، ولوقف المد الشيوعي الذي يتظاهر بنصرة العمال ويدعي الدفاع عن حقوقهم ومكتسباتهم.

الجذور الفكرية والعقائدية:

تقوم جذور الرأسمالية على شيء من فلسفة الرومان القديمة، يظهر ذلك في رغبتها في امتلاك القوة وبسط النفوذ والسيطرة.

لقد تطورت متنقلة من الإقطاع إلى البرجوازية إلى الرأسمالية وخلال ذلك اكتسبت أفكارًا ومبادىء مختلفة تصب في تيار التوجه نحو تعزيز الملكية الفردية والدعوة إلى الحرية.

قامت في الأصل على أفكار المذهب الحر والمذهب الكلاسيكي.

أن الرأسمالية تناهض الدين متمردة على سلطان الكنيسة أولًا وعلى كل قانون أخلاقي أخيرًا.

لا يهم الرأسمالية من القوانين الأخلاقية إلا ما يحقق لها المنفعة ولا سيما الاقتصادية منها على وجه الخصوص.

كان للأفكار والآراء التي تولدت نتيجة للثورة الصناعية في أوروبا دور بارز في تحديد ملامح الرأسمالية.

تدعو الرأسمالية إلى الحرية وتتبنى الدفاع عنها، لكن الحرية السياسية تحولت إلى حرية أخلاقية واجتماعية، ثم تحولت هذه بدورها إلى إباحية.

الانتشار ومواقع النفوذ:

ازدهرت الرأسمالية في إنجلترا وفرنسا وألمانيا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية وفي معظم العالم الغربي.

كثير من دول العالم تعيش في جو من التبعية إما للنظام الشيوعي وإما للنظام الرأسمالي، وتتفاوت هذه التبعية بين التدخل المباشر وبين الاعتماد عليهما في الشؤون السياسية والمواقف الدولية.

وقف النظام الرأسمالي مثله كمثل النظام الشيوعي إلى جانب إسرائيل دعمًا وتأييدًا بشكل مباشر أو غير مباشر.

ويتضح مما سبق:

أن الرأسمالية مذهب مادي جشع يغفل القيم الروحية في التعامل مع المال مما يزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرًا. وتعمل أمريكا الآن باعتبارها زعيمة هذا المذهب على ترقيع الرأسمالية في دول العالم الثالث بعد أن انكشفت عوارها ببعض الأفكار الاشتراكية، محافظة على مواقعها الاقتصادية، وكي تبقى سوقًا للغرب الرأسمالي وعميلًا له في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع. وما يراه البعض من أن الإسلام يقترب في نظامه الاقتصادي من الرأسمالية خطأ واضح يتجاهل عددًا من الاعتبارات:

أن الإسلام نظام رباني يشمل أفضل ما في الأديان والمذاهب من إيجابيات ويسلم ممَّا فيها من سلبيات إذ أنه شريعة الفطرة تحلل ما يصلحها وتحرم ما يفسدها.

أن الإسلام وجد وطبق قبل ظهور النظم الرأسمالية والاشتراكية، وهو نظام قائم بذاته، والرأسمالية تنادي بإبعاد الدين عن الحياة، وهو أمر مخالف لفطرة الإنسان، كما تزن أقدار الناس بما يملكون من مال، والناس في الإسلام يتفاضلون بالتقوى.

ترى الرأسمالية أن الخمر والمخدرات تلبي حاجات بعض أفراد المجتمع، وكذلك الأمر بالنسبة لخدمات راقصة البالية، وممثلة المسرح، وأندية العراة، ومن ثم تسمح بها دون اعتبار لما تسببه من فساد، وهي أمور لا يقرها الضمير الإسلامي. وفي سبيل تنمية رأس المال تسلك كل الط

النواحي الاقتصادية في الإسلام مقيدة بالشرع وما أباحه أو حرمه ولا يصح أن نعتبر الأشياء نافعة لمجرد وجود من يرغب في شرائها بصرف النظر عن حقيقتها واستعمالها من حيث الضرر أو النفع.

القول بأن الندرة النسبية هي أصل المشكلة الاقتصادية قول مخالف للواقع فالمولى سبحانه وتعالى خلق الكون والإنسان والحياة وقدر الأقوات بما يفي بحياة البشرية، وقدّر الأرزاق وأمر بالتكافل بين الغني والفقير.

أدى النظام الرأسمالي إلى مساوىء وويلات، وأفرز ما يعانيه العالم من استعمار ومناطق نفوذ وغزو اقتصادي ووضع معظم ثروات العالم في أيدي الاحتكارات الرأسمالية وديون تراكمية.

مراجع للتوسع:

- أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة، تأليف أبي الأعلى المودودي- ترجمة محمد عاصم حداد – ط3 – 1391هـ/1971م مطبعة الأمان – لبنان.

- المذاهب الاقتصادية الكبرى، تأليف جورج سول – ترجمة راشد البراوي.

- الأنظم الاقتصادية في العالم، د. أحمد شلبي – ط1 – النهضة المصرية – 1976م

- معركة الإسلامية والرأسمالية، سيد قطب – ط2 – مطبعة دار الكتاب العربي – 1371هـ/1952م.

- الاقتصاد في الإسلام، حمزة الجميعي الدهومي – ط1 – مطبعة التقدم بالقاهرة – 1399هـ/1978م.

- الاقتصاد الإسلامي، مفاهيم ومرتكزات، د. محمد أحمد صقر – ط1 – مطابع سجل العرب – نشر دار النهضة العربية بالقاهرة – 1398هـ/ 1978م.

- اقتصادنا، محمد باقر الصدر – دار الكتاب اللبناني – دار الكتاب المصري – 1398هـ/1977م.

- فلسفتنا، محمد باقر الصدر – دار التعارف للمطبوعات – بيروت – لبنان – 1379هـ.

- الاقتصاد الإسلامي، المركز العالمي للأبحاث والاقتصاد – ط1- 1400هـ/1980م.

- حركات ومذاهب في ميزان الإسلام، فتحي يكن – مؤسسة الرسالة – ط2- 1397هـ/1977م.

- حكم الإسلام في الرأسمالية، د. محمود الخالدي.

المراجع الأجنبية:

- D. Villey: A La recherche d’une Doctrine Economiques, Ed.; Genen, Paris, 1967.

- J. Marchal: “ Cours D’economie politique” paris 1956.

- J.J. Kenes, General Theory of Employment, Interst and Money (Harcourt, Brace and Company. 1933).

- George N. Halm, Economic: A Comparative Analysis, Hotlt, rinchart And Winston Ltd. New York.

- Gunnar Myrdal, Against The Stream, Published by Pantheon press, Cambridge University Press 1972.

- Lord Bowdan and S.T.S Al- Hasani “The profit and the loss or a fair share of the proceeds. The Guradian, Thursday. June 5 – 1975.

- Abdul – Hamid Ahmad Abu Sulayman: The Theory of the Economics of Islam, Proceedings of the Third East Coast regional Conference. Theme contermporary Aspects of Economic and social Thinking in Islam, Moslem Students Association, Holiday Hills, April 12,

- Adam Smith, The Wealth of Nations.

- Encyclopaedia Britannica, Vol 2, P. 535, 1976.

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


25-معجم البلدان (طل)

طَلّ:

بالفتح، وهو المطر الصغير، كذا عبّروا عنه:

وهو قرية من قرى غزّة بفلسطين.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


26-معجم البلدان (العبر)

العِبْرُ:

بكسر أوله، وسكون ثانيه ثم راء، وهو في الأصل جانب النهر، وفلان في ذلك العبر أي في ذلك الجانب، قال الأعشى:

«وما رائج زوّجته الجنو *** ب يروي الزّروع ويعلو الدبارا»

«يكبّ السفين لأذقانه، *** ويصرع للعبر أثلا وزارا»

الدبار: المشارات، والزّأر: الشجر والأجم، والعبر: شاطئ النهر، وقال الشاعر:

«فما الفرات إذا جاشت غواربه *** ترمي أواذيّه العبرين بالزّبد»

«يظلّ من خوفه الملّاح معتصما *** بالخيزرانة، بعد الأين والنّجد»

«يوما بأجود منه سيب نافلة، *** ولا يحول عطاء اليوم دون غد»

قال هشام الكلبي: ما أخذ على غربيّ الفرات إلى بريّة العرب يسمّى العبر، وإليه ينسب العبريّون من اليهود لأنهم لم يكونوا عبروا الفرات حينئذ، وقال محمد بن جرير: إنما نطق إبراهيم، عليه السّلام، بالعبرانية حين عبر النهر فارّا من النمرود، وقد كان النمرود قال للذين أرسلهم خلفه: إذا وجدتم فتى يتكلم بالسريانية فردّوه، فلما أدركوه استنطقوه فحوّل الله لسانه عبرانيّا وذلك حين عبر النهر فسمّيت العبرانية لذلك، وكان النمرود ببابل، وقال هشام في كتاب عربه: لما أمر إبراهيم بالهجرة قال: إني مهاجر إلى ربي، أنطقه بلسان لم يكن قبله، وسمّي العبرانيّ من أجل أنه عبر إلى طاعة الله فكان إبراهيم عبرانيّا، قال هشام: وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: أول من تكلم بالعبرانية موسى، عليه السّلام، وبنو إسرائيل حين عبروا البحر وأغرق الله فرعون تكلموا بالعبرانية فسموا العبرانيين لعبورهم البحر، وقيل: إن بخت نصّر لما سبى بني إسرائيل وعبر بهم الفرات قيل لبني إسرائيل العبرانيون ولسانهم العبرانية، والله أعلم، والعبر: جبل، قال يزيد ابن الطّثرية:

«ألا طرقت ليلى فأحزن ذكرها، *** وكم قد طوانا ذكر ليلى فأحزنا»

«ومن دونها من قلّة العبر مخرم *** يشبّهه الرائي حصانا موطّنا»

«وهل كنت إلا معمدا قاده الهوى *** أسرّ فلما قاده السرّ أعلنا»

«أعيب الفتى أهوى وأطرى حوازنا *** يريني لها فضلا عليهنّ بيّنا»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


27-معجم البلدان (الكوفة)

الكُوفَةُ:

بالضم: المصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق ويسمّيها قوم خدّ العذراء، قال أبو بكر محمد ابن القاسم: سميت الكوفة لاستدارتها أخذا من قول العرب: رأيت كوفانا وكوفانا، بضم الكاف وفتحها، للرميلة المستديرة، وقيل: سميت الكوفة كوفة لاجتماع الناس بها من قولهم: قد تكوّف الرمل، وطول الكوفة تسع وستون درجة ونصف، وعرضها إحدى وثلاثون درجة وثلثان، وهي في الإقليم الثالث، يتكوّف تكوّفا إذا ركب بعضه بعضا، ويقال: أخذت الكوفة من الكوفان، يقال: هم في

كوفان أي في بلاء وشر، وقيل: سميت كوفة لأنها قطعة من البلاد، من قول العرب: قد أعطيت فلانا كيفة أي قطعة، ويقال: كفت أكيف كيفا إذا قطعت، فالكوفة قطعة من هذا انقلبت الياء فيها واوا لسكونها وانضمام ما قبلها، وقال قطرب:

يقال القوم في كوفان أي في أمر يجمعهم، قال أبو القاسم: قد ذهبت جماعة إلى أنها سميت كوفة بموضعها من الأرض وذلك أن كل رملة يخالطها حصباء تسمى كوفة، وقال آخرون: سميت كوفة لأن جبل ساتيدما يحيط بها كالكفاف عليها، وقال ابن الكلبي:

سميت بجبل صغير في وسطها كان يقال له كوفان وعليه اختطت مهرة موضعها وكان هذا الجبل مرتفعا عليها فسمّيت به، فهذا في اشتقاقها كاف، وقد سمّاها عبدة بن الطبيب كوفة الجند فقال:

«إن التي وضعت بيتا مهاجرة *** بكوفة الجند غالت ودّها غول»

وأما تمصيرها وأوّليته فكانت في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في السنة التي مصرّت فيها البصرة وهي سنة 17، وقال قوم: إنها مصّرت بعد البصرة بعامين في سنة 19، وقيل سنة 18، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: لما فرغ سعد بن أبي وقّاص من وقعة رستم بالقادسية وضمّن أرباب القرى ما عليهم بعث من أحصاهم ولم يسمهم حتى يرى عمر فيهم رأيه، وكان الدهاقين ناصحوا المسلمين ودلوهم على عورات فارس وأهدوا لهم وأقاموا لهم الأسواق ثم توجه سعد نحو المدائن إلى يزدجرد وقدم خالد بن عرفطة حليف بني زهرة بن كلاب فلم يقدر عليه سعد حتى فتح خالد ساباط المدائن ثم توجه إلى المدائن فلم يجد معابر فدلوه على مخاضة عند قرية الصيادين أسفل المدائن فأخاضوها الخيل حتى عبروا وهرب يزدجرد إلى إصطخر فأخذ خالد كربلاء عنوة وسبى أهلها فقسّمها سعد بين أصحابه ونزل كل قوم في الناحية التي خرج بها سهمه فأحيوها فكتب بذلك سعد إلى عمر فكتب إليه عمر أن حوّلهم، فحوّلهم إلى سوق حكمة، ويقال إلى كويفة ابن عمر دون الكوفة، فنقضوا فكتب سعد إلى عمر بذلك، فكتب إليه: إن العرب لا يصلحها من البلدان إلا ما أصلح الشاة والبعير فلا تجعل بيني وبينهم بحرا وعليك بالريف، فأتاه ابن بقيلة فقال له: أدلك على أرض انحدرت عن الفلاة وارتفعت عن المبقّة؟

قال: نعم، فدلّه على موضع الكوفة اليوم وكان يقال له سورستان، فانتهى إلى موضع مسجدها فأمر غاليا فرمى بسهم قبل مهبّ القبلة فعلم على موقعه ثم غلا بسهم قبل مهب الشمال فعلم على موقعه ثم علم دار إمارتها ومسجدها في مقام الغالي وفيما حوله، ثم أسهم لنزار وأهل اليمن سهمين فمن خرج اسمه أولا فله الجانب الشرقي وهو خيرهما فخرج سهم أهل اليمن فصارت خططهم في الجانب الشرقي وصارت خطط نزار في الجانب الغربي من وراء تلك الغايات والعلامات وترك ما دون تلك العلامات فخط المسجد ودار الإمارة فلم يزل على ذلك، وقال ابن عباس: كانت منازل أهل الكوفة قبل أن تبنى أخصاصا من قصب إذا غزوا قلعوها وتصدّقوا بها فإذا عادوا بنوها فكانوا يغزون ونساؤهم معهم، فلما كان في أيام المغيرة بن شعبة بنت القبائل باللّبن من غير ارتفاع ولم يكن لهم غرف، فلما كان في أيام إمارة زياد بنوا أبواب الآجرّ فلم يكن في الكوفة أكثر أبواب الآجرّ من مراد والخزرج، وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد أن اختط موضع المسجد الجامع على عدة مقاتلتكم، فخط على أربعين ألف إنسان، فلما قدم زياد زاد فيه عشرين ألف إنسان وجاء بالآجرّ وجاء بأساطينه من الأهواز،

قال أبو الحسن محمد بن علي بن عامر الكندي البندار أنبأنا علي بن الحسن بن صبيح البزاز قال: سمعت بشر ابن عبد الوهاب القرشي مولى بني أمية وكان صاحب خير وفضل وكان ينزل دمشق ذكر أنه قدر الكوفة فكانت ستة عشر ميلا وثلثي ميل وذكر أن فيها خمسين ألف دار للعرب من

الكوفة سفلت عن الشام ووبائها وارتفعت عن البصرة وحرّها فهي بريّة مريئة مريعة إذا أتتنا الشمال ذهبت مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور وإذا هبّت الجنوب جاءتنا ريح السواد وورده وياسمينه وأترنجه، ماؤنا عذب وعيشنا خصب، فقال عبد الملك بن الأهتم السعدي: نحن والله يا أمير المؤمنين أوسع منهم بريّة وأعدّ منهم في السرية وأكثر منهم ذرّيّة وأعظم منهم نفرا، يأتينا ماؤنا عفوا صفوا ولا يخرج من عندنا إلا سائق أو قائد، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين إن لي بالبلدين خبرا، فقال: هات غير متّهم فيهم، فقال: أما البصرة فعجوز شمطاء بخراء دفراء أوتيت من كل حليّ، وأما الكوفة فبكر عاطل عيطاء لا حليّ لها ولا زينة، فقال عبد الملك: ما أراك إلا قد فضّلت الكوفة، وكان عليّ، عليه السلام، يقول: الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء، والذي نفسي بيده لينتصرن الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز، وكان سلمان الفارسي يقول: أهل الكوفة أهل الله وهي قبّة الإسلام يحنّ إليها كلّ مؤمن، وأما مسجدها فقد رويت فيه فضائل كثيرة، روى حبّة العرني قال: كنت جالسا عند عليّ، عليه السّلام، فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هذه راحلتي وزادي أريد هذا البيت أعني بيت المقدس، فقال، عليه السّلام:

كل زادك وبع راحلتك وعليك بهذا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فإنه أحد المساجد الأربعة ركعتان فيه تعدلان عشرا فيما سواه من المساجد والبركة منه إلى اثني عشر ميلا من حيث ما أتيته وهي نازلة من كذا ألف ذراع، وفي زاويته فار التنور وعند الأسطوانة الخامسة صلى إبراهيم، عليه السّلام، وقد صلى فيه ألف نبيّ وألف وصيّ، وفيه عصا موسى والشجرة اليقطين، وفيه هلك يغوث ويعوق وهو الفاروق، وفيه مسير لجبل الأهواز، وفيه مصلّى نوح عليه السّلام، ويحشر منه يوم القيامة سبعون ألفا ليس عليهم حساب ووسطه على روضة من رياض الجنة وفيه ثلاث أعين من الجنة تذهب الرّجس وتطهّر المؤمنين، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبوا، وقال الشعبي: مسجد الكوفة ستة أجربة وأقفزة، وقال زادانفرّوخ: هو تسعة أجربة، ولما بنى عبيد الله بن زياد مسجد الكوفة جمع الناس ثم صعد المنبر وقال: يا أهل الكوفة قد بنيت لكم مسجدا لم يبن على وجه الأرض مثله وقد أنفقت على كل أسطوانة سبع عشرة مائة ولا يهدمه إلا باغ أو جاحد، وقال عبد الملك بن عمير: شهدت زيادا وطاف بالمسجد فطاف به وقال: ما أشبهه بالمساجد

قد أنفقت على كل أسطوانة ثماني عشرة مائة، ثم سقط منه شيء فهدمه الحجاج وبناه ثم سقط بعد ذلك الحائط الذي يلي دار المختار فبناه يوسف بن عمر، وقال السيد إسماعيل بن محمد الحميري يذكر مسجد الكوفة:

«لعمرك! ما من مسجد بعد مسجد *** بمكة ظهرا أو مصلّى بيثرب»

«بشرق ولا غرب علمنا مكانه *** من الأرض معمورا ولا متجنّب»

«بأبين فضلا من مصلّى مبارك *** بكوفان رحب ذي أواس ومخصب»

«مصلّى، به نوح تأثّل وابتنى *** به ذات حيزوم وصدر محنّب»

«وفار به التنور ماء وعنده *** له قيل أيا نوح في الفلك فاركب»

«وباب أمير المؤمنين الذي به *** ممرّ أمير المؤمنين المهذّب»

عن مالك بن دينار قال: كان علي بن أبي طالب إذا أشرف على الكوفة قال:

«يا حبّذا مقالنا بالكوفة *** أرض سواء سهلة معروفه»

تعرفها جمالنا العلوفه

وقال سفيان بن عيينة: خذوا المناسك عن أهل مكة وخذوا القراءة عن أهل المدينة وخذوا الحلال والحرام عن أهل الكوفة، ومعما قدّمنا من صفاتها الحميدة فلن تخلو الحسناء من ذامّ، قال النجاشي يهجو أهلها:

«إذا سقى الله قوما صوب غادية *** فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا»

«التاركين على طهر نساءهم، *** والنائكين بشاطي دجلة البقرا»

«والسارقين إذا ما جنّ ليلهم، *** والدارسين إذا ما أصبحوا السّورا»

«ألق العداوة والبغضاء بينهم *** حتى يكونوا لمن عاداهم جزرا»

وأما ظاهر الكوفة فإنها منازل النعمان بن المنذر والحيرة والنجف والخورنق والسدير والغريّان وما هناك من المتنزهات والديرة الكبيرة فقد ذكرت في هذا الكتاب حيث ما اقتضاه ترتيب أسمائها، ووردت رامة بنت الحسين بن المنقذ بن الطمّاح الكوفة فاستوبلتها فقالت:

«ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** وبيني وبين الكوفة النّهران؟»

«فإن ينجني منها الذي ساقني لها *** فلا بدّ من غمر ومن شنآن»

وأما المسافات فمن الكوفة إلى المدينة نحو عشرين مرحلة، ومن المدينة إلى مكة نحو عشر مراحل في طريق الجادّة، ومن الكوفة إلى مكة أقصر من هذا الطريق نحو من ثلاث مراحل لأنه إذا انتهى الحاجّ إلى معدن النّقرة عدل عن المدينة حتى يخرج إلى معدن بني سليم ثم إلى ذات عرق حتى ينتهي إلى مكة، ومن حفّاظ الكوفة محمد بن العلاء بن كريب الهمداني الكوفي، سمع بالكوفة عبد الله بن المبارك وعبد الله ابن إدريس وحفص بن غياث ووكيع بن الجرّاح وخلقا غيرهم، وروى عنه محمد بن يحيى الذّهلي وعبد الله بن يحيى الذهلي وعبد الله بن يحيى بن حنبل وأبو يعلى الموصلي والحسن بن سفيان الثوري وأبو عبد الله البخاري ومسلم بن الحجاج وأبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي وابن ماجة القزويني وأبو عروة المراي وخلق سواهم،

وكان ابن عقدة يقدّمه على جميع مشايخ الكوفة في الحفظ والكثرة فيقول: ظهر لابن كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث، وكان ثقة مجمعا عليه، ومات لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة 243، وأوصى أن تدفن كتبه فدفنت.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


28-معجم البلدان (مندب)

مَنْدَبٌ:

بالفتح ثم السكون، وفتح الدال، والباء موحدة، وهو من ندبت الإنسان لأمر إذا دعوته إليه، والموضع الذي يندب إليه مندب لأنه من ينتدبه أندبه، سمي بذلك لما كان يندب إليه في عمله:

وهو اسم ساحل مقابل لزبيد باليمن وهو جبل مشرف ندب بعض الملوك إليه الرجال حتى قدّوه بالمعاول لأنه كان حاجزا ومانعا للبحر عن أن ينبسط بأرض اليمن فأراد بعض الملوك فيما بلغني أن يغرّق عدوّه فقدّ هذا الجبل وأنفذه إلى أرض اليمن فغلب على بلدان كثيرة وقرى وأهلك أهله وصار منه بحر اليمن الحائل بين أرض اليمن والحبشة والآخذ إلى عيذاب والقصير إلى مقابل قوص من بلد الصعيد وعلى ساحله أيلة وجدّة والقلزم وغير ذلك من البلاد، والله أعلم، ووجدت في خبر عبور الحبش وعبورهم مع أبرهة وارياط إلى اليمن أنهم عبروا عند المندب وكان يسمى ذا المندب فلما عبروا عنده قالت الحبش: دند مديند، كلمة معناها هذا الجائع، فقال أهل اليمن: ليست ذات مطرب إنما هي مندب، فغلب عليها.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


29-موسوعة الفقه الكويتية (إبراء 1)

إِبْرَاء -1

التَّعْرِيفُ بِالْإِبْرَاءِ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: بَرِئَ: تَخَلَّصَ وَتَنَزَّهَ وَتَبَاعَدَ، فَالْإِبْرَاءُ عَلَى هَذَا: جَعْلُ الْمَدِينِ- مَثَلًا- بَرِيئًا مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ. وَالتَّبْرِئَةُ: تَصْحِيحُ الْبَرَاءَةِ، وَالْمُبَارَأَةُ: الْمُصَالَحَةُ عَلَى الْفِرَاقِ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلَا تُجَاهَهُ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ السُّكْنَى الْمُوصَى بِهِ، فَتَرْكُهُ لَا يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ. وَقَدِ اخْتِيرَ لَفْظُ (إِسْقَاطٍ) فِي التَّعْرِيفِ- بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَيَيْنِ، هُمَا الْإِسْقَاطُ وَالتَّمْلِيكُ- تَغْلِيبًا لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهِ إِسْقَاطٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَرَاءَةُ، وَالْمُبَارَأَةُ، وَالِاسْتِبْرَاءُ:

2- (الْبَرَاءَةُ): هِيَ أَثَرُ الْإِبْرَاءِ، وَهِيَ مَصْدَرُ بَرِئَ. فَهِيَ مُغَايِرَةٌ لَهُ فِي الْفِقْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ كَمَا تَحْصُلُ بِالْإِبْرَاءِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الدَّائِنِ، تَحْصُلُ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى غَيْرِهِ، كَالْوَفَاءِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَ الْمَدِينِ أَوِ الْكَفِيلِ، وَتَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِالِاشْتِرَاطِ، كَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّبَرُّؤِ أَيْضًا، وَتَفْصِيلُهُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، وَالْكَفَالَةِ.

وَقَدْ تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الضَّمَانِ، أَوْ بِمَنْعِ صَاحِبِ التَّضْمِينِ مِنْ إِزَالَتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ إِنْ أَرَادَ رَدْمَهَا فَمَنَعَهُ الْمَالِكُ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ صِيغَةُ إِبْرَاءٍ.

وَمِمَّا يُؤَكِّدُ التَّبَايُنَ بَيْنَهُمَا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْ تَقْيِيدِ الْبَرَاءَةِ بِالْإِبْرَاءِ أَوِ الْإِسْقَاطِ لِتَمْيِيزِهَا عَنِ الْبَرَاءَةِ بِالِاسْتِيفَاءِ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ: الْبَرَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ لَا تَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الْكَفِيلِ، بَلْ بِفِعْلِ الطَّالِبِ- أَيْ الدَّائِنِ- فَلَا تَكُونُ حِينَئِذٍ مُضَافَةً إِلَى الْكَفِيلِ. وَنَحْوَهُ بَحَثَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي تَلْفِيقِ شَهَادَتَيْ الْإِبْرَاءِ وَالْبَرَاءَةِ، كَأَنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَبْرَأَهُ، وَآخَرُ بِأَنَّهُ بَرِئَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَرَجَّحُوا جَوَازَهُ وَاعْتِبَارَ الشَّهَادَةِ مُسْتَكْمِلَةَ النِّصَابِ

3- أَمَّا (الْمُبَارَأَةُ) فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ وَتَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْبَرَاءَةِ. وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخُلْعِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا. لَكِنَّهَا تَخْتَصُّ بِإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنِ الزَّوْجِ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ. فَالْمُبَارَأَةُ صُورَةٌ خَاصَّةٌ لِلْإِبْرَاءِ تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِإِيقَاعِ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ- إِجَابَةً لِطَلَبِ الزَّوْجَةِ غَالِبًا- مُقَابِلَ عِوَضٍ مَالِيٍّ تَبْذُلُهُ لِلزَّوْجِ، هُوَ تَرْكُهَا مَا لَهَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقٍ مَالِيَّةٍ، كَالْمَهْرِ الْمُؤَجَّلِ، أَوِ النَّفَقَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي الْعِدَّةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَا أَيُّ حَقٍّ إِلاَّ بِالتَّسْمِيَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَائِلَيْنِ بِسُقُوطِ جَمِيعِ حُقُوقِهَا الزَّوْجِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْطِنُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ (الْخُلْعِ).

وَلِابْنِ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رِسَالَةٌ فِي الطَّلَاقِ الْمُوَقَّعِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِبْرَاءِ، حَقَّقَ فِيهَا أَنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا لِوُقُوعِهِ بِعِوَضٍ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: مَتَى ظَهَرَ كَذَا وَأَبْرَأْتِنِي مِنْ مَهْرِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَيْسَ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا بِالْإِبْرَاءِ، فَالْإِبْرَاءُ شَرْطٌ لِلطَّلَاقِ وَلَيْسَ عِوَضًا.

4- وَأَمَّا (الِاسْتِبْرَاءُ) فَهُوَ يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: هُوَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، أَيْ طَهَارَتُهُ مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ. وَهُوَ حَيْثُ لَا تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ عِدَّةٌ. وَأَحْكَامُهُ مُفَصَّلَةٌ فِي مُصْطَلَحِهِ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: هُوَ طَلَبُ نَقَاءِ الْمَخْرَجَيْنِ مِمَّا يُنَافِي التَّطَهُّرَ، وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءِ الْحَاجَةِ).

ب- الْإِسْقَاطُ:

5- الْإِسْقَاطُ لُغَةً: الْإِزَالَةُ، وَاصْطِلَاحًا: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ أَوْ مُسْتَحِقٍّ. وَهُوَ قَدْ يَقَعُ عَلَى حَقٍّ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، عَلَى سَبِيلِ الْمَدْيُونِيَّةِ (كَالْحَالِ فِي الْإِبْرَاءِ) كَمَا قَدْ يَقَعُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ بِالشَّرْعِ لَمْ تُشْغَلْ بِهِ الذِّمَّةُ (كَحَقِّ الشُّفْعَةِ) وَيَكُونُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، فَالْإِبْرَاءُ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْقَاطِ، فَكُلُّ إِبْرَاءٍ إِسْقَاطٌ، وَلَا عَكْسَ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ نَوْعٌ مِنَ الْإِسْقَاطِ تَقْسِيمُ الْقَرَافِيِّ الْإِسْقَاطَ إِلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: بِعِوَضٍ، كَالْخُلْعِ. وَالْآخَرُ: بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمَثَّلَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ مِنَ الدُّيُونِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

وَالْإِسْقَاطُ مُتَمَحِّضٌ لِسُقُوطِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، فِي حِينِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ مُخْتَلِفٌ فِي أَنَّهُ إِسْقَاطٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، أَوْ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ، أَوْ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

هَذَا وَإِنَّ الْقَلْيُوبِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَفَادَ أَنَّ غَيْرَ الْقِصَاصِ لَا يُسَمَّى تَرْكُهُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاءٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَأْلُوفِ الْمَذْهَبِ.

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْإِبْرَاءُ فِي مَوْطِنِ الْإِسْقَاطِ، كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، فَالْإِبْرَاءُ مِنَ الْعَيْبِ كِنَايَةٌ عَنْ إِسْقَاطِ الْخِيَارِ.

ج- الْهِبَةُ:

6- الْهِبَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَغْرَاضِ، أَوِ التَّبَرُّعُ بِمَا يَنْفَعُ الْمَوْهُوبَ لَهُ مُطْلَقًا. وَهِيَ شَرْعًا: تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا عِوَضٍ.

وَالَّذِي يُوَافِقُ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْهِبَةِ هُوَ هِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، فَهِيَ وَالْإِبْرَاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يُجِيزُونَ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْجُمْلَةِ فَالْإِبْرَاءُ مُخْتَلِفٌ عَنْ هِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْإِبْرَاءِ بَعْدَ قَبُولِهِ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ كَمَا تَنُصُّ عَلَى ذَلِكَ الْقَاعِدَةُ الْمَشْهُورَةُ.

أَمَّا هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ- عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الَّذِي مَوْطِنُهُ الْهِبَةُ وَالدَّيْنُ- فَلَا صِلَةَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ.

د- الصُّلْحُ:

7- الصُّلْحُ لُغَةً: التَّوْفِيقُ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُصَالَحَةِ. وَهُوَ شَرْعًا: عَقْدٌ بِهِ يُرْفَعُ النِّزَاعُ وَتُقْطَعُ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْمُتَصَالِحَيْنِ بِتَرَاضِيهِمَا.

وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ الصُّلْحَ يَكُونُ عَنْ إِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ. فَإِذَا كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ، وَكَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى إِسْقَاطِ جُزْءٍ مِنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَأَدَاءِ الْبَاقِي، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُشْبِهُ الصُّلْحُ الْإِبْرَاءَ؛ لِأَنَّهَا أَخْذٌ لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءٌ عَنْ بَاقِيهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الصُّلْحُ هُنَا عَلَى أَخْذِ بَدَلٍ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ.

وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ وَتَضَمَّنَ إِسْقَاطَ الْجُزْءِ مِنْ حَقِّهِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّعِي إِبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ، فِي حِينِ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ افْتِدَاءٌ لِلْيَمِينِ وَقَطْعٌ لِلْمُنَازَعَةِ.

وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الصُّلْحَ عَلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِسْقَاطٌ وَإِبْرَاءٌ، وَقَالَ: هُوَ جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَالْآخَرُ: صُلْحٌ عَلَى عِوَضٍ، وَقَالَ فِيهِ: هُوَ جَائِزٌ إِلاَّ إِنْ أَدَّى إِلَى حَرَامٍ.

هـ- الْإِقْرَارُ:

8- مِنْ مَعَانِي الْإِقْرَارِ فِي اللُّغَةِ: الْإِيقَانُ وَالِاعْتِرَافُ. وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ: الْإِخْبَارُ بِحَقِّ الْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ.

وَالْإِقْرَارُ قَدْ يَرِدُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَيَكُونُ إِقْرَارًا بِالْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِمَّا إِبْرَاءُ اسْتِيفَاءٍ، وَإِمَّا إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَكُلٌّ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ عَلَى إِطْلَاقِهِ يَقْطَعُ النِّزَاعَ وَيَفْصِلُ الْخُصُومَةَ. فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَلِذَا عُبِّرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَإِنْ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا.

وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ تَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا، فَإِذَا قَالَ: أَبْرَأْتَنِي مِنْ كَذَا، أَوْ: أَبْرِئْنِي، فَهُوَ إِقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ بِشَغْلِ الذِّمَّةِ وَادِّعَاءٌ لِلْإِسْقَاطِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَعَلَيْهِ بَيِّنَةُ الْإِبْرَاءِ أَوِ الْقَضَاءُ.

و- الضَّمَانُ:

9- الضَّمَانُ لُغَةً: الْكَفَالَةُ وَالِالْتِزَامُ بِالشَّيْءِ. وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: الْتِزَامُ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ أَوْ إِحْضَارُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ. وَالضَّمَانُ عَكْسُ الْإِبْرَاءِ، فَهُوَ يُفِيدُ انْشِغَالَ الذِّمَّةِ

فِي حِينِ يُطْلَقُ الْإِبْرَاءُ عَلَى خُلُوِّهَا، وَلِصِلَةِ الضِّدِّيَّةِ هَذِهِ وَضَعَ الشَّافِعِيَّةُ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الْإِبْرَاءِ فِي بَابِ الضَّمَانِ.

هَذَا وَإِنَّ لِلْإِبْرَاءِ صِلَةً بِالضَّمَانِ، وَهِيَ أَنَّهُ أَحَدُ الْأَسْبَابِ لِسُقُوطِهِ، بَلْ إِنَّ لَهُ مَدْخَلًا إِلَى أَكْثَرِ الِالْتِزَامَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَطَرَّقُ لَهُ فِي سُقُوطِهَا؛ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَسْقُطَ بِالْوَفَاءِ- أَيْ الْأَدَاءِ- أَوِ الْمُقَاصَّةِ أَوِ الْإِبْرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ز- الْحَطُّ:

10- الْحَطُّ لُغَةً: الْوَضْعُ، أَوِ الْإِسْقَاطُ. وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِسْقَاطُ بَعْضِ الدَّيْنِ أَوْ كُلِّهِ. فَالْحَطُّ إِبْرَاءٌ مَعْنًى، وَلِذَا قَدْ يُطْلَقُ الْحَطُّ عَلَى الْإِبْرَاءِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَيَّدَ بِالْكُلِّ أَوِ الْجُزْءِ. وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُ الْحَطِّ لِلْإِبْرَاءِ عَنْ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، أَمَّا الْإِبْرَاءُ فَهُوَ عَنْ كُلِّهِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ تَسْمِيَةُ وَضْعِ بَعْضِ الدَّيْنِ إِبْرَاءً، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إِبْرَاءٌ جُزْئِيٌّ. وَقَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ إِبْرَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ يُشْعِرُ بِقَنَاعَةِ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقَلِيلِ عَنِ الْكَثِيرِ.

ح- التَّرْكُ:

11- مِنْ مَعَانِي التَّرْكِ فِي اللُّغَةِ: الْإِسْقَاطُ، يُقَالُ: تَرَكَ حَقَّهُ: إِذَا أَسْقَطَهُ. وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.

وَمِنْ صِلَتِهِ بِالْإِبْرَاءِ مَا جَاءَ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إِنْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ (التَّرْكِ) كَأَنْ يَقُولَ: تَرَكْتُ الدَّيْنَ، أَوْ: لَا آخُذُهُ مِنْكَ، فَهِيَ كِنَايَةُ إِبْرَاءٍ. وَلَكِنْ نَقَلَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الْقَوْلَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِبْرَاءٌ صَرِيحٌ. وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَالْمُقْرِي.

وَالتَّرْكُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِسْقَاطِ عُمُومًا بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِلَفْظِ الْإِسْقَاطِ وَيُعْطَى أَحْكَامَهُ، وَلِذَا أَوْرَدَهُ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي عِدَادِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ الْإِسْقَاطُ فِيهَا إِلَى قَبُولٍ- كَالْإِبْرَاءِ عِنْدَهُمْ- فِي حِينِ يَحْتَاجُ لَفْظُ الصُّلْحِ إِلَى الْقَبُولِ.

وَقَدْ يُطْلَقُ التَّرْكُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْحَقِّ دُونَ إِسْقَاطِهِ، كَتَرْكِ الزَّوْجَةِ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ وَمَنْحِهِ لِلزَّوْجَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ لَهَا الرُّجُوعَ وَطَلَبَ الْقَسْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ.

وَالْغَالِبُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ لَفْظُ التَّرْكِ فِي الدَّعْوَى، فَالْمُدَّعِي فِي أَشْهَرِ تَعْرِيفَاتِهِ «مَنْ إِذَا تَرَكَ (أَيْ دَعْوَاهُ) تُرِكَ» وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَصْدُرْ دَفْعٌ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَعْوَاهُ، فَإِنْ حَصَلَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي التَّرْكُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِهِ الْكَيْدَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيُلْزَمُ بِالِاسْتِمْرَارِ فِي الدَّعْوَى لِلْفَصْلِ فِيهَا. وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ هُنَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُدَّعِيًا أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي كَذَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُ طَلَبُ دَفْعِ التَّعَرُّضِ.

صِفَةُ الْإِبْرَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

12- الْإِبْرَاءُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ الْمَعْرُوفَةُ:

فَيَكُونُ وَاجِبًا إِذَا سَبَقَهُ اسْتِيفَاءٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا بِالْبَرَاءَةِ لِمُسْتَحِقِّهَا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وَالْمُؤَكَّدِ بِالْحَدِيثِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي بَابِ السَّلَمِ: إِذَا أَحْضَرَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالَ السَّلَمِ الْحَالَّ لِغَرَضِ الْبَرَاءَةِ أُجْبِرَ الْمُسَلِّمُ عَلَى الْقَبُولِ أَوِ الْإِبْرَاءِ. فَهَذَا وَاجِبٌ تَخْيِيرِيٌّ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُفْلِسِ فَلَهُ إِجْبَارُ الْغُرَمَاءِ عَلَى أَخْذِ الْعَيْنِ إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ، أَوْ إِبْرَائِهِ.

وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَمَا لَوْ جَاءَ ضِمْنَ عَقْدٍ بَاطِلٍ، لِأَنَّ اسْتِبْقَاءَ الْبَاطِلِ حَرَامٌ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بُطْلَانِ الْإِبْرَاءِ.

وَتَعْرِضُ لَهُ الْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا أَبْرَأَ وَارِثَهُ أَوْ غَيْرَهُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ، وَمُسْتَنَدُ الْكَرَاهَةِ مَا فِي ذَلِكَ الْإِبْرَاءِ مِنْ تَضْيِيعِ وَرَثَتِهِ، «لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ هَمَّ بِالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ: إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ». أَمَّا الثُّلُثُ فَقَدْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ.

13- عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ لَهُ النَّدْبُ، وَلِذَا يَقُولُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: «الْإِبْرَاءُ مَطْلُوبٌ، فَوُسِّعَ فِيهِ، بِخِلَافِ الضَّمَانِ» ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ الْحَقِّ عَنِ الْمُعْسِرِ الَّذِي يُثْقِلُ الدَّيْنُ كَاهِلَهُ. وَحَتَّى إِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ لِمَنْ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَزِيدُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ، فَلَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه- حِينَ قَامَ بِوَفَاءِ دَيْنِ أَبِيهِ، وَخَبَرُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، حِينَ أَعْسَرَا، حَيْثُ ثَبَتَ حَضُّهُ - عليه الصلاة والسلام- الدَّائِنِينَ عَلَى إِسْقَاطِ كُلِّ الدَّيْنِ أَوْ بَعْضِهِ عَنْهُمْ.

وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لِلْمُعْسِرِ أَفْضَلُ مِنَ الْقَرْضِ، وَأَنَّ الْقَرْضَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ.

وَالْإِبْرَاءُ فِي غَيْرِ الْأَحْوَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا هُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الْجَارِيَةِ فِي مُعْظَمِ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي بُعِثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالَةِ عَجْزِ الْمُبْرِئِ عَنْ تَحْصِيلِ حَقِّهِ مِنْ مُنْكِرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ هُنَا غَيْرُ وَارِدٍ، لِفُقْدَانِ مَحَلِّهِ.

أَقْسَامُ الْإِبْرَاءِ:

14- يُقَسِّمُ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ الْإِبْرَاءَ إِلَى قِسْمَيْنِ: إِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ، وَإِبْرَاءُ الِاسْتِيفَاءِ. وَيَعْتَبِرُونَ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا هُوَ الْجَدِيرُ بِالْبَحْثِ تَحْتَ هَذَا الِاسْمِ، فِي حِينِ أَنَّ الثَّانِيَ (الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِلْحَقِّ الثَّابِتِ لِشَخْصٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ) هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْإِقْرَارِ. وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ فِي الْكَفَالَةِ الْوَاقِعِ مِنَ الطَّالِبِ (الدَّائِنِ) إِنْ جَاءَ بِلَفْظِ «بَرِئْتَ إِلَيَّ مِنَ الْمَالِ» بَرِئَ الْكَفِيلُ وَالْمَدِينُ كِلَاهُمَا مِنَ الْمُطَالِبِ، وَرَجَعَ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ بَرَاءَةُ قَبْضٍ وَاسْتِيفَاءٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: دَفَعْتَ إِلَيَّ. أَمَّا إِنْ قَالَ: بَرِئْتَ مِنَ الْمَالِ، أَوْ: أَبْرَأْتُكَ، بِدُونِ لَفْظِ (إِلَيَّ) فَلَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ، لَا إِقْرَارٌ بِالْقَبْضِ. عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ الْكَفَالَةُ.

وَوَجْهُ اعْتِبَارِهِمَا قِسْمَيْنِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِبْرَاءِ وَالْإِقْرَارِ يُرَادُ بِهِ قَطْعُ النِّزَاعِ وَفَصْلُ الْخُصُومَةِ وَعَدَمُ جَوَازِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَهُمَا. فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ. وَلِذَا عَبَّرُوا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَإِنِ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا.

وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ لَيْسَ لِلْإِبْرَاءِ فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِثَمَرَةِ الْإِبْرَاءِ وَمَقْصُودِهِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ- وَمِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ- غَيْرُ الْإِبْرَاءِ فِي الشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ وَالْآثَارِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فِي حِينِ يَخْتَصُّ إِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ بِالدُّيُونِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَسَيَقْتَصِرُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ تَفْصِيلَ مَا يَتَّصِلُ بِإِبْرَاءِ الِاسْتِيفَاءِ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (إِقْرَار).

وَلَمْ نَقِفْ فِي غَيْرِ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ لِلْإِبْرَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ لِسَائِرِ الْمَذَاهِبِ صُوَرٌ يُمَيِّزُونَ فِيهَا بَيْنَ بَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ.

وَهُنَاكَ تَقْسِيمٌ آخَرُ لِلْإِبْرَاءِ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، تَبَعًا لِلصِّيغَةِ الَّتِي يَرِدُ بِهَا، وَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِبْرَاءُ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (أَنْوَاع الْإِبْرَاءِ) بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ.

الْإِبْرَاءُ لِلْإِسْقَاطِ أَوِ التَّمْلِيكِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِبْرَاءِ، هَلْ هُوَ لِلْإِسْقَاطِ أَوِ التَّمْلِيكِ. وَتَبَايَنَتْ أَقْوَالُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِتَوْجِيهِ الْأَحْكَامِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَ لِكُلِّ مَذْهَبٍ رَأْيٌ غَالِبٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لِلْإِسْقَاطِ. قَالَ السُّبْكِيُّ: لَوْ كَانَ الْإِبْرَاءُ تَمْلِيكًا لَصَحَّ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْأَعْيَانِ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: مَا نَقَلَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ مُفْلِحٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ. قَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا: الْإِبْرَاءُ، وَإِنْ كَانَ تَمْلِيكًا، الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِسْقَاطُ.

الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: مَا نَقَلَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ أَيْضًا، أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْحَنَابِلَةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَقَالُوا: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ إِسْقَاطٌ، فَكَأَنَّهُ مَلَّكَهُ إِيَّاهُ ثُمَّ سَقَطَ.

وَهُنَاكَ اتِّجَاهٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، هُوَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ- فِي غَيْرِ مُقَابَلَتِهِ لِلطَّلَاقِ- تَمْلِيكٌ مِنَ الْمُبْرِئِ، إِسْقَاطٌ عَنِ الْمُبْرَأِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ تَمْلِيكًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَالِيَّةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ، بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.

غَلَبَةِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ تَسَاوِيهِمَا:

16- الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ اشْتِمَالُ الْإِبْرَاءِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ: الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ، وَفِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تَكُونُ الْغَلَبَةُ لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ تَبَعًا لِلْمَوْضُوعِ، كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الْأَعْيَانِ، فَهُوَ لِلتَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ. أَمَّا فِي الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ فَيَجْرِي الْمَعْنَيَانِ كِلَاهُمَا. فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنْ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنِ الدَّيْنِ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَمَعْنَى الْإِسْقَاطِ، وَمَثَّلَ لِمَا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ، وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.

وَمَثَّلَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ لِمَا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ بِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُهُ، فَأَبْرَأَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَهَذَا إِسْقَاطٌ. وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْإِبْرَاءُ عَنِ الزَّكَاةِ، لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ.

وَنَقَلَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا عَنِ النَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ قَوْلَهُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ كَوْنَ الْإِبْرَاءِ تَمْلِيكًا أَوْ إِسْقَاطًا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُطْلَقُ فِيهَا تَرْجِيحٌ، بَلْ يَخْتَلِفُ الرَّاجِحُ بِحَسَبِ الْمَسَائِلِ، لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ وَضَعْفِهِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ تَمْلِيكًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَالِيَّةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ.

وَمِمَّا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَرْجِيحُهُمْ اشْتِرَاطَ الْقَبُولِ فِي الْإِبْرَاءِ، كَمَا سَيَأْتِي.

عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَا يَصْلُحُ بِالِاعْتِبَارَيْنِ (الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ بِالتَّسَاوِي). وَمِنْهُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْوَارِثُ مَدِينَ مُوَرِّثِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَوْتِهِ، ثُمَّ بَانَ مَيِّتًا، فَبِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّهُ إِسْقَاطٌ يَصِحُّ، وَكَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ تَمْلِيكًا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَوْ بَاعَ عَيْنًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ ثُمَّ ظَهَرَ مَوْتُهُ صَحَّ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَهُنَا بِالْأَوْلَى.

اخْتِلَافُ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ:

17- قَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ اعْتِبَارِ الْإِبْرَاءِ، هَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا لَوْ وَكَّلَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ صَحَّ التَّوْكِيلُ، نَظَرًا إِلَى جَانِبِ الْإِسْقَاطِ، وَلَوْ نَظَرَ إِلَى جَانِبِ التَّمْلِيكِ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ.

أَرْكَانُ الْإِبْرَاءِ

تَمْهِيدٌ:

18- لِلْإِبْرَاءِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، بِحَسَبِ الْإِطْلَاقِ الْوَاسِعِ لِلرُّكْنِ، لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا هُوَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الشَّيْءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ مَاهِيَّتِهِ أَمْ خَارِجًا عَنْهَا، كَالْأَطْرَافِ وَالْمَحَلِّ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. فَالْأَرْكَانُ عِنْدَهُمْ هُنَا: الصِّيغَةُ وَالْمُبْرِئُ (صَاحِبُ الْحَقِّ أَوِ الدَّائِنُ) وَالْمُبْرَأُ (الْمَدِينُ) وَالْمُبْرَأُ مِنْهُ (مَحَلُّ الْإِبْرَاءِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ حَقٍّ)

وَرُكْنُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، أَمَّا الْمُتَعَاقِدَانِ وَالْمَحَلُّ فَهِيَ أَطْرَافُ الْعَقْدِ وَلَيْسَتْ رُكْنًا، لِمَا سَبَقَ.

الصِّيغَةُ:

19- الْأَصْلُ فِي الصِّيغَةِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِي الْعَقْدِ، وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَوَقُّفَ الْإِبْرَاءِ عَلَى الْقَبُولِ. أَمَّا مَنْ لَا يَرَى حَاجَةَ الْإِبْرَاءِ إِلَيْهِ فَالصِّيغَةُ هِيَ الْإِيجَابُ فَقَطْ.

الْإِيجَابُ:

20- يَحْصُلُ إِيجَابُ الْإِبْرَاءِ بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَهُوَ التَّخَلِّي عَمَّا لِلدَّائِنِ عِنْدَ الْمَدِينِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَاضِحَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَثَرِ (سُقُوطُ الْحَقِّ وَالْمُبْرَأِ مِنْهُ)، فَيَحْصُلُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرَاحَةً أَوْ كِنَايَةً مَحْفُوفَةً بِالْقَرِينَةِ، سَوَاءٌ أُورِدَ مُسْتَقِلًّا أَمْ تَبَعًا ضِمْنَ عَقْدٍ آخَرَ.

وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَفِيَ احْتِمَالُ الْمُعَاوَضَةِ، أَوْ قَصْدُ مُجَرَّدِ التَّأْخِيرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا، فَهُوَ صُلْحٌ بِمَالٍ، عَلَى خِلَافٍ سَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَهُوَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، لَا لِسُقُوطِهَا.

وَالْإِبْرَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ عَلَى التَّأْبِيدِ اتِّفَاقًا. فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ الْمُؤَقَّتُ، كَأَنْ يَقُولَ: أَبْرَأْتُكَ مِمَّا لِي عَلَيْكَ سَنَةً، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ. وَهُوَ مُسْتَفَادُ عِبَارَاتِ غَيْرِهِمْ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ. أَمَّا تَقْيِيدُ الْإِبْرَاءِ بِأَنَّهُ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ فَهُوَ لَيْسَ مِنَ الْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ وَإِنْ سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ تَجَوُّزًا (إِبْرَاءً مُؤَقَّتًا).

وَمِثْلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابَةُ الْمَرْسُومَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، أَوِ الْإِشَارَةُ الْمَعْهُودَةُ، بِشُرُوطِهِمَا الْمُفَصَّلَةِ فِي مَوْطِنِهِمَا.

21- وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ- بِالْإِضَافَةِ إِلَى لَفْظِ الْإِبْرَاءِ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى حُصُولِ الْإِيجَابِ بِهِ- أَمْثِلَةً عَدِيدَةً لِمَا يُؤَدِّي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. وَلَمْ يَنُصَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى انْحِصَارِ الصِّيغَةِ فِيمَا أَشَارُوا إِلَيْهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا صِيغَتُهُ: الْإِسْقَاطُ، وَالتَّمْلِيكُ، وَالْإِحْلَالُ، وَالتَّحْلِيلُ، وَالْوَضْعُ، وَالْعَفْوُ، وَالْحَطُّ، وَالتَّرْكُ، وَالتَّصَدُّقُ، وَالْهِبَةُ، وَالْعَطِيَّةُ. قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَإِنَّمَا صَحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ انْصَرَفَ إِلَى مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْحَارِثِيِّ قَوْلَهُ: لَوْ وَهَبَهُ دَيْنَهُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً لَمْ يَصِحَّ، لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَانْتِفَاءِ شَرْطِ الْهِبَةِ. كَمَا اسْتَدَلَّ مِنْ مَثَّلَ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ التَّصَدُّقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَهْرِ {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وقوله تعالى فِي شَأْنِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الدِّيَةِ {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} وقوله تعالى فِي شَأْنِ إِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَبِقَوْلِهِ - عليه الصلاة والسلام- دَاعِيًا لِإِبْرَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» وَقَدْ يَحْصُلُ الْإِبْرَاءُ بِصِيغَةٍ يَدُلُّ تَرْكِيبُهَا عَلَيْهِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لِي عِنْدَ فُلَانٍ حَقٌّ، أَوْ: مَا بَقِيَ لِي عِنْدَهُ حَقٌّ، أَوْ: لَيْسَ لِي مَعَ فُلَانٍ دَعْوَى، أَوْ: فَرَغْتُ مِنْ دَعْوَايَ الَّتِي هِيَ مَعَ فُلَانٍ، أَوْ: تَرَكْتُهَا.

22- وَيُسْتَفَادُ مِمَّا أَوْرَدَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ تَعْقِيبٍ عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ أَنَّ هُنَاكَ صِيَغًا مُخَصِّصَةٌ لِلْإِبْرَاءِ مِنَ الْأَمَانَاتِ أَوِ الدُّيُونِ، وَأُخْرَى لَا يَحْصُلُ عُمُومُ الْإِبْرَاءِ إِلاَّ بِهَا- يُسْتَفَادُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْعُرْفِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِبْرَاءُ أَصْلًا، أَوْ تَعْمِيمًا، أَوْ تَخْصِيصًا بِمَوْضُوعٍ دُونَ آخَرَ، كَمَا يُنْظَرُ إِلَى الْقَرَائِنِ فِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنْ إِطْلَاقٍ. وَمِنْ ذَلِكَ عِبَارَةُ «بَرِئْتُ مِنْ فُلَانٍ» الَّتِي تَحْتَمِلُ نَفْيَ الْمُوَالَاةِ وَالْبَرَاءَةَ مِنَ الْحُقُوقِ. فَإِذَا جَرَى الْعُرْفُ، أَوْ دَلَّتِ الْقَرَائِنُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا هِيَ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُمَثِّلُوا بِهِ لِلْإِيجَابِ عَنِ الْإِبْرَاءِ، كَعِبَارَةِ «التَّنَازُلِ» أَوِ «التَّخَلِّي عَنِ الْحَقِّ». فَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالْعُرْفِ.

الْقَبُولُ:

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ أَوْ لَا، عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ حَاجَةِ الْإِبْرَاءِ إِلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لِأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَالْإِسْقَاطَاتُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، كَالطَّلَاقِ، وَالْعِتْقِ، وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ الْمَذْهَبُ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: الْإِبْرَاءُ إِسْقَاطٌ أَمْ تَمْلِيكٌ.

الِاتِّجَاهُ الْآخَرُ: حَاجَةُ الْإِبْرَاءِ إِلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ، أَيْ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ لَهُ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْهِبَةِ، وَهِيَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْقَبُولِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ- أَيْ الِافْتِقَارُ لِلْقَبُولِ- بِأَنَّ الْمِنَّةَ قَدْ تَعْظُمُ فِي الْإِبْرَاءِ، وَذَوُو الْمُرُوءَاتِ وَالْأَنَفَاتِ يَضُرُّ ذَلِكَ بِهِمْ، لَا سِيَّمَا مِنَ السَّفَلَةِ، فَجَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ لَهُمْ قَبُولَ ذَلِكَ أَوْ رَدَّهُ، نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَرْبِطُونَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ الْخِلَافِ فِي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ، عَلَى مَا سَبَقَ.

24- وَلَا فَرْقَ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْقَبُولِ أَوْ عَدَمِهَا بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْإِبْرَاءِ، أَوِ التَّعْبِيرِ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، وَإِثْبَاتُ الْفَرْقِ هُوَ مَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِذْ قَالُوا فِيهَا بِالْحَاجَةِ لِلْقَبُولِ لِمَا فِي اللَّفْظِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَهَا آكَدَ فِي الِافْتِقَارِ لِلْقَبُولِ- عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الْإِبْرَاءِ عُمُومًا- لِأَنَّهَا نَصٌّ فِي التَّمْلِيكِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، لِنَظَرِهِمْ إِلَى وَحْدَةِ الْمَقْصُودِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِبْرَاءِ.

هَذَا، وَبِالرَّغْمِ مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مِنِ اعْتِبَارِ الْقَبُولِ مَحْدُودًا بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ مَا دَامَ قَائِمًا فَقَدِ اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْقَبُولِ فِي صُورَةِ مَنْ يُوَكِّلُ فِي إِبْرَاءِ نَفْسِهِ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْقَبُولِ عَنِ الْإِيجَابِ، وَلَوْ بِالسُّكُوتِ عَنِ الْقَبُولِ زَمَانًا، فَلَهُ الْقَبُولُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.

25- وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ التَّوَقُّفِ عَلَى الْقَبُولِ: الْعُقُودَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، كَالصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ (أَيْ عَنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ) فَيَتَوَقَّفُ فِيهَا الْإِبْرَاءُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ يَفُوتُ بِهِ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ، وَفَوَاتُهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ، وَنَقْضُ الْعَقْدِ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْآخَرِ، فَإِنْ قَبِلَهُ بَرِئَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ لَا يَبْرَأُ. وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ لِعَقْدٍ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ، وَمَعْنَى الْإِسْقَاطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. أَمَّا الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ أَوْ عَنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ فَهُوَ جَائِزٌ بِدُونِ قَبُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِسْقَاطُ شَرْطٍ.

رَدُّ الْإِبْرَاءِ:

26- يَنْبَنِي اخْتِلَافُ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ. وَالَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَاجَتُهُ لِلْقَبُولِ أَوْ عَدَمُ حَاجَتِهِ. فَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَرْجُوحِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ حَاجَتِهِ لِلْقَبُولِ، ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْخِيَارِ وَالطَّلَاقِ، لَا تَمْلِيكُ عَيْنٍ، كَالْهِبَةِ.

وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ (وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الْآخَرِ وَمَعَهُمْ فِي هَذَا الْحَنَفِيَّةُ الَّذِينَ رَاعَوْا مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِالرَّغْمِ مِنْ عَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ) يَرَوْنَ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ هَلْ يَتَقَيَّدُ الرَّدُّ بِمَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ، أَوْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَالَّذِي فِي الْبَحْرِ وَالْحَمَوِيِّ عَلَى الْأَشْبَاهِ إِطْلَاقُ صِحَّةِ الرَّدِّ فِي مَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.

وَالرَّدُّ الْمُعْتَبَرُ هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْمُبْرِئِ، أَوْ مِنْ وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَخَالَفَ فِي الثَّانِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَسَائِلَ لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ بِالرَّدِّ وَهِيَ:

1، 2- الْإِبْرَاءُ فِي الْحَوَالَةِ (وَالْكَفَالَةِ عَلَى الْأَرْجَحِ) لِأَنَّهُمَا مُتَمَحِّضَانِ لِلْإِسْقَاطِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ، لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ، وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِتَلَاشِي السَّاقِطِ، بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ، لِعَوْدِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ.

3- إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِبْرَاءِ طَلَبٌ مِنَ الْمُبْرَأِ بِأَنْ قَالَ: أَبْرِئْنِي، فَأَبْرَأَهُ فَرَدَّ، لَا يَرْتَدُّ.

4- إِذَا سَبَقَ لِلْمُبْرَأِ أَنْ قَبِلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


30-موسوعة الفقه الكويتية (احتكار)

احْتِكَارٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاحْتِكَارُ لُغَةً: حَبْسُ الطَّعَامِ إِرَادَةَ الْغَلَاءِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ: الْحُكْرَةُ.

أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَدْ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: اشْتِرَاءُ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ وَحَبْسُهُ إِلَى الْغَلَاءِ.وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ رَصْدُ الْأَسْوَاقِ انْتِظَارًا لِارْتِفَاعِ الْأَثْمَانِ، وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ اشْتِرَاءُ الْقُوتِ وَقْتَ الْغَلَاءِ، وَإِمْسَاكُهُ وَبَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لِلتَّضْيِيقِ.وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ.بِأَنَّهُ اشْتِرَاءُ الْقُوتِ وَحَبْسُهُ انْتِظَارًا لِلْغَلَاءِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2- الِادِّخَارُ: ادِّخَارُ الشَّيْءِ تَخْبِئَتُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ.وَعَلَى هَذَا فَيَفْتَرِقُ الِادِّخَارُ عَنِ الِاحْتِكَارِ فِي أَنَّ الِاحْتِكَارَ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِيمَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ حَبْسُهُ، عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، أَمَّا الِادِّخَارُ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَضُرُّ وَمَا لَا يَضُرُّ، وَفِي الْأَمْوَالِ النَّقْدِيَّةِ وَغَيْرِهَا.كَمَا أَنَّ الِادِّخَارَ قَدْ يَكُونُ مَطْلُوبًا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ، كَادِّخَارِ الدَّوْلَةِ حَاجِيَّاتِ الشَّعْبِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ «ادِّخَارٌ».

صِفَةُ الِاحْتِكَارِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

3- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِكَارَ بِالْقُيُودِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ مَحْظُورٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ.وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْحَظْرِ.فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ صَرَّحُوا بِالْحُرْمَةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} فَقَدْ فَهِمَ مِنْهَا صَاحِبُ الِاخْتِيَارِ أَنَّهَا أَصْلٌ فِي إِفَادَةِ التَّحْرِيمِ وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَى عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إِلْحَادٌ فِيهِ» وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.وَاسْتَدَلَّ الْكَاسَانِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ: «الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ».وَحَدِيثِ: «مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ» ثُمَّ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إِلاَّ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَلِأَنَّهُ ظُلْمٌ؛ لِأَنَّ مَا يُبَاعُ فِي الْمِصْرِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي عَنْ بَيْعِهِ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَقَدْ مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ، وَمَنْعُ الْحَقِّ عَنِ الْمُسْتَحِقِّ ظُلْمٌ وَحَرَامٌ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ قَلِيلُ الْمُدَّةِ وَكَثِيرُهَا، لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ.

4- كَمَا اعْتَبَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ مِنَ الْكَبَائِرِ.وَيَقُولُ: إِنَّ كَوْنَهُ كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ، مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، كَاللَّعْنَةِ وَبَرَاءَةِ ذِمَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَالضَّرْبِ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ.وَبَعْضُ هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَابِلَةُ عَلَى التَّحْرِيمِ مَا رَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ»،، وَمَا رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ»، وَمَا رُوِيَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَرَأَى طَعَامًا كَثِيرًا قَدْ أُلْقِيَ عَلَى بَابِ مَكَّةَ، فَقَالَ: مَا هَذَا الطَّعَامُ؟ فَقَالُوا: جُلِبَ إِلَيْنَا.فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ وَفِيمَنْ جَلَبَهُ.فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّهُ قَدِ احْتُكِرَ.قَالَ: مَنِ احْتَكَرَهُ؟ قَالُوا: فُلَانٌ مَوْلَى عُثْمَانَ، وَفُلَانٌ مَوْلَاكَ، فَاسْتَدْعَاهُمَا، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَضْرِبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ أَوِ الْإِفْلَاسِ».

5- لَكِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ عَبَّرُوا عَنْهُ بِالْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ.وَتَصْرِيحُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْكَرَاهَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ.وَفَاعِلُ الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا عِنْدَهُمْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، كَفَاعِلِ الْحَرَامِ، كَمَا أَنَّ كُتُبَ الشَّافِعِيَّةِ الَّتِي رَوَتْ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ قَدْ قَالُوا عَنْهُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ.

الْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ:

6- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ رَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ.وَلِذَا فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ احْتَكَرَ إِنْسَانٌ شَيْئًا، وَاضْطُرَّ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ- عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ- دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ، وَتَعَاوُنًا عَلَى حُصُولِ الْعَيْشِ.وَهَذَا مَا يُسْتَفَادُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ هُوَ الْقَصْدُ مِنَ التَّحْرِيمِ، إِذْ قَالَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالسُّوقِ فَلَا بَأْسَ وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْجَمِيعِ.

مَا يَجْرِي فِيهِ الِاحْتِكَارُ:

7- هُنَاكَ ثَلَاثُ اتِّجَاهَاتٍ:

الْأَوَّلُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا احْتِكَارَ إِلاَّ فِي الْقُوتِ خَاصَّةً.الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِكَارَ يَجْرِي فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ، وَيَتَضَرَّرُونَ مِنْ حَبْسِهِ، مِنْ قُوتٍ وَإِدَامٍ وَلِبَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا احْتِكَارَ إِلاَّ فِي الْقُوتِ وَالثِّيَابِ خَاصَّةً.وَهَذَا قَوْلٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ- أَصْحَابُ الِاتِّجَاهِ الْأَوَّلِ- بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْضُهَا عَامٌّ، كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى رَوَاهَا مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ «لَا يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ»، وَحَدِيثُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغَلِّيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ» وَزَادَ الْحَاكِمُ: «وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ.» فَهَذِهِ نُصُوصٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُحْتَكَرٍ.

وَقَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ أُخْرَى خَاصَّةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ.» وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى بِلَفْظِ: «مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ».وَزَادَ الْحَاكِمُ.«وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ».

وَإِذَا اجْتَمَعَتْ نُصُوصٌ عَامَّةٌ وَأُخْرَى خَاصَّةٌ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ حُمِلَ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَالْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ بِالْأَحَادِيثِ الْعَامَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الْخَاصَّةِ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ اللَّقَبِ، وَاللَّقَبُ لَا مَفْهُومَ لَهُ.وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ الثَّانِي فَإِنَّهُ حَمَلَ الثِّيَابَ عَلَى الْقُوتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنَ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ.

مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الِاحْتِكَارُ:

8- يَتَحَقَّقُ الِاحْتِكَارُ فِي صُوَرٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ كَوْنُ الشَّيْءِ الْمُحْتَكَرِ طَعَامًا وَأَنْ يَحُوزَهُ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ وَأَنْ يَقْصِدَ الْإِغْلَاءَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الْإِضْرَارُ وَالتَّضْيِيقُ عَلَيْهِمْ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَحْرِيمِهَا بِحَسَبِ الشُّرُوطِ.

شُرُوطُ الِاحْتِكَارِ:

9- يُشْتَرَطُ فِي الِاحْتِكَارِ مَا يَأْتِي:

1- أَنْ يَكُونَ تَمَلُّكُهُ لِلسِّلْعَةِ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ إِنَّمَا هِيَ بِاحْتِبَاسِ السِّلَعِ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ تَمَلُّكُهَا بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ، أَوِ الْجَلْبِ، أَوْ كَانَ ادِّخَارًا لِأَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ وَمَنْ يَعُولُ.

وَعَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا احْتِكَارَ فِيمَا جُلِبَ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ سُوقٍ غَيْرِ سُوقِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مِنَ السُّوقِ الَّذِي اعْتَادَتِ الْمَدِينَةُ أَنْ تَجْلُبَ طَعَامَهَا مِنْهُ.وَيَرَى كُلٌّ مِنْ صَاحِبِ الِاخْتِيَارِ وَصَاحِبِ الْبَدَائِعِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ سُوقٍ اعْتَادَتِ الْمَدِينَةُ أَنْ تَجْلُبَ طَعَامَهَا مِنْهُ، فَاشْتَرَاهُ قَاصِدًا حَبْسَهُ، يَكُونُ مُحْتَكِرًا وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الشِّرَاءِ لِتَحَقُّقِ الِاحْتِكَارِ أَنَّ حَبْسَ غَلَّةِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ لَا يَكُونُ احْتِكَارًا.وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ.وَهُنَاكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مَنِ اعْتَبَرَ حَبْسَ هَذِهِ الْغَلَّةِ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِكَارِ.وَمِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ يَرَى- أَيْضًا- أَنَّ هَذَا رَأْيٌ لِأَبِي يُوسُفَ.وَقَدْ نَقَلَ الرَّهُونِيُّ عَنِ الْبَاجِيِّ أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ قَالَ: «إِذَا وَقَعَتِ الشِّدَّةُ أُمِرَ أَهْلُ الطَّعَامِ بِإِخْرَاجِهِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ جَالِبًا لَهُ، أَوْ كَانَ مِنْ زِرَاعَتِهِ».وَالْمُعْتَمَدُ مَا أَفَادَهُ ابْنُ رُشْدٍ. 2- أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ وَقْتَ الْغَلَاءِ لِلتِّجَارَةِ انْتِظَارًا لِزِيَادَةِ الْغَلَاءِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.فَلَوِ اشْتَرَى فِي وَقْتِ الرُّخْصِ، وَحَبَسَهُ لِوَقْتِ الْغَلَاءِ، فَلَا يَكُونُ احْتِكَارًا عِنْدَهُمْ.

3- وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ لِمُدَّةٍ، وَلَمْ نَقِفْ لِفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى كَلَامٍ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا الَّذِي تَعَرَّضَ لِذِكْرِ الْمُدَّةِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ نَقْلًا عَنِ الشَّرْنَبَلَالِيِّ عَنِ الْكَافِي إِنَّ الِاحْتِكَارَ شَرْعًا اشْتِرَاءُ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ وَحَبْسُهُ إِلَى مُدَّةٍ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا، فَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدِهِ: «مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ».لَكِنْ حَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ مُنْكَرٌ.وَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهَا شَهْرٌ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ.

وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ بَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ قِلَّةَ الصِّنْفِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْقَحْطَ.وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْمُدَدَ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا.أَمَّا الْإِثْمُ الْأُخْرَوِيُّ فَيَتَحَقَّقُ وَإِنْ قَلَّتِ الْمُدَّةُ.وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَصْكَفِيُّ هَذَا الْخِلَافَ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ أَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمُدَّتَيْنِ.وَقَدْ نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ.

4- أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَكِرُ قَاصِدًا الْإِغْلَاءَ عَلَى النَّاسِ وَإِخْرَاجَهُ لَهُمْ وَقْتَ الْغَلَاءِ.

احْتِكَارُ الْعَمَلِ:

10- تَعَرَّضَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِمِثْلِ هَذَا لَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِكَارِ الِاصْطِلَاحِيِّ، وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الِاحْتِكَارِ، لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْعَامَّةِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، مَنَعُوا الْقَسَّامِينَ- الَّذِينَ يَقْسِمُونَ الْعَقَارَ وَغَيْرَهُ بِالْأُجْرَةِ- أَنْ يَشْتَرِكُوا، فَإِنَّهُمْ إِذَا اشْتَرَكُوا وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ أَغْلَوْا عَلَيْهِمُ الْأُجْرَةَ.وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَمْنَعَ مُغَسِّلِي الْمَوْتَى وَالْحَمَّالِينَ لَهُمْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِغْلَاءِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ اشْتِرَاكُ كُلِّ طَائِفَةٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى مَنَافِعِهِمْ.

احْتِكَارُ الصِّنْفِ:

11- وَقَدْ صَوَّرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَلْزَمَ النَّاسَ أَلاَّ يَبِيعَ الطَّعَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَافِ إِلاَّ نَاسٌ مَعْرُوفُونَ، فَلَا تُبَاعُ تِلْكَ السِّلَعُ إِلاَّ لَهُمْ، ثُمَّ يَبِيعُونَهَا هُمْ بِمَا يُرِيدُونَ.فَهَذَا مِنَ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ بِلَا تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.وَيَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَبِيعُوا وَيَشْتَرُوا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ مَنْعًا لِلظُّلْمِ.وَكَذَلِكَ إِيجَارُ الْحَانُوتِ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْقَرْيَةِ بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ، عَلَى أَلاَّ يَبِيعَ أَحَدٌ غَيْرُهُ، نَوْعٌ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ قَهْرًا وَأَكْلِهَا بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ.

الْعُقُوبَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لِلْمُحْتَكِرِ:

12- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِإِخْرَاجِ مَا احْتَكَرَ إِلَى السُّوقِ وَبَيْعِهِ لِلنَّاسِ.فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ؟ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:

أَوَّلًا: إِذَا خِيفَ الضَّرَرُ عَلَى الْعَامَّةِ أُجْبِرَ، بَلْ أَخَذَ مِنْهُ مَا احْتَكَرَهُ، وَبَاعَهُ، وَأَعْطَاهُ الْمِثْلَ عِنْدَ وُجُودِهِ، أَوْ قِيمَتَهُ.وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ.

ثَانِيًا: إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفٌ عَلَى الْعَامَّةِ فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ لِلْحَاكِمِ جَبْرَهُ إِذَا لَمْ يَمْتَثِلِ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ.وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فَيَرَيَانِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْبَيْعِ عَزَّرَهُ الْحَاكِمُ.

وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْجَبْرَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْجَبْرَ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ.وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْإِنْذَارَ مَرَّةً، وَقِيلَ اثْنَتَيْنِ، وَقِيلَ ثَلَاثًا.وَتَدُلُّ النُّقُولُ عَنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَرْجِعُهَا مُرَاعَاةُ الْمَصْلَحَةِ.وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


31-موسوعة الفقه الكويتية (إحرام 3)

إِحْرَامٌ -3

لُبْسُ الْخُفَّيْنِ وَنَحْوِهِمَا:

59- ثَالِثًا: مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ يَقْطَعُ الْخُفَّيْنِ أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَيَلْبَسُهُمَا، كَمَا نَصَّ الْحَدِيثُ.

وَهُوَ قَوْلُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالنَّخَعِيِّ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ: لَا يَقْطَعُ الْخُفَّيْنِ، وَيَلْبَسُهُمَا كَمَا هُمَا.وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقَدَّاحِ، بَلْ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: «حَرُمَ قَطْعُهُمَا» عَلَى الْمُحْرِمِ.

اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالُوا: إِنَّ زِيَادَةَ الْقَطْعِ- أَيْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- اخْتُلِفَ فِيهَا، فَإِنْ صَحَّتْ فَهِيَ بِالْمَدِينَةِ، لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ فَذَكَرَهُ، وَخَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعَرَفَاتٍ، فَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ لِلْجَمْعِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَمْ يَحْضُرْ أَكْثَرُهُمْ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ.

وَقَدْ فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْكَعْبَ الَّذِي يُقْطَعُ الْخُفُّ أَسْفَلَ مِنْهُ بِأَنَّهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ.وَفَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْمَفْصِلِ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ.وَوَجْهُهُ أَنَّهُ: «لَمَّا كَانَ الْكَعْبُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاتِئِ حُمِلَ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا».

60- رَابِعًا: أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْخُفَّيْنِ كُلَّ مَا سَتَرَ شَيْئًا مِنَ الْقَدَمَيْنِ سَتْرَ إِحَاطَةٍ، فَلَمْ يُجِيزُوا لُبْسَ الْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ إِلاَّ عِنْدَ فَقْدِ النَّعْلَيْنِ.وَلَوْ وَجَدَ النَّعْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ لُبْسُهُمَا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ خَلْعُهُمَا إِنْ كَانَ قَدْ لَبِسَهُمَا.وَإِنْ لَبِسَهُمَا لِعُذْرٍ كَالْمَرَضِ لَمْ يَأْثَمْ وَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: كُلُّ مَا كَانَ غَيْرَ سَاتِرٍ لِلْكَعْبَيْنِ، اللَّذَيْنِ فِي ظَاهِرِ الْقَدَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ.

تَقَلُّدُ السِّلَاحِ:

61- خَامِسًا: حَظَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُحْرِمِ تَقَلُّدَ السَّيْفِ بِدُونِ حَاجَةٍ، وَمِثْلُهُ الْأَسْلِحَةُ الْمُعَاصِرَةُ.وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ الْفِدَاءَ إِذَا تَقَلَّدَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَقَالُوا: هَذَا إِذَا كَانَتْ عَلَاقَتُهُ غَيْرَ عَرِيضَةٍ، وَلَا مُتَعَدِّدَةً، وَإِلاَّ فَالْفِدْيَةُ لَازِمَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَكِنْ لَا يَأْثَمُ فِي حَالِ الْعُذْرِ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ تَقَلُّدَ السَّيْفِ مُطْلَقًا، لَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالْحَاجَةِ، وَكَأَنَّهُمْ لَاحَظُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ الْمَحْظُورِ عَلَى الْمُحْرِمِ.

سَتْرُ الرَّأْسِ وَالِاسْتِظْلَالُ:

62- سَادِسًا: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ سَتْرِ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ أَوْ بَعْضَهُ، أَخْذًا مِنْ تَحْرِيمِ لُبْسِ الْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ضَابِطِ هَذَا السَّتْرِ.

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ سَتْرُهُ بِمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّغْطِيَةُ عَادَةً.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَحْرُمُ سَتْرُ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ بِكُلِّ مَا يُعَدُّ سَاتِرًا مُطْلَقًا.وَقَرِيبٌ مِنْهُمْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَحْرُمُ مَا يُعَدُّ سَاتِرًا عُرْفًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاتِرًا عُرْفًا فَيَحْرُمُ إِنْ قَصَدَ بِهِ السَّتْرَ.

يَحْرُمُ سَتْرُ بَعْضِ الرَّأْسِ كَذَلِكَ بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا، أَوْ يُقْصَدُ بِهِ السَّتْرُ، عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْصِبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ، وَلَا سَيْرٍ، وَلَا يَجْعَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَلْصَقُ بِهِ.وَقَدْ ضَبَطَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا يَبْلُغُ مِسَاحَةَ دِرْهَمٍ فَأَكْثَرَ.وَجَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ الرَّأْسِ الْكَرَاهَةَ وَصَدَقَةً بِشَرْطِ الدَّوَامِ الَّذِي سَيَأْتِي.

وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ نَحْوِ خَيْطٍ، وَيَحْرُمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الرَّأْسِ، لِأَنَّهَا سَاتِرٌ مُطْلَقًا وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ قُصِدَ بِهَا سَتْرُ الرَّأْسِ، وَإِلاَّ فَلَا.وَلَا يَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

63- وَأَمَّا وَضْعُ حَمْلٍ عَلَى الرَّأْسِ: فَيَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ التَّغْطِيَةُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، كَمَا لَوْ حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ ثِيَابًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَغْطِيَةً وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ عَادَةً لَا يَحْرُمُ كَحَمْلِ طَبَقٍ أَوْ قُفَّةٍ، أَوْ طَاسَةٍ قَصَدَ بِهَا السَّتْرَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ السَّتْرُ غَالِبًا، فَصَارَ كَوَضْعِ الْيَدِ.

وَهَذَا مُتَّفِقٌ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا حَمَلَ مَا لَا يُعْتَبَرُ سَاتِرًا كَالْقُفَّةِ وَقَصَدَ بِهِ السَّتْرَ حَرُمَ وَلَزِمَهُ الْفِدَاءُ.وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى رَأْسِهِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ خُرْجِهِ وَجِرَابِهِ، وَغَيْرِهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَنْ يَحْمِلُ خُرْجَهُ مَثَلًا لَا بِأُجْرَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا.

فَإِنْ حَمَلَ لِغَيْرِهِ أَوْ لِلتِّجَارَةِ، فَالْفِدْيَةُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَيْشُهُ ذَلِكَ.أَيْ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَمْلِ لِلْغَيْرِ أَوِ التِّجَارَةِ لِعَيْشِهِ.وَهُوَ مُعْتَمَدٌ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ.

64- وَالتَّظَلُّلُ بِمَا لَا يُلَامِسُ الرَّأْسَ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي أَصْلٍ تَابِعٍ لَهُ، جَائِزٌ اتِّفَاقًا، كَسَقْفِ الْخَيْمَةِ، وَالْبَيْتِ، مِنْ دَاخِلِهِمَا، أَوِ التَّظَلُّلُ بِظِلِّهِمَا مِنَ الْخَارِجِ، وَمِثْلُ مِظَلَّةِ الْمَحْمَلِ إِذَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهِ مِنَ الْأَصْلِ.

وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ رُكُوبُ السَّيَّارَاتِ الْمُسْقَفَةِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ سُقُوفَهَا مِنْ أَصْلِ صِنَاعَتِهَا، فَصَارَتْ كَالْبَيْتِ وَالْخَيْمَةِ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُظِلُّ ثَابِتًا فِي أَصْلٍ يَتْبَعُهُ فَجَائِزٌ كَذَلِكَ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَا يَجُوزُ التَّظَلُّلُ بِمَا لَا يَثْبُتُ فِي الْمَحْمَلِ.وَنَحْوُ هَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْخِرَقِيُّ، وَضَبَطَهُ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ «أَنَّهُ سَتَرَ رَأْسَهُ بِمَا يُسْتَدَامُ وَيُلَازِمُهُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَتَرَهُ بِشَيْءٍ يُلَاقِيهِ» وَفِي التَّظَلُّلِ بِنَحْوِ ثَوْبٍ يُجْعَلُ عَلَى عَصًا أَوْ عَلَى أَعْوَادِ (مِظَلَّةٍ أَوْ بِشَيْءٍ يَرْفَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الشَّمْسِ أَوِ الرِّيحِ)، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ أَقْرَبُهَا الْجَوَازُ، لِلْحَدِيثِ الْآتِي فِي دَلِيلِ الْجُمْهُورِ.وَيَجُوزُ الِاتِّقَاءُ بِذَلِكَ مِنَ الْمَطَرِ.وَأَمَّا الْبِنَاءُ وَالْخِبَاءُ وَنَحْوُهُمَا فَيَجُوزُ الِاتِّقَاءُ بِهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ.

وَأَجَازَ التَّظَلُّلَ بِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَكَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، لِمَا عَرَفْتَ مِنْ أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ».أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَلِأَنَّ مَا حَلَّ لِلْحَلَالِ- كَمَا فِي الْمُغْنِي- حَلَّ لِلْمُحْرِمِ إِلاَّ مَا قَامَ عَلَى تَحْرِيمِهِ دَلِيلٌ.

سَتْرُ الْوَجْهِ:

65- سَابِعًا: يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ سَتْرُ وَجْهِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ إِلَى الْجُمْهُورِ.

اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَجُلًا وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ: «أَفَادَ أَنَّ لِلْإِحْرَامِ أَثَرًا فِي عَدَمِ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ».وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا، مَعَ أَنَّ فِي الْكَشْفِ فِتْنَةً، فَالرَّجُلُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِإِبَاحَةِ تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ، مِنْ فِعْلِهِمْ أَوْ قَوْلِهِمْ.رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَابِرٍ.

وَرُوِيَ عَنْ الْقَاسِمُ وَطَاوُسٌ وَالثَّوْرِيُّ مِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ.

لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ:

66- ثَامِنًا: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ النَّوَوِيُّ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي مَصَادِرِ الْمَذَاهِبِ.

ب- مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمَلْبَسِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ:

يَنْحَصِرُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمَلْبَسِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فِي أَمْرَيْنِ فَقَطْ، هُمَا الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ، نُفَصِّلُ بَحْثَهُمَا فِيمَا يَلِي:

سَتْرُ الْوَجْهِ:

67- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْإِحْرَامِ سَتْرُ وَجْهِهَا، لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْلِ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ».وَضَابِطُ السَّاتِرِ هُنَا عِنْدَ الْمَذَاهِبِ هُوَ كَمَا مَرَّ فِي سَتْرِ الرَّأْسِ لِلرَّجُلِ.

وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَحْتَجِبَ بِسَتْرِ وَجْهِهَا عَنِ الرِّجَالِ جَازَ لَهَا ذَلِكَ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، إِلاَّ إِذَا خَشِيَتِ الْفِتْنَةَ أَوْ ظَنَّتْ فَإِنَّهُ يَكُونُ وَاجِبًا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ قَالَتْ: كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ، وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَالْحَاكِمُ.وَمُرَادُهَا مِنْ هَذَا سَتْرُ الْوَجْهِ بِغَيْرِ النِّقَابِ عَلَى مَعْنَى التَّسَتُّرِ.

وَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- أَلاَّ يُلَامِسَ السَّاتِرُ الْوَجْهَ، كَأَنْ تَضَعَ عَلَى رَأْسِهَا تَحْتَ السَّاتِرِ خَشَبَةً أَوْ شَيْئًا يُبْعِدُ السَّاتِرَ عَنْ مُلَامَسَةِ وَجْهِهَا «لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِظْلَالِ بِالْمَحْمَلِ» كَمَا فِي الْهِدَايَةِ.

وَأَجَازَ لَهَا الْمَالِكِيَّةُ أَنْ تَسْتُرَ وَجْهَهَا إِذَا قَصَدَتِ السَّتْرَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، بِثَوْبٍ تَسْدُلُهُ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا دُونَ رَبْطٍ، وَلَا غَرْزٍ بِإِبْرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يُغْرَزُ بِهِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنْ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمْ: «إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى سَتْرِهِ»؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي السَّتْرِ الْمُحَرَّمِ أَنَّهُ مِمَّا يُرْبَطُ، وَهَذَا لَا يُرْبَطُ، كَمَا تُشِيرُ عِبَارَةُ الْمَالِكِيَّةِ.

لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ:

68- يُحْظَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا اللُّبْسُ بِكَفَّيْهَا، كَالْقُفَّازِ وَغَيْرِهِ، وَيَقْتَصِرُ إِحْرَامُهَا عَلَى وَجْهِهَا فَقَطْ.

اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِزِيَادَةٍ: «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ».

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» وَبِمَا وَرَدَ مِنْ آثَارٍ عَنِ الصَّحَابَةِ.

وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يُلْبِسُ بَنَاتَهُ الْقُفَّازَيْنِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ.وَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ.وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.يَجُوزُ لِلْمُحْرِمَةِ تَغْطِيَةُ يَدِهَا فَقَطْ مِنْ غَيْرِ شَدٍّ، وَأَنْ تُدْخِلَ يَدَيْهَا فِي أَكْمَامِهَا وَفِي قَمِيصِهَا. الْمُحَرَّمَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِبَدَنِ الْمُحْرِمِ

69- ضَابِطُ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ كُلُّ شَيْءٍ يَرْجِعُ إِلَى تَطْيِيبِ الْجِسْمِ، أَوْ إِزَالَةِ الشُّعْثِ، أَوْ قَضَاءِ التَّفَثِ.وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا قوله تعالى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.

وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ».أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ.فَتَحْرُمُ الْأَشْيَاءُ الْآتِيَةُ:

أ- حَلْقُ الرَّأْسِ.

ب- إِزَالَةُ الشَّعْرِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجِسْمِ.

ج- قَصُّ الظُّفُرِ.

د- الِادِّهَانُ.

هـ- التَّطَيُّبُ.

تَفْصِيلُ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ:

حَلْقُ الرَّأْسِ:

70- يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ حَلْقُ رَأْسِهِ أَوْ رَأْسِ مُحْرِمٍ غَيْرِهِ.وَكَذَا لَوْ حَلَقَ لَهُ غَيْرُهُ حَلَالًا أَوْ مُحْرِمًا يُحْظَرُ عَلَيْهِ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ.وَالتَّقْصِيرُ كَالْحَلْقِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.وَقَلِيلُ الشَّعْرِ كَذَلِكَ يُحْظَرُ حَلْقُهُ أَوْ قَطْعُهُ.

وَكَذَلِكَ إِزَالَةُ الشَّعْرِ عَنِ الرَّأْسِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَالنَّتْفِ، وَالْحَرْقِ، أَوِ اسْتِعْمَالِ النُّورَةِ لِإِزَالَتِهِ.وَمِثْلُهَا أَيُّ عِلَاجٍ مُزِيلٍ لِلشَّعْرِ.

وَذَلِكَ كُلُّهُ مَا لَمْ يَفْرُغِ الْحَالِقُ وَالْمَحْلُوقُ لَهُ مِنْ أَدَاءِ نُسُكِهِمَا.فَإِذَا فَرَغَا لَا يَدْخُلَانِ فِي الْحَظْرِ.وَيَسُوغُ لَهُمَا أَنْ يَحْلِقَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ، بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَالدَّلِيلُ هُوَ مَا سَبَقَ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ، وَهِيَ وَإِنْ ذَكَرَتِ الْحَلْقَ فَإِنَّ غَيْرَهُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِثْلَهُ فِي التَّرَفُّهِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ.

وَاخْتَلَفُوا فِي حَلْقِ الْمُحْرِمِ لِلْحَلَالِ.فَحَظَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ.وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ.وَأَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

اسْتَدَلَّ الثَّلَاثَةُ بِأَنَّ الْمُحْرِمَ حَلَقَ شَعْرًا لَا حُرْمَةَ لَهُ مِنْ حَيْثُ الْإِحْرَامُ، فَلَا يُمْنَعُ، وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّ الْمُحْرِمَ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِ نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِ غَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}.وَالْإِنْسَانُ لَا يَحْلِقُ رَأْسَ نَفْسِهِ عَادَةً، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ غَيْرِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ نَفْسِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى.وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْلُوقُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، لِمَا قُلْنَا.

إِزَالَةُ الشَّعْرِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجِسْمِ:

71- يُحْظَرُ إِزَالَةُ الشَّعْرِ وَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ، بِجَامِعِ التَّرَفُّهِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.

قَصُّ الظُّفُرِ:

72- يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ قَصُّ الظُّفُرِ قِيَاسًا عَلَى حَلْقِ الشَّعْرِ بِجَامِعِ التَّرَفُّهِ وَإِزَالَةِ الشُّعْثِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا اتِّفَاقًا.

وَأَمَّا قَصُّ ظُفُرِ الْمُحْرِمِ لِظُفُرِ حَلَالٍ فَفِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ.

الِادِّهَانُ:

73- الدُّهْنُ مَادَّةٌ دَسِمَةٌ مِنْ أَصْلٍ حَيَوَانِيٍّ أَوْ نَبَاتِيٍّ.وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الدُّهْنِ غَيْرِ الْمُطَيِّبِ: فَالْجُمْهُورُ- عَدَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ- عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَهُمْ- ذَهَبُوا إِلَى حَظْرِ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُطَيِّبٍ، كَالزَّيْتِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّرَفُّهِ وَالتَّزْيِينِ، وَتَحْسِينِ الشَّعْرِ، وَذَلِكَ يُنَافِي الشَّأْنَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُحْرِمُ مِنَ الشُّعْثِ وَالْغُبَارِ افْتِقَارًا وَتَذَلُّلًا لِلَّهِ تَعَالَى.

وَقَدْ أَوْرَدُوا فِي الدُّهْنِ وَأَشْبَاهِهِ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَنِ الْحَاجُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الشَّعِثُ التَّفِلُ».أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

وَالشَّعِثُ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْوَصْفُ، وَبِفَتْحِهَا الْمَصْدَرُ، وَمَعْنَاهُ انْتِشَارُ الشَّعْرِ وَتَغَبُّرُهُ لِقِلَّةِ التَّعَهُّدِ.وَالتَّفِلُ: مِنَ التُّفْلِ، وَهُوَ تَرْكُ الطِّيبِ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ.فَشَمِلَ بِذَلِكَ تَرْكَ الدُّهْنِ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَعَامَّةِ بَدَنِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الِاسْتِدْلَالِ فِيمَا سَبَقَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ يُحْظَرُ دَهْنُ شَعْرِ الرَّأْسِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَاللِّحْيَةِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِمَا كَالشَّارِبِ وَالْعَنْفَقَةِ فَقَطْ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَصْلَعَ جَازَ دَهْنُ رَأْسِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَا مَحْلُوقَيْنِ فَيُحْظَرُ دَهْنُهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُزَيِّنُهُمَا إِذَا نَبَتَا.

وَيُبَاحُ لَهُ دَهْنُ مَا عَدَا الرَّأْسَ وَاللِّحْيَةَ وَمَا أُلْحِقَ بِهِمَا، وَلَا يُحْظَرُ، ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا، وَيُبَاحُ سَائِرُ شُعُورِ بَدَنِهِ، وَيُبَاحُ لَهُ أَكْلُ الدُّهْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصِيبَ اللِّحْيَةَ أَوِ الشَّارِبَ أَوِ الْعَنْفَقَةَ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّهْنِ طِيبٌ وَلَا تَزْيِينٌ، فَلَا يَحْرُمُ إِلاَّ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَحْصُلُ التَّزْيِينُ.وَإِنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُ، فَلَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ- عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ مِنْ إِبَاحَتِهِ فِي كُلِّ الْبَدَنِ: «إِنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ نَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ.وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الطِّيبِ، فَإِنَّ الطِّيبَ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ وَإِنْ لَمْ يُزِلْ شَيْئًا، وَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّأْسُ وَغَيْرُهُ، وَالدَّهْنُ بِخِلَافِهِ».

هـ- التَّطَيُّبُ:

74- الطِّيبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا يُقْصَدُ مِنْهُ رَائِحَتُهُ غَالِبًا، وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ.وَيُشْتَرَطُ فِي الطِّيبِ الَّذِي يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ أَنْ يَكُونَ مُعْظَمُ الْغَرَضِ مِنْهُ الطِّيبَ، وَاتِّخَاذَ الطِّيبِ مِنْهُ، أَوْ يَظْهَرُ فِيهِ هَذَا الْغَرَضُ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَا تَطِيبُ رَائِحَتُهُ وَيُتَّخَذُ لِلشَّمِّ.

وَقَسَّمَهُ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ.فَالْمُذَكَّرُ: هُوَ مَا يَخْفَى أَثَرُهُ أَيْ تَعَلُّقُهُ بِمَا مَسَّهُ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ جَسَدٍ وَيَظْهَرُ رِيحُهُ.وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْوَاعُ الرَّيَاحِينِ: كَالرَّيْحَانِ، وَالْوَرْدِ، وَالْيَاسَمِينِ.وَأَمَّا الْمِيَاهُ الَّتِي تُعْتَصَرُ مِمَّا ذُكِرَ فَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُؤَنَّثِ.وَالْمُؤَنَّثُ: هُوَ مَا يَظْهَرُ لَوْنُهُ وَأَثَرُهُ، أَيْ تَعَلُّقُهُ بِمَا مَسَّهُ مَسًّا شَدِيدًا، كَالْمِسْكِ، وَالْكَافُورِ، وَالزَّعْفَرَانِ.فَالْمُؤَنَّثُ يُكْرَهُ شَمُّهُ، وَاسْتِصْحَابُهُ، وَمُكْثٌ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَيُحْرِمُ مِنْهُ.وَالْمُذَكَّرُ يُكْرَهُ شَمُّهُ، وَأَمَّا مَسُّهُ مِنْ غَيْرِ شَمٍّ وَاسْتِصْحَابُهُ وَمُكْثٌ بِمَكَانٍ هُوَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ.

تَفْصِيلُ أَحْكَامِ التَّطَيُّبِ لِلْمُحْرِمِ:

تَطْيِيبُ الثَّوْبِ:

75- وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْبَابِ، لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَمِنْ هُنَا قَالُوا: الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي إِزَارِهِ، أَوْ رِدَائِهِ، وَجَمِيعِ ثِيَابِهِ، وَفِرَاشِهِ، وَنَعْلِهِ حَتَّى لَوْ عَلِقَ بِنَعْلِهِ طِيبٌ وَجَبَ أَنْ يُبَادِرَ لِنَزْعِهِ، وَلَا يَضَعُ عَلَيْهِ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ، أَوْ نَحْوُهُمَا مِنْ صَبْغٍ لَهُ طِيبٌ.

كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ حَمْلُ طِيبٍ تَفُوحُ رَائِحَتُهُ، أَوْ شَدُّهُ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، كَالْمِسْكِ، بِخِلَافِ شَدِّ عُودٍ أَوْ صَنْدَلٍ.

أَمَّا الثَّوْبُ الَّذِي فِيهِ طِيبٌ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لُبْسُهُ.وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَطْيِيبُ ثَوْبِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ.وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ الرَّائِحَةِ فِي الثَّوْبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، كَمَا لَا يَضُرُّ بَقَاءُ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ فِي الْبَدَنِ اتِّفَاقًا، قِيَاسًا لِلثَّوْبِ عَلَى الْبَدَنِ، لَكِنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ ثَوْبَ الْإِحْرَامِ أَوْ سَقَطَ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى لُبْسِهِ مَا دَامَتِ الرَّائِحَةُ فِيهِ، بَلْ يُزِيلُ مِنْهُ الرَّائِحَةَ ثُمَّ يَلْبَسُهُ.

تَطْيِيبُ الْبَدَنِ:

76- يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَلَوْ لِلتَّدَاوِي.

وَلَا يُخَضِّبُ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ جِسْمِهِ، وَلَا يَغْسِلُهُ بِمَا فِيهِ طِيبٌ، وَمِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْخِطْمِيُّ وَالْحِنَّاءُ، عَلَى مَا مَرَّ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِمَا.

77- وَأَكْلُ الطِّيبِ الْخَالِصِ أَوْ شُرْبُهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ.أَمَّا إِذَا خَلَطَ الطِّيبَ بِطَعَامٍ قَبْلَ الطَّبْخِ، وَطَبَخَهُ مَعَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ خَلَطَهُ بِطَعَامٍ مَطْبُوخٍ بَعْدَ طَبْخِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ.

أَمَّا إِذَا خَلَطَهُ بِطَعَامٍ غَيْرِ مَطْبُوخٍ: فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ أَكْثَرَ فَلَا شَيْءَ، وَلَا فِدْيَةَ إِنْ لَمْ تُوجَدِ الرَّائِحَةُ، وَإِنْ وُجِدَتْ مَعَهُ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَإِنْ كَانَ الطِّيبُ أَكْثَرَ وَجَبَ فِي أَكْلِهِ الدَّمُ سَوَاءٌ ظَهَرَتْ رَائِحَتُهُ أَوْ لَمْ تَظْهَرْ.وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَكُلُّ طَعَامٍ خُلِطَ بِطِيبٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْبَخَ الطِّيبُ مَعَهُ فَهُوَ مَحْظُورٌ فِي كُلِّ الصُّوَرِ، وَفِيهِ الْفِدَاءُ.

أَمَّا إِنْ خَلَطَ الطِّيبَ بِمَشْرُوبٍ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَغَيْرِهِ، وَجَبَ فِيهِ الْجَزَاءُ، قَلِيلًا كَانَ الطِّيبُ أَوْ كَثِيرًا، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا خَلَطَ الطِّيبَ بِغَيْرِهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ رِيحٌ وَلَا طَعْمٌ، فَلَا حُرْمَةَ وَلَا فِدْيَةَ، وَإِلاَّ فَهُوَ حَرَامٌ وَفِيهِ الْفِدْيَةُ.

شَمُّ الطِّيبِ:

78- شَمُّ الطِّيبِ دُونَ مَسٍّ يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ عِنْدَهُمْ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَحْرُمُ تَعَمُّدُ شَمِّ الطِّيبِ، وَيَجِبُ فِيهِ الْفِدَاءُ، كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُتَطَيَّبُ بِشَمِّهِ.

الصَّيْدُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ

تَعْرِيفُ الصَّيْدِ لُغَةً:

79- الصَّيْدُ لُغَةً: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى، الِاصْطِيَادِ، وَالْقَنْصِ، وَبِمَعْنَى الْمَصِيدِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ دَاخِلٌ فِيمَا يُحْظَرُ بِالْإِحْرَامِ.

تَعْرِيفُ الصَّيْدِ اصْطِلَاحًا:

80- الصَّيْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ الْمُمْتَنِعُ عَنْ أَخْذِهِ بِقَوَائِمِهِ، أَوْ جَنَاحَيْهِ، الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُوَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ الْمُتَوَحِّشُ الْمَأْكُولُ اللَّحْمِ.

أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ:

81- وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ: أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}.وَكُلٌّ مِنْهُمَا نَصٌّ قَاطِعٌ فِي الْمَوْضُوعِ.وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا حَدِيثُ «أَبِي قَتَادَةَ حِينَ أَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ، وَرَأَى حِمَارَ وَحْشٍ.وَفِي الْحَدِيثِ فَأَسْرَجْتُ فَرَسِي، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، ثُمَّ رَكِبْتُ، فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي- وَكَانُوا مُحْرِمِينَ- نَاوِلُونِي السَّوْطَ.فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَنَزَلْتُ، فَتَنَاوَلْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ.وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَنَزَلُوا، فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا، وَقَالُوا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا، وَقَدْ كَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا.قَالَ: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِهِ. إِبَاحَةُ صَيْدِ الْبَحْرِ:

82- وَأَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ: فَحَلَالٌ لِلْحَلَالِ وَلِلْمُحْرِمِ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ: أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}.وَالْإِجْمَاعُ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ.

أَحْكَامُ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ:

83- يَشْمَلُ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ أُمُورًا نُصَنِّفُهَا فِيمَا يَلِي:

تَحْرِيمُ قَتْلَ الصَّيْدِ، لِصَرِيحِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.وَتَحْرِيمُ إِيذَاءِ الصَّيْدِ، أَوِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ.وَمِنْ ذَلِكَ: كَسْرُ قَوَائِمِ الصَّيْدِ، أَوْ كَسْرُ جَنَاحِهِ، أَوْ شَيُّ بَيْضِهِ أَوْ كَسْرُهُ، أَوْ نَتْفُ رِيشِهِ، أَوْ جَزُّ شَعْرِهِ، أَوْ تَنْفِيرُ الصَّيْدِ، أَوْ أَخْذُهُ، أَوْ دَوَامُ إِمْسَاكِهِ، أَوِ التَّسَبُّبُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِدَلِيلِ الْآيَةِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}.وَالْآيَةُ تُفِيدُ تَحْرِيمَ سَائِرِ أَفْعَالِنَا فِي الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ.

وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقِيَاسِ: «أَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ إِتْلَافِهِ لِحَقِّ الْغَيْرِ مُنِعَ مِنْ إِتْلَافِ أَجْزَائِهِ، كَالْآدَمِيِّ، فَإِنْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْهُ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ..».وَلِلْقِيَاسِ عَلَى حَظْرِ تَنْفِيرِ صَيْدِ الْحَرَمِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا» فَإِذَا حَرُمَ تَنْفِيرُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ فِي الْإِحْرَامِ

84- وَتَحْرُمُ الْمُسَاعَدَةُ عَلَى الصَّيْدِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ: مِثْلِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَوِ الْإِشَارَةِ، أَوْ إِعَارَةِ سِكِّينٍ، أَوْ مُنَاوَلَةِ سَوْطٍ.وَكَذَا يَحْرُمُ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ اتِّفَاقًا فِي ذَلِكَ.وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ السَّابِقُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


32-موسوعة الفقه الكويتية (إحلال)

إِحْلَالٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِحْلَالُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ أَحَلَّ ضِدُّ حَرَّمَ، يُقَالُ: أَحْلَلْتُ لَهُ الشَّيْءَ، أَيْ جَعَلْتُهُ لَهُ حَلَالًا.وَيَأْتِي بِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَحَلَّ لُغَةٌ فِي حَلَّ، أَيْ دَخَلَ فِي أَشْهُرِ الْحِلِّ، أَوْ جَاوَزَ الْحَرَمَ، أَوْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ.

وَلَمْ يَسْتَعْمِلِ الْفُقَهَاءُ، لَفْظَ «إِحْلَالٍ» إِلاَّ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ مَعَانِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشَابِهَةِ مِثْلُ «اسْتِحْلَالٌ، وَتَحْلِيلٌ، وَتَحَلُّلٌ، وَحُلُولٌ» فَهِيَ الَّتِي أَكْثَرَ الْفُقَهَاءُ اسْتِعْمَالَهَا، لَكِنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا «الْإِحْلَالَ» بِمَعْنَى الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْمَظْلِمَةِ.

وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْبَعْضِ الْإِحْلَالَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَيُرَادُ بِهِ الْإِطْلَاقَاتُ التَّالِيَةُ:

أ- فَفِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ مِنَ الْإِحْرَامِ عَبَّرَ الْفُقَهَاءُ بِالتَّحَلُّلِ، أَمَّا التَّعْبِيرُ بِالْإِحْلَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ لُغَوِيٌّ. (ر: تَحَلُّلٌ).

ب- وَفِي مَسْأَلَةِ جَعْلِ الْمُحْرِمِ حَلَالًا عَبَّرَ الْفُقَهَاءُ بِالِاسْتِحْلَالِ، سَوَاءٌ كَانَ قَصْدًا أَوْ تَأْوِيلًا. (ر: اسْتِحْلَالٌ).

ج- وَفِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا عَبَّرُوا بِالتَّحْلِيلِ (ر: تَحْلِيلٌ).

د- وَفِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إِذَا حَلَّ عَبَّرُوا بِالْحُلُولِ (ر حُلُولٌ).

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ إِطْلَاقِ لَفْظِ (إِحْلَالٌ) عَلَى مَا سَبَقَ فِي التَّعْرِيفِ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

3- يُرْجَعُ فِي كُلِّ إِطْلَاقٍ إِلَى مُصْطَلَحِهِ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


33-موسوعة الفقه الكويتية (أطعمة 2)

أَطْعِمَةٌ -2

النَّوْعُ السَّادِسُ: الطَّائِرُ الَّذِي لَا يَأْكُلُ إِلاَّ الْجِيَفَ غَالِبًا:

33- اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْغُرَابِ الْأَسْوَدِ الْكَبِيرِ وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ.وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَنْعُ الشَّارِعِ الْأَكْلَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلِيلَ الْمَنْعِ لَيْسَ قَطْعِيًّا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّحْرِيمِ وَبِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ.وَكِلَا النَّوْعَيْنِ لَا يَأْكُلُ غَالِبًا إِلاَّ الْجِيَفَ، فَهُمَا مُسْتَخْبَثَانِ عِنْدَ ذَوِي الطَّبَائِعِ السَّلِيمَةِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ النَّسْرُ، لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ سِوَى اللَّحْمِ مِنْ جِيَفٍ وَسِوَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا مِخْلَبٍ صَائِدٍ.

34- وَيَحِلُّ غُرَابُ الزَّرْعِ، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: الزَّاغُ وَهُوَ غُرَابٌ أَسْوَدُ صَغِيرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مُحْمَرَّ الْمِنْقَارِ وَالرِّجْلَيْنِ.

وَثَانِيهِمَا: الْغُدَافُ الصَّغِيرُ، وَهُوَ غُرَابٌ صَغِيرٌ لَوْنُهُ كَلَوْنِ الرَّمَادِ، وَكِلَاهُمَا يَأْكُلُ الزَّرْعَ وَالْحَبَّ وَلَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ.وَبِحِلِّهِمَا أَيْضًا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

35- وَأَمَّا الْعَقْعَقُ، وَهُوَ غُرَابٌ نَحْوُ الْحَمَامَةِ حَجْمًا، طَوِيلُ الذَّنَبِ فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ، فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حِلُّهُ، لِأَنَّهُ يُخْلَطُ فَيَأْكُلُ الْجِيَفَ وَالْحَبَّ، فَلَا يَكُونُ مُسْتَخْبَثًا.

36- وَلَيْسَتِ الْعِبْرَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْأَسْمَاءِ، وَلَا بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، وَلَا بِالْأَلْوَانِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِنَوْعِ غِذَائِهِ: فَاَلَّذِي لَا يَأْكُلُ إِلاَّ الْجِيَفَ غَالِبًا مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، وَاَلَّذِي يَخْلِطُ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَاَلَّذِي لَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ حَلَالٌ اتِّفَاقًا، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

37- وَالْمَالِكِيَّةِ أَبَاحُوا الْغِرْبَانَ كُلَّهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَدَمُ جَوَازِ آكِلَةِ الْجِيَفِ.

38- وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ الْغِرْبَانِ أَوْ كَرَاهَتِهَا التَّحْرِيمِيَّةِ (إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ) حَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «خَمْسُ فَوَاسِقَ تُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا».وَحَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ».

فَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ أُبِيحَ قَتْلُهُ، وَكَذَا سَائِرُ الْغِرْبَانِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا عُمُومُ لَفْظِ «الْغُرَابِ» فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى.

وَمَا أُبِيحَ قَتْلُهُ فَلَا ذَكَاةَ لَهُ، لِأَنَّ كَلِمَةَ الْقَتْلِ مَتَى أُطْلِقَتْ تَنْصَرِفُ إِلَى إِزْهَاقِ الرُّوحِ بِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ اسْتَطَاعَهَا الْإِنْسَانُ، فَلَوْ حَلَّ بِالذَّكَاةِ لَكَانَ إِزْهَاقُ رُوحِهِ بِغَيْرِهَا إِضَاعَةً لِلْمَالِ، وَقَدْ نَهَى- عليه الصلاة والسلام- عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: مَنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَاسِقًا؟ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَرِهَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَكْلَ الْحِدَاءِ وَالْغُرَابِ حَيْثُ سَمَّاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ فَوَاسِقِ الدَّوَابِّ الَّتِي تُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ.

39- وَحُجَّةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ إِبَاحَةَ الْقَتْلِ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} الْآيَةَ.وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْغُرَابَ لَيْسَ فِي الْآيَةِ، فَيَكُونُ مُبَاحَ الْأَكْلِ.

40- وَحُجَّةُ مَنِ اسْتَثْنَى إِبَاحَةَ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْغِرْبَانِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا وَصْفُ الْغُرَابِ بِالْأَبْقَعِ أَشْعَرَتْ أَنَّ الْغُرَابَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِصِفَةٍ تُوجِبُ خُبْثَهُ، وَقَدْ لُوحِظَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ كَوْنُهُ لَا يَأْكُلُ إِلاَّ الْجِيفَةَ غَالِبًا، فَحُمِلَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُطْلَقَةُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُلْحِقَ بِالْأَبْقَعِ مَا مَاثَلَهُ وَهُوَ الْغُدَافُ الْكَبِيرُ.وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَقْعَقِ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ أَنْظَارِهِمْ فِي كَوْنِهِ يُكْثِرُ مِنْ أَكْلِ الْجِيفَةِ أَوْ لَا يُكْثِرُ.

النَّوْعُ السَّابِعُ: كُلُّ طَائِرٍ ذِي دَمٍ سَائِلٍ، وَلَيْسَ لَهُ مِخْلَبٌ صَائِدٌ، وَلَيْسَ أَغْلَبُ أَكْلِهِ الْجِيَفَ:

41- وَذَلِكَ كَالدَّجَاجِ، وَالْبَطِّ، وَالْإِوَزِّ، وَالْحَمَامِ مُسْتَأْنَسًا وَمُتَوَحِّشًا، وَالْفَوَاخِتِ، وَالْعَصَافِيرِ، وَالْقَبَجِ، وَالْكُرْكِيِّ، وَالْخُطَّافِ، وَالْبُومِ، وَالدُّبْسِيِّ، وَالصُّلْصُلِ، وَاللَّقْلَقِ، وَاللِّحَامِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ، وَالْخُفَّاشِ (الْوَطْوَاطِ).

فَكُلُّ هَذَا مَأْكُولٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

42- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِإِبَاحَةِ هَذَا النَّوْعِ كُلِّهِ وَلَوْ جَلاَّلَةً فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ، إِلاَّ الْخُفَّاشُ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ فِيهِ الْكَرَاهَةُ، وَقِيلَ بِكَرَاهَةِ الْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ، وَالنَّحْلَةِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ».وَقِيلَ بِالْكَرَاهَةِ فِي الْخُطَّافِ أَيْضًا، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ فِيهِ بِمَا يُعَشِّشُ فِي الْبُيُوتِ احْتِرَامًا لِمَنْ عُشِّشَ عِنْدَهُ.

43- وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي فِي هَذَا النَّوْعِ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ يَحْرُمُ مَا أَمَرَ الشَّارِعُ بِقَتْلِهِ، وَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِهِ، وَمَا اسْتُخْبِثَ، وَيَحِلُّ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّطْبِيقِ: فَالرَّخَمَةُ وَالْخُفَّاشُ وَاللَّقْلَقُ وَالْخُطَّافُ وَالسِّنُونُو تَحْرُمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَالْبُغَاثَةُ تَحْرُمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالْبَبَّغَاءُ وَالطَّاوُوسُ يَحْرُمَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِخُبْثِ غِذَائِهِمَا، وَيَحِلاَّنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَالْأَخْيَلُ، وَيُسَمَّى: الشَّقْرَاقَ يَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِخُبْثِهِ، وَيَحِلُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَأَبُو زُرَيْقٍ، وَيُسَمَّى: الدِّرْبَابَ أَوِ الْقَيْقَ، نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِخُبْثِهِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَحِلُّ.

وَالْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ يَحْرُمَانِ فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِمَا.

وَيَحْرُمُ الْعَقْعَقُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْجِيَفَ كَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ (ر: ف 33).

وَالنَّعَامَةُ، وَالْكُرْكِيُّ، وَالْحُبَارَى، وَالدَّجَاجُ، وَالْبَطُّ، وَالْإِوَزُّ، وَالْغَرَنِيقُ، وَسَائِرُ طُيُورِ الْمَاءِ- سِوَى اللَّقْلَقِ- كُلُّهَا مِمَّا يُؤْكَلُ عَلَى الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَكَذَا الْحَمَامُ، وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ كَالْقَمَرِيِّ، وَالدُّبْسِيِّ، وَالْيَمَامِ، وَالْفَوَاخِتِ، وَالْقَطَا، وَالْحَجَلِ.وَكَذَلِكَ الْعُصْفُورُ

وَكُلُّ مَا عَلَى شَكْلِهِ، كَالْعَنْدَلِيبِ الْمُسَمَّى بِالْهَزَارِ، وَالصَّعْوَةِ، وَالزُّرْزُورِ، حَلَالٌ فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهَا مَعْدُودَةٌ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، (كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ فِي بَعْضٍ مِنْهَا عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ).

النَّوْعُ الثَّامِنُ: الْخَيْلُ:

44- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى إِبَاحَةِ الْخَيْلِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عِرَابًا أَمْ بَرَاذِينَ.

وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما-، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ».وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما- قَالَتْ: «نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، إِلَى حِلِّ أَكْلِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ.

وَحُجَّتُهُمْ هِيَ اخْتِلَافُ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي الْبَابِ وَاخْتِلَافِ السَّلَفِ، فَذَهَبُوا إِلَى كَرَاهَةِ الْخَيْلِ احْتِيَاطًا، وَلِأَنَّ فِي أَكْلِهَا تَقْلِيلَ آلَةِ الْجِهَادِ.

45- وَبِنَاءً عَلَى الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ يُقَرِّرُ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ سُؤْرَ الْفَرَسِ وَلَبَنَهَا طَاهِرَانِ، لِأَنَّ كَرَاهَةَ أَكْلِ الْخَيْلِ لَيْسَتْ لِنَجَاسَتِهَا، بَلْ لِاحْتِرَامِهَا، لِأَنَّهَا آلَةُ الْجِهَادِ، وَفِي تَوْفِيرِهَا إِرْهَابُ الْعَدُوِّ، كَمَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُ إِلَى الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ بِالتَّحْرِيمِ، وَبِهِ جَزَمَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ.

وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} فَالِاقْتِصَارُ عَلَى الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَأْكُولَةً، إِذْ لَوْ كَانَتْ مَأْكُولَةً لَقَالَ: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، كَمَا قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}.وَكَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ».

وَلَمَّا كَانَتْ دَلَالَةُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ كَانَ الْحُكْمُ هُوَ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَلَا مَانِعَ مِنْ تَسْمِيَتِهَا (تَحْرِيمًا) بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْمَنْعُ بِالْمَعْنَى الشَّامِلِ لِمَا كَانَ دَلِيلُهُ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا.

النَّوْعُ التَّاسِعُ: الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ:

46- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ لِلْمَالِكِيَّةِ- إِلَى حُرْمَةِ أَكْلِهِ.وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ عَبَّرُوا بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْمَنْعَ، وَسَوَاءٌ أَبَقِيَ عَلَى أَهْلِيَّتِهِ أَمْ تَوَحَّشَ.

وَمِنْ أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ: حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ، فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ».

وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمْرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ».

وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ نَقَلَ تَحْرِيمَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ طَرِيقِ تِسْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَسَانِيدَ كَالشَّمْسِ، فَهُوَ نَقْلُ تَوَاتُرٍ لَا يَسَعُ أَحَدًا خِلَافُهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَيِ التَّنْزِيهِيَّةِ.

47- وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ: إِنَّ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَرِهُوا الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ، وَأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ فِي تَحْرِيمِهَا، وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ كَانَا يَقُولَانِ بِظَاهِرِ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}.تَلَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: مَا خَلَا هَذَا فَهُوَ حَلَالٌ، وَأَنَّ عِكْرِمَةَ وَأَبَا وَائِلٍ لَمْ يَرَيَا بِأَكْلِ الْحُمُرِ بَأْسًا.

وَنَقَلَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ قَالَ بِإِبَاحَتِهَا.

وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ أَنَّ فِيهَا ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ:

(الْأَوَّلُ) التَّحْرِيمُ أَوِ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ.

(وَالثَّانِي) الْكَرَاهَةُ التَّنْزِيهِيَّةُ.

(وَالثَّالِثُ) الْإِبَاحَةُ.

النَّوْعُ الْعَاشِرُ: الْخِنْزِيرُ:

48- الْخِنْزِيرُ حَرَامٌ لَحْمُهُ وَشَحْمُهُ وَجَمِيعُ أَجْزَائِهِ، لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.

49- قَالَ الْأَلُوسِيُّ: «خَصَّ اللَّحْمَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ بَقِيَّةَ أَجْزَائِهِ أَيْضًا حَرَامٌ، خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ، لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يُؤْكَلُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ كَالتَّابِعِ لَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ الْأَلُوسِيُّ أَنَّهُ خَصَّ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِالذِّكْرِ، مَعَ أَنَّ بَقِيَّةَ أَجْزَائِهِ حَرَامٌ، لِإِظْهَارِ حُرْمَةِ مَا اسْتَطَابُوهُ وَفَضَّلُوهُ عَلَى سَائِرِ اللُّحُومِ وَاسْتَعْظَمُوا وُقُوعَ تَحْرِيمِهِ».

50- وَالضَّمِيرُ فِي قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}، فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ رَاجِعٌ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إِلَيْهِ وَهُوَ الْخِنْزِيرُ نَفْسُهُ، فَصَحَّ بِالْقُرْآنِ أَنَّ الْخِنْزِيرَ بِعَيْنِهِ رِجْسٌ، فَهُوَ كُلُّهُ رِجْسٌ وَبَعْضُ الرِّجْسِ رِجْسٌ، وَالرِّجْسُ حَرَامٌ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ، فَالْخِنْزِيرُ كُلُّهُ حَرَامٌ، لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ شَعْرُهُ وَلَا غَيْرُهُ.

النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الْحَشَرَاتُ:

51- الْحَشَرَاتُ قَدْ تُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْهَوَامِّ فَقَطْ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى صِغَارِ الدَّوَابِّ كَافَّةً مِمَّا يَطِيرُ أَوْ لَا يَطِيرُ.وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الثَّانِي الْأَعَمُّ.وَالْحَشَرَاتُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

(أ) مَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ (ذَاتِيٌّ) وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: الْحَيَّةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْخُلْدُ، وَالضَّبُّ، وَالْيَرْبُوعُ، وَابْنُ عُرْسٍ، وَالْقُنْفُذُ.

(بِ) مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ (ذَاتِيٌّ) وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: الْوَزَغُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْعَظَاءَةُ، وَالْحَلَزُونُ الْبَرِّيُّ، وَالْعَنْكَبُوتُ، وَالْقُرَادُ، وَالْخُنْفُسَاءُ، وَالنَّمْلُ، وَالْبُرْغُوثُ، وَالْجَرَادُ، وَالزُّنْبُورُ، وَالذُّبَابُ وَالْبَعُوضُ.

52- وَهَذَا التَّقْسِيمُ فِي الْحَشَرَاتِ إِلَى ذَوَاتِ دَمٍ سَائِلٍ وَغَيْرِ سَائِلٍ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي كَوْنِهَا مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ فِي مَوْضُوعِ الْأَطْعِمَةِ هُنَا، وَلَكِنَّ لَهُ تَأْثِيرًا فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ هُوَ نَجَاسَتُهَا وَطَهَارَتُهَا، فَذَاتُ الدَّمِ السَّائِلِ تَنْجُسُ مَيْتَتُهَا.وَتَتَنَجَّسُ بِهَا الْمَائِعَاتُ الْقَلِيلَةُ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ لَهَا دَمٌ سَائِلٌ، وَلِذَلِكَ جُمِعَ النَّوْعَانِ فِي مَوْضُوعِ الْأَطْعِمَةِ هُنَا لِوَحْدَةِ الْحُكْمِ فِيهِمَا مِنْ حَيْثُ جَوَازُ الْأَكْلِ أَوْ عَدَمِهِ.

وَلَمَّا كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْجَرَادِ وَالضَّبِّ وَالدُّودِ حُكْمٌ خَاصٌّ بِكُلٍّ مِنْهَا حَسُنَ إِفْرَادُ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى حِدَةٍ.

الْجَرَادُ:

53- أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى حِلِّ الْجَرَادِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حِلِّهِ الْحَدِيثُ الْقَائِلُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالطِّحَالُ وَالْكَبِدُ».

- وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَذْكِيَةِ الْجَرَادِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا بُدَّ مِنْ تَذْكِيَتِهِ بِأَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا يُعَجِّلُ مَوْتَهُ بِتَسْمِيَةٍ وَنِيَّةٍ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ كَرِهُوا ذَبْحَ الْجَرَادِ وَقَطْعَهُ حَيًّا.وَصَرَّحُوا بِجَوَازِ قَلْيِهِ مَيْتًا دُونَ إِخْرَاجِ مَا فِي جَوْفِهِ، وَلَا يَتَنَجَّسُ بِهِ الدُّهْنُ.

وَيَحْرُمُ عِنْدَهُمْ قَلْيُهُ وَشَيُّهُ حَيًّا عَلَى الرَّاجِحِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ التَّعْذِيبِ، وَقِيلَ: يَحِلُّ ذَلِكَ فِيهِ كَمَا يَحِلُّ فِي السَّمَكِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَهُمْ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ حَيَاةَ الْجَرَادِ مُسْتَقِرَّةٌ لَيْسَتْ كَحَيَاةِ الْمَذْبُوحِ، بِخِلَافِ السَّمَكِ الَّذِي خَرَجَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنَّ حَيَاتَهُ كَحَيَاةِ الْمَذْبُوحِ.

وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَلْيِهِ وَشَيِّهِ حَيًّا، فَذَهَبُوا إِلَى مِثْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ إِبَاحَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا تَعْذِيبٌ، لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَاجَةِ، فَإِنَّ حَيَاتَهُ قَدْ تَطُولُ فَيَشُقُّ انْتِظَارُ مَوْتِهِ.

الضَّبُّ:

54- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الضَّبِّ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِبَاحَتِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ.قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْظُرُ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى تَحْرِيمِهِ، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ «عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ حَسَنَةَ: أَنَّهُمْ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ فِي إِحْدَى الْغَزَوَاتِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدَ الصَّحَابَةُ ضِبَابًا فَحَرَشُوهَا وَطَبَخُوهَا، فَبَيْنَمَا كَانَتِ الْقُدُورُ، تَغْلِي بِهَا عَلِمَ بِذَلِكَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَهُمْ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ فَأَلْقُوا بِهَا».

وَاعْتَبَرَ الْجُمْهُورُ مَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِهِ مَنْسُوخًا، لِأَنَّ حَدِيثَ الْإِبَاحَةِ مُتَأَخِّرٌ، لِأَنَّهُ حَضَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ لَمْ يَجْتَمِعْ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ بِالْمَدِينَةِ.

وَمِمَّنْ كَرِهَ الضَّبَّ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ عِنْدَهُمَا تَحْرِيمِيَّةً، وَهَذَا عِنْدَئِذٍ يَتَّفِقُ مَعَ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تَنْزِيهِيَّةٌ.

وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهِ تَنْزِيهًا تَعَارُضُ أَدِلَّةِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ، فَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا احْتِيَاطًا.

الدُّودُ:

55- تَنَاوَلَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ تَفْصِيلَاتٍ عَنِ الدُّودِ إِيجَازُهَا فِيمَا يَلِي: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ دُودَ الزُّنْبُورِ وَنَحْوِهِ قَبْلَ أَنْ تُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ، فَإِنْ نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ.وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَكْلُ الْجُبْنِ أَوِ الْخَلِّ أَوِ الثِّمَارِ بِدُودِهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ مَاتَ الدُّودُ وَنَحْوُهُ فِي طَعَامٍ وَتَمَيَّزَ عَنِ الطَّعَامِ أُخْرِجَ مِنْهُ وُجُوبًا، فَلَا يُؤْكَلُ مَعَهُ، وَلَا يُطْرَحُ الطَّعَامُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ، لِأَنَّ مَيْتَتَهُ طَاهِرَةٌ.

وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ بِأَنِ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ وَتَهَرَّى طُرِحَ الطَّعَامُ، لِعَدَمِ إِبَاحَةِ نَحْوِ الدُّودِ الْمَيِّتِ بِهِ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا، فَيُلْقَى لِكَلْبٍ أَوْ هِرٍّ أَوْ دَابَّةٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الدُّودُ غَيْرَ الْمُتَمَيِّزِ قَلِيلًا.

وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فِي الطَّعَامِ جَازَ أَكْلُهُ مَعَهُ.

هَذَا كُلُّهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الدُّودُ وَنَحْوُهُ تَوَلَّدَ فِي الطَّعَامِ (أَيْ عَاشَ وَتَرَبَّى فِيهِ)، سَوَاءٌ أَكَانَ فَاكِهَةً أَمْ حُبُوبًا أَمْ تَمْرًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَكْلُهُ مَعَهُ عِنْدَهُمْ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، مَاتَ فِيهِ أَوْ لَا، تَمَيَّزَ أَوْ لَمْ يَتَمَيَّزْ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَلْحَظُونَ فِيهِ حِينَئِذٍ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَحِلُّ أَكْلُ الدُّودِ الْمُتَوَلِّدِ فِي طَعَامٍ كَخَلٍّ وَفَاكِهَةٍ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ:

الْأُولَى: - أَنْ يُؤْكَلَ مَعَ الطَّعَامِ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا، فَإِنْ أُكِلَ مُنْفَرِدًا لَمْ يَحِلَّ.

الثَّانِيَةُ: - أَلاَّ يُنْقَلَ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ نُقِلَ مُنْفَرِدًا لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ.وَهَاتَانِ الشَّرِيطَتَانِ مَنْظُورٌ فِيهِمَا أَيْضًا إِلَى مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ.

الثَّالِثَةُ: - أَلاَّ يُغَيِّرَ طَعْمَ الطَّعَامِ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ إِنْ كَانَ مَائِعًا، فَإِنْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ وَلَا شُرْبُهُ، لِنَجَاسَتِهِ حِينَئِذٍ.

وَيُقَاسُ عَلَى الدُّودِ السُّوسُ الْمُتَوَلِّدُ فِي نَحْوِ التَّمْرِ وَالْبَاقِلَاءِ إِذَا طُبِخَا، فَإِنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ مَا لَمْ يُغَيِّرِ الْمَاءَ.

وَكَذَا النَّمْلُ إِذَا وَقَعَ فِي الْعَسَلِ وَنَحْوِهِ فَطُبِخَ.

وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْبَاقِلَاءِ الْمُدَوَّدِ: تَجَنُّبُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَذَّرْ فَأَرْجُو.وَقَالَ عَنْ تَفْتِيشِ التَّمْرِ الْمُدَوَّدِ: لَا بَأْسَ بِهِ.وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ أُتِيَ بِتَمْرٍ عَتِيقٍ فَجَعَلَ يُفَتِّشُهُ يُخْرِجُ السُّوسَ مِنْهُ».قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ أَحْسَنُ.

بَقِيَّةُ الْحَشَرَاتِ:

56- لِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ بَقِيَّةِ الْحَشَرَاتِ، مَا عَدَا الْجَرَادَ وَالضَّبَّ، وَالدُّودَ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

الْأَوَّلُ: - حُرْمَةُ أَصْنَافِ الْحَشَرَاتِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا تُعَدُّ مِنَ الْخَبَائِثِ لِنُفُورِ الطَّبَائِعِ السَّلِيمَةِ مِنْهَا.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ.

الثَّانِي: - حِلُّ أَصْنَافِهَا كُلِّهَا لِمَنْ لَا تَضُرُّهُ.وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْحِلِّ تَذْكِيَتَهَا: فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ ذُكِّيَتْ كَمَا يُذَكَّى الْجَرَادُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ ذُكِّيَتْ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ مِنْ أَمَامِ الْعُنُقِ بِنِيَّةٍ وَتَسْمِيَةٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْفَأْرِ إِذَا عُلِمَ وُصُولُهُ إِلَى النَّجَاسَةِ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ وُصُولُهُ إِلَيْهَا فَهُوَ مُبَاحٌ.

الثَّالِثُ: - التَّفْصِيلُ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ أَصْنَافِهَا دُونَ بَعْضٍ: فَالشَّافِعِيَّةُ: قَالُوا بِإِبَاحَةِ الْوَبَرِ، وَأُمِّ حُبَيْنٍ، وَالْيَرْبُوعِ، وَابْنِ عُرْسٍ، وَالْقُنْفُذِ.أَمَّا أُمُّ حُبَيْنٍ فَلِشَبَهِهَا بِالضَّبِّ، وَأَمَّا الْبَقِيَّةُ فَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَخْبَثَةٍ.

وَالْحَنَابِلَةُ خَالَفُوا الشَّافِعِيَّةَ فِي الْقُنْفُذِ وَابْنِ عُرْسٍ، فَقَالُوا بِحُرْمَتِهِمَا، وَلَهُمْ رِوَايَتَانِ فِي الْوَبَرِ وَالْيَرْبُوعِ أَصَحُّهُمَا الْإِبَاحَةُ.

النَّوْعُ الثَّانِي عَشَرَ: الْمُتَوَلِّدَاتُ، وَمِنْهَا: الْبِغَالُ:

57- يُقْصَدُ بِالْمُتَوَلِّدَاتِ مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ.وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:

الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ نَوْعَيْنِ حَلَالَيْنِ.وَهُوَ حَلَالٌ بِلَا خِلَافٍ.

الصِّنْفُ الثَّانِي: مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مُحَرَّمَيْنِ أَوْ مَكْرُوهَيْنِ تَحْرِيمًا.وَهُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا بِلَا خِلَافٍ.

الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، وَالثَّانِي حَلَالٌ مَعَ الْإِبَاحَةِ أَوْ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الصِّنْفِ: الْبِغَالُ.وَفِي حُكْمِهَا تَفْصِيلٌ:

58- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْبَغْلَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُتَوَلِّدَاتِ يَتْبَعُ أَخَسَّ الْأَصْلَيْنِ.وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ هَذِهِ التَّبِيعَةَ إِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالتَّوَلُّدِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ.وَعَلَى هَذَا لَوْ وَلَدَتِ الشَّاةُ كَلْبَةً دُونَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهَا نَزَا عَلَيْهَا كَلْبٌ فَإِنَّهَا تَحِلُّ، لِعَدَمِ الْيَقِينِ بِتَوَلُّدِهَا مِنْ كَلْبٍ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَعُ الْخِلْقَةُ عَلَى خِلَافِ صُورَةِ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ الْوَرَعُ تَرْكَهَا.

وَحُجَّتُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ يَتْبَعُ أَخَسَّ الْأَصْلَيْنِ، أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُمَا فَيَجْتَمِعُ فِيهِ حِلٌّ وَحُرْمَةٌ، فَيُغَلَّبُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا.وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي، أَوِ الْحَاظِرُ وَالْمُبِيحُ، غُلِّبَ جَانِبُ الْمَانِعِ الْحَاظِرِ احْتِيَاطًا.

59- وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْبِغَالُ تَابِعَةٌ لِلْأُمِّ، فَالْبَغْلُ الَّذِي أُمُّهُ أَتَانٌ (حِمَارَةٌ) يُكْرَهُ أَكْلُ لَحْمِهِ تَحْرِيمًا تَبَعًا لأُِمِّهِ، وَاَلَّذِي أُمُّهُ فَرَسٌ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي فِيهِ الْخَيْلُ: فَيَكُونُ مَكْرُوهًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُبَاحًا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.فَلَوْ فُرِضَ تَوَلُّدُهُ بَيْنَ حِمَارٍ وَبَقَرَةٍ، أَوْ بَيْنَ حِصَانٍ وَبَقَرَةٍ فَهُوَ مُبَاحٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ، تَبَعًا لأُِمِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَمَا يُقَالُ فِي الْبِغَالِ يُقَالُ فِي كُلِّ مُتَوَلِّدٍ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَالتَّبَعِيَّةُ لِلْأُمِّ هِيَ الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَيُعْرَفُ مِنَ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَتِهِ لِابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْأُمِّ وَلَوْ وَلَدَتِ الْمَأْكُولَةُ مَا صُورَتُهُ صُورَةُ غَيْرِ الْمَأْكُولِ، كَمَا لَوْ وَلَدَتِ الشَّاةُ ذِئْبًا فَإِنَّهُ يَحِلُّ.

60- وَالْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا يَقُولُونَ بِقَاعِدَةِ التَّبَعِيَّةِ لِلْأُمِّ فِي الْحُكْمِ مَعَ بَعْضِ اخْتِلَافٍ: فَهُمْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِأَلاَّ يَأْتِيَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ عَلَى صُورَةِ الْمُحَرَّمِ، فَإِنَّهُ عِنْدَئِذٍ يَحْرُمُ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ مُبَاحَةً، كَمَا لَوْ وَلَدَتِ الشَّاةُ خِنْزِيرًا.وَكَذَلِكَ لَا يُجَوِّزُونَ أَكْلَ مُبَاحٍ وَلَدَتْهُ مُحَرَّمَةٌ، كَشَاةٍ مِنْ أَتَانٍ (وَفْقًا لِلْقَاعِدَةِ) وَلَا عَكْسُهُ أَيْضًا، كَأَتَانٍ مِنْ شَاةٍ (عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ) وَلَكِنَّ هَذَا الْوَلَدَ الَّذِي وَلَدَتْهُ الْمُحَرَّمَةُ عَلَى صُورَةِ الْمُبَاحِ إِذَا نَسَلَ يُؤْكَلُ نَسْلُهُ عِنْدَهُمْ حَيْثُ كَانَ عَلَى صُورَةِ الْمُبَاحِ، لِبُعْدِهِ عَنْ أُمِّهِ الْمُحَرَّمَةِ.

وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْبَغْلِ قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: التَّحْرِيمُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ.وَثَانِيهِمَا: الْكَرَاهَةُ دُونَ تَفْرِيقٍ أَيْضًا بَيْنَ كَوْنِ أُمِّهِ فَرَسًا أَوْ أَتَانًا، اعْتِمَادًا عَلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى فِي خُصُوصِ الْبَغْلِ غَيْرِ قَاعِدَةِ التَّوَلُّدِ.

61- وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْبَغْلَ يَتْبَعُ أُمَّهُ أَنَّهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهَا: حِلًّا، وَحُرْمَةً، وَكَرَاهَةً، فَيَبْقَى هَذَا الْحُكْمُ بَعْدَ خُرُوجِهِ اسْتِصْحَابًا.

وَحُجَّةُ مَنْ أَطْلَقَ التَّحْرِيمَ أَوِ الْكَرَاهَةَ التَّحْرِيمِيَّةَ.مِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}.فَقَدْ بَيَّنَتِ الْآيَةُ مَزَايَاهَا أَنَّهَا رَكَائِبُ وَزِينَةٌ، وَسَكَتَتْ عَنِ الْأَكْلِ فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَأْكُولَةٍ.

وَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ- لُحُومَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَلُحُومَ الْبِغَالِ، وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ».

وَحَدِيثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ».

وَحُجَّةُ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ هِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ دَلَالَةِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَبَيْنَ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فَقَالُوا: إِنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةٌ، عَمَلًا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ، وَلَيْسَتْ وَاضِحَةَ الْإِبَاحَةِ لِلْخِلَافِ فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْأَحَادِيثِ، فَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةً تَنْزِيهِيَّةً.

وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}.

وَقَالَ أَيْضًا: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا فَصْلَ تَحْرِيمَ الْبَغْلِ، فَهُوَ حَلَالٌ.

وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْحِمَارِ فَيَكُونُ مِثْلَهُ قَوْلٌ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُنْذُ نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ هُوَ مُغَايِرٌ لِلْحِمَارِ، وَلَيْسَ جُزْءًا مِنْهُ.

النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: كُلُّ حَيَوَانٍ لَمْ يَعْرِفْهُ الْعَرَبُ فِي أَمْصَارِهِمْ:

62- الْمُرَادُ بِهَذَا النَّوْعِ مَا كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ مِنْ قَبْلُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَهْلِ اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي أَمْصَارِهِمْ وَأَشْبَهَ مَا اسْتَطَابُوهُ أَوِ اسْتَخْبَثُوهُ.

فَمَا كَانَ مُشَبَّهًا لِمَا اسْتَطَابُوهُ فَهُوَ حَلَالٌ أَكْلُهُ.وَمَا كَانَ مُشَبَّهًا لِمَا اسْتَخْبَثُوهُ فَهُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} أَيْ مَا اسْتَطَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، لِأَنَّهُ هُمُ السَّائِلُونَ الَّذِينَ وُجِّهَ إِلَيْهِمُ الْجَوَابُ.وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} أَيْ مَا اسْتَخْبَثُوهُ، فَاَلَّذِينَ تُعْتَبَرُ اسْتِطَابَتُهُمْ وَاسْتِخْبَاثُهُمْ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُ الْحِجَازِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَخُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا.وَالْمُعْتَبَرُ مِنْهُمْ أَهْلُ الْأَمْصَارِ لَا أَهْلُ الْبَوَادِي، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَأْكُلُونَ لِلضَّرُورَةِ مَا يَجِدُونَ مَهْمَا كَانَ.

فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي أَمْصَارِ الْحِجَازِ يُرَدُّ إِلَى أَقْرَبِ مَا يُشْبِهُهُ فِي بِلَادِهِمْ.فَإِنْ أَشْبَهَ مَا اسْتَطَابُوهُ حَلَّ، وَإِنْ أَشْبَهَ مَا اسْتَخْبَثُوهُ حَرُمَ.وَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ شَيْئًا مِمَّا عِنْدَهُمْ حَلَّ، لِدُخُولِهِ تَحْتَ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الْآيَةَ.

هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.وَصَرَّحَ بِنَحْوِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ اخْتِلَافَاتٍ يَسِيرَةٍ تُعْلَمُ بِمُرَاجَعَةِ كُتُبِهِمْ.

63- وَالْمَالِكِيَّةُ يُحِلُّونَ كُلَّ مَا لَا نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ.

فَالْمَالِكِيَّةُ لَا يَعْتَبِرُونَ اسْتِطَابَةَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا اسْتِخْبَاثَهُمْ وَلَا الْمُشَابَهَةَ أَسَاسًا فِي تَفْسِيرِ الطَّيِّبَاتِ.

وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ التَّالِيَةِ، هِيَ قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، وَقَوْلُهُ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَمِنْهَا يُعْرَفُ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ النَّصُّ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ الْأُولَى، فَيَبْقَى مَا سِوَاهُ دَاخِلًا فِي عُمُومِهَا الْمُبِيحِ.

مَا يَحْرُمُ أَوْ يُكْرَهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِسَبَبٍ عَارِضٍ:

64- هُنَاكَ حَالَاتٌ عَارِضَةٌ تَجْعَلُ بَعْضَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَكْلُهَا شَرْعًا، وَلَوْ ذُكِّيَتِ التَّذْكِيَةَ الْمَقْبُولَةَ شَرْعًا.فَإِذَا زَالَتْ أَسْبَابُ الْحُرْمَةِ أَوِ الْكَرَاهَةِ الْعَارِضَةِ عَادَ الْحَيَوَانُ حَلَالًا دُونَ حَرَجٍ.

هَذِهِ الْأَسْبَابُ الْعَارِضَةُ مِنْهَا مَا يَتَّصِلُ بِالْإِنْسَانِ، وَمِنْهَا مَا يَتَّصِلُ بِالْحَيَوَانِ نَفْسِهِ، وَمِنْهَا مَا يَتَّصِلُ بِهِمَا مَعًا.وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:

أَسْبَابُ التَّحْرِيمِ الْعَارِضَةِ:

أ- الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ:

65- هَذَا سَبَبٌ يَقُومُ بِالْإِنْسَانِ، فَحَالَةُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ تُجْعَلُ مِنَ الْمَحْظُورِ عَلَى الْمُحْرِمِ صَيْدُ حَيَوَانِ الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ، مَا دَامَ الشَّخْصُ مُحْرِمًا لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ إِحْرَامِهِ.فَإِذَا قَتَلَ حَيَوَانًا مِنْ هَذَا النَّوْعِ صَيْدًا، أَوْ أَمْسَكَهُ فَذَبَحَهُ، كَانَ كَالْمَيْتَةِ حَرَامُ اللَّحْمِ عَلَى قَاتِلِهِ الْمُحْرِمِ نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، سَوَاءٌ اصْطَادَهُ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ أَوْ خَارِجَهُ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الْآيَةَ.

66- وَالْمُرَادُ بِحَيَوَانِ الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ الْحَيَوَانُ الْمُتَوَحِّشُ الْمُمْتَنِعُ، أَيْ غَيْرُ الْآهِلِ كَالظِّبَاءِ وَالْحَمَامِ.

أَمَّا الْآهِلُ كَالدَّوَاجِنِ مِنَ الطُّيُورِ، وَالْأَنْعَامِ مِنَ الدَّوَابِّ فَهُوَ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ.وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ الْمَائِيُّ حَلَالٌ مُطْلَقًا، لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}.وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ.

ب- وُجُودُ حَيَوَانِ الصَّيْدِ فِي نِطَاقِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ:

67- وَيَشْمَلُ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ وَالْأَرْضَ الْمُحِيطَةَ بِهَا إِلَى الْحُدُودِ الْمُقَرَّرَةِ فِي أَحْكَامِ الْحَجِّ، وَالْمَعْرُوفَةَ بِحُدُودِ الْحَرَمِ.وَهَذَا سَبَبٌ يَتَّصِلُ بِالْحَيَوَانِ نَفْسِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ فِي حِمَايَةِ الْحَرَمِ الْآمِنِ.فَكُلُّ حَيَوَانٍ مِنْ حَيَوَانِ الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ الْمَأْكُولِ يَقْطُنُ فِي نِطَاقِ الْحَرَمِ، أَوْ يَدْخُلُ فِيهِ دُونَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ امْتِلَاكٌ سَابِقٌ، فَإِنَّهُ إِذَا قُتِلَ أَوْ ذُبِحَ أَوْ عُقِرَ كَانَ لَحْمُهُ حَرَامًا كَالْمَيْتَةِ، وَلَوْ كَانَ قَاتِلُهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْمَكَانِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}،

وَبِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فَتَحَ مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ».

هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


34-موسوعة الفقه الكويتية (التزام 1)

الْتِزَامٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِالْتِزَامُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: لَزِمَ الشَّيْءُ يَلْزَمُ لُزُومًا أَيْ: ثَبَتَ وَدَامَ، وَلَزِمَهُ الْمَالُ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ: وَجَبَ حُكْمُهُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَالَ وَالْعَمَلَ فَالْتَزَمَهُ، وَالِالْتِزَامُ: الِاعْتِنَاقُ.

وَالِالْتِزَامُ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ، أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَبْلُ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى شَامِلٌ لِلْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ جَرَتْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالَاتُ الْفُقَهَاءِ، حَيْثُ تَدُلُّ تَعْبِيرَاتُهُمْ عَلَى أَنَّ الِالْتِزَامَ عَامٌّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ الْعُقُودِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُعَاوَضَاتُ وَالتَّبَرُّعَاتُ.وَهُوَ مَا اعْتَبَرَهُ الْحَطَّابُ اسْتِعْمَالًا لُغَوِيًّا، فَقَدْ عَرَّفَهُ بِأَنَّهُ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا، أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَيْءٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ وَالْحَبْسُ (الْوَقْفُ) وَالْعَارِيَّةُ وَالْعُمْرَى وَالْعَرِيَّةُ وَالْمِنْحَةُ وَالْإِرْفَاقُ وَالْإِخْدَامُ وَالْإِسْكَانُ وَالنَّذْرُ.

قَالَ الْحَطَّابُ فِي كِتَابِهِ تَحْرِيرِ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الِالْتِزَامِ: وَقَدْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَعْرُوفِ بِلَفْظِ الِالْتِزَامِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعَقْدُ وَالْعَهْدُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْعَقْدِ لُغَةً: الْعَهْدُ، وَيُقَالُ: عَهِدْتُ إِلَى فُلَانٍ فِي كَذَا وَكَذَا، وَتَأْوِيلُهُ: أَلْزَمْتُهُ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلْتَ عَاقَدْتُهُ أَوْ عَقَدْتُ عَلَيْهِ، فَتَأْوِيلُهُ: أَنَّكَ أَلْزَمْتَهُ ذَلِكَ بِاسْتِيثَاقٍ، وَتَعَاقَدَ الْقَوْمُ: تَعَاهَدُوا.

وَفِي الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: الْعَقْدُ: الْتِزَامُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَتَعَهُّدُهُمَا أَمْرًا، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ.

وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْعَقْدُ الْتِزَامًا.

3- أَمَّا الْعَهْدُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْوَصِيَّةُ، يُقَالُ عَهِدَ إِلَيْهِ يَعْهَدُ: إِذَا أَوْصَاهُ، وَالْعَهْدُ: الْأَمَانُ، وَالْمَوْثِقُ، وَالذِّمَّةُ.

وَالْعَهْدُ: كُلُّ مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ فَهُوَ عَهْدٌ، وَالْعَهْدُ: الْيَمِينُ يَحْلِفُ بِهَا الرَّجُلُ.

وَبِذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْعَهْدُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الِالْتِزَامِ أَيْضًا.

ب- التَّصَرُّفُ:

4- يُقَالُ صَرَفَ الشَّيْءَ: إِذَا أَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ كَأَنَّهُ يَصْرِفُهُ عَنْ وَجْهٍ إِلَى وَجْهٍ، وَمِنْهُ التَّصَرُّفُ فِي الْأُمُورِ.

وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ التَّصَرُّفُ أَعَمَّ مِنَ الِالْتِزَامِ، إِذْ مِنَ التَّصَرُّفِ مَا لَيْسَ فِيهِ الْتِزَامٌ.

ج- الْإِلْزَامُ:

5- الْإِلْزَامُ: الْإِثْبَاتُ وَالْإِدَامَةُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَالَ وَالْعَمَلَ وَغَيْرَهُ.

فَالْإِلْزَامُ سَبَبُ الِالْتِزَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِإِلْزَامِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا، أَمْ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ لَهُ.

يَقُولُ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْإِلْزَامُ ضَرْبَانِ: إِلْزَامٌ بِالتَّسْخِيرِ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مِنَ الْإِنْسَانِ.وَإِلْزَامٌ بِالْحُكْمِ وَالْأَمْرِ وَالْإِلْزَامُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ.

د- اللُّزُومُ:

6- اللُّزُومُ: الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، وَلَزِمَهُ الْمَالُ: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ: وَجَبَ حُكْمُهُ.فَاللُّزُومُ يَصْدُقُ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِالْتِزَامِ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهُ، وَعَلَى مَا يُقَرِّرُهُ الشَّرْعُ إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ.أَمَّا الِالْتِزَامُ فَهُوَ أَمْرٌ يُقَرِّرُهُ الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ ابْتِدَاءً.

هـ- الْحَقُّ:

7- الْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَحَقَّ الْأَمْرُ أَيْ ثَبَتَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَجَبَ يَجِبُ وُجُوبًا، وَهُوَ مَصْدَرُ حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا وَجَبَ وَثَبَتَ.

وَالْحَقُّ اصْطِلَاحًا: هُوَ مَوْضُوعُ الِالْتِزَامِ، أَيْ مَا يَلْتَزِمُ بِهِ الْإِنْسَانُ تُجَاهَ اللَّهِ، أَوْ تُجَاهَ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ.

و- الْوَعْدُ:

8- الْوَعْدُ يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيَةٍ بِقَوْلٍ، وَالْوَعْدُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ حَقِيقَةً وَفِي الشَّرِّ مَجَازًا.وَالْوَعْدُ: الْعَهْدُ.

وَالْعِدَةُ لَيْسَ فِيهَا إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا الْآنَ، وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى الْعِدَةِ: هُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ.وَالظَّاهِرُ مِنْ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ: الْوَعْدُ، مِثْلُ: أَنَا أَفْعَلُ، إِلاَّ أَنْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ عَلَى الِالْتِزَامِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ.وَذَلِكَ مِثْلُ مَا لَوْ سَأَلَك مَدِينٌ أَنْ تُؤَخِّرَهُ إِلَى أَجَلِ كَذَا، فَقُلْتَ: أَنَا أُؤَخِّرُكَ، فَهُوَ عِدَةٌ، وَلَوْ قُلْتَ: قَدْ أَخَّرْتُكَ، فَهُوَ الْتِزَامٌ.

أَسْبَابُ الِالْتِزَامِ:

9- مِنْ تَعْرِيفِ الِالْتِزَامِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَمِنِ اسْتِعْمَالَاتِ الْفُقَهَاءِ وَعِبَارَاتِهِمْ، يَتَبَيَّنُ أَنَّ سَبَبَ الِالْتِزَامِ هُوَ تَصَرُّفَاتُ الْإِنْسَانِ الِاخْتِيَارِيَّةُ الَّتِي يُوجِبُ بِهَا حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْحَقُّ تُجَاهَ شَخْصٍ، كَالِالْتِزَامَاتِ الَّتِي يُبْرِمُهَا، وَمِنْهَا الْعُقُودُ وَالْعُهُودُ الَّتِي يَتَعَهَّدُ بِهَا، وَالْأَيْمَانُ الَّتِي يَعْقِدُهَا، وَالشُّرُوطُ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا.أَمْ كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ، كَنَذْرِ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوِ اعْتِكَافٍ أَوْ صَدَقَةٍ مَثَلًا.

وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِيمَا بَعْدُ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي.

التَّصَرُّفَاتُ الِاخْتِيَارِيَّةُ:

10- التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يُبَاشِرُهَا الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ وَيُوجِبُ بِهَا حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ تَتَنَاوَلُ الْعُقُودَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي أَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ، وَهِيَ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِإِرَادَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ (أَيْ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) أَوِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ (أَيْ بِالْإِيجَابِ فَقَطْ) وَهَذِهِ قَدْ تُسَمَّى عُقُودًا عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ.

وَالتَّصَرُّفُ يَتِمُّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ إِذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُرَتِّبَ الْتِزَامًا فِي جَانِبِ كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ.أَمَّا التَّصَرُّفُ الَّذِي يُرَتِّبُ الْتِزَامًا فِي جَانِبِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَتِمُّ بِإِيجَابِ الطَّرَفِ الْمُلْتَزِمِ وَحْدَهُ، كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَالْجِعَالَةِ وَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ وَالضَّمَانِ وَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ مُرَاعَاةِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي بَعْضِهَا.

وَيَدْخُلُ فِيمَا يَتِمُّ بِإِرَادَةٍ مُنْفَرِدَةٍ: الْأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ.فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ كُلُّهَا الَّتِي تَتِمُّ بِإِرَادَتَيْنِ، أَوْ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ مَتَى اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشَرَائِطَهَا عَلَى النَّحْوِ الْمَشْرُوعِ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِهَا.

11- وَنُصُوصُ الْفُقَهَاءِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الِالْتِزَامَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا ذُكِرَ، وَمِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ:

أ- فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ.الْعَقْدُ: الْتِزَامُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَتَعَهُّدُهُمَا أَمْرًا، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ.

ب- جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيِّ: الْعَقْدُ الشَّرْعِيُّ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِقْلَالِ بِهِ وَعَدَمِهِ إِلَى ضَرْبَيْنِ:

الْأَوَّلُ: عَقْدٌ يَنْفَرِدُ بِهِ الْعَاقِدُ، مِثْلُ عَقْدِ النَّذْرِ

وَالْيَمِينِ وَالْوَقْفِ، إِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ الْقَبُولُ فِيهِ، وَعَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْهُ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ إِذَا كَانَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ.

وَالثَّانِي: عَقْدٌ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُتَعَاقِدَيْنِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالصُّلْحِ وَالْحَوَالَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْهِبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْقَرْضِ وَالْجِعَالَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ.

ج- وَفِي الْمَنْثُورِ أَيْضًا: مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ جِنَايَةً وَيُسَمَّى عُقُوبَةً، وَإِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ الْتِزَامًا وَيُسَمَّى ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً أَوْ مَهْرًا أَوْ غَيْرَهُ

د- فِي الْقَوَاعِدِ لِلْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ التَّابِعَةُ لَهَا هِيَ الْتِزَامُ أَعْمَالِ الْفِلَاحَةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنَ الْغَلَّةِ الْمَعْمُولِ عَلَى تَحْصِيلِهَا.

وَفِيهِ كَذَلِكَ: الْتِزَامُ الْحُقُوقِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ.أَنْوَاعٌ:

أَحَدُهَا: بِنَذْرٍ فِي الذِّمَمِ وَالْأَعْيَانِ.

الثَّانِي: الْتِزَامُ الدُّيُونِ بِالضَّمَانِ.

الثَّالِثُ: ضَمَانُ الدَّرْكِ.

الرَّابِعُ: ضَمَانُ الْوَجْهِ.

الْخَامِسُ: ضَمَانُ مَا يَجِبُ إِحْضَارُهُ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَاتِ.

هـ- مِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَطَّابُ فِي الِالْتِزَامَاتِ: (1) إِذَا قَالَ لَهُ: إِنْ بِعْتَنِي سِلْعَتَكَ بِكَذَا فَقَدِ الْتَزَمْتُ لَكَ كَذَا وَكَذَا، فَالشَّيْءُ الْمُلْتَزَمُ بِهِ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الثَّمَنِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ.

(2) إِذَا قَالَ لَهُ: إِنْ أَسْكَنْتَنِي دَارَكَ سَنَةً، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطُ الْإِجَارَةِ، بِأَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً وَالْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً، وَأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُلْتَزَمُ بِهِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً.

وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَمِنْهَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْحَقِيقِيَّةَ لِلِالْتِزَامَاتِ: هِيَ تَصَرُّفَاتُ الْإِنْسَانِ الِاخْتِيَارِيَّةُ.

إِلاَّ أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةَ مَصَادِرَ أُخْرَى لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ الْتِزَامًا، بَلْ هِيَ إِلْزَامٌ أَوْ لُزُومٌ، وَلَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِثْلُ مَا يَتَرَتَّبُ بِالِالْتِزَامِ بِاعْتِبَارِ التَّسَبُّبِ أَوِ الْمُبَاشَرَةِ.وَبَيَانُهَا كَمَا يَلِي:

(1) الْفِعْلُ الضَّارُّ أَوِ (الْفِعْلُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ):

12- الْفِعْلُ الضَّارُّ الَّذِي يُصِيبُ الْجِسْمَ أَوِ الْمَالَ يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ أَوِ الضَّمَانَ.

وَالْأَضْرَارُ مُتَعَدِّدَةٌ فَمِنْهَا إِتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ، وَمِنْهَا الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْأَطْرَافِ، وَمِنْهَا التَّعَدِّي بِالْغَصْبِ، أَوْ بِالسَّرِقَةِ، أَوْ بِالتَّجَاوُزِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، كَتَجَاوُزِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْحَجَّامِ، وَالطَّبِيبِ، وَالْمُنْتَفِعِ بِالطَّرِيقِ، وَمِنْهَا

التَّفْرِيطُ فِي الْأَمَانَاتِ كَالْوَدَائِعِ وَالرُّهُونِ.

فَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَصِيرُ الْفَاعِلُ مُلْزَمًا بِضَمَانِ فِعْلِهِ، وَعَلَيْهِ الْعِوَضُ فِي الْمِثْلِيِّ بِمِثْلِهِ، وَفِي الْقِيَمِيِّ بِقِيمَتِهِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ مِنَ الْإِتْلَافَاتِ مَا لَا ضَمَانَ فِيهِ، كَمَنْ صَالَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ وَلَمْ يَنْدَفِعْ إِلاَّ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَهُ، كَمَا أَنَّ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ مَا فِيهِ الضَّمَانُ، كَالْمُضْطَرِّ الَّذِي يَأْكُلُ مَالَ غَيْرِهِ، فَفِيهِ الضَّمَانُ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ.

وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: أَنَّ التَّعَدِّيَ مَضْمُونٌ أَبَدًا إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلُهُ، وَفِعْلُ الْمُبَاحِ سَاقِطٌ أَبَدًا إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلُهُ.

وَالْأَصْلُ فِي مَنْعِ الضَّرَرِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: « لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ » وَفِي كُلِّ مَا سَبَقَ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَأَبْوَابِهَا.

(2) الْفِعْلُ النَّافِعُ أَوِ (الْإِثْرَاءُ بِلَا سَبَبٍ):

13- قَدْ يَقُومُ الْإِنْسَانُ بِفِعْلٍ نَافِعٍ لِغَيْرِهِ، فَيَصِيرُ دَائِنًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ بِمَا قَامَ بِهِ أَوْ بِمَا أَدَّى عَنْهُ.وَهَذَا مَا يُسَمِّيهِ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْفِقْهِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ (الْإِثْرَاءُ بِلَا سَبَبٍ) وَهُمْ يَعْنُونَ بِذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا أَوْ أَحْدَثَ لَهُ مَنْفَعَةً فَقَدِ افْتَقَرَ الْمُؤَدِّي وَأَثْرَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ بِلَا سَبَبٍ، وَبِذَلِكَ يُصْبِحُ الْمُثْرَى مُلْزَمًا بِأَدَاءِ أَوْ ضَمَانِ مَا أَدَّاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَوْ قَامَ بِهِ.

وَلَيْسَتْ هُنَاكَ قَاعِدَةٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَإِنْفَاقِ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّهْنِ، وَالْمُلْتَقِطِ عَلَى اللَّقِيطِ أَوِ اللُّقَطَةِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَالْبَهَائِمِ إِذَا امْتَنَعَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ، وَإِنْفَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ أَوِ امْتِنَاعِهِ.وَمِنْ ذَلِكَ: بِنَاءُ صَاحِبِ الْعُلُوِّ السُّفْلَ بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ لِاضْطِرَارِهِ لِذَلِكَ، وَبِنَاءُ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ، وَدَفْعُ الزَّكَاةِ لِغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ..وَهَكَذَا.

فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَكُونُ الْمُنْتَفِعُ مُلْزَمًا بِمَا أَدَّى عَنْهُ، وَيَكُونُ لِمَنْ أَنْفَقَ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا أَنْفَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.

وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ فِي بَيَانِ مَتَى يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ، وَمَتَى لَا يَحِقُّ، إِذِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ: أَنَّ مَنْ دَفَعَ دَيْنًا عَنْ غَيْرِهِ بِلَا أَمْرِهِ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا، وَلَا يَرْجِعُ بِمَا دَفَعَ.

وَالْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي قَوَاعِدِ ابْنِ رَجَبٍ هِيَ فِيمَنْ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.

وَتُنْظَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَالشَّرِكَةِ وَالرَّهْنِ وَاللُّقَطَةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي مَجْمَعِ الضَّمَانَاتِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ، وَفِي الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَوْ أَوْصَل نَفْعًا لِغَيْرِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ نَفَذَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، أَوْ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ وَهُوَ مَنْفَعَةٌ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، أَوْ مَالٌ فَلَهُ أَخْذُهُ مِمَّنْ دَفَعَهُ عَنْهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَفِعُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ.

(3) الشَّرْعُ:

14- يُعْتَبَرُ الْمُسْلِمُ بِإِسْلَامِهِ مُلْتَزِمًا بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتَكَالِيفِهِ.

جَاءَ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: الْإِسْلَامُ: الْتِزَامُ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-.

وَمِمَّا يُعْتَبَرُ الْمُسْلِمُ مُلْتَزِمًا بِهِ مَا يُلْزِمُهُ بِهِ الشَّارِعُ نَتِيجَةَ ارْتِبَاطَاتٍ وَعَلَاقَاتٍ خَاصَّةٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ: إِلْزَامُهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى أَقَارِبِهِ الْفُقَرَاءِ، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّك أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

وَمِنْ ذَلِكَ الْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ، كَوِلَايَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.وَذَلِكَ لِوُفُورِ الشَّفَقَةِ فِي الْوَلِيِّ وَعَدَمِ حُسْنِ تَصَرُّفِ الْقَاصِرِ.

وَمِنْ ذَلِكَ الِالْتِزَامُ بِقَبُولِ الْمِيرَاثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْتَبَرُ الْمُسْلِمُ مُلْتَزِمًا بِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبُولِهِ.

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: اللُّزُومُ هُنَا بِإِلْزَامِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ، وَهُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الْقَبُولِ، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً.

عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إِلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ: الشُّرُوعُ، فَمَنْ شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ أَصْبَحَ مُلْتَزِمًا بِإِتْمَامِهَا بِالشُّرُوعِ فِيهَا، وَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِفَسَادِهَا، كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ.

هَذِهِ هِيَ الْمَصَادِرُ الثَّلَاثَةُ (الْفِعْلُ الضَّارُّ- وَالْفِعْلُ النَّافِعُ- وَالشَّرْعُ) الَّتِي عَدَّهَا الْمُشْتَغِلُونَ بِالْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ مِنْ مَصَادِرِ الِالْتِزَامِ، إِلاَّ أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ تُعْتَبَرُ مِنْ بَابِ الْإِلْزَامِ، وَلَيْسَتْ مِنْ بَابِ الِالْتِزَامِ، كَمَا مَرَّ فِي كَلَامِ الْكَاسَانِيِّ.

15- وَالْفُقَهَاءُ عَبَّرُوا فِي التَّصَرُّفَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ إِرَادَةِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهَا الْتِزَامٌ، أَمَّا مَا كَانَ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ فَالتَّعْبِيرُ فِيهَا بِالْإِلْزَامِ أَوِ اللُّزُومِ.ذَلِكَ أَنَّ الِالْتِزَامَ الْحَقِيقِيَّ.هُوَ مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ وَالْتَزَمَ بِهِ.وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ يَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَالْغَصْبُ وَالنَّهْبُ، لِأَنَّ مَا رَضِيَ بِهِ حَالَ كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، وَمَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَجَلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ.

إِلاَّ إِذَا اعْتَبَرْنَا هَذِهِ الْإِلْزَامَاتِ تُنْشِئُ الْتِزَامَاتٍ حُكْمًا وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ رَدُّ مَصَادِرِ كُلِّ الِالْتِزَامَاتِ إِلَى الشَّرْعِ، فَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي رَسَمَ حُدُودًا لِكُلِّ التَّصَرُّفَاتِ، مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَحْكَامَهَا.

لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ لِمَا أَوْجَبَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَسْبَابًا مُبَاشِرَةً، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ تَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ الِاخْتِيَارِيَّةَ سَبَبَ الْتِزَامَاتِهِ.

وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ إِذْ يَقُولُ: مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ جِنَايَةً وَيُسَمَّى عُقُوبَةً، وَإِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ إِتْلَافًا وَيُسَمَّى ضَمَانًا، وَإِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ الْتِزَامًا وَيُسَمَّى ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً أَوْ مَهْرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ أَدَاءُ الدُّيُونِ وَالْعَوَارِي وَالْوَدَائِعِ، وَاجِبَةٌ بِالِالْتِزَامِ.

وَيَقُولُ: حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ الْمَالِيَّةُ تَجِبُ بِسَبَبِ مُبَاشَرَتِهِ مِنِ الْتِزَامٍ أَوْ إِتْلَافٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلِالْتِزَامِ:

16- الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ عُقُوبَاتٍ وَضَمَانِ مُتْلَفَاتٍ وَالْقِيَامِ بِالنَّفَقَاتِ وَأَعْمَالِ الْوِلَايَةِ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْإِبَاحَةُ.إِذْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ الْحُرِّيَّةُ فِي أَنْ يَتَصَرَّفَ التَّصَرُّفَ الْمَشْرُوعَ الَّذِي يَلْتَزِمُ بِهِ أَمْرًا، مَا دَامَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسَّ حَقًّا لِغَيْرِهِ.وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْأُخْرَى.

فَيَكُونُ وَاجِبًا، كَبَذْلِ الْمَعُونَةِ بَيْعًا أَوْ قَرْضًا أَوْ إِعَارَةً لِلْمُضْطَرِّ لِذَلِكَ.وَكَوُجُوبِ قَبُولِ الْوَدِيعَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ غَيْرَهُ، وَخَافَ إِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَنْ تَهْلِكَ.

وَيَكُونُ مَنْدُوبًا، إِذَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعَاتِ الَّتِي تُعِينُ النَّاسَ عَلَى مَصَالِحِهِمْ، لِأَنَّهُ إِرْفَاقٌ بِهِمْ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: « كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ».

وَيَكُونُ حَرَامًا إِذَا كَانَ فِيهِ إِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِعَارَةُ الْجَارِيَةِ لِخِدْمَةِ رَجُلٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَا الْوَصِيَّةُ بِخَمْرٍ لِمُسْلِمٍ، وَلَا نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ.

وَيَكُونُ مَكْرُوهًا، إِذَا أَعَانَ عَلَى مَكْرُوهٍ، كَمَنْ يُفَضِّلُ بَعْضَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ.

أَرْكَانُ الِالْتِزَامِ:

17- رُكْنُ الِالْتِزَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: الصِّيغَةُ فَقَطْ وَيُزَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ غَيْرِهِمُ: الْمُلْتَزِمُ (بِكَسْرِ الزَّايِ) وَالْمُلْتَزَمُ لَهُ، وَالْمُلْتَزَمُ بِهِ، أَيْ مَحَلُّ الِالْتِزَامِ.

أَوَّلًا: الصِّيغَةُ:

18- تَتَكَوَّنُ الصِّيغَةُ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِي الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى إِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ وَالْمُلْتَزَمِ لَهُ، كَالنِّكَاحِ وَكَعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

أَمَّا الِالْتِزَامَاتُ بِالتَّبَرُّعَاتِ كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَفِيهَا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَبُولِ.

وَمِنَ الِالْتِزَامَاتِ مَا يَتِمُّ بِإِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ وَحْدَهُ بِاتِّفَاقٍ، كَالنَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالْيَمِينِ.

وَصِيغَةُ الِالْتِزَامِ (الْإِيجَابُ) تَكُونُ بِاللَّفْظِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِلْزَامِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا الْتَزَمَهُ.

وَقَدْ يَكُونُ الِالْتِزَامُ بِالْفِعْلِ كَالشُّرُوعِ فِي الْجِهَادِ وَالْحَجِّ، وَكَمَنْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَنَوَى وَكَبَّرَ فَقَدْ عَقَدَهَا لِرَبِّهِ بِالْفِعْلِ.

كَذَلِكَ يَكُونُ الِالْتِزَامُ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ (الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ) وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ تَزَوَّجَتْ وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِي بَيْتٍ لَهَا، فَسَكَنَ الزَّوْجُ مَعَهَا، فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا سَاكِنَةٌ بِالْكِرَاءِ.

وَيُلَاحَظُ أَنَّ أَغْلَبَ الِالْتِزَامَاتِ قَدْ مُيِّزَتْ بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ، فَالِالْتِزَامُ بِتَسْلِيمِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ بَيْعٌ، وَبِدُونِهِ هِبَةٌ أَوْ عَطِيَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَالِالْتِزَامُ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ إِجَارَةٌ، وَبِدُونِهِ إِعَارَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ عُمْرَى، وَسُمِّيَ الْتِزَامُ الدَّيْنِ ضَمَانًا، وَنَقْلُهُ حَوَالَةً، وَالتَّنَازُلُ عَنْهُ إِبْرَاءً، وَالْتِزَامُ طَاعَةِ اللَّهِ بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ- نَذْرًا وَهَكَذَا.

وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ صِيَغٌ خَاصَّةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَرِيحَةً أَمْ كِنَايَةً تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ، وَتُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَلْفَاظًا خَاصَّةً تُعْتَبَرُ صَرِيحَةً فِي الِالْتِزَامِ وَهِيَ: الْتَزَمْتُ، أَوْ أَلْزَمْتُ نَفْسِي.وَمِنْهَا أَيْضًا لَفْظُ (عَلَيَّ) أَوْ (إِلَيَّ)، جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ فِي بَابِ الْكَفَالَةِ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَوْ إِلَيَّ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ، لِأَنَّهَا صِيغَةُ الِالْتِزَامِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ.وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ شَرْطُ الصِّيغَةِ فِي الْإِقْرَارِ لَفْظٌ

أَوْ كِتَابَةٌ مِنْ نَاطِقٍ أَوْ إِشَارَةٌ مِنْ أَخْرَسَ تُشْعِرُ بِالِالْتِزَامِ بِحَقٍّ، مِثْلَ: لِزَيْدٍ هَذَا الثَّوْبُ وَ « عَلَيَّ » وَ « فِي ذِمَّتِي » لِلْمَدِينِ الْمُلْتَزِمِ وَ « مَعِي » وَ « عِنْدِي » لِلْعَيْنِ

ثَانِيًا: الْمُلْتَزِمُ:

19- الْمُلْتَزِمُ هُوَ مَنِ الْتَزَمَ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ كَتَسْلِيمِ شَيْءٍ، أَوْ أَدَاءِ دَيْنٍ، أَوِ الْقِيَامِ بِعَمَلٍ.وَالِالْتِزَامَاتُ مُتَنَوِّعَةٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ.

فَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَاتِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ.

وَمَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعَاتِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ وَالْوَلِيِّ وَالْفُضُولِيِّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَجَازَ وَصِيَّةَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ كَالْحَنَابِلَةِ.وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ

ثَالِثًا: الْمُلْتَزَمُ لَهُ:

20- الْمُلْتَزَمُ لَهُ الدَّائِنُ، أَوْ صَاحِبُ الْحَقِّ: فَإِنْ كَانَ الِالْتِزَامُ تَعَاقُدِيًّا، وَكَانَ الْمُلْتَزَمُ لَهُ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ، أَيْ أَهْلِيَّةُ التَّعَاقُدِ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْعُقُودِ، وَإِلاَّ تَمَّ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ.

وَإِذَا كَانَ الِالْتِزَامُ بِالْإِرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُلْتَزَمِ لَهُ ذَلِكَ.

وَاَلَّذِي يُشْتَرَطُ فِي الْمُلْتَزَمِ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ، أَوْ يَمْلِكُ النَّاسُ الِانْتِفَاعَ بِهِ كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الِالْتِزَامُ لِلْحَمْلِ، وَلِمَنْ سَيُوجَدُ، فَتَصِحُّ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ وَالْهِبَةُ لَهُ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِمَيِّتٍ عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ، وَيُصْرَفُ الْمُوصَى بِهِ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ، وَإِلاَّ صُرِفَ لِوَرَثَتِهِ وَإِلاَّ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ.

كَمَا أَنَّ كَفَالَةَ دَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ جَائِزَةٌ، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ « أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِرَجُلٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ دِينَارَانِ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ لَهُمَا وَفَاءً؟ قَالُوا: لَا، فَتَأَخَّرَ، فَقِيلَ: لِمَ لَا تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: مَا تَنْفَعُهُ صَلَاتِي وَذِمَّتُهُ مَرْهُونَةٌ إِلاَّ إِنْ قَامَ أَحَدُكُمْ فَضَمِنَهُ، فَقَامَ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- ».

كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ الِالْتِزَامُ لِلْمَجْهُولِ، فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ فِي الْجِهَادِ بِقَوْلِهِ مُحَرِّضًا لِلْمُجَاهِدِينَ: « مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ »، وَعِنْدَئِذٍ مَنْ يَقْتُلُ عَدُوًّا يَسْتَحِقُّ أَسْلَابَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ سَمِعُوا مَقَالَةَ الْإِمَامِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ: مَنْ يَتَنَاوَلُ مِنْ مَالِي فَهُوَ مُبَاحٌ فَتَنَاوَلَ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا بِنَاءُ سِقَايَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانٍ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ

رَابِعًا: مَحَلُّ الِالْتِزَامِ (الْمُلْتَزَمُ بِهِ):

21- الِالْتِزَامُ هُوَ إِيجَابُ الْفِعْلِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْمُلْتَزِمُ كَالِالْتِزَامِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَتَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَكَالِالْتِزَامِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَدِيعَةِ، وَتَمْكِينِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ، وَالْمَوْهُوبِ لَهُ مِنَ الْهِبَةِ، وَالْمِسْكِينِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْقِيَامِ بِالْعَمَلِ فِي عَقْدِ الِاسْتِصْنَاعِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَفِعْلِ الْمَنْذُورِ، وَإِسْقَاطِ الْحَقِّ...وَكَذَا.

وَهَذِهِ الِالْتِزَامَاتُ تَرِدُ عَلَى شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَهُوَ قَدْ يَكُونُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، أَوْ مَنْفَعَةً أَوْ عَمَلًا، أَوْ حَقًّا، وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِمَحَلِّ الِالْتِزَامِ أَوْ مَوْضُوعِهِ.

وَلِكُلِّ مَحَلٍّ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ حَسَبَ طَبِيعَةِ التَّصَرُّفِ الْمُرْتَبِطِ بِهِ، وَالشُّرُوطُ قَدْ تَخْتَلِفُ مِنْ تَصَرُّفٍ إِلَى آخَرَ، فَمَا يَجُوزُ الِالْتِزَامُ بِهِ فِي تَصَرُّفٍ قَدْ لَا يَجُوزُ الِالْتِزَامُ بِهِ فِي تَصَرُّفٍ آخَرَ.

إِلاَّ أَنَّهُ يُمْكِنُ إِجْمَالُ الشُّرُوطِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ مَعَ مُرَاعَاةِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّفَاصِيلِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- انْتِفَاءُ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ:

22- يُشْتَرَطُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الِالْتِزَامُ انْتِفَاءُ الْغَرَرِ، وَالْغَرَرُ يَنْتَفِي عَنِ الشَّيْءِ- كَمَا يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ- بِأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْوُجُودِ، مَعْلُومَ الصِّفَةِ، مَعْلُومَ الْقَدْرِ، وَمَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ.

وَانْتِفَاءُ الْغَرَرِ شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فِي الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، مَبِيعًا وَثَمَنًا وَمَنْفَعَةً وَعَمَلًا وَأُجْرَةً.

هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِهَا بِالنِّسْبَةِ لِوُجُودِ مَحَلِّ الِالْتِزَامِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِصْنَاعِ، فَإِنَّهَا أُجِيزَتِ اسْتِحْسَانًا مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْعَمَلِ، وَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ.

وَيُرَاعَى كَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ.

وَإِذَا كَانَ شَرْطُ انْتِفَاءِ الْغَرَرِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنْ تَبَرُّعَاتٍ كَالْهِبَةِ بِلَا عِوَضٍ وَالْإِعَارَةِ، وَتَوْثِيقَاتٍ كَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ وَغَيْرِهَا.

فَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُجِيزُ الِالْتِزَامَ بِالْمَجْهُولِ وَبِالْمَعْدُومِ وَبِغَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ.وَأَكْثَرُهُمْ تَمَسُّكًا بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.

23- وَمِنَ الْعَسِيرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَتَبُّعُ كُلِّ التَّصَرُّفَاتِ لِمَعْرِفَةِ مَدَى انْطِبَاقِ شَرْطِ انْتِفَاءِ الْغَرَرِ عَلَى كُلِّ تَصَرُّفٍ.

وَلِذَلِكَ سَنَكْتَفِي بِبَعْضِ نُصُوصِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي تُلْقِي ضَوْءًا عَلَى ذَلِكَ، عَلَى أَنْ يُرْجَعَ فِي التَّفْصِيلَاتِ إِلَى مَوَاضِعِهَا:

(1) فِي الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ: الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ: مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالَاتُ وَالْغَرَرُ، وَقَاعِدَةِ: مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ.

وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي « نَهْيِهِ - عليه الصلاة والسلام- عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُولِ ».وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ، فَمَنَعَ مِنَ الْجَهَالَةِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ- وَهُوَ مَالِكٌ- بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ بَابُ الْمُمَاكَسَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَنْمِيَةِ الْأَمْوَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُهَا، وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ مَا لَا يُقْصَدُ لِذَلِكَ، وَانْقَسَمَتِ التَّصَرُّفَاتُ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ.

24- فَالطَّرَفَانِ: أَحَدُهُمَا مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ، فَيُجْتَنَبُ فِيهَا ذَلِكَ إِلاَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَادَةً.

وَثَانِيهِمَا مَا هُوَ إِحْسَانٌ صِرْفٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَالِ، كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا يُقْصَدُ بِهَا تَنْمِيَةُ الْمَالِ، بَلْ إِنْ فَاتَتْ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِهَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إِذَا فَاتَ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَاتِ ضَاعَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ مَنْعَ الْجَهَالَاتِ فِيهِ.أَمَّا الْإِحْسَانُ الصِّرْفُ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى الْإِحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَقْلِيلِهِ، فَإِذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدَهُ الْآبِقَ جَازَ أَنْ يَجِدَهُ، فَيَحْصُلَ لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَجِدْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا.

وَهَذَا فِقْهٌ جَمِيلٌ.ثُمَّ إِنَّ الْأَحَادِيثَ لَمْ يَرِدْ فِيهَا مَا يَعُمُّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ حَتَّى نَقُولَ: يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ الشَّرْعِ، بَلْ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.

25- وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَالَ فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا- وَإِنَّمَا مَقْصِدُهُ الْمَوَدَّةُ وَالْأُلْفَةُ وَالسُّكُونُ- يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فِيهِ.فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيلَ دُونَ الْكَثِيرِ، نَحْوَ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَشُورَةِ بَيْتٍ (وَهِيَ الْجِهَازُ)، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْوَسَطِ الْمُتَعَارَفِ، وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ فَامْتَنَعَ، وَأُلْحِقَ الْخُلْعُ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْغَرَرُ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَإِطْلَاقَهَا لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يُقْصَدُ لِلْمُعَاوَضَةِ، بَلْ شَأْنُ الطَّلَاقِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَهُوَ كَالْهِبَةِ.فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ، وَالْفِقْهُ مَعَ مَالِكٍ - رحمه الله-.

وَفِي الْفُرُوقِ كَذَلِكَ: اتَّفَقَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ وَقَبْلَ الْمِلْكِ، فَيَقُولُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلِلْعَبْدِ: إِنِ اشْتَرَيْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إِذَا تَزَوَّجَ وَاشْتَرَى خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَوَافَقْنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ بِالنَّذْرِ قَبْلَ الْمِلْكِ، فَيَقُولُ: إِنْ مَلَكْتُ دِينَارًا فَهُوَ صَدَقَةٌ.

وَجَمِيعُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي الذِّمَّةِ فِي بَابِ الْمُعَامَلَاتِ.وَدَلِيلُ ذَلِكَ.

أَوَّلًا: الْقِيَاسُ عَلَى النَّذْرِ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ بِجَامِعِ الِالْتِزَامِ بِالْمَعْدُومِ.

وَثَانِيًا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَقْدَانِ عَقَدَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِمَا.

وَثَالِثًا: قَوْلُهُ - عليه الصلاة والسلام-: « الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ » وَهَذَانِ شَرْطَانِ فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


35-موسوعة الفقه الكويتية (انتحار 1)

انْتِحَارٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِانْتِحَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ انْتَحَرَ الرَّجُلُ، بِمَعْنَى نَحَرَ نَفْسَهُ، أَيْ قَتَلَهَا.وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى.لَكِنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْهُ بِقَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَجُلًا قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشَدَّ الْقِتَالِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الْجُرْحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا فَانْتَحَرَ بِهَا».

وَفِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: «انْتَحَرَ فُلَانٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- النَّحْرُ وَالذَّبْحُ:

2- النَّحْرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَقَطْعُ كُلِّ الْحُلْقُومِ، وَمَحَلُّهُ مِنْ أَسْفَلِ الْحُلْقُومِ.وَيُطْلَقُ الِانْتِحَارُ عَلَى قَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ كَانَتْ.وَلِهَذَا ذَكَرُوا أَحْكَامَهُ بِاسْمِ (قَتْلِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ)

بِمَ يَتَحَقَّقُ الِانْتِحَارُ:

3- الِانْتِحَارُ نَوْعٌ مِنَ الْقَتْلِ فَيَتَحَقَّقُ بِوَسَائِلَ مُخْتَلِفَةٍ.وَيَتَنَوَّعُ بِأَنْوَاعٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْقَتْلِ.

فَإِذَا كَانَ إِزْهَاقُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ بِإِتْيَانِ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، كَاسْتِعْمَالِ السَّيْفِ أَوِ الرُّمْحِ أَوِ الْبُنْدُقِيَّةِ أَوْ أَكْلِ السُّمِّ أَوْ إِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ شَاهِقٍ أَوْ فِي النَّارِ لِيَحْتَرِقَ أَوْ فِي الْمَاءِ لِيَغْرَقَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِلِ، فَهُوَ انْتِحَارٌ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ.

وَإِذَا كَانَ الْإِزْهَاقُ بِالِامْتِنَاعِ عَنِ الْوَاجِبِ، كَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَتَرْكِ عِلَاجِ الْجُرْحِ الْمَوْثُوقِ بِبُرْئِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ خِلَافٍ سَيَأْتِي، أَوْ عَدَمِ الْحَرَكَةِ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي النَّارِ أَوْ عَدَمِ التَّخَلُّصِ مِنَ السَّبُعِ الَّذِي يُمْكِنُ النَّجَاةُ مِنْهُ، فَهُوَ انْتِحَارٌ بِطَرِيقِ السَّلْبِ

4- وَيُقَسَّمُ الِانْتِحَارُ بِحَسَبِ إِرَادَةِ الْمُنْتَحِرِ إِلَى نَوْعَيْنِ: الِانْتِحَارِ عَمْدًا وَالِانْتِحَارِ خَطَأً.

فَإِذَا ارْتَكَبَ الشَّخْصُ عَمَلًا حَصَلَ مِنْهُ قَتْلُ نَفْسِهِ، وَأَرَادَ النَّتِيجَةَ الْحَاصِلَةَ مِنَ الْعَمَلِ، يُعْتَبَرُ الْقَتْلُ انْتِحَارًا عَمْدًا.كَرَمْيِ نَفْسِهِ بِقَصْدِ الْقَتْلِ مَثَلًا.

وَإِذَا أَرَادَ صَيْدًا أَوْ قَتْلَ الْعَدُوِّ فَأَصَابَ نَفْسَهُ، وَمَاتَ، يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا خَطَأً.وَسَتَأْتِي أَحْكَامُهُمَا قَرِيبًا.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ الِانْتِحَارُ بِطَرِيقٍ يُعْتَبَرُ شَبَهَ الْعَمْدِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، كَقَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا.ر: (قَتْل).

أَمْثِلَةٌ مِنَ الِانْتِحَارِ بِطَرِيقِ السَّلْبِ: أَوَّلًا: الِامْتِنَاعُ مِنَ الْمُبَاحِ:

5- مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْمُبَاحِ حَتَّى مَاتَ كَانَ قَاتِلًا نَفْسَهُ، مُتْلِفًا لَهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ.لِأَنَّ الْأَكْلَ لِلْغِذَاءِ وَالشُّرْبَ لِدَفْعِ الْعَطَشِ فَرْضٌ بِمِقْدَارِ مَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ، فَإِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ فَقَدِ انْتَحَرَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.

وَإِذَا اضْطُرَّ الْإِنْسَانُ لِلْأَكْلِ أَوِ الشُّرْبِ مِنَ الْمُحَرَّمِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ حَتَّى ظَنَّ الْهَلَاكَ جُوعًا لَزِمَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، فَإِذَا امْتَنَعَ حَتَّى مَاتَ صَارَ قَاتِلًا نَفْسَهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ أَكْلَ الْخُبْزِ وَشُرْبَ الْمَاءِ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّ تَارِكَهُ سَاعٍ فِي إِهْلَاكِ نَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمُحَرَّمِ، فَلَا يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوِ الدَّمِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُبَاحُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ التَّحْرِيمِ إِبَاحَةٌ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاضْطِرَارُ بِالْإِكْرَاهِ، وَلَوِ امْتَنَعَ عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ يُؤَاخَذُ بِهِ وَيُعَدُّ مُنْتَحِرًا، لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

ثَانِيًا: تَرْكُ الْحَرَكَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ:

6- مَنْ أُلْقِيَ فِي مَاءٍ جَارٍ أَوْ رَاكِدٍ لَا يُعَدُّ مُغْرَقًا، كَمُنْبَسِطٍ يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ عَادَةً، فَمَكَثَ فِيهِ مُضْطَجِعًا مَثَلًا مُخْتَارًا لِذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ، يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا وَقَاتِلًا نَفْسَهُ، وَلِذَلِكَ لَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ عَلَى الَّذِي أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الْمَوْتُ بِلُبْثِهِ فِيهِ، وَهُوَ فِعْلُ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ.كَذَلِكَ إِنْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهَا لِقِلَّتِهَا، أَوْ لِكَوْنِهِ فِي طَرَفٍ مِنْهَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ.

وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا فَلَمْ يَخْرُجْ يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ جَانٍ بِالْإِلْقَاءِ الْمُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ.وَفَارَقَ الْمَاءَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُهْلِكٍ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُهُ النَّاسُ لِلسِّبَاحَةِ، أَمَّا النَّارُ فَيَسِيرُهَا يُهْلِكُ، وَلِأَنَّ النَّارَ لَهَا حَرَارَةٌ شَدِيدَةٌ، فَرُبَّمَا أَزْعَجَتْهُ حَرَارَتُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ، أَوْ أَذْهَبَتْ عَقْلَهُ بِأَلَمِهَا وَرَوْعَتِهَا.

ثَالِثًا: تَرْكُ الْعِلَاجِ وَالتَّدَاوِي:

7- الِامْتِنَاعُ مِنَ التَّدَاوِي فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لَا يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا وَامْتَنَعَ مِنَ الْعِلَاجِ حَتَّى مَاتَ، لَا يُعْتَبَرُ عَاصِيًا، إِذْ لَا يَتَحَقَّقُ بِأَنَّهُ يَشْفِيهِ.

كَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْمَجْرُوحُ عِلَاجَ جُرْحٍ مُهْلِكٍ فَمَاتَ لَا يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا، بِحَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى جَارِحِهِ، إِذِ الْبُرْءُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ وَإِنْ عَالَجَ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْجُرْحُ بَسِيطًا وَالْعِلَاجُ مَوْثُوقًا بِهِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَصْبَ الْعِرْقِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ، حَتَّى لَا يُسْأَلَ جَارِحُهُ عَنِ الْقَتْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِخِلَافِهِ، وَقَالُوا: إِنْ تَرَكَ شَدَّ الْفِصَادِ مَعَ إِمْكَانِهِ لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ جُرِحَ فَتَرَكَ مُدَاوَاةَ جُرْحِهِ.

وَمَعَ تَصْرِيحِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ تَرْكَ الْعِلَاجِ لَا يُعْتَبَرُ عِصْيَانًا؛ لِأَنَّ الْبُرْءَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ، قَالُوا: إِنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِإِبْرَةٍ فِي غَيْرِ الْمَقْتَلِ عَمْدًا فَمَاتَ، لَا قَوَدَ فِيهِ فَقَدْ فَصَّلُوا بَيْنَ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَغَيْرِ الْمُهْلِكِ كَالشَّافِعِيَّةِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ تَرْكَ الْجُرْحِ الْيَسِيرِ لِنَزْفِ الدَّمِ حَتَّى الْمَوْتِ يُشْبِهُ الِانْتِحَارَ.

وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

8- الِانْتِحَارُ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} وَقَدْ قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمُنْتَحِرَ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ قَاتِلِ غَيْرِهِ، وَهُوَ فَاسِقٌ وَبَاغٍ عَلَى نَفْسِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْبُغَاةِ، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ.

كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى خُلُودِهِ فِي النَّارِ.مِنْهَا قَوْلُهُ «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».

وَهُنَاكَ حَالَاتٌ خَاصَّةٌ تُشْبِهُ الِانْتِحَارَ، لَكِنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَى مُرْتَكِبِهَا، وَلَا يَأْثَمُ فَاعِلُهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتِ انْتِحَارًا فِي الْوَاقِعِ كَالْآتِي:

أَوَّلًا: الِانْتِقَالُ مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى آخَرَ:

9- إِذَا وَقَعَ حَرِيقٌ فِي سَفِينَةٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ ظَلَّ فِيهَا احْتَرَقَ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ غَرِقَ.فَالْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ) عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ.فَإِذَا رَمَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ وَمَاتَ جَازَ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ انْتِحَارًا مُحَرَّمًا إِذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَقَامُ وَالصَّبْرُ، لِأَنَّهُ إِذَا رَمَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ كَانَ مَوْتُهُ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ أَقَامَ فَمَوْتُهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ

كَذَلِكَ جَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى سَبَبِ مَوْتٍ آخَرَ، إِذَا كَانَ فِي السَّبَبِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ نَوْعُ خِفَّةٍ مَعَ التَّأَكُّدِ مِنَ الْقَتْلِ فِيهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَلَوْ قَالَ لَهُ: لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَبَلِ، أَوْ لأَقْتُلَنَّكَ، وَكَانَ الْإِلْقَاءُ بِحَيْثُ لَا يَنْجُو مِنْهُ، وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ خِفَّةٍ، فَلَهُ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَصَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ، لِأَنَّهُ ابْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَيَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَهْوَنُ فِي زَعْمِهِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَصْبِرُ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْفِعْلِ سَعْيٌ فِي إِهْلَاكِ نَفْسِهِ فَيَصْبِرُ تَحَامِيًا عَنْهُ.

أَمَّا إِذَا ظَنَّ السَّلَامَةَ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ آخَرَ لِلْمَوْتِ، أَوْ رَجَا طُولَ الْحَيَاةِ وَلَوْ مَعَ مَوْتٍ أَشَدَّ وَأَصْعَبَ مِنَ الْمَوْتِ الْمُعَجَّلِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَعَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ هُوَ الْأَوْلَى، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ.

10- وَمِنْ أَمْثِلَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى سَبَبِ مَوْتٍ آخَرَ مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَبِعَ بِسَيْفٍ وَنَحْوِهِ مُمَيِّزًا هَارِبًا مِنْهُ فَرَمَى نَفْسَهُ بِمَاءٍ أَوْ نَارٍ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، لِمُبَاشَرَتِهِ إِهْلَاكَ نَفْسِهِ عَمْدًا، كَمَا لَوْ أَكْرَهَ إِنْسَانًا عَلَى أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ فَقَتَلَهَا.فَكَأَنَّهُ يُشْبِهُ الِانْتِحَارَ عِنْدَهُمْ.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ.

أَمَّا لَوْ وَقَعَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ جَاهِلًا بِهِ، لِعَمًى أَوْ ظُلْمَةٍ مَثَلًا أَوْ تَغْطِيَةِ بِئْرٍ، أَوْ أَلْجَأَهُ إِلَى السَّبُعِ بِمَضِيقٍ ضَمِنَ مَنْ تَبِعَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِهْلَاكَ نَفْسِهِ وَقَدْ أَلْجَأَهُ التَّابِعُ إِلَى الْهَرَبِ الْمُفْضِي لِلْهَلَاكِ.وَكَذَا لَوِ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ فِي هَرَبِهِ فِي الْأَصَحِّ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا طَلَبَ إِنْسَانًا بِسَيْفٍ مَشْهُورٍ فَهَرَبَ مِنْهُ، فَتَلِفَ فِي هَرَبِهِ ضَمِنَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الشَّاهِقِ، أَمِ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ أَمْ خَرَّ فِي بِئْرٍ، أَمْ لَقِيَهُ سَبْعٌ، أَمْ غَرِقَ فِي مَاءٍ، أَمِ احْتَرَقَ بِنَارٍ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَطْلُوبُ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، أَعْمَى أَمْ بَصِيرًا، عَاقِلًا أَمْ مَجْنُونًا.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: مَنْ أَشَارَ إِلَى رَجُلٍ بِسَيْفٍ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، فَتَمَادَى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَهْرُبُ مِنْهُ، فَطَلَبَهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِدُونِ الْقَسَامَةِ إِذَا كَانَ الْمَوْتُ بِدُونِ السُّقُوطِ، وَإِذَا سَقَطَ وَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ مَعَ الْقَسَامَةِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ بِدُونِ عَدَاوَةٍ فَلَا قِصَاصَ، وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ

ثَانِيًا: هُجُومُ الْوَاحِدِ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ:

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ هُجُومِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحْدَهُ عَلَى جَيْشِ الْعَدُوِّ، مَعَ التَّيَقُّنِ بِأَنَّهُ سَيُقْتَلُ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِقْدَامِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ الْكُفَّارِ، إِنْ كَانَ قَصْدُهُ إِعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَكَانَ فِيهِ قُوَّةٌ وَظَنَّ تَأْثِيرَهُ فِيهِمْ، وَلَوْ عَلِمَ ذَهَابَ نَفْسِهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ انْتِحَارًا.

وَقِيلَ: إِذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ، وَخَلَصَتِ النِّيَّةُ فَلْيَحْمِلْ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ سَيَقْتُلُ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ وَيَنْجُوَ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ، لَكِنْ سَيَنْكِي نِكَايَةً أَوْ سَيُبْلِي أَوْ يُؤَثِّرُ أَثَرًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ.

وَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} لِأَنَّ مَعْنَى التَّهْلُكَةِ- كَمَا فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ- هُوَ الْإِقَامَةُ فِي الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحُهَا وَتَرْكُ الْجِهَادِ.لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ حِكَايَةً عَنْ غَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَنَّهُ «حَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْمَلِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ، وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَرُدُّ عَلَى مَا قُلْنَا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ» وَنَقَلَ الرَّازِيُّ رِوَايَةً عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدَيْهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ».

كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: طَلَبُ الشَّهَادَةِ.

الثَّانِي: وُجُودُ النِّكَايَةِ.

الثَّالِثُ: تَجْرِئَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.

الرَّابِعُ: ضَعْفُ نُفُوسِ الْأَعْدَاءِ، لِيَرَوْا أَنَّ هَذَا صُنْعُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَا ظَنُّكَ بِالْجَمِيعِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا حَارَبَ قُتِلَ، وَإِذَا لَمْ يُحَارِبْ أُسِرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِتَالُ، لَكِنَّهُ إِذَا قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ جَازَ بِشَرْطِ أَنْ يَنْكِيَ فِيهِمْ.أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْكِي فِيهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِحَمَلَتِهِ شَيْءٌ مِنْ إِعْزَازِ الدِّينِ

كَمَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ حَمَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ وَحْدَهُ، لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ، إِذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ. ثَالِثًا: الِانْتِحَارُ لِخَوْفِ إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ:

12- إِذَا خَافَ الْمُسْلِمُ الْأَسْرَ، وَعِنْدَهُ أَسْرَارٌ هَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَتَيَقَّنُ أَنَّ الْعَدُوَّ سَوْفَ يَطَّلِعُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ، وَيُحْدِثُ ضَرَرًا بَيِّنًا بِصُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَبِالتَّالِي يُقْتَلُ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ وَيَنْتَحِرَ أَوْ يَسْتَسْلِمَ؟

لَمْ نَجِدْ فِي جَوَازِ الِانْتِحَارِ خَوْفَ إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ، وَلَا فِي عَدَمِ جَوَازِهِ نَصًّا صَرِيحًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

إِلاَّ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ أَجَازُوا قِتَالَ الْكُفَّارِ إِذَا تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَلَوْ تَأَكَّدُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيُقْتَلُونَ مَعَهُمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ بِالرَّمْيِ الْكُفَّارَ، وَيَتَوَقَّى الْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، وَعَلِمْنَا أَنَّنَا لَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ ظَفِرُوا بِنَا أَوْ عَظُمَتْ نِكَايَتُهُمْ فِينَا، وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ تَطْبِيقَاتِ قَاعِدَةِ: (يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ).

وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُجَوِّزُوا إِلْقَاءَ شَخْصٍ فِي الْبَحْرِ لِخِفَّةِ ثِقَلِ السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ لِلْغَرَقِ، لِأَجَلِ نَجَاةِ رُكَّابِهَا مَهْمَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ، إِلاَّ مَا نَقَلَ الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ عَنِ اللَّخْمِيِّ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ بِالْقُرْعَةِ. أَمْرُ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ بِقَتْلِهِ:

إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لآِخَرَ: اقْتُلْنِي، أَوْ قَالَ لِلْقَائِلِ إِنْ قَتَلْتَنِي أَبْرَأْتُكَ، أَوْ قَدْ وَهَبْتُ لَكَ دَمِي، فَقَتَلَهُ عَمْدًا، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ:

13- أَنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا، لَكِنْ لَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ.

هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- مَا عَدَا زُفَرَ- وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَوَاهُ سَحْنُونٌ عَنْ مَالِكٍ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَجْرِي فِي النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ، وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ دِيَةَ الْعَمْدِ.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فَقَالُوا: إِنْ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَجْرِي فِي النَّفْسِ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ لِشُبْهَةِ الْإِذْنِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِمُثْقَلٍ فَلَا قِصَاصَ لَكِنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ

الثَّانِي:

14- أَنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ قَتْلُ عَمْدٍ، وَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الِانْتِحَارِ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْقِصَاصُ.

وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حَسَّنَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ لَمْ يَقْدَحْ فِي الْعِصْمَةِ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ النُّفُوسِ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ، وَإِذْنُهُ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لِوَارِثِهِ لَا لَهُ، وَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقًّا قَبْلَ وُجُوبِهِ.

الثَّالِثُ:

15- أَنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَهُ حُكْمُ الِانْتِحَارِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ وَلَا دِيَةَ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْقُدُورِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.

أَمَّا سُقُوطُ الْقِصَاصِ فَلِلْإِذْنِ لَهُ فِي الْقَتْلِ وَالْجِنَايَةِ، وَلِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تُورِثُ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ.

وَأَمَّا سُقُوطُ الدِّيَةِ فَلِأَنَّ ضَمَانَ نَفْسِهِ هُوَ حَقٌّ لَهُ فَصَارَ كَإِذْنِهِ بِإِتْلَافِ مَالِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْتُلْ دَابَّتِي فَفَعَلَ فَلَا ضَمَانَ إِجْمَاعًا، فَصَحَّ الْأَمْرُ، وَلِأَنَّ الْمُورَثَ أَسْقَطَ الدِّيَةَ أَيْضًا فَلَا تَجِبُ لِلْوَرَثَةِ.

وَإِذَا كَانَ الْآمِرُ أَوِ الْآذِنُ مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا فَلَا يُسْقِطُ إِذْنُهُ شَيْئًا مِنَ الْقِصَاصِ وَلَا الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِذْنِهِمَا.

16- لَوْ قَالَ: اقْطَعْ يَدِي، فَإِنْ كَانَ لِمَنْعِ السِّرَايَةِ كَمَا إِذَا وَقَعَتْ فِي يَدِهِ آكِلَةٌ فَلَا بَأْسَ بِقَطْعِهِ اتِّفَاقًا.

وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ، وَلَوْ قَطَعَ بِإِذْنِهِ فَلَمْ يَمُتْ مِنَ الْقَطْعِ فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ عَلَى الْقَاطِعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ، فَكَانَتْ قَابِلَةً لِلسُّقُوطِ بِالْإِبَاحَةِ وَالْإِذْنِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَتْلِفْ مَالِي فَأَتْلَفَهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَالَ لَهُ: اقْطَعْ يَدِي وَلَا شَيْءَ عَلَيْكَ، فَلَهُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْقَطْعِ، مَا لَمْ يَتَرَامَ بِهِ الْقَطْعُ حَتَّى مَاتَ مِنْهُ، فَلِوَلِيِّهِ الْقَسَامَةُ وَالْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ.

17- وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُجَّهُ فَشَجَّهُ عَمْدًا، وَمَاتَ مِنْهَا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ).

وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْجَارِحِ: فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّجَّةِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَتْلِ، فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ.وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا، وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْقَطْعُ لَا الْقَتْلُ.

أَمَّا لَوْ عَفَا عَنِ الْجِنَايَةِ أَوْ عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ عَنِ النَّفْسِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّاجِحِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ سَرَى الْقَطْعُ الْمَأْذُونُ بِهِ إِلَى النَّفْسِ فَهَدَرٌ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْحَاصِلَ مِنَ الْقَطْعِ وَالشَّجَّةِ الْمَأْذُونِ فِيهِمَا يُشْبِهُ الِانْتِحَارَ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، وَلِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّجَّةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَتْلِ، فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ.وَلِأَنَّ الْأَصَحَّ ثُبُوتُ الدِّيَةِ لِلْمُورِثِ ابْتِدَاءً، وَقَدْ أَسْقَطَهَا بِإِذْنِهِ.

وَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ يُفِيدُ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْإِبْرَاءِ.

أَمْرُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ:

18- إِذَا أَمَرَ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ- أَمْرًا لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ- بِقَتْلِ نَفْسِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ مُنْتَحِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ قَتَلَ نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَمُجَرَّدُ الْأَمْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الِاخْتِيَارِ وَلَا فِي الرِّضَا، مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

الْإِكْرَاهُ عَلَى الِانْتِحَارِ:

19- الْإِكْرَاهُ هُوَ: حَمْلُ الْمُكْرَهِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ.وَهُوَ نَوْعَانِ: مُلْجِئٌ وَغَيْرُ مُلْجِئٍ.

فَالْمُلْجِئُ: هُوَ الْإِكْرَاهُ الْكَامِلُ، وَهُوَ أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى تَلَفِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ.وَهَذَا النَّوْعُ يُعْدِمُ الرِّضَا، وَيُوجِبُ الْإِلْجَاءَ، وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ.

وَغَيْرُ الْمُلْجِئِ: هُوَ أَنْ يُكْرِهَهُ بِمَا لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ.وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ الَّذِي يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ.

20- إِذَا أَكْرَهَ إِنْسَانٌ غَيْرَهُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُلَ الْمُكْرَهَ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: اقْتُلْنِي وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ، فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الِانْتِحَارِ، حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ وَلَا الدِّيَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) لِأَنَّ الْمُكْرَهَ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) كَالْآلَةِ بِيَدِ الْمُكْرِهِ فِي الْإِكْرَاهِ التَّامِّ (الْمُلْجِئِ) فَيُنْسَبُ الْفِعْلُ إِلَى الْمُكْرِهِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَلِأَنَّ إِذْنَ الْمُكَلَّفِ يُسْقِطُ الدِّيَةَ وَالْقِصَاصَ مَعًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، فَكَيْفَ إِذَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ إِلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ؟

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُبَاحُ بِالْإِذْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْقِصَاصَ.وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي الْمَوْضُوعِ، وَقَدْ سَبَقَ رَأْيُهُمْ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا أَمَرَهُ الْمَقْتُولُ بِالْقَتْلِ.

21- إِذَا أَكْرَهَ شَخْصٌ غَيْرَهُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُلَ الْغَيْرُ نَفْسَهُ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: اقْتُلْ نَفْسَكَ وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَإِلاَّ يُعَدُّ مُنْتَحِرًا وَآثِمًا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ عَنِ الْمُكْرَهِ بِهِ، فَكِلَاهُمَا قَتْلٌ، فَلأَنْ يَقْتُلَهُ الْمُكْرِهُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَقْتُلَ هُوَ نَفْسَهُ.وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْجُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِتَرَاجُعِ الْمُكْرِهِ، أَوْ بِتَغَيُّرِ الْحَالَةِ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَحِرَ وَيَقْتُلَ نَفْسَهُ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِانْتِفَاءِ كَوْنِهِ إِكْرَاهًا حَقِيقَةً، لِاتِّحَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمُخَوَّفِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الْقَتْلَ كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ، لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْآمِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ شَرِيكٌ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الْمُكْرَهِ قَتْلَ نَفْسِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ، إِذَا قَتَلَ الْمُكْرَهُ نَفْسَهُ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ.

وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ بِمَا يَتَضَمَّنُ تَعْذِيبًا شَدِيدًا كَإِحْرَاقٍ أَوْ تَمْثِيلٍ إِنْ لَمْ يَقْتُلْ نَفْسَهُ، كَانَ إِكْرَاهًا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْبَزَّارُ، وَمَالَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: لَوْ قَالَ لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي النَّارِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ أَوْ لأَقْتُلَنَّكَ بِالسَّيْفِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ قُتِلَ بِالْمُثَقَّلِ، فَكَذَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي مَالِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ كَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ عِنْدَهُ.أَمَّا إِذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. هَذَا، وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصًّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَانْظُرْ (إِكْرَاه).

اشْتِرَاكُ الْمُنْتَحِرِ مَعَ غَيْرِهِ:

22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ جَرَحَ نَفْسَهُ، ثُمَّ جَرَحَهُ غَيْرُهُ فَمَاتَ مِنْهُمَا، فَهَلْ يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُشَارِكِ لَهُ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ؟ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ الصُّوَرِ:

أ- فَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، كَأَنْ أَرَادَ ضَرْبَ مَنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ بِجُرْحٍ فَأَصَابَ نَفْسَهُ، أَوْ خَاطَ جُرْحَهُ فَصَادَفَ اللَّحْمَ الْحَيَّ، ثُمَّ جَرَحَهُ شَخْصٌ آخَرُ خَطَأً، فَمَاتَ مِنْهُمَا، فَلَا قِصَاصَ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُخْطِئِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَلْزَمُ عَاقِلَةَ الشَّرِيكِ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ اثْنَانِ خَطَأً.

ب- أَمَّا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَجَرَحَهُ شَخْصٌ آخَرُ عَمْدًا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَقُولُ: لَا يُقْتَلُ شَرِيكُ مَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ كَالْمُخْطِئِ وَالصَّغِيرِ، وَعَلَى الْمُتَعَمِّدِ نِصْفُ دِيَةِ الْعَمْدِ فِي مَالِهِ، إِذْ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ مَاتَ

وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلْحَنَابِلَةِ: يُقْتَصُّ مِنَ الشَّرِيكِ الْعَامِدِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ الْقَتْلَ، وَخَطَأُ شَرِيكِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي قَصْدِهِ.

ج- وَإِذَا جَرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا، وَجَرَحَهُ آخَرُ عَمْدًا، وَمَاتَ مِنْهُمَا، يُقْتَصُّ مِنَ الشَّرِيكِ الْعَامِدِ فِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِشَرْطِ الْقَسَامَةِ، لِأَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ مُتَمَحِّضٌ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الشَّرِيكِ فِيهِ كَشَرِيكِ الْأَبِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ قَاتِلِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ جُرْحَاهُمَا عَمْدًا، لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ شَرِيكِ الْمُخْطِئِ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ، وَلِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ، كَشَرِيكِ الْمُخْطِئِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ تَرَكَّبَ مِنْ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ.

وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ فَعَلَى الْجَارِحِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَسَامَةُ فِي وُجُوبِ نِصْفِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّهُمْ أَضَافُوا: أَنَّ الْجَارِحَ يُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا كَذَلِكَ

23- وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْسَمُ عَلَى مَنِ اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ، وَعَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْقَتْلِ، فَإِذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَبِفِعْلِ الشَّرِيكِ وَلَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ، يَجِبُ عَلَى الشَّرِيكِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ شَخْصٌ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَفِعْلِ زَيْدٍ وَأَسَدٍ وَحَيَّةٍ ضَمِنَ زَيْدٌ ثُلُثَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْأَسَدِ وَالْحَيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ هَدَرٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَفِعْلُ زَيْدٍ مُعْتَبَرٌ فِي الدَّارَيْنِ وَفِعْلُ نَفْسِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا لَا الْعُقْبَى، حَتَّى يَأْثَمَ بِالْإِجْمَاعِ.

24- وَتَعَرَّضَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى لَهَا أَهَمِّيَّتُهَا فِي اشْتِرَاكِ الشَّخْصِ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ، وَهِيَ مُدَاوَاةُ الْجُرْحِ بِالسُّمِّ الْمُهْلِكِ.فَإِنْ جَرَحَهُ إِنْسَانٌ فَتَدَاوَى بِسُمٍّ مُذَفَّفٍ يَقْتُلُ فِي الْحَالِ، فَقَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ وَقَطَعَ سِرَايَةَ الْجُرْحِ، وَجَرَى مَجْرَى مَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بَعْدَ أَنْ جُرِحَ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ عَلَى جَارِحِهِ فِي النَّفْسِ، وَيُنْظَرُ فِي الْجُرْحِ، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ فَلِوَلِيِّهِ اسْتِيفَاؤُهُ، وَإِلاَّ فَلِوَلِيِّهِ الْأَرْشُ وَإِنْ كَانَ السُّمُّ لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ، أَوْ قَدْ يَقْتُلُ بِفِعْلِ الرَّجُلِ فِي نَفْسِهِ، فَالْقَتْلُ شَبَهُ عَمْدٍ، وَالْحُكْمُ فِي شَرِيكِهِ كَالْحُكْمِ فِي شَرِيكِ الْمُخْطِئِ.وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَارِحِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ.

وَإِنْ كَانَ السُّمُّ يَقْتُلُ غَالِبًا، وَعُلِمَ حَالُهُ، فَحُكْمُهُ كَشَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَفِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- أَوْ هُوَ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ فِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْقَتْلَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ التَّدَاوِيَ

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا قِصَاصَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْجَارِحِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّدَاوِي بِالسُّمِّ عَمْدًا أَمْ كَانَ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ شَرِيكُ مَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

كَذَلِكَ لَا قِصَاصَ عَلَى الْجَارِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا تَدَاوَى الْمَقْتُولُ بِالسُّمِّ خَطَأً، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّهُ «لَا يُقْتَلُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ» وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي شَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ عَمْدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَيْنِ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


36-موسوعة الفقه الكويتية (براءة)

بَرَاءَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْبَرَاءَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْمُفَارَقَةُ لَهُ، وَالْأَصْلُ الْبُرْءُ بِمَعْنَى: الْقَطْعِ، فَالْبَرَاءَةُ قَطْعُ الْعَلَاقَةِ، يُقَالُ: بَرِئْتُ مِنَ الشَّيْءِ، وَأَبْرَأَ بَرَاءَةً: إِذَا أَزَلْتَهُ عَنْ نَفْسِكَ وَقَطَعْتَ أَسْبَابَهُ، وَبَرِئْتُ مِنَ الدَّيْنِ: انْقَطَعَ عَنِّي، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَنَا عَلَقَةٌ

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلْبَرَاءَةِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالْبَرَاءَةِ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ: الْمُفَارَقَةَ، وَفِي الدُّيُونِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْجِنَايَاتِ: التَّخَلُّصَ وَالتَّنَزُّهَ، وَكَثِيرًا مَا يَتَرَدَّدُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ قَوْلُهُمْ: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ أَيْ تَخَلُّصُهَا وَعَدَمُ انْشِغَالِهَا بِحَقِّ آخَرَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِبْرَاءُ:

2- الْإِبْرَاءُ فِي اللُّغَةِ: إِفْعَالٌ مِنْ بَرِئَ، إِذَا تَخَلَّصَ وَتَنَزَّهَ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: إِسْقَاطُ شَخْصٍ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ وَالدُّيُونِ عَرَّفَهُ الْأَبِيُّ الْمَالِكِيُّ بِأَنَّهُ: إِسْقَاطُ الدَّيْنِ عَنْ ذِمَّةِ مَدِينِهِ وَتَفْرِيغٌ لَهَا مِنْهُ.

فَإِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ مَثَلًا، بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْ ذِمَّةِ مَدِينِهِ وَتَفْرِيغِهَا مِنْهُ، حَصَلَتِ الْبَرَاءَةُ.وَعَلَى ذَلِكَ فَالْإِبْرَاءُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْإِبْرَاءِ، وَقَدْ تَحْصُلُ بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا لَوِ اسْتَوْفَى الدَّائِنُ حَقَّهُ مِنَ الْمَدِينِ، أَوْ زَالَ سَبَبُ الضَّمَانِ بِعَامِلٍ آخَرَ غَيْرِ فِعْلِ الدَّائِنِ.وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ؛ لِعَلَاقَةِ الْأَثَرِ وَالْمُؤَثِّرِ بَيْنَهُمَا. (ر: إِبْرَاء).

ب- الْمُبَارَأَةُ:

3- الْمُبَارَأَةُ لُغَةً: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ، فَهِيَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.وَتُعْتَبَرُ مِنْ أَلْفَاظِ الْخُلْعِ، وَإِذَا حَصَلَتْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تُوجِبُ سُقُوطَ حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا قِبَلَ الْآخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.وَتُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي إِسْقَاطِ الزَّوْجَةِ حُقُوقَهَا عَلَى الزَّوْجِ مُقَابِلَ الطَّلَاقِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَبَاحِثِ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ.فَالْمُبَارَأَةُ أَخَصُّ مِنَ الْبَرَاءَةِ.

ج- الِاسْتِبْرَاءُ:

4- الِاسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ، وَشَرْعًا يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: فِي الطَّهَارَةِ بِمَعْنَى نَظَافَةِ الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الْأَذَى.وَالثَّانِي: فِي النَّسَبِ بِمَعْنَى: طَلَبِ بَرَاءَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَبَلِ وَمِنْ مَاءِ الْغَيْرِ، كَمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

5- الْبَرَاءَةُ حَالَةٌ أَصْلِيَّةٌ فِي الْأَشْخَاصِ، فَكُلُّ شَخْصٍ يُولَدُ وَذِمَّتُهُ بَرِيئَةٌ، وَشَغْلُهَا يَحْصُلُ بِالْمُعَامَلَاتِ أَوِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُجْرِيهَا فِيمَا بَعْدُ، فَكُلُّ شَخْصٍ يَدَّعِي خِلَافَ هَذَا الْأَصْلِ يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يُبَرْهِنَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِحَقٍّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِمُوَافَقَتِهِ الْأَصْلَ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي لِدَعْوَاهُ مَا خَالَفَ الْأَصْلَ، فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ يُحْكَمُ بِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ: (الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ).وَكَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَارِمِ (الْمَدِينِ) لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ مِمَّا زَادَ.

وَالْبَرَاءَةُ وَصْفٌ تُوصَفُ بِهِ الذِّمَّةُ، وَلِهَذَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُوصَفُ بِالْبَرَاءَةِ، إِلاَّ أَنْ يُؤَوَّلَ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُهْدَةِ أَوْ عَنِ الدَّعْوَى.

هَذَا، وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْجِنَايَاتِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مَبَاحِثِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ.

6- ثُمَّ إِنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ كَالْأَصْلِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، فَإِذَا شُغِلَتِ الذِّمَّةُ بِارْتِكَابِ عَمَلٍ أَوْ إِجْرَاءِ مُعَامَلَةٍ، فَبَرَاءَتُهَا تَحْصُلُ بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ حَسَبَ اخْتِلَافِ اشْتِغَالِ الذِّمَّةِ وَضَمَانِهَا.فَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَتِ الذِّمَّةُ مَشْغُولَةً بِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَمْوَالِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ فَلَا تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ إِلاَّ بِأَدَائِهَا مَا دَامَتْ مُيَسَّرَةً.أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَشْغُولَةً بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَبَرَاءَتُهَا تَحْصُلُ بِالْأَدَاءِ، وَإِذَا فَاتَ الْأَوَانُ فَبِالْقَضَاءِ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً يُمْكِنُ قَضَاؤُهَا، وَإِلاَّ فَبِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ.

وَفِي حُقُوقِ الْعِبَادِ إِذَا أَتْلَفَ أَوْ غَصَبَ شَخْصٌ مَالَ شَخْصٍ آخَرَ، تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ عَيْنِ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ قَائِمًا، أَوْ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِذَا كَانَ قِيَمِيًّا.وَلِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِتْلَاف، غَصْب، ضَمَان).

كَذَلِكَ تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ مِنْ حَقِّهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ دُونَ الْأَدَاءِ أَوِ الِاسْتِيفَاءِ، كَمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ، أَوْ إِبْرَاءِ الْإِسْقَاطِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِبْرَاء).

7- هَذَا، وَقَدْ تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِانْتِقَالِ الضَّمَانِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى كَمَا فِي الْحَوَالَةِ، فَإِذَا أَحَالَ الْمَدِينُ حَقَّ الدَّائِنِ عَلَى شَخْصٍ ثَالِثٍ (الْمُحَالِ عَلَيْهِ) وَتَمَّ الْعَقْدُ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ مِنَ الدَّيْنِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الْكَفِيلِ إِذَا كَانَ لَهُ كَفِيلٌ، وَذَلِكَ لِانْتِقَالِ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّوَى (تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ) رَجَعَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ (ر: حَوَالَة).

8- وَقَدْ تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِالتَّبَعِيَّةِ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَتْ بَرَاءَةُ الْمَدِينِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ أَوْ إِبْرَاءِ الدَّائِنِ لَهُ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْكَفِيلِ، وَكَذَلِكَ إِذَا زَالَ سَبَبُ الضَّمَانِ بِوَجْهٍ آخَرَ، كَمَنْ كَانَ كَفِيلًا بِثَمَنِ الْمَبِيعِ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ مَثَلًا؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَالَة).هَذَا، وَهُنَاكَ اسْتِعْمَالٌ آخَرُ لِكَلِمَةِ بَرَاءَةٍ بِمَعْنَى: التَّنَزُّهِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ الْأَدْيَانِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ الْبَاطِلَةِ، كَمَا يُطْلَبُ مِمَّنْ يُشْهِرُ إِسْلَامَهُ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَقِيدَةٍ وَدِينٍ يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْلَام).

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

9- بَحَثَ الْفُقَهَاءُ الْبَرَاءَةَ فِي أَبْوَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ، وَفِي بَحْثِ الْكَفَالَةِ تُذْكَرُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ، وَفِي الْحَوَالَةِ بِأَنَّهَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَفِي الْبُيُوعِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ اشْتِرَاطَ الْبَائِعِ الْبَرَاءَةَ مِنْ عُيُوبِ الْمَبِيعِ سَبَبٌ لِسُقُوطِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْعَقْدِ، كَمَا ذَكَرُوهَا فِي بَابِ الْإِبْرَاءِ وَآثَارِهِ مِنْ بَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


37-موسوعة الفقه الكويتية (بكاء)

بُكَاءٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْبُكَاءُ: مَصْدَرُ بَكَى يَبْكِي بُكًى، وَبُكَاءً.

قَالَ فِي اللِّسَانِ: الْبُكَاءُ يُقْصَرُ وَيُمَدُّ.قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: إِذَا مَدَدْتَ أَرَدْتَ الصَّوْتَ الَّذِي يَكُونُ مَعَ الْبُكَاءِ، وَإِذَا قَصَرْتَ أَرَدْتَ الدُّمُوعَ وَخُرُوجَهَا.قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ- رضي الله عنه- فِي رِثَاءِ حَمْزَةَ فِي رِثَاءِ حَمْزَةَ

بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا

وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ

قَالَ الْخَلِيلُ: مَنْ قَصَرَ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الْحُزْنِ، وَمَنْ مَدَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الصَّوْتِ.وَالتَّبَاكِي: تَكَلُّفُ الْبُكَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا».

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ:

2- الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الصَّوْتُ بِأَقْصَى الطَّاقَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُمَا بُكَاءٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَيَرِدُ الصُّرَاخُ أَيْضًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغَاثَةِ.

ب- النِّيَاحُ:

3- النِّيَاحُ وَالنِّيَاحَةُ لُغَةً: الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ عَلَى الْمَيِّتِ.

وَقَالَ فِي الْمِصْبَاحِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا جَاءَ فِي الْقَامُوسِ: نَاحَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْمَيِّتِ نَوْحًا مِنْ بَابِ قَالَ، وَالِاسْمُ النُّوَاحُ وِزَانُ غُرَابٍ، وَرُبَّمَا قِيلَ: النِّيَاحُ بِالْكَسْرِ، فَهِيَ نَائِحَةٌ، وَالنِّيَاحَةُ بِالْكَسْرِ: الِاسْمُ مِنْهُ، وَالْمَنَاحَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَوْضِعُ النَّوْحِ.

ج- النَّدْبُ:

4- النَّدْبُ لُغَةً: الدُّعَاءُ إِلَى الْأَمْرِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ.وَالنَّدْبُ: الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ وَتَعْدَادُ مَحَاسِنُهُ.وَالِاسْمُ: النُّدْبَةُ.

د- النَّحْبُ، أَوِ النَّحِيبُ:

5- النَّحْبُ لُغَةً: أَشَدُّ الْبُكَاءِ، كَالنَّحِيبِ.

الْعَوِيلُ:

6- الْعَوِيلُ: هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ، يُقَالُ: أَعْوَلَتِ الْمَرْأَةُ إِعْوَالًا وَعَوِيلًا.هَذَا وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّحِيبَ وَالْعَوِيلَ مَعْنَاهُمَا الْبُكَاءُ الشَّدِيدُ، وَأَنَّ الصُّرَاخَ وَالصِّيَاحَ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَأَنَّ النُّوَاحَ يَأْتِي بِمَعْنَى الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَنَّ النَّدْبَ هُوَ تَعْدَادُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْبُكَاءَ مَا كَانَ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ، وَالْبُكَى مَا كَانَ بِلَا صَوْتٍ، بِأَنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ.

أَسْبَابُ الْبُكَاءِ:

7- لِلْبُكَاءِ أَسْبَابٌ، مِنْهَا: خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحُزْنُ، وَشِدَّةُ الْفَرَحِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبُكَاءِ فِي الْمُصِيبَةِ:

8- الْبُكَاءُ قَدْ يَكُونُ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ، أَوْ بِصَوْتٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ كَصُرَاخٍ أَوْ نُوَاحٍ أَوْ نَدْبٍ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ الْبُكَاءُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كِتْمَانِ الْحُزْنِ، وَيَمْلِكُ السَّيْطَرَةَ عَلَى مَشَاعِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مُجَرَّدًا عَنْ فِعْلِ الْيَدِ، كَشَقِّ جَيْبٍ أَوْ لَطْمٍ، وَعَنْ فِعْلِ اللِّسَانِ، كَالصُّرَاخِ وَدَعْوَى الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَيْضًا «إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا- وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ».

أَمَّا حُكْمُ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَسَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ.

الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى:

9- الْمُؤْمِنُ يَعِيشُ فِي جِهَادٍ مَعَ نَفْسِهِ، وَيُرَاقِبُ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ، وَيَبْكِي عِنْدَ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى، فَهَذَا مِنَ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.

وَمِمَّا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فِي الْمَعْنَى: وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ وَثِقَةِ الْقَلْبِ، وَالْوَجَلُ: الْفَزَعُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلَا تَنَاقُضَ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ مَعَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينُ، وَإِنْ كَانُوا يَخَافُونَ اللَّهَ.

10- فَهَذِهِ حَالَةُ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، الْخَائِفِينَ مِنْ سَطْوَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ.لَا كَمَا يَفْعَلُهُ جُهَّالُ الْعَوَامِّ وَالْمُبْتَدِعَةُ الطَّغَامُ، مِنَ الزَّعِيقِ وَالزَّئِيرِ وَمِنَ النُّهَاقِ الَّذِي يُشْبِهُ نُهَاقَ الْحَمِيرِ، فَيُقَالُ لِمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَجْدٌ وَخُشُوعٌ: لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُسَاوِيَ حَالَ الرَّسُولِ وَلَا حَالَ أَصْحَابِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالتَّعْظِيمِ لِجَلَالِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ وَالْبُكَاءُ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ أَحْوَالَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ فَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.فَهَذَا وَصْفُ حَالِهِمْ وَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى هَدْيِهِمْ وَلَا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِهِمْ، وَمَنْ تَعَاطَى أَحْوَالَ الْمَجَانِينِ وَالْجُنُونَ فَهُوَ مِنْ أَخَسِّهِمْ حَالًا، وَالْجُنُونُ فُنُونٌ.رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَحْفَوْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: سَلُونِي، لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا.فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي...».وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ».الْحَدِيثَ.وَلَمْ يَقُلْ: زَعَقْنَا وَلَا رَقَصْنَا وَلَا زُفْنَا وَلَا قُمْنَا.

وَقَالَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ خَافَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ لِإِشْرَاقِ أَشِعَّةِ الْجَلَالِ عَلَيْهَا.

11- وَالْبُكَاءُ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ لَهُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَلِ، وَفِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

قَالَ صَاحِبُ تُحْفَةِ الْأَحْوَذِيِّ: قَوْلُهُ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ» أَيْ لَا تَمَسُّ صَاحِبَهُمَا، فَعَبَّرَ بِالْجُزْءِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَعَبَّرَ بِالْمَسِّ إِشَارَةً إِلَى امْتِنَاعِ مَا فَوْقَهُ بِالْأَوْلَى، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَبَدًا» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَقْرَبَانِ النَّارَ».

وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي أَخْبَارًا وَرَدَتْ فِي مَدْحِ الْبُكَاءِ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ بَيْنِهَا هَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُخَانُ جَهَنَّمَ».

الْبُكَاءُ فِي الصَّلَاةِ:

12- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ إِنْ كَانَ سَبَبُهُ أَلَمًا أَوْ مُصِيبَةً فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ ذِكْرَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ أَوِ الدُّعَاءِ.وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا حَدِيثُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَلَهُ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ».

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حَرْفَيْنِ، أَوْ عَلَى حَرْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، أَوْ أَحَدُهَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ وَالْآخَرُ أَصْلِيٌّ، لَا تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَحُرُوفُ الزِّيَادَةِ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ: أَمَانٌ وَتَسْهِيلٌ.

وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِصَوْتٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَا صَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلَا صَوْتٍ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا أَوْ لِمُصِيبَةٍ، أَمْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا مَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِيِّ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، سَوَاءٌ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَمْ لِتَخَشُّعٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا لَمْ يُبْطِلْ، وَإِنْ كَثُرَ، وَإِنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ بِغَيْرِ تَخَشُّعٍ أَبْطَلَ.

هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ الْبُكَاءَ بِصَوْتٍ، إِنْ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَوْ لِوَجَعٍ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ أَوْ لِخُشُوعٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ كَالْكَلَامِ، يُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، أَيْ فَالْعَمْدُ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالسَّهْوُ يُبْطِلُ إِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَيُسْجَدُ لَهُ إِنْ قَلَّ.

وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصَحِّ إِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؛ لِوُجُودِ مَا يُنَافِيهَا، حَتَّى وَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مِنْ خَوْفِ الْآخِرَةِ.وَعَلَى مُقَابِلِ الْأَصَحِّ:

لَا يُبْطِلُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي اللُّغَةِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَكَانَ أَشْبَهَ بِالصَّوْتِ الْمُجَرَّدِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِنْ بَانَ حَرْفَانِ مِنْ بُكَاءٍ، أَوْ تَأَوُّهِ خَشْيَةٍ، أَوْ أَنِينٍ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الذِّكْرِ، وَقِيلَ: إِنْ غَلَبَهُ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَشْيَةً؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْهِجَاءِ، وَيَدُلُّ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْنَى كَالْكَلَامِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي الْأَنِينِ: إِذَا كَانَ غَالِبًا أَكْرَهُهُ، أَيْ مِنْ وَجَعٍ، وَإِنِ اسْتَدْعَى الْبُكَاءَ فِيهَا كُرِهَ كَالضَّحِكِ وَإِلاَّ فَلَا.

الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:

13- الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبٌّ، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قوله تعالى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مَدْحٌ لَهُمْ، وَحُقَّ لِكُلِّ مَنْ تَوَسَّمَ بِالْعِلْمِ، وَحَصَّلَ مِنْهُ شَيْئًا أَنْ يَجْرِيَ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَيَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَتَوَاضَعُ وَيَذِلُّ.وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} أَيْ يَزِيدُهُمْ لِينَ قَلْبٍ وَرُطُوبَةَ عَيْنٍ.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ.وَيَخِرُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْفُرْقَانِ، إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لِأَذْقَانِهِمْ يَبْكُونَ، وَيَزِيدُهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ خُشُوعًا، يَعْنِي خُضُوعًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ اسْتِكَانَةً لَهُ.

وَيُفْهَمُ اسْتِحْبَابُ الْبُكَاءِ أَيْضًا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا».

الْبُكَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ إِنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ، وَمِثْلُهُ غَلَبَةُ الْبُكَاءِ بِصَوْتٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، وَمِثْلُهُ حُزْنُ الْقَلْبِ.وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ النَّدْبِ بِتَعْدَادِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ بِرَفْعِ صَوْتٍ، إِلاَّ مَا نُقِلَ فِي الْفُرُوعِ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النُّوَاحِ وَشَقِّ الْجَيْبِ أَوِ الثَّوْبِ وَلَطْمِ الْخَدِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا فِي ذَلِكَ بِالْكَرَاهَةِ، وَمُرَادُهُمُ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ وَغَيْرَ مَصْحُوبٍ بِنِيَاحَةٍ وَنَدْبٍ أَوْ شَقِّ جَيْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الِاجْتِمَاعِ لِلْبُكَاءِ، وَإِلاَّ كُرِهَ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ أَتَى بِهِ الْقَلْيُوبِيُّ، فَقَالَ: إِنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ كَانَ لِخَوْفٍ عَلَيْهِ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، أَوْ لِمَحَبَّةٍ وَرِقَّةٍ كَطِفْلٍ فَكَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ أَجْمَلُ، أَوْ لِصَلَاحٍ وَبَرَكَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَفَقْدِ نَحْوِ عِلْمٍ فَمَنْدُوبٌ، أَوْ لِفَقْدِ صِلَةٍ وَبِرٍّ وَقِيَامٍ بِمَصْلَحَةٍ فَمَكْرُوهٌ، أَوْ لِعَدَمِ تَسْلِيمٍ لِلْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَى بِهِ فَحَرَامٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ الْبُكَاءُ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ أَمْسَكْنَ.وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ النَّسَائِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.وَالْفُقَهَاءُ فِيمَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَخَذَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- رضي الله عنه- فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَبْكِي؟ أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنِ الْبُكَاءِ؟ قَالَ: لَا.وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ».

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ».فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ اللَّطْمِ وَشَقِّ الْجَيْبِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ، فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ.قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمَوْتُ».

الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ:

15- الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «زَارَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ...» إِلَخِ الْحَدِيثِ.

اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ:

16- اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَكْرُوهٌ إِنْ كَانَ بِلَا صَوْتٍ، وَحَرَامٌ إِنْ كَانَ مَعَهُ صَوْتٌ.وَالشَّافِعِيَّةُ لَا يُجِيزُونَ الِاجْتِمَاعَ لِلْبُكَاءِ.

وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ وَلَا الْحَنَابِلَةُ لِاجْتِمَاعِ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ.عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الْبُكَاءِ بِالدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ، وَإِنَّمَا تَأْتِي الْكَرَاهَةُ أَوِ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا إِذَا قُصِدَ الِاجْتِمَاعُ لَهُ.

هَذَا، وَإِذَا كَانَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا فَكَرَاهَةُ أَوْ تَحْرِيمُ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ لَهُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خَصَّ الْفُقَهَاءُ النِّسَاءَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُهُنَّ.

أَثَرُ بُكَاءِ الْمَوْلُودِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ:

17- إِذَا بَكَى الْمَوْلُودُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، بِأَنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ، سَوَاءٌ انْفَصَلَ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمْ لَمْ يَنْفَصِلْ كَمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.فَإِنْ لَمْ يَبْكِ، وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ فَلَا يُحْكَمُ بِحَيَاتِهِ.فَإِنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ، كَالْبُكَاءِ وَالصُّرَاخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ الْأَحْيَاءِ، فَيُسَمَّى وَيَرِثُ، وَيُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ عَمْدًا، وَيَسْتَحِقُّ مَوَالِيهِ الدِّيَةَ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُورَثُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِهْلَال).

أَثَرُ بُكَاءِ الْبِكْرِ عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ لِتَزْوِيجِهَا:

18- إِذَا اسْتُؤْذِنَتِ الْبِكْرُ فِي النِّكَاحِ فَبَكَتْ، فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَا وَعَدَمِهِ اتِّجَاهَاتٍ ثَلَاثَةً:

أ- فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلَا صَوْتٍ فَيَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَإِنْ كَانَ بِصَوْتٍ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.

ب- وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ بُكَاءَ الْبِكْرِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الْأَبِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، يُعْتَبَرُ رِضًا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْبُكَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِفَقْدِ الْأَبِ مَثَلًا، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنَ الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ رِضًا.

ج- وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْبُكَاءَ إِذْنٌ فِي النِّكَاحِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فَإِذَا بَكَتْ أَوْ سَكَتَتْ فَهُوَ رِضَاهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» وَلِأَنَّهَا غَيْرُ نَاطِقَةٍ بِالِامْتِنَاعِ مَعَ سَمَاعِ الِاسْتِئْذَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِذْنًا مِنْهَا كَالصُّمَاتِ.وَالْبُكَاءُ يَدُلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيَاءِ لَا الْكَرَاهَةِ.وَلَوْ كَرِهَتْ لَامْتَنَعَتْ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِي مِنَ الِامْتِنَاعِ.

بُكَاءُ الْمَرْءِ هَلْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ:

19- بُكَاءُ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى فِي سُورَةِ يُوسُفَ {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}.فَإِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ تَصَنَّعُوا الْبُكَاءَ لِيُصَدِّقَهُمْ أَبُوهُمْ بِمَا أَخْبَرُوهُ بِهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوهُ بِهِ كَذِبٌ، هُمُ الَّذِينَ دَبَّرُوهُ وَفَعَلُوهُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لَا يَخْفَى.كَمَا قَالَ حَكِيمٌ:

إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ

تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


38-موسوعة الفقه الكويتية (البيع 1)

البَيْعٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْبَيْعُ لُغَةً مَصْدَرُ بَاعَ، وَهُوَ: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: مُقَابَلَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أَوْ دَفْعُ عِوَضٍ وَأَخْذُ مَا عُوِّضَ عَنْهُ.

وَالْبَيْعُ مِنَ الْأَضْدَادِ- كَالشِّرَاءِ- قَدْ يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا وَيُرَادُ بِهِ الْآخَرُ، وَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ: بَائِعًا، أَوْ بَيِّعًا.لَكِنْ إِذَا أُطْلِقَ الْبَائِعُ فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ فِي الْعُرْفِ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَاذِلُ السِّلْعَةِ، وَذَكَرَ الْحَطَّابُ أَنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ اسْتِعْمَالُ (بَاعَ) إِذَا أَخْرَجَ الشَّيْءَ مِنْ مِلْكِهِ (وَاشْتَرَى) إِذَا أَدْخَلَهُ فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ أَفْصَحُ، وَعَلَى ذَلِكَ اصْطَلَحَ الْعُلَمَاءُ تَقْرِيبًا لِلْفَهْمِ.

وَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ (بَاعَ) بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَيُقَالُ: بِعْتُ فُلَانًا السِّلْعَةَ، وَيَكْثُرُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَتَقُولُ: بِعْتُ الدَّارَ، وَقَدْ يُزَادُ مَعَ الْفِعْلِ لِلتَّوْكِيدِ حَرْفٌ، مِثْلُ: (مِنْ) أَوِ (اللاَّمِ) فَيُقَالُ: بِعْتُ مِنْ فُلَانٍ، أَوْ لِفُلَانٍ.

أَمَّا قَوْلُهُمْ: بَاعَ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، فَهُوَ فِيمَا بِيعَ مِنْ مَالِهِ بِدُونِ رِضَاهُ.

أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، فَلِلْبَيْعِ تَعْرِيفَانِ: أَحَدُهُمَا: لِلْبَيْعِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ (وَهُوَ مُطْلَقُ الْبَيْعِ) وَالْآخَرُ: لِلْبَيْعِ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ (وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ).

فَالْحَنَفِيَّةُ عَرَّفُوا الْبَيْعَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ بِمِثْلِ تَعْرِيفِهِ لُغَةً بِقَيْدِ (التَّرَاضِي).لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ التَّرَاضِيَ لَا بُدَّ مِنْهُ لُغَةً أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ (بَاعَ زَيْدٌ ثَوْبَهُ) إِلاَّ أَنَّهُ اسْتَبْدَلَ بِهِ بِالتَّرَاضِي، وَأَنَّ الْأَخْذَ غَصْبًا وَإِعْطَاءَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لَا يَقُولُ فِيهِ أَهْلُ اللُّغَةِ بَاعَهُ وَاخْتَارَ صَاحِبُ الدُّرَرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ التَّقْيِيدَ بِ (الِاكْتِسَابِ) بَدَلَ (التَّرَاضِي) احْتِرَازًا مِنْ مُقَابَلَةِ الْهِبَةِ بِالْهِبَةِ؛ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، لَكِنْ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّعِ لَا بِقَصْدِ الِاكْتِسَابِ.

وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ وَلَا مُتْعَةِ لَذَّةٍ، وَذَلِكَ لِلِاحْتِزَازِ عَنْ مِثْلِ الْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، وَلِيَشْمَلَ هِبَةَ الثَّوَابِ وَالصَّرْفَ وَالسَّلَمَ.

وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: مُقَابَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَأَوْرَدَ الْقَلْيُوبِيُّ تَعْرِيفًا قَالَ إِنَّهُ أَوْلَى، وَنَصُّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ تُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ لَا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ.ثُمَّ قَالَ: وَخَرَجَ بِالْمُعَاوَضَةِ نَحْوُ الْهَدِيَّةِ، وَبِالْمَالِيَّةِ نَحْوُ النِّكَاحِ، وَبِإِفَادَةِ مِلْكِ الْعَيْنِ أَوِ المَنفَعَةِ الْإِجَارَةُ، وَبِالتَّأْبِيدِ الْإِجَارَةُ أَيْضًا، وَبِغَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ الْقَرْضُ.

وَالْمُرَادُ بِالْمَنْفَعَةِ بَيْعُ نَحْوِ حَقِّ الْمَمَرِّ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: مُبَادَلَةُ مَالٍ- وَلَوْ فِي الذِّمَّةِ- أَوْ مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ (كَمَمَرِّ الدَّارِ مَثَلًا) بِمِثْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى التَّأْبِيدِ غَيْرِ رِبًا وَقَرْضٍ، وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ: مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ تَمْلِيكًا وَتَمَلُّكًا.

أَمَّا الْبَيْعُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ، وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ، فَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ وَلَا مُتْعَةِ لَذَّةٍ ذُو مُكَايَسَةٍ، أَحَدُ عِوَضَيْهِ غَيْرُ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، مُعَيَّنٌ غَيْرُ الْعَيْنِ فِيهِ.

فَتَخْرُجُ هِبَةُ الثَّوَابِ بِقَوْلِهِمْ: ذُو مُكَايَسَةٍ، وَالْمُكَايَسَةُ: الْمُغَالَبَةُ، وَيَخْرُجُ الصَّرْفُ وَالْمُرَاطَلَةُ بِقَوْلِهِمْ: أَحَدُ عِوَضَيْهِ غَيْرُ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَيَخْرُجُ السَّلَمُ بِقَوْلِهِمْ: مُعَيَّنٌ.

ثُمَّ لَاحَظَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْبَيْعِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْبَيْعُ وَحْدَهُ، بِاعْتِبَارِهِ أَحَدَ شِقَّيِ الْعَقْدِ، فَقَالُوا عَنْهُ إِنَّهُ: تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَمِنْ ثَمَّ عَرَّفُوا الشِّرَاءَ بِأَنَّهُ: تَمَلُّكٌ بِعِوَضٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

كَمَا أَوْرَدَ الْحَطَّابُ تَعْرِيفًا شَامِلًا لِلْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ بِقَوْلِهِ: دَفْعُ عِوَضٍ فِي مُعَوَّضٍ لِمَا يَعْتَقِدُهُ صَاحِبُ هَذَا التَّعْرِيفِ مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ وَإِنَّمَا يَنْقُلُ شُبْهَةَ الْمِلْكِ، ثُمَّ أَشَارَ الْحَطَّابُ إِلَى أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الشَّيْءَ صَحِيحًا لِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ بِصِحَّتِهِ، فَالْمِلْكُ يَنْتَقِلُ عَلَى حُكْمِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْهِبَةُ، وَالْوَصِيَّةُ.

2- الْهِبَةُ: تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ حَالَ الْحَيَاةِ.وَالْوَصِيَّةُ: تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ بَعْدَ الْمَوْتِ.

فَهُمَا يَفْتَرِقَانِ عَنِ الْبَيْعِ فِي أَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ.

ب- الْإِجَارَةُ.

3- الْإِجَارَةُ: عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ.

فَالْإِجَارَةُ مُحَدَّدَةٌ بِالْمُدَّةِ أَوْ بِالْعَمَلِ، خِلَافًا لِلْبَيْعِ.

وَالْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، أَمَّا الْبَيْعُ فَهُوَ تَمْلِيكٌ لِلذَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ.

ج- الصُّلْحُ.

4- الصُّلْحُ: عَقْدٌ يَقْتَضِي قَطْعَ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ.

وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهُ: انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ، أَوْ خَوْفِ وُقُوعِهِ.

وَإِذَا كَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى أَخْذِ الْبَدَلِ فَالصُّلْحُ مُعَاوَضَةٌ، وَيَعْتَبِرُهُ الْفُقَهَاءُ بَيْعًا يُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ.

يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الصُّلْحُ عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ غَيْرِ الْمُدَّعَى بِهِ بَيْعٌ لِذَاتِ الْمُدَّعَى بِهِ بِالْمَأْخُوذِ إِنْ كَانَ ذَاتًا، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ.وَإِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ مَنَافِعَ فَهُوَ إِجَارَةٌ.

أَمَّا الصُّلْحُ عَلَى أَخْذِ بَعْضِ الْمُدَّعَى بِهِ وَتَرْكِ بَاقِيهِ فَهُوَ هِبَةٌ.

فَالصُّلْحُ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ يُعْتَبَرُ بَيْعًا.

د- الْقِسْمَةُ.

5- عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الْقِسْمَةَ بِأَنَّهَا: جَمْعُ نَصِيبٍ شَائِعٍ فِي مُعَيَّنٍ، وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهَا: تَصْيِيرُ مُشَاعٍ مِنْ مَمْلُوكِ مَالِكِينَ مُعَيَّنًا وَلَوْ بِاخْتِصَاصِ تَصَرُّفٍ فِيهِ بِقُرْعَةٍ أَوْ تَرَاضٍ.

وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: تَمْيِيزُ بَعْضِ الْحِصَصِ وَإِفْرَازُهَا.

وَاعْتَبَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْعًا.يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ:

الْقِسْمَةُ إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.وَقَالَ فِي الْآخَرِ: هِيَ بَيْعٌ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ: لِأَنَّهُ يُبْدِلُ نَصِيبَهُ مِنْ أَحَدِ السَّهْمَيْنِ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنَ السَّهْمِ الْآخَرِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْبَيْعِ.

وَعَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ.وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.

وَإِنْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ رَدٌّ (وَقِسْمَةُ الرَّدِّ هِيَ الَّتِي يُسْتَعَانُ فِي تَعْدِيلِ أَنْصِبَائِهَا بِمَالٍ أَجْنَبِيٍّ) فَهِيَ بَيْعٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

جَاءَ فِي الْمُهَذَّبِ: إِنْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ رَدٌّ فَهِيَ بَيْعٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الرَّدِّ بِذَلِكَ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ حَقِّ شَرِيكِهِ عِوَضًا.

وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ رَدُّ عِوَضٍ فَهِيَ بَيْعٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الرَّدِّ يَبْذُلُ الْمَالَ عِوَضًا عَمَّا حَصَلَ لَهُ مِنْ مَالِ شَرِيكِهِ، وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ.

وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَغْلِبُ فِيهَا مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ.وَفِي قِسْمَةِ الْقِيَمِيِّ يَغْلِبُ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ، دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ.

فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ فَقَالَ: عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» وَكَذَلِكَ فِعْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَإِقْرَارُهُ أَصْحَابَهُ عَلَيْهِ.

وَالْإِجْمَاعُ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ.

أَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِيهِ، لِتَعَلُّقِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْمُبَادَلَةِ إِلاَّ بِعِوَضٍ غَالِبًا، فَفِي تَجْوِيزِ الْبَيْعِ وُصُولٌ إِلَى الْغَرَضِ وَدَفْعٌ لِلْحَاجَةِ.

هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ، وَلَكِنْ قَدْ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى، فَيَكُونُ مَحْظُورًا إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا هُوَ مَمْنُوعٌ بِالنَّصِّ، لِأَمْرٍ فِي الصِّيغَةِ، أَوِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.وَكَمَا يَحْرُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ صَحِيحًا، بَلْ يَكُونُ بَاطِلًا أَوْ فَاسِدًا عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَيَجِبُ فِيهِ التَّرَادُّ.عَلَى تَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) وَفِي أَفْرَادِ الْبُيُوعِ الْمُسَمَّاةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَفِي مُصْطَلَحَيْ (الْبَيْعُ الْبَاطِلُ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ).

وَقَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ الْكَرَاهَةَ، وَهُوَ مَا فِيهِ نَهْيٌ غَيْرُ جَازِمٍ وَلَا يَجِبُ فَسْخُهُ، وَمَثَّلَ لَهُ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِبَيْعِ السِّبَاعِ لَا لِأَخْذِ جُلُودِهَا.

وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْبَيْعِ الْوُجُوبُ، كَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شِرَاءِ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ لِحِفْظِ الْمُهْجَةِ.

كَمَا قَدْ يَعْرِضُ لَهُ النَّدْبُ، كَمَنْ أَقْسَمَ عَلَى إِنْسَانٍ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَيْعِهَا فَتُنْدَبُ إِجَابَتُهُ؛ لِأَنَّ إِبْرَارَ الْمُقْسَمِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ مَنْدُوبٌ.

7- وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعِ ظَاهِرَةٌ، فَهِيَ الرِّفْقُ بِالْعِبَادِ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى حُصُولِ مَعَاشِهِمْ.

تَقْسِيمُ الْبَيْعِ:

8- لِلْبَيْعِ تَقْسِيمَاتٌ عَدِيدَةٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، أَهَمُّهَا تَقْسِيمُهُ بِاعْتِبَارِ (الْمَبِيعِ) وَبِاعْتِبَارِ (الثَّمَنِ) مِنْ حَيْثُ طَرِيقَةُ تَحْدِيدِهِ، وَمِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّةُ أَدَائِهِ.وَبِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ التَّكْلِيفِيِّ أَوِ الْوَضْعِيِّ (الْأَثَرُ).

أَوَّلًا- تَقْسِيمُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَبِيعِ:

يَنْقَسِمُ الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعِ الْمُبَادَلَةِ فِيهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ:

الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ:

9- وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ أَشْهَرُ الْأَنْوَاعِ، وَيُتِيحُ لِلْإِنْسَانِ الْمُبَادَلَةَ بِنُقُودِهِ عَلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَإِلَيْهِ يَنْصَرِفُ الْبَيْعُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَحْتَاجُ كَغَيْرِهِ إِلَى تَقْيِيدٍ.

بَيْعُ السَّلَمِ:

10- وَهُوَ مُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، أَوْ بَيْعُ شَيْءٍ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مُعَجَّلٍ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَم).

بَيْعُ الصَّرْفِ:

11- وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْأَثْمَانِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَرْف).

وَيَخُصُّ الْمَالِكِيَّةُ الصَّرْفَ بِمَا كَانَ نَقْدًا بِنَقْدٍ مُغَايِرٍ وَهُوَ بِالْعَدِّ، فَإِنْ كَانَ بِنَقْدٍ مِنْ نَوْعِهِ فَهُوَ (مُرَاطَلَةً) وَهُوَ بِالْوَزْنِ

بَيْعُ الْمُقَايَضَةِ:

12- وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (مُقَايَضَة).

ثَانِيًا- تَقْسِيمُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ طَرِيقَةِ تَحْدِيدِ الثَّمَنِ:

يَنْقَسِمُ الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ طَرِيقَةِ تَحْدِيدِ الثَّمَنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ هِيَ:

بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ:

13- وَهُوَ الْبَيْعُ الَّذِي لَا يُظْهِرُ فِيهِ الْبَائِعُ رَأْسَ مَالِهِ.

بَيْعُ الْمُزَايَدَةِ:

14- بِأَنْ يَعْرِضَ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ فِي السُّوقِ وَيَتَزَايَدَ الْمُشْتَرُونَ فِيهَا، فَتُبَاعُ لِمَنْ يَدْفَعُ الثَّمَنَ الْأَكْثَرَ.

بُيُوعُ الْأَمَانَةِ:

15- وَهِيَ الَّتِي يُحَدَّدُ فِيهَا الثَّمَنُ بِمِثْلِ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ أَزْيَدَ، أَوْ أَنْقَصَ.وَسُمِّيَتْ بُيُوعُ الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْتَمَنُ فِيهَا الْبَائِعُ فِي إِخْبَارِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

أ- بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ، وَهُوَ الْبَيْعُ الَّذِي يُحَدَّدُ فِيهِ الثَّمَنُ بِزِيَادَةٍ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مُرَابَحَة).

ب- بَيْعُ التَّوْلِيَةِ، وَهُوَ الْبَيْعُ الَّذِي يُحَدَّدُ فِيهِ رَأْسُ الْمَالِ نَفْسُهُ ثَمَنًا بِلَا رِبْحٍ وَلَا خَسَارَةٍ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَوْلِيَة)

ج- بَيْعُ الْوَضِيعَةِ، أَوِ الْحَطِيطَةِ، أَوِ النَّقِيصَةِ: وَهُوَ بَيْعٌ يُحَدَّدُ فِيهِ الثَّمَنُ بِنَقْصٍ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ، أَيْ بِخَسَارَةٍ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (وَضِيعَة).

وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ لِجُزْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ فَيُسَمَّى بَيْعَ (الْإِشْرَاكِ) وَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْأَنْوَاعِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِشْرَاك- تَوْلِيَة).

ثَالِثًا- تَقْسِيمُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ الثَّمَنِ:

16- يَنْقَسِمُ الْبَيْعُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى:

أ- مُنْجَزِ الثَّمَنِ، وَهُوَ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ، وَيُسَمَّى بَيْعَ النَّقْدِ، أَوِ الْبَيْعَ بِالثَّمَنِ الْحَالِّ.

ب- مُؤَجَّلُ الثَّمَنِ، وَهُوَ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَنْ هَذَا النَّوْعِ فِي مَبَاحِثِ الثَّمَنِ.

ج- مُؤَجَّلُ الْمُثَمَّنِ، وَهُوَ بَيْعُ السَّلَمِ، وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.

د- مُؤَجَّلُ الْعِوَضَيْنِ، وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (دَيْنٌ، وَبَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ).

وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ تَقْسِيمَاتٍ لِلْبَيْعِ بَلَغَتْ تِسْعَةً، تَبَعًا لِمَا تَمَّ عَلَيْهِ التَّبَادُلُ وَكَيْفِيَّةُ تَحْدِيدِ الثَّمَنِ وَوُجُوبِ الْخِيَارِ، وَالْحُلُولِ وَالنَّسِيئَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ، بِمَا لَا يَخْرُجُ عَمَّا سَبَقَ.

وَهُنَاكَ تَقْسِيمَاتٌ أُخْرَى فَرْعِيَّةٌ بِحَسَبِ حُضُورِ الْمَبِيعِ وَغَيْبَتِهِ، وَبِحَسَبِ رُؤْيَتِهِ وَعَدَمِهَا، وَبِحَسَبِ بَتِّ الْعَقْدِ أَوِ التَّخْيِيرِ فِيهِ.

(17- أَمَّا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ الْبَيْعُ الْمُنْعَقِدُ، وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ الْبَاطِلُ.وَالْبَيْعُ الصَّحِيحُ وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ.وَالْبَيْعُ النَّافِذُ، وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ.وَالْبَيْعُ اللاَّزِمُ، وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ غَيْرُ اللاَّزِمِ (وَيُسَمَّى الْجَائِزَ أَوِ الْمُخَيَّرَ) وَتَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.وَتُنْظَرُ الْبُيُوعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ).

وَهُنَاكَ بُيُوعٌ مُسَمَّاةٌ بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا كَبَيْعِ النَّجْشِ، وَبَيْعِ الْمُنَابَذَةِ، وَنَحْوِهِمَا.وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى رُوعِيَ فِي تَسْمِيَتِهَا أَحْوَالٌ تَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ، وَتُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ، كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ، أَوِ الْهَازِلِ، وَبَيْعِ التَّلْجِئَةِ، وَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَبَيْعِ الْوَفَاءِ.وَلَهَا مُصْطَلَحَاتُهَا أَيْضًا.

كَمَا أَنَّ (الِاسْتِصْنَاعَ) يُدْرَجُ فِي عِدَادِ الْبُيُوعِ، مَعَ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ بَيْعٌ أَوْ إِجَارَةٌ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِهِ.

وَهَذِهِ الْبُيُوعُ الْمُسَمَّاةُ حَظِيَتْ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

بِبَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ عَنِ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، لَكِنَّهَا تَأْتِي تَالِيَةً لَهُ.

وَمِنْ هُنَا جَاءَتْ تَسْمِيَةُ (الْبُيُوعِ)؛ لِأَنَّهَا يَشْمَلُهَا مُطْلَقُ الْبَيْعِ، لَكِنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي (الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ) كَمَا سَبَقَ

أَرْكَانُ الْبَيْعِ وَشُرُوطُهُ:

18- لِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي تَحْدِيدِ الْأَرْكَانِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، هَلْ هِيَ الصِّيغَةُ (الْإِيجَابُ أَوِ الْقَبُولُ) أَوْ مَجْمُوعُ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ (الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي) وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَوْ مَحَلُّ الْعَقْدِ (الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ).

فَالْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا أَرْكَانُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ عِنْدَهُمْ: مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ وَتَصَوُّرُهُ عَقْلًا، سَوَاءٌ أَكَانَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَوُجُودُ الْبَيْعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الرُّكْنَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ: هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ.أَمَّا الْعَاقِدَانِ وَالْمَحَلُّ فَمِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ وُجُودُ الصِّيغَةِ لَا مِنَ الْأَرْكَانِ؛ لِأَنَّ مَا عَدَا الصِّيغَةَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ.

وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُعَاصِرِينَ تَسْمِيَةَ مَجْمُوعِ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ وَالْمَحَلِّ (مُقَوِّمَاتِ الْعَقْدِ): لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ قِيَامِ الْعَقْدِ بِدُونِهَا.

19- هَذَا، وَلِكُلٍّ مِنَ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ وَالْمَحَلِّ شُرُوطٌ لَا يَتَحَقَّقُ الْوُجُودُ الشَّرْعِيُّ لِأَيٍّ مِنْهَا إِلاَّ بِتَوَافُرِهَا، وَتَخْتَلِفُ تِلْكَ الشُّرُوطُ مِنْ حَيْثُ أَثَرُ وُجُودِهَا أَوْ فِقْدَانِهَا.

فَمِنْهَا شُرُوطُ الِانْعِقَادِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِ أَحَدِهَا بُطْلَانُ الْعَقْدِ.

وَمِنْهَا شُرُوطُ الصِّحَّةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِ شَيْءٍ مِنْهَا بُطْلَانُ الْعَقْدِ، أَوْ فَسَادُهُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ.

وَمِنْهَا شُرُوطُ النَّفَاذِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى فَقْدِ أَحَدِهَا اعْتِبَارُ الْعَقْدِ مَوْقُوفًا.

وَمِنْهَا شُرُوطُ اللُّزُومِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِهَا أَوْ تَخَلُّفِ بَعْضِهَا عَدَمُ لُزُومِ الْعَقْدِ.

وَهَذَا التَّنْوِيعُ لِلشُّرُوطِ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ.وَفِي بَعْضِهِ خِلَافٌ لِغَيْرِهِمْ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

الصِّيغَةُ وَشُرُوطُهَا:

20- الصِّيغَةُ- كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَطَّابُ- هِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ.

وَيَصْلُحُ لَهُمَا كُلُّ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، مِثْلُ قَوْلِ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ أَوْ أَعْطَيْتُكَ، أَوْ مَلَّكْتُكَ بِكَذَا.وَقَوْلِ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ أَوْ تَمَلَّكْتُ أَوِ ابْتَعْتُ أَوْ قَبِلْتُ، وَشِبْهِ ذَلِكَ.

وَالْإِيجَابُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا يَصْدُرُ مِنَ الْبَائِعِ دَالًّا عَلَى الرِّضَا، وَالْقَبُولُ: مَا يُصْدَرُ مِنَ الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْإِيجَابَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَصْدُرُ أَوَّلًا مِنْ كَلَامِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ الْبَائِعَ أَمِ الْمُشْتَرِيَ، وَالْقَبُولُ مَا يَصْدُرُ بَعْدَهُ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ (إِيجَابٌ، وَقَبُولٌ).

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ تَقَدُّمَ لَفْظِ الْمُشْتَرِي عَلَى لَفْظِ الْبَائِعِ جَائِزٌ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.

وَلَا تَخْتَلِفُ شُرُوطُ الصِّيغَةِ فِي الْبَيْعِ عَنِ الصِّيغَةِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ مِمَّا خُلَاصَتُهُ كَوْنُ الصِّيغَةِ بِالْمَاضِي، أَوْ بِمَا يُفِيدُ إِنْشَاءَ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ كَمَا يَأْتِي، وَتَوَافُقُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَوْ خَالَفَ الْقَبُولُ الْإِيجَابَ لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْقَبُولَ الْمُخَالِفَ لِلْإِيجَابِ يَكُونُ إِيجَابًا جَدِيدًا.

وَيُشْتَرَطُ لِلصِّيغَةِ كَذَلِكَ: اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ يَجْمَعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ فِيهِ، فَلَوْ تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الْإِيجَابِ أَوْ عَكْسُهُ صَحَّ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُلْغَ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا.وَيُشْتَرَطُ: عَدَمُ الْهَزْلِ فِي الْإِيجَابِ أَوِ الْقَبُولِ.

وَيُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ الْإِيجَابِ صَالِحًا: عَدَمُ رُجُوعِ الْمُوجِبِ، وَعَدَمُ وَفَاتِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَعَدَمُ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.

وَيُشْتَرَطُ أَلاَّ يَطْرَأَ قَبْلَ الْقَبُولِ تَغْيِيرٌ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ مُسَمًّى آخَرَ غَيْرَ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ، كَتَحَوُّلِ الْعَصِيرِ خَلًّا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (عَقْدٌ) (وَصِيغَةٌ).

وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ التَّطْبِيقَاتِ الْهَامَةِ الْخَاصَّةِ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ.فَضْلًا عَمَّا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ شُرُوطِ الصِّيغَةِ فِي الْعُقُودِ عَامَّةً.

21- لَا خِلَافَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مِثْلَ: بِعْتُ، أَوِ اشْتَرَيْتُ.أَوِ الْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الْحَالُ بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ مِثْلِ: أَبِيعُكَ الْآنَ أَوْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ.كَمَا إِذَا جَرَى الْعُرْفُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُضَارِعِ بِمَعْنَى الْحَالِ.

وَلَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ إِذَا كَانَ الْإِيجَابُ أَوِ الْقَبُولُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ، مِثْلُ: أَتْبِيعُنِي؟ أَوِ الْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ، مِثْلُ: سَأَبِيعُكَ، أَوْ أَبِيعُكَ غَدًا.

أَمَّا الْأَمْرُ مِثْلُ: بِعْنِي، فَإِذَا أَجَابَهُ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ: بِعْتُكَ.كَانَ هَذَا اللَّفْظُ الثَّانِي إِيجَابًا، وَاحْتَاجَ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الْأَوَّلِ (الْآمِرِ بِالْبَيْعِ).

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي: بِعْنِي، وَبِقَوْلِ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى الرِّضَا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الْأَوَّلِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي بِلَفْظِ الْمَاضِي أَوِ الْمُضَارِعِ: بِعْتَنِي، أَوْ تَبِيعُنِي، فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ، لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ حَتَّى يَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّةِ الْإِيجَابِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَوِ الْمُضَارِعِ، إِذَا كَانَ فِي الْعِبَارَةِ إِيجَابٌ أَوْ قَبُولٌ ضِمْنِيٌّ، مِثْلُ: خُذْ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِكَذَا، فَقَالَ: أَخَذْتُهَا؛ لِأَنَّ (خُذْ) تَتَضَمَّنُ بِعْتُكَ فَخُذْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْبَائِعِ بَعْدَ إِيجَابِ الْمُشْتَرِي: يُبَارِكُ اللَّهُ لَكَ فِي السِّلْعَةِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى قَبِلْتُ الْبَيْعَ.وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَنَحْوُ هَذَا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مِثْلِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِكَذَا، لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ: بِعْنِيهِ وَأَعْتِقْهُ عَنِّي

22- وَتَدُلُّ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِوَضْعِ اللُّغَةِ أَمْ بِجَرَيَانِ الْعُرْفِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا عُرْفًا، سَوَاءٌ دَلَّ لُغَةً أَوْ لَا، مِنْ قَوْلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.

وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الصِّيغَةُ الْقَوْلِيَّةُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي لَفْظٍ بِعَيْنِهِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، بَلْ هِيَ كُلُّ مَا أَدَّى مَعْنَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَخُصَّهُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا أَدَّى مَعْنَاهُ.

23- وَيَحْصُلُ التَّوَافُقُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي كُلَّ الْمَبِيعِ بِكُلِّ الثَّمَنِ.فَلَا تَوَافُقَ إِنْ قَبِلَ بَعْضَ الْعَيْنِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِيجَابُ أَوْ قَبِلَ عَيْنًا غَيْرَهَا، وَكَذَلِكَ لَا تَوَافُقَ إِنْ قَبِلَ بِبَعْضِ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْإِيجَابُ أَوْ بِغَيْرِهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ الْقَبُولُ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا فِي الْإِيجَابِ، كَمَا لَوْ بَاعَ شَخْصٌ السِّلْعَةَ بِأَلْفٍ فَقَبِلَهَا الْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، أَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً بِأَلْفٍ فَقَبِلَ الْبَائِعُ بَيْعَهَا بِثَمَانِمِائَةٍ، وَهَذِهِ مُوَافَقَةٌ ضِمْنِيَّةٌ وَلَكِنْ لَا تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ، إِلاَّ إِنْ قَبِلَهَا الطَّرَفُ الْآخَرُ.

أَمَّا الْحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ فَجَائِزٌ وَلَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ.

وَكَذَلِكَ لَا تَوَافُقَ إِنْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِأَلْفٍ فَقَبِلَ نِصْفَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ مَثَلًا، إِلاَّ إِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بَعْدَ هَذَا، فَيَصِيرُ الْقَبُولُ إِيجَابًا، وَرِضَا الْبَائِعِ بَعْدَهُ قَبُولٌ.

وَصَرَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ هَذَا بِأَلْفٍ وَنِصْفَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَقَبِلَ نِصْفَهُ جَازَ، وَمِنْهُ يُعْرَفُ حُكْمُ مَا لَوْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ بِرِضَا الْبَائِعِ بِتَجْزِئَةِ الْمَبِيعِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّمَنِ.

انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِالْمُعَاطَاةِ (أَوِ التَّعَاطِي)

24- الْمُعَاطَاةُ هِيَ: إِعْطَاءُ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ لِصَاحِبِهِ مَا يَقَعُ التَّبَادُلُ عَلَيْهِ دُونَ إِيجَابٍ وَلَا قَبُولٍ، أَوْ بِإِيجَابٍ دُونَ قَبُولٍ، أَوْ عَكْسِهِ، وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ الْحَالِيَّةِ، وَيَصِحُّ بِهَا الْبَيْعُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيِّ، خِلَافًا لِغَيْرِهِمْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ وَالْخِلَافُ فِيهِ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعَاطِي).

انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِالْكِتَابَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ:

25- يَصِحُّ التَّعَاقُدُ بِالْكِتَابَةِ بَيْنَ حَاضِرَيْنِ أَوْ بِاللَّفْظِ مِنْ حَاضِرٍ وَالْكِتَابَةِ مِنَ الْآخَرِ.وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ إِذَا أَوْجَبَ الْعَاقِدُ الْبَيْعَ بِالْكِتَابَةِ إِلَى غَائِبٍ بِمِثْلِ عِبَارَةِ: بِعْتُكَ دَارِي بِكَذَا، أَوْ أَرْسَلَ بِذَلِكَ رَسُولًا فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْإِيجَابِ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ الرَّسُولِ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْفَوْرَ فِي الْقَبُولِ، وَقَالُوا: يَمْتَدُّ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِلْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَوِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ قَبُولِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ لِلْكَاتِبِ مَجْلِسٌ، وَلَوْ بَعْدَ قَبُولِ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، بَلْ يَمْتَدُّ خِيَارُهُ مَا دَامَ خِيَارُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ.كَمَا قَالُوا: لَا يُشْتَرَطُ إِرْسَالُ الْكِتَابِ أَوِ الرَّسُولِ فَوْرًا عَقِبَ الْإِجَابَةِ.

وَلَمْ يَشْتَرِطْ غَيْرُ الشَّافِعِيَّةِ الْفَوْرَ فِي الْقَبُولِ، بَلْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ التَّرَاخِي هُنَا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ التَّرَاخِيَ مَعَ غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي لَا يَدُلُّ عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنِ الْإِيجَابِ.

انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ وَغَيْرِهِ:

26- يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ إِذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً، وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ حُجَّةٌ.

أَمَّا الْإِشَارَةُ غَيْرُ الْمَفْهُومَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِهَا.

وَلَا تُقْبَلُ الْإِشَارَةُ مِنَ النَّاطِقِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ.

وَأَمَّا مَنِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ، وَهُوَ: مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اعْتِقَالُ اللِّسَانِ).

شُرُوطُ الْبَيْعِ:

27- اخْتَلَفَتْ طَرِيقَةُ الْفُقَهَاءِ فِي حَصْرِ شُرُوطِ الْبَيْعِ، فَقَدْ جَعَلَهَا بَعْضُهُمْ شُرُوطًا لِصِحَّةِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، فِي حِينِ اهْتَمَّ آخَرُونَ بِذِكْرِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ إِلْحَاقِ الثَّمَنِ فِي جَمِيعِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ أَوْ فِي بَعْضِهَا، حَسَبَ إِمْكَانِ تَصَوُّرِهَا فِيهِ.

وَلَا تَبَايُنَ بَيْنَ مُعْظَمِ تِلْكَ الشُّرُوطِ، لِتَقَارُبِ الْمَقْصُودِ بِمَا عَبَّرُوا بِهِ عَنْهَا.

وَهُنَاكَ شُرُوطٌ انْفَرَدَ بِذِكْرِهَا بَعْضُ الْمَذَاهِبِ دُونَ بَعْضٍ.وَمَعَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ شُرُوطِ الِانْعِقَادِ وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ شُرُوطَ الِانْعِقَادِ شُرُوطًا لِلصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَنْعَقِدْ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَا عَكْسَ.

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ تِلْكَ الشُّرُوطِ عَلَى طَرِيقَةِ الْجُمْهُورِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْهَا شَرْطَ انْعِقَادٍ.

شُرُوطُ الْمَبِيعِ:

لِلْمَبِيعِ شُرُوطٌ هِيَ:

أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ.

28- فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَهَذَا شَرْطُ انْعِقَادٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ، وَبَيْعُ الْمَضَامِينِ (وَهِيَ مَا سَيُوجَدُ مِنْ مَاءِ الْفَحْلِ)، وَبَيْعُ الْمَلَاقِيحِ (وَهِيَ مَا فِي الْبُطُونِ مِنَ الْأَجِنَّةِ) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ».وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ.وَلِلْحَدِيثِ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ».

وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِثْنَاءِ بَيْعِ السَّلَمِ، فَهُوَ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَذَلِكَ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَمِنْهَا: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ».

أَنْ يَكُونَ مَالًا:

29- وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِلَفْظِ: النَّفْعِ أَوِ الِانْتِفَاعِ، ثُمَّ قَالُوا: مَا لَا نَفْعَ فِيهِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يُقَابَلُ بِهِ، أَيْ لَا تَجُوزُ الْمُبَادَلَةُ بِهِ.وَهُوَ شَرْطُ انْعِقَادٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالْمَالُ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ، وَيَجْرِي فِيهِ الْبَذْلُ وَالْمَنْعُ، فَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْمُبَادَلَةِ بِعِوَضٍ، وَالْعِبْرَةُ بِالْمَالِيَّةِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، فَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ لَيْسَا بِمَالٍ.

أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِمَنْ يَلِي الْعَقْدَ:

30- وَذَلِكَ إِذَا كَانَ يَبِيعُ بِالْأَصَالَةِ.وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ شُرُوطِ الِانْعِقَادِ، وَقَسَمُوهُ إِلَى شِقَّيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْكَلأَِ مَثَلًا، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِلْكَ الْبَائِعِ فِيمَا يَبِيعُهُ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ مَا لَيْسَ مَمْلُوكًا، وَإِنْ مَلَكَهُ بَعْدُ، إِلاَّ السَّلَمَ، وَالْمَغْصُوبَ بَعْدَ ضَمَانِهِ، وَالْمَبِيعَ بِالْوَكَالَةِ، أَوِ النِّيَابَةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ بَيْعِ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ بِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ- رضي الله عنه-: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» وَفِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ).

أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ:

31- وَهُوَ شَرْطُ انْعِقَادٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَلَا بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَلَا السَّمَكِ فِي الْمَاءِ، «لِنَهْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ».

أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ:

32- وَهَذَا الشَّرْطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطُ صِحَّةٍ، لَا شَرْطُ انْعِقَادٍ، فَإِذَا تَخَلَّفَ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ، بَلْ يَصِيرُ فَاسِدًا.

وَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِكُلِّ مَا يُمَيِّزُ الْمَبِيعَ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَمْنَعُ الْمُنَازَعَةَ، فَبَيْعُ الْمَجْهُولِ جَهَالَةً تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ كَبَيْعِ شَاةٍ مِنَ الْقَطِيعِ.

هَذَا وَقَدْ زَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي شُرُوطِ الْمَبِيعِ: اشْتِرَاطَ طَهَارَةِ عَيْنِهِ.

كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ شَرْطَيْنِ آخَرِينَ هُمَا:

أَنْ لَا يَكُونَ الْبَيْعُ مِنَ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْبَيْعُ مُحَرَّمًا.

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَنْدَرِجُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ شُرُوطٍ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مُحْتَرَزَاتِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِ كُلٍّ مِنْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) وَانْظُرْ أَيْضًا الْبُيُوعُ الْمُلَقَّبَةُ، كُلًّا فِي مَوْضِعِهِ.

الْمَبِيعُ وَأَحْكَامُهُ وَأَحْوَالُهُ

أَوَّلًا: تَعْيِينُ الْمَبِيعِ

33- لَا بُدَّ لِمَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْتَرِي بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْمِقْدَارِ، فَالْجِنْسُ كَالْقَمْحِ مَثَلًا، وَالنَّوْعُ كَأَنْ يَكُونَ مِنْ إِنْتَاجِ بَلَدٍ مَعْرُوفٍ، وَالْمِقْدَارُ بِالْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا.

وَتَعْيِينُ الْمَبِيعِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِتَمْيِيزِهِ عَنْ سِوَاهُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَمِقْدَارِهِ، وَهَذَا التَّمْيِيزُ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي الْعَقْدِ نَفْسِهِ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ حَاضِرٌ فِي الْمَجْلِسِ، فَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْتَرِيَ سِوَاهُ مِنْ جِنْسِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ.وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ طُرُقِ التَّعْرِيفِ.

وَإِمَّا أَنْ لَا يُعَيِّنَ الْمَبِيعَ فِي الْعَقْدِ، بِأَنْ كَانَ غَائِبًا مَوْصُوفًا، أَوْ قَدْرًا مِنْ صُبْرَةٍ حَاضِرَةٍ فِي الْمَجْلِسِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ.

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَفِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْغَائِبِ.

وَمِنَ الْمَبِيعِ غَيْرِ الْمُتَعَيَّنِ بَيْعُ حِصَّةٍ عَلَى الشُّيُوعِ.سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُشَاعُ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ أَوْ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا، فَإِنَّ الْمَبِيعَ عَلَى الشُّيُوعِ لَا يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ.

وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِالتَّعْيِينِ لِلْمَبِيعِ: بَيْعُ شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ عِدَّةِ أَشْيَاءَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ التَّعْيِينِ، أَيْ تَعْيِينِ مَا يَشْتَرِيهِ مِنْهَا، وَيُمْكِنُهُ بِذَلِكَ أَنْ يَخْتَارَ مَا هُوَ أَنْسَبُ لَهُ مِنْهَا.وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِخِيَارِ التَّعْيِينِ.

وَفِي جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ وَشُرُوطِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِيَارِ تَفْصِيلَاتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ التَّعْيِينِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


39-موسوعة الفقه الكويتية (بيع الحاضر للبادي)

بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي

التَّعْرِيفُ:

1- الْحَاضِرُ: ضِدُّ الْبَادِي، وَالْحَاضِرَةُ ضِدُّ الْبَادِيَةِ.

وَالْحَاضِرُ: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ، وَهُوَ سَاكِنُ الْحَاضِرَةِ، وَهِيَ الْمُدُنُ وَالْقُرَى، وَالرِّيفُ وَهُوَ أَرْضٌ فِيهَا- عَادَةً- زَرْعٌ وَخَصْبٌ.

وَقَالَ الشَّلَبِيُّ: الْحَاضِرُ: الْمُقِيمُ فِي الْمَدَنِ وَالْقُرَى.وَالْبَادِي: سَاكِنُ الْبَادِيَةِ، وَهِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ الْمَذْكُورَ مِنَ الْمَدَنِ وَالْقُرَى وَالرِّيفِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} أَيْ نَازِلُونَ، وَقَالَ الشَّلَبِيُّ: الْمُقِيمُ بِالْبَادِيَةِ.وَالنِّسْبَةُ إِلَى الْحَاضِرَةِ: حَضَرِيٌّ، وَإِلَى الْبَادِيَةِ بَدَوِيٌّ.

وَعَبَّرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: بِبَيْعِ حَاضِرٍ لِعَمُودِيٍّ، وَالْعَمُودِيُّ هُوَ الْبَدَوِيُّ، نِسْبَةً إِلَى عَمُودٍ؛ لِأَنَّ الْبَدْوَ يَسْكُنُونَ الْخِيَامَ.

غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اعْتَبَرُوا الْبَدْوِيَّ شَامِلًا لِلْمُقِيمِ فِي الْبَادِيَةِ، وَلِكُلِّ مَنْ يَدْخُلُ الْبَلْدَةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ بَدْوِيًّا، أَمْ كَانَ مِنْ قَرْيَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى.

وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

2- وَالْمُرَادُ بِبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنْ يَتَوَلَّى الْحَضَرِيُّ بَيْعَ سِلْعَةِ الْبَدْوِيِّ، بِأَنْ يَصِيرَ الْحَاضِرُ سِمْسَارًا لِلْبَادِي الْبَائِعِ.

قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هُوَ أَنْ يَمْنَعَ السِّمْسَارُ الْحَاضِرُ الْقَرَوِيَّ مِنَ الْبَيْعِ، وَيَقُولَ لَهُ: لَا تَبِعْ أَنْتَ، أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ، فَيَتَوَكَّلُ لَهُ، وَيَبِيعُ وَيُغَالِي، وَلَوْ تَرَكَهُ يَبِيعُ بِنَفْسِهِ لَرَخَّصَ عَلَى النَّاسِ.

فَالْبَيْعُ- عَلَى هَذَا- هُوَ مِنَ الْحَاضِرِ لِلْحَاضِرِ نِيَابَةً عَنِ الْبَادِي، بِثَمَنٍ أَغْلَى.

وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، تَكُونُ اللاَّمُ فِي «وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ» عَلَى حَقِيقَتِهَا كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ، وَهِيَ: التَّعْلِيلُ.

3- وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ- كَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ- إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ: أَنْ يَبِيعَ الْحَضَرِيُّ سِلْعَتَهُ مِنَ الْبَدْوِيِّ، وَذَلِكَ طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِأَهْلِ الْبَلَدِ.وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَكُونُ اللاَّمُ فِي «وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ» بِمَعْنَى مِنْ- كَمَا يَقُولُ الْبَابَرْتِيُّ-: فَهَذَا تَفْسِيرُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَاضِرَ هُوَ الْمَالِكُ، وَالْبَادِي هُوَ الْمُشْتَرِي.

قَالَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ، مَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ أَنَّ أَعْرَابًا قَدِمُوا الْكُوفَةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَمْتَارُوا (يَتَزَوَّدُوا مِنَ الطَّعَامِ) مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْبَلْدَةِ يُمْنَعُونَ عَنِ الشِّرَاءِ لِلْحُكْرَةِ، فَهَذَا أَوْلَى.

وَصَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْأَصَحَّ- كَمَا فِي الْمُجْتَبَى- أَنَّهُمَا: السِّمْسَارُ وَالْبَائِعُ (وَهُوَ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ) وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: مُوَافَقَتُهُ لآِخِرِ الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: «دَعُوا النَّاسَ، يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» الْآخَرُ: أَنَّهُ عُدِّيَ بِاللاَّمِ، لَا بِمِنْ.

فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ.

النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْبَيْعِ:

4- لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْعِ هَذَا الْبَيْعِ.فَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:

حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَا تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَصُرُّوا الْغَنَمَ»

وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ، يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»

وَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ وَأَبَاهُ»

وَفِي لَفْظٍ «وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ».

عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِلَّةِ هَذَا النَّهْيِ:

(أ) فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، بِنَاءً عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، هُوَ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ هَذَا الْبَيْعُ مِنَ الْإِضْرَارِ بِأَهْلِ الْبَلَدِ وَالتَّضْيِيقُ عَلَى النَّاسِ.وَالْقَصْدُ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّاسِ بِرُخْصٍ.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي إِنَّمَا هُوَ لِنَفْعِ الْحَاضِرَةِ لِأَنَّهُ مَتَى تَرَكَ الْبَدْوِيُّ يَبِيعُ سِلْعَتَهُ، اشْتَرَاهَا النَّاسُ بِرُخْصٍ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمُ السِّعْرَ، فَإِذَا تَوَلَّى الْحَاضِرُ بَيْعَهَا، وَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا إِلاَّ بِسِعْرِ الْبَلَدِ، ضَاقَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَعْلِيلِهِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى.

6- (ب) وَمَذْهَبُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْمَرْغِينَانِيِّ- عَلَى مَا بَيَّنَّا- وَالْكَاسَانِيِّ، وَكَذَلِكَ التُّمُرْتَاشِيُّ- فِيمَا يَبْدُو بِنَاءً عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي- أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِأَهْلِ الْمِصْرِ، مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الرُّخْصِ، وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْبَلَدِ فِي حَالِ قَحْطٍ وَعَوَزٍ إِلَى الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَلَا يَبِيعُهُمَا الْحَضَرِيُّ- مَعَ ذَلِكَ- إِلاَّ لِأَهْلِ الْبَدْوِ، بِثَمَنٍ غَالٍ.

قُيُودُ النَّهْيِ:

قَيَّدَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، بِقُيُودٍ وَشُرُوطٍ شَتَّى مِنْهَا:

7- أَنْ يَكُونَ مَا يَقْدُمُ بِهِ الْبَادِي، مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ

، سَوَاءٌ أَكَانَ مَطْعُومًا أَمْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، فَمَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلاَّ نَادِرًا، لَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ.

8- وَأَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْبَادِي الْبَيْعَ حَالًا، وَهُوَ مَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِالْبَيْعِ بِسِعْرِ يَوْمِهِ، فَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْبَيْعَ عَلَى التَّدْرِيجِ، فَسَأَلَهُ الْبَلَدِيُّ تَفْوِيضَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَنْعِ الْمَالِكِ مِنْهُ.

وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

9- وَأَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى التَّدْرِيجِ بِأَغْلَى مِنْ بَيْعِهِ حَالًا، كَمَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.

قَالُوا: لِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَ الْحَضَرِيَّ أَنْ يُفَوِّضَ لَهُ بَيْعَهُ، بِسِعْرِ يَوْمِهِ عَلَى التَّدْرِيجِ، لَمْ يَحْمِلْهُ ذَلِكَ عَلَى مُوَافَقَتِهِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّضْيِيقِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَأَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِأَغْلَى، فَالزِّيَادَةُ رُبَّمَا حَمَلَتْهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، فَيُؤَدِّي إِلَى التَّضْيِيقِ.

10- وَأَنْ يَكُونَ الْبَادِي جَاهِلًا بِالسِّعْرِ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَهُ لَمْ يَزِدْهُ الْحَاضِرُ عَلَى مَا عِنْدَهُ وَلِأَنَّ النَّهْيَ لِأَجْلِ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّاسِ بِرُخْصٍ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ إِنَّمَا تُوجَدُ إِذَا كَانُوا جَاهِلِينَ بِالْأَسْعَارِ، فَإِذَا عَلِمُوا بِالْأَسْعَارِ فَلَا يَبِيعُونَ إِلاَّ بِقِيمَتِهَا كَمَا يَبِيعُ الْحَاضِرُ، فَبَيْعُ الْحَاضِرِ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِمْ.وَهَذَا الشَّرْطُ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَطْلَقَ الْخَرَشِيُّ النَّهْيَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَدْوِيُّ جَاهِلًا بِالْأَسْعَارِ أَمْ لَا.

وَاخْتُلِفَ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:

فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْعَدَوِيِّ: شَرْطُ الْجَهْلِ بِالْأَسْعَارِ.وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ جُزَيٍّ.

وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ آخَرِينَ- كَمَا نَقَلَهُ الدُّسُوقِيُّ- هُوَ الْإِطْلَاقُ.

11- وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ الْبَادِي قَدْ جَلَبَ السِّلَعَ، وَحَضَرَ لِبَيْعِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ لِخَزْنِهَا أَوْ أَكْلِهَا، فَقَصَدَهُ الْحَاضِرُ، وَحَضَّهُ عَلَى بَيْعِهَا، كَانَ تَوْسِعَةً لَا تَضْيِيقًا.

12- وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ لِحَاضِرٍ، فَلَوْ بَاعَ الْحَاضِرُ لِبَدَوِيٍّ مِثْلِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبَدْوِيَّ لَا يَجْهَلُ أَسْعَارَ هَذِهِ السِّلَعِ، فَلَا يَأْخُذُهَا إِلاَّ بِأَسْعَارِهَا، سَوَاءٌ اشْتَرَاهَا مِنْ حَضَرِيٍّ أَمْ مِنْ بَدْوِيٍّ، فَبَيْعُ الْحَضَرِيِّ لَهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ بَدَوِيٍّ لِبَدَوِيٍّ.

13- وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَقْصِدَ الْبَدْوِيَّ حَاضِرٌ عَارِفٌ بِالسِّعْرِ، فَإِنْ قَصَدَهُ الْبَادِي لَمْ يَكُنْ لِلْحَاضِرِ أَثَرٌ فِي عَدَمِ التَّوْسِعَةِ.

فَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْمَنْعِ لَمْ يَحْرُمِ الْبَيْعُ مِنَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي عِنْدَ الْقَائِلِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ.

14- وَالْحَنَفِيَّةُ، الَّذِينَ صَوَّرَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ: بِأَنْ يَبِيعَ الْحَاضِرُ طَعَامًا أَوْ عَلَفًا لِلْبَادِي طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي، قَيَّدُوا التَّحْرِيمَ بِأَنْ يَضُرَّ الْبَيْعُ بِأَهْلِ الْبَلَدِ، بِأَنْ يَكُونُوا فِي قَحْطٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَإِنْ كَانُوا فِي خِصْبٍ وَسَعَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ وَعِبَارَةُ الْحَصْكَفِيِّ: وَهَذَا فِي حَالِ قَحْطٍ وَعَوَزٍ، وَإِلاَّ لَا، لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ.

15- أَمَّا الَّذِينَ صَوَّرُوا مِنْهُمُ النَّهْيَ: بِأَنْ يَتَوَلَّى الْحَاضِرُ بَيْعَ سِلْعَةِ الْبَدَوِيِّ، وَيُغَالِيَ فِيهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ فَقَدْ قَيَّدُوهُ.

- بِأَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا كَالْأَقْوَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَعُمُّ، أَوْ كَثُرَ الْقُوتُ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ، فَفِي التَّحْرِيمِ تَرَدُّدٌ.

- وَبِمَا إِذَا كَانَ أَهْلُ الْحَضَرِ يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ.

حُكْمُ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي:

16- (أ) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ مَعَ صِحَّتِهِ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالْكَرَاهَةِ، وَهِيَ لِلتَّحْرِيمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ، كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَالنَّهْيُ عَنْهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَسَادَ وَالْبُطْلَانَ، لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ رُكْنًا، وَلَا إِلَى لَازِمِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ شَرْطًا، بَلْ هُوَ رَاجِعٌ لِأَمْرٍ خَارِجٍ غَيْرِ لَازِمٍ، كَالتَّضْيِيقِ وَالْإِيذَاءِ.

قَالَ الْمَحَلِّيُّ: وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ: فَيَأْثَمُ بِارْتِكَابِهِ الْعَالِمُ بِهِ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ.

ب- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَأَنَّ النَّهْيَ اخْتُصَّ بِأَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضِّيقِ، قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ ذَلِكَ مَرَّةً.

ج- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ، أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ حَرَامٌ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا وَفَاسِدٌ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْخِرَقِيُّ، لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

وَكَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْبُهُوتِيُّ بِقَوْلِهِ: فَيَحْرُمُ، وَلَا يَصِحُّ لِبَقَاءِ النَّهْيِ عَنْهُ وَقَالَ أَحْمَدُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذَا الْبَيْعِ: أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَرُدُّ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هَذَا، وَقَرَّرُوا:

أَوَّلًا: أَنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ مَا دَامَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً لَمْ تَفُتْ بِبَيْعٍ، أَوْ عَيْبٍ، أَوْ مَوْتٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

ثَانِيًا: فَإِنْ فَاتَتْ مَضَى الْبَيْعُ بِالثَّمَنِ (الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ) وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.وَقِيلَ: بِالْقِيمَةِ.

وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الْفُرُوعِ التَّفْصِيلِيَّةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الْبَيْعِ:

17- أَوَّلًا: نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ- مَعَ فَسْخِ هَذَا الْبَيْعِ بِشَرْطِ عَدَمِ فَوَاتِ الْمَبِيعِ- يُؤَدَّبُ كُلٌّ مِنَ الْمَالِكِ وَالْحَاضِرِ وَالْمُشْتَرِي، إِنْ لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِجَهْلِهِ، بِأَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، وَلَا أَدَبَ عَلَى الْجَاهِلِ لِعُذْرِهِ بِالْجَهْلِ.

لَكِنْ هَلْ يُؤَدَّبُ مُطْلَقًا، أَمْ يُؤَدَّبُ إِنِ اعْتَادَ هَذَا الْبَيْعَ؟ قَوْلَانِ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا.

وَالشَّافِعِيَّةُ قَرَّرُوا الْإِثْمَ عَلَى الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ، كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَا الْجَاهِلُ الْمُقَصِّرُ، وَلَوْ فِيمَا يَخْفَى غَالِبًا.قَالُوا: وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَزِّرَ فِي ارْتِكَابِ مَا لَا يَخْفَى غَالِبًا، وَإِنِ ادَّعَى جَهْلَهُ.

قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّ الْحُرْمَةَ مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ أَوِ التَّقْصِيرِ، وَإِنَّ التَّعْزِيرَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الْخَفَاءِ.غَيْرَ أَنَّ الْقَفَّالَ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، جَعَلَ الْإِثْمَ هُنَا، عَلَى الْبَلَدِيِّ دُونَ الْبَدْوِيِّ، وَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي.

ثُمَّ عَمَّمَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ، فِي كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا بُدَّ هُنَا، وَفِي جَمِيعِ الْمَنَاهِي، أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ، أَوْ مُقَصِّرًا فِي تَعَلُّمِهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: يَجِبُ عَلَى مَنْ بَاشَرَ أَمْرًا أَنْ يَتَعَلَّمَ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، مِمَّا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ.

18- ثَانِيًا: بِمَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ لِلْبَادِي، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الشِّرَاءِ لَهُ:

أ- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الشِّرَاءِ لَهُ بِالنَّقْدِ أَوْ بِالسِّلَعِ:

فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى جَوَازَ الشِّرَاءِ لَهُ بِالنَّقْدِ وَبِالسِّلَعِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَحَصَّلَ السِّلَعَ بِنَقْدٍ أَمْ بِغَيْرِ نَقْدٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ.

وَخَصَّ الْخَرَشِيُّ جَوَازَ الشِّرَاءِ بِالسِّلَعِ الَّتِي حَصَّلَهَا بِثَمَنٍ يُنْقَدُ، وَأَمَّا الَّتِي حَصَّلَهَا بِغَيْرِ النَّقْدِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا سِلَعًا، قَالَ: لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي فِي مَنْعِ الْبَيْعِ لَهُ، تَأْتِي حِينَئِذٍ.

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ لَهُ إِلاَّ بِالنَّقْدِ، لَا بِالسِّلَعِ مُطْلَقًا، وَإِلاَّ كَانَ بَيْعًا لِسِلَعِهِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَاسْتَوْجَهَ هَذَا الدُّسُوقِيُّ.

19- ب- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ مُتَرَدِّدٌ فِي التَّأْثِيمِ بِهِ أَيْضًا، فَلَوْ قَدِمَ مِنَ الْبَدْوِ مَنْ يُرِيدُ الشِّرَاءَ، فَتَعَرَّضَ لَهُ مِنَ الْحَضَرِ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ رَخِيصًا:

(1) فَابْنُ يُونُسَ قَالَ: هُوَ حَرَامٌ، وَبَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ الْجَزْمَ بِالْإِثْمِ، وَلَهُ وَجْهٌ- كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ- وَهُوَ: الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ، قَالَ الشِّرْوَانِيُّ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، لَكِنْ قَيَّدَهُ بِأَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.وَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ نَقَلَهُ أَيْضًا ابْنُ هَانِئٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

(2) وَجَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَارُوا عَدَمَ الْإِثْمِ فِي الشِّرَاءِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ الشِّرَاءِ لِلْبَدَوِيِّ، بِأَنَّ الشِّرَاءَ غَالِبًا بِالنَّقْدِ، وَهُوَ لَا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.

(3) أَمَّا ابْنُ حَجَرٍ، فَذَهَبَ مَذْهَبَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَحَمَلَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ بِالْإِثْمِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الشِّرَاءُ بِمَتَاعٍ تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَحَمَلَ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْإِثْمِ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَ الشِّرَاءُ بِمَتَاعٍ لَا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.

20- ج- وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي الشِّرَاءِ لِلْبَادِي: أَنَّهُ صَحِيحٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلشِّرَاءِ بِلَفْظِهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ لِلرِّفْقِ بِأَهْلِ الْحَضَرِ، لِيَتَّسِعَ عَلَيْهِمُ السِّعْرُ وَيَزُولَ عَنْهُمُ الضَّرَرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ لَهُمْ، إِذْ لَا يَتَضَرَّرُونَ لِعَدَمِ الْغَبْنِ لِلْبَادِينَ، بَلْ هُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ.وَالْخَلْقُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ عَلَى السَّوَاءِ، فَكَمَا شَرَعَ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ أَهْلِ الْحَضَرِ، لَا يَلْزَمُ أَنْ يَلْزَمَ أَهْلَ الْبَدْوِ الضَّرَرُ.

21- ثَالِثًا: هُنَاكَ مَسْأَلَةٌ تَتَّصِلُ بِبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَالشِّرَاءِ لَهُ، وَهِيَ: مَا لَوْ أَشَارَ الْحَاضِرُ عَلَى الْبَادِي، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَيْعَ لَهُ:

فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ كَرِهَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فِي وُجُوبِ إِرْشَادِهِ إِلَى الِادِّخَارِ أَوِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا أَنَّهُ يَجِبُ إِرْشَادُهُ لِوُجُوبِ الْإِشَارَةِ بِالْأَصْلَحِ عَلَيْهِ.

وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ أَيْضًا، أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه-، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ

22- رَابِعًا: نَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ تَعْرِيفَ الْبَادِي بِالسِّعْرِ، هُوَ كَالْبَيْعِ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


40-موسوعة الفقه الكويتية (بيع ما لم يقبض 2)

بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ -2

بَيْعُ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ:

13- الصَّدَقَةُ هِيَ: تَمْلِيكُ الْمَالِ فِي الْحَيَاةِ مَنْ يَحْتَاجُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا.

وَهَذَا التَّعْرِيفُ- كَمَا يُرَى- يَشْمَلُ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ، الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْغَنِيِّ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَهِيَ زَكَاةُ الْمَالِ، أَوْ فِي آخِرِ شَهْرِ الصَّوْمِ وَهِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ تَطْهِيرًا لِلْغَنِيِّ وَالصَّائِمِ، وَيَشْمَلُ الصَّدَقَةَ الْمُتَطَوَّعَ بِهَا، وَهِيَ الْمُسْتَحَبَّةُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه- الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ».

وَفِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ- رضي الله عنه- قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ».

14- وَيَعْتَبِرُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ الصَّدَقَةَ وَنَحْوَهَا، كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ، مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، الَّتِي لَا تَتِمُّ وَلَا تُمَلَّكُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَالْعَقْدُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ يُعْتَبَرُ عَدِيمَ الْأَثَرِ.

وَعِبَارَةُ الْمَرْغِينَانِيِّ فِي فَصْلِ الصَّدَقَةِ: وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ لَا تَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، لِأَنَّهُ (أَيِ التَّصَدُّقُ) تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ.

بَلْ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْقَبْضُ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ، لَا تُمَلَّكُ قَبْلَ الْقَبْضِ، عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ: بِمَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ خَبَرًا عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ يَا بْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكِ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» اعْتَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِمْضَاءَ فِي الصَّدَقَةِ، وَالْإِمْضَاءُ هُوَ التَّسْلِيمُ.فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ.

وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَتِمُّ الصَّدَقَةُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.

وَبِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَقْدُ تَبْرِئَةٍ، فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ كَالْهِبَةِ.

وَفِي الْهِبَةِ يَقُولُ: لَوْ صَحَّتْ بِدُونِ الْقَبْضِ لَثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ، فَتَصِيرُ عَقْدَ ضَمَانٍ، وَهَذَا تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ، هُوَ الَّذِي يُقَابِلُ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَبَّرُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: وَقِيلَ: إِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَهَذَا النَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْهِبَةِ، لَكِنَّ تَعْرِيفَهُمُ الصَّدَقَةَ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلًا وَمَا يَأْتِي مِنَ الْأَحْكَامِ، يُفِيدُ التَّعْمِيمَ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.

وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، إِذْ قَالُوا: لَا يَمْلِكُ مَوْهُوبٌ (بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الشَّامِلِ لِلصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ) إِلاَّ بِقَبْضٍ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ.

وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ، فَوَهَبَ لَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ، أَوْ قَبِلَ وَلَمْ يَقْبِضْ لَا يَحْنَثُ فِي الْأَصَحِّ.

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ حَتَّى تَصِحَّ الْهِبَةُ وَتَتِمَّ.

وَكَذَلِكَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا كَمَا يَقُولُ الْمِرْدَاوِيُّ.فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَنْوَاعَ الْهِبَةِ: صَدَقَةٌ وَهَدِيَّةٌ وَنِحْلَةٌ، وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِلَا عِوَضٍ، تَجْرِي فِيهَا أَحْكَامُهَا أَيْ تَجْرِي أَحْكَامُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْبَقِيَّةِ.

وَقَالُوا: وَتَلْزَمُ الْهِبَةُ بِقَبْضِهَا بِإِذْنِ وَاهِبٍ، وَلَا تَلْزَمُ قَبْلَهُ، أَيْ قَبْلَ الْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، وَلَوْ كَانَتِ الْهِبَةُ فِي غَيْرِ مَكِيلٍ وَنَحْوِهِ، فَفِي جَمِيعِهَا لَا تَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ- مِنْ إِطْلَاقِ شَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، كَالصَّدَقَةِ الَّتِي نُوَاجِهُهَا- بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- نَحَلَهَا جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ، فَلَمَّا مَرِضَ قَالَ: يَا بُنَيَّةُ: كُنْتُ نَحَلْتُكِ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَلَوْ كُنْتُ جَذَذْتُهُ أَوْ قَبَضْتُهُ كَانَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَذَكَرَ الْبُهُوتِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم-، نَحْوُ هَذَا، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَرَتَّبُوا عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ، جَوَازَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ (وَكَذَا الصَّدَقَةُ) قَبْلَ الْقَبْضِ، لِعَدَمِ تَمَامِ الْعَقْدِ.

وَخَالَفَ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِمْ.فَقَرَّرُوا أَنَّ الْهِبَةَ (وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَفْرِيعَاتِهِمْ) تُمْلَكُ بِالْقَوْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ طَلَبُهَا مِنَ الْوَاهِبِ، إِذَا امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهَا، لِيَجْبُرَهُ عَلَى تَمْكِينِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْهَا.

وَأَشَارَ الْحَنَابِلَةُ فِي كُتُبِهِمْ إِلَى دَلِيلِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» وَيُرْوَى «فِي صَدَقَتِهِ».وَيُرْوَى «كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ».

وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ: أ- لَوْ قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ هِبَةٌ أَوْ حَبْسٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، لَا يُقْضَى عَلَيْهِ (لِعَدَمِ التَّعْيِينِ).

ب- وَلَوْ قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ هِبَةٌ أَوْ حَبْسٌ عَلَى زَيْدٍ، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَصَدَ الْبِرَّ وَالْقُرْبَةَ حِينَئِذٍ.

ج- وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ دَفْعُ دِرْهَمٍ لِزَيْدٍ أَوْ لِلْفُقَرَاءِ، لَا يُقْضَى بِهِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ يُقْضَى.

وَعَلَّلُوا هَذَا بِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَعْيِينِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَصْدِ الْقُرْبَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ، وَلَا تَلْزَمُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.

وَفِي غَيْرِهِمَا يَصِحُّ بِغَيْرِ قَبْضٍ، وَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ.وَيَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ بِغَيْرِ قَبْضٍ.

وَحَاصِلُ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَمْلِيكٌ، فَفِي الْبَيْعِ مَا لَا يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَالصَّرْفِ وَالرِّبَوِيَّاتِ، وَفِيهِ مَا يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ.

وَالْخُلَاصَةُ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يَشْتَرِطُونَ الْقَبْضَ فِي التَّبَرُّعَاتِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


41-موسوعة الفقه الكويتية (حج 1)

حَجٌّ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْحَجُّ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، هُوَ لُغَةً الْقَصْدُ، حَجَّ إِلَيْنَا فُلَانٌ: أَيْ قَدِمَ، وَحَجَّهُ يَحُجُّهُ حَجًّا: قَصَدَهُ.وَرَجُلٌ مَحْجُوجٌ، أَيْ مَقْصُودٌ.هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْحَجُّ: الْقَصْدُ لِمُعَظَّمٍ.

وَالْحِجُّ بِالْكَسْرِ: الِاسْمُ.وَالْحِجَّةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَهُوَ مِنَ الشَّوَاذِّ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ بِالْفَتْحِ.

تَعْرِيفُ الْحَجِّ اصْطِلَاحًا:

2- الْحَجُّ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: هُوَ قَصْدُ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ (وَهُوَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ وَعَرَفَةُ) فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ (وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ) لِلْقِيَامِ بِأَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْعُمْرَةُ:

3- وَهِيَ قَصْدُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَمْرَةٌ).

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْحَجِّ:

4- الْحَجُّ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مُسْتَطِيعٍ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً، وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

أ- أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.

فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي إِثْبَاتِ الْفَرْضِيَّةِ، حَيْثُ عَبَّرَ الْقُرْآنُ بِصِيغَةِ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} وَهِيَ صِيغَةُ إِلْزَامٍ وَإِيجَابٍ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ، بَلْ إِنَّنَا نَجِدُ الْقُرْآنَ يُؤَكِّدُ تِلْكَ الْفَرْضِيَّةَ تَأْكِيدًا قَوِيًّا فِي قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فَإِنَّهُ جَعَلَ مُقَابِلَ الْفَرْضِ الْكُفْرَ، فَأَشْعَرَ بِهَذَا السِّيَاقِ أَنَّ تَرْكَ الْحَجِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَأْنُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ.

ب- وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ».

وَقَدْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ...» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ.

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ...».

وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةً جِدًّا حَتَّى بَلَغَتْ مَبْلِغَ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ وَالْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ الْيَقِينِيَّ الْجَازِمَ بِثُبُوتِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ.

ج- وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ.

وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي:

5- اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشُّرُوطِ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟.ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي الرَّاجِحِ عَنْهُ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ فَرْضُ الْحَجِّ عَلَيْهِ فِي عَامٍ فَأَخَّرَهُ يَكُونُ آثِمًا، وَإِذَا أَدَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَدَاءً لَا قَضَاءً، وَارْتَفَعَ الْإِثْمُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا يَأْثَمُ الْمُسْتَطِيعُ بِتَأْخِيرِهِ.وَالتَّأْخِيرُ إِنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَوْ خَشِيَ الْعَجْزَ أَوْ خَشِيَ هَلَاكَ مَالِهِ حَرُمَ التَّأْخِيرُ، أَمَّا التَّعْجِيلُ بِالْحَجِّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا لَمْ يَمُتْ، فَإِذَا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا مِنْ آخِرِ سَنَوَاتِ الِاسْتِطَاعَةِ.

اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى الْوُجُوبِ الْفَوْرِيِّ بِالْآتِي:

أ- الْحَدِيثُ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا.وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا».

ب- الْمَعْقُولُ: وَذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجِبٌ، وَلَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنِ السَّنَةِ الْأُولَى فَقَدْ يَمْتَدُّ بِهِ الْعُمُرُ، وَقَدْ يَمُوتُ فَيَفُوتُ الْفَرْضُ، وَتَفْوِيتُ الْفَرْضِ حَرَامٌ، فَيَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ احْتِيَاطًا.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِمَا يَلِي:

أ- أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ فِي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} مُطْلَقٌ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ، فَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ، فَلَا يَثْبُتُ الْإِلْزَامُ بِالْفَوْرِ، لِأَنَّ هَذَا تَقْيِيدٌ لِلنَّصِّ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ.وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْخِلَافِ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ لِلتَّرَاخِي (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: أَمْرٌ).

ب- (أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَتَحَ مَكَّةَ عَامَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ إِلاَّ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِيَّةِ لَمْ يَتَخَلَّفْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ فَرْضٍ عَلَيْهِ).

فَضْلُ الْحَجِّ:

6- تَضَافَرَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَثِيرَةُ عَلَى الْإِشَادَةِ بِفَضْلِ الْحَجِّ، وَعَظَمَةِ ثَوَابِهِ وَجَزِيلِ أَجْرِهِ الْعَظِيمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».

وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ...» وَمَعْنَى يَدْنُو: يَتَجَلَّى عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَإِكْرَامِهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ».

«وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ».

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ:

7- شُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ لِإِظْهَارِ عُبُودِيَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمَدَى امْتِثَالِهِ لِأَمْرِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَهَا فَوَائِدُ تُدْرِكُهَا الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ وَأَظْهَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي فَرِيضَةِ الْحَجِّ.

وَتَشْتَمِلُ هَذِهِ الْفَرِيضَةُ عَلَى حِكَمٍ جَلِيلَةٍ كَثِيرَةٍ تَمْتَدُّ فِي ثَنَايَا حَيَاةِ الْمُؤْمِنَ الرُّوحِيَّةِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، مِنْهَا:

أ- أَنَّ فِي الْحَجِّ إِظْهَارَ التَّذَلُّلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَاجَّ يَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّرَفِ وَالتَّزَيُّنِ، وَيَلْبَسُ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ مُظْهِرًا فَقْرَهُ لِرَبِّهِ، وَيَتَجَرَّدُ عَنِ الدُّنْيَا وَشَوَاغِلِهَا الَّتِي تَصْرِفُهُ عَنِ الْخُلُوصِ لِمَوْلَاهُ، فَيَتَعَرَّضُ بِذَلِكَ لِمَغْفِرَتِهِ وَرُحْمَاهُ، ثُمَّ يَقِفُ فِي عَرَفَةَ ضَارِعًا لِرَبِّهِ حَامِدًا شَاكِرًا نَعْمَاءَهُ وَفَضْلَهُ، وَمُسْتَغْفِرًا لِذُنُوبِهِ وَعَثَرَاتِهِ، وَفِي الطَّوَافِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ يَلُوذُ بِجَنَابِ رَبِّهِ وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمِنْ هَوَى نَفْسِهِ، وَوِسْوَاسِ الشَّيْطَانِ.

ب- أَنَّ أَدَاءَ فَرِيضَةِ الْحَجِّ يُؤَدِّي شُكْرَ نِعْمَةِ الْمَالِ، وَسَلَامَةِ الْبَدَنِ، وَهُمَا أَعْظَمُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، فَفِي الْحَجِّ شُكْرُ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ، حَيْثُ يُجْهِدُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ «وَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شُكْرَ النَّعْمَاءِ وَاجِبٌ تُقَرِّرُهُ بَدَاهَةُ الْعُقُولِ، وَتَفْرِضُهُ شَرِيعَةُ الدِّينِ.

ج- يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ فِي مَرْكَزِ اتِّجَاهِ أَرْوَاحِهِمْ، وَمَهْوَى أَفْئِدَتِهِمْ، فَيَتَعَرَّفُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَأْلَفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، هُنَاكَ حَيْثُ تَذُوبُ الْفَوَارِقُ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَارِقُ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَوَارِقُ الْجِنْسِ وَاللَّوْنِ، فَوَارِقُ اللِّسَانِ وَاللُّغَةِ، تَتَّحِدُ كَلِمَةُ الْإِنْسَانِ فِي أَعْظَمِ مُؤْتَمَرٍ بَشَرِيٍّ اجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ أَصْحَابِهِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَعَلَى التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، هَدَفُهُ الْعَظِيمُ رَبْطُ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ بِأَسْبَابِ السَّمَاءِ.

شُرُوطُ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ:

8- شُرُوطُ الْحَجِّ صِفَاتٌ يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي الْإِنْسَانِ لِكَيْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِأَدَاءِ الْحَجِّ، مَفْرُوضًا عَلَيْهِ، فَمَنْ فَقَدَ أَحَدَ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلَا يَكُونُ مُطَالَبًا بِهِ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ خَمْسَةٌ هِيَ: الْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ، وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلَافًا».

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ:

9- أ- لَوْ حَجَّ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، بَلْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ.

ب- وَلَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ مُعْسِرٌ بَعْدَ اسْتِطَاعَتِهِ فِي الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لَهَا.

ج- وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُطَالَبُ بِالْحَجِّ بِالنِّسْبَةِ لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، هَلْ يُؤَاخَذُ بِتَرْكِهِ أَوْ لَا يُؤَاخَذُ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحِ الْأُصُولِيِّ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْلُ:

10- يُشْتَرَطُ لِفَرْضِيَّةِ الْحَجِّ الْعَقْلُ، لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ لِلتَّكْلِيفِ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِفُرُوضِ الدِّينِ، بَلْ لَا تَصِحُّ مِنْهُ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ، فَلَوْ حَجَّ الْمَجْنُونُ فَحَجُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِذَا شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ وَأَفَاقَ إِلَى رُشْدِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ.

رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ».

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْبُلُوغُ:

11- يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ

بِمُكَلَّفٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ».

فَلَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْفَرِيضَةِ، بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ أَدَّى مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَلَا يَكْفِيهِ عَنِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا حَجَّ الصَّبِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ حَتَّى يَعْقِلَ، وَإِذَا عَقَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، وَإِذَا حَجَّ الْأَعْرَابِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ، فَإِذَا هَاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى».

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْحُرِّيَّةُ:

12- الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لِأَنَّهُ مُسْتَغْرَقٌ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ شَرْطٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَالْعَبْدُ لَا يَتَمَلَّكُ شَيْئًا، فَلَوْ حَجَّ الْمَمْلُوكُ وَلَوْ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا لَا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ، وَيَأْثَمُ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ بِذَلِكَ.وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ عِنْدَمَا يُعْتَقُ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الِاسْتِطَاعَةُ:

13- لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ خِصَالُ الِاسْتِطَاعَةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ خَصَّ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.

وَخِصَالُ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ قِسْمَانِ: شُرُوطٌ عَامَّةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَشُرُوطٌ تَخُصُّ النِّسَاءَ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: شُرُوطٌ عَامَّةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ:

شُرُوطُ الِاسْتِطَاعَةِ الْعَامَّةِ أَرْبَعُ خِصَالٍ:

الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ، وَأَمْنُ الطَّرِيقِ، وَإِمْكَانُ السَّيْرِ.

الْخَصْلَةُ الْأُولَى:

14- تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ، وَالنَّفَقَةِ ذَهَابًا وَإِيَابًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَيَخْتَصُّ اشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ عَلَى آلَةِ الرُّكُوبِ بِمَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ مَكَّةَ.

قَالَ فِي «الْهِدَايَةِ»: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا الرَّاحِلَةُ لِأَنَّهُ لَا تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ فِي الْأَدَاءِ، فَأَشْبَهَ السَّعْيَ إِلَى الْجُمُعَةِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَعِيدًا عَنْ مَكَّةَ هُوَ: مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، أَمَّا مَا دُونَهُ فَلَا، إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ يَعْنِي مَسَافَةَ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ.وَتُقَدَّرُ بِ (81) كِيلُو مِتْرٍ تَقْرِيبًا.

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ، وَهِيَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ عِنْدَهُمْ.وَتُقَدَّرُ عِنْدَهُمْ بِنَحْوِ الْمَسَافَةِ السَّابِقَةِ.

15- وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْطِيَّةِ الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَكَانُوا يَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ.لِذَلِكَ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمُ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ وَهِيَ الْجَمَلُ الْمُعَدُّ لِلرُّكُوبِ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي زَمَانِهِمْ.وَهَذَا الْخِلَافُ فِي أَمْرَيْنِ:

الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: خَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْبِنْيَةِ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ بِلَا مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَهُوَ يَمْلِكُ الزَّادَ.

وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.

وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ «مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ وَلَهُ زَادٌ فَقَدِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ».

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ فَسَّرَ السَّبِيلَ بِاسْتِطَاعَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، مِثْلِ حَدِيثِ أَنَسٍ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ».

فَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الِاسْتِطَاعَةَ الْمَشْرُوطَةَ «بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ جَمِيعًا» وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَشْيِ لَا تَكْفِي لِاسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ «.

الْأَمْرُ الثَّانِي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الزَّادِ وَوَسَائِلِ الْمُوَاصَلَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ مِلْكِيَّةُ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُحَصِّلُهَا بِهِ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِلْكَ مَا يُحَصِّلُ بِهِ الزَّادَ وَوَسِيلَةَ النَّقْلِ (مَعَ مُلَاحَظَةِ مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِبَذْلِ غَيْرِهِ لَهُ، وَلَا يَصِيرُ مُسْتَطِيعًا بِذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاذِلُ قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا، وَسَوَاءٌ بَذَلَ لَهُ الرُّكُوبَ وَالزَّادَ، أَوْ بَذَلَ لَهُ مَالًا».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إِذَا كَانَتِ الْإِبَاحَةُ مِمَّنْ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ، كَالْوَالِدِ إِذَا بَذَلَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ لِابْنِهِ.

شُرُوطُ الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ:

16- ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ شُرُوطًا فِي الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ الْمَطْلُوبَيْنِ لِاسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ، هِيَ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِهَذَا الشَّرْطِ، نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:

أ- أَنَّ الزَّادَ الَّذِي يُشْتَرَطُ مِلْكُهُ هُوَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَكِسْوَةٍ بِنَفَقَةٍ وَسَطٍ لَا إِسْرَافَ فِيهَا وَلَا تَقْتِيرَ، فَلَوْ كَانَ يَسْتَطِيعُ زَادًا أَدْنَى مِنَ الْوَسَطِ الَّذِي اعْتَادَهُ لَا يُعْتَبَرُ مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ، وَيَتَضَمَّنُ اشْتِرَاطُ الزَّادِ أَيْضًا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلَاتٍ لِلطَّعَامِ وَالزَّادِ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ.

وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَكَّةَ، وَلَوْ بِلَا زَادٍ وَرَاحِلَةٍ لِذِي صَنْعَةٍ تَقُومُ بِهِ، وَلَا تُزْرِي بِمِثْلِهِ، أَمَّا الْإِيَابُ فَلَا يُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى نَفَقَتِهِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ هُنَاكَ ضَاعَ وَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ شَكًّا، فَيُرَاعَى مَا يُبَلِّغُهُ وَيَرْجِعُ بِهِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ لِمَكَّةَ، مِمَّا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ بِهِ بِمَا لَا يُزْرِي بِهِ مِنَ الْحِرَفِ.

ب- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الرَّاحِلَةِ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ إِمَّا بِشِرَاءٍ أَوْ بِكِرَاءٍ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ «لَا يُعْتَبَرُ إِلاَّ مَا يُوَصِّلُهُ فَقَطْ»، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِمَا تَزُولُ بِهِ الْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ.وَهَذَا الْمَعْنَى مَلْحُوظٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ فِيمَا يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ إِذَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِمَا يُزِيلُهَا. ج- إِنْ مَلَكَ الزَّادَ وَوَسِيلَةَ النَّقْلِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ الْأَصْلِيَّةُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَاعْتَبَرُوا مَا يُوَصِّلُهُ فَقَطْ، إِلاَّ أَنْ يَخْشَى الضَّيَاعَ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَهُمْ.

وَفِي هَذَا تَفْصِيلٌ نُوَضِّحُهُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَشْمَلُهَا الْحَاجَةُ الْأَصْلِيَّةُ.

خِصَالُ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ:

17- خِصَالُ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ ثَلَاثٌ:

أ- نَفَقَةُ عِيَالِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ كَمَا نُوَضِّحُ فِي الْخَصْلَةِ التَّالِيَةِ)، لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ.لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ».

ب- مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ مَسْكَنٍ، وَمِمَّا لَا بُدَّ لِمِثْلِهِ كَالْخَادِمِ وَأَثَاثِ الْبَيْتِ وَثِيَابِهِ بِقَدْرِ الِاعْتِدَالِ الْمُنَاسِبِ لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ:

يَبِيعُ فِي زَادِهِ دَارَهُ الَّتِي تُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ وَغَيْرَهَا مِمَّا يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَاشِيَةٍ وَثِيَابٍ وَلَوْ لِجُمُعَتِهِ إِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا، وَخَادِمَهُ، وَكُتُبَ الْعِلْمِ وَلَوْ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا.

وَإِنْ كَانَ يَتْرُكُ وَلَدَهُ وَزَوْجَتَهُ لَا مَالَ لَهُمْ، فَلَا يُرَاعِي مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ يَصِيرُ فَقِيرًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، أَوْ يَتْرُكُ أَوْلَادَهُ وَنَحْوَهُمْ لِلصَّدَقَةِ، إِنْ لَمْ يَخْشَ هَلَاكًا فِيمَا ذُكِرَ أَوْ شَدِيدَ أَذًى.

وَهَذَا لِأَنَّ الْحَجَّ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا قَدَّمْنَا.

ج- قَضَاءُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، لِأَنَّ الدَّيْنَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ، فَهُوَ آكَدُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ لآِدَمِيٍّ أَوْ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَزَكَاةٍ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ كَفَّارَاتٍ وَنَحْوِهَا. فَإِذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالْحَمُولَةَ زَائِدًا عَمَّا تَقَدَّمَ- عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ- فَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ الشَّرْطُ، وَإِلاَّ بِأَنِ اخْتَلَّ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ.

18- وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فُرُوعٌ نَذْكُرُ مِنْهَا:

أ- مَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَاسِعٌ يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ، بِحَيْثُ لَوْ بَاعَ الْجُزْءَ الْفَاضِلَ عَنْ حَاجَتِهِ مِنَ الدَّارِ الْوَاسِعَةِ لَوَفَّى ثَمَنُهُ لِلْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْجُزْءِ الْفَاضِلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

ب- كَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَسْكَنُهُ نَفِيسًا يَفُوقُ عَلَى مِثْلِهِ لَوْ أَبْدَلَ دَارًا أَدْنَى لَوَفَّى تَكَالِيفَ الْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

ج- مَنْ مَلَكَ بِضَاعَةً لِتِجَارَتِهِ هَلْ يَلْزَمُهُ صَرْفُ مَالِ تِجَارَتِهِ لِلْحَجِّ؟

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بَقَاءُ رَأْسِ مَالٍ لِحِرْفَتِهِ زَائِدًا عَلَى نَفَقَةِ الْحَجِّ، وَرَأْسُ الْمَالِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ مَا يُمْكِنُهُ الِاكْتِسَابُ بِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ لَا أَكْثَرُ، لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَرْفُ مَالِ تِجَارَتِهِ لِنَفَقَةِ الْحَجِّ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ لِتِجَارَتِهِ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا سَبَقَ نَقْلُ كَلَامِهِمْ.

د- إِذَا مَلَكَ نُقُودًا لِشِرَاءِ دَارٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِنْ حَصَلَتْ لَهُ النُّقُودُ وَقْتَ خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ، وَإِنْ جَعَلَهَا فِي غَيْرِهِ أَثِمَ.أَمَّا قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ فَيَشْتَرِي بِالْمَالِ مَا شَاءَ، لِأَنَّهُ مَلَكَهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.

هـ- مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ إِلاَّ مَا يَكْفِي لِأَحَدِهِمَا، فَفِيهَا التَّفْصِيلُ الْآتِي:

1- أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ اعْتِدَالِ الشَّهْوَةِ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْحَجِّ عَلَى الزَّوَاجِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِذَا مَلَكَ النَّفَقَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَمَّا إِنْ مَلَكَهَا فِي غَيْرِهَا فَلَهُ صَرْفُهَا حَيْثُ شَاءَ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَيَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَهُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَى النِّكَاحِ وَهُوَ أَفْضَلُ.

2- أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ تَوَقَانِ نَفْسِهِ وَالْخَوْفِ مِنَ الزِّنَى، فَهَذَا يَكُونُ الزَّوَاجُ فِي حَقِّهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْحَجِّ اتِّفَاقًا.

و- قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ: تَنْبِيهٌ: لَيْسَ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْمُحْدَثَةُ لِرَسْمِ الْهَدِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ، فَلَا يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْحَجِّ لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ....

وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلَافٌ بَعْدَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إِثْمِ مَنْ أَخَّرَ الْحَجَّ بِسَبَبِ هَذِهِ التَّقَالِيدِ الْفَاسِدَةِ.

الْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ لِلِاسْتِطَاعَةِ: صِحَّةُ الْبَدَنِ:

19- إِنَّ سَلَامَةَ الْبَدَنِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَعُوقُ عَنِ الْحَجِّ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ.

فَلَوْ وُجِدَتْ سَائِرُ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ فِي شَخْصٍ وَهُوَ مَرِيضٌ زَمِنٌ أَوْ مُصَابٌ بِعَاهَةٍ دَائِمَةٍ، أَوْ مُقْعَدٌ أَوْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى آلَةِ الرُّكُوبِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ بِنَفْسِهِ فَرِيضَةً اتِّفَاقًا.

لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ صِحَّةُ الْبَدَنِ شَرْطٌ لِأَصْلِ الْوُجُوبِ، أَوْ هِيَ شَرْطٌ لِلْأَدَاءِ بِالنَّفْسِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ صِحَّةَ الْبَدَنِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ، بَلْ هِيَ شَرْطٌ لِلِزُومِ الْأَدَاءِ بِالنَّفْسِ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، بِإِرْسَالِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ.

وَقَالَ الْإِمَامَانِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنَّهَا شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى فَاقِدِ صِحَّةِ الْبَدَنِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ وَلَا بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ، وَلَا الْإِيصَاءُ بِالْحَجِّ عَنْهُ فِي الْمَرَضِ.

اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَهَذَا لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ.

وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ.

20- وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ، نَذْكُرُ مِنْهَا:

أ- مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ بِمُسَاعَدَةِ غَيْرِهِ كَالْأَعْمَى، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إِذَا تَيَسَّرَ لَهُ مَنْ يُعِينُهُ، تَبَرُّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ، إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أُجْرَتِهِ، إِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَلَا يَكْفِيهِ حَجُّ الْغَيْرِ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ.

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْحَجَّ بِنَفْسِهِ بِمُسَاعَدَةِ غَيْرِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ غَيْرَهُ، لِيَحُجَّ عَنْهُ.

وَيَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.

هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الصَّاحِبَيْنِ وَالْجُمْهُورِ.

أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْحَجَّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ وَافَقُوا الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لَكِنْ عَلَى أَسَاسِ مَذْهَبِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الرُّكُوبِ السَّابِقَةِ (فِقْرَةُ 15) وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْمَشْيَ إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ.

ب- إِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ الْحَجِّ مَعَ صِحَّةِ الْبَدَنِ فَتَأَخَّرَ حَتَّى أُصِيبَ بِعَاهَةٍ تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَجِّ وَلَا يُرْجَى زَوَالُهَا فَالْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ شَخْصًا يَحُجُّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.أَمَّا إِذَا أُصِيبَ بِعَاهَةٍ يُرْجَى زَوَالُهَا فَلَا تَجُوزُ الْإِنَابَةُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ زَوَالِهَا عَنْهُ.

الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمْنُ الطَّرِيقِ:

21- أَمْنُ الطَّرِيقِ يَشْمَلُ الْأَمْنَ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَذَلِكَ وَقْتَ خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ، لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَثْبُتُ دُونَهُ.

وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ كَمَا فِي صِحَّةِ الْبَدَنِ:

فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَبِي شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ.لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ أَمْنِ الطَّرِيقِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَجَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ شَرْطٌ لِلْأَدَاءِ بِالنَّفْسِ لَا لِأَصْلِ الْوُجُوبِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِنَحْوِ أَدِلَّتِهِمْ فِي إِيجَابِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ فَقَدَ شَرْطَ صِحَّةِ الْبَدَنِ.

وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الْأَخِيرِ مَنْ اسْتَوْفَى شُرُوطَ الْحَجِّ عِنْدَ خَوْفِ الطَّرِيقِ فَمَاتَ قَبْلَ أَمْنِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ.

أَمَّا إِذَا مَاتَ بَعْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ عَنْهُ اتِّفَاقًا.

الْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: إِمْكَانُ السَّيْرِ:

22- إِمْكَانُ السَّيْرِ أَنْ تَكْمُلَ شَرَائِطُ الْحَجِّ فِي الْمُكَلَّفِ وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ لِلْحَجِّ.

وَهَذَا شَرْطٌ لِأَصْلِ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَشَرْطٌ لِلْأَدَاءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِالْوَقْتِ.وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ شَرْطًا مُفْرَدًا مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ.وَفَسَّرُوا هَذَا الشَّرْطَ بِأَنَّهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ، أَوْ وَقْتُ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ إِنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ قَبْلَهَا، فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ إِلاَّ عَلَى الْقَادِرِ فِيهَا، أَوْ فِي وَقْتِ خُرُوجِهِمْ.وَفَسَّرَ غَيْرُهُمْ إِمْكَانَ السَّيْرِ بِوَقْتِ الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ.

23- وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِالْآتِي:

أ- أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ مِنْ لَوَاحِقِ الِاسْتِطَاعَةِ وَهِيَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ.

ب- أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ دُخُولِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، كَدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَ وَقْتِهَا، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ عِنْدَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ، فَالتَّقْيِيدُ بِأَشْهُرِ الْحَجِّ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَقَعَ الْإِحْرَامُ فِيمَا قَبْلَهَا عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ قَبْلَ الْأَشْهُرِ لِكَوْنِهِ رُكْنًا.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ شَرْطٌ لِلُزُومِ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْأَدَاءُ دُونَ الْقَضَاءِ، كَالْمَرَضِ الْمَرْجُوِّ بُرْؤُهُ، وَعَدَمُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْجَمِيعُ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالنِّسَاءِ:

24- مَا يَخُصُّ النِّسَاءَ مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِطَاعَةِ شَرْطَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا لِكَيْ يَجِبَ الْحَجُّ عَلَى الْمَرْأَةِ يُضَافَانِ إِلَى خِصَالِ شَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

هَذَانِ الشَّرْطَانِ هُمَا: الزَّوْجُ أَوِ الْمَحْرَمُ، وَعَدَمُ الْعِدَّةِ.

أَوَّلًا- الزَّوْجُ أَوِ الْمَحْرَمُ الْأَمِينُ:

25- يُشْتَرَطُ أَنْ يَصْحَبَ الْمَرْأَةَ فِي سَفَرِ الْحَجِّ زَوْجُهَا أَوْ مَحْرَمٌ مِنْهَا، إِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَهِيَ مَسِيرَةُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثًا إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ».

وَتَوَسَّعَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَسَوَّغُوا الِاسْتِبْدَالَ بِالْمَحْرَمِ:

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ وَجَدَتْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ: اثْنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ تَأْمَنُ مَعَهُنَّ عَلَى نَفْسِهَا كَفَى ذَلِكَ بَدَلًا عَنِ الْمَحْرَمِ أَوِ الزَّوْجِ بِالنِّسْبَةِ لِوُجُوبِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْمَرْأَةِ.وَعِنْدَهُمُ «الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ مَحْرَمٍ لِإِحْدَاهُنَّ، لِأَنَّ الْأَطْمَاعَ تَنْقَطِعُ بِجَمَاعَتِهِنَّ.فَإِنْ وَجَدَتِ امْرَأَةً وَاحِدَةً ثِقَةً فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ، لَكِنْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ مَعَهَا حَجَّةَ الْفَرِيضَةِ أَوِ النَّذْرِ، بَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَحْدَهَا لِأَدَاءِ الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ إِذَا أَمِنَتْ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ تَوَسُّعًا فَقَالُوا: الْمَرْأَةُ إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَحْرَمَ أَوِ الزَّوْجَ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ تُسَافِرُ لِحَجِّ الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ بِنَفْسِهَا هِيَ مَأْمُونَةً أَيْضًا.

وَالرُّفْقَةُ الْمَأْمُونَةُ جَمَاعَةٌ مَأْمُونَةٌ مِنَ النِّسَاءِ، أَوِ الرِّجَالِ الصَّالِحِينَ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَأَكْثَرُ مَا نَقَلَهُ أَصْحَابُنَا اشْتِرَاطُ النِّسَاءِ».

أَمَّا حَجُّ النَّفْلِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ السَّفَرُ لَهُ إِلاَّ مَعَ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ فَقَطِ اتِّفَاقًا، وَلَا يَجُوزُ لَهَا السَّفَرُ بِغَيْرِهِمَا، بَلْ تَأْثَمُ بِهِ.

نَوْعُ الِاشْتِرَاطِ لِلْمَحْرَمِ:

26- اخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ هَلْ هُوَ شَرْطُ وُجُوبٍ أَوْ شَرْطٌ لِلُزُومِ الْأَدَاءِ بِالنَّفْسِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَيَحُلُّ مَحَلَّهُ عِنْدَ فَقْدِهِ الرُّفْقَةُ الْمَأْمُونَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.

وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَوِ الْمَحْرَمَ شَرْطٌ لِلُزُومِ الْأَدَاءِ بِالنَّفْسِ.

وَأَدِلَّةُ الْفَرِيقَيْنِ هِيَ مَا سَبَقَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فِي صِحَّةِ الْبَدَنِ وَأَمْنِ الطَّرِيقِ (ف 19 وَ 21).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


42-موسوعة الفقه الكويتية (خبرة)

خِبْرَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخِبْرَةُ فِي اللُّغَةِ- بِكَسْرِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا- الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، وَمَعْرِفَتُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، مِنْ قَوْلِكَ: خَبَرْتُ بِالشَّيْءِ إِذَا عَرَفْتُ حَقِيقَةَ خَبَرِهِ.وَمِثْلُهُ الْخِبْرُ وَالْخُبْرُ، وَالْمَخْبُرَةُ.وَالْمُخْبِرَةُ.وَالْخَبِيرُ بِالشَّيْءِ، الْعَالِمُ بِهِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، مِثْلُ عَلِيمٍ، وَقَدِيرٍ، وَأَهْلُ الْخِبْرَةِ ذَوُوهَا

وَاسْتُعْمِلَ فِي مَعْرِفَةِ كُنْهِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} وَالْخَبِيرُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.وَهُوَ الْعَالِمُ بِكُنْهِ الشَّيْءِ الْمُطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ.هَذَا فِي الْأَصْلِ.وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ فِيمَا غَمُضَ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَلَطُفَ، وَفِيمَا تَجَلَّى مِنْهُ وَظَهَرَ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَقَدْ عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْخِبْرَةِ بِلَفْظِ الْبَصِيرَةِ، كَمَا عَبَّرُوا عَنْهَا بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ:

أَوَّلًا: الْعِلْمُ:

2- الْعِلْمُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا مَا يَصِيرُ بِهِ الشَّيْءُ مُنْكَشِفًا، وَمِنْهَا الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الشَّيْءِ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَمِنْهَا الْإِدْرَاكُ، وَمِنْهَا الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ.

ثَانِيًا: الْمَعْرِفَةُ:

3- أَمَّا الْمَعْرِفَةُ فَهِيَ إِدْرَاكُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْخِبْرَةِ، أَنَّ الْخِبْرَةَ الْعِلْمُ بِكُنْهِ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى حَقَائِقِهَا، فَفِيهَا مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ

ب- التَّجْرِبَةُ:

4- التَّجْرِبَةُ مَصْدَرُ جَرَّبَ، وَمَعْنَاهُ الِاخْتِبَارُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّجْرِبَةُ اسْمٌ لِلِاخْتِبَارِ مَعَ التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ التَّجْرِيبِ الَّذِي هُوَ تَكْرِيرُ الِاخْتِبَارِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الْخِبْرَةِ التَّكْرَارُ.

ح- الْبَصَرُ أَوِ الْبَصِيرَةُ:

5- الْبَصِيرَةُ لُغَةً: الْعِلْمُ وَالْخِبْرَةُ، يُقَالُ: هُوَ ذُو بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، أَيْ ذُو عِلْمٍ وَخِبْرَةٍ.وَيُعْرَفُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ مِمَّا أَوْرَدَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ يَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِ الْقِيمَةِ إِلَى أَهْلِ الْبَصِيرَةِ وَهُمْ أَهْلُ النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قِيمَةِ الشَّيْءِ.

د- الْقِيَافَةُ:

6- الْقِيَافَةُ مَصْدَرُ قَافَ الْأَثَرَ قِيَافَةً إِذَا تَتَبَّعَهُ.وَالْقَائِفُ هُوَ مَنْ يَعْرِفُ الْآثَارَ وَيَتَتَبَّعُهَا، وَيَعْرِفُ شَبَهَ الرَّجُلِ بِأَخِيهِ، وَأَبِيهِ، وَالْجَمْعُ الْقَافَةُ.وَتُسْتَعْمَلُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى.قَالَ فِي الْمُغْنِي: الْقَافَةُ قَوْمٌ يَعْرِفُونَ الْإِنْسَانَ بِالشَّبَهِ

هـ- الْحِذْقُ:

7- الْحِذْقُ الْمَهَارَةُ، يُقَالُ: حَذَقَ الصَّبِيُّ الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ يَحْذِقُهُ حِذْقًا وَحَذْقًا إِذَا مَهَرَ فِيهِ، وَحَذِقَ الرَّجُلُ فِي صَنْعَتِهِ أَيْ مَهَرَ فِيهَا، وَعَرَفَ غَوَامِضَهَا وَوَقَائِعَهَا.

فَالْحِذْقُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَهَارَةِ فِي الصَّنْعَةِ غَالِبًا، وَهُوَ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَخَصُّ مِنَ الْخِبْرَةِ

و- الْفِرَاسَةُ:

8- الْفِرَاسَةُ بِكَسْرِ الْفَاءِ هِيَ التَّثَبُّتُ وَالتَّأَمُّلُ لِلشَّيْءِ وَالْبَصَرُ بِهِ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَفَارِسٌ بِهَذَا الْأَمْرِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ.وَفِي الْحَدِيثِ: « اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ».

وَيَقُولُ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْفِرَاسَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تُتَعَلَّمُ بِالدَّلَائِلِ وَالتَّجَارِبِ وَالْخُلُقِ وَالْأَخْلَاقِ فَتُعْرَفُ بِهِ أَحْوَالُ النَّاسِ.يَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ: الْفِرَاسَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ النَّظَرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ.

فَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبَةٌ لِمَعْنَى الْخِبْرَةِ.

حُكْمُ الْخِبْرَةِ:

9- تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْخِبْرَةِ وَاعْتَمَدُوا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا تَبَعًا لِمَوْطِنِهَا.

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُهَا: الْخِبْرَةُ فِي التَّزْكِيَةِ:

10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ حَالَ الشُّهُودِ يَجِبُ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ يُزَكِّيهِمْ عِنْدَهُ لِيَعْلَمَ عَدَالَتَهُمْ، لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَزْكِيَةَ السِّرِّ ضَرُورِيَّةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.وَيَرَى بَعْضُهُمْ تَزْكِيَةَ الشَّاهِدِ، التَّزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةُ أَيْضًا.

وَتَزْكِيَةُ الشُّهُودِ تَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْقَاضِي مَنْ هُمْ أَوْثَقُ النَّاسِ عِنْدَهُ، وَأَوْرَعُهُمْ دِيَانَةً، وَأَدْرَاهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً، وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّمْيِيزِ فِطْنَةً، فَيَكْتُبُ لَهُمْ أَسْمَاءَ وَأَوْصَافَ الشُّهُودِ، وَيُكَلِّفُهُمْ تَعَرُّفَ أَحْوَالِهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُهُمْ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَجِيرَانِهِمْ وَمُؤْتَمَنِي أَهَالِي مَحَلَّتِهِمْ، وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِمْ، وَمِمَّنْ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ مِنْ مُعْتَمَدِي أَهْلِ صَنْعَتِهِمْ (أَيْ نَقِيبِ الْحِرْفَةِ مَثَلًا).فَإِذَا كَتَبُوا تَحْتَ اسْمِ كُلٍّ مِنْهُمْ: (عَدْلٌ، وَمَقْبُولُ الشَّهَادَةِ) يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ وَإِلاَّ فَلَا.

وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُزَكِّيَ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَمَعْرِفَةُ خِبْرَةِ بَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ، لِخِبْرَةٍ، أَوْ جِوَارٍ، أَوْ مُعَامَلَةٍ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِمَا يَشْهَدُ.وَلِأَنَّ عَادَةَ النَّاسِ إِظْهَارُ الصَّالِحَاتِ وَإِسْرَارُ الْمَعَاصِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَا خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ، رُبَّمَا اغْتَرَّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ فَاسِقٌ فِي الْبَاطِنِ

هَذَا فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، أَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ فَتَحْصُلُ فِي حُضُورِ الْحَاكِمِ وَالْخَصْمَيْنِ.وَبِمَا أَنَّ تَزْكِيَةَ الْعَلَانِيَةِ تُعْتَبَرُ شَهَادَةً، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ مِنَ التَّعَدُّدِ وَالْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِمَا.أَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ فَفِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَزْكِيَةٌ، وَشَهَادَةٌ).

الْخِبْرَةُ فِي الْقِسْمَةِ:

11- الْقِسْمَةُ تَحْتَاجُ إِلَى قَاسِمٍ، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ الشُّرَكَاءُ أَنْفُسُهُمْ إِذَا كَانُوا ذَوِي أَهْلِيَّةٍ وَمِلْكٍ وَوِلَايَةٍ، فَيَقْسِمُونَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاضِي، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ غَيْرُ الشُّرَكَاءِ مِمَّنْ يُعَيِّنُونَهُ أَوْ يُنَصِّبُهُ الْحَاكِمُ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاسِمِ بِجَانِبِ سَائِرِ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا، عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ، عَارِفًا بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ، لِيُوصِلَ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَضَاءِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ بِالْأَمَانَةِ وَالْعِلْمِ.

وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ الْقَاسِمِ الَّذِي عَيَّنَهُ الشُّرَكَاءُ، وَالَّذِي نَصَّبَهُ الْإِمَامُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي مَنْصُوبِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُمْ.

وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ مُتَعَدِّدًا، فَيَكْفِيَ أَنْ يَكُونَ شَخْصًا وَاحِدًا ذَا مَعْرِفَةٍ وَخِبْرَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُ الْخَبَرُ عَنْ عِلْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، كَالْقَائِفِ وَالْمُفْتِي وَالطَّبِيبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ تَقْوِيمٌ لِلسِّلْعَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ قَاسِمَانِ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ شَهَادَةٌ بِالْقِيمَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدُّدُ

وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: إِذَا اطَّلَعَ أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ عَلَى عَيْبٍ فِيمَا خَصَّهُ، وَلَمْ يَعْلَمَا بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ خَفِيٌّ ثَبَتَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي أَكْثَرِ نَصِيبِهِ، خُيِّرَ بَيْنَ إِمْسَاكِ النَّصِيبِ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ رَدِّ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ النَّصِيبَانِ قَائِمَيْنِ رَجَعَا شَائِعَيْنِ بَيْنَهُمَا كَمَا كَانَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ.وَإِنْ فَاتَ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ بِنَحْوِ صَدَقَةٍ أَوْ بِنَاءٍ، أَوْ هَدْمٍ، رَدَّ آخِذُهُ قِيمَةَ نِصْفِهِ، وَكَانَ النَّصِيبُ الْقَائِمُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ فَاتَا تَقَاصَّا.

وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (قِسْمَةٌ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ).

الْخِبْرَةُ فِي الْخَارِصِ:

12- الْخَرْصُ: الْحَزْرُ وَالتَّحَرِّي، وَهُوَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الشَّيْءِ (مِنَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ) لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهِ.فَإِذَا بَدَا صَلَاحُ الثِّمَارِ مِنَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَحَلَّ بَيْعُهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ الْإِمَامُ مَنْ يَخْرُصُهَا، وَيَعْرِفَ قَدْرَ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ).

وَيُشْتَرَطُ فِي الْخَارِصِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْخَرْصِ؛ لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَرِ وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ، وَالْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَيُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ إِنْ كَانَ عَدْلًا عَارِفًا، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُشْتَرَطُ اثْنَانِ كَالتَّقْوِيمِ وَالشَّهَادَةِ.

وَإِذَا اخْتَلَفَ الْخَارِصُونَ فَيُعْمَلُ بِتَخْرِيصِ الْأَعْرَفِ مِنْهُمْ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْخَرْصِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا، مَا ثَبَتَ « أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودَ، فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حَتَّى يَطِيبَ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ ».

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْخَرْصُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ فَلَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- « نَهَى عَنِ الْخَرْصِ ».وَقَالُوا: إِنَّ الْخَرْصَ الْوَارِدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَ مَا فِي نَخْلِهِمْ، ثُمَّ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ وَقْتَ الصِّرَامِ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِبُ فِيهَا.وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ تَخْوِيفًا لِلْمُزَارِعِينَ لِئَلاَّ يَخُونُوا لَا لِيَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ. (ر: خَرْصٌ).

خِبْرَةُ الْقَائِفِ:

13- الْقَائِفُ مَنْ يَعْرِفُ الْآثَارَ وَيَتَتَبَّعُهَا، وَيَعْرِفُ شَبَهَ الرَّجُلِ بِأَخِيهِ وَأَبِيهِ.وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ إِذَا كَانَ خَبِيرًا مُجَرَّبًا، وَلَمْ تُوجَدْ لِإِثْبَاتِ نَسَبِ الطِّفْلِ بَيِّنَةٌ، أَوْ تَسَاوَتْ بَيِّنَةُ الطَّرَفَيْنِ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها- قَالَتْ: « دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ».

وَيَكْفِي قَائِفٌ وَاحِدٌ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ لِأَنَّهُ كَحَاكِمٍ، فَيَكْفِي مُجَرَّدُ خَبَرِهِ.

وَيُشْتَرَطُ فِيهِ بِجَانِبِ سَائِرِ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مُجَرَّبًا فِي الْإِصَابَةِ؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: « لَا حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ » وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ عِلْمِيٌّ فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِعِلْمِهِ لَهُ وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ بِغَيْرِ التَّجْرِبَةِ فِيهِ.

وَمِنْ طُرُقِ تَجْرِبَتِهِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ هِيَ فِيهِنَّ، فَإِذَا أَصَابَ فِي كُلٍّ فَهُوَ مُجَرَّبٌ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِيَافَةٌ).

الْخِبْرَةُ فِي التَّقْوِيمِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ مِنَ التُّجَّارِ، وَأَهْلِ الصَّنْعَةِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَقِيمَةِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، وَقِيَمِ السِّلَعِ الْمَبِيعَةِ، أَوِ الْمَأْجُورَةِ لِإِثْبَاتِ الْعَيْبِ، أَوِ الْجَوْرِ، أَوِ الْغَرَرِ وَنَحْوِهَا.قَالَ فِي الدُّرِّ: لَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ ثُمَّ طُلِبَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ فِيهِ الْقَاضِي إِلَى أَهْلِ الْبَصِيرَةِ، أَيْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ.وَنُصُوصُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: مَا ذُكِرَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ أَنَّ نُقْصَانَ الثَّمَنِ يَكُونُ مَعْلُومًا بِإِخْبَارِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْخَالَيْنِ عَنِ الْغَرَضِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوَّمَ الثَّوْبُ سَالِمًا ثُمَّ يُقَوَّمَ مَعِيبًا، فَمَا كَانَ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ يَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ.

وَيَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ: يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِ التَّاجِرِ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقِيمَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، كَتَقْوِيمِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، هَلْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ النِّصَابَ أَوْ لَا؟ فَهَاهُنَا لَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ.

لِأَنَّ الْمُقَوِّمَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْبَاهٍ: شَبَهُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إِلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَشَبَهُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُقَوِّمَ مُتَصَدٍّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الشَّاهِدَ كَذَلِكَ، وَشَبَهُ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ فِي الْقِيمَةِ.فَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِخْبَارِهِ حَدٌّ تَعَيَّنَ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ.

وَقَالَ أَيْضًا: يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُقَوِّمِ الْوَاحِدِ لِأَرْشِ الْجِنَايَاتِ.

وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: الْمُقَوِّمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى تَقْوِيمِهِ قَطْعٌ، أَوْ غُرْمٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ وَإِلاَّ فَيَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ.وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَيُرْجَعُ إِلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مِنَ التِّجَارَةِ فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَعُيُوبِ الثِّيَابِ.

وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَنَقْصِ الثَّمَنِ إِلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ، وَتَقْوِيمُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ مِنَ التُّجَّارِ وَأَهْلِ الصَّنْعَةِ.لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ التَّقْوِيمَ لَا يَكُونُ بِالْوَاحِدِ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ بِالْقِيمَةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ.

وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي أَبْوَابِهَا مِنَ الضَّمَانِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالشَّهَادَةِ وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهَا.

الْخِبْرَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ قَدِيمٌ لَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ.

وَمَعَ تَفْصِيلِهِمْ وَخِلَافِهِمْ فِي وَضْعِ ضَابِطٍ لِلْعَيْبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَقِدَمِهِ قَوْلُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ: (الْعَيْبُ هُوَ مَا يُنْقِصُ ثَمَنَ الْمَبِيعِ عِنْدَ التُّجَّارِ وَأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ.وَنُقْصَانُ الثَّمَنِ يَكُونُ مَعْلُومًا بِإِخْبَارِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ).وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَنَحْوُهُ مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ قَالُوا: الْقَوْلُ فِي نَفْيِ الْعَيْبِ أَوْ نَفْيِ قِدَمِهِ لِلْبَائِعِ إِلاَّ بِشَهَادَةِ الْعَادَةِ أَيْ شَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ لِلْمُشْتَرِي.

وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْبَصَرِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّخَّاسِينَ فِي مَعْرِفَةِ عُيُوبِ الْحَيَوَانَاتِ.

كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اخْتَلَفَ الطَّرَفَانِ فِي الْمَوْجُودِ هَلْ هُوَ عَيْبٌ أَوْ لَا؟ أَوِ اخْتَلَفَا فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، رُجِعَ فِيهِ لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: هُوَ عَيْبٌ، فَلَهُ الْفَسْخُ، وَإِلاَّ فَلَا.يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (خِيَارُ الْعَيْبِ).

خِبْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْبَيْطَارِ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الْأَطِبَّاءِ مِمَّنْ لَهُمْ خِبْرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَفِي مَعْرِفَةِ الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ وَتَحْدِيدِ أَسْمَائِهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ، وَالدَّامِيَةِ، وَالدَّامِغَةِ وَنَحْوِهَا.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْبَيَاطِرَةِ مِمَّنْ لَهُ خِبْرَةٌ فِي عُيُوبِ الدَّوَابِّ.وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ النُّصُوصِ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَجَالِ:

قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: يُرْجَعُ إِلَى أَهْلِ الطِّبِّ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْجِرَاحِ فِي مَعْرِفَةِ طُولِ الْجُرْحِ، وَعُمْقِهِ، وَعَرْضِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْقِصَاصَ فَيَشُقُّونَ فِي رَأْسِ الْجَانِي أَوْ فِي بَدَنِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ.

وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: إِذَا اخْتُلِفَ فِي الشَّجَّةِ هَلْ هِيَ مُوضِحَةٌ أَوْ لَا، أَوْ فِيمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَالْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالْآمَّةِ، وَالدَّامِغَةِ، أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا كَالْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلَاحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ، أَوْ فِي الْجَائِفَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا إِلاَّ الْأَطِبَّاءُ، أَوِ اخْتَلَفَا فِي دَاءٍ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْأَطِبَّاءُ أَوْ فِي دَاءِ الدَّابَّةِ، يُؤْخَذُ بِقَوْلِ طَبِيبَيْنِ أَوْ بَيْطَارَيْنِ إِذَا وُجِدَا، فَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ أَجْزَأَ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ.

وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوَاضِعِهَا (ر: شَهَادَةٌ، شِجَاجٌ، خِيَارُ الْعَيْبِ).

عَدَدُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ:

17- الْأَصْلُ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ إِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ يَجِبُ فِيهِ اثْنَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ.وَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الْإِخْبَارِ وَالرِّوَايَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ التَّعَدُّدُ وَيَكْفِي فِيهِ الْمُخْبِرُ الْوَاحِدُ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُسْلِمٍ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْعُيُوبِ، وَمِنْهُمُ الطَّبِيبُ وَالْبَيْطَارُ، وَالْخَارِصُ، وَالْقَائِفُ، وَالْقَسَّامُ، وَقَائِسُ الشِّجَاجِ وَنَحْوُهُمْ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى.قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: الْقِيمَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَدٌّ كَتَقْوِيمِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، هَلْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ النِّصَابَ أَمْ لَا؟ فَهَاهُنَا لَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ.وَقَالَ نَقْلًا عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا اجْتَمَعَ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ.

وَقَالَ: وَيَكْفِي الْوَاحِدُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ، وَفِيمَا كَانَ عِلْمًا يُؤَدِّيهِ.

وَمِثْلُهُ مَا قَالَ فِي قَائِسِ الْجِرَاحِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ.

وَجَاءَ فِي مَعِينِ الْحُكَّامِ: مَا بَطَنَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي حَيَوَانٍ- فَالطَّرِيقُ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى أَهْلِ الْبَصَرِ إِنْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ عَدْلًا يَثْبُتُ الْعَيْبُ فِي الْخُصُومَةِ.وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ الْوَاحِدِ فِي النَّسَبِ، وَالتَّاجِرِ الْوَاحِدِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونَ.

وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: الْقَاسِمُ الْوَاحِدُ يَكْفِي؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُ عَنْ عِلْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ كَالْقَائِفِ، وَالْمُفْتِي، وَالطَّبِيبِ وَلَوْ كَافِرًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَجَّهَهُ الْقَاضِي فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ.

وَمِثْلُهُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ).

اخْتِلَافُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ:

18- إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فِي التَّقْوِيمِ، أَوِ الْخَرْصِ، أَوِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ آرَاءٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ مِنْهَا:

أ- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ التُّجَّارُ، أَوْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فِي وُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَيْبٌ، وَقَالَ الْآخَرُونَ لَا، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا بَيِّنًا عِنْدَ الْكُلِّ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي اخْتِلَافِ شُهُودِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي تَعَيُّبِ السِّلْعَةِ وَقِدَمِ الْعَيْبِ فِيهَا رَأْيَانِ: الْأَخْذُ بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَتَرْجِيحِ بَيِّنَةِ الْمُبْتَاعِ.

قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ نَقْلًا عَنِ الْمُتَيْطِيَّةِ: إِذَا أَثْبَتَ مُبْتَاعُ الدَّارِ تَشَقُّقَ الْحِيطَانِ، وَتَعَيُّبَهَا، وَأَنَّهَا مُتَهَيِّئَةٌ لِلسُّقُوطِ، وَإِنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ يَحُطُّ مِنْ ثَمَنِهَا كَثِيرًا، وَأَنَّهُ أَقْدَمُ مِنْ أَمَدِ التَّبَايُعِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ خَارِجِ الدَّارِ لَا مِنْ دَاخِلِهَا، وَشَهِدَ لِلْبَائِعِ شُهُودٌ أَنَّ الدَّارَ سَالِمَةٌ مِمَّا ادَّعَى الْمُبْتَاعُ، مَأْمُونَةُ السُّقُوطِ لِاعْتِدَالِ حِيطَانِهَا وَسَلَامَتِهَا مِنَ الْمَيْلِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّهَدُّمِ، وَأَنَّ التَّشَقُّقَ لَا يَضُرُّهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا، وَثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ: يُقْضَى بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ مِمَّنْ لَهُ بَصَرٌ بِعُيُوبِ الدُّورِ.وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: بَيِّنَةُ الْمُبْتَاعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْحُكْمَ إِذَا قُبِلَتْ أَعْمَلُ مِنَ الَّتِي تَنْفِيهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَقِدَمِهِ.فَلَوْ فُقِدَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَوِ اخْتَلَفُوا، صُدِّقَ الْمُشْتَرِي لِتَحَقُّقِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، وَالشَّكِّ فِي مُسْقِطِ الرَّدِّ.

وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ الْإِجَارَاتِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الْعَيْبِ).

ب- إِذَا اخْتَلَفَ الْمُقَوِّمُونَ لِلسَّرِقَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا اجْتَمَعَ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي سَمَاعِ عِيسَى: إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى السَّرِقَةِ رَجُلَانِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى مَنْ خَالَفَهُمَا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا عَنْ مَالِكٍ: إِنْ دُعِيَ أَرْبَعَةٌ فَاجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى قِيمَةٍ قَالَ: يَنْظُرُ الْقَاضِي إِلَى أَقْرَبِ التَّقْوِيمِ إِلَى السَّدَادِ، بِأَنْ يَسْأَلَ مَنْ سِوَاهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ السَّدَادُ مِنْ ذَلِكَ.

ج- إِنِ اخْتَلَفَ الْخَارِصُونَ فِي قَدْرِ التَّمْرِ الَّذِي خَرَصُوهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُعْمَلُ بِتَخْرِيصِ الْأَعْرَفِ مِنْهُمْ، وَيُلْغَى تَخْرِيصُ مَا سِوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَعْرَفُ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ جُزْءٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ. (ر: خَرْصٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


43-موسوعة الفقه الكويتية (خيار)

خِيَارٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخِيَارُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ (الِاخْتِيَارِ) وَهُوَ الِاصْطِفَاءُ وَالِانْتِقَاءُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُمَا (اخْتَارَ).وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ، مَعْنَاهُ: اخْتَرْ مَا شِئْتَ.وَخَيَّرَهُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعْنَاهُ: فَوَّضَ إِلَيْهِ اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا.

وَالْخِيَارُ فِي الِاصْطِلَاحِ لَهُ تَعَارِيفُ كَثِيرَةٌ إِلاَّ أَنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَنَاوَلَتْ هَذَا اللَّفْظَ مَقْرُونًا بِلَفْظٍ آخَرَ لِأَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ دُونَ أَنْ يُقْصَدَ بِالتَّعْرِيفِ (الْخِيَارُ) عُمُومًا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِخْلَاصُ تَعْرِيفٍ لِلْخِيَارِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْ خِلَالِ تَعَارِيفِ أَنْوَاعِ الْخِيَارِ بِأَنْ يُقَالَ: هُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ أَوْ إِمْضَائِهِ، لِظُهُورِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ أَوْ بِمُقْتَضَى اتِّفَاقٍ عَقَدِيٍّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- عَدَمُ اللُّزُومِ:

2- اللُّزُومُ: مَعْنَاهُ عَدَمُ إِمْكَانِ رُجُوعِ الْعَاقِدِ عَنِ الْعَقْدِ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، وَيُسَمَّى الْعَقْدُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ (الْعَقْدَ اللاَّزِمَ) بِمَعْنَى أَنَّ الْعَاقِدَ لَا يَحِقُّ لَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ إِلاَّ بِرِضَا الْعَاقِدِ الْآخَرِ، فَكَمَا لَا يُعْقَدُ الْعَقْدُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي لَا يُفْسَخُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي (وَذَلِكَ بِالْإِقَالَةِ) وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ تَعْرِيفُ عَدَمِ اللُّزُومِ فَهُوَ: إِمْكَانُ رُجُوعِ الْعَاقِدِ عَنِ الْعَقْدِ وَنَقْضِهِ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى التَّرَاضِي عَلَى ذَلِكَ النَّقْضِ.

فَهَذَا اللُّزُومُ قَدْ يَتَخَلَّفُ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ فَيَسْتَطِيعُ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ رَابِطَةِ الْعَقْدِ وَيَفْسَخَهُ بِمُجَرَّدِ إِرَادَتِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الْآخَرِ.وَتَخَلُّفُ اللُّزُومِ هُنَا مَبْعَثُهُ أَنَّ طَبِيعَةَ الْعَقْدِ وَغَايَتَهُ تَقْتَضِي عَدَمَ اللُّزُومِ، وَالْعَقْدُ عِنْدَئِذٍ (عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ) إِذْ يَكُونُ عَدَمُ اللُّزُومِ صِفَةً مَلْحُوظَةً فِي نَوْعِ الْعَقْدِ.

وَمِنَ السَّهْلِ تَبَيُّنُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَبَيْنَ طَبِيعَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَالتَّخْيِيرُ حَالَةٌ طَارِئَةٌ عَلَى الْعَقْدِ حَيْثُ إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ، فَالْعَقْدُ الْمُقْتَرِنُ بِخِيَارٍ هُوَ قَيْدٌ أَوِ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَبْدَأِ، ثُمَّ هُوَ فِي جَمِيعِ الْخِيَارَاتِ لَيْسَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ طَبِيعَةُ الْعُقُودِ، بَلْ هُوَ مِمَّا اعْتُبِرَ قَيْدًا عَلَى تِلْكَ الطَّبِيعَةِ لِأَصَالَةِ اللُّزُومِ.أَمَّا فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِأَنْوَاعِهَا فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ طَبِيعَتِهَا تَقْتَضِيهِ غَايَاتُهَا وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهَا إِلاَّ لِسَبَبٍ خَاصٍّ فِيمَا لُزُومُهُ لَيْسَ أَصْلًا.

وَالْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَقَطْ أَمَّا الْإِجَازَةُ فَلَا مَجَالَ لَهَا، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْعَقْدِ وَالِاسْتِمْرَارَ فِيهِ يُغْنِي عَنْهَا، فِي حِينِ أَنَّ الْخِيَارَاتِ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ.

وَهُنَاكَ فَارِقٌ آخَرُ بَيْنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ وَبَيْنَ الْخِيَارَاتِ يَقُومُ عَلَى مُلَاحَظَةِ نَتِيجَةِ (الْفَسْخِ) الَّذِي هُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ، فَحُكْمُ الْفَسْخِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مُخْتَلِفٌ عَنْهُ فِي الْخِيَارَاتِ، حَيْثُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مُقْتَصِرًا (لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ رَجْعِيٌّ) لَا يَمَسُّ التَّصَرُّفَاتِ السَّابِقَةَ.أَمَّا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ (الْخِيَارَاتُ) فَالْفَسْخُ مُسْتَنَدٌ (لَهُ انْعِطَافٌ وَتَأْثِيرٌ رَجْعِيٌّ) يَنْسَحِبُ فِيهِ الِانْفِسَاخُ عَلَى الْمَاضِي فَيَجْعَلُ الْعَقْدَ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ مِنْ أَصْلِهِ.

ب- الْفَسْخُ لِلْفَسَادِ:

3- الْعَقْدُ الْفَاسِدُ.يُشْبِهُ الْخِيَارَ فِي فِكْرَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ وَفِي احْتِمَالِهِ الْفَسْخَ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: «حُكْمُ الْبَيْعِ نَوْعَانِ، نَوْعٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِرَفْعِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ حُكْمُ كُلِّ بَيْعٍ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ الْأَرْبَعَةِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ» كَمَا أَنَّهُ يَتَأَخَّرُ أَثَرُهُ فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، لَكِنَّهُ مُفْتَرِقٌ عَنْ حَالَةِ التَّخْيِيرِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَقْدِ، فَالْفَاسِدُ مِنْ بَابِ الصِّحَّةِ، أَمَّا التَّخْيِيرُ فَهُوَ مِنْ بَابِ اللُّزُومِ، ثُمَّ لِهَذَا أَثَرُهُ فِي افْتِرَاقِ الْأَحْكَامِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْخِيَارَ (عَدَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ) يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ، أَمَّا حَقُّ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَلَا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ وَالْإِسْقَاطِ.

وَهُنَاكَ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ تُوَضِّحُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْخِيَارِ وَالْفَسْخِ مِنْهَا تَصْرِيحُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْخِيَارَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِأَحَدٍ مُعَيَّنٍ.وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْفَسْخَ لِلْفَسَادِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الشَّرْعِ.

ج- الْفَسْخُ لِلتَّوَقُّفِ:

4- التَّفْرِقَةُ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالتَّوَقُّفِ تَكُونُ فِي الْمَنْشَأِ وَالْأَحْكَامِ وَالِانْتِهَاءِ.

فَالْخِيَارُ يَنْشَأُ لِتَعَيُّبِ الْإِرَادَةِ (وَذَلِكَ فِي الْخِيَارِ الْحُكْمِيِّ غَالِبًا) أَوْ لِاتِّجَاهِ إِرَادَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِمَنْعِ لُزُومِ الْعَقْدِ (وَذَلِكَ فِي الْخِيَارَاتِ الْإِرَادِيَّةِ) وَكِلَاهُمَا مَرْحَلَةٌ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَصُلُوحِهِ لِسَرَيَانِ آثَارِهِ (النَّفَاذُ).أَمَّا الْمَوْقُوفُ فَهُوَ يَنْشَأُ لِنَقْصِ الْأَهْلِيَّةِ فِي الْعَاقِدِ، أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ.فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَجَالٌ مُغَايِرٌ لِلْآخَرِ، لَيْسَ مُغَايَرَةَ اخْتِلَافٍ فِي السَّبَبِ فَقَطْ، بَلْ مَعَ التَّدَاعِي وَالتَّجَانُسِ بَيْنَ أَسْبَابِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمُنَافَرَتِهَا مَا لِلْآخَرِ.

أَمَّا مِنْ حَيْثُ الطَّبِيعَةُ وَالْأَحْكَامُ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ تَكُونُ آثَارُهُ مُعَلَّقَةً بِسَبَبِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ مِنْ نَفَاذِهَا، وَهَذَا بِالرَّغْمِ مِنِ انْعِقَادِهِ وَصِحَّتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَانِعَ مَنَعَ تَمَامَ الْعِلَّةِ.

أَمَّا الْخِيَارُ فَإِنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ قَدْ نَفَذَ وَتَرَتَّبَتْ آثَارُهُ وَلَكِنِ امْتَنَعَ ثُبُوتُهَا بِسَبَبِ الْخِيَارِ، فَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ ابْتِدَاءُ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ تَمَامُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ لُزُومُ الْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ سَرَتْ آثَارُهُ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ.

وَفِي الِانْقِضَاءِ نَجِدُ أَنَّ الْمَوْقُوفَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ تَامِّ الْعِلَّةِ لَمْ تَتِمَّ الصَّفْقَةُ، فَيَكْفِي فِي نَقْضِهِ مَحْضُ إِرَادَةِ مَنْ لَهُ النَّقْضُ، وَهُوَ لِهَذَا الضَّعْفِ فِيهِ لَا يَرِدُ فِيهِ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ، وَلَا يَنْتَقِلُ بِالْمِيرَاثِ، بَلْ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِمَوْتِ مَنْ لَهُ حَقُّ إِجَازَتِهِ، فِي حِينِ يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ- فِي الْجُمْلَةِ- وَيَنْتَقِلُ بِالْمِيرَاثِ وَخَاصَّةً مَا كَانَ مِنْهُ مُتَّصِلًا بِالْعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْمَذَاهِبِ، وَيَنْقَضِي الْخِيَارُ بِإِرَادَةِ مَنْ هُوَ لَهُ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي إِلاَّ حَيْثُ تَتِمُّ الصَّفْقَةُ بِحُصُولِ الْقَبْضِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ.

د- الْفَسْخُ فِي الْإِقَالَةِ:

5- تُشْبِهُ الْإِقَالَةُ الْخِيَارَ مِنْ حَيْثُ تَأْدِيَتُهُمَا- فِي حَالٍ مَا- إِلَى فَسْخِ الْعَقْدِ، وَتُشْبِهُهُ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِ إِلاَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ اللاَّزِمَةِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ.

وَلَكِنَّ الْإِقَالَةَ تُخَالِفُ الْخِيَارَ فِي أَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يُمْكِنُهُ فَسْخُ الْعَقْدِ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا صَاحِبِهِ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فَلَا بُدَّ مِنِ الْتِقَاءِ الْإِرَادَتَيْنِ عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ.كَمَا أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا آخَرَ هُوَ أَنَّ الْخِيَارَ يَجْعَلُ الْعَقْدَ غَيْرَ لَازِمٍ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ لَهُ.وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَلَا تَكُونُ إِلاَّ حَيْثُ يَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا لِلطَّرَفَيْنِ.

تَقْسِيمَاتُ الْخِيَارِ

أَوَّلًا- التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ طَبِيعَةِ الْخِيَارِ:

6- يَنْقَسِمُ الْخِيَارُ بِحَسَبِ طَبِيعَتِهِ إِلَى حُكْمِيٍّ وَإِرَادِيٍّ.

فَالْحُكْمِيُّ مَا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ حُكْمِ الشَّارِعِ فَيَنْشَأُ الْخِيَارُ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ وَتَحَقُّقِ الشَّرَائِطِ الْمَطْلُوبَةِ، فَهَذِهِ الْخِيَارَاتُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى اتِّفَاقٍ أَوِ اشْتِرَاطٍ لِقِيَامِهَا، بَلْ تَنْشَأُ لِمُجَرَّدِ وُقُوعِ سَبَبِهَا الَّذِي رُبِطَ قِيَامُهَا بِهِ.

وَمِثَالُهُ: خِيَارُ الْعَيْبِ.

أَمَّا الْإِرَادِيُّ فَهُوَ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ إِرَادَةِ الْعَاقِدِ.

وَالْخِيَارَاتُ الْحُكْمِيَّةُ تَسْتَغْرِقُ مُعْظَمَ الْخِيَارَاتِ، بَلْ هِيَ كُلُّهَا مَا عَدَا الْخِيَارَاتِ الْإِرَادِيَّةَ الثَّلَاثَةَ: خِيَارَ الشَّرْطِ، خِيَارَ النَّقْدِ، خِيَارَ التَّعْيِينِ.

فَمَا وَرَاءَ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ فَإِنَّهُ حُكْمِيُّ الْمَنْشَأِ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ رِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ الْعَاقِدِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يَسْعَى الْإِنْسَانُ لِلْحُصُولِ عَلَيْهِ.

ثَانِيًا- التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ غَايَةِ الْخِيَارِ:

7- يَقُومُ هَذَا التَّقْسِيمُ لِلْخِيَارَاتِ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْغَايَةُ، هَلْ هِيَ التَّرَوِّي وَجَلْبُ الْمَصْلَحَةِ لِلْعَاقِدِ، أَوْ تَكْمِلَةُ النَّقْصِ وَدَرْءُ الضَّرَرِ عَنْهُ؟.

يَقُولُ الْغَزَالِيُّ: يَنْقَسِمُ الْخِيَارُ إِلَى خِيَارِ التَّرَوِّي.وَإِلَى خِيَارِ النَّقِيصَةِ.

وَخِيَارُ التَّرَوِّي: مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى فَوَاتِ وَصْفٍ، وَلَهُ سَبَبَانِ.أَحَدُهُمَا: الْمَجْلِسُ.وَالثَّانِي: الشَّرْطُ.

وَأَمَّا خِيَارُ النَّقِيصَةِ، وَهُوَ: مَا يَثْبُتُ بِفَوَاتِ أَمْرٍ مَظْنُونٍ نَشَأَ الظَّنُّ فِيهِ مِنِ الْتِزَامٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ قَضَاءٍ عُرْفِيٍّ، أَوْ تَغْرِيرٍ فِعْلِيٍّ.ثُمَّ فَرَّعَ الْغَزَالِيُّ مِنْ خِيَارِ النَّقِيصَةِ عِدَّةَ خِيَارَاتٍ.

وَنَحْوُهُ لِلْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ جَرَى خَلِيلٌ عَلَى الْبَدْءِ بِخِيَارِ التَّرَوِّي ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِخِيَارِ النَّقِيصَةِ.

ثَالِثًا- التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ مَوْضُوعِ الْخِيَارِ:

8- أ- خِيَارَاتُ التَّرَوِّي.

1- خِيَارُ الْمَجْلِسِ.

2- خِيَارُ الرُّجُوعِ.

3- خِيَارُ الْقَبُولِ.

4- خِيَارُ الشَّرْطِ.

9- ب- خِيَارَاتُ النَّقِيصَةِ:

1- خِيَارُ الْعَيْبِ.

2- خِيَارُ الِاسْتِحْقَاقِ.

3- خِيَارُ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.

4- خِيَارُ الْهَلَاكِ الْجُزْئِيِّ.

10- ج- خِيَارَاتُ الْجَهَالَةِ:

1- خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:

2- خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ.

3- خِيَارُ كَشْفِ الْحَالِ.

4- خِيَارُ التَّعْيِينِ.

11- د- خِيَارَاتُ التَّغْرِيرِ:

1- خِيَارُ التَّدْلِيسِ الْفِعْلِيِّ (بِالتَّصْرِيَةِ وَنَحْوِهَا) وَالتَّغْرِيرِ الْقَوْلِيِّ.

2- خِيَارُ النَّجْشِ.

3- خِيَارُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ.

12- هـ خِيَارَاتُ الْغَبْنِ:

1- خِيَارُ الْمُسْتَرْسِلِ.

2- خِيَارُ غَبْنِ الْقَاصِرِ وَشِبْهِهِ.

13- و- خِيَارَاتُ الْأَمَانَةِ:

1- خِيَارُ الْمُرَابَحَةِ.

2- خِيَارُ التَّوْلِيَةِ.

3- خِيَارُ التَّشْرِيكِ.

4- خِيَارُ الْمُوَاضَعَةِ.

14- ز- خِيَارَاتُ الْخُلْفِ:

1- خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ.

2- خِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ.

3- خِيَارُ اخْتِلَافِ الْمِقْدَارِ.

15- ح- خِيَارَاتُ اخْتِلَالِ التَّنْفِيذِ:

1- خِيَارُ التَّأْخِيرِ.

16- ك- خِيَارَاتُ امْتِنَاعِ التَّسْلِيمِ:

1- خِيَارُ النَّقْدِ.

2- خِيَارُ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ.

3- خِيَارُ تَسَارُعِ الْفَسَادِ.

4- خِيَارُ التَّفْلِيسِ.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْخِيَارِ:

17- الْغَرَضُ فِي الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةِ: بِالرَّغْمِ مِنْ تَعَدُّدِ أَسْبَابِهَا هُوَ تَلَافِي النَّقْصِ الْحَاصِلِ بَعْدَ تَخَلُّفٍ شَرِيطَةَ لُزُومِ الْعَقْدِ.وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَتْ شَرَائِطُ الِانْعِقَادِ وَالصِّحَّةِ وَالنَّفَاذِ، أَيْ أَنَّ الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةَ لِتَخْفِيفِ مَغَبَّةِ الْإِخْلَالِ بِالْعَقْدِ فِي الْبِدَايَةِ لِعَدَمِ الْمَعْلُومِيَّةِ التَّامَّةِ، أَوْ لِدُخُولِ اللَّبْسِ وَالْغَبْنِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْعَاقِدِ، أَوْ فِي النِّهَايَةِ كَاخْتِلَالِ التَّنْفِيذِ.

فَالْغَايَةُ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةِ تَمْحِيصُ الْإِرَادَتَيْنِ وَتَنْقِيَةُ عُنْصُرِ التَّرَاضِي مِنَ الشَّوَائِبِ تَوَصُّلًا إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ.وَمِنْ هُنَا قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْخِيَارَاتِ إِلَى شَطْرَيْنِ: خِيَارَاتِ التَّرَوِّي، وَخِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ، وَمُرَادُهُمْ بِخِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ الْخِيَارَاتُ الَّتِي تَهْدِفُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ فِي حِينِ تَهْدِفُ خِيَارَاتُ التَّرَوِّي إِلَى جَلْبِ النَّفْعِ لَهُ.

أَمَّا الْغَرَضُ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْإِرَادِيَّةِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ عَنِ الْغَرَضِ مِنَ الْخِيَارِ فِي صَعِيدِ الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةِ.فَفِي الْخِيَارَاتِ الْإِرَادِيَّةِ يَكَادُ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا يَكُونُ أَمْرًا وَاحِدًا هُوَ مَا دَعَاهُ الْفُقَهَاءُ بِالتَّرَوِّي، أَيِ التَّأَمُّلِ فِي صُلُوحِ الشَّيْءِ لَهُ وَسَدِّ حَاجَتِهِ فِي الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ لِلتَّرْفِيهِ عَنِ الْمُتَعَاقِدِ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ يَحْرِصُ عَلَيْهَا.وَالتَّرَوِّي سَبِيلُهُ أَمْرَانِ: (الْمَشُورَةُ) لِلْوُصُولِ إِلَى الرَّأْيِ الْحَمِيدِ، أَوِ الِاخْتِبَارُ وَهُوَ تَبَيُّنُ خَبَرِ الشَّيْءِ بِالتَّجْرِبَةِ أَوِ الِاطِّلَاعِ التَّامِّ عَلَى كُنْهِهِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: «وَالْخِيَارُ يَكُونُ لِوَجْهَيْنِ: لِمَشُورَةٍ وَاخْتِبَارِ الْمَبِيعِ، أَوْ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.وَيَقُولُ بَعْدَئِذٍ: الْعِلَّةُ فِي إِجَازَةِ الْبَيْعِ عَلَى الْخِيَارِ وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى الْمَشُورَةِ فِيهِ، أَوِ الِاخْتِيَارِ».

عَلَى أَنَّ تَعَدُّدَ الْغَرَضِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَقْصِدَ الْمَشُورَةَ وَالِاخْتِبَارَ مَعًا وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُشْتَرِي، أَمَّا الْبَائِعُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ إِلاَّ كَوْنُ الْغَرَضِ الْمَشُورَةَ، لِأَنَّ الْمُبَادَلَةَ مِنْهُ تَهْدِفُ إِلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ لَا مَجَالَ لِاخْتِبَارِهِ غَالِبًا، إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُرَاجِعَ الْبَائِعُ مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي كَوْنِ الثَّمَنِ مُتَكَافِئًا مَعَ الْمَبِيعِ فَلَا غَبْنَ وَلَا وَكْسَ.

وَالتَّرَوِّي- كَمَا يَقُولُ الْحَطَّابُ- لَا يَخْتَصُّ بِالْمَبِيعِ فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا فِي الثَّمَنِ، أَوْ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ.

وَثَمَرَةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْخِيَارِ الِاخْتِبَارَ، فَإِذَا بَيَّنَ الْغَرَضَ مِنَ الْخِيَارِ عُومِلَ حَسْبَ بَيَانِهِ، أَمَّا إِنْ سَكَتَ عَنِ الْبَيَانِ، فَقَدْ قَرَّرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ الْغَرَضِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ الْمَشُورَةُ فَهِيَ مُفْتَرَضَةٌ دَائِمًا، إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّ غَرَضَهُ الِاخْتِبَارُ وَاشْتَرَطَ قَبْضَ السِّلْعَةِ.وَنَصُّ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ فِي هَذَا: «اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي الْخِيَارَ.وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ لِلِاخْتِبَارِ، وَأَرَادَ قَبْضَ السِّلْعَةِ لِيَخْتَبِرَهَا، وَأَبَى الْبَائِعُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّمَا لَكَ الْمَشُورَةُ إِذَا لَمْ تَشْتَرِطْ قَبْضَ السِّلْعَةِ فِي أَمَدِ الْخِيَارِ لِلِاخْتِبَارِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، وَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ».بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَتْ مِنَ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ فِي الْمُشْتَرِي طُولُ مُدَّةِ الْخِيَارِ إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَسْخٌ فِي الْأَجَلِ لِلْمَشُورَةِ الدَّقِيقَةِ.

وَهُنَاكَ ثَمَرَةٌ عَمَلِيَّةٌ أُخْرَى لِتَحْدِيدِ الْغَرَضِ مِنَ الْخِيَارِ (دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْمَشُورَةِ أَوِ الِاخْتِبَارِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا) تِلْكَ هِيَ أَنَّ أَمَدَ الْخِيَارِ- وَهُوَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ مَلْحُوظٌ فِيهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ- شَدِيدُ الِارْتِبَاطِ بِالْغَرَضِ مِنَ الْخِيَارِ فَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي إِجَازَةِ الْمَبِيعِ عَلَى الْخِيَارِ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى الْمَشُورَةِ فِيهِ، أَوِ الِاخْتِبَارِ، فَحَدُّهُ قَدْرُ مَا يُخْتَبَرُ فِيهِ الْمَبِيعُ، وَيُرْتَأَى فِيهِ وَيُسْتَشَارُ، عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَإِسْرَاعِ التَّغَيُّرِ إِلَيْهِ وَإِبْطَائِهِ عَنْهُ..فَأَمَدُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ إِنَّمَا هُوَ بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الِاخْتِبَارِ وَالِارْتِيَاءِ مَعَ مُرَاعَاةِ إِسْرَاعِ التَّغَيُّرِ إِلَى الْمَبِيعِ وَإِبْطَائِهِ عَنْهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ (فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخِيَارُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَوْقَ ثَلَاثٍ.

الْخِيَارُ سَالِبٌ لِلُّزُومِ:

18- إِنَّ سَلْبَ الْخِيَارَاتِ لُزُومُ الْعَقْدِ مِنْ بَدَائِهِ الْفِقْهَ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ الْمُصَنِّفِينَ الَّذِينَ قَسَّمُوا الْعَقْدَ إِلَى لَازِمٍ وَجَائِزٍ عَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لَازِمٌ، وَمُخَيَّرٌ، أَوْ لَازِمٌ وَفِيهِ خِيَارٌ.

وَمُفَادُ سَلْبِ الْخِيَارِ لُزُومُ الْعَقْدِ أَنْ يُجْعَلَ الْعَقْدُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى خِيَارٍ مُسْتَوِيًا فِي الصِّفَةِ مَعَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ كَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَمَعَ هَذَا لَا يَعْسُرُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ نَاشِئٌ عَنْ طَبِيعَتِهَا الْخَاصَّةِ، أَمَّا فِي الْخِيَارَاتِ فَعَدَمُ اللُّزُومِ طَارِئٌ بِسَبَبِهَا.

وَهُنَاكَ عِبَارَاتٌ فِقْهِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّفَاوُتِ فِي مَنْزِلَةِ الْخِيَارَاتِ مِنْ حَيْثُ سَلْبُ اللُّزُومِ نَظَرًا إِلَى أَثَرِ الْخِيَارِ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ هُنَا الْعَقْدُ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ، كَالْبَيْعِ هُوَ عِلَّةٌ لِحُكْمِهِ مِنْ لُزُومِ تَعَاكُسِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَفِي الْبَيْعِ بِخِيَارٍ قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ الْعِلَّةِ (أَيِ الْبَيْعُ) مُقْتَضَاهَا الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْبَيْعِ.

وَبِمَا أَنَّ الْمَوَانِعَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُوَّةِ الْمَنْعِ، فَمِنْهَا مَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ مِنَ الْبِدَايَةِ فَلَا يَدَعُهَا تَمْضِي لِإِحْدَاثِ الْأَثَرِ، وَمِنْهَا مَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْعِلَّةِ، أَيْ نَفَاذَ الْعَقْدِ، بِتَخَلُّفِ إِحْدَى شَرِيطَتَيِ النَّفَاذِ (الْمِلْكِ أَوِ الْوِلَايَةِ، وَانْتِفَاءِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) ثُمَّ يَأْتِي دَوْرُ الْخِيَارَاتِ فِي الْمَنْعِ وَهُوَ مَنْعٌ مُسَلَّطٌ عَلَى (الْحُكْمِ) لَا (الْعِلَّةِ) فَهِيَ قَدْ كُتِبَ لَهَا الِانْعِقَادُ وَالنَّفَاذُ كَسَهْمٍ تَوَفَّرَتْ وَسَائِلُ تَسْدِيدِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ دُونَ أَنْ يَحْجِزَهُ شَيْءٌ عَنْ بُلُوغِ الْهَدَفِ «فَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ (وَنَفَاذِ) الْعِلَّةِ» إِذْ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ خُرُوجُ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَشَبَّهَهُ ابْنُ الْهُمَامِ بِاسْتِتَارِ الْمَرْمِيِّ إِلَيْهِ بِتُرْسٍ يَمْنَعُ مِنْ إِصَابَةِ الْغَرَضِ مِنْهُ.وَيَلِيهِ فِي قُوَّةِ الْمَنْعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ (وَهُوَ غَيْرُ تَمَامِ الْعِلَّةِ) وَأَخِيرًا خِيَارُ الْعَيْبِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ.

وَفَضْلًا عَنِ التَّفَاوُتِ فِي أَثَرِ الْخِيَارِ عَلَى الْعَقْدِ اللاَّزِمِ لِسَلْبِ لُزُومِهِ يُلْحَظُ فَارِقٌ، فِي نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ، بَيْنَ خِيَارِ الْعَيْبِ وَبَيْنَ خِيَارَيِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ فِي وَضْعِهِمَا الشَّرْعِيِّ مِنْ حَيْثُ سَلْبُ اللُّزُومِ بَيْنَ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْأَصَالَةِ أَوِ الْخُلْفِيَّةِ، لِهَذَا الْفَرْقِ فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْفَسْخِ فِي حَقِّ الْكُلِّ أَوْ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَحَسْبُ.

فَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ، لَمَّا أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ فِيهِمَا «ثَبَتَ أَصْلًا لِأَنَّهُمَا يَسْلُبَانِ اللُّزُومَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، فَكَانَ بِالْفَسْخِ مُسْتَوْفِيًا حَقًّا لَهُ، وَوِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ تَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، وَلِذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ»

أَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ لِمَا أَنَّ «حَقَّ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ مَا ثَبَتَ (بِاعْتِبَارِهِ) أَصْلًا.لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ بَلْ (ثَبَتَ) بِغَيْرِهِ، وَهُوَ اسْتِدْرَاكُ حَقِّهِ فِي صِفَةِ السَّلَامَةِ»

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


44-موسوعة الفقه الكويتية (خيار العيب 1)

خِيَارُ الْعَيْبِ -1

التَّعْرِيفُ:

1- (خِيَارُ الْعَيْبِ) مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ (خِيَارٌ) (وَعَيْبٌ).أَمَّا كَلِمَةُ «خِيَارٌ» فَقَدْ سَبَقَ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْخِيَارِ بِوَجْهٍ عَامٍّ بَيَانُ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ وَالِاصْطِلَاحِيِّ أَيْضًا.

أَمَّا كَلِمَةُ عَيْبٍ، فَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ الْفِعْلِ عَابَ، يُقَالُ: عَابَ الْمَتَاعَ يَعِيبُ عَيْبًا: أَيْ صَارَ ذَا عَيْبٍ، وَجَمْعُهُ عُيُوبٌ وَأَعْيَابٌ.قَالَ الْفَيُّومِيُّ: اسْتُعْمِلَ الْعَيْبُ اسْمًا وَجُمِعَ عَلَى عُيُوبٍ.وَالْمَعِيبُ مَكَانُ الْعَيْبِ وَزَمَانُهُ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَلِلْفُقَهَاءِ تَعَارِيفُ مُتَعَدِّدَةٌ لِلْعَيْبِ، مِنْهَا: مَا عَرَّفَهُ بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ وَابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّهُ: مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِمَّا يُعَدُّ بِهِ نَاقِصًا.وَعَرَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّهُ: مَا نَقَصَ عَنِ الْخِلْقَةِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوْ عَنِ الْخَلْقِ الشَّرْعِيِّ نُقْصَانًا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ.

وَعَرَّفَهُ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهُ: كُلُّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ اقْتَضَى الْعُرْفُ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْهُ غَالِبًا.

مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الْعَيْبِ:

2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ: فَمِنَ الْكِتَابِ: اسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ مُنَافٍ لِلرِّضَا الْمَشْرُوطِ فِي الْعُقُودِ، فَالْعَقْدُ الْمُلْتَبِسُ بِالْعَيْبِ تِجَارَةٌ عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ.

فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ لَا يَلْزَمُهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَعِيبُ، بَلْ لَهُ رَدُّهُ وَالِاعْتِرَاضُ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ طَرِيقَةِ الرَّدِّ وَالْإِصْلَاحِ لِذَلِكَ الْخَلَلِ فِي تَكَافُؤِ الْمُبَادَلَةِ.

وَمِنَ السُّنَّةِ: عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ غُلَامًا، فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: غَلَّةُ عَبْدِي، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».وَاسْتَدَلَّ الْكَاسَانِيُّ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الْعَيْبِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ حُصُولِ الْمَبِيعِ السَّلِيمِ، لِأَنَّهُ بَذَلَ الثَّمَنَ لِيُسَلَّمَ لَهُ مَبِيعٌ سَلِيمٌ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِثْبَاتُ النَّبِيِّ الْخِيَارَ بِالتَّصْرِيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهِ بِالْعَيْبِ.

وُجُوبُ الْإِعْلَامِ بِالْعَيْبِ، وَأَدِلَّتُهُ:

3- وُجُوبُهُ عَلَى الْعَاقِدِ:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ إِعْلَامَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ الَّذِي فِي مَبِيعِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَبِّبًا لِلْخِيَارِ فَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُ لَيْسَ مِنَ التَّدْلِيسِ الْمُحَرَّمِ كَمَا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِالْعَيْبِ مَطْلُوبٌ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ- عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا- وَجَعَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَتَحْرِيمُهُ مَعْرُوفٌ.

وَدَلَّ عَلَى هَذَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا:

حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا وَفِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ».

وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا إِلاَّ يُبَيِّنُ مَا فِيهِ، وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلاَّ بَيَّنَهُ».

وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تَشْهَدُ لِلْمَعْنَى السَّابِقِ لِوُرُودِهَا بِتَحْرِيمِ الْغِشِّ، وَكِتْمَانُ الْعَيْبِ غِشٌّ- كَمَا صَرَّحَ السُّبْكِيُّ- وَذَلِكَ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ وَارِدٌ فِي قِصَّةٍ هِيَ: أَنَّهُ «- صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَعْنِي الْمَطَرَ قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».وَهَذَا الْحَدِيثُ يُشِيرُ إِلَى الْإِعْلَامِ بِالْعَيْبِ بِالْفِعْلِ الْمُجْزِئِ عَنْ صَرِيحِ الْقَوْلِ:

وَهَلْ يَظَلُّ الْإِثْمُ لَوْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ بَعْدَ ظُهُورِهِ، ذَلِكَ مَا جَزَمَ بِهِ الشَّوْكَانِيُّ فِي الدُّرَرِ الْبَهِيَّةِ قَائِلًا: (إِنْ رَضِيَهُ فَقَدْ أَثِمَ الْبَائِعُ، وَصَحَّ الْبَيْعُ).

حُكْمُ الْبَيْعِ مَعَ الْكِتْمَانِ:

4- الْبَيْعُ دُونَ بَيَانِ الْعَيْبِ الْمُسَبِّبِ لِلْخِيَارِ صَحِيحٌ مَعَ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ الْمُثْبِتِ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَالتَّصْرِيَةُ عَيْبٌ، وَهَاهُنَا التَّدْلِيسُ لِلْعَيْبِ وَكِتْمَانُهُ لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ، لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِمَعْنًى فِيهِ، أَوْ لِاسْتِلْزَامِهِ أَمْرًا مَمْنُوعًا، أَمَّا هُنَا فَالْعَقْدُ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَصْلًا (لَا لِمَعْنًى فِيهِ وَلَا لِاسْتِلْزَامِهِ مَمْنُوعًا) بَلْ قَدْ تَحَقَّقَ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ الْغِشُّ، وَتِلْكَ أَدْنَى مَرَاتِبِ النَّهْيِ الثَّلَاثِ فَلَا إِثْمَ فِي الْعَقْدِ، بَلِ الْإِثْمُ فِي الْكِتْمَانِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْكِتْمَانِ لَا عَنِ الْعَقْدِ.

وَمِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْبَابِ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى إِبِلًا هِيمًا فَلَمَّا أُخْبِرَ بِعَيْبِهَا رَضِيَهَا وَأَمْضَى الْعَقْدَ.

وُجُوبُهُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِدِ:

5- وُجُوبُ الْإِعْلَامِ بِالْعَيْبِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْبَائِعِ، بَلْ يَمْتَدُّ إِلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لِحَدِيثِ وَاثِلَةَ- وَالْقِصَّةِ الْمَرْوِيَّةِ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ حِينَ كَتَمَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ- وَالْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الْعَدِيدَةِ فِي وُجُوبِ النُّصْحِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ، وَالنَّوَوِيُّ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: وَذَلِكَ مِمَّا لَا أَظُنُّ فِيهِ خِلَافًا.

وَيَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ حَيْثُ يَنْفَرِدُ الْأَجْنَبِيُّ بِعِلْمِ الْعَيْبِ دُونَ الْبَائِعِ نَفْسِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَا يَعْلَمَانِهِ فَالْوُجُوبُ حَيْثُ يَعْلَمُ، أَوْ يَظُنُّ، أَوْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِ، أَمَّا إِنْ عَلِمَ قِيَامَ الْبَائِعِ بِذَلِكَ- أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ لِتَدَيُّنِهِ- فَهُنَاكَ احْتِمَالَانِ

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْوُجُوبِ خَشْيَةَ إِيغَارِ صَدْرِ الْبَائِعِ لِتَوَهُّمِهِ سُوءَ الظَّنِّ بِهِ، وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وُجُوبُ الِاسْتِفْسَارِ مِنَ الْمُشْتَرِي هَلْ أَعْلَمَهُ الْبَائِعُ بِالْعَيْبِ.

وَوَقْتُ الْإِعْلَامِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْأَجْنَبِيِّ قَبْلَ الْبَيْعِ، لِيَكُفَّ عَنِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَجْنَبِيُّ حَاضِرًا، أَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَبَعْدَهُ، لِيَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ خِيَارِ الْعَيْبِ:

الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الْعَيْبِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ (الْمُشْتَرِي) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمُبَادَلَةِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنِ الْعَيْبِ، وَوَصْفُ السَّلَامَةِ يَفُوتُ بِوُجُودِ الْعَيْبِ، فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَتَخَيَّرُ، لِأَنَّ الرِّضَا دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَنْتَفِي الرِّضَا، فَيَتَضَرَّرُ بِلُزُومِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ.

شَرَائِطُ خِيَارِ الْعَيْبِ:

6- يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ لِلْمُشْتَرِي بِشَرَائِطَ ثَلَاثٍ:

1- ظُهُورُ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ.

2- أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ.

3- أَنْ لَا يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ.

(الشَّرِيطَةُ الْأُولَى) ظُهُورُ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ:

7- الْمُرَادُ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ بُرُوزُ الْعَيْبِ وَانْكِشَافُهُ بَعْدَمَا كَانَ خَفِيًّا عَنِ الْمُشْتَرِي، فَلَا حُكْمَ لِلْعَيْبِ قَبْلَ ظُهُورِهِ، لِأَنَّ الْمُفْتَرَضَ أَنَّهُ خَفِيٌّ وَمَجْهُولٌ لِلْمُشْتَرِي فَكَأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ سَالِمًا- فِي نَظَرِهِ- حَتَّى وَجَدَ فِيهِ عَيْبًا.

وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُعْتَبَرًا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِقْهًا- لَا مُطْلَقَ الْعَيْبِ لُغَةً- وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِأَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهِ أَمْرَانِ هُمَا:

1- كَوْنُ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا فِي نَقْصِ الْقِيمَةِ أَوْ فَوَاتِ غَرَضٍ صَحِيحٍ.

2- كَوْنُ الْأَصْلِ فِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ السَّلَامَةُ مِنَ الْعَيْبِ. الْأَمْرُ الْأَوَّلُ- نَقْصُ الْقِيمَةِ، أَوْ فَوَاتُ غَرَضٍ صَحِيحٍ:

8- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الضَّابِطَ لِلْعَيْبِ: هُوَ كُلُّ مَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الْقِيمَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ سَوَاءٌ نَقَّصَ الْعَيْنَ أَمْ لَمْ يُنَقِّصْهَا.

وَقَدْ يُعَبِّرُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ- وَغَيْرُهُمْ- بِالثَّمَنِ بَدَلَ الْقِيمَةِ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَمَّا كَانَ الثَّمَنُ فِي الْغَالِبِ مُسَاوِيًا لِلْقِيمَةِ عَبَّرُوا بِهِ عَنْهَا.

وَالْعَيْبُ الْفَاحِشُ فِي الْمَهْرِ كُلُّ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْجَيِّدِ إِلَى الْوَسَطِ، وَمِنَ الْوَسَطِ إِلَى الرَّدِيءِ.

وَإِنَّمَا لَا يُرَدُّ الْمَهْرُ بِيَسِيرِ الْعَيْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا، وَأَمَّا الْكَيْلِيُّ وَالْوَزْنِيُّ فَيُرَدُّ بِيَسِيرِهِ أَيْضًا.

قَالَ فِي «مُخْتَارِ الْفَتَاوَى»: وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ فِيهِ: كُلُّ عَيْبٍ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، بِأَنْ يُقَوِّمَهُ مُقَوِّمٌ صَحِيحًا بِأَلْفٍ، وَمَعَ الْعَيْبِ بِأَقَلَّ، وَيُقَوِّمَهُ مُقَوِّمٌ آخَرُ مَعَ هَذَا الْعَيْبِ بِأَلْفٍ فَهُوَ يَسِيرٌ، وَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ بِأَنِ اتَّفَقَ الْمُقَوِّمُونَ فِي تَقْوِيمِهِ صَحِيحًا بِأَلْفٍ، وَاتَّفَقُوا فِي تَقْوِيمِهِ مَعَ هَذَا بِأَقَلَّ فَهُوَ فَاحِشٌ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لَا يَدْخُلُ فِي الزَّوَاجِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لِلْمَرْأَةِ حَقُّ الْفَسْخِ بِعُيُوبٍ ثَلَاثَةٍ: الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُطِيقُ الْمُقَامَ مَعَ زَوْجٍ فِيهِ أَحَدُهَا، وَجَاءَ فِي الزَّيْلَعِيِّ وَالْبَدَائِعِ أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَأَنَّ كُلَّ عَيْبٍ تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ تَسْتَحِقُّ بِهِ فَسْخَ الْعَقْدِ.وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ إِلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بِسَبَبِ الْعَيْبِ، وَلَكِنْ بِعُيُوبٍ تُخِلُّ بِمَقْصِدِ الزَّوَاجِ كَالْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: «نِكَاحٌ».

وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمُنْقِصُ لِلْقِيمَةِ أَوِ الْعَيْنِ نُقْصَانًا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي أَمْثَالِ الْمَبِيعِ عَدَمَهُ.وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الضَّابِطُ عَلَى الْعُنْصُرَيْنِ الْمُقَوِّمَيْنِ لَهُ فِي حِينِ خَلَا مِنْهُ تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: إِنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُرَجَّحُ عَنْ ضَوَابِطَ كَثِيرَةٍ أُحِيلَ فِيهَا عَلَى الْعُرْفِ دُونَ ضَبْطِ الْعَيْبِ، وَمُجَرَّدُ الْإِحَالَةِ عَلَى الْعُرْفِ قَدْ يَقَعُ مِنْهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إِلْبَاسٌ.وَأَنَّ اشْتِرَاطَ فَوَاتِ غَرَضٍ صَحِيحٍ هُوَ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ النَّقْصِ الْيَسِيرِ فِي فَخِذِ شَاةٍ أَوْ سَاقِهَا بِشَكْلٍ لَا يُورِثُ شَيْئًا، وَلَا يَفُوتُ بِهِ غَرَضُ صِحَّةِ الْأُضْحِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُطِعَ مِنْ أُذُنِهَا مَا يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ بِهَا.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ نَقْصَ الْعَيْنِ وَحْدَهُ كَافٍ وَلَوْ لَمْ تَنْقُصْ بِهِ الْقِيمَةُ، بَلْ زَادَتْ، وَبِالْمُقَابِلِ إِنَّ مِنَ الْعَيْبِ نَقْصَ الْقِيمَةِ (أَوِ الْمَالِيَّةِ بِعِبَارَةِ ابْنِ قُدَامَةَ) عَادَةً فِي عُرْفِ التُّجَّارِ وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ عَيْنُهُ، عَلَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ نَقِيصَةً يَقْتَضِي الْعُرْفُ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْهَا غَالِبًا، لِأَنَّ الْمَبِيعَ إِنَّمَا صَارَ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فَمَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا يَكُونُ عَيْبًا.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِمَّا يُعَدُّ عَيْبًا، الْبَيْتُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ إِنْسَانٌ وَأَصْبَحَ يُوحِشُ سَاكِنِيهِ وَتَنْفِرُ نُفُوسُهُمْ عَنْهُ، وَيَأْبَى الْعِيَالُ وَالْأَوْلَادُ سُكْنَاهُ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ خَيَالَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ مُفْزِعَةٌ مُقْلِقَةٌ.وَقَدْ جَعَلُوهُ مِمَّا يَنْفِرُ النَّاسُ عَنْهُ، وَتَقِلُّ الرَّغْبَةُ فِيهِ، فَيُبْخَسُ ثَمَنُهُ، فَهُوَ مِنْ تَطْبِيقَاتِ نَقْصِ الْقِيمَةِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي- كَوْنُ الْأَصْلِ سَلَامَةَ أَمْثَالِ الْمَبِيعِ.مِنَ الْعَيْبِ:

9- الْمُرَادُ أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ الْعَارِضِ هِيَ الْأَصْلُ فِي نَوْعِ الْمَبِيعِ وَأَمْثَالِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمَأْلُوفِ وُجُودُهُ فِي أَمْثَالِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ عَيْبًا مُعْتَبَرًا.وَقَدِ اخْتَلَفَتْ تَعَابِيرُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ.وَقَدِ اسْتَدْرَكَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ضَابِطِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَائِلًا: وَقَوَاعِدُنَا لَا تَأْبَاهُ.وَضَرَبُوا لِذَلِكَ مَثَلًا بِوُجُودِ الثُّفْلِ فِي الزَّيْتِ بِالْحَدِّ الْمُعْتَادِ، فَمِنْ تَعَابِيرِ الْفُقَهَاءِ فِي اعْتِمَادِ هَذَا الْأَمْرِ، لِيَكُونَ الْعَيْبُ مُعْتَبَرًا، التَّعْبِيرُ بِكَوْنِ الْغَالِبِ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ عَدَمُهُ، أَوِ اقْتِضَاءُ الْعُرْفِ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْهُ غَالِبًا، أَوْ مَا خَالَفَ الْخِلْقَةَ الْأَصْلِيَّةَ، أَوْ أَصْلَ الْخِلْقَةِ، أَوِ الْخُرُوجُ عَنِ الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، أَوْ مَا نَقَصَ عَنِ الْخِلْقَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوِ الْخَلْقِ الشَّرْعِيِّ (كَمَا يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ)، أَوْ مَا خَالَفَ الْمُعْتَادَ، أَوْ مَا تَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.

الرُّجُوعُ لِلْعُرْفِ فِي تَحَقُّقِ ضَابِطِ الْعَيْبِ

10- تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي كَوْنِ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا (أَيْ مُؤَدِّيًا إِلَى نُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ عَدَمَهُ) إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ.قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُمُ التُّجَّارُ، أَوْ أَرْبَابُ الصَّنَائِعِ إِنْ كَانَ الشَّيْءُ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ، وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: التَّعْوِيلُ فِي الْبَابِ عَلَى عُرْفِ التُّجَّارِ، فَمَا نَقَّصَ الثَّمَنَ (أَيِ الْقِيمَةَ) فِي عُرْفِهِمْ فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ: التَّعْوِيلُ فِي اعْتِبَارِ الشَّيْءِ عَيْبًا أَوْ عَدَمَهُ هُوَ عَلَى عُرْفِ التُّجَّارِ..وَإِنْ كَانَ عَامَّةُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ التُّجَّارِ يَرَوْنَهُ، أَوْ لَا يَرَوْنَهُ.وَلَا شَكَّ أَنَّ ذِكْرَ التُّجَّارِ لَيْسَ تَخْصِيصًا، بَلِ الْمُرَادُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.

وَهَلْ يُشْتَرَطُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ عَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِ الشَّيْءِ عَيْبًا؟ هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ التُّجَّارُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَيْبٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِعَيْبٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا بَيِّنًا عِنْدَ الْكُلِّ.

وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ لَا يُطْلَبُ هَذَا الْإِجْمَاعُ بَلِ التَّعَدُّدُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ عَلَى مَا نَقَلَ السُّبْكِيُّ عَنْ صَاحِبَيِ التَّهْذِيبِ وَالْعُدَّةِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ، وَعَنْ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ.ثُمَّ قَالَ: لَوِ اخْتَلَفَا هَلْ هُوَ عَيْبٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ.

شَرَائِطُ تَأْثِيرِ الْعَيْبِ:

1- أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ نَفْسِهِ:

11- فَفِي الْبَيْعِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَهَذَا طَبِيعِيٌّ، فَالْعُيُوبُ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ لَا أَثَرَ لَهَا كَالْعُيُوبِ فِي شَخْصِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، أَوِ الْعَيْبِ فِي الرَّهْنِ الْمُقَدَّمِ، أَوِ الْكَفِيلِ وَنَحْوِهِ..وَضَرَبَ لَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مَثَلًا بِمَا إِذَا بَاعَ حَقَّ الْكَدَكِ (مِنْ حُقُوقِ الِارْتِفَاقِ فِي الْعَقَارِ) فِي حَانُوتٍ لِغَيْرِهِ فَأَخْبَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّ أُجْرَةَ الْحَانُوتِ كَذَا فَظَهَرَ أَنَّهَا أَكْثَرُ، فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِهَذَا السَّبَبِ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ.

2- أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ قَدِيمًا:

12- وَالْمُرَادُ بِالْقَدِيمِ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ أَوْ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ.فَالْمُقَارِنُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَدَلِيلُ مَا وُجِدَ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ فَكَذَا جُزْؤُهُ وَصِفَتُهُ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَيْبُ قَدِيمًا بَلْ حَدَثَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ لِفَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ دَلَالَةً فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ سَلِيمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، إِذِ الْعَيْبُ لَمْ يَحْدُثْ إِلاَّ بَعْدَ التَّسْلِيمِ.

قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: الْعَيْبُ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ يُوجِبُ الرَّدَّ.

وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ فَأَخَذُوا بِقَضِيَّةِ الْعُهْدَةِ: وَهِيَ عُهْدَتَانِ، الْأُولَى فِي عُيُوبِ الرَّقِيقِ وَيَقُولُونَ فِيهَا بِعُهْدَةِ الثَّلَاثِ، وَالثَّانِيَةُ فِي عُيُوبِ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَيَقُولُونَ فِيهَا بِعُهْدَةِ السُّنَّةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُهْدَةٌ).

وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا تُفْسَخُ بِعَيْبٍ حَادِثٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَوُجُودُ الْعَيْبِ يَحُولُ دُونَ الِانْتِفَاعِ فَيُعْتَبَرُ وَلَوْ كَانَ حَادِثًا.

3- أَنْ لَا يَكُونَ الْعَيْبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ:

13- يُعْتَبَرُ فِي مَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ قَدِيمًا (حَصَلَ قَبْلَ الْقَبْضِ) وَلَكِنَّهُ وُجِدَ بِفِعْلٍ وَقَعَ عَلَى الْمَبِيعِ مِنَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ.وَهَذَا الْقَيْدُ كَالِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا قَبْلَهُ.وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ- وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لَا تَأْبَاهُ- وَقَدْ صَرَّحَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَفْقِدُ الْعَيْبُ أَثَرَهُ.

4- أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ بَاقِيًا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَمُسْتَمِرًّا حَتَّى الرَّدِّ:

14- وَالْمُرَادُ مِنْ بَقَائِهِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ، إِمَّا بِأَنْ يَظَلَّ مَوْجُودًا فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِمَّا بِأَنْ يَخْفَى عِنْدَ التَّسْلِيمِ ثُمَّ يَظْهَرَ ثَانِيَةً فَلَا يُكْتَفَى بِثُبُوتِ قِدَمِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَظُهُورِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ عِنْدَهُ فَقَطْ، كَمَا لَا يُكْتَفَى بِظُهُورِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ خَفَائِهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعُودَ لِلظُّهُورِ ثَانِيَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَيَسْتَمِرَّ بَاقِيًا إِلَى حِينِ الرَّدِّ.

فَفِي شَرِيطَةِ الْبَقَاءِ- أَوِ الْمُعَاوَدَةِ- احْتِرَازٌ عَنِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ إِذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَعَزَمَ عَلَى الرَّدِّ، ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ الرَّدِّ.لِأَنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا هُوَ لِلْعَيْبِ- فَهُوَ سَبَبُهُ- وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَضْحَى سَلِيمًا فَلَا قِيَامَ لِلْخِيَارِ مَعَ سَلَامَتِهِ.هَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحَ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّ الْعَيْبَ الثَّابِتَ عِنْدَ الْبَائِعِ مُحْتَمِلُ الزَّوَالَ قَابِلُ الِارْتِفَاعِ، فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالِاحْتِمَالِ، فَلَا بُدَّ فِي صِفَةِ الْعَيْبِ مِنْ ثُبُوتِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِيُعْلَمَ أَنَّهَا قَائِمَةٌ.وَذَكَرَ الشِّرْوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَيْبَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ، أَوْ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَدْ بَقِيَ إِلَى الْفَسْخِ.

5- أَنْ لَا تُمْكِنَ إِزَالَةُ الْعَيْبِ بِلَا مَشَقَّةٍ:

15- أَمَّا لَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَلَا يَقُومُ حَقُّ الْخِيَارِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى الْقُمَاشِ طَابَعُ الْمَصْنَعِ مَثَلًا، وَكَانَ مِمَّا لَا يَضُرُّهُ الْغَسْلُ، أَوْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ مِنْ جِهَةِ الْبِطَانَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ بِالثَّوْبِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ مِمَّا لَا يَفْسُدُ بِالْغَسْلِ وَلَا يُنْتَقَصُ، لِلتَّمَكُّنِ مِنْ غَسْلِهِ.

وَكَثِيرًا مَا يُهَوِّنُ الْبَائِعُ مِنْ شَأْنِ الْعَيْبِ وَأَنَّهُ سَهْلُ الْإِزَالَةِ، أَوْ لَا يُكَلِّفُ إِلاَّ قَلِيلًا لِإِصْلَاحِهِ ثُمَّ يَظْهَرُ الْعَكْسُ فَمَا مَصِيرُ خِيَارِ الْعَيْبِ بَعْدَ الرِّضَا مِنَ الْمُشْتَرِي؟ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الرَّدِّ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَئِذٍ مَا لَمْ يَحْدُثْ لَدَيْهِ عَيْبٌ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْأَرْشِ، جَاءَ فِي نَوَازِلِ الْوَنْشَرِيسِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ اشْتَرَى دَابَّةً وَبِهَا جُرْحُ رُمْحٍ، فَرَضِيَ بَعْدَمَا قَالَ الْبَائِعُ لَهُ هُوَ جُرْحٌ لَا يَضُرُّهَا،، فَتَغَيَّبَ هَذَا الْمُشْتَرِي نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ الْجُرْحُ فَادِحًا.

(فَأَجَابَ) إِنْ لَمْ يَحْدُثْ بِهَا عِنْدَهُ عَيْبٌ مُفْسِدٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا أَوْ يَتَمَاسَكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ، فَإِنْ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ بَعْدُ، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَقِيمَةَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَأَخَذَ قِيمَةَ الْعَيْبِ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالدَّاءِ.

طُرُقُ إِثْبَاتِ الْعَيْبِ:

16- إِثْبَاتُ الْعَيْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَيْبِ مِنْ حَيْثُ دَرَجَةُ الظُّهُورِ.وَالْعَيْبُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:

1- عَيْبٌ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ.

2- عَيْبٌ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ أَهْلُ الْخِبْرَةِ.

3- عَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ.

4- عَيْبٌ لَا يُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ الْمُجَرَّدَةِ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ.

1- الْعَيْبُ الْمُشَاهَدُ: لَا حَاجَةَ لِتَكْلِيفِ الْمُشْتَرِي إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ؛ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ خُصُومَةِ الْبَائِعِ بِسَبَبِ هَذَا الْعَيْبِ، وَلِلْقَاضِي حِينَئِذٍ النَّظَرُ فِي الْأَمْرِ.

فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ عَادَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا يُكَلَّفُ الْمُشْتَرِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِتَيَقُّنِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ الرِّضَا بِهِ وَالْإِبْرَاءَ عَنْهُ، فَتُطْلَبُ الْبَيِّنَةُ مِنْهُ.

فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ قُضِيَ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ اسْتُحْلِفَ الْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَاهُ، فَإِنْ نَكَلَ (أَحْجَمَ عَنِ الْيَمِينِ) لَمْ يُرَدَّ الْمَبِيعُ الْمَعِيبُ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ حَلَفَ رُدَّ عَلَى الْبَائِعِ.وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِثْلُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِاللَّهِ عَلَى الْبَتَاتِ، أَيْ بِشَكْلٍ بَاتٍّ قَاطِعٍ جَازِمٍ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ الْعِلْمِ: «لَقَدْ بِعْتُهُ وَسَلَّمْتُهُ، وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ، لَا عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا عِنْدَ التَّسْلِيمِ».

2- الْعَيْبُ إِذَا كَانَ بَاطِنًا خَفِيًّا لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْمُخْتَصُّونَ كَالْأَطِبَّاءِ وَالْبَيَاطِرَةِ مِثْلُ وَجَعِ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِمُمَارَسَةِ حَقِّ الْخُصُومَةِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ. 3- الْعَيْبُ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ: يَرْجِعُ الْقَاضِي فِيهِ إِلَى قَوْلِ النِّسَاءِ بَعْدَ أَنْ يَرَيْنَ الْعَيْبَ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِنَّ، بَلْ يَكْفِي قَوْلُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَدْلٍ، وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمَرْأَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ، كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِي النَّسَبِ.

فَإِذَا شَهِدَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْعَيْبِ، فَهُنَاكَ رِوَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَصِّلُهَا أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الثِّنْتَيْنِ يَثْبُتُ بِهَا الْعَيْبُ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فِي حَقِّ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ، لَا فِي حَقِّ الرَّدِّ.

4- الْعَيْبُ الَّذِي لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ عِنْدَ الْخُصُومَةِ وَلَا يُعْرَفُ إِلاَّ بِالتَّجْرِبَةِ: كَالْإِبَاقِ: فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.

وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُشْتَرِي إِثْبَاتَ الْعَيْبِ عِنْدَهُ، هَلْ يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي الْبَائِعَ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟

قَالَ الصَّاحِبَانِ: يَسْتَحْلِفُ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْتَحْلِفُ.

وَكَيْفِيَّةُ اسْتِحْلَافِ الْبَائِعِ: هِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْعِلْمِ، لَا عَلَى الْبَتَاتِ أَيِ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ فَيَقُولَ: بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَيْبَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الشَّيْءِ الْآنَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ: هُوَ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا لَيْسَ بِفِعْلِهِ، أَمَّا مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ (أَيْ بِصِيغَةِ الْبَتِّ وَالْجَزْمِ)، فَإِنْ نَكَلَ- أَيِ الْبَائِعُ- عَنِ الْيَمِينِ، ثَبَتَ الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ، وَإِنْ حَلَفَ بُرِّئَ.

(الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ) الْجَهْلُ بِالْعَيْبِ:

17- فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ، قَالَ السُّبْكِيُّ: «عِنْدَ الْعِلْمِ لَا خِيَارَ».

وَسَوَاءٌ فِي الْعِلْمِ الْمُحْتَرَزِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَهُ عِنْدَ الْقَبْضِ، فَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوِ اشْتَرَاهُ جَاهِلًا بِعَيْبِهِ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ فَقَبَضَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْخِيَارِ، لِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ دَلَالَةً، وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبْضِ، فَكَانَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ كَالْعِلْمِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَكَانَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ حَقِّهِ فِي الْخِيَارِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْقَبْضِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ.قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: (الْعِلْمُ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوِ الْقَبْضِ مُسْقِطٌ لِلرَّدِّ وَالْأَرْشِ). 18- وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ إِنَّمَا هُوَ لِلْعُيُوبِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا تُدْرَكُ بِالنَّظَرِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ بَارِزًا لَا يَخْفَى عِنْدَ الرُّؤْيَةِ غَالِبًا فَيُعْتَبَرُ الْمُتَعَاقِدُ عَالِمًا بِهِ.وَمِثْلُهُ مَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ تَأَمُّلٍ فَدَلَّ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَوْضِعِ الْعَيْبِ أَوْ صِفَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحُولُ دُونَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدِ الْآخَرِ الَّذِي تَعَامَى عَنْ إِبْصَارِ الْعَيْبِ الْوَاضِحِ.كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لَمْ أَرَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ لَا يُعَايَنُ، فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ قِيَامِ الْخِيَارِ بِشَرَائِطِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ خَفِيًّا، لَكِنَّ الْمُتَعَاقِدَ صَرَّحَ بِهِ وَذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ اشْتِرَاطِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ.كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْرًا بَاعَهُ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ يَرْقُدُ فِي الْمِحْرَاثِ أَوْ يَعْصِي فِي الطَّاحُونِ، أَوْ بَاعَ فَرَسًا عَلَى شَرْطِ أَنَّهَا جَمُوحٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ كَذَلِكَ، فَالْبَائِعُ بَرِيءٌ.

وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى خِبْرَةٍ خَاصَّةٍ، وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ بِمَا إِذَا أَقْبَضَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، وَقَالَ لِلْبَائِعِ اسْتَنْقِذْهُ فَإِنَّ فِيهِ زَيْفًا، فَقَالَ: رَضِيتُ بِزَيْفِهِ فَطَلَعَ فِيهِ زَيْفٌ، ذَكَرَ ابْنُ حَجَرِ الْهَيْتَمِيُّ: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْتَى بِأَنَّهُ لَا رَدَّ لَهُ بِهِ، وَلَمْ يَرْتَضِهِ قَائِلًا: وَوَجْهُ رَدِّهِ أَنَّ الزَّيْفَ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ فِي الدِّرْهَمِ بِمُجَرَّدِ مُشَاهَدَتِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرَ الرِّضَا بِهِ.وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِعْلَامَ بِالْعَيْبِ- الَّذِي يَنْتَفِي بِهِ الْخِيَارُ- هُوَ الْإِعْلَامُ الْمُفِيدُ، وَهُنَا لَمْ يَسْتَفِدْ إِلاَّ وُجُودَ زَيْفٍ فِي الثَّمَنِ، أَمَّا كَمْ هُوَ؟ فَلَمْ يُحَدِّدْ.

19- وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صُورَةٍ رُبَّمَا كَانَتْ نَادِرَةً فِي السَّابِقِ، إِلاَّ أَنَّهَا أَصْبَحَتِ الْآنَ مُحْتَمِلَةَ الْوُقُوعِ كَثِيرًا لِتَنَوُّعِ خَصَائِصِ الْأَشْيَاءِ وَخَفَاءِ عِلَلِهَا، بِحَيْثُ يَرَى الْمَرْءُ الْأَمْرَ الَّذِي يُلَابِسُهُ الْعَيْبُ وَلَكِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ، أَوْ يَعْلَمُهُ عَيْبًا وَلَكِنْ يَحْسِبُهُ لَا يُنْقِصُ الْقِيمَةَ وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ.فَإِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْأَمْرِ الْمُعْتَبَرِ عَيْبًا دُونَ أَنْ يَدْرِيَ أَنَّهُ عَيْبٌ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنَّهُ عَيْبٌ، فَالْحُكْمُ هُنَا أَنْ يُنْظَرَ: إِنْ كَانَ عَيْبًا بَيِّنًا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، وَإِنْ كَانَ يَخْفَى وَلَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ ذَوُو الْخِبْرَةِ أَوِ الْمُخْتَصُّونَ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَلَهُ الرَّدُّ.

(الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) عَدَمُ الْبَرَاءَةِ:

20- يُشْتَرَطُ لِقِيَامِ الْخِيَارِ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ أَوِ الْعُيُوبِ الَّتِي فِي الْمَبِيعِ.وَلِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ تَفَاصِيلُ وَافِيَةٌ، بَلِ اقْتِرَانُهَا بِالْبَيْعِ يَجْعَلُ مِنْهُ نَوْعًا خَاصًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ يُدْعَى بَيْعَ الْبَرَاءَةِ. مَسَائِلُ الْبَرَاءَةِ:

21- حُكْمُهَا وَمَجَالُهَا: اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِطِ أَمْ مَجْهُولًا لَهُ، وَمَهْمَا كَانَ مَحَلُّ الْعَقْدِ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْحَيَوَانِ وَحْدَهُ.لِأَنَّ الْحَيَوَانَ قَلَّمَا يَنْفَكُّ عَنْ عَيْبٍ خَفِيٍّ أَوْ ظَاهِرٍ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ لِيَثِقَ بِلُزُومِ الْبَيْعِ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ مِنَ الْخَفِيِّ دُونَ مَا يَعْلَمُهُ.

وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ أَثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- حِينَ بَاعَ غُلَامًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْغُلَامِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي.فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ.وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ.فَقَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ: لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ.فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَحْلِفَ، وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَصَحَّ عِنْدَهُ، فَبَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ.

تَلْخِيصُ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ:

22- الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُبَرَّأَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ.وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدٍ.

الثَّانِي: لَا يُبَرَّأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ حَتَّى يُسَمِّيَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يُعَايَنُ أَمْ لَا، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.

الثَّالِثُ: لَا يُبَرَّأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِوَضْعِ الْيَدِ، إِمَّا الْمُعَايَنَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيمَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ، وَإِمَّا حَقِيقَةُ وَضْعِ الْيَدِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّقْلِ عَنْ شُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَذْهَبِ إِسْحَاقَ.

الرَّابِعُ: لَا يُبَرَّأُ إِلاَّ مِنَ الْعَيْبِ الْبَاطِنِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فِي الْحَيَوَانِ خَاصَّةً، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْقَوْلُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

الْخَامِسُ: أَنَّ الْبَرَاءَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي بَيْعِ السُّلْطَانِ لِلْمَغْنَمِ، أَوْ عَلَى مُفْلِسٍ، أَوْ فِي دُيُونِ الْمَيِّتِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ.

السَّادِسُ: بُطْلَانُ الْبَيْعِ أَصْلًا وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


45-موسوعة الفقه الكويتية (خيار كشف الحال)

خِيَارُ كَشْفِ الْحَالِ

التَّعْرِيفُ:

1- الْكَشْفُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْإِظْهَارُ، وَرَفْعُ شَيْءٍ عَمَّا يُوَارِيهِ وَيُغَطِّيهِ، يُقَالُ: كَشَفَهُ فَانْكَشَفَ.وَالتَّكَشُّفُ مِنْ تَكَشَّفَ أَيْ ظَهَرَ، كَانْكَشَفَ.وَالْحَالُ مَعْرُوفُ الْمَعْنَى.

وَالتَّعْرِيفُ الِاصْطِلَاحِيُّ مُسْتَمَدٌّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَخِيَارُ الْكَشْفِ هُوَ: حَقُّ الْفَسْخِ لِمَنْ ظَهَرَ لَهُ مِقْدَارُ الْمَبِيعِ عَلَى غَيْرِ مَا ظَنَّهُ.

وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَسْمَاءٍ عَدِيدَةٍ مِنْ نَفْسِ الْمَادَّةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَقَدْ دَعَوْهُ: كَشْفَ الْحَالِ، وَانْكِشَافَ الْحَالِ، وَالتَّكَشُّفَ.

وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْخِيَارِ يَظْهَرُ مِنِ اسْتِعْرَاضِ مَجَالِهِ، فَهُوَ يَجْرِي فِي الْمَقَايِيسِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا الْمُتَعَاقِدَانِ أَحْيَانًا بَدَلًا مِنَ الْمَقَايِيسِ الْمُتَعَارَفِ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمِقْيَاسُ مِنْ وَسَائِلِ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ.

وَمِثَالُهُ الْمُتَدَاوَلُ لَدَى الْفُقَهَاءِ.أَنْ يَبِيعَ شَخْصٌ شَيْئًا مِمَّا يُبَاعُ بِالْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ لِتَقْدِيرِهِ الْمَكَايِيلُ أَوِ الْمَوَازِينُ الْمُتَعَارَفُ عَلَيْهَا، بَلْ يَبِيعُهُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ، كَصُنْدُوقٍ أَوْ كِيسٍ.أَوْ بِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ كَذَلِكَ.فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ (سَيَأْتِي بَيَانُهَا) وَمُسْتَتْبَعُ حَقِّ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، أَيْ أَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ لَازِمٍ.

وَفِي صِحَّتِهِ خِلَافٌ عُنِيَتْ بِذِكْرِهِ كُتُبُ الْحَنَفِيَّةِ.

مَشْرُوعِيَّتُهُ:

2- أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا الْخِيَارِ فِي رِوَايَةٍ وَذَكَرُوهُ فِي عِدَادِ الْخِيَارَاتِ الْمُسَمَّاةِ عِنْدَهُمْ.وَأَثْبَتَ هَذَا الْخِيَارَ أَيْضًا الشَّافِعِيَّةُ، وَإِنْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ غَيْرَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَأَحْيَانًا لَمْ يُسَمُّوهُ بَلْ عَبَّرُوا عَنْهُ.

فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: «بِعْتُكَ مِلْءَ هَذَا الْكُوزِ أَوِ الْبَيْتِ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، أَوْ زِنَةَ هَذِهِ الْحَصَاةِ مِنْ هَذَا الذَّهَبِ، هُوَ صَحِيحٌ.لِإِمْكَانِ الْأَخْذِ مِنَ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ تَلَفِهِ.وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ لَا يُشْتَرَطُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: فِي ذِمَّتِي صِفَتُهَا كَذَا».

وَقَدْ مَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَعَدُّوهُ مِنْ أَنْوَاعِ بَيْعِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا.

وَالْمَنْعُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ أَنَّ الْجَهَالَةَ الثَّابِتَةَ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّهُ يَتَعَجَّلُ تَسْلِيمُهُ فِي الْمَجْلِسِ (وَهُوَ أَحَدُ الشُّرُوطِ الْخَاصَّةِ) وَإِنَّمَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ لِلنِّزَاعِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ إِذَا كَالَ بِهِ أَوْ وَزَنَ لِلْمُشْتَرِي، كَمَا فِي الشِّرَاءِ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا، نَصَّ فِي جَمِيعِ النَّوَازِلِ (أَيْ كُتُبِ الْفَتَاوَى) عَلَى أَنَّ فِيهِ الْخِيَارَ إِذَا عَلِمَ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بِالْوَزْنِ.ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ ابْنُ الْهُمَامِ بِمَا نُقِلَ، بَلْ أَتَى بِنَظِيرٍ لِهَذَا الْحُكْمِ فَقَالَ: وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إِذَا بَاعَ صُبْرَةً كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ: أَنَّهُ إِذَا كَالَ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى عَرَفَ الْمِقْدَارَ صَحَّ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي كَمَا إِذَا رَآهُ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ، مَعَ أَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ رَأَى الصُّبْرَةَ قَبْلَ الْكَيْلِ وَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا.

أَمَّا الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَازَفَةً أَوْ بِذِكْرِ الْقَدْرِ، فَفِي الْمُجَازَفَةِ: الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ، وَعِنْدَ ذِكْرِ الْقَدْرِ: الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا سُمِّيَ مِنَ الْقَدْرِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُجَازَفَةٍ، وَلَا سُمِّيَ قَدْرٌ مَعِينٌ إِذْ لَمْ يَكُنَ الْمِكْيَالُ مَعْلُومًا.

شَرَائِطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ خِيَارِ الْكَشْفِ:

3- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ الْمَذْكُورِ الْمُسْتَلْزِمِ خِيَارَ كَشْفِ الْحَالِ:

1- بَقَاءُ الْمِكْيَالِ، أَوِ الْمِيزَانِ، غَيْرِ الْمَعْرُوفِ عَلَى حَالِهِمَا:

فَلَوْ تَلِفَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَدَ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَبْلَغَ مَا بَاعَهُ إِيَّاهُ.وَهَذَا الشَّرْطُ ذَكَرَهُ فِي الْبَحْرِ نَقْلًا عَنِ السِّرَاجِ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مُقِرًّا لَهُ.

2- تَعْجِيلُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ:

أَيْ: تَسْلِيمُهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: «كُلُّ الْعِبَارَاتِ تُفِيدُ تَقْيِيدَ صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ بِالتَّعْجِيلِ» وَمِنْ ذَلِكَ عِبَارَةُ السَّرَخْسِيِّ:

لَوِ اشْتَرَى بِهَذَا الْإِنَاءِ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّ فِي الْمُعَيَّنِ الْبَيْعَ مُجَازَفَةً يَجُوزُ، فَبِمِكْيَالٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْلَى.وَهَذَا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ: عَقِيبَ الْبَيْعِ.

3- يُشْتَرَطُ (فِي الْكَيْلِ خَاصَّةً) أَنْ لَا يَحْتَمِلَ الْمِكْيَالُ الشَّخْصِيُّ النُّقْصَانَ، بِأَنْ لَا يَنْكَبِسَ وَلَا يَنْقَبِضَ، كَأَنْ يَكُونَ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ.أَمَّا إِذَا كَانَ كَالزِّنْبِيلِ وَالْجُوَالِقِ فَلَا يَجُوزُ.

وَمِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ بَيْعُ مِلْءِ قِرْبَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ رَاوِيَةٍ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عِنْدَهُ وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُ الْقِرْبَةِ، لَكِنْ أَطْلَقَ فِي الْمُجَرَّدِ جَوَازَهُ.وَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ الْقِرَبِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الْبَلَدِ مَعَ غَالِبِ السَّقَّائِينَ.وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِذَا مَلأَهَا ثُمَّ تَرَاضَيَا جَازَ.قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَأَمَّا الِاسْتِحْسَانُ الثَّابِتُ بِالتَّعَامُلِ فَمُقْتَضَاهُ الْجَوَازُ بَعْدَ أَنْ يُسَمِّيَ نَوْعَ الْقِرْبَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً.ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ يَسِيرٌ أُهْدِرَ فِي الْمَاءِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


46-موسوعة الفقه الكويتية (دم)

دَمٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الدَّمُ بِالتَّخْفِيفِ، هُوَ ذَلِكَ السَّائِلُ الْأَحْمَرُ الَّذِي يَجْرِي فِي عُرُوقِ الْحَيَوَانَاتِ، وَعَلَيْهِ تَقُومُ الْحَيَاةُ.

وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ عَبَّرُوا بِهِ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْهَدْيِ فِي قَوْلِهِمْ: مُسْتَحِقُّ الدَّمِ (يَعْنِي وَلِيَّ الْقِصَاصِ) وَقَوْلُهُمْ: يَلْزَمُهُ دَمٌ.كَمَا أَطْلَقُوهُ عَلَى مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ فِي الْحَيْضِ، وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَالنِّفَاسِ أَيْضًا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الصَّدِيدُ:

2- صَدِيدُ الْجُرْحِ: مَاؤُهُ الرَّقِيقُ الْمُخْتَلِطُ بِالدَّمِ.وَقِيلَ: هُوَ الْقَيْحُ الْمُخْتَلِطُ بِالدَّمِ، وَالصَّدِيدُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: مَعْنَاهُ: مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ، كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ}.

ب- الْقَيْحُ:

3- الْقَيْحُ: الْمِدَّةُ الْخَالِصَةُ لَا يُخَالِطُهَا دَمٌ.وَقِيلَ: هُوَ الصَّدِيدُ الَّذِي كَأَنَّهُ الْمَاءُ، وَفِيهِ شُكْلَةُ دَمٍ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ نَجَسٌ لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَدْ حُمِلَ الْمُطْلَقُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}

وَاخْتَلَفُوا فِي يَسِيرِهِ عَلَى أَقْوَالٍ.كَمَا اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الْيَسِيرِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.وَرَ: مُصْطَلَحَ: (أَطْعِمَة) (وَوُضُوء) (وَنَجَاسَة).

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

5- تَتَعَلَّقُ بِالدَّمِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ بَحَثَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاضِعِهَا: فَمَسْأَلَةُ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ الدَّمِ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَكَوْنُهُ نَجَسًا تَجِبُ إِزَالَتُهُ عَنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَكَانِهِ بُحِثَ فِي بَابِ النَّجَاسَاتِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَاتِ.وَفِي بَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا وَاعْتِبَارُهُ حَيْضًا أَوِ اسْتِحَاضَةً أَوْ نِفَاسًا، فُصِّلَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَالنِّفَاسِ.وَكَوْنُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الصَّوْمِ فِي بَابِ الصَّوْمِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ.وَانْظُرْ فِي الْمَوْسُوعَةِ الْمُصْطَلَحَاتِ الْآتِيَةَ: (حَدَث) (وَنَجَاسَة) (وَطَهَارَة) (وَحَيْض) (وَاسْتِحَاضَة) (وَنِفَاس) (وَحِجَامَة).

وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى الْهَدْيِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ قَدْ بُحِثَ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَوُجُوبِ الْهَدْيِ فِي التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ، وَالْإِحْصَارِ وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِحْرَام) (وَإِحْصَار) (وَهَدْي) (وَقِرَان).

وَكَوْنُهُ مِمَّا يَحْرُمُ أَكْلُهُ أَوْ يَحِلُّ فِي الْأَطْعِمَةِ.كَمَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ فِي الذَّكَاةِ وَالْعَقِيقَةِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


47-موسوعة الفقه الكويتية (رقص)

رَقْص

التَّعْرِيفُ:

1- الرَّقْصُ وَالرَّقَصُ وَالرَّقَصَانُ مَعْرُوفٌ.

وَهُوَ مَصْدَرُ رَقَصَ يَرْقُصُ رَقْصًا، وَالرَّقْصُ: أَحَدُ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعَلَ فِعْلًا نَحْوُ طَرَدَ طَرَدًا، وَحَلَبَ حَلَبًا.

وَيُقَالُ: أَرْقَصَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا وَرَقَّصَتْهُ، وَفُلَانٌ يَرْقُصُ فِي كَلَامِهِ أَيْ: يُسْرِعُ، وَلَهُ رَقْصٌ فِي الْقَوْلِ أَيْ: عَجَلَةٌ.

فَتَدُورُ مَوَادُّ اللَّفْظِ لُغَةً عَلَى مَعَانِي الْإِسْرَاعِ فِي الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ وَالِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ.

وَالزَّفْنُ: الرَّقْصُ، وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَزْفِنُ لِلْحَسَنِ أَيْ: تُرَقِّصُهُ.

وَاصْطِلَاحًا: عَرَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ الرَّقْصَ بِأَنَّهُ التَّمَايُلُ، وَالْخَفْضُ، وَالرَّفْعُ بِحَرَكَاتٍ مَوْزُونَةٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

(أ) اللَّعِبُ:

2- وَهُوَ طَلَبُ الْفَرَحِ بِمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ.

(ب) اللَّهْوُ:

3- صَرْفُ الْهَمِّ بِمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يُصْرَفَ بِهِ، وَقِيلَ: اللَّهْوُ الِاسْتِمْتَاعُ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا.

وَاللَّعِبُ: الْعَبَثُ، وَقِيلَ: اللَّهْوُ: الْمَيْلُ عَنِ الْجِدِّ إِلَى الْهَزْلِ، وَاللَّعِبُ: تَرْكُ مَا يَنْفَعُ بِمَا لَا يَنْفَعُ.

حُكْمُ الرَّقْصِ:

4- عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَتِ الْحَبَشَةُ يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَيَرْقُصُونَ، يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا يَقُولُونَ؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ».

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا فَسَمِعْنَا لَغَطًا وَصَوْتَ صِبْيَانٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ- أَيْ تَرْقُصُ- وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ تَعَالَيْ فَانْظُرِي».

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْقَفَّالُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ الرَّقْصِ مُعَلِّلِينَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِعْلَهُ دَنَاءَةٌ وَسَفَهٌ، وَأَنَّهُ مِنْ مُسْقِطَاتِ الْمُرُوءَةِ، وَأَنَّهُ مِنَ اللَّهْوِ.قَالَ الْأَبِيُّ: وَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ حَدِيثَ رَقْصِ الْحَبَشَةِ عَلَى الْوَثْبِ بِسِلَاحِهِمْ، وَلَعِبِهِمْ بِحِرَابِهِمْ، لِيُوَافِقَ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ بِحِرَابِهِمْ».

وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَصْحَبِ الرَّقْصَ أَمْرٌ مُحَرَّمٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَيَحْرُمُ اتِّفَاقًا.

وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الرَّقْصِ ذِكْرًا أَوْ عِبَادَةً، بِدْعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ، لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ، وَلَا رَسُولُهُ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، أَوِ السَّلَفِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّقْصَ لَا يَحْرُمُ وَلَا يُكْرَهُ بَلْ يُبَاحُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَ حَبَشَةُ يَزْفِنُونَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ».وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِقْرَارِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِفِعْلِهِمْ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَتِهِ، وَدَلِيلُهُ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ الرَّقْصَ مُجَرَّدُ حَرَكَاتٍ عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَاعْوِجَاجٍ.

وَذَهَبَ الْبُلْقِينِيُّ إِلَى أَنَّ الرَّقْصَ إِذَا كَثُرَ بِحَيْثُ أَسْقَطَ الْمُرُوءَةَ حَرُمَ، وَالْأَوْجَهُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْإِبَاحَةَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكَسُّرٌ كَفِعْلِ الْمُخَنَّثِينَ وَإِلاَّ حَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، أَمَّا مَنْ يَفْعَلُهُ خِلْقَةً مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَلَا يَأْثَمُ بِهِ.

قَالَ فِي الرَّوْضِ: وَبِالتَّكَسُّرِ حَرَامٌ وَلَوْ مِنَ النِّسَاءِ.

شَهَادَةُ الرَّقَّاصِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الرَّقَّاصِ لِأَنَّهُ سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ، وَهِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ.وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إِسْقَاطِ الْمُرُوءَةِ هُوَ الْمُدَاوَمَةُ وَالْإِكْثَارُ مِنَ الرَّقْصِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِمَنْ يَلِيقُ بِهِ الرَّقْصُ، أَمَّا مَنْ لَا يَلِيقُ بِهِ فَتَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ وَلَوْ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.وَالْمَرْجِعُ فِي الْمُدَاوَمَةِ وَالْإِكْثَارِ إِلَى الْعَادَةِ، وَيَخْتَلِفُ الْأَمْرُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّوَاحِي وَالْبِلَادِ، وَقَدْ يُسْتَقْبَحُ مِنْ شَخْصٍ قَدْرٌ لَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ غَيْرِهِ.وَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ يُفِيدُ اعْتِبَارَ الْمُدَاوَمَةِ وَالْإِكْثَارِ كَذَلِكَ، حَيْثُ عَبَّرُوا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ.قَالَ فِي الْبِنَايَةِ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ وَالْمُشَعْوِذِ وَالرَّقَّاصِ وَالسُّخَرَةِ بِلَا خِلَافٍ.

الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الرَّقْصِ:

6- الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الرَّقْصِ يَتْبَعُ حُكْمَ الرَّقْصِ نَفْسِهِ، فَحَيْثُ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا كَانَ حُكْمُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ.

وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّقْصَ حَيْثُ كَانَ حَرَامًا لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الدَّرَاهِمِ لِلرَّقَّاصِ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُتَقَوِّمَةِ، فَحَيْثُ كَانَ الرَّقْصُ حَرَامًا لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ.وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا مُصْطَلَحُ: «إِجَارَة».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


48-موسوعة الفقه الكويتية (فضة)

فِضَّة

التَّعْرِيفُ:

1- الْفِضَّةُ- كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ- مَعْرُوفَةٌ، وَجَاءَ فِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ: الْفِضَّةُ عُنْصُرٌ أَبْيَضُ قَابِلٌ لِلسَّحْبِ وَالطَّرْقِ وَالصَّقْلِ، مِنْ أَكْثَرِ الْمَوَادِّ تَوْصِيلًا لِلْحَرَارَةِ وَالْكَهْرَبَاءِ، وَهُوَ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ فِي صَكِّ النُّقُودِ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِضَّةُ اخْتُصَّتْ بِأَدْوَنِ الْمُتَعَامَلِ بِهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الذَّهَبُ:

2- الذَّهَبُ: الْمَعْدِنُ الْمَعْرُوفُ، وَصِلَتُهُ بِالْفِضَّةِ أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي النَّقْدِيَّةِ، وَثَمَنِيَّةِ الْأَشْيَاءِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفِضَّةِ:

أ- اسْتِعْمَالُ الْأَوَانِي الْمَصْنُوعَةِ مِنَ الْفِضَّةِ:

3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ مِنَ الْأَوَانِي الْمَصْنُوعَةِ مِنَ الْفِضَّةِ حَرَامٌ، مُسْتَدِلِّينَ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا:

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ».

وَبِمَا رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ، فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِي الْآخِرَةِ».

قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إِلاَّ مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُدَ، وَإِلاَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ- وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ- وَلِأَنَّهُ إِذَا حَرُمَ الشُّرْبُ فَالْأَكْلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَطْوَلُ مُدَّةً وَأَبْلَغُ فِي السَّرَفِ.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ النَّوَوِيُّ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الِاسْتِعْمَالَاتِ، وَمِنْهَا تَزْيِينُ الْحَوَانِيتِ وَالْبُيُوتِ بِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَمِنْ قَبْلِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ لَا الْحَرَامِ، وَأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ هِيَ: عَيْنُ الْفِضَّةِ، أَوِ الْخُيَلَاءُ وَالسَّرَفُ.

ب- اقْتِنَاءُ الْفِضَّةِ دُونَ اسْتِعْمَالٍ:

4- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اقْتِنَاءَ الْفِضَّةِ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْأَوَانِي لَا يَحْرُمُ إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْفِضَّةِ عَلَى صُورَةِ الْأَوَانِي وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ، فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ آرَاءٌ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ اقْتِنَاءَ أَوَانِي الْفِضَّةِ تَحْرُمُ كَمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا، لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ، وَلِأَنَّ اتِّخَاذَهُ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِعْمَالِ مُحَرَّمٍ، فَيَحْرُمُ، كَإِمْسَاكِ الْخَمْرِ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُيَلَاءِ وَالسَّرَفِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الِاتِّخَاذِ، وَلِأَنَّ الِاتِّخَاذَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَبَثٌ، فَيَحْرُمُ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ اتِّخَاذَ أَوَانِي الْفِضَّةِ لَا يَحْرُمُ إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ أَوْ وَجْهٌ عَنْ أَحْمَدَ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ بِالِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَحْرُمُ الِاتِّخَاذُ، كَمَا لَوِ اتَّخَذَ الرَّجُلُ ثِيَابَ الْحَرِيرِ وَاقْتَنَاهَا دُونَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا، فَكَذَا اقْتِنَاءُ أَوَانِي الْفِضَّةِ دُونَ اسْتِعْمَالِهَا.

وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِ الِاتِّخَاذِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، فَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: فَإِنِ اتَّخَذَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ إِنَاءَ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ زَكَّيَاهُ فِي الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّخَاذُهُ.

الرَّأْيُ الثَّالِثُ: أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الِاتِّخَاذُ بِقَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ، أَمَّا إِذَا كَانَ اتِّخَاذُهُ بِقَصْدِ الْعَاقِبَةِ، أَوْ لِزَوْجَتِهِ، أَوْ بِنْتِهِ، أَوْ لَا لِشَيْءٍ، فَلَا حُرْمَةَ، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْعَدَوِيُّ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَحَرُمَ اقْتِنَاؤُهُ- أَيِ ادِّخَارُهُ- وَلَوْ لِعَاقِبَةِ دَهْرٍ، لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِلِاسْتِعْمَالِ، وَكَذَا التَّجَمُّلُ بِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَقَوْلُنَا: «وَلَوْ لِعَاقِبَةِ دَهْرٍ» هُوَ مُقْتَضَى النَّقْلِ، وَيُشْعِرُ بِهِ التَّعْلِيلُ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ، إِذِ الْإِنَاءُ لَا يَجُوزُ لِرَجُلٍ وَلَا لِامْرَأَةٍ، فَلَا مَعْنَى لِاِتِّخَاذِهِ لِلْعَاقِبَةِ، بِخِلَافِ الْحُلِيِّ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ اقْتِنَاءَهُ إِنْ كَانَ بِقَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ كَانَ لِقَصْدِ الْعَاقِبَةِ أَوِ التَّجَمُّلِ أَوْ لَا لِقَصْدِ شَيْءٍ، فَفِي كُلٍّ قَوْلَانِ، وَالْمُعْتَمَدُ الْمَنْعُ.

ج- الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ مِنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ:

5- إِذَا تَوَضَّأَ إِنْسَانٌ- رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً- مِنْ إِنَاءِ فِضَّةٍ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ مَذْهَبَانِ:

الْأَوَّلُ لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ وَالِاغْتِسَالُ مِنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَلَا يَجُوزُ فِيهِ أَكْلٌ وَلَا شُرْبٌ، وَلَا طَبْخٌ وَلَا طَهَارَةٌ، وَإِنْ صَحَّتِ الصَّلَاةُ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، تَصِحُّ مَعَ الْحُرْمَةِ.

الثَّانِي: الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ مِنْهُ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (آنِيَة ف 3).

د- التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَخَتُّمِ الرَّجُلِ بِخَاتَمِ الْفِضَّةِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَكْتُبَ إِلَى بَعْضِ الْأَعَاجِمِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ بِخَاتَمٍ، فَاِتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ».

وَيَذْكُرُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ زِيَادَةً عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةٍ: فَكَانَ فِي يَدِهِ حَتَّى قُبِضَ، وَفِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ، وَفِي يَدِ عُمَرَ حَتَّى قُبِضَ، وَفِي يَدِ عُثْمَانَ، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ بِئْرٍ إِذْ سَقَطَ فِي الْبِئْرِ فَأَمَرَ بِهَا فَنُزِحَتْ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَعَدُّدِ خَوَاتِمِ الرَّجُلِ وَمِقْدَارِ وَزْنِ خَاتَمِهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَخَتُّم ف9).

هـ- اتِّخَاذُ السِّنِّ وَنَحْوِهَا مِنَ الْفِضَّةِ:

7- يَجُوزُ اتِّخَاذُ السِّنِّ وَنَحْوِهَا وَشَدُّهَا مِنَ الْفِضَّةِ، قِيَاسًا عَلَى الْأَنْفِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَرَفَةَ أَنَّ جَدَّهُ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ، فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ».

وَمِنَ النُّصُوصِ الْمَذْهَبِيَّةِ فِي هَذَا مَا يَلِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَدَّهَا- يَعْنِي السِّنَّ- بِالْفِضَّةِ، لَا يُكْرَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْأَنْفِ وَالسِّنِّ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ رَبْطِ سِنٍّ تَخَلْخَلَ بِشَرِيطٍ مُطْلَقًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.

وَقَالَ الْمَحَلِّيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَقِيسَ عَلَى الْأَنْفِ الْأُنْمُلَةُ وَالسِّنُّ، وَتَجْوِيزُ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْفِضَّةِ أَوْلَى.

وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ: شَدُّ السِّنِّ الْعَلِيلَةِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَائِزٌ، وَيُبَاحُ أَيْضًا الْأُنْمُلَةُ مِنْهُمَا، وَفِي جَوَازِ الْأُصْبُعِ وَالْيَدِ مِنْهُمَا وَجْهَانِ.

وَالْحَنَابِلَةُ أَبَاحُوا اتِّخَاذَ السِّنِّ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْفِضَّةِ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى يَكُونُ حُكْمُ اتِّخَاذِ الْأَنْفِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْجِرَاحَاتِ، مِنَ الْفِضَّةِ.

و- تَزْيِينُ أَدَوَاتِ الْجِهَادِ وَنَحْوِهَا بِالْفِضَّةِ:

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ تَزْيِينِ أَدَوَاتِ الْجِهَادِ وَنَحْوِهَا بِالْفِضَّةِ، وَإِلَى جَوَازِ تَزْيِينِ الْمُصْحَفِ بِهَا.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا قَالَهُ أَنَسٌ- رضي الله عنه-: «كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِضَّةً» وَالْقَبِيعَةُ مَا كَانَ عَلَى رَأْسِ قَائِمِ السَّيْفِ وَطَرَفِ مِقْبَضِهِ، وَمَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَ سَيْفُ زُبَيْرٍ- رضي الله عنه- مُحَلًّى فِضَّةً وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: أَمَّا السَّيْفُ الْمُضَبَّبُ وَالسِّكِّينُ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ الْمِنْطَقَةُ الْمُضَبَّبَةُ، لِوُرُودِ الْآثَارِ بِالرُّخْصَةِ بِذَلِكَ فِي السِّلَاحِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَصُرُوا إِبَاحَةَ التَّزْيِينِ بِالْفِضَّةِ- وَكَذَا بِالذَّهَبِ- عَلَى الْمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ الْأَنْفِ مِنْهَا، أَوْ رَبْطُ السِّنِّ بِهَا.

ز- الضَّبَّةُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالتَّطْعِيمُ بِهَا:

9- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الضَّبَّةِ مِنَ الْفِضَّةِ فِي الْإِنَاءِ.

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْخِلَافِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ شَرِبَ مِنْ إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ».

فَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ الْإِنَاءَ الْمُضَبَّبَ بِالذَّهَبِ لَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهِ، وَبِالْأَوْلَى يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمُضَبَّبِ بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهَا أَخَفُّ حُرْمَةً مِنَ الذَّهَبِ.

وَاشْتَرَطَ الْمَرْغِينَانِيُّ لِذَلِكَ شَرْطًا، وَهُوَ أَنْ يَتَّقِيَ مَوْضِعَ الْفَمِ، وَأَلْحَقَ بِذَلِكَ الرُّكُوبَ عَلَى السَّرْجِ الْمُفَضَّضِ، وَاشْتَرَطَ عَدَمَ الْمُبَاشَرَةِ لِلضَّبَّةِ مِنَ الْفِضَّةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُضَبَّبِ قَوْلَانِ: الْحُرْمَةُ وَالْجَوَازُ، إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَرَجَّحَ الدَّرْدِيرُ وَالدُّسُوقِيُّ وَالْحَطَّابُ وَابْنُ الْحَاجِبِ الْحُرْمَةَ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: أَنَّ الْمُضَبَّبَ مِنَ الْإِنَاءِ بِفِضَّةٍ ضَبَّةً كَبِيرَةً لِزِينَةٍ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ، وَمَا ضُبِّبَ بِفِضَّةٍ ضَبَّةً صَغِيرَةً بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَلَا يَحْرُمُ، وَإِنْ ضُبِّبَ بِفِضَّةٍ ضَبَّةً صَغِيرَةً لِزِينَةٍ، أَوْ كَبِيرَةً لِحَاجَةٍ، جَازَ فِي الْأَصَحِّ مَعَ الْكَرَاهَةِ نَظَرًا لِلصِّغَرِ وَالْحَاجَةِ، وَضَبَّةُ مَوْضِعِ الِاسْتِعْمَالِ نَحْوِ الشُّرْبِ كَغَيْرِهِ فِيمَا ذُكِرَ فِي الْأَصَحِّ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يَحْرُمُ إِنَاؤُهَا مُطْلَقًا لِمُبَاشَرَتِهَا بِالِاسْتِعْمَالِ.

وَفِي ضَابِطِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الَّذِي يَسْتَوْعِبُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْإِنَاءِ بِكَمَالِهِ، وَالْآخَرُ: الْعُرْفُ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَثِيرَ مَا يَلْمَعُ لِلنَّاظِرِ عَلَى بُعْدٍ، وَالْقَلِيلَ خِلَافُهُ.

وَاخْتَارَ الرَّافِعِيُّ الثَّانِيَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ الثَّالِثَ.

وَجُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الضَّبَّةَ تُبَاحُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ، أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ يَسِيرَةً، وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنَ الْفِضَّةِ، وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ لِلْحَاجَةِ؛ أَيْ لِمَصْلَحَةٍ وَانْتِفَاعٍ، مِثْلِ أَنْ تُجْعَلَ عَلَى شَقٍّ أَوْ صَدْعٍ وَإِنْ قَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَيْسَ هَذَا بِشَرْطٍ، وَيَجُوزُ الْيَسِيرُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الِاسْتِعْمَالَ.

وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يُبَاشَرَ مَوْضِعَ الضَّبَّةِ بِالِاسْتِعْمَالِ، فَلَا يَشْرَبُ مِنْ مَوْضِعِ الضَّبَّةِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالشَّارِبِ مِنْ إِنَاءِ فِضَّةٍ، وَكَرِهَ الْحَلْقَةَ مِنَ الْفِضَّةِ، لِأَنَّ الْقَدَحَ يُرْفَعُ بِهَا، فَيُبَاشِرُهَا بِالِاسْتِعْمَالِ، وَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ.

ح- الْإِنَاءُ الْمُمَوَّهُ بِفِضَّةٍ وَعَكْسُهُ:

10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَوَانِيَ الْمُمَوَّهَةَ بِمَاءِ الْفِضَّةِ إِذَا كَانَ لَا يَخْلُصُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا يَخْلُصُ مِنْهُ شَيْءٌ لَا يَحْرُمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَيُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْأَشْهَرِ عَنْهُ، كَالْمُضَبَّبِ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ فِي الْمُمَوَّهِ، كَالْقَوْلَيْنِ فِي الْمُضَبَّبِ، وَهُمَا التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ، أَوِ الْمَنْعُ وَالْجَوَازُ.

وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمُ الْجَوَازَ نَظَرًا لِقُوَّةِ الْبَاطِنِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ جَوَازَ اسْتِعْمَالِ الْمُمَوَّهِ بِالْفِضَّةِ فِي الْأَصَحِّ، لِقِلَّةِ الْمُمَوَّهِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ مَعْدُومٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي الْمُقَابِلُ لِلْأَصَحِّ، أَنَّهُ يَحْرُمُ لِلْخُيَلَاءِ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ.

فَإِنْ كَثُرَ الْمُمَوَّهُ بِحَيْثُ يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ حَرُمَ جَزْمًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَا يَحْرُمُ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوِ اتَّخَذَ إِنَاءً مِنَ الْفِضَّةِ (أَوِ الذَّهَبِ) وَمَوَّهَهُ بِنُحَاسٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ حَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ حَلَّ اسْتِدَامَتُهُ، وَإِلاَّ فَلَا.

وَمَحَلُّ مَا ذُكِرَ بِالنِّسْبَةِ لِاسْتِدَامَتِهِ، أَمَّا الْفِعْلُ فَحَرَامٌ مُطْلَقًا وَلَوْ عَلَى سَقْفٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ عَلَى الْكَعْبَةِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ اتِّخَاذُ الْإِنَاءِ وَنَحْوِهِ، إِذَا كَانَ مُمَوَّهًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَكَذَا الْمُطَعَّمُ وَالْمَطْلِيُّ وَالْمُكَفَّتُ.

ط- الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ مِنْ فِضَّةٍ:

11- الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمُتَّخَذَيْنِ مِنَ الْفِضَّةِ (وَكَذَا الذَّهَبُ) لَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلِعَدَمِ إِمْكَانِ مُتَابَعَةِ الْمَشْيِ فِيهِمَا.

وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلِعَدَمِ كَوْنِهِمَا مُتَّخَذَيْنِ مِنَ الْجِلْدِ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَكْفِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ مِنَ الْفِضَّةِ لِلرَّجُلِ وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ (فِي الْجُمْلَةِ) لُبْسُ الْخُفَّيْنِ مِنَ الْفِضَّةِ (وَكَذَا الذَّهَبُ) وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْمَلْبُوسِ، لَكِنَّ جَوَازَ اللُّبْسِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، لِتَخَلُّفِ بَعْضِ الشُّرُوطِ، كَالْجِلْدِيَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُتَابَعَةِ الْمَشْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

ي- بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَبَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَعَكْسُهُ:

12- أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ هِيَ: الْحُلُولُ، وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَالتَّمَاثُلُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، وَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْقَلِيلِ، فَهَذَا خَاصٌّ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ كَيْلُهُ مِمَّا يُكَالُ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ الْكَيْلُ وَلَمْ تُوجَدْ، أَمَّا الْيَسِيرُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فَهَذَا مَوْزُونٌ يُمْكِنُ وَزْنُهُ بِمِثْلِهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَعَ شُرُوطِهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

وَإِذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنَ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ كَانَ بَيْعًا رِبَوِيًّا مُحَرَّمًا، أَمَّا بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَعَكْسُهُ فَجَائِزٌ بِشَرْطِ التَّقَابُضِ، يَدُلُّ لِهَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ أَقُولُ: مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَرِنَا ذَهَبَكَ ثُمَّ ائْتِنَا إِذَا جَاءَ خَادِمُنَا نُعْطِكَ وَرِقَكَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَلَا وَاللَّهِ لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَهُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ».

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (رِبًا ف 12 وَمَا بَعْدَهَا)، مُصْطَلَحُ (صَرْف ف 20 وَمَا بَعْدَهَا).

ك- الْغِشُّ فِي الْفِضَّةِ وَأَثَرُهُ فِي الْأَحْكَامِ:

13- يَجُوزُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ التَّعَامُلُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ إِنْ رَاجَتْ، نَظَرًا لِلْعُرْفِ. أَمَّا إِذَا بِيعَتْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُصَارَفَةً، فَقَدْ فَصَّلُوا صُوَرَهَا وَأَحْكَامَهَا عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ فِي مُصْطَلَحِ (صَرْف ف 41 وَمَا بَعْدَهَا).

وَهَذَا فِي التَّعَامُلِ بِالْمَغْشُوشِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِجِنْسِهِ، أَمَّا التَّعَامُلُ بِهِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالسَّلَفِ وَنَحْوِهِ، فَتَفْصِيلُهُ كَمَا يَأْتِي:

فَالْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رَتَّبَ الْكَلَامَ فِي الْمُرَادِ هُنَا وَهُوَ اسْتِقْرَاضُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ وَالشِّرَاءُ بِهَا عَلَى الْكَلَامِ فِي الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْغِشِّ.

أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ- وَهُوَ مَا كَانَتْ فِضَّتُهُ غَالِبَةً عَلَى غِشِّهِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ وَلَا الشِّرَاءُ بِهِ إِلاَّ وَزْنًا، لِأَنَّ الْغِشَّ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا فِيهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَدَدًا، لِأَنَّهَا وَزْنِيَّةٌ، فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ فِيهَا، فَكَانَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُجَازَفَةً، فَلَمْ يَجُزْ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا وَلَا التَّعَامُلُ بِهَا إِلاَّ وَزْنًا، صِيَانَةً لَهَا عَنِ الرِّبَا، وَعَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي- وَهُوَ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ- فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ الْفِضَّةَ إِذَا كَانَتْ تَبْقَى بَعْدَ السَّبْكِ وَيَذْهَبُ الْغِشُّ كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ، وَلَا تَجُوزُ عَدَدًا، وَإِنَّمَا تَجُوزُ وَزْنًا لِإِبْعَادِهَا عَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا، وَإِنْ بَقِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ بَعْدَ السَّبْكِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا جِنْسٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَالْفِضَّةُ لَا تَجُوزُ عَدَدًا لِأَنَّهَا وَزْنِيَّةٌ، وَالصُّفْرُ يُجَوِّزُهُ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمَانِعُ وَالْمُجِيزُ فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ عِنْدَ تَعَارُضِ جِهَتَيِ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ أَحْوَطُ.

أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ- وَهُوَ مَا كَانَ الْغِشُّ فِيهِ غَالِبًا، فَيُنْظَرُ فِيهِ إِلَى عَادَةِ النَّاسِ، فَإِنْ تَعَامَلُوا بِهِ وَزْنًا وَجَبَ التَّعَامُلُ فِيهِ وَزْنًا، لِأَنَّ الْوَزْنَ صِفَةٌ أَصْلِيَّةٌ، وَإِنْ تَعَامَلُوا فِيهِ عَدَدًا جَازَ التَّعَامُلُ بِهِ عَدَدًا، وَمِثْلُ الِاسْتِقْرَاضِ الشِّرَاءُ بِهَا كَمَا سَلَفَ.

هَذَا إِذَا اشْتَرَى بِالْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يُعَيِّنْهَا، فَأَمَّا إِذَا عَيَّنَهَا وَاشْتَرَى بِهَا عَرَضًا، بِأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَرَضَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ وَأَشَارَ إِلَيْهَا، فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ الشِّرَاءِ بِهَا، وَلَا تَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَيُعْطَى مَكَانَهَا مِثْلَهَا مِنْ جِنْسِهَا وَنَوْعِهَا وَقَدْرِهَا وَصِفَتِهَا.

وَالْمَالِكِيَّةُ نَظَرُوا فِي التَّعَامُلِ بِهَا إِلَى مَنْعِ الْغِشِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا بِجَوَازِ التَّعَامُلِ بِهَا وَبَيْعِهَا لِمَنْ يَكْسِرُهَا وَلَا يَغُشُّ بِهَا، فَإِنْ أُمِنَ ذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ رُشْدٍ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ حِينَئِذٍ.

فَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ غِشُّ الْمُسْلِمِينَ بِهِ كُرِهَ الْبَيْعُ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَغُشُّ بِهِ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَيَفْسَخَ بَيْعَهُ إِنْ كَانَ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ لِذَهَابِ عَيْنِهِ أَوْ نَحْوِهِ، فَهَلْ يَمْلِكُ الثَّمَنَ وَيُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ وُجُوبًا، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِالزَّائِدِ عَلَى فَرْضِ بَيْعِهِ مِمَّنْ لَا يَغُشُّ؟ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَرَجَّحَ الْأَخِيرَ الشَّيْخُ الْعَدَوِيُّ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ مَنْعُ التَّعَامُلِ فِي هَذِهِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ إِذَا بِيعَتْ بِمِثْلِهَا أَوْ بِخَالِصِ جِنْسِهَا، أَمَّا شِرَاءُ سِلْعَةٍ أُخْرَى بِهَا فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إِنْ كَانَ الْغِشُّ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ جَازَ الشِّرَاءُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ، فَفِي جَوَازِ إِنْفَاقِهَا وَجْهَانِ.

وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ، وَالثَّانِيَةُ التَّحْرِيمُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي الْجَوَازِ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا ظَهَرَ غِشُّهُ وَاصْطُلِحَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ بِهِ جَائِزَةٌ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ اشْتِمَالِهِ عَلَى جِنْسَيْنِ لَا غَرَرَ فِيهِمَا، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِمَا كَمَا لَوْ كَانَا مُتَمَيِّزَيْنِ، وَلِأَنَّ هَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي الْأَعْصَارِ جَارٍ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَفِي تَحْرِيمِهِ مَشَقَّةٌ وَضَرَرٌ، وَلَيْسَ شِرَاؤُهَا بِهَا غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا تَغْرِيرًا لَهُمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا ظَاهِرٌ مَرْئِيٌّ مَعْلُومٌ.

ل- نِصَابُ الزَّكَاةِ مِنَ الْفِضَّةِ:

14- نِصَابُ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ».

وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:...فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَالتَّفْصِيلُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 67) وَمَا بَعْدَهَا.

م- الدِّيَةُ وَمِقْدَارُهَا مِنَ الْفِضَّةِ:

15- عِنْدَ الْجُمْهُورِ دِيَةُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ دِيَةَ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنَ الْفِضَّةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَات ف 28 وَمَا بَعْدَهَا).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


49-موسوعة الفقه الكويتية (فوات)

فَوَات

التَّعْرِيفُ:

1- الْفَوَاتُ لُغَةً: مَصْدَرُ فَاتَ الْأَمْرُ يَفُوتُهُ فَوْتًا وَفَوَاتًا: ذَهَبَ عَنْهُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا بِمَعْنَى السَّبْقِ، تَقُولُ: فَاتَنِي فُلَانٌ بِكَذَا: أَيْ سَبَقَنِي بِهِ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ خُرُوجُ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا عَنْ وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَائِتُ الْحَجِّ هُوَ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ ثُمَّ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْأَدَاءُ:

2- الْأَدَاءُ لُغَةً: الْإِيصَالُ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: الْأَدَاءُ فِعْلُ بَعْضٍ، وَقِيلَ: كُلُّ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا ثَبَتَ بِالْأَمْرِ.

وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي التَّعْرِيفِ التَّقْيِيدُ بِالْوَقْتِ لِيَشْمَلَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَالْأَمَانَاتِ، وَالْمَنْذُورَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَعُمُّ فِعْلَ الْوَاجِبِ وَالنَّفَلِ.

وَالْأَدَاءُ خِلَافُ الْفَوَاتِ.

ب- الْقَضَاءُ:

3- مِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْأَدَاءُ يُقَالُ: قَضَيْتُ الْحَجَّ وَالدَّيْنَ: أَدَّيْتُهُ، قَالَ تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}، أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا، فَالْقَضَاءُ هُنَا بِمَعْنَى الْأَدَاءِ.وَاسْتَعْمَلَ الْعُلَمَاءُ الْقَضَاءَ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي تُفْعَلُ خَارِجَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا، وَالْأَدَاءَ إذَا فُعِلَتْ فِي الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لَكِنَّهُ اصْطِلَاحٌ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ.

وَالْفَوَاتُ يَكُونُ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ.

ج- الْإِحْصَارُ:

4- الْإِحْصَارُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ.

وَاصْطِلَاحًا: هُوَ الْمَنْعُ مِنْ إتْمَامِ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ.

وَالْإِحْصَارُ سَبَبٌ لِلْفَوَاتِ.

د- الْإِفْسَادُ:

5- الْإِفْسَادُ لُغَةً: ضِدُّ الْإِصْلَاحِ.

وَاصْطِلَاحًا: جَعْلُ الشَّيْءِ فَاسِدًا، سَوَاءٌ وُجِدَ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْمُفْسِدُ، كَمَا لَوِ انْعَقَدَ الْحَجُّ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُهُ، كَالْجِمَاعِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، أَوْ وُجِدَ الْفَسَادُ مَعَ الْعَقْدِ، كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

وَالْإِفْسَادُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفَوَاتِ.

مَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَوَاتُ فِي الْعِبَادَاتِ:

6- الْعِبَادَاتُ الْمُحَدَّدَةُ بِوَقْتٍ تَفُوتُ بِذَهَابِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهَا مِنْ غَيْرِ أَدَاءٍ، وَتَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ- أَيْ تُصْبِحُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ- إلَى أَنْ تُقْضَى.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: أَدَاءٌ ف 7).

7- الْعِبَادَاتُ الْوَاجِبَةُ الْمُطْلَقَةُ: كَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ وُجُوبِ أَدَائِهَا، هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، لَكِنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَضَيَّقُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْأَدَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ غَالِبِ ظَنِّهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: أَدَاءٌ ف 8).

وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُطْلَقَ يَفُوتُ الْمُكَلَّفَ بِوَفَاتِهِ.

فَوَاتُ الْحَجِّ:

8- اُخْتُصَّ الْحَجُّ بِأَنَّ لِفَوَاتِهِ حَالَيْنِ:

الْأُولَى: وَفَاةُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَبْلَ أَدَائِهِ، وَذَلِكَ سَوَاءٌ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرَاخِي، أَوْ عَلَى الْفَوْرِ.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ يَفُوتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِحَيْثُ لَا يُدْرِكُ شَيْئًا مِنْهُ فِي وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ وَمَكَانِهِ الْمُحَدَّدِ، وَلَوْ سَاعَةً لَطِيفَةً، أَيْ أَدْنَى فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ إطْلَاقِهِمْ «فَوَاتُ» أَوْ «فَاتَهُ الْحَجُّ».

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: حَجٌّ ف 123).

9- وَالْأَصْلُ فِي الْحُكْمِ بِفَوَاتِ الْحَجِّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ هُوَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَجُّ عَرَفَةَ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ».

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الْحَجَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ وُجِدَ الْحَجُّ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَفَائِتًا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ تَمَامَ الْحَجِّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَامُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالْوُقُوفِ وَحْدَهُ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ احْتِمَالِ الْفَوَاتِ.

وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ».وَبِذَلِكَ ثَبَتَتِ الْآثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيَأْتِ الْبَيْتَ فَلْيَطُفْ بِهِ سَبْعًا وَيَطَّوَّفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، ثُمَّ لِيَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ إنْ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيُهُ فَلْيَنْحَرْهُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ فَلْيَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ ثُمَّ لِيَرْجِعْ إلَى أَهْلِهِ.

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ- رضي الله عنه- خَرَجَ حَاجًّا، حَتَّى إذَا كَانَ بِالنَّازِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ، فَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- يَوْمَ النَّحْرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ.

كَمَا رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَعَلَيْهِ حَجٌّ مِنْ قَابِلٍ.وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّهَا لَا تَفُوتُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، إنَّمَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ الْعُمُرِ.

(ر: عُمْرَةٌ).

تَحَلُّلُ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ:

10- لَمَّا كَانَ لِلْحَجِّ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ مِنَ الْعَامِ لَا يُؤَدَّى فِي غَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ الْحَجُّ فِي الْعَامِ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمَّا كَانَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، وَلَهُ مَحْظُورَاتٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا، وَيَشُقُّ تَحَمُّلُهَا زَمَنًا طَوِيلًا، فَقَدْ شُرِعَ لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ إحْرَامِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَوَاتُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ.

وَهَذَا التَّحَلُّلُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَقِيَ مُحْرِمًا إلَى الْعَامِ الْقَادِمِ وَصَابَرَ الْإِحْرَامَ، فَحَجَّ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْآثَارِ حَتَّى قِيلَ: هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.

وَلِأَنَّ مُوجَبَ إحْرَامِ حَجِّهِ تَغَيَّرَ شَرْعًا بِالْفَوَاتِ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُوجَبِهِ وَعَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لِئَلاَّ يَصِيرَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ لِلْعَامِ الْقَابِلِ، وَإِنْ شَاءَ تَحَلَّلَ، وَالتَّحَلُّلُ أَفْضَلُ مُطْلَقًا حَسَبَ ظَاهِرِ الْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إنْ دَخَلَ مَكَّةَ أَوْ قَارَبَهَا فَالْأَفْضَلُ لَهُ التَّحَلُّلُ، وَكُرِهَ إبْقَاءُ إحْرَامِهِ، فَإِنْ هَذَا مَحَلُّهُ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهَا فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالْإِحْلَالِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّخْيِيرِ بِمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ: إنَّ تَطَاوُلَ الْمُدَّةِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَفِعْلِ النُّسُكِ لَا يَمْنَعُ إتْمَامَهُ كَالْعُمْرَةِ، وَالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ.

كَيْفِيَّةُ تَحَلُّلِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ:

11- يَظَلُّ الْحَاجُّ الَّذِي فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ عَلَى إحْرَامِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحْظُورَاتِهِ وَمُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِ وَتَلْبِيَتِهِ، حَتَّى يَتَحَلَّلَ مِنْ إحْرَامِهِ.

وَيَحْصُلُ التَّحَلُّلُ لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرِهِ، بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ، وَهَذِهِ هِيَ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ.

12- لَكِنْ هَلْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ هِيَ عَمْرَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ لَا؟

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهَا أَفْعَالُ عُمْرَةٍ، وَلَيْسَتْ عُمْرَةً حَقِيقِيَّةً، لِذَلِكَ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمْ «أَفْعَالُ عُمْرَةٍ» كَمَا ذَكَرْنَا «وَبِعَمَلِ عُمْرَةٍ» وَلَا يَنْقَلِبُ إحْرَامُهُ عُمْرَةً، بَلْ إنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ بَاقٍ إلَى أَنْ يَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.

وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجْعَلُ إحْرَامَهُ بِعُمْرَةٍ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِالْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَفِيهَا قَوْلُهُمْ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ، وَيَذْكُرُونَ الْأَعْمَالَ: الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ وَالْحِلَاقِ، وَلَمْ يُسَمُّوهَا عُمْرَةً.

وَبِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا بِالْعُمْرَةِ حَقِيقَةً، وَاعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، فَالْقَوْلُ بِانْقِلَابِ إحْرَامِ الْحَجِّ إحْرَامَ عُمْرَةٍ تَغْيِيرٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، أَوْ كَمَا قَالَ الرَّمْلِيُّ لِأَنَّ إحْرَامَهُ انْعَقَدَ بِنُسُكٍ فَلَا يَنْصَرِفُ لآِخَرَ، كَعَكْسِهِ أَيْ كَمَا لَا يَنْصَرِفُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحِلَاقِ كَمَا يَتَحَلَّلُ أَهْلُ الْآفَاقِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ، وَلَوِ انْقَلَبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ وَصَارَ مُعْتَمِرًا لَلَزِمَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ، وَهُوَ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ، وَالْحَالُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِانْقِلَابِ إحْرَامِ فَائِتِ الْحَجِّ إلَى عُمْرَةٍ.

وَكَذَلِكَ فَائِتُ الْحَجِّ إذَا جَامَعَ قَبْلَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لِلتَّحَلُّلِ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَلَوْ كَانَ عُمْرَةً لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا كَالْعُمْرَةِ الْمُبْتَدَأَةِ.

وَبِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي الْحَقِيقَةِ تَحَلُّلٌ لَا عُمْرَةٌ بِدَلِيلِ عَدَمِ تَجْدِيدِ إحْرَامٍ لَهَا.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ إحْرَامَ فَائِتِ الْحَجِّ يَنْقَلِبُ عُمْرَةً بِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ السَّابِقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم-، وَفِيهِ «فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ».

وَبِأَنَّهُ يَجُوزُ فَسْخُ إحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ فَوَاتٍ، فَمَعَ الْفَوَاتِ أَوْلَى.

أَحْكَامُ التَّحَلُّلِ لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ:

13- لَا تَحْتَاجُ أَعْمَالُ التَّحَلُّلِ لِفَائِتِ الْحَجِّ إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ بَاقٍ، لَكِنْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّحَلُّلِ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ بِنِيَّةِ التَّحَلُّلِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقِيَاسُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ يُوجِبُ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ أَنْ يَنْوِيَ فَسْخَ حَجِّهِ إلَى عُمْرَةٍ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: إحْرَامٌ ف 127). 14- وَتَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ تَحَلُّلِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِاخْتِلَافِ إحْرَامِهِ: إفْرَادًا كَانَ أَوْ تَمَتُّعًا أَوْ قِرَانًا.

فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا وَفَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.

وَالْمُتَمَتِّعُ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ مِنْ إحْرَامِهِ كَتَحَلُّلِ الْمُفْرِدِ أَيْضًا، وَيَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ، لِأَنَّ شَرْطَ التَّمَتُّعِ وُجُودُ الْحَجِّ فِي سَنَةِ عُمْرَتِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حَتَّى إنْ كَانَ سَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ لِتَمَتُّعِهِ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ

وَإِنْ كَانَ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ قَارِنًا فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُفْرِدُ، لِانْدِمَاجِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ، وَتَفُوتُ الْعُمْرَةُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَفُوتُ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ بَلْ يَلْزَمُهُ إضَافَةً إلَى هَدْيِ التَّحَلُّلُ عِنْدَهُمْ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ فِي التَّحَلُّلِ فَقَالُوا: كُلُّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ وَفَاتَهُ الْحَجُّ يُؤْمَرُ لِأَجْلِ التَّحَلُّلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْحِلِّ ثُمَّ يَقُومُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَيَتَحَلَّلُ، وَذَلِكَ لِيَجْمَعَ فِي إحْرَامِهِ لِتَحَلُّلِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا ثُمَّ أَرْدَفَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي مَكَّةَ وَفَاته الْحَجُّ يَخْرُجُ إلَى الْحِلِّ وَيَعْمَلُ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ وَيَتَحَلَّلُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَيَسْعَى لَهَا، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ لِفَوَاتِ الْحَجِّ وَيَسْعَى لَهُ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ لَا غَيْرُ، لِفَرَاغِ ذِمَّتِهِ مِنْ إحْرَامِ عُمْرَتِهِ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ، وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجِّهِ، وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ وَقْتُهَا، فَيَأْتِي بِهَا، وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ فَلِأَنَّ الْحَجَّةَ قَدْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَفَائِتُ الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَا يَتَحَلَّلُ إلاَّ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ.

وَأَمَّا سُقُوطُ دَمِ الْقِرَانِ فَإِنَّ الْقِرَانَ يَجِبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْجَمْعُ فَلَا يَجِبُ الدَّمُ.

قَضَاءُ الْفَوَائِتِ فِي الْعِبَادَاتِ:

14- يَتَرَتَّبُ عَلَى فَوَاتِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ حُكْمَانِ: أَوَّلُهُمَا: ارْتِكَابُ الْإِثْمِ فِي تَفْوِيتِ الْوَاجِبِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ.

ثَانِيهِمَا: تَعَلُّقُ الْوَاجِبِ بِالذِّمَّةِ وَوُجُوبُ قَضَائِهِ فَيَجِبُ قَضَاءُ الْوَاجِبِ الْفَائِتِ سَوَاءٌ كَانَ تَرْكُهُ خَطَأً أَوْ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِاتِّفَاقٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاءٌ ف 19) (وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ)

15- أَمَّا النَّفَلُ، سَوَاءٌ مِنْهُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْمُتَرَتِّبُ بِسَبَبٍ أَوْ وَقْتٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَضَائِهِ إذَا فَاتَ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: لَا يُقْضَى شَيْءٌ مِنَ السُّنَنِ سِوَى سُنَّةِ الْفَجْرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النَّوَافِلُ قِسْمَانِ:

أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَهَذَا إذَا فَاتَ لَا يُقْضَى.

وَالثَّانِي: مُؤَقَّتٌ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَقْوَالٌ، اخْتَارَ صَاحِبُ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ أَنَّهُ يُسَنُّ قَضَاءُ الرَّوَاتِبِ، إلاَّ مَا فَاتَ مَعَ فَرْضِهِ وَكَثُرَ فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ، إلاَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ فَيَقْضِيهَا مُطْلَقًا لِتَأَكُّدِهَا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاءٌ ف 120) (وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


50-موسوعة الفقه الكويتية (قرعة 1)

قُرْعَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْقُرْعَةُ فِي اللُّغَةِ: السُّهْمَةُ وَالنَّصِيبُ، وَالْمُقَارَعَةُ: الْمُسَاهَمَةُ، وَأَقْرَعْتُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي شَيْءٍ يَقْسِمُونَهُ، وَيُقَالُ: كَانَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، إِذَا قَرَعَ أَصْحَابَهُ، وَقَارَعَهُ فَقَرَعَهُ يَقْرَعُهُ: أَيْ أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ دُونَهُ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ أُخْرَى غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَالَ الْبَرَكَتِيُّ: الْقُرْعَةُ السَّهْمُ وَالنَّصِيبُ، وَإِلْقَاءُ الْقُرْعَةِ: حِيلَةٌ يَتَعَيَّنُ بِهَا سَهْمُ الْإِنْسَانِ أَيْ نَصِيبُهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْقِسْمَةُ:

2- الْقِسْمَةُ فِي اللُّغَةِ مِنْ قَسَمْتُهُ قَسْمًا أَيْ فَرَزْتُهُ أَجْزَاءً.

وَاصْطِلَاحًا: تَمْيِيزُ الْحِصَصِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَالْقُرْعَةِ أَنَّ الْقُرْعَةَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْقِسْمَةِ، وَالْقُرْعَةُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- الْقُرْعَةُ مَشْرُوعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً أَوْ مَنْدُوبَةً أَوْ وَاجِبَةً أَوْ مَكْرُوهَةً أَوْ مُحَرَّمَةً فِي أَحْوَالٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا.

وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

فَأَمَّا مَشْرُوعِيَّتُهَا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أَيْ يَحْضُنُهَا فَاقْتَرَعُوا عَلَيْهَا.

وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنَّ يُونُسَ لِمَنِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: قَوْلُهُ (فَسَاهَمَ) يَقُولُ: أَقْرَعَ.

وَأَمَّا مَشْرُوعِيَّتُهَا مِنَ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «عَرَضَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ».

وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ».

الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا:

4- قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: الْقُرْعَةُ لِتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ وَإِزَاحَةِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ

حَتَّى لَوْ عَيَّنَ الْقَاضِي لِكُلٍّ مِنْهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِ إِقْرَاعٍ جَازَ لِأَنَّهُ فِي الْقَضَاءِ فَيَمْلِكُ الْإِلْزَامَ.

وَجَاءَ فِي تَكْمِلَةِ فَتْحِ الْقَدِيرِ: «أَلَا يُرَى أَنَّ يُونُسَ- عليه السلام- فِي مِثْلِ هَذَا اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَكِنْ لَوْ أَلْقَى بِنَفْسِهِ فِي الْمَاءِ رُبَّمَا نُسِبَ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ فَاسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ زَكَرِيَّا- عليه السلام- اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ مَعَ الْأَحْبَارِ فِي ضَمِّ مَرْيَمَ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُمْ لِكَوْنِ خَالَتِهَا عِنْدَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُقْرِعُ بَيْنَ نِسَائِهِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ.

كَيْفِيَّةُ إِجْرَاءِ الْقُرْعَةِ:

5- لِلْقُرْعَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ طَرِيقَتَانِ:

الْأُولَى: كِتَابَةُ أَسْمَاءِ الشُّرَكَاءِ فِي رِقَاعٍ.

وَالثَّانِيَةُ: كِتَابَةُ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ فِي رِقَاعٍ، وَقَدْ شَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِإِجْرَاءِ الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ تَكُونَ الْأَنْصِبَاءُ مُتَسَاوِيَةً فَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَتَجُوزُ فِي الْعُرُوضِ خَاصَّةً.

وَقَدْ أَجَازَ كُلٌّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِجْرَاءَهَا فِي الصُّورَتَيْنِ إِلاَّ أَنَّ طَرِيقَةَ كِتَابَةِ الْأَسْمَاءِ أَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

مَا تَجْرِي فِيهِ الْقُرْعَةُ:

6- تَجْرِي الْقُرْعَةُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:

الْأَوَّلُ: فِي تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ إِذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ ابْتِدَاءً لِمُبْهَمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ عِنْدَ تَسَاوِي الْمُسْتَحِقِّينَ، كَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عِدَّةِ أَعْبُدٍ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَسَعْ ثُلُثُهُ عِتْقَ جَمِيعِهِمْ، وَفِي الْحَاضِنَاتِ إِذَا كُنَّ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ لِاسْتِوَائِهِنَّ فِي الْحَقِّ فَوَجَبَتِ الْقُرْعَةُ لِأَنَّهَا مُرَجِّحَةٌ.

الثَّانِي: فِي تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ الْمُعَيَّنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ اشْتِبَاهِهِ وَالْعَجْزِ عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَمْوَالُ وَالْأَبْضَاعُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَرَيَانِ الْقُرْعَةِ فِي الْأَبْضَاعِ.

الثَّالِثُ: فِي تَمْيِيزِ الْأَمْلَاكِ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلاَّ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ:

أَحَدُهَا: الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْعَبِيدِ إِذَا لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِهِمْ.

وَثَانِيهَا: الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ تَعْدِيلِ السِّهَامِ فِي الْقِسْمَةِ.

وَثَالِثُهَا: عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ.

الرَّابِعُ: فِي حُقُوقِ الِاخْتِصَاصَاتِ كَالتَّزَاحُمِ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَفِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ.

الْخَامِسُ: فِي حُقُوقِ الْوِلَايَاتِ كَمَا إِذَا تَنَازَعَ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى اثْنَانِ وَتَكَافَآ فِي صِفَاتِ التَّرْجِيحِ قُدِّمَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ، وَكَاجْتِمَاعِ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ، وَالْوَرَثَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَتَجْرِي بَيْنَهُمُ الْقُرْعَةُ لِتَرْجِيحِ أَحَدِهِمْ.

مَا لَا تَجْرِي فِيهِ الْقُرْعَةُ:

7- إِذَا تَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ ضَيَاعُ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَيِّنَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَجْرِي الْقُرْعَةُ فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ وَاتَّفَقَتْ صِفَتُهُ، وَإِنَّمَا يُقْسَمُ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا لَا قُرْعَةً؛ لِأَنَّهُ إِذَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنِ الْقُرْعَةِ فَلَا وَجْهَ لِدُخُولِهَا فِيهِمَا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَمِمَّا لَا تَجْرِي فِيهِ الْقُرْعَةُ الْأَبْضَاعُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَا فِي لِحَاقِ النَّسَبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَلَا فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ الْمُبْهَمِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا ابْتِدَاءً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا فِي الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

إِجْبَارُ الشُّرَكَاءِ عَلَى قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ إِذَا تَمَّتْ عَنْ طَرِيقِ قَاسِمٍ مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي بِالْقُرْعَةِ كَانَتْ مُلْزِمَةً وَلَيْسَ لِبَعْضِهِمُ الْإِبَاءُ بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِ السِّهَامِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَاسِمُ مُخْتَارًا مِنْ جِهَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا كَانَ كَقَاسِمِ الْحَاكِمِ فِي لُزُومِ قِسْمَتِهِ بِالْقُرْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا لَمْ تَلْزَمْ قِسْمَتُهُ إِلاَّ بِتَرَاضِيهِمَا، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ رِضَا الْمُتَقَاسِمَيْنِ بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَ الْقَاسِمُ مُخْتَارًا مِنْ قِبَلِهِمَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْقُرْعَةِ يُجْبَرُ عَلَيْهَا كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ الْآبِينَ إِذَا طَلَبَهَا الْبَعْضُ إِنِ انْتَفَعَ كُلٌّ مِنَ الْآبِينَ وَغَيْرِهِمُ انْتِفَاعًا تَامًّا عُرْفًا بِمَا يُرَادُ لَهُ كَبَيْتِ السُّكْنَى، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْتَفِعْ كُلٌّ انْتِفَاعًا تَامًّا لَا يُجْبَرُ.

الْقُرْعَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحَقِّ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ:

9- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْأَحَقَّ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ أَقَارِبُهُ، فَإِنِ اسْتَوَوْا كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ الْمُسْتَوِينَ وَالزَّوْجَاتِ وَلَا مُرَجِّحَ بَيْنَهُمْ فَالتَّقْدِيمُ بِقُرْعَةٍ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ قُدِّمَ لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ سِوَاهَا.

الْقُرْعَةُ فِي تَقْدِيمِ الْأَحَقِّ بِالْإِمَامَةِ فِي الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ:

10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَوَى اثْنَانِ فَأَكْثَرُ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي يُقَدَّمُ بِهَا لِلْإِمَامَةِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ التَّنَازُعِ.

وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَةُ الصَّلَاةِ ف 14- 18) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (جَنَائِز ف 41).

الْقُرْعَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي السَّفَرِ:

11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الزَّوْجُ السَّفَرَ فَلَهُ اخْتِيَارُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ زَوْجَاتِهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَحَبُّوا الْقُرْعَةَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ.

وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي سَفَرِ الْقُرْبَةِ كَالْغَزْوِ وَالْحَجِّ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُشَاحَّةَ تَعْظُمُ فِي سَفَرِ الْقُرْبَةِ.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقُرْعَةَ تَجِبُ مُطْلَقًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقُرْعَةَ فِي السَّفَرِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَاجِبَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَمْ قَصِيرًا، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ السَّفَرُ قَصِيرًا فَلَا تَجِبُ وَلَا يُسْتَصْحَبُ لِأَنَّهُ كَالْإِقَامَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ).

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الزَّوْجَ إِذَا سَافَرَ لِنُقْلَةٍ حَرُمَ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَ زَوْجَاتِهِ بِقُرْعَةٍ أَوْ بِدُونِهَا وَأَنْ يَخْلُفَهُنَّ حَذَرًا مِنَ الْإِضْرَارِ بِهِنَّ، بَلْ يَنْقُلُهُنَّ أَوْ يُطَلِّقُهُنَّ.

الْقُرْعَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي ابْتِدَاءِ الْمَبِيتِ:

12- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى وُجُوبِ الْقُرْعَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي ابْتِدَاءِ الْمَبِيتِ؛ لِأَنَّ الْبُدَاءَةَ بِإِحْدَاهُنَّ تَفْضِيلٌ لَهَا وَالتَّسْوِيَةُ وَاجِبَةٌ.

وَذَهَبَ ابْنُ الْمَوَّازِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْقُرْعَةِ بَيْنَهُنَّ فِي الِابْتِدَاءِ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ فَلَا يَرَوْنَ الْقُرْعَةَ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ يَبْتَدِئُ بِهَا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ).

الْقُرْعَةُ فِي الطَّلَاقِ:

13- إِذَا كَانَ لِشَخْصٍ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ، فَطَلَّقَ وَاحِدَةً لَا بِعَيْنِهَا، بِأَنْ قَالَ: إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا تَعَيَّنَتْ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَإِنْ لَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَصْرِفُ الطَّلَاقَ إِلَى أَيَّتِهِنَّ شَاءَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي إِلَى طَلَاقِ الْجَمِيعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَلْزَمُهُ التَّعْيِينُ، فَإِنِ امْتَنَعَ حُبِسَ وَعُزِّرَ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ ابْتِدَاءً وَتَعْيِينَهُ، فَإِذَا أَوْقَعَهُ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَلَكَ تَعْيِينَهُ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَا مَلَكَ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- مِنْ قَوْلِهِمَا فِي الْقُرْعَةِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ بُنِيَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ فَتَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ كَالْعِتْقِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَصْلُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَقْرَعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ السِّتَّةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا».

وَلِأَنَّ الْحَقَّ لِوَاحِدٍ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَوَجَبَ تَعْيِينُهُ بِالْقُرْعَةِ.

وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْقُرْعَةِ وَالتَّعْيِينِ، أَقْرَعَ الْوَرَثَةُ بَيْنَهُنَّ، فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا قُرْعَةُ الطَّلَاقِ فَحُكْمُهَا فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ مَا لَوْ عَيَّنَهَا بِالتَّطْلِيقِ.

وَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ وَأُنْسِيَهَا تَخْرُجُ بِالْقُرْعَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَعَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ.

الْقُرْعَةُ فِي الْحَضَانَةِ:

14- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَسَاوَى اثْنَانِ فَأَكْثَرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَضَانَةِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ عَلَى اخْتِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَة ف 10- 14).

الْقُرْعَةُ فِي الْمُوصَى بِعِتْقِهِمْ:

15- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَبِيدًا أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ، وَلَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَّسِعِ الثُّلُثُ لِعِتْقِهِمْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَأُعْتِقَ مِنْهُمْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ- رضي الله عنه-.

الْقُرْعَةُ فِي الْعَطَاءِ وَالْغَنِيمَةِ:

16- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقُرْعَةِ فِي الْغَنِيمَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:

أ- مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ فِيمَنْ يُقَدَّمُ- عِنْدَ الْعَطَاءِ- فَقَالَ: يُقَدَّمُ بِالسَّابِقَةِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ تَقَارَبَا فِيهِ قُدِّمَ بِالدِّينِ، فَإِنْ تَقَارَبَا فِيهِ قُدِّمَ بِالسِّنِّ، فَإِنْ تَقَارَبَا فِيهِ قُدِّمَ بِالشَّجَاعَةِ، فَإِنْ تَقَارَبَا فِيهِ فَوَلِيُّ الْأَمْرِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُرَتِّبَهُمْ بِالْقُرْعَةِ، أَوْ بِرَأْيِهِمْ أَوِ اجْتِهَادِهِ.

ب- وَفِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ حَيْثُ يَخْرُجُ مِنْهَا السَّلَبُ وَالْمُؤَنُ اللاَّزِمَةُ لِلْأُجُورِ وَالْحِفْظِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ الْبَاقِي خَمْسَةَ أَقْسَامٍ مُتَسَاوِيَةٍ يُجْرَى فِيهَا الْقُرْعَةُ لِإِخْرَاجِ سَهْمٍ لِلَّهِ تَعَالَى أَوِ الْمَصَالِحِ.

الْقُرْعَةُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ:

17- تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ لَهُ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ كَمَا يَلِي:

أَوَّلًا: إِذَا ادَّعَى شَخْصَانِ عَيْنًا بِيَدِ ثَالِثٍ، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ مُطْلَقَتَيِ التَّارِيخِ أَوْ مُتَّفِقَتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةٌ وَالْأُخْرَى مُؤَرَّخَةٌ، وَالْحَالُ أَنَّ الْحَائِزَ لِلْعَيْنِ لَمْ يُقِرَّ بِهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالٌ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ تُقْسَمُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ، إِلاَّ أَنَّهَا تُقْسَمُ نِصْفَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ ضَعِيفٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَتُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ الدَّعْوَى- لَا نِصْفَيْنِ- عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ الْقَاسِمِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ سَقَطَتَا وَيُصَارُ إِلَى التَّحَالُفِ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَمِينًا، فَإِنْ رَضِيَا بِيَمِينٍ وَاحِدٍ فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ خِلَافًا لِجَزْمِ الْإِمَامِ بِالْجَوَازِ، وَإِنْ رَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تُسْتَعْمَلَانِ صِيَانَةً لَهُمَا عَنِ الْإِلْغَاءِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيَنْبَنِي عَلَى الِاسْتِعْمَالِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِجْمَالُهَا فِيمَا يَلِي:

أ- تُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَحَدُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَحَمَّادٍ.

ب- أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ وَتُرَجَّحُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَهَذَا ثَانِي الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى رِوَايَةِ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهَلْ يُحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى يَمِينٍ؟ قَوْلَانِ

أَحَدُهُمَا: لَا، وَالْقُرْعَةُ مُرَجِّحَةٌ لِبَيِّنَتِهِ،

وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَالْقُرْعَةُ تَجْعَلُ أَحَدَهُمَا أَحَقَّ بِالْيَمِينِ فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ أَنَّ شُهُودَهُ شَهِدُوا بِالْحَقِّ ثُمَّ يُقْضَى لَهُ.

ج- تُوقَفُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ فِيهَا أَوْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ ثَالِثُ الْأَقْوَالِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ لِأَنَّهُ أَشْكَلَ الْحَالُ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُرْجَى انْكِشَافُهُ فَيُوقَفُ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ يُوقَفُ الْمِيرَاثُ، وَلَمْ يُرَجِّحِ النَّوَوِيُّ شَيْئًا وَلَكِنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ الْجُمْهُورِ تَرْجِيحُ الْوَقْفِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى سُقُوطِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَيَقْتَرِعُ الْمُدَّعِيَانِ عَلَى الْيَمِينِ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ.

ثَانِيًا: وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ بِيَدِهِمَا وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكِيَّتِهِ لَهَا، وَتَسَاوَتِ الْبَيِّنَتَانِ فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يَجْعَلُونَ هَذِهِ الصُّورَةَ كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ مَا عَدَا قَوْلَيِ الْوَقْفِ وَالْقُرْعَةِ، إِذْ يَرَوْنَ بَقَاءَ يَدِ كُلٍّ عَلَى مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الْعَيْنِ بَعْدَ تَسَاقُطِ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَلَا يَجِيءُ الْوَقْفُ إِذْ لَا مَعْنَى لَهُ، وَفِي الْقُرْعَةِ وَجْهَانِ.

وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ عِنْدَهُمْ مَعَ زِيَادَةِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينَ عَلَى صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ الْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ.

وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ حَلَفَ أَنَّهَا لَا حَقَّ لِلْآخَرِ فِيهَا، وَكَانَتِ الْيَمِينُ لَهُ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، وَقَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِلْخَبَرِ.

ثَالِثًا: وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ يُطَالِبُ بِكُلِّ الْعَيْنِ وَالْآخَرُ بِنِصْفِهَا، وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً عَلَى طِبْقِ دَعْوَاهُ، وَالْحَالُ أَنَّ الْعَيْنَ بِيَدِ شَخْصٍ ثَالِثٍ، فَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى رَأْيِهِمُ السَّابِقِ: بِأَنْ تُقْسَمَ بِقَدْرِ دَعْوَى كُلٍّ عَلَى الرَّاجِحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، بَيْنَمَا يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النِّصْفَ لِصَاحِبِ الْكُلِّ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَكَانَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَيِّنَةٌ تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا وَصَارَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا وَإِنْ قُلْنَا: تُسْتَعْمَلُ الْبَيِّنَتَانِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا وَقُدِّمَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالثَّانِي: يُقْسَمُ النِّصْفُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ بَيْنَهُمَا فَيَصِيرُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَإِلَى مِثْلِ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ يَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَمَا يَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ مَعَ الْقَوْلِ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ.

رَابِعًا: وَإِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ ادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا، وَادَّعَى الْآخَرُ نِصْفَهَا، وَالْآخَرُ ثُلُثَهَا، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمْ.وَالْحَالُ أَنَّ الْعَيْنَ بِيَدِ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُقِرَّ بِهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى رَأْيِهِمُ السَّابِقِ بِأَنْ تُقْسَمَ الْعَيْنُ بِقَدْرِ دَعْوَى كُلٍّ عَلَى الرَّاجِحِ، بَيْنَمَا يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى إِعْطَاءِ النِّصْفِ لِمُدَّعِي الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِيهِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِصَاحِبِ الْكُلِّ أَوْ لِصَاحِبِ النِّصْفِ حَلَفَ وَأَخَذَهُ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ حَلَفَ وَأَخَذَ الثُّلُثَ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الْآخَرِينَ فِي السُّدُسِ فَمَنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ حَلَفَ وَأَخَذَهُ.

وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ: فَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى رَأْيِهِمُ السَّابِقِ، وَالْحَنَابِلَةُ يَجْعَلُونَ النِّصْفَ لِمُدَّعِي الْكُلِّ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالسُّدُسُ الزَّائِدُ يَتَنَازَعُهُ مُدَّعِي الْكُلِّ وَمُدَّعِي النِّصْفِ، وَالثُّلُثُ يَدَّعِيهِ الثَّلَاثَةُ وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَاتُ فِيهِ، فَإِنْ قُلْنَا: تَسْقُطُ الْبَيِّنَاتُ أَقْرَعْنَا بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ، فَمَنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ حَلَفَ وَأَخَذَهُ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ.

خَامِسًا: وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا وَالثَّانِي ثُلُثَيْهَا، وَالثَّالِثُ نِصْفَهَا، وَالرَّابِعُ ثُلُثَهَا..وَالدَّارُ فِي يَدِ خَامِسٍ لَا يَدَّعِيهَا وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ: فَالثُّلُثُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فِي الْبَاقِي، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِصَاحِبِ الْكُلِّ أَوْ لِمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ أَخَذَهُ، وَإِنْ وَقَعَتْ لِمُدَّعِي النِّصْفِ أَخَذَهُ وَأُقْرِعَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ إِذْ كَانَ بِالْعِرَاقِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْهُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: لِمُدَّعِي الْكُلِّ الثُّلُثُ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ فِي السُّدُسِ الزَّائِدِ عَنِ النِّصْفِ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مُدَّعِي النِّصْفِ فِي السُّدُسِ الزَّائِدِ عَنِ الثُّلُثِ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي، وَيَكُونُ الْإِقْرَاعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الثُّلُثُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ، وَيُقْسَمُ الزَّائِدُ عَنِ النِّصْفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ يُقْسَمُ السُّدُسُ الزَّائِدُ عَنِ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مُدَّعِي النِّصْفِ أَثْلَاثًا، ثُمَّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَاعًا.

وَيَتَّفِقُ الشَّافِعِيَّةُ مَعَ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ فَارِقٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ، بَيْنَمَا فَرْضُهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيَامُ بَيِّنَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى دَعْوَاهُ.

سَادِسًا: نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ أَخَذَ مِنْ رَجُلَيْنِ ثَوْبَيْنِ أَحَدُهُمَا بِعَشَرَةٍ وَالْآخَرُ بِعِشْرِينَ، ثُمَّ لَمْ يَدْرِ أَيَّهُمَا ثَوْبُ هَذَا مِنْ ثَوْبِ هَذَا، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا ثَوْبًا مِنْ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ، يَعْنِي وَادَّعَاهُ الْآخَرُ، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَكَانَ الثَّوْبُ الْجَيِّدُ لَهُ، وَالْآخَرُ لِلْآخَرِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا تَنَازَعَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا.

سَابِعًا: إِذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذِهِ الْعَيْنُ لِي اشْتَرَيْتُهَا مِنْ زَيْدٍ بِمِائَةٍ وَنَقَدْتُهُ إِيَّاهَا، وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا..وَقَالَ زَيْدٌ: لَا أَعْلَمُ لِمَنْ هِيَ مِنْكُمَا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَأَخَذَهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صُورَةٌ شَبِيهَةٌ بِهَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ فَارِقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إِقَامَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بَيِّنَةً عَلَى طِبْقِ دَعْوَاهُ، وَالْأَثَرُ هُوَ سُقُوطُ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى قَوْلٍ، وَمُقَابِلُهُ: اسْتِعْمَالُهُمَا، فَفِي مَجِيءِ قَوْلِ الْوَقْفِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَيَجِيءُ قَوْلَا الْقُرْعَةِ وَالْقِسْمَةِ، وَالتَّفْرِيعُ كَمَا سَبَقَ.

وَتَكْمِلَةُ فَرْضِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: وَإِنْ أَقَرَّ لَهُمَا فَهِيَ بَيْنَهُمَا وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى إِنْكَارِهِ وَلَا اعْتِرَافِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ زَوَالُ مِلْكِهِ وَأَنَّ يَدَهُ لَا حُكْمَ لَهَا فَلَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ، فَمَنْ قَالَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ فَهِيَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا سِوَى هَذَا، وَمَنْ قَالَ: تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا قُسِمَتْ وَهَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهَا أَقْوَالُهُمُ السَّابِقَةُ، بِالسُّقُوطِ لِلْبَيِّنَتَيْنِ، أَوِ اسْتِعْمَالِهِمَا، وَفِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ، يَجِيءُ الْوَقْفُ عَلَى الْأَصَحِّ فَتُنْزَعُ الدَّارُ مِنْ يَدِهِ وَالثَّمَنَانِ وَيُوقَفُ الْجَمِيعُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقُرْعَةِ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ الدَّارُ بِالثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ وَاسْتَرَدَّ الْآخَرُ الثَّمَنَ الَّذِي أَدَّاهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقِسْمَةِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ وَلَهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ.

بَيْنَمَا يَتَّفِقُ مَوْقِفُ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ الْقَوْلِ الْأَخِيرِ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَقْسِيمِ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا مَعَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا.

ثَامِنًا: إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا، وَادَّعَى الِابْنُ الْآخَرُ وَهُوَ كَافِرٌ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ كَافِرًا، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَبَ مَجْهُولُ الدِّينِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، أَمَّا أَثَرُ الْقُرْعَةِ فِي هَذَا الْخِلَافِ فَهُوَ كَمَا يَلِي: يَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْوَلَدَيْنِ أَخٌ صَغِيرٌ وَتَجَرَّدَتْ دَعْوَاهُمَا عَنِ الْبَيِّنَةِ فَيَحْلِفَانِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، أَيْ يَحْلِفُ كُلٌّ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ عَلَى دِينِهِ وَيَنْبَغِي التَّبْدِئَةُ بِالْقُرْعَةِ بِالْيَمِينِ إِذَا تَنَازَعَا فِيمَنْ يَحْلِفُ مِنْهُمَا أَوَّلًا وَيُوقَفُ لِلصَّغِيرِ الثُّلُثُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَأْتِي هُنَا أَقْوَالُهُمُ السَّابِقَةُ فِي الدَّعَاوَى الْمُتَعَارِضَةِ فَعَلَى قَوْلِ السُّقُوطِ يَسْقُطَانِ، وَيَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَيُصَدَّقُ الْكَافِرُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِعْمَالِ فَعَلَى الْوَقْفِ يُوقَفُ، وَعَلَى الْقُرْعَةِ يُقْرَعُ فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ فَلَهُ التَّرِكَةُ، وَعَلَى الْقِسْمَةِ تُقْسَمُ فَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَغَيْرِ الْإِرْثِ.

كَمَا طَبَّقَ الْحَنَابِلَةُ فِيهَا قَاعِدَتَهُمُ السَّابِقَةَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ تُنْظَرَ فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ فِي أَيْدِيهِمَا قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي أَيْدِيهِمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ كَمَا إِذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا.

تَاسِعًا: كَمَا تَجْرِي الْقَوَاعِدُ السَّابِقَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا مَاتَتِ الزَّوْجَةُ وَالِابْنُ وَاخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَأَخُو الْمَرْأَةِ حَيْثُ قَالَ الزَّوْجُ: مَاتَتِ الزَّوْجَةُ أَوَّلًا فَوَرِثْتُهَا أَنَا وَابْنِي ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ فَوَرِثْتُهُ، وَقَالَ الْأَخُ: مَاتَ الِابْنُ أَوَّلًا فَوَرِثَتْ مِنْهُ أُخْتِي، ثُمَّ مَاتَتْ فَأَرِثُ مِنْهَا، فَفِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ إِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا وَجَرَتْ أَقْوَالُ التَّعَارُضِ السَّابِقَةِ أَيْ مِنَ الْوَقْفِ وَالْقُرْعَةِ وَالْقِسْمَةِ، بَيْنَمَا يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ فِي حَالَةِ التَّعَارُضِ فِي هَذِهِ أَيْضًا إِلَى تَطْبِيقِ قَوَاعِدِهِمْ وَهِيَ: هَلْ تَسْقُطَانِ أَوْ تُسْتَعْمَلَانِ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا؟ أَوْ يَقْتَسِمَانِ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ

عَاشِرًا: كَذَلِكَ تَجْرِي قَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا قَالَ الْمُكْرِي: أَكْرَيْتُكَ هَذَا الْبَيْتَ شَهْرَ كَذَا بِعَشَرَةٍ، فَقَالَ: اكْتَرَيْتُ جَمِيعَ الدَّارِ بِالْعَشَرَةِ..فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ فَقَوْلَانِ.وَقِيلَ: وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى زِيَادَةٍ وَهِيَ اكْتِرَاءُ جَمِيعِ الدَّارِ، وَأَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: يَتَعَارَضَانِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيِ التَّعَارُضِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ: تَحَالَفَا، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِعْمَالِ: جَازَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي الْيَمِينِ مَعَهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ، قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: لَا يُقْرَعُ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ عِنْدَ تَسَاوِي الْجَانِبَيْنِ، وَلَا تَسَاوِي لِأَنَّ جَانِبَ الْمُكْرِي أَقْوَى لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَأَمَّا الْوَقْفُ وَالْقِسْمَةُ فَلَا يَجِبَانِ وَبِنَفْسِ هَذَا التَّصْوِيرِ أَوْرَدَ الْحَنَابِلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، لَكِنْ قَالُوا فِي حَالَةِ التَّعَارُضِ: فَإِنْ قُلْنَا تَسَاقَطَا فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمُكْتَرِي لِأَنَّهَا تَشْهَدُ بِزِيَادَةٍ.

الْبُدَاءَةُ بِالْقُرْعَةِ عِنْدَ التَّحَالُفِ:

18- لَا يُحْتَاجُ إِلَى اسْتِخْدَامِ الْقُرْعَةِ عِنْدَ الْبُدَاءَةِ بِالتَّحَالُفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بَلِ الْقَاعِدَةُ هِيَ: تَخَيُّرُ الْقَاضِي فِي الْبَدْءِ بِتَحْلِيفِ أَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ حَسَبَ مَا يَتَرَجَّحُ لَدَيْهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى الْمُدَّعِيَيْنِ إِنْكَارًا إِلاَّ فِي صُورَتَيْنِ:

الْأُولَى فِي الْبَيْعِ: إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ أَوْ فِيهِمَا: فَيُبْدَأُ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي، وَقِيلَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، هَذَا إِذَا كَانَ بَيْعَ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْعَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ أَوْ ثَمَنٍ بِمُثَمَّنٍ فَالْقَاضِي مُخَيَّرٌ لِلِاسْتِوَاءِ.

الثَّانِيَةُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْأُجْرَةِ، وَادَّعَيَا مَعًا يَحْلِفُ مَنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي الْبَيْعِ بَيْنَمَا لَمْ يُشِرِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ إِلَى الِاقْتِرَاعِ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَبْدَأُ مِنَ الْمُتَحَالِفَيْنِ بِالْيَمِينِ، وَذَلِكَ فِي اخْتِلَافِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَوِ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ، بَلْ يَجْعَلَانِ الْخِيَارَ فِي ذَلِكَ لِلْقَاضِي فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَفِي بَعْضِهَا الْآخَرِ يُبْدَأُ بِتَحْلِيفِ الْمُنْكِرِ، أَوِ الْأَقْوَى إِنْكَارًا مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَلَى الْمَذْهَبِ يَتَخَيَّرُ الْحَاكِمُ فِيمَنْ يَبْدَأُ بِهِ مِنْهُمَا، وَقِيلَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيُبْدَأُ بِمَنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ، وَالْخِلَافُ جَمِيعُهُ فِي الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الِاشْتِرَاطِ.

اسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ فِي إِثْبَاتِ نَسَبِ اللَّقِيطِ:

19- يَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، عَلَى عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي إِثْبَاتِ نَسَبِ اللَّقِيطِ إِلَى أَحَدِ مُدَّعِي نَسَبِهِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَيْنِ بِنَسَبِهِ سَقَطَتَا فِي الْأَظْهَرِ، وَيُرْجَعُ إِلَى قَوْلِ الْقَائِفِ،

وَالثَّانِي: لَا تَسْقُطَانِ، وَتُرَجَّحُ إِحْدَاهُمَا الْمُوَافِقُ لَهَا قَوْلُ الْقَائِفِ بِقَوْلِهِ، فَمَالُ الِاثْنَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُمَا وَجْهَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى قَوْلِ التَّسَاقُطِ فِي التَّعَارُضِ فِي الْأَمْوَالِ، وَلَا يَأْتِي هُنَا مَا فُرِّعَ عَلَى مُقَابِلِهِ مِنْ أَقْوَالِ: الْوَقْفِ وَالْقِسْمَةِ وَالْقُرْعَةِ، وَقِيلَ: تَأْتِي الْقُرْعَةُ هُنَا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا ادَّعَاهُ اثْنَانِ فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا بِهِ بَيِّنَةٌ فَهُوَ ابْنُهُ، وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُمَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا فِي الْمَالِ، إِمَّا بِقِسْمَتِهِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ هَاهُنَا، وَإِمَّا بِالْإِقْرَاعِ بَيْنَهُمَا، وَالْقُرْعَةُ لَا يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ ثُبُوتَهُ هَاهُنَا يَكُونُ بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالْقُرْعَةِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ مُرَجِّحَةٌ، قُلْنَا: يَلْزَمُ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ لُحُوقُهُ بِالْوَطْءِ لَا بِالْقُرْعَةِ.

اسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ فِي إِثْبَاتِ أَحَقِّيَّةِ حَضَانَةِ اللَّقِيطِ:

20- يَذْهَبُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ لِإِثْبَاتِ أَحَقِّيَّةِ أَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ أَخْذَ اللَّقِيطِ بِقَصْدِ حَضَانَتِهِ، أَوْ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْحَضَانَةِ إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمْ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ صَالِحٌ لِذَلِكَ وَاسْتَوَيَا فِي الصِّفَاتِ.

الْقُرْعَةُ عِنْدَ تَنَازُعِ أَوْلِيَاءِ الدِّمَاءِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:

21- مَنْ قَتَلَ جَمْعًا مُرَتَّبًا قُتِلَ بِأَوَّلِهِمْ، أَوْ مَعًا بِأَنْ مَاتُوا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَشْكَلَ الْحَالُ بَيْنَ التَّرْتِيبِ وَالْمَعِيَّةِ فَبِالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ قُتِلَ بِهِ وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَاتُ.

وَهُنَاكَ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَفِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي تَمْكِينِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ مِنَ التَّنْفِيذِ، وَفِي تَمْكِينِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَوِينَ مِنْ تَنْفِيذِ الْقِصَاصِ عِنْدَ التَّنَازُعِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاص).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


51-موسوعة الفقه الكويتية (مراهقة)

مُرَاهَقَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُرَاهَقَةُ لُغَةً مَصْدَرٌ يُقَالُ: رَاهَقَ الْغُلَامُ مُرَاهَقَةً: قَارَبَ الِاحْتِلَامَ وَلَمْ يَحْتَلِمْ بَعْدُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلْمُرَاهَقَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْبُلُوغُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْبُلُوغِ لُغَةً: الْوُصُولُ، وَمِنْ مَعَانِيهِ إِدْرَاكُ سِنِّ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ، يُقَالُ: بَلَغَ الصَّبِيُّ: احْتَلَمَ وَأَدْرَكَ وَقْتَ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ بَلَغَتِ الْفَتَاةُ.

وَاصْطِلَاحًا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ انْتِهَاءُ حَدِّ الصِّغَرِ.

وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ قُوَّةٌ تَحْدُثُ لِلشَّخْصِ تَنْقُلُهُ مِنْ حَالَةِ الطُّفُولِيَّةِ إِلَى حَالِ الرُّجُولِيَّةِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُرَاهَقَةِ وَالْبُلُوغِ أَنَّ الْمُرَاهَقَةَ تَسْبِقُ الْبُلُوغَ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُرَاهِقِ

عَوْرَةُ الْمُرَاهِقِ

3- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَوْرَةَ الْمُرَاهِقِ فِي أَحْكَامِ الْعَوْرَةِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَخُصُّوهُ بِحُكْمٍ فِيهَا، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ خَصَّهُ بِحُكْمٍ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْعَوْرَةِ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مُرَاهِقَةٌ صَلَّتْ عُرْيَانَةً أَوْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ تُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ، وَإِنْ صَلَّتْ بِغَيْرِ قِنَاعٍ فَصَلَاتُهَا تَامَّةٌ اسْتِحْسَانًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: نُدِبَ لِحُرَّةٍ صَغِيرَةٍ سَتْرُ عَوْرَةٍ فِي الصَّلَاةِ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ فَإِنْ كَانَتْ مُرَاهِقَةً وَصَلَّتْ بِغَيْرِ قِنَاعٍ أَعَادَتِ الصَّلَاةَ فِي الظُّهْرَيْنِ لِلِاصْفِرَارِ، وَفِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِلطُّلُوعِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُرَاهِقَةِ كَبِنْتِ ثَمَانِي سِنِينَ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهَا تُؤْمَرُ بِأَنْ تَسْتُرَ مِنْ نَفْسِهَا مَا تَسْتُرُهُ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا إِنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ أَوْ بَادِيَةَ الصَّدْرِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَوْرَةُ حُرَّةٍ مُرَاهِقَةٍ وَمُمَيِّزَةٍ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِتَارُهُمَا كَالْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ احْتِيَاطًا.

نَظَرُ الْمُرَاهِقِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ

4- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاهِقَ فِي نَظَرِهِ لِلْأَجْنَبِيَّةِ كَالْبَالِغِ فَيَلْزَمُ الْوَلِيَّ مَنْعُهُ مِنْهُ وَيَلْزَمُهَا الِاحْتِجَابُ مِنْهُ لِظُهُورِهِ عَلَى الْعَوْرَاتِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}.

وَالثَّانِي: وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ: لَهُ النَّظَرُ كَالْمَحْرَمِ.

تَزْوِيجُ الْمَجْنُونِ الْمُرَاهِقِ

5- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَوَّجُ مَجْنُونٌ ذَكَرٌ صَغِيرٌ- أَيْ لَا يَجُوزُ وَلَا يَصِحُّ- وَلَوْ مُرَاهِقًا وَاحْتَاجَ إِلَى الْخِدْمَةِ وَظَهَرَ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الزَّوَاجِ فِي الْحَالِ، وَبَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يُدْرَى كَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ.

قَسْمُ الْمُرَاهِقِ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ

6- قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْقَسْمَ لِلزَّوْجَاتِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا، وَاشْتَرَطُوا: لِاسْتِحْقَاقِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قَسْمُ الزَّوْجَاتِ ف 8- 9)

طَلَاقُ الْمُرَاهِقِ

7- قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يَقَعُ طَلَاقُ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ لَا تَنْجِيزًا وَلَا تَعْلِيقًا لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، فَلَوْ قَالَ مُرَاهِقٌ: إِذَا بَلَغْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَبَلَغَ، أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا فَبَلَغَ قَبْلَ الْغَدِ فَلَا طَلَاقَ.

تَحْلِيلُ الْمُرَاهِقِ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا

8- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا يُحِلُّهَا وَطْءُ مَنْ تَزَوَّجَهَا بِعَقْدٍ صَحِيحٍ وَلَوْ مُرَاهِقًا يُجَامِعُ مِثْلُهُ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْمُرَاهِقَ هُوَ الدَّانِي مِنَ الْبُلُوغِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ طَلَاقَهُ- أَيْ قَبْلَ الْبُلُوغِ- غَيْرُ وَاقِعٍ، وَقَيَّدَ الْمُرَاهِقَ بِأَنَّهُ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَتَحَرَّكُ آلَتُهُ وَيَشْتَهِي النِّسَاءَ.

وَلَمْ يُعَبِّرِ الشَّافِعِيَّةُ بِلَفْظِ الْمُرَاهِقِ وَلَكِنْ عَبَّرُوا بِكَوْنِهِ مِمَّنْ يُمْكِنُ جِمَاعُهُ لَا طِفْلًا لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ.

اعْتِبَارُ الْمُرَاهِقِ مَحْرَمًا

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى اعْتِبَارِ الْمُرَاهِقِ كَالْبَالِغِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ السَّفَرُ إِلاَّ بِرُفْقَتِهِ إِنْ كَانَ مِنْ مَحَارِمِهَا.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ فَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَحْرَمُ بَالِغًا عَاقِلًا، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قِيلَ لِأَحْمَدَ فَيَكُونُ الصَّبِيُّ مَحْرَمًا؟ قَالَ: لَا حَتَّى يَحْتَلِمَ، لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يَخْرُجُ مَعَ امْرَأَةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَحْرَمِ حِفْظُ الْمَرْأَةِ وَلَا يَحْصُلُ إِلاَّ مِنَ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ.

شَهَادَةُ الْمُرَاهِقِ

10- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَنْعَقِدُ- أَيِ النِّكَاحُ- بِشَهَادَةِ صَبِيَّيْنِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْعَقِدَ بِشَهَادَةِ مُرَاهِقَيْنِ عَاقِلَيْنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


52-موسوعة الفقه الكويتية (مشي)

مَشْيٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَشْيُ لُغَةً السَّيْرُ عَلَى الْقَدَمِ، سَرِيعًا كَانَ أَوْ غَيْرَ سَرِيعٍ، يُقَالُ: مَشَى يَمْشِي مَشْيًا: إِذَا كَانَ عَلَى رِجْلَيْهِ، سَرِيعًا كَانَ أَوْ بَطِيئًا، فَهُوَ مَاشٍ، وَالْجَمْعُ مُشَاةٌ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ:

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- السَّعْيُ:

2- مِنْ مَعَانِي السَّعْيِ فِي اللُّغَةِ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ.

وَالسَّعْيُ فِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا: قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَمِنْهَا: الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ.

قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: السَّعْيُ: الْمَشْيُ السَّرِيعُ وَهُوَ دُونَ الْعَدْوِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ أَنَّ الْمَشْيَ أَعَمُّ مِنَ السَّعْيِ.

ب- الرَّمَلُ

3- الرَّمَلُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- فِي اللُّغَةِ الْهَرْوَلَةُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: رَمَلَ يَرْمُلُ رَمَلًا وَرَمَلَانًا: إِذَا أَسْرَعَ فِي الْمَشْيِ وَهَزَّ مَنْكِبَيْهِ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، لَكِنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ: الرَّمَلُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- هُوَ إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى دُونَ الْوُثُوبِ وَالْعَدْوِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ أَنَّ الرَّمَلَ أَخَصُّ مِنَ الْمَشْيِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَشْيِ:

تَتَعَلَّقُ بِالْمَشْيِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

إِمْكَانِيَّةُ مُتَابَعَةِ الْمَشْيِ فِي الْخُفِّ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ:

4- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ شُرُوطًا مِنْهَا:

أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ مِمَّا يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: مَسْحٌ عَلَى الْخُفَّيْنِ).

الْمَشْيُ فِي الصَّلَاةِ

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا مَشَى فِي صَلَاتِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ مَشْيًا غَيْرَ مُتَدَارَكٍ

بِأَنْ مَشَى قَدْرَ صَفٍّ، ثُمَّ وَقَفَ قَدْرَ رُكْنٍ، ثُمَّ مَشَى قَدْرَ صَفٍّ آخَرَ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ مَشَى قَدْرَ صُفُوفٍ كَثِيرَةٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، إِلاَّ إِنْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ، أَوْ تَجَاوَزَ الصُّفُوفَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ مَشَى مَشْيًا مُتَلَاحِقًا بِأَنْ مَشَى قَدْرَ صَفَّيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَوْ تَجَاوَزَ الصُّفُوفَ فِي الصَّحْرَاءِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْقَلِيلَ غَيْرُ مُفْسِدٍ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ مُتَوَالِيًا، وَعَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَكَانِ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِإِصْلَاحِهَا، وَالْمَسْجِدُ مَكَانٌ وَاحِدٌ حُكْمًا، وَمَوْضِعُ الصُّفُوفِ فِي الصَّحْرَاءِ كَالْمَسْجِدِ، هَذَا إِذَا كَانَ قُدَّامَهُ صُفُوفٌ.

أَمَّا لَوْ كَانَ إِمَامًا فَمَشَى حَتَّى جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِقْدَارَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَسَدَتْ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَالْمُعْتَبَرُ مَوْضِعُ سُجُودِهِ، إِنْ جَاوَزَهُ فَسَدَتْ وَإِلاَّ فَلَا.

وَهَذَا التَّفْصِيلُ كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَاشِي فِي الصَّلَاةِ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، بِأَنْ مَشَى قُدَّامَهُ أَوْ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا أَوْ إِلَى وَرَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلٍ أَوِ اسْتِدْبَارٍ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ فَقَدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ مَشَى قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا أَوْ لَمْ يَمْشِ، لِأَنَّ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ لِغَيْرِ إِصْلَاحِ الصَّلَاةِ وَحْدَهُ مُفْسِدٌ.

وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي رَجُلٍ رَأَى فُرْجَةً فِي الصَّفِّ الَّذِي أَمَامَهُ مُبَاشَرَةً فَمَشَى إِلَى تِلْكَ الْفُرْجَةِ فَسَدَّهَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ مَشَى إِلَى صَفٍّ غَيْرِ الَّذِي أَمَامَهُ مُبَاشَرَةً فَسَدَّ فُرْجَةً فِيهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِمَشْيِ الْمُصَلِّي صَفَّيْنِ لِسُتْرَةٍ يَقْرُبُ إِلَيْهَا، أَوْ دَفْعِ مَارٍّ أَوْ لِذَهَابِ دَابَّةٍ أَوْ لَسَدِّ فُرْجَةٍ فِي صَفٍّ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَشْيُ بِجَنْبٍ أَوْ قَهْقَرَى: بِأَنْ يَرْجِعَ عَلَى ظَهْرِهِ، بِشَرْطِ أَلَا يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ، فِيمَا عَدَا مَسْأَلَةَ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ إِنِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ أَكْثَرَ مِنْ خُطْوَتَيْنِ مُتَوَسِّطَتَيْنِ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ إِنْ تَوَالَتْ لَا إِنْ تَفَرَّقَتْ، أَمَا الْمَشْيُ خُطْوَتَيْنِ فَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنِ اتَّسَعَتْ، كَمَا تَبْطُلُ بِالْوَثْبَةِ الْفَاحِشَةِ مُطْلَقًا.

وَاخْتَلَفُوا فِي مُسَمَّى الْخُطْوَةِ هَلْ هُوَ نَقُلْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ أَوْ نَقْلُ الرِّجْلِ الْأُخْرَى إِلَى مُحَاذَاتِهَا، قَالَ ابْنُ أَبِي الشَّرِيفِ: كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْتَمَلٌ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ.

وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَشْيَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ صِحَّةُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ مَعَ إِمَامِهِ جَائِزٌ، كَمَا إِذَا كَبَّرَ فَذًّا خَلْفَ الْإِمَامِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ إِلَى صَفٍّ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ كَانَا اثْنَيْنِ وَرَاءَ الْإِمَامِ، فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنَ الصَّلَاةِ فَمَشَى الْمَأْمُومُ حَتَّى وَقَفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، أَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ وَاحِدًا فَكَبَّرَ آخَرُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ أَدَارَهُ الْإِمَامُ عَنْ يَمِينِهِ.

وَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَشْيَ الْكَثِيرَ إِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ كَخَوْفٍ أَوْ هَرَبٍ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِضَرُورَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

التَّنَفُّلُ مَاشِيًا

6- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ مَاشِيًا وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ:

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ التَّنَفُّلُ مَاشِيًا، وَعَلَى الرَّاحِلَةِ سَائِرَةً إِلَى جِهَةِ مَقْصِدِهِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ، وَكَذَا الْقَصِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْحَضَرِ عَلَى الصَّحِيحِ بَلْ لَهَا فِيهِ حُكْمُ الْفَرِيضَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ الْقِيَامَ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ لِلرَّاكِبِ وَالْمَاشِي فِي الْحَضَرِ مُتَرَدِّدًا فِي جِهَةِ مَقْصِدِهِ، وَاخْتَارَ الْقَفَّالُ الْجَوَازَ بِشَرْطِ الِاسْتِقْبَالِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِ الِاسْتِقْبَالِ لِمُتَنَفِّلٍ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي سَفَرٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وَلَوْ كَانَ السَّفَرُ قَصِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: نَزَلَتْ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ يُومِئُ، وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- يَفْعَلُهُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَأَلْحَقَ الْمَاشِي بِالرَّاكِبِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أُبِيحَتْ لِلرَّاكِبِ لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ عَنِ الْقَافِلَةِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمَاشِي.

وَلَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْمَاشِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

آدَابُ الْمَشْيِ إِلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَاصِدِ الْجَمَاعَةِ أَنَّ يَمْشِيَ إِلَى الصَّلَاةِ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وَإِنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ لَمْ يَسْعَ إِلَيْهَا، سَوَاءٌ خَافَ فَوْتَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَمْ لَا لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ ائْتُوهَا تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا».

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ الْإِسْرَاعُ لِإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ بِلَا هَرْوَلَةٍ وَهِيَ مَا دُونَ الْجَرْيِ، وَتُكْرَهُ الْهَرْوَلَةُ لِأَنَّهَا تُذْهِبُ الْخُشُوعَ، إِلاَّ أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ فَتَجِبُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ ف 22).

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ لِقَاصِدِ الْجُمُعَةِ

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمُرِيدِ حُضُورِ الْجُمُعَةِ الْمَشْيُ فِي ذَهَابِهِ لِخَبَرِ: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا»،، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ عَبْدٌ ذَاهِبٌ لِمَوْلَاهُ، فَيَطْلُبُ مِنْهُ التَّوَاضُعَ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا فِي إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فَلَا بَأْسَ بِرُكُوبِهِ ذَهَابًا وَإِيَابًا، لَكِنَّ الْإِيَابَ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يُنْدَبُ الْمَشْيُ فِي الرُّجُوعِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ قَدِ انْقَضَتْ.

وَقَالَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ رَكِبَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ سَيَّرَ دَابَّتَهُ بِسُكُونٍ كَالْمَاشِي مَا لَمْ يَضِقِ الْوَقْتُ، وَيُشْبِهُ أَنَّ الرُّكُوبَ أَفَضْلُ لِمَنْ يُجْهِدُهُ الْمَشْيُ لِهَرَمٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ بُعْدِ مَنْزِلِهِ، بِحَيْثُ يَمْنَعُهُ مَا يَنَالُهُ مِنَ التَّعَبِ الْخُشُوعَ وَالْخُضُوعَ فِي الصَّلَاةِ عَاجِلًا.

اشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ

9- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ Cالْجُمُعَةِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَشْيِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ وَلَا عَلَى الْمُقْعَدِ وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ وَلَا عَلَى الْأَعْمَى وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا، وَقَالُوا: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ مُلْحَقٌ بِالْمَرِيضِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَالْمَطَرُ الشَّدِيدُ مُسْقِطٌ لِلْجُمُعَةِ عِنْدَهُمْ.

وَلَمْ يَنُصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَإِنَّمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ، قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَيَلْتَحِقُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا.وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْمَرَضَ مِنْ أَعْذَارِ تَرْكِ الْجُمُعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَالُوا: إِنْ لَمْ يَتَضَرَّرِ الْمَرِيضُ بِإِتْيَانِ الْمَسْجِدِ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا، أَوْ تَبَرَّعَ أَحَدٌ بِأَنْ يُرْكِبَهُ أَوْ يَحْمِلَهُ، أَوْ يَتَبَرَّعَ بِقَوْدِ أَعْمًى لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْأَعْمَى إِذَا وَجَدَ قَائِدًا وَلَوْ بِأُجْرَةٍ وَلَهُ مَالٌ وَإِلاَّ فَقَدْ أَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنْ كَانَ الْأَعْمَى يُحْسِنُ الْمَشْيَ بِالْعَصَا مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ لَزِمَهُ.

وَفِي الْوَحْلِ الشَّدِيدِ لِلشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ.وَالْجَمَاعَةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ فِي طَرِيقِهِ إِلَيْهَا مَطَرٌ يَبُلُّ الثِّيَابَ، أَوْ وَحْلٌ يَشُقُّ الْمَشْيُ إِلَيْهَا فِيهِ

الْمَشْيُ لِقَاصِدِ صَلَاةِ الْعِيدِ

10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَاصِدِ الْعِيدِ الْمَشْيُ إِنْ قَدَرَ، لِمَا رَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا»،، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِلتَّوَاضُعِ، فَإِنْ ضَعُفَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ فَلَهُ الرُّكُوبُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ ف 13)

الْمَشْيُ فِي تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ

11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ مَاشِيًا، وَالْمَشْيُ أَفَضْلُ مِنَ الرُّكُوبِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 14).

الْمَشْيُ فِي الْمَقَابِرِ:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْمَشْيُ فِي الْمَقَابِرِ بِنَعْلَيْنِ

وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: يُكْرَهُ وَطْءُ الْقَبْرِ وَالْمَشْيُ Cفِي طَرِيقٍ ظَنَّ أَنَّهُ مُحْدِثٌ حَتَّى إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى قَبْرِ قَرِيبِهِ إِلاَّ بِوَطْءِ قَبْرٍ تَرَكَهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنْ خِزَانَةِ الْفَتَاوَى:

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُوطَأُ الْقَبْرُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَ الْقَبْرَ وَهُوَ يَقْرَأُ أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ يَدْعُو لَهُمْ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَبْرَ مُحَرَّمٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُسَنَّمًا وَالطَّرِيقُ دُونَهُ، فَأَمَّا إِذَا عَفَا فَوَاسِعٌ.

وَقَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْمَشْيِ بِالنَّعْلِ بَيْنَ الْقُبُورِ وَقَالُوا: الْقَبْرُ مُحَرَّمٌ تَوْقِيرًا لِلْمَيِّتِ فَيُكْرَهُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمُ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ وَالِاتِّكَاءُ وَوَطْؤُهُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ بِأَنْ لَا يَصِلَ إِلَى قَبْرِ مَيِّتِهِ إِلاَّ بِوَطْئِهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْرُمُ ذَلِكَ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ: «لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ».

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ وَطْءِ الْقُبُورِ وَالْمَشْيِ بَيْنَهَا بِنَعْلٍ لِخَبَرِ «حَتَّى بِالتُّمُشْكِ»- نَوْعٌ مِنَ النِّعَالِ- وَقَالُوا: لَا يُكْرَهُ الْمَشْيُ بَيْنَهَا بِخُفٍّ لِمَشَقَّةِ نَزْعِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَعْلٍ، وَيُسَنُّ خَلْعُ النَّعْلِ إِذَا دَخَلَ الْمَقْبَرَةَ لِحَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي الْقُبُورِ عَلَيْهِ نَعْلَانِ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ، وَيْحَكَ، أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَلَمَّا عَرَفَ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- خَلَعَهُمَا فَرَمَى بِهِمَا»،، وَاحْتِرَامًا لِأَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ خَوْفَ نَجَاسَةٍ وَشَوْكٍ وَحَرَارَةِ أَرْضٍ وَبُرُودَتِهَا فَلَا يُكْرَهُ- الْمَشْيُ بِنَعْلٍ بَيْنَ الْقُبُورِ- لِلْعُذْرِ.

الْمَشْيُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِمَا وَاجِبٌ مُطْلَقًا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ الْوَاجِبَيْنِ، وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ غَيْرُ الْوَاجِبَيْنِ فَالْمَشْيُ فِيهِمَا سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى Cأَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ سُنَّةٌ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ ف 25، سَعْيٌ ف 14) -

نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ

14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَالَ- وَهُوَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا- عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَقَ دَمًا، وَقَالُوا: مَذْهَبُنَا مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إِيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إِذَا قَالَ: عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَقَ دَمًا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَوْ إِلَى جُزْءٍ مِنْهُ كَالرُّكْنِ وَالْحَجَرِ وَالْحَطِيمِ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِنْ نَوَى نُسُكًا فَإِنْ لَمْ يَنْوِ النُّسُكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.

وَإِذَا لَزِمَهُ الْمَشْيُ مَشَى مِنْ حَيْثُ نَوَى الْمَشْيَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مَحِلًّا مَخْصُوصًا فَمِنْ حَيْثُ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ وَأَجْزَأَ الْمَشْيُ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْمَسَافَةِ، وَيَسْتَمِرُّ مَاشِيًا لِتَمَامِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَوْ تَمَامِ السَّعْيِ إِنْ كَانَ سَعْيُهُ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ، وَلَزِمَ الرُّجُوعُ فِي عَامٍ قَابِلٍ لِمَنْ رَكِبَ فِي الْعَامِ الَّذِي نَذَرَ فِيهِ الْمَشْيَ فَيَمْشِي مَا رَكِبَ فِيهِ إِنْ عَلِمَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ فَيَجِبُ مَشْيُ جَمِيعِ الْمَسَافَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى نَاوِيًا الْكَعْبَةَ أَوْ إِتْيَانَهُ فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ إِتْيَانِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَفِي قَوْلٍ مِنْ طَرِيقٍ لَا يَجِبُ.

وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْكَعْبَةَ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَيْهَا.

فَإِنْ نَذَرَ الْإِتْيَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ مَشْيٌ وَلَهُ الرُّكُوبُ.

وَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ أَوْ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ الْمَشْيِ، وَالثَّانِي: لَهُ الرُّكُوبُ وَإِنْ قَالَ: أَمْشِي إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَمْشِي مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ فِي الْأَصَحِّ، وَالثَّانِي: يَمْشِي مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ.

وَإِذَا وَجَبَ الْمَشْيُ فَرَكِبَ لِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ فِي الْأَظْهَرِ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، وَالثَّانِي: لَا دَمَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ قَائِمًا فَصَلَّى قَاعِدًا لِعَجْزِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَإِذَا رَكِبَ بِلَا عُذْرٍ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ هَيْئَةً الْتَزَمَهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرَفُّهِهِ بِتَرْكِهَا، وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا الْتَزَمَهُ بِالصِّفَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَأَطْلَقَ فَلَمْ يَقُلْ فِي حَجٍّ وَلَا Cعُمْرَةٍ وَلَا غَيْرِهِ أَوْ قَالَ غَيْرَ حَاجٍّ وَلَا مُعْتَمِرٍ لَزِمَهُ الْمَشْيُ فِي حَجٍّ أَوْ فِي عُمْرَةٍ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ الشَّرْعِيِّ وَإِلْغَاءً لِإِرَادَتِهِ غَيْرَهُ، وَيَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ مَكَانِ النَّذْرِ أَيْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كَمَا فِي حَجِّ الْفَرْضِ إِلَى أَنْ يَتَحَلَّلَ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِحْرَامٌ قَبْلَ مِيقَاتِهِ مَا لَمْ يَنْوِ مَكَانًا بِعَيْنِهِ لِلْمَشْيِ مِنْهُ أَوِ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ لِعُمُومِ حَدِيثِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ»،، وَمَنْ نَوَى بِنَذْرِهِ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ إِتْيَانَهُ لَا حَقِيقَةَ الْمَشْيِ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ لِحُصُولِهِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.

وَإِنْ رَكِبَ نَاذِرُ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لِعَجْزٍ أَوْ غَيْرِهِ كَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ نَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى أَحَدِ الْمَشَاعِرِ، وَنَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ أَحَدِ الْمَسَاجِدِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (نَذْرٌ).

الْوَاجِبُ فِي إِزَالَةِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ

15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي إِزَالَةِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ كَمَالُ الدِّيَةِ، فَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَبَطَلَ مَشْيُهُ وَرِجْلُهُ سَلِيمَةٌ وَجَبَتِ الدِّيَةُ وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: وَلَا تُؤْخَذُ الدِّيَةُ حَتَّى تَنْدَمِلَ فَإِنِ انْجَبَرَ وَعَادَ مَشْيُهُ فَلَا دِيَةَ وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ أَثَرٌ، وَكَذَا إِنْ نَقَصَ مَشْيُهُ بِأَنِ احْتَاجَ إِلَى عَصًا، أَوْ صَارَ يَمْشِي مُحْدَوْدِبًا، وَلَوْ كُسِرَ صُلْبُهُ وَشُلَّتْ رِجْلُهُ قَالَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَلْزَمُهُ دِيَةٌ لِفَوَاتِ الْمَشْيِ، وَحُكُومَةٌ لِكَسْرِ الظَّهْرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتِ الرِّجْلُ سَلِيمَةً لَا يَجِبُ مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ مَنْفَعَةٌ فِي الرِّجْلِ فَإِذَا شُلَّتِ الرِّجْلُ فَفَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ لِشَلَلِ الرِّجْلِ فَأُفْرِدَ كَسْرُ الصُّلْبِ بِحُكُومَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً فَفَوَاتُ الْمَشْيِ لِخَلَلِ الصُّلْبِ فَلَا يُفْرَدُ بِحُكُومَةٍ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ مُجَرَّدَ الْكَسْرِ لَا يُوجِبُ الدِّيَةَ وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ إِذَا فَاتَ بِهِ الْمَشْيُ.

وَلَوْ أَذْهَبَ كَسْرُ الصُّلْبِ مَشْيَهُ وَمَنِيَّهُ، أَوْ مَنِيَّهُ وَجِمَاعَهُ وَجَبَتْ دِيَتَانِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقِيلَ: دِيَةٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ دِيَةَ ذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ تَجِبُ حَتَّى لَوِ انْجَبَرَ كَسْرُ الصُّلْبِ.

الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ:

16- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَلَوْ يَسِيرًا سَوَاءٌ كَانَ فِي إِصْلَاحِ Cالْأُخْرَى أَوْ لَا، لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ»،، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِي فِي الْأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا»،، وَقَالَ أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ: وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَشْيَهُ يَخْتَلُّ بِذَلِكَ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ أَنَّ النَّعْلَ شُرِعَتْ لِوَقَايَةِ الرِّجْلِ عَمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ شَوْكٍ أَوْ نَحْوِهِ فَإِذَا انْفَرَدَتْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ احْتَاجَ الْمَاشِي أَنْ يَتَوَقَّى لِإِحْدَى رِجْلَيْهِ مَا لَا يَتَوَقَّى لِلْأُخْرَى فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ سَجِيَّةِ مَشْيِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَمْشِي أَحَدٌ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَقِفُ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْخَفِيفُ، فِي حَالِ كَوْنِهِ مُتَشَاغِلًا بِإِصْلَاحِ الْأُخْرَى، وَلْيَلْبَسْهُمَا جَمِيعًا أَوْ فَلْيَنْزِعْهُمَا جَمِيعًا. تَسْلِيمُ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي

17- يُسَنُّ تَسْلِيمُ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ».

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: سَلَامٌ ف 23).

آدَابُ الْمَشْيِ مَعَ النَّاسِ

18- قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ مَشَى مَعَ إِنْسَانٍ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ وَأَعْلَمَ مَشَى عَنْ يَمِينِهِ يُقِيمُهُ مَقَامَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ.

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ:

اسْتِحْبَابُ مَشْيِ الْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْكَبِيرِ وَإِنْ مَشَوْا عَنْ جَانِبَيْهِ فَلَا بَأْسَ كَالْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي مُسْلِمٍ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ أَنَّهُ هُوَ وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَشْيا عَلَى جَانِبَيْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَشْيِ الْجَمَاعَةِ مَعَ فَاضِلِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَكْتَنِفُونَهُ وَيَحُفُّونَ بِهِ.

قَالَ الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: وَلِلشَّابِّ الْعَالِمِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الشَّيْخِ الْجَاهِلِ، لِأَنَّهُ Cأَفْضَلُ مِنْهُ، وَلِهَذَا يُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ إِحْدَى أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ تَالِيَةُ الْإِيمَانِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ فِي فَتَاوَاهُ بِحُرْمَةِ تَقَدُّمِ الْجَاهِلِ عَلَى الْعَالِمِ حَيْثُ يَشْعُرُ بِنُزُولِ دَرَجَتِهِ عِنْدَ الْعَامَّةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}

وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَالْمُتَقَدِّمُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَيُعَزَّرُ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


53-موسوعة الفقه الكويتية (مكوس)

مُكُوسٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُكُوسُ: جَمْعُ مَكْسٍ.

وَأَصْلُ الْمَكْسِ- فِي اللُّغَةِ: النَّقْصُ وَالظُّلْمُ، وَدَرَاهِمُ كَانَتْ تُؤْخَذُ مِنْ بَائِعِي السِّلَعِ فِي الْأَسْوَاقِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ دِرْهَمٌ كَانَ يَأْخُذُهُ الْمُصَدِّقُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ.

وَيُطْلَقُ الْمَكْسُ- كَذَلِكَ- عَلَى الضَّرِيبَةِ يَأْخُذُهَا الْمَكَّاسُ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْبَلَدَ مِنَ التُّجَّارِ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْمَكْسُ مَا يَأْخُذُهُ الْعَشَّارُ.

وَالْمَاكِسُ: هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ شَيْئًا مُرَتَّبًا فِي الْغَالِبِ، وَيُقَالُ لَهُ الْعَشَّارُ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْعُشُورَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعُشُورُ:

2- الْعُشُورُ: جَمْعُ عُشْرٍ، وَهُوَ لُغَةً الْجُزْءُ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: عُشْرُ التِّجَارَاتِ وَالْبِيَاعَاتِ.

وَالْآخَرُ: عُشْرُ الصَّدَقَاتِ أَوْ زَكَاةُ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ.

ب- الْجِبَايَةُ:

3- الْجِبَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمْعُ يُقَالُ جَبَا الْمَالَ وَالْخَرَاجَ: جَمَعَهُ.

وَالْجِبَايَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: جَمْعُ الْخَرَاجِ وَالْمَالِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُكُوسِ وَالْجِبَايَةِ هِيَ أَنَّ الْجِبَايَةَ أَعَمُّ لِأَنَّ الْجِبَايَةَ تَشْمَلُ جَمْعَ الْمَالِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ صَدَقَاتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

ج- الضَّرَائِبُ:

4- الضَّرَائِبُ جَمْعُ ضَرِيبَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي الْأَرْصَادِ وَالْجِزْيَةِ وَنَحْوِهَا.

وَهِيَ أَيْضًا: مَا يَأْخُذُهُ الْمَاكِسُ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الضَّرِيبَةَ أَعَمُّ.

د- الْخَرَاجُ:

5- الْخَرَاجُ هُوَ: مَا يَحْصُلُ مِنْ غَلَّةِ الْأَرْضِ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الْأَرَضِينَ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْخَرَاجِ وَالْمُكُوسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْخَرَاجَ يُوضَعُ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِ، أَمَّا الْمَكْسُ فَيُوضَعُ عَلَى السِّلَعِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- مِنَ الْمُكُوسِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ ذَلِكَ.

فَالْمُكُوسُ الْمَذْمُومَةُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا هِيَ غَيْرُ نِصْفِ الْعُشْرِ الَّذِي فَرَضَهُ عُمَرُ- رضي الله عنه- عَلَى تِجَارَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ هِيَ غَيْرُ الْعُشْرِ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا.

وَقَدْ وَرَدَتْ فِي الْمُكُوسِ الْمَذْمُومَةِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا- وَهِيَ غَيْرُ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ- نُصُوصٌ تُحَرِّمُهَا وَتُغَلِّظُ أَمْرَهَا مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ».

قَالَ الْبَغَوِيُّ: يُرِيدُ بِصَاحِبِ الْمَكْسِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنَ التُّجَّارِ إِذَا مَرُّوا عَلَيْهِ مَكْسًا بِاسْمِ الْعُشْرِ أَيِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: أَمَّا الْآنَ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَكْسًا بِاسْمِ الْعُشْرِ، وَمَكْسًا آخَرَ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ، بَلْ شَيْءٌ يَأْخُذُونَهُ حَرَامًا وَسُحْتًا، وَيَأْكُلُونَهُ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا، حُجَّتُهُمْ فِيهِ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُكُوسِ:

احْتِسَابُ الْمَكْسِ مِنَ الزَّكَاةِ

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ احْتِسَابِ الْمَدْفُوعِ مَكْسًا مِنَ الزَّكَاةِ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَازِ احْتِسَابِهِ مِنَ الزَّكَاةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: زَكَاةٌ ف 132).

أَخْذُ الْفُقَرَاءِ لِلْمُكُوسِ

8- الْمُكُوسُ بِمَعْنَى الْمَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْ صَاحِبِهِ ظُلْمًا، نَصَّ الرَّحِيبَانِيُّ عَلَى حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: يُتَّجَهُ أَنَّ الْمَالَ الْحَرَامَ الَّذِي جُهِلَ أَرْبَابُهُ وَصَارَ مَرْجِعُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ كَالْمُكُوسِ وَالْغُصُوبِ وَالْخِيَانَاتِ وَالسَّرِقَاتِ الْمَجْهُولِ أَرْبَابُهَا يَجُوزُ لِلْفُقَرَاءِ أَخْذُهَا صَدَقَةً، وَيَجُوزُ أَخْذُهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ هِبَةً وَشِرَاءً وَوَفَاءً عَنْ أُجْرَةٍ سِيَّمَا إِنْ أَعْطَاهَا الْغَاصِبُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ حَالَهَا كَأَنْ قَبَضَهُ لَهَا بِحَقِّ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ، قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ، وَعَقَّبَ الشَّطِّيُّ عَلَى الرَّحِيبَانِيِّ بِتَعْقِيبٍ جَاءَ فِيهِ: وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إِنَّ الْمُكُوسَ إِذَا أَقْطَعَهَا الْإِمَامُ الْجُنْدَ فَهِيَ حَلَالٌ لَهُمْ إِذَا جُهِلَ مُسْتَحِقُّهَا، وَكَذَا إِذَا رَتَّبَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ.

أَثَرُ أَخْذِ الْمُكُوسِ فِي سُقُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ

9- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ مَا يُؤْخَذُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ مِنَ الْمَكْسِ وَالْخَفَارَةِ عُذْرًا قَوْلَانِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ عُذْرًا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعْتَبَرُ الْأَمْنُ عَلَى الْمَالِ فِي الْحَجِّ فَإِنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ مَكَّاسٌ يَأْخُذُ مِنَ الْمَالِ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا يَنْكُثُ بَعْدَ أَخْذِهِ لِذَلِكَ الْقَلِيلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ سُقُوطِ الْحَجِّ، وَالثَّانِي سُقُوطُهُ.

قَالَ فِي التَّوْضِيحِ إِنْ كَانَ مَا يَأْخُذُهُ الْمَكَّاسُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَوْ مُعَيَّنًا مُجْحِفًا سَقَطَ الْوُجُوبُ وَفِي غَيْرِ الْمُجْحِفِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ السُّقُوطِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ.

وَلَمْ يُعَبِّرِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْمَكْسِ أَوِ الْمَكَّاسِ وَإِنَّمَا عَبَّرُوا بِالرَّصَدِيِّ أَوِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَطْلُبُ خَفَارَةً.

الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُكُوسِ

10- تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُكُوسِ لِأَجْلِ رَدِّ الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا كَمَا يَجُوزُ كِتَابَتُهَا حَتَّى لَا يَتَكَرَّرَ أَخْذُهَا: يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ زُرَيْقِ بْنِ حِبَّانَ وَكَانَ عَلَى مَكْسِ مِصْرَ فَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِ انْظُرْ مَنْ مَرَّ عَلَيْكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَخُذْ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْعَيْنَ، وَمِمَّا ظَهَرَ مِنَ التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا وَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ دِينَارًا فَإِنْ نَقَصَتْ تِلْكَ الدَّنَانِيرُ فَدَعْهَا وَلَا تَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا مَرَّ عَلَيْكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ فَخُذْ مِمَّا يُدِيرُونَ مِنْ تِجَارَاتِهِمْ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا فَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ حَتَّى تَبْلُغَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ ثُمَّ دَعْهَا فَلَا تَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، وَاكْتُبْ لَهُمْ كِتَابًا بِمَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْحَوْلِ.

مُعَامَلَةُ مَنْ غَالِبُ أَمْوَالِهِ حَرَامٌ

11- سُئِلَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ حُكْمِ مُعَامَلَةِ مَنْ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ حَرَامٌ مِثْلُ الْمَكَّاسِينَ وَأَكَلَةِ الرِّبَا وَأَشْبَاهِهِمْ فَهَلْ يَحِلُّ أَخْذُ طَعَامِهِمْ بِالْمُعَامَلَةِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: إِذَا كَانَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ وَحَرَامٌ فَفِي مُعَامَلَتِهِمْ شُبْهَةٌ، لَا يُحْكَمُ بِالتَّحْرِيمِ إِلاَّ إِذَا عُرِفَ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يَحْرُمُ إِعْطَاؤُهُ، وَلَا يُحْكَمُ بِالتَّحْلِيلِ إِلاَّ إِذَا عُرِفَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنَ الْحَلَالِ، فَإِنْ كَانَ الْحَلَالُ هُوَ الْأَغْلَبَ قِيلَ بِحِلِّ الْمُعَامَلَةِ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


54-موسوعة الفقه الكويتية (ولاية 1)

وِلَايَـة -1

التَّعْرِيفُ:

1 ـ الْوِلَايَةُ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ الْقُرْبُ.يُقَالُ: وَلِيَهُ وَلْيًا، أَيْ دَنَا مِنْهُ.وَأَوْلَيْتُهُ إِيَّاهُ: أَدْنَيْتَهُ مِنْهُ.وَوَلِيَ الْأَمْرَ: إِذَا قَامَ بِهِ، وَتَوَلَّى الْأَمْرَ؛ أَيْ تَقَلَّدَهُ، وَتَوَلَّى فُلَانًا: اتَّخَذَهُ وَلِيًّا.

وَالْوَلِيُّ- فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ- مِنْ وَلِيَهُ: إِذَا قَامَ بِهِ.وَمِنْهُ قوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}.

وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي حَقِّ الْمُطِيعِ.وَمِنْهُ قِيل: الْمُؤْمِنُ وَلِيُّ اللَّهِ.وَالْمَصْدَرُ الْوِلَايَةُ.وَكَذَلِكَ تَأْتِي بِمَعْنَى السَّلْطَنَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ: الْعِلْمُ مِنْ أَشْرَفِ الْوِلَايَاتِ، يَأْتِي إِلَيْهِ الْوَرَى وَلَا يَأْتِي، أَمَّا الْوَلَايَةُ- بِالْفَتْحِ- فَتَعْنِي النُّصْرَةَ وَالْمَحَبَّةَ.

وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَكُلٌّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ آخَرَ فَهُوَ وَلِيُّهُ.وَمِنْهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَوَلِيُّ الْقَتِيلِ وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِهِمْ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي أَمْرِهِمْ.وَوَالِي الْبَلَدِ: وَهُوَ نَاظِرُ أُمُورِ أَهْلِهِ الَّذِي يَلِي الْقَوْمَ بِالتَّدْبِيرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

وَالْوِلَايَةُ اصْطِلَاحًا: اسْتَعْمَلَ جُلُّ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةَ الْوِلَايَةِ بِمَعْنَى تَنْفِيذِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى فَتَشْمَلُ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى وَالْخُطَّةَ كَالْقَضَاءِ، وَالْحِسْبَةِ وَالْمَظَالِمِ وَالشُّرَطَةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا تَشْمَلُ قِيَامَ شَخْصٍ كَبِيرٍ رَاشِدٍ عَلَى شَخْصٍ قَاصِرٍ فِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُقَالُ لِلْمَحْجُورِ فِيهَا مَوْلِيٌّ عَلَيْهِ وَمُوَلًّى عَلَيْهِ كَذَلِكَ وَرَدَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ بِمَعْنَى إِقَامَةِ الْغَيْرِ مَقَامَ النَّفْسِ فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ، فَتَنَاوَلَتِ الْوَكَالَةَ وَنِظَارَةَ الْوَقْفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَبِمَعْنَى أَحَقِّيَّةِ الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ الْقَتِيلِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَسَمَّوْا صَاحِبَهَا «وَلِيَّ الدَّمِ».كَمَا عَبَّرُوا عَنْ سُلْطَةِ الزَّوْجِ فِي تَأْدِيبِ زَوْجَتِهِ النَّاشِزِ، وَالْوَالِدِ فِي تَأْدِيبِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَالْمُعَلِّمِ فِي تَأْدِيب تَلَامِيذِهِ بِالْوِلَايَةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا.

وَاسْتَعْمَلَهَا فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِمَعْنَى الْآصِرَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِرْثِ.فَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: الْوِلَايَةُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: وِلَايَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُورَثُ بِهَا إِلاَّ مَعَ عَدَمِ غَيْرِهَا.وَوِلَايَةُ الْحِلْفِ، وَوِلَايَةُ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ يُتَوَارَثُ بِهِمَا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ.وَوِلَايَةُ الْقَرَابَةِ، وَوِلَايَةُ الْعِتْقِ، وَالْمِيرَاثُ بِهِمَا ثَابِتٌ.

2- وَقَدْ أَوْضَحَ الْقَاضِي ابْنُ رُشْدٍ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ:

فَأَمَّا وِلَايَةُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَهِيَ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ.

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِلْفِ (وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ، فَقِيلَ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.

وَقِيلَ: إِنْ ذَلِكَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أُمِرُوا أَنْ يُؤْتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالنَّصِيحَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْمَشُورَةِ، وَلَا مِيرَاثَ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ.

(ر: مَوْلَى الْمُوَالَاةِ).

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ.قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي آخَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِهَا بَيْنَهُمْ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: (فِي كِتَابِ اللَّهِ) عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ: أَيْ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَالْمُرَاد بِأُولِي الْأَرْحَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ أَوْ دَخَلَ فِيهَا بِالْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ.

وَأَمَّا وِلَايَةُ النَّسَبِ، فَمَوْجُودَةٌ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ.قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}.وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ زَكَرِيَّا- عليه السلام-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}.

يَقُولُ: وَإِنِّي خِفْتُ بَنِي عَمِّي وَعَصَبَتِي مِنْ بَعْدِي أَنْ يَرِثُونِي {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}.أَيْ وَلَدًا وَارِثًا مُعِينًا يَرِثُ مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ مَنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ، فَوَهَبَ اللَّهُ لَهُ يَحْيَى.

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْعِتْقِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ انْقِطَاعِ النَّسَبِ بِحَقِّ الْإِنْعَامِ بِالْعِتْقِ وَالْمَنِّ بِهِ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ.

(ر: مَوْلَى الْعَتَاقَةِ) 3- أَمَّا «وَلَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى» لِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَدْلُولُهُ أَنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، فَقَرُبَ مِنْهُمْ بِالْمَحَبَّةِ وَالْهِدَايَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ فَلَمْ يَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لَحْظَةً، وَكَفَلَ مَصَالِحَهُمْ وَرَعَاهُمْ بِحِفْظِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَالَ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُ: الْوَلِيُّ- فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ- هُوَ مَنْ تَوَالَتْ طَاعَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ عِصْيَانٍ.أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ مَنْ يَتَوَالَى عَلَيْهِ إِحْسَانُ اللَّهِ وَإِفْضَالُهُ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وِلَايَةُ اللَّه تَعَالَى نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.

فَالْعَامَّةُ: وِلَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ.فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لِلَّهِ تَقِيًّا، كَانَ اللَّهُ لَهُ وَلِيًّا، وَفِيهِ مِنَ الْوِلَايَةِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ.

وَالْخَاصَّةُ: وِلَايَةُ الْقَائِمِ لِلَّهِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ، الْمُؤْثِرِ لَهُ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ، الَّذِي صَارَتْ مَرَاضِي اللَّهِ وَمَحَابِّهِ هَمَّهُ وَمُتَعَلَّقَ خَوَاطِرِهِ، يُصْبِحُ وَيُمْسِي وَهَمُّهُ مَرْضَاةُ رَبِّهِ وَإِنْ سَخِطَ الْخَلْقُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ

أ ـ النِّيَابَةُ:

4 ـ النِّيَابَةُ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْأَمْرِ، يُقَالُ: نَابَ عَنْهُ فِي الْأَمْرِ: إِذَا قَامَ مَقَامَهُ.

وَالنِّيَابَةُ فِي الاصْطِلِاحِ: قِيَامُ الإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْلِ أَمْرٍ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوِلَايَةُ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ النِّيَابَةِ، وَالْأَخَصُّ يَسْتَلْزِمُ دَائِمًا مَعْنَى الْأَعَمِّ وَلَا عَكْسَ، فَكُلُّ نِيَابَةٍ وِلَايَةٌ وَلَا عَكْسَ.

ب ـ الْعِمَالَةُ:

5 ـ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: عَمِلْتُهُ عَلَى الْبَلَدِ، أَيْ وَلَّيْتُهُ عَمَلَهُ.وَعَمِلْتُ عَلَى الصَّدَقَةِ: أَيْ سَعَيْتُ فِي جَمْعِهَا.وَاسْتَعْمَلْتُهُ: أَيْ جَعَلْتُهُ عَامِلاً.وَالْجَمْعُ عُمَّالٌ وَعَامِلُونَ.وَالْعُمَالَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: أُجْرَةُ الْعَامِلِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ، وَأَصْلُ الْعُمَالَةِ أُجْرَةُ مَنْ يَلِي الصَّدَقَةَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى أُجْرِيَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوِلَايَةِ وَالْعُمَالَةِ: أَنَّ الْوِلَايَةَ أَعَمُّ مِنَ الْعُمَالَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ عَمِلَ السُّلْطَانِ فَهُوَ وَالٍ، فَالْقَاضِي وَالٍ، وَالْأَمِيرُ وَالٍ وَالْعَامِلُ وَالٍ، وَلَيْسَ الْقَاضِي عَامِلاً وَلَا الْأَمِيرُ، وَإِنَّمَا الْعَامِلُ مَنْ يَلِي جِبَايَةَ الْمَالِ فَقَطْ.فَكُلُّ عَامِلٍ وَالٍ، وَلَيْسَ كُلُّ وَالٍ عَامِلاً.

جـ ـ الْقِوَامَةُ:

6 ـ الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مَنْ قَامَ عَلَى الشَّيْءِ يَقُومُ قِيَامًا، أَيْ حَافَظَ عَلَيْهِ وَرَاعَى مَصَالِحَهُ.وَمِنْ ذَلِكَ: الْقَيِّمُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى شَأْنِ شَيْءٍ وَيَلِيهِ وَيُصْلِحُهُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.وَكُلُّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقِيَامِ الْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ شَأْنَ الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْأَمْرِ وَيَعْتَنِي بِهِ أَنْ يَقِفَ لِيُدَبِّرَ أَمْرَهُ وَيَرْعَاهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ لِلْكَلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ «الْقَيِّمِ» بِمَعْنَى الْمُتَوَلِّي وَالنَّاظِرِ، فَيَقُولُونَ: الْقَيِّمُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ، وَالْقَيِّمُ عَلَى مَالِ الْوَقْفِ.وَيُرِيدُونَ بِهِ الْأَمِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِ قِيَامَ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِوَامَةَ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

د ـ الْوِصَايَةُ:

7 ـ الْوِصَايَةُ لُغَةً مَصْدَرُ وَصَّى، تَعْنِي طَلَبَ شَخْصٍ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ عَلَى غَيْبٍ مِنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ فَهِيَ: إِقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِيَنْظُرَ فِي شُؤُونِ تَرِكَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ دُيُونٍ وَوَصَايَا وَفِي شُؤُونِ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَرِعَايَتِهِمْ.وَيُسَمَّى ذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُقَامُ وَصِيًّا.أَمَّا إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِبَعْضِ أُمُورِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَلَا يُقَالُ لَهُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ وِصَايَةٌ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى وِكَالَةً.

وَالْوِصَايَةُ عَلَى ذَلِكَ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

هـ الْوَكَالَةُ:

8 ـ الْوَكَالَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّفْوِيضُ إِلَى الْغَيْرِ وَرَدُّ الْأَمْرِ إِلَيْهِ.

وَمَعْنَاهَا فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ: تَفْوِيضُ شَخْصٍ مَا لَهُ فِعْلُهُ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ عَرَّفَهَا الْمَنَاوِيُّ بِأَنَّهَا: اسْتِنَابَةُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مِثْلَهُ فِيمَا لَهُ عَلَيْهِ تَسَلُّطٌ أَوْ وِلَايَةٌ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ.وَقَالَ التَّهَانَوِيُّ: هِيَ إِقَامَةُ أَحَدٍ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٍ مُوَرِّثٍ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ الْمُوَرِّثَيْنِ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوِكَالَةُ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوِلَايَةِ

الْوِلَايَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً أَوْ خَاصَّة وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا:

أَوَّلاً: الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ:

9 ـ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ: سُلْطَةٌ عَلَى إِلْزَامِ الْغَيْرِ وَإِنْفَاذِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ بِدُونِ تَفْوِيضٍ مِنْهُ، تَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَتُهَيْمِنُ عَلَى مَرَافِقِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ وَشُؤُونِهَا، مِنْ أَجْلِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ لِلْأُمَّةِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهَا.

وَهِيَ مَنْصِبٌ دِينِيٌّ وَدُنْيَوِيٌّ، شُرِعَ لِتَحْقِيقِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلَايَاتِ: إِصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ.

10- وَلِلْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ مَرَاتِبُ وَاخْتِصَاصَاتٌ تَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَهَا وَتَتَدَرَّجُ مِنْ وِلَايَةِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ إِلَى وِلَايَةِ نُوَّابِهِ وَوُلَاتِهِ وَنَحْوِهِمْ، وَبِهَا يُنَاطُ تَجْهِيزُ الْجُيُوشِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَجِبَايَةُ الْأَمْوَالِ مِنْ حِلِّهَا، وَصَرْفُهَا فِي مَحِلِّهَا، وَتَعْيِينُ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ، وَإِقَامَةُ الْحَجِّ وَالْجَمَاعَاتِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ، وَقَمْعُ الْبُغَاةِ وَالْمُفْسِدِينَ وَحِمَايَةُ بَيْضَةِ الدِّينِ، وَفَصْلُ الْخُصُومَاتِ، وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ، وَنَصْبُ الْأَوْصِيَاءِ وَالنُّظَّارِ وَالْمُتَوَلِّينَ وَمُحَاسَبَتِهِمْ.وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَسْتَتِبُّ بِهَا الْأَمْنُ، وَيُحَكَّمُ شَرْعُ اللَّهِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ مَقْصُودُهَا أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِذَلِكَ، وَبِهِ أَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَلَهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَعَلَيْهِ جَاهَدَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ.

11- وَلِهَذَا اعْتَبَرَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ، بَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ إِلاَّ بِهَا، لِأَنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إِلاَّ بِالِاجْتِمَاعِ، لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ».فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ، تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ...كَذَلِكَ أَوْجَبَ اللَّهُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِقُوَّةٍ وَسُلْطَانٍ، وَكَذَا سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنَ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ.

الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ:

يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ تَوَفُّرَ الشُّرُوطِ التَّالِيَةِ:

أ ـ الْإِسْلَامُ:

12- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي جَمِيعِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.حَيْثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِوَجْهٍ.وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: أُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَاطِينُ وَالْقُضَاةُ وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ.فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّي الطَّاعَةِ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا طَاعَةَ.

ب ـ الْبُلُوغُ:

13- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي جَمِيعِ الْوِلَايَاتِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَلِيَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ.يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوَيُفِيقَ».حَيْثُ أَفَادَ عَدَمَ تَكْلِيفِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْأُمُورَ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ لَمْ يَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ».

جـ ـ الْعَقْلُ:

14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لَا تَجُوزُ وِلَايَتُهُ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ شَرْعًا، وَالتَّكْلِيفُ مِلَاكُ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَلَا يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ.

د ـ الْحُرِّيَّةُ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّة تَوَلِّي الْعَبْدِ الْوِلَايَةَ الْعَامَّةَ، لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ مَالِكِهِ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الْعَبْدِ عَنْ وِلَايَةِ نَفْسِهِ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ وِلَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ.

هـ ـ الذُّكُورَةُ:

16- ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} حَيْثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَكَيْفَ تَقُومُ هِيَ عَلَى شُؤُونِ الْأُمَّةِ؟ وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً».فَقَدْ قَرَنَ الرَّسُول- عليه الصلاة والسلام- عَدَمَ الْفَلَاحِ لِلْأُمَّةِ بِتَوَلِّي الْمَرْأَةِ شُؤُونَهَا.

و ـ الْعَدَالَةُ:

17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ.وَالْعَدَالَةُ: هِيَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ، فَالصَّلَاحُ فِي الدِّينِ هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ مَوَاطِنِ الرِّيَبِ، مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ.

وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فَهِيَ: اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ.

وَإِنَّمَا اشْتُرِطَتِ الْعَدَالَةُ هَهُنَا لِأَنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَا يُوثَقُ بِتَصَرُّفَاتِهِ وَلَا يُؤْمَنُ مَعَهُ مِنَ الْحَيْفِ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا يَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ.

ز ـ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ

18- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

قَالَ السِّمْنَانِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأُصُولِ الدِّينِ وَمِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي فُرُوعِهِ لِيُمْكِنَهُ حَلُّ الشُّبَهِ وَإِرْشَادُ الضَّالِّ وَفُتْيَا الْمُسْتَفْتِي وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَهَذَا شَرْطٌ عَلَيْهِ سَائِرُ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ فِي اعْتِبَارِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَسَائِرِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ فِرَقِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، لَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ.

ثُمَّ نَقَلَ السِّمْنَانِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عَصْرِهِ وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يَصِحَّ لِإِمَامٍ إِمَامَةٌ فِي الْعَصْرِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَصَرٌ وَعَقْلٌ وَرَأْيٌ وَيُقَوِّي كُلَّ فَرِيقٍ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ «وَيَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ عَنْهُ» كَمَا يَتَوَلاَّهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ مَعَ ضِيقِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْأَشْغَالِ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ زَمَانِهِ وَفَوَاتِ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْخَلْقِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ وَالْمَسَائِلَ صَعْبَةٌ، وَلَا يَكَادُ يَجْتَمِعُ جَمِيعُ الْعُلُومِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ إِلاَّ نَادِرًا شَاذًّا، وَيَجْتَمِعُ مَجْمُوعُ الْعُلُومِ فِي الْأَشْخَاصِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ.

ح ـ الْكِفَايَةُ الْجِسْمِيَّةُ

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّة تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ كَوْنَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا نَاطِقًا، لِأَنَّ الِاخْتِلَالَ الْوَاقِعَ فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ أَوِ الْحَوَاسِّ يُؤَدِّي إِلَى الْعَجْزِ عَنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ، وَيُفْضِي إِلَى الْخَلَلِ فِي قِيَامِ ذِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ بِمَا جُعِلَ وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.

وَقَدْ ذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّ فَقْدَ الْحَوَاسِّ كَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالْكَلَامِ يَحُولُ دُون الِانْتِهَاضِ فِي الْمُلِمَّاتِ وَالْحُقُوقِ، وَيَجُرُّ إِلَى الْمُعْضِلَاتِ عِنْد مَسِيسِ الْحَاجَاتِ.وَالْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ تَسْتَدْعِي كَمَالَ الْأَوْصَافِ، وَالْأَعْمَى وَالْأَصَمُّ وَالْأَبْكَمُ وَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

ط ـ الرَّأْيُ وَالْكِفَايَةُ:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ الرَّأْيُ وَالْكِفَايَةُ.وَهَذِهِ الصِّفَةُ تَخْتَلِفُ مُتَطَلَّبَاتُهَا بِحَسْبِ الْوِلَايَةِ الَّتِي يُرَادُ إِسْنَادُهَا، فَمَا يَلْزَمُ تَوَفُّرُهُ فِي الْخَطِيرِ مِنْهَا كَالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى مِنَ الْمَقْدِرَةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ وَالصَّرَامَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْمَضَاءِ وَالدَّهَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا دُونَهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسْبِهَا.

وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فِيمَا رَوَاهُ «أَبُو ذَرٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي عَدَمِ جَوَازِ إِسْنَادِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِهَا وَأَعْبَائِهَا وَمُوجِبَاتِهَا، لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ.وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.قِيلَ:كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».

هَذِهِ هِيَ الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَكَةُ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى فَوْقَهَا تُضَافُ لِبَعْضِ أَنْوَاعِهَا، مِثْلَ شَرْطِ الْقُرَشِيَّةِ لِلْخِلَافَةِ.ر: الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى ف 11، وَقَضَاء ف 18.

تَقْدِيمُ الْأَمْثَلِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ:

21- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُ كُلِّ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي النَّاسِ، وَفُقِدَ مُكْتَمِلُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يُعَطَّلُ إِسْنَادُ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ فِي الدَّوْلَةِ، بَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْأَصْلَحِ وَالْأَمْثَلِ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسْبِهَا، إِذِ الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِأَنَّ حِفْظَ بَعْضِ الْمَصَالِحِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِهَا كُلِّهَا، فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ أَصْلِ الْمَصَالِحِ لِوُجُودِ بَعْضِ الْفِسْقِ فِي وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّ الْبَعِيدَ مَعَ الْأَبْعَدِ قَرِيبٌ، وَأَهْوَنَ الشَّرَّيْنِ خَيْرٌ بِالْإِضَافَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَعَلَّقَ تَحْصِيلَ التَّقْوَى عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ، فَكَذَا الْمَصَالِحُ كُلُّهَا.

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ إِلاَّ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ.وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَوْ تَعَذَّرَتِ الْعَدَالَةُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ لَمَا جَازَ تَعْطِيلُ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُضَاةِ وَالْخُلَفَاءِ وَالْوُلَاةِ، بَلْ قَدَّمْنَا أَمْثَلَ الْفَسَقَةِ فَأَمْثَلَهُمْ، وَأَصْلَحَهُمْ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ فَأَصْلَحَهُمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّا إِذَا أُمِرْنَا بِأَمْرٍ أَتَيْنَا مِنْهُ بِمَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنَّا مَا عَجَزْنَا عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حِفْظَ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِ الْكُلِّ.

22- وَمَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ إِذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ، فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يَكْمُلَ فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ وَالْإِمَارَاتِ وَنَحْوِهَا، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ السَّعْيُ فِي وَفَاءِ دِينِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

وَاجِبَاتُ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ:

23- تَخْتَلِفُ وَاجِبَاتُ أَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ بِحَسْبِ الْوِلَايَةِ الَّتِي يَتَقَلَّدُهَا كُلٌّ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِتَبَايُنِ الْوَظَائِفِ وَالْأَعْبَاءِ وَالِاخْتِصَاصَاتِ وَالْمَسْئُولِيَّاتِ الْمَنُوطَةِ بِكُلِّ ذِي وِلَايَةٍ، فَوَاجِبَاتُ الْخَلِيفَةِ مَثَلاً مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَـاتِ وَالِي الشُّرَطَةِ، وَوَاجِبَاتُ الْوَزِيرِ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَاتِ الْقَاضِي، وَوَاجِبَاتُ أَمِيرِ الْجَيْشِ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَاتِ الْمُحْتَسِبِ، وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ هِيَ كَمَا يَلِي:

أ ـ الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ:

24- الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ عَلَى صَاحِبِ الْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ مِلَاكُ الْأَمْرِ وَجِمَاعُ الْخَيْرِ فِيهِ.فَمُتَقَلِّدُ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً حَسَنَةً لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنَ الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى امْتِثَالِهِمْ، وَأَقْوَى أَثَرًا فِي صَلَاحِهِمْ وَفَلَاحِهِمْ.

ب ـ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ:

25- وَمِنْ وَاجِبَاتِ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، حَيْثُ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ.

وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ عِصَابَةٍ، وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ».

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلاً حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ».

وَعَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَمْثَلَهُمْ وَأَفْضَلَهُمْ، أَدَاءً لِلْأَمَانَةِ وَبُعْدًا عَنِ الْخِيَانَةِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْأَحَقِّ الْأَصْلَحِ إِلَى غَيْرِهِ لِأَجْلِ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ، أَوْ صَدَاقَةٍ، أَوْ مُوَافَقَةٍ فِي بَلَدٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ جِنْسٍ، كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ، أَوْ لِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، أَوْ لِضِغْنٍ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْأَحَقِّ، أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَدَخَلَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

وَأَدَاءُ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ لِلْأَمَانَةِ- كَمَا قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثِ شُعَبٍ: خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَلاَّ يَشْتَرِيَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، وَتَرْكُ خَشْيَةِ النَّاسِ.

(ر: أَمَانَةُ ف3)

جـ ـ الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ:

26- الْعَدْلُ مِيزَانُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَسَبَبُ صَلَاحِ الْخَلْقِ، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.وَوَرَدَ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَلِهَذَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ إِذَا شَمِلَهَا الْعَدْلُ كَانَتْ مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ الْعَادِلَ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ جَمِيعِ الْأَنَامِ.

قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَدَرْءِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَظْلِمَةٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ يَجْلِبُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَصْلَحَةٍ فَمَا دُونَهَا، فَيَا لَهُ مِنْ كَلَامٍ يَسِيرٍ وَأَجْرٍ كَبِيرٍ.

أَمَّا وُلَاةُ الْجَوْرِ وَقُضَاةُ السُّوءِ فَأَعْظَمُ النَّاسِ وِزْرًا، وَأَحَطُّهُمْ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِعُمُومِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ جَلْبِ الْمَفَاسِدِ وَدَرْءِ الْمَصَالِحِ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَأْثَمُ بِهَا أَلْفَ إِثْمٍ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَا لَهَا مِنْ صَفْقَةٍ خَاسِرَةٍ وَتِجَارَةٍ بَايِرَةٍ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ جِمَاعَ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ وَالْوِلَايَةِ الصَّالِحَةِ: أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ.وَحَكَى: إِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَلَوْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً.

د ـ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:

27- إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ: إِصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا.وَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.

- 16- قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَإِذَا كَانَ جِمَاعُ الدِّينِ وَجَمِيعِ الْوِلَايَاتِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، فَالْأَمْرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ هُوَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا نَعْتُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.

وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَيَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ، وَالْقُدْرَةُ هِيَ السُّلْطَانُ وَالْوِلَايَةُ، فَذَوُو السُّلْطَانِ أَقْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ مِنَ الْوُجُوبِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِحَسْبِ قُدْرَتِهِ.

وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ إِنَّمَا مَقْصُودُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وِلَايَةُ الْحَرْبِ الْكُبْرَى مِثْلُ نِيَابَةِ السَّلْطَنَةِ، وَالصُّغْرَى مِثْلُ وِلَايَةِ الشُّرَطَةِ، وَوِلَايَةِ الْحُكْمِ، وَوِلَايَةِ الْمَالِ- وَهِيَ وِلَايَةُ الدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ- وَوِلَايَةِ الْحِسْبَةِ.لَكِنَّ مِنَ الْمُتَوَلِّينَ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ الْمُؤْتَمَنِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الصِّدْقُ، مِثْلُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمِثْلُ صَاحِبِ الدِّيوَانِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَخْرَجَ وَالْمَصْرُوفَ، وَالنَّقِيبِ وَالْعَرِيفِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ إِخْبَارُ ذِي الْأَمْرِ بِالْأَحْوَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَمِينِ الْمُطَاعِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَدْلُ، مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُحْتَسِبِ.وَبِالصِّدْقِ فِي كُلِّ الْأَخْبَارِ، وَالْعَدْلِ فِي الْإِنْشَاءِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ تَصْلُحُ جَمِيعُ الْأَحْوَالِ.

هـ ـ مَشُورَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ:

28- مَشُورَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ وَعُمُومِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُشَاوَرَةُ أَصْلُ الدِّينِ، وَسُنَّةُ اللَّهِ فِي الْعَالَمِينَ، وَهِيَ حَقٌّ عَلَى عَامَّةِ الْخَلِيقَةِ مِنَ الرَّسُولِ إِلَى أَقَلِّ خَلْقٍ بَعْدَهُ فِي دَرَجَاتِهِمْ، وَهِيَ اجْتِمَاعٌ عَلَى أَمْرٍ يُشِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِرَأْيِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِشَارَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَيَلْزَمُ ذَا الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ اسْتِشَارَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ فِيمَا خَفِيَ عَنْهُ أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِـنَ الْأُمُورِ وَالْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِوِلَايَتِـهِ وَسُلْطَانِهِ، فَالشُّورَى أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَمِسْبَارٌ لِلْعُقُولِ، وَسَبَبٌ إِلَى الصَّوَابِ، وَمَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إِلاَّ هُدُوا.

قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرُوبِ، وَوُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ وَالْوُزَرَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا.

وَقَدْ مَدَحَ اللَّه مَنْ عَمِلَ بِهَا فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَيْ لَا يَسْتَبِدُّونَ بِأَمْرٍ، وَيَتَّهِمُونَ رَأْيَهُمْ حَتَّى يَسْتَعِينُوا بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ أَنَّ عِنْدَهُ مَدْرَكًا لِغَرَضِهِ.وَهَذِهِ سِيرَةٌ أَوَّلِيَّةٌ، وَسُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، وَخَصْلَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ مَرَضِيَّةٌ.

(ر: شُورَى ف 5 ـ 8).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


55-المعجم الغني (تَعَانُقٌ)

تَعَانُقٌ- [عنق]، (مصدر: تَعَانَقَ)، "عَبَّرُوا بِتَعَانُقِهِمْ عَنِ الْمَحَبَّةِ وَالوِئَامِ": مُعَانَقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِلآخَرِ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


56-المعجم الغني (عَبَرَ)

عَبَرَ- [عبر]، (فعل: ثلاثي. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، عَبَرْتُ، أَعْبُرُ، اُعْبُرْ، المصدر: عَبْرٌ، عُبُورٌ.

1- "عَبَرَ النَّهْرَ": اِجْتَازَهُ، قَطَعَهُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ. "عَبَرَ الطَّرِيقَ" "يَعْبُرُ بِهِ الْمَاءَ" "عَبَرُوا الْحُدُودَ بِسَلَامٍ".

2- "عَبَرَتْ عَيْنَاهُ": جَرَتْ دَمْعَتُهَا.

3- "عَبَرَ الْكِتَابَ": تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ بِقِرَاءَتِهِ.

4- "عَبَرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ": أَعْرَبَ، بَيَّنَ.

5- "عَبَرَ الأَمْتِعَةَ": نَظَرَ كَمْ وَزْنُهَا وَمَا هِيَ.

6- "عَبَرَ الْقَوْمُ": مَاتُوا.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


57-تاج العروس (مد مدد مدمد)

[مدد]: المَدّ: السَّيْلُ، يقال مَدّ النَّهْرُ ومَدَّه نَهْرٌ آخَرُ، قال العجّاج:

سَيْلٌ أَتِيٌّ مَدَّهُ أَتِيُّ *** غِبَّ سَماءٍ فَهْوَ رَقْرَاقِيُّ

ومن المَجاز: المَدُّ: ارْتفَاعُ النَّهارِ والظِّلّ، وقد مَدَّ وامتَدَّ، ويقال: جِئْتُك مَدَّ النَّهَارِ وفي مَدِّ النهارِ، وكذلك مَدَّ الضُّحى، يَضعون المَصْدَر في كُلِّ ذلك موضعَ الظَّرْف.

والمَدُّ الاسْتِمْدَادُ مِن الدَّوَاةِ، ومعنى الاستمدادِ منها أَن يَسْتَمِدَّ منها مَدَّةً واحِدةً.

والمَدُّ: كَثْرَةُ الماءِ أَيّامَ المُدُودِ، وجمعه مُدُودٌ، وقد مَدَّ الماءُ يَمُدُّ مَدًّا وامْتَدَّ.

والمَدُّ: البَسْطُ. قال اللِّحيانيُّ: مَدَّ اللهُ الأَرْضَ مَدًّا: بَسطَها وسَوَّاها. وقوله تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} أَي بُسِطَتْ وسُوِّيت.

والمَدُّ: طُموحُ البَصَرِ إِلى الشي‌ءِ، يقال: مدَّ بصرَه إِلى الشي‌ءِ، إِذا طَمَح به إِليه. وفي البصائر والأَفعالِ: مَدَدْت عَيني إِلى كذا: نَظَرْتُه رَاغِبًا فيه، ومنه قولُه تعالَى {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ} والمَدُّ: الإِمْهَالُ، كالإِمْدَادِ يقال: مَدَّه في الغَيِّ والضَّلالِ يَمُدُّه مَدًّا، ومَدَّ له: أَمْلَى له وتَرَكه، وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أَي يُمْلِي لهم ويُلِجُّهم ويُطِيل لهم المُهْلَة، وكذلك، مَدَّ اللهُ له في العَذَابِ مَدًّا، وهو مَجاز. وأَمَدَّه في الغَيِّ، لغةٌ قليلةٌ، وقوله تعالى: {وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ} قراءَة أَهل الكوفة والبَصْرة يَمُدُّونَهم، وقرأَ أَهلُ المَدينة يُمِدُّونَهم.

والمَدُّ: الجَذْبُ، ومَدَدْت الشي‌ءَ مَدَّا: جَذَبْتُه، قاله ابنُ القَطَّاع.

والمَدُّ: المَطْلُ وقال المُصنّف في البصائر: أَصْلُ المَدّ جَرُّ شي‌ءٍ في طُولٍ، واتِّصالُ شي‌ءٍ بشي‌ءٍ في استطالَة، مَدَّهُ يَمُدُّه مَدًّا، ومَدَّ به، فامْتَدَّ، ومَدَّدَه فتَمَدَّدَ وتَمَدَّدَه كتَمَدُّدِ السِّقَاءِ، وكذلك كلُّ شي‌ءٍ يَبْقَى فيه سَعَةُ المَدِّ.

وتَمَدَّدْنَاه بيننا: مَدَدْنَاهُ.

ومادَدَه وفي بعض النسخ: مَادَّه مُمَادَّةً ومِدَادًا فَتَمَدَّدَ، وقال اللِّحْيَانيُّ: مَدَدْتُه ومَدَّني، وفلانٌ يُمَادُّ فُلانًا؛ أَي يُمَاطِلُه ويُجَاذِبُه.

وتَمَدَّد الرَّجُلُ؛ أَي تَمَطَّى.

ومَدَّ النَّهَارُ إِذا ارْتَفعَ، وهو مَجاز، وقال شَمِرٌ: كلُّ شيْ‌ءٍ امتلأَ وارْتَفعَ فقد مَدَّ، وقد أَمْدَدْته أَنا.

وعن أَبي زيدٍ: مَدَّ زَيْدٌ القَوْمَ أَي صارَ لَهُمْ مَدَدًا، وأَمَدَّه بغيره.

ويقال: هناك قطعةٌ من الأَرض قَدْرُ مَدِّ البَصَرِ؛ أَي مَدَاهُ وقد يأْتي له في المعتلّ أَنه لا يقال مَدُّ البَصَرِ، مُضَعَّفًا وإِنما يقال مَدَاه، معتلًّا، وأَصله للحريريِّ في دُرَّة الغواصِ وانتقدوه بأَنه وَرد في الحديثِ مَدُّ صَوْتِ المُؤَذِّن، كَمَدَاه، كما حَقَّقه شيخُنَا، قلت: والحديث المُشَار إِليه «أَنَّ المُؤَذِّن يُغْفَر له مَدَّ صَوْتِه»، يريد به قَدْرَ الذُّنُوبِ؛ أَي يُغْفَر له ذلك إِلى مُنْتَهَى مَدِّ صَوْتِه، وهو تَمثيلٌ لِسَعَةِ المَغْفِرَة، ويُروَى «مَدَى صَوْتِهِ».

والمَدِيدُ: المَمْدُودُ، والمَدِيد: الطَّوِيلُ، ورجُلُ مَدِيدُ الجِسْمِ: طَوِيل، وأَصله في القِيَامِ. وَقَدٌّ مَدِيدٌ، وهو من أَجْمَلِ الناسِ وأَمَدِّهِم قَامَةً، وهو مَجاز، كما في الأَساس، الجمع: مُدُدٌ. قال سيبويهِ: جاءَ على الأَصْل، لأَنه لم يُشْبِه الفِعْلَ. والأُنثى مَديدَةٌ. وفي حديث عُثْمَانَ قال لبعض عُمَّاله: «بَلَغَنِي أَنك تَزَوَّجْتَ امرأَةً مَدِيدةً». أَي طَوِيلة.

ورَجُلٌ مَدِيدُ القامةِ: طَوِيلُهَا.

والمَديد: البَحْرُ الثاني من العَرُوض، والأَوَّلُ الطويلُ، سُمِّيَ بذلك لامتداد أَسْبَابِه وأَوْتَاده وقال أَبو إِسحاق: سُمِّيَ مَدِيدًا لأَنه امتد سَبَباهُ فصارَ سَبَبٌ في أَوَّله وسَبَبٌ بعد الوَتِد، ووزنه فاعلَاتُنْ فاعلُنْ.

وقوله تعالى: {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} فسّره ثعلب فقال: معناه في عَمَدٍ طِوَالٍ.

والمَدِيد: ما ذُرَّ عليه دَقِيقٌ أَو سِمْسِمٌ أَو سَوِيقٌ أَو شَعِيرٌ جَشٌ، قال ابنُ الأَعرابيّ: هو الذي ليس بِحَارٍّ، أَو خَبَطٌ كما قاله ابن القطاع. لِيُسْقَى الإِبِلَ، وقد مَدَّهَا يَمُدُّهَا مَدًّا، إِذا سَقَاهَا إِيَّاه، وقال أَبو زيد: مَدَدْتُ الإِبِلَ أَمُدُّهَا مَدًّا، وهو أَن تَسْقِيَهَا المَاءَ بالبِزْرِ أَو الدَّقِيقِ أَو السِّمْسِم. وقال في موضع آخَرَ: المَدِيدُ: شَعِيرٌ يُجَشُّ ثُمَّ يُبَلّ فَيُضْفَرُ البَعِيرُ: ومَدَدْتُ الإِبل وأَمْدَدْتُهَا بِمَعْنًى، وهو أَن يَنْثُر لها على الماءِ شيئًا من الدَّقيقِ ونحوِه فَيَسْقِيَهَا، والاسم المَدِيدُ.

والمَديد: موضع قُرْبَ مَكَّةَ شَرّفها اللهُ تعالى، عن الصاغانيّ.

وقيل: المَدِيد: العَلَفُ، وقد مَدَّهُ به يَمُدُّه مَدًّا.

والمَدِيدَانِ: جَبَلَانِ في ظَهْرِ الخَالِ وهو ظَهْر عَارِضِ اليَمَامَةِ، عن الصاغانيّ.

والمِدَادُ، بالكسر: النِّقْسُ، بكسر النون وسكون القاف وسين مهملة، هكذا عَبَّروا به في كُتب اللغة، وهو مِن شَرْحِ المَعْلُومِ المَشْهُور بالغَرِيب الذي فيه خَفَاءٌ، وهو الذي يُكْتَب به. قال ابنُ الأَنبارِيّ: سُمِّيَ المِدَادُ مِدَادًا لإِمْدَادِه الكاتِبَ، من قولِهِم أَمْدَدْتُ الجَيْشَ بِمَدَد.

والمِدَادُ: السِّرْقِينُ الذي يُصْلَح به الزَّرْعُ، وقد مَدَّ الأَرْضَ مَدًّا، إِذَا زَاد فيها تُرَابًا أَو سَمَادًا من غيرِهَا ليكون أَعْمَرَ لها وأَكْثَرَ رَيْعًا لِزَرْعِهَا، وكذلك الرِّمَال، والسَّمَادُ مِدَادٌ لها.

والمِدَادُ: ما مَدَدْتَ به السِّرَاجَ مِنَ زَيْتٍ ونَحْوِه، كالسَّلِيطِ، قال الأَخطل:

رَأَوْا بَارِقَاتٍ بِالأَكُفِّ كَأَنَّهَا *** مَصَابِيحُ سُرْجٌ أُوقِدَتْ بِمِدَادِ

أَي بِزَيْتٍ يُمِدُّهَا. ونقل شيخُنَا عن قُدَمَاءِ أَئمَّةِ اللغةِ أَنَّ المِدَادَ، بالكسر: هو كلُّ ما يُمَدُّ به الشي‌ءُ أَي يُزَادُ فيه لِمَدِّه والانتفاعِ بهِ كحِبْرِ الدَّواةِ وسَلِيطِ السِّراجِ وما يُوقَد به من دُهْنٍ ونَحْوِه، لأَن وضْعَ فِعَالٍ، بالكسر، لما يُفْعَل به كالآلةِ، ثم خُصَّ المِدَادُ في عُرْفِ اللغةِ بالحِبْرِ.

والمِداد: المِثَالُ، يقال: جاءَ هذا على مِدَادٍ واحدٍ؛ أَي على مِثَالٍ واحدٍ، وقال جَنْدَلٌ:

لَمْ أُقْوِ فِيهِنَّ وَلَمْ أُسَانِدِ *** ولَمْ أَرِشْهُنَّ بِرِمٍّ هَامِدِ

عَلَى مِدَادٍ وَرَوِيٍّ وَاحِدِ

والمِدَاد: الطَّرِيقَةُ، يقال: بَنَوْا بُيُوتَهم على مِدَادٍ واحدٍ؛ أَي على طَرِيقَةٍ واحِدَة.

وفي التهذيب: مِدَادُ قَيْسٍ: لُعْبَةٌ لهم أَي لِصبيانِ العَرب.

ويقال: وادِي كذا يَمُدُّ في نهر كذا؛ أَي يَزِيد فيه. ويقال منه: قَلَّ ماءُ رَكِيَّتِنا فَمَدَّتْهَا رَكِيَّةٌ أُخْرَى فهي تَمُدُّهَا مَدًّا.

ومَدَّ النَّهْرُ النَّهْرَ إِذا جَرَى فيه. وقال اللِّحيانيّ: يقال لكلّ شيْ‌ءٍ دَخَل فيه مِثْلُه فَكثَّرَهُ مَدَّه يَمُدُّه مَدًّا. وفي التنزيل العزيز: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أَي يَزِيد فيه ماء مِن خَلْفِه تَجُرُّه إِليه وَتُكَثِّرهُ. وفي حديث الحَوْض يَنْبَعِث فيه مِيزَابَانِ مِدَادُهُما أَنهارُ الجَنّة؛ أَي تَمُدُّهما أَنْهَارُها. وقال الفَرَّاءُ في قوله تعالى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} قال: يكون مِدَادًا كالمِدَادِ الذي يُكْتَبُ به، والشي‌ءُ إِذَا مَدَّ الشي‌ءَ فكان زِيَادَةً فيه فهو يَمُدُّه. تقول: دِجْلَة تَمُدُّ [بِثارَنَا وأَنْهَارَنَا، والله يَمُدُّنَا بها.

والمَدْمَدُ كجَعْفَر: النَّهْرُ، والمَدْمَدُ: الحَبْلُ، قاله الأَصمعيّ، وفي بعض النُّسخ الجَبَلُ، والأَوَّل الصوابُ.

ونَصُّ عِبَارَة الأَصمعيّ: والمَدُّ: مَدُّ النَّهْرِ، والمَدُّ: مَدُّ الحَبْلِ والمَدّ أَن يَمُدَّ الرَّجُلُ [الرَّجُلَ] في غَيِّه. قلت: فهي تَدُلُّ صَرِيحًا أَنّ المَدَّ هُنا ثُلاثيٌّ لا رُبَاعيٌّ مُضَاعَفٌ كما توهَّمَه المصنِّف.

والمُدُّ، بالضمّ: مِكْيَالٌ، وهو رِطْلانِ عند أَهل العِرَاق وأَبي حَنيفةَ أَو رِطْلٌ وثُلُثٌ عند أَهلِ الحِجَازِ والشافعيِّ، وقيل: هو رُبْعُ صَاعٍ، وهو قَدْرُ مُدِّ النبيّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، والصَّاعُ خَمْسَةُ أَرطَالٍ وأَرْبَعَةُ أمْدَادٍ قال:

لَمْ يَغْذُهَا مُدٌّ وَلَا نَصِيفُ *** وَلَا تُمَيْرَاتٌ وَلَا تَعْجِيفُ

وفي حديثِ فَضْلِ الصَّحَابَةِ: «مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِم ولَا نَصِيفَهُ» وإِنّمَا قَدَّرَه به لأَنّه أَقَلُّ ما كانُوا يَتَصَدَّقُون به في العَادَة. أَو مِلْ‌ءُ كَفَّيِ الإِنسانِ المُعْتَدِلِ إِذا مَلأَهُمَا ومَدَّ يَدَه بهما، وبه سُمِّيَ مُدًّا، هكذا قَدَّرُوه، وأَشار له في اللِّسَان.

وقد جَرَّبْتُ ذلِكَ فَوَجَدْتُه صَحِيحًا، الجمع: أَمْدَادٌ، كَقُفْلٍ وأَقْفَالٍ، ومِدَدَةٌ ومِدَدٌ، كعِنَبةٍ وعِنَبٍ، في القليل، ومِدَادٌ، بالكسر في الكثير، قال:

كَأَنَّمَا يَبْرُدْنَ بِالغَبُوقِ *** كَيْلَ مِدَادٍ مِنْ فَحًا مَدْقُوقِ

قِيل: ومنه: سُبْحَانَ الله مدَادَ كَلِمَاتِه، ومِدَادَ السَّمواتِ ومَدَدَها؛ أَي قَدْرَ ما يُوازِيها في الكَثْرَة عِيَارَ كَيْلٍ أَو وَزْنٍ أَو عَدَدٍ أَو ما أَشْبَهه مِن وُجُوه الحَصْرِ والتقديرِ، قال ابنُ الأَثير: وهذا تَمْثِيلٌ يُرَادُ به التقديرُ، لأَن الكلام لا يَدْخُل في الكَيْلِ والوَزْنِ، وإِنما يَدْخُل في العَددِ، والمِدَاد مَصْدَرٌ كالمَدَدِ، يقال: مَددْت الشي‌ءَ مَدًّا ومِدَادًا، وهو ما يُكْثَّر به ويُزَاد.

والمُدَّةُ، بالضَّم: الغايَةُ من الزَّمانِ والمَكَانِ، ويقال: لهذه الأُمَّةِ مُدَّةٌ أَي غايَةٌ في بَقَائِها، والمُدَّة: البُرْهَةُ من الدَّهْرِ. وفي الحديثِ «المُدَّة التي مَادَّ فيها أَبا سُفْيَانَ» قال ابن الأَثير: المُدَّة: طائفةٌ مِن الزَّمَانِ تَقَعُ على القَليلِ والكَثِير. ومَادَّ فيها أَي أَطَالَها.

والمُدَّة: اسْمُ ما استَمْدَدْتَ بِه مِن المِدَاد عَلَى القَلَمِ، والعَامَّة تقول بالفتح والكسر، ويقال مُدَّني يا غُلامُ مُدَّةً منِ الدَّوَاة. وإِن قلتَ: أَمْدِدْني مُدَّةً، كان جائزًا، وخُرِّج على مَجْرَى المَدَد بها والزِّيادة.

والمِدَّةُ بالكسر: القَيْحُ المُجْتَمِع في الجُرْح.

والأُمْدُودُ، بالضمّ: العَادَة.

والأَمِدَّةُ، كالأَسِنَّةِ جَمْعِ مِدَاد، كسِنَانٍ، وضبطه الصاغانيُّ بكسر الهمزةِ بِخَطِّه، فليس تَنظيرُه بالأَسِنَّة بصحيح: سدَى الغَزْلِ، وهي أَيضًا المِسَاكُ في جَانِبَيِ الثَّوْبِ إِذا ابتُدِئَ بِعَمَلِه، كذا في اللسان.

والإِمِدَّانُ بِكسرتينِ، وفي بعض النسخ: كعِفِتَّانٍ: الماءُ المِلْحُ، كالمِدَّانِ، بالكسر، وهذه عن الصاغانيّ، وقيل: هو الشديدُ المُلُوحَةِ، وقيل: مِيَاهُ السِّبَاخِ، قال: وهو إِفْعِلَانٌ، بكسر الهمزة، وقال زيدُ الخَيْلِ، وقيل: هو لأَبي الطَّمَحَانِ.

فَأَصْبَحْنَ قَدْ أَقْهَيْنَ عَنِّي كَمَا أَبَتْ *** حِيَاضَ الإِمِدَّانِ الظِّبَاءُ القَوامِحُ

والإِمِدَّانُ: النَّزُّ، وقد تُشَدَّد المِيمُ وتُخَفَّف الدالُ، وهو قولٌ آخرُ أَوردَه صاحبُ اللسان، وموضعه أَم د.

ومن المَجاز قولهم: سُبحَانَ الله مِدَادَ السَّموَاتِ ومِدَادَ كلماتِه ومَدَدَهَا أَي عَدَدَهَا وكَثْرَتَها ذكره ابنُ الأَثير في النّهايَة.

والإِمْدَادُ: تأْخِير الأَجَلِ والإِمهالُ، وقد أَمَدَّ له فيه: أَنْسَأَه.

والإِمداد: أَنْ تَنْصُرَ الأَجْنَادَ بِجَمَاعةٍ غَيْرَكَ، والمَدَدُ: أَن تصير لهم ناصِرًا بنفْسِك.

والإِمدادُ: الإِعطاءُ والإِغاثَةُ، يقال: مَدَّه مِدَادًا وأَمَدَّه: أَعطاه، وحكى اللِّحْيَانيُّ: أَمَدَّ الأَميرُ جُنْدَه بالخيلِ والرِّجالِ وأَعانهم وأَمَدَّهم بمالٍ كثيرٍ وأَغَاثَهُم، قال: وقال بعضهم: أَعْطَاهم، والأَوّل أَكْثَرُ، وفي التنزيل العزيز {وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ} أَو ما كان في الشَّرِّ فإِنك تقول مَدَدْتُه، وما كان في الخَيْرِ تقول أَمْدَدْتُه بالأَلف، قاله يُونُس، قال شيخُنا: هو على العَكْس في وَعَدَ وأَوْعَدَ، ونقَلَ الزمخشريُّ عن الأَخفش: كُلُّ ما كان من خَيْرٍ يقال فيه: مَدَدْتُ، وما كان مِن شَرٍّ يقال فيه: أَمْدَدْت، بالأَلف. قلت: فهو عكس ما قاله يُونُس. وقال المُصَنّف في البصائر: وأَكثَرُ ما جاءَ الإِمداد في المَحْبُوب، والمَدَد في المَكْرُوه، نحو قوله تعالى: {وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمّا يَشْتَهُونَ}.

{وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا}.

والإِمداد: أَن تُعُطِيَ الكاتِبَ مَدَّةَ قَلَمٍ أَو مُدَّةً بقلم، كما في بعض الأُمَّهاتِ، يقال: مُدَّني يا غلامُ وأَمْدِدْنِي، كما تقدّم.

والإِمداد في الجُرْحِ: أَن تَحْصُلَ فيه مِدَّةٌ، وهي غَثِيثَتُه الغَلِيظَة، والرَّقيقةُ: صَدِيدٌ، كما في الأَساس، قال الزمخشريّ: أَمَدَّ الجُرْحُ. رُبَاعِيًّا لا غيرُ، ونقلَه غير واحدٍ.

والإِمدادُ في العَرْفَجِ: أَن يَجْرِيَ الماءُ في عُودِهِ، وكذا الصِّلِّيَان والطَّرِيفة.

والمَادَّةُ: الزِّيادَةُ المُتَّصِلَةُ. وَمَادَّةُ الشيْ‌ءِ: ما يَمُدُّه، دَخلتْ فيه الهاءُ للمبالغة. والمَادَّةُ: كُلُّ شَيْ‌ءٍ يكونُ مَدَدًا لغيرِهِ، ويقال: دَعْ في الضَّرْع مَادَّةَ اللَّبنِ. فالمَتْرُوك في الضَّرْع هو الدَّاعِيَةُ، وما اجتمع إِليه فهو المَادَّة.

والمُمَادَّةُ: المُمَاطَلَةُ وفُلانٌ يُمَادُّ فُلانًا؛ أَي يُمَاطِله ويُجَاذِبه. وفي الحديث «إِن شَاؤُوا مَادَدْنَاهُم».

والاسْتِمْدادُ: طَلَبُ المَدَدِ والمُدَّةِ.

وفي التهذيب في ترجمة دمم: دَمْدَمَ إِذا عَذَّبَ عَذَابًا شَدِيدًا، ومَدْمَدَ إِذا هَرَبَ، عن ابنِ الأَعرابيّ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

مَدَّ الحَرْفَ يَمُدُّه مَدًّا: طَوَّلَه. قال ثعلب: كُلُّ شيْ‌ءٍ مَدَّه غَيْرُه فهو بأَلفٍ، يقال مَدَّ البَحْرُ وامْتَدَّ الحَبْلُ، قال الليث: هكذا تقول العرب.

وفي الحديث «فَأَمَدُّها خَوَاصِرَ» أَي أَوْسَعُها وأَتَمُّها.

والأَعرابُ أَصْلُ العَربِ ومَادَّةُ الإِسلامِ، وهو مَجَازٌ؛ أَي لِكَوْنِهم يُعِينُونَ ويُكَثِّرُونَ الجُيُوشَ ويُتَقَوَّى بِزكاةِ أَمْوَالِهم.

وقد جاءَ ذلك في حديث سيّدنا عُمَر رضي ‌الله‌ عنه.

والمَدَدُ: العساكر التي تَلْحَق بالمَغَازِي في سَبِيلِ الله، قال سيبويهِ: والجَمْع أَمْدَادٌ، قال: ولم يُجَاوِزُوا به هذا البِنَاءَ، ومن ذلك الحَديثُ: «كان عُمَرُ رضي ‌الله‌ عنه إِذا أَتى أَمْدَادُ أَهْلِ اليَمَنِ سأَلَهم: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ». وفي حديث عَوْفِ بن مالكٍ: «وَرافَقَني مَدَدِيّ من اليَمَنٍ» هو مَنْسوبٌ إِلى المَدَدِ.

وكُلُّ ما أَعَنْتَ به قَوْمًا في حَرْبٍ أَو غيرِه فهو مادَّة لَهم.

وفي حَدِيثِ الرَّمْيِ: «مُنْبِلُه والمُمِدُّ به» أَي الذي يَقُوم عند الرَّامِي فيُنَاوِلُه سَهْمًا بعد سَهْم أَو يَرُدُّ عَلَيْه النَّبْلَ من الهَدَفِ، يقال: أَمَدَّه يُمِدُّه فهو مُمِدٌّ.

وفي حديث عليٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه: «قائلُ كَلِمَةِ الزُّورِ والذي يَمُدُّ بِحَبْلِهَا في الإِثْمِ سَوَاءٌ» مَثَّلَ قائِلَها بالمَائحِ الذي يَمْلأُ الدَّلْوَ في أَسْفَلِ البِئرِ، وحاكِيَهَا بالماتِح الذي يَجْذِب الحَبْلَ على رَأْسِ البِئرِ ويَمُدُّه، ولهذا يقال: الرَّاوِيَةُ أَحَدُ الكَاذِبَيْنِ.

ومَدَّ الدَّوَاةَ، وأَمَدَّها: زاد في مائِها ونِقْسِهَا، ومَدَّهَا وأَمَدَّها: جَعَلَ فيها مِدَادًا، وكذلك مَدَّ القَلَمَ وأَمَدَّه، واسْتَمَدَّ مِن الدَّواة: أَخَذَ منها مِدَادًا. والمَدَّة، بالفتحِ، الوَاحِدَةُ، مِن قَوْلِك مَدَدْتُ الشيْ‌ءَ.

ومن المَجاز: مَدَّ اللهُ في عُمرِك؛ أَي جعَل لِعُمْرِك مُدَّةً طَوِيلَةً، ومَدَّ في عُمْرِه بشيْ‌ءٍ وامْتَدَّ عُمرُه، ومَدَّ اللهُ الظِّلَّ، وامْتَدَّ الظِّلُّ والنَّهارُ، وظِلٌّ مَمْدُودٌ. وامْتَدَّتِ العِلَّة. وأَقمْتُ [عنده] مُدَّةً مَدِيدَةً. كل ذلك في الأَساس.

وقال ابنُ القطاع في الأَفعال: مَدَّ اللهُ تعالى في العُمْرِ: أَطالَه، وفي الرِّزْقِ: وَسَّعَه. والبَحْرُ والنَّهْرُ: زَادَ، ومَدَّهُمَا غَيْرُهما. وفي اللسان امْتَدَّ النهارُ: تَنَفَّس، وامْتَدَّ بهم السَّيْرُ: طَالَ، ومَدَّ في السَّيْرِ: مَضَى.

وفي الأَفعال لابن القَطَّاع: وأَمَدَّ اللهُ تعالى في الخَيْرِ: أَكْثَرَه.

ومَدَّ الرَّجُلُ في مِشْيتِه: تَبَخْتَر.

ومُدَّ الإِنسانُ مَدًّا: حَبِنَ بَطْنُه.

وفي الأَساس: وهذا مَمَدُّ الحَبْلِ. وطِرَازٌ مُمَدَّد.

قلت: أَي مَمدود بالأَطْنَاب، شُدِّد للمبالَغة. ومادَّهُ الثَّوبَ وتَمَادَّاهُ، ومن المَجازِ: مَدَّ فُلانٌ فِي وُجُوهِ المَجْدِ غُرَرًا، وله مالٌ مَمْدودٌ: كثير.

واستدرك شيخنا هنا نَقْلًا عن بعض أَربابِ الحواشي: تَمَادى به الأَمْر أَصلُه تَمادَدَ، بدالَيْنِ مُضَعَّفًا، ووقَع الإِبدال، كتَقَضَّى ونَحْوِه، وقيل، من المَدَى، وعليه الأَكْثَر، فلا إِبدالَ، وموضِعه المعتلُّ. قلت: وفي اللسان، قال الفرزدق:

رَأَتْ كَمَرًا مِثْلَ الجَلَامِيدِ فَتَّحَتْ *** أَحَالِيلَها لَمَّا اتْمَأَدَّتْ جُذُورُها

قيل في تفسيره: اتمأَدَّتْ، قال ابنُ سِيده: ولا أَدرِي كيف هذا، اللهُمَّ إِلّا أَن يريد تَمَادَّتْ فسَكَّنَ التَّاءَ واجْتَلَب للساكِن أَلِفَ الوَصْلِ كما قالوا: {ادَّكَرَ} وادارأتم {فَادّارَأْتُمْ} فِيها) وهَمَز الأَلف الزائدة كما هَمز بعضُهم أَلِف دَابَّة فقال دَأَبَّة.

ومُدٌّ، بالضمّ، اسمُ رجُلٍ من دارِمٍ، قال خالدُ بن عَلْقَمَة الدَّارِمِيّ يَهجو خُنْشُوشَ بن مُدٍّ:

جَزَى اللهُ خُنْشُوشَ بنَ مُدٍّ مَلَامَةً *** إِذَا زَيَّنَ الفَحْشَاءَ للنَّاسِ مُوقُها

وأَرْضٌ مَمْدُودَةٌ أُصْلِحَتْ بالمِدَادِ. والمَدَادِينُ جَمْع مِدَّانٍ، للمِيَاه المِلْحَةِ.

والمَدَّادُ، ككَتَّانٍ: الحَبَّارُ، وهو المَدَّادِيُّ أَيضًا، والولِيدُ بن مُسْلِم المَدَّادِيّ من شُعَرَاءِ الأَندلس في الدَّولَةِ العامِرِيّة.

وقد سَمَّوْا مَمْدُودًا.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


58-تاج العروس (درك)

[درك]: الدَّرَكُ محرَّكةً اللّحاقُ وقد أدْرَكَهُ إذا لَحِقَهُ وهو اسمٌ من الإِدْرَاكِ. وفي الصِّحاحِ: الإِدْرَاكُ اللّحُوقُ يقالُ: مَشَيْتُ حتى أَدْرَكْتُه وعشْتُ حتى أَدْرَكْتُ زَمَانَه.

ورجُلٌ دَرَّاكٌ كثيرُ الإِدْرَاكِ؛ قالَ الجَوْهَرِيُّ: وقلَّما يَجِي‌ءُ فَعَّال من أَفْعَلَ يُفْعِل إلَّا أنَّهم قد قالُوا حَسَّاس دَرّاك لُغَةٌ أَو ازْدِوَاجٌ. وقالَ غيرُه: ولم يجئ فَعَّال من أَفْعَلَ إلَّا دَرَّاكٌ من أَدْرَكَ، وجَبَّارٌ من أَجْبَره على الحُكْمِ أَكْرَهَه وسَآر من قَوْلِه أَسْأَر في الكأْسِ إذا أَبْقَى فيها سُوْرًا من الشَّرابِ وهي البَقِيَّةُ، وحَكَى اللَّحْيَانيُّ: رجُلٌ مُدْرِكَةٌ بالهاءِ سريعُ الإدْرَاكِ. وقال غيرُه: رجُلٌ مدْرِكٌ أيضًا أي كثيرُ الإِدْرَاكِ.

قالَ ابنُ بَرِّي: وشاهِدُ دَرَّاك قَوْلُ قَيْسِ بنِ رفَاعَة:

وصاحِبُ الوَتْرِ ليسَ الدهْر مُدْرِكَهُ *** عنْدي وإِني لدَرَّاكٌ بأَوْتارِ

وتَدارَكُوا تَلاحَقُوا أي لَحِقَ آخِرُهُم أَوَّلَهُم والدِّراكُ ككِتابٍ لَحاقُ الفَرَسِ الوَحْشَ وغيْرُها. يقالُ: فَرَسٌ دَرَكَ الطّريدَةَ يُدْرِكُها كما قالُوا: فَرَسٌ قَيْدُ الأَوَابدِ أي أَنَّهُ يُقَيِّدها.

والدِّراكُ إتْباعُ الشي‌ءِ بعضِهِ على بعضٍ في الأشْياءِ كُلِّها وهو المُدَارَكَةُ؛ وقد تَدَارَك. يقالُ: دَارَك الرجُلُ صَوْتَه أي تابَعَه. والمُتَدَارِكُ من القَوَافي والحُروفِ المتحرِّكَةِ ما اتَّفَقَ متحرِّكانِ بعدَهُما ساكِنٌ مِثْل فَعُو وأشْباه ذلِكَ؛ قالَهُ اللَّيْثُ.

وفي المُحْكَم، المُتَدَارِكُ مِنَ الشِّعْرِ: كُلُّ قافِيَة تَوالى فيها حَرْفانِ مُتَحرِّكانِ بينَ ساكنَيْنِ كمُتَفاعِلُنْ وومُسْتَفْعِلُنْ ومَفَاعِلُنْ وفَعَلْ إذا اعتمد على حرفٍ ساكِنٍ نحو فَعولُنْ فَعَلْ فاللامُ من فَعَلْ ساكنَةٌ، وفُلْ إذا اعْتَمدَ على حرفٍ متحرِّكٍ نحو فعولُ فُلْ، اللامُ من فُلْ ساكِنَةٌ والواو من فَعُولُ ساكِنَةٌ، سمِّي بذلِكَ لِتَوالي حَرَكَتيْن فيها، وذلِكَ أنَّ الحَرَكَات كما قدَّمنا من آلاتِ الوصْلِ وأَمَارَاتِه، ف كأنَّ بَعْضَ الحَرَكاتِ أدْرَكَ بَعْضًا ولم يَعُقْهُ عنه اعْتِراضُ ساكِنٍ بين المُتَحرِّكَيْنِ هذا نصّ ابن سِيْدَه في المُحْكَمِ. قالَ الصَّاغَانيُّ: ومِثَالُه قَوْل امْرِئِ القَيْسِ:

قِفَا نَبْكِ من ذِكْرَى حَبِيْبٍ ومَنْزِلِ *** بسِقْطِ اللِّوَى بَيْن الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

والتَّدْريكُ من المَطَرِ أنْ يُدَارِكَ القَطْرُ كأَنَّه يُدْرِكُ بعضُه بعضًا، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ وأَنْشَدَ أَعْرَابيٌّ يخاطِبُ ابْنَه:

وَا بِأَبِي أَرْواحُ نَشْرِ فِيكا *** كأَنَّه وهْنٌ لمن يَدْرِيكا

إذا الكَرَى سِنَاتهِ يُغْشِيكا *** رِيْحَ خُزَامَى وُلِّيَ الرَّكِيْكا

أَقْلَعَ لمَّا بَلَغَ التَّدْرِيكا

واسْتَدْرَكَ الشي‌ءَ بالشي‌ءِ إذا حاوَلَ إدْرَاكَه به واسْتَعْمل هذا الأَخْفَش في أَجْزاءِ العُروضِ لأنَّه لم ينْقِص من الجزءِ شي‌ءٌ فيَسْتَدْرِكه.

وأدْرَكَ الشي‌ءُ إدْراكًا بَلَغَ وقْتَه وانْتَهَى ومنه أَدْرَك التَّمر والقِدْر إذا بَلَغَت إنَاها. وأدْرَكَ الشي‌ءُ أيضًا إذا فَنِيَ حَكَاه شَمِرٌ عن اللَّيْثِ قالَ: ولم أَسْمَعْه لغيرِه، وبه أَوَّل قَوْله تعالَى: بلْ أَدْرَكَ عِلْمُهم أي فَنِيَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ. قالَ الأَزْهَرِيُّ: وهذا غيرُ صحيحٍ في لغَةِ العَرَبِ، وما عَلِمْتُ أَحَدًا قالَ: أَدْرك الشي‌ءُ إذا فَنِيَ فلا يعرَّجُ على هذا القَوْلِ، ولكنْ يقالُ: أَدْرَكَتِ الثِّمارُ إذا بَلَغَتْ إناهَا وانْتَهَى نُضْجها.

قُلْتُ: وهذا الذي أَنْكَرَه الأَزْهَريُّ على اللّيْثِ فقَدْ أَثْبَتَه غيرُ واحِدٍ من الأَئِمَّةِ وكَلَامُ العَرَبِ لا يَأْبَاهُ فإنَّ إنْتِهاءَ كلَّ شيْ‌ءٍ بحسبِه فإذا قالُوا: أَدْرَكَ الدَّقيقُ فبأَيِّ شي‌ءٍ يفَسَّرُ أَيقالُ إنَّه مِثْلُ إدرَاكِ الثّمار والقِدْر وإنَّما يقالُ انْتَهَى إلى آخِرِه ففَنِيَ.

قالَ ابنُ جني في الشَّواذِ: أَدْرَكْت الرَّجُلَ وادَّرَكْته وادَّرَك الشي‌ءُ إذا تَتَابَعَ ففَنِيَ وبه فسَّر قَوْله تعالَى: {إِنّا لَمُدْرَكُونَ}. وأَيْضًا فإنَّ الثِّمارَ إذا أَدْرَكَتْ فَقَد عُرِّضَتْ للفَناءِ وكذلِكَ القدر وكلُّ شي‌ءٍ. انْتَهَى إلى حدِّهِ فالفَنَاءُ من لوازِمِ معْنَى الإِدْرَاكِ، ويُؤَيِّد ذلِكَ تَفْسِيرُ الحَسَنِ للآيةِ على ما يَأْتِي فتأَمَّلْ.

وقَوْلُه تعالَى: {حَتّى إِذَا ادّارَكُوا} فِيها جَمِيعًا أصلُهُ تَدَارَكوا فأُدْغِمَتْ التاءُ في الدَّالِ واجْتُلِبَت الأَلِفُ ليَسْلَم السكُون. وقَوْلُه تعَالَى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ،} بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ قال الحَسَنُ فيما رُوِيَ عنه: أي جَهِلوا عِلْمَها ولا عِلْمَ عندَهُم من أمْرِها كذا في النسخِ وفي بعضِ الأُصُولِ: في أمْرِها. قال ابنُ جني في المحتسب: مَعْناه أَسْرَع وخَفُّ فلم يثْبتْ ولم تَطْمئِنّ لليَقِين به قَدَم.

قُلْتُ: فهذا التَّفْسِير تأْيِيدٌ نَقَلَه شَمِرٌ عن اللَّيْثِ. قالَ الأَزْهَرِيُّ: قَرَأَ شُعْبَة ونافِعٌ: «بَلِ ادّارَكَ»، وقَرَأَ أَبُو عَمرو: بل أَدْرَك، وهي قرَاءَةُ مجاهِدٍ وأَبي جَعْفَرٍ المَدَنيّ، ورُوِيَ عن ابنِ عَبَّاس أَنَّه قَرَأ: «بلى أَأَدْرَك عِلْمُهم»، يُسْتَفهم ولا يُشَدَّد، فأَمَّا مَنْ قَرَأَ {بَلِ ادّارَكَ} فإنَّ الفَرَّاءَ قالَ: معْنَاهُ لغَةً في تَدَارَك أي تَتَابَعَ عِلْمُهُم في الآخِرَةِ، يُرِيدُ بعلمِ الآخِرَةِ تَكُون أَوْ لا تَكُون، ولذلِكَ قالَ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ}، قالَ: وهي في قَرَاءَةِ أَبيٍّ أَم تَدَارَكَ، والعَرَبُ تجْعَلُ بَلْ مَكَانَ أَمْ، وأَمْ مكانَ بَلْ إذا كانَ أَوَّلَ الكَلِمَةِ اسْتِفْهامٌ مِثْل قَوْلِ الشاعِرِ:

فو الَّله ما أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَتْ *** أَم البُومُ أَمْ كلٌّ إليَّ حَبِيبُ

مَعْنَى أَمْ بَلْ؛ وقالَ أَبُو مَعَاذٍ النحويُّ: ومَنْ قَرَأَ بَلْ أَدْرَكَ، و {بَلِ ادّارَكَ} فمعْنَاهُما واحِدٌ، يقولُ: هُم عُلَمَاءُ في الآخِرَةِ كقَوْلِه تعالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا}، ونَحْو ذلِكَ. قالَ السَّدِيُّ في تفْسِيرِه، قالَ اجْتَمَعَ عِلْمُهُم في الآخِرةِ ومعْنَاهَا عنْدَه أي عَلِمُوا في الآخِرَةِ أَنَّ الذي كانُوا يُوعَدُون به حَقٌّ وأَنْشَدَ للأَخْطَلِ:

وأَدْرَكَ عِلْمي في سُوَاءَة أَنَّها *** تقيمُ على الأَوْتار والمَشْرَبِ الكَدْرِ

أي أَحَاطَ عِلْمِي بها أَنَّها كذلِكَ. قالَ: والقَوْلُ في تفْسِيرِ أَدْرَكَ وادّارَكَ ما قالَ السَّدِيُّ وذَهَبَ إليه أَبُو معاذٍ النحويُّ وأَبُو سَعِيْدٍ، والذي قالهُ الفَرَّاءُ في مَعْنَى تَدَارَك أي تَتَابَعَ عِلْمُهُم في الآخِرَةِ أَنَّها تكُونُ أَوْلا تكُونُ ليسَ بالبَيِّنِ، إنَّما المعْنَى أَنَّه تَتَابَع عِلْمُهُم في الآخِرَةِ وتَواطَأَ حِيْن حَقَّت القيامَةُ وخَسِرُوا بَانَ لهم صِدْقُ ما وُعِدُوا حِيْن لا ينْفَعُهم ذلِكَ العِلْمُ، ثم قالَ جلَّ وعزَّ: بَلْ هُمُ اليَوْمَ في شكٍّ من عِلْمِ الآخِرَةِ {بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ} أي جَاهِلُون، والشَّك في أَمْرِ الآخِرَةِ كفرٌ. وقالَ شَمِرٌ: هذه الكَلِمَةُ فيها أَشْيَاء، وذلِكَ أَنَّا وجَدْنا الفِعْلَ اللازِمَ والمُتَعَدي فيها في أَفْعَلَ وتَفَاعَلَ وافْتَعَل

واحِدًا، وذلِكَ أَنَّك تقولُ أَدْرَكَ الشي‌ءَ وأَدْرَكْتُه وتَدَارَك القومُ وادَّارَكوا وادَّرَكُوا إذا أَدْرَكَ بعضُهم بعضًا. ويقالُ: تَدَاركتُه وادَّارَكْتُه وادَّرَكْتُه، وأَنْشَدَ:

تَدَاركتُما عَبْسًا وذُبْيان بعْدَ ما *** تفانَوْا ودَقُّوا بينهم عِطْر مَنْشِمِ

وقالَ ذُو الرُّمَّةِ:

خَزامى اللوى هبت له الريح بعد ما *** علا نورها مَجَّ الثَّرَى المُتَدارِك

فهذا لازِمٌ. وقالَ الطرمَّاحُ:

فلمَّا ادَّرَكْنَا هُنَّ أَبْدَيْنَ للهَوَى

وهذا متعدٍّ. وقالَ اللهُ تعالَى في اللَّازِمِ: «بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ». قالَ شَمِرٌ: وسَمِعْتُ عَبْد الصَّمَدِ يحدِّث عن الثوريِّ في قولِهِ تعالَى هذا، قالَ مجاهِدٌ: أَمْ تَواطَأَ عِلْمُهُم في الآخِرَةِ، قالَ الأَزْهَرِيُّ: وهذا يوافقُ قَوْلَ السَّدِيِّ لأَنَّ مَعْنَى تَواطَأَ تحقَّقَ واتَّفَقَ حِيْنَ لا يَنْفَهم، لا على أَنَّه تَواطَأَ بالحَدْسِ كما ظنَّه الفرَّاءُ؛ قالَ: وأَمَّا ما رُويَ عن ابنِ عَبَّاس أَنَّه قالَ: بلى آأَدْرَكَ عِلْمُهُم في الآخِرَةِ فإِنَّه إنْ صحَّ اسْتِفْهامٌ فيه ردٌّ وتهكُّمٌ، ومَعْنَاه لم يُدْرِكْ عِلْمهم في الآخِرَةِ، ونَحْو ذلِكَ رَوَى شعْبةُ عن أَبي حَمْزَة عن ابنِ عَبَّاس في تفْسِيرِه؛ ومِثْلُه قَوْلُه تعَالَى: {أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}؛ معْنَى أَمْ أَلِف الاسْتِفْهام كأَنَّه قالَ أَله البَناتِ ولكُم البَنُون، اللَّفظُ لفظُ الاسْتِفْهام ومعْنَاهُ الردّ والتكْذِيب لَهُم.

والدَّرَكُ يُحَرَّكُ ويُسَكَّنُ هكذا هو في الصِّحاحِ والعُبَابِ ولا قلق في العبارَةِ كما قالَهُ شَيْخُنَا؛ والضبْطُ عنْدَه وإنْ كانَ راجِعًا لأَولِ الكَلِمَةِ فإنَّه لمَّا عَدَا التسْكِين فإِنَّه في الأَوَّلِ لا يتصور بَلْ هو على كلِّ حالٍ راجعٌ للوَسَطِ، ومِثْلُ هذا لا يُحْتاجُ التَّنْبِيه عَلَيه. بَقي أَنَّه لو قالَ: والدَّرْكُ: ويُحَّرَّكُ على مقْتَضَى اصْطِلاحِه فاتَهُ أَرْجَحِيَّة التَّحْرِيكِ كما نَصُّوا عليه فتأَمَّلْ التَّبِعَةُ يقالُ: ما لَحِقَك من دَرَكٍ فعليَّ خلاصُه، يُرْوَى بالوَجْهَين. وفي الأَساسِ: ما أَدْرَكه من دَرَكٍ فعليَّ خلاصُه وهو اللَّحَقُ من التَّبِعَةِ أي ما يَلْحَقُه منها؛ وشاهِدُ التَّحْرِيك قَوْلُ رُؤْبَة:

ما بعدنا من طلب ولا دَرَك

ومنه ضَمَانُ الدَّركِ في عهْدةِ البَيْعِ.

والدَّرَكُ: أَقْصَى قَعْرِ الشي‌ءِ يُرْوَى بالوَجْهَين كما في المُحْكَم؛ زَادَ في التَّهْذِيبِ: كالبحرِ ونَحْوه. وقالَ شَمِرٌ: الدَّرَكُ: أَسْفَل كلِّ شي‌ء ذِي عُمْقٍ كالرَّكِيَّةِ ونحْوِها. وقالَ أَبُو عَدْنانٍ: دَرَكُ الرَّكِيَّةِ قَعْرُها الذي أُدْرِكَ فيها الماءُ؛ وبهذا تَعْلم أَنَّ قَوْلَ شَيْخِنَا وتفْسِيرَه بقَوْلِه: أَقْصَى قعْرِ الشي‌ءِ غيرُ مَعْرُوفٍ، وعِبَارَتَه غيرُ دَالَّةٍ على معْنًى صحيحٍ غيرُ وجيهٍ فتأَمَّلْ.

وقالَ المُصَنِّفْ في البصائِرِ: الدَّرَكُ اسمٌ في مقابَلَةِ الدَّرَجِ بمَعْنَى أَنَّ الدَّرَجَ مراتب باعتبارِ الصّعُودِ والدرك مراتب اعتبارًا بالهُبوطِ ولهذا عَبَّرُوا عن مَنَازِلِ الجنَّةِ بالدَّرَجاتِ وعن منازِلِ جَهَنَّم بالدَّرَكاتِ الجمع: أَدْرَاكٌ هو جَمْعٌ للمُحَرَّكِ والسَّاكِن، وهو في الأَوَّلِ كثيرٌ مقيسٌ، وفي الثاني نادِرٌ، ويُجْمَعُ أَيْضًا على الدَّرَكاتٍ وهي مَنَازلُ النارِ، نَعُوذُ باللهِ تعالَى منها. وقالَ ابنُ الأَعْرَابىِّ: الدَّرْكُ: الطَّبَقُ من أَطْباقِ جهنَّم، ورُوِيَ عن ابنِ مَسْعودٍ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه أَنَّه قالَ: الدَّرْكُ الأَسْفَلُ تَوابِيتُ من حديدٍ تصَفَّدُ عليهم في أَسْفلِ النارِ؛ وقالَ أَبُو عُبَيْدَة: جهنَّمُ دَرَكَاتٌ أي مَنَازل وطَبَقَات، وقَوْلُه تعالَى: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} قَرَأَ الكُوفِيُّون غَيْر الأَعْشَى والبرجميّ بسكونِ الرَّاءِ، والبَاقُون بفَتْحِها.

والدَّرَكُ بالتَّحرِيكٍ حَبْلٌ يُوَثَّقُ في طَرَفِ الحَبْلِ الكَبير ليكونَ هو الذي يَلي الماءَ ولا يعفَن الرِّشاءُ عنْدَ الاسْتِقاءِ كما في المُحْكمِ. وقالَ الأَزْهَرِيُّ: هو الحَبْلُ الذي يُشَدُّ به العَرَاقي ثم يُشَدُّ الرِّشاءُ فيه وهو مَثْنى. وقالَ الجَوْهَرِيُّ: قطْعَةُ حَبْلٍ يُشَدُّ في طرفِ الرِّشاءِ إلى عَرْقُوَةِ الدَّلْوِ ليكونَ هو الذي يَلِي الماءَ فلا يعفَن الرِّشاءُ، ومِثْلُه في العُبَابِ.

والدِّرْكَةُ بالكسر حَلْقَةُ الوَتَرِ التي تَقَعُ في الفُرْضَةِ وهي أَيْضًا سَيْرٌ يوصَلُ بِوَتَرِ القَوْسِ العربيَّةِ. وقالَ اللّحْيَانيُّ: الدِّرْكَةُ: قِطْعَةٌ توصَلُ في الحِزَامِ إذا قَصُرَ وكذلِكَ في الحَبْلِ إذا قَصُرَ ويُقالُ: لا بارَكَ اللهُ تعالى فيه ولا دَارَكَ ولا تارَكَ إتْباعٌ كُلّه بمعْنًى.

ويومُ الدَّرَكِ مُحَرَّكَةً من أَيامِهِم، قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: أحْسَبَهُ كانَ بين الأَوْسِ والخَزْرَجِ. والمُدَارِكَةُ هي المرْأَةُ التي لا تَشْبَعُ من الجِمَاعِ فكأنَّ شَهْوَتَها تَتْبَعُ بَعْضَها بَعْضًا.

والمُدْرِكَةُ كمُحْسِنَةٍ ماءَةٌ لبَني يَرْبوعٍ كذا في العُبَابِ، وقالَ نَصْر في كتابِه: هي لبَنِي زنباع من بني كلابٍ. وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: وتُسَمَّى الحَجْمَةُ بين الكَتفَيْنِ المُدْرِكَةُ ومُدْرِكَةُ بنُ الياسَ بن مُضَر اسْمُه عَمْروٍ ولَقَّبَه بها أَبُوه لمَّا أَدْرَك الإِبِلَ وقد ذُكِرَ في «خ ن بلد ف».

ودَرَّاك كشَدَّادٍ اسمُ رجُلٍ.

ومُدْرِكٌ كمُحْسِنٍ فَرَسٌ لكُلْثوم بن الحارثِ وهو مُدْرِكُ بن الحازيّ. ومُدْرِكُ بنُ زِيادٍ الفَزَارِيُّ، قَبْرُهُ بقَرْية زادية من الغوْطَة له حدِيثٌ من طريقِ بنته، ومُدْرِكُ بنُ الحارِثِ الأزدي الغَامِديّ له رُؤْبةٌ رَوَى عنه الوليدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمن الجرشيّ، ومُدْرِكُ الغفارِيُّ أبو الطُّفَيْلِ حدِيْثُه عنْدَ أَوْلادِهِ، وهو غَيْرُ أَبي الطُّفَيْلِ اللَّيْثِيِّ من الصَّحَابةِ صحابِيُّونَ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنهم.

ومُدْرِكُ بنُ عَوْفٍ البجلِيّ ومُدْرِكُ بنُ عَمَّارٍ مُخْتَلَفٌ في صُحْبَتِهِما؛ فابنُ عَوْف رَوَى عن عُمَرَ، وعَنْه قَيْسُ بنُ أَبي حازِم وهذا لم يَخْتَلِفوا فيه، وإنَّما اختَلَفُوا في ابن عمار قالُوا: الأَظْهَر أنه مُدْرِكُ بنُ عمارة بن عَقبَة بن أَبي مُعِيْطٍ وأنَّه تابِعِيٌّ، ثم رأيت ابنُ حَبَّان ذكَرَهما في ثقات التابِعِيْن، وقالَ في ابنِ عَمَارَة عِدَادُه في أَهْلِ الكُوفَةِ رَوَى عن ابنِ أَبي أَوْفَى وعنه يونُس بنُ أَبي إسْحق، ومُدْرِكُ بنُ سَعْدٍ مُحَدِّثٌ، وفَاتَه من التَّابِعِين: مُدْرِك بن عَبْدِ اللهِ ومُدْرِك أَبُو زيادٍ مولى عليٍّ، ومُدْرِك بن شَوْذَب الطاهِرِيّ، ومُدْرِك بن مُنِيْب ذَكَرَهم ابنُ حبَّان في الثَّقَاتِ؛ وفي الضّعَفاءِ مُدْرِك الطفاويّ عن حميد الطَّويل ومُدرِك القُهُنْدُزيّ عن أَبي حَنِيْفَة، ومُدْرِك بن عَبْدِ اللهِ أَبُو خالِدٍ، ومُدْرِك الطَّائيُّ، ومُدْرِك أَبُو الحَجَّاج ذَكَرَهم الحافِظُ الذّهَبيُّ، وخالِدُ بنُ دُرَيْكٍ كزُبَيْرٍ تابِعِيٌّ شامِيٌّ.

ودِرَاكٌ ككِتَابٍ اسمُ كَلْبٍ قالَ الكُمَيْت يَصِفُ الثورَ والكِلَابَ:

فاخْتَلَّ حِضْنَيْ دِرَاكٍ وانْثَنَى حَرِجًا *** لزَارِعٍ طَعْنَةٌ في شِدْقها نَجَل

أَي في جانِبِ الطَّعْنةِ سعةٌ. وزَارِع أَيْضًا اسمُ كَلْبٍ وقَدْ ذُكِرَ في مَوْضِعِه.

وقالُوا: دَرَاك كقَطامِ أي أَدْرِكْ مِثْلُ تَرَاكٍ بمعْنَى اتْرُكْ وهو اسمٌ لفِعْلِ الأَمْرِ وكُسِرَت الكافُ لاجْتِمَاعِ السَّاكِنين لأَنَّ حقَّها السّكون للأَمْر. قالَ ابنُ بَرِّي: جَاءَ دَرَاكَ ودَرَّاك وفَعَال وفَعَّال إنَّما هو من فعْلٍ ثلاثيٍّ ولم يُسْتَعْمل منه فِعْلٌ ثلاثيٌّ، وإنْ كانَ قد اسْتُعْمِل منه الدّرْكُ، قالَ جَحْدَرُ بنُ مالِكٍ الحَنْظَلِيُّ يخاطِبُ الأَسَدَ:

لَيْثٌ ولَيْثٌ في مَجالٍ ضنكِ *** كِلَاهما ذو أَنَف ومَحْكِ

وبَطْشةٍ وصَوْلَةٍ وفَتْكِ *** إِن يَكْشِف اللهُ قِناع الشَّكِ

بظَفَرٍ من حاجتِي ودَرْكِ *** فذا أَحَقُّ مَنْزِل برك

قالَ أَبُو سَعِيدٍ: وزَادَني هفَّان في هذا الشِّعْر:

الذِّئب يَعْوِي والغُرابُ يَبْكِي

والدَّرِيكة: كسَفِينَةٍ الطَّريدَةُ ومنه فَرَسٌ دَرَك الطَّرِيدة وقَدْ تَقَدَّمَ.

ودَرَكاتُ النارِ مُحرَّكةً مَنازِلُ أَهلِها جَمْع دَرَك محرَّكةً وقَدْ تَقَدَّمَ تفْسِيرُ ذلِكَ قريبًا.

* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيه: تَدَارَك الثَّرَيان أي أَدْرَك ثَرَى المَطَرِ ثَرَى الأَرْض.

وقالَ اللّيْثُ: الدَّرَكُ إِدْرَاك الحاجَةِ ومَطْلبِه. يقالُ: بكِّرْ فَفيهِ دَرَك، ويُسَكَّنُ وشاهِدُ قَوْل حَجْدَرٍ السَّابق.

وأدْرَكْتُه ببَصرِي رَأَيْتُه.

وأدْرَك الغلامُ بَلَغَ أَقْصَى غايَةِ الصّبَا. واسْتَدْرَكَ ما فَاتَ وتَدَارَكه بمعْنًى. واسْتَدْرَك عَلَيْه قَوْلَه أَصْلَحَ خَطَأَه ومنه المُسْتَدْرَك للحَاكِمِ على البُخَارِي.

وقالَ اللّحْيَانيُّ: المُتَدَارِكَة غَيْرُ المِتَوَاتِرَة. المُتَوَاتِرُ: الشي‌ءُ الذي يكونُ هُنَيْئةً ثم يجي‌ءُ الآخَر فإذا تَتَابَعَت فليْسَتْ مُتَوَاتِرة، وهي مُتَدَارِكة مُتَواتِرَة.

وطَعَنَهُ طَعْنًا دِرَاكًا وشَرِبَ شربًا دِرَاكًا وضربٌ دِرَاكٌ: مُتَتَابعٌ.

وأَدْرَكَ ماءُ الرَّكِيَّة إدْرَاكًا عن أَبي عَدْنان، أي وَصَلَ إلى دَرْكِها أي قَعْرِها.

وقالَ الأَزْهَرِيُّ: وسَمِعْتُ بعضَ العَرَبِ يقولُ للحَبْلِ الذي يعلَّقُ في حَلْقةِ التَّصْديرِ فيُشَدُّ به القَتَبُ الدَّرَكَ والتَّبْلِغَةَ.

وقالَ أَبُو عَمْروٍ: والتَّدْرِيكُ أَنْ تعلَّقَ الحَبْل في عُنُقِ الأُخر إذا قَرَنْته إليه.

وادَّرَكَه بمعْنَى أَدْرَكه، ومنه قَوْلُه تعَالَى: إنَّا لمُدَّركون بالتَّشْديدِ وهي قرَاءَةُ الأَعْرَجِ وعُبَيْد بن عُمَير نَقَلَه ابنُ جني.

وأَدْرَكَ بَلَغَ عِلْمه أَقْصَى الشي‌ءِ ومنه المدركات الخَمْس والمَدَارِك الخَمْسِ يعْنِي الحَوَاس الخَمْس، وقَوْلُه تعالى: {لا تَخافُ دَرَكًا وَلا تَخْشى} أي لا تخاف أَنْ يدْرِكَكَ فرْعَون ولا تَخْشَاه؛ ومن قَرَأَ لا تخف فمعْنَاه لا تَخَفْ أَنْ الغَرَقَ؛ وقَوْلُه تعالَى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ}، منهم مَنْ حَمَلَ ذلِكَ على البَصَرِ الذي هو الجارِحَةُ، ومنهم مَنْ حَمَلَه على البَصِيرةِ أي لا تُحِيطُ حَقِيْقة الذَّات المُقَدَّسةِ. والتَّدَارك في الإغَاثَةِ والنعْمَةِ أَكْثَر ومنه قَوْلُ الشاعِرِ:

تَدَارَكَني من عَثْرةِ الدّهرِ قاسمُ *** بما شاء من معرُوفِهِ المتداركِ

وتَدَارَكَت الْأَخْبار تَلَاحَقَتْ وتَقَاطَرَتْ. والحُسَيْنُ بنُ طاهِر بن دُركٍ بالضمِ المُؤَدِّبُ الدُّركيّ رَوَى عن الصفار وابن السَّمَّاكِ سَمِعَ منه ابن برهان سَنَة 380.

ودَارَك كهَاجَر من قُرَى أَصْبَهان منها الحَسَنُ بنُ محمَّدٍ الدَّارَكِيُّ رَوَى عنه عُثْمانُ بنُ أَحْمد بن شبل الدَّيْنُورِيُّ ويَعْمُر بنُ بشْرٍ الدَّارَكانيّ من قُرَى مر وصاحِبُ ابن المبَارَك. ودَوْرَك كنَوْفَل مدِينَةٌ من أَعْمالِ ملْطية وقد تكْسَرُ الراءُ هكذا ضَبَطَها المحب ابن الشحنة. ويقالُ له: مدرك ودراكة أي حاسة زائدة.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


59-تاج العروس (ظل ظلل ظلظل)

[ظلل]: الظِلُّ بالكسرِ: نَقِيضُ النضْجِ أَو هو الفَيْ‌ءُ.

وقالَ رُؤْبَة: كلُّ مَوْضعٍ تكونُ فيه الشمسُ فَتَزولُ عنه فهو ظِلٌّ وفي‌ءٌ، أَو هو أَي الظِلُّ بالغَداةِ والفَيْ‌ءُ بالعَشِيِّ فالظِلُّ ما كانَ قَبْلَ الشمسِ، والفَيْ‌ءُ ما فاءَ بَعْدُ.

وقالُوا: ظِلُّ الجَنَّة، ولا يقالُ فَيْئها لأَنَّ الشمسَ لا تُعاقِبُ ظِلَّها فيكونُ هناك فَي‌ءُ، إنَّما هي أَبدًا ظِلٌّ، ولذلِكَ قالَ عزّ وجلّ: {أُكُلُها دائِمٌ} {وَظِلُّها}، أَرَادَ وظِلُّه دائمٌ أَيْضًا.

وقالَ أَبُو حَيَّان، في ظلل: هذه المادّةُ بالظاءِ ان أفهمت سترًا أَو إقامةً أَو مصيرًا فتناول ذلِكَ كَلِمات كَثِيرَةٌ منها الظِلُّ وهو ما اسْتَتَرَتْ عنه الشمسُ الجمع: ظِلالٌ، بالكسرِ، وظُلُولٌ وأَظْلالٌ، وقد جَعَلَ بعضُهم للجَنَّةِ فَيْأً غَيْر أَنَّه قَيَّدَه بالظِلِّ، فقالَ يَصِفُ حالَ أَهْلِ الجنَّةِ وهو النابِغَةُ الجعديُّ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه:

فَسلامُ الإلهِ يَغْدُو عليهم *** وفُيُوءُ الفِرْدَوْسِ ذاتُ الظِّلال

وقالَ كُثَيِّرُ:

لقد سِرْتُ شَرْقيَّ البِلادِ وغَرْبَها *** وقد ضَرَبَتْني شَمْسُها وظُلُولُها

وقالَ أَبُو الهَيْثمِ: الظِّلُّ كلُّ ما لم تَطْلُع عليه الشمسُ والفَيْ‌ءُ لا يُدْعَى فَيْأً إلَّا بعْدَ الزَّوال إذا فاءَتِ الشمسُ أَي رَجَعَتْ إلى الجانِبِ الغَرْبيِّ، فما فاءَتْ منه الشمسُ، وبَقِيَ ظِلًّا فهو فَيْ‌ءٌ، والفَيْ‌ءُ شرقيٌّ والظِّلُّ غَرْبيٌّ، وإِنَّما يُدْعى الظِّلُّ ظِلًّا من أَوَّل النَّهار إلى الزَّوالِ، ثم يُدْعى فَيْأَ بعْدَ الزَّوالِ إلى اللَّيْلِ، وأَنْشَدَ:

فلا الظِّلّ من بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُه *** ولا الفَيْ‌ءُ من بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ

والظّلُّ: الجَنَّةُ، قيلَ: ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ،} وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، حَكَاهُ ثَعْلَبٌ قالَ: والحَرورُ النارُ، قالَ: وأَنَا أَقولُ الظِّلُّ الظِّلُّ بعَيْنِه، والحَرورُ الحَرُّ بعَيْنِه.

وقالَ الرَّاغِبُ: وقد يقالُ ظِلٌّ لكلِّ شي‌ءٍ ساتِرٌ مَحْمودًا كان أَو مَذْمومًا، فمن المَحْمودِ قَوْلُه عزّ وجلّ: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ}، من المَذْمومِ قَوْلُه تعالَى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ}.

والظِّلُّ أَيْضًا: الخَيالُ من الجِنِّ وغيرِه يُرَى.

وفي التَّهْذِيبِ: شِبْه الخَيَالِ من الجِنِّ.

والظِّلُّ أَيْضًا: فَرَسُ مَسْلَمَةَ بنِ عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوان.

ويُعَبَّرُ بالظِّلِّ عن العِزِّ والمَنَعَةِ والرَّفاهِيَةِ، ومنه قَوْلُه تعالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ}؛ أَي في عِزَّةٍ ومناعَةٍ، وكذا قَوْلُه تعالَى: {أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها}، وقَوْلُه تعالَى: {هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ}.

وأَظَلَّني فلانٌ أَي حَرَسَنِي وجَعَلَنِي في ظِلِّه أَي عِزّهِ ومناعَتِه، قالَهُ الرَّاغِبُ.

والظِّلُّ: الزِّئْبِرُ، عن ابنِ عَبَّادٍ.

والظِّلُّ: اللَّيلُ نَفْسُه، وهو قَوْلُ المْنَجمين زَعَمُوا ذلِكَ قالُوا: وإنّما اسْوَدَّ جِدًّا لأَنَّه ظِلُّ كُرَةِ الأَرْضِ، وبَقَدرِ ما زَادَ بَدَنُها في العِظَمِ ازْدَادَ سَوَادُ ظلِّها.

وقالَ أَبْو حَيَّان: وظِلُّ كلِّ شي‌ءٍ ذُرَاه وسِتْرُه، ولذلِكَ سُمِّي اللَّيلُ ظِلًّا.

أَو ظِلُّ اللَّيلِ: جُنْحُهُ، وفي الصِّحاحِ والفرق لابنِ السَّيِّدِ: سَوَادُه.

يقالُ: أَتَانَا في ظلِّ اللَّيلِ، قالَ ذُو الرُّمَّةِ:

قد أَعْسِفُ النَّازِحَ المَجْهولَ مَعْسِفُه *** في ظِلِّ أَخْضَرَ يَدْعُو هامَهُ البُومُ

قالَ الجَوْهَرِيُّ: هو اسْتِعارَةٌ لأَنَّ الظِّلَّ في الحَقيقَةِ إنَّما هو ضَوْءَ شُعاعِ الشمسِ دُوْنَ الشُّعاعِ، فإذا لم يَكُنْ ضَوْء فهو ظُلْمةٌ وليْسَ بظِلٍّ.

والظِّلُّ من كلِّ شي‌ءٍ شَخْصُه لمَكانِ سَوَادِه، ومنه قَوْلُهم: لا يُفارِقُ ظِلِّي ظِلَّكَ، كما يقولُون: لا يُفارِقُ سَوَادِي سَوَادَك.

وقالَ الرَّاغِبُ: قالَ بعضُ أَهْلِ اللُّغةِ: يقالُ للشَّخصِ ظِلٌّ، قالَ: ويدلُّ على ذِلكَ قَوْلُ الشاعِرِ:

لمّا نَزَلْنَا رَفَعْنَا ظِلَّ أَخْبِئَةٍ

وقالَ: ليْسَ يَنْصِبُون الظِّلَّ الذي هو الفَيْ‌ءُ إنما يَنْصِبُون الأَخْبِئَة.

وقالَ آخَرُ:

تَتْبَعُ أَفْيَاءَ الظِّلالِ عَشِيَّةً

أَي أَفْياء الشّخُوص، وليْسَ في هذا دَلالَةٌ، فإنَّ قَوْلَه رَفَعْنا ظِلَّ أَخْبئَة معْناهُ رَفَعْنا الأَخْبِئَة فرَفَعْنا به ظِلَّها فكأَنّه رَفَعَ الظّلَّ، وقَوْلُه: أَفْياء الظِّلالِ فالظِّلالُ عامٌّ والفَيْ‌ءُ خاصٌّ ففيه إضافَةُ الشي‌ءِ إلى جنْسِه، فتأَمَّل. أَو ظِلُّ الشي‌ءِ: كِنُّه.

والظِّلُّ من الشَّبابِ: أَوَّلُه، هكذا في النسخِ، والصَّوابُ على ما في نوادِرِ أَبي زَيْدٍ: يقالُ كان ذلِكَ في ظِلِّ الشتاءِ أَي في أَوّلِ ما جَاءَ من الشِّتاءِ.

والظِّلُّ من القَيْظِ: شِدَّتُه قالَ أَبُو زَيْدٍ: يقَالُ فَعَل ذلِكَ في ظِلِّ القَيْظِ أَي في شِدَّةِ الحَرِّ، وأَنْشَدَ الأَصْمَعِيُّ:

غَلَّسْتُه قبل القَطا وفُرَّطِه *** في ظِلِّ أَجَّاج المَقِيظِ مُغْبِطِه

والظِّلُّ من السَّحابِ: ما وَارَى الشّمسَ منه، أَو ظِلُّه: سَوادُهُ.

والشّمسُ مُسْتَظِلَّةٌ أَي هي في السَّحابِ.

وكلُّ شي‌ءٍ أَظَلَّك فهو ظُلَّةٌ.

والظِّلُّ من النَّهارِ: لَوْنُه إذا غَلَبَتْه الشّمسُ.

ويقالُ: هو يعيشُ في ظِلِّهِ أَي في كَنَفِهِ وناحِيَتِه أَي في عِزِّه ومَنَعَتِه وهو مجازٌ.

ومن أَمْثالِهم: اتْرُكْهُ، ويُرْوَى. لأَتْرُكَنَّه، تَرْكَ الظَّبْيِ ظِلَّهُ أَي مَوْضِع ظِلّهِ، كما في العُبَابِ، يُضْرَبُ للرَّجُلِ النُّفورِ لأَنَّ الظَّبْيَ إذا نَفَرَ من شي‌ءٍ لا يعودُ إليه أَبدًا، والأَصْلُ في ذلِكَ أَنَّ الظَّبْيَ يَكْنِس في الحَرِّ ويَأْتِيه السَّامي فيُثِيرُه ولا يعودُ إلى كِناسِه، فيُقالُ تَرَكَ الظَّبْيُ ظِلَّه، ثم صَارَ مَثَلًا لكلِّ نافِرٍ من شي‌ءٍ لا يعودُ إليه.

وقالَ الميْدانيّ: الظِّلُّ في المَثَلِ الكِناسُ الذي يُسْتَظَل به في شِدَّةِ الحَرِّ، يُضْرَبُ في هَجْرِ الرجُلِ صاحِبِه.

وتَرْكَ بسكونِ الرَّاءِ لا بفتْحِه كما وَهِمَ الجوهريُّ.

قلْتُ: هو في العُبَابِ والتَّهْذِيبِ كما أَوْرَدَه الجَوْهَرِيُّ بنَصِّه وكفى له شاهِدًا إيْراد هؤُلاء هكذا مَعَ أَنَّهم قد يَرْتكِبُون في الأَمْثالِ ما لا يرتكبُ في غيرِها فلا وَهْمَ حيْنَئِذٍ وأَحْسن من وَلَعِه بهذا التَّوْهِيم لو ذكر بَقِيَّة الأَمْثالِ الوَارِدَة فيه ممَّا ذَكَرَه الأَزْهَرِيُّ وغيرُه منها: أَتَيْته حِيْن شَدّ الظَّبي ظِلّه، وذلك إذا كنِس نصْفَ النَّهارِ فلا يَبْرَحُ مكْنَسَه، ومنها أَتَيْته حِيْن ينْشِدُ الظَّبْيُّ ظِلَّه؛ أَي حِيْن يشْتدُّ الحَرُّ فيَطْلبُ كِناسًا يَكْتَنّ فيه من شِدَّةِ الحَرِّ.

ومكانٌ ظَلِيلٌ: ذو ظِلٍّ، وفي العُبَابِ: وَارِفٌ، أَو دائِمُهُ قد دَامَتْ ظِلالَتُه.

وقَوْلُهم: ظِلٌّ ظَليلٌ يكونُ منه، وفي بعضِ النسخِ جنة وهو تَحْريفٌ صَوابُه منه كما ذَكَرْنا، أو مُبالَغَةٌ كقَوْلِهم: شِعْر شاعِرٌ، ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}.

وقالَ الرَّاغِبُ: هو كِنايَةٌ عن غَضَارَةِ العَيْشِ، وقَوْلُ أُحَيْحَة بن الجُلاح يَصِفُ النَّخْلَ:

هِيَ الظِّلُّ في الحَرِّ حَقُّ الظلِي *** لِ والمَنْظَرُ الأَحْسَنُ الأَجْمَلُ

قالَ ابنُ سِيْدَه: المعْنَى عنْدِي هي الشَّي‌ءُ الظَّلِيلُ، فوَضَعَ المَصْدرَ مَوْضِعَ الاسمِ.

وأَظَلَّ يَوْمُنا: صارَ ذا ظِلٍّ، وفي العُبَابِ والصِّحاحِ: كانَ ذا ظِلٍّ.

واسْتَظَلَّ بالظِلِّ: اكْتَنَّ به، وقيلَ: مالَ إليه وقَعَدَ فيه، وبالشَّجَرَةِ: اسْتَذْرَى بها.

واسْتَظَلَّ من الشَّي‌ءِ وبه أَي تَظَلَّلَ.

واسْتَظَلَّ الكَرْمُ: الْتَفَّتْ نَوامِيه.

واسْتَظَلَّتِ العُيونُ، وفي المحيطِ: عَيْنُ الناقةِ، غارَتْ، قالَ ذو الرُّمَّةِ:

على مُسْتَظِلَّاتِ العُيونِ سَوَاهِمٍ *** شُوَيْكِيَةٍ يَكْسُو بُرَاها لُغَامُها

يقولُ: غارَتْ عُيونُها فهي تَحْتَ العَجَاجِ مُسْتَظِلَّةٌ، وشَوَيْكِيَةٌ حِيْن طَلَعَ نَابُها.

واسْتَظَلَّ الدَّمُ: كان في الجَوْفِ وهو المُسْتَظَلُّ، ومنه قَوْلُه:

مِنْ عَلَق الجَوْفِ الذي كان اسْتَظَلَّ

وأَظَلَّنِي الشَّي‌ءُ: غَشِيَنِي، والاسمُ منه الظِّلُّ، بالكسرِ، وبه فَسَّرَ ثَعْلَب قَوْلَه تعالَى: {إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} أَو أَظَلَّنِي فلانٌ إذا دَنَا مِنّي حتى أَلْقَى عليَّ ظِلَّهُ من قُرْبه، ثم قيلَ: أَظَلَّك أَمْرٌ، ومنه الحدِيثُ: «أَيُّها الناسُ قد أَظَلَّكُم شَهْرٌ عظيمٌ؛ أَي أَقْبَلَ عَلَيكُم ودَنَا منْكُم كأَنّه أَلْقَى عَلَيكُم ظِلَّهُ.

وظَلَّ نَهَارَهُ يَفْعَلُ كذا وكذا، ولا يقالُ ذلِكَ إلَّا بالنَّهارِ، كما لا يقُولُون بَاتَ يَبِيتُ إلَّا باللَّيلِ، قالَهُ اللَّيْثُ وغيرُه، وهو المَفْهومُ من كَلامٍ سِيْبَوَيْه.

وقالَ غيرُهم: يقالُ أَيْضًا ظَلَّ لَيْلَهُ يَفْعَلُ كذا لأَنَّه قد سُمِع في بعضِ الشِّعْرِ، وهو قَوْلُ الأَعْشَى:

يَظَلّ رَجيمًا لرَيْبِ المَنُونِ

وقد رَد عليه ذلِكَ وأَجَابُوا عنه بأَنَّ ظَلَّ بمعْنَى صَارَ، ويُسْتَعْملُ في غيرِ النَّهارِ كما ذَكَرَه المصنّفُ في البلغة.

يَظَلُّ، بالفتحِ؛ أَي فهو من حَدِّ مَنَعَ، وهي لُغَةٌ نَقَلَها الصَّاغانيُّ ولا وَهْمَ فيه كما زَعَمَه شيْخُنا، ظَلَّا وظُلُولًا، بالضم.

وظَلِلْتُ أَعْمَلُ كذا، بالكسرِ؛ أَي من حَدِّ تَعِبَ، أَظَلّ ظُلولًا، وعلى هذه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ وصاحِبُ المِصْباحِ.

قالَ اللَّيْثُ: ومِنَ العَرَبِ من يحذِفُ لامَ ظَلِلْت ونَحْوها فيقُولُون ظَلْتُ، كَلَسْتُ، ومنه قَوْلُه تعالَى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}، وهو من شَواذِّ التَّخفيفِ. وكذا قَوْلُه تعالَى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفًا}، والأَصْلُ فيه ظَلِلْت، حُذِفَتِ اللامُ لثِقَلِ التَّضْعيفِ والكَسْرِ وبَقِيَتِ الظاءُ على فَتْحِها.

وقالَ الصَّاغانيُّ: أَسْقَطُوا الأُوْلَى اسْتِثْقالًا لاجْتِمَاعِ اللَّامَيْن وتَرَكُوا الظاء على فَتْحِها واكْتَفُوا بتعارُفِ مَوْضِعِه وقِيَام الثانِيَة مَقَامُها.

ويقُولُونَ: ظِلْتُ كَمِلْتُ وبه قَرَأَ ابنُ مَسْعودٍ والأَعْمَشُ وقَتَادَةُ وأَبُو البرهسم وأَبُو حَيْوَة وابنُ أَبي عَبَلَة، هي لُغَةُ الحجازِ على تَحْويلِ كَسْرةِ اللامِ على الظاءِ، ويجوزُ في غيرِ المكْسُورِ نَحْو هَمْت بذلِكَ أَي هَمَمْت، وأَحَسْتُ بذلِكَ أَي أَحْسَسْت، وهذا قَوْلُ حُذَّاق النَّحويِّين.

وقالَ ابنُ سِيْدَه: قالَ سِيْبَوَيْه: أَمَّا ظِلْتُ أَصْلُه ظَلِلْتُ إلّا أَنَّهم حَذَفُوا فأَلْقُوا الحَرَكَةَ على الفاءِ كما قالُوا خِفْت وهذا النّحْوُ شاذٌّ، وأَمَّا ما أَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ لرجُلٍ من بنِي عقيل:

أَلَمْ تَعْلَمِي ما ظِلْتُ بالقومِ واقِفًا *** على طَلَلٍ أَضْحَتْ مَعَارِفُه قَفْرا

قالَ ابنُ جنيِّ: قالَ كَسَرُوا الظاءَ في إنْشادِهم وليْسَ من لُغَتِهم.

وقالَ الرَّاغِبُ: يُعَبَّرُ بظَلّ عَمَّا يُفْعَل بالنّهارِ ويُجْرَى مجرى صرْت، قالَ تعالَى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفًا} انتَهَى.

قالَ الشِّهابُ: فهو فعْلٌ ناقِصٌ لثُبُوتِ الخَبَرِ في جميعِ النَّهارِ، كما قالَ الرَّضيّ لأَنَّه لوقت فيه ظلّ الشمس من الصَبَاحِ للمَساءِ أَو من الطُّلوعِ للغُرُوبِ فإذا كانَتْ بمعْنَى صَارَ عَمَّتِ النَّهارَ وغيرِه، وكذا إذا كَانَتْ تامَّةً بمعْنَى الدَّوام، كذا في شَرْحِ الشفاءِ.

وقالَ الرَّضِي: قالُوا لم تستعمل ظَلَّ إلَّا ناقِصَة.

وقالَ ابنُ مالِكٍ: تكونُ تامَّةً بمعْنَى طَالَ ودَامَ، وقد جاءَتْ ناقِصَةً بمعْنَى صَارَ مُجَرَّدَة عن الزَّمانِ المَدْلولِ عليه بتَرْكِيبِه، قالَ تعالَى: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا.

والظَّلَّةُ: الإِقامةُ.

وأَيْضًا الصِحَّةُ، هكذا في النسخِ ولم أَجِدْه في الأُصولِ التي بأَيْدِينا، وأَنَا أَخْشَى أَنْ يكونَ تَحْريفًا، فإِنَّ الأَزْهَرِيَّ وغيرَه ذَكَرُوا من مَعَاني الظُّلّةُ، بالضمِّ، الصَّيْحَةُ فتأَمَّلْ.

والظُّلَّةُ، بالضمِ: الغاشِيَةُ.

وأَيْضًا: البُرْطُلَّةُ، وفي التَّهْذِيبِ: والمِظَلَّةُ البُرْطُلَّةُ، قالَ: والظُّلَّةُ والمِظَلَّةُ سواءٌ، وهو ما يُسْتَظَلُّ به من الشمسِ. قلْتُ: وقد تقدَّمَ للمصنِّفِ أَنَّ البُرْطُلَّة المِظَلَّة الضَّيَّقَة، وتقدَّمَ أَنَّها كَلِمَةٌ نَبَطِيَّة.

والظُّلَّةُ: أَوَّلُ سَحابَةٍ تُظِلُّ، نَقَلَه الجَوْهرِيُّ عن أَبي زَيْدٍ.

قالَ الرَّاغِبُ: وأَكْثَرُ ما يقالُ فيما يُسْتَوْخَم ويُكْرَهُ، ومنه قَوْلُه تعالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، ونَصّ الصِّحاحِ: يظل، وفي بعضِ الأُصُولِ أُوْلِى سَحابَةٍ ومنه الحدِيثُ «البقرةُ وآلُ عمرانَ كأَنَّهما ظُلَّتانِ أَو غَمَامَتانِ».

وأَيْضًا: ما أَظَلَّكَ من شجرٍ، وقيلَ: كلُّ ما أَطْبَقَ عليك، وقيلَ: كلُّ ما سَتَرَكَ من فَوْق.

وفي التَّنْزيلِ العَزِيزِ: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ.

قالَ الجَوْهَرِيُّ: قالوا غَيْم تحتَهُ سَمومٌ.

وفي التَّهْذِيبِ: أَو سَحابَةٌ أَظَلَّتْهُم فاجْتَمَعُوا تحتَها مُسْتَجيرينَ بها ممَّا نَالَهُم من الحَرِّ فأَطْبَقَتْ عليهم وهَلكُوا تحتَها.

ويقالُ: دَامتْ ظِلالَةُ الظِلِّ، بالكسرِ، وظُلَّتُه، بالضمِ؛ أَي ما يُسْتَظَلُّ به من شَجَرٍ أَو حَجَرٍ أَو غيرِ ذلِكَ.

والظُّلَّةُ أَيْضًا: شي‌ءٌ كالصُّفَّةِ يُسْتَتَرُ به من الحَرِّ والبَرْدِ، نَقَلَه الأَزْهرِيُّ، الجمع: ظُلَلٌ كغُرْفَةٍ وغُرَفٌ، وظِلالٌ كعُلْبَةٍ وعِلابٍ، ومن الأوَّلِ قَوْلُه تعالَى: إِلّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ أَي يَأْتِيَهُم عَذَابَه، وقُرِئَ أَيْضًا في ظِلالٍ، وقَرَأَ حَمْزَةُ والكِسائي وخَلَف: في ظُلَلٍ على الأَرَائِكِ مُتَّكِئُون.

وقَوْلُه تعالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ، قالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: هي ظُلَلٌ لمَنْ تحتهم وهي أَرْضٌ لَهُم، وذلِكَ أَنَّ جهنَّم أَدْرَاكٌ وأَطْباقٌ، فبِسَاطُ هذه ظُلَّةٌ لمَنْ تحتها، ثم هَلُمَّ جَرّا حتى ينْتهوا إِلى القَعْرِ.

وفي الحدِيثِ: أَنَّه ذَكَرَ فِتَنًا كأَنَّها الظُّلَلُ، أَرَادَ كأَنَّها الجِبَالُ والسُّحُب، قالَ الكُمَيْتُ:

فكَيْفَ تقولُ العَنْكَبُوتُ وبَيْتُها *** إِذا ما عَلَتْ مَوْجًا من البَحْرِ كالظُّلَلِ؟

والظِّلَّةُ، بالكسرِ: الظِلالُ وكأَنَّه جَمْعُ ظَلِيلٍ كطِلَّةٍ وطَلِيلٍ.

والمَظَلَّةُ، بالكسرِ والفتحِ؛ أَي بكسرِ الميمِ وفَتْحِها، الأَخِيرَةُ عن ابنِ الأَعْرَابيِّ واقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ على الكَسْرِ، وهو قَوْلُ أَبي زَيْدٍ.

قالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: وإِنّما جَازَ فيها فَتْحُ الميمِ لأَنَّها تُنْقَلُ بمنْزِلَةِ البَيْتِ وهو الكَبيرُ من الأَخْبِيَةِ.

قيلَ: لا تكونُ إِلّا من الثيابِ وهي كَبيرَةٌ ذاتُ رُواقٍ ورُبّما كانَتْ شُقَّة وشُقَّتين وثلاثًا، ورُبَّما كان لها كِفَاةٌ وهو مؤخَّرُها.

وقالَ ثَعْلَبُ: المِظَلَّةُ من الشَّعَرِ خاصَّةً.

وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: الخَيْمَة تكونُ من أَعْوادٍ تُسْقَفُ بالثُّمامِ ولا تكونُ من ثيابٍ، وأَمَّا المَظَلَّةُ فمن ثيابٍ.

وقالَ أَبُو زَيْدٍ: من بيوتِ الأَعْرابِ المَظَلَّةُ، وهي أَعْظَمُ ما يكونُ من بيوتِ الشَّعَرِ ثم الوَسُوط نَعْت المَظَلَّة، ثم الخِبَاء وهو أَصْغَرُ بيوتِ الشَّعَر.

وقالَ أَبُو مالِكٍ: المِظَلَّةُ والخِبَاءُ يكونُ صغيرًا وكبيرًا.

ومن أَمْثَالِهم: عِلَّةٌ ما عِلَّة أَوْتادٌ وأَخِلَّة، وعَمَدُ المِظَلَّة، أَبْرِزُوا لصِهْرِكم ظُلّه، قالَتْهُ جارِيَةٌ زُوِّجَتْ رَجُلًا فأَبْطأَ بها أَهْلُها على زَوْجِها وجَعَلُوا يَعْتَلُّون بجَمْعِ أَدَوَاتِ البَيْتِ فقالَتْ ذلِكَ اسْتِحْثاثًا لهُم، والجمْعُ المَظالُّ، وأَمّا قَوْلُ أُمَيَّة بن أَبي عائذ الهُذَليُّ:

ولَيْلٍ كأَنَّ أَفَانِينَه *** صَراصِرُ جُلِّلْنَ دُهْمَ المَظالي

إِنّما أَرَادَ المَظالَّ فخفَّفَ اللّامَ، فإِمَّا حَذَفَها وإِمَّا أَبْدَلَها ياءً لاجْتِماعِ المَثَلَيْن، وعلى هذا تُكْتَبُ بالياءِ.

والأَظَلُّ: بَطْنُ الإِصْبَعِ ممَّا يَلِي صَدْرَ القَدَمِ من أَصْلِ الإِبْهامِ إِلى أَصْلِ الخِنْصَرِ نَقَلَه ابنُ سِيْدَه، وقالَ: يَقُولُون: أَظَلَّ الإنْسَانُ بُطُونَ أَصَابِعِه، هكذا عَبَّرُوا عَنه ببُطُونٍ والصَّوابُ عنْدِي أَنَّ الأَظَلَّ بَطْنُ الإِصْبَعِ ممَّا يلِي ظَهْر القَدَمِ.

والأَظَلُّ من الإِبِلِ: باطِنُ المَنْسِمِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وقالَ أَبُو حَيَّان: باطِنُ خُفَّ البَعير سُمِّي به لاسْتِتَارِه ويُسْتَعارُ لغَيرِه، ومنه المَثَلُ: إِنْ يَدْمَ أَظَلُّكَ فقد نَقِبَ خُفَّي، يقالُ للشَّاكي لمَنْ هو أَسْوأُ حالًا منه، وقالَ ذو الرُّمَّة:

دامي الأَظَلِّ بَعِيد الشَّأْوِ مَهْيُوم

وأَنْشَدَ الصَّاغانيُّ للَبِيدٍ رضي ‌الله‌ عنه:

وتصلّ المَرْوَ لما هَجَّرَتْ *** بنَكِيبٍ مَعِرٍ دامي الأَظَلّ

الجمع: ظُلُّ بالضمِ وهو شاذٌّ لأَنَّهم عامَلُوه مُعَامَلَة الوَصْفِ.

قالَ الجَوْهَرِيُّ: وأَظْهَرَ العجَّاجُ التَّضْعيفَ في قَوْلِه:

تَشْكو الوَجَى من أَظْلَلٍ وأَظْلَلِ *** مِنْ طُولِ إِمْلالٍ وظَهْرٍ أَمْلَل

ضَرُوْرَةً واحْتَاجَ إِلى فَكِّ الإدْغامِ كقَوْلِ قَعْنَب بن أُمِّ صاحب:

مَهْلًا أَعاذِلَ قد جَرَّبْتِ من خُلُقِي *** أَنِّي أَجُودُ لأَقوامٍ وإِن ضَنِنُوا

والظَّلِيلَةُ، كسَفِينَةٍ، مُسْتَنْقَع الماءِ في أَسْفَلِ مَسيلِ الوَادِي.

وفي التَّهْذِيبِ: مُسْتَنْقَعُ ماءٍ قَلِيلٍ في مَسِيلٍ ونَحْوِه.

وقالَ أَبُو عَمْرٍو هي: الرَّوْضَةُ الكثيرةُ الحَرَجاتِ، والجمع: ظَلائِلُ وهي شِبْه حُفْرة في بَطْنِ مَسِيلِ ماءٍ فيَنْقَطِعُ السَّيْل ويَبْقى ذلِكَ الماءُ فيها، قالَ رُؤْبَة:

بخَصِرَاتٍ تَنْقَعُ الغَلائِلا *** غادَرَهُنَّ السَّيْلُ في ظَلائِلا

قَوْلُه بخَصِرَاتٍ، يعْنِي أَسْنانًا بَوَارِدَ تَنْقَعُ الغَلِيلَ.

ومُلاعِبُ ظِلِّهِ: طائِرٌ مَعْروفٌ سُمِّي بذلِكَ، وهما مُلاعِبا ظِلِّهما وملاعِباتُ ظِلِّهنَّ هذا في لَغَةٍ، فإِذا نَكَرْتَهُ أَخْرَجْتَ الظِّلَّ على العِدَّةِ فَقُلْتَ هُنَّ مُلاعِباتٌ أَظْلالَهُنَّ، كذا في المُحْكَمِ والعُبَابِ.

والظَّلالَةُ، كسَحابَةٍ، الشَّخْصُ، وكذلِكَ الطَلالَةُ بالطاءِ.

والظِلالَةُ، بالكسرِ: السَّحابَةُ تَرَاها وَحْدَها وتَرَى ظِلّها على الأَرْضِ، قالَ أَسْماءُ بنُ خارِجَةَ:

لي كل يَوْمٍ ضَيْقَة *** فَوْقي تَأَجلُ كالظِّلَالَه

وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: الظَلالُ، كسَحابٍ: ما أَظَلَّكَ من سَحابٍ ونَحْوِه.

وظَليلاءُ، بالمدِّ، موضع، وذَكَرَه المصنِّفُ أَيْضًا: ضَلِيلاءُ بالضادِ والصَّوابُ أَنَّه بالظاءِ.

وأَبُو ظِلالٍ، ككِتابٍ: هلالُ بنُ أَبي هِلالٍ وعليه اقْتَصَرَ ابنُ حَيَّان، ويقالُ: ابنُ أَبي مالِكٍ القَسْمَلِيُّ الأَعْمَى تابِعِيٌّ رَوَى عن أَنَس، وعنه مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَة ويَزِيدُ بنُ هَارُون.

قالَ الذَّهبيُّ في الكَاشِفِ: ضَعَّفُوه. وشَدَّ ابنُ حَبَّانٍ فقَوَّاه.

وقالَ في الدِّيوانِ: هلالُ بنُ مَيْمون، ويقالُ: ابنُ سُوَيْد أَبُو ظِلالٍ القَسْمَلِيُّ.

قالَ ابنُ عَدِيٍّ: عامَّةُ ما يَرْوِيه لا يُتَابَعُ عليه:

قلْتُ: ويقالُ له أَيْضًا: هلالُ بنُ أَبي سُوَيْد. وهو من رجالِ التَّرْمذيّ ورَوَى عنه أَيْضًا يَحْيَى بنُ المُتَوَكِّلِ كما قالَهُ ابنُ حَبَّانٍ، وعبدُ العَزِيزِ بنُ مُسْلم كما قالَهُ المزيّ في الكُنَى.

وقالَ الفرَّاءُ: الظِّلالُ ظِلالُ الجَنَّةِ، وفي بعضِ النسخِ: الظِلالُ الجَنَّةُ وهو غَلَطٌ، ومنه قَوْلُ العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه يَمْدَحه صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم:

مِنْ قَبْلِها طِبْتَ في الظِّلالِ وفي *** مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ

أَي كُنْتَ طَيِّبًا في صُلْبِ آدَمَ حيثُ كانَ في الجَنَّةِ، ومِنْ قَبْلِها أَي مِنْ قَبْل نُزُولِك إلى الأَرْضِ فكَنَى عنها، ولم يَتَقَدَّم ذِكْرها لبَيَانِ المعْنَى.

والظِّلالُ من البَحْرِ: أَمْواجُهُ لأَنّها تُرْفَع فتُظِلُّ السَّفِينَةَ ومَنْ فيها.

والظَّلَلُ، محرَّكةً: الماءُ الذي يكونُ تَحْتَ الشَّجَرِ لا تُصيبُهُ الشَّمسُ، كما في العُبَابِ، وقد تقدَّمَ له أَيْضًا مِثْلُ ذلِكَ في «ض ل ل».

وظَلَّلَ بالسَّوْطِ: أَشَارَ به تَخْويفًا، عن ابنِ عَبَّادٍ.

والظُّلْظُلُ، بالضمِ: السُّفُنُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، هكذا عَبَّر بالسُّفُن وهو جَمْعٌ.

وظَلَّالٌ، كشَدَّادٍ: موضع ويُخَفَّفُ كما في العُبَابِ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

ظَلَّ يَفْعَلُ كذا أَي دام نَقَلَه ابنُ مالِكٍ، وهي لُغَةُ أَهْلِ الشامِ.

ويَوْمٌ مُظِلٌّ: ذو سَحابٍ، وقيلَ: دائمُ الظِّلِّ.

ويقالُ: وَجْهُه كَظِلِّ الحَجَرِ: أَي أَسْودُ قالَ الرَّاجِزُ:

كأَنَّمَا وَجْهُكَ ظِلٌّ من حَجَر

قالَ بعضُهم: أَرَادَ الوقاحةَ وقيل أَرَادَ أَنَّه كانَ أَسْودَ الوَجْهِ، والعَرَبُ تقولُ: ليْسَ شي‌ءٌ أَظَلَّ من حَجَر، ولا أَدْفَأَ من شَجَر، ولا أَشَدَّ سَوَادًا من ظِلُّ.

وكلُّ ما كانَ أَرْفَع سَمْكًا كانَ مَسْقطُ الشمسِ أَبْعَد، وكلُّ ما كانَ أَكْثَر عَرْضًا وأَشَدّ اكْتِنازًا كانَ أَشَدّ لسَوادِ ظِلِّه.

وأَظَلَّتْنِي الشَّجَرَةُ وغيرُها.

ومنه الحدِيثُ: «ما أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ ولا أَقَلَّتِ الغَبْراءُ أَصْدَق لَهْجَة من أَبي ذرٍّ».

واسْتَظَلَّ بها: اسْتَذْرّى.

ويقالُ للمَيِّثِ قد ضَحى ظلُّه.

وعَرشٌ مُظَلَّل من الظّلِّ.

وفي المَثَلِ: لكن على الأَثْلاثِ لَحْم لا يظَلّل قالَهُ بَيْهَس في إخْوتِه المَقْتُولِين لمَّا قالُوا: ظَلِّلوا لَحْمَ جَزُورِكم، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وقَوْلُه تعالَى: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ، قيلَ: سَخَّرَ اللهُ لهُم السَّحابَ يُظِلُّهم حتى خَرَجُوا إلى الأَرْضِ المقدَّسَةِ، والاسمُ الظَّلالَةُ بالفتحِ.

وقَوْلُهم: مَرَّ بنا كأَنَّه ظِلُّ ذِئْبٍ أَي سَرِيعًا كَسُرْعَةِ الذِّئْبِ.

والظُّلَلُ، بُيوتُ السِّجْنِ، وبه فُسِّرَ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

وَيْحَكَ يا عَلْقَمَةُ بنُ ماعِزِ *** هَلْ لَكَ في اللَّواقِحِ الحَرَائِزِ

وفي اتِّباعِ الظُّلَل الأَوَارِزِ؟ وفي الحدِيثِ: «الجَنَّةُ تحْتَ ظلالِ السُّيوفِ، كِنايةٌ عن الدُّنُوِّ من الضِّرَابِ في الجِهادِ حتى يَعْلُوَه السَّيفُ ويَصِيرَ ظِلُّه عليه.

وفي آخَرَ: السُّلْطانُ ظِلُّ اللهِ في الأَرْضِ لأَنَّه يَدْفَعُ الأَذَى عن الناسِ كما يَدْفَعُ الظِّلُّ أَذَى حَرِّ الشمسِ، وقيلَ: معْناهُ سِتْر اللهِ، وقيلَ: خاصَّة اللهِ، وقَوْلُ عَنْتَرَةَ:

ولقد أَبِيتُ على الطَّوى وأَظلّه *** حتى أَنالَ به كَرِيمَ المأْكَلِ

أَرَادَ: وأَظَلُّ عليه، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

ويقالُ: انْتَعَلَتِ المَطَايا ظِلالُها إذا انْتَصَفَ النَّهارُ في القَيْطِ فلم يَكُنْ لها ظِلٌّ، قالَ الرَّاجِزُ:

قد وَرَدَتْ تَمْشِي على ظِلالِها *** وذَابَتِ الشَّمْس على قِلالِها

وقالَ آخَرُ مِثْلِه:

وانْتَعَلَ الظِّلَّ فكانَ جَوْرَبا

والمِظل: ماءٌ في دِيارِ بَنِي أَبي بَكْرِ بنِ كِلابٍ قالَهُ نَصْر.

والمُسْتَظِلُّ: لَحْمٌ رَقيقٌ لازِقٌ ببَاطِنِ المَنْسِم من البَعيرِ، نقله الأَزْهَرِيُّ عن أَعْرَابيٍّ من طيِّ‌ءٍ قالَ: وليْسَ في البَعيرِ مُضْغة أَرَقُّ ولا أَنْعَم منها غَيْر أَنَّه لا دَسَم فيه. وقالَ أَبو عُبَيْدٍ في بابِ سُوءِ المُشَاركَةِ في اهْتمامِ الرَّجُل بشأْنِ أَخِيه: قالَ أَبو عُبَيْدَةَ: إذا أَرَادَ المَشْكُوُّ إليه أَنَّه في نَحْوٍ ممَّا فيه صاحِبُه الشاكي قالَ له إن يَدْمَ أَظَلُّكَ فقد نَقِبَ خُفَّي، يقولُ: إنَّه في مِثْل حالِكَ. والمِظَلَّةُ ما تَسْتَظِلُّ به المُلُوك عنْدَ رُكُوبِهم، وهي بالفارِسِيَّةِ جتر.

والظّلّيلة، مُشَدَّدَة اللامِ: شي‌ءٌ يَتَّخذُه الإِنْسان من شَجَرٍ أَو وثَوْبٍ يَسْتَتِرُ به من حَرِّ الشمسِ عامِيَّةٌ. وأَيْكَة ظلِّيلةٌ: مُلْتَفّة.

وهذا مناخِي ومَحَلّي وبَيْتي ومظلِّي. ورَأَيْت ظِلَالةً من الطَّيرِ، بالكسرِ، أي غَيَابَة.

وانْتَقَلْت عن ظلِّي أَي هُجِّرْتُ عن حالَتِي وهو مجازٌ. وكذا هو يَتْبَعُ ظِلّ نَفْسه وأَنْشَدَنا بعضُ الشيوخِ:

مثل الرزق الذي تتبعه *** مثل الظل الذي يمشي مَعَكْ

أَنتَ لا تُدْركه متبعًا *** فإذا وليتَ عنه تَبعَكْ

وهو يُبَارِي ظِلّ رأْسِه إذا اخْتَالَ وهو مجازٌ كما في الأَسَاسِ.

وأَظَلّه: أَدْخَلَه في ظِلِّه أَي كَنَفِهِ.

وقَوْلُه تعالَى: لا ظَلِيلٍ أي لا يفيد فائدة الظل في كونِه راقِيًا عن الحَرِّ ويُرْوَى أَنَّ النبيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم: كان إذا مَشَى لم يَكُن له ظِلّ، ولهذا تَأْوِيل يَخْتَص بغير هذا الكتابِ.

وظلّ اليَوْمِ وأَظَلّ: صَارَ ذا ظلٍّ وأَيْضًا دَامَ ظِلّه.

وظلّ الشي‌ءُ طَالَ.

والظُّلْظُلُ، كقُنْقُذٍ: ما يُسْتَرُ به من الشمسِ قالَهُ اللّيْثُ.

واسْتَظَلَّتِ الشمسُ اسْتَتَرَت بالسَّحابِ.

* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

ظَالَ يَظُولُ، أي ظلَّ أَهْمَلَهُ الجماعَةُ. وأَوْرَدَه الصَّاغانيُّ هكذا في العُبَابِ هنا مُسْتقِلًّا قالَ: وقَرَأَ يَحْيَى بنُ يَعْمَر:

ظُلْت عليه عاكفًا بضمِ الظاءِ، وقيلَ: إنَّه أَرَادَ ما لم يُسَمَّ فاعِلُه؛ أَي ظَلَلْت أي فَعَلَ ذلِكَ لَكَ ثم أُسْقِطَتِ اللامُ الْأُوْلَى.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


60-تاج العروس (يقن)

[يقن]: يَقِنَ الأَمْرَ، كفَرِحَ، يَقْنًا، بالفتْحِ ويُحرَّكُ، وأَيْقَنَه وأَيْقَنَ به وتَيَقَّنَه واسْتَيْقَنَهُ واسْتَيْقَنَ به: أَي عَلِمَهُ وتَحَقَّقَهُ كُلّه، بمعْنًى واحِدٍ، وكَذلِكَ تَيَقَّنَ بالأَمْرِ وإنَّما صارَتِ الواوُ ياءً في قَوْلِكَ مُوقِنٌ للضمَّةِ قَبْلَها، وإذا صَغَّرْتَه رَدَدْتُه إلى الأصْلِ وقُلْتَ مُيَيْقِنٌ.

وهو يَقِنٌ، مُثَلَّثَة القافِ، ويَقَنَةٌ، محرَّكةً، عن كُراعٍ: لا يَسْمَعُ شيئًا إلَّا أَيْقَنَهُ ولم يُكذّبْ به، كقَوْلِهم: رجُلٌ أُذُنٌ؛ وكذا مِيقانٌ، عن اللِّحْيانيّ، وهي مِيقانَةٌ، وهو أَحَدُ ما شَذَّ مِن هذا الضَّرْبِ.

واليَقِينُ: إزاحَةُ الشَّكِّ والعِلْمُ وتَحْقِيقُ الأمْرِ، ونَقِيضُه الشَّكّ؛ وفي الاصْطِلاحِ: اعْتِقادُ الشي‌ءِ بأنَّه كذا مع اعْتِقادِ أنَّه لا يُمْكِن إلَّا كذا مُطابِقًا للواقِعِ غَيْر مُمْكِن الزَّوالِ والقَيْد، الأوَّل: جنْسٌ يَشْملُ الظّنَّ، والثاني: يُخْرجُه؛ والثالِثُ: يخرجُ الجَهْلَ المُركَّبَ؛ والرابعُ: يخرجُ اعْتِقاد المُقَلد المُصِيب.

وعنْدَ أَهْلِ الحَقِيقَةِ رُؤْيَةُ العِيانِ بقوَّةِ الإيمانِ لا بالحجَّةِ والبُرْهانِ.

وقيلَ: مشاهَدَةُ الغُيوبِ بصَفَاءِ القُلوبِ ومُلاحَظَة الأَسْرار بمحافَظَةِ الأفْكارِ. كاليَقَنِ، محرّكةَ عن اللّيْثِ؛ وأَنْشَدَ للأَعْشى:

وما بالذِي أَبْصَرَتْه العُيُو *** نُ مِنْ قَطْعِ يَأْسٍ ولا مِنْ يَقَنْ

واليَقِينُ: الموتُ، لأنَّه تَيَقّنٌ لحاقَه لكلِّ مَخْلوقٍ حيٍّ.

قالَ البَيْضاوِي: ومالَ كَثيرُونَ إلى أنّه حَقِيقيٌّ، وصَوَّبَ بعضُهم أَنَّه مَجازِيٌّ من تَسْمِيةِ الشي‌ءِ بما يَتَعَلَّق به، حَقَّقَه شيْخُنا؛ وبه فسّرَ قَوْله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.

ويقين: قرية بالقُدْسِ، بها مَقامٌ مَشْهورٌ للُوط، عليه‌السلام، والعامَّةُ تُسَمِّيه مَسْجِد اليَقِينِ.

وهاشِمُ بنُ يَقِينٍ: مُحَدِّثٌ.

ورجُلٌ يَقِنٌ بالشَّي‌ءِ، كخَجِلٍ؛ أَي مُولَعٌ به.

وذُو يَقَنٍ، محرَّكةً: ماءٌ لبَني نميرِ بنِ عامِرِ بنِ صَعْصَعَة، عن ياقوت.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

{حَقُّ الْيَقِينِ}: خالِصُه وواضِحُه، مِن إضافة البعضِ إلى الكُلِّ لا مِن إضافَةِ الشي‌ءِ إلى نَفْسِه، لأنَّ الحقَّ هو غيرُ اليَقِينِ.

وقالَ أَبو زيْدٍ: رجُلٌ ذُو يَقَنٍ، محرَّكةً، لا يَسْمَعُ شيئًا إلَّا أَيْقَنَ به، ورُبَّما عَبَّرُوا عن الظَّنِّ باليَقِينِ، وباليَقِينِ عن الظَّنِّ؛ قالَ أبو سِدْرَةَ الهُجَيْمِيُّ:

تَحَسَّبَ هَوَّاسٌ وأَيْقَنَ أَنَّني *** بها مُفْتَدٍ من واحدٍ لا أُغامِرُه

يقولُ: تَشَمَّمَ الأَسَدُ ناقَتِي يظنُّ أَنَّني أَفْتَدِي بها منه، وأَسْتَحْمِي نَفْسِي فأَتْركُها له ولا أَقْتَحِمُ المَهالِكَ بمُقاتَلَتِه.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


61-لسان العرب (ظلل)

ظلل: ظَلَّ نهارَه يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا يَظَلُّ ظَلًّا وظُلُولًا وظَلِلْتُ أَنا وظَلْتُ وظِلْتُ، لَا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِي النَّهَارِ لَكِنَّهُ قَدْ سُمِعَ فِي بَعْضِ الشِّعْرِ ظَلَّ لَيْلَه، وظَلِلْت أَعْمَلُ كَذَا، بِالْكَسْرِ، ظُلُولًا إِذا عَمِلْته بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}، وَهُوَ مِنْ شَواذِّ التَّخْفِيفِ.

اللَّيْثُ: يُقَالُ ظَلَّ فُلَانٌ نهارَه صَائِمًا، وَلَا تَقُولُ الْعَرَبُ ظَلَّ يَظَلُّ إِلا لِكُلِّ عَمَلٍ بِالنَّهَارِ، كَمَا لَا يَقُولُونَ بَاتَ يَبِيتُ إِلا بِاللَّيْلِ، قَالَ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَحْذِفُ لَامَ ظَلِلْت وَنَحْوِهَا حَيْثُ يَظْهَرَانِ، فإِن أَهل الْحِجَازِ يَكْسِرُونَ الظَّاءَ عَلَى كَسْرَةِ اللَّامِ الَّتِي أُلْقِيَتْ فَيَقُولُونَ ظِلْنا وظِلْتُم المصدر الظُّلُول، والأَمر اظْلَلْ وظَلَّ؛ قَالَ تعالى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفًا}، وَقُرِئَ ظِلْتَ "، فَمَنْ فَتَح فالأَصل فِيهِ ظَلِلْت ولكن اللَّامَ حُذِفَتْ لثِقَل التَّضْعِيفِ وَالْكَسْرِ وَبَقِيَتِ الظَّاءُ عَلَى فَتْحِهَا، وَمَنْ قرأَ ظِلْتَ، بِالْكَسْرِ، حَوَّل كَسْرَةَ اللَّامِ عَلَى الظَّاءِ، وَيَجُوزُ فِي غير المكسور نحو هَمْت بِذَلِكَ أَي هَمَمْت وأَحَسْت بِذَلِكَ أَي أَحْسَسْت، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ حُذَّاق النَّحْوِيِّينَ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: قَالَ سِيبَوَيْهِ أَمَّا ظِلْتُ فأَصله ظَلِلْتُ إِلَّا أَنهم حَذَفُوا فأَلقوا الْحَرَكَةَ عَلَى الْفَاءِ كَمَا قَالُوا خِفْت، وَهَذَا النَّحْوُ شاذٌّ، قَالَ: والأَصل فِيهِ عَرَبِيٌّ كَثِيرٌ، قَالَ: وأَما ظَلْت فإِنها مُشَبَّهة بِلَسْت؛ وأَما مَا أَنشده أَبو زَيْدٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ:

أَلَمْ تَعْلَمِي مَا ظِلْتُ بِالْقَوْمِ وَاقِفًا ***عَلَى طَلَلٍ، أَضْحَتْ مَعارِفُه قَفْرا

قَالَ ابْنُ جِنِّي: قَالَ كَسَرُوا الظَّاءَ فِي إِنشادهم وَلَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ.

وظِلُّ النهارِ: لونُه إِذا غَلَبَتْه الشمسُ.

والظِّلُّ: نَقِيضُ الضَّحِّ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الظِّلَّ الفَيْء؛ قال رؤبة: كلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ فِيهِ الشَّمْسُ فَتَزُولُ عَنْهُ فَهُوَ ظِلٌّ وفَيْء، وَقِيلَ: الْفَيْءُ بالعَشِيِّ والظِّلُّ بِالْغَدَاةِ، فالظِّلُّ مَا كَانَ قَبْلَ الشَّمْسِ، وَالْفَيْءُ مَا فَاءَ بَعْدُ.

وَقَالُوا: ظِلُّ الجَنَّة، وَلَا يُقَالُ فَيْؤها، لأَن الشَّمْسَ لَا تُعاقِب ظِلَّها فَيَكُونُ هُنَالِكَ فَيْءٌ، إِنما هِيَ أَبدًا ظِلٌّ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها}؛ أَراد وظِلُّها دَائِمٌ أَيضًا؛ وَجَمْعُ الظِّلِّ أَظلالٌ وظِلال وظُلُولٌ؛ وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ لِلْجَنَّةِ فَيْئًا غَيْرَ أَنه قَيَّده بالظِّلِّ، فَقَالَ يَصِفُ حَالَ أَهل الْجَنَّةِ وَهُوَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:

فَسلامُ الإِلهِ يَغْدُو عَلَيْهِمْ، ***وفُيُوءُ الفِرْدَوْسِ ذاتُ الظِّلال

وَقَالَ كُثَيِّرٌ:

لَقَدْ سِرْتُ شَرْقيَّ البِلادِ وغَرْبَها، ***وَقَدْ ضَرَبَتْني شَمْسُها وظُلُولُها

وَيُرْوَى: لَقَدْ سِرْتُ غَوْرِيَّ البِلادِ وجَلْسَها "والظِّلَّة: الظِّلال.

والظِّلال: ظِلال الجَنَّة؛ وَقَالَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:

مِنْ قَبْلِها طِبْتَ فِي الظِّلال وَفِي ***مُسْتَوْدَعٍ، حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ

أَراد ظِلال الْجَنَّاتِ الَّتِي لَا شَمْسَ فِيهَا.

والظِّلال: مَا أَظَلَّكَ مِنْ سَحابٍ وَنَحْوِهِ.

وظِلُّ الليلِ: سَوادُه، يُقَالُ: أَتانا فِي ظِلِّ اللَّيْلِ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّة:

قَدْ أَعْسِفُ النَّازِحَ المَجْهولَ مَعْسِفُه، ***فِي ظِلِّ أَخْضَرَ يَدْعُو هامَهُ البُومُ

وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لأَن الظِّلَّ فِي الْحَقِيقَةِ إِنما هُوَ ضَوْءُ شُعاع الشَّمْسِ دُونَ الشُّعاع، فإِذا لَمْ يَكُنْ ضَوْءٌ فَهُوَ ظُلْمة وَلَيْسَ بظِلٍّ.

والظُّلَّةُ أَيضًا: أَوّل سَحَابَةٍ تُظِلُّ؛ عَنْ أَبي زَيْدٍ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ}؛ قَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: الظِّلُّ كلُّ مَا لَمْ تَطْلُع عَلَيْهِ الشمسُ فَهُوَ ظِلٌّ، قَالَ: والفَيْء لَا يُدْعى فَيْئًا إِلا بَعْدَ الزَّوَالِ إِذا فَاءَتِ الشمسُ أَي رَجَعَتْ إِلى الْجَانِبِ الغَرْبيِّ، فَمَا فَاءَتْ مِنْهُ الشمسُ وبَقِيَ ظِلًّا فَهُوَ فَيْء، والفَيْءُ شرقيٌّ والظِّلُّ غَرْبيٌّ، وإِنما يُدْعى الظِّلُّ ظِلًّا مِنْ أَوَّل النَّهَارِ إِلى الزَّوَالِ، ثُمَّ يُدْعى فَيْئًا بَعْدَ الزَّوَالِ إِلى اللَّيْلِ؛ وأَنشد:

فَلَا الظِّلَّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُه، ***وَلَا الفَيْءَ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوق

قَالَ: وسَوادُ اللَّيلِ كلِّه ظِلٌّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ أَظَلَّ يومُنا هَذَا إِذا كَانَ ذَا سَحَابٍ أَو غَيْرِهِ وَصَارَ ذَا ظِلٍّ، فَهُوَ مُظِلٌّ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ أَظَلَّ مِنْ حَجَر، وَلَا أَدْفأَ مِنْ شَجَر، وَلَا أَشَدَّ سَوادًا مِنْ ظِلّ؛ وكلُّ مَا كَانَ أَرْفع سَمْكًا كَانَ مَسْقَطُ الشَّمس أَبْعَد، وكلُّ مَا كَانَ أَكثر عَرْضا وأَشَد اكْتِنَازًا كَانَ أَشد لسَوادِ ظِلِّه.

وظِلُّ اللَّيْلِ: جُنْحُه، وَقِيلَ: هُوَ اللَّيْلُ نَفْسُهُ، وَيَزْعُمُ المنجِّمون أَن اللَّيْلَ ظِلٌّ وإِنما اسْوَدَّ جِدًّا لأَنه ظِلُّ كُرَة الأَرض، وبِقَدْر مَا زَادَ بَدَنُها فِي العِظَم ازْدَادَ سَوَادُ ظِلِّها.

وأَظَلَّتْني الشجرةُ وغيرُها، واسْتَظَلَّ بِالشَّجَرَةِ: اسْتَذْرى بِهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرةً يَسِير الراكبُ فِي ظِلِّها مائةَ عامٍ» أَي فِي ذَراها وَنَاحِيَتِهَا.

وَفِي قَوْلِ الْعَبَّاسِ: مِنْ قَبْلِها طِبْتَ فِي الظِّلال "؛ أَراد ظِلال الْجَنَّةِ أَي كنتَ طَيِّبًا فِي صُلْب آدَمَ حَيْثُ كَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلِهَا أَي مِنْ قَبْلِ نُزُولِكَ إِلى الأَرض، فكَنى عَنْهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا لِبَيَانِ الْمَعْنَى.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ}؛ أَي ويَسْجُد ظِلالُهم؛ وَجَاءَ فِي التَّفْسِيرِ: أَن الْكَافِرُ يَسْجُدُ لِغَيْرِ اللَّهِ وظِلُّه يَسْجُدُ لِلَّهِ، وَقِيلَ ظِلالُهم أَي أَشخاصهم، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلتَّفْسِيرِ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الْكَافِرُ يَسْجُد لِغَيْرِ اللَّهِ وظِلُّه يَسْجُد لِلَّهِ»؛ قَالُوا: مَعْنَاهُ يَسْجُد لَهُ جِسْمُه الَّذِي عَنْهُ الظِّلُّ.

وَيُقَالُ للمَيِّت: قَدْ ضَحَا ظِلُّه.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ}؛ قَالَ ثَعْلَبٌ: قِيلَ الظِّلُّ هُنَا الْجَنَّةُ، والحَرور النَّارُ، قَالَ: وأَنا أَقول الظِّلُّ الظِّلُّ بِعَيْنِهِ، والحَرُور الحَرُّ بِعَيْنِهِ.

واسْتَظَلَّ الرجلُ: اكْتَنَّ بالظِّلِّ.

واسْتَظَلَّ بالظِّلِّ: مَالَ إِليه وقَعَد فيه.

وَمَكَانٌ ظَلِيلٌ: ذُو ظِلٍّ، وَقِيلَ الدَّائِمُ الظِّلِّ قَدْ دَامَتْ ظِلالَتُه.

وَقَوْلُهُمْ: ظِلٌّ ظَلِيل يَكُونُ مِنْ هَذَا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِمْ شِعْر شَاعِرٍ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}؛ وَقَوْلُ أُحَيْحَة بْنِ الجُلاح يَصِف النَّخْل:

هِيَ الظِّلُّ فِي الحَرِّ حَقُّ الظَّلِيلِ، ***والمَنْظَرُ الأَحْسَنُ الأَجْمَلُ

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْمَعْنَى عِنْدِي هِيَ الشَّيْءُ الظَّلِيل، فَوَضَعَ الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ الِاسْمِ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ}؛ قِيلَ: سَخَّر اللهُ لَهُمُ السحابَ يُظِلُّهم حَتَّى خَرَجُوا إِلى الأَرض المقدَّسة وأَنزل عَلَيْهِمُ المَنَّ والسَّلْوى، وَالِاسْمُ الظَّلالة.

أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ كَانَ ذَلِكَ فِي ظِلِّ الشِّتَاءِ أَي فِي أَوَّل مَا جَاءَ الشِّتَاءُ.

وفَعَلَ ذَلِكَ فِي ظِلِّ القَيْظ أَي فِي شِدَّة الحَرِّ؛ وأَنشد الأَصمعي:

غَلَّسْتُه قَبْلَ القَطا وفُرَّطِه، ***فِي ظِلِّ أَجَّاج المَقيظ مُغْبِطِه

وَقَوْلُهُمْ: مَرَّ بِنَا كأَنَّه ظِلُّ ذِئْبٍ أَي مَرَّ بِنَا سَرِيعًا كَسُرْعَة الذِّئب.

وظِلُّ الشيءِ: كِنُّه.

وظِلُّ السَّحَابِ: مَا وَارَى الشمسَ مِنْهُ، وظِلُّه سَوادُه.

والشمسُ مُسْتَظِلَّة أَي هِيَ فِي السَّحَابِ.

وكُلُّ شَيْءٍ أَظَلَّك فَهُوَ ظُلَّة.

وَيُقَالُ: ظِلٌّ وظِلالٌ وظُلَّة وظُلَل مِثْلُ قُلَّة وقُلَل.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ}.

وظِلُّ كلِّ شَيْءٍ: شَخْصُه لِمَكَانِ سَوَادِهِ.

وأَظَلَّني الشيءُ: غَشِيَني، وَالِاسْمُ مِنْهُ الظِّلُّ؛ وَبِهِ فَسَّرَ ثَعْلَبٌ قَوْلَهُ تعالى: {إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ}، قَالَ: مَعْنَاهُ أَن النَّارَ غَشِيَتْهم لَيْسَ كظِلِّ الدُّنْيَا.

والظُّلَّة: الغاشيةُ، والظُّلَّة: البُرْطُلَّة.

وَفِي التَّهْذِيبِ: والمِظَلَّة البُرْطُلَّة، قَالَ: والظُّلَّة والمِظَلَّة سواءٌ، وَهُوَ مَا يُسْتَظَلُّ بِهِ مِنَ الشَّمْسِ.

والظُّلَّة: الشَّيْءُ يُسْتَتر بِهِ مِنَ الحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَهِيَ كالصُّفَّة.

والظُّلَّة: الصَّيْحة.

والظُّلَّة، بِالضَّمِّ: كَهَيْئَةِ الصُّفَّة، وَقُرِئَ: فِي ظُلَلٍ عَلَى الأَرائك مُتَّكئون، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}؛ وَالْجَمْعُ ظُلَلٌ وظِلال.

والظُّلَّة: مَا سَتَرك مِنْ فَوْقٍ، وَقِيلَ فِي عَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّة، قِيلَ: يَوْمُ الصُّفَّة، وَقِيلَ لَهُ يَوْمُ الظُّلَّة لأَن اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ غَمامة حَارَّةً فأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ وهَلَكوا تَحْتَهَا.

وكُلُّ مَا أَطْبَقَ عَلَيْكَ فَهُوَ ظُلَّة، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا أَظَلَّك.

الْجَوْهَرِيُّ: عذابُ يَوْمِ الظُّلَّة قَالُوا غَيْمٌ تَحْتَهُ سَمُومٌ؛ وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}؛ قَالَ ابْنُ الأَعرابي: هِيَ ظُلَلٌ لمَنْ تَحْتَهُمْ وَهِيَ أَرض لَهُمْ، وَذَلِكَ أَن جَهَنَّمَ أَدْرَاكٌ وأَطباق، فبِساطُ هَذِهِ ظُلَّةٌ لمَنْ تحتَه، ثُمَّ هَلُمَّ جَرًّا حَتَّى يَنْتَهُوا إِلى القَعْر.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه ذَكَرَ فِتَنًا كأَنَّها الظُّلَل»؛ قَالَ: هِيَ كُلُّ مَا أَظَلَّك، وَاحِدَتُهَا ظُلَّة، أَراد كأَنَّها الجِبال أَو السُّحُب؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:

فكَيْفَ تَقُولُ العَنْكَبُوتُ وبَيتُها، ***إِذا مَا عَلَتْ مَوْجًا مِنَ البَحْرِ كالظُّلَل؟

وظِلالُ الْبَحْرِ: أَمواجُه لأَنها تُرْفَع فتُظِلُّ السفينةَ وَمَنْ فِيهَا، وَمِنْهُ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّة، وَهِيَ سحابة أَظَلَّتْهم فَلَجؤوا إِلى ظِلِّها مِنْ شِدَّة الحرّ فأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ وأَهْلَكَتْهم.

وَفِي الْحَدِيثِ: «رأَيت كأَنَّ ظُلَّةً تَنْطِف السَّمْنَ والعَسَل» أَي شِبْهَ السَّحَابة يَقْطُرُ مِنْهَا السَّمْنُ والعسلُ، وَمِنْهُ: البقرةُ وآلُ عِمْرَانَ كأَنَّهما ظُلَّتانِ أَو غَمامتان "؛ وَقَوْلُهُ:

وَيْحَكَ، يَا عَلْقَمَةُ بنَ ماعِزِ ***هَلْ لَكَ فِي اللَّواقِح الحَرَائزِ،

وَفِي اتِّباعِ الظُّلَل الأَوَارِزِ؟ "قِيلَ: يَعْني بُيوتَ السَّجْن.

والمِظَلَّة والمَظَلَّة: بُيُوتُ الأَخبية، وَقِيلَ: المِظَلَّة لَا تَكُونُ إِلا مِنَ الثِّيَابِ، وَهِيَ كَبِيرَةٌ ذَاتُ رُواقٍ، وَرُبَّمَا كَانَتْ شُقَّة وشُقَّتين وَثَلَاثًا، وَرُبَّمَا كَانَ لَهَا كِفَاءٌ وَهُوَ مؤخَّرها.

قَالَ ابْنُ الأَعرابي: وإِنما جَازَ فِيهَا فَتْحُ الْمِيمِ لأَنها تُنْقل بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ.

وَقَالَ ثَعْلَبٌ: المِظَلَّة مِنَ الشَّعْرِ خَاصَّةً.

ابْنُ الأَعرابي: الخَيْمة تَكُونُ مِنْ أَعواد تُسْقَف بالثُّمام فَلَا تَكُونُ الْخَيْمَةُ مِنْ ثِيَابٍ، وأَما المَظَلَّة فَمِنْ ثِيَابٍ؛ رَوَاهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ.

وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: مِنَ بُيُوتِ الأَعراب المَظَلَّة، وَهِيَ أَعظم مَا يَكُونُ مِنَ بُيُوتِ الشَّعْرِ، ثُمَّ الوَسُوط نَعْتُ المَظَلَّة، ثُمَّ الخِباء وَهُوَ أَصغر بُيُوتِ الشَّعَر.

والمِظَلَّة، بِالْكَسْرِ: الْبَيْتُ الْكَبِيرُ مِنَ الشَّعَر؛ قَالَ:

أَلْجَأَني اللَّيْلُ، وَرِيحٌ بَلَّه ***إِلى سَوادِ إِبلٍ وثَلَّه،

وسَكَنٍ تُوقَد فِي مِظَلَّه "وعَرْشٌ مُظَلَّل: من الظِّلِّ.

وقال أَبو مَالِكٍ: المِظَلَّة وَالْخِبَاءُ يَكُونُ صَغِيرًا وَكَبِيرًا؛ قَالَ: وَيُقَالُ لِلْبَيْتِ الْعَظِيمِ مِظَلَّة مَطْحُوَّة ومَطْحِيَّة وطاحِيَة وَهُوَ الضَّخْم.

ومَظَلَّة ومِظَلَّة: دَوْحة.

وَمِنْ أَمثال الْعَرَبِ: عِلَّةٌ مَا عِلَّه أَوْتادٌ وأَخِلَّه، وعَمَدُ المِظَلَّه، أَبْرِزُوا لصِهْرِكم ظُلَّه؛ قَالَتْهُ جَارِيَةٌ زُوِّجَتْ رَجُلًا فأَبطأَ بِهَا أَهْلُها عَلَى زَوْجِهَا، وجَعَلُوا يَعْتَلُّون بِجَمْعِ أَدوات الْبَيْتِ فَقَالَتْ ذَلِكَ اسْتِحْثاثًا لَهُمْ؛ وَقَوْلُ أُمَيَّة بْنُ أَبي عَائِذٍ الْهُذَلِيِّ:

ولَيْلٍ، كأَنَّ أَفانِينَه ***صَراصِرُ جُلِّلْنَ دُهْمَ المَظالي

إِنما أَراد المَظالَّ فخَفَّف اللَّامَ، فإِمَّا حَذَفها وإِمَّا أَبْدَلَها يَاءً لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ لَا سِيَّمَا إِن كَانَ اعْتَقَدَ إِظهار التَّضْعِيفِ فإِنه يَزْدَادُ ثِقَلًا ويَنْكَسِر الأَول مِنَ الْمِثْلَيْنِ فَتَدْعُو الكسرةُ إِلى الْيَاءِ فَيَجِبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَن يُكْتب المَظالي بِالْيَاءِ؛ ومثْلُهُ سَواءً مَا أَنشده سِيبَوَيْهِ لعِمْران بْنِ حِطَّان:

قَدْ كُنْتُ عِنْدَك حَوْلًا، لَا يُرَوِّعُني ***فِيهِ رَوَائعُ مِنْ إِنْس وَلَا جانِ

وإِبدالُ الْحَرْفِ أَسهلُ مِنْ حَذْفِهِ.

وكُلُّ مَا أَكَنَّك فَقَدْ أَظَلَّكَ.

واسْتَظَلَّ مِنَ الشَّيْءِ وَبِهِ وتَظَلَّل وظَلَّله عَلَيْهِ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ}.

والإِظْلالُ: الدُّنُوُّ؛ يُقَالُ: أَظَلَّك فُلَانٌ أَي كأَنه أَلْقى عَلَيْكَ ظِلَّه مِنْ قُرْبه.

وأَظَلَّك شهرُ رَمَضَانَ أَي دَنا مِنْكَ.

وأَظَلَّك فُلَانٌ: دَنا مِنْكَ كأَنه أَلْقى عَلَيْكَ ظِلَّه، ثُمَّ قِيلَ أَظَلَّك أَمرٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه خَطَبَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ: أَيها النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ» أَي أَقْبَل عَلَيْكُمْ ودَنا مِنْكُمْ كأَنه أَلْقى عَلَيْكُمْ ظِلَّه.

وَفِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: «فَلَمَّا أَظَلَّ قَادِمًا حَضَرَني بَثِّي».

وَفِي الْحَدِيثِ: «الجنَّةُ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ»؛ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الدُّنُوِّ مِنَ الضِّراب فِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَعْلُوَه السيفُ ويَصِيرَ ظِلُّه عَلَيْهِ.

والظِّلُّ: الفَيْءُ الْحَاصِلُ مِنَ الْحَاجِزِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّمْسِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ، وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا كَانَ مِنْهُ إِلى الزَّوَالِ، وَمَا كَانَ بَعْدَهُ فَهُوَ الْفَيْءُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهم اللهُ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ» أَي فِي ظِلِّ رَحْمَتِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: السُّلْطانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الأَرض لأَنه يَدْفَع الأَذى عَنِ النَّاسِ كَمَا يَدْفَع الظِّلُّ أَذى حَرِّ الشَّمْسِ "، قَالَ: وقد يُكْنى بالظِّلِّ عن الكَنَف وَالنَّاحِيَةُ.

وأَظَلَّك الشَّيْءُ: دَنا مِنْكَ حَتَّى أَلقى عَلَيْكَ ظِلَّه مِنْ قُرْبِهِ.

والظِّلُّ: الخَيال مِنَ الجِنِّ وَغَيْرِهَا يُرى، وَفِي التَّهْذِيبِ: شِبْه الْخَيَالِ مِنَ الجِنِّ، وَيُقَالُ: لَا يُجاوِزْ ظِلِّي ظِلَّك.

ومُلاعِب ظِلِّه: طائرٌ سُمِّيَ بِذَلِكَ.

وَهُمَا مُلاعِبا ظِلِّهما ومُلاعِباتُ ظِلِّهن، كُلُّ هَذَا فِي لُغَةٍ، فإِذا جَعَلته نَكِرَةً أَخْرَجْتَ الظِّلَّ عَلَى العِدَّةِ فَقُلْتَ هُنَّ مُلاعِباتٌ أَظْلالَهُنَّ؛ وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:

وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوى وأَظَلُّه، ***حَتَّى أَنالَ بِهِ كَرِيمَ المأْكَل

أَراد: وأَظَلُّ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: لأَتْرُكَنَّه تَرْكَ ظَبْيٍ ظِلَّه؛ مَعْنَاهُ كَمَا تَرَكَ ظَبْيٌ ظِلَّه.

الأَزهري: وَفِي أَمثال الْعَرَبِ: تَرَكَ الظَّبْيُ ظِلَّه؛ يُضْرَب لِلرَّجُلِ النَّفُور لأَن الظَّبْي إِذا نَفَر مِنْ شَيْءٍ لَا يَعُودُ إِليه أَبدًا، وَذَلِكَ إِذا نَفَر، والأَصل فِي ذَلِكَ أَن الظَّبْيَ يَكْنِس فِي الحَرّ فيأْتيه السَّامِي فيُثِيره وَلَا يَعُودُ إِلى كِناسِه، فَيُقَالُ تَرَكَ الظَّبْيُ ظِلَّه، ثُمَّ صَارَ مَثَلًا لِكُلِّ نَافِرٍ مِنْ شَيْءٍ لَا يَعُودُ إِليه.

الأَزهري: وَمِنْ أَمثالهم أَتيته حِينَ شَدَّ الظَّبْيُ ظِلَّه، وَذَلِكَ إِذا كَنَس نِصْف النَّهَارِ فَلَا يَبْرَح مَكْنِسَه.

وَيُقَالُ: أَتيته حِينَ يَنْشُدُ الظَّبْيُ ظِلَّه أَي حِينَ يشتدُّ الحَرُّ فَيَطْلُبُ كِناسًا يَكْتَنُّ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ.

وَيُقَالُ: انْتَعَلَتِ المَطايا ظِلالها إِذا انْتَصَفَ النَّهَارُ فِي القَيْظ فَلَمْ يكُن لَهَا ظِلٌّ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

قَدْ وَرَدَتْ تَمْشِي عَلَى ظِلالِها، ***وذابَت الشَّمْس عَلَى قِلالها

وَقَالَ آخَرُ فِي مِثْلِهِ: وانْتَعَلَ الظِّلَّ فَكَانَ جَوْرَبا "والظِّلُّ: العِزُّ والمَنَعة.

وَيُقَالُ: فُلَانٌ فِي ظِلِّ فُلَانٍ أَي فِي ذَراه وكَنَفه.

وَفُلَانٌ يَعِيشُ فِي ظِلِّ فُلَانٍ أَي فِي كَنَفه.

واسْتَظَلَّ الكَرْمُ: التَفَّتْ نَوامِيه.

وأَظَلُّ الإِنسان: بُطونُ أَصابعه وَهُوَ مِمَّا يَلِي صَدْرَ القَدَم مِنْ أَصل الإِبهام إِلى أَصل الخِنْصَرِ، وَهُوَ مِنَ الإِبل بَاطِنُ المَنْسِم؛ هَكَذَا عَبَّروا عَنْهُ بِبُطُونٍ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَن الأَظَلَّ بَطْنُ الأُصبع؛ وَقَالَ ذُو الرُّمَّة فِي مَنْسِم الْبَعِيرِ: " دَامِي الأَظلِّ بَعِيد الشَّأْوِ مَهْيُوم "قَالَ الأَزهري: سَمِعْتُ أَعرابيًّا من طَيِءٍ يَقُولُ لِلَحْمٍ رقيقٍ لازقٍ بِبَاطِنِ المَنْسِم مِنَ الْبَعِيرِ هُوَ المُسْتَظِلَّاتُ، وَلَيْسَ فِي لَحْمِ الْبَعِيرِ مُضْغة أَرَقُّ وَلَا أَنعم مِنْهَا غَيْرَ أَنه لَا دَسَم فِيهِ.

وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ فِي بَابِ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ فِي اهْتِمَامِ الرَّجُلِ بشأْن أَخيه: قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ إِذا أَراد المَشْكُوُّ إِليه أَنه فِي نَحْوٍ مِمَّا فِيهِ صاحبُه الشَّاكي قَالَ لَهُ إِن يَدْمَ أَظَلُّكَ فَقَدْ نَقِبَ خُفِّي؛ يَقُولُ: إِنه فِي مِثْلِ حَالِكَ؛ قَالَ لَبِيدٌ: " بنَكِيبٍ مَعِرٍ دَامِي الأَظَلّ قَالَ: والمَنْسِمُ لِلْبَعِيرِ كالظُّفُر للإِنسان.

وَيُقَالُ "لِلدَّمِ الَّذِي فِي الْجَوْفِ مُسْتَظِلٌّ أَيضًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " مِنْ عَلَق الجَوْفِ الَّذِي كَانَ اسْتَظَلّ "وَيُقَالُ: اسْتَظَلَّت العينُ إِذا غَارَتْ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

عَلَى مُسْتَظِلَّاتِ العُيونِ سَوَاهِمٍ، ***شُوَيْكِيَةٍ يَكْسُو بُرَاها لُغَامُها

وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: كأَنَّما وَجْهُكَ ظِلٌّ مِنْ حَجَر "قَالَ بَعْضُهُمْ: أَراد الوَقاحة، وَقِيلَ: إِنه أَراد أَنه أَسودُ الْوَجْهِ.

غَيْرُهُ: الأَظَلُّ مَا تَحْتَ مَنْسِم الْبَعِيرِ؛ قَالَ العَجَّاج:

تَشْكو الوَجَى مِنْ أَظْلَلٍ وأَظْلَل، ***مِنْ طُولِ إِمْلالٍ وظَهْرٍ أَمْلَل

إِنما أَظهر التَّضْعِيفَ ضَرُورَةً وَاحْتَاجَ إِلى فَكِّ الإِدغام كَقَوْلِ قَعْنَب بْنُ أُمِّ صَاحِبٍ:

مَهْلًا أَعاذِلَ، قَدْ جَرَّبْتِ منْ خُلُقِي ***أَنِّي أَجُودُ لأَقوامٍ، وإِنْ ضَنِنُوا

وَالْجَمْعُ الظُّلُّ، عَامَلُوا الْوَصْفَ أَو جَمَعُوهُ جَمْعًا شَاذًّا؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا أَسبق لأَني لَا أَعرف كَيْفَ يَكُونُ صِفَةً.

وَقَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: لَكِنْ عَلَى الأَثَلاثِ لَحْمٌ لَا يُظَلَّل؛ قَالَهُ بَيْهَسٌ فِي إِخوته الْمَقْتُولِينَ لَمَّا قَالُوا ظَلِّلوا لَحْمَ جَزُورِكم.

والظَّلِيلة: مُسْتَنْقَع الْمَاءِ فِي أَسفل مَسِيل الْوَادِي.

والظَّلِيلة: الرَّوْضة الْكَثِيرَةُ الحَرَجات، وَفِي التَّهْذِيبِ: الظَّلِيلَة مُسْتَنْقَع ماءٍ قليلٍ فِي مَسِيل وَنَحْوِهِ، وَالْجَمْعُ الظَّلائل، وَهِيَ شِبْهُ حُفْرة فِي بطنِ مَسِيل ماءٍ فَيَنْقَطِعُ السَّيْلُ وَيَبْقَى ذَلِكَ الْمَاءُ فِيهَا؛ قَالَ رُؤْبَةُ: " غادَرَهُنَّ السَّيْلُ فِي ظَلائلا.

ابْنُ الأَعرابي: الظُّلْظُل السُّفُن وَهِيَ المَظَلَّة.

والظِّلُّ: اسْمُ فَرَس مَسْلمة بْنُ عَبْدِ المَلِك.

وظَلِيلاء: مَوْضِعٌ، والله أَعلم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


62-لسان العرب (قول)

قول: القَوْل: الْكَلَامُ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَهُوَ عِنْدَ المحقِّق كُلُّ لَفْظٍ قَالَ بِهِ اللِّسَانُ، تَامًّا كَانَ أَو نَاقِصًا، تَقُولُ: قَالَ يَقُولُ قَولًا، وَالْفَاعِلُ قَائِل، وَالْمَفْعُولُ مَقُول؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَاعْلَمْ أَن قُلْتَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِنما وَقَعَتْ عَلَى أَن تَحْكِي بِهَا مَا كَانَ كَلَامًا لَا قَوْلًا، يَعْنِي بِالْكَلَامِ الجُمَل كَقَوْلِكَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَقَامَ زَيْدٌ، وَيَعْنِي بالقَوْل الأَلفاظ الْمُفْرَدَةَ الَّتِي يُبْنَى الْكَلَامُ مِنْهَا كَزَيْدٍ مِنْ قَوْلِكَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَعَمْرٌو مِنْ قَوْلِكَ قَامَ عَمْرٌو، فأَما تَجوُّزهم فِي تَسْمِيَتِهِمْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْآرَاءَ قَوْلًا فلأَن الِاعْتِقَادَ يخفَى فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، أَو بِمَا يَقُومُ مَقَامَ القَوْل مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَا تَظْهَرُ إِلا بالقَوْل سُمِّيَتْ قَوْلًا إِذ كَانَتْ سَبَبًا لَهُ، وَكَانَ القَوْل دَلِيلًا عَلَيْهَا، كَمَا يسمَّى الشَّيْءَ بِاسْمِ غَيْرِهِ إِذا كَانَ مُلَابِسًا لَهُ وَكَانَ الْقَوْلُ دَلِيلًا عَلَيْهِ، فإِن قِيلَ: فَكَيْفَ عبَّروا عَنِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْآرَاءِ بالقَوْل وَلَمْ يُعَبِّرُوا عَنْهَا بِالْكَلَامِ، وَلَوْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا أَو قَلَبُوا الِاسْتِعْمَالَ فِيهِمَا كَانَ مَاذَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنهم إِنما فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ كَانَ القَوْل بِالِاعْتِقَادِ أَشبه مِنَ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يُفْهَم إِلَّا بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْعِبَارَةُ عَنْهُ كَمَا أَن القَوْل قَدْ لَا يتمُّ مَعْنَاهُ إِلَّا بِغَيْرِهِ، أَلا تَرَى أَنك إِذا قُلْتَ قَامَ وأَخليته مِنْ ضَمِيرٍ فإِنه لَا يَتِمُّ مَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَلَهُ؟ لأَنه إِنما وُضِع عَلَى أَن يُفاد مَعْنَاهُ مقترِنًا بِمَا يُسْنَدُ إِليه مِنَ الْفَاعِلِ، وَقَامَ هَذِهِ نَفْسُهَا قَوْل، وَهِيَ نَاقِصَةٌ مُحْتَاجَةٌ إِلى الْفَاعِلِ كَاحْتِيَاجِ الِاعْتِقَادِ إِلى الْعِبَارَةِ عَنْهُ، فَلَمَّا اشْتَبَهَا مِنْ هُنَا عُبِّرَ عَنْ أَحدهما بِصَاحِبِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكَلَامُ لأَنه وُضِعَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَمَّا سِوَاهُ، والقَوْل قَدْ يَكُونُ مِنَ المفتقِر إِلى غَيْرِهِ عَلَى مَا قدَّمْناه، فَكَانَ بِالِاعْتِقَادِ الْمُحْتَاجِ إِلى الْبَيَانِ أَقرب وبأَنْ يعبَّر عَنْهُ أَليق، فَاعْلَمْهُ.

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ القَوْل فِي غَيْرِ الإِنسان؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ:

قَالَتْ لَهُ الطيرُ: تقدَّم رَاشِدًا، ***إِنك لَا ترجِعُ إِلا حامِدا

وَقَالَ آخَرُ:

قَالَتْ لَهُ العينانِ: سَمْعًا وَطَاعَةً، ***وحدَّرتا كالدُّرِّ لمَّا يُثَقَّب

وَقَالَ آخَرُ: امتلأَ الْحَوْضُ وقَالَ: قَطْني وَقَالَ الْآخَرُ:

بَيْنَمَا نَحْنُ مُرْتعُون بفَلْج، ***قَالَتِ الدُّلَّح الرِّواءُ: إِنِيهِ

إِنِيهِ: صَوْت رَزَمة السَّحَابِ وحَنِين الرَّعْد؛ وَمِثْلُهُ أَيضًا: " قَدْ قَالَتِ الأَنْساعُ للبَطْن الحَقِي وإِذا جَازَ أَن يسمَّى الرأْي وَالِاعْتِقَادُ قَوْلًا، وإِن لَمْ يَكُنْ صَوْتًا، كَانَ تَسْمِيَتُهُمْ مَا هُوَ أَصوات قَوْلًا أَجْدَر بِالْجَوَازِ، أَلا تَرَى أَن الطَّيْرَ لَهَا هَدِير، وَالْحَوْضَ لَهُ غَطِيط، والأَنْساع لَهَا أَطِيط، وَالسَّحَابَ لَهُ دَوِيّ؟ فأَما قَوْلُهُ: قَالَتْ لَهُ العَيْنان: سَمْعًا وَطَاعَةً "فإِنه وإِن لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا صَوْتٌ، فإِن الْحَالَ آذَنَتْ بأَن لَوْ كَانَ لَهُمَا جَارِحَةُ نُطْقٍ لَقَالَتَا سَمْعًا وَطَاعَةً؛ قَالَ" ابْنُ جِنِّي: وَقَدْ حرَّر هَذَا الْمَوْضِعَ وأَوضحه عَنْتَرَةُ بِقَوْلِهِ:

لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا المُحَاورة اشْتَكى، ***أَو كَانَ يَدْرِي مَا جوابُ تَكَلُّمي

وَالْجَمْعُ أَقْوال، وأَقاوِيل جَمْعُ الْجَمْعِ؛ قَالَ يَقُولُ قَوْلًا وقِيلًا وقَوْلةً ومَقالًا ومَقالةً؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِلْحُطَيْئَةِ يُخَاطِبُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

تحنّنْ علَيَّ، هَداكَ المَلِيك ***فإِنَّ لكلِّ مَقام مَقالا

وَقِيلَ: القَوْل فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، والقَال والقِيل فِي الشرِّ خَاصَّةً، وَرَجُلٌ قَائِلٌ مِنْ قَوْمٍ قُوَّل وقُيَّل وقالةٍ.

حَكَى ثَعْلَبٌ: إِنهم لَقالةٌ بِالْحَقِّ، وكذلك قَؤول وقَوُول، وَالْجَمْعُ قُوُل وقُوْل؛ الأَخيرة عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوَّال وقَوَّالةٌ مِنْ قَوْمٍ قَوَّالين وقَوَلةٍ وتِقْوَلةٌ وتِقْوَالةٌ؛ وَحَكَى سِيبَوَيْهِ مِقْوَل، وَكَذَلِكَ الأُنثى بِغَيْرِ هَاءٍ، قَالَ: وَلَا يُجْمَعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ لأَن مؤَنثه لَا تَدْخُلُهُ الْهَاءُ.

ومِقْوَال: كمِقْوَل؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ عَلَى النسَب، كُلُّ ذَلِكَ حسَن القَوْل لسِن، وَفِي الصِّحَاحِ: كَثِيرُ القَوْل.

الجوهري: رجل قَؤُول وَقَوْمٌ قُوُل مِثْلُ صَبور وصُبُر، وإِن شِئْتَ سَكَّنْتَ الْوَاوَ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهل الْعَرَبِيَّةِ قَؤُول وقُوْل، بإِسكان الْوَاوِ، تَقُولُ: عَوان وعُوْن الأَصل عُوُن؛ وَلَا يُحَرَّكُ إِلا فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: " تَمْنَحُه سُوُكَ الإِسْحِل.

قَالَ: وَشَاهِدُ قوله رجل قَؤُول قَوْلُ كَعْبُ بْنُ سَعْدٍ الغَنَوي:

وعَوراء قَدْ قِيلَتْ فَلَمْ أَلْتَفِتْ لَهَا، ***وَمَا الكَلِمُ العُورانُ لِي بِقَبيل

وأُعرِضُ عَنْ مَوْلَايَ، لَوْ شِئْتُ سَبَّني، ***وَمَا كُلُّ حِينٍ حِلْمُهُ بأَصِيل

وَمَا أَنا، لِلشَّيْءِ الَّذِي لَيْسَ نافِعِي ***ويَغْضَب مِنْهُ صَاحِبِي، بِقَؤُول

ولستُ بِلاقي المَرْء أَزْعُم أَنه ***خليلٌ، وَمَا قَلْبي لَهُ بخَلِيل

وامرأَة قَوَّالَة: كَثِيرَةُ القَوْل، وَالِاسْمُ القَالَةُ والقَالُ والقِيل.

ابْنُ شُمَيْلٍ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِنه لَمِقْوَل إِذا كَانَ بَيِّنًا ظَرِيفَ اللِّسَانِ.

والتِّقْولةُ، الكثيرُ الْكَلَامِ الْبَلِيغُ فِي حَاجَتِهِ.

وامرأَة وَرَجُلٌ تِقْوالةٌ: مِنْطِيقٌ.

وَيُقَالُ: كثُر القالُ والقِيلُ.

الْجَوْهَرِيُّ: القُوَّل جَمْعُ قَائِل مِثْلُ راكِع ورُكَّع؛ قَالَ رُؤْبَةَ:

فَالْيَوْمَ قَدْ نَهْنَهَني تنَهْنُهِي، ***أَوَّل حِلْمٍ لَيْسَ بالمُسَفَّهِ،

وقُوَّل إِلَّا دَهٍ فَلا دَهِ وَهُوَ ابنُ أَقوالٍ وابنُ قَوَّالٍ أَي جيدُ الْكَلَامِ فَصِيحٌ.

التَّهْذِيبُ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذا كَانَ ذَا لسانٍ طَلِق إِنه لابنُ قَوْلٍ وَابْنُ أَقْوالٍ.

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنه نُهِيَ عَنْ قِيل وقَالٍ وإِضاعةِ الْمَالِ "؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ فِي قَوْلِهِ قِيلٍ وَقَالٍ نحوٌ وعربيَّة، وَذَلِكَ أَنه جَعَلَ القَال مَصْدَرًا، أَلا تَرَاهُ يَقُولُ عَنْ قِيلٍ وقالٍ كأَنه قَالَ عَنْ قيلٍ وقَوْلٍ؟ يُقَالُ عَلَى هَذَا: قلتُ قَوْلًا وقِيلًا وَقَالًا، قَالَ: وَسَمِعْتُ الْكِسَائِيَّ يَقُولُ فِي قِرَاءَةِ" عَبْدِ اللَّهِ: ذلك عيسى بنُ مَرْيَمَ قالَ الحقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ "؛ فَهَذَا مِنْ هذا كأَنهقَالَ: قالَ قَوْلَ الْحَقِّ؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: القالُ فِي مَعْنَى القَوْل مِثْلُ العَيْب والعابِ، قَالَ: وَالْحَقُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهِ الله تعالى ذِكرُه كأَنه قَالَ قَوْلَ اللهِ.

الْجَوْهَرِيُّ: وَكَذَلِكَ القَالَةُ.

يُقَالُ: كثرتْ قَالَةُ النَّاسِ، قَالَ: وأَصْل قُلْتُ قَوَلْتُ، بِالْفَتْحِ، وَلَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ بِالضَّمِّ لأَنه يَتَعَدَّى.

الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ونهيِه عَنْ قِيلٍ وقَالٍ وَكَثْرَةِ السؤَال "، قَالَ: فَكَانَتَا كَالِاسْمَيْنِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَلَوْ خُفِضتا عَلَى أَنهما أُخرجتا مِنْ نِيَّةِ الْفِعْلِ إِلى نِيَّةِ الأَسماء كَانَ صَوَابًا كَقَوْلِهِمْ: أَعْيَيْتني مِنْ شُبٍّ إِلى دُبٍّ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنه نهَى عَنِ فُضُول مَا يتحدَّث بِهِ المُتجالِسون مِنْ قَوْلِهِمْ قِيلَ كَذَا وقَالَ كَذَا، قَالَ: وَبِنَاؤُهُمَا عَلَى كَوْنِهِمَا فِعْلَيْنِ مَاضِيَيْنِ محكيَّيْن متضمِّنين لِلضَّمِيرِ، والإِعراب عَلَى إِجرائهما مَجْرَى الأَسماء خِلْوَيْن مِنَ الضَّمِيرِ وإِدخال حَرْفِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِمَا لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ القِيل والقَال، وَقِيلَ: القالُ الِابْتِدَاءُ، والقِيلُ الْجَوَابُ، قَالَ: وَهَذَا إِنما يَصِحُّ إِذا كَانَتِ الرِّوَايَةُ قِيل وَقَالَ عَلَى أَنهما فِعْلان، فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنِ القَوْل بِمَا لَا يَصِحُّ وَلَا تُعلم حقيقتُه، وَهُوَ كَحَدِيثِهِ الْآخَرِ: " بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا "وأَما مَنْ حكَى مَا يَصِحُّ وتُعْرَف حقيقتُه وأَسنده إِلى ثِقةٍ صَادِقٍ فَلَا وَجْهَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَلَا ذَمَّ، وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: إِنه جَعَلَ الْقَالَ مَصْدَرًا كأَنه قَالَ: نَهَى عَنْ قيلٍ وقوْلٍ، وَهَذَا التأْويل عَلَى أَنهما اسْمَانِ، وَقِيلَ: أَراد النَّهْيَ عَنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ مُبتدئًا ومُجيبًا، وَقِيلَ: أَراد بِهِ حِكَايَةَ أَقوال النَّاسِ وَالْبَحْثَ عَمَّا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ خَيْرًا وَلَا يَعْنيه أَمرُه؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «أَلا أُنَبِّئُكم مَا العَضْهُ؟ هِيَ النميمةُ القَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ»أَي كَثْرَةُ القَوْلِ وإِيقاع الْخُصُومَةِ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا يَحْكِي البعضُ عَنِ الْبَعْضِ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «فَفَشَتِ القَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ "، قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يُرِيدَ بِهِ القَوْل والحديثَ.

اللَّيْثُ: تَقُولُ الْعَرَبُ كَثُرَ فِيهِ القالُ والقِيلُ، وَيُقَالُ إِن اشتِقاقَهما مِنْ كَثْرَةِ مَا يَقُولُونَ قَالَ وَقِيلَ لَهُ، وَيُقَالُ: بَلْ هُمَا اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ القَوْل، وَيُقَالُ: قِيلَ عَلَى بِنَاءِ فِعْل، وقُيِل عَلَى بِنَاءِ فُعِل، كِلَاهُمَا مِنَ الْوَاوِ وَلَكِنَّ الْكَسْرَةَ غَلَبَتْ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ}.

الْفَرَّاءُ: بَنُو أَسد يَقُولُونَ قُولَ وقِيلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ وأَنشد:

وابتدأَتْ غَضْبى وأُمَّ الرِّحالْ، ***وقُولَ لَا أَهلَ لَهُ وَلَا مالْ

بِمَعْنًى وقِيلَ: وأَقْوَلَهُ مَا لَمْ يَقُلْ وقَوَّلَه مَا لَمْ يَقُل، كِلاهما: ادَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَقَالَهُ مَا لَمْ يقُل؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

قَوْل مَقُولٌ ومَقْؤول؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ أَيضًا، قَالَ: والإِتمام لُغَةُ أَبي الْجَرَّاحِ.

وآكَلْتَني وأَكَّلْتَني مَا لَمْ آكُل أَي ادّعَيْته عَليَّ.

قَالَ شَمِرٌ: تَقُولُ قَوَّلَني فُلان حَتَّى قلتُ أَي عَلَّمَنِي وأَمرني أَن أَقول، قَالَ: قَوَّلْتَني وأَقْوَلْتَني أَي علَّمتني مَا أَقول وأَنطقتني وحَمَلْتني عَلَى القَوْل.

وَفِي حَدِيثِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ حِينَ قِيلَ لَهُ: «مَا تقول في عثمان وعلي»، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؟ فَقَالَ: أَقول فِيهِمَا مَا قَوَّلَنِيَ اللَّهُ تَعَالَى؛ ثُمَّ قرأَ: {وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ} (الْآيَةَ).

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السلام: «سَمِعَ امرأَة تندُب عمَر فَقَالَ: أَما وَاللَّهِ مَا قالتْه وَلَكِنْ قُوِّلَتْه»أَي لُقِّنَته وعُلِّمَته وأُلْقِيَ عَلَى لِسَانِهَا يَعْنِي مِنْ جَانِبِ الإِلْهام؛ أي أَنه حَقِيقٌ بِمَا قَالَتْ فِيهِ.

وتَقَوَّلَ قَوْلًا: ابتدَعه كذِبًا.

وتَقَوَّلَ فُلَانٌ عليَّ بَاطِلًا أَي قَالَ عَليَّ مَا لَمْ أَكن قلتُ وَكَذِبَ عليَّ؛ " وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ}.

وَكَلِمَةٌ مُقَوَّلَة: قِيلتْ مرَّة بَعْدَ مرَّة.

والمِقْوَل: اللِّسَانُ، وَيُقَالُ: إِنَّ لِي مِقْوَلًا، وَمَا يسُرُّني بِهِ مِقْوَل، وَهُوَ لِسَانُهُ.

التَّهْذِيبُ: أَبو الْهَيْثَمِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا}، قَالَ: اعْلَمْ أَن الْعَرَبَ تَقُولُ: قَالَ إِنه وَزَعَمَ أَنه، فَكَسَرُوا الأَلف فِي قَالَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَفَتَحُوهَا فِي زَعَمَ، لأَن زَعَمَ فِعْل وَاقِعٌ بِهَا متعدٍّ إِليها، تَقُولُ زَعَمْتُ عبدَ اللَّهِ قَائِمًا، وَلَا تَقُولُ قُلْتُ زَيْدًا خَارِجًا إِلَّا أَن تُدْخِلَ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ فِي أَوله فَتَقُولُ: هَلْ تَقُولُه خَارِجًا، وَمَتَى تَقُولُه فعَل كَذَا، وَكَيْفَ تَقُولُه صَنَعَ، وعَلامَ تَقُولُه فَاعِلًا، فَيَصِيرُ عِنْدَ دُخُولِ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الظَّنِّ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ: مَتَى تَقُولُني خَارُجًا، وَكَيْفَ تَقُولُك صَانِعًا؟ وأَنشد: فَمَتَى تَقُولُ الدارَ تَجْمَعُنا قَالَ الْكُمَيْتُ:

عَلامَ تَقُولُ هَمْدانَ احْتَذَتْنا ***وكِنْدَة، بالقوارِصِ، مُجْلِبينا؟

وَالْعَرَبُ تُجْري تَقُولُ وَحْدَهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ مَجْرَى تظنُّ فِي الْعَمَلِ؛ قَالَ هُدْبَةُ بْنُ خَشْرم:

مَتَّى تَقُولُ القُلُصَ الرَّواسِما ***يُدْنِين أُمَّ قاسِمٍ وقاسِما؟

فَنَصَبَ القُلُص كَمَا يُنْصَبُ بالظنِّ؛ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ:

عَلامَ تَقُولُ الرُّمْحَ يُثْقِلُ عاتِقي، ***إِذا أَنا لَمْ أَطْعُنْ، إِذا الخيلُ كَرَّتِ؟

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبي رَبِيعَةَ:

أَمَّا الرَّحِيل فدُون بعدَ غدٍ، ***فَمَتَى تَقُولُ الدارَ تَجْمَعُنا؟

قَالَ: وَبَنُو سُلَيْمٍ يُجْرون متصرِّف قُلْتُ فِي غَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ أَيضًا مُجْرى الظنِّ فيُعدُّونه إِلى مَفْعُولَيْنِ، فَعَلَى مَذْهَبِهِمْ يَجُوزُ فَتْحُ أنَّ بَعْدَ القَول.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه سَمِعَ صوْت رَجُلٍ يقرأُ بِاللَّيْلِ فَقَالَ أَتَقُولُه مُرائيًا»أَي أَتظنُّه؟ وَهُوَ مختصٌّ بِالِاسْتِفْهَامِ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لمَّا أَراد أَن يعتَكِف ورأَى الأَخْبية فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: البِرَّ تَقُولون بهنَ»أَي تظنُّون وتَرَوْن أَنهنَّ أَردْنَ البِرَّ، قَالَ: وفِعْلُ القَوْلِ إِذا كَانَ بِمَعْنَى الْكَلَامِ لَا يعمَل فِيمَا بَعْدَهُ، تَقُولُ: قلْت زَيْدٌ قَائِمٌ، وأَقول عَمْرٌو مُنْطَلِقٌ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يُعمله فَيَقُولُ قلْت زَيْدًا قَائِمًا، فإِن جعلتَ القَوْلَ بِمَعْنَى الظَّنِّ أَعملته مَعَ الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِكَ: مَتَى تَقُولُ عمرًا ذاهبًا، وأَ تَقُولُ زَيْدًا مُنْطَلِقًا؟ أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ مَا أَحسن قِيلَك وقَوْلَك ومَقالَتَكَ ومَقالَك وقالَك، خَمْسَةُ أَوجُه.

اللَّيْثُ: يُقَالُ انتشَرَت لِفُلَانٍ فِي النَّاسِ قالةٌ حَسَنَةٌ أَو قالةٌ سَيِّئَةٌ، والقَالَةُ تَكُونُ بِمَعْنَى قائلةٍ، والقَالُ فِي مَوْضِعِ قَائِلٍ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ لِقَصِيدَةٍ: أَنا قالُها أَي قائلُها.

قَالَ: والقَالَةُ القَوْلُ الْفَاشِي فِي النَّاسِ.

والمِقْوَل: القَيْل بِلُغَةِ أَهل الْيَمَنِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: المِقْوَل والقَيْل الْمَلِكُ مِنْ مُلوك حِمْير يَقُول مَا شَاءَ، وأَصله قَيِّل؛ وقِيلَ: هُوَ دُونَ الْمَلِكِ الأَعلى، وَالْجَمْعُ أَقْوال.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: كسَّروه عَلَى أَفْعال تَشْبِيهًا بِفَاعِلٍ، وَهُوَ المِقْوَل وَالْجَمْعُ مَقاوِل ومَقاوِلة، دَخَلَتِ الْهَاءُ فِيهِ عَلَى حدِّ دُخُولِهَا فِي القَشاعِمة؛ قَالَ لَبِيدٌ:

لَهَا غَلَلٌ مِنْ رازِقيٍّ وكُرْسُفٍ ***بأَيمان عُجْمٍ، يَنْصُفُون المَقاوِلا

والمرأَة قَيْلةٌ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَصل قَيْل قَيِّل، بِالتَّشْدِيدِ، مِثْلُ سَيِّد مِنْ سَادَ يَسُود كأَنه الَّذِي لَهُ قَوْل أَي ينفُذ قولُه، وَالْجَمْعُ أَقْوال وأَقْيال أَيضًا، وَمَنْ جمَعه عَلَى أَقْيال لَمْ يَجْعَلِ الْوَاحِدَ مِنْهُ مشدَّدًا؛ التَّهْذِيبُ: وَهُمُ الأَقْوال والأَقْيَال، الْوَاحِدُ قَيْل، فَمَنْ قَالَ أَقْيال بَنَاهُ عَلَى لَفْظِ قَيْل، وَمَنْ قَالَ أَقْوال بَنَاهُ عَلَى الأَصل، وأَصله مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ؛ وَرُوِيَ" عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه كَتَبَ لِوَائِلِ بْنِ حُجْر وَلِقَوْمِهِ: مِنْ محمدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلى الأَقْوالِ العَباهِلة، وَفِي رِوَايَةٍ: إِلى الأَقْيال العَباهِلة "؛ قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: الأَقْيال ملوك باليمن دُونَ الْمَلِكِ الأَعظم، واحدُهم قَيْل يَكُونُ مَلِكًا عَلَى قَوْمِهِ ومِخْلافِه ومَحْجَره، وَقَالَ غَيْرُهُ: سُمِّيَ الْمَلِكُ قَيْلًا لأَنه إِذا قَالَ قَوْلًا نفَذ قولُه؛ وَقَالَ الأَعشى فَجَعَلَهُمْ أَقْوالًا:

ثُمَّ دانَتْ، بَعْدُ، الرِّبابُ، وَكَانَتْ ***كعَذابٍ عقوبةُ الأَقْوالِ

ابْنُ الأَثير فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ قَالَ: الأَقْوال جَمْعُ قَيْل، وَهُوَ الْمَلِكُ النَّافِذُ القَوْل والأَمرِ، وأَصله قَيْوِل فَيْعِل مِنَ القَوْل، حُذِفَتْ عَيْنُهُ، قَالَ: وَمِثْلُهُ أَموات فِي جَمْعِ ميْت مُخَفَّفِ مَيِّتٍ، قَالَ: وأَما أَقْيال فَمَحْمُولٌ عَلَى لَفْظِ قَيْل كَمَا قِيلَ أَرْياح فِي جَمْعِ رِيحٍ، وَالشَّائِعُ المَقِيس أَرْواح.

وَفِي الْحَدِيثِ: «سُبْحَانَ مَنْ تَعَطَّف العِزَّ وَقَالَ بِه»: تعطَّف العِزَّ أَي اشْتَمَلَ بالعِزِّ فَغَلَبَ بِالْعِزِّ كلَّ عَزِيزٍ، وأَصله مِنَ القَيْل ينفُذ قولُه فِيمَا يُرِيدُ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: مَعْنَى وَقَالَ بِهِ أَي أَحبَّه واختصَّه لِنَفْسِهِ، كَمَا يُقال: فُلَانٌ يَقُول بِفُلَانٍ أَي بمحبَّته واختصاصِه، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَكَم بِهِ، فإِن القَوْل يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الحُكْم.

وَفِي الْحَدِيثِ: «قُولُوا بقَوْلكم أَو بَعْضِ قَوْلِكم وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكم الشَّيْطَانُ»أَي قُولوا بقَوْل أَهل دِينكم ومِلَّتكم، يَعْنِي ادْعُونِي رَسُولًا وَنَبِيًّا كَمَا سمَّاني اللَّهُ، وَلَا تُسَمُّونِي سيِّدًا كَمَا تسمُّون رُؤَسَاءَكُمْ، لأَنهم كَانُوا يحسَبون أَن السِّيَادَةَ بِالنُّبُوَّةِ كَالسِّيَادَةِ بأَسباب الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ بَعْضِ قولِكم يَعْنِي الاقتصادَ فِي الْمَقَالِ وتركَ الإِسراف فِيهِ، قَالَ: وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا مَدَحُوهُ فَكَرِهَ لَهُمُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَدْحِ فَنَهَاهُمْ عَنْهُ، يُرِيدُ تكلَّموا بِمَا يحضُركم مِنَ القَوْلِ وَلَا تتكلَّفوه كأَنكم وُكلاءُ الشَّيْطَانِ ورُسُلُه تنطِقون عَنْ لِسَانِهِ.

واقْتال قَوْلًا: اجْتَرَّه إِلى نفسِه مِنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ.

واقْتَالَ عَلَيْهِمُ: احْتَكَم؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ للغَطَمَّش مِنْ بَنِي شَقِرة:

فبالخَيْر لَا بالشرِّ فارْجُ مَوَدَّتي، ***وإِنِّي امرُؤٌ يَقْتَالُ مِنِّي التَّرَهُّبُ

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: سَمِعْتُ الْهَيْثَمَ بْنَ عَدِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ فِي رُقْية النَّمْلة: العَرُوس تَحْتَفِل، وتَقْتالُ وتَكْتَحِل، وكلَّ شَيْءٍ تَفْتَعِلْ، غَيْرَ أَن لَا تَعْصِي الرَّجُلْ؛ قَالَ: تَقْتَال تَحْتَكِم عَلَى زَوْجِهَا.

الْجَوْهَرِيُّ: اقْتال عَلَيْهِ أَي تحكَّم؛ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ سَعْدٍ الغَنَويّ:

ومنزلَةٍ فِي دَارِ صِدْق وغِبْطةٍ، ***وَمَا اقْتَال مِنْ حُكْمٍ عَليَّ طَبيبُ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُ إِنشاده بِالرَّفْعِ ومنزلةٌ لأَن قَبْلَهُ:

وخَبَّرْتُماني أَنَّما الموتُ فِي القُرَى، ***فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَةٌ وكَثِيبُ

وماءُ سَمَاءٍ كَانَ غَيْرَ مَحَمَّة ***بِبَرِّيَّةٍ، تَجْري عَلَيْهِ جَنُوبُ

وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ للأَعشى:

ولمِثْلِ الَّذِي جَمَعْتَ لِرَيْبِ الدهر ***تَأْبى حُكُومَةَ المُقْتالِ

وقاوَلْته فِي أَمره وتَقاوَلْنا أَي تَفاوَضْنا؛ وَقَوْلُ لَبِيدٍ:

وإِنَّ اللَّهَ نافِلةٌ تُقَاهُ، ***وَلَا يَقْتالُها إِلا السَّعِيدُ

أَي وَلَا يَقُولُهَا؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ فإِنَّ اللَّهَ، بِالْفَاءِ؛ وَقَبْلَهُ: " حَمِدْتُ اللهَ واللهُ الحميدُ "والقالُ: القُلَةُ، مَقْلُوبٌ مغيَّر، وَهُوَ العُود الصَّغِيرُ، وَجَمْعُهُ قِيلان؛ قَالَ: " وأَنا فِي ضُرَّاب قِيلانِ القُلَهْ "الْجَوْهَرِيُّ: القالُ الْخَشَبَةُ الَّتِي يضرَب بِهَا القُلَة؛ وأَنشد:

كأَنَّ نَزْوَ فِراخِ الهامِ، بينَهُم، ***نَزْوُ القُلاة، قَلَاهَا قالُ قالِينا

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هَذَا الْبَيْتُ يُرْوَى لِابْنِ مُقْبِلٍ، قَالَ: وَلَمْ أَجده فِي شِعْرِهِ.

ابْنُ بَرِّيٍّ: يُقَالُ اقْتَالَ بِالْبَعِيرِ بَعِيرًا وَبِالثَّوْبِ ثَوْبًا أَي اسْتَبْدَلَهُ بِهِ، وَيُقَالُ: اقْتَالَ باللَّوْن لَوْنًا آخَرَ إِذا تَغَيَّرَ مِنْ سفرٍ أَو كِبَر؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

فاقْتَلْتُ بالجِدّة لَوْنًا أَطْحَلا، ***وَكَانَ هُدَّابُ الشَّباب أَجْملا

ابْنُ الأَعرابي: الْعَرَبُ تَقُولُ قَالُوا بزيدٍ أَي قَتَلُوه، وقُلْنا بِهِ أَي قَتَلْناه؛ وأَنشد:

نَحْنُ ضَرَبْنَاهُ عَلَى نِطَابه، ***قُلْنا بِهِ قُلْنا بِهِ قُلْنا بِهِ

أَي قَتَلْناه، والنَّطابُ: حَبْل العاتِقِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «فقَالَ بِالْمَاءِ عَلَى يَده»؛ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " فقَالَ بِثَوبه هَكَذَا "، قَالَ ابْنُ الأَثير: الْعَرَبُ تَجْعَلُ الْقَوْلَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الأَفعال وتطلِقه عَلَى غَيْرِ الْكَلَامِ وَاللِّسَانِ فَتَقُولُ قَالَ بِيَده؛ أي أَخذ، وقَالَ برِجْله؛ أي مَشَى؛ وَقَدْ تقدَّم قَوْلُ الشَّاعِرِ: «وقَالَتْ لَهُ العَيْنانِ: سَمْعًا وَطَاعَةَ»؛ أي أَوْمَأَتْ، وقَالَ بِالْمَاءِ عَلَى يدِه؛ أي قَلب، وقَالَ بِثَوْبٍ؛ أي رفَعَه، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ السَّهْوِ قَالَ: «مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: صدَق»، رُوِيَ أَنهم أَوْمَؤُوا برؤوسِهم: أَي نَعَمْ وَلَمْ يتكلَّموا؛ قَالَ: وَيُقَالُ قَالَ بِمَعْنَى أَقْبَلَ، وَبِمَعْنَى مَالَ واستراحَ وضرَب وغلَب وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَفِي حَدِيثِ جُرَيْجٍ: «فأَسْرَعَت القَوْلِيَّةُ إِلى صَوْمَعَتِه»؛ همُ الغَوْغاءُ وقَتَلَةُ الأَنبياء واليهودُ، وتُسمَّى الغَوْغاءُ قَوْلِيَّةً.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


63-لسان العرب (يوم)

يَوْم: اليَوْمُ: معروفٌ مِقدارُه مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلى غُرُوبِهَا، وَالْجَمْعُ أَيَّامٌ، لَا يكسَّر إِلا عَلَى ذَلِكَ، وأَصله أَيْوامٌ فأُدْغم وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوا فِيهِ جمعَ الْكَثْرَةِ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}؛ الْمَعْنَى ذكِّرْهم بِنِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ فِيهَا عَلَيْهِمْ وبِنِقَمِ اللَّهِ" الَّتِي انْتَقَم فِيهَا مِنْ نوحٍ وعادٍ وثمودَ.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ خَوِّفْهم بِمَا نزلَ بعادٍ وَثَمُودَ وغيرِهم مِنَ الْعَذَابِ وَبِالْعَفْوِ عَنْ آخَرِينَ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِكَ: خُذْهُم بِالشِّدَّةِ واللِّين.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ، قَالَ: نِعَمَه، وَرَوِي عَنْ أُبيّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، قَالَ: أَيَّامُه نِعَمُه "؛ وَقَالَ شِمْرٌ فِي قَوْلِهِمْ: " يَوْماهُ: يَوْمُ نَدىً، ويَوْمُ طِعان "ويَوْمَاه: يَوْم نُعْمٍ ويَوْمُ بُؤْسٍ، فاليَوْمُ هاهنا بِمَعْنَى الدَّهْر أَي هُوَ دَهْرَه كَذَلِكَ.

والأَيَّام فِي أَصلِ البِناء أَيْوامٌ، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ إِذا وَجَدُوا فِي كَلِمَةٍ يَاءً وَوَاوًا فِي مَوْضِعٍ.

والأُولى مِنْهُمَا ساكنةٌ، أَدْغَموا إِحداهما فِي الأُخرى وَجَعَلُوا الْيَاءَ هِيَ الغالبةَ، كَانَتْ قبلَ الْوَاوِ أَو بعدَها، إِلَّا فِي كلماتٍ شَواذَّ تُرْوَى مِثْلَ الفُتُوّة والهُوّة.

وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ وسُئل عَنْ أَيَّامٍ: لمَ ذهبَتِ الواوُ؟ فأَجاب: أَن كُلَّ ياءٍ وواوٍ سبقَ أَحدُهما الآخرَ بسكونٍ فإِن الْوَاوَ تَصِيرُ يَاءً فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وتُدْغَم إِحداهما فِي الأُخرى، مِنْ ذَلِكَ أَيَّامٌ أَصلها أَيْوامٌ، ومثلُها سيّدٌ وَمَيِّتٌ، الأَصلُ سَيْوِدٌ ومَيْوِت، فَأَكْثَرُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا إِلا حَرْفَيْنِ صَيْوِب وحَيْوة، وَلَوْ أَعلُّوهما لَقَالُوا صَيِّب وَحَيَّةٌ، وأَما الواوُ إِذا سبَقت فقولُك لَوَيْتُه لَيًّا وشَوَيْتُه شَيًّا، والأَصل شَوْيًا ولَوْيًا.

وَسُئِلَ أَبو الْعَبَّاسِ أَحمد بْنُ يَحْيَى عَنْ قَوْلِ الْعَرَبِ اليَوْم اليَوْم، فَقَالَ: يُرِيدُونَ اليَوْم اليَوِمَ، ثُمَّ خَفَّفُوا الْوَاوَ فَقَالُوا اليَوْم اليَوْم، وَقَالُوا: أَنا اليَوْمَ أَفعلُ كَذَا، لَا يُرِيدُونَ يَوْمًا بِعَيْنِهِ وَلَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ الوقتَ الحاضرَ؛ حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}؛ وَقِيلَ: مَعْنَى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" أَي فَرَضْتُ مَا تَحْتَاجُونَ إِليه فِي دِينِكم، وَذَلِكَ حسَنٌ جَائِزٌ، فأَما أَن يكونَ دِينُ اللَّهِ فِي وقتٍ مِنَ الأَوقات غيرَ كَامِلٍ فَلَا.

وَقَالُوا: اليَوْمُ يَوْمُك، يُرِيدُونَ التشنيعَ وَتَعْظِيمَ الأَمر.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « السَّائِبَةُ والصدَقةُ ليَوْمِهما» أَي ليومِ الْقِيَامَةِ، يَعْنِي يُراد بِهِمَا ثوابُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ المَلِك: « قَالَ لِلْحَجَّاجِ سِرْ إِلى العِراق غِرارَ النَّوْمِ طَوِيلَ اليَوْم »؛ يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ جَدَّ فِي عَملِه يومَه، وَقَدْ يُرادُ بِالْيَوْمِ الوقتُ مُطْلَقًا؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: « تِلْكَ أَيَّامُ الهَرْج »أَي وقتُه، وَلَا يَخْتَصُّ بالنهارِ دُونَ اللَّيْلِ.

واليَوْمُ الأَيْوَمُ: آخرُ يَوْمٍ فِي الشَّهْرِ.

ويَوْمٌ أَيْوَمُ ويَوِمٌ ووَوِمٌ؛ الأَخيرة نَادِرَةٌ لأَن الْقِيَاسَ لَا يوجبُ قَلْبَ الياءِ وَاوًا، كلُّه: طويلٌ شديدٌ هائلٌ.

ويومٌ ذُو أَيَاوِيمَ كَذَلِكَ؛ وَقَوْلُهُ: " مَرْوانُ يَا مَرْوانُ لليومِ اليَمِي وَرَوَاهُ ابْنُ جِنِّي: مَرْوَانُ مَرْوَانُ أَخُو الْيَوْمِ اليَمِي وَقَالَ: أَراد أَخو اليومِ السهْلِ اليومُ الصعبُ، فَقَالَ: يومٌ أَيْوَمُ ويَوِمٌ كأَشْعَث وشَعِث، فقُلب فَصَارَ يَمِو، فَانْقَلَبَتِ العينُ لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا طرَفًا، ووجهٌ آخَرُ أَنه أَراد أَخو اليَوْمِ اليَوْمُ كَمَا يُقَالُ عِنْدَ الشِّدَّةِ والأَمرِ الْعَظِيمِ اليَوْمُ اليَوْمُ، فقُلب فَصَارَ اليَمْو ثُمَّ نقلَه مِنْ فَعْل إِلى فَعِل كَمَا أَنشده أَبو زَيْدٍ مِنْ قَوْلِهِ:

عَلامَ قَتْلُ مُسْلِمٍ تَعَبَّدا، ***مُذْ خَمْسة وخَمِسون عدَدا

يُرِيدُ خَمْسون، فَلَمَّا انكسرَ مَا قَبْلَ الْوَاوِ قُلِبَتْ يَاءً فَصَارَ اليَمِي؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَيَجُوزُ فِيهِ عِنْدِي وَجْهٌثَالِثٌ لَمْ يُقَلْ بِهِ، وَهُوَ أَن يَكُونَ أَصله عَلَى مَا قِيلَ فِي الْمَذْهَبِ الثَّانِي أَخُو اليَوْم اليَوْم ثُمَّ قَلَبَ فَصَارَ اليَمْوُ، ثُمَّ نُقِلَتِ الضمّةُ إِلى الْمِيمِ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ هَذَا بَكُر، فَصَارَ اليَمُو، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْوَاوُ طَرَفًا بَعْدَ ضَمَّةٍ فِي الِاسْمِ أَبدلوا مِنَ الضَّمَّةِ كَسْرَةً، ثُمَّ مِنَ الْوَاوِ يَاءً فَصَارَتِ اليَمِي كأَحْقٍ وأَدْلٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ فَعِلٌ أَي الشَّدِيدِ؛ وَقِيلَ: أَراد اليَوْم اليَوْم كَقَوْلِهِ: " إِنَّ مَعَ اليَوْمِ أَخاه غَدْوَا فاليَمِي، عَلَى الْقَوْلِ الأَول، نعتٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي اسمٌ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَكِلَاهُمَا مَقْلُوبٌ، وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنِ الشِّدَّةِ باليَوْم، يُقَالُ يومٌ أَيْوَم، كَمَا يُقَالُ لَيْلة ليلاءُ، قَالَ أَبو الأَخزر الْحِمَّانِيُّ:

نِعْمَ أَخو الهَيْجاءِ فِي اليومِ اليَمِي، ***ليَوْمِ رَوْعٍ أَو فَعالِ مُكْرمِ

هُوَ مَقْلُوبٌ مِنْهُ، أَخَّر الواوَ وقدَّمَ الميمَ، ثُمَّ قُلِبَتِ الواوُ يَاءً حَيْثُ صَارَتْ طرَفًا كَمَا قَالُوا أَدْلٍ فِي جَمْعِ دَلْوٍ.

واليَوْمُ: الكوْنُ.

يُقَالُ: نِعْمَ الأَخُ فلانٌ فِي اليَوْم إِذا نزلَ بِنَا أَي فِي الْكَائِنَةِ مِنَ الكوْنِ إِذا حدَثتْ، وأَنشد: نِعْمَ أَخو الْهَيْجَاءِ فِي اليَوْم اليَمِي قَالَ: أَراد أَن يشتقَّ مِنَ الِاسْمِ نَعْتًا فَكَانَ حدُّه أَن يَقُولَ فِي اليَوْم اليَوْم فقلَبه، كَمَا قَالُوا القِسيّ والأَيْنُق، وَتَقُولُ الْعَرَبُ لليومِ الشديدِ: يومٌ ذُو أَيّامٍ ويومٌ ذُو أَيايِيمَ، لطولِ شرِّه عَلَى أَهله.

الأَخفش فِي قَوْلِهِ تعالى: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}، أَي مِنْ أَوَّل الأَيّام، كَمَا تَقُولُ لَقِيتُ كلَّ رجلٍ تُريد كلَّ الرِّجَالِ.

ويَاوَمْتُ الرجلَ مُيَاوَمَةً ويِوَامًا أَي عاملتُه أَو استأْجَرْته اليومَ، الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، وعاملتُه مُيَاوَمَةً: كَمَا تَقُولُ مُشاهرةً، ولقيتُه يَوْمَ يَوْمَ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ وَقَالَ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَبْنِيه، وَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيفُه إِلا فِي حَدِّ الْحَالِ أَو الظَّرْفِ.

ابْنُ السِّكِّيتِ: الْعَرَبُ تَقُولُ الأَيَّام فِي مَعْنَى الْوَقَائِعِ، يُقَالُ: هُوَ عالمٌ بأَيَّام الْعَرَبِ، يُرِيدُ وقائعَها، وأَنشد:

وقائعُ فِي مُضَرٍ تِسْعةٌ، ***وَفِي وائلٍ كانتِ العاشِرهْ

فَقَالَ: تِسْعة وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُولَ تِسْع لأَن الوَقيعة أُنثى، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلى الأَيّام.

وَقَالَ شَمِرٌ: جَاءَتِ الأَيَّام بِمَعْنَى الْوَقَائِعِ والنِّعم.

وَقَالَ: إِنما خصُّوا الأَيّام دُونَ ذِكْرِ اللَّيَالِي فِي الْوَقَائِعِ لأَنَّ حُروبهم كَانَتْ نَهَارًا، وإِذا كَانَتْ لَيْلًا ذكرُوها كَقَوْلِهِ:

ليَلة العُرْقوبِ، حَتَّى غامرَتْ ***جَعْفَر يُدْعى ورَهْط ابْنِ شَكَل

وأَما قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: وأَيَّام لَنَا غُرّ طِوال فإِنه يُرِيدُ أَيّامَ الْوَقَائِعِ الَّتِي نُصِروا فِيهَا عَلَى أَعدائهم، وَقَوْلُهُ:

شَرَّ يَوْمَيْها وأَغْواه لَهَا ***رَكِبَتْ عَنْزُ بِحِدْجٍ جَمَلا

أَراد شَرَّ أَيّام دَهْرِها، كأَنه قَالَ: شَرّ يَوْمَيْ دَهْرِها الشَّرَّيْنِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ إِن فِي الشَّرِّ خِيارًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْبَيْتُ مَعَ بَقِيَّةِ الأَبيات وقصةُ عَنْز مُسْتَوْفاة فِي مَوْضِعِهَا.

ويامٌ وخارفٌ: قَبِيلَتَانِ مِنَ الْيَمَنِ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


64-لسان العرب (يقن)

يُقْنِ: اليَقِينُ: العِلْم وَإِزَاحَةُ الشَّكِّ وتحقيقُ الأَمر، وَقَدْ أَيْقَنَ يُوقِنُ إِيقَانًا، فَهُوَ مُوقِنٌ، ويَقِنَ يَيْقَن يَقَنًا، فَهُوَ يَقنٌ.

واليَقِين: نَقيض الشَّكِّ، وَالْعِلْمُ نقيضُ الْجَهْلِ، تَقُولُ عَلِمْتُه يَقينًا.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ}؛ أَضاف الْحَقَّ إِلَى الْيَقِينِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، لأَن الْحَقَّ هُوَ غَيْرُ الْيَقِينِ، إِنَّمَا هُوَ خالصُه وأَصَحُّه، فَجَرَى مَجْرَى إِضَافَةِ الْبَعْضِ إِلَى الْكُلِّ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}؛ أَي حَتَّى يأْتيك الموتُ، كَمَا قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَقَالَ: مَا دُمْتُ حَيًّا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عبَادَةٌ لِغَيْرِ حَيّ، لأَن مَعْنَاهُ اعْبُدْ ربَّك أَبدًا واعْبُدْه إِلَى الْمَمَاتِ، وَإِذَا أَمر بِذَلِكَ فَقَدْ أَمر بالإِقامة عَلَى الْعِبَادَةِ.

ويَقِنْتُ الأَمْرَ، بِالْكَسْرِ؛ ابْنُ سِيدَهْ: يَقِنَ الأَمرَ يَقْنًا ويَقَنًا وأَيْقَنَه وأَيْقَنَ بِهِ وتَيَقَّنه واسْتَيْقَنه واسْتَيْقَن بِهِ وتَيَقَّنْت بالأَمر واسْتَيْقَنْت بِهِ كُلَّهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وأَنا عَلَى يَقين مِنْهُ، وَإِنَّمَا صَارَتِ الْيَاءُ وَاوًا فِي قَوْلِكَ مُوقِنٌ لِلضَّمَّةِ قَبْلَهَا، وَإِذَا صَغَّرْته رددتَه إِلَى الأَصل وقلتَ مُيَيْقِنٌ، وَرُبَّمَا عَبَّرُوا بِالظَّنِّ عَنِ اليَقِين وباليَقِين عَنِ الظَّنِّ؛ قَالَ أَبو سِدْرَة الأَسدِيُّ، وَيُقَالُ الهُجَيْمِيُّ:

تَحَسَّبَ هَوّاسٌ، وأَيْقَنَ أَنَّني ***بِهَا مُفْتَدٍ مِنْ واحدٍ لَا أُغامِرُه

يَقُولُ: تَشَمَّمَ الأَسدُ نَاقَتِي يَظُنُّ أَنني أَفتدي بِهَا مِنْهُ "وأَسْتَحْمِي نَفْسِي فأَتركها لَهُ وَلَا أَقتحم الْمَهَالِكَ بِمُقَاتَلَتِهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الأَسدُ هَوَّاسًا لأَنه يَهُوس الفَريسة أَي يَدُقُّها.

وَرَجُلٌ يَقِنٌ ويَقَنٌ: لَا يَسْمَعُ شَيْئًا إِلَّا أَيْقَنَه، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ أُذُنٌ.

وَرَجُلٌ يَقَنَةٌ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ وَبِالْهَاءِ: كيَقُنٍ؛ عَنْ كُرَاعٍ، وَرَجُلٌ مِيقَانٌ كَذَلِكَ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، والأُنثى مِيقَانةٌ، بِالْهَاءِ، وَهُوَ أَحد مَا شَذَّ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ.

وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: رَجُلٌ ذُو يَقَنٍ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا إِلَّا أَيْقَنَ بِهِ.

أَبو زَيْدٍ: رَجُلٌ أُذُنٌ يَقَنٌ، وَهَمَا وَاحِدٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ بِشَيْءٍ إِلَّا أَيْقَنَ بِهِ.

وَرَجُلٌ يَقَنٌ ويَقَنَةٌ.

مِثْلَ أُذُنٍ فِي الْمَعْنَى أَي إِذَا سَمِعَ شَيْئًا أَيْقَنَ بِهِ وَلَمْ يُكَذِّبه.

اللَّيْثُ: اليَقَنُ اليَقِينُ؛ وأَنشد قَوْلَ الأَعشى:

وما بالَّذي أَبْصَرَتْه العُيُونُ ***مِنْ قَطْعِ يَأْسٍ، وَلَا منْ يَقَنْ

ابْنُ الأَعرابي: المَوْقُونَةُ الْجَارِيَةُ المَصُونة المُخدَّرة.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


65-مختار الصحاح (يقن)

(الْيَقِينُ) الْعِلْمُ وَزَوَالُ الشَّكِّ، يُقَالُ مِنْهُ: (يَقِنْتُ) الْأَمْرَ مِنْ بَابِ طَرِبَ.

وَ (أَيْقَنْتُ) وَ (اسْتَيْقَنْتُ) وَ (تَيَقَّنْتُ) كُلُّهُ بِمَعْنًى.

وَأَنَا عَلَى (يَقِينٍ) مِنْهُ.

وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنِ الظَّنِّ بِالْيَقِينِ وَعَنِ الْيَقِينِ بِالظَّنِّ.

مختار الصحاح-محمد بن أبي بكر الرازي-توفي: 666هـ/1268م


66-مختار الصحاح (يوم)

(الْيَوْمُ) مَعْرُوفٌ وَجَمْعُهُ (أَيَّامٌ).

قَالَ الْأَخْفَشُ: فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] أَيْ مِنْ أَوَّلِ الْأَيَّامِ كَمَا تَقُولُ: لَقِيتُ كُلَّ رَجُلٍ تُرِيدُ كُلَّ الرِّجَالِ.

وَعَامَلَهُ (مُيَاوَمَةً) كَمَا تَقُولُ: مُشَاهَرَةً.

وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنِ الشِّدَّةِ بِالْيَوْمِ، يُقَالُ: يَوْمٌ (أَيْوَمُ) كَمَا يُقَالُ: لَيْلَةٌ لَيْلَاءُ.

وَ (يَامٌ) ابْنُ نُوحٍ الَّذِي غَرِقَ فِي الطُّوفَانِ.

مختار الصحاح-محمد بن أبي بكر الرازي-توفي: 666هـ/1268م


67-مقاييس اللغة (بول)

(بَوَلَ) الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَاللَّامُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا مَاءٌ يَتَحَلَّبُ وَالثَّانِي الرُّوعُ.

فَالْأَوَّلُ الْبَوْلُ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَفُلَانٌ حَسَنُ الْبِيلَةِ، وَهِيَ الْفِعْلَةُ مِنَ الْبَوْلِ.

وَأَخَذَهُ بُوَالٌ إِذَا كَانَ يُكْثِرُ الْبَوْلَ.

وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنِ النَّسْلِ بِالْبَوْلِ.

قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

أَبِي هُوَ ذُو الْبَوْلِ الْكَثِيرِ مُجَاشِعٌ *** بِكُلِ بِلَادٍ لَا يَبُولُ بِهَا فَحْلُ

قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ لِنُطَفِ الْبِغَالُ أَبْوَالُ الْبِغَالِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّرَابِ أَبْوَالُ الْبِغَالِ عَلَى التَّشْبِيهِ.

وَإِنَّمَا شُبِّهَ بِأَبْوَالِ الْبِغَالِ لِأَنَّ بَوْلَ الْبِغَالِ كَاذِبٌ لَا يُلْقِحُ، وَالسَّرَابُ كَذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

بِسَرْوِ حِمْيَرَ أَبْوَالُ الْبِغَالِ بِهِ *** أَنَّى تَسَدَّيْتَ وَهْنًا ذَلِكَ الْبِينَا

قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: شَحْمَةٌ بَوَّالَةٌ، إِذَا أَسْرَعَ ذَوْبُهَا.

[قَالَ]:

إِذْ قَالَتِ النَّثُولُ لِلْجَمُولِ *** يَا ابْنَةَ شَحْمٍ فِي الْمَرِيءِ بُولِيَ

الْجَمُولُ: شَحْمَةٌ تُطْبَخُ.

وَالنَّثُولُ: الْمَرْأَةُ الَّتِي تُخْرِجُهَا مِنَ الْقِدْرِ.

وَيُقَالُ زِقٌّ بَوَّالٌ إِذَا كَانَ يَتَفَجَّرُ بِالشَّرَابِ، وَهُوَ فِي شِعْرِ عَدِيٍّ.

وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي فَالْبَالُ: بَالُ النَّفْسِ.

وَيُقَالُ مَا خَطَرَ بِبَالِي، أَيْ مَا أُلْقِيَ فِي رُوعِي.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الْخَلِيلَ ذَكَرَ أَنَّ بَالَ النَّفْسِ هُوَ الِاكْتِرَاثُ، وَمِنْهُ.

اشْتُقَّ مَا بَالَيْتُ، وَلَمْ يَخْطُِرْ بِبَالِي.

قِيلَ لَهُ: هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَمَعْنَى الِاكْتِرَاثِ أَنْ يَكْرُِثَهُ مَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا قُلْنَاهُ.

وَالْمَصْدَرُ الْبَالَةُ وَالْمُبَالَاةُ.

وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَنِ الْوُضُوءِ بِاللَّبَنِ: مَا أُبَالِيهِ بَالَةً، اسْمَحْ يُسْمَحْ لَكَ.

وَيَقُولُونَ: لَمْ أُبَالِ وَلَمْ أُبَلْ، عَلَى الْقَصْرِ.

"وَمِمَّا حُمِلَ عَلَى هَذَا: الْبَالُ، وَهُوَ رَخَاءُ الْعَيْشِ ; يُقَالُ إِنَّهُ لَرَاخِي الْبَالِ، وَنَاعِمُ الْبَالِ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


68-مقاييس اللغة (بيض)

(بَيْضَ) الْبَاءُ وَالْيَاءُ وَالضَّادُ أَصْلٌ، وَمُشْتَقٌّ مِنْهُ، وَمُشَبَّهٌ بِالْمُشْتَقِّ.

فَالْأَصْلُ الْبَيَاضُ مِنَ الْأَلْوَانِ.

يُقَالُ ابْيَضَّ الشَّيْءُ.

وَأَمَّا الْمُشْتَقُّ مِنْهُ فَالْبَيْضَةُ لِلدَّجَاجَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْجَمْعُ الْبَيْضُ، وَالْمُشَبَّهُ بِذَلِكَ بَيْضَةُ الْحَدِيدِ.

وَمِنَ الِاسْتِعَارَةِ قَوْلُهُمْ لِلْعَزِيزِ فِي مَكَانِهِ: هُوَ بَيْضَةُ الْبَلَدِ، أَيْ يُحْفَظُ وَيُحَصَّنُ كَمَا تُحْفَظُ الْبَيْضَةُ.

يُقَالَ حَمَى بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ.

فَإِذَا عَبَّرُوا عَنِ الذَّلِيلِ الْمُسْتَضْعَفِ بِأَنَّهُ بَيْضَةُ الْبَلَدِ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ مَتْرُوكٌ مُفْرَدٌ كَالْبَيْضَةِ الْمَتْرُوكَةِ بِالْعَرَاءِ.

وَلِذَلِكَ تُسَمَّى الْبَيْضَةُ التَّرِيكَةَ.

وَقَدْ فُسِّرَتْ فِي مَوْضِعِهَا.

وَيُقَالُ بَاضَتِ الْبُهْمَى إِذَا سَقَطَتْ نِصَالُهَا.

"وَبَاضَ الْحَرُّ اشْتَدَّ ; وَيُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَمَكَّنَ كَأَنَّهُ بَاضَ وَفَرَّخَ وَتَوَطَّنَ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


69-مقاييس اللغة (ثوب)

(ثَوَبَ) الثَّاءُ وَالْوَاوُ وَالْبَاءُ قِيَاسٌ صَحِيحٌ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْعَوْدُ وَالرُّجُوعُ.

يُقَالُ ثَابَ يَثُوبُ إِذَا رَجَعَ.

وَالْمَثَابَةُ: الْمَكَانُ يَثُوبُ إِلَيْهِ النَّاسُ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].

قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: مَثَابَةً: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ لَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا أَبَدًا.

وَالْمَثَابَةُ: مَقَامُ الْمُسْتَقِي عَلَى فَمِ الْبِئْرِ.

وَهُوَ مِنْ هَذَا، لِأَنَّهُ يَثُوبُ إِلَيْهِ، وَالْجَمْعُ مَثَابَاتٌ.

قَالَ:

وَمَا لِمَثَابَاتِ الْعُرُوشِ بَقِيَّةٌ *** إِذَا اسْتُلَّ مِنْ تَحْتِ الْعُرُوشِ الدَّعَائِمُ

وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَثَابَةُ الْعَدَدُ الْكَبِيرُ.

فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ مِنَ الْبَابِ، لِأَنَّهُمُ الْفِئَةُ الَّتِي يُثَابُ إِلَيْهَا.

وَيُقَالُ ثَابَ الْحَوْضُ، إِذَا امْتَلَأَ.

قَالَ:

إِنْ لَمْ يَثُبْ حَوْضُكَ قَبْلَ الرِّيِّ.

وَهَكَذَا كَأَنَّهُ خَلَا ثُمَّ ثَابَ إِلَيْهِ الْمَاءُ، أَوْ عَادَ مُمْتَلِئًا بَعْدَ أَنْ خَلَا.

وَالثَّوَابُ مِنَ الْأَجْرِ وَالْجَزَاءِ أَمْرٌ يُثَابُ إِلَيْهِ.

وَيُقَالُ إِنَّ الْمَثَابَةَ حِبَالَةُ الصَّائِدِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَلِأَنَّهُ مَثَابَةُ الصَّيْدِ، عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّشْبِيهِ.

قَالَ الرَّاجِزُ:

مَتَى مَتَى تُطَّلَعُ الْمَثَابَا *** لَعَلَّ شَيْخًا مُهْتَرًا مُصَابَا

يَعْنِي بِالشَّيْخِ الْوَعِلَ يَصِيدُهُ.

"وَيُقَالُ إِنَّ الثَّوَابَ الْعَسَلُ ; وَهُوَ مِنَ الْبَابِ، لِأَنَّ النَّحْلَ يَثُوبُ إِلَيْهِ."

قَالَ:

فَهُوَ أَحْلَى مِنَ الثَّوَابِ إِذَا *** ذُقْتَ فَاهَا وَبَارِئِ النَّسَمِ

قَالُوا: وَالْوَاحِدُ ثَوَابَةٌ.

وَثَوَابٌ: اسْمُ رَجُلٍ كَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الطَّوَاعِيَةِ، فَيُقَالُ: أَطْوَعُ مِنْ ثَوَابٍ.

قَالَ:

وَكُنْتُ الدَّهْرَ لَسْتُ أُطِيعُ أُنْثَى *** فَصِرْتُ الْيَوْمَ أَطْوَعَ مِنْ ثَوَابِ

"وَالثَّوْبُ الْمَلْبُوسُ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ ; لِأَنَّهُ يُلْبَسُ ثُمَّ يُلْبَسُ وَيُثَابُ إِلَيْهِ."

وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنِ النَّفْسِ بِالثَّوْبِ، فَيُقَالُ هُوَ طَاهِرُ الثِّيَابِ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


70-مقاييس اللغة (خلو)

(خَلَوَ) الْخَاءُ وَاللَّامُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى تَعَرِّي الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ.

يُقَالُ هُوَ خِلْوٌ مِنْ كَذَا، إِذَا كَانَ عِرْوًا مِنْهُ.

وَخَلَتِ الدَّارُ وَغَيْرُهَا تَخْلُو.

وَالْخَلِيُّ: الْخَالِي مِنَ الْغَمِّ.

وَامْرَأَةٌ خَلِيَّةٌ: كِنَايَةٌ عَنِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهَا إِذَا طُلِّقَتْ فَقَدْ خَلَتْ عَنْ بَعْلِهَا.

وَيُقَالُ خَلَا لِيَ الشَّيْءُ وَأَخْلَى.

قَالَ:

أَعَاذِلُ هَلْ يَأْتِي الْقَبَائِلَ حَظُّهَا *** مِنَ الْمَوْتِ أَمْ أَخْلَى لَنَا الْمَوْتُ وَحْدَنَا

وَالْخَلِيَّةُ: النَّاقَةُ تُعْطَفُ عَلَى غَيْرِ وَلَدِهَا، لِأَنَّهَا كَأَنَّهَا خَلَتْ مِنْ وَلَدِهَا الْأَوَّلِ.

وَالْقُرُونُ الْخَالِيَةُ: الْمَوَاضِي.

وَالْمَكَانُ الْخَلَاءُ: الَّذِي لَا شَيْءَ بِهِ.

وَيُقَالُ.

مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ خَلَا زَيْدٍ وَزَيْدًا، أَيْ دَعْ ذِكْرَ زَيْدٍ، اخْلُ مِنْ ذِكْرِ زَيْدٍ.

وَيُقَالُ: افْعَلْ ذَاكَ وَخَلَاكَ ذَمٌّ، أَيْ عَدَاكَ وَخَلَوْتَ مِنْهُ وَخَلَا مِنْكَ.

وَمِمَّا شَذَّ عَنِ الْبَابِ الْخَلِيَّةُ: السَّفِينَةُ، وَبَيْتُ النَّحْلِ.

وَالْخَلَا: الْحَشِيشُ.

وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يَخْلُو مِنْ حَافِظِهِ بِالْخَلَاةِ، فَيَقُولُونَ: هُوَ خَلَاةٌ لِكَذَا، أَيْ هُوَ مِمَّنْ يُطْمَعُ فِيهِ وَلَا حَافِظَ لَهُ.

وَهُوَ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ.

وَقَالَ قَوْمٌ: الْخَلْيُ الْقَطْعُ، وَالسَّيْفُ يَخْتَلِي، أَيْ يَقْتَطِعُ.

فَكَأَنَّ الْخَلَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُخْتَلَى، أَيْ يُقْطَعُ.

وَمِنَ الشَّاذِّ عَنِ الْبَابِ: خَلَا بِهِ، إِذَا سَخِرَ بِهِ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


71-مقاييس اللغة (نوى)

(نَوَى) النُّونُ وَالْوَاوُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَقْصِدٌ لِشَيْءٍ، وَالْآخَرُ عَجَمُ شَيْءٍ.

فَالْأَوَّلُ النَّوَى.

قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: النَّوَى: التَّحَوُّلُ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ.

هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَيْهِ الْبَابُ كُلُّهُ فَقَالُوا: [نَوَى] الْأَمْرَ يَنْوِيهِ، إِذَا قَصَدَ لَهُ.

وَمِمَّا يُصَحِّحُ هَذِهِ التَّآوِيلَ قَوْلُهُمْ: نَوَاهُ اللَّهُ، كَأَنَّهُ قَصَدَهُ بِالْحِفْظِ وَالْحِيَاطَةِ.

قَالَ:

يَا عَمْرُو أَحْسِنْ نَوَاكَ اللَّهُ بِالرَّشَدِ *** وَاقْرَأْ سَلَامًا عَلَى الذَّلْفَاءِ بِالثَّمَدِ

أَيْ قَصَدَكَ بِالرَّشَدِ.

وَالنِّيَّةُ: الْوَجْهُ الَّذِي تَنْوِيهِ.

وَنَوِيُّكَ: صَاحِبُكَ نِيَّتُهُ نِيَّتُكَ.

وَالْأَصْلُ الْآخَرُ النَّوَى: نَوَى التَّمْرِ.

وَرُبَّمَا عَبَّرُوا بِهِ عَنْ بَعْضِ الْأَوْزَانِ.

وَيُقَالُ إِنَّ النَّوَاةَ زِنَةُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ.

وَتَزَوَّجَهَا عَلَى نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَيْ وَزْنِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ مِنْهُ.

وَبِالْهَمْزِ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى النُّهُوضِ وَنَاءَ يَنُوءُ نَوْءًا: نَهَضَ.

قَالَ:

فَقُلْنَا لَهُمْ تِلْكُمْ إِذًا بَعْدَ كَرَّةٍ *** نُغَادِرُ صَرْعَى نَوْؤُهَا مُتَخَاذِلُ

أَيْ نُهُوضُهَا ضَعِيفٌ وَالنَّوْءُ مِنْ أَنْوَاءِ الْمَطَرِ كَأَنَّهُ يَنْهَضُ بِالْمَطَرِ.

وَكُلُّ نَاهِضٍ.

بِثِقْلٍ فَقَدْ نَاءَ.

وَنَاءَ الْبَعِيرُ بِحِمْلِهِ.

وَالْمَرْأَةُ تَنُوءُ بِهَا عَجِيزَتُهَا، وَهِيَ تَنُوءُ بِهَا.

فَالْأُولَى تُثْقَلُ بِهَا، وَالثَّانِيَةُ تَنْهَضُ.

وَمِنَ الْبَابِ الْمُنَاوَأَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْقَوْمِ يُقَالُ: نَاوَأَهُ، إِذَا عَادَاهُ.

وَهُوَ قِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّهَا الْمُنَاهَضَةُ، هَذَا يَنُوءُ إِلَى هَذَا وَهُوَ يَنُوءُ إِلَيْهِ أَيْ يَنْهَضُ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


72-مقاييس اللغة (ندي)

(نَدِيَ) النُّونُ وَالدَّالُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ يَدُلُّ عَلَى تَجَمُّعٍ، وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى بَلَلٍ فِي الشَّيْءِ.

"فَالْأَوَّلُ النَّادِي وَالنَّدِيِّ: الْمَجْلِسُ يَنْدُو الْقَوْمُ حَوَالَيْهِ ; وَإِذَا تَفَرَّقُوا فَلَيْسَ بِنَدِيٍّ."

وَمِنْهُ دَارُ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْدُونَ فِيهَا، أَيْ يَجْتَمِعُونَ وَنَادَيْتُهُ: جَالَسْتُهُ فِي النَّدِيِّ.

قَالَ:

فَتًى لَوْ يُنَادِي الشَّمْسَ أَلْقَتْ قِنَاعَهَا *** أَوِ الْقَمَرَ السَّارِيَ لَأَلْقَى الْمَقَالِدَا

وَنَدْوَةُ الْإِبِلِ: أَنْ تَنْدُوَ مِنَ الْمَشْرَبِ إِلَى الْمَرْعَى الْقَرِيبِ مِنْهُ ثُمَّ تَعُودَ إِلَى الْمَاءِ مِنْ يَوْمِهَا أَوْ غَدِهَا.

وَكَذَلِكَ تَنْدُو مِنَ الْحَمْضِ إِلَى الْخَلَّةِ.

وَأَنْدَى إِبِلَهُ، مِنْ هَذَا.

وَالْأَصْلُ الْآخَرُ النَّدَى مِنَ الْبَلَلِ، مَعْرُوفٌ.

يُقَالُ نَدًى وَأَنْدَاءٌ، وَجَاءَ أَنْدِيَةٌ، وَهِيَ شَاذَّةٌ.

وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنِ الشَّحْمِ بِالنَّدَى.

وَهُوَ أَنْدَى مِنْ فُلَانٍ، أَيْ أَكْثَرُ خَيْرًا مِنْهُ.

وَمَا نَدِيَتْ كَفِّي لِفُلَانٍ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ.

قَالَ النَّابِغَةُ:

مَا إِنْ نَدِيتُ بِشَيْءٍ أَنْتَ تَكْرَهُهُ *** إِذَنْ فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ يَدِي

وَهُوَ يَتَنَدَّى عَلَى أَصْحَابِهِ، أَيْ يَتَسَخَّى.

وَمِنَ الْبَابِ نَدَى الصَّوْتِ: بُعْدُ مَذْهَبِهِ.

وَهُوَ أَنْدَى صَوْتًا مِنْهُ، أَيْ أَبْعَدُ.

قَالَ:

فَقُلْتُ ادْعِي وَأَدْعُ فَإِنَّ أَنْدَى *** لِصَوْتٍ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ

إِذَا هُمِزَ تَغَيَّرَ إِلَى شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى طَرَائِقَ وَآثَارٍ.

وَالنُّدْأَةُ: طَرِيقَةٌ مِنَ الشَّحْمِ مُخَالِفَةٌ لِلَوْنِ اللَّحْمِ.

وَالنُّدْأَةُ: قَوْسُ قُزَحَ، وَالْحُمْرَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْغَيْمِ نَحْوَ الشَّفَقِ.

وَنَدَأْتُ اللَّحْمَ فِي الْمَلَّةِ: دَفَنْتُهُ حَتَّى يَنْضَجَ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ النَّدِئُ مِثْلُ الطَّبِيخِ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


73-صحاح العربية (يقن)

[يقن] اليَقينُ: العلم وزوالُ الشك.

يقال منه: يَقِنْتُ الأمر يَقْنًا، وأيْقَنْتُ، واسْتَيْقَنْتُ، وتَيَقَّنْتُ، كلُّه، بمعنًى.

وأنا على يَقين منه.

وإنَّما صارت الياء واوًا في قولك موقِنٌ للضمة قبلها.

وإذا صغّرته رددتَه إلى الأصل وقلت مُيَيْقِنٌ.

وربَّما عبَّروا عن الظنّ باليَقينِ، وباليقين عن الظن.

قال الشاعر: تحسب هَوَّاسٌ وأيقن أنني *** بها مُفْتَدٍ من واحد لا أغامره يقول: تشمم الاسد ناقتي يظن أنى أفتدى بها منه وأستحمى نفسي فأتركها له ولا أقتحم المهالك بمقاتلته.

صحاح العربية-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


74-منتخب الصحاح (يقن)

اليَقينُ: العلم وزوالُ الشك.

يقال منه: يَقِنْتُ الأمر يَقْنًا، وأيْقَنْتُ، واسْتَيْقَنْتُ، وتَيَقَّنْتُ، كلُّه، بمعنًى.

وأنا على يَقين منه.

وإنَّما صارت الياء واوًا في قولك موقِنٌ للضمة قبلها.

وإذا صغّرته رددتَه إلى الأصل وقلت مُيَيْقِنٌ.

وربَّما عبَّروا عن الظنّ باليَقينِ، وباليَقينِ عن الظنّ.

منتخب الصحاح-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


75-منتخب الصحاح (يوم)

اليَوْمُ معروفٌ، والجمع أيَّامٌ، وأصله أيْوامٌ فأُدغمَ.

قال الأخفش في قوله تعالى: أُسِّسَ على التَّقْوى من أوَّلِ يَوْمٍ.

قال: من أوَّل الأيَّامِ.

كما تقول: لقيت كلَّ رجلٍ، تريد كلَّ الرجال.

وعاملتُهُ مُياوَمَةً، كما تقول: مُشاهَرَةً.

وربَّما عبَّروا عن الشدَّة باليَوْمِ.

يقال: يَوْمٌ أيْوَمُ كما يقال ليلةٌ ليلاء.

منتخب الصحاح-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


76-الحضارة (جنوب أمريكا)

جنوب أمريكا: south America.

يطلق علي السكان الأوائل للقارتين الأمريكتين الهنود الأمريكان.

وكانت أقصي درجة وصلت حضارتهم كانت في بيرو علي الساحل الغرابي لأمريكا الجنوبية.

وهذه الحضارات لم تعرف المحراث أو العجلة أو دولاب الفخار أو الحديد أو العملة كما كان معروفا في حضارات العالم القديم وقتها.

وسكان أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطي جاءوا من من جزر جنوب شرق آسيا حيث عبروا بقواربهم المصنوعة من جذوع الأشجار أو الجلد المحيط الباسفيكي.

وكانوا من جنس الإنسان العاقل والماهر.

وكان سكان أمريكا الشمالية قد نزحوا من شمال شرق آسيا.

وقد حملوا جميعا أدواتهم وأسلحتهم الحجرية.

وصنع الإنسان الأول بالأمريكتين منذ 11000سنة آلاته من عظام البقر والجاموس الوحشي والأحجار التي كان يكسر بها العظام, كما إخترع السكاكين ليقطع بها اللحوم والحراب للقتال وكان يطلق السهام كالقذيفة لإصطياد الطيور والحيوانات.

واستعمل الشراك والفخاخ والحبال لصيد الحيوانات.

وأيام كولومبوس أواخر القرن 15 كان سكان أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطي كان عدد الهنود الأمريكا بهما مابين 20 – 50 مليون بالمكسيك وجنولها وفوق مرتفعات بوليفيا وبيرو وبعض القبائل المتناثرة في صحراء المكسيك.

وكانت بيرو أكثر المناطق إزدحاما.

وكانت الزراعةقد ظهرت سنة 1200 ق.

م.

في المرتفعات بالمكسيك وفي ستة 3000ق.

م.

في شمال بيرو.

وكانت تتمركز في وديان هذه المناطق لخصوبة الأرض وسهولة الري والطقس ملاشم لها.

ونوجد الغابات الإستوائسة بشمال جواتيمالا والمكسيك.

لهذا قامت هناك حضارة المايا (مادة).

والحضارة هناك معقدة للغاية حيث تعددت المؤسسات العسكرية والمدن الحضرية وتنوعت التصميمات المعمارية والعقائد والطقوس الدينية.

وتوسعت التجارة.

وكان ينسج القطن والصوف ويصنع الفخار ويمارس التعدين.

كما كانوا يصنعون المشغولات المعدنية من الذهب والفضة والبرونز والنحاس.

واهتمت هذه الحضارات بالفلك والتقويم (المايا) والحساب والكنابة.

وكان شعوب هذه الحضارات يزرعون الذرة والبطاطس والفاصوليا والطماطم.

وفي أمريكا الوسطي كانت حضارة المكسيك.

وهي الحضارة الوحيدة في الأمريكتين المسجلة كتابة فوق أوراق من النباتات المحلية ومن بينها لفائف تابا.

وأول من دون كتابة هناك التولتك والزابوتك والآزتك (مواد).

وكانا للمايا لغتهم 0إستلا).

وكان للأوزتك تقويمهم.

وكان تقويما (انظر: تقويم) دينيا وفلكيا.

وكان يتكون من السنة المقدسة والسنة المدنية.

وكانت الستة المقدسة تتكون من 200يوم.

والسنة المدنية كانت مكونة من 360 بوم.

لأنها مرتبطة بالسنة الشمسية, وكان بضم بعدها 5أيام لكل ستة مدنية.

وكانت هذه الأيام الخمسة تخصص للأغراض الدينية.

وكلا السنتين كانتا مقسمتان لشهور وأسابيع.

وكان الشهر 20 يوما والإسبوع 13 يوما.

وكان تقويم المايا مرتبط بالزراعة.

ويعتمد علي الملاحظات الفلكية.

وكان يصحح مرة كل 52سنة.

وفي سنة 800ق.

م.

بني الأولمك الهرم الأكبر (انظر: أهرامات).

حوله الأفنية.

كما بنوا أهرامات صغيرة تقع علي محور الشمال والجنوب (نفس المحور التي كانت تقع عليه الأهرامات الفرعونية).

وكانت قمم الأهرامات تتوج بالمعابد سواء في كوبان أو تيكال أو يوكاتان أو باليثك.

وهذه كلها مدن ومراكز دينية هامة.

وهذه المواقع لم تكن محصنة أو محمية.

لأن البلاد كانت تعيش في سلام.

وكان حولها الأفنية ليعيش فيها الكهنة وكبار رجال المدينة.

وكانت المدن والقري ولاسيما لدي المايا لم تكن مخططة.

لكن كان يتوسطها أبنية مركزية حولها المعابد وبيوت الكهنة وكبار رجال الدولة.

وكانت من الحجارة ومزينة بالزخارف.

وكان حولها بيوت الفلاحين من الخشب فوقها قطع من الشقف.

وكان البيت ينكون من حجرة خلفية للنوم وحجرة أمامية للمعيشة بها باب مفتوح في واجهة البيت ومزينة بالرسوم.

وكانت المعابد تبني علي شكل مخروطي ناقص (مقطوع الرأس).

وكان الرجال معظمهم حليقي الذقن يلبسون شعرا مستعارا من الريش.

ويستعملون العطور القوية.

وكانوا ينقشون علي الاحجار الكريمة كالزمرد والخشب.

والنسيج كان ملونا ومتطورا.

وكان المايا يطبعون الألوان علي القماش بقوالب من الطين.

وكانت مشغولاتهم المعدنية من الذهب والفضة والبرونز.

وكانت الذرة الغذاء المفضل لديهم.

وكان يؤكل مسلوقا أو كفشار.

أو يصنع منه المشروبات.

وكان ماء الذرة يخلط بالكاكاو أو عصير البمنتو.

وكانوا يخمرون عسل النحل ويخلطونه بالماء ليشرب كنبيذ.

وكانوا يشون الكلاب ويأكلونها كوجبة مفضلة مع الأسماك.

وكان للأطباء علومهم وطقوسهم الشفائية وأحجارهم المقدسة.

وكان للموسيقي دورها الطقوسي والديني حيث كان يستعمل فيها الطبول والطنبور والفلوت وأبواق القرون ومحارات بحرية.

وكانوا يمارسون الرقص الجماعي في الخفلات الدينية.

ويصاحبه الموسيقي وكورس إنساد.

وكانوا يمارسون لعبة كرة السلة بنظام خاص.

وكانت الكرة من المطاط وصغيرة.

والملعب كان مسورا.

وكان الماياتجارا حيث كانوا يرسلون بضائعهم بالقوارب أو يسيرون بها فوق الأقدام ليصلوا لهندوراس وجزر الأنتيل أو يتوجهون بها للشمال لفلوريدا.

وكانت التجارة تتم بالمقايضة.

ووعورة أرض الجنوببأمريكا الجنوبية جعلت المجتمعات هناك قليلة السكان ومبعثرة ومتلاعدة.

(انظر: مايا.

بيرو.

بوليفيا.

قدماء الأمريكيين.

جنوب امريكا.

أهرامات).

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com