نتائج البحث عن (عِبَارَتَهُ)
1-العربية المعاصرة (شاه)
شاهَ يَشُوه، شُهْ، شَوْهًا، فهو شائه.* شاه الشَّيءُ: قَبُح (شَاهَتِ الْوُجُوهُ [حديث]: دعاء دعا به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على المشركين في غزوة بدر).
شوِهَ يَشوَه، شَوَهًا، فهو أشوهُ.
* شوِه الشَّيءُ: شاه، قَبُح (شوِه الوجهُ).
تشوَّهَ يتشوَّه، تشوُّهًا، فهو مُتشوِّه.
* تشوَّه الشَّيءُ: مُطاوع شوَّهَ: صار قبيحًا، تغيَّر شكلُه إلى الأسوأ (تشوَّه وجهُه: تغيَّرت معالمُه- تشوَّهت سمعتُه- تشوَّهت أجسادُ ضحايا الحادث- تشوُّه خِلْقيّ).
شوَّهَ يشوِّه، تشويهًا، فهو مُشوِّه، والمفعول مُشوَّه.
* شوَّه الشَّيءَ: قبَّحه، أفسد مظهرَه الخارجيّ (شوَّه وجهَه/عبارتَه/صورتَه/ذِكرَه- شوَّه الخبرَ: حرّفه) (*) شوَّه الحقيقةَ/شوَّه وجه الحقيقة: أخفاها وطمسها، غيَّر من وجه استقامتها، أوردها بغير أمانة- شوَّه سمعتَه: عرَّضه للامتهان بتصرّف شائن- مشَوَّهُ الحربِ: الذي قطع عضوٌ من أعضائه في الحرب.
أشْوهُ [مفرد]: جمعه شُوهٌ، والمؤنث شَوْهاءُ، والجمع المؤنث شَوْهاوات وشُوهٌ: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من شوِهَ.
تشوُّه [مفرد]:
1 - مصدر تشوَّهَ.
2 - [في الأحياء] تغيُّر غير سويّ في التّكوين الجسميّ للكائن الحيّ، وقد يكون مكتسبًا أو بسبب عَرَض.
3 - [في الطبيعة والفيزياء] تغيُّر في الشَّكل الأصليّ لصورة تحدثها موجات ضوئيّة، أو في الشَّكل الموجيّ لموجات صوتيَّة، أو لتيّار متردِّد.
شائه [مفرد]: اسم فاعل من شاهَ.
شاة [مفرد]: جمعه شاءٌ وشياهٌ: نعجة، أنثى الضأن، مذكّرها خروف (لا يضرُّ الشَّاةَ سلخُها بعد ذبحها) (*) كلّ شاة برجلها معلَّقة: كلّ إنسان محاسب على فعله، لا أحد يغني عن أحد.
شاه [مفرد]:
1 - لقب كان يُطلق على ملوك إيران.
2 - إحدى قطع لعبة الشِّطْرَنج.
شاهِنْشاه [مفرد]: ملك الملوك، الملك الأعظم.
شَوْه [مفرد]: مصدر شاهَ.
شَوَه [مفرد]: مصدر شوِهَ.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-العربية المعاصرة (نظم)
نظَمَ يَنظِم، نَظْمًا ونِظامًا، فهو ناظم، والمفعول مَنْظوم ونظيم.* نظَم الأشياءَ: ألَّفها وضَمّ بعضَها إلى بعض في صورة مُرتّبة (نظَم الّلآلئَ- ناظمُ عقود) (*) نظَم أمرَه: أقامه ورتَّبه.
* نظَم شِعْرًا: ألَّف كلامًا موزونًا مُقفًّى (نظَم قصيدة مدح- قادر على نَظْم قصيدة).
انتظمَ/انتظمَ في ينتظم، انتظامًا، فهو مُنتظِم، والمفعول مُنتظَم فيه.
* انتظم العقدُ: تآلف واتَّسق (انتظمتِ البيوتُ- كتب منتظمة).
* انتظم الأمرُ: استقام (انتظمت حركةُ المرور- انتظمت أحوالُه بعد العُسْر) (*) يتردّد على المسجد بانتظام: باستمرار وعدم انقطاع.
* انتظم في السِّلك الجامعيّ: التحق به وانتسب إليه (على الطالب المنتظم تبعات أكبر من الطالب المنتسب).
تناظمَ يتناظم، تناظُمًا، فهو مُتناظِم.
* تناظمتِ الجواهرُ: انتظمت؛ تآلفت واتَّسقت (عقد مصابيح مُتناظِم).
* تناظمتِ الصُّخورُ: تلاصقت وتضامَّت (تناظُم حجارة المدماك).
تنظَّمَ يتنظَّم، تنظُّمًا، فهو مُتنظِّم.
* تنظَّمت حركةُ المرور: مُطاوع نظَّمَ: انتظمت؛ استقامت، اتَّسقت (تنظَّمت أحوالُه بعد الحرب- تنظَّم المؤتمر- تنظّمت حياتُه بعد الفوضى التي عاش فيها).
نظَّمَ ينظِّم، تنظيمًا، فهو مُنظِّم، والمفعول مُنظَّم.
* نظَّم الأشياءَ: نظَمها، رتَّبها، وضمّ بعضها إلى بعضٍ في صورةٍ منسَّقة (طالبٌ منظَّم- يهتم بتنظيم مكتبته- نظّم حياتَه- نظم أفكارَه قبل التحدُّث).
* نظَّم اجتماعًا: هيّأه وأعدّه (نظّم حفلةً/رحلة- منشغل بتنظيم مشروع- ندوة منظَّمة جيّدًا).
* نظَّم الكتابَ: بوَّبه ورتَّبه مِنهاجيًّا.
تنظيم [مفرد]: جمعه تنظيمات (لغير المصدر):
1 - مصدر نظَّمَ.
2 - [في الفلسفة والتصوُّف] تأليف أجزاء متآزرة لأداء غرض معيّن.
3 - مجموع مؤلَّف من أجزاء متآزرة (تنظيمات سياسيَّة- تنظيم شعبيّ/إرهابيّ/حزبيّ/ثوريّ- إعادة تنظيم) (*) تنظيم سرِّيّ: مجموعة أشخاص يجمعهم هدف مشترك يعملون في الخفاء.
* التَّنظيمات الإداريَّة: الإجراءات التي يتّخذها المسئولون لإصلاح الإدارة وتنظيم أمورها.
* التَّنظيم السِّياسيّ: [في السياسة] مجموعة من النَّاس ذوي الاتِّجاه الواحد فيما يتعلَّق بالبرامج والمبادئ السياسيّة، ويرتبطون ببعضهم وفقًا لقواعد تنظيميّة مقبولة من جانبهم تُحدِّد علاقاتهم وأسلوبهم ووسائلهم في العمل والنشاط.
* التَّنظيم الحراريّ: [في الطبيعة والفيزياء] المحافظة على درجة حرارة الجسم الدَّاخليَّة بعيدًا عن درجة حرارة البيئة أو الجوّ.
* التَّنظيم الاجتماعيّ: [في علوم الاجتماع] منهج يعيّن العلاقات القائمة بين الأطراف التي تتألّف منها الجماعة.
مُنتظِم [مفرد]:
1 - اسم فاعل من انتظمَ/انتظمَ في.
2 - مُحكَم التّأليف والتنفيذ (دراسة منتظمة- حركة منتظمة: متتابعة في نَسَقٍ معيَّن- حياة منتظمة: متَّسقة متَّزنة) (*) غير منتظم: غير سويّ أو في حالة من الفوضى.
3 - [في الهندسة] شكل هندسيّ له جوانب متساوية وزوايا متساوية وتستعمل للشكل المضلّع.
مُنظَّم [مفرد]:
1 - اسم مفعول من نظَّمَ.
2 - منضبط (جيش/تلميذ منظَّم).
مُنظِّم [مفرد]:
1 - اسم فاعل من نظَّمَ.
2 - مُنسِّق، قائم بمسئوليّة أمرٍ ما مرتَّب (منظِّم احتفال/مباراة- منظِّمون دوليُّون).
* الجين المنظِّم: [في الأحياء] جين يوقف نشاط جين آخر في مشغل وراثيّ أو وحدة نشاط جيني تتألَّف من سلسلة من الموادّ الجينيّة التي تعمل بتوافق واتِّساق.
مُنظِّم [مفرد]: جمعه منظِّمون (للعاقل) ومنظِّمات (لغير العاقل):
1 - اسم فاعل من نظَّمَ.
2 - آداة للضبط والتحكُّم، آلة لتنظيم شيءٍ ما (منظِّم سرعة/غاز/حرارة/التَّيّار الكهربائيّ- منظِّمات إلكترونيَّة- منظِّم آلي).
منظَّمة [مفرد]: هيئة مؤلَّفة تختصُّ بأعمال معيَّنة تستعين على إنجازها بالمختصّين وتشتمل على مبادئ أساسيَّة يلتزم بها أعضاؤها (منظَّمة الشّباب/الصَّحَّة العالميّة- منظَّمات جماهيريَّة/غير حكوميّة/دَوليَّة).
* منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة: [في السياسة] الممثِّل الرسميّ للشعب الفلسطينيّ بقرار اتَّخذه الملوك والرؤساء العرب المجتمعون في الإسكندرية سنة 1964، وتضمّ هيئات عِدّة هي: المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ والهيئة التشريعيّة، اللجنة التَّنفيذيّة، جيش التَّحرير الفلسطينيّ.
* منظَّمة الأمم المتَّحدة: [في السياسة] منظمة دوليّة تتمتَّع بسلطات فعليّة تمكِّنها من اتِّخاذ القرارات والتَّدابير الكفيلة لتحقيق السَّلام والأمن العام.
* منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ: [في السياسة] منظّمة تسعى من خلال اجتماعاتها لتحقيق مزيد من الحوار والتَّنسيق بين البلدان الإسلاميّة.
* منظَّمات إرهابيَّة: [في السياسة] مصطلح صهيونيّ أُطلق في انتفاضة الأقصى على كلّ الفصائل الفلسطينيّة التي تشارك في أعمال وفعاليّات مقاومة الاحتلال.
* المنظَّمة الدَّوليَّة للتِّجارة/منظَّمة التِّجارة العالميَّة: [في الاقتصاد] المنظَّمة المُخوّلة لحلّ الخلافات التجِّاريّة النَّاشئة بين مختلف الدُّول الأعضاء.
* منظَّمات خدمة الأسرة: [في علوم الاجتماع] هيئات اجتماعيّة تقدِّم مجموعة من الخدمات الإنسانيّة المختلفة للأزواج وللأسرة ككلّ في كافّة المجالات.
منظوم [مفرد]:
1 - اسم مفعول من نظَمَ.
2 - شِعْر، كلامٌ موزونٌ مُقفًّى، خلاف المنثور (أجاد المنظومَ والمنثورَ- بيتٌ منظوم- لهذا الأديب من المنظوم أكثر ممّا له من المنثور).
منظومة [مفرد]:
1 - صيغة المؤنَّث لمفعول نظَمَ.
2 - قصيدة شعريَّة (مقطع شعريّ من منظومة وطنيَّة).
3 - شعْر تعليميّ (منظومة ابن مالك في النّحو).
4 - مجموعة أفكار ومبادئ مُرتبطة ومنظّمة (يحاول القادة العرب عمل منظومة شرق أوسطيّة للتَّكامل الاقتصاديّ).
نِظام [مفرد]: جمعه أنظمة (لغير المصدر) ونُظم (لغير المصدر):
1 - مصدر نظَمَ (*) على نظام واحد: على نهج واحد، عادة واحدة- نظام الأمر: قوامه وعماده.
2 - خيطٌ يُنْظم فيه اللؤلؤ وغيرُه.
3 - مجموعة عناصر مرتبطة وظيفيًّا.
4 - خضوع للقوانين وحفاظٌ عليها (حافظ على نظام الشركة- نظام التّقاعد/الأجور- أخلّ بالنّظام) (*) إذا ساد النِّظامُ ساد السَّلامُ [مثل] - النِّظام الاجتماعيّ: جملة القوانين والقواعد التي يخضع لها المجتمع- النِّظام العامّ: الأمن- النِّظام العشريّ: هو استعمال الأجزاء من عشرة- النِّظام المتريّ: هو مجموعة المقاييس التي أساسها المتر.
5 - مبادئ مرتبطة بطريقةٍ من الحكم أو الاقتصاد أو غيرها (نظام عسكريّ/جمهوريّ/اشتراكيّ).
6 - حكم اجتماعيّ مسيطر.
7 - طريقة (درسوا على نظام واحد).
* النِّظام الرَّأسماليّ: نظام اقتصاديّ يقوم على الملكيَّة الخاصَّة وإعادة استثمار الأرباح المكتسبة في السوق الحُرَّة.
* نظام التَّشغيل: [في الحاسبات والمعلومات] مجموعة البرامج التي تتحكّم بعمليَّات الحاسوب والمعدَّات المتِّصلة به حيث تسمح للمستخدمين وللبرامج التطبيقيّة باستخدامها بسهولة.
* نظام بيئيّ: [في الأحياء] جماعة من الكائنات الحيّة تعيش على نظام الاكتفاء الذاتيّ مع الوسط الذي تعيش فيه.
* نظام الحسبة: [في الفقه] النظام الماليّ الذي وضعه الخليفة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
* النَّظام الشَّمسيّ: [في الفلك] المجموعة الشمسيّة التي تدور حول الشّمس من كواكب وأقمار وكوَيْكبات ومُذَنَّبات وشُهُب ونيازك.
* النِّظام الصَّوتي الدَّوليّ: الأبجديَّة الصوتيَّة المُقترحة من قبل جمعيَّة الصَّوْتيَّات الدَّوليَّة لإعطاء كلّ من الأصوات الملفوظة رمزًا مميّزًا.
* النِّظام العالميّ: النظام المتكامل من الوحدات المستخدمة علميًّا القائم على النِّظام المتريّ بالإضافة إلى وحْدات الوقت والتَّيّار الكهربائيّ والحرارة وشدَّة الإضاءة (*) النِّظام العالميّ الجديد: الوضع الذي صار عليه العالم بعد تفكُّك الاتِّحاد السُّوفيتي وانهيار النِّظام الاشتراكيّ، وظهور نظام القطب الواحد.
* نظام الإقطاع: [في الاقتصاد] كلُّ نظام يمكِّن المالكَ من أن يتحكّم في الأرض ومن فيها من الناس.
* نظام مُغلَق: [في الكيمياء والصيدلة] نظام يُستخدم في سُفن الفضاء لتحويل ثاني أكسيد الكربون وغيره من مخلَّفات الجسم إلى أكسجين وغذاء، ويُطلق عليه أيضًا: إعادة الدَّورة.
نِظاميّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى نِظام: انضباطيّ (شخص نظاميّ).
2 - متكرِّر بانتظام.
* جيش نظاميّ: جيش تطوِّعه الدَّولة وتنظِّمه في نطاق القوى المسلَّحة المكلَّفة بالسَّهر على الأمن والسِّيادة والنِّظام (غير نظامي: لا ينتمي إلى قوّة عسكريّة منظمة).
* قانون نظاميّ: قانون مكتوب تضعه جمعيَّة تشريعيَّة مختصَّة.
نِظاميَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى نِظام: (أعمال نظاميّة).
2 - مصدر صناعيّ من نِظام: طريقة منظَّمة ومنهجيّة (حرص المدير على تشجيع نظاميَّة الأداء الإداريّ لدى العمَّال).
* اللاَّنِظاميَّة: حالة من الفوضى والاضطراب تعمُّ مكانًا ما (أعقبت فترةَ الحرب أيَّامٌ سادت خلالها اللانظاميّة).
نَظّام [مفرد]: صيغة مبالغة من نظَمَ: كثير النظم (هذا الشاعر نظّام ذو موهبة شعريّة متواضعة).
نَظْم [مفرد]:
1 - مصدر نظَمَ.
2 - كلام موزون، يقابله النثر.
3 - منظوم (نَظْمٌ من لؤلؤ).
4 - لفظ يطلق على بعض الكواكب المنتظمة ومنها الثُّريَّا.
* نَظْم القرآن: عبارته التي تشتمل عليها المصاحف صيغة ولغة.
* أصول النَّظم: [في العروض] القواعد التي يجب مراعاتها عند إنشاء الشِّعر من العروض وغيره.
نَظيم [مفرد]: جمعه نُظُم: صفة ثابتة للمفعول من نظَمَ: منظوم، متناسق الأجزاء (نظيم من اللؤلؤ).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
3-العربية المعاصرة (هذب)
هذَبَ يهذِب، هَذْبًا، فهو هاذب، والمفعول مَهْذوب.* هذَب الشَّيءَ: أصلحه، نقَّاه وأخلصه (هذَب النّخلةَ: نقَّى عنها اللِّيف أو قطعَه).
تهذَّبَ يتهذّب، تهذُّبًا، فهو مُتهذِّب.
* تهذَّب الشَّيءُ: صار مهذَّبًا؛ أي حسنًا نقيًّا (تهذَّب الشَّجرُ).
* تهذَّب الولدُ: صار مُهذَّبًا ذا تربية صالحة، حسُنت أخلاقُه.
هذَّبَ يهذِّب، تهذيبًا، فهو مُهذِّب، والمفعول مُهذَّب.
* هذَّب الشَّجَرَ: هذَبه، قطعه ونقّاه وأصلحه (هذَّب نخلة- تهذيب المعادِن).
* هذَّب هِنْدامَه: أصلحه، سوّاه.
* هذَّب الكلامَ: زيّنَهُ، أصلح عبارته وحسَّنها (هذَّب قصيدَته: نقّحها- شِعْرٌ مهذّب).
* هذَّب طفلَه: ربّاه تربية صالحة، طهّر أخلاقه ممّا يعيبها (شابٌّ مُهذَّب).
* هذَّب الكتابَ: لَخَّصه وحذف ما فيه من إضافات غير لازمة.
مُهَذَّب [مفرد]: مؤنثه: مهذَّبة:
1 - اسم مفعول من هذَّبَ.
2 - ذو أدب يحافظ على الأعراف الاجتماعيّة ويتّصف باللّباقة وحسن التّصرّف، مخلص مطهر الأخلاق ممّا يشين، أصيل، كريم الأصل (رجلٌ مُهذَّب- التّربية تنشئُ إنسانًا مُهذَّبًا).
* كلامٌ مُهذَّب: مُخلَّص مما يشينه في نظر الفصحاء.
* فرس مهذّب: سريعٌ.
مُهَذِّب [مفرد]:
1 - اسم فاعل من هذَّبَ.
2 - مَنْ يقوم بعمليَّات التقليم والتّهذيب للأشجار.
هُذاب [جمع]: [في الحيوان] جنس طير من فصيلة الهذابيّات وهي فصيلة طير وحيدة الجنس، من رتبة الدّجاجيَّات أنواعها قليلة العدد جميعها من طيور مدغشقر.
هَذْب [مفرد]: مصدر هذَبَ.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
4-العربية المعاصرة (وضح)
وضَحَ يَضِح، ضِحْ، وُضُوحًا، فهو واضِح.* وضَح الشَّيءُ أو الأمرُ: بانَ وظَهَر (وضَح الصُّبْحُ- وضَح الموقفُ: انكشف وصار مفهومًا).
* وضَح الوجهُ: حَسُن (أخذ الطِّفلُ يكبر ويَضِح وجهُه).
أوضحَ/أوضحَ عن يُوضح، إيضاحًا، فهو مُوضِح، والمفعول مُوضَح (للمتعدِّي).
* أوضح الأمرُ: وضَح؛ ظَهَرَ وبان.
* أوضح الأمرَ/أوضح عن الأمر: جعله واضحًا، أبانه وأظهره (أوضح وجهةَ نظره/نقطة معيَّنة- أوضح نصًّا مبهمًا: شرحه وفسَّره- من قبيل الإيضاح) (*) وسائل إيضاح: طُرق تعليمية مساعدة كاللوحات والمجسّمات وغيرها.
اتَّضحَ يتَّضح، اتِّضاحًا، فهو مُتَّضِح.
* اتَّضح الأمرُ: وضَح؛ بان وظَهَر، زال تعقيدُه أو غموضُه (اتَّضح الطَّريقُ- يتَّضح من كلامه أنَّه صادق- اتَّضحت له الحقيقةُ).
استوضحَ/استوضحَ عن يستوضح، استيضاحًا، فهو مُستوضِح، والمفعول مُستوضَح.
* استوضح فلانًا الكلامَ أو الأمرَ: سأله أن يوضِّحه له أي يبيّنه ويظهره (استوضح الطَّالبُ أستاذَه المسألةَ).
* استوضح فلانٌ الشَّيءَ/استوضح فلانٌ عن الشَّيء: وضع يَدَه على عينيه لينظر هل يراه، تأمَّله ببصره ليتعرَّف عليه.
* استوضح فلانٌ عن الأمر: بحث عنه واستفسر (استوضح العُمَّالُ عن سبب تشغيلهم ساعات إضافيَّة).
توضَّحَ يتوضَّح، توضُّحًا، فهو مُتوضِّح.
* توضَّح الأمرُ: وضَح؛ بان وظهر (توضَّح الحقُّ/الطريقُ- توضَّح القصدُ: انكشف وانجلى).
وضَّحَ يوضِّح، توضيحًا، فهو مُوضِّح، والمفعول مُوضَّح.
* وضَّح الأمرَ: أوضَحَه؛ أبانه وصيَّره واضحًا، ظاهرًا بيِّنًا (وضَّح المسألة: أزال التَّعقيد والغموضَ الذي كان فيها- وضَّح نصوصًا: شرحها وفسَّرها).
إيضاح [مفرد]: جمعه إيضاحات (لغير المصدر):
1 - مصدر أوضحَ/أوضحَ عن.
2 - [في الفلسفة والتصوُّف] ما مِن شأنه أن يُقْنِع برهانيًّا (دعَّم رأيَه بإيضاحات كافية).
استيضاح [مفرد]: جمعه استيضاحات (لغير المصدر):
1 - مصدر استوضحَ/استوضحَ عن.
2 - استفسار، طلب توضيح أمر (طلب حِزْب المعارضة استيضاحات من الحكومة- طلب القاضي استيضاح بعض جوانب القضيَّة).
تَوْضيح [مفرد]:
1 - مصدر وضَّحَ.
2 - تبرير، إيراد الأعذار، ذِكْر الأسباب الموجبة (طلب المدير من الموظَّف توضيح سبب غيابه).
3 - [في القانون] تفصيل ما ورَد مُجملًا في صَكٍّ (أو عريضة) سابق وإكماله (قام المحامي بتوضيح العَقْد).
توضيحيَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى تَوْضيح: (يفضِّل التَّربويُّون من المعلِّمين استخدام الوسائل التَّوضيحيَّة).
مُوضِّح [مفرد]: اسم فاعل من وضَّحَ.
* تَصْريح مُوضِّح: [في القانون] الذي يفصِّل ما قيل في صكّ (أو عريضة) سابق ويكمله، ويضيف إليه (مذكِّرة مُوضِّحة- عَقْد مُوضِّح).
واضِح [مفرد]: مؤنثه: واضحة، والجمع المؤنث واضحات وأواضحُ:
1 - اسم فاعل من وضَحَ.
2 - مشهور لوضوح حاله وظهور فضله، عكسه خامل (رجل واضح الذِّكْر).
3 - بيِّن؛ ظاهر جَليّ، لا يمكن إخفاؤه أو التَّستّر عليه (خطأ/ظلم واضح- من الواضح أن النَّصر قريب- الأمر واضح وُضوح الشَّمس في رابعة النهار) (*) واضح الحسب/واضح النَّسب: أي طاهره ونقيّه.
واضحة [مفرد]: جمعه واضحات وأواضحُ: مؤنَّث واضِح.
* الواضحة: الأسنان التي تبدو عند الضَّحِك.
وَضَح [مفرد]: جمعه أَوْضاح:
1 - ضوء، بياض مِن كلّ شيء (ارتكب جريمتَه في وَضَح النهار).
2 - بياضُ الصُّبح خاصّة (جاء في وَضَح الصُّبح) (*) وَضَح النَّهار: العَلَن.
3 - وَسَط الطَّريق (سلكوا وَضَح الطريق: محجَّته).
4 - شَيْب؛ بياض الشَّعر (غطَّى الوَضَحُ رأسَه).
5 - [في الطب] بَرَص؛ مَرَض جلديّ، عبارة عن فقدان جزئيّ أو كامل لصبغة الجلد، يتميَّز بظهور بُقَع بيض على البشرة، بَهَق.
وَضّاح [مفرد]:
1 - صيغة مبالغة من وضَحَ.
2 - أبيض اللَّون حَسَنُه.
3 - حَسَنُ الوَجْه (تمرُّ بكَ الأبطالُ كَلْمَى هزيمةً.. ووَجْهُك وضّاحٌ وثغْرُك باسمُ).
4 - بسَّام نقيّ (ثغر وضَّاح).
5 - لمَّاع برَّاق (سَيْف وضّاح) (*) له النَّسَب الوضّاح: أي الظَّاهر النَّقيّ المبيضّ.
6 - نهار (*) بكْرُ الوضَّاح: صلاة الغداة.
وُضوح [مفرد]:
1 - مصدر وضَحَ.
2 - صفة أو حالة ما هو واضح، ما هو مُعبَّر عنه من دون إبهام أو غموض (اشتهر طه حسين بوضوح عبارته- يظهر بوضوح) (*) وضوح صورة: ظهور الخطوط والملامح بدقَّة.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
5-المعجم الوسيط (النَّظْمُ)
[النَّظْمُ]: المنظوم.يقال: نَظْمٌ من لؤلؤ.
ويقال: أَتانا نَظْمٌ من جراد: صَفٌّ كثيرٌ منه.
و- الكلامُ الموزونُ المقفَّى، وهو خلاف النثر.
ويقال: نَظْمُ القرآن: عبارتُه التي تشتمل عليها المصاحفُ صِيغةً ولغةً.
و- يُطلَقُ على بعض الكواكب المنتظمة، ومنها الثُّرَيَّا.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
6-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (يشحر)
يشحروهو واد ليس بالواسع في جنوب المسيله إلى شرق، فيه عين ماء صغيرة.
كان السّيّد عقيل بن عبد الله بن يحيى اشتراه للأمير محسن بن عبد الله بن عليّ العولقيّ، السّابق ذكره في صداع، ثمّ وقفه بتوكيل منه على نفسه وأولاده، وعلى الواردين والصّادرين، والعلماء والمتعلّمين، والفقهاء والمتفقّهين، وفي صيغة الوقف مجال واسع للنّظر، لا سيّما وقد فهم بعض متأخّري العلماء من كلام ابن حجر موافقته للرّمليّ في اشتراط قبول الموقوف عليه المعيّن؛ لأنّه لا يتأتّى من السّيّد عقيل حينئذ الوقف على نفسه، ثمّ القبول، على ما بسطته في «الأصل» من وجه النّظر.
وكان السّيّد عقيل بن عبد الله شهما قويّ النّفس، حميّ الأنف، كما يعرف من قضيّة النّويدرة.
«فتى عنده حسن الثّواب وشرّه *** ومنه الإباء الملح والكرم العذب »
وكان رجل جدّ، وله غرائب؛ منها: أنّه حجّ، وانعقدت بينه وبين ـ المثري الشّهير صاحب الخيرات الكثيرة، والأربطة المعروفة بمكّة وجدّة ـ فرج يسر صداقة متينة، ولمّا عزم السّيّد عقيل على السّفر إلى جاوة بعد أداء النّسكين.. قال له: مثلك لا ينبغي أن يغيب عن حضرموت.
فقال له: لا يمكنني الرّجوع إليها إلّا ببسطة كفّ أستعين بها على حقوق الشّرف والمجد. قال له: كم تؤمّل من جاوة؟ قال: ما أنت وذاك؟
فألحّ عليه، فقال له: لا يمكنني الرّجوع إلى حضرموت إلّا بثمانين ألف ريال.
فأعطاه إيّاها مع ملء مركب شراعيّ من الأرزّ وما يناسبه من البضائع والحبوب، وبمجرّد ما وصل إلى حضرموت.. بنى سدّا للماء في مسيال عدم، كلّفه نحوا من خمسين ألفا من الرّيالات، فاجتاحه السّيل في ليلة واحدة!
وما زال السّيّد عقيل على كسب الجميل، وفعل الجليل، لا يقرّ على ضيم، ولا يلين لقائد، ولمّا لم يجد عند الكثيريّ للنّفع والصّنيع موضعا.. انبرى للمضرّة على حدّ قول عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ـ وكان كما في «طبقات النّحاة» من الفصحاء ـ [من الطّويل]:
«إذا أنت لم تنفع.. فضرّ فإنّما *** يرجّى الفتى كيما يضرّ وينفعا »
وقال الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 1 / 415 من مجزوء الرّجز]:
«من معشر لم يخلقوا *** إلّا لنفع وضرر»
وقال كعب الأشقريّ [من الطّويل]:
«رأيت يزيدا جامع الحزم والنّدى *** ولا خير فيمن لا يضرّ وينفع »
وقال حبيب [في «ديوانه» 1 / 400 من الطّويل]:
«ولم أر نفعا عند من ليس ضائرا *** ولم أر ضرّا عند من ليس ينفع »
وقال عديّ بن زيد [من الطّويل]:
«إذا أنت لم تنفع بودّك أهله *** ولم تنك بالبؤس عدوّك فابعد»
وعندئذ قام بفتنة النّويدرة السّابق ذكرها في المسيله.
ومن مكارم عقيل: أنّه وضع عند أبي بسيط أربعين ألف ريال عن مئة ألف ربيّة هولنديّة بمصرف ذلك العهد على سبيل القرض، فلمّا تأخّر شغل أبي بسيط.. كتب له النّاصحون ليتلافى ماله بالسّفر إلى سربايا من أرض جاوة، فلامهم وقال: إنّي أحرج الأوقات أضيّق على صديقي، لو كان مالي بأسره ينفّس عنه ما وقع فيه.. لأعطيته إيّاه.
ثمّ لم أدر ماذا صار، غير أنّ هذا من الشّهامة والوفاء بمكان.
«يا همّة نبلت عن أن يقال لها *** كأنّها وتعالت عن مدى الهمم »
وقد خلّف جملة من الأولاد، أكبرهم: العلّامة الجليل السّيّد محمّد بن عقيل، كانت له حافظة قويّة، واطّلاع تامّ، وإكباب على المطالعة، وكان بدء أمره على اعتدال في التّشيع حتّى لقد دخل العراق في سنة (1330 ه) ومعه السّيّد محمّد بن عليّ الحييد والسّيّد يوسف بن أحمد الزّواوي صاحب مسقط، فلم يرض الشّيعة ولا أهل السّنّة؛ لخروجه عن سمت الفريقين، ولكنّه غلا بالآخرة في تشيّعه حتّى اقترب من سادات الأمّة رضوان الله عليهم، وتأثّر بكلامه كثير ممّن يعزّ علينا انحرافهم، فلقد بعث لي بنسخة من قصيدة سيّرها للإمام الحالي، يقول منها في مدحه [من الكامل]:
«روح مقدّسة وقلب ضمّه *** في قالب التّصوير أحسن هيكل »
ويقول فيها عن أهل البيت:
«برآء من حسد المشوم وغلظة ال *** فظّ الغشوم ومن تقهقر نعثل »
وما أرى هذا التّعريض الفاحش عن عقد قلبيّ ونيّة قطعيّة، وعلّه كان عن ثورة نفسيّة ذهب به الكلام فيها إلى غير ما يريد، وما أصدق قول بديع الزّمان: الكلام مجون، والحديث شجون، واللّفظ قد يوحش وكلّه ود، والشّيء قد يكره وما من فعله بد، والعرب تقول: لا أبا لك في الأمر إذا همّ، وقاتله الله ولا يريدون به الذّمّ، وويل أمّه للمرء إذا أهمّ.
أمّا الإمام حفظه الله: فإنّه لا يعجبه مثل ذلك؛ لأنّه ليس من المتعصّبين، بل هو الّذي اجتثّ عروق التّعصّب من بين الزّيديّة والشّافعيّة حتّى عادوا إخوانا، وسلك فجّه وليّ عهده، وباب مدينة ملكه ومجده: ولده أحمد وولده زين الشّباب المأسوف عليه البدر محمّد.
وأمّا أنا: فقد اتّعظت بغلوّ العلّامة ابن عقيل اتّعاظا حسنا؛ إذ سلمت باستنكاره عن الوقوع في الحمى الّذي لا ينبغي أن يقرب، لا سيّما وحاميه سيّد ولد آدم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما للقاصرين أمثالنا والدّخول بين المهاجرين الأوّلين وتعريف طبقاتهم وترتيب درجاتهم؟ هيهات! لقد حنّ قدح ليس منها.
وكان العلّامة ابن عقيل قويّ الإرادة، حميّ الأنف، وجرى عليه امتحان بسنغافورة وجاوة.. فلم يزلّ نعله، ولا لان جانبه، وله رحلات ـ حتّى إلى القارّة الأوربيّة ـ بمعيّة أمير الإحسان السّيّد محمّد بن أحمد السّقّاف، وله اتّصال بكثير من أعيان مصر وغيرها. وله مؤلّفات كثيرة، أجمعها وأحبّها إليه الكتاب الموسوم ب «ثمرات المطالعة»، ومنها: «العتب الجميل على أهل الجرح والتّعديل».
غير أنّ الشّيخ الأديب أحمد الحضرانيّ أخبرني عن العبّاديّ الثّقة الّذي كان موظّفا بدار الضّرب في حيدرآباد الدّكن: أنّه ليس له، وإنّما كان من تأليف العلّامة السّيّد أبي بكر بن شهاب، فنزل عنه للعلّامة ابن عقيل، وأنّه كان شاهد ذلك النّزول.
وأنا في شكّ منه؛ أمّا أوّلا: فلأنّ عبارته وموضوعه أمسّ بعبارة ابن عقيل وجديلته، وأمّا ثانيا: فإنّه حصيل مطالعات كثيرة ومراجعات وفيرة لا يصبر عليها شيخنا العلّامة ابن شهاب، وإنّما كان له فهم وقّاد يتيسّر له عفوا معه المراد، والله أعلم.
توفّي السّيّد ابن عقيل بالحديدة سنة (1350 ه)، وقد رثيته بمرثيّة لزوميّة توجد بمكانها من «الدّيوان».
ورثاه جماعة من الأدباء؛ منهم العلّامة الأخ علويّ بن طاهر الحدّاد، والشّاعر المطبوع: أحمد بن عبد الله السّقّاف، والكاتب الشّهير السّيد محمّد بن هاشم بن طاهر، وغيرهم.
وترك أولادا؛ منهم ـ وهو أكبرهم ـ: عيسى، له نكات ونوادر، يسكن الآن بصنعاء. ومنهم: عليّ، شابّ فاضل، كريم الأخلاق، كان كاتم سرّ سيف الإسلام الحسين بن أمير المؤمنين، وكان بمعيّته في سفره إلى أوربّة ثمّ إلى الحجاز، توفّي بصنعاء في سنة (1363 ه).
ومن أولاد السيد عقيل: السّيّد عمر بن عقيل، كان فقيها حكيما، ذا رأي أصيل، وسعي جميل، وخلق حسن، توفّي بالمسيله بإثر حمّى خفيفة جدّا في محرّم سنة (1339 ه)، وشهد دفنه أخوه العلّامة محمّد؛ لأنّه وصل حضرموت في أواخر سنة (1338 ه)، ولم تطل إقامته بعد وفاة أخيه بل عاد إلى مقرّ تجارته.
ولا بأس إذ جرى ذكر الشّيخ فرج يسر من الإشارة إلى سبب ثروته وزوالها؛ لأنّ خبر ذلك طريف جدّا، فقد كان راكبا في أحد المراكب الشّراعيّة، وكان في خلقه حدّة وشراسة، وكان ربّان المركب يحبّ أن يغضبه ويتنادر عليه، فرسى بهم المركب في سيلان وله بها معارف، ومن عادتهم أن لا يقلعوا إلّا بعد شحن البضائع منها وهي تستغرق أيّاما، فكانوا يخرجون للنّزهة صباح كلّ يوم إلى مرسى كلمبو، وهناك يحضر الدّلّالون بالأشياء التّافهة لبيعها بالمزاد، فتواطأ الرّبان مع الحاضرين أن يوقعوا فرج يسر في الشّبكة، فكان المعروض في ذلك اليوم صندوقان خشبيّان أكل الدّهر عليهما وشرب، واعترقت الأرضة ظواهرهما حتّى لم يبق منهما إلّا الرّسوم، إلّا أنّهما لا يزالان مقفلين، فوقعا بتدبير الرّبان عند فرج، فأخذوا يغمزون ويلمزون إلى أن ضاق صدر فرج ـ وسرعان ما يضيق ـ فعاد إلى المركب حزينا، ولمّا كان وسط اللّيل.. عزم على رميهما في البحر، ثمّ ثاب إليه رشده وارتأى أن لا يرميهما حتّى يرى ما فيهما، فعاد بهما إلى مخدعه وفتحهما.. فإذا بهما مشحونان بالأوراق الماليّة من ذوات الألف ربيّة بما يقوّم بعشرات الملايين، فمن ذلك كانت ثروته الّتي لم يقف فيها عند غاية من فعل المكرمات، إلّا أنّ أمرها مخوف، ولا سيّما إن أمكن معرفة أرباب تلك الأموال، فعسى أن لا تمكن معرفتهم إذ ذاك ليكون لها وجه من الحلّ.
ولم يكتف بتلك المبالغ الضّخمة حتّى أخذ يوسّعها بالتّجارة، فاقتنى العدد الكثير من المراكب الشّراعيّة، يمخر بها عباب البحر الهادي والهنديّ والأحمر والأبيض وغيرها، حتّى لقد جهّز في بعض المواسم خمسا وعشرين سفينة هي وما فيها من البضائع.. من أمواله الخالصة. ولمّا جاء الإدبار.. وردته في يوم واحد خمس وعشرون برقيّة، كلّ واحدة بتلف سفينة وما فيها من البضائع، فلم ينكسف باله، ولم يتغيّر حاله. على رواية هذا اتّفق جماعة من معمّري الحديدة في سنة (1340 ه) عن خبرة بحقيقة الأمر؛ إذ كان رباؤه هو بالحديدة، إلّا أنّ في النّفس شيئا من البرقيّات؛ لأنّي لا أدري أكانت متّصلة لذلك العهد أم لا؟
وكان عبدا حبشيّا أعتقه بعض أهل الحديدة، وكانت أمّ السّيّد الجليل عقيل حبشيّة أيضا، فهذا مع عشق المكارم وتحمّل المغارم.. هو الجامع بين الرّجلين.
ومن وراء يشحر إلى جهة الجنوب الغربيّ مكان يقال له:
الصّاري، وهو قرية صغيرة لآل مقيدح الجابريّين، لا يزيد سكّانها الأكرة عن سبعين شخصا.
ثمّ: شريوف، وهو واد أكثر أمواله للسّادة آل عبد الله بن حسين العيدروس والمشايخ الزّبيديّين.
ثمّ: رضيح، وهو واد مبارك، كان للحبيب علويّ بن أحمد العيدروس، ثمّ انقسم بين ورثته، ثمّ استخلص أكثره المنصب السّيّد محمّد بن حسين السّابق ذكره في
تاربه، وكان تحمّل ديونا في الحرب الّتي جرت بسبب مسجد آل بو فطيم، أثقلت كاهله، ولكنّه قضاها من موسم واحد فيه صادف غلاء وسلامة من الجراد الّذي اجتاح أكثر زرع حضرموت في ذلك العام.
وبإثر وفاته استولى إمارة رضيخ ولده المنصب محمّد بن محمّد، وفي أيّامه دخل آل عمّه عبد الله بن حسين بالشّراء من إخوانه إلى ما لأبيهم من ميراث أبيه فيه، فأقلقوا راحته، وجرت بينهم منازعات لا تزال آثارها في نفوس الطّرفين إلى اليوم. وقد قال حبيب [في «ديوانه» (2 / 102) من الكامل]:
«حسد القرابة للقرابة قرحة *** تدمي عواندها وجرح أقدم »
وقد مرّ في الحسيّسة أنّ آل العيدروس ألّفوا جمعيّة أهمّ أغراضها: إصلاح ذات بينهم، ولكنّها لم تفعل شيئا إزاء هذا؛ لأنّ تلك الجمعيّة معقودة بما يهواه السّيّد عبد الله بن حسين العيدروس؛ إذ هو القائم بأكثر كلفتها، وكان متعصّبا على ابن أخيه.. فلم تتداخل جمعيّتهم في ذلك؛ مراعاة لخاطره.
ثمّ حصن ابن ضوبان، لآل جابر، ومنه تنشعب الطّرق، فتذهب طريق إلى النّعر؛ وهو مسيل بين جبلين، تنصبّ فيه المياه من عدّة جبال واسعة.
ومتى ارتفعت عن ذلك المسيل وتسنّمت الجبل.. فأوّل ما تمرّ به.. حرو، وفيه حوض يحفظ الماء مدّة ليست بالطّويلة؛ لأنّه غير مجصّص. ثمّ ريدة الجوهيّين. ثمّ بضي.
وتذهب الأخرى في ذلك الفضاء الواسع توّا. وأوّل ما يمرّ الذّاهب فيها بالرّدود، قرية لا بأس بها للمشايخ الزّبيديّين وآل جابر. ومن الزّبدة بها الآن الشّيخ يسلم بن سعيد.
ثمّ سونه، وهو واد صغير للزّبدة. ثم حكمه، وهو واد آخر أوسع وأكثر عمارة من سونه، لآل جابر وللزّبدة.
وتصعد من وادي حكمه في عقبتها طريق إلى رسب، ومنها إلى عثه عقبة كأداء ينزل منها إلى الأرض المتّصلة بالسّاحل على مسافة يوم للرّاكب المجدّ.
وفي أثناء عقبة حكمه عين صغيرة عذبة باردة.
وفي قطع معيّنة من شراج حكمه تداع بين الزّبدة وابن متيهم، وحاصله: أنّ ابن متيهم باسط ذراعيه على تلك القطع منذ نحو مئة سنة، ومعه خطّ بالقسمة بين الزبدة وبين أبيه، فادّعى الزّبيديّون أنّ يده غاصبة بطريق الشّراحة الظّالمة، وشهد لهم شهود منهم، وصدر لهم حكمان ضدّ ابن متيهم من قاضي تريم لما قبل اليوم بأكثر من عشر سنين، فسئلت عن الحكمين.. فأفتيت ببطلانهما؛ لأنّ الشّهود شهدوا بأنّ فلانا غصب هذه القطع، والحال أنّهم لم يشهدوا زمن الغصب، ومن شرط الشّهادة بالتّسامع في الغصب أن يقول الشّاهد: (أشهد أنّه مغصوب) لا (أنه غصب) ـ بصيغة الفعل الماضي ـ لأنّ هذه صورة كذب؛ لاقتضائه أنّه رأى ذلك وشاهده.
هذا ما قرّره الفقهاء بالاتّفاق، وانضمّ إلى ذلك ما قرّروه في الأيمان أنّ استدامة الغصب ليست بغصب، فالشّهادة باطلة.
ويزيد الحكم الثّاني بأنّ أحد شهوده كان من المدّعين في الأوّل.
ثمّ تكرّرت الأحكام، وخبط القضاة والمستأنفون، واختلفوا.
ومن المدهش: أنّهم لم ينفصلوا عن الاعتراضين اللّذين ذكرتهما بحال، وكأنّهم لا يلجؤون إلى الكرّاس، وإنّما يأخذون ممّا في الرّاس.
وأحيلت القضيّة في الأخير إلى استئناف جديد لا ندري ماذا يفعل. والمسألة مشكلة لا من حيث النّصوص العلميّة، ولكن لاختلاف مشارب أهل النّفوذ؛ فأحدهم يؤيّد الزّبدة، والأخر يؤيّد ابن متيهم والحقّ في ظاهر الأوضاع الشّرعيّة إلى جانب ابن متيهم، وأمّا في باطن الأمر.. فالشّبهة قائمة، والله أعلم.
وفي غربيّ حكمه: واد واسع يقال له: بايوت، يسكنه كثير من آل نهيم الوزيريّين، وغيرهم. ورسب، وهو لآل جابر، ومنذ اثنتي عشرة سنة تعرّضوا
لسيّارة فيها أحد رجال الحكومة الإنكليزيّة فأصابوها بخلل قليل، فحكم عليهم سلطان سيئون غيابيّا بغرامة كثير من البنادق والإبل، فلم يمتثلوا، فأمطرتهم الطّائرات نيرانا أضرّت بحصونهم وعلوبهم، فبخعوا بها وسلّموها صاغرين مظلومين.
ومن وراء حكمه إلى الجنوب: سكدان، يسكنه: آل جابر، وحرّاثون، وسادة من بيت حموده، وناس من آل قعفان، وناس من آل بلحاج، وناس من آل ابن قماش.
ثمّ راوك، للمشايخ آل باوزير. ثمّ غيل عمر، وقد سبق في غيل باوزير أنّ غيل عمر هذا هو أقدم منه، وأوّل من بنى به بيتا الشّيخ عمر بن محمّد بن سالم باوزير، سنة (706 ه)، ثمّ بنى النّاس بعده، ذكره ابن حسّان في «تاريخه».
والشّيخ عمر هذا أحد تلاميذ الشّيخ عبد الله باعلويّ، كما في (ص 186 ج 2) من «المشرع».
والمنازل الّتي يشملها اسم غيل عمر منقسمة بالمسيال:
فالّذي في الشّاطىء الغربيّ منه: الضّبيعة، وفي جنوبها مسجد الشّيخ عمر. والّذي في الشّاطىء الشّرقيّ: الدّلفة. ثمّ الحزم. ثمّ سكدان. ثمّ كوت سرور. ثمّ العرض. ثمّ النّويدرة.
وقد استوخمه كثير من السّكّان فانتقلوا عنه إلى سكدان. وكان فيه أجداد المشايخ آل باسودان، حتّى إنّ بعضهم ينسبه إليهم، فيقول: غيل باسودان.
وربّما يكون المنسوب إلى باسودان ناحية غير النّاحية المنسوبة إلى الشّيخ عمر؛ فالغيل طويل، منبع مياهه من جنوب ساه، ولا ينتهي إلّا بعد مجاوزة سنا، إلّا أنّها تتقطّع؛ ففي أكثر النّقاط تظهر، وفي الكثير تغور.
ثمّ إنّ آل باسودان خرجوا عن العامّيّة وتفقّروا، وأخذوا في طلب العلم حسبما سبق في الخريبة من بلاد دوعن.
ثمّ عرفت أنّهم كانوا حلولا في سكدان، وبذلك ينطق شعر السّيّد عليّ بن حسن العطّاس، ولهم اتّصال بدوعن في أيّام الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ، ثمّ تزوّج فيهم الشّيخ محمّد بن سالم باوزير، فكانوا أخوال ولده عمر المذكور، ولمّا ظهر.. بنى بالغيل وطرد عنه أخواله، فذهبوا إلى دوعن.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
7-التوقيف على مهمات التعاريف (الاستحسان)
الاستحسان: لغة، عد الشيء واعتقاده حسنا، واصطلاحا، دليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عنه عبارته، وقيل عدول عن قياس إلى أقوى منه، وقيل اسم لدليل من الأدلة الأربعة يعارض القياس الجلي.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
8-المعجم الاشتقاقي المؤصل (جلب)
(جلب): {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]."الجَلْب: سَوْق الشيء من موضع إلى آخر/ يَجْلِبون الإبل والغنم للبيع. والجَلَب - بالتحريك: ما جُلب من خَيل وإِبِلٍ ومتاع/ من غَنَمٍ أو سَبْى.
والجليب: الذي يُجْلَب من بلد إلى غيره. الجُلْبة - بالضم: الجِلدة التي توضع على القَتَب. وجُلُبَّانُ السلاح: شبه الجراب من الأَدَم يوضع فيه السيف مُغْمَدًا في جرابه، ويَطْرح فيه الراكب سَوطه وأداته ويعلقه من آخرة الكَوْر أو في واسطته."
° المعنى المحوري
إلحاق الشيء بمكان أو مقر غريب عنه يلزمه مع اتساع في ذلك أو كثاقة ما. كجَلْب الإبل والغنم من مقرها عند أصحابها إلى حيث تباع في سوق أو نحوه (ومن الشواهد على أن الأصل كان أن يقع ذلك الجلب بالجملة (أي بكثرة لا فرادى وهذا اتساع) قولهم في المثل "النفاض (كسحاب وغراب) يُقَطِّر الجَلَب "أي أنه إذا أنفضَ القومُ أي نفِدَت أزوادهم قَطّروا إبلهم (أي ربطوا بعضها في إثر بَعض قُطُرًا لكثرتها ثم ساقوها لتباع)، وكالجُلْبة المذكورة تُقْطَع من إهاب، ثم تُلْصَق على القَتَب فتغشاه وتمسكه (وكذلك جُلْبة السكين التي تَضُمُّ النِصَاب على الحديدة, وجُلْبَة القَدَح: حديدة صغيرة يُرْقَع بها (بدل الجلدة)، والجُلْبة العُوذة التي تُخْرَز عليها جلدة. وكذلك "تجليب الضرع "هو تغطيته بطبقة كثيفة من طين أو عجين تشمل جميع أَطْبائه لمنع الإرضاع، وجُلُبّان السلاح: جراب واسع لحفظه عند السفر يه وهو يغطيه تغطية كاملة، وكل ذلك غريب عن مقره الأصلي.
ومن ذلك الجِلْبابُ وجمعه جلابيب، وهو ثوب يلزم ما يغطَّى به كأنه لاصق. لكن هناك اختلافًا في صورته التي سماها العرب جلبابا: أهو "الثوب الذي تغطى به ما عليك من الثياب نحو المِلْحَفَة "أي "المُلاءة التي تشتمل بها المرأة "أي فوق ثيابها. فهذا بيان للجلباب يمكن أن نضم معه تفسير الجلباب بالقميص، لأن القميص عند العرب قريب مما نسميه الآن جلابية إلا أن طوق القميص عند العرب لم يكن له شق رأسي أي فتحة أمامية طويلة كالتي توجد في
ما يسمى الآن جلابية أفرنجي. والذي له فتحة طويلة هكذا كان يسمى الدِرع وهو من ملابس النساء. المهم أن القميص قريب من معنى الجلباب من حيث الشمول، فهذا هو التفسير الأول للجلباب. والتفسير الآخر هو أن الجلباب "خمار واسع تغطي به المرأة رأسها وصدرها [وفي ل إضافة]: وظهرها).
والذي يؤدي إليه التحرير أن الجلباب هو الملحفة أي الملاءة التي تغطي تغطية خارجية شاملة. وليس هو الخمار بأي حال. ووصف الجلباب بأنه كالملحفة هو الذي قال به الأخفش الأوسط (226 هـ) والجوهري، وهو قول الأزهري حيث فسّر قول ابن الأعرابي إن الجلباب: الإزار بأن قال إن ابن الأعرابي لم يُردْ به إزار الحَقْو (أي الذي يشد في الخَصْر ويغطَّى به نصفُ البدن الأسفل) ولكنه أراد به "الإزار الذي يُشْتَمَلُ به فيجَلِّلُ جميع الجسد، وكذلك إزارُ الليل هو الثوب السابغ الذي يشتمل به النائم فيغطي جَسَده كله "اهـ وفي نظام الغريب للربعي ص 110 "التلفّع: التغطِّى بالثوب، ومثله التجلبُب والتزمُّل والتدثّر "اهـ وفي المخصص 4/ 77 "الجلباب: الملاءة, وفي 84 منه "الجلباب: القميص، وقد تقدم أنه الملاءة "اهـ. فهذه أقوال الأئمة. والقول بأن الجلباب هو الخمار منسوب لأعرابية تسمى العامرية. وهذه الأعرابية ليس لها في معجم لسان العرب إلا ثمانية نقول - أي أنها ليست ذات إسهام يعتدّ به في المعرفة باللغة. وليس معها في قولها إلا قول الليث "الجلباب ثوب أوسع من الخمار - دون الرداء تغطي به المرأة رأسها وصدرها "والخلاصة إلى هنا أن الجلباب ثوب يغطَّى به البدن كله فوق الثياب، ثم هناك من قال إن التغطية به تشمل الرأس. والخطب هنا سهل. وتحريرنا لغوي مبني على أن صدر التركيب (جل) أي الفصل المعجمي يعبر عن الاتساع العظيم كما مر، (والباء للإلصاق)
وهذا يناسب أقوال الأئمة الذين ذكرناهم [ينظر الألفاظ لابن السكيت تح قباوة 493، والمقاييس 1/ 470 وتهذيب اللغة واللسان وتاج جلب، وقر 14/ 243]. ولم نأخذ بتأويلهم للشاهد في تشبيه مشي النسور إلى القتيل بـ (مَشى العذارى عليهن الجلابيب) فإن القائلة تشبه النسور في مشيتها إليه من حيث إرخاء أجنحتها على جوانبها بالعذارى اللاتي يجررن جلابيبهن السابغة على أرجلهن وخلفهن. لا من حيث "إنها آمنة لا تعجل "كما قالوا.
هذا وفي قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] يمكن أن يفسر إدناء الجلابيب على أنه كناية عن لزومها لا استبعادها الذي يؤدي إلى التكشف وإلى أن يُوصَفَ بدنُها، ويمكن أن يقصد بها سبوغ الجلابيب على السوق. لكن في [طب التركي 19/ 181] ما خلاصته أن المقصود تغطية ما عدا عينا واحدة. وفي [بحر 7/ 240] عدة أقوال لابن عباس وبعض التابعين تؤيد ما في الطبري. وبعضها يتسق مع معنى الجلباب الذي حررناه، أقْرَبُها ما يؤخذ من قول الكسائي "يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن " (أراد بالانضمام معنى الإدناء) اهـ. والقناع كالخمار فمعنى عبارته أن الجلباب يشمل الرأس مع البدن، وهذا ما يتأتى بالملاءة. لكن ليس في عبارة الكسائي، ولا في ما أسلفنا عن اللغويين من معنى الجلباب ما يصرح أو يقضي بتغطية الوجه عدا عين أو عينين. وهنا ترجع المسألة إلى علم الفقه، وتقوّم الأدلة، ويُتبع ما يقضي به الشرع.
وقوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] فسر بـ "اجْمَع عليهم وتوعدهم بالشر "وفي [الغريبين 1/ 373] "اجْمع عليهم ما قَدَرْت من جندك ومكائدك "والجمع هنا حشر (نقل طبقة كثيفة) من مواطن وجهات.
وقالوا أيضًا: "أَجْلَبَ عليه: إذا صاح به واستحثه في الرِهان: يأتى المراهن بفرس آخر ويُركِبُه رجلًا فإذا قَرُبَ من الغاية تبع ذلك الآخر فرسَ الرِهان المقصود فجَلّب عليه وصاح به (حثًّا) ليكون هو السابق "، ولعل استعمال الجَلَبة في اختلاط الأصوات والصياح مأخوذ من جَلْب ذلك الفرس الآخر ثم الصياح خلف فرس الرهان لأن الصياح هو المقصود هنا.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
9-المعجم الاشتقاقي المؤصل (غفر)
(غفر): {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]الغفارة - كرسالة: خرقة تكون دون المِقْنعة توقّى بها المرأة الخمار من الدُهن/ تغطي رأسها ما قبل منه وما دَبَر غيرَ وسط رأسها، وجلدة تكون على حَزّ القوس الذي يجرئ عليه الوتر. والمِغفَر حِلَقٌ يجعلها الرجل أسفل البيضة تسبُغ على العنق فتقيه. والغفر -بالفتح: زئبر الثوب وما شاكله.
° المعنى المحوري
تغطية أو سَتْر يقصد به الحماية وما إليها: كالغِفارة التي تقي الخمار من الدهن، والجلدة التي تحمي القوس والوتر، والمِغفر الذي يحمي العنق. وزئبر الثوب علامة جدّته. ومن المادي أيضًا: "الغفر -محركة: هُدْب الثوب (جمال له)، وصغار الكلأ (زينة للأرض). وغَفَر الشيبَ بالخضاب وأغفره (تجمّل)، ويقال: "اصبغ ثوبك بالسواد فإنه أغفر لوَسَخه أي أَحْمَلُ له وأَغْطَى له "كل ذلك ستر لطيف. ويقال أيضًا: "غَفَر المتاع في الوعاء (ضرب) وأغفره: أدخله وستره وأوعاه. وكل شيء سترته فقد غفرته. وكل ثوب غُطِّى به شيء فهو غِفارة. والغُفْرة -بالضم: ما يُغَطَّى به " (حماية). وأما "الغُفر -بالضم: وَلَد الأُرْويّة، وبالكسر: ولد البقرة "فالصغار تابعة لأمهاتها كالطبقة
وراءها. وكذا "المغافر والمغافير: صمغ شبيه بالناطف ينضحه العُرْفط "رائحته تشبه طبقة تغطى.
ومن معنوي ذلك "غفران اللَّه الذنوب: تغطيتها وسترها: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ}. وقد ذكرتُ أن السَتْر هنا للحماية. وقد سبق بذلك الراغب فقال إن "الغَفْر: إلباس الشيء ما يصونه عن الدنَس "وأختلف معه في أن المطلوب في {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] هو التجافي عن (الذنب) في الظاهر وإن لم يتجاف عنه في الباطن "وإنما أدب الإسلام هنا هو أن نغفر لهم طاعة للَّه تعالى، دون أن نلقي إليهم بالمودة. وأما قول أبي هلال إن المغفرة تستوجب الثواب [العلمية 264 - 265] فلا حجة له إلا أن المغفرة تُسقِط ما يحول دون الثواب. فتكون عبارته غير محررة.
وكل ما جاء في القرآن من التركيب هو من مغفرة الذنوب هذه {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [يوسف: 97] (أي سل اللَّه أن يغفر لنا ذنوبنا)، فبقي المفعول الثاني وحده.
أما قولهم: "غفر الجرح (كجلس وتعب): نُكِس، فإني أرجح أن المقصود أنه عاد يندى ويرشح منه الصديد سواء جف فوقه مكونًا طبقة أو لم يجف. لكنه إذا جف وكون طبقة يمكن أن يعد ذلك بُرْءًا. ومن هنا يستعمل غفر بمعنى برئ [تاج] ومن نُكْس الجُرْح عُمِّمَ في نُكْس المرض.
وقولهم: "غَفَر الجَلَبُ السوقَ: رَخّصها "فهو عندي من الاستعمال في لازم المعنى فإن الجَلَب -بالتحريك: ما يُجْلَب للبيع، فإذا كثُر الجَلَب غَطَّى السوقَ أي عَمّها، ورَخُص السعر.
وأخيرًا فإن قولهم: "جاءوا الجماءَ الغفيرَ أي بجماعتهم الشريف والوضيع ولم يتخلف أحد وكانت فيهم كثرة "فهو من التغطية؛ لأن الكثيرين يغطون وجه الأرض. كما تعبر العامة عن هذا بأنهم "يسدون عين الشمس ". ولا يخفى أن الاستعمالات الأخيرة توسيع بترك قيد الحماية.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
10-المعجم الاشتقاقي المؤصل (هيم)
(هيم): {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55]الهَيَامُ - كسحاب: الترابُ أو الرملُ الذي لا يتمالكُ أن يَسيل من اليد رَمْل دُقاق يابس. مَفازة هَيماء: لا ماءَ بها، ورجل مَهْيوم وأَهْيم: شديد العطش. والهُيام - كغراب: شدة العطش، وداء يصيب الإبل (بنحو الجنون). فتهيم في الأرض لا ترعى.
° المعنى المحوري
جفاف أثناء الشيء وخلوها التامّ من البلل ومادة التماسك. كجفاف أثناء الرمل الموصوف، والمفازة، وجوف المهيوم.
ومن فقد مادة التماسك "ليل أهيم: لا نجوم فيه "فالنجوم معالم تهدي إلى الاتجاه وهذا حفظ (= إمساك) من الضياع والضلال والحيرة.
ومن هذا أيضًا "الهائم: المتحير "لأنه ضال ضائع غير ممتسَك إلى سبيل {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] فسّرت بأودية الكلام. وقال بعضهم هو وادي الصحراء يخلو فيه العاشق والشاعر (فعلى الأول هَيَمانهم شطحهم ومبالغاتهم الفِجّة وادعاءاتهم للناس وعليهم مدحًا وقدحًا بما لا واقع له. وقول بعضهم هو وادي الصحراء الخ مردود. فالاختلاء بالنفس في الوادي ليس قصرًا على الشعراء كما في عبارته، وليس إثمًا. والهيم في آية التركيب هي "الإبل العطشى التي بها داء الهُيام لا تَرْوَى، أو الرمل الذي لا يروى "والقول الأخير ضحل جدًّا، لأن الرمل لا يشعر بالعطش والشعور هنا مقصود.
ومنه "الهامة: ما بين حرفي الرأس (جمجمة صلبة مع عدم صلابة جوفها فكأنها خالية). ومن هامة الرأس قيل "هامة القوم سيدهم) على التشبيه.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
11-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (ائتلاف اللفظ مع المعنى)
ائتلاف اللّفظ مع المعنى:أشار بشر بن المعتمر في صحيفته الى هذا الفن، وقال: «ومن أراغ معنى شريفا فليلتمس له لفظا كريما، فانّ حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف». وقال الجاحظ: «إلا اني أزعم ان سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني»، وقال: «ومتى شاكل ـ أبقاك الله ـ ذلك اللفظ معناه وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقا ولذلك القدر لفقا، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف، كان قمينا بحسن الموقع وبانتفاع المستمع، وأجدر بأن يمنع جانبه من تناول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، وألّا تزال القلوب به معمورة والصدور مأهولة». وقال: «ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الاسماء، فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل». وهذا هو التناسب بين اللفظ والمعنى، وقد سماه قدامة «ائتلاف اللفظ مع المعنى» وتحدث فيه عن المساواة والاشارة والإرداف والتمثيل. ولم يبين معناه غير أنّ الآمدي شرحه ولم «توف عبارته بايضاحه»، وتحدث عنه القاضي الجرجاني فقال: «لا آمرك باجراء أنواع الشعر كله مجرى واحدا، ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه، بل أرى لك أن تقسّم الألفاظ على رتب المعاني فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمنزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك، بل ترتب كلّا مرتبته وتوفّيه حقه، فتلطّف إذا تغزلت، وتفخّم اذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرّف مواقعه، فانّ المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه».
وعدّ المرزوقي «مشاكلة اللفظ للمعنى» أحد أبواب عمود الشعر وقال:
«وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية طول الدربة ودوام المدارسة فاذا حكما بحسن التباس بعضها ببعض لا جفاء في خلالها ولا نبوّ ولا زيادة فيها ولا قصور، وكان اللفظ مقسوما على رتب المعاني قد جعل الأخصّ للأخص، والأخسّ للأخس فهو البريء من العيب».
وقال المصري في تعريفه: «وتلخيص معنى هذه التسمية أن تكون ألفاظ المعنى المطلوب ليس فيها لفظة غير لائقة بذلك المعنى».
وقال العلوي: «هو أن تكون الألفاظ لائقة بالمعنى المقصود ومناسبة له، فاذا كان المعنى فخما كان اللفظ الموضوع له جزلا، واذا كان المعنى رقيقا كان اللفظ رقيقا فيطابقه في كل أحواله، وهما اذا خرجا على هذا المخرج وتلاءما هذه الملاءمة وقعا من البلاغة أحسن موقع، وتألفا على أحسن شكل، وانتظما في أوفق نظام. وهذا باب عظيم في علم البديع وجاء القرآن الكريم على هذا الاسلوب».
وقد أجمع البلاغيون الآخرون على هذا المعنى، وعلى أن تكون الألفاظ لائقة بالمعنى المقصود ومناسبة له. فاذا كان المعنى فخما كان اللفظ الموضوع له جزلا، واذا كان المعنى رشيقا كان اللفظ رقيقا، واذا كان غريبا كان اللفظ غريبا، واذا كان متداولا كان اللفظ مألوفا.
ومثاله قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ} فعدل سبحانه عن الطين الذي أخبر في كثير من مواضع الكتاب العزيز أنه خلق آدم منه، منها قوله: {إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} وقوله حكاية عن ابليس: {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} فعدل ـ عزوجل ـ عن ذكر الطين الذي هو مجموع التراب والماء الى ذكر مجرد التراب؛ لأنّه أدنى العنصرين وأكثفهما لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الالهية بما يصغر أمر خلقه عند من ادّعى ذلك، فلهذا كان الاتيان بلفظة التراب أمتن بالمعنى من غيرها من العناصر، ولو كان موضعه غيره لكان اللفظ غير مؤتلف بالمعنى المقصود. ولما أراد ـ سبحانه ـ الامتنان على بني اسرائيل بعيسى ـ عليهالسلام ـ أخبرهم عنه أنه يخلق لهم من الطين كهيئة الطير تعظيما لأمر ما يخلقه باذنه، إذ كان المعنى المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به. ومن طريف ما يتصل بهذا الفن ما جاء عن بشار فقد قيل له: إنّك لتجيء بالشيء المتفاوت، قال: وما ذاك؟ قيل: بينما تقول شعرا تثير به النقع وتخلع به القلوب مثل قولك:
«إذا ما غضبنا غضبة مضريّة***هتكنا حجاب الشّمس أو قطرت دما»
«إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة***ذرى منبر صلّى علينا وسلّما»
تقول:
«ربابة ربّة البيت ***تصبّ الخلّ في الزيت »
«لها عشر دجاجات ***وديك حسن الصّوت »
فقال: لكل شيء وجه وموضع، فالقول الأول جد، وهذا قلته في جاريتي ربابة. ومن ذلك قول زهير:
«أثافيّ سفعا في معرّس مرجل ***ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلّم »
«فلما عرفت الدار قلت لربعها***ألا انعم صباحا أيّها الرّبع واسلم »
فانه لما قصد إلى تركيب البيت الأول من ألفاظ تدل على معنى عربي لكن المعنى غريب، ركبّه من ألفاظ متوسطة بين الغرابة والاستعمال، ولما قصد في البيت الثاني الى معنى أبين من الأول وأعرف وإن كان غريبا ركّبه من ألفاظ مستعملة معروفة.
ومن هذا الباب ملاءمة الألفاظ في نظم الكلام على مقتضى المعنى لا من مجرد جملة اللفظ، فان الائتلاف من جهة ما تقدم من ملاءمة الغريب للغريب والمستعمل للمستعمل لا من جهة المعنى، بل ذلك من جهة اللفظ. وأما الذي من جهة المعنى فقوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، فانه ـ سبحانه ـ لما نهى عن الركون للظالمين، وهو الميل اليهم والاعتماد عليهم كان ذلك دون مشاركتهم في الظلم، أخبر أنّ العقاب على ذلك دون العقاب على الظلم وهو مسّ النار دون الاحراق والاصطلاء، وإن كان المسّ قد يطلق ويراد به الاستئصال بالعذاب وشمول الثواب أكبر مجازا، ولما كان المسّ أول ألم أو لذة يباشرها الممسوس جاز أن يطلق على ما يدلّ عليه استصحاب تلك الحال مجازا، والحقيقة ما ذكر، وهو في هذه الآية الكريمة على حقيقته.
فائتلاف اللفظ مع المعنى أساس الكلام البليغ، ويتضح ذلك في شعر الفحول من شعراء العرب، أما صغارهم فانهم يقعون بعيدا عن هذا الفن البديع.
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
12-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الاستحقاق)
الاستحقاق:الاستحقاق: الاستيجاب، يقال: استحق الشيء أي استوجبه.
والاستحقاق من أنواع أخذ المعنى عند القرطاجني، ويفهم من كلامه أنّ الشاعر يستحق المعنى اذا فضلت عبارته عن عبارة المتقدم، وهذا حسن جيد في باب الأخذ الذي تحدث عنه البلاغيون على مختلف العهود. قال القرطاجني وهو يتحدث عن المعاني: «فمراتب الشعراء فيما يلمون به من المعاني إذن أربع: اختراع واستحقاق وشركة وسرقة. فالاختراع هو الغاية في الاستحسان، والاستحقاق تال له، والشركة منها ما يساوي الآخر فيه الأولى فهذا لا عيب فيه، ومنها ما ينحط فيه الآخر عن الأول فهذا معيب، والسرقة كلها معيبة وان كان بعضها أشد قبحا من بعض». وفي هذا النص يتضح أنّ الاستحقاق ليس مما يعاب بل إنّه بعد الاختراع في المنزلة. وقد أوضح القرطاجني هذه المسألة بقوله: «فاذا تساوى تأليفا الشاعرين في ذلك فانه يسمى الاشتراك، وإن فضلت فيه عبارة المتقدم فذلك الاستحقاق لأنّه استحقّ نسبة المعنى اليه باجادته نظم العبارة عنه».
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
13-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الخيف)
الخيف:خيف البعير والإنسان والفرس وغيره خيفا وهو أخيف بيّن الخيف والأنثى خيفاء إذا كانت إحدى عينه سوداء كحلاء والأخرى زرقاء.
قال العلوي: «هو فن من فنون البلاغة حسن التأليف والانتظام مشتمل على ما يجوز فيه الكلم الإهمال والإعجام. وهو أن يكون الكلام من المنشور والمنظوم معقودا من جزءين إحدى كلمتي العقد منقوطة كلها والأخرى مهملة كلها. واستعارة هذا اللقب من قولهم: «فرس أخيف» إذا كان إحدى عينيه سوداء والأخرى زرقاء».
ومثاله قول الحريري:
«اسمح فبثّ السماح زين ***ولا تخب آملا تضيّف “
فقوله «اسمح» لا ينقط شيء من حروفه، وقوله «فبث» منقوطة كلها، وهكذا القول في سائر كلمات البيت.
ومن النثر قول الحريري أيضا: «الكرم ثبت الله جيش سعودك يزين، واللؤم غضّ الدهر جفن حسودك يشين، والأروع يثيب والمعور يخيب، والحلاحل يضيف والماحل يخيف».
وكان الوطواط قد سمّاه «الخيفاء» وقال: «الخيف في اللغة هو أن تكون عينا الجواد إحداهما سوداء والأخرى زرقاء، وتكون هذه الصنعة بان يجعل الكاتب في نثره أو الشاعر في شعره كلمة من عبارته منقولة وكلمة أخرى عاطلة غير منقوطة»، وذكر ما ذكره العلوي فيما بعد من أمثلة ولكنّه لم يكتف بالبيت الأوّل من قول الحريري وانما ذكر له بيتا آخر وهو:
«ولا تجز ردّ ذي سؤال ***فنّن أم في السؤال خفّف »
وسمّاه الرازي الخيفاء أيضا وقال: «هي الكلام الذي جملة حروف إحدى كلمتيه منقوطة وجملة حروف الكلمة الأخرى غير منقوطة».
وسمّاه المطرزي «الخيفاء» ايضا وقال: «الخيفاء عند البلغاء هي الرسالة أو القصيدة يكون حروف احدى كلمتيها منقوطة بأجمعها وحروف الأخرى غير منقوطة بأسرها من الفرس الخيفاء وهي التي خيف وهو أن تكون إحدى عينيها سوداء والأخرى زرقاء».
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
14-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (النظم)
النّظم:النّظم: التأليف، نظمه ينظمه نظما ونظاما، ونظمت اللؤلؤ أي جمعته في السلك.
بدأت فكرة النظم منذ أن أخذ المعتزلة يبحثون في إعجاز القرآن الكريم فقد ذهب بعضهم الى أنّ القرآن معجز بنظمه العجيب. وكان ابن المقفّع قد أشار الى نظم الكلام وأنّ الناظم كصاحب الفصوص وجد ياقوتا وزبر جدا ومرجانا فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل ووضع كل فصّ موضعه وجمع الى كل لون شبهه مما يزيده بذلك حسنا فسمّي بذلك صائغا رقيقا.
وتحدّث الجاحظ عن النظم وسمّى أحد كتبه «نظم القرآن» وذهب الى أنّ كتاب الله معجز بنظمه البديع «الذي لا يقدر على مثله العباد». وتطوّرت الفكرة عند أبي سعيد السيرافي الذي قال: «معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضبة لها وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخّي الصواب في ذلك وتجنّب الخطأ في ذلك وإن زاغ شيء عن النعت فإنه لا يخلو أن يكون سائغا بالاستعمال النادر والتأويل البعيد أو مردودا لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم».
وأطال علماء الإعجاز في هذه المسألة وقال الباقلّاني: «فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدى به ولا يصح وقوع مثله اتفاقا كما يتفق للشاعر البيت النادر والكلمة الشاردة والمعنى الفذ الغريب والشيء القليل العجيب».
وقال: «ليس الإعجاز في نفس الحروف وإنّما هو في نظمها وإحكام رصفها وكونها على وزن ما أتى به النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وليس نظمها أكثر من وجودها متقدّمة ومتأخرة ومترتّبة في الوجود، وليس لها نظم سواها».
وكان القاضي عبد الجبّار أكثر وضوحا حينما رأى أنّ الفصاحة والبلاغة تقومان على ضمّ الكلمات وتقارنها. وتلقّف عبد القاهر ما كان من مسائل النظم وخطا خطوة واسعة ووضع أصول نظرية النظم التي جمدت بعد ذلك في مباحث علم المعاني عند السّكّاكي والقزويني وشرّاح التلخيص.
وليس النظم عند عبد القاهر سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض.
وليس النظم سوى حكم من النحو نتوخّاه، أي أنّه معاني النحو قال: «واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت فلا تخلّ بشيء منها.
وذلك أنّا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه».
والفرق بين الأساليب ليس فرقا في الحركات وما يطرأ على الكلمات وإنما في معاني العبارات التي يحدثها ذلك الوضع والنظم الدقيق، ولذلك فليست العمدة في معرفة قواعد النحو وحدها ولكن فيما تؤدّي اليه هذه القواعد والأصول، أي أنّ الهدف منها الدلالة على المعنى. وقد كان النحو عند عبد القاهر واسعا أخذ به البلاغيون وبنوا عليه علم المعاني، وفرق كبير بين توخّي معاني النحو والخروج عليها فالفرزدق أفسد عبارته حينما قال:
«وما مثله في الناس إلا مملّكا***أبو أمه حيّ أبوه يقاربه »
والبحتري جاء بنظم بديع حينما قال:
«بلونا ضرائب من قد نرى ***فما إن رأينا لفتح ضريبا”
«هو المرء أبدت له الحادثا***ت عزما وشيكا ورأيا صليبا»
«تنقّل في خلقي سؤدد***سماحا مرجّى وبأسا مهيبا»
«فكالسيف إن جئته صارخا***وكالبحر إن جئته مستشيبا»
ولم تحسن هذه الأبيات إلّا لأنّ الشاعر عرف كيف يصوغ الكلمات في عبارات جميلة ويضع كل كلمة الى لفقها ويربط بين الالفاظ ربطا بديعا، وليس كذلك الفرزدق الذي قدّم وأخر فأفسد المعنى وعقّد التركيب.
ومن النظم ما يتّحد في الوضع ويدقّ فيه الصنع وذلك أن تتّخذ أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض ويشتد ارتباط ثان بأوّل، وأن يحتاج في الجملة الى أن توضع في النفس وضعا واحدا وأن يكون الحال فيها حال الباني يضع بيمينه ههنا في حال ما يضع بيساره هناك. ومنه ما لا يحتاج الى فكر وروية لكي ينتظم بل سبيله في ضمّ بعضه الى بعض سبيل من عمد الى لآل فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق وكمن نضد أشياء بعضها الى بعض لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة بل ليس إلّا أن تكون مجموعة في رأي العين، وذلك إذا كان المعنى لا يحتاج أن يصنع فيه شيء غير عطف لفظ على مثله.
ولا بدّ أن يتغيّر المعنى إذا تغيّر النظم وفي ذلك مجال رحب يجول فيه المنشئون.
لقد وضّح عبد القاهر أصول «علم المعاني» في كتابه «دلائل الإعجاز» وسمّاه «النظم» أو «معاني النحو» وليست معاني النحو إلّا علم المعاني الذي عرّفه السّكّاكي بقوله: «هو تتبع خواصّ تراكيب الكلام في الإفادة وما يتّصل بها من الاستحسان وغيره ليحتزر بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره». ولكنّ السّكاكي ومن جاء بعده لم يستطع أن يحلّق كما حلّق عبد القاهر في شرح النظم وإبرازها مع أنّ الموضوعات التي عولجت في الفنين واحدة وهي ما يتّصل بالجملة أو الجملتين من أساليب الخبر والانشاء، والتقديم والتأخير، والحذف والذّكر، والقصر وخلافه، والفصل والوصل، والإيجاز الإطناب والمساواة. وقد تقدّم الكلام على ذلك في «المعاني».
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
15-موسوعة الفقه الكويتية (إرسال 1)
إِرْسَالٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْإِرْسَالُ لُغَةً: مَصْدَرُ (أَرْسَلَ) يُقَالُ: أَرْسَلَ الشَّيْءَ: أَطْلَقَهُ وَأَهْمَلَهُ، وَيُقَالُ: أَرْسَلَ الْكَلَامَ أَيْ أَطْلَقَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَأَرْسَلَ الرَّسُولَ: بَعَثَهُ بِرِسَالَةٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا: سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}.
وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ الْإِرْسَالِ بِإِطْلَاقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي:
الْإِرْخَاءُ، كَإِرْسَالِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِرْسَالِ طَرَفِ الْعِمَامَةِ، وَإِرْسَالِ الشَّعْرِ بِعَدَمِ رَبْطِهِ.وَالتَّوْجِيهُ، كَإِرْسَالِ شَخْصٍ إِلَى آخَرَ بِمَالٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.وَالتَّخْلِيَةُ، وَذَلِكَ كَإِرْسَالِ الْمُحْرِمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ صَيْدٍ.وَالْإِهْمَالُ، كَإِرْسَالِ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْحَيَوَانِ.وَالتَّسْلِيطُ، كَإِرْسَالِ الْحَيَوَانِ أَوِ السَّهْمِ عَلَى الصَّيْدِ.
وَبِمَعْنَى عَدَمِ الْإِضَافَةِ وَعَدَمِ الْإِطْلَاقِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِيمَا إِذَا جَرَى الْخُلْعُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ فَإِلَيْهَا الْقَبُولُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَدَلُ مُرْسَلًا أَمْ مُطْلَقًا، أَمْ مُضَافًا إِلَى الْمَرْأَةِ أَوِ الْأَجْنَبِيِّ إِضَافَةَ مِلْكٍ أَوْ ضَمَانٍ.وَمَتَى جَرَى الْخُلْعُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مُرْسَلًا (أَيْ مُعَيَّنًا بِغَيْرِ الْإِضَافَةِ) فَالْقَبُولُ إِلَيْهَا كَقَوْلِهَا: اخْلَعْنِي عَلَى هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى تَسْلِيمِهَا سَلَّمَتْهَا، وَإِلاَّ فَالْمِثْلُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ، وَالْقِيمَةُ فِي الْقِيَمِيِّ، وَتَتِمَّةُ هَذَا فِي الْخُلْعِ.وَالْمُطْلَقُ كَقَوْلِهَا: خَالَعَنِي عَلَى ثَوْبٍ.وَالْمُضَافُ كَقَوْلِهَا: خَالَعَنِي عَلَى دَارِي.
وَيَسْتَعْمِلُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ الْإِرْسَالَ فِي الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ؛ لِأَنَّهَا كُلُّ مَصْلَحَةٍ أَطْلَقَهَا الشَّارِعُ فَلَمْ يَعْتَبِرْهَا وَلَمْ يُلْغِهَا.
وَالْإِرْسَالُ فِي الْحَدِيثِ لَهُ إِطْلَاقٌ خَاصٌّ سَيَأْتِي فِيمَا يَلِي:
الْإِرْسَالُ فِي الْحَدِيثِ:
2- يُطْلَقُ لَفْظُ الْإِرْسَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى تَرْكِ التَّابِعِيِّ الْوَاسِطَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنْ رَفَعَ التَّابِعِيُّ الْحَدِيثَ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- سَوَاءٌ أَكَانَ كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا، بِأَنْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَذَا، أَوْ فَعَلَ كَذَا، أَوْ فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ كَذَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِرَفْعِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَجَالَسَهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَمْثَالِهِمَا.
أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الْإِسْنَادُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى التَّابِعِيِّ، بِأَنْ كَانَ فِيهِ رَاوٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْمَذْكُورِينَ فَوْقَهُ، فَلَيْسَ بِمُرْسَلٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، بَلْ يُسَمَّى مُنْقَطِعًا، إِنْ كَانَ السَّاقِطُ وَاحِدًا فَحَسْبُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ سُمِّيَ مُعْضَلًا، وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فَكُلُّ ذَلِكَ يُسَمَّى مُرْسَلًا.وَذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْخَطِيبُ وَقَطَعَ بِهِ.وَجَاءَ فِي مُسْلِمِ الثُّبُوتِ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مَا رَوَاهُ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ لِيَشْمَلَ الْمُنْقَطِعَ.وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَالْمُرْسَلُ قَوْلُ التَّابِعِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ كَذَا، وَالْمُعْضَلُ مَا سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ اثْنَانِ مِنَ الرُّوَاةِ، وَالْمُنْقَطِعُ مَا سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْهَا، وَالْمُعَلَّقُ مَا رَوَاهُ مَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ، وَالْكُلُّ دَاخِلٌ فِي الْمُرْسَلِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِكَثِيرِ الِاصْطِلَاحِ وَالْأَسَامِي فَائِدَةٌ.
أَقْسَامُ وَحُكْمُ الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ:
3- يَنْقَسِمُ الْمُرْسَلُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ هِيَ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ: حُكْمُهُ أَنَّهُ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: إِرْسَالُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَيِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْعُلَمَاءِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، إِذْ أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَشْهَرِ رِوَايَتَيِ الْحَنَابِلَةِ، إِذَا كَانَ الْمُرْسِلُ عَدْلًا.
أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَا يَعْتَبِرُهُ حُجَّةً إِلاَّ إِذَا تَأَيَّدَ بِآيَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ مَشْهُورَةٍ، أَوْ مُوَافَقَةِ قِيَاسٍ صَحِيحٍ، أَوْ قَوْلِ صَحَابِيٍّ، أَوْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، أَوِ اشْتَرَكَ فِي إِرْسَالِهِ عَدْلَانِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ شَيْخَاهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ بِوَجْهٍ آخَرَ، بِأَنْ أَسْنَدَهُ غَيْرُ مُرْسِلِهِ، أَوْ أَسْنَدَهُ مُرْسِلُهُ مُرَّةً أُخْرَى.
وَلِثُبُوتِ الِاتِّصَالِ بِوَجْهٍ آخَرَ قُبِلَتْ مَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ؛ لِأَنَّهَا بِالتَّتَبُّعِ وُجِدَتْ مُسْنَدَةً (أَيْ مُتَّصِلَةً مَرْفُوعَةً إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَكْثَرُهَا مِمَّا سَمِعَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي احْتِجَاجِهِ بِالْمُرْسَلِ أَوْ عَدَمِهِ.
وَأَمَّا رَأْيُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَيَتَّضِحُ بِمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ شَرْحِ رَوْضَةِ النَّاظِرِ، وَمُفَادُهُ أَنَّ لِلْإِمَامِ رِوَايَتَيْنِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ حُجَّةٌ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا أَرْسَلَهُ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ: وَيُعْتَبَرُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ حُجَّةً عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ إِرْسَالَ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي كُلِّ عَصْرٍ، إِذْ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تُوجِبُ قَبُولَ مَرَاسِيلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ، تَشْمَلُ سَائِرَ الْقُرُونِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا أُرْسِلَ مِنْ وَجْهٍ وَاتَّصَلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ سَاكِتٌ عَنْ حَالِ الرَّاوِي، وَالْمُسْنِدُ نَاطِقٌ، وَالسَّاكِتُ لَا يُعَارِضُ النَّاطِقَ، مِثْلَ حَدِيثِ: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ» رَوَاهُ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ مُرْسَلًا.وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُقْبَلُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الرَّاوِي عَنْ ذِكْرِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَرْحِ فِيهِ، وَإِسْنَادُ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْدِيلِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْجُرْحُ وَالتَّعْدِيلُ يُعْمَلُ بِالْجَرْحِ.
أَوَّلًا: الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى الْإِرْخَاءِ
كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ:
4- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ السُّنَّةُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
أ- مَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ.قَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ».
ب- مَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ».
ج- مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَرَّ بِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا وَاضِعٌ يَدِي الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَأَخَذَ بِيَدِي الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى الْيُسْرَى».
الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الْإِرْسَالِ وَكَرَاهِيَةُ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ، وَالْجَوَازُ فِي النَّفْلِ، قِيلَ: مُطْلَقًا، وَقِيلَ: إِنْ طَوَّلَ.وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُ مَتْنِهِ كَالدَّرْدِيرِ وَالدُّسُوقِيِّ، وَعُلِّلَتِ الْكَرَاهَةُ فِي الْفَرْضِ بِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْيَدَيْنِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِنَادَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الدَّرْدِيرُ: فَلَوْ فَعَلَهُ لَا لِلِاعْتِمَادِ بَلِ اسْتِنَانًا لَمْ يُكْرَهْ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ فِي النَّفْلِ مُطْلَقًا، بِجَوَازِ الِاعْتِمَادِ فِيهِ بِلَا ضَرُورَةٍ.
الثَّالِثُ: إِبَاحَةُ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ.
وَذَكَرَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ ابْنِ فَرْحُونَ: وَأَمَّا إِرْسَالُهُمَا «أَيِ الْيَدَيْنِ» بَعْدَ رَفْعِهِمَا فَقَالَ سَنَدٌ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا حَالَ التَّكْبِيرِ، لِيَكُونَ مُقَارِنًا لِلْحَرَكَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا بِرِفْقٍ.
هَذَا، وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ مَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ مَا نَصُّهُ: «وَالْقَصْدُ مِنَ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ- يَعْنِي قَبْضَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ- تَسْكِينُ الْيَدَيْنِ فَإِنْ أَرْسَلَهُمَا وَلَمْ يَعْبَثْ فَلَا بَأْسَ»
الرَّابِعُ: مَنْعُ الْقَبْضِ فِيهِمَا، حَكَاهُ الْبَاجِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَلَكِنْ قَالَ الْمِسْنَاوِيُّ: هَذَا مِنَ الشُّذُوذِ.
إِرْسَالُ الْعَذَبَةِ مِنَ الْعِمَامَةِ وَالتَّحْنِيكُ بِهَا:
5- أَوْرَدَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ الْمَدْخَلِ لِابْنِ الْحَاجِّ أَنَّ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ عَذَبَةٍ وَلَا تَحْنِيكٍ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، فَإِنْ فَعَلَهُمَا فَهُوَ الْأَكْمَلُ، وَإِنْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ خَرَجَ بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَبْدِ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَسُنَّةُ الْعِمَامَةِ بَعْدَ فِعْلِهَا أَنْ يُرْخِيَ طَرَفَهَا وَيَتَحَنَّكَ، فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ طَرَفٍ وَلَا تَحْنِيكٍ فَيُكْرَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
أَمَّا النَّوَوِيُّ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا كَرَاهَةَ فِي إِرْسَالِ الْعَذَبَةِ وَلَا عَدَمِ إِرْسَالِهَا، إِلاَّ أَنَّ الشَّيْخَ الْكَمَالَ ابْنَ أَبِي شَرِيفٍ قَدْ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: بِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّهُ مِنَ الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْإِرْسَالُ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُهُ خِلَافُ الْأَوْلَى. وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَنَفِيَّةِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُنْدَبُ إِرْسَالُ ذَنَبِ الْعِمَامَةِ بِسِنِّ الْكَتِفَيْنِ إِلَى وَسَطِ الظَّهْرِ، وَقِيلَ لِمَوْضِعِ الْجُلُوسِ، وَقِيلَ شِبْرًا.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ الْعِمَامَةِ الْمُحَنَّكَةِ وَكَرَاهَةِ الصَّمَّاءِ، قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: يَحْسُنُ أَنْ يُرْخِيَ الذُّؤَابَةَ خَلْفَهُ وَلَوْ شِبْرًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ.
وَقَدْ ذَكَرَ السَّخَاوِيُّ عَنْ مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى خَيْبَرَ فَعَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا مِنْ وَرَائِهِ أَوْ قَالَ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ»، وَتَرَدَّدَ رَاوِيهِ فِيهِ، وَرُبَّمَا جَزَمَ بِالثَّانِي.
ثَانِيًا: الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى بَعْثِ الرَّسُولِ
الْإِرْسَالُ فِي النِّكَاحِ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِرْسَالِ فِي النِّكَاحِ وَتَرَتُّبِ آثَارِهِ، وَهُنَاكَ تَفْرِيعَاتٌ فِي الْمَذَاهِبِ مِنْهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَةٍ رَسُولًا، أَوْ كَتَبَ إِلَيْهَا كِتَابًا قَالَ فِيهِ: تَزَوَّجْتُكِ، فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ، سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ، لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ هُوَ كَلَامُ الْمُرْسَلِ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَتَهُ، وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ، فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ أَوْ كَلَامِ الْكَاتِبِ مَعْنًى.وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ.بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهَا: زَوَّجْتُ نَفْسِي شَطْرُ الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالشَّهَادَةُ فِي شَطْرَيِ الْعَقْدِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالشَّطْرَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ فَلَمْ يُوجَدْ شَطْرُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَقْدِ.وَقَوْلُ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ.هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا فِي قَوْلِهِمَا هَذَا.
الْإِرْسَالُ لِنَظَرِ الْمَخْطُوبَةِ:
7- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ فَلَهُ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَثِقُ بِهَا مِنَ النِّسَاءِ لِتَنْظُرَ لَهُ الْمَخْطُوبَةَ، ثُمَّ تَصِفَهَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ رُوِيَ «أَنَّهُ بَعَثَ أُمَّ سُلَيْمٍ إِلَى امْرَأَةٍ وَقَالَ: اُنْظُرِي عُرْقُوبَيْهَا وَشُمِّي مَعَاطِفَهَا».رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.هَذَا، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّبْرَامَلِّسِيِّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ تَعْلِيقًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ.قَوْلُهُ: لَوْ أَمْكَنَهُ إِرْسَالُ امْرَأَةٍ تَنْظُرُهَا لَهُ وَتَصِفُهَا لَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ، إِذْ أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْعِيَانِ، فَقَدْ يُدْرِكُ النَّاظِرُ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ مَا تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ. الْإِرْسَالُ فِي الطَّلَاقِ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرْسَلَ إِلَى زَوْجَتِهِ كِتَابًا ضَمَّنَهُ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَالْحُكْمُ أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ وَصَلَ إِلَيْهَا الْكِتَابُ أَمْ لَمْ يَصِلْ، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ عِدَّتِهَا مِنْ حِينِ كِتَابَتِهِ الْكِتَابَ.
أَمَّا إِذَا كَتَبَ إِلَيْهَا مَا مُفَادُهُ: إِذَا وَصَلَكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَتَاهَا الْكِتَابُ طَلُقَتْ مِنْ تَارِيخِ الْوُصُولِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ هُوَ وُصُولُ الْكِتَابِ إِلَيْهَا.
الْإِرْسَالُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ:
الْإِرْسَالُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ:
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ شَخْصٌ إِلَى غَيْرِهِ رَسُولًا أَوْ كِتَابًا يَطْلُبُ مِنْهُ فِيهِ أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا مَا، وَقَبِلَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ خِلَالَ الْمَجْلِسِ الَّذِي تُلِيَ فِيهِ الْكِتَابُ الْمُرْسَلُ، أَوْ سَمَاعُ أَقْوَالِ الرَّسُولِ فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَنْ كَلَامِ الْمُرْسِلِ، نَاقِلٌ كَلَامَهُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ، فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ، وَقَبِلَ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ يَسْرِي عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَالْمُكَاتَبَةِ إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُفَرِّقُونَ فِي حُكْمِ الْإِرْسَالِ بِالشِّرَاءِ تَبَعًا لِلَفْظِ الرَّسُولِ، فَإِذَا أَسْنَدَ الرَّسُولُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ طُولِبَ بِالثَّمَنِ، لَكِنْ إِذَا أَقَرَّ الْمُرْسِلُ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ غَرِيمَانِ، فَيَتْبَعُ أَيَّهُمَا شَاءَ، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ الْمُرْسِلُ أَنَّهُ دَفَعَ الثَّمَنَ لِلرَّسُولِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ، وَيَتْبَعُ الرَّسُولَ، أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ الشِّرَاءَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِالثَّمَنِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُطَالَبُ بِهِ الْمُرْسِلُ.
هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا قَالَ: بَعَثَنِي فُلَانٌ لِتَبِيعَهُ كَذَا بِمِائَةٍ، أَوْ لِيَشْتَرِيَ مِنْكَ كَذَا بِمِائَةٍ مَثَلًا، فَرَضِيَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ، لَا يُطَالَبُ الرَّسُولُ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ أَنْكَرَ فُلَانٌ هَذَا أَنَّهُ أَرْسَلَهُ فَالثَّمَنُ عَلَى الرَّسُولِ.أَمَّا إِذَا قَالَ: بَعَثَنِي فُلَانٌ لِأَشْتَرِيَ لَهُ مِنْكَ، فَيُطَالَبُ الرَّسُولُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى أَسْنَدَ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ، وَفِي الْحَالِ الْأَخِيرَةِ أَسْنَدَ الشِّرَاءَ إِلَى نَفْسِهِ.
كَمَا أَجْمَعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ إِبْطَالَ الْخِيَارِ، وَلَا تَكُونُ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْمُرْسِلِ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُرْسِلِ إِذَا لَمْ يَرَهُ.وَقَدْ عَقَّبَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ الرَّسُولِ وَقَبْضَهُ لَا يَلْزَمُ الْمُرْسِلَ الْمَتَاعُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِيَتِمَّ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَبَضَهُ لَهُ.
مِلْكِيَّةُ الشَّيْءِ الْمُرْسَلِ:
10- قَرَّرَ الْأَئِمَّةُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْسَلَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ، حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ، وَمَا دَامَ لَمْ يَقْبِضْهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ، وَقَدْ عَيَّنَهُ لِإِنْسَانٍ فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ مُطْلَقًا.
الضَّمَانُ فِي الْإِرْسَالِ:
11- ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ أَنَّهُ إِنْ زَعَمَ شَخْصٌ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ زَيْدٍ لِاسْتِعَارَةِ حُلِيٍّ لَهُ مِنْ بَكْرٍ، فَدَفَعَ لَهُ بَكْرٌ مَا طَلَبَ، وَزَعَمَ الرَّسُولُ أَنَّهُ تَلِفَ مِنْهُ، ضَمِنَهُ زَيْدٌ (الْمُرْسِلُ) إِنْ صَدَّقَهُ فِي الْإِرْسَالِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْهُ وَبَرِئَ، ثُمَّ حَلَفَ الرَّسُولُ: لَقَدْ أَرْسَلَنِي وَأَنَّهُ تَلِفَ لَا تَفْرِيطَ مِنِّي وَبَرِئَ أَيْضًا، وَضَاعَ الْحُلِيُّ هَدَرًا.
لَكِنِ الرَّاجِحُ أَنَّ الرَّسُولَ يَضْمَنُ- وَلَا يَبْرَأُ بِالْحَلِفِ- إِلاَّ لِبَيِّنَةٍ بِالْإِرْسَالِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُرْسِلِ.
أَمَّا قَاضِيخَانْ فَقَدْ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ: رَجُلٌ بَعَثَ رَسُولًا إِلَى بَزَّازٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِثَوْبِ كَذَا وَكَذَا بِثَمَنِ كَذَا وَكَذَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُولِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، فَضَاعَ الثَّوْبُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْآمِرِ، وَتَصَادَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَقَرُّوا بِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّسُولِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ بَعَثَ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ رَسُولَهُ قَبَضَ الثَّوْبَ عَلَى الْمُسَاوَمَةِ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَهُ.فَإِذَا وَصَلَ الثَّوْبُ إِلَى الْآمِرِ يَكُونُ ضَامِنًا.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ أَرْسَلَ رَجُلٌ رَسُولًا إِلَى رَجُلٍ آخَرَ وَقَالَ لَهُ: ابْعَثْ إِلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا فَقَالَ: نَعَمْ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُولِهِ، كَانَ الْآمِرُ ضَامِنًا لَهَا، إِذَا أَقَرَّ أَنَّ رَسُولَهُ قَبَضَهَا.
وَلَوْ بَعَثَ رَجُلًا لِيَسْتَقْرِضَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقْرَضَهُ فَضَاعَ فِي يَدِهِ، إِنْ قَالَ الرَّسُولُ أَقْرِضْ فُلَانًا الْمُرْسَلَ.فَهِيَ لِلْمُرْسِلِ وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ: أَقْرِضْنِي لِفُلَانٍ الْمُرْسِلِ فَأَقْرَضَهُ، وَضَاعَ فِي يَدِهِ، فَعَلَى الرَّسُولِ الضَّمَانُ.فَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَاضِ يَجُوزُ، وَبِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَجُوزُ، وَالرِّسَالَةُ بِالِاسْتِقْرَاضِ لِلْآمِرِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ أَخْرَجَ الْوَكِيلُ بِالِاسْتِقْرَاضِ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ يَقَعُ الْقَرْضُ لِلْآمِرِ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَكَالَةِ بِأَنْ أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ يَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ مَا اسْتَقْرَضَ مِنَ الدَّرَاهِمِ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْمُوَكِّلِ.
وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّسُولَ إِنْ كَانَ رَسُولَ رَبِّ الْمَالِ فَالْوَدِيعُ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَى الرَّسُولِ وَلَوْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ، وَيَرْجِعُ الْكَلَامُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَوَرَثَةِ الرَّسُولِ، فَإِنْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ كَانَ الضَّمَانُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُولِ فَلَا رُجُوعَ، حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ أَوْصَلَهُ لِرَبِّ الْمَالِ.
وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ رَسُولَ الْوَدِيعِ فَلَا يَبْرَأُ إِلاَّ بِوُصُولِهِ لِرَبِّ الْمَالِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، فَإِنْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ رَجَعَ الْوَدِيعُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُولِ فَلَا رُجُوعَ وَهِيَ مُصِيبَةٌ عَلَى الْوَدِيعِ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْوَكِيلَ وَالْمُودَعَ وَالرَّسُولَ مُؤْتَمَنُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْمُودِعِ وَالْمُرْسِلِ، فَإِذَا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ رَدُّوا مَا دُفِعَ إِلَيْهِمْ إِلَى أَرْبَابِهِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ قَدِ ائْتَمَنُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا فِيمَا بَيْنَهُمْ.
كَمَا لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى رَجُلٍ وَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا، فَقَالَ: نَعَمْ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ، فَالْآمِرُ ضَامِنٌ لَهَا إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ رَسُولَهُ قَدْ قَبَضَهَا، وَإِنْ بَعَثَ بِهَا مَعَ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهِ.وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَبَعَثَ إِلَى الْمَدْيُونِ رَسُولًا أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِالدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ، فَإِنْ بَعَثَ بِهِ مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ.
أَمَّا لَوْ بَعَثَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ بِكِتَابٍ مَعَ رَسُولٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ ثَوْبَ كَذَا بِثَمَنِ كَذَا، فَفَعَلَ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ الَّذِي أَتَاهُ بِالْكِتَابِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِ الْآمِرِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا إِنَّمَا الرَّسُولُ رَسُولٌ بِالْكِتَابِ.
وَإِذَا أَرْسَلَ الْمُودَعُ (بِفَتْحِ الدَّالِ) الْوَدِيعَةَ لِلْمُودِعِ (بِكَسْرِ الدَّالِ) بِإِذْنِهِ صَحَّ هَذَا الْإِرْسَالُ، أَمَّا إِنْ أَرْسَلَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَتَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ مِنَ الرَّسُولِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ فِيمَا إِذَا عَرَضَتْ لِلْمُودَعِ إِقَامَةٌ طَوِيلَةٌ فِي الطَّرِيقِ، كَالسَّنَةِ مَثَلًا فَالْحَقُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَبْعَثَهَا مَعَ غَيْرِهِ- وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا تَلِفَتْ أَوْ أَخَذَهَا اللِّصُّ، بَلْ بَعْثُهَا إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبٌ وَيَضْمَنُ إِنْ حَبَسَهَا، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ قَصِيرَةً كَالْأَيَّامِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِبْقَاؤُهَا مَعَهُ، فَإِنْ بَعَثَهَا- بِغَيْرِ إِذْنٍ- ضَمِنَهَا إِنْ تَلِفَتْ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ مُتَوَسِّطَةً، كَالشَّهْرَيْنِ مَثَلًا خُيِّرَ فِي إِرْسَالِهَا وَفِي إِبْقَائِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ أَرْسَلَهَا وَتَلِفَتْ، أَوْ حَبَسَهَا أَيْ وَتَلِفَتْ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَصِيِّ رَبِّ الْمَالِ، إِذَا أَرْسَلَ الْمَالَ لِلْوَرَثَةِ، أَوْ سَافَرَ هُوَ بِهِ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَالَ إِذَا ضَاعَ أَوْ تَلِفَ.وَكَذَا الْقَاضِي إِذَا بَعَثَ الْمَالَ لِمُسْتَحِقِّهِ مِنْ وَرَثَةٍ أَوْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَضَاعَ أَوْ تَلِفَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، خِلَافًا لِقَوْلِ أَصْبَغَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ.وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلَهُ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا يَقْبِضُهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَعَ الرَّسُولِ دِينَارًا، فَضَاعَ مِنَ الرَّسُولِ، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْبَاعِثِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُصَارَفَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَاعِثِ لِأَنَّهُ دَفَعَ إِلَى الرَّسُولِ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُرْسِلُ.فَإِنَّ الْمُرْسِلَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِقَبْضِ مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ، وَلَمْ يَدْفَعْهَا، وَإِنَّمَا دَفَعَ دِينَارًا عِوَضًا عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا صَرْفٌ يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَإِذْنِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ، فَصَارَ الرَّسُولُ وَكِيلًا لِلْبَاعِثِ فِي تَأْدِيَتِهِ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَمُصَارَفَتِهِ بِهِ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِ وَكِيلِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُولُ الْغَرِيمَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِ الدِّينَارِ عَنِ الدَّرَاهِمِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ ضَمَانِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَأَخَذَ الدِّينَارَ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْمُرْسِلِ.وَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أُمِرَ بِقَبْضِهَا فَضَاعَتْ مِنَ الرَّسُولِ فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْ يَدِ وَكِيلِهِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- رضي الله عنه- قَوْلُهُ فِي رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ آخَرَ دَنَانِيرُ وَثِيَابٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا وَقَالَ: خُذْ دِينَارًا وَثَوْبًا، فَأَخَذَ دِينَارَيْنِ وَثَوْبَيْنِ، فَضَاعَتْ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَاعِثِ، يَعْنِي الَّذِي أَعْطَاهُ الدِّينَارَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّسُولِ، يَعْنِي عَلَيْهِ ضَمَانُ الدِّينَارِ وَالثَّوْبِ الزَّائِدَيْنِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ لِأَنَّهُ دَفَعَهُمَا إِلَى مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِمَا إِلَيْهِ، وَيَرْجِعُ بِهِمَا عَلَى الرَّسُولِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَجَعَلَ التَّلَفَ فِي يَدِهِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلِلْمُوَكِّلِ تَضْمِينُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِقَبْضِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَبْضِهِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِهِ فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
أَثَرُ الْإِرْسَالِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ أَوْ عَلَيْهِ:
12- يَتَبَيَّنُ أَثَرُ الْإِرْسَالِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ، أَوْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَالِ مَا ذُكِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَقْوَالٍ، فَالْإِمَامُ الْكَاسَانِيُّ يُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى امْرَأَةٍ يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْهَا فَكَتَبَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ كِتَابًا، فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ، لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ.وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنَ الْكَاتِبِ، فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ وَكَلَامَ الْكَاتِبِ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، بَيْنَمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إِذَا قَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ، إِذْ أَنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَهُ وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ.فَيَتَّضِحُ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا مَأْخُوذٌ بِهَا عِنْدَ السَّمَاعِ لِكَلَامِ الْمُرْسِلِ.هَذَا وَقَدْ أَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ الْكَاسَانِيَّ فِي اعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ، إِذْ ذَكَرَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْمُودَعَ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ إِنْ دَفَعَهَا لِلرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَفَعَ لِغَيْرِ الْيَدِ الَّتِي ائْتَمَنَتْهُ كَانَ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ، فَلَمَّا تَرَكَهُ صَارَ مُفَرِّطًا، وَأَمَّا إِنْ دَفَعَ لَهُ بِإِشْهَادٍ فَقَدْ بَرِئَ، وَيَرْجِعُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ عَلَى الرَّسُولِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ.
ثَالِثًا: الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى الْإِهْمَالِ
حُكْمُ ضَمَانِ مَا أَتْلَفَتْهُ الْحَيَوَانَاتُ وَالْمَوَاشِي الْمُرْسَلَةُ:
13- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مَعْرِضِ بَيَانِهِمْ لِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى التَّفْرِيقِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ بَيْنَ الدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُ أَمْوَالَ الْغَيْرِ وَمَعَهَا رَاكِبٌ، وَالدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُهَا مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا التَّفْرِيقِ فَقَدْ قَالُوا: إِذَا أَتْلَفَتِ الدَّابَّةُ مَالًا أَوْ نَفْسًا، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَكَانَ مَعَهَا رَاكِبُهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، وَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَهَا كَانَ فِعْلُهَا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ.
وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ مَعَ رَاكِبٍ فَهَلْ يَخْتَصُّ الضَّمَانُ بِالرَّاكِبِ أَوْ يَجِبُ أَثْلَاثًا؟ وَجْهَانِ: أَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا رَاكِبَانِ فَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَوْ يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ، دُونَ الرَّدِيفِ؟ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا.
أَمَّا إِذَا أَتْلَفَتِ الدَّابَّةُ أَمْوَالَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَهُنَا يُنْظَرُ إِلَى الزَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْإِتْلَافُ، فَإِنْ كَانَ نَهَارًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِنْ كَانَ لَيْلًا ضَمِنَ، لِتَقْصِيرِهِ بِإِرْسَالِهَا لَيْلًا، بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ نَهَارًا، لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ فِي حِفْظِ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ نَهَارًا وَالدَّابَّةِ لَيْلًا، وَلَوْ تَعَوَّدَ أَهْلُ الْبَلَدِ إِرْسَالَ الدَّوَابِّ وَحِفْظَ الزَّرْعِ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ انْعَكَسَ الْحُكْمُ، فَيَضْمَنُ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ، اتِّبَاعًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْعَادَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مَا بَحَثَهُ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ لَوْ جَرَتْ عَادَةٌ بِحِفْظِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ضَمِنَ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ مُطْلَقًا.
هَذَا، وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي يَلْزَمُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِهَا الْحَمَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الطُّيُورِ وَالنَّحْلَ، إِذْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ بِإِتْلَافِهَا مُطْلَقًا، وَهَذَا الْحُكْمُ حَكَاهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنِ ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْعَادَةَ إِرْسَالُهَا.
هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي أَنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ فِي إِتْلَافِ الدَّوَابِّ إِنْ كَانَ لَيْلًا، أَمَّا إِنْ كَانَ نَهَارًا فَلَا ضَمَانَ فِيهِ.بَيْنَمَا لِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ بَعْدَ قَلِيلٍ بِإِذْنِ اللَّهِ.
هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي قَوْلِهِمْ بِتَضْمِينِ رَاكِبِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا.
أَمَّا حُكْمُ مَا أَتْلَفَهُ الْحَمَامُ وَالنَّحْلُ وَالدَّجَاجُ فَجَاءَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
الْأُولَى: تُوَافِقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ حُكْمَهَا كَالْمَاشِيَةِ فِي الْإِتْلَافِ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَرَفَةَ قَدْ قَالَ بِصَوَابِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى.أَمَّا الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْمَوَاضِعِ ضَرْبٌ تَنْفَرِدُ فِيهِ الْمَزَارِعُ وَالْحَوَائِطُ، لَيْسَ بِمَكَانِ سَرْحٍ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ إِرْسَالُ الْمَوَاشِي فِيهِ، وَمَا أَفْسَدَتْ فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَعَلَى أَرْبَابِهَا الضَّمَانُ.وَضَرْبٌ آخَرُ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِإِرْسَالِ مَوَاشِيهِمْ فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَأَحْدَثَ رَجُلٌ فِيهِ زَرْعًا فَأَتْلَفَتْهُ الْمَوَاشِي، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي، سَوَاءٌ وَقَعَ الْإِتْلَافُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا.
وَمِنَ الْمُفِيدِ جِدًّا أَنْ نُشِيرَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ مُؤَلِّفُ التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ إِذْ قَالَ: بِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرْسَلَ فِي أَرْضِهِ نَارًا أَوْ مَاءً فَوَصَلَ إِلَى أَرْضِ جَارِهِ فَأَتْلَفَ زَرْعَهَا، يُنْظَرُ فِي الْأَمْرِ عَلَى ضَوْءِ قُرْبِ الْأَرْضِ وَبُعْدِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ قَرِيبَةً فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً إِلاَّ أَنَّ النَّارَ وَصَلَتْهَا بِسَبَبِ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ. وَهَذَا الرَّأْيُ قَدْ قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا إِلاَّ أَنَّ لَهُمْ رَأْيًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِرْسَالِ الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ أَرَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ هُنَا، وَمُفَادُ هَذَا الرَّأْيِ هُوَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ، حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا أَرْسَلَ الْكَلْبَ وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ فَلَا ضَمَانَ فِيمَا يُتْلِفُهُ، وَإِنْ أَصَابَ الْمُتْلَفَ مِنْ فَوْرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ، إِذْ لَا يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ، وَالْمُتَسَبِّبُ لَا يَضْمَنُ إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى، بَيْنَمَا إِذَا أَرْسَلَ الدَّابَّةَ فَأَتْلَفَتْ أَمْوَالَ الْغَيْرِ عَلَى الْفَوْرِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِإِرْسَالِهَا فِي الطَّرِيقِ مَعَ إِمْكَانِ اتِّبَاعِهَا، إِلاَّ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا يُوسُفَ لَمْ يُفَرِّقْ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ بَيْنَ مَا يُتْلِفُهُ الْكَلْبُ بِإِرْسَالِهِ وَمَا تُتْلِفُهُ الدَّابَّةُ بِإِرْسَالِهَا.
هَذَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرْسَلَ طَيْرًا سَاقَهُ (أَيْ سَارَ خَلْفَهُ) أَوْ لَا، أَوْ أَرْسَلَ دَابَّةً أَوْ كَلْبًا وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ، أَوِ انْفَلَتَتْ دَابَّةٌ بِنَفْسِهَا فَأَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا نَهَارًا أَوْ لَيْلًا فَلَا ضَمَانَ فِي الْكُلِّ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» أَيِ الْمُنْفَلِتَةُ هَدَرٌ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
16-موسوعة الفقه الكويتية (إرسال 2)
إِرْسَالٌ -2أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرْسَلُ مَاءً، فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِحَالَةِ الْمَاءِ الْمُرْسَلِ وَطَبِيعَةِ الْأَرْضِ، فَلَوْ أَرْسَلَ مَاءً فِي أَرْضِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مَا أَرْسَلَهُ تَحْتَمِلُهُ أَرْضُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.وَإِنْ أَرْسَلَ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ كَانَ ضَامِنًا فَإِنْ سَقَى أَرْضَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ حَتَّى جَاوَزَ عَنْ أَرْضِهِ وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ أَسْفَلَ مِنْهُ طَرَحَ فِي النَّهْرِ تُرَابًا، فَمَالَ الْمَاءُ عَنِ النَّهْرِ حَتَّى غَرِقَ قَصْرُ إِنْسَانٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْسِلِ؛ لِأَنَّهُ أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ طَرَحَ التُّرَابَ فِي النَّهْرِ وَمَنَعَ الْمَاءَ عَنِ السَّيَلَانِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ.وَلَوْ فَتَحَ فُوَّهَةَ النَّهْرِ وَأَرْسَلَ مَاءً قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُهُ النَّهْرُ، فَدَخَلَ الْمَاءُ مِنْ فَوْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَرْضِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
هَذَا، وَمِمَّا يَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ هُوَ أَنْ نَذْكُرَ الدَّلِيلَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي مُوَافَقَتِهِمْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْمُتْلَفِ لَيْلًا لَا نَهَارًا، وَالدَّلِيلُ هُوَ رِوَايَةُ الْإِمَامِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ «أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ فَأَفْسَدَتْ- أَيْ مَا فِيهِ مِنْ أَمْوَالٍ- فَقَضَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَمَا أَفْسَدَتْ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ».
وَلِأَنَّ الْعَادَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاشِي إِرْسَالُهَا نَهَارًا لِلرَّعْيِ وَحِفْظُهَا لَيْلًا، وَعَادَةُ أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا نَهَارًا، فَإِذَا أَفْسَدَتْ شَيْئًا لَيْلًا كَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ إِنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، مِثْلَ مَا إِذَا لَمْ يَضُمَّهَا وَنَحْوَهُ لَيْلًا، أَوْ ضَمَّهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ.أَمَّا إِذَا ضَمَّهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ لَيْلًا فَأَخْرَجَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ فَتْحَ غَيْرُهُ عَلَيْهَا بَابَهَا فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، فَالضَّمَانُ عَلَى مُخْرِجِهَا أَوْ فَاتِحِ بَابِهَا؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ كَانَتْ بِيَدِهِ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ.ثُمَّ أَضَافَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا زَرْعٌ وَمَرَاعِي.أَمَّا الْقُرَى الْعَامِرَةُ الَّتِي لَا مَرْعَى فِيهَا إِلاَّ بَيْنَ مَرَاحَيْنِ كَسَاقِيَةٍ وَطُرُقِ زَرْعٍ فَلَيْسَ لَهُ إِرْسَالُهَا بِغَيْرِ حَافِظٍ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِتَفْرِيطِهِ.
وَقَدْ خَالَفَ الْحَنَابِلَةُ مَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَادَةَ تُرَاعَى فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِذْ قَالَ الْحَارِثِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ النَّوَاحِي رَبْطُهَا نَهَارًا وَإِرْسَالُهَا لَيْلًا وَحِفْظُ الزَّرْعِ لَيْلًا، فَالْحُكْمُ هُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى مَالِكِهَا فِيمَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا إِنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، لَا نَهَارًا.
ثُمَّ اسْتَطْرَدَ الْحَنَابِلَةُ فِي ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ أَنَّ الرَّجُلَ أَرْسَلَ صَيْدًا وَقَالَ: أَعْتَقْتُكَ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَرْسَلَ الْبَعِيرَ وَالْبَقَرَةَ، وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْبَهَائِمِ الْمَمْلُوكَةِ، إِذْ أَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ عَنْهَا بِذَلِكَ.
الْإِرْسَالُ فِي الْقَبْضِ وَالْعَزْلِ:
14- قَالَ السَّرَخْسِيُّ: (إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولًا يَقْبِضُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، وَرُؤْيَةُ الرَّسُولِ وَقَبْضُهُ لَا يُلْزِمُهُ الْمَتَاعَ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لِيَتِمَّ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَبَضَهُ لَهُ، فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا يَقْبِضُهُ فَرَآهُ الْوَكِيلُ وَقَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّلِ فِيهِ خِيَارٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رضي الله عنه-.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ (: لَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِعْلٌ، وَالرَّسُولُ وَالْوَكِيلُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْمُورٌ بِإِحْرَازِ الْعَيْنِ وَالْحَمْلِ إِلَيْهِ وَالنَّقْلِ إِلَى ضَمَانِهِ بِفِعْلِهِ، ثُمَّ خِيَارُهُ لَا يَسْقُطُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ فَكَذَلِكَ بِرُؤْيَةِ الْوَكِيلِ، وَكَيْفَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِرُؤْيَتِهِ وَهُوَ لَوْ أَسْقَطَ الْخِيَارَ نَصًّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ بِهِ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا قَبَضَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، وَقَاسَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ بِهِ.فَكَذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ.وَأَبُو حَنِيفَةَ- رضي الله عنه- يَقُولُ: التَّوْكِيلُ بِمُطْلَقِ الْقَبْضِ يُثْبِتُ لِلْوَكِيلِ وِلَايَةَ إِتْمَامِ الْقَبْضِ، كَالتَّوْكِيلِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يُثْبِتُ لِلْوَكِيلِ وِلَايَةَ إِتْمَامِهِ، وَتَمَامُ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ، وَلَا تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَيَضْمَنُ التَّوْكِيلُ بِالْقَبْضِ إِنَابَةَ الْوَكِيلِ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الرُّؤْيَةِ الْمُسْقِطَةِ لِخِيَارِهِ، وَبِخِلَافِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ إِلَيْهِ إِلاَّ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، فَأَمَّا إِتْمَامُ مَا أُرْسِلَ بِهِ فَلَيْسَ إِلَيْهِ، كَالرَّسُولِ بِالْعَقْدِ لَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ شَيْءٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ صِفَةَ الرِّسَالَةِ لِنَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَنَفَى الْوَكَالَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}.وَهَذَا بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ وَالْقَبْضِ، وَلِهَذَا مَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ رَدَّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً.وَلَوْ أَرْسَلَ إِلَى وَكِيلِهِ رَسُولًا بِعَزْلِهِ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ وَيَقُولُ: إِنِّي عَزَلْتُكَ عَنِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ كَائِنًا مَا كَانَ الرَّسُولُ، عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عِبَارَتُهُ مُعْتَبَرَةً، إِنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ، مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عَنْهُ، فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ.
الرُّجُوعُ عَنِ الْإِرْسَالِ:
15- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُرْسِلَ لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ صَحَّ رُجُوعُهُ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالرِّسَالَةِ لَا يَكُونُ وَفْقَ الْمُشَافَهَةِ، وَذَا مُحْتَمِلٌ لِلرُّجُوعِ، فَهَا هُنَا أَوْلَى، وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ الرَّسُولُ رُجُوعَ الْمُرْسِلِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا وَكَّلَ إِنْسَانًا ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَحْكِي كَلَامَ الْمُرْسِلِ وَيَنْقُلُهُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، فَكَانَ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا مَحْضًا، فَلَمْ يُشْتَرَطْ عِلْمُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنْ تَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ إِلَيْهِ، فَشَرَطَ عِلْمَهُ بِالْعَزْلِ، صِيَانَةً عَنِ التَّغْرِيرِ.
وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ شَخْصًا أَرْسَلَ صَدَقَةً مَعَ رَسُولِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَاسْتَرَدَّهَا مِنَ الطَّرِيقِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا مَاتَ الْمُرْسِلُ قَبْلَ وُصُولِهَا كَانَتْ تَرِكَةً لِوَرَثَتِهِ.
الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى التَّسْلِيطِ:
16- إِرْسَالُ كَلْبِ الصَّيْدِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُعَلَّمَةِ، إِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ يَنْطَلِقُ وَرَاءَ الصَّيْدِ بِإِرْسَالِ صَاحِبِهِ وَيَقِفُ بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ الصَّيْدُ مُبَاحَ الْأَكْلِ وَلَوْ لَمْ تُدْرَكْ ذَكَاتُهُ.
أَمَّا إِذَا انْطَلَقَ الْحَيَوَانُ الصَّائِدُ بِنَفْسِهِ فَصَادَ حَيَوَانًا، فَلَا يُؤْكَلُ إِلاَّ إِذَا أُدْرِكَتْ تَذْكِيَتُهُ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ إِنَّمَا صَادَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهِ.وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الصَّيْدِ فِي مُصْطَلَحِهِ.
رَابِعًا: الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ
17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ إِرْسَالِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ الَّذِي فِي يَدِهِ حَقِيقَةً إِذَا كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْرِمِ إِذَا صَادَهُ فِي الْحِلِّ وَدَخَلَ بِهِ الْحَرَمَ.أَمَّا إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ فَلَا يَجِبُ إِرْسَالُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي قَفَصٍ مَعَهُ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ.
وَأَمَّا صَاحِبُ كِتَابِ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ رَأْيًا مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ مِمَّا لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ مُتَقَدِّمٍ.إِذْ أَنَّهُ قَالَ بِعَدَمِ إِرْسَالِ الصَّيْدِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمُحْرِمِ، أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى رَأْيِهِ هَذَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- كَانُوا يُحْرِمُونَ وَفِي بُيُوتِهِمْ صُيُودٌ وَدَوَاجِنُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ إِرْسَالُهَا، ثُمَّ أَضَافَ قَائِلًا بِأَنَّ مَنْ أَرْسَلَ صَيْدَهُ فِي مَفَازَةٍ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ، وَقِيلَ إِذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيعُ، بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ لِأَنَّ إِضَاعَةَ الْمَالِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
17-موسوعة الفقه الكويتية (إشارة)
إِشَارَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْإِشَارَةُ لُغَةً: التَّلْوِيحُ بِشَيْءٍ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنَ النُّطْقِ، فَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى الشَّيْءِ بِالْكَفِّ وَالْعَيْنِ وَالْحَاجِبِ وَغَيْرِهَا.وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِكَذَا: أَبْدَى لَهُ رَأْيَهُ، وَالِاسْمُ الشُّورَى.
وَهِيَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ حَقِيقَةٌ فِي الْحِسِّيَّةِ، وَتُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الذِّهْنِيَّةِ، كَالْإِشَارَةِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ عُدِّيَ «إِلَى» تَكُونُ بِمَعْنَى الْإِيمَاءِ بِالْيَدِ، وَنَحْوِهَا، وَإِنْ عُدِّيَ بِـ «عَلَى» تَكُونُ بِمَعْنَى الرَّأْيِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ مِثْلُهَا فِي اللُّغَةِ، وَيَسْتَعْمِلُهَا الْأُصُولِيُّونَ فِي مَبْحَثِ الدَّلَالَاتِ، وَيُعَرِّفُونَ دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ بِأَنَّهَا: دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَازِمٌ لَهُ.كَدَلَالَةِ قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ بِدُونِ ذِكْرِ الْمَهْرِ، لِأَنَّ صِحَّةَ الطَّلَاقِ فَرْعُ صِحَّةِ النِّكَاحِ.
أَمَّا عِبَارَةُ النَّصِّ فَهِيَ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَبَادَرُ فَهْمُهُ مِنْ صِيغَتِهِ، وَيَكُونُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِهِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الدَّلَالَةُ:
2- الدَّلَالَةُ: كَوْنُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ، كَدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْإِشَارَةِ.
ب- الْإِيمَاءُ:
3- الْإِيمَاءُ: مُرَادِفٌ لِلْإِشَارَةِ لُغَةً، وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ عَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ: إِلْقَاءُ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ بِخَفَاءٍ.
صِفَتُهَا (الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ):
4- الْإِشَارَةُ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي أَغْلَبِ الْأُمُورِ، لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ الْمُرَادَ كَالنُّطْقِ، وَلَكِنَّ الشَّارِعَ يُقَيِّدُ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ كَالنِّكَاحِ، فَإِذَا عَجَزَ إِنْسَانٌ عَنْهَا، أَقَامَ الشَّارِعُ إِشَارَتَهُ مَقَامَ نُطْقِهِ فِي الْجُمْلَةِ.
إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ:
5- إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، وَتَقُومُ مَقَامَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ فِيمَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْعِبَارَةِ، إِذَا كَانَتْ مَعْهُودَةً فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْحُلُولِ: كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْإِبْرَاءِ.وَغَيْرِ ذَلِكَ كَالْأَقَارِيرِ- مَا عَدَا الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ، فَفِيهِ خِلَافٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا- وَالدَّعَاوَى وَالْإِسْلَامُ.وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا نَعْلَمُ، وَفِي اللِّعَانِ وَالْقَذْفِ خِلَافٌ.فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ فِيهِمَا، لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ شُبْهَةً يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ كَنُطْقِهِ فِيهِمَا.
وَلَا فَرْقَ فِي اعْتِبَارِ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ، أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَرَسُ أَصَالَةً أَوْ طَارِئًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَنُقِلَ عَنِ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّمَا تُعْتَبَرُ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّهَا أَضْبَطُ.وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ وَكِتَابَتِهِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِقَبُولِ إِشَارَتِهِ الْعَجْزُ عَنِ الْكِتَابَةِ.
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِقَبُولِ إِشَارَتِهِ مَا يَلِي:
أ- أَنْ يَكُونَ قَدْ وُلِدَ أَخْرَسَ، أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ وَدَامَ حَتَّى الْمَوْتِ.وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي هَذَا مِنَ الْحَرَجِ مَا فِيهِ، وَقَدَّرَ التُّمُرْتَاشِيُّ الِامْتِدَادَ لِسَنَةٍ.وَفِي التَّتَارَخَانِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ وَدَامَ حَتَّى صَارَتْ إِشَارَتُهُ مَفْهُومَةً اُعْتُبِرَتْ إِشَارَتُهُ كَعِبَارَتِهِ وَإِلاَّ لَمْ تُعْتَبَرْ.
ب- أَلاَّ يَقْدِرَ عَلَى الْكِتَابَةِ.جَاءَ فِي تَكْمِلَةِ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: قَالَ الْكَمَالُ: قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِالْإِشَارَةِ، لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِمَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنَ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: بَلْ هَذَا الْقَوْلُ تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَفِي كَافِي الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ كَانَ الْأَخْرَسُ لَا يَكْتُبُ، وَكَانَ لَهُ إِشَارَةٌ تُعْرَفُ فِي طَلَاقِهِ، وَنِكَاحِهِ، وَشِرَائِهِ، وَبَيْعِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ شُكَّ فِيهِ فَهُوَ بَاطِلٌ.ثُمَّ قَالَ: فَيُفِيدُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لَا تَجُوزُ إِشَارَتُهُ
وَفِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ: أَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ لَيْسَ شَرْطًا لِلْعَمَلِ بِالْإِشَارَةِ.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي إِقَامَةِ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ مَقَامَ نُطْقِهِ مَسَائِلُ لَا تَقُومُ فِيهَا إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ مَقَامَ النُّطْقِ، مِنْهَا:
(1) إِذَا خَاطَبَ بِالْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ فِي الْأَصَحِّ.
(2) إِذَا نَذَرَ بِالْإِشَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ.
(3) إِذَا شَهِدَ بِالْإِشَارَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّ إِقَامَتَهَا مَقَامَ النُّطْقِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي شَهَادَتِهِ لِإِمْكَانِ شَهَادَةِ النَّاطِقِ.
((4 إِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا فَكَلَّمَهُ بِالْإِشَارَةِ لَا يَحْنَثُ.
(5) إِذَا حَلَفَ بِالْإِشَارَةِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ إِلاَّ فِي اللِّعَانِ.
إِقْرَارُ الْأَخْرَسِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ:
6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ إِقْرَارِ الْأَخْرَسِ بِالزِّنَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُدُودِ.فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ إِنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى بِإِشَارَتِهِ، قَالُوا: لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ الزِّنَى صَحَّ إِقْرَارُهُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَى، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَحْتَمِلُ مَا فُهِمَ مِنْهَا وَغَيْرُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (حُدُود، وَإِقْرَار).
إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ بِالْإِقْرَارِ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ:
7- إِشَارَتُهُ فِي ذَلِكَ مَقْبُولَةٌ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِي الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
تَقْسِيمُ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ:
8- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ بِحَيْثُ يَفْهَمُهَا كُلُّ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا فَهِيَ صَرِيحَةٌ.وَإِنْ كَانَ يَخْتَصُّ بِفَهْمِهَا ذَوُو الْفَطِنَةِ وَالذَّكَاءِ، فَهِيَ كِنَايَةٌ وَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا قَرَائِنُ.
وَتُعْرَفُ نِيَّةُ الْأَخْرَسِ فِيمَا إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ كِنَايَةً بِإِشَارَةٍ أُخْرَى أَوْ كِتَابَةٍ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَفْهَمْ إِشَارَتَهُ أَحَدٌ فَهِيَ لَغْوٌ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا تَكُونُ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ كِنَايَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُفْهِمَةً فَهِيَ صَرِيحَةٌ وَإِلاَّ فَلَغْوٌ.
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى قِسْمَةِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَتَفْصِيلُ مَا يَخُصُّ الْإِشَارَةَ فِي الطَّلَاقِ يَأْتِي فِي بَابِهِ.
إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
9- لِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ اتِّجَاهَانِ:
الْأَوَّلُ: يَجِبُ تَحْرِيكُ الْأَخْرَسِ لِسَانَهُ فِي تَكْبِيرِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ يَلْزَمُهُ النُّطْقُ بِتَحْرِيكِ لِسَانِهِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ الْآخَرُ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَخَرَجَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ التَّحْرِيكِ، تَحْرِيمُ تَحْرِيكِ الْأَخْرَسِ لِسَانَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَهُوَ جُنُبٌ.
الشَّهَادَةُ بِالْإِشَارَةِ:
10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ بِحَالٍ، وَإِنْ فَهِمَ إِشَارَتَهُ كُلُّ أَحَدٍ.لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ الْيَقِينُ، وَالْإِشَارَةُ لَا تَخْلُو عَنِ احْتِمَالٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تُقْبَلُ إِذَا كَانَتْ مُفْهِمَةً.
مُعْتَقَلُ اللِّسَانِ:
11- مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ صَوَّبَهُ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ أَنَّ مُعْتَقَلَ اللِّسَانِ- وَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ النَّاطِقِ وَالْأَخْرَسِ- إِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ النُّطْقِ فَهُوَ كَالْأَخْرَسِ، وَتَقُومُ إِشَارَتُهُ الْمُفْهِمَةُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ، فَإِنْ أَوْصَى بِالْإِشَارَةِ، أَوْ قُرِئَتْ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، وَأَشَارَ أَنْ «نَعَمْ» صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُعْتَقَلَ اللِّسَانِ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ.
إِشَارَةُ النَّاطِقِ:
12- مَنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا لِلنُّطْقِ فَفِي إِقَامَةِ إِشَارَتِهِ مَقَامَ النُّطْقِ اتَّجَهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَغْوٌ فِي الْجُمْلَةِ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ نَصَّ عَلَيْهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَقَامُوا فِيهَا الْإِشَارَةَ مَقَامَ النُّطْقِ.وَإِنَّمَا قَالُوا بِإِلْغَائِهَا، لِأَنَّهَا مَهْمَا قَوِيَتْ دَلَالَتُهَا فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ الَّذِي تُفِيدُهُ الْعِبَارَةُ، وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي اسْتَثْنَوْهَا:
أ- إِشَارَةُ الْمُفْتِي بِالْجَوَابِ.
ب- أَمَانُ الْكُفَّارِ، يَنْعَقِدُ بِالْإِشَارَةِ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ، فَلَوْ أَشَارَ الْمُسْلِمُ إِلَى الْكَافِرِ بِالْأَمَانِ، فَانْحَازَ إِلَى صَفِّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحِلَّ قَتْلُهُ.
ج- إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ فَرَدَّ بِالْإِشَارَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ.
د- الْإِشَارَةُ بِالْعَدَدِ فِي الطَّلَاقِ.
هـ- لَوْ أَشَارَ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ فَصِيدَ، حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ مِنْهُ.وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ الْإِشَارَةُ بِالْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ لِتَشَوُّفِ الشَّرْعِ إِلَى إِثْبَاتِهِ، وَبِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ.
الثَّانِي: أَنَّ إِشَارَةَ النَّاطِقِ مُعْتَبَرَةٌ كَنُطْقِهِ، مَا دَامَتْ مَفْهُومَةً بَيْنَ النَّاسِ وَمُتَعَارَفًا بَيْنَهُمْ عَلَى مَدْلُولِهَا.وَقَالُوا: إِنَّ التَّعَاقُدَ بِالْإِشَارَةِ أَوْلَى مِنَ التَّعَاقُدِ بِالْأَفْعَالِ (التَّعَاطِي)، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كَلَامٌ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ خَاصَّةً، دُونَ تَعْيِينِ الْمَنْكُوحَةِ أَوِ النَّاكِحِ.
تَعَارُضُ عِبَارَةِ النَّصِّ مَعَ إِشَارَتِهِ:
13- سَبَقَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِعِبَارَةِ النَّصِّ وَبِإِشَارَتِهِ (ر: ف 1)، فَإِذَا تَعَارَضَتْ عِبَارَةُ نَصٍّ وَإِشَارَةِ آخَرَ يُرَجَّحُ مَفْهُومُ الْعِبَارَةِ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
رَدُّ السَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ:
14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رَدِّ السَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ، فَرَخَّصَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي الرَّدِّ بِالْقَوْلِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ.وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ رَدَّهُ حَتَّى يَسْمَعَ.وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَرُدُّ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ.وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ بِالْقَوْلِ.فِي الصَّلَاةِ مُبْطِلٌ لَهَا.عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ التَّفْصِيلِ.
فَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الرَّدَّ بِالْإِشَارَةِ وَاجِبٌ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ.وَذَهَبَ الْأَحْنَافُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ رَدُّهُ بِالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ، وَلَا تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ، جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: رَدُّ السَّلَامِ بِيَدِهِ لَا يُفْسِدُهَا، خِلَافًا لِمَنْ عَزَا إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُفْسِدٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ نَقْلُهُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُرَدُّ بِالْإِشَارَةِ.وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا».
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ بِالْإِشَارَةِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بَعَثَنِي لِحَاجَةٍ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ وَهُوَ يَسِيرُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي فَقَالَ: إِنَّكَ سَلَّمْتَ عَلَيَّ آنِفًا وَأَنَا أُصَلِّي» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي».
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ إِلَيَّ إِشَارَةً».
الْإِشَارَةُ فِي التَّشَهُّدِ:
15- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي فِي التَّشَهُّدِ الْإِشَارَةُ بِسَبَّابَتِهِ، وَتُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ «الْمُسَبِّحَةَ» وَهِيَ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، وَيَرْفَعُهَا عِنْدَ التَّوْحِيدِ وَلَا يُحَرِّكُهَا لِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ «أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِذَا دَعَا، وَلَا يُحَرِّكُهَا» وَقِيلَ يُحَرِّكُهَا، لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ «أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم-: رَفَعَ أُصْبُعَهُ فَرَأَيْتُهُ يُحَرِّكُهَا» وَتَفْصِيلُ كَيْفِيَّةِ الْإِشَارَةِ مِنْ حَيْثُ عَقْدُ الْأَصَابِعِ أَوْ بَسْطُهَا، وَالتَّحْرِيكُ وَعَدَمُهُ يَأْتِي فِي (الصَّلَاةِ).
إِشَارَةُ الْمُحْرِمِ إِلَى الصَّيْدِ:
16- إِذَا أَشَارَ الْمُحْرِمُ إِلَى صَيْدٍ، أَوْ دَلَّ حَلَالًا عَلَيْهِ فَصَادَهُ حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُهُ.وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، «لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ اصْطِيَادِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا».وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ إِعَانَةٌ عَلَى قَتْلِهِ بِشَيْءٍ حَلَّ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُشِيرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بِدَلِيلِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ مِنْهُ، فَتَكُونُ جِنَايَةً عَلَى الصَّيْدِ بِتَفْوِيتِ الْأَمْنِ عَلَى وَجْهٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ، فَصَارَتْ كَالْقَتْلِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَا جَزَاءَ عَلَى الْمُشِيرِ، لِأَنَّ النَّصَّ عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِالْقَتْلِ.وَلَيْسَتِ الْإِشَارَةُ قَتْلًا.
الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ:
17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهَا عِنْدَ الطَّوَافِ، لِحَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما- قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ مُنْذُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- يَسْتَلِمُهُمَا».كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِلَامِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ».
وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِشَارَةِ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِلَامِ.فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِلَامِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ قِيَاسًا عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ.
التَّسْلِيمُ بِالْإِشَارَةِ:
18- لَا تَحْصُلُ سُنَّةُ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ بِالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ أَوِ الرَّأْسِ لِلنَّاطِقِ، وَلَا يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ عَنْهُ بِهَا.لِأَنَّ السَّلَامَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي جَعَلَ لَهَا الشَّارِعُ صِيَغًا مَخْصُوصَةً، لَا يَقُومُ مَقَامَهَا غَيْرُهَا، إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ صِيغَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ.وَتَكَادُ تَتَّفِقُ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِسْمَاعِ، وَلَا يَكُونُ الْإِسْمَاعُ إِلاَّ بِقَوْلٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ الْيَهُودِ، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ بِالْأَكُفِّ وَالرُّءُوسِ وَالْإِشَارَةِ».وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: «كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّسْلِيمَ بِالْيَدِ».يَعْنِي الصَّحَابَةَ ((.
أَمَّا الْأَصَمُّ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، وَغَيْرُ الْمَقْدُورِ عَلَى إِسْمَاعِهِ كَالْبَعِيدِ، فَالْإِشَارَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا سَلَّمَ عَلَى أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالسَّلَامِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ بِالْيَدِ.وَيَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ مِنَ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ، لِأَنَّهُ مَقْدُورُهُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّلَفُّظِ مَعًا.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سَلَام).
الْإِشَارَةُ فِي أَصْلِ الْيَمِينِ:
19- لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ النَّاطِقِ بِالْإِشَارَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ.أَمَّا الْأَخْرَسُ فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ يَمِينَهُ لَا تَنْعَقِدُ.وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ حَلَفَ، وَتَصِحُّ يَمِينُهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُفْهِمَةٍ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينُهُ، وَقَفَ حَتَّى تُفْهَمَ إِشَارَتُهُ.وَنَسَبَ الزَّرْكَشِيُّ هَذَا لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَيْمَانٌ).
إِشَارَةُ الْقَاضِي إِلَى أَحَدِ الْخُصُومِ:
20- لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَعْمَلَ أَعْمَالًا تُسَبِّبُ التُّهْمَةَ وَسُوءَ الظَّنِّ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، مِمَّا يُوهِمُ أَنَّهُ يُفَضِّلُهُ عَلَى خَصْمِهِ، كَالْإِشَارَةِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِالْيَدِ، أَوْ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالرَّأْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَبِّبُ انْكِسَارًا لِقَلْبِ الْخَصْمِ الْآخَرِ، وَقَدْ يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الدَّعْوَى وَالْيَأْسِ مِنَ الْعَدَالَةِ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَيَاعُ حَقِّهِ.
وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ قُضَاةِ الْبَصْرَةِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَا يَرْفَعُ عَلَى الْآخَرِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي النَّظَرِ وَالْإِشَارَةِ وَالْمَجْلِسِ».
إِشَارَةُ الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْجَانِي عَلَيْهِ:
21- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُحْتَضَرِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا، لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ عَلَى الْغَيْرِ بِالْمَالِ، فَلَا يُقْبَلُ ادِّعَاؤُهُ عَلَيْهِ بِالدَّمِ، وَلِأَنَّهُ مُدَّعٍ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ.لِحَدِيثِ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ» فَإِذَا لَمْ تُعْتَبَرْ أَقْوَالُهُ فَلَا تُقْبَلُ إِشَارَتُهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْمُحْتَضَرُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ: قَتَلَنِي فُلَانٌ عَمْدًا، ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا، فَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ بَعْدَ حَلِفِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ يَمِينَ الْقَسَامَةِ.
أَمَّا إِذَا قَالَ: قَتَلَنِي خَطَأً، فَفِي ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إِغْنَاءَ وَرَثَتِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ يُقْبَلُ، وَتَكُونُ مَعَهُ الْقَسَامَةُ، وَلَا يُتَّهَمُ، لِأَنَّهُ فِي حَالٍ يُصَدَّقُ فِيهِ الْكَاذِبُ، وَيَتُوبُ فِيهِ الْفَاجِرُ، فَمَنْ تَحَقَّقَ مَصِيرُهُ إِلَى الْآخِرَةِ وَأَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ فَلَا يُتَّهَمُ فِي إِرَاقَةِ دَمِ مُسْلِمٍ ظُلْمًا، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي هَذَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ غَلَبَةِ الظَّنِّ فِي صِدْقِ الشَّاهِدِ، وَالْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ عِنْدَ الْمَوْتِ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالنَّدَمُ عَلَى التَّفْرِيطِ.وَتَزَوُّدُهُ مِنْ دُنْيَاهُ قَتْلُ نَفْسٍ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَغَيْرُ الْمُعْتَادِ.
إِشَارَةُ الْمُحْتَضَرِ إِلَى تَصَرُّفَاتٍ مَالِيَّةٍ:
22- إِذَا كَانَ الْمُحْتَضَرُ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ فَلَا تُقْبَلُ إِشَارَتُهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى النُّطْقِ فَإِشَارَتُهُ تَقُومُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ.وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقَلَ اللِّسَانِ لَمْ تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ إِلاَّ فِي أَرْبَعٍ: الْكُفْرِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالنَّسَبِ، وَالْإِفْتَاءِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْإِشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ كَالنُّطْقِ مُطْلَقًا.وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ إِشَارَةَ الْمُحْتَضَرِ إِلَى تَصَرُّفٍ مَالِيٍّ كَعِبَارَتِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ أَمْ لَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
18-موسوعة الفقه الكويتية (اطراد)
اطِّرَادٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِاطِّرَادُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اطَّرَدَ الْأَمْرُ إِذَا تَبِعَ بَعْضُهُ بَعْضًا.يُقَالُ: اطَّرَدَ الْمَاءُ، وَاطَّرَدَتِ الْأَنْهَارُ إِذَا جَرَتْ.وَاطِّرَادُ الْوَصْفِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْوَصْفُ وُجِدَ الْحُكْمُ، وَذَلِكَ كَوُجُودِ حُرْمَةِ الْخَمْرِ مَعَ إِسْكَارِهَا، أَوْ لَوْنِهَا، أَوْ طَعْمِهَا، أَوْ رَائِحَتِهَا.وَلَا يَكُونُ الْوَصْفُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُطَّرِدًا مُنْعَكِسًا مَعَ كَوْنِهِ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، كَالْإِسْكَارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
كَمَا اسْتَعْمَلَ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ الِاطِّرَادَ بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ وَالذُّيُوعِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ لِلْعَادَةِ وَالْعُرْفِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعَكْسُ:
2- الْعَكْسُ فِي اللُّغَةِ: رَدُّ أَوَّلِ الشَّيْءِ عَلَى آخِرِهِ.يُقَالُ عَكَسَهُ عَكْسًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ.وَانْعَكَسَ الشَّيْءُ: مُطَاوِعُ عَكْسِهِ.وَالِانْعِكَاسُ فِي بَابِ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ كُلَّمَا انْتَفَى الْوَصْفُ انْتَفَى الْحُكْمُ، كَانْتِفَاءِ حُرْمَةِ الْخَمْرِ بِزَوَالِ إِسْكَارِهَا، أَوْ رَائِحَتِهَا، أَوْ أَحَدِ أَوْصَافِهَا الْأُخْرَى.وَيُقَالُ لَهُ: الْعَكْسُ أَيْضًا.وَعَلَيْهِ فَهُوَ ضِدُّ الِاطِّرَادِ.
ب- الدَّوَرَانُ:
3- فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الدَّوَرَانِ وَبَيْنَ الِاطِّرَادِ، فَخَصَّ الدَّوَرَانَ بِالْمُقَارَنَةِ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَالطَّرْدَ وَالِاطِّرَادَ بِالْمُقَارَنَةِ بِالْوُجُودِ فَقَطْ.
ج- الْغَلَبَةُ:
4- الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُطَّرِدِ وَالْغَالِبِ أَنَّ الْمُطَّرِدَ لَا يَتَخَلَّفُ، بِخِلَافِ الْغَالِبِ فَإِنَّهُ مُتَخَلِّفٌ فِي الْأَقَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُطَّرِدًا فِي الْأَكْثَرِ.
د- الْعُمُومُ:
5- اطِّرَادُ الْعُرْفِ أَوِ الْعَادَةِ غَيْرُ عُمُومِهِمَا، فَإِنَّ الْعُمُومَ مُرْتَبِطٌ بِالْمَكَانِ وَالْمَجَالِ، فَالْعُرْفُ الْعَامُّ عَلَى هَذَا: مَا كَانَ شَائِعًا فِي الْبُلْدَانِ، وَالْخَاصُّ مَا كَانَ فِي بَلَدٍ، أَوْ بُلْدَانٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ عِنْدَ طَائِفَةٍ خَاصَّةٍ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
أ- اطِّرَادُ الْعِلَّةِ:
6- ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى اعْتِبَارِ الِاطِّرَادِ فِي الْعِلَّةِ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِهَا الْمُعْتَبَرَةِ لِمَعْرِفَتِهَا، وَإِثْبَاتِهَا بِهَا لِإِفَادَتِهِ الظَّنَّ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، كَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيِّ مَسْلَكًا، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلِ مَوْطِنِهِ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.
ب- الِاطِّرَادُ فِي الْعَادَةِ:
7- ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ أَنَّ الْعَادَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ إِذَا اطَّرَدَتْ أَوْ غَلَبَتْ، وَلِذَا قَالُوا فِي الْبَيْعِ: لَوْ بَاعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَكَانَا فِي بَلَدٍ اخْتَلَفَتْ فِيهِ النُّقُودُ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ انْصَرَفَ الْبَيْعُ إِلَى الْأَغْلَبِ.
قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إِلَيْهِ..ثُمَّ تَسَاءَلَ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنِ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ، هَلْ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ؟ وَقَالَ: قَالَ فِي إِجَارَةِ الظَّهِيرِيَّةِ: وَالْمَعْرُوفُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْطًا.وَمُرَادُ ابْنِ نُجَيْمٍ مِنَ الِاطِّرَادِ فِي عِبَارَتِهِ الْأَخِيرَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الِاطِّرَادِ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ، بِدَلِيلِ تَصْرِيحِ ابْنِ نُجَيْمٍ نَفْسِهِ فِي عِبَارَتِهِ الْأُولَى، بِأَنَّ غَلَبَةَ الْعَادَةِ فِي حُكْمِ اطِّرَادِهَا.وَعِبَارَةُ السُّيُوطِيِّ فِي أَشْبَاهِهِ: «إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ إِذَا اطَّرَدَتْ فَإِنِ اضْطَرَبَتْ فَلَا»، ثُمَّ مَثَّلَ لِذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا وَأَطْلَقَ نُزِّلَ عَلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ، فَلَوِ اضْطَرَبَتِ الْعَادَةُ فِي الْبَلَدِ وَجَبَ الْبَيَانُ، وَإِلاَّ بَطَلَ الْبَيْعُ.فَتَقْيِيدُهُ النَّقْدَ بِالْغَالِبِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْغَلَبَةَ كَافِيَةٌ هُنَا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ، وَمُصْطَلَحِ (عَادَةٌ).
هَذَا، وَقَدْ يَحْدُثُ أَنْ يَطَّرِدَ الْعَمَلُ بِأَمْرَيْنِ، يَتَعَارَفُهُمَا النَّاسُ، قَدْ يَكُونَانِ مُتَضَادَّيْنِ، كَأَنْ يَتَعَارَفَ بَعْضُهُمْ قَبْضَ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَتَعَارَفَ بَعْضُهُمُ الْآخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ.مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ لِأَحَدِهِمَا، فَيُسَمَّى ذَلِكَ بِالْعُرْفِ الْمُشْتَرَكِ.
وَمَوْطِنُ تَفْصِيلِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى (الْعُرْفِ).
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8- يَذْكُرُ الْأُصُولِيُّونَ الِاطِّرَادَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، بِاعْتِبَارِهِ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِهَا، كَمَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ: «الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ».
وَذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ يَلْزَمُ فِيهِ اطِّرَادُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ فِي جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهِ، وَأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ الْمَجَازُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
19-موسوعة الفقه الكويتية (إيلاء 1)
إِيلَاءٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: الْحَلِفُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَمْ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، مَأْخُوذٌ مِنْ آلَى عَلَى كَذَا يُولِي إِيلَاءً وَأَلْيَةً: إِذَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ.
كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا غَضِبَ مِنْ زَوْجَتِهِ حَلَفَ أَلاَّ يَطَأَهَا السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، أَوْ أَلاَّ يَطَأَهَا أَبَدًا، وَيَمْضِي فِي يَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ لَوْمٍ أَوْ حَرَجٍ، وَقَدْ تَقْضِي الْمَرْأَةُ عُمْرَهَا كَالْمُعَلَّقَةِ، فَلَا هِيَ زَوْجَةٌ تَتَمَتَّعُ بِحُقُوقِ الزَّوْجَةِ، وَلَا هِيَ مُطَلَّقَةٌ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِرَجُلٍ آخَرَ، فَيُغْنِيهَا اللَّهُ مِنْ سَعَتِهِ.
فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَنْصَفَ الْمَرْأَةَ، وَوَضَعَ لِلْإِيلَاءِ أَحْكَامًا خَفَّفَتْ مِنْ أَضْرَارِهِ، وَحَدَّدَ لِلْمُولِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَأَلْزَمَهُ إِمَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى مُعَاشَرَةِ زَوْجَتِهِ، وَإِمَّا بِالطَّلَاقِ عَلَيْهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وَالْإِيلَاءُ فِي الِاصْطِلَاحِ- يُعَرِّفُهُ الْحَنَفِيَّةُ- أَنْ يَحْلِفَ الزَّوْجُ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا، أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى قُرْبَانِهَا أَمْرًا فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، أَوْ سِتَّةً، أَوْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَبَدًا، أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِي، أَوْ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ وَلَا يَذْكُرُ مُدَّةً، وَهَذِهِ صُورَةُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا صُورَةُ التَّعْلِيقِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ قَرُبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ إِطْعَامُ عِشْرِينَ مِسْكِينًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، فَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ شَيْئًا مِنْ هَذَا اعْتُبِرَ قَوْلُهُ إِيلَاءً.أَمَّا إِذَا امْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ بِدُونِ يَمِينٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِيلَاءً، وَلَوْ طَالَتْ مُدَّةُ الِامْتِنَاعِ حَتَّى بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، بَلْ يُعْتَبَرُ سُوءُ مُعَاشَرَةٍ يُتِيحُ لِزَوْجَتِهِ طَلَبَ الْفُرْقَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ قُرْبَانِهَا.وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ الزَّوْجُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَالنَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِيلَاءً؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ، وَالْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ يَمِينًا شَرْعًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ».
وَمِثْلُ هَذَا لَوْ عَلَّقَ الرَّجُلُ عَلَى قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ أَمْرًا لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، كَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ إِطْعَامِ مِسْكِينٍ، لَا يَكُونُ إِيلَاءً.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي حَلَفَ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ فِيهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يُعْتَبَرُ إِيلَاءً، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ لِلْإِيلَاءِ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ عَلَى مَا دُونَهَا إِيلَاءً فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ.
وَقَدْ وَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي أَنَّ الْإِيلَاءَ يَكُونُ بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِالتَّعْلِيقِ- الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَقَالُوا: الْإِيلَاءُ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ أَوِ الْعِتْقِ أَوِ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِيلَاءً؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ قَسَمٌ، وَالتَّعْلِيقَ لَا يُسَمَّى قَسَمًا شَرْعًا وَلَا لُغَةً، وَلِهَذَا لَا يُؤْتَى فِيهِ بِحَرْفِ الْقَسَمِ، وَلَا يُجَابُ بِجَوَابِهِ، وَلَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي بَابِ الْقَسَمِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ إِيلَاءً.
وَحُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ تَعْلِيقَ مَا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ يَمْنَعُ مِنْ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ خَوْفًا مِنْ وُجُوبِهِ، فَيَكُونُ إِيلَاءً كَالْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعْلِيقُ- وَإِنْ كَانَ لَا يُسَمَّى قَسَمًا شَرْعًا وَلُغَةً- وَلَكِنَّهُ يُسَمَّى حَلِفًا عُرْفًا.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْإِيلَاءَ يَكُونُ بِالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ هَذِهِ الْآرَاءِ وَأَدِلَّتُهَا فِي الْكَلَامِ عَنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ.
2- وَالْحِكْمَةُ فِي مَوْقِفِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ الْإِيلَاءِ هَذَا الْمَوْقِفَ: أَنَّ هَجْرَ الزَّوْجَةِ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَسَائِلِ تَأْدِيبِهَا، كَمَا إِذَا أَهْمَلَتْ فِي شَأْنِ بَيْتِهَا أَوْ مُعَامَلَةِ زَوْجِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَدْعِي هَجْرَهَا، عَلَّهَا تَثُوبَ إِلَى رُشْدِهَا وَيَسْتَقِيمَ حَالُهَا، فَيَحْتَاجُ الرَّجُلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَاتِ إِلَى الْإِيلَاءِ، يُقَوِّي بِهِ عَزْمَهُ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ تَأْدِيبًا لَهَا وَرَغْبَةً فِي إِصْلَاحِهَا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْمَشْرُوعَةِ.
فَلِهَذَا لَمْ تُبْطِلِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْإِيلَاءَ جُمْلَةً، بَلْ أَبْقَتْهُ مَشْرُوعًا فِي أَصْلِهِ؛ لِيُمْكِنَ الِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
رُكْنُ الْإِيلَاءِ:
3- رُكْنُ الْإِيلَاءِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُ الْإِيلَاءِ عَلَى وُجُودِهِ هُوَ: اللَّفْظُ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالَّذِي يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ: الْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ، وَهِيَ الْكِتَابَةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي يَبْقَى أَثَرُهَا، كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْوَرَقِ وَنَحْوِهِ.أَمَّا الْكِتَابَةُ غَيْرُ الْمُسْتَبِينَةِ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَبْقَى أَثَرُهَا، كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْهَوَاءِ، أَوْ عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ بِهَا الْإِيلَاءُ.
وَمِثْلُ الْكِتَابَةِ فِي ذَلِكَ الْإِشَارَةُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ النُّطْقِ بِالْعِبَارَةِ، كَالْأَخْرَسِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ.فَإِذَا كَانَ لِلْأَخْرَسِ إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ، يَعْرِفُ الْمُتَّصِلُونَ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْحَلِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، صَحَّ الْإِيلَاءُ بِهَا، كَمَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ.
شَرَائِطُ الْإِيلَاءِ:
4- شَرَائِطُ الْإِيلَاءِ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، مِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي رُكْنِ الْإِيلَاءِ، وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعًا، وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُلِ الْمُولِي، وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُدَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا:
أ- شَرَائِطُ الرُّكْنِ:
يُشْتَرَطُ فِي رُكْنِ الْإِيلَاءِ، وَهُوَ صِيغَتُهُ، ثَلَاثَ شَرَائِطَ:
الشَّرِيطَةُ الْأُولَى:
5- أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ صَالِحًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْإِيلَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ مَادَّةُ اللَّفْظِ دَالَّةً عَلَى مَنْعِ الزَّوْجِ مِنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً عُرْفًا، مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لَا أُوَاقِعُكِ، أَوْ لَا أُجَامِعُكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَيَنْقَسِمُ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْإِيلَاءِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
الْأَوَّلُ: صَرِيحٌ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْوَطْءِ لُغَةً وَعُرْفًا.
وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ إِيلَاءً مَتَى صَدَرَ عَنْ قَصْدٍ إِلَى التَّلَفُّظِ بِهِ بِدُونِ تَوَقُّفٍ عَلَى النِّيَّةِ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: إِنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْإِيلَاءَ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ لَا دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِيلَاءِ، فَإِرَادَةُ مَعْنًى آخَرَ خِلَافَهُ تَكُونُ إِرَادَةً مَحْضَةً بِدُونِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا، فَلَا تُعْتَبَرُ.
الثَّانِي: مَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، وَهُوَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ عُرْفًا، كَلَفْظِ الْقُرْبَانِ وَالِاغْتِسَالِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ، وَبِهِ وَرَدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ أَلاَّ يَغْتَسِلَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْهَا لَا يَكُونُ إِلاَّ عَنِ الْجِمَاعِ عَادَةً.
وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ إِيلَاءً فِي الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى النِّيَّةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ الْجِمَاعَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ هَذَا الِادِّعَاءُ فِي الْقَضَاءِ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ دِيَانَةً، أَيْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي وَرَدَ فِي عِبَارَتِهِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ نَوَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَتَكُونُ إِرَادَتُهُ صَحِيحَةً، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ يُخَالِفُ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ قَضَاءً، وَقُبِلَ مِنْهُ دِيَانَةً.
الثَّالِثُ: الْكِنَايَةُ، وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ وَغَيْرَهُ، وَلَمْ يَغْلِبِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجِمَاعِ عُرْفًا، كَمَا إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ: أَلاَّ يَمَسَّ جِلْدُهُ جِلْدَ زَوْجَتِهِ، أَوْ أَلاَّ يَقْرَبَ فِرَاشَهَا، أَوْ أَلاَّ يَجْمَعَ رَأْسَهُ وَرَأْسَهَا وِسَادَةٌ.
وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إِيلَاءً إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، فَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ: أَرَدْتُ تَرْكَ الْجِمَاعِ كَانَ مُولِيًا، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ تَرْكَ الْجِمَاعِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ وَفِي غَيْرِهِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا فَلَا يَتَعَيَّنُ الْجِمَاعُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ الْأَلْفَاظَ فِي ذَلِكَ تَنْقَسِمُ إِلَى صَرِيحَةٍ وَكِنَايَةٍ فَقَطْ.
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ:
6- أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ دَالَّةً عَلَى الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ لِلْحَالِ، وَيَتَحَقَّقُ هَذَا الشَّرْطُ بِخُلُوِّ الصِّيغَةِ مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ تَدُلُّ عَلَى التَّرَدُّدِ أَوِ الشَّكِّ.وَأَلاَّ تَكُونَ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَدَاةٍ مِنَ الْأَدَوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّأْخِيرِ وَالتَّسْوِيفِ، كَحَرْفِ السِّينِ أَوْ سَوْفَ؛ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ كَالرَّفْضِ مِنْ حَيْثُ الْحَكَمُ، وَالتَّأْخِيرُ وَعْدٌ بِإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَيْسَ إِنْشَاءً لَهُ فِي الْحَالِ، فَالْإِرَادَةُ فِي التَّصَرُّفِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْحَالِ، وَلَا يُوجَدُ التَّصَرُّفُ إِلاَّ بِإِرَادَةِ إِنْشَائِهِ فِي الْحَالِ.
فَمَنْ يَقُولُ لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ سَأَمْنَعُ نَفْسِي مِنْ مُوَاقَعَتِكِ، أَوْ سَوْفَ أَمْنَعُ نَفْسِي مِنْ مُعَاشَرَتِكِ، لَا يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ مَنْعِ نَفْسِهِ مِنَ الْمُوَاقَعَةِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
هَذَا، وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهُ هُنَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْجَزْمِ فِي الْإِرَادَةِ لِلْحَالِ لَا يُنَافِي جَوَازَ أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ مُعَلَّقَةً عَلَى حُصُولِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَوْ مُضَافَةً إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْإِيلَاءِ الْمُعَلَّقِ وَالْمُضَافِ مَقْطُوعٌ بِهَا، لَا تَرَدُّدَ فِيهَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْإِيلَاءَ الْمُعَلَّقَ لَمْ يَحْصُلِ الْجَزْمُ بِهِ مِنْ قِبَلِ الْمُولِي فِي الْحَالِ، بَلْ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَالْإِيلَاءُ الْمُضَافُ مَجْزُومٌ بِهِ فِي الْحَالِ، غَيْرَ أَنَّ ابْتِدَاءَ حُكْمِهِ مُؤَخَّرٌ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ قَدْ صَدَرَا بِإِرَادَةٍ جَازِمَةٍ فِي الْحَالِ.
الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ: صُدُورُ التَّعْبِيرِ عَنْ قَصْدٍ:
7- يَتَحَقَّقُ هَذَا الشَّرْطُ بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ النُّطْقَ بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِيلَاءِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ هَذِهِ الْإِرَادَةِ رَغْبَةٌ فِي الْإِيلَاءِ وَارْتِيَاحٌ إِلَيْهِ كَانَ الْإِيلَاءُ صَادِرًا عَنْ رِضًى وَاخْتِيَارٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ وُجِدَتِ الْإِرَادَةُ فَقَطْ، وَانْتَفَتِ الرَّغْبَةُ فِي الْإِيلَاءِ وَالِارْتِيَاحِ إِلَيْهِ لَمْ يَتَحَقَّقِ الرِّضَى، وَذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُكْرَهًا عَلَى الْإِيلَاءِ مِنْ زَوْجَتِهِ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ أَوِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوِ الْحَبْسِ الْمَدِيدِ، فَيَصْدُرُ عَنْهُ الْإِيلَاءُ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَا هُدِّدَ بِهِ لَوِ امْتَنَعَ، فَإِنَّ صُدُورَ الصِّيغَةِ مِنَ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ، لَكِنْ لَيْسَ عَنْ رِضًى وَاخْتِيَارٍ صَحِيحٍ.وَالْإِيلَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالِ- حَالِ الْإِكْرَاهِ- غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، وَإِلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» وَالْإِغْلَاقُ: الْإِكْرَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُغْلَقُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَيُقْفَلُ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَقَصْدُهُ، وَإِلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ يُحْمَلُ عَلَى النُّطْقِ بِالْعِبَارَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ، كَنُطْقِهِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهَا.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِيلَاءُ الْمُكْرَهِ مُعْتَبَرٌ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ الَّتِي سَيَأْتِي بَيَانُهَا؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ، نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ، وَأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَطَلَاقٌ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مَا يُقَرَّرُ فِي بَابَيِ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ.
وَقَدِ اسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إِلَى قِيَاسِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْهَازِلِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَصْدُرُ عَنْهُ صِيغَةُ التَّصَرُّفِ عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، لَكِنَّهُ لَا يُرِيدُ حُكْمَهَا، وَطَلَاقُ الْهَازِلِ وَيَمِينُهُ مُعْتَبَرَانِ، فَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ.
8- وَلَوْ صَدَرَتْ صِيغَةُ الْإِيلَاءِ مِنَ الزَّوْجِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ مُوجَبَهَا، بَلْ أَرَادَ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ- وَهَذَا هُوَ الْهَازِلُ- فَإِنَّ الْإِيلَاءَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» وَلِأَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلسَّبَبِ، وَهُوَ الصِّيغَةُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِحُكْمِهِ، وَأَنَّ تَرَتُّبَ الْأَحْكَامِ عَلَى أَسْبَابِهَا مَوْكُولٌ إِلَى الشَّارِعِ لَا إِلَى الْمُتَصَرِّفِ.
9- وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الْإِيلَاءِ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ الْإِيلَاءُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَصْلًا- وَهُوَ الْمُخْطِئُ- فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمُ اعْتِبَارِ إِيلَاءِ الْمُخْطِئِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ إِذَا قَصَدَ اللَّفْظَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ حُكْمُهُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، أَوْ قَصَدَ اللَّفْظَ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ حُكْمَهُ، وَالْمُخْطِئُ.لَمْ يَقْصِدِ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْإِيلَاءِ وَلَا حُكْمَهُ، فَلَا يَكُونُ الْإِيلَاءُ الصَّادِرُ مِنْهُ مُعْتَبَرًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْطِئِ إِلَى أَنَّ إِيلَاءَهُ لَا يُعْتَبَرُ دِيَانَةً، وَيُعْتَبَرُ قَضَاءً.وَمَعْنَى اعْتِبَارِهِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الدِّيَانَةِ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْإِيلَاءِ إِلاَّ الزَّوْجُ، كَانَ لَهُ أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِذَا سَأَلَ فَقِيهًا عَمَّا صَدَرَ مِنْهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِأَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، مَتَى عَلِمَ صِدْقَهُ فِيمَا يَقُولُ.فَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ وَرُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْقَاضِي حَكَمَ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ إِذَا اتَّصَلَ بِزَوْجَتِهِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَبِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ بِدُونِ مُعَاشَرَةٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَبْنِي أَحْكَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.وَلَوْ قَبِلَ فِي الْقَضَاءِ دَعْوَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ شَيْءٌ آخَرُ لَا نَفْتَحُ الْبَابَ أَمَامَ الْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يَقْصِدُونَ النُّطْقَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِيلَاءِ، ثُمَّ يَدَّعُونَ أَنَّهُ سَبْقُ لِسَانٍ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ- كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الطَّلَاقِ- أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَقْصِدِ النُّطْقَ بِصِيغَةِ الْإِيلَاءِ، بَلْ قَصَدَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الْإِيلَاءِ، فَزَلَّ لِسَانُهُ، وَتَكَلَّمَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِيلَاءِ لَا يَكُونُ إِيلَاءً فِي الْقَضَاءِ، كَمَا لَا يَكُونُ إِيلَاءً فِي الدِّيَانَةِ وَالْفَتْوَى.
وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَطَأِ: وَالْهَزْلِ وَالْإِكْرَاهِ، وَهُوَ أَنَّهُ فِي الْخَطَأِ لَا تَكُونُ الْعِبَارَةُ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الزَّوْجُ مَقْصُودَةً أَصْلًا، بَلِ الْمَقْصُودُ عِبَارَةٌ أُخْرَى، وَصَدَرَتْ هَذِهِ بَدَلًا عَنْهَا.وَفِي الْهَزْلِ: تَكُونُ الْعِبَارَةُ مَقْصُودَةً؛ لِأَنَّهَا بِرِضَى الزَّوْجِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلَكِنْ حُكْمُهَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُرِيدُ هَذَا الْحُكْمَ، بَلْ يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ هُوَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ.وَفِي الْإِكْرَاهِ: تَكُونُ الْعِبَارَةُ صَادِرَةً عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَلَكِنَّهُ اخْتِيَارٌ غَيْرُ سَلِيمٍ؛ لِوُجُودِ الْإِكْرَاهِ، وَهُوَ يُؤَثِّرُ فِي الْإِرَادَةِ، وَيَجْعَلُهَا لَا تَخْتَارُ مَا تَرْغَبُ فِيهِ وَتَرْتَاحُ إِلَيْهِ، بَلْ تَخْتَارُ مَا يَدْفَعُ الْأَذَى وَالضَّرَرَ.
أَحْوَالُ صِيغَةِ الْإِيلَاءِ:
10- الصِّيغَةُ الَّتِي يُنْشِئُ الزَّوْجُ الْإِيلَاءَ بِهَا تَارَةً تَصْدُرُ خَالِيَةً مِنَ التَّعْلِيقِ عَلَى حُصُولِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَتَارَةً تَصْدُرُ مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّعْلِيقِ عَلَى حُصُولِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَوِ الْإِضَافَةُ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ.
فَإِذَا صَدَرَتِ الصِّيغَةُ، وَكَانَتْ خَالِيَةً مِنَ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةِ، كَانَ الْإِيلَاءُ مُنَجَّزًا.وَإِنْ صَدَرَتْ، وَكَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّعْلِيقِ عَلَى حُصُولِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَانَ الْإِيلَاءُ مُعَلَّقًا.وَإِنْ صَدَرَتْ وَكَانَتْ مُضَافَةً إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَانَ الْإِيلَاءُ مُضَافًا.
وَعَلَى هَذَا فَالْإِيلَاءُ الْمُنَجَّزُ هُوَ: مَا كَانَتْ صِيغَتُهُ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُضَافَةٍ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَلَا مُعَلَّقَةً عَلَى حُصُولِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّنْجِيزِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَهَذَا يُعْتَبَرُ إِيلَاءً فِي الْحَالِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ بِمُجَرَّدِ صُدُورِهِ.
وَالْإِيلَاءُ الْمُعَلَّقُ هُوَ: مَا رُتِّبَ فِيهِ الِامْتِنَاعُ عَنْ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ عَلَى حُصُولِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، مِثْلِ (إِنْ) (وَإِذَا) (وَلَوْ) (وَمَتَى) وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ أَهْمَلْتِ شُئُونَ الْبَيْتِ، أَوْ يَقُولَ لَهَا: لَوْ كَلَّمْتِ فُلَانًا فَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالِ، لَا يُعْتَبَرُ مَا صَدَرَ عَنِ الرَّجُلِ إِيلَاءً قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ يَجْعَلُ وُجُودَ التَّصَرُّفِ الْمُعَلَّقِ مُرْتَبِطًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، فَفِي الْمِثَالِ الْمُتَقَدِّمِ لَا يَكُونُ الزَّوْجُ مُولِيًا قَبْلَ أَنْ تُهْمِلَ الْمَرْأَةُ فِي شُئُونِ الْبَيْتِ، أَوْ تُكَلِّمَ ذَلِكَ الشَّخْصَ، فَإِذَا أَهْمَلَتْ شُئُونَ الْبَيْتِ أَوْ كَلَّمَتْهُ صَارَ مُولِيًا، وَاحْتُسِبَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ الْإِهْمَالِ أَوِ التَّكْلِيمِ فَقَطْ، لَا مِنْ وَقْتِ قَوْلِ الزَّوْجِ. وَالْإِيلَاءُ الْمُضَافُ هُوَ: مَا كَانَتْ صِيغَتُهُ مَقْرُونَةً بِوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ يَقْصِدُ الزَّوْجُ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ عِنْدَ حُلُولِ هَذَا الْوَقْتِ، وَمِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الْآتِي، أَوْ يَقُولَ لَهَا: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ مِنْ غَدٍ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالِ، يُعْتَبَرُ مَا صَدَرَ عَنِ الرِّجَالِ إِيلَاءً مِنْ وَقْتِ صُدُورِ الْيَمِينِ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لَا تَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ سَبَبًا لِحُكْمِهِ، وَلَكِنَّهَا تُؤَخِّرُ حُكْمَهُ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ، فَفِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الْقَادِمِ يُعْتَبَرُ الزَّوْجُ مُولِيًا مِنْ زَوْجَتِهِ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي صَدَرَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّيغَةُ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الرَّجُلُ قَدْ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَلاَّ يُوَلِّيَ مِنْ زَوْجَتِهِ حُكِمَ بِحِنْثِهِ فِي هَذِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحِنِ الْوَقْتُ الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ الْيَمِينُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الصِّيغَةِ الْمُضَافَةِ، لَكِنْ لَوِ اتَّصَلَ بِزَوْجَتِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّهْرِ الَّذِي أَضَافَ الْإِيلَاءَ إِلَيْهِ لَا يُحْكَمُ بِحِنْثِهِ وَوُجُوبِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ لَا تُحْتَسَبُ إِلاَّ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الَّذِي أَضَافَ الْإِيلَاءَ إِلَيْهِ.
وَإِنَّمَا صَحَّ تَعْلِيقُ الْإِيلَاءِ وَإِضَافَتُهُ لِأَنَّهُ يَمِينٌ، وَالْيَمِينُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ وَالتَّعْلِيقَ.
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى كَلَامٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَبُولِ الْإِيلَاءِ لِلْإِضَافَةِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَوْرَدُوا مِنْ تَطْبِيقَاتِ الْإِيلَاءِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْإِيلَاءِ لِلْإِضَافَةِ.
ب- مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعًا:
11- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِيلَاءِ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعًا قِيَامُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا عِنْدَ حُصُولِ الْإِيلَاءِ أَوْ إِضَافَتِهِ إِلَى النِّكَاحِ.
أَمَّا قِيَامُ النِّكَاحِ حَقِيقَةً، فَيَتَحَقَّقُ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ الصَّحِيحِ، وَقَبْلَ حُصُولِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ، سَوَاءٌ أَدَخَلَ الرَّجُلُ بِزَوْجَتِهِ أَمْ لَمْ يَدْخُلْ.
وَأَمَّا قِيَامُهُ حُكْمًا، فَيَتَحَقَّقُ بِوُجُودِ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ تَكُونُ زَوْجَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا دَامَتِ الْعِدَّةُ، فَتَكُونُ مَحَلًّا لِلْإِيلَاءِ، كَمَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ، فَإِذَا أَقْسَمَ الزَّوْجُ أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ الَّتِي طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا مُدَّةً تَسْتَغْرِقُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ كَانَ مُولِيًا، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَالْمَرْأَةُ لَا تَزَالُ فِي الْعِدَّةِ، بِأَنْ كَانَتْ حَامِلًا، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ حَامِلٍ وَكَانَ طُهْرُهَا بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ يَمْتَدُّ طَوِيلًا، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُؤْمَرُ الرَّجُلُ بِالْفَيْءِ، فَإِنْ لَمْ يَفِئْ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي إِنِ امْتَنَعَ عَنِ الطَّلَاقِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَنْ أَثَرِ الْإِيلَاءِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَقَعُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ أُخْرَى. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ فِي أَثْنَائِهَا لَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْإِيلَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى، أَمْ بَائِنًا بَيْنُونَةً كُبْرَى؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ بِنَوْعَيْهِ يُزِيلُ رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَا يُبْقِي مِنْ آثَارِ الزَّوَاجِ شَيْئًا سِوَى الْعِدَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَحْكَامٍ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُطَلِّقِ قُرْبَانُ الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا بَائِنًا وَلَوْ كَانَتِ الْعِدَّةُ قَائِمَةً، فَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ الَّتِي طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا كَانَتْ يَمِينُهُ لَغْوًا فِي حُكْمِ الْبِرِّ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ وَلَمْ يَقْرَبْهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا طَلَاقٌ ثَانٍ.
أَمَّا فِي حُكْمِ الْحِنْثِ فَإِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ وَطِئَهَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ؛ لِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِمُوجِبِهَا، وَهُوَ عَدَمُ قُرْبَانِهَا، أَيْ أَنَّ حَلِفَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ إِيلَاءً، وَلَكِنَّهُ انْعَقَدَ يَمِينًا.
وَمِثْلُ هَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، وَأَطْلَقَ فِي يَمِينِهِ، أَوْ قَالَ: أَبَدًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مُولِيًا فِي حُكْمِ الْبِرِّ؛ لِعَدَمِ قِيَامِ النِّكَاحِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا عِنْدَ الْحَلِفِ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ الزَّوَاجِ، وَلَمْ يَقْرَبْهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا عِنْدَ حُصُولِ الْيَمِينِ، لَكِنْ لَوْ قَرَبَهَا بَعْدَ الزَّوَاجِ أَوْ قَبْلَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِهِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ قِيَامُ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ انْعِقَادِهِ فِي حَقِّ الْبِرِّ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ قِيَامُ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا إِضَافَةُ الْإِيلَاءِ إِلَى النِّكَاحِ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ أَجَازُوا إِضَافَةَ الطَّلَاقِ أَوْ تَعْلِيقَهُ عَلَى النِّكَاحِ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ زَوْجَةٌ، فَتَكُونُ مَحَلًّا لِلْإِيلَاءِ الْمُضَافِ إِلَى النِّكَاحِ، كَمَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا يَصِحُّ الْإِيلَاءُ الْمُضَافُ إِلَى النِّكَاحِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْإِيلَاءَ مِنَ الزَّوْجَةِ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي يُضَافُ الْإِيلَاءُ مِنْهَا إِلَى نِكَاحِهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً عِنْدَ حُصُولِ الْإِيلَاءِ، فَلَا يَكُونُ الْإِيلَاءُ مِنْهَا صَحِيحًا؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَحُكْمُ الشَّيْءِ لَا يَتَقَدَّمُهُ، كَالطَّلَاقِ وَالْقَسَمِ؛ وَلِأَنَّ الْمُدَّةَ تُضْرَبُ لِلْمُولِي لِقَصْدِهِ الْإِضْرَارَ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ قَبْلَ النِّكَاحِ لَمْ يَتَحَقَّقْ هَذَا الْقَصْدُ، فَأَشْبَهَ الْمُمْتَنِعَ بِغَيْرِ يَمِينٍ.
12- وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ بِالنِّكَاحِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّعْلِيقِ وَأَثَرِهِ فِي التَّصَرُّفِ الْمُعَلَّقِ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: التَّعْلِيقُ يُؤَخِّرُ انْعِقَادَ التَّصَرُّفِ الْمُعَلَّقِ سَبَبًا لِحُكْمِهِ حَتَّى يُوجَدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ.فَالتَّصَرُّفُ الْمُعَلَّقُ لَا وُجُودَ لَهُ عِنْدَ التَّكَلُّمِ بِالصِّيغَةِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمُ: التَّعْلِيقُ لَا يُؤَخِّرُ انْعِقَادَ التَّصَرُّفِ سَبَبًا لِحُكْمِهِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ حَتَّى يُوجَدَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ.
فَعِنْدَهُمُ التَّصَرُّفُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ مَوْجُودٌ عِنْدَ التَّكَلُّمِ بِالصِّيغَةِ، غَيْرَ أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا: مَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَالطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ لَا يُوجَدُ فِي رَأْيِهِمْ إِلاَّ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ، وَعِنْدَ تَحْقِيقِ الشَّرْطِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ، إِذْ هِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ زَوْجَةٌ، فَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِحُكْمِهِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ بِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً، فَلَمْ تَتَحَقَّقِ الْمَحَلِّيَّةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ.وَأَنَّ الْإِيلَاءَ كَالطَّلَاقِ فِي هَذَا الْحُكْمِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
20-موسوعة الفقه الكويتية (حوالة 4)
حَوَالَةٌ -4خَامِسًا: كَوْنُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ مَعْلُومًا:
أ- الْمَالُ الْمُحَالُ بِهِ:
78- اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَعْلُومِيَّةَ وَذَلِكَ لِمَا فِي الْجَهَالَةِ مِنَ الْغَرَرِ الْمُفْسِدِ لِكُلِّ مُعَاوَضَةٍ، وَالْحَوَالَةُ لَا تَخْلُو مِنْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، كَمَا سَلَفَ، فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِمَجْهُولٍ، كَالْحَوَالَةِ بِمَا سَيَثْبُتُ عَلَى فُلَانٍ.
وَلَا نِزَاعَ فِي هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: إِنَّ الْحَوَالَةَ اعْتِيَاضٌ، أَمْ قُلْنَا إِنَّهَا اسْتِيفَاءٌ، لِأَنَّ الْمَجْهُولَ يَمْتَنِعُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، كَمَا يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ وَإِيفَاؤُهُ لِمَا يُثِيرُهُ مِنْ نِزَاعٍ مُشْكِلٍ يَحْتَجُّ فِيهِ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ بِالْجَهَالَةِ احْتِجَاجًا مُتَعَادِلاً حَتَّى لَوْ كَانَتْ عَلَى شَخْصٍ مَا دُيُونٌ كَثِيرَةٌ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَهَا، فَقَالَ لِدَائِنِهِ: أَحَلْتُكَ عَلَى فُلَانٍ بِكُلِّ مَا لَكَ عَلَيَّ، لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ.
79- وَكَثِيرُونَ يُحَدِّدُونَ بِوُضُوحٍ كَيْفَ يَكُونُ الْمَالُ مَعْلُومًا هُنَا.وَمِنْ هَؤُلَاءِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِذْ يَقُولُونَ: (كُلُّ مَا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ): فَهُمْ إِذَنْ يَشْرِطُونَ مَعْلُومِيَّةَ قَدْرِهِ كَمِائَةِ ثَوْبٍ، وَمَعْلُومِيَّةَ جِنْسِهِ، كَقُطْنٍ أَوْ صُوفٍ، وَمَعْلُومِيَّةَ صِفَاتِهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا الْأَغْرَاضُ اخْتِلَافًا بَيِّنًا، أَيْ صِفَاتُهُ الضَّابِطَةُ، أَوْ كَمَا قَالُوا: (صِفَاتُهُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي السَّلَمِ) كَالطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَالرِّقَّةِ، وَالصَّفَاقَةِ، وَالنُّعُومَةِ وَالْخُشُونَةِ، وَاللَّوْنِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
وَذَلِكَ يَعْنِي عَدَمَ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِإِبِلِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُعْلَمُ إِلاَّ بِالسِّنِّ وَالْعَدَدِ وَهَذَا لَا يَكْفِي لِضَبْطِهَا الْمُعْتَبَرِ فِي السَّلَمِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ فِيهَا الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ مَنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِهَا وَعَلَيْهَا، كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ، وَعَلَيْهِ، خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَرْشُ مُوضِحَةٍ فَيُحِيلُ بِهَذِهِ عَلَى تِلْكَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ، اكْتِفَاءً بِالْعِلْمِ بِسِنِّهَا وَعَدَدِهَا، فَلَيْسَ الضَّبْطُ بِالصِّفَاتِ الْمَطْلُوبَةِ فِي السَّلَمِ إِذَنْ بِحَتْمٍ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْعِلْمِ بِالْمُحَالِ بِهِ، وَلِحَسْمِ مَا عَسَاهُ يَنْشَأُ مِنْ نِزَاعٍ يُعْتَبَرُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فِي السِّنِّ وَالْقِيمَةِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، كَمَا قَرَّرَهُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ (وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الضَّمَانِ أَنْ يُرَاعَى فِيمَا وَرَاءَ السِّنِّ وَالْعَدَدِ حَالُ غَالِبِ إِبِلِ الْبَلَدِ).
ب- الْمَالُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ:
80- يُصَرِّحُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِاشْتِرَاطِ مَعْلُومِيَّةِ الدَّيْنَيْنِ (الْمُحَالِ بِهِ، وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ) لَدَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْمُحِيلِ وَالْمُحَالِ.
وَلَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَصْرِيحًا بِاشْتِرَاطِ مَعْلُومِيَّةِ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ، وَلَكِنْ يُسْتَنْتَجُ مِنْ قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الِاشْتِرَاطُ.
سَادِسًا: كَوْنُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ ثَابِتًا قَبْلَ الْحَوَالَةِ:
أ- الْمَالُ الْمُحَالُ بِهِ:
81- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ ثُبُوتِ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الْحَوَالَةِ.وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسْلِفَ (يُقْرِضَ) شَخْصٌ آخَرَ نُقُودًا أَوْ طَعَامًا مَثَلاً، عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُسْلِفُ مِمَّنْ هُوَ مَدِينٌ لِلْمُسْتَلِفِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، إِذْ مِنَ الْوَاضِحِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُحَالَ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ إِلاَّ مَعَ الْحَوَالَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ يُصَرِّحُونَ، بِأَنْ لَا بَأْسَ أَنْ تَكْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ دَارَهُ بِدَيْنٍ لَكَ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ، وَتُحِيلَهُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُحِيلَ إِذَا أَحَالَ شَخْصًا غَيْرَ مَدِينٍ لَهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلْمُحِيلِ فَهِيَ وَكَالَةٌ جَرَتْ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ.
ب- الْمَالُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ:
82- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، ثُبُوتَ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحَوَالَةِ، وَفَرَّعَ الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ أَنَّ الْمَدِينَ لَوْ أَحَالَ عَلَى غَيْرِ مَدِينِهِ ثُمَّ أَعْطَى الْمُحَالَ عَلَيْهِ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَ الْحَوَالَةِ، فَأَفْلَسَ هَذَا أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ يَكُونُ لِلْمُحَالِ الْحَقُّ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ بِدَيْنِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا بِدَوْرِهِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِمَا كَانَ أَعْطَاهُ، لَكِنْ هَذَا هُوَ حُكْمُ الْحَمَالَةِ عِنْدَهُمْ، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ هِيَ مِنَ الْحَمَالَةِ وَإِعْطَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَقْضِي بِهِ لَا تَتَحَوَّلُ بِهِ هَذِهِ الْحَمَالَةُ إِلَى حَوَالَةٍ.
وَلَكِنْ الشَّافِعِيَّةُ يَنُصُّونَ عَلَى خِلَافِ هَذَا.
فَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: (فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ صِحَّةَ الْحَوَالَةِ- أَيْ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي- زَمَنَ الْخِيَارِ مُشْكِلٌ، إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا يَعْنِي الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ)، لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي، أُجِيبَ بِأَنَّ الْبَائِعَ إِذَا أَحَالَ فَقَدْ أَجَازَ، فَوَقَعَتِ الْحَوَالَةُ مُقَارِنَةً لِلْمِلْكِ وَذَلِكَ كَافٍ.
سَابِعًا: كَوْنُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ حَالًّا:
أ- الْمَالُ الْمُحَالُ بِهِ:
83- لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِدَيْنٍ لَمْ يَحِلَّ أَجَلُهُ بَعْدُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ قَدْ حَلَّ، إِذْ لَوْ لَمْ يَحِلَّ هُوَ أَيْضًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَلْزَمَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَيَنْضَافُ إِلَيْهِ مَحْذُورٌ آخَرُ هُوَ رِبَا النَّسَاءِ، إِنْ جَمَعَتِ الدَّيْنَيْنِ عِلَّةٌ رِبَوِيَّةٌ وَاحِدَةٌ.
هَكَذَا قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ بِإِطْلَاقِهَا هَذَا، عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَسْتَمِرَّ حُلُولُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ إِنْ كَانَ حَالًّا، فِي الْحَوَالَةِ بِمَالِ الْقَاصِرِ وَمَا شَاكَلَهَا مِنْ كُلِّ مَنْ تَجِبُ فِيهِ رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ لِصَاحِبِهِ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِهِ إِلَى أَجَلٍ إِبْرَاءٌ مُؤَقَّتٌ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ الَّذِي لَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ فِي مَالِ الْقَاصِرِ، وَقَدْ أَطْلَقَ أَبُو يُوسُفَ هُنَا، وَلَمْ يُفَصِّلْ تَفْصِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَيْنَ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِعَقْدِ الْأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ، فَيَجُوزُ تَأْجِيلُهُ، وَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِغَيْرِ عَقْدِهِمَا- كَالْإِرْثِ وَالْإِتْلَافِ- فَلَا يَجُوزُ.
(نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْمُحِيطِ) ثُمَّ قَالَ: وَكَذَا قَبُولُ الْحَوَالَةِ مِنَ الْمُتَوَلِّي أَيْ (نَاظِرِ الْوَقْفِ) فَهِيَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ لَيْسَتْ إِلاَّ تَطْبِيقًا جُزْئِيًّا لِلْأَصْلِ الْعَامِّ، الَّذِي لَا يُخْتَلَفُ عَلَيْهِ، فِي تَصَرُّفَاتِ الْوَلِيِّ مِنْ أَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِالْمَصْلَحَةِ (ر: ف 96).
ب- الْمَالُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ:
84- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ حُلُولَ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ حَالًّا.
ثَامِنًا: كَوْنُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ مِثْلِيًّا:
85- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ أَوِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَالُ مِثْلِيًّا، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- إِلَى صِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ الْقِيَمِيِّ أَوِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا لَهُ صِفَاتٌ ضَابِطَةٌ فَفِي ضَبْطِهِ بِهَا بَلَاغٌ، كَمَا لَا يُجَادِلُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ فِي بَابِ السَّلَمِ، فَيُقَاسُ الْقِيَمِيُّ الْمُنْضَبِطُ عَلَى الْمِثْلِيِّ مَا دَامَ كِلَاهُمَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَهُ صِفَاتٌ تَضْبِطُهُ تُضَافُ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ: كَالثِّيَابِ، وَالدَّوَابِّ- عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ- وَالصُّوفِ، وَالْقُطْنِ، وَالشَّعْرِ، وَالْأَخْشَابِ، وَالْأَحْجَارِ، وَالْحَدِيدِ، وَالرَّصَاصِ، وَالْبَلُّورِ، وَالزُّجَاجِ، وَالْفَخَّارِ وَالْوَرِقِ، وَالْكُتُبِ وَالْآلَاتِ مَا دَامَتْ ذَاتَ صِفَاتٍ ضَابِطَةٍ كَإِنْتَاجِ مَصْنَعٍ بِعَيْنِهِ.بَلْ لِمُجْتَهِدٍ أَنْ يَعْتَبِرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْأَخِيرَةَ حِينَئِذٍ مِنْ قَبِيلِ الْمِثْلِيِّ الَّذِي لَا تَفَاوُتَ فِيهِ يُذْكَرُ.
وَذَهَبَ قِلَّةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ مِثْلِيًّا، بَلْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَشْتَرِطُ خُصُوصَ الثَّمَنِيَّةِ وَلَا يَكْتَفِي بِمُطْلَقِ الْمِثْلِيَّةِ، فَلَا حَوَالَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلاَّ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُمَا فِي التَّعَامُلِ النَّقْدِيِّ.
وَالْمُرَادُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا بِالْمِثْلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ وَيَضْبِطُهُ الْوَصْفُ، كَالنُّقُودِ وَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ، فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِالْقِيَمِيِّ، وَهُوَ مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّمَطِ كَالثِّيَابِ الْمُتَفَاوِتَةِ، وَالْحَيَوَانِ، فَقَدْ يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ الْمِثْلِيِّ فِي الذِّمَّةِ، كَمَا لَوْ بِيعَ بِوَصْفٍ، أَوِ الْتَزَمَ صَدَاقًا، أَوْ بَدَلَ خُلْعٍ، وَلَكِنْ لَا يُحَالُ بِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَوَالَةِ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ دُونَ تَفَاوُتٍ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْمِثْلِيَّاتِ.
تَاسِعًا: كَوْنُ الْمَالَيْنِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ مُتَسَاوِيَيْنِ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً:
86- لَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ التَّسَاوِيَ بَيْنَ الْمَالَيْنِ الْمُحَالِ بِهِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ جِنْسًا أَوْ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِهِمْ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- الْمَالُ الْمُحَالُ بِهِ:
87- الْمُرَادُ بِالصِّفَةِ مَا يَشْمَلُ الْجُودَةَ وَالرَّدَاءَةَ، وَالْحُلُولَ وَالتَّأْجِيلَ، وَقَدْرَ الْأَجَلِ، لَا صِفَةَ التَّوَثُّقِ بِرَهْنٍ أَوْ ضَمَانٍ، بَلْ هَذِهِ تَسْقُطُ عَنْ كِلَا الدَّيْنَيْنِ بِمُجَرَّدِ الْحَوَالَةِ، لِأَنَّهَا بِمَثَابَةِ الْقَبْضِ، فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِنُقُودٍ فِضِّيَّةٍ عَلَى ذَهَبِيَّةٍ، أَوْ ذَهَبِيَّةٍ عَلَى فِضِّيَّةٍ، وَلَا بِقَمْحٍ عَلَى شَعِيرٍ، وَلَا بِضَأْنٍ عَلَى مَعْزٍ، وَلَا عَكْسِهِ، وَلَا بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ، مَثَلاً عَلَى عَشَرَةٍ، وَلَا بِعَشَرَةٍ عَلَى خَمْسَةٍ (نَعَمْ إِذَا كَانَ لَهُ عَشَرَةٌ عَلَى آخَرَ، فَأَحَالَ عَلَى خَمْسَةٍ مِنْهَا بِخَمْسَةٍ صَحَّتِ الْحَوَالَةُ لِتَحَقُّقِ الشَّرِيطَةِ)، وَلَا بِالْمَغْشُوشِ عَلَى الْخَالِصِ وَلَا بِالْخَالِصِ عَلَى الْمَغْشُوشِ، وَلَا بِحَالٍّ عَلَى مُؤَجَّلٍ، وَلَا بِمُؤَجَّلٍ عَلَى حَالٍّ، وَلَا بِمُؤَجَّلٍ إِلَى شَهْرٍ عَلَى مُؤَجَّلٍ إِلَى شَهْرَيْنِ وَلَا عَكْسِهِ.
وَلَكِنَّهَا تَصِحُّ بِمِائَةِ دِينَارٍ ذَهَبِيَّةٍ مِنْ نُقُودِ بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ مِائَةِ إِرْدَبٍّ مِنَ الْقَمْحِ الْهِنْدِيِّ، أَوْ مِائَةِ شَاةٍ مِنَ الضَّأْنِ التُّرْكِيِّ مَضْبُوطَةِ الْوَصْفِ سِنًّا وَلَوْنًا- وَمَا إِلَيْهَا- عَلَى مِائَةٍ مِثْلِهَا، وَالدَّيْنَانِ حَالاَّنِ، أَوْ مُؤَجَّلَانِ إِلَى أَجَلٍ وَاحِدٍ كَسَنَةٍ مَثَلاً.
وَالْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، أَنَّ الْحَوَالَةَ- سَوَاءٌ جَرَيْنَا عَلَى أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ أَوْ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ- عَقْدُ إِرْفَاقٍ يُقْصَدُ بِهِ الْإِيفَاءُ وَالِاسْتِيفَاءُ، لَا الِاسْتِرْبَاحُ وَالِاسْتِكْثَارُ، فَلَوْ أَذِنَ بِالتَّفَاوُتِ فِيهَا لَتَبَارَى الْمُتَعَامِلُونَ بِهَا، كُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَغْبِنَ الْآخَرَ، وَيُصِيبَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَتْرُكُ لَهُ، وَهَذَا خِلَافُ مَوْضُوعِهَا.ثُمَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَا يَشْتَرِطُونَ رِضَا الْمُحَالِ، كَيْفَ يُعْقَلُ إِجْبَارُهُ مَعَ اخْتِلَافِ الدَّيْنَيْنِ؟
وَمُبَالَغَةً فِي اتِّقَاءِ التَّفَاوُتِ مَنَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ صِحَّةَ الْحَوَالَةِ بِأَلْفٍ عَلَى شَخْصَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا مَدِينٌ لِلْمُحِيلِ بِأَلْفٍ عَلَى التَّضَامُنِ، عَلَى أَنْ يُطَالِبَ الْمُحَالُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَعُلِّلَ الْمَنْعُ بِأَنَّ الْمُحَالَ يَسْتَفِيدُ زِيَادَةً فِي الْمُطَالَبَةِ، إِذْ كَانَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ يُطَالِبُ وَاحِدًا، فَصَارَ بَعْدَهَا يُطَالِبُ اثْنَيْنِ.وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا يُخَالِفُهُ، وَيُصَحِّحُ هَذِهِ الْحَوَالَةَ، لِأَنَّ الْمُحَالَ، مَهْمَا اسْتَفَادَ مِنْ زِيَادَةِ مُطَالَبَةٍ، فَلَنْ يَأْخُذَ إِلاَّ قَدْرَ حَقِّهِ، وَمَا يَزَالُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مُتَأَرْجِحِينَ بَيْنَ هَذَيْنِ الرَّأْيَيْنِ: فَبَيْنَا يُصَحِّحُ الْبُلْقِينِيُّ وَالسُّبْكِيُّ الْأَوَّلَ، يَأْخُذُ الرَّمْلِيُّ الْكَبِيرُ بِالثَّانِي.
هَكَذَا قَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ، وَفْقَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُنَازِعُ فِي شَرِيطَةِ التَّسَاوِي فِي الصِّفَةِ إِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ لِمَصْلَحَةِ الْمُحَالِ، لِأَنَّ الْمُحِيلَ إِذَنْ مُتَبَرِّعٌ بِالزِّيَادَةِ عَلَى سَبِيلِ إِحْسَانِ الْقَضَاءِ.
88- وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ يُقَرِّرُهَا أَيْضًا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، (ر: ف 83)، بِاسْتِثْنَاءِ مَا تَفَرَّدَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ مَحَلَّ الْمَنْعِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ، أَوِ الْقِلَّةِ، وَالْكَثْرَةِ إِذَا لَمْ يَقْبِضَ الْمُحَالُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ قَبْلَ تُفَرِّقْهُمَا.
وَهَؤُلَاءِ جَمِيعًا يُحَاذُونَ الشَّافِعِيَّةَ فِي تَقْرِيرَاتِهِمُ الْآنِفَةِ الذِّكْرِ، حَتَّى إِنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ لِمَصْلَحَةِ الْمُحَالِ يَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى بَقَائِهِ كَمَا هُوَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالِكِيَّةُ يَعْكِسُونَ الْمَوْقِفَ: فَيَمْنَعُونَ التَّحَوُّلَ عَلَى الْأَعْلَى صِفَةً أَوِ الْأَكْثَرِ قَدْرًا، قَوْلاً وَاحِدًا، وَيَتَرَدَّدُونَ وَيَخْتَلِفُونَ فِي التَّحَوُّلِ عَلَى الْأَدْنَى أَوِ الْأَقَلِّ.
وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنْ لَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ مَعَ التَّفَاوُتِ فِي الْقَدْرِ، إِذَا وَقَعَتْ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْحَوَالَةِ بِالْبَاقِي، كَمَا لَوْ قَالَ الدَّائِنُ بِأَلْفٍ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَحِلْنِي عَلَى مَدِينِكَ فُلَانٍ بِالْبَاقِي، فَيَقُولُ: أَحَلْتُكَ وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا.
الِاسْتِعَاضَةُ فِي الْحَوَالَةِ:
89- الْمُرَادُ بِالِاسْتِعَاضَةِ أَنْ يَتَرَاضَى الْمُحَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بَعْدَ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِدَفْعِ عِوَضٍ عَنِ الْمُحَالِ بِهِ.
وَالِاسْتِعَاضَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَلَا نَصَّ فِيهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَا عَنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ.وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْجَوَازَ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْعِوَضَانِ رِبَوِيَّيْنِ، فَإِنْ كَانَا كَذَلِكَ وَجَبَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.
ب- الْمَالُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ:
90- سَلَفَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الشَّرِيطَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّيْنِ الْمُحَالِ بِهِ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ الْكَلَامُ هُنَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهِ، بَيْدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ هُنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ تُفَسَّرُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْوَاقِعِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (الْمُحِيلِ وَالْمُحَالِ)- أَيْ فِي رَأْيِهِمَا وَمَبْلَغِ عِلْمِهِمَا- وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَسَاوَى الدَّيْنَانِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُمَا جَهِلَا هَذَا التَّسَاوِيَ أَوْ جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا فَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ، وَكَذَلِكَ تَكُونُ الْحَوَالَةُ بَاطِلَةً إِذَا اعْتُقِدَ التَّسَاوِي، وَلَا تَسَاوِيَ، فِي الْحَقِيقَةِ. عَاشِرًا: قَبْضُ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ (إِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ سَلَمٍ أَوْ رِبَوِيًّا يُوَافِقُ الْمُحَالَ بِهِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا).
91- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ قَبْضِ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ رَأْسَ مَالِ سَلَمٍ أَوْ رِبَوِيًّا يُوَافِقُ الْمُحَالَ بِهِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، وَنَصُّ عِبَارَةِ السَّرَخْسِيِّ فِي مَبْسُوطِهِ: (وَلِأَنَّهُ- أَيْ دَيْنَ الْحَوَالَةِ- يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، حَتَّى لَوْ كَانَ بَدَلَ صَرْفٍ أَوْ سَلَمٍ لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ مَعَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ) كَمَا لَا يَجُوزُ مَعَ الْمُحِيلِ، وَيَبْطُلُ عَقْدُ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ بِافْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيَّةُ الْقَبْضَ هُنَا فِي حَوَالَةِ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ، لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى ضَرُورَتِهِ فِي حَالَةِ الصَّرْفِ خَاصَّةً وَعِبَارَتُهُمْ فِي عَقْدِ حَوَالَتِهِ: (لَا بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ قَبْلَ افْتِرَاقِ كَلَامِهِمْ، وَقَبْلَ طُولِ مَجْلِسِهِمْ، وَإِلاَّ فَسَدَ).
وَلَمْ يَتَرَدَّدِ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَفْضِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ وَلَوْ فِي الرِّبَوِيَّاتِ، لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ فِي الْحَوَالَةِ- بَعْدَ الْقَوْلِ بِهَا- لَيْسَ عَلَى سُنَنِ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ.وَنَصُّ عِبَارَةِ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا يَلِي: (هِيَ- أَيِ الْحَوَالَةُ- بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ رِبَوِيَّيْنِ)
أَمَّا فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، فَيَقُولُ الْبُجَيْرِمِيُّ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ الْمُعْتَمَدَةِ: (لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِمَا لَا يُعْتَاضُ عَنْهُ، وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ، كَدَيْنِ السَّلَمِ)، أَيْ مُسْلَمًا فِيهِ وَرَأْسُ مَالِ (أَيَّهُمَا كَانَ).
مَا لَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَوَالَةِ:
92- لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الدَّيْنَيْنِ فِي الْحَوَالَةِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا مِنْ قَرْضٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ ضَمَانٍ مَثَلاً، فَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ دَيْنَيِ الْحَوَالَةِ مِنْ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَالْآخَرُ دَيْنَ إِتْلَافٍ مَثَلاً.أَوْ أَحَدُهُمَا صَدَاقًا، وَالْآخَرُ بَدَلَ خُلْعٍ، أَوْ بَدَلَ قَرْضٍ، أَوْ أُجْرَةٍ.
كَمَا لَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ ثَابِتًا عَلَى الْمُحِيلِ ثُبُوتًا أَصْلِيًّا.فَالدَّيْنُ الَّذِي يَكُونُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ الْأَصِيلِ، كَمَا لَوْ كَانَ مِنْ حَوَالَةٍ أَوْ كَفَالَةٍ، تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ، بِأَنْ يُحِيلَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَوِ الْكَفِيلُ عَلَى مَدِينٍ لَهُ هُوَ.بَلْ يَجُوزُ أَيْضًا لِلْمُحَالِ أَنْ يُحِيلَ دَائِنَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلِلْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يُحِيلَ دَائِنَهُ عَلَى الْكَفِيلِ.
وَهَذَا فِي الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ، مَعَ زِيَادَةِ تَعَدُّدِ الْمُحَالِينَ مَعَ بَقَاءِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَاحِدًا.وَنَصُّ عِبَارَةِ الرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ هَكَذَا: (إِذَا أَحَلْتَ زَيْدًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ أَحَالَ عَمْرٌو زَيْدًا عَلَى بَكْرٍ، ثُمَّ أَحَالَ بَكْرٌ عَلَى آخَرَ، جَازَ.وَقَدْ تَعَدَّدَ الْمُحَالُ عَلَيْهِمْ وَزَيْدٌ الْمُحَالُ وَاحِدٌ.وَلَوْ أَحَلْتَ زَيْدًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ أَحَالَ زَيْدٌ بَكْرًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ أَحَالَ بَكْرٌ آخَرَ عَلَى عَمْرٍو جَازَ، وَالتَّعَدُّدُ هَاهُنَا فِي الْمُحْتَالِينَ، وَعَمْرٌو الْمُحَالُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ.وَلَوْ أَحَلْتَ زَيْدًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ ثَبَتَ لِعَمْرٍو عَلَيْكَ مِثْلُ ذَلِكَ الدَّيْنِ فَأَحَالَ زَيْدًا عَلَيْكَ جَازَ).
الْجَزَاءُ عَلَى تَخَلُّفِ إِحْدَى شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ (بُطْلَانُ الْحَوَالَةِ):
93- إِذَا عَدِمَتْ شَرَائِطُ انْعِقَادِ الْحَوَالَةِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا فَالنَّتِيجَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِقْهًا هِيَ بُطْلَانُهَا، أَيْ عَدَمُ انْعِقَادِهَا، جَزَاءً لِمُخَالَفَةِ تِلْكَ الشَّرَائِطِ.
وَهَذَا مَبْدَأٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الشَّرِيعَةِ وَلَا مَجَالَ لِلْخِلَافِ فِيهِ، وَإِلاَّ لَمْ يَبْقَ أَيَّةُ ثَمَرَةٍ لِشَرَائِطِ الِانْعِقَادِ (وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ لِلتَّعَاقُدِ مِمَّا يُسَمَّى الْيَوْمَ: نَظَرِيَّةَ الْعَقْدِ).
وَلَكِنْ قَدْ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ بَعْضِ الشَّرَائِطِ لِانْعِقَادِ الْحَوَالَةِ، فَمَنْ يَشْتَرِطُ لِانْعِقَادِ شَرِيطَةٍ مَا، يَحْكُمُ بِبُطْلَانِ الْحَوَالَةِ عِنْدَ فَقْدِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، وَيُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُهَا.
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْقَوَاعِدِ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِي النَّتِيجَةِ تَخَلُّفُ جَمِيعِ الْمُقَوِّمَاتِ وَشَرَائِطِ الِانْعِقَادِ وَتَخَلُّفُ بَعْضِهَا فَقَطْ، فَإِنَّ تَخَلُّفَ بَعْضِ الْعَنَاصِرِ الْأَسَاسِيَّةِ، كَتَخَلُّفِ الْكُلِّ مِنْ حَيْثُ النَّتِيجَةُ وَهِيَ الْبُطْلَانُ.
وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّهُ حَيْثُمَا يَتَقَرَّرُ بُطْلَانُ الْحَوَالَةِ فَإِنَّ هَذَا الْبُطْلَانَ يَسْتَتْبِعُ آثَارًا، إِذْ يَجِبُ فِيهِ عِنْدَئِذٍ نَقْضُ مَا قَدْ تَمَّ تَنْفِيذُهُ مِنَ الْعَقْدِ قَبْلَ تَقْرِيرِ بُطْلَانِهِ، ثُمَّ رَدُّ مَا يَسْتَلْزِمُ هَذَا النَّقْضُ رَدَّهُ مِمَّا قُبِضَ دُونَ حَقٍّ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ فِي التَّعَاقُدِ.
وَسَيَأْتِي فِي آثَارِ الْحَوَالَةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا أَنَّ الْحَوَالَةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي نَفَذَتْ بِدَفْعِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِلَى الْمُحَالِ دَيْنَ الْحَوَالَةِ يَتَرَتَّبُ فِيهَا لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ.
غَيْرَ أَنَّهُمْ فِي الْحَوَالَةِ الْبَاطِلَةِ أَوِ الْفَاسِدَةِ قَدْ أَعْطَوُا الْمُحَالَ عَلَيْهِ الْخِيَارَ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ أَوْ عَلَى الْمُحَالِ الْقَابِضِ، لِأَنَّهُ قَبَضَ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ نَظَرًا لِبُطْلَانِ الْحَوَالَةِ.
شَرَائِطُ النَّفَاذِ:
أَوَّلاً: بُلُوغُ الْمُحِيلِ وَالْمُحَالِ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ:
94- أ- يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِنَفَاذِ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُحِيلُ بَالِغًا، لِأَنَّ فِي الْحَوَالَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَمُعَاوَضَاتُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ لَا تَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ وَلِيِّهِ.فَحَوَالَتُهُ مُنْعَقِدَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِجَازَةِ.
وَالْبُلُوغُ شَرْطُ صِحَّةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
فَإِذَا كَانَ الْمُحِيلُ مُمَيِّزًا غَيْرَ بَالِغٍ فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَصَرُّفَاتِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ إِذَا بَاشَرَهَا بِنَفْسِهِ: أَتَكُونُ بَاطِلَةً، أَمْ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِ، إِنْ رَآهَا وَفْقَ مَصْلَحَتِهِ؟ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْلِيَّةٌ) وَ (صِغَرٌ).
ب- وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِنَفَاذِ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُحَالُ بَالِغًا، لِمَا قُلْنَاهُ فِي الْمُحِيلِ، وَلِذَا يَنْعَقِدُ احْتِيَالُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ وَلِيِّهِ، وَهَذِهِ الْإِجَازَةُ مَشْرُوطَةٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَمْلأَ مِنَ الْمُحِيلِ.
وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ يُوَافِقُ عَلَيْهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَيُخَالِفُ فِيهَا الْحَنَابِلَةُ، لِأَنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ رِضَا الْمُحَالِ، إِلاَّ عَلَى احْتِمَالٍ ضَعِيفٍ لِلْحَنَابِلَةِ.
ج- أَمَّا شَرِيطَةُ بُلُوغِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَسَبَقَ بَحْثُهَا كَشَرِيطَةِ انْعِقَادٍ أَثْنَاءَ بَحْثِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَشَرَائِطِهِ (ر: ف 62).
ثَانِيًا: وِلَايَةُ الْمُحَالِ عَلَى الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ:
95- يُشْتَرَطُ لِنَفَاذِ الْحَوَالَةِ أَنْ تَكُونَ لِلْمُحَالِ عَلَى الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ وِلَايَةٌ.فَالْفُضُولِيُّ لَا يَكُونُ مُحَالاً إِلاَّ بِإِجَازَةِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ، أَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنْ كَانَ وَكِيلاً بِالْقَبْضِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَالَ أَصْلاً، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وَكَالَتِهِ الِاسْتِيفَاءُ لَا الْإِبْرَاءُ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلاً فِي الْعَقْدِ فَفِي قَبُولِهِ حَوَالَةُ الثَّمَنِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ: جَوَّزَهَا مِنْهُ الطَّرَفَانِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، عَلَى الْأَمْلأَِ وَالْأَفْلَسِ مُطْلَقًا- وَيَضْمَنُ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إِبْرَاءٌ مُؤَقَّتٌ فَتُعْتَبَرُ بِالْمُطْلَقِ- وَمَنَعَهَا أَبُو يُوسُفَ.وَقَدْ أَجْرَى الْخِلَافَ فِي الْبَدَائِعِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ مُجَوِّزًا، وَالصَّاحِبَيْنِ مَانِعَيْنِ.
وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا: بِأَنَّ هَذِهِ الْحَوَالَةَ هِيَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْمُوَكِّلِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ كَتَصَرُّفِ الْأَجْنَبِيِّ.
وَاسْتَدَلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ: بِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبُولِهِ الْحَوَالَةَ إِنَّمَا تَصَرَّفَ بِالْإِبْرَاءِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ (وَهُوَ قَبْضُ الثَّمَنِ) بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ حُقُوقِ الْعَبْدِ الَّتِي تَعُودُ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، فَإِبْرَاؤُهُ الْمُشْتَرِيَ عَنِ الثَّمَنِ أَوْ قَبُولُهُ الْحَوَالَةَ بِهِ إِسْقَاطٌ لِحَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَالْإِبْرَاءِ تَمْنَعُ مُطَالَبَةَ الْمُحِيلِ، وَيَسْقُطُ بِذَلِكَ الثَّمَنُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي تَبَعًا لِسُقُوطِ حَقِّ الْقَبْضِ، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمُوَكِّلِ فِي الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ عِوَضُ مِلْكِهِ.وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي تَبَعًا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ مَعَ سُقُوطِ حَقِّ الْوَكِيلِ فِي قَبْضِهِ لَبَقِيَ دَيْنًا غَيْرَ قَابِلٍ لِلْقَبْضِ، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، كَمَا أَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ.فَلِذَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي تَبَعًا لِسُقُوطِ حَقِّ الْوَكِيلِ فِي قَبْضِهِ، وَلَكِنْ يَضْمَنُهُ الْوَكِيلُ لِلْبَائِعِ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِتَصَرُّفِهِ هَذَا قَدْ تَجَاوَزَ إِلَى حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ نَفْسُهُ حَيْثُ أَتْلَفَهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ قَبُولِ الْحَوَالَةِ بِهِ.
وَقَدْ لَخَصَّهُ فِي مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ بِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لِلْعَاقِدِ، وَالْحَوَالَةُ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ.وَاحْتِيَالُ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ، بِثَمَنِ الْمَبِيعِ بِالصُّورَةِ الْمَشْرُوحَةِ لَمْ نَجِدْ حُكْمَهُ مَنْصُوصًا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا النَّائِبُ الشَّرْعِيُّ عَنِ الصَّغِيرِ، وَلِيًّا كَانَ كَالْأَبِ أَوْ وَصِيًّا، فَلَا يَمْلِكُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَقَّ الِاحْتِيَالِ بِمَالِ هَذَا الصَّغِيرِ عَلَى مَا قَرَّرَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ بِإِطْلَاقِهِ، عَلَى خِلَافِ عَامَّةِ الْكُتُبِ.وَنَصُّ عِبَارَتِهِ: لَوِ احْتَالَ بِمَالِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، أَوِ الْيَتِيمِ الَّذِي تَحْتَ وِصَايَتِهِ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إِبْرَاءُ الْأَصِيلِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ فِي مَالِ الْقَاصِرِينَ.
96- وَأَمَّا احْتِيَالُ وَلِيِّ الْقَاصِرِ، كَأَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ بِدَيْنِهِ، فَلَمْ نَرَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى إِطْلَاقَ عَدَمِ جَوَازِهِ، كَمَا فَعَلَ السَّرَخْسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
بَلْ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ- كَمَا هُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ حَدِيثِ الْحَوَالَةِ- التَّصْرِيحُ بِصِحَّتِهَا بِشَرِيطَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنْ تَقْتَضِيَهَا مَصْلَحَةُ الْقَاصِرِ نَفْسِهِ- أَخْذًا مِنْ نَصِّ التَّنْزِيلِ الْحَكِيمِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}- دُونَ تَقَيُّدٍ بِأَيِّ قَيْدٍ آخَرَ.وَلِذَا أَبْطَلُوا احْتِيَالَهُ عَلَى مُفْلِسٍ سَوَاءٌ أَعُلِمَ إِفْلَاسُهُ أَمْ جُهِلَ، وَكَذَا احْتِيَالُهُ بِدَيْنٍ مُوَثَّقٍ عَلَيْهِ بِرَهْنٍ أَوْ ضَمَانٍ، لِمَا فِي انْفِكَاكِ الْوَثِيقَةِ مِنَ الضَّرَرِ الْبَيِّنِ بِالْقَاصِرِ.
وَقَدْ سُئِلَ السُّيُوطِيُّ عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ، فَمَاتَ الدَّائِنُ وَلَهُ وَرَثَةٌ فَأَخَذَ الْأَوْصِيَاءُ مِنَ الْمَدِينِ بَعْضَ الدَّيْنِ، وَأَحَالَهُمْ عَلَى آخَرَ بِالْبَاقِي فَقَبِلُوا الْحَوَالَةَ وَضَمِنَهَا لَهُمْ آخَرُ، فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لَهُمُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ أَمْ لَا
فَأَجَابَ: يُطَالِبُونَ الضَّامِنَ وَتَرِكَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ إِفْلَاسُهُمَا فَقَدْ بَانَ فَسَادُ الْحَوَالَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ لِلْأَيْتَامِ، فَيَرْجِعُونَ عَلَى الْمُحِيلِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُحِيلُ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَقِيرًا أَوْ مُمَاطِلاً، أَوْ مَخُوفَ الِامْتِنَاعِ بِسَطْوَةٍ أَوْ هَرَبٍ، أَوْ سَيِّئَ الْقَضَاءِ عَلَى أَيَّةِ صُورَةٍ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بِعَكْسِ ذَلِكَ كُلِّهِ فَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهَا أَصْلَحُ لِلْقَاصِرِ.
97- وَكَوْنُ احْتِيَالِ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى دَيْنِ الْحَوَالَةِ، هُوَ اتِّجَاهٌ فِقْهِيٌّ يُوجَدُ أَيْضًا عِنْدَ كَثِيرِينَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ.وَلَكِنِ الَّذِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ حَوَالَةَ الْفُضُولِيِّ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ بَاطِلَةٌ مِنْ أَصْلِهَا، فَلَا تَعُودُ بِالْإِجَازَةِ صَحِيحَةً.وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ، أُخِذَتْ مِنْ حَدِيثٍ ثَابِتٍ فِي بِيَاعَاتِ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ (الَّذِي اعْتَبَرَهُ حَسَنًا) وَنَصُّهُ: «لَا بَيْعَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ».وَطَرَدُوا هَذَا فِيمَا عَدَا الْبَيْعَ فَأَصْبَحَ قَاعِدَةً.وَمِثْلُهُ حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»..
ثَالِثًا: قَبُولُ الْمُحَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ:
98- (أ) قَبُولُ الْمُحَالِ- إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ الْمُنْشِئَيْنِ لِلْعَقْدِ- لَيْسَ شَرِيطَةَ انْعِقَادٍ إِلاَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَكْتَفِي بِرِضَا الْمُحَالِ، وَلَوْ خَارِجَ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ إِذْنَ شَرِيطَةِ نَفَاذٍ.وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخَذَتْ بِهِ مَجَلَّةُ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ فِي الْمَادَّةِ 683
(ب) وَرِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ- وَلَوْ خَارِجَ مَجْلِسِ الْعَقْدِ- شَرِيطَةَ نَفَاذٍ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ الثَّلَاثَةِ.
هَذَا، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ بِالتَّفْصِيلِ عَلَى فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْخِلَافِ الِاجْتِهَادِيِّ فِيهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.
أَحْكَامُ الْحَوَالَةِ:
99- إِذَا تَمَّتِ الْحَوَالَةُ بِأَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا آثَارُهَا الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَتْ، وَاعْتَرَتْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ أَحْكَامٌ عِدَّةٌ وَهِيَ:
أ- لُزُومُ الْحَوَالَةِ:
100- الْحَوَالَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ دُونَ خِلَافٍ، وَلَكِنْ قَبُولُهَا لِلْخِيَارَاتِ مَحَلُّ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُقِرُّونَ أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْخِيَارَاتِ إِلاَّ أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبَيْنِ مَنْ أَجَازَ فِيهَا خِيَارَ الْمَجْلِسِ- وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: (لَا يَجُوزُ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِ- أَيْ عَقْدِ الْحَوَالَةِ)- لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ عَلَى الْمُغَابَنَةِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ.وَفِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ، لِأَنَّهُ بَيْعٌ، فَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ كَالصُّلْحِ.
الثَّانِي: (وَهُوَ الْأَصَحُّ) لَا يَثْبُتُ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِبْرَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَهُوَ جَازِمٌ- كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ- بِعَدَمِ قَبُولِ الْحَوَالَةِ خِيَارَ الشَّرْطِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ لِلُزُومِ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ عَنْ عِوَضٍ مَالِيٍّ، فَإِذَا اخْتَلَّتِ الشَّرِيطَةُ لَمْ تَكُنِ الْحَوَالَةُ لَازِمَةً، وَعَنْهُمْ فِي بَعْضِ تَفْسِيرَاتِ الْمَذْهَبِ، أَنَّ يَسَارَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ الْعَقْدِ.
101- وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْحَوَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ فَسْخُهَا أَوْ إِبْطَالُهَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ يُشْرَطْ لَهُ الْخِيَارُ.وَمُدَّةُ خِيَارِ الشَّرْطِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَيَّةُ مُدَّةٍ تُعْلَمُ نِهَايَتُهَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.
وَقَدْ صَرَّحُوا بِجَوَازِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِمَنْ يَجِبُ رِضَاهُ فِي الْحَوَالَةِ، وَهُوَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُحَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ فَحَسْبُ، كَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُحَالِ أَوِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ كِلَيْهِمَا، فَبَدَا لِهَذَا أَوْ ذَاكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْعَقْدِ فَذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا قَدْ يَجْهَلُ صَاحِبُهُ بَعْضَ جَهَالَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ تَقَصِّي أَحْوَالِهِ يَبْدُو لَهُ أَنَّ هَذِهِ الْحَوَالَةَ لَيْسَتْ فِي مَصْلَحَتِهِ فَيُرَاجِعُ نَفْسَهُ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ.
وَقَدْ لَا يَجْهَلُ، وَلَكِنْ تَتَغَيَّرُ حَتَّى فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ الْقَصِيرَةِ، ظُرُوفُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِلَى أَسْوَأَ، أَوِ الْمُحِيلِ إِلَى أَفْضَلَ، أَوْ يَقَعُ التَّغَيُّرَانِ كِلَاهُمَا، فَيُؤْثِرُ الْمُحَالُ أَنْ يَعُودَ مِنْ حَيْثُ بَدَأَ.
أَمَّا الْمُحِيلُ فَشَرْطُ الْخِيَارِ لَهُ أَصَالَةً بَيِّنٌ جِدًّا، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ طَرَفٌ فِي الْعَقْدِ، فَقَدْ يَأْنَفُ بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ الرَّوِيَّةِ- أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ فُلَانٌ دَيْنَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَا صِلَةٍ خَاصَّةٍ بِالْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ ضَعْفًا، وَأَنَّ مَكَانَ الْمُحَالِ سَيَثْقُلُ عَلَيْهِ فَتَأْخُذُهُ بِهِ رَأْفَةٌ، وَيُعِيدُ الدَّيْنَ إِلَى نَفْسِهِ كَرَّةً أُخْرَى، ثِقَةً بِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى مُعَالَجَةِ صَاحِبِهِ.
وَانْفِسَاخُ الْحَوَالَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَمْرٍ عَارِضٍ كَالتَّوَى وَمَوْتِ الْمُحِيلِ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ أَوْ مُطْلَقًا- عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَهُمْ- لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ (ر: ف 138، 141).
102- وَقَدْ أَفَادَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ نَقْلاً عَنِ الْخُلَاصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: لَازِمَةٍ وَجَائِزَةٍ وَفَاسِدَةٍ.
فَاللاَّزِمَةُ: أَنْ يُحِيلَ الْمَدِينُ دَائِنَهُ عَلَى آخَرَ وَيَقْبَلَ الْحَوَالَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُقَيَّدَةً أَمْ مُطْلَقَةً.
وَالْجَائِزَةُ: أَنْ يُقَيِّدَهَا بِأَنْ يُعْطِيَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ مِنْ ثَمَنِ دَارِ نَفْسِهِ، فَلَا يُجْبَرُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ عَلَى الْبَيْعِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبِلَ الْحَوَالَةَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ عِنْدَ الْحَصَادِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ قَبْلَ الْأَجَلِ.
وَالْفَاسِدَةُ: أَنْ يُقَيِّدَ فِيهَا الْمُحَالُ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ مِنْ ثَمَنِ دَارِ الْمُحِيلِ، لِأَنَّهَا حَوَالَةٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ بَيْعُ دَارِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ بِهَذَا الشَّرْطِ لَا تَكُونُ تَوْكِيلاً بِبَيْعِ دَارِ الْمُحِيلِ.(أَيْ لِكَيْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
21-موسوعة الفقه الكويتية (خرس)
خَرَسٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْخَرَسُ مَصْدَرُ خَرِسَ، يُقَالُ: خَرِسَ الْإِنْسَانُ خَرَسًا، إِذَا مُنِعَ الْكَلَامَ خِلْقَةً، أَيْ خُلِقَ وَلَا نُطْقَ لَهُ.أَوْ ذَهَبَ كَلَامُهُ عِيًّا.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اعْتِقَالُ اللِّسَانِ:
2- الِاعْتِقَالُ: الْحَبْسُ، وَاعْتُقِلَ لِسَانُهُ: إِذَا حُبِسَ وَمُنِعَ الْكَلَامَ.وَالْمُعْتَقَلُ اللِّسَانِ وَسَطٌ بَيْنَ الْأَخْرَسِ وَالنَّاطِقِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَخْرَسِ:
إِسْلَامُ الْأَخْرَسِ:
3- يَصِيرُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِالْإِذْعَانِ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ، فَإِنْ كَانَ
عَاجِزًا عَنِ النُّطْقِ لِخَرَسٍ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى فِي إِسْلَامِهِ بِالْإِشَارَةِ مَعَ قِيَامِ الْقَرَائِنِ عَلَى أَنَّهُ أَذْعَنَ بِقَلْبِهِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ صِحَّةُ إِسْلَامِ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ، وَلَمْ أَرَ الْآنَ فِيهَا نَقْلًا صَرِيحًا.
وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ صَلَاةِ الْأَخْرَسِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ بِالْإِشَارَةِ.
جَاءَ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: يَصِحُّ إِسْلَامُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَقِيلَ: لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إِلاَّ إِذَا صَلَّى بَعْدَ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْأُمِّ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ، وَحَمْلُ النَّصِّ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْإِشَارَةُ مُفْهِمَةً.
تَكْبِيرُ الْأَخْرَسِ وَقِرَاءَتُهُ فِي الصَّلَاةِ:
4- تَشْتَمِلُ الصَّلَاةُ عَلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَمِنَ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ فَرْضٌ، كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالْقِرَاءَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ سُنَّةٌ كَالتَّكْبِيرَاتِ الْأُخْرَى.فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ النُّطْقِ لِخَرَسٍ تَسْقُطُ عَنْهُ الْأَقْوَالُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ تَحْرِيكِ لِسَانِهِ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- عَدَا الْقَاضِي- وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لَا يَجِبُ عَلَى الْأَخْرَسِ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ لِلصَّلَاةِ بِقَلْبِهِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ عَبَثٌ، وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ عَلَى الْأَخْرَسِ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ، وَشَفَتَيْهِ، وَلَهَاتِهِ بِالتَّكْبِيرِ قَدْرَ إِمْكَانِهِ، قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَهَكَذَا حُكْمُ تَشَهُّدِهِ، وَسَلَامِهِ، وَسَائِرِ أَذْكَارِهِ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ كَالْمَرِيضِ.
لَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَرَسِ الطَّارِئِ، أَمَّا الْخَرَسُ الْخِلْقِيُّ فَلَا يَجِبُ مَعَهُ تَحْرِيكُ شَيْءٍ.وَنَحْوُ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: إِنَّ تَحْرِيكَ لِسَانِ الْأَخْرَسِ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَالتَّلْبِيَةِ لَازِمٌ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، أَوْ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَأَمَّا بِالْقِرَاءَةِ فَلَا عَلَى الْمُخْتَارِ..
الِاقْتِدَاءُ بِالْأَخْرَسِ:
5- لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ النَّاطِقِ بِالْأَخْرَسِ وَلَوْ كَانَ النَّاطِقُ أُمِّيًّا؛ لِأَنَّ الْأَخْرَسَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأُمِّيِّ لِقُدْرَةِ الْأُمِّيِّ عَلَى التَّحْرِيمَةِ، وَعَجْزِ الْأَخْرَسِ
عَنِ الْإِتْيَانِ بِالتَّحْرِيمَةِ وَالْقِرَاءَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اقْتِدَاءِ الْأَخْرَسِ بِأَخْرَسَ مِثْلِهِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْأَخْرَسِ بِأَخْرَسَ مِثْلِهِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْعَجْزِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْأَخْرَسِ بِأَخْرَسَ مِثْلِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُحْسِنَ أَحَدُهُمَا مَا لَا يُحْسِنُهُ الْآخَرُ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا قُوَّةٌ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا أَحْسَن مَا لَا يُحْسِنُهُ الْآخَرُ.
إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ فِي الصَّلَاةِ:
6- مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ يُبْطِلُهَا، فَهَلْ تُعْتَبَرُ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ فِي الصَّلَاةِ مِثْلُ كَلَامِ النَّاطِقِ؟
فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي الصَّلَاةِ جَائِزَةٌ مِنَ النَّاطِقِ.
وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ الْإِشَارَةَ فِعْلًا لَا قَوْلًا، فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَا إِلاَّ إِذَا كَثُرَتْ عُرْفًا وَتَوَالَتْ.
وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، لِأَنَّ إِشَارَتَهُ كَالْكَلَامِ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ قَصَدَ الْكَلَامَ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ لَمْ تَبْطُلْ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ عِنْدَهُمْ بِالْإِشَارَةِ.
كَمَا قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: لَا بَأْسَ بِتَكْلِيمِ الْمُصَلِّي وَإِجَابَتِهِ بِرَأْسِهِ، كَمَا لَوْ طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ أُرِيَ دِرْهَمًا، وَقِيلَ: أَجَيِّدٌ؟ فَأَوْمَأَ بِنَعَمْ أَوْ لَا، أَوْ قِيلَ كَمْ صَلَّيْتُمْ؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ.
ذَبْحُ الْأَخْرَسِ وَصَيْدُهُ:
7- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالصَّيْدِ وَاجِبَةً أَوْ سُنَّةً.وَلَكِنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ عَلَى حِلِّ ذَبِيحَةِ الْأَخْرَسِ وَصَيْدِهِ مَعَ عَدَمِ تَسْمِيَتِهِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى النُّطْقِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنْ كَانَ الْمُذَكِّي أَخْرَسَ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَوْ أَشَارَ إِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى التَّسْمِيَةِ، وَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّسْمِيَةَ، كَانَ فِعْلُهُ كَافِيًا لِقِيَامِ إِشَارَتِهِ مَقَامَ نُطْقِهِ.
وَقَالُوا فِي الصَّيْدِ: لَا تُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ مِنَ الْأَخْرَسِ عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ وَالْجَارِحَةِ لِتَعَذُّرِهَا
مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِشَارَتِهِ بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الذَّكَاةِ لِقِيَامِ إِشَارَتِهِ مَقَامَ نُطْقِهِ.وَمَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ هُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
جَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ: الْأَخْرَسُ إِنْ كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ الْحِلُّ أَيْضًا، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَالرَّأْيُ الثَّانِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْمَجْنُونِ، وَبِهَذَا الرَّأْيِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ.
تَصَرُّفَاتُ الْأَخْرَسِ:
8- إِذَا كَانَ لِلْأَخْرَسِ إِشَارَةٌ مَعْلُومَةٌ مَفْهُومَةٌ، فَإِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الْعَقْدِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالضَّمَانِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَكَذَلِكَ فِي الْحُلُولِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ.
فَالْإِشَارَةُ تُعْتَبَرُ حُجَّةً فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ تَعَبَّدَ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ، فَإِذَا عَجَزَ الْأَخْرَسُ عَنِ الْعِبَارَةِ أَقَامَتِ الشَّرِيعَةُ إِشَارَتَهُ مُقَامَ عِبَارَتِهِ.
وَكَذَلِكَ تَقُومُ الْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ الْمَرْسُومَةُ- أَيِ الَّتِي تُكْتَبُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تَعَارَفَهُ النَّاسُ- مَقَامَ عِبَارَتِهِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ زِيَادَةُ بَيَانٍ.
وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ تَقْيِيدَاتٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِشَارَةٌ).
طَلَاقُ الْأَخْرَسِ:
9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ طَلَاقَ الْأَخْرَسِ بِإِشَارَتِهِ الْمُفْهِمَةِ يَقَعُ، وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّ إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ بِالطَّلَاقِ إِنْ فَهِمَ طَلَاقَهُ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ، فَصَرِيحَةٌ، وَإِنِ اخْتَصَّ بِفَهْمِ الطَّلَاقِ مِنْهَا بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فَهِيَ كِنَايَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ.
لِعَانُ الْأَخْرَسِ:
10- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ أَوْ كِتَابَتِهِ فِي اللِّعَانِ، وَقِيَامُهَا مَقَامَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ.
فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- إِنْ كَانَ لِلْأَخْرَسِ (زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً) إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ صَحَّ لِعَانُهُ بِالْإِشَارَةِ، كَمَا يَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ، وَيُكَرِّرُ الْإِشَارَةَ أَوِ الْكِتَابَةَ كَالنَّاطِقِ الَّذِي يُكَرِّرُ اللَّفْظَ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى لِعَانِ الْأَخْرَسِ أَوِ الْخَرْسَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى لِعَانِ النَّاطِقِ مِنْ أَحْكَامٍ، كَسُقُوطِ الْحَدِّ، وَنَفْيِ النَّسَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَوْ لَاعَنَ الْأَخْرَسُ بِالْإِشَارَةِ، أَوِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ انْطَلَقَ لِسَانُهُ فَتَكَلَّمَ فَأَنْكَرَ اللِّعَانَ، أَوْ قَالَ: لَمْ أُرِدْهُ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ فَيُطَالَبُ بِالْحَدِّ، وَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا لَهُ، فَلَا تَرْتَفِعُ الْفُرْقَةُ وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ، وَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ فِي الْحَالِ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ، وَلِنَفْيِ الْوَلَدِ إِنْ لَمْ يَفُتْ زَمَنُ النَّفْيِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يُقْبَلُ إِنْكَارُهُ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ مِنَ الْأَخْرَسِ أَوِ الْخَرْسَاءِ، لَا بِالْإِشَارَةِ وَلَا بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَفْظٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنَ الْأَخْرَسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَا أَخْرَسَيْنِ أَمْ أَحَدُهُمَا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ تَلَاعَنَ الزَّوْجَانِ وَهُمَا نَاطِقَانِ، ثُمَّ زَالَتْ أَهْلِيَّةُ اللِّعَانِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ بِخَرَسِهِمَا، أَوْ خَرَسِ أَحَدِهِمَا بَطَلَ اللِّعَانُ، وَلَا تَفْرِيقَ، وَلَا حَدَّ لِدَرْئِهِ بِالشُّبْهَةِ.
إِقْرَارُ الْأَخْرَسِ:
11- تُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ مِنَ الْأَخْرَسِ إِذَا كَانَتْ مَفْهُومَةً قَائِمَةً مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي إِقْرَارِهِ، وَكَذَا الْكِتَابَةُ مِنْهُ، وَيُؤْخَذُ بِذَلِكَ فِي كُلِّ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِمَا فِي ذَلِكَ الْقِصَاصُ.وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْقِصَاصَ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْأَخْرَسِ.
وَاخْتُلِفَ فِي إِقْرَارِ الْأَخْرَسِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْقَذْفِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ الْأَخْرَسَ يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُهُ كَالنَّاطِقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ احْتِمَالٌ لِكَلَامِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي- إِلَى أَنَّ الْأَخْرَسَ لَا تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ أَوْ كِتَابَتُهُ فِي إِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِكَوْنِهَا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ ف 54- 58، وَحَدٌّ، وَقِصَاصٌ).
شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْأَخْرَسِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ لَفْظِ الشَّهَادَةِ شَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا، وَلَا عِبَارَةَ لِلْأَخْرَسِ أَصْلًا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَوْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَقِينُ، وَلِذَلِكَ لَا يُكْتَفَى بِإِشَارَةِ النَّاطِقِ.
لَكِنْ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَدَّى الْأَخْرَسُ الشَّهَادَةَ بِخَطِّهِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ وَيُؤَدِّيهَا بِإِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ، فَإِذَا قَطَعَ الْحَاكِمُ بِفَهْمِ مَقْصُودِهِ مِنْ إِشَارَتِهِ حُكِمَ بِهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِلْمٌ يُؤَدِّيهِ الشَّاهِدُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِذَا فُهِمَ عَنْهُ بِطَرِيقٍ يُفْهَمُ عَنْ مِثْلِهِ قُبِلَتْ مِنْهُ، كَالنُّطْقِ إِذَا أَدَّاهَا بِالصَّوْتِ.
قَضَاءُ الْأَخْرَسِ وَفُتْيَاهُ:
13- النُّطْقُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ تَوَافُرُهَا فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَخْرَسَ لَا يُمْكِنُهُ النُّطْقُ بِالْحُكْمِ، وَلَا يَفْهَمُ جَمِيعُ النَّاسِ إِشَارَتَهُ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ عَدَا وَجْهٍ مُقَابِلٍ لِلصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ صِفَةَ النُّطْقِ شَرْطٌ فَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْأَخْرَسِ الْقَضَاءَ وَلَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ.وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ صِفَةَ النُّطْقِ وَاجِبًا غَيْرَ شَرْطٍ فِي الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ، وَلِذَا يَجِبُ عَزْلُهُ.لَكِنْ إِنْ وَقَعَ وَحُكِمَ نَفَذَ حُكْمُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ أَنَّ فِي وِلَايَةِ الْأَخْرَسِ عَلَى الْقَضَاءِ قَوْلًا آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ بِصِحَّتِهَا إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِفْتَاءِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ فَتْوَى الْأَخْرَسِ وَذَلِكَ حَيْثُ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ.
يَمِينُ الْأَخْرَسِ:
14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ فِي الْيَمِينِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الْأَيْمَانِ مِنَ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ إِذَا كَانَ يَفْهَمُ وَيُفْهَمُ عَنْهُ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُسْتَحْلَفُ الْأَخْرَسُ فَيَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لِهَذَا عَلَيْكَ هَذَا الْحَقُّ؟ وَيُشِيرُ الْأَخْرَسُ بِرَأْسِهِ: أَيْ نَعَمْ.
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالْإِشَارَةِ وَعَدَمِ انْعِقَادِهَا.
فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالْإِشَارَةِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، قَالَ: تُعْتَبَرُ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ فِي الدَّعَاوَى وَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا الْأَيْمَانُ إِلاَّ اللِّعَانُ.
وَصَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ كَنُطْقِهِ إِلاَّ فِي مَسَائِلَ، وَمِنْهَا: حَلَفَ بِالْإِشَارَةِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِانْعِقَادِ يَمِينِ الْأَخْرَسِ إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ فَقَدْ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَقِبَ كَلَامِهِ بِعَدَمِ الِانْعِقَادِ فَقَالَ: وَفِي الْبَيَانِ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله- فِي الْأُمِّ: إِنْ كَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَهُوَ أَخْرَسُ لَا تُفْهَمُ إِشَارَتُهُ وَقَفَ الْيَمِينُ إِلَى أَنْ تُفْهَمَ إِشَارَتُهُ، وَإِنْ سَأَلَ الْمُدَّعِي أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لَمْ تُرَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ نُكُولُهُ.
وَفِي حَاشِيَةِ الْجَمَلِ قَالَ: وَقَعَ لِلزَّرْكَشِيِّ فِي الْقَوَاعِدِ عَدَمُ انْعِقَادِ يَمِينِ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ خِلَافُهُ أَخْذًا مِمَّا صَرَّحُوا بِهِ فِي انْعِقَادِ لِعَانِهِ بِالْإِشَارَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ إِشَارَتَهُ مِثْلُ الْعِبَارَةِ إِلاَّ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: بُطْلَانُ الصَّلَاةِ فَلَا تَبْطُلُ بِالْإِشَارَةِ، وَالْحِنْثُ، وَالشَّهَادَةُ.
قَالَ الْجَمَلُ: ثُمَّ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا الرَّمْلِيَّ اعْتَمَدَ انْعِقَادَ يَمِينِهِ بِالْإِشَارَةِ.
وَاخْتَلَفَتْ أَيْضًا أَقْوَالُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ.فَفِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى الْحَلِفُ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ.
فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ يَمِينِ الْأَخْرَسِ ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ صَرَّحَ فِي الْفُرُوعِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ مِنْهُ كَالنِّيَّةِ.
وَصَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي بِانْعِقَادِ يَمِينِ الْأَخْرَسِ فَقَالَ: إِنْ تَوَجَّهَتْ يَمِينٌ عَلَى وَرَثَةٍ وَفِيهِمْ أَخْرَسُ مَفْهُومُ الْإِشَارَةِ حَلَفَ وَأُعْطِيَ حِصَّتَهُ، وَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ وَقَفَ حَقُّهُ. الْخَرَسُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ:
15- اللِّسَانُ آلَةُ الْكَلَامِ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِمَا يُفْقِدُهُ النُّطْقَ وَيَجْعَلُهُ أَخْرَسَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَطْعِ اللِّسَانِ، أَوْ بِضَرْبٍ يُؤَدِّي إِلَى ذَهَابِ الْكَلَامِ مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ.
وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَفِي مُوجِبِ ذَلِكَ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَدِيَةٌ).
الْجِنَايَةُ عَلَى لِسَانِ الْأَخْرَسِ:
16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ حُكُومَةَ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ لِعَدَمِ فَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ حُكُومَةُ عَدْلٍ تَشْرِيفًا لِلْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ جُزْءٌ مِنْهُ.وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَذْهَبَ بِقَطْعِهِ الذَّوْقُ، وَإِلاَّ فَفِيهِ الدِّيَةُ.
وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: إِنَّ فِيهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِي الْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا إِذَا طُمِسَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ إِذَا قُطِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ إِذَا نُزِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا ».
وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً أَوْ كَانَتْ عَمْدًا مِنْ نَاطِقٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مِنْ أَخْرَسَ عَلَى أَخْرَسَ عَمْدًا، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِذَا أُمِنَتِ السِّرَايَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِلْمُمَاثَلَةِ وَالتَّكَافُؤِ، وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَأْبَى ذَلِكَ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا قِصَاصَ عِنْدَهُمْ أَصْلًا فِي اللِّسَانِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
22-موسوعة الفقه الكويتية (سب)
سَبٌّالتَّعْرِيفُ:
1- السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا: الشَّتْمُ، وَهُوَ مُشَافَهَةُ الْغَيْرِ بِمَا يَكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ، كَيَا أَحْمَقُ، وَيَا ظَالِمُ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: هُوَ كُلُّ كَلَامٍ قَبِيحٍ، وَحِينَئِذٍ فَالْقَذْفُ، وَالِاسْتِخْفَافُ، وَإِلْحَاقُ النَّقْصِ، كُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي السَّبِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعَيْبُ:
2- الْعَيْبُ خِلَافُ الْمُسْتَحْسَنِ عَقْلًا، أَوْ شَرْعًا، أَوْ عُرْفًا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ السَّبِّ.
قَالَ الزَّرْقَانِيُّ: فَإِنَّ مَنْ قَالَ: فُلَانٌ أَعْلَمُ مِنَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ عَابَهُ، وَلَمْ يَسُبَّهُ.
ب- اللَّعْنُ:
3- اللَّعْنُ: هُوَ الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّهُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ السَّبُّ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَ الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ».
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَ الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ».
فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اللَّعْنَ بِالشَّتْمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: اللَّعْنُ أَبْلَغُ فِي الْقُبْحِ مِنَ السَّبِّ الْمُطْلَقِ.
ج- الْقَذْفُ:
4- يُطْلَقُ السَّبُّ وَيُرَادُ بِهِ الْقَذْفُ، وَهُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَى فِي مَعْرِضِ التَّعْيِيرِ، كَمَا يُطْلَقُ الْقَذْفُ وَيُرَادُ بِهِ السَّبُّ.
وَهَذَا إِذَا ذُكِرَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا.
فَإِذَا ذُكِرَا مَعًا لَمْ يَدُلَّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ.قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».
وَعِنْدَ التَّغَايُرِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقَذْفِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَبِالسَّبِّ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ إِنْ كَانَ السَّبُّ غَيْرَ مُكَفِّرٍ.
حُكْمُ السَّبِّ:
5- الْمُسْتَقْرِئُ لِصُوَرِ السَّبِّ يَجِدُ أَنَّهُ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الْآتِيَةُ:
أَوَّلًا: الْحُرْمَةُ: وَهِيَ أَغْلَبُ أَحْكَامِ السَّبِّ وَقَدْ يَكْفُرُ السَّابُّ، كَالَّذِي يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ يَسُبُّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَوِ الْمَلَائِكَةَ.
ثَانِيًا: الْكَرَاهَةُ: كَسَبِّ الْحُمَّى.
ثَالِثًا: خِلَافُ الْأَوْلَى: وَذَلِكَ إِذَا سَبَّ الْمَشْتُومُ شَاتِمَهُ بِقَدْرِ مَا سَبَّهُ بِهِ، عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
رَابِعًا: الْجَوَازُ: نَحْوَ سَبِّ الْأَشْرَارِ، وَسَبِّ السَّابِّ بِقَدْرِ مَا سَبَّ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
أَلْفَاظُ السَّبِّ:
6- مِنْ أَلْفَاظِ السَّبِّ قَوْلُهُ: كَافِرٌ، سَارِقٌ، فَاسِقٌ، مُنَافِقٌ، فَاجِرٌ، خَبِيثٌ، أَعْوَرُ، أَقْطَعُ، ابْنُ الزَّمِنِ، الْأَعْمَى، الْأَعْرَجُ، كَاذِبٌ، نَمَّامٌ.
وَمِنْ أَلْفَاظِ السَّبِّ مَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ قَائِلِهِ، نَحْوَ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَحَدِ أَنْبِيَائِهِ الْمُجْمَعِ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، أَوْ مَلَائِكَتِهِ، أَوْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي (رِدَّةٍ).
وَمِنْهَا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَهُوَ لَفْظُ السَّبِّ بِالزِّنَا، وَهُوَ الْقَذْفُ، وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي (قَذْفٍ).
وَمِنْهُ مَا يَقْتَضِي التَّعْزِيرَ، وَمِنْهُ مَا لَا يَقْتَضِي تَعْزِيرًا كَسَبِّ الْوَالِدِ وَلَدَهُ.
إِثْبَاتُ السَّبِّ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْزِيرِ:
7- يَثْبُتُ السَّبُّ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْزِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَجْرِي فِيهِ الْيَمِينُ وَيُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكْفِي شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ، أَوْ لَفِيفٌ مِنَ النَّاسِ.
وَاللَّفِيفُ: الْمُرَادُ بِهِ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُمْ.
حُكْمُ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى:
8- سَبُّ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ.
فَإِنْ وَقَعَ مِنْ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا حَلَالَ الدَّمِ.
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فَقَطْ فِي اسْتِتَابَتِهِ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رِدَّةٍ).
التَّعْرِيضُ بِسَبِّ اللَّهِ تَعَالَى:
9- التَّعْرِيضُ بِالسَّبِّ كَالسَّبِّ، صَرَّحَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، نَقَلَ حَنْبَلٌ: مَنْ عَرَّضَ بِشَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ الرَّبِّ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا.
سَبُّ الذِّمِّيِّ لِلَّهِ تَعَالَى:
10- لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي سَبِّ الذِّمِّيِّ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ سَبِّهِ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ حَيْثُ الْقَتْلُ، وَنَقْضُ الْعَهْدِ، وَيَتَّضِحُ الْحُكْمُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ سَبِّ الذِّمِّيِّ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
حُكْمُ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-:
سَبُّ الْمُسْلِمِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-:
11- إِذَا سَبَّ مُسْلِمٌ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ يَكُونُ مُرْتَدًّا.وَفِي اسْتِتَابَتِهِ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٍ).
سَبُّ الذِّمِّيِّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-:
12- لِلْعُلَمَاءِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ فِي حُكْمِ الذِّمِّيِّ إِذَا سَبَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-.
فَقِيلَ: إِنَّهُ يُنْقَضُ أَمَانُهُ بِذَلِكَ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْلِ الذِّمَّةِ).
وَيُقْتَلُ وُجُوبًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِهَذَا السَّبِّ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ إِسْلَامًا غَيْرَ فَارٍّ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ لَمْ يُقْتَلْ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.
قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ يُقْتَلْ إِذَا أَسْلَمَ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمَ الْأَصْلِيَّ يُقْتَلُ بِسَبِّهِ- عليه الصلاة والسلام-، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنْ أَجْلِ حَقِّ الْآدَمِيِّ، لِأَنَّا نَعْلَمُ بَاطِنَهُ فِي بُغْضِهِ وَتَنْقِيصِهِ بِقَلْبِهِ لَكِنَّا مَنَعْنَاهُ مِنْ إِظْهَارِهِ، فَلَمْ يَزِدْنَا مَا أَظْهَرَهُ إِلاَّ مُخَالَفَتَهُ لِلْأَمْرِ، وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَقَطَ مَا قَبْلَهُ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّا ظَنَنَّا بَاطِنَهُ بِخِلَافِ مَا بَدَا مِنْهُ الْآنَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِمُ انْتِقَاضَ الْعَهْدِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، انْتَقَضَ عَهْدُ السَّابِّ وَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ إِنْ لَمْ يَسْأَلِ الذِّمِّيُّ تَجْدِيدَ الْعَقْدِ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ نَبِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا الرُّسُلُ إِذِ النَّبِيُّ أَعَمُّ مِنَ الرَّسُولِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَالْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ تَخُصُّهُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ هُمُ الْمُتَّفَقُ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، أَمَّا مَنْ لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُمْ فَلَيْسَ حُكْمُ مَنْ سَبَّهُمْ كَذَلِكَ.وَلَكِنْ يُزْجَرُ مَنْ تَنَقَّصَهُمْ أَوْ آذَاهُمْ، وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ حَالِ الْقَوْلِ فِيهِمْ، لَا سِيَّمَا مَنْ عُرِفَتْ صِدِّيقِيَّتُهُ وَفَضْلُهُ مِنْهُمْ كَمَرْيَمَ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِاخْتِلَافِ غَيْرِنَا فِي نُبُوَّةِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَنَفْيِ الْيَهُودِ نُبُوَّةَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ.
التَّعْرِيضُ بِسَبِّ الْأَنْبِيَاءِ:
13- التَّعْرِيضُ بِسَبِّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَالتَّصْرِيحِ، ذَكَرَ ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ.
وَيُقَابِلُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّ التَّعْرِيضَ لَيْسَ كَالتَّصْرِيحِ.
وَقَدْ ذَكَرَ عِيَاضٌ- رحمه الله- (إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةَ الْفَتْوَى مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ التَّلْوِيحَ كَالتَّصْرِيحِ.
سَبُّ السَّكْرَانِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-:
14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّكْرَانِ إِذَا سَبَّ فِي سُكْرِهِ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، هَلْ يَكُونُ مُرْتَدًّا بِذَلِكَ؟ وَهَلْ يُقْتَلُ؟ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سُكْرٍ).
الْإِكْرَاهُ عَلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:
15- الْإِكْرَاهُ عَلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ سَبِّ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ إِكْرَاهًا عَلَى الْكُفْرِ، وَيَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ غَالِبًا فِي بَابِ الرِّدَّةِ أَوِ الْإِكْرَاهِ.
وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَقِيَّةٍ، رِدَّةٍ، إِكْرَاهٍ).
سَبُّ الْمَلَائِكَةِ:
16- حُكْمُ سَبِّ الْمَلَائِكَةِ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ حُكْمِ سَبِّ الْأَنْبِيَاءِ ( (.
قَالَ عِيَاضٌ- رحمه الله- (: وَهَذَا فِيمَنْ حَقَّقْنَا كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَخَزَنَةِ الْجَنَّةِ وَخَزَنَةِ النَّارِ وَالزَّبَانِيَةِ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَكَعِزْرَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ وَرِضْوَانَ، وَالْحَفَظَةِ، وَمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَّفَقِ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَلَيْسَ الْحُكْمُ فِي سَابِّهِمْ وَالْكَافِرِ بِهِمْ كَالْحُكْمِ فِيمَنْ قَدَّمْنَاهُ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ، وَلَكِنْ يُزْجَرُ مَنْ تَنَقَّصَهُمْ وَآذَاهُمْ، وَيُؤَدَّبُ حَسَبَ حَالِ الْمَقُولِ فِيهِمْ.
وَحَكَى الزَّرْقَانِيُّ عَنِ الْقَرَافِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ سَبَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِمْ.
قَتْلُ الْقَرِيبِ الْكَافِرِ إِذَا سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوِ الرَّسُولَ أَوِ الدِّينَ:
17- الْأَصْلُ أَنَّهُ يُكْرَهُ قَتْلُ الْقَرِيبِ الْكَافِرِ حَتَّى فِي الْغَزْوِ.لَكِنَّهُ إِنْ سَبَّ الْإِسْلَامَ أَوْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُبَاحُ لَهُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ «أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ- رضي الله عنه- قَتَلَ أَبَاهُ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: سَمِعْتُهُ يَسُبُّكَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ».
وَوَرَدَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِيكَ قَوْلًا قَبِيحًا فَقَتَلْتُهُ، فَلَمْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ».
سَبُّ نِسَاءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:
18- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ سَبَّ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- مِمَّا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ كُفْرٌ؛ لِأَنَّ السَّابَّ بِذَلِكَ كَذَّبَ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَنَّهَا مُحْصَنَةٌ.
أَمَّا إِنْ قَذَفَ سَائِرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِمِثْلِ ذَلِكَ فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِ قَذْفِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-.
أَمَّا إِنْ كَانَ السَّبُّ بِغَيْرِ الْقَذْفِ لِعَائِشَةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ صَرَّحَ الزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ السَّابَّ يُؤَدَّبُ، وَكَذَا الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَذْفِ وَبَيْنَ السَّبِّ بِغَيْرِ الْقَذْفِ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ السَّبَّ الْمُكَفِّرَ بِأَنَّهُ السَّبُّ بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ.وَمَنْ صَرَّحَ بِالْقَتْلِ بِالسَّبِّ فَإِنَّ عِبَارَتَهُ يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّهُ سَبٌّ هُوَ قَذْفٌ.
سَبُّ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ:
19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ دِينَ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ كَافِرًا، أَمَّا مَنْ شَتَمَ دِينَ مُسْلِمٍ فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا جَاءَ فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكْفُرَ مَنْ شَتَمَ دِينَ مُسْلِمٍ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ التَّأْوِيلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَخْلَاقُهُ الرَّدِيئَةُ وَمُعَامَلَتُهُ الْقَبِيحَةُ لَا حَقِيقَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْفُرَ حِينَئِذٍ.
قَالَ الْعَلاَّمَةُ عُلَيْشٌ: يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ بَعْضِ شِغْلَةِ الْعَوَامِّ كَالْحَمَّارَةِ وَالْجَمَّالَةِ وَالْخَدَّامِينَ سَبُّ الْمِلَّةِ أَوِ الدِّينِ، وَرُبَّمَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ قَصَدَ الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ، وَالْأَحْكَامَ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ كَافِرٌ قَطْعًا، ثُمَّ إِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُرْتَدٌّ.
فَإِنْ وَقَعَ السَّبُّ مِنَ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ سَبِّ اللَّهِ أَوِ النَّبِيِّ، ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
نُقِلَ عَنْ عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ الْيَهُودِيَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَعِيبُ الْإِسْلَامَ، وَتُؤْذِي النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَتُحَرِّضُ عَلَيْهِ فَقَتَلَهَا عَمْرُو بْنُ عَدِيٍّ الْخِطْمِيُّ.
قَالُوا: فَاجْتَمَعَ فِيهَا مُوجِبَاتُ الْقَتْلِ إِجْمَاعًا.
وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: يَجُوزُ قَتْلُهُ وَيُنْقَضُ عَهْدُهُ إِنْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ طَعْنًا ظَاهِرًا.
سَبُّ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-:
20- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ سَبُّ الصَّحَابَةِ ( (لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ».
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ فَاسِقٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُهُ، فَإِنْ وَقَعَ السَّبُّ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ مَذْهَبَانِ:
الْأَوَّلُ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا، قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ شَتَمَهُمْ بِمَا يَشْتُمُ بِهِ النَّاسُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِلًّا، نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ فِيمَنْ شَتَمَ صَحَابِيًّا الْقَتْلُ؟ فَقَالَ: أَجَبْنَ عَنْهُ، وَيُضْرَبُ.مَا أَرَاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ.
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، نَقَلَهُ الْبَزَّازِيُّ عَنِ الْخُلَاصَةِ: إِنْ كَانَ السَّبُّ لِلشَّيْخَيْنِ يَكْفُرُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمُتُونِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ قَالَ فِيهِمْ: كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ وَكُفْرٍ، وَقَصَرَ سَحْنُونٌ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ سَبَّ الْأَرْبَعَةَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا، وَهُوَ مُقَابِلُ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، ضَعَّفَهُ الْقَاضِي وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا، وَقِيلَ: وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ.
سَبُّ الْإِمَامِ:
21- يَحْرُمُ سَبُّ الْإِمَامِ، وَيُعَزَّرُ مَنْ سَبَّهُ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَسْتَوْفِي الْإِمَامُ التَّعْزِيرَ بِنَفْسِهِ.
وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ التَّعْرِيضَ بِالسَّبِّ كَالتَّصْرِيحِ.
سَبُّ الْوَالِدِ:
22- يَحْرُمُ سَبُّ الِابْنِ وَالِدَهُ، أَوِ التَّسَبُّبُ فِي سَبِّهِ، جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟، قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَ الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ».
وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُصَرِّحُ بِهَذِهِ الْكَبِيرَةِ وَالْبَعْضُ لَا يَذْكُرُهَا وَلَعَلَّهُ اعْتِمَادًا عَلَى وُرُودِهَا فِي السُّنَّةِ.
وَيُعَزَّرُ الْوَلَدُ فِي سَبِّ أَبِيهِ.
سَبُّ الِابْنِ:
23- لَا يُعَزَّرُ مَنْ سَبَّ وَلَدَهُ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ أَنَّ دَوَامَ سَبِّ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ بِحُكْمِ الْغَضَبِ يَجْرِي مَجْرَى الْفَلَتَاتِ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَةِ الْوَالِدِ.
هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يُحَدُّ فِي الْقَذْفِ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى لَا يُعَزَّرُ فِي الشَّتْمِ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْوَالِدَ يُعَزَّرُ فِي شَتْمِ وَلَدِهِ.
سَبُّ الْمُسْلِمِ:
24- سَبُّ الْمُسْلِمِ مَعْصِيَةٌ، وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ.قَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْرُمُ سَبُّ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ يُجَوِّزُ ذَلِكَ.رَوَيْنَا فِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ»، وَإِذَا سَبَّ الْمُسْلِمَ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ، وَحَكَى بَعْضُهُمُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَالتَّعْرِيضُ كَالسَّبِّ، وَهَذَا إِذَا وَقَعَ السَّبُّ بِشُرُوطِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
سَبُّ الذِّمِّيِّ:
25- سَبُّ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ مَعْصِيَةٌ، وَيُعَزَّرُ الْمُسْلِمُ إِنْ سَبَّ الْكَافِرَ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: سَوَاءٌ أَكَانَ حَيًّا، أَوْ مَيِّتًا، يَعْلَمُ مَوْتَهُ عَلَى الْكُفْرِ.
وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: التَّعْزِيرُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
النَّهْيُ عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ:
26- يَحْرُمُ سَبُّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لَا تَسُبُّوا آلِهَةَ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّوا إِلَهَكُمْ.
سَبُّ السَّابِّ قِصَاصًا:
27- أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِمَنْ سَبَّهُ أَحَدٌ أَنْ يَسُبَّهُ بِقَدْرِ مَا سَبَّهُ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ كَاذِبًا، وَلَا قَاذِفًا، نَحْوُ: يَا أَحْمَقُ، وَيَا ظَالِمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَحَدٌ عَنْهُمَا، قَالُوا: وَعَلَى الْأَوَّلِ إِثْمُ الِابْتِدَاءِ.
صَرَّحَ بِهَذَا فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ الْقِصَاصَ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ فِرْيَةٌ أَيْ قَذْفٌ.
وَلَا يُخَالِفُ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، قَالُوا: لَا تَأْدِيبَ إِذَا كَانَ فِي مُشَاتَمَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ نَالَ مِنْ صَاحِبِهِ.
وَجَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ خِلَافَ الْأَوْلَى.
اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ بِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ: «أَنَّ زَيْنَبَ لَمَّا سَبَّتْ عَائِشَةَ- رضي الله عنهما- قَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- سُبِّيهَا».
وَيَشْهَدُ لِقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ مَا وَرَدَ عَنْ «جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ لَا يَقُولُ شَيْئًا إِلاَّ صَدَرُوا عَنْهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: لَا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلَامُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ قَالَ.قُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا أَصَابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ، وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرَاءَ أَوْ فَلَاةٍ فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ رَدَّهَا عَلَيْكَ قَالَ قُلْتُ: اعْهَدْ إِلَيَّ، قَالَ: لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا وَلَا عَبْدًا وَلَا بَعِيرًا وَلَا شَاةً، قَالَ: وَلَا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ، إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ».
28- وَيُسْتَثْنَى مِمَّا تَقَدَّمَ عِدَّةُ صُوَرٍ أَهَمُّهَا:
1- سَبُّ الِابْنِ: فَلَا يُقْتَصُّ مِنْ أَبِيهِ إِذَا سَبَّهُ.
2- الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ: إِذَا سُبَّ فَلَا يَقْتَصُّ بِنَفْسِهِ.
3- الصَّائِمُ: إِذَا سَبَّهُ أَحَدٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسُبَّهُ، فَالسَّبُّ يُحْبِطُ أَجْرَ الصِّيَامِ.
يَقُولُ- صلى الله عليه وسلم-: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ».
سَبُّ الْأَمْوَاتِ:
29- قَالَ الْعُلَمَاءُ يَحْرُمُ سَبُّ مَيِّتٍ مُسْلِمٍ لَمْ يَكُنْ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا».
وَأَمَّا الْكَافِرُ، وَالْمُسْلِمُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، فَفِيهِ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ لِتَعَارُضِ النُّصُوصِ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: سَبُّ الْأَمْوَاتِ يَجْرِي مَجْرَى الْغِيبَةِ، فَإِنْ كَانَ أَغْلَبُ أَحْوَالِ الْمَرْءِ الْخَيْرَ وَقَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْفَلْتَةُ فَالِاغْتِيَابُ لَهُ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا مُعْلِنًا فَلَا غِيبَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ.
سَبُّ الدَّهْرِ:
30- وَرَدَتْ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِالنَّهْيِ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ، أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: أَنَا الدَّهْرُ، الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي لِي أُجَدِّدُهَا وَأُبْلِيهَا، وَآتِي بِمُلُوكٍ بَعْدَ مُلُوكٍ».
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِلْمَكْرُوهِ فَسَبُّهُ خَطَأٌ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ، فَإِذَا سَبَبْتُمْ مَنْ أَنْزَلَ ذَلِكَ بِكُمْ رَجَعَ السَّبُّ إِلَى اللَّهِ.
سَبُّ الرِّيحِ:
31- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَعَالَى تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلَا تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا».
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسُبَّ الرِّيَاحَ، فَإِنَّهَا خَلْقٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُطِيعٌ، وَجُنْدٌ مِنْ أَجْنَادِهِ، يَجْعَلُهَا رَحْمَةً وَنِعْمَةً إِذَا شَاءَ.
سَبُّ الْحُمَّى:
32- قَالَ النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ سَبُّ الْحُمَّى، رُوِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ- أَوْ أُمِّ الْمُسَيِّبِ- فَقَالَ مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ- أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيِّبِ- تُزَفْزِفِينَ قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا فَقَالَ: لَا تَسُبِّي الْحُمَّى فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ».
وَلِأَنَّهَا تُكَفِّرُ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَدِيثٍ: «الْحُمَّى حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ» فَالْحُمَّى لِلْمُؤْمِنِ تُكَفِّرُ خَطَايَاهُ فَتُسَهِّلُ عَلَيْهِ الْوُرُودَ عَلَى النَّارِ فَيَنْجُو مِنْهُ سَرِيعًا.
وَقَالَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: إِنَّمَا جُعِلَتْ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ الْمُغَيِّرِ لِلْجِسْمِ، وَهَذِهِ صِفَةُ جَهَنَّمَ، فَهِيَ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ فَتَمْنَعُهُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
23-موسوعة الفقه الكويتية (سفه 1)
سَفَه -1التَّعْرِيفُ:
1- السَّفَهُ وَالسَّفَاهُ وَالسَّفَاهَةُ: ضِدُّ الْحِلْمِ، وَهِيَ مَصَادِرُ سَفِهَ يَسْفَهُ، مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَهُوَ نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ أَصْلُهُ الْخِفَّةُ وَالْحَرَكَةُ.
يُقَالُ: تَسَفَّهَتِ الرِّيحُ الشَّجَرَ؛ أَيْ مَالَتْ بِهِ، وَسَفُهَ بِالضَّمِّ، وَسَفِهَ بِالْكَسْرِ؛ أَيْ صَارَ سَفِيهًا، وَالْجَمْعُ سُفَهَاءُ وَسُفَّهٌ وَسِفَاهٌ.
وَالْمُؤَنَّثُ مِنْهُ سَفِيهَةٌ، وَالْجَمْعُ سَفَائِهُ.
وَاصْطِلَاحًا: هُوَ التَّبْذِيرُ فِي الْمَالِ وَالْإِسْرَافُ فِيهِ وَلَا أَثَرَ لِلْفِسْقِ وَالْعَدَالَةِ فِيهِ.
وَيُقَابِلُهُ الرُّشْدُ: وَهُوَ إِصْلَاحُ الْمَالِ وَتَنْمِيَتُهُ وَعَدَمُ تَبْذِيرِهِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَمَالِكٍ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالسُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ).
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ: التَّبْذِيرُ فِي الْمَالِ وَالْفَسَادُ فِيهِ وَفِي الدِّينِ مَعًا.وَهُوَ قَوْلٌ لِأَحْمَدَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْحَجْرُ:
2- هُوَ مَصْدَرُ قَوْلِكَ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي يَحْجُرُ حَجْرًا: إِذَا مَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ.وَالسَّفَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ.
ب- الْعَتَهُ:
3- الْعَتَهُ نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ دَهَشٍ، وَالْمَعْتُوهُ: النَّاقِصُ الْعَقْلِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّفَهِ أَنَّ الْعَتَهَ عِبَارَةٌ عَنْ آفَةٍ نَاشِئَةٍ عَنِ الذَّاتِ تُوجِبُ خَلَلًا فِي الْعَقْلِ فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْعَقْلِ فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلَامِهِ كَلَامَ الْعُقَلَاءِ، وَبَعْضُهُ كَلَامَ الْمَجَانِينِ بِخِلَافِ السَّفَهِ فَإِنَّهُ خِفَّةٌ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَلَيْسَتِ السَّفَهَ فِي ذَاتِهِ.
ج- الرُّشْدُ:
4- الرُّشْدُ: الصَّلَاحُ فِي الْمَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الصَّلَاحُ فِي الْمَالِ وَالدِّينِ جَمِيعًا، فَهُوَ ضِدُّ السَّفَهِ. (ر: رُشْد).
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّفَهِ:
أَوَّلًا: أَحْوَالُ السَّفَهِ:
4 م- لِلسَّفَهِ حَالَتَانِ:
الْأُولَى: اسْتِمْرَارُ السَّفَهِ بَعْدَ بُلُوغِ الْإِنْسَانِ أَوْ إِفَاقَتِهِ مِنَ الْجُنُونِ.
الثَّانِيَةُ: طُرُوءُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ.
أَمَّا الْأُولَى: فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بِمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، إِذِ الْحَجْرُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَهُمَا مُبَذِّرَانِ لِمَالِهِمَا اسْتَمَرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِمَا وَمُنِعَا مِنَ التَّصَرُّفِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلَوْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ إِلاَّ أَنَّهُ يَمْنَعُ وَلِيَّهُ مِنْ دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِمَالِهِ بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَلَا يَدْفَعُ إِلَيْهِ مَالَهُ إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ عُمْرُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَهَا دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ سَفِهَ أَوْ رَشَدَ.
اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بِالسَّفَهِ الْمُسْتَمِرِّ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ، أَوِ الَّذِي حَصَلَ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَإِفَاقَتِهِ رَشِيدًا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْآنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا- أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بَعْدَ الْبُلُوغِ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ، لَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَاتُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ يَنْهَى عَنْ إِيتَاءِ الْمَالِ السُّفَهَاءَ وَلَمْ يُرَخِّصْ لِلْأَوْلِيَاءِ إِلاَّ بِرِزْقِهِمْ مِنْهَا أَكْلًا وَلُبْسًا.وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِضَافَةَ الْمَالِ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَالَ الْوَلِيِّ بَلْ مَالَ السَّفِيهِ:
قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} لِأَنَّهُ لَا يُرْزَقُ وَلَا يُكْسَى إِلاَّ مِنْ مَالِهِ.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}.وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّهُ جَعَلَ عِبَارَةَ السَّفِيهِ كَعِبَارَةِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ التَّعْبِيرَ وَجَعَلَ عِبَارَةَ وَلِيِّهِ تَقُومُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ وَأَوْجَبَ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ هِيَ أَمَارَاتُ الْحَجْرِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ».وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَهُنَا يَدُلُّ النَّهْيُ عَلَى وُجُوبِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَالِ، وَإِبْقَاؤُهُ بِيَدِ السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ لَهُ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ، فَيَجِبُ حَجْرُهُ عَنْهُ.
وَبِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-.قَالَ: «خُذُوا عَلَى يَدِ سُفَهَائِكُمْ».
وَبِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: ابْتَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْعًا فَقَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: لآَتِيَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- فَلْأَحْجُرَنَّ عَلَيْكَ، فَأَعْلَمَ ذَلِكَ ابْنُ جَعْفَرٍ لِلزُّبَيْرِ فَقَالَ: أَنَا شَرِيكُكَ فِي بَيْعِكَ، فَأَتَى عَلِيٌّ عُثْمَانَ- رضي الله عنهما- فَقَالَ: احْجُرْ عَلَى هَذَا، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ؟؟ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ: أَنَّ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ إِنْكَارٌ لِلْحَجْرِ، بَلْ عَلِيٌّ طَلَبَهُ وَالْآخَرُونَ لَمْ يُنْكِرُوهُ فَاحْتَالَ الزُّبَيْرُ بِحِيلَةِ الشَّرِكَةِ حَتَّى لَا يُعَدَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ مَغْبُونًا فِي ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَقُولَةِ: أَنَّهُ مُبَذِّرٌ فِي مَالِهِ فَيَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الصَّبِيَّ إِنَّمَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِتَوَهُّمِ التَّبْذِيرِ مِنْهُ، وَقَدْ تَحَقَّقَ التَّبْذِيرُ وَالْإِسْرَافُ هُنَا، فَلأَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْلَى.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي عَدَمِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلَكِنْ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْخَامِسَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمْرِهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا}.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا- أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْوَلِيَّ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرَ فَلَا يَبْقَى لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى زَوَالِ وِلَايَتِهِ عَنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْكِبَرِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْحَاجَةُ إِذَا صَارَ هُوَ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ لآِفَةٍ أَصَابَتْ رَأْسَهُ فَسَأَلَ أَهْلُهُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَصْبِرُ عَنِ الْبَيْعِ.فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، وَجَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ».
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ طَلَبِ أَهْلِهِ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا عَلَى مَنْ يُغْبَنُ لَحَجَرَ عَلَيْهِ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ السَّفِيهَ حُرٌّ مُخَاطَبٌ فَيَكُونُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ، وَهَذَا لِأَنَّ وُجُودَ التَّصَرُّفِ حَقِيقَةً يَكُونُ بِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَوُجُودُهُ شَرْعًا يَكُونُ بِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي تَصَرُّفِ السَّفِيهِ فِي مَالِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَهِيَ أَنْ يَبْلُغَ الصَّبِيُّ أَوْ يُفِيقَ الْمَجْنُونُ رَشِيدَيْنِ، ثُمَّ يَطْرَأَ السَّفَهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَلْ يُحْجَرُ عَلَيْهِمَا؟.
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
(1) فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى لُزُومِ الْحَجْرِ بِالسَّفَهِ الطَّارِئِ، وَكَذَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُبْطِلُهَا الْهَزْلُ لَا الْأُمُورُ الَّتِي لَا يُبْطِلُهَا الْهَزْلُ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ عِنْدَهُمَا فِي مَعْنَى الْهَازِلِ يَخْرُجُ كَلَامُهُ عَنْ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ، فَكَذَلِكَ السَّفِيهَ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِالْحَجْرِ بِالسَّفَهِ الطَّارِئِ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَشُرَيْحٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
(2) وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَمَنْعِهِ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ رَأْيُ زُفَرَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ. هَلْ يُشْتَرَطُ حُكْمُ قَاضٍ بِالْحَجْرِ لِتَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ؟.
5- السَّفَهُ- كَمَا تَقَدَّمَ- عَلَى نَوْعَيْنِ:
(1) سَفَهٌ يَعْقُبُ الصِّبَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْلُغَ سَفِيهًا.
(2) وَسَفَهٌ يَطْرَأُ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ رَشِيدًا.
فَالْأَوَّلُ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي افْتِقَارِهِ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى رَأْيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَفْتَقِرُ إِلَى قَضَاءِ قَاضٍ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ سَيَدُومُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ دَفْعَ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ عَلَى إِينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُمْ فَهُمْ مَحْجُورُونَ، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِمْ بِقَضَاءٍ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ.
وَثَانِيهِمَا: افْتِقَارُهُ إِلَى قَضَاءِ قَاضٍ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَرَأْيُ أَبِي يُوسُفَ.
وَلِذَلِكَ أَجَازَ مَالِكٌ تَصَرُّفَاتِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالسَّفِيهِ الْمُهْمَلِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّظَرِ وَالضَّرَرِ، فَفِي إِبْقَاءِ الْمِلْكِ لَهُ نَظَرٌ، وَفِي إِهْدَارِ قَوْلِهِ ضَرَرٌ، وَبِمِثْلِ هَذَا لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ إِلاَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: لَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ قَاضٍ بِذَلِكَ؛ لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «خُذُوا عَلَى يَدِ سُفَهَائِكُمْ».
وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي الْأَثَرِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ: «لآَتِيَنَّ عُثْمَانَ لِيَحْجُرَ عَلَيْكَ».
وَلِأَنَّ التَّبْذِيرَ يَخْتَلِفُ فَيَحْتَاجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ وَإِذَا افْتَقَرَ السَّبَبُ إِلَى الِاجْتِهَادِ لَمْ يَثْبُتْ إِلاَّ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مَا عَدَا مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ.
وَلَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ إِلاَّ الْحَاكِمُ، فَإِذَا أَرَادَ الْوَالِدُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى وَلَدِهِ أَتَى الْإِمَامَ لِيَحْجُرَ عَلَيْهِ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: لَا يَفْتَقِرُ إِلَى قَضَاءِ قَاضٍ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُبَذِّرًا، كَمَا أَنَّ إِصْلَاحَهُ لِمَالِهِ يُطْلِقُهُ مِنَ الْحَجْرِ نَظَرًا لِوُجُودِ الْمُوجِبِ وَزَوَالِهِ فَأَشْبَهَ الْمَجْنُونَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ زَالَ عَنْهُ الْحَجْرُ بِرُشْدِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِلَا حُكْمِ حَاكِمٍ ثُمَّ سَفِهَ عَادَ بِلَا حُكْمِ حَاكِمٍ، وَإِنْ زَالَ عَنْهُ بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي بِعَوْدَتِهِ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَمَا رُفِعَ بِقَضَاءٍ فَلَا يَعُودُ إِلاَّ بِقَضَاءٍ.
إِشْهَادُ الْقَاضِي عَلَى حَجْرِهِ أَوْ إِعْلَانُهُ:
6- ذَهَبَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَضَاءِ قَاضٍ لِلْحَجْرِ عَلَيْهِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَى حَجْرِهِ وَأَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ وَيُعْلِنَهُ وَيُشْهِرَهُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْجَامِعِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ بِحَالِهِ، وَلِيَتَجَنَّبُوا مُعَامَلَتَهُ وَيُعْلِمَهُمْ أَنَّ مَنْ عَامَلَهُ فَقَدْ ضَيَّعَ مَالَهُ.
وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي النِّدَاءَ بِذَلِكَ جَعَلَ مَنْ يُنَادِي بِالنَّاسِ بِحَجْرِهِ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي وَعَدَمِهِ مَا يَلِي:
إِذَا عَامَلَ السَّفِيهَ شَخْصٌ- عَلِمَ بِسَفَهِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ- بِشِرَاءٍ أَوْ إِقْرَاضٍ ثُمَّ تَلِفَ الشَّيْءُ الْمُشْتَرَى أَوْ ضَاعَ حَقُّ الْمُقْرِضِ، فَهَلْ يَضْمَنُ هُوَ أَوِ الضَّمَانُ عَلَى الشَّخْصِ الْمُتَعَامِلِ مَعَهُ؟
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَرْدُودٌ وَلَوْ حَسُنَ تَصَرُّفُهُ، مَا لَمْ يَحْصُلِ الْفَكُّ عَنْهُ.
وَإِنْ تَعَامَلَ مَعَهُ أَحَدٌ وَهُوَ يَجْهَلُ فَأَفْعَالُهُ لَا تُرَدُّ بِاتِّفَاقِ فُقَهَائِهِمْ.
وَإِنْ عَلِمَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ مُهْمَلًا لَا وَلِيَّ لَهُ: فَتَصَرُّفُهُ مَاضٍ وَلَازِمٌ، فَلَا يُرَدُّ، وَلَوْ كَانَ بِدُونِ عِوَضٍ كَعِتْقٍ، لِأَنَّ عِلَّةَ الرَّدِّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَكُبَرَاءِ أَصْحَابِهِ- وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا ابْنُ الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَمْضِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِلْحَجْرِ الْقَضَاءُ، وَعَلَى مَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ مُقَدَّمٍ الرَّدُّ، وَكَذَا لَهُ هُوَ الرَّدُّ بَعْدَ الرُّشْدِ.
أَمَّا بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ وَلَوْ حَسُنَ تَصَرُّفُهُ مَا لَمْ يَحْصُلِ الْفَكُّ عَنْهُ مِنْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ مُقَدَّمٍ، وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَ مَالِكٍ وَجُلِّ أَصْحَابِهِ؛ لِوُجُودِ عِلَّةِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ- وَهُوَ السَّفَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا رَشَدَ فَتَصَرُّفُهُ مَاضٍ قَبْلَ الْفَكِّ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُجَرَّدُ السَّفَهِ وَقَدْ زَالَ بِرُشْدِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَحْجُورًا إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ قَاضٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ أَقْرَضَهُ شَخْصٌ مَالًا- بَعْدَ الْحَجْرِ- أَوْ بَاعَ مِنْهُ مَتَاعًا لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الرُّشْدِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً رُدَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً لَمْ يَضْمَنْهَا.عَلِمَ بِحَالِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَلَا يَضْمَنُ قَبْلَ فَكِّ الْحَجْرِ وَلَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ فَقَدْ تَعَامَلَ مَعَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَأَنَّ مَالَهُ سَيَضِيعُ.وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَدْ فَرَّطَ حِينَ تَرَكَ اسْتِظْهَارَ أَمْرِهِ وَدَخَلَ فِي مُعَامَلَتِهِ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَعَدَمُ ضَمَانِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، هُوَ إِجْمَاعُ الشَّافِعِيَّةِ.
7- وَهَلْ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بَاطِنًا؛ أَيْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؟
اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، وَبِهِ قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْعِمْرَانِيُّ، وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَا يُبِيحُ لَهُ مَالَ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَالنَّوَوِيِّ.
وَالتَّفْصِيلُ السَّابِقُ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا قَبَضَ السَّفِيهُ الْمَالَ مِنْ رَشِيدٍ بِإِذْنِهِ وَتَلِفَ الْمَقْبُوضُ قَبْلَ مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ بِهِ.
أَمَّا لَوْ قَبَضَهُ مِنْ غَيْرِ رَشِيدٍ أَوْ مِنْ رَشِيدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ تَلِفَ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ صَاحِبَهُ بِهِ فَإِنَّ السَّفِيهَ يَضْمَنُ دُونَ خِلَافٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ مَنْ عَامَلَ السَّفِيهَ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي وَأَتْلَفَ السَّفِيهُ الْمَالَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ عَامَلَهُ عَلِمَ بِالْحَجْرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ- كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُعَامِلُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ السَّفِيهُ هُوَ الَّذِي تَسَلَّطَ عَلَيْهِ دُونَ إِذْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ إِنْ أَتْلَفَهُ أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْ مَالِكِهِ.
نَقْضُ قَرَارِ الْقَاضِي بِالْحَجْرِ بِقَرَارِ قَاضٍ آخَرَ:
7 م- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا حَجَرَ قَاضٍ عَلَى سَفِيهٍ، ثُمَّ رُفِعَ الْقَرَارُ إِلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَطْلَقَ حَجْرَهُ وَأَجَازَ مَا كَانَ بَاعَهُ أَوِ اشْتَرَاهُ أَوْ تَصَرَّفَ بِهِ حَالَةَ الْحَجْرِ وَلَمْ يَرَ حَجْرَ الْأَوَّلِ شَيْئًا جَازَ إِطْلَاقُهُ وَإِبْطَالُ حَجْرِهِ.
لِأَنَّهُ لَوْ تَحَوَّلَ رَأْيُ الْأَوَّلِ فَأَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ جَازَ فَكَذَلِكَ الثَّانِي:
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ.
ثُمَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً مِنَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي مَقْضِيًّا لَهُ وَمَقْضِيًّا عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ، وَقَدْ رَأَى الْآخَرُ النَّظَرَ لَهُ فِي إِطْلَاقِهِ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ مِنْهُ. فَكُّ الْحَجْرِ عَنِ السَّفِيهِ:
8- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ إِينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَى الْبَالِغِ إِلاَّ أَنَّهُ يُمْنَعُ الْوَلِيُّ مِنْ دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ عَامًا مِنْ عُمْرِهِ، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ دَفَعَ إِلَيْهِ أَمْوَالَهُ رَشَدَ أَمْ لَمْ يَرْشُدْ.
وَاسْتَدَلَّ: بِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالرَّشِيدِ.
وَبِأَنَّ فِي الْحَجْرِ سَلْبَ وِلَايَتِهِ وَإِهْدَارَ آدَمِيَّتِهِ وَإِلْحَاقَهُ بِالْبَهَائِمِ، وَهُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنَ التَّبْذِيرِ.
فَلَا يُحْتَمَلُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى؛ وَلِأَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ إِينَاسُ الرُّشْدِ، لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَدًّا فِيهَا وَلِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: إِنَّهُ يَنْتَهِي لُبُّ الرَّجُلِ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.وَقَدْ فُسِّرَ الْأَشُدُّ بِذَلِكَ فِي قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}. مَنْ يَفُكُّ حَجْرَ السَّفِيهِ:
9- السَّفَهُ- كَمَا تَقَدَّمَ- نَوْعَانِ: نَوْعٌ اسْتَمَرَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَآخَرُ طَرَأَ بَعْدَ بُلُوغِهِ رَشِيدًا.
أَمَّا إِذَا كَانَ قَدِ اسْتَمَرَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْهُ عَلَى ثَلَاثَةِ آرَاءٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ يَزُولُ بَعْدَ زَوَالِ السَّفَهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، أَوْ فَكِّ وَلِيٍّ، أَوْ إِذْنِ زَوْجٍ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ مَنْ لَا يَرَى لُزُومَ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ بِدُونِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَيَزُولُ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ كَالْحَجَرِ عَلَى الْمَجْنُونِ.
وَثَانِيهَا: لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ حَاكِمٍ فِي زَوَالِهِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ.
وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَجْرِ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَلَا يُفَكُّ إِلاَّ بِقَرَارٍ مِنْهُ.
وَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ وَلِيُّهُ الْوَصِيَّ أَوْ مُقَدَّمَ الْقَاضِي فَلَا يَحْتَاجُ فَكُّهُمَا الْحَجْرَ عَنْهُ إِلَى إِذْنِ الْقَاضِي بَلْ هُمَا يَفُكَّانِهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْأَبُ فَإِنَّهُ يَفُكُّ عَنْهُ بِرُشْدِهِ، إِلاَّ إِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ الرُّشْدِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ بُلُوغِهِ رَشِيدًا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ لِفَكِّهِ قَضَاءُ قَاضٍ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَجَمِيعُ مَنْ يُشْتَرَطُ لِحَجْرِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ: بِأَنَّهُ ثَبَتَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَا يَزُولُ إِلاَّ بِحُكْمِ حَاكِمٍ.
وَثَانِيهِمَا: لَا يُشْتَرَطُ قَضَاءُ الْقَاضِي لِزَوَالِهِ بَلْ يَكْفِي انْتِفَاءُ السَّفَهِ عَنْهُ لِاعْتِبَارِهِ رَشِيدًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ حَجْرٌ سَبَبُهُ السَّفَهُ وَقَدْ زَالَ كَالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ. ادِّعَاءُ الرُّشْدِ أَوِ السَّفَهِ وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ:
10- إِذَا ادَّعَى الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَنَّهُ قَدْ رَشَدَ وَأَقَامَ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ بَيِّنَةً أُخْرَى بِا لسَّفَهِ أَوْ بِاسْتِمْرَارِهِ.
فَإِنْ ذَكَرَتِ الْبَيِّنَتَانِ التَّارِيخَ وَاخْتَلَفَ أُخِذَ بِذَاتِ التَّارِيخِ الْمُتَأَخِّرِ.
وَإِنْ جَاءَتَا مُقَيَّدَتَيْنِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَاسْتَوَتَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ السَّفَهِ.
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ- وَهُوَ اسْتِصْحَابُ الْأَصْلِ.إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِقَبُولِ شَهَادَةِ السَّفَهِ وَالرُّشْدِ بَيَانُ سَبَبِهِمَا؛ إِذْ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ بَعْضَ الصَّرْفِ هُوَ نَوْعٌ مِنَ السَّرَفِ- كَأَنْ يَأْكُلَ وَيَلْبَسَ الْأَشْيَاءَ النَّفِيسَةَ اللاَّئِقَةَ بِأَمْثَالِهِ- وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَيْسَ بِسَرَفٍ، وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ إِصْلَاحَ نَوْعٍ مِنَ التَّصَرُّفِ هُوَ رُشْدٌ، لِذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ سَبَبِ السَّفَهِ وَالرُّشْدِ.
أَمَّا إِذَا جَاءَتْ مُطْلَقَةً عَنِ التَّوْقِيتِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الرُّشْدِ. الْوِلَايَةُ عَلَى مَالِ السَّفِيهِ:
11- تَقَدَّمَ أَنَّ السَّفَهَ قِسْمَانِ: مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَطَارِئٌ بَعْدَ بُلُوغِهِ رَشِيدًا.
(1) فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالْوِلَايَةِ الْأَبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَمْ يُوصِ الْأَبُ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُقِيمَ أَمِينًا فِي النَّظَرِ فِي أَقْوَالِهِ وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
ثُمَّ بَعْدَ وَصِيِّ الْأَبِ الْحَاكِمُ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَمْ يُوجَدِ الْحَاكِمُ فَأَمِينٌ يَقُومُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الْأَبُ، ثُمَّ وَصِيُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ وَصِيُّ وَصِيِّهِ، ثُمَّ الْجَدُّ الصَّحِيحُ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيُّ وَصِيِّهِ ثُمَّ الْقَاضِي أَوْ وَصِيُّهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ؛ لِأَنَّهُمَا أَشْفَقُ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْقَاضِي أَوْ السُّلْطَانُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِلسُّلْطَانِ أَوْ لِلْقَاضِي فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعِيدُ عَلَيْهِ الْحَجْرَ وَيَفُكُّهُ، إِذْ وِلَايَةُ الْأَبِ وَنَحْوِهِ قَدْ زَالَتْ فَيَنْظُرُ لَهُ مَنْ لَهُ النَّظَرُ الْعَامُّ وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ.
أَمَّا الرَّأْيُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالِاسْتِحْسَانُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ- فَالْأَوْلَى بِذَلِكَ هُوَ مَنْ ذُكِرَ فِي السَّفَهِ الِاسْتِمْرَارِيِّ.
(2) وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَهِ الِاسْتِمْرَارِيِّ وَالطَّارِئِ فِي الْوِلَايَةِ، فَالْأَحَقُّ الْأَبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ الْحَاكِمُ.
وَلَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ إِلاَّ عَلَى قَوْلِ الْأَثْرَمِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: حَيْثُ تَجُوزُ وِلَايَةُ الْأُمِّ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيٌّ.
كَمَا لَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ وَالْعَصَبَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَتَعْلِيلُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِلْجَدِّ وَالْعَصَبَاتِ وِلَايَةً عَلَى الْمَالِ دُونَ النِّكَاحِ: أَنَّ الْمَالَ مَحَلُّ الْخِيَانَةِ، وَغَيْرُ الْأَبِ وَوَصِيِّهِ وَالْقَاضِي قَاصِرٌ عَنْهَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْمَالِ.
وَشُرُوطُ الْوَلِيِّ وَوَاجِبَاتُهُ وَمَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ أَوْ لَا يَجُوزُ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وِلَايَة).
أَثَرُ السَّفَهِ فِي الْأَحْكَامِ.الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ:
12- لَا يُوجِبُ السَّفَهُ خَلَلًا فِي أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ وَلَا يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنَ الْوُجُوبِ عَلَى السَّفِيهِ أَوْ لَهُ، فَيَكُونُ مُطَالَبًا بِالْأَحْكَامِ كُلِّهَا.
وَلِهَذَا لَا تَنْعَدِمُ الْأَهْلِيَّةُ بِسَبَبِ السَّفَهِ وَلَا يُجْعَلُ السَّفَهُ عُذْرًا فِي إِسْقَاطِ الْخِطَابِ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَلَا فِي إِهْدَارِ عِبَارَتِهِ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ.
أَثَرُ السَّفَهِ فِي الزَّكَاةِ:
12 م- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ السَّفِيهِ- فَهُوَ فِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالنَّقْضَ وَلِأَنَّ مَنْ عَدَا الْحَنَفِيَّةَ أَوْجَبُوهَا فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ فَوُجُوبُهَا عَلَى السَّفِيهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَلَكِنْ حَصَلَ الْخِلَافُ فِي مَنْ يَدْفَعُهَا هَلْ هُوَ أَمْ وَلِيُّهُ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَدْفَعُهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ وَتَصَرُّفٌ مَالِيٌّ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ الزَّكَاةَ بِنَفْسِهِ لَكِنْ إِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ وَعَيَّنَ لَهُ الْمَدْفُوعَ إِلَيْهِ صَحَّ صَرْفُهُ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْوَلِيِّ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ يَدْفَعُهَا إِلَيْهِ وَلِيُّهُ لِيَصْرِفَهَا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ فِيهَا، وَلَكِنْ يَبْعَثُ مَعَهُ أَمِينًا كَيْ لَا يَصْرِفَهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهَا.
زَكَاةُ الْفِطْرِ:
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى السَّفِيهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ حُرٌّ، وَالسَّفَهُ فِيهِ لَا يُعَارِضُ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مَنْ يَدْفَعُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ.
وَإِذَا قَصَّرَ الْوَلِيُّ فِي دَفْعِهَا أَخْرَجَهَا هُوَ بَعْدَ رَفْعِ الْحَجْرِ عَنْهُ.
صَدَقَةُ النَّفْلِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ إِلَى مَنْعِهِ مِنْ صَدَقَةِ النَّفْلِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ جَوَّزُوهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ تَصَرُّفَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْأَيْمَانِ وَكَفَّارَتِهَا:
14- إِذَا حَلَفَ السَّفِيهُ بِاَللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ انْعَقَدَ يَمِينُهُ اتِّفَاقًا
أَمَّا كَفَّارَتُهُ: فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ السَّفِيهَ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ لَا غَيْرُ كَابْنِ السَّبِيلِ الْمُنْقَطِعِ عَنْ مَالِهِ، وَلَا يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ أَوْ بِالْإِطْعَامِ أَوْ بِالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَبَذَّرَ أَمْوَالَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَلَوْ كَفَّرَ بِهَا لَمْ يُجْزِئْهُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ التَّكْفِيرَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ إِذَا أَذِنَ الْوَلِيُّ وَعَيَّنَ الْمَصْرِفَ وَكَانَ بِحَضْرَتِهِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَالزَّكَاةِ.
إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا قَالَا: لَوْ أَعْتَقَ عَنْ يَمِينِهِ صَحَّ الْعِتْقُ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ، وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ بِعِوَضٍ فَلَا يَقَعُ التَّحْرِيرُ تَكْفِيرًا.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: فَبَعْدَ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ يُكَفِّرُ كَالرَّشِيدِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَبْلَهَا لِعُمُومِ آيَةِ الْيَمِينِ.
وَلَوْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ، وَفِي أَثْنَائِهِ فُكَّ حَجْرُهُ أَوِ انْتَهَى، بَطَلَ تَكْفِيرُهُ بِالصَّوْمِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ كَالرَّشِيدِ، لِزَوَالِ الْحَجْرِ عَنْهُ، أَمَّا لَوْ فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الصِّيَامِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِلْكَفَّارَةِ. أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى النَّذْرِ:
15- إِنْ نَذَرَ السَّفِيهُ عِبَادَةً بَدَنِيَّةً وَجَبَتِ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ صَرْفِ أَمْوَالِهِ وَعَنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَالِ.
وَإِنْ نَذَرَ عِبَادَةً مَالِيَّةً- فَقَدْ حَصَلَ الْخِلَافُ فِي صِحَّتِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: تَلْزَمُهُ بِذِمَّتِهِ لَا بِعَيْنِ مَالِهِ فَيَثْبُتُ الْمَنْذُورُ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَيَفِي بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: لَا تَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: تَلْزَمُهُ وَلَكِنْ مِنْ حَقِّ الْوَلِيِّ إِبْطَالُهُ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ:
16- أَمَّا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ- وَهِيَ حَجُّ الْفَرْضِ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً.
فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى السَّفِيهِ وَعَلَى صِحَّتِهَا مِنْهُ، وَلَا يَحِقُّ لِوَلِيِّهِ حَجْرُهُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُدْفَعُ النَّفَقَةُ إِلَى ثِقَةٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ حَتَّى الْعَوْدَةِ.
أَمَّا الْحَجُّ الْمَنْذُورُ- فَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لُزُومُهُ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِلُزُومِ النَّذْرِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُ السَّفِيهَ حَجُّ النَّذْرِ.
وَأَمَّا حَجُّ النَّفْلِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ صَحَّ وَتُدْفَعُ إِلَيْهِ نَفَقَتُهُ الْمَعْهُودَةُ- وَهِيَ مِقْدَارُ مَا كَانَ يُنْفِقُهُ لَوْ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ.
17- أَمَّا الْعُمْرَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا بِصِحَّةِ إِحْرَامِهِ بِهَا، وَتُدْفَعُ نَفَقَاتُهُ إِلَى ثِقَةٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ حَتَّى الْعَوْدَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْقَوْلِ بِالْحَجِّ.
وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا- أَيْ: لَا يُمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ- فَإِنَّهُمْ وَإِنْ قَالُوا بِسُنِّيَّتِهَا إِلاَّ أَنَّهُمْ أَجَازُوهَا مِنْهُ؛ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهَا.
حَتَّى إِنَّهُمْ قَالُوا: لَا يُمْنَعُ الْحَاجُّ مِنَ الْقِرَانِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِفْرَادِ السَّفَرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَلَمْ نَجِدْ تَصْرِيحًا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
جِنَايَتُهُ فِي الْإِحْرَامِ:
18- إِذَا أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَحَصَلَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُجْزِئُ فِي كَفَّارَتِهِ الصِّيَامُ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ لَا غَيْرُ.وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الدَّمِ يُؤَخَّرُ إِلَى مَا بَعْدَ رُشْدِهِ- كَالْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَالَ، وَكَذَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا.
أَيْ: رَاشِدًا.
أَثَرُ السَّفَهِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ:
19- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: السَّفِيهُ مِثْلُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ إِلاَّ فِي الطَّلَاقِ وَاسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ وَنَفْيِهِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ، وَالْإِقْرَارِ بِمُوجِبِ عُقُوبَةٍ.
أَوَّلًا: أَثَرُهُ فِي النِّكَاحِ.
أ- زَوَالُ وِلَايَةِ النِّكَاحِ بِالسَّفَهِ:
20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَالِ وِلَايَةِ السَّفِيهِ وَبَقَائِهَا إِلَى مَذْهَبَيْنِ نَظَرًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ الرُّشْدِ فِي الْوَلِيِّ وَعَدَمِهِ.
الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: تَزُولُ وِلَايَةُ الْوَلِيِّ بِالسَّفَهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِأَمْرِ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِأَمْرِ غَيْرِهِ، فَلَا يَصِحُّ إِيجَابُهُ أَصَالَةً وَلَا وَكَالَةً، أَذِنَ الْوَلِيُّ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ، أَمَّا الْقَبُولُ فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ فِيهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ لِمَالِكٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: بَقَاءُ الْوِلَايَةِ لَهُ؛ لِأَنَّ رُشْدَ الْمَالِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي النِّكَاحِ وَأَنَّهُ كَامِلُ النَّظَرِ فِي أَمْرِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ لِحِفْظِ مَالِهِ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالرَّأْيُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
24-موسوعة الفقه الكويتية (سفه 2)
سَفَه -2ب- تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ السَّفِيهَةِ نَفْسَهَا:
21- مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ لِلْمَرْأَةِ الرَّشِيدَةِ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا لَمْ يُجَوِّزْهُ لِلسَّفِيهَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ إِنْكَاحَ الرَّشِيدَةِ نَفْسَهَا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَأَبِي يُوسُفَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي إِنْكَاحِ السَّفِيهَةِ نَفْسَهَا، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ لَا يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِهِ.
فَلِلسَّفِيهَةِ عِنْدَهُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا.
وَأَمَّا غَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يَشْتَرِطُ الْوَلِيَّ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا وَلَا يَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ.
ج- أَثَرُ السَّفَهِ فِي النِّكَاحِ:
22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْوَلِيِّ لِصِحَّتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ- إِلَى صِحَّةِ نِكَاحِهِ أَذِنَ الْوَلِيُّ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ وعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ مَالِيٍّ وَلُزُومُ الْمَالِ فِيهِ ضِمْنِيٌّ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ؛ وَلِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ: يَصِحُّ بِشَرْطِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ وَالنِّكَاحُ لَمْ يُشْرَعْ لِقَصْدِ الْمَالِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْحَاجَةُ لِلْمُتْعَةِ أَمْ لِلْخِدْمَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَجِبُ بِهِ الْمَالُ فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ كَالشِّرَاءِ، وَقَدْ جَعَلُوا الْخِيَارَ لِلْوَلِيِّ: إِنْ شَاءَ زَوَّجَهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ أَذِنَ لَهُ لِيَعْقِدَ بِنَفْسِهِ.
فَإِذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجَةِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا حَدَّ لِلشُّبْهَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ- كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ وَأَتْلَفَهُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ- كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ، وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ أَقَلُّ شَيْءٍ يُتَمَوَّلُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، وَيَكُونُ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ وَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجَةِ، وَهَلْ يَحِقُّ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُ السَّفِيهِ عَلَى النِّكَاحِ؟.
جَوَّزَ الْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ السَّفِيهُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ- بِأَنْ كَانَ زَمِنًا أَوْ ضَعِيفًا يَحْتَاجُ إِلَى امْرَأَةٍ تَخْدُمُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ ذَلِكَ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
22 م- أَمَّا الْمَهْرُ فَأَبُو حَنِيفَةَ يُثْبِتُ لِمَنْ نَكَحَهَا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ الْمَهْرَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يَتَقَيَّدُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ وَلَوْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اعْتَبَرُوا الزِّيَادَةَ لَازِمَةً إِذَا أَذِنَ بِهَا الْوَلِيُّ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ:
23- ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنَ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالْحَجْرُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ.وَالطَّلَاقُ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الْمَالِ فَلَا يُمْنَعُ كَالْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ مَعَ مَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِمَالٍ وَيَصِحُّ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِمَالٍ فَلَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَالْمَالِ.
وَأَمَّا خُلْعُهُ فَيَصِحُّ، إِلاَّ أَنَّهَا لَا تُسَلِّمُ بَدَلَ الْخُلْعِ إِلَيْهِ بَلْ إِلَى وَلِيِّهِ، فَإِنْ سَلَّمَتْهُ إِلَيْهِ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الضَّمَانُ- كَمَا فِي الْبَيْعِ.
وَلَوْ دَفَعَتْهُ إِلَيْهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَبْرَأُ كَمَا لَوْ سَلَّمَتْهُ إِلَى الْعَبْدِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ.
وَثَانِيهِمَا: لَا تَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَبْضِ.
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ: فَتَصِحُّ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ وَلِيُّهُ.
وَيَقَعُ ظِهَارُ السَّفِيهِ وَإِيلَاؤُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ لَا بِالْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنْ كَفَّرَ بِالْعِتْقِ لَمْ يَنْفُذْ، وَإِنْ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ، فَإِنْ فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ قَبْلَ الصَّوْمِ كَفَّرَ كَالرَّشِيدِ لَا إِنْ فُكَّ بَعْدَ الصَّوْمِ.
وَلَوْ طَلَبَتِ السَّفِيهَةُ الْخُلْعَ.
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، إِذَا بَلَغَتْ رَشِيدَةً وَحُجِرَ عَلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ خُلْعُهَا، وَلَوْ خَالَعَهَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ طَلُقَتْ رَجْعِيًّا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ طَلُقَتْ بَائِنًا وَلَا مَالَ لَهُ.وَلَغَا ذِكْرُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِهِ وَإِنْ أَذِنَ لَهَا الْوَلِيُّ.وَإِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهَا يَصِحُّ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ إِنْ طَلَبَتْهُ السَّفِيهَةُ وَبَذَلَتْ مِنْهَا الْمَالَ بِدُونِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، وَإِنْ بَذَلَهُ غَيْرُهَا أَوْ هِيَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ صَحَّ، وَإِلاَّ بَانَتْ مِنْهُ بِدُونِ عِوَضٍ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَضَانَةِ:
24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ السَّفَهِ مَانِعًا الْمَرْأَةَ مِنَ الْحَضَانَةِ أَوْ مُسْقِطًا لَهَا.
فَذَهَبَ مَنِ اشْتَرَطَ فِي الْحَاضِنَةِ الرُّشْدَ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ مَانِعٌ مِنْهَا وَمُسْقِطٌ لَهَا، فَلَيْسَ لِلسَّفِيهِ أَوْلَوِيَّةُ الْحَضَانَةِ بِالصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ فَلَرُبَّمَا يُتْلِفُ مَالَ الْمَحْضُونِ أَوْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الْحَاضِنَةِ الرُّشْدَ لَدَى ذِكْرِهِمْ شُرُوطَ الْحَاضِنَةِ، لِذَا فَإِنَّ السَّفَهَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي إِسْقَاطِ الْحَضَانَةِ عِنْدَهُمْ.
نَفَقَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ:
25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْفَقُ عَلَى السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَكَذَا يُنْفَقُ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَيَتَوَلَّى ذَلِكَ وَلِيُّهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَلِأَنَّهَا حَقُّ أَقْرِبَائِهِ عَلَيْهِ، وَالسَّفَهُ لَا يُبْطِلُ حَقَّ اللَّهِ وَلَا حَقَّ النَّاسِ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ:
26- إِنْ بَاعَ السَّفِيهُ أَوِ اشْتَرَى شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ وَالْقَاضِي، فَإِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ خَيْرًا أَجَازَهُ، وَإِنْ رَأَى فِيهِ مَضَرَّةً رَدَّهُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ يُفْضِي إِلَى ضَيَاعِ مَالِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ.
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَنْفُذُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ- إِلَى صِحَّةِ عَقْدِهِ، وَمَحَلُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الْوَلِيُّ قَدْرَ الثَّمَنِ وَإِلاَّ لَمْ يَصِحَّ جَزْمًا، وَمَحَلُّهُمَا أَيْضًا فِيمَا إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ خَالِيًا عَنْهُ كَهِبَةٍ لَمْ يَصِحَّ جَزْمًا.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْهِبَةِ:
أَوَّلًا: هِبَةُ السَّفِيهِ لِلْغَيْرِ:
27- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ- فِي عَدَمِ صِحَّةِ هِبَتِهِ إِذَا كَانَتْ بِدُونِ عِوَضٍ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ.
لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ مَالِيٌّ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ؛ وَلِأَنَّهَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ، وَلِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْإِيجَابِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ بِعِوَضٍ- فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِصِحَّتِهَا إِنْ أَذِنَ وَلِيُّهُ بِهَا.
ثَانِيًا: الْهِبَةُ لَهُ:
تَصِحُّ الْهِبَةُ لَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ تَفْوِيتَ مَالٍ بَلْ تَحْصِيلُهُ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْوَقْفِ:
28- بِمَا أَنَّ الْوَقْفَ نَوْعٌ مِنَ التَّبَرُّعِ الْمَالِيِّ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحِفْظِ مَالِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْوَقْفُ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْوَكَالَةِ:
أَوَّلًا: كَوْنُ السَّفِيهِ وَكِيلًا:
29- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ كَوْنُهُ وَكِيلًا فِيهِ، كُلُّ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ، إِلاَّ قَبُولَ النِّكَاحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبُولِهِ لَا فِي إِيجَابِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ وِلَايَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَلِيُّ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ صِحَّةُ وَكَالَةِ السَّفِيهِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.
ثَانِيًا: تَوْكِيلُهُ لِلْغَيْرِ:
30- لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ لِغَيْرِهِ فِي كُلِّ مَا لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا مَا يَصِحُّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِنَفْسِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَطَلَبِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصِيلِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِمَا.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ النِّكَاحَ فَإِنَّهُ وَإِنْ صَحَّ لَهُ أَنْ يَعْقِدَهُ لِنَفْسِهِ إِنْ أَذِنَ لَهُ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوَكِّلُ بِهِ غَيْرَهُ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
31- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ السَّفِيهِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: قَبُولُهَا إِنْ كَانَ عَدْلًا- وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الشَّاهِدِ الرُّشْدَ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ قَبُولِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنِ الصَّيْمَرِيِّ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ:
32- إِذَا أَوْصَى السَّفِيهُ فَهَلْ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ- صِحَّتُهَا فِيمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا تَخْلِيطٌ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ عِبَارَتِهِ لِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُكَلَّفٌ، وَلِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِحِفْظِ مَالِهِ وَلَيْسَ فِي الْوَصِيَّةِ إِضَاعَةٌ لِمَالِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ عَاشَ كَانَ مَالُهُ لَهُ وَإِنْ مَاتَ فَلَهُ ثَوَابُهُ وَهُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَيَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي نُفُوذِهَا.
الرَّأْيُ الثَّانِي- عَدَمُ صِحَّتِهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ، وَتَصِحُّ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَالرَّأْيُ الثَّالِثُ- عَدَمُ صِحَّتِهَا إِذَا حَصَلَ تَخْلِيطٌ- وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ بِمَا لَيْسَ بِقُرَبٍ أَوْ أَنْ لَا يَعْرِفَ فِي نِهَايَةِ كَلَامِهِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ لِخَرَفِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُوَلًّى عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَهَذَا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ.
الْإِيصَاءُ لَهُ وَقَبُولُهُ الْوَصِيَّةَ:
33- لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْإِيصَاءِ لِلسَّفِيهِ وَلَكِنِ الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ قَبُولِهِ الْوَصِيَّةَ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَبُولِهِ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَمَلُّكٌ، وَلِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ، وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ أَصْلِ الرَّوْضَةِ.
وَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَالْجُرْجَانِيُّ بِصِحَّةِ قَبُولِهِ لَهَا كَالْهِبَةِ.
أَمَّا الْإِيصَاءُ إِلَيْهِ- أَيْ: جَعْلُهُ وَصِيًّا فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِيصَاءُ إِلَيْهِ؛ لِعَدَمِ هِدَايَتِهِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمُوصَى بِهِ، إِذْ لَا مَصْلَحَةَ فِي تَوْلِيَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُ، وَكَذَلِكَ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ كَوْنَ الْوَصِيِّ رَشِيدًا.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْقَرْضِ:
34- لَمْ يَخْتَلِفِ الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ فِي عَدَمِ جَوَازِ إِقْرَاضِهِ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ فِيهِ نَوْعُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِقْرَاضَ يَتَنَافَى مَعَ حَجْرِهِ عَنْ مَالِهِ، أَمَّا اسْتِقْرَاضُهُ مِنَ الْغَيْرِ فَلَا يَحِقُّ لِلسَّفِيهِ الِاسْتِقْرَاضُ وَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ الَّذِي اسْتَقْرَضَهُ، لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الرُّشْدِ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمُسْتَقْرَضُ بَاقِيًا رَدَّهُ وَلِيُّ السَّفِيهِ إِلَى الْمُقْرِضِ.
وَإِنْ تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ السَّفِيهُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مُقَصِّرٌ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْهِ بِرِضَاهُ وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ، إِذْ هُوَ مُفَرِّطٌ فِي مَالِهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ مَنْعِهِ مِنَ الِاسْتِقْرَاضِ مَا يَلِي:
أ- إِذَا اسْتَقْرَضَ لِدَفْعِ صَدَاقِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ لَهُ عَنْ ذِمَّتِهِ، فَإِنِ اسْتَقْرَضَ لِلْمَهْرِ وَصَرَفَهُ فِي حَاجَاتِهِ الْأُخْرَى لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ شَيْءٌ عَلَيْهِ ب- إِذَا اسْتَقْرَضَ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ نَفَقَةَ الْمِثْلِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي صَرَفَ لَهُ نَفَقَتَهُ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُلْزَمُ الْقَاضِي بِقَضَاءِ الْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِي صَنِيعِهِ هَذَا.
أَمَّا إِذَا صَرَفَ لَهُ نَفَقَتَهُ فَلَا يَصِحُّ اسْتِقْرَاضُهُ.
وَإِنِ اسْتَقْرَضَ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى نَفَقَةِ مِثْلِهِ قَضَى عَنْهُ نَفَقَةَ الْمِثْلِ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ وَأَبْطَلَ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّ فِي الزَّائِدِ مَعْنَى الْفَسَادِ وَالْإِسْرَافِ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْإِيدَاعِ:
35- إيدَاعُ السَّفِيهِ مَالَهُ نَوْعُ تَصَرُّفٍ مِنْهُ بِالْمَالِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْإِيدَاعُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُشْبِهُ الْوَكِيلَ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ جَائِزَ التَّصَرُّفِ، وَالسَّفِيهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَإِذَا أَوْدَعَ شَخْصٌ لَدَيْهِ مَالًا فَأَتْلَفَهُ فَهَلْ يَضْمَنُهُ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ قَدْ فَرَّطَ فِي التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ.
ثَانِيهِمَا: يَجِبُ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالْإِتْلَافِ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى غَصْبِ مَالِ الْغَيْرِ وَإِتْلَافِهِ:
36- إِذَا غَصَبَ السَّفِيهُ مَالَ غَيْرِهِ أَعَادَهُ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، وَإِنْ تَلِفَ الْمَغْصُوبُ أَوْ أَتْلَفَ مَالَ إِنْسَانٍ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ يَضْمَنَانِ الْمَالَ الْمُتْلَفَ وَهُمَا أَشَدُّ حَجْرًا مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِهِ كَالْوَدِيعَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أُخِذَ مِنْ مَالِهِ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُتْبِعَ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى وُجُودِ الْمَالِ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مَا إِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ وَلِيُّهُ لِيَحْفَظَهُ لِرَبِّهِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ فِي الْأَصَحِّ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الشَّرِكَةِ:
اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّرِيكِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ كَالْبَيْعِ- وَهُوَ الْحُرُّ الْبَالِغُ الرَّشِيدُ، وَأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ التَّوَكُّلِ وَالتَّوْكِيلِ، وَلِذَا لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ مِنَ السَّفِيهِ إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَصَرُّفَاتِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْهُ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ:
37- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ كَفَالَةِ السَّفِيهِ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّتِهَا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَصْلُحُ تَبَرُّعُهُ وَتَصَرُّفُهُ، لِأَنَّهَا الْتِزَامٌ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ ضَمَانِ السَّفِيهِ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ صَحِيحٌ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ، فَكَذَا ضَمَانُهُ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ.
أَمَّا الْكَفَالَةُ فَإِنَّهُ مَنَعَهَا مُطْلَقًا.
وَالْأَذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ صَحَّحَ كَفَالَتَهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ فِي الرَّأْيِ الْأَظْهَرِ.
وَقَدْ جَوَّزَهَا الْمَالِكِيَّةُ إِذَا كَانَتْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.
أَمَّا كَوْنُهُ مَكْفُولًا عَنْهُ فَقَدْ جَوَّزَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَفَالَةَ شَخْصٍ لِلسَّفِيهِ؛ لِأَنَّ رِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَصِحُّ ضَمَانُهُ، لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ جَائِزٌ دُونَ إِذْنِهِ فَالْتِزَامُ قَضَائِهِ أَوْلَى، أَمَّا كَفَالَتُهُ فَتَصِحُّ، فَإِنْ خَلَا عَنْ تَفْوِيتِ مَالٍ فَيُعْتَبَرُ إِذْنُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْوِيتُ مَالٍ، كَأَنِ احْتَاجَ إِلَى مُؤْنَةِ سَفَرٍ لِإِحْضَارِهِ فَالْمُعْتَبَرُ إِذْنُ الْوَلِيِّ.
وَجَوَّزَ الْمَالِكِيَّةُ كَفَالَتَهُ فِي الْأَرْجَحِ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صَرْفِهِ وَبِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَخَذَهُ السَّفِيهُ أَوِ اقْتَرَضَهُ أَوْ بَاعَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ يَرْجِعُ الضَّامِنُ فِي مَالِهِ إِذَا أَدَّى عَنْهُ.
أَثَرُهُ عَلَى الْحَوَالَةِ:
38- السَّفِيهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحِيلًا أَوْ مُحْتَالًا أَوْ مُحَالًا إِلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ مُحِيلًا: لَا تَصِحُّ إِحَالَتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، وَرِضَاهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ مُحَالًا فَمَنِ اشْتَرَطَ رِضَاهُ- وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- لَا تَصِحُّ إِحَالَتُهُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي قَبْضِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ مَدِينِهِ فَلَا تَصِحُّ إِحَالَتُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ.
وَإِنْ كَانَ مُحَالًا عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ عَلَى السَّفِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(1) فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى صِحَّةِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مُقْتَضَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِمْ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِصِحَّتِهَا، وَيَدْفَعُ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ.
(2) وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ عَلَى السَّفِيهِ، وَهَذَا مَا يَقْتَضِيهِ اشْتِرَاطُهُمْ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ، وَالسَّفِيهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرِّضَا وَالتَّصَرُّفِ.أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ عَدَمِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ فَإِنَّ رِضَاهُ مُعْتَبَرٌ، فَالْحَوَالَةُ عَلَيْهِ صَحِيحَةٌ.
أَثَرُهُ عَلَى الْإِعَارَةِ:
39- إِذَا أَعَارَ السَّفِيهُ شَيْئًا أَوِ اسْتَعَارَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تُشْتَرَطُ فِي الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ وَأَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ، وَالسَّفِيهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَهَلْ يَضْمَنُ إِذَا اسْتَعَارَ شَيْئًا فَتَلِفَ؟ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَوْضُوعِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِاخْتِيَارِ مَالِكِهِ.
وَثَانِيهِمَا: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِيرَ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ:
40- لَا يَجُوزُ لِلسَّفِيهِ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا عِنْدَ آخَرَ، وَلَا أَنْ يَرْتَهِنَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ كَوْنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَالسَّفِيهُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ لِوَلِيِّهِ الرَّهْنُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ أَوْ غِبْطَةٍ- وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ لَهُ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ، وَأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، لِذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ.
أَثَرُهُ عَلَى الصُّلْحِ:
41- لَا يَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ أَنْ يُصَالِحَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَمَعْنَى التَّبَرُّعِ، وَالسَّفِيهُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ (صُلْح).
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ:
42- لَا يَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ أَنْ يُؤَجِّرَ وَلَا أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَلَا أَنْ يُسَاقِيَ عَلَى بُسْتَانِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ؛ لِأَنَّهَا مُعَامَلَةٌ تَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ فَلَا تَصِحُّ إِلاَّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ جَوَّزُوا لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ إِلاَّ إِذَا حَابَى فِي الْأُجْرَةِ.
أَثَرُهُ عَلَى اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ:
43- إِنِ الْتَقَطَ السَّفِيهُ لُقَطَةً أَوْ وَجَدَ لَقِيطًا صَحَّ الْتِقَاطُهُ، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ الْوَلِيُّ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّقِيطِ وَحَقِّ مَالِكِ اللُّقَطَةِ، وَيَقُومُ بِتَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ لِأَنَّ اللاَّقِطَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّعْرِيفِ وَهُوَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي مَالِهِ، فَكَذَا فِي لُقَطَتِهِ.
أَثَرُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ:
44- لَا يَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ أَنْ يُضَارِبَ آخَرَ أَوْ أَنْ يَأْخُذَ هُوَ مَالًا مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الشَّرِكَةِ، وَأَنَّ الْعَامِلَ وَكِيلُ رَبِّ الْمَالِ، وَالشَّرْطُ فِي الشَّرِيكِ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، وَكَذَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَكِيلِ.
أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْإِقْرَارِ:
أَوَّلًا: الْإِقْرَارُ بِمَالٍ أَوْ بِدَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ:
45- إِذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ إِتْلَافِ مَالٍ، أَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ، فَهَلْ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ قَضَاءً؟
فِي الْمَسْأَلَةِ آرَاءٌ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: عَدَمُ صِحَّةِ إِقْرَارِهِ سَوَاءٌ أَسْنَدَ وُجُوبَ الْمَالِ إِلَى مَا قَبْلَ الْحَجْرِ أَمْ إِلَى مَا بَعْدَهُ كَالصَّبِيِّ؛ إِذْ إِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحِفْظِ مَالِهِ.
فَلَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ تَوَصَّلَ بِالْإِقْرَارِ إِلَى إِبْطَالِ مَعْنَى الْحَجْرِ، وَمَا لَا يَلْزَمُهُ بِالْإِقْرَارِ وَالِابْتِيَاعِ لَا يَلْزَمُهُ إِذَا فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ؛ لِأَنَّا أَسْقَطْنَا حُكْمَ الْإِقْرَارِ وَالِابْتِيَاعِ لِحِفْظِ الْمَالِ، فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِذَا فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ لَمْ يُؤَثِّرِ الْحَجْرُ فِي حِفْظِ الْمَالِ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: بَعْدَ صَلَاحِهِ إِنْ سُئِلَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ وَقَالَ: كَانَ حَقًّا، أُخِذَ بِهِ بَعْدَ رَفْعِ الْحَجْرِ عَنْهُ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَهُمْ قَوْلَانِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ الْأَصَحُّ عَدَمُ إِلْزَامِهِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ نُفُوذِ إِقْرَارِهِ فِي حَالِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِحِفْظِ مَالِهِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَنُفُوذُهُ بَعْدَ فَكِّهِ عَنْهُ لَا يُفِيدُ إِلاَّ تَأْخِيرَ الضَّرَرِ عَلَيْهِ إِلَى أَكْمَلِ حَالَتَيْهِ.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ بَعْدَ فِكَاكِ حَجْرِهِ، لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ كَالرَّاهِنِ وَالْمُفْلِسِ.
وَالرَّأْيُ الثَّالِثُ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَاشَرَ الْإِتْلَافَ يَضْمَنُ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ قُبِلَ قَضَاءً وَهُوَ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا دِيَانَةً، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي إِقْرَارِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ.
ثَانِيًا: إِقْرَارُهُ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ:
46- إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي أَوْدَعَهَا إِيَّاهُ رَجُلٌ قَدْ هَلَكَتْ، لَا يُصَدَّقُ فِي إِقْرَارِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ لَهُ بِالْمَالِ مَا دَامَ مَحْجُورًا كَالصَّبِيِّ.
ثَالِثًا: إِقْرَارُهُ بِالنِّكَاحِ:
47- لَوْ أَقَرَّ السَّفِيهُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ مِنْهُ، فَمَنْ أَجَازَ إنْشَاءَهُ مِنْهُ قَالَ بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ إِذْنِ وَلِيِّهِ لَمْ يَعْتَبِرْ إِقْرَارُهُ بِهِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.أَمَّا السَّفِيهَةُ فَيُقْبَلُ إِقْرَارُهَا لِمَنْ صَدَّقَهَا كَالرَّشِيدَةِ.
إِذْ لَا أَثَرَ لِلسَّفَهِ مِنْ جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَالُ وَهُوَ الْمَهْرُ، وَإِقْرَارُهُ يَفُوتُ بِهِ الْمَالُ.
رَابِعًا: إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ وَنَفْيُهُ:
48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَ السَّفِيهِ بِالنَّسَبِ يَصِحُّ مِنْهُ وَيُلْحَقُ الْمُقَرُّ بِهِ بِنَسَبِهِ؛ إِذْ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ السَّفَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ كَالْحَدِّ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُنْفِقَ عَلَى الْمُلْحَقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ إِجْمَاعُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ.
خَامِسًا: إِقْرَارُهُ بِالْقِصَاصِ أَوْ بِحَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ:
49- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَبِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ إِجْمَاعُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي نَفْسِهِ، وَلِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَالِ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَفْرِيطٌ مِنَ الْمَالِكِ، وَالْإِتْلَافُ يَسْتَوِي فِيهِ جَائِزُ التَّصَرُّفِ وَغَيْرُهُ.
فَإِنْ عَفَا عَنْهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَهَلْ يَسْقُطُ أَمْ لَا؟ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ وَالْمُقَرَّ لَهُ قَدْ يَتَوَاطَآنِ عَلَى ذَلِكَ، وَيَجِبُ عِنْدَهُمْ إِذَا انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ.وَيَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِاخْتِيَارِ غَيْرِهِ لَا بِإِقْرَارِهِ.
أَمَّا إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْمَالَ فَلَا يَلْزَمُهُ كَجِنَايَةِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ.
أَثَرُ السَّفَهِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْقِصَاصِ الثَّابِتِ لَهُ:
50- إِذَا جَنَى عَلَيْهِ أَحَدٌ جِنَايَةَ عَمْدٍ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ بِقَتْلِ مُوَرِّثِهِ وَأَرَادَ الْعَفْوَ عَنِ الْجَانِي، فَهَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟.
إِنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ التَّشَفِّي، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ عَلَى مَالٍ كَانَ الْأَمْرُ لَهُ.
وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا أَوْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ فَعَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ لَا غَيْرُ صَحَّ عَفْوُهُ، وَعَلَى الْقَوْلِ: إِنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، يَصِحُّ عَفْوُهُ عَلَى مَالٍ.
وَهَلْ يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الدِّيَةِ؟ لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنْهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ: يَصِحُّ الْعَفْوُ بِدُونِ مَالٍ؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ الْعَفْوُ مَجَّانًا أَوِ الْقِصَاصُ.
وَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا عَنْ جِرَاحِ الْخَطَأِ لِأَنَّهَا مَالٌ، فَإِنْ أَدَّى جُرْحُهُ إِلَى إِتْلَافِ نَفْسِهِ وَعَفَا عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ كَانَ مِنْ ثُلُثِهِ كَالْوَصَايَا.
وَفِي مَعْنَى الْخَطَأِ الْعَمْدُ الَّذِي لَا قِصَاصَ فِيهِ- كَالْجَائِفَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
25-موسوعة الفقه الكويتية (صغر)
صِغَرٌالتَّعْرِيفُ:
1- الصِّغَرُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنْ صَغُرَ صِغَرًا: قَلَّ حَجْمُهُ أَوْ سِنُّهُ فَهُوَ صَغِيرٌ، وَالْجَمْعُ: صِغَارٌ.وَفِيهِ- أَيْضًا- الْأَصْغَرُ اسْمُ تَفْضِيلٍ.
وَالصِّغَرُ ضِدُّ الْكِبَرِ، وَالصُّغَارَةُ خِلَافُ الْعِظَمِ.
وَاصْطِلَاحًا: هُوَ وَصْفٌ يَلْحَقُ بِالْإِنْسَانِ مُنْذُ مَوْلِدِهِ إِلَى بُلُوغِهِ الْحُلُمَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الصِّبَا:
2- يُطْلَقُ الصِّبَا عَلَى مَعَانٍ عِدَّةٍ مِنْهَا: الصِّغَرُ وَالْحَدَاثَةُ، وَالصَّبِيُّ الصَّغِيرُ دُونَ الْغُلَامِ، أَوْ مَنْ لَمْ يُفْطَمْ بَعْدُ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الصَّبِيُّ مُنْذُ وِلَادَتِهِ إِلَى أَنْ يُفْطَمَ.وَعَلَى هَذَا فَالصِّبَا أَخَصُّ مِنِ الصِّغَرِ.
التَّمْيِيزُ:
3- هُوَ أَنْ يَصِيرَ لِلصَّغِيرِ وَعْيٌ وَإِدْرَاكٌ يَفْهَمُ بِهِ الْخِطَابَ إِجْمَالًا.
الْمُرَاهَقَةُ:
4- الرَّهَقُ: جَهْلٌ فِي الْإِنْسَانِ وَخِفَّةٌ فِي عَقْلِهِ.
يُقَالُ: فِيهِ رَهَقٌ أَيْ حِدَّةٌ وَخِفَّةٌ.
وَرَاهَقَ الْغُلَامُ: قَارَبَ الْحُلُمَ
الرُّشْدُ:
5- الرُّشْدُ: أَنْ يَبْلُغَ الصَّبِيُّ حَدَّ التَّكْلِيفِ صَالِحًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا لِمَالِهِ.
مَرَاحِلُ الصِّغَرِ:
6- تَنْقَسِمُ مَرَاحِلُ الصِّغَرِ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ:
(1) - مَرْحَلَةِ عَدَمِ التَّمْيِيزِ.
(2) - مَرْحَلَةِ التَّمْيِيزِ:
الْمَرْحَلَةُ الْأُولَى: عَدَمُ التَّمْيِيزِ:
7- تَبْدَأُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مُنْذُ الْوِلَادَةِ إِلَى التَّمْيِيزِ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَرْحَلَةُ التَّمْيِيزِ:
8- تَبْدَأُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مُنْذُ قُدْرَةِ الصَّغِيرِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، بِمَعْنَى: أَنْ يَكُونَ لَهُ إِدْرَاكٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ.
وَيُلَاحَظُ: أَنَّ التَّمْيِيزَ لَيْسَ لَهُ سِنٌّ مُعَيَّنَةٌ يُعْرَفُ بِهَا، وَلَكِنْ تَدُلُّ عَلَى التَّمْيِيزِ أَمَارَاتُ التَّفَتُّحِ وَالنُّضُوجِ، فَقَدْ يَصِلُ الطِّفْلُ إِلَى مَرْحَلَةِ التَّمْيِيزِ فِي سِنٍّ مُبَكِّرَةٍ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ إِلَى مَا قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَتَنْتَهِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ بِالْبُلُوغِ.
أَهْلِيَّةُ الصَّغِيرِ:
تَنْقَسِمُ أَهْلِيَّةُ الصَّغِيرِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ- أَهْلِيَّةِ وُجُوبٍ.
ب- أَهْلِيَّةِ أَدَاءً.
(أ) أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ:
9- هِيَ صَلَاحِيَةُ الْإِنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَمَنَاطُهَا الْإِنْسَانِيَّةُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ.
(ب) أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ:
10- هِيَ صَلَاحِيَةُ الْإِنْسَانِ لِصُدُورِ الْفِعْلِ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَمَنَاطُهَا التَّمْيِيزُ.
أَهْلِيَّةُ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ:
11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى هَذِهِ الْأَهْلِيَّةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: مُصْطَلَحِ (أَهْلِيَّةٌ).
أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالصَّغِيرِ:
أَوَّلًا- التَّأْذِينُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ:
12- يُسْتَحَبُّ الْأَذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى، وَالْإِقَامَةُ فِي أُذُنِهِ الْيُسْرَى؛ لِمَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ»
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَذَان).
ثَانِيًا: تَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ:
13- يُسْتَحَبُّ تَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ، وَالتَّحْنِيكُ: هُوَ دَلْكُ حَنَكِ الْمَوْلُودِ بِتَمْرَةٍ مَمْضُوغَةٍ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّحْنِيكِ، مَا رَوَى أَنَسٌ «أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ غُلَامًا، قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-.فَأَتَيْتُهُ بِهِ- وَأَرْسَلَ مَعِي بِتَمَرَاتٍ- فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ وَسَمَّاهُ: عَبْدَ اللَّهِ».انْظُرْ: (تَحْنِيك) ثَالِثًا- تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ:
14- تُسْتَحَبُّ تَسْمِيَتُهُ بِاسْمٍ مُسْتَحَبٍّ، لِمَا رَوَاهُ سَمُرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيُسَمَّى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ» انْظُرْ: (تَسْمِيَة).
رَابِعًا- عَقِيقَةُ الْمَوْلُودِ:
15- الْعَقِيقَةُ لُغَةً: مَعْنَاهَا الْقَطْعُ.
وَشَرْعًا: مَا يُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَلْمَانِ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى».
وَلِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَهُمْ عَنِ الْغُلَامِ: شَاتَانِ مُتَكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ».
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا.
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ إِلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْعَقِيقَةَ نُسِخَتْ بِالْأُضْحِيَّةِ؛ فَمَنْ شَاءَ فَعَلَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ.
خَامِسًا: الْخِتَانُ:
16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الْمُعْتَمَدِ- إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.انْظُرْ: (خِتَان).
حُقُوقُ الصَّغِيرِ:
مِنْ حُقُوقِ الصَّغِيرِ مَا يَأْتِي:
17- أ- أَنْ يُنْسَبَ إِلَى أَبِيهِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ).
ب- أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ).
ج- تَعْلِيمُهُ وَتَأْدِيبُهُ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَعْلِيمٌ، وَتَأْدِيبٌ).
مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الصَّغِيرِ مَالِيًّا:
18- يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ مَا يَلِي: قِيمَةُ الْمُتْلَفَاتِ، وَالنَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ، وَالْعُشْرُ، وَالْخَرَاجُ، وَزَكَاةُ الْمَالِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَالْأُضْحِيَّةُ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ يُنْظَرُ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا، وَيُطَالَبُ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ بِتَنْفِيذِ هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ.
الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرِ:
19- الْوِلَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ أَوْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: هِيَ النُّصْرَةُ وَالْمَعُونَةُ.
وَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوِلَايَةَ:
هِيَ سُلْطَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَتَمَكَّنُ بِهَا صَاحِبُهَا مِنَ الْقِيَامِ عَلَى شُؤُونِ الصِّغَارِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ.
وَتَبْدَأُ الْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى الصَّغِيرِ مُنْذُ وِلَادَتِهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا
، وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوِلَايَةَ تَكُونُ عَلَى الصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَعَلَى الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْوِلَايَةُ وَاجِبَةٌ لِمَصْلَحَةِ كُلِّ قَاصِرٍ؛ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ غَيْرَ صَغِيرٍ.
أَقْسَامُ الْوِلَايَةِ:
تَنْقَسِمُ الْوِلَايَةُ بِحَسَبِ السُّلْطَةِ الْمُخَوَّلَةِ لِلْوَلِيِّ إِلَى قِسْمَيْنِ: وِلَايَةٍ عَلَى النَّفْسِ، وَوِلَايَةٍ عَلَى الْمَالِ.
أ- الْوِلَايَةُ عَلَى النَّفْسِ:
20- يَقُومُ الْوَلِيُّ بِمُقْتَضَاهَا بِالْإِشْرَافِ عَلَى شُؤُونِ الصَّغِيرِ الشَّخْصِيَّةِ، مِثْلِ: التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّطْبِيبِ إِلَى آخِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ، وَكَذَا تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ؛ فَالتَّزْوِيجُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ.
ب- الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَالِ:
21- يَقُومُ الْوَلِيُّ بِمُقْتَضَاهَا بِالْإِشْرَافِ عَلَى شُؤُونِ الصَّغِيرِ الْمَالِيَّةِ: مِنْ إِنْفَاقٍ، وَإِبْرَامِ عُقُودٍ، وَالْعَمَلِ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ وَتَنْمِيَتِهِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ فِي تَقْسِيمِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَرَاتِبِهِمْ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلَايَةٌ).
تَأْدِيبُ الصِّغَارِ وَتَعْلِيمُهُمْ:
22- يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَأْدِيبُ الصِّغَارِ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ؛ الَّتِي تَغْرِسُ فِي نَفْسِ الطِّفْلِ الْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ وَالسُّلُوكَ الْقَوِيمَ، كَالْأَمْرِ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ فِي طَوْقِهِ: يُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (تَأْدِيبٌ، تَعْلِيمٌ).
تَطْبِيبُ الصَّغِيرِ:
23- لِلْوَلِيِّ عَلَى النَّفْسِ وِلَايَةُ عِلَاجِ الصَّغِيرِ وَتَطْبِيبُهُ وَخِتَانُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ اللاَّزِمَةِ لِلصِّغَارِ لِتَعَلُّقِهَا بِصِحَّتِهِ وَيَتَحَقَّقُ هَذَا بِالْإِذْنِ لِلطَّبِيبِ فِي تَقْدِيمِ الْعِلَاجِ اللاَّزِمِ لِلصِّغَارِ، وَالْإِذْنِ فِي إِجْرَاءِ الْعَمَلِيَّاتِ الْجِرَاحِيَّةِ لَهُمْ.
قَالَ الْفُقَهَاءُ: هَذَا خَاصٌّ بِالْوَلِيِّ عَلَى النَّفْسِ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ عَلَى الْمَالِ ذَلِكَ، فَلَوْ أَذِنَ الْوَلِيُّ عَلَى الْمَالِ لِلطَّبِيبِ بِإِجْرَاءِ عَمَلِيَّةٍ لِلصَّغِيرِ فَهَلَكَ، فَعَلَى الْوَلِيِّ الدِّيَةُ لِتَعَدِّيهِ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ مُلِحَّةٌ فِي إِجْرَاءِ الْعَمَلِيَّةِ لِإِنْقَاذِ حَيَاةِ الصَّغِيرِ، وَتَغَيَّبَ الْوَلِيُّ عَلَى النَّفْسِ فَلِلْوَلِيِّ عَلَى الْمَالِ الْإِذْنُ فِي إِجْرَاءِ الْعَمَلِيَّةِ، أَوْ لِأَيِّ أَحَدٍ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ إِنْقَاذَ الْآدَمِيِّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
تَصَرُّفَاتُ الْوَلِيِّ الْمَالِيَّةُ:
24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَتَصَرَّفُ وُجُوبًا فِي مَالِ الصَّغِيرِ بِمُقْتَضَى الْمَصْلَحَةِ وَعَدَمِ الضَّرَرِ؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} كَمَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَلِلْفَقِيرِ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}.
وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَالِ الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا؛ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ مَكَانَ قِيَامِهِ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَوَرَدَ أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي فَقِيرٌ لَيْسَ لِي شَيْءٌ، وَلِيَ يَتِيمٌ؟ قَالَ: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلَا مُبَاذِرٍ، وَلَا مُتَأَثِّلٍ، وَلَا تَخْلِطْ مَالَكَ بِمَالِهِ» وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلَايَةٌ).
أَحْكَامُ الصَّغِيرِ فِي الْعِبَادَاتِ:
الطَّهَارَةُ:
25- تَجِبُ الطَّهَارَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ إِذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهَا، أَمَّا الصَّغِيرُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ الْوَلِيُّ بِهَا أَمْرَ تَأْدِيبٍ وَتَعْلِيمٍ. بَوْلُ الصَّغِيرِ:
26- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ إِذَا أَكَلَا الطَّعَامَ وَبَلَغَا عَامَيْنِ فَإِنَّ بَوْلَهُمَا نَجِسٌ كَنَجَاسَةِ بَوْلِ الْكَبِيرِ؛ يَجِبُ غَسْلُ الثَّوْبِ إِذَا أَصَابَهُ هَذَا الْبَوْلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَجَاسَةِ الْبَوْلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ».
أَمَّا بَوْلُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إِذَا لَمْ يَأْكُلَا الطَّعَامَ، وَكَانَا فِي فَتْرَةِ الرَّضَاعَةِ؛ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي وُجُوبِ التَّطَهُّرِ مِنْهُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ ثَوْبَ الْمُرْضِعَةِ أَوْ جَسَدَهَا مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطِ الطِّفْلِ؛ سَوَاءٌ أَكَانَتْ أُمَّهُ أَمْ غَيْرَهَا، إِذَا كَانَتْ تَجْتَهِدُ فِي دَرْءِ النَّجَاسَةِ عَنْهَا حَالَ نُزُولِهَا، بِخِلَافِ الْمُفَرِّطَةِ، لَكِنْ يُنْدَبُ غَسْلُهُ إِنْ كَثُرَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ بَوْلِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ؛ فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ بَوْلُ الصَّغِيرِ اكْتَفَى بِنَضْحِهِ بِالْمَاءِ، وَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ بَوْلُ الصَّغِيرَةِ وَجَبَ غَسْلُهُ؛ لِحَدِيثِ «أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا: أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِابْنٍ لَهَا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ، فَبَالَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلًا» وَلِحَدِيثِ: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ».
وَكُلُّ مَا ذُكِرَ مِنَ اتِّفَاقٍ وَاخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَوْلِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ؛ يَنْطَبِقُ تَمَامًا عَلَى قَيْءِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ. أَذَانُ الصَّبِيِّ:
27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ أَذَانِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُ مَا يَفْعَلُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَذَانِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَصِحُّ أَذَانُهُ إِلاَّ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى بَالِغٍ فِي إِخْبَارِهِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ فَإِنْ أَذَّنَ الصَّغِيرُ بِلَا اعْتِمَادٍ عَلَى بَالِغٍ وَجَبَ عَلَى الْبَالِغِينَ إِعَادَةُ الْآذَانِ.
أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: فَيَصِحُّ أَذَانُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (أَذَانٌ).
صَلَاةُ الصَّغِيرِ:
28- لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ».
وَلَكِنْ يُؤْمَرُ الصَّغِيرُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى بِالصَّلَاةِ تَعْوِيدًا لَهُ، إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ؛ زَجْرًا لَهُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».
عَوْرَةُ الصَّغِيرِ:
29- مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَلَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ تَحْدِيدِ عَوْرَةِ الْكِبَارِ مِنِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكَيْفِيَّةِ سَتْرِهَا، كَمَا تَكَلَّمُوا عَنْ تَحْدِيدِ عَوْرَةِ الصِّغَارِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا.
وَلَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ عَوْرَةِ الصِّغَارِ وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ أَقْوَالِهِمْ مِنْ خِلَالِ مَذَاهِبِهِمْ:
أَوَّلًا- الْحَنَفِيَّةُ:
لَا عَوْرَةَ لِلصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعَ سِنِينَ، فَيُبَاحُ النَّظَرُ إِلَى بَدَنِهِ وَمَسُّهُ، أَمَّا مَنْ بَلَغَ أَرْبَعًا فَأَكْثَرَ، وَلَمْ يُشْتَهَ فَعَوْرَتُهُ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ، ثُمَّ تَغْلُظُ عَوْرَتُهُ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ.أَيْ تُعْتَبَرُ عَوْرَتُهُ: الدُّبُرُ وَمَا حَوْلَهُ مِنِ الْأَلْيَتَيْنِ، وَالْقُبُلُ وَمَا حَوْلَهُ.وَبَعْدَ الْعَاشِرَةِ: تُعْتَبَرُ عَوْرَتُهُ مِنِ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ كَعَوْرَةِ الْبَالِغِ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا، إِذَا كَانَ ذَكَرًا.وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى بَالِغَةً فَجَسَدُهَا كُلُّهُ عَوْرَةٌ إِلاَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ وَبَاطِنَ الْقَدَمَيْنِ.
ثَانِيًا- الْمَالِكِيَّةُ:
يُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى:
أ- فِي الصَّلَاةِ:
عَوْرَةُ الصَّغِيرِ الْمَأْمُورِ بِالصَّلَاةِ، وَهُوَ بَعْدَ تَمَامِ السَّبْعِ هِيَ: السَّوْأَتَانِ، وَالْأَلْيَتَانِ، وَالْعَانَةُ، وَالْفَخِذُ، فَيُنْدَبُ لَهُ سَتْرُهَا كَحَالَةِ السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْبَالِغِ.
وَعَوْرَةُ الصَّغِيرَةِ الْمَأْمُورَةِ بِالصَّلَاةِ: مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَيُنْدَبُ لَهَا سَتْرُهَا كَالسَّتْرِ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْبَالِغَةِ.
ب- خَارِجَ الصَّلَاةِ:
ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ فَأَقَلَّ لَا عَوْرَةَ لَهُ، فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ وَتَغْسِيلُهُ مَيِّتًا.وَابْنُ تِسْعٍ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ تَغْسِيلُهُ، وَابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَكْثَرَ عَوْرَتُهُ كَعَوْرَةِ الرِّجَالِ.
وَبِنْتُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ لَا عَوْرَةَ لَهَا وَبِنْتُ ثَلَاثِ سِنِينَ إِلَى أَرْبَعٍ لَا عَوْرَةَ لَهَا فِي النَّظَرِ؛ فَيُنْظَرُ إِلَى بَدَنِهَا وَلَهَا عَوْرَةٌ فِي الْمَسِّ، فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَسِّلَهَا، وَالْمُشْتَهَاةُ بِنْتُ سَبْعِ سَنَوَاتٍ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَتِهَا، وَلَا تَغْسِيلُهَا.
ثَالِثًا- الشَّافِعِيَّةُ:
عَوْرَةُ الصَّغِيرِ وَلَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ كَالرَّجُلِ (مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ)، وَعَوْرَةُ الصَّغِيرَةِ كَالْكَبِيرَةِ أَيْضًا فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا.
رَابِعًا- الْحَنَابِلَةُ:
لَا عَوْرَةَ لِلصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ سَبْعَ سِنِينَ؛ فَيُبَاحُ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَمَسُّ جَمِيعِ بَدَنِهِ.وَابْنُ سَبْعٍ إِلَى عَشْرٍ عَوْرَتُهُ الْفَرْجَانِ فَقَطْ؛ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا، وَبِنْتُ سَبْعٍ إِلَى عَشْرٍ: عَوْرَتُهَا فِي الصَّلَاةِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهَا الِاسْتِتَارُ وَسَتْرُ الرَّأْسِ كَالْبَالِغَةِ احْتِيَاطًا، وَأَمَامَ الْأَجَانِبِ: عَوْرَتُهَا جَمِيعُ بَدَنِهَا إِلاَّ الْوَجْهَ، وَالرَّقَبَةَ، وَالرَّأْسَ، وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَالسَّاقَ، وَالْقَدَمَ.وَبِنْتُ عَشْرٍ كَالْكَبِيرَةِ تَمَامًا.
انْعِقَادُ الْجَمَاعَةِ وَالْإِمَامَةِ بِالصَّغِيرِ:
30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ- فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ- إِلَى انْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ بِإِمَامٍ وَصَبِيٍّ فَرْضًا وَنَفْلًا؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ صَبِيٌّ فِي التَّهَجُّدِ».
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: فَلَا تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِصَغِيرٍ فِي فَرْضٍ.أَمَّا إِمَامَةُ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (إِمَامَةٌ).
غُسْلُ الْمَوْلُودِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ:
31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ غُسْلِ الصَّغِيرِ إِنْ وُلِدَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ.وَيُنْظَرُ: التَّفْصِيلُ فِي (تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ، اسْتِهْلَالٌ).
الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ:
32- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِهَا فِي مَالِ الصَّغِيرِ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى وُجُوبِهَا فِي مَالِ الصَّغِيرِ إِذَا كَانَ الْمَالُ زُرُوعًا وَثِمَارًا وَعَدَمِ وُجُوبِهَا فِي بَقِيَّةِ أَمْوَالِهِ.
صَوْمُ الصَّغِيرِ:
33- لَا يَجِبُ الصَّوْمُ إِلاَّ بِبُلُوغِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ فِيهَا مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الصِّغَارِ، وَلَمْ يُكَلَّفُوا بِأَدَائِهَا شَرْعًا لِعَدَمِ صَلَاحِيَتِهِمْ لِذَلِكَ؛ فَإِنْ صَامَ الصَّغِيرُ صَحَّ صَوْمُهُ، وَيَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّوْمِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سَنَوَاتٍ، وَيَضْرِبَهُ إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سَنَوَاتٍ لِكَيْ يَعْتَادَ عَلَى الصَّوْمِ؛ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الصَّغِيرُ يَتَحَمَّلُ أَدَاءَ الصَّوْمِ بِلَا مَشَقَّةٍ، فَإِنْ كَانَ لَا يُطِيقُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَمْرُهُ بِالصَّوْمِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (صَوْمٌ).
حَجُّ الصَّبِيِّ:
34- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا إِلاَّ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ وَيَقَعُ نَفْلًا، وَلَا يُجْزِئُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. (يُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي حَجٌّ).
يَمِينُ الصَّغِيرِ وَنَذْرُهُ:
35- لَا يَنْعَقِدُ يَمِينُ الصَّبِيِّ وَلَا نَذْرُهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ؛ يَسْتَوِي فِي هَذَا الْحُكْمِ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ وَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ.انْظُرْ: (أَيْمَان، وَنَذْر).
اسْتِئْذَانُ الصَّغِيرِ:
36- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَطَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ) إِلَى وُجُوبِ أَمْرِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ بِالِاسْتِئْذَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَخَفُّفِ النَّاسِ فِيهَا مِنَ الثِّيَابِ.
وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ فِي الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ كُلِّ خُرُوجٍ وَدُخُولٍ.وَالصَّغِيرُ مِمَّنْ يَكْثُرُ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ؛ فَهُوَ مِنَ الطَّوَّافِينَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
وَذَهَبَ أَبُو قِلَابَةَ إِلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّمَا أُمِرُوا بِهَذَا نَظَرًا لَهُمْ».
أَحْكَامُ الصَّغِيرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ:
أ- وَقْتُ تَسْلِيمِ الصَّغِيرِ أَمْوَالَهُ:
37- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُسَلَّمُ لِلصَّغِيرِ أَمْوَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ رَاشِدًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ عَلَى شَرْطَيْنِ: هُمَا الْبُلُوغُ، وَالرُّشْدُ فِي قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا.
فَإِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ فَإِمَّا أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا أَوْ غَيْرَ رَشِيدٍ.
فَإِنْ بَلَغَ رَشِيدًا مُصْلِحًا لِلْمَالِ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ».وَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ أَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ لقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}.
وَلِلصَّغِيرَةِ أَحْكَامٌ مِنْ حَيْثُ وَقْتُ تَرْشِيدِهَا وَيُنْظَرُ فِي: (حَجْرٌ، وَرُشْدٌ). 38- وَإِنْ بَلَغَ الصَّغِيرُ غَيْرَ رَشِيدٍ فَلَا تُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بَلْ يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ السَّفَهِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}.
إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يَسْتَمِرُّ الْحَجْرُ عَلَى الْبَالِغِ غَيْرِ الرَّشِيدِ إِلَى بُلُوغِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ وَلَوْ لَمْ يَرْشُدْ؛ لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذِهِ السِّنِّ إِهْدَارًا لِكَرَامَتِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} وَتَمَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُعْرَفُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْرٌ، وَرُشْدٌ).
ب- الْإِذْنُ لِلصَّغِيرِ بِالتِّجَارَةِ:
39- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اخْتِبَارِ الْمُمَيِّزِ فِي التَّصَرُّفَاتِ؛ لِمَعْرِفَةِ رُشْدِهِ، لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ، وَاخْتِبَارُهُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ التُّجَّارِ اخْتُبِرَ بِالْمُمَاكَسَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الزُّرَّاعِ اخْتُبِرَ بِالزِّرَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ أَصْحَابِ الْحِرَفِ اخْتُبِرَ بِالْحِرْفَةِ، وَالْمَرْأَةُ تُخْتَبَرُ فِي شُؤُونِ الْبَيْتِ مِنْ غَزْلٍ وَطَهْيِ طَعَامٍ وَصِيَانَتِهِ وَشِرَاءِ لَوَازِمِ الْبَيْتِ وَنَحْوِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِذْنِ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ بِالتِّجَارَةِ وَفِي أَثَرِ الْإِذْنِ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ- يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْمَالِ الْإِذْنُ لِلصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ إِذَا أَنِسَ مِنْهُ الْخِبْرَةَ لِتَدْرِيبِهِ عَلَى طُرُقِ الْمَكَاسِبِ، لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ لِتَعْلَمُوا رُشْدَهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الِاخْتِبَارُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إِلَيْهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمُمَيِّزَ عَاقِلٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَيَرْتَفِعُ حَجْرُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ بِهَذَا الْإِذْنِ فَلَوْ تَصَرَّفَ بِلَا إِذْنٍ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ- وَلَمْ يَنْفُذْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَالْإِذْنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا، مِثْلَ: أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ، أَوْ دَلَالَةً كَمَا لَوْ رَآهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ دَلِيلُ الرِّضَا، وَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ سُكُوتُهُ لأَدَّى إِلَى الْإِضْرَارِ بِمَنْ يُعَامِلُونَهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ- مِنَ الْحَنَفِيَّةِ-: لَا يَثْبُتُ الْإِذْنُ بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ مُحْتَمِلٌ لِلرِّضَا وَلِعَدَمِ الرِّضَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجُوزُ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ وَإِنَّمَا يُسَلَّمُ إِلَيْهِ الْمَالُ وَيُمْتَحَنُ فِي الْمُمَاكَسَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَقْدَ عَقَدَ الْوَلِيُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ وَعُقُودَهُ بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ تَوَافُرِ الْعَقْلِ الْكَافِي لِتَقْدِيرِ الْمَصْلَحَةِ فِي مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُجُودِ مَظِنَّةِ كَمَالِ الْعَقْلِ.
الْوَصِيَّةُ مِنَ الصَّغِيرِ:
40- اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: - فِي أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ- عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا، إِذْ هِيَ تَبَرُّعٌ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ التِّجَارَةِ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَصِيَّةَ الْمُمَيِّزِ وَهُوَ مَنْ أَتَمَّ السَّابِعَةَ إِذَا كَانَتْ لِتَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَجَازَ وَصِيَّةَ صَبِيٍّ مِنْ غَسَّانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ أَوْصَى لِأَخْوَالِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الصَّبِيِّ فِي جَوَازِ وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ سَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْ وَصِيَّتِهِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصِيَّةَ الْمُمَيِّزِ؛ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَأَقَلَّ مِمَّا يُقَارِبُهَا، دُونَ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، إِذَا عَقَلَ الْمُمَيِّزُ الْقُرْبَةَ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ يُحَقِّقُ نَفْعًا لَهُ فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ، فَصَحَّ مِنْهُ كَالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ.
قَبُولُ الصَّغِيرِ لِلْوَصِيَّةِ:
41- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ إِنْ كَانَ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَبُولِ أَوِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ مُلْغَاةٌ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ يَرُدُّ عَنْهُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَاقِصِ الْأَهْلِيَّةِ- وَهُوَ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ- فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَهُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُ كَالْهِبَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فِي الْوَقْفِ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِوَلِيِّهِ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ فَلَا يَمْلِكُونَهُ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَمْرُ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ عَنْ نَاقِصِ الْأَهْلِيَّةِ لِوَلِيِّهِ يَفْعَلُ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ.
تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ:
42- لِلصَّغِيرِ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى الزَّوَاجُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَلَكِنْ لَا يُبَاشِرُ عَقْدَ الزَّوَاجِ بِنَفْسِهِ، بَلْ يَقُومُ وَلِيُّهُ بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ وَتَزْوِيجِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُزَوَّجُ ذَكَرًا يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ تَزْوِيجُهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى زُوِّجَتْ مِنْ إِنْسَانٍ صَالِحٍ يُحَافِظُ عَلَيْهَا وَيُدَبِّرُ شُؤُونَهَا.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نِكَاح):
طَلَاقُ الصَّغِيرِ:
43- الطَّلَاقُ رَفْعُ قَيْدِ الزَّوَاجِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْتِزَامَاتٌ مَالِيَّةٌ، فَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ طَلَاقُ الصَّبِيِّ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ طَلَاقَ مُمَيِّزٍ يَعْقِلُ الطَّلَاقَ وَلَوْ كَانَ دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ زَوْجَتَهُ تَبِينُ مِنْهُ وَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ إِذَا طَلَّقَهَا، وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ الْمُمَيِّزِ فِي الطَّلَاقِ وَتَوَكُّلُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ شَيْءٍ، صَحَّ أَنْ يُوَكَّلَ وَأَنْ يَتَوَكَّلَ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُطَلِّقَ الْوَلِيُّ عَلَى الصَّبِيِّ بِلَا عِوَضٍ لِأَنَّ الطَّلَاقَ ضَرَرٌ.
عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ:
44- الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ فَارَقَهَا زَوْجُهَا بِطَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ، كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَلَمَّا كَانَ زَوَاجُ الصَّغِيرَةِ جَائِزًا صَحَّ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، فَإِذَا طَلُقَتِ الصَّغِيرَةُ فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَلْزَمُهَا، وَتَعْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ.وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ «بَعْضَ الصَّحَابَةِ سَأَلُوا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ عِدَّةِ الصَّغِيرَاتِ فَنَزَلَ قوله تعالى: {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} ».
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} مَحْمُولٌ عَلَى الصَّغِيرَاتِ فَتَكُونُ عِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ وَفَاةٍ: تَكُونُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَزْوَاجًا} لَفْظٌ عَامٌّ يَشْمَلُ الْكَبِيرَاتِ وَالصَّغِيرَاتِ، فَتَكُونُ عِدَّةُ الصَّغِيرَاتِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.وَلِلصَّغِيرَةِ فِي الْعِدَّةِ حَقُّ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى عَلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ يُعْرَفُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ). قَضَاءُ الصَّغِيرِ:
45- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَوْلِيَةِ الصَّغِيرِ الْقَضَاءَ، وَبِالتَّالِي لَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ.انْظُرْ: (قَضَاء).
شَهَادَةُ الصَّغِيرِ:
46- يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَاقِلًا بَالِغًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطِّفْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّغِيرِ غَيْرِ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}.وَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَالصَّغِيرُ مِمَّنْ لَا تُرْضَى شَهَادَتُهُ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَأْثَمُ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَاهِدٍ.
وَأَمَّا شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَتَجُوزُ عِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي الْجِرَاحِ، وَفِي الْقَتْلِ؛ خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
أَحْكَامُ الصَّغِيرِ فِي الْعُقُوبَاتِ:
47- لَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ مَرَاحِلَ الصِّغَرِ إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ:
الْأَوَّلِ: الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ وَهَذَا لَا تُطَبَّقُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ أَصْلًا؛ لِانْعِدَامِ مَسْئُولِيَّتِهِ.
الثَّانِي: الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ لَا تُطَبَّقُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ، وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ صِغَرِ سِنِّهِ؛ بِالتَّوْبِيخِ وَالضَّرْبِ غَيْرِ الْمُتْلِفِ أَمَّا إِذَا ارْتَكَبَ الصَّغِيرُ فِعْلًا مِنْ شَأْنِهِ إِتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ، وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَالِهِ، وَكَذَا لَوْ قَتَلَ إِنْسَانًا خَطَأً وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، هَذَا هُوَ الْمَبْدَأُ الْعَامُّ الَّذِي يُحَدِّدُ عَلَاقَةَ الصِّغَارِ بِالْعُقُوبَاتِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ- دِيَةٌ- قِصَاصٌ).
حَقُّ الصَّغِيرِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
48- حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ يَثْبُتُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ (وَرَثَتِهِ) وَالْأَوْلِيَاءُ قَدْ يَكُونُونَ جَمَاعَةً، أَوْ يَكُونُ وَاحِدًا مُنْفَرِدًا، وَالْجَمَاعَةُ قَدْ يَكُونُونَ جَمِيعًا كِبَارًا، أَوْ كِبَارًا وَصِغَارًا.وَالْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ قَدْ يَكُونُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا.
أَوَّلًا- إِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ صَغِيرًا مُنْفَرِدًا:
49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِظَارِ بُلُوغِهِ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا: يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ، وَالثَّانِيَةُ: يَسْتَوْفِي الْقَاضِي الْقِصَاصَ نِيَابَةً عَنِ الصَّغِيرِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُنْتَظَرُ الْبُلُوغُ، وَلِوَلِيِّ الصَّغِيرِ أَوْ وَصِيِّهِ النَّظَرُ بِالْمَصْلَحَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ أَوْ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي، فَحَقُّهُ التَّفْوِيضُ إِلَى اخْتِيَارِ الْمُسْتَحِقِّ؛ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِاسْتِيفَاءِ غَيْرِهِ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ.
ثَانِيًا- إِذَا كَانَ الصَّغِيرُ مُشْتَرَكًا مَعَ جَمَاعَةٍ كِبَارٍ:
فَلِلْكِبَارِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَلَا يُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْقِصَاصِ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ وَالِاسْتِقْلَالِ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّأُ؛ لِثُبُوتِهِ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ.
انْظُرْ: (قِصَاص).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
26-موسوعة الفقه الكويتية (صيغة)
صِيغَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الصِّيغَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الصَّوْغِ مَصْدَرُ صَاغَ الشَّيْءَ يَصُوغُهُ صَوْغًا وَصِيَاغَةً، وَصُغْتُهُ أَصُوغُهُ صِيَاغَةً وَصِيغَةً، وَهَذَا شَيْءٌ حَسَنُ الصِّيغَةِ، أَيْ حَسَنُ الْعَمَلِ.وَصِيغَةُ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، أَيْ هَيْئَتُهُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا.وَصِيغَةُ الْكَلِمَةِ: هَيْئَتُهَا الْحَاصِلَةُ مِنْ تَرْتِيبِ حُرُوفِهَا وَحَرَكَاتِهَا، وَالْجَمْعُ صِيَغٌ، قَالُوا: اخْتَلَفَتْ صِيَغُ الْكَلَامِ، أَيْ: تَرَاكِيبُهُ وَعِبَارَاتُهُ.
وَاصْطِلَاحًا: لَمْ نَعْرِفْ لِلْفُقَهَاءِ تَعْرِيفًا جَامِعًا لِلصِّيغَةِ يَشْمَلُ صِيَغَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنَ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الصِّيغَةَ هِيَ الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ الَّتِي تُعْرِبُ عَنْ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَنَوْعِ تَصَرُّفِهِ، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْأَلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلَالَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ الْآخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْإِرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الْأَلْفَاظِ وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعِبَارَةُ:
2- فِي اللُّغَةِ: عَبَّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ: أَعْرَبَ وَبَيَّنَ، وَالِاسْمُ الْعِبْرَةُ وَالْعِبَارَةُ، وَعَبَّرَ عَنْ فُلَانٍ تَكَلَّمَ عَنْهُ، وَاللِّسَانُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ أَيْ يُبَيِّنُهُ، وَهُوَ حَسَنُ الْعِبَارَةِ أَيِ الْبَيَانِ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ (عِبَارَةٍ) عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
ب- اللَّفْظُ:
3- فِي اللُّغَةِ: اللَّفْظُ أَنْ تَرْمِيَ بِشَيْءٍ كَانَ فِي فِيكَ، وَلَفَظَ بِالشَّيْءِ يَلْفِظُ: تَكَلَّمَ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
وَلَفَظَ بِقَوْلٍ حَسَنٍ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَتَلَفَّظَ بِهِ كَذَلِكَ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
4- الصِّيغَةُ: رُكْنٌ فِي كُلِّ الِالْتِزَامَاتِ بِاعْتِبَارِهَا سَبَبًا فِي إِنْشَائِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنْ أَحْكَامِ
تَنَوُّعِ الصِّيغَةِ بِتَنَوُّعِ الِالْتِزَامَاتِ
5- لَمَّا كَانَتِ الصِّيغَةُ هِيَ الدَّالَّةَ عَلَى نَوْعِ الِالْتِزَامِ الَّذِي يُنْشِئُهُ الْمُتَكَلِّمُ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ الِالْتِزَامَاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- بَعْضُ الِالْتِزَامَاتِ تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِثْبَات 10) مُصْطَلَحَ: (شَهَادَة).
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا صِيَغُ الْأَيْمَانِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَيْمَان)، وَمُصْطَلَحَ: (لِعَان).
وَمِنْ ذَلِكَ صِيغَةُ عَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذْ لَا بُدَّ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ السَّلَمَ، فَقَالُوا: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ إِلاَّ شَيْئَيْنِ: النِّكَاحَ وَالسَّلَمَ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: زَوَاج (نِكَاح) (وَسَلَم).
6- ب- هُنَاكَ الْتِزَامَاتٌ لَا تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ تَصِحُّ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِعَارَةِ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ- غَيْرُ عَقْدَيِ النِّكَاحِ وَالسَّلَمِ- لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا صِيغَةٌ مُعَيَّنَةٌ، بَلْ كُلُّ لَفْظٍ يُؤَدِّي إِلَى الْمَقْصُودِ يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ.
فَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَسْلِيمِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ بَيْعٌ، وَبِدُونِ الْعِوَضِ هِبَةٌ أَوْ عَطِيَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّمْكِينِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ إِجَارَةٌ، وَبِدُونِ الْعِوَضِ إِعَارَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ عُمْرَى، وَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْتِزَامِ الدَّيْنِ ضَمَانٌ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى نَقْلِهِ حَوَالَةٌ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُلِ عَنْهُ إِبْرَاءٌ وَهَكَذَا.
وَمِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ فِي بَابِ الْبَيْعِ: لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: رَضِيتُ بِكَذَا، أَوْ أَعْطَيْتُكَ بِكَذَا، أَوْ خُذْهُ بِكَذَا، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَهَبْتُكَ أَوْ وَهَبْتُ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ بِثَوْبِكَ هَذَا، فَرَضِيَ، فَهُوَ بَيْعٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَفِي الْحَطَّابِ: لَيْسَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ، وَكُلُّ لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ فُهِمَ مِنْهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ بِهِ الْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ.
وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ إِلاَّ النِّكَاحُ وَالسَّلَمُ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الصِّيغَةُ الْقَوْلِيَّةُ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي لَفْظٍ بِعَيْنِهِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ بَلْ هِيَ كُلُّ مَا أَدَّى مَعْنَى الْبَيْعِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَخُصَّهُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا أَدَّى مَعْنَاهُ.
دَلَالَةُ الصِّيغَةِ عَلَى الزَّمَنِ وَأَثَرُ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْمَاضِي جُعِلَتْ إِيجَابًا لِلْحَالِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ تَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لَكِنْ مَعَ الرُّجُوعِ إِلَى النِّيَّةِ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا صِيغَةُ الْحَالِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا وَنَوَى الْإِيجَابَ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، أَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ، وَنَوَيَا الْإِيجَابَ، فَإِنَّ الرُّكْنَ يَتِمُّ وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هُنَا وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَلَ لِلْحَالِ- هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلِاسْتِقْبَالِ، إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، فَفِي الْحَطَّابِ: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ.
وَلَا يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ وَعْدًا.
وَأَمَّا صِيغَةُ الْأَمْرِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِدَلَالَةِ (بِعْنِي) عَلَى الرِّضَا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهِيَ مُسَاوَمَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَلَا تَكُونُ إِيجَابًا وَقَبُولًا حَقِيقَةً، بَلْ هِيَ طَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَا بُدَّ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ لَفْظٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا.
وَيُوَضِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَقُولُ: إِنْ تَقَدَّمَ الْإِيجَابُ بِلَفْظِ الطَّلَبِ فَقَالَ بِعْنِي ثَوْبَكَ فَقَالَ بِعْتُكَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا يَصِحُّ، وَالثَّانِيَةُ لَا يَصِحُّ.
هَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْد).
الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ فِي الصِّيغَةِ:
8- مِنَ الصِّيَغِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَكْشُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ
وَمِنْهَا مَا هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ أَوِ الْقَرِينَةِ، لِأَنَّهُ كَمَا يَقُولُ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: يَحْتَمِلُ الْمُرَادَ وَغَيْرَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ لِنِيَّةِ الْمُرَادِ لِخَفَائِهِ.
وَاسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَأْتِي فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الِالْتِزَامَاتِ بِالْكِنَايَاتِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَقْد).
شُرُوطُ الصِّيغَةِ:
9- أ- أَنْ تَكُونَ صَادِرَةً مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فَلَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.
وَيُزَادُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ، إِذْ مِنَ Cالْفُقَهَاءِ مَنْ أَجَازَ وَصِيَّةَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ كَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ..وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ وَالْوَلِيِّ وَالْفُضُولِيِّ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ
وَيَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ، فَقَدْ أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَذَانَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَيَصِحُّ إِيمَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
ب- أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ بِالصِّيغَةِ لَفْظَهَا مَعَ الْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ اللَّفْظُ، إِذِ الْجَهْلُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ مُسْقِطٌ لِحُكْمِهِ، فَفِي قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ: إِذَا نَطَقَ الْأَعْجَمِيُّ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ أَوْ إِيمَانٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إِعْتَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ إِبْرَاءٍ لَمْ يُؤَاخَذْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ مُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلاَّ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ، وَإِنْ قَصَدَ الْعَرَبِيُّ بِنُطْقِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِمَعَانِيهِ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ يَمِينٍ دُونَ قَصْدٍ فَهُوَ لَاغٍ، وَلَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ قَصْدِهِ.وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقَعُ طَلَاقُهُ وَيَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، إِذِ الْقَصْدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَمِينِ وَالطَّلَاقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ فَالنَّاسِي وَالْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ وَالذَّاهِلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ لَا شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ.
وَهَذَا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ خِلَافًا لِلْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ لَا لَغْوَ فِيهَا فَيَقَعُ يَمِينُهُ.
أَمَّا لَوْ قَصَدَ اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى كَالْهَازِلِ وَاللاَّعِبِ كَمَنْ خَاطَبَ زَوْجَتَهُ بِطَلَاقٍ هَازِلًا أَوْ لَاعِبًا فَإِنَّ طَلَاقَهُ يَقَعُ، وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَنِكَاحُهُ وَرَجْعَتُهُ وَعِتْقُهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ Cوَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ».وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ».
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه-: أَرْبَعٌ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ: الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّذْرُ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْهَازِلَ أَتَى بِالْقَوْلِ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ لِحُكْمِهِ، وَتَرْتِيبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ إِنَّمَا هِيَ لِلشَّارِعِ لَا لِلْعَاقِدِ، فَإِذَا أَتَى بِالسَّبَبِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ إِنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلْقَوْلِ مُرِيدٌ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِمَعْنَاهُ وَمُوجَبِهِ، وَقَصْدُ اللَّفْظِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْمَعْنَى قَصْدٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لِتَلَازُمِهِمَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّعِبَ وَالْهَزْلَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ جَائِزٍ، فَيَكُونُ جِدُّ الْقَوْلِ وَهَزْلُهُ سَوَاءً، بِخِلَافِ جَانِبِ الْعِبَادِ.
أَمَّا عُقُودُ الْهَازِلِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَلَمْ نَعْثِرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ فِي عُقُودِ الْهَازِلِ غَيْرَ مَا ذُكِرَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (عَقْد- هَزْل).
أَمَّا السَّكْرَانُ: فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوِ النَّبِيذَ طَوْعًا حَتَّى سَكِرَ وَزَالَ عَقْلُهُ فَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ:
وَكَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إِلَى قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ إِلاَّ مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ، فَيَنْزِلُ كَأَنَّ عَقْلَهُ قَائِمٌ، عُقُوبَةً عَلَيْهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْأَشْبَاهِ أَنَّ السَّكْرَانَ مِنْ مُحَرَّمٍ كَالصَّاحِي إِلاَّ فِي ثَلَاثٍ: الرِّدَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى Cنَفْسِهِ.وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدْخَلَ السُّكْرَ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ مَا عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ مَا لَهُ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ، وَلَا يَصِحُّ اتِّهَابُهُ وَتَصِحُّ رِدَّتُهُ دُونَ إِسْلَامِهِ.
وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِيمَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِثْلُ عِتْقِهِ وَقَتْلِهِ وَغَيْرِهِمَا كَالصَّاحِي، وَفِيمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِثْلُ بَيْعِهِ وَنِكَاحِهِ وَمُعَاوَضَتِهِ كَالْمَجْنُونِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَنْ عِنْدَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ فَأَصْبَحَ كَالْمَجْنُونِ، فَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ أَصْلًا، أَمَّا مَنْ عِنْدَهُ وُقُوعُ تَمْيِيزٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: يَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا فَعَلَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ، وَتَلْزَمُهُ الْجِنَايَاتُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالْحُدُودُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ وَالْعُقُودُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
أَمَّا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ كَمَنْ شَرِبَ الْبَنْجَ أَوِ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْكِرُ وَزَالَ عَقْلُهُ فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ لِأَنَّهُ يُقَاسُ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (عَقْد- سُكْر).
ج- أَنْ تَصْدُرَ الصِّيغَةُ عَنِ اخْتِيَارٍ، فَلَوْ كَانَ مُكْرَهًا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْيَمِينُ، وَالنَّذْرُ، وَالظِّهَارُ، وَالْإِيلَاءُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ جَائِزَةٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ، وَإِطْلَاقُهَا يَقْتَضِي شَرْعِيَّةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ.
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَالْإِكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا عَلَى الْإِجَازَةِ.
وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى Cإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَأَجْرَى، وَأَخْبَرَ أَنَّ قَلْبَهُ كَانَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْعِتْقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْيَمِينِ، وَكَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ خَشْيَةَ الْقَتْلِ.
وَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَالْحُكْمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ عَمَلًا بِحَدِيثِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
وَحَدِيثِ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوُا النِّكَاحَ فَيَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ.
مَا يَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ
10- حِينَ تُطْلَقُ الصِّيغَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ، ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَمَّا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ، إِذْ هُوَ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَالَاتِ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ.
وَيَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُرَادِ الْكِتَابَةُ أَوِ الْإِشَارَةُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالًا فِيمَا يَلِي:
أ- الْكِتَابَةُ:
11- الْكِتَابَةُ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَانْعِقَادِهَا بِالْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ هِيَ الْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ الْمَرْسُومَةُ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الصَّحِيفَةِ أَوِ الْحَائِطِ أَوِ الْأَرْضِ، أَمَّا الْكِتَابَةُ الَّتِي لَا تُقْرَأُ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا أَيُّ تَصَرُّفٍ.
وَإِنَّمَا تَصِحُّ التَّصَرُّفَاتُ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ لِأَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فَنَزَلَتِ الْكِتَابَةُ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ، وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّC- صلى الله عليه وسلم- بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَكَانَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِالْقَوْلِ وَفِي حَقِّ آخَرِينَ بِالْكِتَابَةِ إِلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْكِتَابَةَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ فَتَنْعَقِدُ بِهَا الْعُقُودُ مَعَ النِّيَّةِ.
وَاسْتَثْنَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِتَابَةِ عَقْدَ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بَلْ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ مُطْلَقًا، قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ طَالَ، كَمَا لَوِ اخْتَلَّ رُكْنٌ كَمَا لَوْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ أَوْ لَمْ تَقَعِ الصِّيغَةُ بِقَوْلٍ بَلْ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ النِّكَاحَ بِالْكِتَابَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ فَيَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ بِالْكِتَابَةِ لِلضَّرُورَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (تَعْبِير، وَخَرَس).
ب- الْإِشَارَةُ:
12- مِمَّا يَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْإِشَارَةُ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ فِي الْعُقُودِ وَالْحُلُولِ وَالدَّعَاوَى وَالْأَقَارِيرِ وَغَيْرِهَا كَعِبَارَةِ النَّاطِقِ، قَالَ الْإِمَامُ عَنْهُ فِي (الْأَسَالِيبِ) وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِشَارَةَ فِيهَا بَيَانٌ، وَلَكِنَّ الشَّارِعُ تَعَبَّدَ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ، فَإِذَا عَجَزَ الْأَخْرَسُ بِخَرَسِهِ عَنِ الْعِبَارَةِ أَقَامَتِ الشَّرِيعَةُ إِشَارَتَهُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ.
وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّاطِقَ لَوْ أَشَارَ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ فَإِذَا خَرِسَ اعْتَدَّ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ فِي قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ الضَّرُورَةُ، وَأَنَّهُ أَتَى بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْبَيَانِ.
هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكِتَابَةِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي إِشَارَةِ غَيْرِ الْأَخْرَسِ وَهَلْ تُقْبَلُ كَنُطْقِهِ أَمْ لَا؟
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ (إِشَارَة- ف 5) Cجـ- الْفِعْلُ:
13- قَدْ يَقُومُ الْفِعْلُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، وَمِنْ أَهَمِّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ التَّعَاطِي فِي الْعُقُودِ فَأَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- الْبَيْعَ بِالتَّعَاطِي وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، كَمَا أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْإِقَالَةَ وَالْإِجَارَةَ بِالتَّعَاطِي.
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ: (تَعَاطِي- ف 3.)
أَثَرُ الْعُرْفِ فِي دَلَالَةِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ:
14- لِلْعُرْفِ أَثَرٌ فِي دَلَالَةِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَمُرَاعَاةُ حَمْلِ الصِّيغَةِ عَلَى الْعُرْفِ لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا وَالَّتِي بُنِيَتْ أَسَاسًا عَلَى الْأَعْرَافِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: مِمَّا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَتْوَى لِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، مِثْلُ: مُوجَبَاتِ الْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا حَلَفَ: لَا رَكِبْتُ دَابَّةً، وَكَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْحِمَارُ خَاصَّةً اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِرُكُوبِ الْفَرَسِ وَلَا الْجَمَلِ، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْفَرَسُ خَاصَّةً حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهَا دُونَ الْحِمَارِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ عَادَتُهُ رُكُوبُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الدَّوَابِّ كَالْأُمَرَاءِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا اعْتَادَهُ مِنْ رُكُوبِ الدَّوَابِّ، وَيُفْتَى كُلُّ بَلَدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِهِ، وَيُفْتَى كُلُّ أَحَدٍ بِحَسَبِ عَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ لَا أَكَلْتُ رَأْسًا فِي بَلَدٍ عَادَتُهُمْ أَكْلُ رُءُوسِ الضَّأْنِ خَاصَّةً، لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ رُءُوسِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ وَنَحْوِهَا.وَإِذَا أَقَرَّ الْمَلِكُ أَوْ أَغْنَى أَهْلِ الْبَلَدِ لِرَجُلٍ بِمَالٍ كَثِيرٍ لَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ بِالدِّرْهَمِ وَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُتَمَوَّلُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فَقِيرٌ يُعَدُّ عِنْدَهُ الدِّرْهَمُ وَالرَّغِيفُ كَثِيرًا قُبِلَ مِنْهُ.
وَقَدْ عَقَدَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَصْلًا كَامِلًا فِي كِتَابِهِ قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ فِي مَصَالِحِ الْأَنَامِ تَحْتَ عِنْوَانٍ: «فَصْلٌ فِي تَنْزِيلِ دَلَالَةِ الْعَادَاتِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَنْزِلَةَ صَرِيحِ الْأَقْوَالِ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَغَيْرِهَا»، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ فَتَاوَى الْعَلاَّمَةِ قَاسِمٍ: التَّحْقِيقُ أَنَّ لَفْظَ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي وَالْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ وَكُلِّ عَاقِدٍ يُحْمَلُ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ وَلُغَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا، وَافَقَتْ لُغَةَ Cالْعَرَبِ وَلُغَةَ الشَّارِعِ أَوْ لَا
وَيَقُولُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: «.وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَعَادَةُ النَّاسِ تُؤَثِّرُ فِي تَعْرِيفِ مُرَادِهِمْ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ».
وَنَظِيرُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا أَوْرَدَهُ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوقِهِ.
أَثَرُ الصِّيغَةِ:
15- أَثَرُ الصِّيغَةِ: هُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامٍ، وَهُوَ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ لِلصِّيغَةِ، إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الصِّيغَةِ التَّعْبِيرُ عَمَّا يَلْتَزِمُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنِ ارْتِبَاطٍ مَعَ الْغَيْرِ كَصِيَغِ الْعُقُودِ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَصُلْحٍ وَنِكَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَوِ ارْتِبَاطٍ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ كَالنَّذْرِ وَالذِّكْرِ، أَوِ التَّعْبِيرِ عَمَّا هُوَ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ لَدَى الْغَيْرِ مِنْ حُقُوقٍ كَالْإِقْرَارَاتِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالصِّيغَةُ مَتَى اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلًا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَلِلْبَائِعِ الثَّمَنُ لِلْحَالِّ مَعَ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ.
وَفِي الْإِجَارَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَفِي الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْآجِرِ.وَفِي الْهِبَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْمَوْهُوبِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.وَفِي النِّكَاحِ يَثْبُتُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ وَحِلُّ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ.
كَمَا يَجِبُ فِي النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ الْوَفَاءُ وَالْبِرُّ..وَهَكَذَا.
وَالصِّيغَةُ الَّتِي تَصْدُرُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَتَى اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا كَانَتْ هِيَ الْأَسَاسَ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي صُدُورِ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ خِلَافَ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ لَمَّا وَضَعَتِ امْرَأَتُهُ الَّتِي لُوعِنَتْ وَلَدًا يُشْبِهُ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» يَعْنِي: لَوْلَا مَا قَضَى اللَّهُ مِنْ أَلاَّ يُحْكَمَ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِاعْتِرَافٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَعْرِضِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- لِشَرِيكِ وَلَا لِلْمَرْأَةِ، وَأَنْفَذَ الْحُكْمَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدُ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الصَّادِقُ.
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا»
قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى الْحَدِيثِ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى مَا يُسْمَعُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَا لَفَظُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَى أَحَدٍ بِغَيْرِ مَا لَفَظَ بِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، مِثْلُ هَذَا قَضَاؤُهُ - صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِابْنِ الْوَلِيدَةِ فَلَمَّا رَأَى الشَّبَهَ بَيِّنًا بِعُتْبَةَ قَالَ: «احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ».
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: الْحَاكِمُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا ظَهَرَ وَهُوَ الَّذِي تُعُبِّدَ بِهِ، وَلَا يَنْقُلُ الْبَاطِنَ عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَمْوَالِ، وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ أَوْ حِلِّ عَقْدِهِ بِظَاهِرِ مَا يَقْضِي بِهِ الْحَاكِمُ وَهُوَ خِلَافُ الْبَاطِنِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْفُرُوجَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ، كُلُّهَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ».فَلَا يُحِلُّ مِنْهَا الْقَضَاءُ الظَّاهِرُ مَا هُوَ حَرَامٌ فِي الْبَاطِنِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا حَكَى عَنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَعَمَّدَا الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَبِلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا لِظَاهِرِ عَدَالَتِهِمَا، وَهُمَا قَدْ تَعَمَّدَا الْكَذِبَ أَوْ غَلَطَا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، ثُمَّ اعْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ Cلِأَنَّهَا لَمَّا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَاحْتَجُّوا بِحُكْمِ اللِّعَانِ وَقَالُوا: مَعْلُومٌ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَى فِرَاقِ زَوْجِهَا بِاللِّعَانِ الْكَاذِبِ وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنِ الطَّحَاوِيِّ مَا يُشْبِهُ هَذَا التَّفْصِيلَ.
وَقَدْ قَسَّمَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْأَلْفَاظَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنِيَّاتِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ لِمَعَانِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:
16- أَنْ تَظْهَرَ مُطَابَقَةُ الْقَصْدِ لِلَّفْظِ، وَلِلظُّهُورِ مَرَاتِبُ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِحَسَبِ الْكَلَامِ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ وَحَالِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ..
الْقِسْمُ الثَّانِي:
17- مَا يَظْهَرُ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يُرِدْ مَعْنَاهُ، وَقَدْ يَنْتَهِي هَذَا الظُّهُورُ إِلَى حَدِّ الْيَقِينِ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّ السَّامِعُ فِيهِ، هَذَا الْقِسْمُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَلاَّ يَكُونَ مُرِيدًا لِمُقْتَضَاهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَالْمُكْرَهِ، وَالنَّائِمِ، وَالْمَجْنُونِ، وَمَنِ اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ، وَالسَّكْرَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِمَعْنًى يُخَالِفُهُ، وَذَلِكَ كَالْمُعَرِّضِ وَالْمُوَرِّي وَالْمُلْغِزِ وَالْمُتَأَوِّلِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
18- مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَاهُ وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ غَيْرِهِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَاللَّفْظُ دَالٌّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ اخْتِيَارًا.
ثُمَّ بَيَّنَ ابْنُ الْقَيِّمِ مَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَمَا لَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، فَقَالَ: إِذَا ظَهَرَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ لِمَعْنَى الْكَلَامِ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ قَصْدٌ يُخَالِفُ كَلَامَهُ وَجَبَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَالِمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْوَاجِبُ حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَحَمْلُ كَلَامِ الْمُكَلَّفِ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّخَاطُبِ، وَلَا يَتِمُّ التَّفْهِيمُ وَالْفَهْمُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَمُدَّعِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْقَاصِدِ لِلْبَيَانِ وَالتَّفْهِيمِ كَاذِبٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ حُكْمًا بَعْدَ ظُهُورِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْفَاعِلِ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي Cوَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ، وَهُوَ: هَلِ الِاعْتِبَارُ بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ وَالْعُقُودِ، وَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتُ بِخِلَافِهَا؟ أَمْ لِلْقُصُودِ وَالنِّيَّاتِ تَأْثِيرٌ يُوجِبُ الِالْتِفَاتَ إِلَيْهَا وَمُرَاعَاةَ جَانِبِهَا؟
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ عَلَى أَنَّ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ، وَأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ، وَفِي حِلِّهِ، وَحُرْمَتِهِ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَقْدٍ تَحْلِيلًا وَتَحْرِيمًا فَيَصِيرُ حَلَالًا تَارَةً وَحَرَامًا تَارَةً أُخْرَى بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ، وَالْقَصْدِ، كَمَا يَصِيرُ صَحِيحًا تَارَةً، وَفَاسِدًا تَارَةً بِاخْتِلَافِهَا، وَهَذَا كَالرَّجُلِ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ يَنْوِي أَنْ تَكُونَ لِمُوَكِّلِهِ فَتَحْرُمَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَنْوِيَ أَنَّهَا لَهُ فَتَحِلَّ لَهُ.
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يُوَضِّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ الْقَصْدُ دُونَ اللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ يَقُولُ:
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إِنَّمَا تُفِيدُ الْأَحْكَامَ إِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَا جُعِلَتْ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِلاَّ لَمَا تَمَّ عَقْدٌ وَلَا تَصَرُّفٌ، فَإِذَا قَالَ: بِعْتُ أَوْ تَزَوَّجْتُ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ مَعْنَاهُ الْمَقْصُودَ بِهِ، وَجَعَلَهُ الشَّارِعُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إِنْ كَانَ هَازِلًا، وَبِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا يَتِمُّ الْحُكْمُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءُ السَّبَبِ، وَهُمَا مَجْمُوعُهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْمَعْنَى، وَاللَّفْظُ دَلِيلٌ، وَلِهَذَا يُصَارُ إِلَى غَيْرِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
27-موسوعة الفقه الكويتية (عقد موقوف)
عَقْدٌ مَوْقُوفٌالتَّعْرِيفُ:
1- يُطْلَقُ الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: الرَّبْطُ وَالشَّدُّ وَالتَّوْثِيقُ، فَقَدْ جَاءَ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ: عَقَدَ الْحَبْلَ وَالْبَيْعَ وَالْعَهْدَ يَعْقِدُهُ عَقْدًا؛ أَيْ شَدَّهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: الرَّبْطُ بَيْنَ كَلَامَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَنْشَأُ عَنْهُ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ.
أَمَّا الْمَوْقُوفُ فَمِنَ الْوَقْفِ، وَهُوَ لُغَةً: الْحَبْسُ، وَقِيلَ لِلْمَوْقُوفِ: (وَقْفٌ) مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَوْقُوفُ: كُلُّ مَا حُبِسَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
أَمَّا الْوَقْفُ فِي الِاصْطِلَاحِ، فَقَدْ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعَارِيفَ مُخْتَلِفَةٍ لَا تَخْرُجُ فِي مَعْنَاهَا عَنِ الْحَبْسِ وَالتَّأْخِيرِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ فِي الْبَيْعِ هُوَ: مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ، وَلَا يُفِيدُ تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبَيْعُ النَّافِذُ.
2- الْبَيْعُ النَّافِذُ هُوَ: الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَيُفِيدُ الْحُكْمَ فِي الْحَالِ، فَهُوَ ضِدُّ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ.
ب- الْبَيْعُ الْفَاسِدُ:
3- الْبَيْعُ الْفَاسِدُ هُوَ: مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلًا لَا وَصْفًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَصْلِ الصِّيغَةُ وَالْعَاقِدَانِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَبِالْوَصْفِ مَا عَدَا ذَلِكَ.
ج- الْبَيْعُ الْبَاطِلُ.
4- الْبَيْعُ الْبَاطِلُ هُوَ: مَا لَمْ يُشْرَعْ لَا بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ.وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ كِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ
حُكْمُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:
5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ صَحِيحٌ، وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَرِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ:
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَعَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالتِّجَارَةَ ابْتِغَاءَ الْفَضْلِ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَ مِنَ الْمَالِكِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَ مِنَ الْوَكِيلِ فِي الِابْتِدَاءِ، أَوْ بَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَتِ الْإِجَازَةُ مِنَ الْمَالِكِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَبَيْنَ وُجُودِ الرِّضَا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهَا إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ فَجَاءَ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ».
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ لِعُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ- رضي الله عنه- أَنْ يَشْتَرِيَ شَاةً، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي أَنْ يَبِيعَ مَا يَشْتَرِيهِ، فَيَكُونُ بَيْعًا فُضُولِيًّا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُبْطِلِ الْعَقْدَ، بَلْ أَقَرَّهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّصَرُّفِ صَحِيحٌ يُنْتِجُ آثَارَهُ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْإِجَازَةِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَقَدْ قَاسُوا التَّصَرُّفَ الْمَوْقُوفَ عَلَى وَصِيَّةِ الْمَدِينِ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَعَلَى الْعَقْدِ الْمَشْرُوطِ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ الْمَدِينِ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ لِمَالِهِ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ صَحِيحٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ فِي الْحَالِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ الْخِيَارُ تَصَرُّفٌ صَحِيحٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ فِي الْحَالِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ كَمَالُ الرِّضَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَيَرَى فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ بَاطِلٌ وَلَا يَصِحُّ بِالْإِجَازَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا طَلَاقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا بَيْعَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا وَفَاءَ نَذْرٍ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ».
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ عَلَى الْبُطْلَانِ بِأَنَّ الْفُضُولِيَّ أَحَدُ طَرْفَيِ الْبَيْعِ، فَلَمْ يَقِفِ الْبَيْعُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْقَبُولِ؛ وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا).
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يَسْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:
أ- بَيْعُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَشِرَاؤُهُ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلَانِ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ مُلْغَاةٌ لَا اعْتِدَادَ بِهَا شَرْعًا، فَلَا تَصِحُّ بِهَا عِبَادَةٌ، وَلَا تَجِبُ بِهَا عُقُوبَةٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ مَعَهَا بَيْعٌ أَوْ شِرَاءٌ، وَيَسْتَمِرُّ هَكَذَا حَتَّى يَبْلُغَ السَّابِعَةَ وَهُوَ سِنُّ التَّمْيِيزِ.
أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ تَصَرُّفَاتِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
فَذَهَبَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ يَنْعَقِدُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيمَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ، وَإِلاَّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ.
وَذَهَبَ الْفَرِيقُ الثَّانِي وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَشِرَاءَهُ لَا يَنْعَقِدُ أَيٌّ مِنْهُمَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعَاقِدِ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ أَكَانَ بَائِعًا، أَمْ مُشْتَرِيًا هُوَ الرُّشْدُ.
ب: تَصَرُّفَاتُ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةُ:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ الَّتِي يَعْقِدُهَا.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ صَحِيحَةٌ وَتَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِ، فَإِنْ أَجَازَهَا نَفَذَتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةَ بَاطِلَةٌ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ السَّفِيهَ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ وَمُتْلِفٌ لَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ عَنْهُ مَالُهُ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ أَصْلًا، فَهُوَ كَالرَّشِيدِ فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ.
ج- تَصَرُّفُ ذِي الْغَفْلَةِ وَعُقُودُهُ:
8- ذُو الْغَفْلَةِ هُوَ: مَنْ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرُّفَاتِ الرَّابِحَةِ.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ ذِي الْغَفْلَةِ إِلاَّ أَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَصَرُّفَاتِ ذِي الْغَفْلَةِ وَعُقُودِهِ وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْر ف 15)
د- تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ.
9- الْفُضُولِيُّ هُوَ: مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الَّذِي يُوقِعُهُ الْفُضُولِيُّ لِلْمَالِكِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي.
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ مُعْتَبَرَةٌ، وَأَنَّ عُقُودَهُ فِي حَالَتَيِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مُنْعَقِدَةٌ إِلاَّ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الشَّأْنِ، فَإِنْ أَجَازَهَا جَازَتْ وَنَفَذَتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللاَّحِقَةَ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ كَذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْفُضُولِيَّةِ.
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ بِعُمُومِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَقَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَبِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ- رضي الله عنه- السَّابِقِ.وَبِأَنَّ الْفُضُولِيَّ كَامِلُ الْأَهْلِيَّةِ، فَإِعْمَالُ عَقْدِهِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْعَقْدِ مَصْلَحَةٌ لِلْمَالِكِ وَلَيْسَ فِيهِ أَيُّ ضَرَرٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ، فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ وَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ مِنْ أَسَاسِهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا فَلَا تَلْحَقُهُ إِجَازَةُ صَاحِبِ الشَّأْنِ.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ جَائِزٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ وَتَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ إِمَّا لِلْجَهْلِ بِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْبَتِهِ وَمَشَقَّةِ انْتِظَارِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى بُطْلَانِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ بِمَا وَرَدَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ- رضي الله عنه-: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» أَيْ: مَا لَيْسَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ وَذَلِكَ لِلْغَرَرِ النَّاشِئِ عَنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ النِّزَاعِ؛ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ
صُوَرُ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ:
مِنْ صُوَرِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ مَا يَأْتِي:
الصُّورَةُ الْأُولَى: بَيْعُ الْغَاصِبِ:
10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْغَاصِبِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ بَيْعِ الْغَاصِبِ وَنُفُوذِهِ بِالْإِجَازَةِ.
وَوُجْهَةُ نَظَرِهِمْ أَنَّ بَيْعَ الْغَاصِبِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدًا فُضُولِيًّا تَوَفَّرَتْ فِيهِ جَمِيعُ الشُّرُوطِ الْمَطْلُوبَةِ لِلصِّحَّةِ، فَيَلْزَمُ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ وَنُفُوذِهِ إِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ، وَيُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ السَّرَخْسِيُّ فَيَقُولُ: فَإِنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ مَا لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ بَقَاءُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالْمُجِيزُ وَذَلِكَ كُلُّهُ بَاقٍ هُنَا.
وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: إِنَّ الْغَاصِبَ أَوِ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ إِذَا بَاعَ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ فَإِنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ بَيْعُ فُضُولِيٍّ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَمْ لَا، وَظَاهِرُهُ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ غَاصِبٌ أَمْ لَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْغَاصِبِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ).
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ إِذَا تَجَاوَزَ حُدُودَ الْوَكَالَةِ.
أَوَّلًا- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ:
أ- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي جِنْسِ الْمُوَكَّلِ بِشِرَائِهِ.
11- إِذَا وَكَّلَ إِنْسَانٌ آخَرَ فِي شِرَاءِ ثَوْبٍ مِنَ Cالْقُطْنِ فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ مُوَكِّلُهُ وَلَا يُخَالِفَهُ، فَإِنِ اشْتَرَى ثَوْبًا مِنْ صُوفٍ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ وَإِنْ خَالَفَ مُوَكِّلَهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَيَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ
ب- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ.
12- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى بُطْلَانِ شِرَاءِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ إِذَا اشْتَرَى بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فُضُولِيًّا، فَإِنْ أَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ نَفَذَ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَعَلَى الْوَكِيلِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الشِّرَاءَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ؛ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ مَأْذُونٌ بِالشِّرَاءِ عُرْفًا.
وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ: أَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَيَكُونُ الْوَكِيلُ مُخَالِفًا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة).
ج- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ الْمُقَيَّدِ بِالشِّرَاءِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ:
13- إِذَا كَانَ الْقَيْدُ بِالشِّرَاءِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَمُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ إِلَى خَيْرٍ أَوْ إِلَى شَرٍّ، فَإِنْ كَانَتْ مُخَالَفَةً إِلَى خَيْرٍ: كَأَنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ دُكَّانٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَاشْتَرَاهُ بِتِسْعِمِائَةٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا إِذَا خَالَفَ الْوَكِيلُ إِلَى شَرٍّ: بِأَنِ اشْتَرَى الدَّارَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُوَكِّلُ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فِي الزِّيَادَةِ، فَإِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا عَادَةً فَإِنَّهَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مُتَعَارَفٌ عَلَى وُقُوعِهَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ الْمُشْتَرَى، وَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً عَمَّا سَمَّاهُ لَهُ الْمُوَكِّلُ، Cوَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهِ، فَإِذَا قَبِلَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلاَّ لَزِمَتِ الزِّيَادَةُ الْوَكِيلَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رِوَايَتَانِ.
الْأُولَى: أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ فِي أَصْلِهِ إِلَى إِذْنٍ صَحِيحٍ، فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَيَلْتَزِمُ الْوَكِيلُ بِالزَّائِدِ عَنِ الْمُسَمَّى.
وَالثَّانِيَةُ: يَبْطُلُ لِمُخَالَفَتِهِ صَرِيحَ الْإِذْنِ.
د- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ الْمُقَيَّدِ بِالشِّرَاءِ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ
14- إِنْ كَانَ الْقَيْدُ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ: كَأَنْ يُوَكِّلَ شَخْصٌ آخَرَ بِشِرَاءِ سَيَّارَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ نَسِيئَةً فَيَشْتَرِيهَا بِأَلْفٍ حَالَّةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْمُوَكِّلِ فِي الشِّرَاءِ صُورِيَّةٌ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي الْمَعْنَى لَا فِي الصُّورَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى بِهِ، وَيَقَعُ لِلْوَكِيلِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا بِهِ.
ثَانِيًا- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ.
15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُخَالَفَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ حِينَ يَكُونُ مُقَيَّدًا عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَتْ إِلَى خَيْرٍ، فَإِنَّ بَيْعَهُ صَحِيحٌ وَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ ثَوْبٍ حَرِيرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي هَذَا حَاصِلٌ دَلَالَةً.
أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ خِلَافًا لِمَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ، كَأَنْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ عَلَى الْحُلُولِ فَبَاعَ نَسِيئَةً، فَإِنَّ بَيْعَ الْوَكِيلِ هُنَا يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَعَلَى الْوَكِيلِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ فِي صِحَّتِهِ وَبُطْلَانِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي بَيْعٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ تُبْطِلُ بَيْعَ الْوَكِيلِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة)
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ بِمَالِ الْغَيْرِ.
16- أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ انْعِقَادَ وَصِيَّةِ الْفُضُولِيِّ Cبِمَالِ الْغَيْرِ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ مِمَّنْ يَمْلِكُهَا، فَإِذَا أَجَازَهَا نَفَذَتْ وَإِذَا لَمْ يُجِزْهَا بَطَلَتْ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة)
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: هِبَةُ مَالِ الْغَيْرِ.
17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هِبَةِ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ: يَرَى فِي هِبَةِ مَالِ الْغَيْرِ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْإِجَازَةِ شَرْعًا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هِبَةَ الْفُضُولِيِّ لِمَالِ الْغَيْرِ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ صَادِرٌ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِإِصْدَارِهِ مُضَافٌ إِلَى الْمَحَلِّ، فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ، يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ مِنَ انْعِقَادِ الْهِبَةِ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَتَحَقَّقُ فِي انْعِقَادِهَا مِنَ الْفُضُولِيِّ نَافِذَةً لَا مَوْقُوفَةً.
أَمَّا الْفَرِيقِ الثَّانِي: فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى بُطْلَانِ هِبَةِ مَالِ الْغَيْرِ، وَهَذَا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى بُطْلَانِ هِبَةِ مَالِ الْغَيْرِ بِالْقِيَاسِ، فَقَالُوا: هِبَةُ الْفُضُولِيِّ لِمَالِ الْغَيْرِ كَبَيْعِهِ تَنْعَقِدُ بَاطِلَةً، فَكَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ لَا تَصِحُّ هِبَتُهُ.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (هِبَة)
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: وَقْفُ مَالِ الْغَيْرِ.
18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْفُضُولِيَّ إِذَا وَقَفَ مَالَ الْغَيْرِ تَوَقَّفَ نَفَاذُ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ، وَقَدِ احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ وَوَجْهُهُ أَنَّ وَقْفَ الْفُضُولِيِّ لِمَالِ الْغَيْرِ كَبَيْعِهِ، وَبِمَا أَنَّ بَيْعَهُ مَوْقُوفٌ فَوَقْفُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْوِلَايَةَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَقِفُ مَالَ الْغَيْرِ شَرْطٌ فِي النَّفَاذِ لَا فِي الِانْعِقَادِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ وَقْفَ مَالِ الْغَيْرِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ مِمَّنْ يَمْلِكُهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى بُطْلَانِ وَقْفِ الْفُضُولِيِّ مَالَ الْغَيْرِ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفُضُولِيَّ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وَقْف).
التَّصَرُّفَاتُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ
وَتَشْمَلُ مَا يَأْتِي.
أَوَّلًا: بَيْعُ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ إِذَا أَلْحَقَ ضَرَرًا بِالدَّائِنِينَ.
19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِذَا أَلْحَقَ ضَرَرًا بِالدَّائِنِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: إِنَّ بَيْعَهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمَدِينِ يَمْنَعُ نَفَاذَ تَصَرُّفِهِ، وَالْمَنْعُ مِنَ النَّفَاذِ لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي وَقْفَ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَصْلًا مُقَرَّرٌ لِمَصْلَحَتِهِمْ، فَإِنْ أَجَازُوا تَصَرُّفَاتِ الْمَدِينِ نَفَذَتْ، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوهَا فَتَبْطُلُ.
وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَتَصَرُّفِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ الَّذِي عَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَصْدُرُ مِنْهُمَا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا غَيْرَ نَافِذٍ الْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّ بَيْعَ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يَقَعُ بَاطِلًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدِ اعْتَبَرُوا كُلَّ تَصَرُّفٍ مَالِيٍّ يَصْدُرُ مِنَ الْمَدِينِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بَاطِلًا فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْحَجْرَ يَقْتَضِي انْعِدَامَ أَثَرِ تَصَرُّفَاتِ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَهَذَا الِانْعِدَامُ يُؤَدِّي إِلَى بُطْلَانِ تَصَرُّفَاتِهِ مُحَافَظَةً عَلَى حُقُوقِ الدَّائِنِينَ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَعْيَانِ مَالِهِ فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهَا
ثَانِيًا- تَبَرُّعُ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ:
20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَبَرُّعَاتِ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ.
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْحَجْرُ بِالدَّيْنِ صَارَ الْمَحْجُورُ كَمَرِيضٍ عَلَيْهِ دُيُونُ الصِّحَّةِ، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ أَدَّى إِلَى إِبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ يُؤَثِّرُ فِيهِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
ثَالِثًا- تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَنِ الثُّلُثِ وَالْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ:
21- الْوَصِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِوَارِثٍ أَوْ لِغَيْرِ Cوَارِثٍ، وَالْمُوصَى بِهِ قَدْ يَكُونُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:
أ- الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ:
22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ عَلَى قَوْلَيْنِ.
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهَا بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي نَفَذَتْ وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا بَطَلَتْ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ، وَإِنْ أَجَازَهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ نَفَذَتْ فِي حَقِّ مَنْ أَجَازَهَا، وَبَطَلَتْ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُجِزْ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ».
الْقَوْلِ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بَاطِلَةٌ مُطْلَقًا وَإِنْ أَجَازَهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ، إِلاَّ أَنْ يُعْطُوهُ عَطِيَّةً مُبْتَدَأَةً، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ تُلْحِقُ الضَّرَرَ بِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَتُثِيرُ الْحَفِيظَةَ فِي نُفُوسِهِمْ وَقَدْ نَهَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ}.
ب- الْوَصِيَّةُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ.
23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ تَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ نَفَذَتْ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِجَازَةِ أَحَدٍ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَسْقَطُوا هَذَا الْحَقَّ بِالْإِجَازَةِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ وَلَا يَبْطُلُ.
وَلَا يُعْتَدُّ بِإِجَازَتِهِمْ حَالَ حَيَاةِ الْمُوصَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ فِي الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ لَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا أَوْ يَرُدُّوا بَعْدَ وَفَاتِهِ.
الْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ تَقَعُ بَاطِلَةً، وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ نَهَى سَعْدًا عَنِ التَّصَدُّقِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ» وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَرَدَّ الْوَارِثُ الْخَاصُّ الْمُطْلَقُ التَّصَرُّفِ الزِّيَادَةَ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الزَّائِدِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَارِثُ عَامًّا فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ فِي الزَّائِدِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ رَدٍّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا مُجِيزَ
رَابِعًا- بَيْعُ الرَّاهِنِ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ:
24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ حَقُّ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الرَّاهِنِ وَفَاءُ الدَّيْنِ لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَ الْأَجَلِ فَهَلْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَ الشَّيْءَ الْمَرْهُونَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَرْهُونِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّاهِنَ حِينَ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ الْمَرْهُونِ يُعْتَبَرُ كَالْمُوصِي حِينَ يُوصِي بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَيَنْعَقِدُ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ بَيْعَ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ بَاطِلٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ ضَرَرًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي حَقَّهُ، إِذْ أَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ الْمَرْهُونِ، فَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَالضَّرَرُ مَمْنُوعٌ وَتَجِبُ إِزَالَتُهُ.
خَامِسًا- بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ:
25- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُؤَجِّرِ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ لِغَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ يَقَعُ صَحِيحًا نَافِذًا مُعَلِّلِينَ قَوْلَهُمْ: بِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى الْعَيْنِ، وَحَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ، فَالْبَيْعُ قَدْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ؛ وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْمُسْتَأْجِرِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَحْصُلُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي سَيَتَسَلَّمُهَا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ لَنْ يَتَسَلَّمَهَا إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَلَيْسَ فِي بَيْعِهَا إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُسْتَأْجِرِ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ كَيْ لَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ، وَحُجَّتُهُمْ قِيَاسُ بَيْعِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْمَحَلِّ يَمْنَعُ نَفَاذَ الْعَقْدِ وَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.
سَادِسًا- بَيْعُ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ الشَّائِعَةَ:
26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ الشَّائِعَةَ بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الشَّرِيكِ أَوِ الشُّرَكَاءِ الْآخَرِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي حَائِطٍ فَلَا يَبِعْ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى شَرِيكِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى شَرِيكِهِ فَيَأْخُذَ أَوْ يَدَعَ، فَإِنْ أَبَى فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ».
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ فِي الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ يَكُونُ بَاطِلًا، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْجُزْءُ قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا، Cوَسَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ بَيْعًا أَمْ هِبَةً.
كَيْفِيَّةُ الْإِجَازَةِ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:
27- الْإِجَازَةُ: الْإِنْفَاذُ وَالْإِمْضَاءُ، وَتَرِدُ الْإِجَازَةُ عَلَى الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ دُونَ النَّافِذِ وَالْبَاطِلِ، وَتَقَعُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَصِيلًا أَمْ وَكِيلًا أَوْ وَلِيًّا أَمْ وَصِيًّا أَمْ قَيِّمًا، وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَتَوَقَّفُ التَّصَرُّفُ عَلَى إِذْنِهِ كَالشَّرِيكِ وَالْوَارِثِ وَالدَّائِنِينَ.
وَالْأَصْلُ فِي الْإِجَازَةِ أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا بِنَحْوِ قَوْلِ الْمُجِيزِ: أَجَزْتُ أَوْ أَنَفَذْتُ أَوْ أَمْضَيْتُ أَوْ رَضِيتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَتَكُونُ بِالْفِعْلِ: فِيمَا لَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ الَّذِي لَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ فَأَجَّرَهُ أَوْ أَعَارَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَسَكَنَهَا فَكُلُّ ذَلِكَ إِجَازَةٌ فِعْلِيَّةٌ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَازَةٌ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
28-موسوعة الفقه الكويتية (نطق)
نُطْقٌالتَّعْرِيفُ:
1- النُّطْقُ فِي اللُّغَةِ: الْكَلَامُ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ النُّطْقِ مَصْدَرُ الْفِعْلِ نَطَقَ.يُقَالُ: نَطَقَ الرَّجُلُ نَطْقًا وَنُطْقًا: تَكَلَّمَ، وَنَطَقَ لِسَانُهُ كَذَلِكَ، وَالْمَنْطِقُ أَيْضًا: الْكَلَامُ.فَكَلَامُ كُلِّ شَيْءٍ: مَنْطِقُهُ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} أَيْ كَلَامُهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعِبَارَةُ:
2- الْعِبَارَةُ هِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِفِعْلِ عَبَّرَ، يُقَالُ: عَبَّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ، أَعْرَبَ وَبَيَّنَ، وَعَبَّرَ عَنْ فُلَانٍ: تَكَلَّمَ عَنْهُ، وَالْعِبَارَةُ: الْكَلَامُ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ مَعَانٍ، يُقَالُ: هُوَ حَسَنُ الْعِبَارَةِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّطْقِ وَالْعِبَارَةِ أَنَّ النُّطْقَ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَارَةِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّطْقِ:
3- النُّطْقُ مِنْ أَهَمِّ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِ وَأَعْظَمِهَا أَثَرًا فِي حَيَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَتَصَرُّفَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ زَوَّدَهُ اللَّهُ وَخُصَّ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ فِي الْأَرْضِ لِيَنْهَضَ بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ، وَنَاطَ الشَّارِعُ بِالنُّطْقِ كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ دِينِ الْإِنْسَانِ وَدُنْيَاهُ مِنْهَا:
أ- الْإِيمَانُ بِاللَّهِ:
4- الْإِيمَانُ بِاللَّهِ- وَهُوَ: التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ- وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ- لَا يُعْتَبَرُ إِلاَّ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ التَّصْدِيقَ الْقَلْبِيَّ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهِ، فَنَاطَ الشَّارِعُ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ- عَلَى الْأَقَلِّ- إِجْرَاءَ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا كَالتَّوَارُثِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّزَاوُجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُؤْمِنًا نَاجِيًا عِنْدَ اللَّهِ.
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ كَافِرٌ.
أَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ فَاخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِالْإِجْمَاعِ.
ب- التَّصَرُّفَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ:
5- النُّطْقُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ فِي الْجُمْلَةِ، كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالرَّهْنِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْحُلُولِ كَالطَّلَاقِ وَالْفَسْخِ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَا الْأَقَارِيرُ وَالدَّعَاوَى، فَإِنْ أَشَارَ نَاطِقٌ بِعَقْدٍ أَوْ حَلٍّ لَمْ يُعْتَّدَ بِهِ، وَالْإِشَارَةُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا بَيَانٌ إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ تَعَبَّدَ الْقَادِرِينَ عَلَى النُّطْقِ بِالْعِبَارَةِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الْعِبَارَةِ أَقَامَ الشَّارِعُ إِشَارَتَهُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِشَارَةٍ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).
ج- إِذْهَابُ النُّطْقِ:
6- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا جَنَى عَلَى لِسَانِ إِنْسَانٍ أَوْ رَأْسِهِ فَذَهَبَ نُطْقُهُ كَامِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.
أَمَّا إِنْ عَجَزَ النُّطْقُ عَجْزًا جُزْئِيًّا بِأَنْ قَدَرَ عَلَى النُّطْقِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضِهَا، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (دِيَاتٍ ف 57).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
29-موسوعة الفقه الكويتية (نكاح 3)
نِكَاحٌ -3الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ:
47- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَهُمَا اللَّفْظَانِ الصَّرِيحَانِ فِي النِّكَاحِ.
وَاقْتَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ قَالُوا: لِأَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ وَرَدَ بِهِمَا وَذَلِكَ فِي قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} وَلَمْ يُذْكَرْ سِوَاهُمَا فِي الْقِرَانِ الْكَرِيمِ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْزِعُ إِلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ، وَالْأَذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظَيِ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ.
وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ أَجَازُوا عَقْدَ النِّكَاحِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كِنَايَةً فِي الْجُمْلَةِ، وَقَسَّمُوا الْأَلْفَاظَ مِنْ حَيْثُ مَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ مِنْهَا وَمَا لَا يَنْعَقِدُ بِهِ مِنْهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، إِلاَّ أَنَّ لِكُلِّ مَذْهَبٍ اتِّجَاهَهُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَذَلِكَ كَمَا يَلِي:
48- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ كَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَهُوَ الْإِنْكَاحُ وَالتَّزْوِيجُ يَنْعَقِدُ بِأَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَقَسَّمُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أ- الْقِسْمُ الْأَوَّلِ: لَا خِلَافَ فِي الِانْعِقَادِ بِهِ فِي الْمَذْهَبِ، بَلِ الْخِلَافُ مِنْ خَارِجِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ مَا سِوَى لَفْظَيِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، مِنْ لَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْجَعْلِ، نَحْوَ: جَعَلْتُ بِنْتِي لَكَ بِأَلْفٍ، لِأَنَّ التَّمْلِيكَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهَا بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ، وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقُ الْمَجَازِ.
ب- الْقِسْمُ الثَّانِي: وَفِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَالصَّحِيحُ الِانْعِقَادُ بِهِ، وَهُوَ لَفْظُ الْبَيْعِ، نَحْوَ: بِعْتُ نَفْسِي مِنْكَ أَوِ ابْنَتِي أَوِ اشْتَرَيْتُكِ بِكَذَا، قَالَتْ: نَعَمْ، يَنْعَقِدُ، وَالِانْعِقَادُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ هُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ طَرِيقِ الْمَجَازِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الِانْعِقَادِ بِلَفْظِ السَّلَمِ فَقِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَصِحُّ، وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ.
وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ تُمْلَكُ بِهِ الرِّقَابُ يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ، وَالسَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ يَنْعَقِدُ حَتَّى وَلَوِ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يُفْسِدُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لِلَّفْظِ يُفْسِدُ مَجَازِيَّهُ لِعَدَمِ لُزُومِ اشْتِرَاكِ الْمُفْسِدِ فِيهِمَا.
وَفِي الِانْعِقَادِ بِلَفْظِ الصَّرْفِ رِوَايَتَانِ قِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَا يَتَعَيَّنُ.
وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ، لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مَلِكُ الْعَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، قَالَ صَاحِبُ الْفَتْحِ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمَا قَوْلَانِ وَكَانَ مَنْشَؤُهُمَا الرِّوَايَتَيْنِ.
وَأَمَّا الْقَرْضُ، فَقِيلَ: يَنْعَقِدُ بِهِ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْعَيْنِ بِهِ، وَقِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِعَارَةِ، قِيلَ: الْأَوَّلُ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالثَّانِي قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا لَفْظُ الصُّلْحِ فَذَكَرَ صَاحِبُ الْأَجْنَاسِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ، وَذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ جَائِزٌ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ الِانْعِقَادِ بِهِ، وَذَلِكَ لَفْظُ الْإِجَارَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ فِي الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ مُؤَقَّتَةً، وَالنِّكَاحَ يُشْتَرَطُ فِيهِ نَفْيُهُ، فَتَضَادَّا فَلَا يُسْتَعَارُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ اسْتِدْلَالَ الْكَرْخِيِّ فَقَالَ: لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَنْفَعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِوَضَ أَجْرًا فِي قوله تعالى {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الْفَتْحِ: إِنَّمَا لَا يَجُوزُ انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ- فِي الصَّحِيحِ- إِذَا جُعِلَتِ الْمَرْأَةُ مُسْتَأْجَرَةً، أَمَّا إِذَا جُعِلَتِ الْمَرْأَةُ بَدَلَ إِجَارَةٍ أَوْ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ كَأَنْ يُقَالُ: اسْتَأْجَرْتُ دَارَكَ بِابْنَتِي هَذِهِ، أَوْ أَسْلَمْتُهَا إِلَيْكَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فِي جَوَازِهِ.
وَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مُضَافًا إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَعَنِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يَتَثَبَّتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَعَنِ الْكَرْخِيِّ: إِنْ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالْحَالِ بِأَنْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَكَ بِبِنْتِي هَذِهِ الْآنَ يَنْعَقِدُ لِلْحَالِ، لِأَنَّهُ بِهِ صَارَ مَجَازًا عَنِ التَّمْلِيكِ، قَالَ صَاحِبُ الْفَتْحِ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فِي صِحَّتِهِ حِينَئِذٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا قُيِّدَتْ بِالْحَالِ يَصِحُّ.
وَإِنْ قَيَّدَ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِأَنْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَكَ بِابْنَتِي بَعْدَ مَوْتِي لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا.
وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ لَا بِالْحَالِ وَلَا بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، بِأَنْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَكَ بِهَا وَلَمْ يَزِدْ، فَقِيلَ لَا يَكُونُ نِكَاحًا، وَعَنِ الطَّحَاوِيِّ: يَنْعَقِدُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ الِانْعِقَادِ بِهِ، وَهُوَ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ وَالْإِعَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالتَّمَتُّعِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ تَمْلِيكِ الْمُتْعَةِ فِي كُلٍّ مِنْهَا، أَيْ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ.
وَلَا يَنْعَقِدُ أَيْضًا بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ وَالْخُلْعِ لِأَنَّهُمَا لِفَسْخِ عَقْدٍ ثَابِتٍ.
كَمَا لَا يَنْعَقِدُ بِأَلْفَاظٍ مُصَحَّفَةٍ كَتَجَوَّزْتُ، بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الزَّايِ، وَذَلِكَ لِصُدُورِهِ لَا عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ، بَلْ عَنْ تَحْرِيفٍ وَتَصْحِيفٍ فَلَمْ تَكُنْ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا لِعَدَمِ الْعَلَاقَةِ بَلْ غَلَطًا، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ أَصْلًا.
لَكِنْ لَوِ اتَّفَقَ قَوْمٌ عَلَى النُّطْقِ بِهَذِهِ الْغَلْطَةِ، وَصَدَرَتْ عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ وَضْعًا جَدِيدًا، وَقَدْ أَفْتَى بِجَوَازِ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو السُّعُودِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَاصِلُ كَلَامِ الدُّرِّ: أَنَّهُمْ إِنِ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ التَّجْوِيزِ فِي النِّكَاحِ بِوَضْعٍ جَدِيدٍ قَصْدًا يَكُونُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، مِثْلَ الْحَقَائِقِ الْمُرْتَجَلَةِ، وَمِثْلَ الْأَلْفَاظِ الْأَعْجَمِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ لِلنِّكَاحِ، فَيَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ لِوُجُودِ طَلَبِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَإِرَادَتِهِ مِنَ اللَّفْظِ قَصْدًا وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ أَلْفَاظَ الْكِنَايَةِ فِي النِّكَاحِ كَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ مَعَ قَرِينَةٍ أَوْ تَصْدِيقِ الْقَابِلِ لِلْمُوجِبِ وَفَهْمِ الشُّهُودِ الْمُرَادِ أَوْ إِعْلَامِهِمْ بِهِ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ إِنْ ذَكَرَ الْمَهْرَ، وَإِلاَّ فَالنِّيَّةُ، وَمَا لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لَهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِهِ بِلَفْظٍ لَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ نِكَاحٌ فَلَوْ لُقِّنَتِ الْمَرْأَةُ زَوَّجْتُ نَفْسِي بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا تَعْلَمُ مَعْنَاهُ وَقَبِلَ الزَّوْجُ، وَالشُّهُودُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ صَحَّ كَالطَّلَاقِ، وَقِيلَ: لَا كَالْبَيْعِ.وَمِثْلُ هَذَا فِي جَانِبِ الرَّجُلِ.
49- وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الْأَلْفَاظَ بِالنِّسْبَةِ لِلنِّكَاحِ- بِمَا فِي ذَلِكَ لَفْظَيِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ- إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: مَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ سَمَّى صَدَاقًا أَوْ لَا، وَهُوَ: أَنْكَحْتُ وَزَوَّجْتُ.
الثَّانِي: مَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ إِنْ سَمَّى صَدَاقًا وَإِلاَّ فَلَا، وَهُوَ لَفْظُ وَهَبْتُ، مِثْلُ: وَهَبْتُ لَكَ ابْنَتِي بِكَذَا، فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ صَدَاقًا لَمْ يَنْعَقِدْ.
الثَّالِثُ: مَا فِيهِ التَّرَدُّدُ بَيْنَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِ وَعَدَمِ انْعِقَادِهِ، وَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ يَقْتَضِي الْبَقَاءَ مُدَّةَ الْحَيَاةِ مِثْلَ بِعْتُ، وَمَلَكْتُ وَأَحْلَلْتُ، وَأَعْطَيْتُ وَمَنَحْتُ، فَقِيلَ: يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ إِنَّ سَمَّى صَدَاقًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَصَّارِ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ فِي الْإِشْرَاقِ وَالْبَاجِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ.
وَقِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ بِهِ مُطْلَقًا، أَيْ وَلَوْ سَمَّى صَدَاقًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ.
الرَّابِعُ: مَا لَا يَنْعَقِدُ بِهِ اتِّفَاقًا مُطْلَقًا، وَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ لَا يَقْتَضِي الْبَقَاءَ مُدَّةَ الْحَيَاةِ كَالْحَبْسِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ.
دَلَالَةُ الصِّيغَةِ عَلَى الزَّمَانِ وَأَثَرُهَا فِي الْعَقْدِ:
50- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، كَقَوْلِ الْوَلِيِّ لِلزَّوْجِ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي أَوْ أَنَكَحْتُكَ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، أَوْ رَضِيْتُ، لِأَنَّ الْمَاضِيَ أَدَلُّ عَلَى الثُّبُوتِ وَالتَّحْقِيقِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ.
إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: قَبِلْتُ فَقَطْ، أَوْ رَضِيتُ فَقَطْ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، أَوْ رَضِيتُ نِكَاحَهَا، فَإِذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدِ النِّكَاحُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- يَكْفِي أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِذَلِكَ.
وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْإِيجَابِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِ الْوَلِيِّ لِلزَّوْجِ: تَزَوَّجِ ابْنَتِي فَيَقُولُ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُهَا.
أَمَّا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ، سَوَاءٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ لِلْوَلِيِّ زَوِّجْنِي هُوَ تَوْكِيلٌ ضِمْنِيٌّ بِالنِّكَاحِ وَلَيْسَ إِيجَابًا، أَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ إِيجَابٌ، وَرُجِّحَ هَذَا فِي الْبَحْرِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ فَلَا يَنْعَقِدُ هَذَا النِّكَاحُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْإِيجَابُ عَلَى الْقَبُولِ فَإِذَا تَقَدَّمَ الْقَبُولُ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ، وَالْإِيجَابُ عِنْدَهُمْ يَكُونُ مِنْ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ وَلَيْسَ مِنَ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا كَلَامُ الزَّوْجِ يُعْتَبَرُ قَبُولًا.
51- أَمَّا لَوْ كَانَتِ الصِّيغَةُ بِالْمُضَارِعِ فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمُضَارِعُ الْمَبْدُوءُ بِهَمْزَةٍ كَقَوْلِ الزَّوْجَةِ: أَتَزَوَّجُكَ- بِفَتْحِ الْكَافِ- أَوْ أَتَزَوَّجُكِ- بِكَسْرِ الْكَافِ- وَالْمُضَارِعُ الْمَبْدُوءُ بِالنُّونِ كَقَوْلِ وَلِيِّ الزَّوْجِ: نُزَوِّجُكِ مِنَ ابْنِي وَالْمُضَارِعُ الْمَبْدُوءُ بِتَاءٍ كَقَوْلِ: تُزَوِّجِينِي نَفْسَكِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الصِّيَغِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَقْصِدَ فِي الْمُضَارِعِ الْمَبْدُوءِ بِالتَّاءِ الِاسْتِقْبَالَ أَيْ طَلَبَ الْوَعْدِ.
وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ: الْمُضَارِعُ كَالْمَاضِي فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَرَضَهُ النَّاصِرُ اللَّقَّانِيُّ بِأَنَّ الْعُقُودَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْمَاضِي دُونَ الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُضَارِعِ الْوَعْدُ وَفِي الْمَاضِي اللُّزُومُ.
52- وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةَ: كَ ـ أَنَّا مُتَزَوِّجُكِ، أَوْ قَالَ: جِئْتُكِ خَاطِبًا، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ: لَوْ قَالَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ: جِئْتُكَ خَاطِبًا، فَقَالَ الْأَبُ: زَوَّجْتُكَ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ وَلَيْسَ لِلْخَاطِبِ أَنْ لَا يَقْبَلَ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْمُسَاوَمَةِ فِيهِ.
وَفِي حَاشِيَةِ الرَّمْلِيِّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِبِ: لَوْ أَتَى بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، كَ ـ أَنَا مُزَوِّجُكَ، فَالْقِيَاسُ الصِّحَّةُ، كَمَا لَوْ قَالَ أَنَا بَائِعُكَ دَارِي بِكَذَا
53- وَأَمَّا صِيغَةُ الِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ صَرَّحَ بِالِاسْتِفْهَامِ اعْتُبِرَ فَهْمُ الْحَالِ، قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ قَالَ: هَلْ أَعْطَيْتَنِيهَا؟ فَقَالَ: أَعْطَيْتُ.إِنْ كَانَ الْمَجْلِسُ لِلْوَعْدِ فَوَعْدٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَقْدِ فَنِكَاحٌ، قَالَ الرَّحْمَتِيُّ: فَعَلِمْنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمَا لَا لِنِيَّتِهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَعَ الْهَزْلِ، وَالْهَازِلُ لَمْ يَنْوِ النِّكَاحَ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: تَتَزَوَّجُ ابْنَتِي لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَتُزَوِّجُنِي ابْنَتَكَ فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ لَمْ يَنْعَقِدْ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ الْخَاطِبُ بَعْدَهُ: تَزَوَّجْتُ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الْإِيجَابُ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ.
انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ
54- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِلِسَانِهِ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَمَّا سِوَاهُ، فَسَقَطَ عَنْهُ كَالْأَخْرَسِ وَيَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ بِحَيْثُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَنْ يَقْدِرُ عَلَى لَفْظِ النِّكَاحِ بِالْعَرَبِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِهَا، لِأَنَّهُ أَتَى بِلَفْظِهِ الْخَاصِّ فَانْعَقَدَ بِهِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِالْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَرْجَمَة ف 13).
مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ: يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ أَشْيَاءُ مِنْهَا:
أ- الْإِشَارَةُ مِنَ الْأَخْرَسِ:
55- إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا وَتَقُومُ مَقَامَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ فِيمَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْعِبَارَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ إِيجَابُ الْأَخْرَسِ وَقَبُولُهُ النِّكَاحَ بِإِشَارَتِهِ إِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ مَفْهُومَةً يَفْهَمُهَا الْعَاقِدُ مَعَهُ وَيَفْهَمُهَا الشُّهُودُ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَعْنًى لَا يُسْتَفَادُ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ فَصَحَّ بِإِشَارَتِهِ كَبَقِيَّةِ عُقُودِهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ مِثْلَ شَرْطِ كَوْنِهِ عَاجِزًا عَنِ الْكِتَابَةِ أَوْ قَادِرًا عَلَيْهَا.
وَمِثْلَ شَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُلِدَ أَخْرَسَ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِشَارَة ف- 5).
ب- الْكِتَابَةُ:
56- الْكِتَابَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْأَخْرَسِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
أَمَّا الْأَخْرَسُ فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ وَيَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ لِأَنَّهَا أَوْلَى مِنَ الْإِشَارَةِ.
أَمَّا الْقَادِرُ عَلَى النُّطْقِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ غَائِبًا عَنْهُ، أَمَّا الْحَاضِرُ فَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَنْعَقِدُ.
وَأَمَّا الْغَائِبُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالْخِطَابِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهَا يَخْطِبُهَا فَإِذَا بَلَغَهَا الْكِتَابُ أَحْضَرَتِ الشُّهُودَ وَقَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ وَقَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْهُ أَوْ تَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا كَتَبَ إِلَيَّ يَخْطُبُنِي فَاشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْهُ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَقُلْ بِحَضْرَتِهِمْ سِوَى زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ لَا يَنْعَقِدُ لأَنَّ سَمَاعَ الشَّطْرَيْنِ شَرْطُ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَبِإِسْمَاعِهِمِ الْكِتَابَ أَوِ التَّعْبِيرَ عَنْهُ مِنْهَا قَدْ سَمِعُوا الشَّطْرَيْنِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْكِتَابُ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ أَمَّا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ زَوِّجِي نَفْسَكِ مِنِّي فَلَا يَشْتَرِطُ إِعْلَامُهَا الشُّهُودَ بِمَا فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهَا تَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ.
وَقِيلَ إِنَّهُ تَوْكِيلٌ ضِمْنِيٌّ فَيَثْبُتُ بِشُرُوطِ مَا تَضَمَّنُهُ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَمِنْ شُرُوطِهِ سَمَاعُ الشُّهُودِ.
وَلَوْ جَاءَ الزَّوْجُ بِالْكِتَابِ إِلَى الشُّهُودِ مَخْتُومًا فَقَالَ: هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلَانَةَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَعْلَمَ الشُّهُودُ مَا فِيهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، فَلَوْ جَحَدَ الزَّوْجُ الْكِتَابَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَشَهِدُوا بِأَنَّهُ كِتَابُهُ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ لَا تُقْبَلُ وَلَا يُقْضَى بِالنِّكَاحِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَيُقْضَى بِهِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَصَحِيحٌ بِلَا إِشْهَادٍ وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ لِتَمَكُّنِ الْمَرْأَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الْكِتَابِ إِذَا جَحَدَ الزَّوْجُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَتَبَ بِالنِّكَاحِ إِلَى غَائِبٍ أَوْ حَاضِرٍ لَمْ يَصِحَّ، وَقِيلَ: يَصِحُّ فِي الْغَالِبِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَاتِ، وَلَوْ خَاطَبَ غَائِبًا بِلِسَانِهِ فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، ثُمَّ كَتَبَ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَقَالَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِذَا صَحَّحْنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَشَرْطُهُ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ وَأَنْ يَقَعَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيِ الْإِيجَابِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يَكْفِي فِي الْمَجْلِسِ بَلْ يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ صِحَّةُ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالْكِتَابَةِ مَعَ غَيْبَةِ الْعَاقِدِ.
ج- الرَّسُولُ:
57- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى صِحَّةِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ فِي النِّكَاحِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: النِّكَاحُ كَمَا يَنْعَقِدُ بِاللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ يَنْعَقِدُ بِهَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ بِالْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ، فَلَوْ أَرْسَلَ الرَّجُلُ إِلَى مَنْ يُرِيدُ زَوَاجَهَا رَسُولًا فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ جَازَ ذَلِكَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الرَّسُولَ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ.
وَفِي الْمُسَالَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْسَال ف6).
د- الْمُعَاطَاةُ:
58- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي احْتِرَامًا لِلْفُرُوجِ أَيْ لِخَطَرِ أَمْرِهَا وَشِدَّةِ حُرْمَتِهَا فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ قَوْلَهُ: وَهَلْ يَكُونُ الْقَبُولُ بِالْفِعْلِ كَالْقَبُولِ بِاللَّفْظِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ أَجَابَ صَاحِبُ الْبِدَايَةِ فِي امْرَأَةٍ زَوَّجْتَ نَفْسَهَا بِأَلْفٍ مِنْ رَجُلٍ عِنْدَ الشُّهُودِ فَلَمْ يَقُلِ الزَّوْجُ شَيْئًا لَكِنْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ فِي الْمَجْلِسِ أَنَّهُ يَكُونُ قَبُولًا، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ وَقَالَ: لَا، مَا لَمْ يَقُلْ بِلِسَانِهِ قَبِلْتُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي، وَالنِّكَاحُ لِخَطَرِهِ لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَى الشُّهُودِ.
خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ فِي النِّكَاحِ:
أ- خِيَارُ الْمَجْلِسِ:
59- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا وَلَا فِي مَعْنَاهُ، وَالْعِوَضُ لَيْسَ رُكْنًا فِيهِ، وَلَا مَقْصُودًا مِنْهُ، وَقَالُوا لِأَنَّ الْحَاجَةَ غَيْرُ دَاعِيَةٍ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْغَالِبِ إِلاَّ بَعْدَ تَرَوٍّ وَفِكْرٍ، وَمَسْأَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِحَالِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَثْبُتُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي النِّكَاحِ إِذَا اشْتُرِطَ.
ب- خِيَارُ الشَّرْطِ:
60- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ وَهِيَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتُرِطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ خِيَارُ شَرْطٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَبْطُلُ الْخِيَارُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ الْخِيَارَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لِأَحَدِهِمَا، أَوْ بِخِيَارِ الْغَيْرِ فَيُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وُجُوبًا، وَيَثْبُتُ بِالدُّخُولِ بِالْمُسَمَّى إِنْ كَانَ، وَإِلاَّ فَبِصَدَاقِ الْمِثْلِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ.
تَعْلِيقُ الصِّيغَةِ:
61- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ- إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ فِي غَيْرِ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ إِلْزَامٌ، فَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: إِذَا جَاءَ فُلَانٌ فَقَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فُلَانَةَ فَقَبِلَ فَجَاءَ فُلَانٌ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ، وَمِثْلُهُ: إِنْ وَضَعَتْ زَوْجَتِي بِنْتًا فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ تَعْلِيقَ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ يَصِحُّ.
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعْلِيقِ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ عَلَى أَمْرٍ حَالٍّ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَذَلِكَ كَمَنْ خُطِبَتْ إِلَيْهِ ابْنَتُهُ فَقَالَ زَوَّجْتُهَا، فَلَمْ يُصَدِّقِ الْخَاطِبُ فَقَالَ: إِنْ لَمْ أَكُنْ زَوَّجْتُهَا مِنْ فُلَانٍ فَقَدْ زَوَّجْتُهَا مِنْكَ فَقَبِلَ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ زَوَّجَهَا حَيْثُ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ لِلْحَالِ، وَالتَّعْلِيقُ بِكَائِنٍ لِلْحَالِ تَحْقِيقٌ وَتَنْجِيزٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ التَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ الْحَاضِرَةِ وَالشُّرُوطِ الْمَاضِيَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ هَذَا الْمَوْلُودَ إِنْ كَانَ أُنْثَى وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهَا أُنْثَى فَإِنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ حَقِيقَةً إِذِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرُ لَا يَقْبَلُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الشُّرُوطِ الْحَاضِرَةِ أَيْضًا.
وَقَالُوا: لَوْ بُشِّرَ شَخْصٌ بِوَلَدٍ فَقَالَ لآِخَرَ: إِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَقَبِلَ فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُ النِّكَاحِ وَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ لِوُجُودِ صُورَةِ التَّعْلِيقِ وَفَسَادِ الصِّيغَةِ.
وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ أُخْبِرَ شَخْصٌ بِحُدُوثِ بِنْتٍ لَهُ فَصَدَّقَ الْمُخْبَرُ ثُمَّ قَالَ لآِخَرَ: إِنْ صَدَقَ الْمُخْبِرُ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ بَلْ تَحْقِيقٌ وَتَكُونُ «إِنْ» بِمَعْنَى «إِذَا» لقوله تعالى {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ.قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ النِّكَاحُ فِي التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ إِذَا أَبْطَلَ مَنْ لَهُ الْمَشِيئَةُ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ إِنْ شِئْتِ أَوْ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ فَأَبْطَلَ صَاحِبُ الْمَشِيئَةِ مَشِيئَتَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ إِذَا بَطَلَتْ فِي الْمَجْلِسِ صَارَ نِكَاحًا بِغَيْرِ مَشِيئَةٍ، لَكِنْ ذَلِكَ إِذَا بَدَأَتِ الْمَرْأَةُ، أَمَّا إِذَا بَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ: تَزَوَّجْتُكِ إِنْ شِئْتِ فَقَبِلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ صَحَّ النِّكَاحُ وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى إِبْطَالِ الْمَشِيئَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَبُولَ مَشِيئَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَصَدَ التَّعْلِيقَ أَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى صَحَّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَالَ زَوَّجْتُكَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ قَبِلْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: زَوْجْتُكَ ابْنَتِي إِنْ شِئْتَ فَقَالَ: قَدْ شِئْتُ وَقَبِلْتُ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ.
إِضَافَةُ الصِّيغَةِ:
62- لَا يَصِحُّ إِضَافَةُ صِيغَةِ النِّكَاحِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَأَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ: تَزَوَّجْتُكِ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ أَوْ سَنَةَ كَذَا أَوْ شَهْرَ كَذَا، أَوْ زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (نِكَاحِ مَنْهِي عَنْهُ).
تَأْقِيتُ النِّكَاحِ:
63- لَا يَجُوزُ تَأْقِيتُ النِّكَاحِ بِمُدَّةٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح مَنْهِي عَنْهُ).
تَوَلِّي شَخْصٍ طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ:
64- تَوَلِّي صِيغَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ عَنِ الطَّرَفَيْنِ- الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ- يَأْتِي عَلَى صُورَتَيْنِ:
الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ أَصِيلًا مِنْ جَانِبِ نَفْسِهِ فِي الْعَقْدِ وَوَلِيًّا مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ كَابْنِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ وَلِيًّا عَلَى بِنْتِ عَمِّهِ وَأَرَادَ تَزْوِيجَهَا مِنْ نَفْسِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- غَيْرَ زُفَرَ- وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ وَلِيَّ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا كَابْنِ الْعَمِّ إِذَا أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَرَبِيعَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
وَاسْتَدَلَّ الْكَاسَانِيُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}.
قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي يَتِيمَةٍ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا وَهِيَ ذَاتُ مَالٍ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} خَرَجَ مَخْرَجَ الْعِتَابِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ بِنِكَاحِ وَلِيَّتِهِ وَحْدَهُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَقُمْ وَحْدَهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْعِتَابِ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْحَاقِ الْعِتَابِ بِأَمْرٍ لَا يَتَحَقَّقُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْإِنْكَاحِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْإِنْكَاحِ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَيْسَ بِعَاقِدٍ، بَلْ هُوَ سَفِيرٌ عَنِ الْعَاقِدِ وَمُعَبِّرٌ عَنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ النِّكَاحِ وَالْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إِلَى الْوَكِيلِ، وَإِذَا كَانَ مُعَبِّرًا عَنْهُ وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ فَصَارَ كَلَامُهُ كَكَلَامِ شَخْصَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ إِيجَابُهُ كَلَامًا لِلْمَرْأَةِ كَأَنَّهَا قَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ وَقَبُولُهُ كَلَامًا لِلزَّوْجِ كَأَنَّهُ قَالَ: قَبِلْتُ فَيَقُومُ الْعَقْدُ بِاثْنَيْنِ حُكْمًا، وَالثَّابِتُ بِالْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَمَّا وَرَدَ «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ لأُِمِّ حَكِيمِ بِنْتِ قَارِظٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَيَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: قَدْ تَزَوَّجْتُكِ»، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ فَجَازَ أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ وُجِدَ فِيهِ الْإِيجَابُ مِنْ وَلِيٍّ ثَابِتِ الْوِلَايَةِ وَالْقَبُولُ مِنْ زَوْجٍ هُوَ أَهْلٌ لِلْقَبُولِ فَصَحَّ كَمَا لَوْ وُجِدَا مِنْ رَجُلَيْنِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ الَّذِي يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْ مُوَلِّيَتِهِ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ يُوَكِّلُ غَيْرَهُ يُزَوِّجُهُ إِيَّاهَا بِإِذْنِهَا، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُوَكِّلُ مَنْ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الدَّرَجَةِ فَإِنْ فُقِدَ فَالْقَاضِي.
وَفِي الْمُغْنِي: قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: لَا يُزَوِّجْ نَفْسَهُ حَتَّى يُوَلِّيَ رَجُلًا، لِحَدِيثِ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ خَطَبَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهُ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مَلَكَهُ بِالْإِذْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْهِ كَالْبَيْعِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ وَلِيُّ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَذَلِكَ فِي التَّزْوِيجِ مِنْ غَيْرِهِ كَأَنَّ يَتَوَلَّى جَدٌّ طَرَفَيْ عَقْدٍ فِي تَزْوِيجِ بِنْتِ ابْنِهِ بِابْنِ ابْنِهِ الْآخَرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- غَيْرَ زُفَرَ- وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّ يَتَوَلَّى وَلِيُّ الزَّوْجَيْنِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَجْعَلُونَ هَذَا الْحَقَّ لِلْجَدِّ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ لِقُوَّةِ وِلَايَتِهِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُوَكِّلُ رَجُلًا يُزَوِّجُهَا لِابْنِ ابْنِهِ لِأَنَّ رُكْنَ النِّكَاحِ اسْمٌ لِشَطْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلَا يَقُومَانِ إِلاَّ بِعَاقِدَيْنِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَوَلِّي ف 6).
انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِالنِّيَابَةِ:
65- الْمُرَادُ بِانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِالنِّيَابَةِ هُوَ التَّوْكِيلُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ إِذْ أَنَّ النِّيَابَةَ وَالْوِكَالَةَ مُتَسَاوِيَانِ وَقِيلَ: إِنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ لِانْفِرَادِهَا فِيمَا إِذَا وَلَّى الْحَاكِمُ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا فَهُوَ نَائِبٌ عَمَّنْ وَلاَّهُ وَلَيْسَ وَكِيلًا.
وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: النِّكَاحُ كَمَا يَنْعَقِدُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ يَنْعَقِدُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ بِالْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ كَتَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ.
وَحُكْمُ التَّوْكِيلِ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا وَرَدَ عَنْ «أُمِّ حَبِيبَةَ - رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ ابْنِ جَحْشٍ فَهَلَكَ عَنْهَا، وَكَانَ فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَهِيَ عِنْدَهُمْ- » فَإِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ وَكِيلُهُ، وَإِنْ كَانَ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- عَقْدَهُ وَالْإِجَازَةُ اللاَّحِقَةُ كَالْوِكَالَةِ السَّابِقَةِ.
كَذَلِكَ وَرَدَ عَنِ «النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ وَكَّلَ - صلى الله عليه وسلم- أَبَا رَافِعٍ فِي قَبُولِ نِكَاحِ مَيْمُونَةَ» «وَوَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فِي قَبُولِ نِكَاحِ أُمِّ حَبِيبَةَ - رضي الله عنهما- » وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ كَالْبَيْعِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَلِيِّ الْمَرْأَةِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكَّلَ فِي إِنْكَاحِهَا هَلْ هُوَ الْمُجْبِرُ فَقَطْ أَوْ هُوَ كُلُّ وَلِيٍّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُجْبِرًا.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ أَنْ تَتَوَلَّى الْمَرْأَةُ عَقْدَ النِّكَاحِ بِالْوَكَالَةِ أَمْ لَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (ف 66- 71).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
30-موسوعة الفقه الكويتية (وكالة 8)
وَكَالَة -8جـ- اخْتِلَافُ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فِي تَلَفِ الْمُوَكَّلِ فِيهِ:
163- إِذَا اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ حَوْلَ تَلَفِ مَا بِيَدِ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي مِنْ ثَمَنٍ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ.
فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ، وَمَا بِيَدِهِ يُعْتَبَرُ أَمَانَةً، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَلَا يُكَلَّفُ ذَلِكَ كَالْمُودَعِ لَدَيْهِ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ كَلَّفَ الْوَكِيلَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ مَعَ تَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْأَمَانَاتِ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا، فَيَلْحَقُهُمُ الضَّرَرُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ مُتَّهَمًا.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا ادَّعَى الْوَكِيلُ التَّلَفَ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ كَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا.
أَمَّا إِذَا ادَّعَى الْوَكِيلُ التَّلَفَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ كَالْحَرِيقِ وَالنَّهْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ عَلَى الْوَكِيلِ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ هَذَا الْأَمْرِ الظَّاهِرِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، ثُمَّ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي التَّلَفِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الظَّاهِرِ فِي رِوَايَةٍ، وَلَا يُطَالَبُ الْوَكِيلُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى كَوْنِ الْمُوَكَّلِ فِيهِ بِعَيْنِهِ حُرِقَ أَوْ نُهِبَ لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا أَثْبَتَ الْحَادِثُ الظَّاهِرُ وَلَوْ بِاسْتِفَاضَةٍ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَحْلِفُ.
د- الِاخْتِلَافُ فِي تَعَدِّي الْوَكِيلِ وَتَفْرِيطِهِ فِي الْحِفْظِ:
164- إِذَا اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ فِي تَعَدِّي الْوَكِيلِ وَتَفْرِيطِهِ فِي حِفْظِ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَالٍ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ، كَأَنْ يَدَّعِيَ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ أَنَّهُ حَمَلَ عَلَى الدَّابَّةِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا لِنَفْسِهِ، أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، أَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ بِدُونِ إِذْنِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.
هـ- الِاخْتِلَافُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَالْقَبْضِ:
لِلْفُقَهَاءِ فِي مُعَالَجَةِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فِي التَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ اتِّجَاهَاتٌ نَتَنَاوَلُهَا فِيمَا يَلِي:
165- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَبِيعُ الشَّيْءَ إِذَا قَالَ: بِعْتُ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ، هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
إِمَّا إِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إِلَى الْوَكِيلِ أَوْ كَانَ لَمْ يُسَلِّمْ إِلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إِلَيْهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ: بِعْتُهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَقَبَضْتُ مِنْهُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِي، أَوْ قَالَ: دَفَعْتُهُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، فَهَذَا لَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ، فَإِنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ، أَوْ صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ صَدَّقَهُ فِيهِمَا وَكَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَهْلَكُ الثَّمَنُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ يَهْلَكُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ.
وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ، أَوْ صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ فِي قْبَضٍ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ جَائِزٌ عَلَيْهِ.
وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ نَقَدَ الثَّمَنَ ثَانِيًا إِلَى الْمُوَكِّلِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْمَبِيعَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْوَكِيلِ بِمَا نَقَدَهُ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ وَزَعَمَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي إِقْرَارِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالْقَبْضِ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا، إِلاَّ أَنَّهُ هُنَاكَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ.
وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الْبَيْعِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، وَكَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ أَوِ الدَّفْعِ إِلْيَهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي دَعْوَى الْهَلَاكِ أَوِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَيُجْبَرُ الْمُوَكِّلُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْبَيْعُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ بِتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ، وَلَا يُؤْمَرُ الْمُشْتَرِي بِنَقْدِ الثَّمَنِ ثَانِيًا إِلَى الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ وُصُولُ الثَّمَنِ إِلَى يَدِ وَكِيلِهِ بِتَصْدِيقِهِ،ِ وَوُصُولُ الثَّمَنِ إِلَى يَدِ وَكِيلِهِ كَوُصُولِهِ إِلَى يَدِهِ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مُسَلِّمًا إِلَى الْوَكِيلِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُسَلِّمًا إِلَيْهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ: بِعْتُهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَقَبَضْتُ مِنْهُ الثَّمَنَ فَهَلَكَ عِنْدِي، أَوْ قَالَ: دَفَعْتُهُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، أَوْ قَالَ: قَبَضَ الْمُوَكِّلُ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَيُسَلَّمُ الْمَبِيعُ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يُشْكَلُ، وَكَذَا إِذَا كَذَّبَهُ فِي الْبَيْعِ، أَوْ صَدَّقَهُ فِيهِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَقَرَّ بِبَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي عَنِ الثَّمَنِ فَلَا يُحَلَّفُ وَيُحَلَّفُ الْوَكِيلُ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ بَرِئَ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُوَكِّلِ.
فَإِنِ اسْتُحِقَ الْمَبِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ إِذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ، وَالْوَكِيلُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا ضَمِنَ مِنَ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، فَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ فِي حَقِّهِ جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّلَ عَلَى الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ، فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ لَكِنَّهُ كَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ أَوِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ يَدَ وَكِيلِهِ كَيَدِهِ.
وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ الثَّمَنَ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَيْضًا، لِأَنَّ إِقْرَارَهُمَا عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ، وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْوَكِيلَ، فَإِذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ إِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ، وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا ضَمِنَ إِذَا أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ لِلْمُوَكِّلِ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ لَا يَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّلَ عَلَى الْعِلْمِ بِقَبْضِهِ، فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ، وَلَكِنَّهُ يَبِيعُ الْمَبِيعَ فَيَسْتَوْفِي مَا ضَمِنَ مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ فَلَا يُرْجَعُ بِالنُّقْصَانِ عَلَى أَحَدٍ.
وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ، لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، وَعَلَى الْمُوَكِّلِ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتَاتِ، فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ وَالْمَبِيعُ لَهُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْوَكِيلَ يَبِيعُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رحمه الله- لَا يَبِيعُهُ، وَجَعَلَ هَذَا كَبَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ الْمُفْلِسِ، وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ لَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَدَّهُ عَلَيْهِ فَسْخًا عَادَتِ الْوَكَالَةُ، فَإِذَا بِيعَ الْمَبِيعُ يَسْتَوْفِي الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنْهُ إِنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ نَفْسِهِ.وَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَضَمِنَ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ مِقْدَارَ مَا غَرِمَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ.
166- وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا قَالَ لِلْمُوَكِّلِ: تَصَرَّفْتُ كَمَا أَذِنْتَ لِي مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَالَ الْمُوَكِّلُ بَعْدُ: لَمْ تَتَصَرَّفْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَيَلْزَمُ الْآمِرَ التَّصَرُّفُ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِالْوَكَالَةِ.
وَلَوْ قَالَ قَبَضْتُ الثَّمَنَ وَتَلِفَ فِي يَدِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إِنْ ثَبَتَ الْقَبْضُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَمْ يَبْرَأِ الْغَرِيمُ مِنَ الدَّعْوَى إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْقَابِضُ وَكِيلاً مُفَوِّضًا أَوْ وَصِيًّا فَيَبْرَأُ بِاعْتِرَافِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ الْمَخْصُوصِ، وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا غُرْمَ عَلَى الْوَكِيلِ.
167- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صُلْحٍ، أَوْ طَلَاقٍ، أَوْ إِعْتَاقٍ، أَوْ إِبْرَاءٍ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: تَصَرَّفْتُ كَمَا أَذَنْتَ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: لَمْ تَتَصَرَّفْ بَعْدُ، نُظِرَ: إِنْ جَرَى هَذَا الِاخْتِلَافُ بَعْدَ انْعِزَالِ الْوَكِيلِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلتَّصَرُّفِ حِينَئِذٍ.وَإِنْ جَرَى قَبْلَ الِانْعِزَالِ، فَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ أَمِ الْوَكِيلِ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْوَكِيلُ، كَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ بِيَمِينِهِ، وَمَا لَا كَالْبَيْعِ فَلَا. وَلَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: بَاعَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ: لَمْ أَبِعْ.فَإِنْ صَدَّقَ الْمُشْتَرِي الْمُوَكِّلَ، حُكِمَ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
وَإِذَا وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ، فَقَالَ: قَبَضْتُهُ، وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ، نُظِرَ: إِنْ قَالَ: قَبَضْتُهُ وَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِي فَخُذْهُ، لَزِمَهُ أَخْذُهُ، وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الِاخْتِلَافِ.وَإِنْ قَالَ: قَبَضْتُهُ وَتَلِفَ فِي يَدِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِّهِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.وَقِيلَ: بِطَرْدِ الْخِلَافِ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.فَعَلَى الْمَذْهَبِ، إِذَا حَلَفَ الْمُوَكِّلُ، أَخَذَ حَقَّهُ مِمَّنْ كَانَ عَلَيْهِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ، لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ.
وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، أَوْ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَجَوَّزْنَا لَهُ قَبْضَ الثَّمَنِ، فَاتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: قَبَضْتُهُ وَتَلِفَ فِي يَدِي، أَوْ دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ، وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ، فَفِي الْمُصَدَّقِ مِنْهُمَا طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.
وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُمَا إِنِ اخْتَلَفَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ، فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْمُوَكِّلِ.
وَأَصَحُّهُمَا: قَوْلُ الْوَكِيلِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ يَدَّعِي تَقْصِيرَهُ وَخِيَانَتَهُ بِالتَّسْلِيمِ بِلَا قَبْضٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِيمَا إِذَا أَذِنَ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا.فَإِذَا أَذِنَ فِي التَّسْلِيمِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ فِي الْبَيْعِ بِمُؤَجَّلٍ وَفِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْأَجَلِ، لَمْ يَكُنْ خَائِنًا بِالتَّسْلِيمِ بِلَا قَبْضٍ، فَالِاخْتِلَافُ كَالِاخْتِلَافِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَإِذَا صَدَّقْنَا الْوَكِيلَ فَحَلَفَ، فَفِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: يَبْرَأُ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: لَا.
168- وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْوَكِيلُ: بِعْتُ الثَّوْبَ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ فَتَلِفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالْقَبْضَ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمَا، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ الْمُجْبَرَةِ عَلَى النِّكَاحِ فِي تَزْوِيجِهَا.
وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِحَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ.
و- الِاخْتِلَافُ فِي دَعْوَى رَدِّ مَا بِيَدِ الْوَكِيلِ:
169- قَدْ يَخْتَلِفُ الْمُوَكِّلُ مَعَ الْوَكِيلِ فِي دَعْوَى رَدِّ مَا بِيَدِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ، بِأَنْ يَدَّعِيَ الْوَكِيلُ الرَّدَّ فَيُنْكِرُهُ الْمُوَكِّلُ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْوَكَالَةُ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ يَعْمَلُ بِدُونِ أَجْرٍ، أَوْ بِأَجْرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ ثَانٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا كَانَ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُتَطَوِّعًا أَوْ بِأَجْرٍ.
انْتِهَاءُ الْوَكَالَةِ:
تَنْتَهِي الْوَكَالَةُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أَوَّلاً: الْعَزْلُ:
170- لَمَّا كَانَتِ الْوَكَالَةُ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِأَيٍّ مِنَ الطَّرَفَيْن إِنْهَاؤُهَا، فَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ مِنْهَا وَيَنْهَاهُ عَنِ التَّصَرُّفِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، كَمَا أَنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ مِنْهَا أَيْضًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.
غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ مِنَ الْمُوَكِّلِ الشُّرُوطُ التَّالِيَةُ:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ:
171- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعَزْلَ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، وَإِنَّهُ لَوِ انْعَزَلَ قَبْلَ عِلْمِهِ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَاتٍ فَتَقَعُ بَاطِلَةً.وَبِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ مُوَكِّلِهِ، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ قَبْلَ عِلْمِهِ كَالْفَسْخِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ، فَلَوْ تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بَعْدَ الْعَزْلِ فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْعَزْلَ رَفْعُ عَقْدٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَا صَاحِبِهِ، فَلَا يَفْتَقِرُ عَلَى عِلْمِهِ كَالطَّلَاقِ.
172- وَيَتِمُّ عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أ- أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا الْعَزْلَ.
ب- إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ غَائِبًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُوَكِّلُ كِتَابَ الْعَزْلِ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ وَعَلِمَ بِمَا فِيهِ.لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنَ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ مِنَ الْحَاضِرِ.
جـ- لَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُوَكِّلُ رَسُولاً فَبَلَّغَهُ الرِّسَالَةَ، وَقَالَ لَهُ: فُلَانٌ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ وَيَقُولُ: إِنِّي عَزَلْتُكَ عَنِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ، كَائِنًا مَا كَانَ الرَّسُولُ، عَدْلاً كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا.لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسَلِ مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عَنْهُ، فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ.
د- لَوْ أَخْبَرَ الْوَكِيلَ بِالْعَزْلِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ كَانَا أَوْ غَيْرُ عَدْلَيْنِ، أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ.سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ إِذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ، لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلاً فَخَبَرُ الْعَدْلَيْنِ أَوِ الْعَدْلِ أَوْلَى.
وَإِنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ بِاتِّفَاقِهِمْ أَيْضًا.
أَمَّا إِنْ كَذَّبَهُ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ.لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْعَزْلِ لَهُ شَبَهُ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ فِيهِ الْتِزَامَ حُكْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْعَزْلُ، وَهُوَ لُزُومُ الِامْتِنَاعِ عَنِ التَّصَرُّفِ وَلُزُومُ الْعُهْدَةِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَعْدَ الْعَزْلِ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ أَحَدِ شُرُوطِهَا وَهُوَ الْعَدَالَةُ أَوِ الْعَدَدُ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْعَزْلِ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ كَمَا فِي الْإِخْبَارِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ قُلْنَا لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ حَتَّى يَبْلُغَهُ خَبَرُ عَزْلِهِ فَالْمُعْتَبَرُ خَبَرُ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتِهِ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْفَاسِقِ.الشَّرْطُ الثَّانِي: عَدَمُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْوَكَالَةِ:
173- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَزْلِ الْوَكِيلِ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ.
فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقُّ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَزْلُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ، لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إِبْطَالَ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَمَنْ رَهَنَ مَالَهُ عِنْدَ رَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ وَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَجَعَلَ الْمُرْتَهِنَ أَوِ الْعَدْلَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ عِنْدَ حِلِّ الْأَجَلِ، فَعَزْلُ الرَّاهِنِ الْمُسَلَّطِ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ بِهِ عَزْلُهُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا وَكَّلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكِيلاً بِالْخُصُومَةِ مَعَ الْمُدَّعِي بِالْتِمَاسِ الْمُدَّعِي فَعَزَلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْمُدَّعِي لَا يَنْعَزِلُ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَنْ وَكَّلَ رَجُلاً بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ إِنْ غَابَ، ثُمَّ عَزَلَهُ الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ غَابَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ حَقُّ الْمَرْأَةِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ عَزْلُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَا عَلَى التَّوْكِيلِ بِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَكَالَاتِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ: عَزَلْتُ الْوَكِيلَ أَوْ رَفَعْتُ الْوَكَالَةَ، أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ أَخْرَجْتُهُ عَنْهَا، فَيَنْعَزِلُ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَ تَوْكِيلَهُ، أَوْ وَكَّلَهُ بِسُؤَالِ الْخَصْمِ، بِأَنْ سَأَلَتْ زَوْجَهَا أَنْ يُوَكِّلَ فِي الطَّلَاقِ أَوِ الْخُلْعِ، أَوْ سَأَلَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ أَنْ يُوَكِّلَ بِبَيْعِ الرَّهْنِ، أَوْ سَأَلَهُ خَصْمُهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْخُصُومَةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَيْسَ لَهُ عَزْلُ وَكِيلِهِ إِذَا قَاعَدَ الْوَكِيلُ الْخَصْمَ ثَلَاثًا، سَوَاءٌ كَانَ التَّوْكِيلُ لِعُذْرٍ أَمْ لَا.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَلاَّ تَقَعَ الْوَكَالَةُ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ:
174- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِصِحَّةِ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ وَكِيلَهُ أَنْ لَا تَكُونَ الْوَكَالَةُ قَدْ وَقَعَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجَارَةِ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا.أَمَّا إِذَا وَقَعَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى سَبِيلِ الْجَعَالَةِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي لُزُومِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ وَعَدَمِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (فَقْرَةِ 30).
أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْوَكَالَةُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجَارَةِ أَوِ الْجَعَالَةِ فَيَرَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا لَازِمَةٌ مِنْ جَانِبِ الْوَكِيلِ فَقَطْ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَق تَفْصِيلُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ صِفَةِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَلاَّ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْعَزْلِ مَفْسَدَةٌ:
175- قَالَ الشَّرَوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ عَلِمَ الْمُوَكِّلُ أَنَّهُ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَزْلِ مَفْسَدَةٌ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَيْثُ جَوَّزْنَاهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ظَالِمٌ، أَوْ وَكَّلَ فِي شِرَاءِ مَاءٍ لِطُهْرِهِ، أَوْ ثَوْبٍ لِلسَّتْرِ بِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، أَوْ شِرَاءِ ثَوْبٍ لِدَفْعِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ اللَّذَيْنِ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِمَا عِنْدَ عَدَمِ السَّتْرِ مَحْذُورٌ، تَيَمَّمَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ ذَلِكَ، فَيَحْرُمُ الْعَزْلُ وَلَا يَنْفُذُ.
عِلْمُ الْمُوَكِّلِ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسَهُ:
176- لَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عِلْمَ الْمُوَكِّلِ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسَهُ مِنَ الْوَكَالَةِ، لِأَنَّ فَسْخَ عَقْدِ الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَحْتَاجُ لِلرِّضَا فِيهِ، وَمَا لَا يَحْتَاجُ لِلرِّضَا فِيهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعِلْمِ فِيهِ كَذَلِكَ.
وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، حَيْثُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ لِنَفْسِهِ عِلْمُ الْمُوَكِّلِ بِالْعَزْلِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ الْوَكِيلُ أَنَّهُ لَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ فِي غَيْبَةِ مُوَكِّلِهِ اسْتَوْلَى عَلَى الْمَالِ جَائِرٌ حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَزْلُ عَلَى الْأَوْجَهِ كَالْمُوصِي، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ.
ثَانِيًا: الْوَفَاةُ:
177- تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِأَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ أَوِ الْوَكِيلُ بَطَلَتْ أَهْلِيَّتُهُ بِالْمَوْتِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ.
وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنِ الْمُوَكِّلِ فِي مَالِهِ، وَقَدِ انْتَقَلَ هَذَا الْمَالُ بِالْوَفَاةِ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ مَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى.
عِلْمُ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ:
178- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ حَتَّى تَبْطُلَ الْوَكَالَةُ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَصِحَّ الْعَزْلُ، لِأَنَّهُ لَوِ انْعَزَلَ قَبْلَ عِلْمِهِ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَاتٍ فَتَقَعُ بَاطِلَةً.فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَتَى تَصَرَّفَ قَبْلَ عِلْمِهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدُ مَعَ الْوَكِيلِ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِيهَا الْمُوَكِّلُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يَتَعَاقَدُ مَعَ وَكِيلٍ بِأَنْ أَعْلَمَهُ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ، أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ لِصِحَّةِ الْعَزْلِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَعَاقِدُ مَوْجُودًا بِالْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمُوَكِّلُ، أَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِالْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِوَفَاةِ مُوَكِّلِهِ.
ثَالِثًا: الْجُنُونُ:
179- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ طُرُوءِ الْجُنُونِ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ عَلَى الْوَكَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبَقِ، سَوَاءٌ طَرَأَ عَلَى الْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ.
وَإِذَا جُنَّ الْوَكِيلُ أَوِ الْمُوَكِّلُ جُنُونًا مُطْبَقًا ثُمَّ أَفَاقَ لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ.
وَحَدُّ الْجُنُونِ الْمُطْبَقِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيهِ:
فَحَدَّهُ أَبُو يُوسُفَ بِمَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ وَبِهِ يُفْتِي، وَعَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِسُقُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِهِ، فَقُدِّرَ بِهِ احْتِيَاطًا، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ.وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى مَا يَسْقُطُ بِهِ عِبَادَةُ الصَّوْمِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى، أَمَّا وَجْهُ حَدِّهِ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَلِسُقُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِهِ فَقَدَّرَ بِهِ احْتِيَاطًا كَمَا ذَكَرْنَا.
وَحَدَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِمَا يَسْتَوْعِبُ السَّنَةَ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْعِبَ لِلسَّنَةِ هُوَ الْمُسْقِطُ لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُمْتَدِّ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِخُرُوجِ الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ بِمَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ وَإِنْ زَالَ عَنْ قُرْبٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِجِنُونِهِ أَوْ جِنُونِ مُوَكِّلِهِ إِلاَّ أَنْ يَطُولَ جُنُونُ مُوَكِّلِهِ جِدًّا فَيَنْظُرَ لَهُ الْحَاكِمُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِجِنُونٍ لَا يَمْتَدُّ بِحَيْثُ تَتَعَطَّلُ الْمُهِمَّاتُ وَيَخْرُجُ إِلَى نَصْبِ قَوَّامٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَرَدَ بِلَفْظِ قِيلَ: إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ.
رَابِعًا: الْإِغْمَاء:
180- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْإِغْمَاءِ عَلَى الْوَكَالَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِإِغْمَاءِ الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ، إِلْحَاقًا لَهُ بِالْجُنُونِ، لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْقِيَامِ بِالتَّصَرُّفَاتِ، فَتَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ لِذَلِكَ.
خَامِسًا: الْحَجْرُ:
181- الْحَجْرُ مِنْ أَسْبَابِ بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ مَنَاهِجُ مُخْتَلِفَةٌ فِي بَيَانِ آثَارِ الْحَجْرِ عَلَى الْوَكَالَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ.
وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ وَكَّلَ إِنْسَانًا فَحَجَرَ عَلَيْهِ بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ، لِأَنَّ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ أَمْرِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَيَبْطُلُ الْأَمْرُ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ.
وَخَصَّصَ الْحَنَفِيَّةُ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُوَكِّلِ إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ وَكِيلاً فِي الْعُقُودِ وَالْخُصُومَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ وَكِيلاً فِي قَضَاءِ دَيْنٍ وَاقْتِضَائِهِ وَقَبْضِ وَدِيعَتِهِ فَلَا يَنْعَزِلُ بِالْحَجْرِ.
وَقَالُوا: تَبْطُلُ وَكَالَةُ الوَكِيلِ بِالْحَجْرِ، عَلِمَ الْوَكِيلُ بِالْحَجْرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ
َصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْحَجْرِ لِسَفَهٍ، سَوَاءٌ طَرَأَ عَلَى الْوَكِيلِ أَوْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَقْلِ وَعَدَمِ الْحَجْرِ، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ انْتَفَتْ صِحَّتُهُ لِانْتِفَاءِ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ.
وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِبُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِالْحَجْرِ لِلسَّفَهِ حَيْثُ كَانَتْ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي اعْتُبِرَ لَهَا الرُّشْدُ، بِأَنْ كَانَتْ فِي شَيْءٍ لَا يَتَصَرَّفُ فِي مِثْلِهِ السَّفِيهُ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ يَتَصَرَّفُ فِي مِثْلِهِ السَّفِيهُ بِدُونِ إِذْنٍ، أَوْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِي طَلَاقٍ أَوْ رَجْعَةٍ أَوْ فِي تَمَلُّكٍ مُبَاحٍ كَاسْتِقَاءِ مَاءٍ أَوِ احْتِطَابٍ، وَالَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ الْمُوَكِّلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَلَا تَنْفَسِخُ.
وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِفَلَسِ الْمُوَكِّلِ فِيمَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ كَالتَّصَرُّفِ فِي عَيْنِ مَالِهِ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي تَصَرُّفٍ فِي الذِّمَّةِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ حَجَرَ عَلَى الْوَكِيلِ لِفَلَسٍ فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ.
وَإِنْ حَجَرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَكَانَتِ الْوَكَالَةُ بِأَعْيَانِ مَالِهِ بَطَلَتْ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِهِ فِي أَعْيَانِ مَالِهِ.وَإِنْ كَانَتْ فِي الْخُصُومَةِ أَوِ الشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ أَوِ الطَّلَاقِ أَوِ الْخُلْعِ أَوِ الْقِصَاصِ فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ، فَلَا تَنْقَطِعُ الِاسْتِدَامَةُ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْحَجْرِ عَلَى الْوَكِيلِ أَوْ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ لَا يَنْفُذُ مِنْهُمَا.وَاعْتَبَرُوا الْحَجْرَ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ فِي مَعْنَى الْجُنُونِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِفَلَسِ الْمُوَكِّلِ الْأَخَصِّ، لِانْتِقَالِ الْمَالِ لِلْغُرَمَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِالْفَلَسِ الْأَخَصِّ: هُوَ حُكْمُ الْحَاكِمُ بِخَلْعِ مَا بِيَدِ الْمُفْلِسِ لِغُرَمَائِهِ بِشُرُوطِهِ، بِأَنْ يَطْلُبَ الْغُرَمَاءُ تَفْلِيسَ الْمَدِينِ، وَأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ حَالًّا، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّيْنُ الْحَالُّ يَزِيدُ عَلَى مَا بِيَدِ الْمَدِينِ مِنَ الْمَالِ.
وَالْفَلَسُ الْأَخَصُّ يَخْتَلِفُ عَنِ الْفَلَسِ الْأَعَمِّ الَّذِي هُوَ مَنْعُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ وَلَوْ مُؤَجَّلاً- بِمَالِهِ مِنْ تَبَرُّعِهِ بِعِتْقٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ حِمَالَةٍ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِفَلَسِ الْمُوَكِّلِ الْأَعَمِّ. سَادِسًا: الرِّدَّةُ:
182- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا حُكِمَ بِلُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ كَانَ مُوَكِّلاً أَوْ وَكِيلاً، بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ، ثُمَّ لَا تَعُودُ بِعَوْدِهِ مُسْلِمًا عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْحَوَاشِي الْيَعْقُوبِيَّةِ: أَنَّ الْوَكِيلَ إِنْ عَادَ مُسْلِمًا بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَالْقَضَاءِ بِهِ، تَعُودُ الْوَكَالَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَا تَعُودُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَلَوْ عَادَ الْمُوَكِّلُ مُسْلِمًا بَعْدَ اللُّحُوقِ وَالْقَضَاءِ بِه لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايِةِ.وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَعُودُ كَمَا فِي الْوَكِيلِ.
أَمَّا تَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهَا الْوَكَالَةُ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ.
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ، فَلَا تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ، أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ، أَوْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِرِدَّتِهِ أَيَّامَ الِاسْتِتَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ فَإِنْ قُتِلَ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ أُخِّرَ لِمَانِعٍ كَالْحَمْلِ فَقَدْ تَرَدَّدَ الْعُلَمَاءُ فِي عَزْلِهِ، وَكَذَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِرِدَّةِ مُوَكِّلِهِ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ الِاسْتِتَابَةِ وَلَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يُقْتَلْ لِمَانِعٍ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْجَارِي فِي زَوَالِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ الْمُرْتَدِّ عَنْ مِلْكِهِ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي زَوَالِ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ أَقْوَالاً:
أَحَدُهَا: يَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ لِزَوَالِ عِصْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ.وَعَلَيْهِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ.
وَالثَّانِي: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ كَالزَّانِي الْمُحْصِنِ فَلا يَنْعَزِلُ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ: أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا بَانَ زَوَالُهُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ، لِأَنَّ بُطْلَانَ أَعْمَالِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَوْتِهِ مُرْتَدًّا فَكَذَا مِلْكُهُ، فَيَكُونُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ مَوْقُوفًا.
وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَطَعَ بِاسْتِمْرَارِ مِلْكِهِ، وَجَعَلَ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ بِالرِّدَّةِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ؟. وَقَالُوا: رِدَّةُ الْوَكِيلِ لَا تُوجِبُ انْعِزَالَهُ، وَعَلَيْهِ فَتَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ عَنِ الْمُوَكِّلِ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ، أَوْ رِدَّةِ الْمُوَكِّلِ.وَلَهُمْ رَأْيَانِ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: لَا تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَا بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَهُمْ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ رِدَّتِهِ.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي: تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَا بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَهَلْ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؟ وَجْهَانِ فِي الْمَذْهَبِ أَصْلُهُمَا هَلْ يَنْقَطِعُ مِلْكُهُ وَتَصَرُّفُهُ أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا.
كَمَا أَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْخِلَافَ فِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ إِذَا وَكَّلَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ مَعًا.
قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُعْطَى حُكْمَهُ لَوِ انْفَرَدَ بِالِارْتِدَادِ.
(ر: رِدَّة ف43).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
31-لغة الفقهاء (النظم)
النظم: بفتح فسكون مصدر: نظم، الكلام الموزون المقفى، ويقابله النثر.[*] نظم القرآن: عبارته التي تشتمل عليها المصاحف... Verses of Quran
معجم لغة الفقهاء-محمد رواس قلعه جي/حامد صادق قنيبي-صدر: 1405هـ/1985م
32-مقاليد العلوم (المحْكَم)
المحْكَم (فِي التَّفْسِير): مَا أحكمت عِبَارَته بِأَن حفظت من الِاحْتِمَال.مقاليد العلوم-جلال الدين السيوطي-توفي: 911هـ/1505م
33-تاج العروس (شيأ)
[شيأ]: شِئْتُه أَي الشيءَ أَشَاؤُه شَيْأً ومَشِيئَةً كخَطِيئَة وَمَشَاءَةً كَكَراهة ومشَائِيَةً كعَلانِية: أَردْتُه قال الجوهريُّ: المشِيئَة: الإرادة، ومثلُه في المِصباح والمُحكم، وأَكثرُ المتكلّمين لم يُفرِّقوا بينهما، وإن كانتا في الأَصل مُخْتَلِفَتَيْنِ فإِن المَشيئَة في اللُّغة: الإيجاد، والإرادةُ: طلبٌ، أَوْمَأَ إليه شيخُنا ناقلًا عن القُطْب الرَّازِي، وليس هذا مَحَلَّ البسْطِ والاسمُ منه الشِّيئَة كَشِيعة عن اللِّحيانيّ، ومثله في الرَّوض للسُّهَيْلِي وقالوا: كلُّ شَيْءٍ بِشِيئَةِ اللهِ تعالى بكسر الشين؛ أَي بمَشيئَته، وفي الحديث: أَنّ يَهودِيًّا أَتَى النبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إِنكم تَنْذِرُون وتُشْرِكُون فتقولون: ما شاءَ اللهُ وشِئْتُ، فأَمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأَن يقولوا: «ما شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتُ» وفي لسان العرب وشرح المُعلَّقات: المشيئَةُ، مهموزة: الإِرادة، وإنما فَرَقَ بين قولِه: ما شَاءَ اللهُ وشِئْتُ، «وما شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتُ» لأَن الواو تُفيد الجمْعَ دون الترتيبِ، وثُمَّ تَجْمعُ وتُرتِّب، فمع الواوِ يكون قد جمعَ بينَ الله وبينَه في المشيئَةِ، ومع ثُمَّ يكون قد قدَّمَ مَشيئَةَ اللهِ على مَشِيئَتِه.والشيءُ معروف بين الناسِ، قال سيبويه حين أَراد أَن يجعل المُذكَّر أَصلًا للمؤنث: أَلَا تَرى أَن الشْيءَ مُذكَّرٌ، وهو يقع على كُلِّ ما أُخْبِرَ عنه، قال شيخنا: والظاهر أَنه مصدرُ بمعنى اسم المفعول؛ أَي الأَمر المَشِيءُ أَي المُرادُ الذي يتَعَلَّق به القَصْدُ، أَعمُّ مِن أَن يكون بِالفِعْل أَو بِالإِمْكانِ، فيتناوَلُ الوَاجِبَ والمُمْكِنَ والمُمْتَنِعَ، كما اختاره صاحبُ الكشَّاف، وقال الراغبُ: الشيْءُ: عِبارة عن كُلِّ موْجودٍ إمَّا حِسًّا كالأَجسام، أَو مَعْنًى كالأَقوالِ، وصرَّح البَيْضاوِيُّ وغيرُه بأَنه يَخْتَصُّ بالموجود، وقد قال سِيبويهِ: إِنه أَعمُّ العَامِّ، وبعض المُتكلِّمينَ يُطلِقه على المعدوم أَيضًا، كما نُقِلَ عن السَّعْدِ وضُعِّفَ، وقالوا: من أَطلقَه مَحجوجٌ بعدم استعمالِ العرب ذلك، كما عُلِم باستقْرارٍ كلامِهم وبنحْوِ {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلّا وَجْهَهُ} إِذ المعدومُ لا يَتَّصِفُ بالهَلاكِ، وبنحْوِ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} إِذ المعدوم لا يُتَصَوَّرُ منه التسبيحُ. انتهى. الجمع: أَشياءُ غير مصروف وأَشْيَاوَاتٌ جمعُ الجمعِ لشيْءٍ، قاله شيخنا وكذا أَشَاوَاتٌ وأَشَاوَى بفتح الواو، وحُكِي كَسْرُها أَيضًا، وحكى الأَصمعيُّ أَنه سمع رجلًا من أَفصح العرب يقول لِخَلَف الأَحمرِ: إِنَّ عِندك لأَشَاوِي وأَصلُه أَشَابِيُّ بثلاثِ ياآتٍ خُفِّفت الياءُ المشدّدة، كما قالوا في صَحَاريّ صَحارٍ فصار أَشايٍ ثم أُبدل من الكسرة فتحة ومن الياءِ أَلف فصار أَشايا كما قالوا في صَحَارٍ صَحَارَى، ثم أَبدلُوا من الياءِ واوًا، كما أَبدلوا في جَبَيْت الخَراجَ جبَايةً وجِبَاوَةً، كما قاله ابن بَرّيّ في حواشي الصِّحاح وقولُ الجوهريِّ إِنّ أَصله أَشَائِيُّ بياءَين بالهمز أَي همز الياء الأُولى كالنُّون في أَعناقِ إِذا جمعته قلت أَعانِيق، والياءُ الثانِية هي المُبدلة من أَلف المدّ في أَعناقٍ تُبْدَل ياءً لكسر ما قبلها، والهمزةُ هي لامُ الكلمة، فهي كالقاف في أَعانِيق، ثم فلِبَت الهمزةُ لتطَرُّفِها، فاجتمعتْ ثلاثُ ياآتٍ، فتوالَتِ الأَمثالُ فاستُثْقِلت فحُذِفت الوُسْطَى وقُلِبت الأَخيرةُ أَلفًا، وأُبْدلَت من الأُولى واوًا، كما قالوا: أَتَيْتُه أَتْوَةً، هذا ملخص ما في الصحاح قال ابن بَرّيّ: وهو غَلَطٌ منه لأَنه لا يصِحُّ همْزُ الياءِ الأُولى لكَوْنِها أَصلًا غيرَ زائدة وشرْطُ الإِبدال كونها زائدةً كما تَقولُ في جمع أَبْياتٍ أَبايِيتُ ثَبتت ياؤُها لعدم زِيادتها، وكذا ياء مَعَايِشَ فلا تَهْمِزُ أَنت الياءَ التي بعد الأَلِف لأَصالتها، هذا نص عِبارة ابن بَرِّيّ. قال شيخنا: وهذا كلام صحيح ظاهر، لكنه ليس في كلام الجوهريّ الياءُ الأُولى حتى يردّ عليه ما ذكر، وإنما قال: أَصله أَشائيّ فقُلبت الهمزة ياء فاجتمعت ثلاثُ ياآت. قال: فالمراد بالهمزة لام الكلمة لا الياء التي هي عين الكلمة، إلى آخر ما قال.
قلت: وبما سقناه من نصّ الجوهري آنفًا يرتفع إِيراد شيخنا الناشيء عن عدم تكرير النظر في عبارته، مع ما تحامل به على المصنِّف عفا اللهُ وسامح عن جسارته ويُجْمَع أَيضًا على أَشايَا بإِبقاء الياء على حالها دون إِبدالها واوًا كالأُولى، ووزنه على ما اختاره الجوهريّ أَفَائِلُ، وقيل أَفَايَا وحُكِي أَشْيَايَا أَبْدلوا همزتَه ياء وزادوا أَلفًا، فوزنه أَفعَالًا، نقله ابنُ سيده عن اللَّحيانيّ وأَشَاوِهُ بإِبدال الهمزة هاءً، وهو غَرِيبُ أَي نادر، وحَكَى أَن شيخًا أَنشد في مجلس الكِسائيِّ عن بعض الأَعراب:
وذَلِكَ مَا أُوصِيكِ يَا أَمَّ مَعْمَرٍ *** وبَعْضُ الوَصَايَا فِي أَشَاوِهَ تَنْفَعُ
قال اللحيانيُّ: وزعم الشيخ أَن الأَعرابي قال: أُرِيد أَشَايَا، وهذا من أَشَذِّ الجَمْع لأَنَّه ليس في الشيءِ هاءٌ وعبارة اللحيانيِّ، لأَنه لا هاءَ في الأَشياءِ وتصغيره شُيَيْءٌ مضبوط عندنا في النسخة بالوجهين معًا، أي بالضمّ على القياس، كَفلْسٍ وفُليْسٍ، وأَشار الجوهريُّ إلى الكَسر كغيرهِ، وكأَنّ المؤلف أَحال على القياس المشهور في كُلِّ ثُلاثِيِّ العَيْنِ، قال الجوهريُّ ولا تقل شُوَيّ بالواو وتشديد الياء أَو لُغيَّةٌ حكيت عن إدريسَ بن مُوسى النَّحْوِيِّ بل سائر الكوفيين، واستعمَلها المُولَّدُون في أَشعارهم، قاله شيخنا، وحِكايةُ الإِمام أَبي نصر الجوهريِّ رحمه الله تعالى عن إمام المذهب الخَليلِ بن أَحمد الفراهِيدِيّ أَن أَشياءَ فَعْلاءُ، وأَنها معطوف على ما قبله جَمْعٌ على غيرِ واحدِهِ كشاعرٍ وشُعَراءَ كون الواحد على خِلاف القياس في الجَمْع إلى آخِره أَي آخر ما قال وسَرَد حِكَايةٌ مُختَلَّة وفي بعض النسخ بدون لفظ «حكاية» أَي ذات اختلالٍ وانحلالٍ ضَرَبَ فيها أَي في تلك الحكاية مَذهَبَ الخليلِ على مذْهب أَبي الحسن الأَخْفَشِ ولم يُمَيِّزْ بينَهما أَي بين قولَى الإِمامين وذلك أَن أَبا الحسن الأَخْفَشَ يَرَى ويذهب إِلى أَنها أَي أَشياءَ وزْنُها أفْعِلَاء كما تقول هَيْنٌ وأَهْوِنَاء، إلا أَنه كان في الأَصل أَشْيِئَاء كَأَشْيِعَاع، فاجتمعت همزتان بينهما أَلف فَحُذِفت الهمزةُ الأُولى، وفي شرح حُسام زادَه على منظومةِ الشافِيَة: حُذِفت الهمزةُ التي هي اللام تخفيفًا كراهة همزتين بينهما أَلف: فوزنها أَفْعَاء، انتهى. قال الجوهريّ: وقال الفراءُ: أَصل شَيْءٍ شَيِّءٌ على مثال شَيِّعٍ، فجُمع على أَفْعِلَاءَ مثل هَيِّنٍ وأَهْيِنَاءَ ولَيِّنٍ وأَلْيِنَاءَ، ثم خُفِّفَ فقيل شيْءٌ، كما قالوا: هَيْنٌ ولَيْنٌ، فقالوا أَشْيَاءَ، فحذفوا الهمزَةَ الأُولى، وهذا قول يَدْخُل عليه أَن لا يُجْمَع على أَشَاوَى وهي جَمْعٌ على غير واحِدِهِ المُستعْمَل المَقِيس المُطَّرِد كشاعِرٍ وشُعَراءَ، فإنّه جُمِعَ عَلى غيرِ واحدِه قال شيخنا: هذا التنظيرُ ليس من مذهب الأَخفش كما زعم المُصنّف، بل هو من تَنْظير الخَليل، كما جزم الجوهريُّ وأَقرَّه العَلَم السَّخاوِيُّ، وبه صَرَّح ابنُ سيده في المُخَصّص وعزاه إلى الخَليل.
قلت: وهذا الإيراد نصّ كلام ابن بَرّيّ في حواشيه، كما سيأْتي، وليس من كلامه، فكان ينبغي التنبيهُ عليه لأَنَّ فاعِلًا لا يُجْمَع على فُعَلَاءَ لكن صرَّح ابنُ مالكٍ وابنُ هِشامٍ وأَبو حيّانَ وغيرُهم أَن فُعَلَاءَ يَطَّرِد في وَصْفٍ على فعيل بمعنى فاعِلٍ غير مُضاعَفٍ ولا معتَلٍّ كَكَرِيم وكُرماء وظَرِيف وظُرفاء، وفي فاعلِ دالٍّ على مَعْنًى كالغَرِيزة كَشاعِرٍ وشُعراء وعاقِل وعُقَلَاء وصالِح وصُلَحاء وعالم وعُلَماء، وهي قاعِدَةٌ مُطَّرِدة، قال شيخنا: فلا أَدْري ما وَجْه إقرار المصَنّف لذلك كالجوهريّ وابنِ سيده وأَمّا الخليلُ بن أَحمد فيرى أَنها أَي أَشياءَ اسمُ الجمع وزنها فَعْلَاءُ أَصْله شَيْئَاءُ، كحمْراء فاستُثقِل الهمزتانِ، فقلبوا الهمزةَ الأُولى إلى أَوَّل الكلمةِ، فجُعِلت لَفْعَاء، كما قَلبوا أَنْوُق فقالوا أَيْنُق، وقلبوا أَقْوُس إِلى قِسِيٍّ، قال أَبو إِسحاق الزجاج: وتصديقُ قولِ الخليل جمْعهم أَشياء على أَشَاوى وأَشَايا وقولُ الخليلِ هو مذهبُ سِيبويهِ والمازِنِّي وجميعِ البصريِّينَ إلا الزيادِيَّ منهم، فإنه كان يمِيل إلى قولِ الأَخفشِ، وذُكِر أَن المازنيَّ ناظر الأَخفشَ في هذا فقطعَ المازِنيُّ الأَخفَشَ، قال أَبو منصور: وأَما الليث فإنه حكى عن الخليل غير ما حكى عنه الثِّقاتُ، وخَلَّط فيما حكَى وطَوَّل تَطْوِيلًا دلَّ على حَيْرَته، قال: فلذلك تركْتُه فلم أَحْكِه بِعَيْنِه. نائبةٌ عن أَفْعَالٍ وبَدَلٌ منه قال ابنُ هشامٍ: لم يرِد منه إِلَّا ثلاثةُ أَلفاظٍ: فَرْخٌ وأَفْرَاخ، وزَنْد وأَزْناد وحَمْل وأَخْمال، لا رابع لها، وقال غيره: إنه قليل بالنسبة إلى الصحيح، وأَما في المعتل فكثير وجَمْعٌ لِوَاحِدِها وقد تقدّم من مذهب سِيبويهِ أَنَّها اسمُ جمعٍ لا جَمْعٌ فليُتَأمَّلْ، المُستَعْمَل المطَّرِد وهو شيْءٌ وقد عرفت أَنه شاذٌّ قليلٌ وأَمَّا الكسائِيُّ فيرى أَنها أَي أَشياءَ أَفعالٌ كَفَرْخٍ وأَفْرَاخٍ أَي من غير ادَّعاء كُلْفةٍ، ومن ثم اسْتَحْسَنَ كثيرُون مَذهبَه، وفي شرح الشافية، لأَن فَعْلًا مُعْتَلَّ العينِ يُجمع على أَفعال.
قلت: وقد تقدّمت الإشارة إليه، فإن قلت: إذا كان الأَمر كذلك فكيف مُنِعَت من الصرف وأَفْعَال لا مُوجِب لِمَنْعه.
قلت: إِنما تُرِك صَرْفُها لِكَثرةِ الاستعمالِ فخَفَّتْ كثيرًا، فقابلوا خِفَّتها بالتثقيل وهو المنع من الصرف لأَنها أَي أَشياءَ شُبِّهَتْ بِفَعْلَاءَ مثل حمْراءَ في الوزن، وفي الظاهر، وفي كَوْنِها جُمِعَتْ على أَشْيَاوَات فصَارَتْ كخَضْرَاءَ وخَضْراوَاتٍ وصَحْرَاءَ وصَحْرَاوات، قال شيخُنا: قوله: لأَنها شُبِّهت، إلخ من كلام المُصَنِّف جوابًا عن الكسائي، لا من كلام الكسائيِّ.
قلت: قال أَبو إسحاق الزجّاج في كتابه في قوله تعالى: {لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ} [أشياء] في موضِع الخفض إلّا أَنّها فُتِحت لأَنها لا تنصرِف، قال: وقال الكسائيُّ: أَشبَه آخِرُها آخِرَ حَمراءَ وكثُرَ استعمالُها فلم تُصْرَف. انتهى، فعُرِف من هذا بُطْلان ما قاله شَيْخُنا، وأَن الجوهريّ إنما نَقله من نصِّ كلام الكسائيّ، ولم يأْتِ من عِنْده بشيءٍ فحِينئذٍ لا يَلْزَمُهُ أَي الكسائيَّ أَن لا يصْرِفَ أَبْنَاءٌ وأَسْمَاءَ كما زعم الجوهريُّ قال أَبو إسحاق الزجّاج: وقد أَجمع البصريّونُ وأَكثرُ الكُوفِيِّين على أَن قول الكسائيِّ خطأٌ في هذا، وأَلزموه أَن لا يصرِف أَبناءً وأَسماءً. انتهى، فقد عرفْتَ أَنَّ في مثل هذا لا يُنْسب الغلطُ إلى الجوهريّ كما زعم المؤلّفُ لأَنهم لم يَجْمَعُوا أَبناءً وأَسماءً بالأَلف والتَّاءِ فلم يَحْصُل الشَّبَهُ. وقال الفراءُ: أَصلُ شَيْءٍ شَيِّيءٌ على مِثال شيِّعٍ، فجُمِع على أَفْعِلاء مثل هَيِّنْ وأَهْيِنَاء وليِّن وأَلْيِنَاء، ثم خُفِّف فقيل شَيْءٌ كما قالوا هَيْنٌ ولَيْنٌ، فقالوا أَشياء، فحذفوا الهمزة الأُولى، كذا نصُّ الجوهريّ، ولما كان هذا القولُ راجعًا إلى كلام أَبي الحسن الأَخفش لم يَذْكُرْهُ المؤلف مستقلًّا، ولذا تَرى في عبارة أَبي إسحاق الزجّاج وغيرِهِ نِسبةَ القوْلِ إِليهما معًا، بل الجارَبَرْدِي عَزَا القَولَ إلى الفَرَّاء ولم يَذكر الأَخفش، فلا يقال: إن المؤلّف بَقِيَ عليه مذهبُ الفرَّاء كما زعم شيخُنا، وقال الزجّاج عند ذِكر قوْلِ الأَخفش والفرَّاءِ: وهذا القولُ أَيضًا غلطٌ، لأَنَّ شَيْئًا فَعْلٌ، وفَعْلٌ لا يُجْمَع على أَفْعِلاءَ، فأَمَّا هَيْن فأَصلُه هَيِّن فجُمِع على أَفْعِلَاء كما يُجْمَع فَعِيلٌ على أَفعِلاء مثل نَصِيب وأَنْصِباء انتهى.
قلت، وهذا هو المذهب الخامِس الذي قال شيخنا فيه إنه لم يَتَعَرَّض له اللُّغَوِيُّون، وهو راجعٌ إلى مذهب الأَخفش والفرَّاء، قال شيخنا في تَتِمَّات هي للمادَّة مُهِمَّات: فحاصلُ ما ذُكِر يَرْجع إلى ثلاثة أَبْنِيَة تُعْرَف بالاعتبار والوَزْنِ بعد الحَذف فتصير خَمْسةَ أَقْوالٍ، وذلك أَن أَشْياء هل هي اسمُ جَمعٍ وَزْنُها فَعْلاء أَو جَمْع على فَعْلَاء ووزنه بعد الحَذْفِ أَفْعاء أَو أَفْلَاء أَو أَفْياء أَو أَصلها أَفْعَال، وبه تعلَم ما في القاموس والصحاح والمحكم من القُصور، حيث اقتصر الأَوّل على ثلاثة أَقوال، مع أَنه البحر، والثاني والثالث على أَربعة، انتهى.
وحيث انجرَّ بنا الكلام إلى هنا ينبغي أَن نعلم أَيّ المذاهب مَنْصورٌ مما ذُكِر.
فقال الإمام علم الدين أَبو الحسن عليّ بن محمد بن عبد الصمد السَّخاوِيّ الدِّمشقيّ في كتابه سِفْر السَّعادة وسفير الإِفادة: وأَحسنُ هذه الأَقوالِ كلَّها وأَقربُها إلى الصوابِ قولُ الكسائيّ، لأَنه فَعْلٌ جُمِع على أَفْعال، مثل سَيْفٍ وأَسْياف، وأَمّا منعُ الصَّرْف فيه فعلى التشبيه بِفَعْلاء، وقد يشتبه الشيءُ بالشيءِ فيُعْطَى حُكْمه، كما أَنهم شَبَّهوا أَلف أَرْطَى بأَلف التأْنيث فمنعوه من الصرف في المعرفة، ذكر هذا القول شيخُنا وأَيَّدَه وارْتضاه.
قلت: وتقدم النقلُ عن الزجّاج في تخطِئَة البَصرِيّيّن وأَكثرِ الكُوفيّين هذا القَول، وتقدم الجوابُ أَيضًا في سِيَاق عِبارة المؤلّف، وقال الجَاربَرْدِي في شرح الشَّافِية: ويلْزم الكسائيَّ مخالفةُ الظاهرِ من وجْهينِ: الأَول مَنْع الصرْفِ بغير عِلَّة، الثاني أَنها جُمِعَت على أَشَاوَى. وأَفعال لا يُجْمَع على أَفاعل.
قلت: الإِيراد الثاني هو نصُّ كلام الجوهريّ، وأَما الإِيراد الأَول فقد عرفتَ جوابَه.
وذكر الشّهاب الخَفاجي في طِراز المجالس أَن شِبْهَ العُجْمة وشِبْه العَلَمِيَّة وشِبْه الأَلِف مما نَصَّ النُّحاة على أَنه من العِلَل، نقلَه شيخُنا وقال: المُقرَّر في عُلوم العربية أَن من جُمْلة موانع الصرْف أَلِفَ الإِلحاق، لشَبَهِها بأَلف التأْنيث، ولها شرطان: أَن تكون مَقصورةً، وأَما أَلِفُ الإِلحاق الممدودةُ فلا تَمْنَع وإن ضُمَّت لِعِلَّةِ أُخْرى، الثاني أَن تقع الكلمةُ التي فيها الأَلف المقصورةُ علمًا، فتكون فيها العَلَمِيّةُ وشِبْهُ أَلفِ التأْنيث، فأَما الأَلف التي للتأْنيث فإنها تَمنعُ مطلقًا، ممدودةً أَو مقصورةً، في معرفةِ أَو نكرةِ، على ما عُرِف. انتهى.
وقال أَبو إسحاق الزجّاج في كتابه الذي حَوَى أَقَاويلَهم واحتجَّ لأَصوبها عنده وعزاه للخليل فقال: قوله تعالى: {لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ} في موضعِ الخَفْضِ إلَّا أَنّها فُتِحت لأَنها لا تَنْصرف.
ونص كلام الجوهريّ: قال الخليل: إنما تُرِك صَرْفُ أَشياءَ لأن أَصلَه فَعْلَاء، جُمِعَ على غير واحدهِ، كما أن الشُّعَراء جُمع على غير واحدِهِ، لأَن الفاعِل لا يُجْمع على فُعَلَاء، ثم استثْقَلُوا الهمزتَيْنِ في آخِره نَقَلُوا الأُولى إلى أَوّل الكلِمة فقالوا أَشْياء، كما قالوا أَيْنُق وقِسِيّ فصار تقديرُه لَفْعاء، يدُلُّ على صِحّة ذلك أَنه لا يُصْرَف، وأَنه يُصَغَّرُ على أَشيَاء، وأَنه يُجْمَع على أَشَاوَى، انتهى. قال الجاربردي بعد أَن نقل الأَقوال: مذهبُ سِيبويه أَوْلى، إذ لا يَلزمه مخالَفةُ الظاهرِ إلَّا من وَجْهٍ واحدٍ، وهو القَلْبُ، مع أَنه ثابِتٌ في لُغتهم في أمثِلة كثيرةٍ.
وقال ابن بَرِّيّ عند حِكاية الجوهريّ عن الخليل إنّ أَشياءَ فَعْلَاءُ جُمِع على غير واحدِهِ كما أَنّ الشُّعَراءَ جُمِع على غير واحده: هذا وَهَمٌ منه، بل واحدُها شيْءٌ، قال: وليست أَشياءُ عِنده بجمْعٍ مكَسَّر، وإِنما هي اسمٌ واحدٌ بمنزلةِ الطَّرْفَاءِ والقَصْباءِ والحلْفَاءِ، ولكنه يجعلُها بدلًا من جَمْعٍ مُكَسَّرٍ بِدلالةِ إضافةِ العدَد القليل إليها، كقولهم: ثَلاثَةُ أَشْياءَ، فأَما جَمْعُها على غير واحِدِها فذلك مَذهبُ الأَخفشِ، لأَنه يرى أَنَّ أَشياءَ وَزْنُهَا أَفْعِلاء، وأَصلها أَشْيِئَاء فحُذِفت الهمزةُ تخفيفًا، قال: وكان أَبو عَلِيٍّ يُجِيز قولَ أَبي الحسن على أَن يكون واحِدُها شَيْئًا، ويكون أَفْعِلاء جَمْعًا لِفَعْلٍ في هذا، كما جُمِع فَعْلٌ على فُعَلَاءُ في نَحْو سَمْحٍ وسُمَحَاء، قال: وهو وَهَمٌ من أَبي علِيٍّ، لأَن شَيْئًا اسمٌ، وسَمْحًا صفة بمعنى سَمِيح، لأَن اسم الفاعل من سَمُحَ قياسه سَمِيح، وسَمِيح يُجمَع على سُمَحاءَ، كَظرِيف وظُرفاء، ومثله خَصْمٌ وخُصَمَاء، لأَنه في معنى خَصِيم، والخَليلُ وسيبويهِ يقولان أَصلها شيئاء، فقُدِّمت الهمزة التي هي لامُ الكلمةِ إلى أَوَّلها فصارت أَشياءَ، فوزنها لَفْعَاء، قال: ويدُلُّ على صِحَّة قولهما أَن العرب قالت في تَصغيرها أُشَيَّاء، قال: ولو كانت جَمْعًا مُكسَّرًا كما ذهبَ إليه الأَخفش لَقِيل في تصغيرها شُيَيْئَات كما يُفْعل ذلك في الجُموع المُكَسَّرة، كجِمَال وكِعَاب وكِلَاب، تقول في تصغيرها: جُمَيْلَات وكُعَيْبَات وكُلَيْبَات، فتَردّها إلى الواحد ثُمَّ تَجمعها بالأَلف والتاء.
قال فخر الدين أَبو الحسن الجابربردي: ويلزم الفرَّاء مخالفةُ الظاهرِ مِن وُجوهٍ: الأَول أَنه لو كان أَصلُ شَيْءٍ شَيِّئًا كَبيِّن، لكان الأَصل شائعًا كثيرًا، أَلا تَرى أَن بَيِّنًا أَكثَرُ مِن بَيْنٍ وَميِّتًا أَكثرُ من مَيْت، والثاني أَن حذف الهمزة في مِثلها غيرُ جائزٍ إِذ لا قِياس يُؤَدِّي إلى جَواز حذف الهمزة إذا اجتمع هَمزتانِ بينهما أَلف. الثالث تصغيرُها على أُشَيَّاءَ، فلو كانت أَفْعِلاءَ لكانت جَمْعَ كَثرةٍ، ولو كانت جَمْعَ كثرةِ لوجبَ رَدُّها إلى المُفرد عند التصغير، إذ ليس لها جَمْعُ القلَّة. الرابع أَنها تُجمَع على أَشَاوَى، وأَفعِلَاء لا يُجْمع على أَفاعلَ، ولا يلزمُ سِيبويهِ من ذلك شَيْءٌ، لأَنّ مَنْعَ الصَّرْفِ لأَجلِ التأْنِيثِ، وتصغيرُها على أُشَيَّاء لأَنها اسمُ جَمْعٍ لا جَمْعٌ، وجَمْعُهَا على أَشَاوَى لأَنها اسمٌ على فَعْلَاءَ فيُجمع على فَعَالَى كصحارٍ أَو صَحَارَى، انتهى.
قلت: قوله ولا يلزم سيبويهِ شيءٌ من ذلك على إِطلاقه غير مُسَلّم، إِذ يَلزمه على التقرير المذكور مثلُ ما أَورد على الفرّاء من الوجه الثاني، وقد تقدم، فإِن اجتماع هَمزتين بينهما أَلف واقعٌ في كلامِ الفُصحاء، قال الله تعالى: {إِنّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ} وفي الحديث: «أَنا وأَتْقِياءُ أُمَّتي بُرَآءُ من التَكلُّف» قال الجوهري: إن أَبا عُثمَانَ المازِنيَّ قال لأَبي الحسن الأَخفشِ: كيف تُصَغِّر العَربُ أَشياءَ؟ فقال: أُشَيَّاءَ، فقال له: تَركتَ قولَك، لأَن كلَّ جَمْع كُسِّر على غيرِ واحدِه وهو من أَبنِيَة الجمْعِ فإِنه يُرَدُّ بالتصغير إلى واحده، قال ابنُ برِّيّ: هذه الحكاية مُغَيَّرة، لأَن المازنيّ إِنما أَنكر على الأَخفش تَصغير أَشياء، وهي جَمْعٌ مُكَسَّرٌ للكثير من غيرِ أَن يُرَدَّ إِلى الواحد، ولم يقل له إِن كلَّ جمع كُسِّر على غيرِ واحدِهِ، لأَنه ليس السَّببُ المُوجِبُ لردِّ الجمع إِلى واحده عند التصغير هو كَوْنه كُسِّر على غير واحده، وإِنما ذلك لكونه جَمْعَ كثرة لا قِلَّة.
وفي هذا القدْرِ مَقْنَعِ للطالب الراغبِ فتأَمَّلْ {وَكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ}، وبعد ذلك نَعود إِلى حَلِّ أَلفاظ المَتْن، قال المؤلف:
والشَّيِّآنُ أَي كَشَيِّعَان تَقَدَّم ضبطُه ومعناه؛ أَي أَنه واوِيُّ العين ويائِيُّها، كما يأْتي للمؤلف في المعتَلّ إِيمَاء إِلى أَنه غير مهموز، قاله شيخُنا، ويُنْعَت به الفَرسُ، قال ثَعْلَبَةُ بن صُعَيْرٍ:
ومُغِيرَة سَوْمَ الجَرادِ وَزَعْتُها *** قَبْلَ الصَّبَاحِ بِشَيِّآن ضَامِرِ
وأَشاءَهُ إِليه لُغة في أَجاءَه أَي أَلْجَأَهُ، وهو لُغة تَميمٍ يقولون: شَرٌّ ما يُشِيئُكَ إِلى مُخَّةِ عُرْقُوبٍ؛ أَي يُجِيئُك ويُلْجِئُك، قال زُهَيْر بن ذُؤَيْب العَدَوِيُّ:
فَيَالَ تَمِيمٍ صَابِرُوا قَدْ أُشِئْتُمُ *** إِلَيْهِ وكُونُوا كالمُحَرِّبَةِ البُسْلِ
والمُشَيَّأُ كمُعَظَّم هو المُخْتَلِف الخَلْقِ المُخْتَلّةُ القبيح، قال الشاعر:
فَطَيِّئٌ مَا طَيئٌ مَا طَيِّئ *** شَيَّأَهُمْ إِذْ خَلَقَ المُشَيِّئ
وما نقله شَيخُنا عن أُصول المحكم بالباء الموحَّدة المُشدَّدة وتَخفيف اللام فتصحِيفٌ ظاهرٌ، والصحيح هو ما ضَبطناه على ما في الأُصول الصحيحة وجدناه، وقال أَبو سعيد: المُشَيَّأُ مثلُ المُوَبَّنِ، قال الجعديُّ:
زَفِيرَ المُتِمِّ بِالمُشَيَّإِ طَرَّقَتْ *** بِكَاهِلِهِ ممَّا يَرِيمُ المَلَاقِيَا
ويَا شَيْءَ: كَلِمَةٌ يُتَعَجَّبُ بِهَا قال:
يَا شَيْءَ مَالِي! مَنْ يُعَمَّرْ يُفْنِهِ *** مَرُّ الزَّمانِ عَلَيْهِ والتَّقْليبُ
ومعناهُ التأَسُّفُ على الشيءِ يفوت وقال اللِّحيانيُّ: معناه: يا عَجَبي، و«ما» في موضع رفعٍ تَقولُ: يا شَيْءَ مَالِي، كَيا هَيْءَ مالِي، وسيأْتي في باب المعتلّ إن شاءَ اللهُ تعالى نظرًا إِلى أَنَّهما لا يهمزان، ولكن الذي قال الكسائي يا فَيَّ مَالِي ويَا هَيَّ مالِي، لا يُهْمَزَانِ، ويا شيءَ مالي يُهْمَز ولا يُهمز، ففي كلام المؤلّف نظرٌ، وإِنما لم يذكر المؤلف يا شَيَّ مالي في المُعتل لما فيه من الاختلاف في كونه يُهمز ولا يُهمز، فلا يَرِد عليه ما نَسبه شيخُنا إلى الغَفْلَة، قال الأَحمر: يا فَيْءَ مالي، ويا شَيءَ مالي، ويا هَيْءَ مالي معناه كُلِّه الأَسف والحُزن والتَلهُّف، قال الكسائي: و«ما» في كلّها في موضع رَفْعٍ، تأْويله يا عجبًا مالي، ومعناه التلهُّف والأَسى، وقال: ومن العرب من يقول شَيْءَ وَهيْءَ وفَيْءَ ومنهم من يزيد ما فيقول: يا شَيْءَ ما، ويا هيءَ ما ويا فيْءَ ما؛ أَي ما أَحسن هذا.
وشِئْتهُ كجئْته على الأَمْر: حَمَلْتُه عليه، هكذا في النسخ، والذي في لسان العرب شَيَّأْتُه بالتشديد، عن الأَصمعي وقد شَيَّأَ اللهُ تعالى خَلْقَه ووَجْهَهُ أَي قَبَّحَه وقالت امرأَةٌ من العرب:
إنِّي لأَهْوَى الأَطْوَلِينَ الغُلْبَا *** وَأُبْغِضُ المُشَيَّئِينَ الزُّغْبَا
وتَشَيَّأَ الرجل إذا سَكَن غَضَبُه، وحكى سيبويهِ عن قولِ العرب: ما أَغْفَلَه عنك شَيْئًا أَي دَعِ الشكَّ عنك، قال ابنُ جِنّي: ولا يجوز أَن يكون شيئًا هنا منصوبًا على المصدر حتى كأَنه قال: ما أَغفلَهُ عنك غُفُولًا ونحو ذلك، لأَن فِعل التعجُّب قد استغنَى بما حصلَ فيه من معنى المُبالغةِ عن أَن يُؤَكَّد بالمصدر، قال: وأَما قولُهم: هو أَحسنُ منك شيئًا فإنه منصوب على تقدير بِشَيْءٍ، فلما حذف حرف الجر أُوصل إليه ما قبله، وذلك أَن معنى: هو أَفْعَلُ منه، في المبالغة، كمعنى ما أَفْعَلَه، فكما لم يَجُزْ ما أَقْوَمه قِيامًا، كذلك لم يَجُزْ هو أَقْوَمُ منه قِيامًا، كذا في لسان العرب، وقد أَغفله المُصنِّف. وحُكِيَ عن الليث: الشَّيْءُ: الماءُ، وأَنشد:
تَرَى رَكْبَهُ بِالشَّيْءِ فِي وَسْطِ قَفْرَةٍ
قال أَبو منصور: لا أَعرف الشَّيْءَ بمعنى الماءِ ولا أَدري ما هو [ولا أَعرف البيتَ] وقال أَبو حاتم: قال الأَصمعي: إذا قال لك الرجُل ما أَردْتَ؟ قلتَ لا شيئًا، وإن قال [لك] لم فعَلْتَ ذلك؟ قلت: لِلَاشَيْءٍ، وإن قال: ما أَمْرُكَ؟ قلت: لا شَيْءٌ، يُنَوَّنُ فيهن كُلِّهن. وقد أَغفله شيخُنا كما أَغفله المُؤَلف.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
34-تاج العروس (قدأ)
[قدأ]: القِنْدَأْوُ كفِنْعَلْوِ أَي بزيادة النون والواو، فأَصله قدأَ ومحلّه هذا، وهو رأْيُ بعض الصرفيِّين، وقال الليث إِن نُونَها زائدةٌ والواو فيها أَصْلِيّة، وقال أَبو الهيثم: قِنْدَاوَةٌ فِنْعَالَةٌ، قال الأَزهريُّ: والنون فيهما ليست بأَصليّة وقال قومٌ: أَصله من قند، والهمزة والواو زائدتان، وبه جزم ابنُ عُصفورٍ، ولذا ذكره الجوهريُّ وغيره في حرف الدال: السَّيِّئُ الغِذاءِ، والسَّيِّئُ الخَلَقِ، والغَلِيظ القَصيرُ من الرجال وهم قِنْدَأْوُونَ وقيل: هو الكبير العظيم الرأْسِ الصغيرُ الجِسْمِ المَهزولُ. والقِنْدَأْوُ أَيضًا: الجَرِيءُ المُقْدِمُ، التمثيلُ لِسيبويه، والتفسير للسيرافي. والقَصيرُ العُنُق الشديدُ الراسِ قاله الليث وقيل: هو الخَفيف، والصُّلْبُ وقد همز الليثُ: جَمَلٌ قِنْدَأْوٌ وسِنْدَأْوٌ، واحتجّ بأَنه لم يَجِئْ بِنَاءٌ على لفظِ قِنْدَأْوٍ إِلَّا وثانيه نُونٌ، فلما لم يَجِئْ هذا البناءُ بغيرِ نُونٍ عَلِمنا أَنّ النونَ زائدةٌ فيها، كالقِنْدَأَوَةِ بالهاء في الكُلِّ مما ذُكر، وفي عبارته هذه تَسامحٌ، فإِن الصحيح أَن السَّيِّءَ الخُلُقِ والغِذاءِ والخَفيفَ يقال فيها بالوجهَيْنِ، وأَما ما عدا ذلك فالثابت فيه القِنْدَأْوُ فقط، وأَكثرُ ما يُوصَف به الجَمَلُ، يقال جَمَلُ قِنْدَأْوٌ أَي صُلْبٌ، وناقة قِنْدَأْوَة جَرِيّة قال شَمِرٌ: يهمز ولا يهمز والجَرْيُ هو السُّرْعة، وقد قال في عبارة والجَرِيءُ المُقْدِم، فلا يُقال إِن المصنف غَفَلَ عما في الصحاح ناقة قِنْدَأْوَةٌ: سَرِيعَةٌ، كما زعمه شيخنا وَوَهِم أَبو نَصْرِ الجوهريُّ فذكره في حرف الدال المهملة، بناءً على أَن الهمزة والواو زائدتان، كما تقدم، وهو مذهبُ ابنِ عُصفور، وأَنت خبيرٌ بأَنَّ مثل هذا لا يُعَدُّ وَهَمًا، فلْيُتَأَمَّلْ.تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
35-تاج العروس (موأ)
[موأ]: مَاءَ أَهمله الجوهري، وقال اللحيانيُّ: ماءَ السِّنَّوْرُ، وفي العباب: الهِرُّ، وهو أَخْصَرُ يَمُوءُ مُؤَاءً بالضَّمِّ في أَوّله وهَمْزَتَيْنِ وصَرِيح عِبارته أَنَّ المُؤاءَ مَصْدَرٌ، وقال شيخُنا:وهو القِياس في مصادرِ فَعَل المفتوح الدّال على صَوْتِ الفَمِ، كما في الخلاصة، وظاهر عِبارة اللسان وغيرِه من كتب اللُّغة أَن مصدره مَوْءٌ، كَقَوْلٍ والصوت المُؤَاءُ، وفي بعضِ النسخ المُوَاء، بالواو قبل الأَلف: صَاحَ، به فَسَّره غيرُ واحدٍ، فهو أَي السِّنَّورُ مَئُوءٌ كمَعُوعٍ أَي بالهمزة قبل الواو الساكنة، وتجد هنا في بعض النسخ مَوُوءٌ بالواوين.
والمائِئةُ، بهمزتين، والمائِيَّةُ بتشديد الياء ويُخَفَّف فيقال مَائِيَة كَماعِيَة، وهو قولُ ابنِ الأَعرابيّ، وبه صدَّر في اللسان، فلا يُلتفت إِلى قول شيخِنا: فلا معنى لذكر التخفيف، كما هو ظاهر: السِّنَّوْرُ أَهلِيًّا كان أَو وَحْشِيًّا.
وأَمْوَأَ السِّنَّوْرُ إِذا صاحَ، حكاه أَبو عمرٍو، والرَّجُلُ: صاحَ صِياحَهَ أَي السِّنَّوْرِ نقله الصاغاني.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
36-تاج العروس (جرب)
[جرب]: الجَرَبُ مُحَرَّكَةً معروف خِلْطٌ غَلِيظٌ يَحْدُثُ تحتَ الجِلْدِ من مُخَالَطَةِ البَلْغَم المِلْحِ للدَّمِ، يكونُ معه بُثُورٌ، ورُبَّمَا حَصَلَ معه هُزَالٌ لكَثْرَته، نقله شيخُنا عن المصباح، وأَخْصَرُ من هذا عبارةُ ابنِ سيده: بَثْرٌ يَعْلُو أَبْدَانَ النَّاسِ والإِبلِ، وفي الأَساس: وفي المَثَلِ: «أَعْدَى مِنَ الجَرَبِ عِنْدَ العَرَبِ» جَرِبَ، كَفَرِحَ يَجْرَبُ جَرَبًا فَهُوَ جَرِبٌ وجَرْبَانُ وأَجْرَبُ المعروفُ في هذه الصفاتِ الأَخِيرُ الجمع: جُرْبٌ كأَحْمَرَ وحُمْرٍ، وهو القِيَاسُ، وجَرْبَى كقَتْلَى، ذَكَرَهُ الجوهَرِيُّ وابنُ سِيدَه، وهو يَحْتَمِلُ كونَه جمْعَ أَجْرَبَ أَو جَرْبَانَ كَسَكْرَان، على القِيَاس، وجِرَابٌ بالكسر، يجوزُ أَن يكون جَمْعًا لأَجْرَبَ كأَعْجَفَ وعِجَافٍ، كما جَزَم به في المصباح وصرح به أَنه على غيرِ قِياس، وزَعَم الجوهَرِيُّ أَنهُ جَمْعُ جُرْبٍ الذي هو جمع أَجْرَبَ، فهو عنده جَمْعُ الجَمْعِ، وهو أَبْعَدُهَا، كذا قاله شيخُنا، وأَجَارِبُ، ضَارَعُوا به الأَسماءَ كأَجادِلَ وأَنَامِلَ.وأَجْرَبُوا جَرِبَتْ إِبِلُهُمْ وهو أَي الجَرَبُ على ما قال ابنُ الأَعرابيّ: العَيْبُ، وقال أَيضًا: الجَرَبُ: صَدَأُ السَّيْفِ، وهو أَيضًا كالصَّدَا مقصور يَعْلُو باطِنَ الجَفْنِ ورُبَّمَا أَلْبَسَه كُلَّه، ورُبما رَكِبَ بَعْضَه، كذا في المحكم.
والجَرْبَاءُ: السَّمَاءُ سُمِّيَت بذلك لموضع المَجَرَّةِ، كأَنَّهَا جَرِبَتْ بالنُّجُوم قاله الجوهَرِيُّ، وابنُ فارِسٍ، وابنُ سِيده، وابن منظور، ونقله شيخنا عن الأَوَّلين، زَادَ ابنُ سيده: وقال الفَارِسِيُّ: كَمَا قِيلَ لِلْبَحْرِ أَجْرَدُ، وكما سَمَّوُا السَّمَاءَ أَيضًا: رَقِيعًا، لأَنَّها مَرْقُوعَةٌ بالنجُوم، قال أُسَامَةُ بنُ حَبِيبٍ الهُذَلِيُّ:
أَرَتْهُ مِنَ الجَرْبَاءِ فِي كُلِّ مَوْقِفٍ *** طِبَابًا فَمَثْوَاهُ النَّهَارَ المَرَاكِدُ
أَو الجَرْبَاءُ: النَّاحِيَةُ من السماءِ التي يَدُورُ فيها فَلَكُ الشَّمْسِ والقَمَرِ كذا في المحكم قال: وجِرْبَةُ مَعْرِفَةً: اسْمٌ للسَّمَاءِ، أُرَاهُ مِنْ ذلكَ، ولم يَتعرَّضْ له شيخُنا، كما لم يتعرضْ لمادَّة جذب إِلا قليلًا، على عادَتِه، وقال أَبو الهَيْثَمِ: الجَرْبَاءُ والمَلْسَاءُ: السَّمَاءُ الدُّنْيَا: والجَرْبَاءُ: الأَرْضُ المَحْلَةُ المَقْحُوطَةُ لا شَيْءَ فيها، قاله ابن سيده، وعن ابن الأَعْرَابِيّ: الجَرْبَاءُ: الجَارِيَةُ المَلِيحَةُ: سُمِّيَت جَرْبَاءَ لِأَنَّ النِّسَاءَ يَنْفِرْنَ عَنْها لِتَقْبِيحها بِمحَاسِنِهَا مَحَاسِنَهُنَّ، وكان لعَقِيلِ بنِ عُلَّفَةَ المُرِّيِّ بنْتٌ يقالُ لَهَا الجَرْبَاءُ، وكانت من أَحْسَنِ النِّسَاءِ.
والجَرْبَاءُ: قرية بجَنْبِ أَذْرُحَ بالذَّالِ المُعْجَمَةِ والرَّاءِ والحَاءِ المُهْمَلَتَيْنِ، قال عياضٌ: كذا للجمهورُ، ووقع للعذيريّ في رواية مُسْلِم ضبطُهَا بالجِيمِ، وهو وَهَمٌ، وهُمَا: قَرْيَتَانِ بالشَّأْمِ، ثُمَّ إِنّ صَرِيحَ كلامِ المُؤَلِّفِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهَا ممدودةٌ، وهو الثابتُ في الصَّحِيحِ، وجَزَمَ غَيْرُهُ بكَوْنِهَا مَقْصُورَةً، كذا في المطالع والمشارق، وفيهما نسبةُ المَدِّ لِكِتَابِ البُخَارِيِّ، قال شيخُنَا: قلت: وقد صَوَّبَ النَّوَوِيُّ في شَرْح مُسْلِمٍ القَصْرَ قالَ: وكذلك ذَكَره الحَازِمِيُّ والجُمْهُور وَغَلِطَ، كَفَرِحَ، وفي نسخة، مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مَنْ قَالَ بَيْنَهُمَا ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، وهو قولُ ابنِ الأَثِيرِ، وقَدْ وَقَعَ في روَايَة مُسْلِمٍ، وَنَبَّهَ عليه عِيَاضٌ وغَيْرهُ وقالوا: الصَّوَابُ ثَلَاثَةُ أَمْيالٍ وإِنَّمَا الوَهَمُ مِنْ رُوَاةِ الحَدِيثِ مِنْ إِسْقَاطِ زِيَادَةٍ ذَكَرَهَا الإِمَامُ الدَّارَقُطْنِيُّ في كِتَابِهِ وهِي أَي تِلْكَ الزيادةُ مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي أَي مقدارُ ما بينَ حَافَتَيِ الحَوْضِ كَمَا بيْنَ المدينةِ وبين هذينِ البَلَدَيْنِ المُتَقَارِبَيْنِ جَرْبَاءَ وأَذْرُحَ ومنهم مَنْ صَحَّحَ حذْفَ الوَاوِ العَاطِفَةِ قَبْلَ أَذْرُحَ، وقَالَ ياقوتٌ: وحَدَّثَنِي الأَميرُ شَرَفُ الدِّينِ يعقوبُ بنَ محمد الهَذَبَانِيّ قال: رأَيْتُ أَذْرُحَ والجَرْبَاءَ غيرَ مَرَّةٍ وبينهما مِيلٌ واحد أَو أَقلُّ، لأَنَّ الواقِفَ في هذه يَنْظُرُ هذِهِ، واسْتَدْعَى رَجُلًا من [أَهل] تلك الناحِيةِ ونحن بِدِمَشْقَ، واسْتَشْهَدَهُ على صِحَّةِ ذلك فشَهِدَ به، ثم لَقِيتُ أَنا غيرَ واحدٍ من أَهل تلك النَّاحِيَةِ وسَأَلْتُهُمْ عن ذلكَ فكُلٌّ قالَ مثلَ قَوْلِه، وفُتِحَتْ أَذْرُحُ والجَرْبَاءُ في حَيَاةِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ تِسْعٍ، صُولِحَ أَهْلُ أَذْرُحَ على مائَة دِينَارٍ جِزْيَةً.
والجَرِيبُ مِنَ الأَرْضِ والطَّعَامِ مِقْدَارٌ مَعْلُومُ الذِّرَاعِ والمِسَاحَةِ، وهو عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ، لكُلِّ قَفِيزٍ منها عَشَرَةُ أَعْشِرَاءَ، فالعَشِيرُ: جُزْءٌ من مائة جُزْءٍ من الجَرِيبِ، ويقال: أَقْطَعَ الوَالِي فُلانًا جَرِيبًا منَ الأَرْضِ؛ أَي مَبْزَرَ جَرِيبٍ، وهو مَكِيلةٌ معروفَةٌ، وكذلك أَعْطَاهُ صَاعًا من حَرَّةِ الوَادِي أَي مَبْزَرَ صَاع، وأَعطاهُ قَفِيزًا؛ أَي مَبْزرَ قَفِيزٍ، ويقال: الجَرِيبُ مِكْيالٌ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَقْفِزَةٍ قاله ابنُ سيده، قال شيخُنَا: وقال بَعْضُهُم: إِنَّه يَخْتَلِف باختلافِ البُلْدَانِ كالرَّطْلِ والمُدِّ والذِّرَاعِ ونحوِ ذلك، الجمع: أَجْرِبَةٌ وجُرْبَانٌ كرَغِيفٍ ورُغْفَانٍ وأَرْغِفَة، كِلَاهُمَا مَقيسٌ في هذا الوَزْنِ، وزَعَمَ بَعْضٌ أَنَّ الأَوَّلَ مسموعٌ لا يقاسُ، والثاني هو المَقِيسُ، وزَادَ العَلَّامَة السُهَيْلِيُّ في الروض جَمْعًا ثالثًا وهو جُرُوبٌ على فُعُول، قاله شيخُنَا وقِيلَ: الجَرِيبُ: المَزْرَعَةُ، وقال شيخنا: هو إِطْلَاقٌ في مَحَلِّ التَّقْيِيدِ، ونقل عن قُدَامَةَ الكاتِبِ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وسِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ، وقد تَقدَّم آنِفًا ما يَتعلّق بذلك، والجَرِيبُ: الوَادِي مطلقًا، وجَمْعُه أَجْرِبَةٌ، عن الليث، والجَرِيبُ أَيضًا وَادٍ معْرُوفٌ في بلادِ قيسٍ، وحَرَّةُ النَّارِ بحِذَائِهِ قال:
حَلَّتْ سُلَيْمَى جَانِبَ الجَرِيبِ
بِأَجَلَى مَحَلَّةَ الغَرِيبِ *** مَحَلَّ لا دَانٍ ولا قَرِيبِ
والجَرِيبُ: قَرِيبٌ من الثُّعْلِ، وسيأْتي بيَانُه في أَجَلَى وفي أَخْرَاب إِن شاءَ الله تعالى، وقال الراعي:
أَلَمْ يَأْتِ حَيًّا بالجَرِيبِ مَحَلُّنا *** وحَيًّا بأَعْلَى غَمْرَةٍ فالأَبَاتِرِ
وبَطْنُ الجَرِيبِ: مَنَازِلُ بَنِي وَائِلٍ: بكْرٍ وتَغْلبَ.
والجِرْبَةُ، بالكَسْرِ كالجَرِيبِ: المَزْرَعَةُ، ومنه سُمِّيَتِ الجِرْبَةُ المَزْرَعَةُ المعروفةُ بوادي زَبِيد، وأَنشد في المحكم لِبِشْرِ بنِ أَبِي خَازِمٍ:
تَحَدُّرَ مَاءِ البِئرِ عن جُرَشِيَّةٍ *** عَلَى جِرْبَةٍ تَعْلُو الدِّبَارَ غُرُوبُهَا
الدَّبْرَةُ: الكَرْدَةُ من المَزْرَعَةِ والجَمْعُ الدِّبَارُ والجِرْبَةُ: القَرَاحُ مِنَ الأَرْضِ قال أَبو حنيفة: واستعارها امرؤ القيس للنخل فقال:
كَجِرْبَةِ نَخلٍ أَو كَجَنّةِ يَثْرِبِ
أَو الجِرْبَة هي الأَرْضِ المُصْلَحَةُ لزرْعِ أَو غَرْسٍ حكاها أَبو حنيفةَ، ولم يَذكر الاستعارة، كذا في المحكم، قال: والجَمْعُ: جِرْبٌ كسِدْرَة وسِدْرٍ وتِبْنَةٍ وتِبْن، وقال ابنُ الأَعْرَابيّ: الجِرْبُ القَرَاحُ وجَمْعُهُ جِربَةٌ، وعن الليث: الجِرْبَةُ: البُقْعَةُ الحَسَنَةُ النَّبَاتِ وجمعُهَا جِرَبٌ، قال الشاعر:
وَمَا شَاكِرٌ إِلَّا عَصَافِيرُ جِرْبَةٍ *** يَقُومُ إِلَيْهَا قَارِحٌ فَيُطِيرُهَا
والذي في المحكم «شارح» بَدَلَ «قَارح» يجوزُ أَنْ يكونَ الجِرْبَةُ هاهنا أَحَدَ هذه الأَشياءِ المذكورة، كذا في لسان العرب والجِرْبَةُ: جِلْدَةٌ أَوْ بارِيَّةٌ تُوضَعُ على شَفِيرِ البِئرِ لِئلَّا يَنْتَثِرَ، بالثاء المثلثة ـ وفي نسخة بالشين المعجمة، كذا نَصّ ابن سِيده في المحكم المَاءُ في البِئرِ، أَو هي جِلْدَةٌ تُوضَعُ في الجَدْوَلِ لِيَتَحَدَّرَ عَلَيْهَا المَاءُ، وعبارة المحكم: يتحدر عليه الماء.
وجَرْبَةُ، بِلَا لَامٍ، كَمَا ضَبَطَهَا ابنُ الأَثيرِ بالفَتْحِ: قرية بالمَغْرِبِ، كذا قاله ابنُ منظور أَيضًا، وقال شيخُنَا: هَذِهِ القَرْيَةُ بَلْدَةٌ عَظِيمَةٌ بإِفْرِيقِيَّةَ في جزيرة البَحْرِ الكَبِيرِ، ليست من أَرْضِ المَغْرب المنسوبة إِليها، وأَهلُ المَغْربِ يَعُدُّونها من بلاد الشَّرْق، وليست منها، بل هي جزيرة في وسط البَحْرِ في أَثْنَاءِ بحرِ إِفريقِيّةَ.
قلت: وقد ذكر ابنُ مَنْظُور أَنه جاءَ ذِكرُهَا في تَرْجَمَةِ رُوَيْفِعِ بنِ ثابتٍ في الاسْتِيعَابِ وغيره. وَرُوَيْفِعُ بنُ ثابِتٍ هذا جَدُّ ابنِ مَنْظُور، وقد سَاقَ نَسَبَه إِليه.
والجِرَابُ، بالكَسْرِ وَلَا يُفْتَحُ أَو الفَتْحُ لُغَيَّةُ إِشَارَة إِلى الضَّعْفِ فيما حَكَاه القَاضي عِيَاضُ، بنُ موسى اليَحْصَبِيُّ في المشارق عن القَزَّازِ وغيرِه كابن السكِّيت، ونسبَه الجوهريّ وابنُ منظور للعامَّةِ: المِزْوَدُ أَوِ الوِعَاءُ، معروف، فهو أَعَمُّ من المِزْوَدِ، وقيل: هو وِعَاءٌ من إِهابِ الشَّاءِ لَا يُوعَى فيه إِلَّا يَابِسٌ وقد يُسْتَعْمَلُ في قِرَابِ السَّيْفِ مَجَازًا، كما أَشار له شيخُنَا، الجمع: جُرَبٌ ككِتاب وكُتُبٍ، على القياس وجُرْبٌ بضَمّ فسكُونٍ، مُخَفَّف من الأَول، ذكره ابنْ منظور في لسان العرب وغيرُه، فانظره مع قول شيخنا: الأَوْلَى عَدَمُ ذكره، إِلى أَن قال: ولذا لم يذكره أَئمّة اللغة ولا عَرَّجُوا عليه، وأَجْرِبَةٌ قال الفَيُّومِيُّ: إِنَّه مَسْمُوعٌ فيه، وحكاه الجوهريّ وغيرُه.
والجِرَابُ: وِعَاءُ الخُصْيَتَيْنِ، والجِرَابُ مِنَ البِئْرِ: اتّسَاعُهَا، وفي المحكم، وقِيلَ: جِرَابُهَا: مَا بَيْنَ جَالَيْهَا وحَوَالَيْهَا مِنْ أَعْلَاهَا إِلى أَسْفَلِهَا، وفي الصحاح: جَوْفُهَا من أَعلاهَا إِلى أَسْفَلِهَا، ويقال: اطْوِ جِرَابَهَا بالحِجَارَةِ. وعن الليث: جوفُها من أَوَّلِهَا إِلى آخِرِها.
والجِرَابُ: لَقَبُ يَعْقُوبَ بنِ إِبراهِيمَ البَزَّازِ البَغْدَادِيِّ المحَدِّثِ عن الحسنِ بن عَرَفَةَ، وولدُه إِسماعيلُ بن يعقوبَ حدَّثَ عن أَبي جعفرٍ محمدِ بن غالبٍ تَمْتَامٍ والكُدَيميّ، مات سنة 345.
وأَبُو جِرَابٍ كُنْيَةُ عَبْدِ اللهِ بن مُحَمَّدٍ القُرَشِيِّ، عن عَطَاءٍ.
والجُرَابُ بالضَّمِّ كغُرَابٍ: السَّفِينَةُ الفَارِغَةُ من الشَّحْنِ.
وجُرَابٌ بِلَا لامٍ: مَاءٌ بِمَكَّةَ مِثْلُهُ في الصحاح والروض للسُّهَيْلِيِّ، وقالَ ابنُ الأَثِيرِ: جاءَ ذكرُه في الحَدِيثِ، وهي بِئْرٌ قَدِيمةٌ كَانَت بمَكَّةَ.
والجَرَبَّةُ مُحَرَّكَةً مُشَدَّدَةً: جَمَاعَةُ الحُمُرِ، أَو هي الغِلَاظُ الشِّدَادُ منها أَي الحُمُرِ وقد يقالُ: للأَقْوِيَاء منا إِذا كَانُوا جَمَاعَةً مُتَسَاوِينَ: جَرَبَّةٌ، قال:
جَرَبَّةٌ كَحُمُرِ الأَبكِّ *** لَا ضَرَعٌ فينَا وَلَا مُذَكِّي
كذَا في المحكم، يَقُولُ: نَحْنُ جَمَاعَةٌ مُتَسَاوُونَ وليس فينا صَغِيرٌ وَلَا مُسِنٌّ.
والأَبَكُّ: مَوْضِعٌ.
والجَرَبَّةُ أَيضًا بمعنى الكَثِيرِ، كالجَرَنْبَةِ قال شيخُنا: صَرَّحَ أَبو حَيَّانَ وابنُ عُصفورٍ وغيرُهما بأَن النُّون زائدة، كما هو ظاهرُ صنِيعِ المؤلِّفِ، انتهى، ويُوجَد هنا في بعض النسخ: كالجَرْبَةِ بِفَتْحٍ وسُكُونٍ، وهو خطأٌ، وفي المحكم: يقال عليه عِيَالٌ جَرَبَّةٌ، مثَّلَ به سيبويهِ، وفَسَّرَه السِّيرافِيُّ، وإِنما قالوا: جَرَنْبَة، كَرَاهِيَةَ التَّضْعِيفِ والجَرَبَّةُ: جَبَلٌ لِبَنِي عامرٍ، أَوْ هُوَ بضَمَّتَيْنِ، كالحُزُقَّةِ وهكذا ضَبَطه الصاغانيّ، وقال ابن بُزُرْجَ: الجَرَبَّةِ: الصُّلامَة من الرِّجَال الذينَ لا سَعْيَ لهم، وهم مع أُمِّهِم، قال الطِّرِمَّاحُ:
وحَيٍّ كَرِيمٍ قَدْ هَنَأَنَا جَرَبَّةٍ *** ومَرَّتْ بهِمْ نَعْمَاؤُنَا بالأَيَامِنِ
و يُقَالُ؛ الجَرَبَّةُ: العِيَالُ يَأْكُلُونَ أَكْلًا شَدِيدًا وَلَا يَنْفَعُونَ، كذا في المحكم.
وعن أَبي عمرو: الجَرَبُّ بغير هَاءٍ هو القَصِيرُ من الرِجَالِ الخَبُّ اللَّئيمُ الخَبِيثُ، وقال عَبَايَةُ السُّلَمِيُّ:
إِنَّكَ قَدْ زَوَّجْتَهَا جَرَبَّا *** تَحْسَبُهُ وهُوَ مُخَنْذٍ ضَبَّا
لَيْسَ بِشَافِي أُمِّ عمرٍو شَطْبَا
والجِربَّانَةُ كَعِفِتَّانَةٍ ومَثَّلَهُ في «اللسان» بِجِلِبَّانَةٍ، ويقال: امْرَأَةٌ جِرِبَّانَةٌ، وهي الصَّخَّابَةُ البَذِيئَةُ السَّيِّئةُ الخُلُقِ، حَكَاهُ يعقوبُ، قالَه ابنُ سيده، قال حُمَيْدُ بنُ ثَوْرٍ الهِلَالِيُّ:
جِرِبَّانَةٌ وَرْهَاءُ تَخْصِي حِمَارَهَا *** بِفِي مَنْ بَغَى خَيْرًا إِلَيْهَا الجَلَامِدُ
ومنهم مَنْ يَرْوِي: تُخْطِي خِمَارَهَا والأَوَّلُ أَصَحّ، ويُرْوَى «جِلِبَّانَةٌ» وليْسَت راءٌ جِرِبَّانَةٍ بدلًا من لامِ جِلِبَّانَةٍ، إِنّما هي لُغَةٌ، وهي مذكُورَةٌ في موضِعِهَا، وقيل: الجِرِبَّانَةُ: الضَّخْمَةُ.
والجِرْبِيَاءُ بالكَسْرِ والمَدِّ ككِيمِيَاءَ قيلَ: هي من الرِّيَاح الشَّمْأَلُ، كذا في الكامل والكِفَايَة وهو قولُ الأَصمعيّ، ونَقَله الصاغانيُّ: وقال الليث: الجِرْبِيَاءُ شَمْأَلٌ بَارِدَةٌ أَو جِرْبِيَاؤُهَا بَرْدُهَا، نقله الليثُ عن أَبي الدُّقَيْشِ، فَهَمَزَ أَو هي الرِّيحُ التي تَهُبُّ بينَ الجَنُوبِ والصَّبَا كالأَزْيَبِ، وقيل، هي النَّكْبَاءُ التي تَجْرِي بين الشَّمَالِ والدَّبُورِ، وهي رِيحٌ تَقْشَعُ السَّحَابَ، قال ابنُ أَحْمَرَ:
بِهَجْلٍ مِنْ قَسًا ذَفِرِ الخُزَامَى *** تَهَادَى الجِرْبِيَاءُ به الحَنِينَا
قاله الجوهريّ، وفي لسان العرب ورَمَاهُ بالجَرِيبِ؛ أَي الحَصَى الذي فيه التُّرَابُ، قال: وأُراه مُشْتَقًّا منَ الجِرْبِيَاءِ، وقِيلَ لِأبنَةِ الخُسِّ: مَا أَشَدُّ البَرْدِ؟ فَقَالَتْ شَمْأَلٌ جِرْبِيَاءُ، تَحْتَ غبِّ سَمَاءٍ. والجِرْبِيَاءُ أَيضًا: الرَّجُلُ الضَّعِيفُ، واسمٌ للأَرْض السابعةِ كما أَنّ العِرْبِيَاءَ اسمٌ للسماء السابعة، وجُرُبَّانُ القَمِيص، بالكَسْرِ والضَّمِّ أَي في أَوَّلهِ مع سُكُونِ الراء كما هو المُتَبَادِرُ من عبارته، ومِثلُه في الناموس، قال شيخنا: والمشهور فيه تشديدُ الباءِ، وضبطُ الرَّاء تابعٌ للجيم إِن ضُمَّ ضُمَّت وإِن كُسِرَ كُسِرَت، والذي في لسان العرب: وجِرِبّان الدِّرْعِ والقميصِ أَي كسحبان: جَيْبُه، وقد يقال بالضمّ، وبالفارسية كَرِيبَان، وجُرُبَّانُ القَمِيصِ بالضم؛ أَي مع تشديد الراءِ: لَبِنَتُهُ، فارسيٌّ مُعَرَّبٌ، وفي حديث قُرَّةَ المُزَنِيِّ «أَتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَدْخَلْتُ يَدي في جُرُبَّانِهِ»، بالضم؛ أَي مشدَّدًا هو جَيْبُ القَمِيصِ، والأَلفُ والنُّونُ زَائِدَتَانِ، وفي المجمل: الجِرِبَّانُ بكسر الجِيم والرَّاءِ وتشديدِ البَاءِ، للقميصِ، قال شيخُنَا: والذِي في أُصولٍ صحيحةٍ من القَامُوس: جرباء ممدودًا في الأَول، وبالنون بعد الألف في الثاني، ثم قال بعد ما نَقَلَ من الصحاح والمجملِ: إِنَّ المَدَّ تصحيفٌ ظاهرٌ، فلم أَجد في النُّسخ مع كثرتها وتعدُّدِهَا عندي، لا في نسخة صحيحةٍ، ولا سقيمة، فضلًا عن الأُصول الصحيحة، وأَظن ـ واللهُ أَعلمُ ـ هذا من عِنْدِيَّاتِه، أو سهوٌ من ناسخِ نُسخته، وأَنت خبير بأَن هذا وأَمثال ذلك لا يُؤَاخذ به المؤلفُ، ثم قال: وأَغْرَبُ منه قولُ الخَفَاجِيّ في العِنَايَةِ: جَرِبَّانُ القَمِيصُ أَي طَوْقُه، بفتح الجيم وكَسْرِ الراءِ وشَدِّ الباءِ، فإِنه إِنْ صَحَّ فَقَدْ أَغفَلَه أَربابُ التأْليفِ، وإِلا فهو سَبْقُ قَلَم، صوابُه بكسر الجيم إِلخ.
قلت: القِيَاسُ مع الخَفَاجِيِّ، فإنه هكذا هو مضبوط بالفَارسيّة على الأَفصح كَرِبيان بفتح الأَول وكسر الثاني، فلما عُرِّبَ بَقي مَضبوطًا على حالِه، ثم رأَيْتُ في المحكم مثلَ ما ذكرنا، والحمد لله على ذلك.
وجُرْبَانُ السَّيْفِ كعُثْمَان وجُرُبَّانُه مضمومًا مُشَدَّدًا: حَدُّه، أَو شيءٌ مَخْرُوزٌ يُجْعَلُ فيه السَّيْفُ وغِمْدُه وحَمَائِلُه وعلى الأَوّلِ أَنشد الراعي:
وعَلَى الشَّمَائِلِ أَنْ يُهَاجَ بِنَا *** جُرْبَانُ كُلِّ مُهَنَّدِ عَضْبِ
وقال الفرّاءُ: الجُرُبَّانُ أَي مضمومًا مُشددًا: قِرَابُ السَّيفِ الضَّخْمُ، يكون فيه أَداةُ الرَّجُلِ وسَوْطُه وما يَحْتَاج إِليه وفي الحديث «والسَّيْفُ في جُرُبَّانِهِ» أَي غِمْدِه، كذا في لسان العرب.
وجَرَّبَهُ تَجْرِيبًا، على القياس وتَجْرِبَةً غيرَ مَقِيسٍ: اخْتَبَرَه وفي المحكم: التَّجْرِبَةُ منَ المَصَادِرِ المَجْمُوعَةِ ويجمع على التَّجَارِب والتجارِيب، قال النابغة:
إِلَى اليَوْمِ قَدْ جُرِّبْنَ كُلَّ التَّجَارِبِ
وقال الأَعشى:
كَمْ جَرَّبُوهُ فما زَادَتْ تَجَارِبُهُم *** أَبَا قُدامَةَ إِلَّا المَجْدَ والفَنَعَا
فإِنه مَصدرٌ مجموع مُعْمَلٌ في المفعول به، وهو غَريبٌ، كذا في المحكم، وقد أَطَالَ في شرح هذا البيت فَرَاجِعْه.
ويقال: رَجُلٌ مُجَرَّبٌ، كمعَظَّم: قَدْ بُلِيَ كعُنِيَ ما عِنْدَهُ أَي بَلَاهُ غيرُهُ، ومُجَرِّبُ على صِيغَة الفاعِل كمُحَدِّثٍ: قد عَرَفَ الأُمورَ وجَرَّبَهَا، فهو بالفَتْحِ مُضَرَّسٌ قد جرَّبَتهُ الأُمورُ وأَحْكَمَتْهُ، وبالكَسر فاعل، إِلا أَن العَرَبَ تَكلَّمت به بالفَتْح، وفي التهذيب: المُجَرَّبُ: الذي قد جُرِّب في الأُمُورِ وعُرِفَ ما عِنْدَه، قال أَبو زيد: مِنْ أَمْثَالِهِمْ «أَنْتَ عَلَى المُجَرَّبِ» قالَتْهُ امْرَأَةٌ لرجلٍ سَأَلَهَا بَعْدَ ما قَعَدَ بيْنَ رِجْلَيْهَا: أَعَذْرَاءُ أَنْتِ أَمْ ثَيِّبٌ قالت له «أَنْتَ عَلَى المُجَرَّب» يقالُ عندَ جَوَابِ السَّائِلِ عَمَّا أَشْفَى عَلَى عِلْمِه، وفي الأَسَاس، وفي المَثَلِ «لَا إِلهَ لِمُجْربٍ» قالوا: كأَنَّهُ بَرِيءَ مِنْ إِلَههِ لكَثْرَةِ حَلِفِه به كاذِبًا وَدَرَاهِمُ مُجَرَّبَةٌ أَي مَوْزُونَةٌ، عن كُرَاع، وقالت عجوزٌ في رَجُلٍ كان بينها وبينه خُصُومةٌ فبلغها مَوْتُه:
سَأَجْعَلُ لِلْموْتِ الذي الْتَفَّ رُوحَهُ *** وأَصْبَحَ في لَحْدٍ بِجُدَّةَ ثَاوِيَا
ثَلاثِينَ دِينَارًا وسِتِّينَ دِرْهَمًا *** مُجَرَّبَةً نَقْدًا ثِقَالًا صَوافِيا
وقال العَبَّاسُ بن مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ:
إِنِّي إِخَالُ رَسُولَ اللهِ صَبَّحَكُمْ *** جَيْشًا له في فَضاءِ الأَرْضِ أَرْكَانُ
فِيهِمْ أَخُوكُمْ سُلَيْمٌ لَيْسَ تَارِكَكُمْ *** والمُسْلِمُونَ عِبَادُ اللهِ غَسَّانُ
وَفِي عِضَادَتِه اليُمْنَى بَنو أَسَد *** والأَجْرَبَانِ: بَنُو عَبْسٍ وذُبْيَانُ
فالصَّوابُ على هذا رَفْع ذُبيانَ معطوفٌ على قوله بَنُو عَبْسٍ، كذا قاله ابنُ بَرِّيّ، وفي الأَساس: ومن المَجَازِ: تَأَلَّبَ عَلَيْهِ الأَجْرَبَانِ، وهُمَا عَبْسٌ وذُبْيَانُ.
والأَجَارِبُ: حَيٌّ بَنِي سَعْدِ بن بَكْرٍ من قَيْسِ عَيْلَانَ.
وجُرَيْبٌ، كزبير: وادٍ باليَمَنِ و: قرية بِهَجَرَ، وجُرَيْبُ بنُ سَعْدٍ نَسَبُهُ في هُذَيْلٍ وهو أَبُو قَبِيلَةٍ، والنِّسبةُ إِليه جُرَبِيٌّ كقُرَشِيٍّ، على غير قِياسٍ، منهم عبدُ مَنَافِ بنُ رِبْعٍ بالكسر، شاعِرٌ جاهِلِيٌّ، وجُرَيْبٌ أَيضًا جَدُّ جَدِّ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ بنِ إِبراهِيمَ بنِ إِسماعِيلَ الزَّاهِدِ الكِلَابِيِّ البَلْخِيّ، حَجَّ بَعْدَ العِشْرِينَ وأَربعمائةٍ، وحَدَّثَ.
وجُرَيْبَةُ بنُ الأَشْيَم شَاعِرٌ من شُعَرَائِهِم، وجُرَيْبَةُ شاعِرٌ آخَرُ مِنْ بَنِي الهُجَيْمِ ومِنْ قَوْلِهِ:
وعَلَيَّ سَابِغَةُ كَأَنَّ قَتِيرَهَا *** حَدَقُ الأَسَاوِدِ، لَوْنُهَا كالمِجْوَلِ
وأَبُو الجَرْبَاءِ: عاصِمُ بنُ دُلَفَ وهو الذي يقولُ:
أَنَا أَبُو الجَرْبَاءِ واسْمِي عَاصِمُ *** الْيَوْمَ قَتْلٌ وغَدًا مَآثِمُ
وهو صَاحِبُ خِطَامِ جَمَلِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ رضي الله عنها يَوْمَ الجَمَل.
وجَرِب كَفَرِحَ: هَلَكَتْ أَرْضُهُ، وجَرِبَ زَيدُ أَي جَرِبَتْ إِبلُه وسَلِمَ هُوَ، وقولُهُم في الدُّعَاءِ على الإِنْسَانِ: مَالَهُ جَرِبَ وحَرِبَ يَجُوزُ أَنْ يكونَوا دَعَوْا عليه بالجَرَبِ، وأَن يكونُوا أَرَادُوا أَجْرَبَ، أَيْ جَرِبَتْ إِبلُه فقالُوا حَرِبَ إِتْبَاعًا لِجَرِبَ وهُمْ مِمَّا قَدْ يُوجِبُونَ الإِتْبَاعَ حُكْمًا، ويجوزُ أَن يكونُوا أَرادُوا جَرِبَتْ إِبلُه، فحذَفُوا الإِبلَ وأَقَامُوهُ مُقَامَها، كذا في لسان العربِ.
والمُجَرَّبُ، كمُعَظَّمٍ من أَسْمَاءِ الأَسَدِ، ذَكَرَه الصاغانيّ.
والجَوْرَبُ كجَعْفَرٍ: لِفَافَةُ الرِّجْلِ مُعَرَّبٌ، وهو بالفَارِسِيَّة كَوْرَب، وأَصْلُه كوربا، مَعْنَاهُ: قَبْرُ الرِّجْل، قَالَهُ ابن اياز عن كِتَابِ المُطَارَحَةِ كما نقله شيخنا عن شفاءِ الغليل للخفاجيّ، ومثله لابن سيده، وقال أَبو بكرِ بنُ العَرَبِيِّ: الجَوْرَبُ: غِشَاءَانِ لِلْقَدَمِ مِنْ صُوفٍ يُتَّخَذُ للدِّفْءِ، وكذا في المِصْبَاحِ الجمع: جَوَارِبَةٌ زادُوا الهاءَ لمكان العُجْمَةِ، ونظيرُه من العرَبِيَّةِ: القَشَاعِمَةُ، وقد قالوا جَوَارِبُ كما قالُوا في جميعِ الكَيْلَجِ كَيَالِجُ، ونظيرُه من العربية الكواكِبُ، وفي الأَسَاس: وهُوَ أَنْتَنُ مِنْ رِيحِ الجوْرَبِ، وجَاءُوا في أَيْدِيهِم جُرْبٌ وفي أَرْجُلِهِم جَوَارِبُ، ولهم موارِقة وجَوَارِبةٌ واستعملَ ابنُ السكِّيت منه فِعْلًا، فقال يَصِفُ مُتَقَنِّصَ الظِّبَاءِ: قد تَجَوْرَبَ جَوْرَبَيْن: لَبسَهُمَا، وتَجَوْرَبَ: لَبِسَهُ، وجَوْرَبْتُه فَتَجَوْرَبَ أَيْ أَلْبَسْتُهُ إِيَّاهُ فَلَبسَهُ.
وعَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ من شيوخ المَحَامِلِيّ وابنُ أَخيهِ أَحمدُ بن مُحَمَّد بنِ أَحمدَ من شيوخ الطَّبَرانِيِّ ومحمَّدُ بنُ خَلَفٍ شيخٌ للمَحَامِلِيّ أَيضًا، الجَوَارِبِيُّونَ نِسبةٌ إِلى عَمَلِ الجَوَارِبِ مُحَدِّثُونَ، وكذا أَبو بكرٍ محمدُ بنُ صالحِ بنِ خَلَفِ بنِ دَاوودَ الجَوَارِبِيُّ بَغْدادِيّ صَدُوقٌ، رَوَى عنه الدَّارَقُطْنِي تُوُفِّيَ سنة 321.
واجْرَأَبَّ مثلُ اشْرَأَبَّ وَزْنًا ومَعْنًى.
والاجْرِنْبَاءُ: النَّوْمُ بِلَا وِسَادَةٍ إِلى هُنَا تَمَّتِ المادةُ، كذا في بعض الأُصولِ ويوجدُ في بعض النسخِ زيادةٌ، وهِي مأْخوذةٌ من كلامِ ابن بَرِّيّ، وإِنْشَادُ ـ وفي نسخة وأَنْشَدَ، نقله شيخُنَا ـ الجَوْهَرِيِّ بَيْتَ سُوَيْدِ بنِ الصَّلْتِ، وقيلَ هو لِعُمَيْر وفي نسختِنا عَمْرِو بن الحُبَاب، قال ابن بَرّيّ: وهو الأَصَحُّ وفي نسخة: الخَبَّابِ بالخَاءِ المعجمةِ كشَدَّادٍ:
وفِينَا وإِنْ قِيلَ اصْطَلَحْنَا تَضَاغُنٌ
كَمَا طَرَّ أَوْبَارُ الجِرَابِ عَلَى النَّشْرِ
وتَفْسِيرُه أَيِ الجَوْهَرِيِّ أَنَّ جِرَابًا جَمْعُ جُرْبِ كرُمْح ورِمَاحٍ، وتَبِعَه الصَّفَدِيُّ، وهو سَهْوٌ منه، وإنما جِرَابٌ جَمْعُ جَرِبٍ كَكَتِفٍ قال شيخُنَا: فُعْلٌ بِالضَّمِّ جُمِعَتْ منه أَلْفَاظ على فِعَالٍ، كرُمْحٍ ورِمَاحٍ ودُهْن ودِهَانٍ، بَلْ عَدَّهُ ابنُ هِشَامٍ وابنُ مَالِكٍ وأَبُو حيَّانَ مِنَ المَقِيسِ فيه، بخِلَافِ فَعِلٍ كَكَتِفٍ فإِنَّه لم يَقُلْ أَحَدٌ من النُّحَاة ولا أَهلِ العربية إِنه يُجْمَع على فِعَالِ بالكسر يَقُولُ الشاعرُ في مَعْنَى البَيْتِ ظَاهِرُنَا عِنْدَ الصُّلْحِ حَسَنٌ، وقُلُوبُنَا مُتَضَاغِنَةٌ، كما تَنْبُتُ وفي نسخة حَلِّ الشَّوَاهِدِ نَبَتَتْ أَوْبَارُ الإِبِلِ الجَرْبَى عَلَى النَّشْر، وتَحْتَهُ: دَاءٌ فِي أَجْوَافِهَا، و«عَلَى» تَعْلِيلِيَّةٌ، لَا لِلاسْتِعْلاءِ وهُوَ أَي النَّشْرُ نَبْتٌ يَخْضَرُّ بَعْدَ يُبْسِهِ في دُبُرِ الصَّيْفِ؛ أَي عَقِبِه، وذلكَ لِمَطَرٍ يُصِيبُه، وهو مُؤْذٍ لِرَاعِيَتِهِ إِذا رَعَتْهُ.
* ومِمَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
الأَجْرَبُ: موْضِعٌ يُذْكَرُ مَعَ الأَشْعَرِ من مَنَازِلِ جُهَيْنَةَ بناحِيَة المَدِينَةِ.
وأَجْرُبٌ كأَفْلُسٍ: موضِعٌ آخَرُ بنَجْدٍ، قالَ أَوْسُ بنُ قَتَادَةَ بنِ عمرِو بن الأَحْوَصِ:
أَفْدِي ابْنَ فَاخِتَةَ المُقِيمَ بِأَجْربٍ *** بَعْدَ الطِّعَانِ وكَثْرَةِ الأَزْجَالِ
خَفِيَتْ مَنِيَّتُهُ ولَوْ ظَهَرَتْ لَهُ *** لَوَجَدْتَ صَاحِبَ جُرْأَةٍ وقِتَالِ
نَقَلَه ياقوت.
والجَرَبُ مُحَرَّكَةً: قَرْيةٌ بأَسفَلِ حَضْرَمَوْتَ.
والجُرُوبُ: اسْمٌ لِلْحِجَارَةِ السُّودِ، نقله أَبُو بَحْر عن أَبِي الوَلِيدِ الوَقْشِيِّ.
والجِرِنْبَانَةُ، بالكَسْرِ: السَّيِّئةُ الخُلُقِ، نَقَلَه الصاغانيُّ.
ويُقَالُ: أَعْطِني جُرْبَانَ دِرْهَمٍ، بالضَّمِّ أَيْ وَزْنَ دِرْهَم.
ومحمدُ بنُ عُبَيْدِ بنِ الجَرِبِ، ككتِفٍ: مُحَدِّثٌ كُوفِيٌّ، رَوَى عنه ابنُ أَبِي داوُودَ.
وأَبُو بَكْرٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ أَحمدَ الجِرَابِيُّ، بالكسر، عن أَبِي رَشِيدٍ الغَزَّال، وعنه ابن النَّجَّاريّ.
وكَمرْحَلَةٍ: مَجْرَبَةُ بنُ كِنَانَةَ بن خُزَيْمَةَ.
ومَجْرَبَةُ بنُ رَبِيعَةَ التَّمِيمِيُّ، مِنْ وَلَدِه: المُسَيَّبُ بنُ شَرِيك، ونَصْرُ بنُ حَرْبِ بنِ مَجْربَةُ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
37-تاج العروس (حزب)
[حزب]: الحِزبُ: الورْدُ وَزْنًا ومَعْنًى، والوِرْدُ، إِمَّا أَنَّه النَّوْبَةُ في ورُودِ المَاءِ، وهو أَصْلُ معناهُ، كذا في المَطَالِع والمشارق والنِّهَايَةِ، أَو هو وِرْدُ الرَّجُلِ منَ القُرْآنِ والصَّلَاةِ، كذا في الأَساس ولسان العرب وغيرِهما، وإِطلاقُ الحِزْبِ على ما يَجْعَلُه الإِنسانُ على نَفْسِه في وقتٍ مما ذُكِرَ مجازٌ، على ما في المطالع والأَساس، وفي الغَرِيبَيْنِ والنهاية: الحِزْبُ: النَّوْبَةُ في وِرْدِ المَاءِ، وفي لسان العرب: الحِزْبُ الوِرْدُ، وَوِرْدُ الرَّجُلِ مِنَ القُرْآنِ والصَّلَاةِ: حزْبُه، انْتَهَى، فَتَعيَّنَ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ من قولِ المؤلفِ الوِرْدُ هو النَّوْبَةُ فِي وِرْدِ المَاءِ لأَصَالَتِهِ، فَلَا إِهْمَالَ منَ الجوهَريِّ والمَجْدِ عَلَى ما زَعَمَ شَيْخُنَا. وفي الحَدِيث «طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنَ القُرْآنِ فَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَخْرُجَ حَتَّى أَقْضِيَهُ» طَرَأَ عَلَيَّ يُرِيدُ أَنَّهُ بَدَأَ في حِزْبُه كأَنَّهُ طَلَعَ عليه، من قولك: طَرَأَ فلانٌ إِلى بَلَدِ كَذَا وكذَا فهو طارِئٌ إِليه؛ أَي [أَنه] طَلَعَ إِليه حديثًا غَيْر تَانٍ فيه، وقدْ حَزَّبْتُ القُرْآنَ: جَعَلْتُه أَحْزَابًا، وفي حَدِيثِ أَوْسِ بنِ حُذَيْفَةَ «سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ تُحَزِّبُونَ القُرْآنَ» وكُلُّ ذلكَ إِطْلَاقٌ إِسْلَامِيٌّ، كَمَا لَا يَخْفَى والحِزْبُ: الطَّائِفَةُ، كما في الأَساس وغيره. وفي لسان العرب: الحِزْبُ: الصِّنْفُ مِنَ الناس {كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أَيْ كُلُّ طَائِفَةٍ هَوَاهُمْ وَاحِدٌ. وفي الحديث «اللهُمَّ اهْزِمِ الأَحْزَابَ وزَلْزِلْهم». الأَحزابُ: الطوائف من الناسِ جَمْعُ حِزْبٍ بِالكَسْرِ، ويمكن أَن يكونَ تسميةُ الحِزْبِ من هذا المَعْنَى، أَيِ الطَّائِفَةِ التي وَظَّفَهَا على نَفْسِه يَقْرَؤُهَا، فيكون مَجَازًا، كما يُفْهَمُ من الأَساس.والحِزْبُ: السلَاحُ، أَغْفَلَه في لسان العرب والصحاح، وأَورده في المحكم، والسِّلَاحُ: آلَةُ الحَرْبِ ونَسَبَه الصاغانيُّ لِهُذَيْلٍ وقال: سَمَّوْهُ تشْبِيهًا وسَعَةً. والحِزْبُ: جَمَاعَةُ النَّاسِ، والجَمْع أَحْزابٌ، وبه صَدَّرَ ابنُ مَنْظُورٍ، وأَوردَه في الأَسَاس، وغيره من كتب اللغة، وليس بتَكْرَارٍ مع ما قَبْلَهُ ولا عطف تَفْسِيرٍ كما زَعَمَه شيخُنَا، ويظهرُ ذلك بالتأَمل والأَحْزَابُ جَمْعُهُ أَيِ الحِزْبِ وتُطْلَقُ عَلَى جَمْعٍ أَيْ طَوَائِفَ كَانُوا تَأَلَّبُوا وتَظَاهَرُوا عَلَى حَرْبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي الصحاح علَى مُحَارَبَةِ الأَنْبِيَاءِ عليهمُ السلام، وهُوَ إِطْلاقٌ شَرْعِيٌّ. والحِزْبُ: النَّصِيبُ، يُقَال: أَعْطِنِي حِزْبِي مِنَ المَالِ أَيْ حَظِّي ونَصِيبِي، كما في المصباح والصُّرَاح ولعَلَّ إِغْفَالَ الجوهريّ والمَجْدِ إِيّاهُ لِمَا ذَهَبَ إِليه ابنُ الأَعرابيّ، ونَقَلَ عنه ابنُ مَنْظُورٍ: الحِزْبُ: الجَمَاعَةُ. والجِزبُ بالجِيمِ: النَّصِيبُ، وقد سَبَق، فلا إِهْمال حينئذٍ كما زعمه شيخُنا والحِزْبُ: جُنْدُ الرَّجُلِ، جَمَاعَتُهُ المُسْتَعِدَّةُ لِلْقِتَالِ ونحوِهِ، أَوْرَدَهُ أَهْلُ الغَرِيبِ وفَسَّرُوا به قولَه تَعَالى {أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ} أَيْ جُنْدُه، وعليه اقْتَصَرَ الجوهَريُّ. وحِزْبُ الرَّجُلِ: أَصْحَابُه الذين على رَأْيِه والجَمْعُ كالجَمْعِ، والمَنَافِقُونَ والكافِرُونَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، وكُلُّ قَوْمٍ تَشاكَلَتْ قُلُوبُهُمْ وأَعْمَالهُمْ فَهُمْ أَحْزَابٌ وإِنْ لَمْ يَلْقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَذَا في المُعْجَمِ. وفي التَّنْزِيلِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ هُمْ قَوْمُ نُوحِ وعادٌ وثَمُودُ ومَنْ أَهْلَكَه اللهُ مِنْ بَعْدِهِمْ مثل فِرْعَوْنَ، {أُولئِكَ الْأَحْزابُ}. وفي الحديث ذكر يَوْم الأَحزابِ هُوَ غَزْوَةُ الخَنْدَقِ، وسُورَةُ الأَحْزَاب مَعْرُوفَةٌ، ومَسْجِدُ الأَحْزابِ من المساجدِ المعروفةِ التي بُنِيَتْ على عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أَنشد ثعلب:
إِذْ لَا يَزَالُ غَزَالٌ فيه يَفْتِنُنِي *** يَأْوِي إِلى مَسْجِدِ الأَحْزَابِ مُنْتَقِبَا
قُلْتُ: البَيْتُ لِعَبْدِ اللهِ بنِ مسْلِمِ بنِ جُنْدَبٍ الهُذَلِيِّ، وكان من قِصَّتِه أَنَّه لَمَّا وَلِيَ الحَسَنُ بنُ يَزِيدَ المَدِينَةَ مَنَعَ المَذْكورَ أَن يَؤُمَّ بالنَّاسِ في مَسْجِدِ الأَحْزَابِ فَقَالَ له: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ لِمَ مَنَعْتَنِي مُقَامِي ومُقَام آبَائِي وأَجْدَادِي قَبْلِي؟ قالَ مَا مَنَعَك منه إِلَّا يَوْمُ الأَرْبَعَاءِ، يُرِيدُ قَوْلَه:
يَا لَلرِّجَالِ لِيَوْمِ الأَرْبِعَاءِ أَمَا *** يَنْفَكُّ يُحْدِثُ لِي بَعْدَ النُّهَى طَرَبَا
إِذْ لَا يَزَال، إِلخ، كَذَا في المعجم. ودَخَلْتُ عليه وعنده الأَحزابُ، وقد تَبجَّحَ شَيْخُنَا في الشرح كثيرًا، وتصدى بالتعرض للمؤلف في عبارته، وأَحال بعض ذلك على مُقَدَّمَةِ شَرْحِه للحِزبِ النَّوَوِيِّ وتاريخ إِتمامه على ما قَرَأْت بخطه سنة 1163 بالمدينة المنوَّرة، على ساكنها أَفضل الصلاة والسلام، وقرأْت المقدمة المذكورة فرأَيته أَحال فيها على شرحه هذا، فما أَدْرِي أَيُّهما أَقدمُ، وقد تَصَدَّى شيخُنا العلامة عبدُ الله بن سُلَيْمَان الجرهزيّ الشافعيُّ مُفْتِي بَلَدِنا زَبِيدَ حَرَسَهَا الله تعالى للرَّدِّ على المَجْد، وإِبْطَالِ دَعَاوِيهِ النَّازِلَةِ بِكُلِّ غَوْرٍ ونَجْد، والله حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
وحَازَبُوا وتَحَزَّبُوا: صَارُوا أَحْزَابًا، وحَزَّبَهُمْ فَتَحَزَّبُوا؛ أَي صَارُوا طَوَائِفَ. وفُلَانٌ يُحَازِبُ فُلَانًا؛ أَي يَنْصُرُه ويُعَاضِدُه، كذا في الأساس. قُلت: وفي حديث الإِفْكِ «وطَفِقَتْ حَمْنَةُ تَحَازَبُ لهَا» أَيْ تَتَعَصَّبُ وتَسْعَى سَعْيَ جَمَاعَتِهَا الذين يَتَحَزَّبُونَ لَهَا، والمَشْهُورُ بالرَّاءِ [من الحرب].
وتَحَزَّبَ القَوْمُ: تَجَمَّعُوا وقَدْ حَزَّبْتهُمْ أَيِ الأَحْزَابَ تَحْزيبًا أَيْ جَمَعْتهُمْ، قال رؤبَة:
لقدْ وَجَدْتُ مُصْعَبًا مُسْتَصْعِبَا *** حِينَ رَمَى الأَحْزَابَ والمُحَزِّبَا
كذا في «المعجم».
وحَزَبَهُ الأَمْرُ يَحْزُبُه حَزْبًا: نَابَه أَيْ أَصَابَهُ واشْتَدَّ عليه، أَوْ ضَغَطَهُ فَجْأَةً، وفي الحديثِ «كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلى» أَيْ إِذَا نَزَلَ به مُهِمٌّ وأَصَابَه غَمٌّ، وفي حَدِيثِ الدُّعَاءِ «اللهُمَّ أَنْتَ عُدَتِي إِنْ حُزِبْتُ»، والاسْمُ الحُزَابَةُ، بالضَّمِّ، والحَزْبُ أَيْضًا بفَتْحٍ فسُكُونٍ كالمَصْدَرِ، ويقال: أَمْرٌ حَازِبٌ وحَزِيبٌ: شَدِيدٌ. والحَازِبُ من الشَّغْلِ: مَا نَابَكَ الجمع: حُزْبٌ بضَمٍّ فسُكُونٍ، كَذا في نُسْخَتِنَا وضَبَطَه شيخُنَا بضَمَّتَيْنِ، وفي حَدِيثِ عَلِيٍّ «نَزَلَتْ كَرَائِهُ الأُمُورِ وحَوَازِبُ الخُطُوبِ» جَمْعُ حَازِبٍ، وهو الأَمْرُ الشديدُ. وفي الأَساس: أَصَابَتْهُ الحَوَازِبُ.
والحَزَابِي والحَزَابِيَةُ بكَسْرِ المُوَحَّدَةِ فيهما مُخَفَّفَتَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ والحَمِيرِ: الغَلِيظُ إِلى القِصَرِ مَا هُوَ، وعبارة الصحاح: الغَليظُ القَصِيرُ، رَجُلٌ حَزَابٍ وحَزَابِيَةٌ وَزَوَازٍ وَزَوَازِيَةٌ إِذَا كَانَ غَلِيظًا إِلَى القِصَرِ مَا هُوَ، وَرجُلٌ هَوَاهِيَةٌ إِذَا كَانَ مَنخُوبَ الفُؤَادِ، وَبعِيرٌ حَزَابِيَةٌ إِذا كانَ غَلِيظًا، وحِمَارٌ حَزَابِيَةٌ: جَلْدٌ، ورَكَبٌ حَزَابِيَةٌ: غَلِيظٌ، قالت امْرَأَةٌ تَصِفُ رَكَبَها:
إِنَّ هَنِي حَزَنْبَلٌ حَزَابِيَهْ *** إِذَا قَعَدْتُ فَوْقَهُ نَبَا بِيَهْ
ويقال: رَجُلٌ حَزَابٍ وحَزَابِيَةٌ إِذَا كَانَ غَلِيظًا إِلى القِصَرِ، واليَاءُ لِلإِلْحَاقِ كالفَهَامِيَةِ والعَلَانِيَةِ، من الفَهْم والعَلَنِ قال أُمَيَّةُ بنُ أَبِي عَائِذ الهُذَلِيُّ:
كَأَنِّي وَرَحْلِي إِذَا رُعْتُهَا *** عَلَى جَمَزَى جَازِئٍ بالرِّمَالِ
أَوَ اصْحَمَ حَامٍ جَرَامِيزَهُ *** حَزَابِيَةٍ حَيَدَى بالدِّحَالِ
يُشَبِّهُ نَاقَتَهُ بحِمَارٍ وَحْشٍ، وَوَصَفَه بجَمَزَى وهو السَّرِيعُ، وتقديرُه عَلَى حِمَارٍ جَمَزَى، وقال الأَصمعيُّ: لَمْ أَسْمَعْ بفَعَلَى في صِفَةِ المُذَكَّرِ إِلَّا في هَذَا البَيْتِ، يَعْنِي أَنَّ جَمَزَى وزَلَجَى ومَرَطَى ونَشَكَى وما جَاءَ على هذا البابِ لا يكونُ إِلّا من صِفَةِ الناقةِ دُونَ الجَمَلِ، والجَازِىُّ: الذي يَجْزَأُ بالرُّطْب عن الماءِ، والأَصْحَمُ: حِمَارٌ يَضْرِبُ إِلى السَّوَادِ والصُّفْرَةِ، وَحَيَدَى: يَحِيدُ عن ظِلِّه لنَشَاطِه، حَامٍ نفسَه من الرُّمَاةِ، وجَرَامِيزه: نَفْسُه وجَسَدُه، والدِّحَال: جَمْعُ دَحْلٍ، وهو هُوَّةٌ ضَيِّقَةُ الأَعْلَى وَاسِعَةُ الأَسْفَلِ. كَذَا في لسان العرب، كالحِنْزَابِ كقِنْطَار، وفي نسخة كمِيزَابٍ، وفي أُخرَى كقِتَال، وكلاهما تَصْحِيفٌ وغَلَطٌ.
والحِزْب والحِزْبَاءَةُ، بكَسْرهِمَا: الأَرْضُ الغَلِيظَةُ الشَّدِيدَةُ الحَزْنَةُ، وعن ابن شُميل: الحِزْبَاءَةُ مِنْ أَغْلَظِ القُفِّ مرتفعٌ ارتفاعًا هَيِّنًا في قُفٍّ أَيَرَّ شَدِيدٍ، وأَنشد:
إِذَا الشَّرَكُ العَادِيُّ صَدَّ رأَيْتَهَا *** لِرُوسِ الحَزَابِيّ الغِلَاظِ تَسُومُ
الجمع: حِزْبَاءٌ وحَزَابِى وأَصْلُهُ مُشَّدَّدُ كما قِيلَ الصَّحَارِي: وفي بَعْضِ أَقْوَالِ الأَئِمَّةِ: الحِزْبَاءَةُ: مَكَانٌ غَلِيظٌ مُرْتَفِعٌ، والحَزَابى: أَمَاكِنُ مُنْقَادَةٌ غِلَاظٌ مُسْتَدِقَّةٌ.
وأَبُو حُزَابَةَ بالضَّمِّ فيما ذَكَر ابنُ الأَعرابيّ: الوَلُيدُ بنُ نَهِيكٍ أَحَدُ بَنِي رَبِيعَةَ بنِ حَنْظَلَةَ، وقال البَلَاذُرِيّ: هو الوَلِيدُ بن حَنِيفَة بنِ سُفْيَانَ بن مُجَاشِعِ بنِ رَبِيعَةَ بنِ وهبِ بنِ عَبَدَةَ بنِ رَبِيعَةَ بنِ حَنْظَلَةَ الذي يقول:
أَنَا أَبُو حُزَابَةَ الشَّيْخُ الفَانْ
وكَانَ يَقُولُ: أَشْقَى الفِتْيَانِ المُفْلِسُ الطَّرُوبُ، وَثوَّاب كَكَتَّانٍ ابن حُزَابَةَ، له ذِكْرٌ وكَذَا ابنُه قُتَيْبَةُ بنُ ثَوَّابٍ له ذِكْرٌ في «ث وب» وبالفَتْح أَبو بَكْر مُحَمَّدُ بنُ محمد بن أَحْمَدَ بن حَزَابَةَ الإِبْرَيْسَمِيّ المُحدِّثُ ماتَ قبلَ الستينَ وثلاثمائَة بسَمَرْقَنْدَ.
وحَزُّوبٌ كَتَنُّورٍ اسمٌ.
وحَازَبْتُه: كنتُ من حِزْبِهِ أَوْ تَعَصَّبْتُ له.
والحِنْزَابُ بالكَسْرِ، كقِنطار: الدِّيكُ ونونُه زائدةٌ، وقيل إِن موضعه في ح ن ز ب بناءً على أَصالَةِ النون و: جَزَرُ البَرِّ، و: ضَرْبٌ مِنَ القَطَا.
وذَاتُ الحِنْزَابِ: موضع، قال رؤبة:
يَضْرَحْنَ مِنْ قِيعَانِ ذَاتِ الحِنْزَابْ *** في نَحْرِ سَوَّارِ اليَدَيْنِ ثَلَّابَ
والحُنْزُوبُ بالضَّمِّ: نَبَاتٌ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الحَيْزَبُونُ: العَجُوزُ، ونُونُه زائدةٌ، كما زيدت في الزَّيْتُونِ، أَو التي لا خَيْرَ فيها، وهذا مَحَلُّ ذِكره، صرَّح به الجوهريُّ وقَاطِبَةُ أَئِمَّةِ النحوِ كذا في لسان العرب، وتَبِعه شيخُنا، وقد أَهملَه المصنف تقصيرًا، وقيل: الحَيْزَبُونُ: الشَّهْمَةُ الذَّكِيَّةُ، قال الهُذَلِيّ:
يَلْبِطُ فِيهَا كُلُّ حَيْزَبُونِ
وبَنُو حِنْزَابَةَ بالكَسْرِ: بَنُو الفُرَاتِ، ولا يَكَادُونَ يَخْفَوْنَ عَلَى مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ، ذَكَرَه البرازنيّ في مَشيخَتِهِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
38-تاج العروس (عطب)
[عطب]: العُطْبُ بالضَّمِّ وبِضَمَّتَيْن: القُطْنُ مثل عُسْر وعُسُر. قاله ابنُ الأَعْرَابِيّ. وفي حَدِيث طَاوُوس أَو عِكْرِمَةَ «لَيْسَ في العُطْبِ زَكَاةٌ» هو القُطْنُ. قال الشاعرُ:كأَنَّه في ذُرَى عَمَائِمهمْ *** مُوَضَّعٌ من مَنَادِفِ العُطُبِ
والعَطْبُ بالفَتْح من القُطْن والصُّوفِ: لِينُه ونُعُومَتُه، كالعُطُوب بالضم. والَّذِي في التَّهْذِيبِ العَطْبُ: لِينُ القُطْنِ والصُّوفِ، واحِدَتُه عَطْبة. وقد وجدتُه مضبوطًا بالضَّمِّ، ثم ظَاهِرُ عِبَارَتِه أَنَّه لَيِّن كسَيّد، فإِن كَان كَذلِكَ ففِي عِبَارَةِ المُؤَلِّف نوعُ تَسَامُح: يقال: عَطَب كَنَصَرَ يَعْطُب عَطْبًا وعُطُوبًا: لان، وهذا الكَبْشُ أَعطَبُ مِنْ هَذَا؛ أَي أَلْيَنُ.
وعَطبَ كَفرِح عَطَبًا: هَلَك يكُونُ في النَّاسِ وغَيْرِهِم وعَطِب البَعِيرُ والفَرَسُ: انْكَسَر أَو قَامَ عَلَى صَاحِبِه.
وأَعْطَبَه غَيْرُه إِذا أَهْلَكه. والمَعَاطِبُ: المَهَالِكُ، واحَدُها مَعْطَب. وفي الحَدِيثِ ذِكرُ عَطَب الهَدْيِ، وهو هَلَاكُه، وقد يُعَبَّر به عن آفَةٍ تَعْتَرِيه تَمْنَعُه عن السَّيْرِ فيُنْحَرُ، واسْتَعْمَل أَبو عُبَيْدٍ العَطَبَ فِي الزَّرْعِ فقال: فَنرَى أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صلَّى الله تعالى عليه وسلم عن المُزارَعَة إِنَّمَا كان لِهذِه الشُّرُوطِ، لأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ لا يُدرَى أَتَسْلَمُ أَم تَعْطَبُ.
وعَطِبَ عَلَيْه: غَضِبَ أَشَدَّ الغَضَب.
والعُطْبَةُ بالضَّمِّ: قِطْعَةٌ من قُطْنٍ أَو صُوفٍ. وخِرْقَة تُؤْخَذُ بِهَا النَّارُ قال الكُمَيْتُ:
نارًا من الحَرْبِ لا بالمَرْخِ ثَقَّبَهَا *** قَدْحُ الأَكُفِّ ولمْ تُنْفَخْ بِهَا العُطَبُ
واعْتَطَبَ بِهَا، أَخَذَ النَّارَ فِيهَا ويقال: أَجِدُ ريحَ عُطْبَة أَي قُطْنَةٍ أَو خِرْقَة محترِقةٍ.
والعَوْطَبُ كجَوْهَر: الدَّاهِيَةُ. والعَوْطَبُ: لُجَّةُ البَحْرِ قال الأَصْمَعِيُّ: هُمَا من العَطَب، وقال ابنُ الأَعرابِيّ: العَوْطَبُ: أَعمقُ موضِعٍ في البَحْرِ، أَو المُطْمَئنُّ بَيْنَ المَوْجَتَيْنِ، وهو قولُ ابُنِ الأَعْرَابِيّ أَيْضًا. وعَوْطَبٌ شَجَرٌ.
والمُعْطِبُ كمُحْسِن: المُقْتِرُ.
والتَّعْطِيبُ: عِلَاجُ الشَّرَابِ ليَطِيبَ رَيحُه، عن أَبي سَعِيد. يقال: عَطَّبَ الشرابَ تَعْطِيبًا. وأَنشد بيتَ لَبِيد:
إِذَا أَرسلَتْ كَفُّ الوَلِيدِ عِصَامَهُ *** يَمُجُّ سُلَافًا مِن رَحِيقٍ مُعَطَّبِ
وقال غيره: مِن رَحِيقٍ مُقَطَّب. قَال الأَزْهَرِيّ: وهو المَمْزُوجُ، ولا أَدْرِي ما مُعَطَّب.
والتَّعْطِيب: في الكَرْمِ: بُدُوُّ أَي ظُهُورُ زَمَعَاتِه.
ومن سَجَعَات الأَسَاسِ: لا تنسَ ما نَقَم اللهُ من حَاطِب وما كَادَ يَقَع فيه من المَعَاطِب. وتَقُولُ: رُبَّ أَكْلَةٍ مِنْ رُطَب، كانَتْ سَبَبًا في عَطَب.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
39-تاج العروس (عكب)
[عكب]: العَكَبُ مُحَرَّكةً: غِلَظٌ في اللَّحْيِ نقله الصَّاغَانِيّ والشَّفَةِ مِنَ الإنسان. وقال ابن دُرَيْد: غِلظُ الشَّفَتَيْن وتَدَانى أَصابعِ الرِّجْلِ بَعْضِها إِلَى بَعْض ومن المَعْنَيَيْنِ الأَوَّلَيْن الأَمَةُ العَكْبَاءُ هي العِلْجَةُ الجَافِيَةُ الخَلْقِ من آمٍ عُكْبٍ.والعُكُوبُ بالضَّمِّ بدَلِيلِ ما يَأْتِي فِيمَا بعْد: الازْدحَامُ.
وللإِبِل عُكُوبٌ أَي ازْدِحَامٌ. والوُقُوفُ أَي العُكُوف ولو فَسَّرَه به كان أَوْلَى. وعَكَبَت الطَّيْرُ تَعْكُب عُكُوبًا: عَكَفَت.
والعُكَوبُ: عُكُوفُ الطَّيْرِ المُجْتَمِعَةِ. وعُكُوبُ الوِرْدِ، وعُكُوبُ الجَمَاعَة. وعَكَفَتِ الخيلُ عُكُوفًا وعَكَبَت عُكُوبًا بمَعْنًى وَاحِد وطير عُكُوبٌ وعُكُوفٌ وأَنْشَدَ الليثُ لمُزَاحِمٍ العُقَيْلّي:
تَظَلُّ نسورٌ من شَمَامٍ عَلَيْهِمُ *** عُكُوبًا مع العِقْبانِ عِقْبانِ يَذْبُلِ
والبَاءُ لُغَةُ بَني خَفَاجَةَ من بَنِي عُقَيْل.
والعُكُوب: غَلَيَانُ القِدْرِ. يُقَال: عَكَبَت القِدْرُ تَعْكُب عُكُوبًا إِذَا ثَارَ عُكَابُهَا، وهو بُخَارُها وشدَّةُ غَلَيَانِهَا، وأَنْشَدَ:
كأَنَّ مُغِيرَاتِ الجُيوشِ الْتَقَتْ بِهَا *** إِذا اسْتَحْمَشَتْ غَلْيًا وَفَاضَ عُكُوبُها
والعُكُوب بالضم: جَمْعُ عَاكِب. والعَكُوبُ بالفَتْح: الغُبَارُ. قال بِشْرُ بنُ أَبِي خَازِم:
نَقَلْنَاهُمُ نَقْلَ الكِلَابِ جِرَاءَهَا *** علَى كُلِّ مَعْلُوب يَثُورُ عَكُوبُهَا
كالعَكْبِ بفَتْح فَسُكُون والعُكَابٍ كغُراب، وهما عن الصَّاغَانِيّ. والعَاكُوبٍ وهذا عن الهَجَرِيّ وأَنْشَدَ:
وإِنْ جَاءَ يومًا هاتِفٌ مُتَنحِّط *** فلِلْخَيْلِ عاكوبٌ من الضَّحْلِ سَانِدُ
والعَكُّوبٍ مُشَدَّدَةً أَي كَتَنُّورٍ، وَهَذِه عن الصَّاغَانِيّ، كالعَاكِب قال:
جَاءَتْ مَعَ الرَّكْبِ لها ظَباظبُ *** فغَشِيَ الذَّادَةَ مِنْهَا عَاكِبُ
والعَاكِبُ من الإِبِل: الكَثيرَةُ. والجَمْعُ الكَثِير.
وَكَغُرابِ: الدُّخَانُ وبُخَارُ القِدْرِ.
وعن ابْنِ الأَعْرَابِيّ: العَصْبُ والعَضْبُ بالصَّادِ والضَّاد والعَكْبُ بالفتح هُوَ الخَفِيفُ النَّشِيطُ في العَمَلِ. يقال: غلام عَكْبٌ وعَصْبٌ وعَضْبٌ، عن ابْنِ الأَعْرَابِيّ.
والعَكْبُ: الشِّدَّةُ فِي السَّيْرِ، هكذا في النُّسَخ التي بأَيْدِينا، وفي أُخْرَى صَحِيحَة: في الشَّرِّ، بالشِّين المُعْجَمَة. قال شيخُنا: وكان شيخُنا ابْنُ الشَّاذِلّي يَميل إِلى الأُولَى. قلتُ: والصَّوَابُ الثَّانِيَة؛ لأَنَّه قال في لسان العرب: والعَكْبُ: الشِّدَّة في الشَّرِّ، والشَّيْطَنَةُ. ومنه قِيلَ للمَارِدِ من الإِنْسِ والجِنِّ عِكَبٌّ، كَمَا يَأْتِي، فهَذِه عِبَارَتُه صَرِيحَة فِيمَا صَوَّبْنَاه كما لا يَخْفَى، ومِثْلُه عِبَارَة التَّكْمِلَة.
والعِكَبُّ بالكَسْرِ ففتح فتَشْدِيد كهِجَفٍّ: القَصِيرُ الضَّخْم الجَافِي، وكَذلِك الأَعْكَبُ والمَارِدُ من الإِنْسِ والجنِّ وقد تَقَدَّمَ الإِشَارَةُ إِليه والعِكَبُّ: الَّذِي لأُمِّه زَوْجٌ، عن ابْنِ دُرَيْد. قال: ولا أَدري ما صِحَّة ذلِك. والعِكَبُّ: اسمُ شَاعِر. وقَال ابْنُ منْظُور: ووجدتُ في بَعْض نُسخ الصَّحَاحِ المقْرُوءَة على عِدَّة مَشَايخ حاشِيَةً بخَطّ بعْضِ المَشَايِخِ: وعِكَبٌّ: اسمُ إِبْلِيسَ. قلت: وهو قَوْلُ ابْن الأَعْرابِيّ، نقله القَزَّازُ في جَامِعه وأَنْشَد:
رأَيتُكَ أَكذَب الثَّقَلَيْنِ رَأْيًا *** أَبَا عمْرٍو وأَعْصَى مِنْ عِكَبِّ
فَلَيْتَ الله أَبْدَلَنِي بِزيْدٍ *** ثلاثَة أَعْنُزٍ أَو جَرْوَ كَلْب
ومثله قال ابنُ القَطَّاعِ في كِتَاب الأَوزانِ. وفي بعضِ أَمْثَال العَرَبِ: مَنْ يُطِعْ عِكَبًّا يمسي مكبًا» قاله شيخنا.
وعِكَبٌّ اللَّخْمِي: اسمُ سَجَّانِ أَي صَاحِب سجْنِ النُّعْمَان بْن المُنْذِر ملِكِ العربِ قال المُنَخَّل اليَشْكُرِيّ:
يُطَوِّفُ بِي عِكَبٌّ في مَعدٍّ *** ويَطْعُنُ بالصُّمُلَّةِ في قَفَيَّا
وَعَكبَتِ النَّارُ تَعْكِيبًا: أَثَارَت العُكَابَ أَي دَخَّنَتْ. ويقال تَعَكَّبَتْه الهُمُومُ إِذا رَكِبَتْهُ والاعْتِكابُ: إِثَارَةُ الغُبَارِ وثَورَانُه. لَازِمٌ ومُتَعَدٍّ. يقال: اعْتَكَبَتِ الإِبلُ: اجتمَعَت في مَوْضِع فأَثارَت الغُبَارَ فِيهِ.
قال:
إِني إِذَا بَلَّ النَفِيُّ غارِبِي *** واعْتَكَبَتْ أَغْنَيْتُ عَنْكَ جَانِبِي
واعْتَكَبَ المكانُ: ثَارَ فِيهِ العَكُوبُ.
وعُكَابَةُ كدُخَانَةٍ هكَذا بالخَاءِ المُعْجَمَة في النُّسْخَة، وصوابه كَدُجَانة بالجِيمِ، باسْمِ الصَّحَابِيّ المَعْرُوفِ، وهو وَزْنٌ مَشْهُور، فلا يُلْتَفَت لقَوْلِ شَيْخِنَا: إِنَّ الوَزْنَ به غَيْرُ سَديد لأَنَّه وزنٌ غَيْرُ مَشْهُور ولا مُتَدَاوَل. ابنُ صَعْب ابْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: أَبو حَيٍّ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِل أَخي تَغْلب بْنِ وَائِل، ووَلَدُ عُكَابَة قَيْسٌ وعِدادُهُم في بَنِي ذُهْل، وثَعْلَبَة، ويُقَال لَهُم الخضْر قال الأَعْشَى:
فما ضَرَّهَا إِذ خالَطَتْ في بُيُوتِهم *** بَنِي الخضْر ما كَانَ اختلافُ القَبَائِلِ
قاله شَيْخُنا، وهو في كتاب الأَنساب لأَبِي عُبَيْد، والبَلَاذُرِيّ، والمَعَارِف لابْنِ قُتَيْبَة.
* وبَقِيَ هنا: ذِكْرُ العِكَابِ والعُكْبِ والأَعْكُبِ اسْمٌ لِجَمْع العَنْكَبُوت، هنا ذَكَرَها ابْنُ مَنْظُور وغَيْرُه، وسَيَأْتي في العَنْكَبُوتِ.
والأَعْكَب: الَّذي تَدَانَى بعضُ أَصابعِ رِجْلَيْه من بَعْض مع تَرَاكُبٍ، ومنه تَعَكَّبَتْنِي الهُمُومُ، الذِي ذَكَره المُصَنِّفُ.
والعَكُّوب كَتَنُّور: بقلَةٌ معروفة؛ وهي شَوْكُ الجِمَالِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
40-تاج العروس (قطرب)
[قطرب]: القُطْرُبُ، بالضَّمِّ: اللِّصُّ، والفَأْرةُ هكذا في نسختنا، وكذا في غيرها من النُّسَخ، وهو خَطَأٌ، صوابُه اللِّصُّ الفارِهُ اللُّصُوصِيَّةِ، كما هو عبارةُ ابْنِ منظورٍ، وغيرِهِ.والقُطْرُب: الذِّئْبُ الأَمْعَطُ.
والقُطْرُبُ: ذَكَرُ الغِيلانِ، وعن اللَّيْث: القُطْرُبُ: ذَكَرُ السَّعَالِي، كالقُطْرُوبِ، بالضَّمّ أَيضًا، وهذه عن الصَّاغانِيِّ.
والقُطْرُبُ: الجاهِلُ الَّذي يَظْهَرُ بجهله.
والقُطْرُبُ: الجَبَانُ، وإِنْ كانَ عاقلًا.
والقُطْرُبُ: السَّفِيهُ، والقَطارِيب: السُّفَهاءُ، حكاه ابْنُ الأَعْرَابِيّ؛ وأَنشدَ:
عادٌ حُلُومًا إِذا طاشَ القَطَارِيبُ
ولم يَذْكُرْ له واحدًا. قال ابْنُ سِيدَهْ: وخَلِيقٌ أَن يكونَ واحدُهُ قُطْرُوبًا إِلّا أَنْ يكونَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ أَخَذَ القَطَارِيبَ من هذا البيت: فإِن كان كذلك، فقد يكون واحدُهُ قُطْرُوبًا، وغير ذلك ممّا تَثْبُتُ الياءُ في جَمْعِهِ رابِعَةً، من هذا الضَّرْب. وقد يكون جمعَ قُطْرُبٍ، إِلّا أَنّ الشَّاعِرَ احتاج فأَثبت الياءَ في الجَمع، وقد عُلِمَ ممَّا ذكرنا أَنّ القُطْرُوبَ لغةٌ في القُطْرُبِ بمعنى السَّفِيهِ. والمؤلِّفُ ذَكرَه في القُطْرُبِ بِمعنى ذَكَرِ الغِيلانِ.
والقُطْرُبُ: المَصْرُوعُ من لَمَمٍ أَو مَرارٍ.
والقُطْرُبُ، في اصطلاح الأَطِبّاءِ: نَوْعٌ من المالَيخُولْيَا، وهو داءٌ معروف، يَنْشَأُ من السَّوْداءٍ، وأَكثرُ حُدُوثِهِ في شَهْرِ شُبَاطَ، يُفْسِدُ العَقْلَ، ويُقَطِّبُ الوجْهَ، ويُدِيمُ الحُزْنَ، ويُهِيِّمُ بالَّليْلِ، ويُخَضِّرُ الوَجْهَ، ويُغَوِّرُ العَينينِ ويُنْحِلُ البَدَنَ، نقله الصّاغانيُّ.
والقُطْرُبُ: صِغَارُ الكِلَابِ، وصِغَارُ الجِنِّ.
وحَكَى ثَعْلَبٌ أَنَّ القُطْرُبَ الخَفِيفُ، وقال على إِثْر ذلك: إِنّه لَقُطْرُبُ لَيْلٍ، فهذا يدُلُّ على أَنَّها دُوَيْبَّةٌ، وليس بصفةٍ كما زعمَ.
والقُطْرُبُ: طائرٌ ودُوَيْبَّةٌ كانت في الجاهِليَّة يزعمُونَ أَنّها ليس لها قَرارٌ الْبَتَّةَ. وقال أَبو عُبَيْد القُطْرُبُ: دُوَيْبّةٌ، لا تَسْتَريحُ نَهارَها سَعْيًا. وفي حديث ابْنِ مسعودٍ «لا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ جِيفَةَ لَيْلٍ، قُطْرُبَ نَهارٍ».
قال القارِي في ناموسه: يُشَبّهُ به الرَّجُلُ يَسْعَى نهارَه في حوائجِ دُنْيَاهُ.
قال شيخُنا بعدَ ذِكرِ هذا الكلامِ: هو مأْخوذٌ من كلامِ سِيبَوَيْهِ، لابْنِ المُسْتَنِيرِ؛ وتَقْيِيدُه بحوائِجِ الدُّنَيا، فيه نَظَرٌ؛ فإِنه إِنّما كان يُلازِمُ بابَهُ لتحصيلِ العِلْمِ الّذِي هو من أَجَلِّ أَعمالِ الآخرةِ، فالقَيْدُ غيرُ صحيحٍ. انتهى.
قلتُ: وهذا تحامُلٌ من شيخنا على صاحبِ النّاموسِ، فإِنّه إِنّما اقتطع عِبَارَتَهُ من كلامِ أَبي عُبَيْدٍ في تفسيرِ قول ابْنِ عبّاسٍ، فإِنّهُ قال: يِقَالُ إِنّ القُطْرُبَ لا تَستَرِيحُ نَهارَهَا سعْيًا، فَشَبَّهَ عبدُ اللهِ الرّجُلَ يسعَى نَهَارًا في حوائِجِ دُنْيَاه، فإِذا أَمْسَى، أَمْسَى كالًّا تَعِبًا، فينامُ ليلَتَهُ، حتّى يُصْبِحَ كالجِيفَة لا تتحرّكُ، فهذا جِيفَةُ لَيْلٍ، قُطْرُبُ نهارٍ.
وقد لُقِّبَ به مُحَمَّدُ بْنُ المُسْتَنير النَّحْوِيُّ لأَنَّهُ كان يُبَكِّرُ أَيْ يَذهبُ إِلى سِيبَوَيْهِ في بُكْرَةِ النَّهَارِ، فكُلَّمَا فَتَحَ بابَهُ، وَجَدَهُ هُنَالِكَ، فقال له: ما أَنْتَ إِلَّا قُطْرُبُ لَيْلٍ، فجَرَى ذلك لَقَبًا له والجمعُ من ذلك كُلِّهِ قَطَارِيبُ.
وقَطْرَبَ الرَّجُلُ: أَسْرَعَ، وصَرَعَ، لغةٌ في قَرْطَبَ.
وتَقَطْرَبَ الرَّجُلُ: حَرَّكَ رَأْسَهُ، تَشَبَّهَ بالقُطْرُب حكاه ثعلبٌ، وأَنشد:
إِذا ذاقَهَا ذُو الحِلْمِ منهم تَقَطْرَبا
وقيلَ: تَقَطْرَبَ، هُنَا: صارَ كالقُطْرُبِ الّذي هو أَحد ما تقدَّمَ ذِكْرُهُ.
والقِطْرِيبُ بالكسر: عَلَمٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
41-تاج العروس (كتب)
[كتب]: كَتَبهُ، يَكْتُبُ، كَتْبًا بالفَتْح المَصْدَرُ المَقِيسُ، وكِتَابًا بالكسر على خِلاف القِياس. وقيل: هو اسْمٌ كاللَّباس، عن اللِّحْيانيّ. وقِيل: أَصلُه المصدرُ، ثمّ استُعمِلَ فيما سيأْتي من معانيه. قاله شيخُنا. وكذا: كِتابَةً، وكِتْبَةً، بالكسر فيهما؛ خَطَّهُ، قال أَبو النَّجْمِ:أَقْبَلْتُ مِنْ عِنْدِ زِيَاد كالخَرِفْ *** تَخُطُّ رِجْلايَ بخَطٍّ مُخْتلفْ
تُكَتِّبانِ في الطَّرِيقِ لَامَ الِفْ
وفي لسان العرب، قال: ورأَيتُ في بعض النُّسَخ «تِكِتِّبانِ» بكسر التّاءِ، وهي لُغَةُ بَهْراءَ، يَكْسِرُونَ التَّاءَ، فيقولونَ: تِعْلَمُونَ. ثمّ أَتْبَع الكافَ كسرةَ التّاءِ، ككَتَّبَهُ مُضَعَّفًا، وعن ابن سِيدَهْ: اكْتَتَبَه كَكَتَبَه، أَو كَتَّبَهُ: إِذا خَطَّهُ. واكْتَتَبَهُ: إِذا اسْتَمْلاهُ، كاسْتَكْتَبَهُ.
واكْتَتَبَ فلانٌ كِتَابًا: أَي سأَلَ أَنْ يُكْتَبَ له.
واسْتَكْتَبَهُ الشَّيْءَ: أَي سَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَه له. وفي التَّنْزِيلِ العَزِيز: {اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أَي: استَكْتَبَها.
والكِتَابُ: ما يُكْتَبُ فِيهِ، وفي الحديثِ: «مَنْ نَظَرَ إِلى كِتَابِ أَخيهِ بغَيرِ إِذْنِه، فكَأَنَّما يَنْظُرُ في النَّارِ». وهو محمولٌ على الكِتَابِ الذي فيه سِرٌّ وأَمانةٌ يَكرَهُ صاحِبُهُ أَنْ يُطَّلَعَ عليه. وقِيلَ: هو عامٌّ في كلِّ كِتاب. ويُؤَنَّثُ على نيّةِ الصَّحيفةِ. وحكى الأَصْمَعِيُّ عن أَبِي عَمْرِو بْن العَلَاءِ: أَنَّهُ سَمِعَ بعضَ العربِ يقولُ، وذَكَرَ إِنْسَانًا، فقال: فُلانٌ لَغُوبٌ، جاءَتْه كِتابي فاحْتَقَرَهَا. اللَّغُوبُ: الأَحْمَقُ.
والكِتَابُ: الدَّوَاةُ يُكْتَبُ منها.
والكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، قال الزَّجَّاجُ في قوله تعالَى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ}، وقَولُهُ {كِتابَ اللهِ}: جائزٌ أَنْ يكونَ التَّوْراةَ، وأَن يكونَ القُرآنَ.
والكِتَابُ: الصَّحِيفَةُ يُكْتَبُ فيها.
والكِتَابُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الفَرْضِ، قال اللهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ}، وقال، عَزّ وجَلَّ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} مَعْنَاهُ: فُرِضَ. قال: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها}، أَي: فَرَضْنا.
ومِنْ هذا: الكِتَابُ يأْتِي بمعنى الحُكْمِ، وفي الحديثِ: «لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابَ اللهِ» أَي: بحُكْمِ اللهِ الّذِي أَنزَلَ في كِتابه، وكَتَبَه على عِبَاده، ولم يُرِدِ القُرْآنَ؛ لأَنَّ النَّفْيَ والرَّجْمَ لا ذِكْرَ لهما فيه؛ قال الجَعْدِيُّ:
يا بِنتَ عَمِّي، كِتَابُ اللهِ أَخْرَجَنِي *** عَنْكُمْ، وهَلْ أَمْنَعَنَّ الله مَا فَعَلا
وفي حَدِيثِ بَرِيرَةَ: «من اشْتَرَطَ شَرْطًا ليس في كِتَابِ اللهِ»، أَي: ليس في حُكْمِهِ.
وفي الأَساس: ومِن المجاز: كُتِبَ عليه كذا: قُضِيَ.
وكِتَابُ اللهِ قَدَرُهُ، قال: وسَأَلَنِي بعضُ المَغَارِبةِ، ونحنُ بالطَّوافِ، عن القَدَر، فقلت: هو في السَّمَاءِ مَكتوبٌ، وفي الأَرْضِ مكسوبٌ.
ومن المَجَاز أَيضًا، عن اللِّحْيَانيّ الكُتْبَةُ، بالضَّمِّ: السَّيْرُ الّذِي يُخْزَرُ بِه المَزَادَةُ والقِرْبَة، وجَمْعُهَا كُتَبٌ. قال ذُو الرُّمَّةِ:
وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ، أَثْأَى خَوَارِزَهَا *** مُشَلْشَلٌ، ضَيَّعَتْهُ بَيْنَها الكُتَبُ
الوفْرَاءُ: الوافِرَةُ. والغَرْفِيَّةُ: المَدْبُوغة بالغَرْفِ، شَجرةٍ.
وأَثأَى: أَفسدَ. [و] الخَوَارِزُ: جَمْعُ خارِزَةٍ.
والكَتْب: الجَمْعُ تقولُ منه: كَتَبْتُ البَغْلَةَ. إِذا جَمَعْتَ بيْن شُفْرَيْها بحَلْقَة، أَو سَيْرٍ. وفي الأَساس: وكَذَا: كَتَبْتُ عليها، وبَغْلَةٌ مكتوبةٌ، ومكتوبٌ عليها.
والكُتْبَةُ: ما يُكْتَبُ به أَي: يُشَدّ حَياءُ البَغلةِ، أَو النَّاقَةِ، لَئِلا، يُنْزَى عليها والجَمْعُ كالجَمْعِ. وعن اللَّيْثِ: الكُتْبَةُ: الخُرْزَةُ المضمومةُ بالسَّيْرِ. وقال ابْنُ سِيدَهْ: هي الَّتِي ضَمَّ السَّيْرُ كِلَا وَجْهَيْهَا والكِتْبَةُ بالكسرِ: اكْتِتَابُكَ كِتَابًا تَنْسَخُهُ.
والكِتْبَةُ أَيضًا: الحالَةُ.
والكِتْبَةُ أَيضًا: الاكْتِتابُ في الفَرْضِ والرِّزْقِ.
وكَتَبَ السَّقاءَ والمَزَادَةَ والقِرْبَةَ، يَكْتُبُه، كَتْبًا: خَرَزَهُ بسَيْرَيْنِ، فهو كَتِيبٌ. وقيلَ هو أَن يَشُدَّ فَمَهُ حتَّى لا يَقْطُرَ منه شَيْءٌ، كَاكْتَتَبَهُ: إِذا شَدَّه بالوِكاءِ، فهو مُكْتَتبٌ. وعن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يقول: أَكْتَبْتُ فَمَ السِّقاءِ فلَمْ يَسْتَكْتِبْ. أَي: لَمْ يَسْتَوْكِ، لجفائِه وغِلَظِه. وقال اللِّحْيَانِيّ: اكْتُبْ قِرْبَتَك: اخْرُزْهَا. وأَكْتِبْهَا: أَوْكِها، يعني: شُدَّ رَأْسَها. وكَتَبَ النَّاقَةَ، يَكْتِبُهَا، ويَكْتُبُها بالكَسْرِ والضَّمّ، كَتْبًا، وكَتَبَ عليها: خَتَمَ حَيَاءَهَا وخَزَمَ عليه، أَو خَزَمَ بحَلْقَةٍ منْ حَدِيدٍ، ونَحْوِه كالصُّفْرِ، يَضُمّ شُفْرَيْ حَيائِها، لئلَّا يُنْزَى عليها. قال:
لا تَأْمننَّ فَزارِيًّا خَلَوْتَ بِهِ *** على بَعِيرِك واكْتُبْها بِأَسْيارِ
وذلِك لأَنَّ بَنِي فَزَارَةَ [كانوا] يُرْمَوْنَ بِغِشْيَانِ الإِبِل.
وكَتَبَ النَّاقَةَ، يكْتُبُهَا: ظَأَرَهَا، فَخَزَم مَنْخَرَيْهَا بِشَيْءٍ، لئلَّا تَشَمَّ البَوْلَ. هكذا في نُسْخَتِنَا، وهو خَطَأٌ، وصوابُهُ «البَوَّ» أَيْ: فلا تَرْأَمُهُ.
والكاتِبُ، عندَهُمُ: العَالِمُ، نقلَه الجَوْهَرِيُّ عن ابْنِ الأَعْرَابِيّ، قال الله تَعَالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} وفي كِتَابِهِ إِلى أَهْلِ اليَمَنِ «قد بَعَثْتُ إِلَيْكُم كاتِبًا من أَصحابِي» أَرَاد: عالِمًا، سُمِّيَ به لأَنَّ الغالِبَ على مَنْ كان يَعْرِفُ الكِتابةَ أَنَّ عندَهُ العِلمَ والمعرفة وكان الكاتب عندهم عَزيزًا وفيهم قليلًا.
والإِكْتابُ: تَعْلِيمُ الكِتَابِ، والكِتَابَةِ، كالتَّكْتِيبِ.
والمُكْتِبُ: المُعَلِّمُ، وقال اللِّحْيَانيّ: هو المكَتِّبُ الَّذِي يُعَلِّمُ الكِتَابَةَ. قال الحَسنُ: وكان الحَجَّاجُ مُكْتِبًا بالطّائِفِ، يعني مُعَلِّمًا، ومنه قيل: عُبَيْدٌ المُكْتِبُ، لأَنَّه كانَ مُعَلِّمًا.
ونصُّ الصَّاغانيِّ: كَتَّبْتُ الغُلامَ تَكْتِيبًا: إِذا عَلَّمتَهُ الكِتَابةَ، مثل اكْتَتَبْتُه: والإِكْتابُ: الإِمْلاءُ، تَقُولُ: أَكْتِبْني هذهِ القصيدةَ، أَي: أَمْلِها عليَّ.
والإِكْتابُ: شَدُّ رَأْسِ القِرْبَةِ يقَال: أَكْتَبَ سِقَاءَهُ إِذا أَوْكأهُ، وهو مَجَاز، وقد تقدَّمَ.
ورَجُلٌ كاتِبٌ، والكُتَّابُ كرُمَّانٍ: الكاتِبُون، وهم الكَتَبَةُ، وحرْفَتُهُم: الكِتَابَةُ، قاله ابْنُ الأَعْرَابيّ.
ويقال: سَلَّمَ وَلَدَهُ إِلى المَكْتَبِ كَمقعَدٍ، أَي: مَوْضِعُ الكِتَابِ والتَّعْلِيمِ أَي: تعليمهِ الكِتَابة.
والمُكْتِبُ: المُعَلِّمُ، والكُتَّابُ: الصِّبيان، قاله المُبَرِّدُ.
وقَوْلُ اللَّيْثِ، وتَبِعَهُ الجَوْهَرِيّ: إِنّ الكُتَّابَ بوزن رُمَّان، والمَكْتَبَ كمَقْعَدٍ، واحِدٌ، وهما مَوضعُ تعليمِ الكِتابِ، غَلَطٌ: وهو قولُ المُبَرِّدِ، لأَنّه قال: ومَن جعَلَ الموضِعَ الكُتّابَ، فقد أَخْطَأَ. وفي الأَساس: وقيل الكُتَّابُ: الصِّبْيانُ، لا المَكَانُ. ونقل شيخُنا عن الشِّهابِ في شرح الشِّفاءِ أَنَّ الكُتَّابَ للمَكْتَبِ وارِدٌ في كلامِهم كما في الأَساس وغيرِهِ، ولا عِبرة بمن قالَ إِنه مُوَلَّدٌ. وفي العِنَايَة: أَنَّه أَثْبَته الجوهريّ، واستفاضَ استعمالُه بهذا المعنى، كقوله:
وأَتَى بكُتَّابٍ لَو انْبَسَطَتْ يَدِي *** فيهِمْ رَدَدْتُهُمُ إِلى الكُتَّابِ
وأَوّلُهُ:
تَبًّا لِدَهْرٍ قد أَتَى بِعُجابِ *** ومَحَا فُنونَ العِلْمِ والآداب
والأَبيات في تاريخ ابْنِ خِلِّكان. وأَصلُه جمع كاتِبٍ، مثل كَتَبَة، فأَطْلِقَ على مَحَلِّه مَجَازًا للمجاورة، وليس موضوعًا ابتداءً كما قال. وقال الأَزْهَرِيُّ، عن اللَّيْثِ: إِنّه لُغَةٌ. وفي الكَشْف: الاعتمادُ على قول الليث، ونَقَلَهُ الصّاغانيّ أَيضًا، وسَلَّمَه؛ ونقلَه ابْنُ حَجَرٍ في شرح المِنْهَاجِ عن الإِمامِ الشّافِعيّ، وصَحَّحَهُ البَيْهَقِيُّ وغيرُهُ، ووافقه الجماهيرُ، كصاحب التَّهْذِيب والمُغْرِبِ والعُبَابِ. انتهى الحاصِلُ من عبارته. ولكنّ عَزْوَهُ إِلى الأَساس ولسان العرب وغيرِهِما، مَحَلُّ نَظَرٍ، فإِنّهما نَقَلا عِبَارَةَ المُبَرِّدِ، ولم يُرَجِّحَا قَولَ اللَّيْثِ، حتى يُسْتَدَلّ بمرجوحيّة قولِ المُبَرِّدِ، كما لا يَخْفَى.
ج* كتَاتِيبُ، ومَكَاتِيبُ. وهذا من تَتِمَّة عِبارة الجَوْهَرِيّ، فالأَوّل جَمْعُ كُتّابٍ، والثّاني جَمْعُ مَكْتَبٍ. وقد أَخلّ المُصَنِّفُ بذكر الثّاني، وذَكَرَه غيرُ واحدٍ، قال شيخنا: وفي عبارة المُصَنِّفِ قَلَقٌ.
قلت: وذلك لأَنّ كتاتَيبَ إِنّمَا هو جَمْعُ كُتَّابٍ، على رأْي الجَوْهَرِيّ واللَّيْثِ، وهو قد جعله خطأً، فما معنى ذِكْرِه فيما بَعْدُ؟ نَعَم، لو قَدَّمَ ذِكْرَهُ قبل قوله «خطأ»، لَسَلِمَ من ذلك، فتأَمّلْ.
والكُتَّابُ: سَهْمٌ صَغِيرٌ، مُدَوَّرُ الرَّأْسِ، يَتَعَلَّمُ بهِ الصَّبِيُّ الرَّمْيَ وبالثاءِ أَيضًا، والثّاءُ المُثَلَّثة في هذا الحرفِ أَعلَى من التّاءِ الفَوْقِيْة، كما سيأْتي. وفي عبارةِ شيخِنا هنا قَلقٌ عجيبٌ.
والكُتّابُ أَيضًا: جَمْعُ كاتِبٍ، مثل كَتَبة، وقد تقدّمتِ الإِشارة إِليه.
واكْتَتَبَ الرَّجُلُ: إِذا كَتَبَ نَفْسَهُ في دِيوانِ السُّلْطَانِ، وفي الحَدِيثِ «قالَ له رَجُلٌ: إِنّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حاجَّةً، وإِنِّي اكْتَتَبْتُ في غَزْوَةِ كذا وكذا»، أَي: كَتَبْتُ اسْمِي في جُمْلَةِ الغُزَاةِ. وفي حديث ابْنِ عُمَرَ: «من اكْتَتَبَ زَمِنًا، بَعَثَهُ اللهُ زَمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ».
ومن المجاز: اكْتَتَبَ هو: أُسِرَ. واكْتَتَبَ بَطْنُهُ: حُصِرَ، وأَمْسَكَ، فهو مُكْتَتِبٌ ومُكْتَتَبٌ عليه ومكتوبٌ عليه نَقله الصاغانيُّ.
والمُكْتَوْتِبُ: المُنْتَفِخُ المُمْتَلِئُ ممّا كان: نقله الصّاغانيّ.
ومن المجازِ: كَتَّبَ الكَتِيبَةَ جَمَعَهَا، وهي الجَيْشُ.
وَتَكَتَّبَ الجَيْشُ: تَجمَّعَ.
وكَتَّبَ الجَيْشَ: جَعَلَهُ كَتائِبَ.
أَو هِي الجَمَاعَةُ المُسْتَحِيزَةُ مِن الخَيْلِ، أَوْ هي جَمَاعَةُ الخَيْلِ إِذَا أَغارَتْ على العَدُوِّ، من المِائَةِ إِلَى الأَلْفِ.
وكَتَّبَها تَكْتِيبًا، وكَتَبَها: هَيَأَهَا، قال ساعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّةَ:
لا يُكْتَبُونَ ولا يُكَتُّ عَدِيدهُم *** حَفَلَتْ بِساحَتِهِمْ كَتَائِبُ أَوْعَبُوا
أَي: لا يُهَيَّؤُونَ.
وتَكَتَّبُوا: تَجَمَّعُوا، ومنه: تَكَتَّبَ الرَّجُلُ: تَحَزَّمَ، وجَمَعَ عليه ثِيَابَه. وهو مجاز.
وبَنُو كَتْبٍ، بالفَتْح: بَطْنَ من العرب.
والمُكَتَّبُ، كمُعَظَّم: العُنْقُودُ من العِنَبِ ونحوِهِ، أُكِلَ بعضُ ما فِيهِ وتُرِكَ بعضُهُ.
والمُكَاتَبَةُ بمعنى التَّكاتُب، يُقَال: كاتَبَ صدِيقَهُ، وتَكاتَبا.
ومن المجاز المُكَاتَبَة، وهو أَنْ يُكَاتِبَكَ عَبْدُكَ على نَفْسِه بثَمَنِه. فإِذا سَعَى. وأَدَّاهُ، عَتَقَ. وهي لَفْظَةٌ إِسْلاميّة، صرّح به الدَّمِيرِيّ. والسَّيِّدُ مُكَاتِبٌ، والعَبْدُ مُكَاتَبٌ إِذا عقَدَ عليه ما فارَقَه عليه من أَداءِ المالِ سُمِّيَتْ مُكَاتَبَةً، لِمَا يَكْتُبُ العَبْدُ على السَّيِّد من العِتْقِ إِذا أَدَّى ما فُورِقَ عليه، ولِمَا يَكْتُبُ السَّيِّدُ على العَبْدِ من النُّجُومِ الَّتي يُؤَدِّيهَا في مَحلِّها، وأَنَّ له تَعجيزَهُ إِذا عَجَزَ عن أَداءِ نَجْم يَحِلُّ عليه. وأَحكامُ المُكَاتَبَة، مُصَرَّحَةٌ في فُروع الفِقْه.
* ومِمّا لم يذكُرْهُ المُؤَلِّفُ: الكُتَيْبَةُ، مصغَّرةً، اسمٌ لبعضِ قُرَى خَيْبَرَ. ومنهحديثُ الزُّهْرِيِّ: «الكُتَيْبَةُ أَكثرُهَا عَنْوَةٌ» يعني: أَنّه فَتَحَهَا قَهْرًا، لا عن صُلْحٍ.
والمَكْتَبُ: من قُرَى ابْنِ جِبْلَةَ في اليَمَن، نقلْتُهُ عن المُعْجَم.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
42-تاج العروس (نعب)
[نعب]: نَعب الغُرَابُ وغَيْرُهُ، كمنَع وضَرَب، يَنْعَبُ، وينْعِبُ، نَعْبًا بالفتح، ونَعِيبًا كأَمِيرٍ، ونُعَابًا بالضَّمّ، ولم يذكُرْهُ الجَوْهريُّ، وتَنْعابًا بالفَتْح، ومثلُهُ في الصَّحاح، وضَبَطَهُ شيخُنا كَتَذْكارٍ، ونَعَبَانًا محرّكةً: إِذا صاح، وصوَّت، وهو صوْتهُ، أَو: مدَّ عُنُقَه وحرَّكَ رأْسه في صِياحِه.والنَّعَّابُ: فَرْخُ الْغُرابِ، ومنهدُعاءُ داوُود، عليهالسلام: «يا رازِقَ النَّعّابِ في عُشِّه» انظره في حياة الحيوانِ.
ونقل شيخُنا عن كِفاية المتحفّظ أَنّ نَعيبَ الغُراب بالخَيْر، ونَغِيقَهُ بالشَّرِّ. وفي المِصْبَاح: نَعَبَ الغُرَابُ: صاحَ بالبَيْنِ، على زَعْمِهم، وهو الفِراق. وقيل: النَّعِيبُ: تَحريكُ رأْسه بلا صَوتٍ. قال شيخنا: فعلى هذا يكونُ قولًا آخَرَ.
وفي الصَّحاح: ورُبَّمَا قالوا: نَعَبَ الدِّيكُ، على الاستعارة؛ وقال الأَسْوَدُ بْنُ يعْفُرَ:
وقَهْوَةٍ صَهْبَاءَ باكَرْتُها *** بِجُهْمَةٍ والدِّيكُ لَمْ يَنْعَبِ
زاد في لسان العرب: وكذا لِك: نَعب المُؤَذِّنُ وهذا يدُلُّ على أَنَّ المُؤَذِّنَ هو المعروف، لا الدِّيكُ، فيلزمُ عليه ما قاله شيخُنا إِنّ قوله أَوّلًا «وغيرُهُ» يَشمَلُ كُلَّ ناعبٍ فيدخُلُ فيه المُؤذِّنُ. ويرِدُ عليه أَنَّ تَخصيصه بالمُؤَذِّن، خلَتْ عنه دَواوينُ اللّغَةِ والغريبِ، وكيف يكون ذلك، وهو في لسان العرب، كما أَسلفنا؟ والعجبُ أَنّه نقل عبارتَهُ في نَعب الدِّيكُ، وغفل عن الّذِي بعدهَا.
وفي الأَسَاس: ومن المجاز: نَعَبَ المُؤَذِّنُ: مَدَّ عُنُقَهُ، وحرَّك رأْسَهُ في صِياحه.
والمِنْعبُ، كمِنْبرٍ: الفَرسُ الجوادُ الّذِي يمُدُّ عُنُقَه كالغُرابِ؛ أَي كما يفعلُ الغُرابُ.
وقيل: المِنْعَبُ: الَّذِي يَسْطُو بِرَأْسِهِ، ولا يكونُ في حُضْرِهِ مَزِيدٌ. والمِنْعَبُ: الأَحْمَقُ المُصوِّتُ قال امْرُؤُ القَيْسِ:
فلِلسّاقِ أُلْهُوبٌ ولِلسَّوْطِ دِرَّةٌ *** وللزَّجْرِ مِنْهُ وَقْعُ أَهْوَجَ مِنْعَبِ
ومن المجاز: النَّعْبُ سُرعةُ سَيْرِ البعيرِ. وفي الصَّحاح: النَّعْبُ: السَّيْرُ السَّريعُ، أَو هو ضَرْبٌ من سيْرِهِ.
وقيل: النَّعْبُ: أَنْ يحرِّكَ البعيرُ رأْسَهُ إِذا أَسرعَ، وهو من سيرِ البَخَاتيةِ، يرفَعُ رأْسهُ. وعبارةُ الأَساس: يمُدْ عُنُقَه، فينْعبُ نَعَبَانًا. وقد نَعَب البعيرُ كَمَنَع، يَنْعَبُ، نَعْبًا. وقيل: من السُّرْعة، كالنَّحْب.
ونَاقَةٌ نَاعِبةٌ، ونَعُوبٌ، ونَعَّابةٌ، وعلى الأَخيرَيْنِ اقتصر الجَوْهَرِيُّ، ومِنْعَبٌ كَمِنْبَرٍ، كَذَا هو مضبوطٌ في النُّسخ الصَّحيحة، وفي لسان العرب: بزيادة [هاءٍ] في آخره، وضبطه شيخُنا كَمُحْسِنٍ، من: أَنْعَبَ الرُّباعيّ، فَلْيُنْظَرْ، أَي: سَرِيعَةٌ. والجمع: أَي: جمعُ نَعُوبٍ: نُعُبٌ بضمَّتينِ، كما هو مضبوطٌ في نسخة الصَّحاح. وأَمّا ناعبٌ وناعِبةٌ، فتُجْمَعُ على: نَوَاعِبَ، ونُعَّبٍ كرُكَّعٍ. زادَ في الصِّحاح: ويقال: إِنَّ النَّعْبَ تَحَرُّكُ رَأْسِها، في المَشْيِ، إِلى قُدّام.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه: النَّعّابُ: الغُرَاب. وفي دُعَاءِ داوُودَ، عليه الصَّلاة والسَّلامُ: «يا رازِقَ النَّعّابِ في عُشِّه».
قيل: إِنَّ فَرْخَ الغُرَاب إِذا خَرجَ من بَيضه، يكونُ أَبْيضَ كالشَّحْمة، فإِذا رآه الغُرَابُ، أَنكَرَه وتَرَكه، ولم يزُقَّهُ، فيَسوقُ اللهُ إِليه البقَّ، فيَقعُ عليه، لِزُهُومَةِ رِيحِه، فيلْقُطُهَا، ويَعيشُ بها إِلى أَنْ يطْلُعَ الرِّيشُ ويسْوَدَّ، فيعاوِدُه أَبوهُ وأُمّهُ. كذا في لسان العرب.
وأَنْعب الرَّجُلُ: إِذا نَعَبَ في الفتنِ.
والنَّعِيبُ أَيضًا: صوتُ الفَرَس.
ويُقَالُ: رِيحٌ نَعْبٌ: إِذا كانتْ سَرِيعةَ المَمرِّ؛ أَنشد ابْنُ الأَعْرَابِيِّ:
أَحْدَرْنَ واسْتوَى بِهِنَّ السَّهْبُ *** وعَارضَتْهُنَّ جَنُوبٌ نَعْبُ
ولم يفسّر هو النَّعْبَ، وإِنّمَا فسّرَه غيرُه: إِمّا ثعلبٌ، وإِمّا أَحَدُ أَصحابِهِ.
وبنُو ناعِبِ: حَيٌّ من العرب، قاله ابْنُ دُريْدٍ. وبَنُو نَاعِبَةَ، بزيادة الهاءِ بَطْنٌ مِنْهُمْ. وفي التَّكْملة: بُطَيْنٌ منهم، عن ابْن دُرَيْدٍ أَيضًا، أَي: من بني ناعبٍ.
وناعِبٌ: موضع في شعرٍ، واخْتُلِفَ فيه، قاله الحازِميّ، كذا في المُعْجَم.
وذُو نَعْبٍ: من أَذْواءِ حِمْيَرَ من بني أَلْهان بْنِ مالِكٍ أَخي همْدانَ بْنِ مالِكٍ.
ويَنْعَبُ: موضعٌ بأَرضِ مَهْرَةَ، من أَقاصي اليمَن، له ذكر في الرِّدَّة.
وقال ابْنُ الأَعرابيّ: أَنْعَبَ الرَّجُلُ، إِنْعابًا: إِذَا نَعرَ في الفِتَن.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
43-تاج العروس (وقب)
[وقب]: الوَقْبُ في الجَبَل: نُقْرَةٌ يَجتمعُ فيها الماءُ، ونَقْرٌ في الصَّخْرَةِ يَجْتَمعُ فيها الماءُ كالوَقْبَةِ، بزيادة الهاءِ، والجمع أَوْقابٌ أَو الوَقْبَةُ: نَحْوُ البِئرِ في الصَّفَاء، تكونُ قامةً، أَو قامَتَيْنِ يسْتَنْقِعُ فيها ماءُ السّمَاءِ.والوَقْبُ: كُلَّ نَقْرٍ في الجَسَد، كنَقْر العَيْنِ والكَتِفِ. ووَقْبُ العَيْنِ: نُقْرَتُها، تقولُ: وَقَبَتْ عَيْنَاهُ: غارَتَا. وفي حديث جَيْشِ الخبَطِ «فاغْتَرَفْنا من وَقْبِ عَيْنِهِ بالقِلالِ الدُّهْنَ».
والوَقْبَانِ مِنَ الفَرَسِ: هَزْمَتَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ.
والجمعُ من كلّ ذلك وُقُوبٌ، ووِقَابٌ.
والوَقْبُ من المَحَالَةِ: ثَقْبٌ يَدْخُلُ فيه المِحْوَرُ.
والوَقْبُ: الغَيْبَةُ، كالوُقُوبِ بالضَّمّ، وهو الدُّخُول في كلِّ شيْءٍ. وقيلَ: كُلُّ ما غابَ، فقد وَقَبَ وَقْبًا: ومنه وَقَبَتِ الشَّمْسُ، على ما يأْتي.
والوَقْبُ: الرَّجُلُ الأَحْمَقُ، مِثْلُ الوَغْبِ، قال الأَسودُ بْنُ يَعْفُرَ:
أَبَنِي نُجَيْحٍ إِنَّ أُمَّكُمُ *** أَمَةٌ وإِنَّ أَباكُمُ وَقْبُ
أَكَلَتْ خَبِيثَ الزّادِ فاتَّخَمَتْ *** عنه وشَمَّ خِمَارَهَا الكَلْبُ
ورجل وَقْبٌ: أَحمَقُ. والجمع أَوْقَابٌ. والأُنْثى وَقْبَةٌ.
وقال ثَعْلب: الوَقْبُ: النَّذْلُ الدَّنِيءُ من قولك: وَقَبَ في الشيءِ: دَخَلَ، فكأَنَّه يَدخُلُ في الدَّناءَة، وهذا من الاشتقاقِ البعيد. كذا في لسان العرب.
والوَقْبُ: الدُّخُولُ في الوَقْبِ. وقَبَ الشَّيْءُ، يَقِبُ، وَقْبًا: أَي دَخلَ. هكذا في الصَّحاح، ورأَيت في هامِش: صوابُه وُقُوبًا؛ لأَنّهُ لازِمٌ. وقيل: وَقَبَ: دَخَل في الوَقْبِ.
والوَقْبُ: المَجِيءُ والإِقْبالُ، ومنهحديثُ عائشةَ، رضي الله عنها: «تَعَوَّذِي باللهِ من هذا الغاسِقِ {إِذا وَقَبَ} » أَي: الليلِ إِذا دَخَلَ وأَقبل بظلَامه.
والوَقْبَةُ: الكُوَّةُ العَظِيمةُ فيها ظِلٌّ، والجمعُ: الأَوْقَابُ، وهي الكُوَى.
والوَقْبَةُ مِنَ الثَّرِيدِ والدُّهْنِ، هكذا في نسختنا، بضم الدّال المهملة، والصَّواب: والمُدْهُن، بالميم والدّال: أُنْقُوعَتُهُمَا، بالضَّمّ. قال اللَّيْثُ: الوَقْبُ: كُلُّ قَلْتٍ أَو حُفْرَةٍ كَقَلْت في فِهْرٍ، وكَوَقْبِ المُدْهُنَةِ، وأَنشد:
فِي وقْبِ حَوْصاءَ كَوَقْبِ المُدْهُنِ
ووقَبَ الظَّلامُ: أَقْبَلَ، ودَخَلَ على النّاس، وبه فُسِّرتِ الآيةُ. وروى الجوهريُّ ذلك عن الحَسن البصْرِيّ.
ووَقَبَتِ الشَّمْسُ، تَقِبُ، وَقْبًا، ووُقُوبًا: غابَتْ. زاد في الصَّحاح: ودخَلَت مَوضِعهَا. قال ابنُ منظور: وفيه تَجَوُّزٌ [فإنها لا موضع لها تدخُلُه]. وفي الحديث: «لَمَّا رَأَى الشَّمْسَ قد وَقَبَتْ قال: هذا حِينُ حِلِّها»، أَي: الوقت الّذِي يَحِلُّ فيه أَدَاؤُهَا، يعني صلاةَ المَغْرِب. والوُقُوبُ: الدُّخُولُ في كُلّ شيْءٍ، وقد تقدّم.
ووَقَبَ القَمَرُ، وُقُوبًا: دَخَلَ في الظِّلِّ الصَّنَوْبَرِيّ الّذِي يَعتَرِي منه الكُسُوفُ. ومِنْهُ عَلَى مَا يُؤخَذُ من حديثِ عائشَةَ، رضي اللهُ تعالى عنها، كما يأْتي ـ قولُهُ عَزَّ وجَلَّ {وَمِنْ شَرِّ} غاسِقٍ إِذا وَقَبَ رُوِيَ عنها أَنَّها قالَت: «قال رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، لَمّا طَلَعَ القَمرُ: هذا الغاسِقُ {إِذا وَقَبَ}، فتَعَوَّذِي باللهِ من شَرِّه».
أَو مَعْنَاه: أَيْرٍ بالخَفْضِ أَي الذَّكَرِ إِذا قامَ. حكاهُ الإِمامُ أَبو حامِدٍ الغَزاليّ، وغيرُهُ كالنَّقّاش في تفسيره، وجماعةٌ عن الإِمام الحَبْر عبدِ الله بْنِ عبّاسٍ، رضي الله عنهما. وهذا من غرائِب التَّفْسِير. وسيأتي للمُصَنِّف في غ س ق أَيضًا فيتحصّلُ مِمّا يُفْهَمُ من عبارته، مِمّا يُنَاسِب تفسيرَ الآية ـ أَقوالٌ خمسة: أَوّلُها: الليلُ إِذا أَظلَمَ، وهو قول الأَكْثَرِ، قال الفَرّاءُ: اللَّيْلُ إِذا دَخلَ في كلِّ شيْءٍ وأَظلمَ؛ ومثله قولُ عائشةَ. والثّاني: القمرُ إِذا غَابَ، وهو المفهوم من حديث عائشةَ الّذِي أَخرجه النَّسائيُّ وغيرُهُ.
والثالث: الشَّمْس إِذا غَرَبَت. والرّابعُ: أَنّهُ النّهَارُ إِذا دَخَل في اللَّيْلِ، وهو قريبٌ ممّا قبلَهُ. الخامس: الذَّكَرُ إِذا قامَ.
* ويُسْتَدْرَكُ عليه: الثُّرَيّا إِذا سَقطتْ، لِأَنَّ الأَمْرَاضَ والطَّوَاعِينَ تَهِيجُ فيه. ووردَ في الحديث: أَنَّ الغاسِقَ: النَّجْمُ، وإِذَا أُطْلِقَ فهو الثُّرَيّا.
قاله السُّهَيْليُّ وشيخُه ابْنُ العربيّ.
والغاسقُ: الأَسودُ من الحَيّات. وَقْبُهُ: ضَرْبُه، ويَنْقُلُون في ذلك حكايةً سَمِعْتُهَا عن غيرِ واحدٍ. وقيل: وَقْبُهُ: انْقِلابُهُ، وقيلَ: الغاسقُ: إِبْليسُ، ووَقْبُهُ: وَسْوَسَتُهُ.
قاله السُّهيْليّ، ونقله العلّامة ابنُ جُزَيٍّ وغيرُه. قالَه شيخُنا.
وأَوْقَب الرَّجُلُ: جاعَ. وعبارةُ الصَّحاح: أَوْقَبَ القومُ: جاعُوا.
وأَوْقَبَ الشَّيْءَ إِيقابًا: أَدْخَلَهُ في الوَقْبَةِ، قاله الفَرّاءُ.
وفي بعض النُّسَخ من الأُمَّهاتِ: في الوَقْب: والميقَبُ: الوَدَعَةُ، محرّكَة، نقلَه الصّاغانيُّ.
والوُقْبِيُّ، كَكُرْدِيٍّ، وفي نسخة: بالضَّمّ، بدل قوله ككُرْدِيٍّ، وقَيَّدهُ الصّاغانيُّ بالفتح: المُولَعُ بصُحْبَةِ الأَوْقَابِ، وهم الحَمْقَى. وفي كلام الأَحنف بن قيس لبني تَمِيم، وهو يُوصِيهم: تَبَاذَلُوا تَحَابُّوا، وإِيّاكم وحَمِيَّةَ الأَوْقابِ. أَي الحَمْقَى، حكاه أَبو عمرٍو. وفي الأَساس: وتقولُ العَرَبُ: تَعَوَّذُوا بالله من حَمِيَّةِ الأَوقابِ واللِّئامِ.
والميقابُ: الرَّجُلُ الكَثِيرُ الشُّرْبِ لِلماءِ كذا فِي التكملة. وفي لسان العرب: للنّبِيذِ.
والمِيقَابُ: الامرأَةُ الحَمْقاءُ، أَو هي المُحْمِقةُ، نقله الصّاغَانيُّ وقيل: هي الوَاسِعةُ* الفَرْجِ.
وقال مُبْتَكِرٌ الأَعْرَابِيّ: إِنّهم يَسيرُون سَيْرَ المِيقَابِ.
هو أَنْ تُوَاصِلَ بَيْنَ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ.
وبَنُو المِيقَابِ: نُسِبُوا إِلى أُمّهم، يُرِيدُون به السَّبَّ والوُقُوعَ.
والقِبَةُ، كعِدَةٍ: الّتي تكونُ في البَطن شِبْهَ الفِحْثِ.
والقِبَةُ: الإِنْفَحَةُ إِذا عَظُمَتْ من الشّاةِ، وقال ابنُ الأَعْرَابيّ: لا يكونُ ذلك في غير الشّاءِ، وقد تقدّم في ق ب ب.
والوَقِيبُ: صَوتٌ يُسمَعُ من قُنْب الفَرَسِ، وهو وِعاءُ قَضِيبِه. وَقَبَ الفَرَسُ، يَقِب، وَقْبًا، وَوَقِيبًا. وقيلَ: هو صوتُ تَقَلْقُلِ جُرْدانِ الفَرَسِ في قُنْبِه، وهو الخَضِيعَة أَيضًا ولا فِعْلَ لشَيْءٍ من أَصوات قُنْبِ الدّابَّةِ إِلّا هذا، وسيأْتي المَزِيدُ عَلى ذلك في خ ض ع.
والأَوْقابُ: قُماشُ البَيْتِ وَمتاعُهُ، مثلُ: البُرْمَةِ، والرَّحَيَيْنِ، والعُمُدِ، كالأَوْغاب.
والوَقْباءُ، بفتح فسكون ممدودًا: موضع، رواه العِمْرَانيُّ.
وهو غيرُ الّذِي يأْتي فيما بَعْدُ. كذا في المُعْجَم، ويُقْصَرُ، قال ابْنُ منظور: والمَدُّ أَعرَفُ. وفي كتابِ نصْرٍ: الوَقْباءُ: ماءَةٌ قَريبةٌ من اليَنْسُوعَةِ، في مَهَبِّ الشَّمَال منها، عن يمين المُصْعِد. وسيأْتي بيانُ اليَنْسُوعة في محلّه.
والوَقَبَى محرَّكة، كجَمَزَى وبَشَكَى، قال السَّكُونيّ: ماءٌ لِبَنِي مالكِ بْنِ مازِنِ بْنِ مالكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، لهم به حِصْنٌ، وكانتْ لهم به وقائعُ مشهورَةٌ. وفي المَرَاصد: لبني مالِك؛ أَي وهو ابنُ مازِنٍ، وأَنشد الجوهَريُّ لأَبي الغُولِ الطُّهَوِيّ، إِسلاميّ:
هُمُ مَنَعُوا حِمَى الوَقبَى بِضَرْبٍ *** يُؤَلِّفُ بينَ أَشْتاتِ المَنُونِ
ووجدتُ، في هامشه، ما نصّه بخطّ أَبي سَهلٍ: هكذا في الأَصل بخطّ الجوهريّ، مُسَكَّنُ القاف، والّذي أَحفظُه: الوَقَبَى، بفتحها. ووُجدَ بخطّ أَبي زكريّا: في الأَصل ساكنةُ القاف، وقد كتب عليها حاشية: هذا في كتابه، والصّوابُ بفتح القَافِ. وأَشارَ إِليه ابْنُ بَرِّيّ أَيضًا في حاشيته، وأَنشد في المُعْجَم:
يا وَقَبَى كَمْ فِيكَ مِنْ قَتِيلِ *** قد مَاتَ أَوْ ذِي رَمَقٍ قَلِيلِ
وهي على طريق المدينة من البَصْرة، يَخرُجُ منها إِلى مياهٍ يُقَال لها: القَيْصُومَةُ، وقُنَّةُ، وحَوْمَانَةُ الدَّرَّاجِ. قال: والوَقَبَى من الضَّجُوع على ثلاثةِ أَميال؛ والضَّجُوعُ من السَّلْمان على ثلاثةِ أَميال، وكان للعرب بها أَيّامٌ بين مازِنٍ وَبَكْرٍ. انتهى.
وذَكَرٌ أَوْقَبُ: وَلّاجٌ في الهَنَاتِ، نقله الصّاغانيُّ. وهو مأْخُوذٌ من تفسير القول الّذِي نُقِلَ عن النَّقَّاش.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ: رَكِيَّةٌ وَقْبَاءُ: غَائِرَةُ الماءِ، عن ابْنِ دُرَيْد.
ووَقْبَانُ، كسَحْبانَ: مَوضعٌ، قال ياقوت: لَمّا كان يوم شِعْبِ جَبَلَةَ، ودخَلَت بنو عامر ومَنْ معها الجَبَلَ، كانَت كَبْشَةُ بنتُ عُرْوَةَ الرَّحّالِ بنِ جعفرِ بْنِ كلابٍ يومئذ حاملًا بعامرِ بن الطُّفَيْل، فقالت: وَيْلَكُم، يا بني عامر، ارْفَعُوني.
واللهِ إِنَّ في بَطْني لَمُعِزّ بني عامرٍ. فصَفُّوا القِسيَّ على عَوَاتِقِهِم، ثم حَمَلُوهَا حتى بَوَّؤُوهَا القُنَّةَ، قُنَّةَ وَقْبَانَ، فزعَموا أَنّها وَلَدَتْ عامرًا يوم فَرَغَ النّاسُ من القِتال.
وفي تهذيب الأَبنية، لِابنِ القَطَّاع: وَأَوْقَبَ النَّخْلُ: عَفِنَتْ شَمارِيخُه.
وَوَقَبَ الرَّجُلُ: غارَتْ عَيْنَاهُ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
44-تاج العروس (بلت)
[بلت]: بَلَتَهُ، يَبْلِتُهُ، بَلْتًا: قَطَعَهُ. وبَلِتَ، كَفَرِحَ ونَصَرَ: انْقَطَعَ، كانْبَلَتَ. قال ابنُ منظور: زَعَمَ أَهلُ اللَّغَة أَنَّ بَلَتَهُ، مقلوبٌ عن: بَتَلَهُ، قال: وليس كذلك، لوجود المَصْدَر، وأَنشد في الصَّحاحِ لِلشَّنْفَرى:كَأَنّ لها في الأَرْضِ نِسْيًا تَقُصّهُ *** على أُمِّها وإِنْ تُخَاطِبْكَ تَبْلَتِ
أي: تَنْقَطِع حَياءً. ومن رواه، بالكسر، يعني: تَقْطَع وتَفْصِل ولا تُطَوِّل. وانْبَلَتَ الرَّجُلُ: انْقَطَعَ في كُلِّ خيرٍ وشَرٍّ.
وَبَلَتَ الرَّجُلُ يَبْلُت، وبَلِتَ، بالكسر، وأَبْلَتَ: انْقَطَع من الكلام، فلم يتكلم. وبَلِتَ يَبْلَتُ: إِذا لم يَتَحَرَّكْ، وسَكَت.
وقيل: بَلَتَ الحياءُ الكلامَ: إذا قَطعَه. والبِلِّيتُ، كسِكِّيتِ لَفْظًا ومَعْنًى وهو الزِّمِّيتُ، عن أَبي عَمْرٍو.
والبِلِّيتُ: الرَّجُلُ الفصيحُ الّذِي يَبْلِتُ النّاسَ، أَي: يَقْطَعُهم. وقيل: البِلِّيتُ من الرِّجال: البَيِّنُ العاقِلُ اللَّبِيبُ الأريبُ، عن أَبي عَمْرٍو أَيضًا، وأَنشد:
أَلا أَرَى ذا الضَّعْفَةِ الهَبِيتَا *** المُسْتَطَارَ قَلْبُهُ المَسْحُوتَا
يشَاهِلُ العَمَيْثَلَ البِلِّيتَا
الصَّمَكِيكَ الهَشِمَ الزّمِّيتَا
وعَبَّر ابنُ الأَعْرَابِيّ عنه بأَنه التّامُّ، وأَنشد:
وصاحِبٍ صاحَبْتُهُ زَمِيتِ *** مُيَمِّنٍ في قَوْلِهِ بِلِّيتِ
لَيْسَ على الزّادِ بِمُسْتَمِيتِ
قال: وكأنه ضِدُّ، وإِن كان الضِّدّانِ في التَّصريف. وقَدْ بَلُتَ كَكَرُمَ: إِذا فَصُحَ.
وعن أَبي عَمْرٍو: يقالُ: أَبْلَتَهُ يَمِينًا: إذا حَلَّفَهُ، وبَلَتَ هو. والبُلَتُ، كصُرَدٍ: طائرٌ، سيأتي في كلام المصنّف فيما بعدُ مُكَرَّرًا.
ومَبْلَت، كمَقْعَد: موضع، والّذي في الجَمْهَرَة: مَبْلَث، آخره ثاءٌ مثلّثة، فليُنْظَرْ.
والمُبَلَّتُ، كمُعظَّمٍ، المُحَسَّنُ من الكلام كالمُسَرَّج، عن الكِسَائيّ.
والمُبَلَّتُ، أَيضًا: المَهْرُ المَضْمُونُ، بلغةِ حِمْيَرَ، قال: وما زُوِّجَتْ إِلّا بمَهْرٍ مُبَلَّتٍ أَي مضمون. هكذا أَنشده الجوهريّ، وهو للطّرِماح، والرِّوايةُ:
وما ابْتَلَتِ الأَقوامُ لَيْلَةَ حُرَّةٍ *** لَنَا عَنْوَةً إِلّا بِمَهْرٍ مُبَلَّتٍ
وبَلْتَيْتُهُ بَلْتَاتًا كَقَلْسَيْتُهُ قَلْساءً: قَطَعْتُهُ. وبَلْتٌ، بفتح فسكون: اسْمٌ.
وفي حديث سليمانَ، على نبيّنا وعليه الصّلاة والسَّلام: «احْشُروا الطَّيْرَ، إلّا الشَّنْقَاءَ، والرَّنْقَاءَ، والبُلَتَ» قال ابنُ الأثير: الشَّنْقَاءُ: الّتي تَزُقُّ فِراخَهَا. والرَّنْقَاءُ: القاعدةُ على البَيْضِ والبُلَتُ، كَصُرَدٍ: طائرٌ مُحْتَرِقُ الرِّيشِ، إِنْ وَقَعَتْ رِيشَةٌ منه في الطَّيْرِ أَحْرَقَتْهُ. هكذا نصُّ عبارته.
* وممّا يتعلّق به: البَلَتُ، مُحَرَّكَةً: الانقطاع. ورَجُلٌ بَلْتٌ، كزَيْدٍ: عَدْلٌ.
وبَلَّتَ الكَلَام: فصَّله تفصيلًا. وتَبًّا له بَلْتًا: أَي قَطْعًا، أَرادَ: قاطعًا، فوضعَ المصدرَ موضعَ الصِّفة. ويُقَالُ: لئِنْ فعلتَ كَذَا وكَذَا، لَيَكونَنّ بَلْتَةَ ما بَيْني وبَيْنكَ، إِذا أَوْعَده بالهِجْرَان وكذلك، بَتْلَةَ ما بَيْنِي وبَيْنَكَ، بمعناه.
وبابُلُتُّ: موضعٌ بالرَّيّ، منه يَحْيَى بْنُ عبدِ الله بن الضَّحّاك الحَرّانيُّ الرّازِيُّ، عن الأَوزاعيّ. ذكره ابْنُ أَبي مَرْيَمَ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
45-تاج العروس (هت هتت هتهت)
[هتت]: الهَتُّ: سَرْدُ الكلامِ.هَتَّ القُرْآنَ هَتًّا: سَرَدَه سَرْدًا، وفُلانٌ يَهُتُّ الحديثَ هَتًّا إِذا سَرَدَه وتَابَعَه، وفي الحديث «كانَ عَمْرُو بن شُعَيْب وفُلانٌ يَهُتَّانِ الكَلامَ.
وقال الأَصْمَعِيّ: يُقال للرَّجُلِ إِذا كان جَيّدَ السِّيَاقِ للحَدِيثِ: هو يَسْرُدُهُ سَرْدًا، ويهُتَّه هَتًّا.
وعن ابنِ الأَعرابِيّ: الهَتُّ: تَمْزِيقُ الثِّيَابِ والأَعْراضِ، ونَصُّ عبارته: تَمْزِيقُ الثَّوْبِ والعِرْضِ.
والهَتُّ: الصَّبُّ، هَتَّ المَزَادَةَ إِذا صَبَّهَا، والسَّحَابَةُ تَهُتُّ المَطَرَ، إِذا تابَعَت صَبَّه، وهَتَّ الشَّيْءَ يَهُتُّه هَتًّا: صَبَّ بعضَه في إِثْرِ بعضٍ.
والهَتُّ: حَطُّ المَرْتَبَةِ في الإِكْرَامِ، قاله ابنُ الأَعرابيّ.
والهَتُّ: مُتابَعَةُ المَرْأَةِ في الغَزْلِ هَتَّت المرأَةُ غَزْلَهَا تَهُتُّه غَزَلَت بَعضَه في إِثْرِ بعضٍ.
وعن الأَزهَرِيّ: المرْأَةُ تَهُتُّ الغَزْلَ، إِذَا تابَعَتْ، قال ذُو الرُّمّة:
سُقْيَا مُجَلِّلَةٍ يَنْهَلُّ رَيِّقُها *** مِن باكِرٍ مُرْثعِنَّ الوَدْقِ مَهْتُوتِ
والهَتُّ: حَتُّ وَرَقِ الشَّجَرِ؛ أَي أَخْذُه.
والهَتُّ: الكَسْرُ، هَتَّ الشَّيءَ يَهتُّه هَتًّا فهو مَهْتُوتٌ وهَتِيتٌ: وَطِئه وَطْأً شدِيدًا فكَسَرَه. وتَرَكَهُمْ هَتًّا بَتًّا؛ أَي كَسَرَهُم، وقيلَ: قَطَعَهُم.
والهَتُّ: كَسْرُ الشَّيْءِ حتّى يَصِيرَ رُفَاتًا.
وفي الحديث: «أَقْلِعُوا عن المَعَاصِي قبْلَ أَنْ يَأْخُذَكُمُ اللهُ فَيَدَعَكُمْ هَتًّا بَتًّا» الهَتُّ: الكَسْرُ، والبَتُّ القَطْعُ؛ أَي قَبْلَ أَنْ يَدَعَكُم هَلْكَى مَطْرُوحِينَ مَقْطُوعِينَ.
كالهَتْهَتَةِ، هَتَّهُ وهَتْهَتَهُ سَوَاءٌ.
وقال الأَزْهَرِيّ: الهَتْهَتَةُ: الْتِوَاءُ اللِّسَانِ عندَ الكَلامِ.
وقال الحَسَنُ البَصْرِيّ ـ في بعضِ كلامِه ـ: «واللهِ ما كَانُوا بالهَتَّاتِينَ، ولكِنّهُمْ كانُوا يَجْمَعُونَ الكلامَ ليُعْقَلَ عَنْهُم».
يقال: رَجُلٌ مِهَتٌّ، بكسر ففتح، وهَتَّاتٌ [وهَتْهاتٌ]: مِهْذَارٌ خَفِيفٌ كَثِيرُ الكَلامِ.
وعن ابنِ الأَعْرَابِيّ: قولهم: أَسْرَعُ من المُهَتْهِتَةِ، يقال: هَتْهَتَ في كلامِهِ إِذا أَسْرَعَ، كهَتَّ.
ومن أَمثالهم: «إِذَا وَقَفْتَ البَعِيرَ على الرَّدْهَةِ، فَلا تَقُلْ لَهُ هَتْ» وبعضُهُم يقول: فلا تُهَتْهِتْ بِهِ. هَتْهَتَ بَعِيرَهُ: زَجَرَه عِنْد الشُّرْبِ بِهَتْ هَتْ قَالَهُ أَبو الهَيْثَمِ، قال: ومعنى المَثَل: إِذا أَرَيْتَ الرَّجُلَ رُشْدَه فلا تُلِحَّ عليه، فإِنّ الإِلْحَاح في النَّصِيحَةِ يَهْجُمُ بكَ على الظِّنَّة.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ: ما في اللّسَانِ والنّهاية وغيرِهما: هَتُّ قَوَائِمِ البَعِير: صَوْتُ وَقْعِها.
وهَتَّ البَكْرُ يَهِتُّ هَتِيتًا والهَتُّ شِبْهُ العَصْرِ للصَّوْتِ. قال الأَزْهَرِيّ: يقالُ للبَكْرِ: يَهِتُّ هَتِيتًا، ثم يَكِشُّ كَشِيشًا، ثم يَهْدِر [إِذا بَزَل هَديرًا].
وهَتَّ الهَمْزَةَ يَهُتُّها هَتًّا تكَلَّمَ بِها.
قال الخليلُ: الهَمْزةُ صوتٌ مَهْتُوتٌ في أَقْصَى الحَلْقِ يَصيرُ هَمْزَةً، فإِذا رُفِّهَ عن الهَمْز كانَ نَفَسًا يُحَوَّلُ إِلى مَخْرَجِ الهاءِ، فلذلك استخَفَّتِ العَربُ إِدخالَ الهاءِ على الأَلِفِ المَقْطُوعَةِ، نحو أَرَاقَ وهَرَاقَ، وأَيْهَاتَ وهَيْهاتَ، وأَشباهُ ذلك كثيرٌ.
قال سيبويهِ: من الحروفِ المَهْتُوتُ، وهو الهاءُ، وذلك لما فِيهَا من الضَّعْفِ والخَفَاءِ.
وفي التَّكْمِلَةِ: الحرفُ المَهْتُوتُ هو التَّاءُ، لضَعْفِه وخَفَائِه.
وفي حديث إِراقَة الخمر: «فَهَتَّهَا في البَطْحَاءِ» أَي صَبّها على الأَرْضِ حَتّى سُمعَ لها هَتِيتٌ؛ أَي صَوْتٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
46-تاج العروس (ثلث)
[ثلث]: الثُّلُثُ، بضمّ فسكون وبِضَمَّتَيْنِ ويُقَال: بضَمَّة ففَتْحَة ـ كأَمثاله ـ: لُغَةً أَو تَخْفِيفًا، وهو كَثِير في كلامهم، وإِنْ أَغْفَلَه المُصَنِّفُ تَبَعًا للجوهريّ، كذا قاله شيْخُنَا: سَهْمٌ أَي حَظُّ ونَصِيبٌ من ثَلاثَةِ أَنْصِباءَ كالثَّلِيثِ يَطَّرِدُ ذلك عِنْد بعضِهم في هذِه الكُسُورِ، وجَمْعُهَا، أَثْلَاثٌ.ونَصُّ الجوهَرِيّ: فإِذا فتَحْتَ الثَّاءَ زِدْت ياءً، فقلت: ثلِيثٌ، مثل: ثَمِينٍ وسَبِيعٍ وسَدِيسٍ وخَمِيسٍ ونَصِيفٍ، وأَنْكَرَ أَبو زَيْدٍ منها خَمِيسًا وثَلِيثًا.
قلت: وقَرَأْتُ في مُعْجَمِ الدِّمْياطِيِّ ما نَصُّه: قال ابنُ الأَنْبَارِيّ: قال اللُّغَوِيُّون: في الرُّبعِ ثلاثُ لُغاتٍ: يقال: هو الرُّبْعُ والرُّبُعُ والرَّبِيعُ، وكذلك العُشْرُ والعُشُرُ والعَشِيرُ، يَطَّرِدُ في سائِرِ العَدَدِ، ولم يُسْمَع الثَّلِيثُ، فمن تَكَلَّمَ به أَخْطَأَ، فالمصنّف جَرَى على رَأْيِ الأَكْثَرِ، وقالوا: نَصِيفٌ بمعنى النِّصْف، لكِن المعروف في النِّصْفِ الكَسْرُ، بخلافِ غيرِه من الأَجزاءِ، فإِنّهَا على ما قُلْنَا.
وعن الأَصمعيّ: الثَّلِيثُ: بمعنى الثُّلُثِ، ولم يَعْرِفُه أَبو زيد، وأَنشدَ شَمِرٌ:
تُوِفي الثَّلِيثَ إِذا ما كانَ في رَجَبٍ *** والحَيُّ في خَاثِرٍ منها وإِيقاعِ
والثِّلْث بالكَسْرِ من قَوْلِهِم: سَقَى نَخْلَهُ الثِّلْثَ ـ بالكسر ـ أَي بَعْدَ الثُّنْيَا.
وثِلْثُ النّاقَةِ أَيضًا: وَلَدُهَا الثَّالِثُ، وطَرَدَه ثعلب في وَلَدِ كلِّ أُنْثَى، وقد أَثْلَثَت، فهي مُثْلِثٌ، ولا يُقَال: نَاقَةٌ ثِلْثٌ.
وفي قولِ الجَوْهَرِيّ: ولا تُسْتَعْمَلُ أَي الثِّلْث بالكَسْرِ إِلّا في الأَوَّلِ ـ يعني في قولهم: هو يَسْقِي نَخْلَه الثِّلْثَ ـ نَظَرٌ كأَنَّه نَقَضَ كلامَه بِمَا حَكَاه ثِلْثِ النَّاقَةِ: وَلدِها الثالث، وهذا غَيُرُ وارِد عَلَيْه؛ لأَنَّ مُرادَ الجَوْهَرِيّ أَنّ الثِّلْثَ في الأَظْماءِ غيرُ وارِدٍ، ونَصُّ عبارَتِه: والثِّلْثُ بالكَسْرِ من قَوْلِهِمْ: هو يَسْقِي نَخْلَه الثِّلْثَ، ولا يُسْتَعْمَلُ الثِّلْثُ إِلا في هذا المَوْضِع، وليس في الوِرْدِ ثِلْثٌ؛ لأَنَّ أَقْصَرَ الوِرْدِ الرِّفْهُ: وهو أَنْ تَشْرَبَ الإِبِلُ كلَّ يومٍ، ثم الغِبُّ: وهو أَنْ تَرِدَ يومًا وتَدَعَ يومًا، فإِذا ارتَفَعَ من الغِبِّ فالظِّمْءُ الرَّبْعُ، ثُمّ الخِمْسُ، وكذلك إِلى العِشْرِ، قاله الأَصْمَعِيّ. انتهى.
فعُرِف من هَذَا أَنَّ مُرَادَه أَنّ الأَظْماءَ ليسَ فِيهَا ثِلْثٌ، وهو صحيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْه، ووجودُ ثِلْثِ النَّخْلِ، أَو ثِلْثِ النَّاقَةِ ـ لِوَلدِهَا الثَّالِث ـ لا يُثْبِتُ هَذا، ولا يَحُومُ حَوْلَهُ، كما هُو ظاهِرٌ، فقوله: فيه نَظرٌ، فيه نَظَرٌ. كما حَقَّقه شيخُنا.
وجَاءُوا ثُلاثَ ثُلاثَ ومَثْلَث مَثْلَث؛ أَي ثَلَاثَةً ثَلاثَةً.
وقال الزَّجّاج: في قولهِ تَعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} معناه: اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلاثًا، إِلّا أَنَّهُ لمْ يَنْصَرِفْ؛ لِجِهَتَيْنِ: وذلك أَنَّهُ اجتمَعَ عِلَّتانِ: إِحداهما أَنه مَعْدُولٌ عن اثْنَيْن اثْنَيْن وثَلاثٍ ثلاثٍ، والثانية أَنّه عُدِلَ عن تَأْنِيثٍ.
وفي الصّحاحِ: ثُلاثُ ومَثْلَثُ غيرُ مَصْرُوفٍ للعَدْلِ والصِّفَة، والمُصَنِّف أَشار إِلى عِلَّة واحدةٍ، وهي العَدْل، وأَغْفَلَ عن الوَصْفِيّة فقال: مَعْدُولٌ من ثَلاثَةٍ ثلاثَةٍ إِلى ثُلاثَ وَمَثْلَثَ، وهو صِفَةً؛ لأَنَّك تقُول: مَرَرْتُ بقومٍ مَثْنَى وثُلَاثَ، وهذا قول سيبويه.
وقال غيرُه: إِنّمَا لَمْ يُصْرَفْ لِتَكَرُّرِ العَدْلِ فيه: في اللَّفْظِ، والمعنَى لأَنَّهُ عُدِلَ عن لفظِ اثْنَيْنِ إِلى لفظِ مَثْنَى وثُنَاءَ، وعن معنى اثْنَيْنِ إِلى معنَى اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ [لأَنك] إِذَا قُلْتَ: جاءَتِ الخيلُ مَثْنَى، فالمَعْنَى: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ؛ أَي جَاءُوا مُزْدَوِجِين، وكذلك جميعُ معدولِ العَدَدِ، فإِنْ صَغَّرْتَه صَرَفْتَه، فقلتَ: أُحَيِّدٌ وثُنَيٌّ وثُلَيِّثٌ ورُبَيِّعٌ؛ لأَنَّه مثل حُمَيِّر، فخرج إِلى مِثَالِ ما يَنْصَرِف، وليس كذلك أَحْمَدُ وأَحْسَنُ؛ لأَنَّه لا يَخْرُجُ بالتَّصْغِير عن وزْنِ الفِعْل؛ لأَنَّهم قد قالوا ـ في التَّعَجّب ـ: ما أُمَيْلِحَ زَيْدًا، وما أُحَيْسِنَهُ.
وفي الحديث: «لكن اشْرَبُوا مَثْنَى وثُلاثَ ورُباعَ وَسَمُّوا اللهَ تَعالَى» يقال: فعلت الشيءَ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ، غيرَ مصروفاتٍ، إِذا فَعْلَتَه مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ، وثَلاثًا ثَلاثًا، وأَربَعًا أَرْبَعًا.
وثَلَثْتُ القَوْمَ أَثْلُثُهُم ثَلْثًا، كنَصَرَ: أَخَذْتُ ثُلُثَ أَمْوَالِهِم، وكذلك جميع الكُسور إِلى العُشْر.
وثَلَثْتُ، كَضَرَبَ أَثْلِثُ ثَلْثًا: كُنْتُ ثَالِثَهُم، أَو كَمَّلْتُهم ثَلاثَةً، أَو ثَلاثِينَ، بِنَفْسي.
قال شيخُنا: «أَو» هُنَا بمعنى الواو، أَو للتَّفْصِيل والتَّخْيِير، ولا يَصحّ كونُهَا لتَنْويعِ الخِلاف. انتهى.
قال ابن منظور: وكذلك إِلى العَشَرَة، إِلّا أَنّك تَفْتَح: أَرْبَعُهُم وأَسْبَعُهُم وأَتْسَعُهُم فيها جميعًا؛ لِمَكَانِ العَيْنِ.
وتقولُ: كانوا تِسْعَةً وعِشرِينَ فَثَلَثْتُهم؛ أَي صِرْتُ بهم تَمَامَ ثَلَاثِين وكانوا تِسْعَةً وثَلاثِين فَرَبَعْتُهم، مثل لفظ الثّلاثةِ والأَرْبَعَة، كذلك إِلى المائةِ، وأَنشدَ ابنُ الأَعْرَابِيّ قولَ الشاعر في ثَلَثَهُم إِذا صارَ ثالِثَهُم، قال ابنُ بَرِّيّ: هو لعَبْدِ الله بنِ الزَّبِيرِ الأَسَدِيّ يهجو طَيّئًا:
فإِنْ تَثْلِثُوا نَرْبَعْ وإِنْ يَكُ خَامِسٌ *** يَكنْ سَادِسٌ حتّى يُبِيرَكُمُ القَتْلُ
أَرادَ بقَوْله: تَثْلِثُوا؛ أَي تَقْتُلوا ثالِثًا. وبعدَه.
وإِنْ تَسْبَعُوا نَثْمِن وإِن يَكُ تَاسِعٌ *** يَكُنْ عاشِرٌ حتّى يَكُونَ لنا الفَضْلُ
يقول: إِن صِرْتُم ثلاثَةً صِرْنا أَرْبَعَةً، وإِن صِرْتم أَربعةً صِرْنا خمسةً، فلا نَبْرَحُ نَزيدُ عليكم أَبدًا.
ويقالُ: «رَماهُ اللهُ بثَالثَة الأَثَافِي»، وهي الدّاهِيَةُ العَظِيمَةُ، والأَمْرُ العَظِيم، وأَصلُهَا أَنّ الرّجُلَ إِذَا وَجَدَ أُثْفِيَّتَيْنِ لِقِدْرِهِ، ولم يَجدِ الثَّالِثَةَ جَعلَ رُكْنَ الجَبَل ثَالِثَةَ الأُثْفِيَّتَيْنِ.
وثالِثَةُ الأَثافِي: الحَيْدُ النَّادِرُ من الجَبَلِ يُجْمَعُ إِليهِ صَخْرَتَانِ، فَيُنْصَبُ عَلَيْها القِدْرُ.
وأَثْلَثُوا: صارُوا ثَلاثَةً، عن ثعلب، وكانُوا ثَلاثَةً فأَرْبَعُوا، كذلك إِلى العَشَرة.
وفي اللسان: وأَثْلَثُوا: صارُوا ثَلاثِين، كلُّ ذلك عن لفظ الثّلاثة، وكذلك جميعُ العُقُودِ إِلى المِائَة، تصريفُ فِعْلِهَا كتَصْرِيفِ الآحادِ.
والثَّلُوثُ من النُّوق: ناقَةٌ تَمْلأُ ثَلاثَةَ أَوَانٍ، وفي اللسان: ثَلاثةَ أَقْدَاحٍ إِذا حُلِبَتْ، ولا يَكُون أَكْثَرَ من ذلك، عن ابنِ الأَعْرَابِيّ؛ يَعْنِي لا يكونُ المَلءُ أَكثَرَ من ثَلاثَةٍ.
وهي أَيضًا: ناقَةٌ تَيْبَسُ ثَلاثَةٌ من أَخْلافِها وذلك أَن تُكْوَى بِنارٍ حتّى يَنْقَطِع، ويكُونَ وَسْمًا لها، هذه عن ابن الأَعْرَابِيّ.
أَو هي التي صُرِمَ خِلْفٌ من أَخْلافها، أَو بمعنى الواو، وليست لتَنْوِيع الخِلاف، فإِنّها مع ما قبلها عبارةٌ واحدةٌ، تُحْلَبُ من ثلاثَةِ أَخْلافٍ، وعبارة اللسان: ويقال ـ للنّاقَةِ التي صُرِمَ خِلْفٌ من أَخْلافِها، وتُحْلَبُ من ثَلاثَةِ أَخْلافٍ: تَلُوثَ أَيضًا، وقال أَبُو المُثَلَّمِ الهُذَلِيّ:
أَلّا قُولَا لِعَبْدِ الجَهْل إِنّ ال *** صَّحِيحَةَ لا تُحَالِبُها الثَّلُوثُ
وقال ابن الأَعْرَابِيّ: الصَّحِيحَةُ: التي لها أَرْبَعَةُ أَخْلافٍ، والثَّلُوثُ: التي لها ثلاثَةُ أَخْلافٍ.
وقالَ ابنُ السِّكِّيت: نَاقَةٌ ثَلُوثٌ إِذا أَصابَ أَحَدَ أَخْلافِها شيءٌ فَيَبِسَ وأَنشدَ قولَ الهُذَليّ أَيضًا.
وكذلك أَيضًا ثَلَّثَ بِنَاقَتِه، إِذا صَرَّ منها ثَلاثَةَ أَخْلاف، فإِن صَرَّ خِلْفَيْنِ قيل: شَطَّرَ بِها، فإِن صَرَّ خِلْفًا واحِدًا قيل: خَلَّفَ بها، فإِن صَرَّ أَخْلافَهَا [كُلَّها] جُمَعَ قيل: أَجْمَعَ بِنَاقَتِه وَأَكْمَشَ.
وفي التهذيب: النَّاقَةُ إِذَا يَبِسَ ثَلَاثَةُ أَخْلافٍ منْهَا، فهي ثَلُوثٌ. ونَاقَةٌ مُثَلَّثَةٌ: لها ثلاثَةُ أَخْلافٍ، قال الشاعر:
فتَقْنَعُ بالقَلِيلِ تَرَاهُ غُنْمًا *** ويَكْفِيك المُثَلَّثَةُ الرَّغُوثُ
والمَثْلُوثَةُ: مَزَادَةٌ من ثَلاثَةِ آدِمَةٍ، وفي الصّحاح: من ثَلَاثَةِ جُلُودٍ.
والمَثْلُوثُ: ما أُخِذَ ثُلُثُه، وكلُّ مَثْلُوثٍ مَنْهُوكٌ.
وقِيل: المَثْلُوثُ: ما أَخِذَ ثُلُثُه، والمَنْهُوكُ: ما أُخِذَ ثُلُثاهُ، وهو رَأْيُ العَرُوضِيِّينَ في الرَّجَزِ والمُنْسَرِح.
والمَثْلُوثُ من الشِّعْرِ: الذي ذَهَبَ جُزآنِ من سِتَّةِ أَجزائِه.
والمَثْلُوثُ: حَبْلٌ ذُو ثَلاثِ قُوًى، وكذلك في جميع ما بَيْنَ الثّلاثَةِ إِلى العَشَرَة، إِلّا الثَّمَانِيةَ والعشرةَ.
وعن الليث: المَثْلُوثُ من الحبال: ما فُتِلَ على ثَلاثِ قُوًى، وكذلك ما يُنْسَج أَو يُضْفَرُ.
والمُثَلَّثُ؛ كمُعَظَّمٍ: شَرابٌ طُبخَ حتّى ذَهَبَ ثُلُثاه، وقد جاءَ ذِكْرُه في الحديث.
وأَرْضٌ مُثَلَّثَةٌ: لها ثَلاثةُ أَطرافٍ، فمِنْهَا المُثَلَّثُ الحادُّ، ومنها المُثَلَّثُ القائِم.
وشَيْءٌ مُثَلَّثٌ: ذو ثَلَاثَةِ أَرْكَان قاله الجَوْهَرِيّ.
وقال غيرُه: شَيْءٌ مُثَلَّثٌ: مَوْضُوعٌ على ثَلاثِ طاقَاتٍ، وكذلك في جميع العَدَدِ ما بين الثّلاثَةِ إِلى العَشَرة.
وقالَ اللَّيْثُ: المُثَلَّث: ما كان من الأَشْيَاءِ على ثَلاثَةِ أَثْنَاءٍ.
وَيثْلِثُ، كيَضْرِبُ أَو يَمْنَع، وتَثْلِيثُ، وثَلاثٌ، كسَحَاب، وثُلَاثَانُ بالضَّمّ: مواضعُ، الأَخيرُ قيلَ ماءٌ لبَنِي أَسَدٍ. قال امرُؤُ القَيْس:
قَعَدْتُ له وصُحْبَتِي بَيْنَ ضَارِجٍ *** وبينَ تِلاعِ يَثْلِثَ فالعَرِيضِ
وقال الأَعشى:
كَخَذُولٍ تَرْعَى النَّواصِفَ من تَثْ *** لِيثَ قَفْرًا خَلَا لَهَا الأَسْلاقُ
وفي شرحِ شيخِنَا، قال الأَعْشَى:
وجَاشَتِ النَّفْسُ لمَّا جَاءَ جَمْعُهُمُ *** ورَاكِبٌ جَاءَ من تَثْلِيثَ مُعْتَمِرُ
وقال آخر:
أَلَا حَبَّذا وادِي ثُلَاثَانَ إِنَّنِي *** وَجَدْتُ به طَعْمَ الحَيَاةِ يَطِيبُ
والثَّلِثَانُ، كالظَّرِبَانِ، نقل شيخنا عن ابن جِنِّي في المحتسب، أَنَّ هذا من الأَلْفَاظِ التي جاءَت على فَعِلانَ بفتح الفاءِ وكَسْرِ العَيْنِ وهي: ثَلِثَانُ، وبَدِلانُ، وشَقِرَانُ، وقَطِرَانُ، لا خَامِسَ لها، ويُحَرَّكُ: شَجَرةُ عِنَب الثَّعْلبِ، قال أَبو حنيفَةَ: أَخبرنِي بذلك بعضُ الأَعْرَاب، قال: وهو الرَّبْرَقُ أَيضًا، وهو ثُعَالَةُ، وقولُه: ويُحَرَّك، الصَّواب ويُفْتَح، كما ضَبَطَه الصّاغانيّ.
ومن المجاز: الْتَقَتْ عُرَى ذي ثَلاثِها.
ذُو ثُلاثٍ. بالضَّمِّ هو وَضِينُ البَعِيرِ. قال الطِّرِمّاح:
وقد ضُمِّرَتْ حَتَّى بَدا ذُو ثُلاثِها *** إِلى أَبْهَرَىْ دَرْمَاءَ شَعْبِ السَّنَاسِنِ
ويُقَال: ذو ثُلاثِها: بَطْنُها، والجِلْدَتَانِ العُلْيَا، والجِلْدَةُ التي تُقْشَر بَعْدَ السَّلْخِ.
وفي الأَسَاس: وروي
... «حَتَّى ارْتَقَى ذُو ثَلاثِها
أَي وَلَدُها، والثَّلاثُ: السَّابِياءُ، والرَّحِم، والسَّلَى؛ أَي صَعِدَ إِلى الظَّهْرِ.
ومن المجاز أَيضًا: يَوْمُ الثَّلاثَاءِ وهو بالمَدِّ، ويُضَمُّ كان حَقُّه الثّالث، ولكنه صِيغَ له هذا البِناءُ؛ ليَتَفَرَّدَ به، كما فُعِل ذلك بالدَّبَرَانِ، وحُكِيَ عن ثعلب: مَضَت الثَّلاثَاءُ بما فِيها، فَأَنَّثَ، وكان أَبُو الجَرَّاحِ يقول: مَضَت الثَّلاثَاءُ بما فِيهِنَّ، يُخْرِجُهَا مُخْرَج العَدَدِ، والجَمْع: ثَلاثَاوَاتٌ وأَثَالِثُ. حَكَى الأَخِيرَةَ المُطَرِّزِيُّ عن ثعلب.
وحكى ثعلبٌ عن ابن الأَعرابيّ: لَا تَكُنْ ثَلَاثَاوِيًّا؛ أَي مِمّن يَصُوم الثَّلاثَاءَ وَحْدَه.
وفي التَّهْذِيب: والثَّلاثَاءُ لمّا جُعِل اسْمًا جُعِلَت الهَاءُ التي كانت في العَدد مَدَّةً، فَرْقًا بين الحَالَيْنِ، وكذلك الأَرْبِعَاءُ من الأَرْبعَة، فهذه الأَسمَاءُ جُعِلت بالمَدّ تَوْكِيدًا لِلاسمِ، كما قَالُوا: حَسَنَةٌ وحَسْنَاءُ، وقَصَبَةٌ وقَصْبَاءُ، حيثُ أَلْزَمُوا النَّعْتَ إِلزامَ الاسمِ، وكذلك الشَّجْراءُ والطَّرْفَاءُ، والواحِدُ من كلّ ذلك بوزْن فَعَلَة.
وَثَلَّثَ البُسْرُ تَثْلِيثًا: أَرْطَبَ ثُلُثُه وهو مُثَلِّثٌ.
وقال ابنُ سيدَه: ثَلَّثَ الفَرَسُ: جاءَ بَعْدَ المُصَلِّي، ثُمَّ رَبَّع، ثمّ خَمَّسَ.
وقال عَلِيٌّ ـ رضي الله عنه ـ «سَبَقَ رسولُ الله ـ صلى الله عليهوسلم ـ وثَنَّى أَبُو بكرٍ، وثَلَّثَ عُمَرُ، وخَبَطَتْنَا فِتْنَةٌ، فما شَاءَ الله».
قال أَبو عُبَيْد: ولم أَسمَعْ في سَوَابِقِ الخيْلِ ـ مِمّن يُوثَق بِعِلمِه ـ اسْمًا لشيْءٍ منها إِلّا الثّانيَ، والعَاشِرَ، فإِنّ الثَّانيَ اسمُه المُصَلِّي، والعَاشرَ: السُّكَيْتُ، وما سِوَى ذَيْنِك إِنما يقال: الثّالِثُ والرَّابع، وكذلك إِلى التّاسع.
وقال ابنُ الأَنْبَارِيّ: أَسماءُ السُّبَّقِ من الخَيْلِ: المُجَلِّي، والمُصَلِّي، والمُسَلِّي، والتَّالِي، والحَظِيُّ، والمُؤَمِّلُ، والمُرْتَاحُ، والعَاطِفُ، واللَّطِيمُ، والسُّكَيْتُ. قالَ أَبو مَنْصُور: ولم أَحْفَظْهَا عن ثِقَةٍ، وقد ذكرها ابنُ الأَنْبَارِيّ، ولم يَنْسُبْهَا إِلى أَحَدٍ، فلا أَدْرِي أَحفِظَهَا لِثِقَةٍ أَمْ لا.
وفي حَدِيثِ كَعْب أَنّه قالَ لعُمر: أَنْبِئني ما المُثَلِّثُ؟ حين قال له: «شَرُّ النَّاسِ المُثَلِّثُ»؛ أَي كمُحَدّثٍ ويُخَفَّفُ قال شَمرٌ: هكذا رواه لنا البَكْرَاوِيّ عن عَوَانَةَ بالتَّخْفِيفِ وإِعْرَابُه بالتَّشْديد مُثَلِّثٌ عن تَثْلِيثِ الشَّيْء ـ فقال عُمر: المُثَلِّث لا أَبَا لك، هو السَّاعِي بأَخيه عندَ وفي نسخة إِلى السُّلْطَان، لأَنّه يُهْلِكُ ثلاثَةً: نَفْسَه وأَخاه والسُّلْطَانَ وفي نُسخَةٍ: وإِمَامَهُ؛ أَي بالسَّعْيِ فيه إِليه. والرّواية: هو الرَّجُلُ يَحْمَلُ بأَخِيه إِلى إِمَامِه، فيبْدَأُ بنَفْسه فيُعْنِتُهَا، ثمّ بأَخِيهِ ثم بإِمامِه، فذَلِك المُثَلِّثُ، وهو شَرُّ النَّاسِ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الثَّلاثَةُ من العَدَدِ: في عَدَدِ المذَكَّرِ معروفٌ، والمُؤَنَّثُ ثَلاثٌ.
وعن ابن السِّكِّيت: يقال: هو ثَالِثُ ثَلاثَةٍ، مضافٌ، إِلى العَشَرَة، ولا يُنَوَّن، فإِن اخْتَلَفا: فإِن شِئتَ نَوَّنْتَ، وإِن شِئتَ أَضَفْتَ، قلت: هو رابعُ ثَلاثَةٍ، ورَابِعٌ ثَلاثَةً، كما تقول: ضارِبُ زَيْدٍ، وضَارِبٌ زَيْدًا؛ لأَن معناه الوُقُوع؛ أَي كَمَّلَهُم بنَفْسِه أَرْبَعَةً.
وإِذَا اتَّفقَا، فالإِضافَةُ لا غَيْرُ، لأَنه في مذهَبِ الأَسماءِ، لأَنك لم تُرِدْ معنَى الفِعْلِ، وإِنّمَا أَردْتَ هو أَحدُ الثَّلاثَةِ، وبعضُ الثلاثَة، وهذا ما لا يكونُ إِلا مُضَافًا.
وقد أَطَالَ الجوهَريّ في الصّحاح، وتَبِعَهُ ابنُ منظور، وغيرُه، ولابنِ بَرِّيّ عنا في حواشيه كلامٌ حَسَن.
قال ابن سيده: وأَمّا قولُ الشّاعر:
يَفْدِيكِ يا زُرْعَ أَبِي وخَالِي *** قَدْ مَرَّ يومَانِ وهذَا الثَّالِي
وأَنتِ بالهِجْرَانِ لا تُبَالِي
فإِنّه أَرادَ الثَّالِثَ، فأَبْدلَ الياءَ من الثَّاءِ.
وفي الحديث: «دِيَةُ شِبْهِ العَمْدِ أَثْلاثًا» أَي ثَلاثٌ وثَلاثُونَ حِقَّةً، وثلاثٌ وثلاثُونَ جَذَعَةً، وأَربعٌ وثلاثُون ثَنِيَّةً.
والثُّلَاثَةُ بالضَّمّ: الثَّلاثَةُ عن ابنِ الأَعْرَابِيّ. وأَنشد:
فمَا حَلَبَتْ إِلَّا الثُّلاثَةَ والثُّنَى *** ولا قُيِّلَتْ إِلا قَرِيبًا مَقَالُهَا
هكذا أَنشدَه بضم الثّاءِ من الثَّلاثَة.
والثَّلاثُون مِنَ العَدَدِ ليْسَ على تَضْعِيفِ الثَّلاثَةِ، ولكن على تَضْعِيفِ العَشَرَة، قالَهُ سيبويهِ.
والتَّثْلِيثُ: أَنْ تَسْقِيَ الزَّرْعَ سَقْيَةً أُخْرَى بعد الثُّنْيَا.
والثُّلاثِيّ: منسوبٌ إِلى الثَّلاثَة، على غيرِ قياسٍ.
وفي التَّهْذِيب: الثُّلاثِيُّ: يُنْسَب إِلى ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ، أَو كانَ طُولُه ثلَاثَةَ أَذْرُع: ثَوْبٌ ثُلاثِيّ ورُبَاعِيّ، وكذلك الغلامُ، يقال: غُلامٌ خُمَاسِيّ، ولا يُقَال: سُدَاسِيّ؛ لأَنَّه إِذا تَمَّت له خَمْسٌ صار رَجُلًا.
والحُرُوف الثُّلاثِيَّة: التي اجْتَمَع فيها ثَلاثَةُ أَحْرُفٍ.
والمِثْلاثُ: من الثُّلُثِ، كالمِرْباعِ من الرُّبُع.
وأَثْلَثَ الكَرْمُ: فَضَل ثُلُثُه وأُكِل ثُلُثاه.
وإِناءٌ ثَلْثَانُ: بَلَغَ الكَيْلُ ثُلُثَه، وكذلك هو في الشَّرَابِ وغيرِه.
وعن الفرَّاءِ: كِساءٌ مَثْلُوثٌ: مَنْسُوجٌ من صُوفٍ ووَبَرٍ وشَعَرٍ، وأَنشد:
مَدْرَعَةٌ كِسَاؤُهَا مَثْلُوثٌ
وفي الأَساس: أَرْضٌ مَثْلُوثَةٌ: كُرِبَتْ ثَلَاثَ مَرّاتٍ، ومَثْنِيَّة: كُرِبَتْ مَرّتَيْنِ. و [قد] ثَنَيْتُهَا وثَلَثْتُها. وفُلان يَثْنِي ولا يَثْلِثُ؛ أَي يَعُدّ من الخُلفاءِ اثْنَيْن، وهما الشَّيْخَانِ، ويُبْطِلُ غيرَهُما. وفلانٌ يَثْلِثُ ولا يَرْبَعُ؛ أَي يَعُدُّ منهم ثَلاثَةً، ويُبْطِلُ الرّابِعَ.
وشَيْخٌ لا يَثْنِي ولا يَثْلِثُ؛ أَي لا يَقْدِرُ في المَرّةِ الثّانِيَةِ ولا الثَّالِثَةِ أَنْ يَنْهَضَ.
ومن المجاز: عليه ذُو ثَلاثٍ؛ أَي كِسَاءٌ عُمِلَ من صُوفِ ثَلاثٍ من الغَنَمِ.
وتَثْنِيَةُ الثَّلاثاءِ ثَلاثَاءَان، عن الفَرّاءِ، ذهبَ إِلى تَذْكِير الاسم.
وثُلَّيْث ـ مُصَغَّرًا مُشَدَّدًا ـ مَوضِعٌ على طريقِ طَيِّئ إِلى الشّامِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
47-تاج العروس (لوث)
[لوث]: اللَّوْثُ: القُّوَّةُ والشِّدّة، قال الأَعْشَى:بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إِذا عَثَرَتْ *** فالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا من أَنْ يُقَالَ: لَعَا
وناقَةٌ ذَاتُ لَوْثَةٍ ولَوْثٍ؛ أَي قُوَّةٍ.
وفي اللسان: وناقَةٌ ذاتُ لَوْثٍ؛ أَي لَحْمٍ وسِمَنٍ، قد لِيثَ بها.
وعن اللَّيْثِ: ناقَةٌ ذاتُ لَوْث: وهي الضَّخْمَةُ ولا يمنَعُهَا ذلك من السُّرْعة.
ورجل ذو لَوْثٍ؛ أَي ذُو قُوَّةٍ.
واللَّوْثُ: عَصْبُ العِمَامَةِ.
ولاثَ الشَّيْءَ لَوْثًا: أَدارَهُ مَرَّتينِ، كما تُدار العِمَامةُ والإِزارُ.
ولاثَ العِمَامَةَ على رَأْسِه يَلُوثُها لَوْثًا؛ أَي عَصَبَها، وفي الحديث: «فحَلَلْتُ من عِمَامَتِي لَوْثًا أَو لَوْثَيْنِ» أَي لَفَّةً أَو لَفَّتَيْنِ.
وقال ابنُ قُتَيْبَةَ: أَصلُ اللَّوْثِ الطَّيّ، لُثْتُ العِمَامَةَ أَلُوثُها لَوْثًا.
وفي التَّهْذِيبِ عن ابنِ الأَعْرَابِيّ: اللَّوْثُ: الطَّيُّ، واللَّوْثُ: اللَّيُّ.
واللَّوْثُ: الشَّرُّ.
واللَّوْثُ: اللَّوْذُ، لاثَ بِه يَلُوثُ، كلَاذَ، وإِنّه لَنِعْمَ المَلَاثُ للضِّيفانِ؛ أَي المَلاذُ، وزعمَ يعقوبُ أَنّ ثاءَ لاثَ هاهُنا بَدَلٌ من ذَالِ لاذَ، يقال: هو يَلُوثُ بِي ويَلُوذُ.
واللَّوْثُ: الجِرَاحاتُ.
واللَّوْثُ المُطَالَبَاتُ بالأَحْقَادِ.
قال أَبو منصورٍ: واللَّوْثُ عند الشّافِعيّ: شِبْه الدَّلَالَةِ ولا يكونُ بَيِّنَةً تَامّةً، وفي حديث القَسَامَة ذُكر اللَّوْثُ، وهو أَنْ يَشْهَدَ شاهِدٌ واحدٌ على إِقرارِ المَقْتُولِ قبلَ أَن يموتَ، أَنَّ فُلانًا قَتَلَنِي، أَو يشهدَ شاهِدانِ على عَدَاوةٍ بينهما، أَو تَهْدِيدٍ منه له، أَو نحوِ ذلك، وهو من التَّلَوُّثِ: التَّلَطُّخِ، كما سيأْتي.
واللَّوْثُ تَمْراغُ اللُّقْمَةِ في الإِهَالَةِ، وفي اللسان وغيرِه: تَمْرِيغُ بدل تَمْراغ، وهو بالفتح من المصادِر النّادرة.
واللَّوْثُ: لُزُومُ الدّارِ، عن ابن الأَعْرَابيّ: وأَنشد:
تَضْحَكُ ذاتُ الطَّوْقِ والرِّعَاثِ *** مِنْ عَزَبٍ ليسَ بِذَى مَلَاثِ
أَي ليْسَ بذي دارٍ يَأْوِي إِليها ولا أَهْلٍ.
واللَّوْثُ: لَوْكُ الشَّيْءِ في الفَمِ كاللُّقْمَةِ وغيرِهَا.
واللَّوْثُ: البُطْءُ في الأَمْرِ، وقد لَوِثَ لَوَثًا، والْتَاثَ، وهو أَلْوَثُ، كذا في المحكم.
وقال غيره: لاثَ فلانٌ عن حاجَتِي؛ أَي أَبْطَأَ بها.
واللُّوثَةُ بالضّمّ: الاسْتِرْخَاءُ والبُطْءُ ورجل ذُو لُوثَةٍ: بَطِيءٌ مُتَمَكِّثٌ ذو ضَعْفٍ.
واللُّوْثَةُ: الحُمْقُ، ويُفْتَح، وذكَر الوَجْهَينِ ابنُ سِيدَهْ في المحكم، عن ابنِ الأَعرابيّ.
واللُّوثَةُ: الهَيْجُ، بفتح فسكون، ومَسُّ الجُنُونِ، وعن الأَصمعيّ: اللَّوْثَةُ: الحَمْقَة، واللَّوْثَة: العَزْمَة بالعَقْلِ.
وقال ابن الأَعرابيّ: اللُّوثَةُ واللَّوْثَةُ بمعنى الحَمْقَةُ، فإِن أَردت عَزْمةَ العَقْلِ قُلْتَ: لَوْثٌ؛ أَي حَزْمٌ وقُوَّة.
وعن الليث: رجلٌ فيه لُوثَةٌ إِذا كان فيه اسْتِرْخاءٌ.
واللَّوْثَةُ في النَّاقَةِ كَثْرَةُ اللَّحْمِ والشَّحْمِ ويقال: نَاقَةٌ ذاتُ لَوْثَةٍ، إِذا كانتْ كثِيرَةَ الشَّحْمِ واللَّحْمِ.
واللُّوثَةُ: الضَّعْفُ عن ابنِ الأَعرابيّ، ويفتح، وفي الحديث: «أَنّ رجُلًا كَانَ به لُوثَةٌ فكان يُغْبَنُ في البَيْعِ» أَي ضَعْفٌ في رَأْيِهِ وتَلَجْلُجٌ في كَلامِه.
وفي الحديث: «فَلَمّا انْصَرَفَ من الصَّلاةِ لاثَ بهِ النَّاسُ»؛ أَي اجْتَمَعُوا حولَهُ، يقالُ: لاثَ بهِ يَلُوثُ، وأَلاثَ بِمَعْنًى.
واللُّوثَةُ: خِرْقَةٌ تُجْمَعُ ويُلْعَبُ بِها، جمعُه لُوثاتٌ.
والالْتِيَاثُ: الاجتماعُ والاخْتِلاطُ والالْتِبَاسُ، وصُعُوبةُ الأَمرِ وشِدَّتُه، من قولهم الْتاثَتْ عليهِ الأُمُورُ، إِذا الْتَبَسَتْ واخْتَلَطَتْ.
والالْتِياثُ: الالْتِفافُ يقال: الْتَاثَت الخُطُوبُ، والْتَاثَ برأْسِ القلمِ شَعْرَةٌ.
والالْتِياثُ: الإِبْطَاءُ، افتعالٌ من اللَّوْثِ وهو البُطْءُ، والْتَاثَ وهو أَلْوَثُ.
والْتَاثَ فلانٌ في عمله؛ أَي أَبْطَأَ، كذا في المحكم، وفي حديثِ أَبي ذَرٍّ: «كُنَّا معَ رَسُولِ: اللهِ صلّى الله تعالى عليه وسلّم إِذا الْتاثَتْ رَاحِلَةُ أَحِدِنا طَعَنَ بالسَّرْوَةِ»، وهي نَصْلٌ صغيرٌ؛ أَي أَبْطَأَتْ واسْتَرْخَت.
والالْتِيَاثُ: افتعالٌ من اللَّوْثِ، وهو القُوَّةُ قال الأَزْهَرِيّ: أَنشد المَازِنِيّ:
فالْتَاثَ من بعدِ البُزُولِ عامَيْنْ *** فاشْتَدَّ نابَاهُ وغيرُ النّابَيْنْ
والالْتِيَاثُ: السِّمَنُ، افتعالٌ من اللَّوْثِ وهو كَثْرَةُ اللّحْمِ والشّحمِ، وقد تقدّم.
والالْتِيَاثُ: الحَبْسُ والمُكْثُ، افتعالٌ من اللَّوْثِ، يقال: ما لَاثَ فُلانٌ أَنْ غَلَب فُلَانًا؛ أَي ما احْتَبَس، كالتَّلْوِيثِ.
ظاهِر عبارته أَنه يشارك الالْتِياثَ في سائرِ مَعانيه المذكورة، وليس كذلك، وإِنما استُعْمِل الوجهانِ في معنى الاختلاط والالتفاف فقط، صرَّحَ به ابن منظور وغيرُه، كما يَدلّ لذلك عبارتُه بعدُ.
والتَّلْوِيثُ: التَّلْطِيخُ، ومنه اللَّوْثُ في القَسَامَةِ، وقد تقدّم.
والتَّلْوِيثُ: الخَلْطُ والمَرْسُ، كاللَّوْثِ، وكلّ ما خَلَطْتَه ومَرَسْتَه فقد لُثْتَه ولَوَّثْتَه.
ولَوَّثَ ثِيابَه بالطِّينِ؛ أَي لَطَّخَها.
ولَوَّثَ الماءَ: كَدَّرَه.
ومن المجاز: المَلَاثُ، يقال: هو مَلَاثٌ من المَلَاوِثَةِ؛ أَي المَلَاذُ السَّيِّد الشّرِيف، كالمِلْوَثِ، كمِنْبَرٍ، لأَنّ الأَمرَ يُلاثُ به ويُعْصَب؛ أَي تُقْرَنُ به الأُمورُ وتُعْقَد، والجمع: المَلَاوِثُ. عن الكسائي: يقالُ للقومِ الأَشرافِ إِنّهُم لَمَلَاوِثُ؛ أَي يُطاف بهم ويُلاثُ، وقال:
هَلّا بَكَيْت مَلَاوِثًا *** من آلِ عَبْدِ مَنَافِ
وكذلك المَلاوِثَة وقال:
مَنَعْنَا الرَّعْلَ إِذْ سَلَّمْتُمُوه *** بِفِتْيَانٍ مَلَاوِثَةٍ جِلَادِ
والمَلَاوِيثُ في قولِ أَبي ذُؤَيْبٍ الهُذَليّ، أَنشده يَعقوبُ:
كانُوا مَلَاوِيثَ فاحْتَاج الصَّدِيقُ لَهُمْ *** فَقْدَ البِلادِ ـ إِذا ما تُمْحِلُ ـ المَطَرا
قال ابن سِيدَه: إِنّمَا أَلحقَ الياءَ لإِتمام الجُزْءِ، ولو تركَه لغَنِيَ عنه، قال ابن بَرّيّ: «فَقْدَ»: مفعولٌ من أَجله؛ أَي احتاج الصديق لهم لمّا هَلَكوا، كفقِد البِلادِ المَطَرَ إِذا أَمْحَلَتْ.
واللُّوَاثَةُ بالضَّم: الجَمَاعَةُ من الناس، وكذلك من سائرِ الحيوان كاللَّوِيثَةِ، على فَعِيلة، الجَماعة من قَبائلَ شَتَّى، كذا في النّوادرِ، ويقال: رأَيْتُ لُوَاثَةً ولَوِيثَةً من الناس وهُواشَة.
واللُّوَاثَةُ: دَقِيقٌ يُذَرُّ على الخِوَانِ تَحْتَ العَجِينِ لئِلّا يَلْزَقَ به، كاللُّوَاثِ، بالضّمّ، وعليه اقتصرَ ابنُ منظور، ونقلَه عن الفَرّاءِ.
واللُّوَاثَةُ أَيضًا: الذي يَتَلَوَّثُ في كُلِّ شَيْءٍ ويَتَلَطَّخُ به، نقله الصّاغَانيّ.
وأَلْوَثَتِ الأَرْضُ: أَنْبَتَت الرُّطْبَ بضمٍّ فسكون في اليابِسِ.
وعبارة اللّسان: وأَلْوَثَ الصِّلِّيَانُ: يَبِسَ ثم نَبَتَ فيه الرُّطْبُ بعد ذلك، ثمّ قال: وقد يكون في الضَّعَةِ والهَلْتَى والسَّحَمِ، ولا يكاد يُقَالُ في الثُّمَامِ: أَلْوَثَ، ولكن يقال فيه: بَقَلَ، ولا يُقَال في العَرْفَجِ: أَلْوَثَ، ولكن: أَدْبَى وامْتَعَسَ [زِئْبِرُهُ].
وَالأَلْوَثُ: المُسْتَرْخِي، والقَوِيُّ. ضِدٌّ، وقد تقدّم أَن اللّوثَةَ، بالضم: الضَّعْفُ، وبالفَتْحِ: القُوّة والشّدّة، والاسم مِن كلٍّ منهما أَلْوَثُ، فيكون بهذا الاعتبارِ أَيضًا من الأَضداد.
والأَلْوَثُ أَيضًا: البَطِيءُ الكلام [والثَّقِيلُ]، وفي بعض الأُمهات: الكَلِيلُ اللِّسَانِ، والأُنثى لَوْثَاءُ، والفِعْلُ كالفِعْل.
واللِّيثُ بالكسر: نباتٌ مُلْتَفٌّ، صارت الواوُ ياءً لكسرةِ ما قَبْلَهَا.
ولِحْيَةٌ لَيِّثَةٌ، ككَيِّسَةٍ: مُلْتَفّةٌ، تَشْبِيهًا بالنَّبَات، فهو مَجاز، اخْتَلَطَ شَمَطُهُ بِبَيَاضِه، هكذا في النُّسخ التي بأَيْدِينا، وقد تكلَّم شيخُنَا على ذلك فقال: الأَوْلَى «شَمَطُهَا ببيَاضِهَا»، لأَنّ اللِّحْيَة مؤنَّثَة، ثم الصواب اختلَطَ شَمَطُهَا بِسَوَادِهَا؛ لأَن الشَّمَطَ هو بياضُ الشَّيْبِ الذي يَعْتَرِي الشَّعرَ، فتأَمَّلْ.
انتهى، وسيأْتي في ل ي. ث.
ونَبَاتٌ لائثٌ، ولَاثٌ، ولَيِّثٌ. ككَيِّسٍ: الْتَفَّ بَعْضُه بِبَعْضِ والْتَبَسَ، وكذلك الكَلأُ، وفي بعض النسخ: «على بَعْضٍ»، فأَمّا لائِثٌ فَعَلَى وَجْهِه، وأَمّا لاثٌ: فقد يكونُ فَعِلًا، كبَطِرٍ وفَرِقٍ، وقد يكون فاعِلًا ذَهَبَتْ عَيْنُهُ، [وأَمّا لاثٍ فمقلوبٌ عن لائث، من لاث يلوث فهو لائثٌ ووزنهُ فالِع] قال العَجّاج:
لاثٍ به الأَشَاءُ والعُبْرِيُّ
وشجرٌ لَيِّثٌ، كلَاثٍ، والْتَاثَ وأَلاثَ، كلَاثَ.
وقال ابن منظور: واللّائِثُ واللَّاثُ من الشَّجَرِ والنّبَات: ما قد الْتَبَس بعضُه على بعض، تقول العَرَبُ: نباتٌ لائِثٌ ولاث، على القلّب، وقال عديّ بن زيد:
ويَلْهَدْنَ ما أَغْنَي الوَلِيُّ ولم يُلِثْ *** كأَنّ بحافاتِ النِّهَاءِ المَزَارِعَا
أَي لم يَجْعَلْهُ لائِثًا، ويقال: لم يُلِثْ؛ أَي لم يُلِثْ، بعضُهُ على بعضٍ، من اللَّوْثِ وهو اللَّيُّ.
وقال أَبو عبيد: لاثٍ بمعني لائِث، وهو الذي بعضُه فوقَ بَعْضٍ.
وأَلَثْتُ به مالِي: استَوْدَعْتُه إِيّاه، إِفعالٌ من اللَّوْثِ بمعنى اللَّوْذِ، كأَنَّه جعلَه مَحْرُوسًا في حِمَايَتِه.
والمُلَيَّثُ، كمُعَظَّمِ من الرّجال: البَطِيءُ لِسِمَنِهِ.
واللَّيْثُ واللّائِثُ: الأَسدُ، من اللَّوْثِ وهو القُوَّة، وسيأْتي ذِكْرُ اللَّيْثِ بعد ذلك.
ولَاثَهُ المطرُ ولَوَّثَه.
ودِيمَةٌ لَوْثَاءُ، وهي التي تَلُوثُ النَّبَاتَ بعضَه على بَعْضٍ كما تَلُوثُ التِّبْنَ بالقَتِّ وكذلك التَّلَوُّثُ بالأَمْرِ، كذا عن اللَّيث.
وقال أَبو منصور: السَّحَابَة اللَّوْثَاءُ: البَطِيئة، وإِذا كان السَّحَابُ بَطِيئًا كان أَدْوَمَ لِمَطَرِه، قال الشَّاعر:
من لَفْحِ سارِيَةٍ لَوْثَاءَ تَهْمِيمُ
والذي قالَه اللَّيْث في اللَّوْثَاءِ ليس بصَحِيحٍ، كذا في اللّسانِ.
وإِن المَجلِسَ ليَجُمَعُ لَوِيثَةً من النَّاسِ أَي لَبِيثَةٌ، وقد تَقَدَّم في محلّه؛ أَي اخْلاطًا من قَبَائِلَ شَتَّى، وإِعادتُه هنا مع تقدُّم قوله كاللَّوِيثَةِ تَكْرارٌ، كما هو ظاهر.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الأَلْوَث: الأَحْمَقُ، كالاثْوَلِ، قال طُفَيْلٌ الغَنَوِيّ:
إِذا ما غَزَا لم يُسقِطِ الخَوْفُ رُمْحَهُ *** ولم يَشْهَدِ الهَيْجَا بأَلْوَثَ مُعْصِمِ
وعن ابن الأَعْرابيّ: اللُّوثُ جمع الأَلْوَث وهو الأَحْمَق الجَبانُ، وقال ثُمامَةٌ بنُ مخبر السَّدُوسيّ:
أَلَا رُبَّ مُلتَاثٍ يَجُرُّ كِساءَهُ *** نَفَى عَنْهُ وِجْدَانُ الرِّقِينَ العَزايِمَا
يقول: رُبَّ أَحمقَ نفَى كَثرةُ مالِه أَن يُحَمَّقَ، أَراد أَنّه أَحمقُ قد زَيَّنَه مالُه وجعلَه عند عوامّ الناس عاقِلًا.
ولم يُلِثْ، في قول العجاج ـ يصف شاعِرًا غالَبه فغلَبه:
فلمْ يُلِثْ شَيْطَانَهُ تَنَهُّمِي
أَي لم يُلْبِثْ تَنَهُّمِي إِيّاه؛ أَي انْتِهاري.
وفي حديث الأَنْبِذَةِ والأَسقِيَةِ «التي تُلاثُ على أَفواهِهَا» أَي تُشَدُّ وتُرْبَطُ.
وفي الحديث: «أَن امرأَةً من بني إِسرائِيلَ عَمَدَتْ إِلى قَرْنٍ من قُرُونِها فلاثَتْهُ بالدُّهْنِ» أَي أَدارَتْه، وقيل: خَلَطَتْه، وفي حديث ابنِ جَزْءٍ: «وَيْلٌ لِلَّوَّاثِينَ الذين يَلُوثُونَ مع البَقَرِ، ارفَعْ يا غلامُ، ضَعْ يا غُلام» قال ابن الأَثير. قال الحَرْبِيّ: أَظُنّه الذين يُدَار عليهم بأَلوانِ الطّعَام، من اللَّوْث وهو إِدارةُ العمامةِ.
وجاءَ رجل إِلى أَبي بكرٍ رضي الله عنه «فَلَاثَ لَوْثًا من الكَلامِ» أَي لَوَى كلَامه، ولم يُبَيّنه، ولم يَشْرحْه ولم يُصَرِّح به، يقال: لَاثَ بالشيْءِ يَلُوثُ به، إِذا أَطافَ به، وقال ابن قُتيبةَ: أَراد أَنه تَكَلَّم بكلام مَطْوِيّ لم يُبَيِّنْه للاستحياءِ، حتى خَلا بِهِ.
ولاثَ الرَّجُلُ يَلُوثُ؛ أَي دَارَ.
واللِّثَةُ: مَغْرِزُ الأَسنانِ، من هذا الباب في قول بعضهم؛ لأَنّ اللَّحْمَ لِيثَ بأُصولِهَا.
ولاثَ الوَبَرَ بالفَلْكَةِ: أَدارَه بها، قال امرؤ القيس:
إِذا طَعَنْتُ به مالَتْ عِمَامَتُه *** كما يُلَاثُ برَأْسِ الفَلْكَةِ الوَبَرُ
واللُّوثُ: فِرَاخُ النَّحْلِ، عن أَبي حنيفةَ.
ومن المَجَاز: لَاثَ الضَّبَابُ بالجَبَلِ، كذا في الأَساس.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
48-تاج العروس (رزح)
[رزح]: رَزَحَتِ النّاقَةُ كمَنَع تَرْزَحُ رُزُوحًا بالضّمّ ورَزَاحًا، بالفتح، هكذا مضبوط، والّذِي في الصّحاح واللِّسَان بالضّمّ، ضبْط القلم: سَقَطَتْ إِعْيَاءً أَو هُزالًا، هذا التَّرْديد تُشير إِليه عبارةُ الأَساسِ، والّذِي في اللِّسَان والصّحاح وغيرهما من المصنّفات: سَقَطَتْ من الإِعياءِ هُزَالًا. ورزَحَ فُلانًا بالرُّمْح رَزْحًا، بفتح فسكون، إِذا زَجَّه به.وَرزَّحْتُها أَنا ترْزِيحًا أَي الناقةَ: هَزَلْتُها. ورَزَّحَتْها الأَسفارُ. وبَعيرٌ مُطَلَّحٌ مُرزَّحٌ.
والرّازِحُ والمِرْزاحُ من الإِبلِ: الشديدُ الهُزالِ الّذي لا يتحرَّك، الهالِكُ هُزَالًا، وهو الرّازِمُ أَيضًا. وفي الأَساس: بَعيرٌ رازِحٌ: أَلْقَى نَفْسَه من الإِعياءِ، أَو شَديدُ الهُزالِ، وبه حَرَاكٌ. وإِبلٌ روازِحُ ورَزْحَى، كسَكْرَى، ورَزَاحَى، بزيادة الأَلف، ومَرازِيحُ، كمَصابِيح، ورُزَّحٌ كقُبَّرٍ: إِذا كُنَّ كذلك.
والمِرْزَح، بالكسر: الصَّوْت، صِفةٌ غالبةٌ.
والمِرْزِيح، بالكسر: الصَّوْتُ، لا شدِيدُه، وغَلط الجوهريّ ونَصُّ عِبارتِه: قال الشّيبانيّ: المِرْزِيحُ الشَّديدُ الصَّوتِ. وأَنشد لزِيادٍ المِلْقَطيّ:
ذَرْذا ولكنْ تَبَصَّرْ هْلَ تَرَى ظُعُنًا *** تُحْدَى لِساقَتِها بالدَّوِّ مِرْزيحُ
والمَرْزَح كمَسْكَن: المَقْطَعُ البَعيدُ، وما اطْمأَنَّ من الأَرضِ قال الطِّرِمّاح:
كأَنَّ الدُّجَى دون البلاد مُوكَّلٌّ *** يَنِمُّ بَجنْبَيْ كلِّ عُلْوٍ ومرْزَحِ
والمِرْزَح كمِنْبَر: الخَشَب يُرْفَع به الكَرْمُ عن الأَرض، قاله ابن الأَعرابيّ. وفي التَّهذيب: يُرْفَع به العِنَب إِذا سقطَ بعضُه على بَعْضٍ.
ورزَاحُ بنُ عَدِيِّ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بن غالبٍ، بالفتح في قريش، رَهْط سيّدنا أَمير المؤمنين عُمَرَ بنِ الخطّاب رضي الله عنه.
ورِزَاحُ بنُ عَدِيّ بن سَهْم، ورِزَاحُ بنُ رَبِيعة بن حَرَامِ بن ضِنَّةَ بالكسر.
ورَازِحٌ: أَبو قَبيلةٍ من خوْلانَ بن عَمْرِو بن الْحَافِ بنِ قُضَاعةَ، نَزلَتْ الشَّام.
وعاصِمُ بنُ رازِحٍ، مُحدِّث. وأَحمدُ بنُ عليِّ بنِ رازِحٍ، جاهِليّ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
رزَحَ فلانٌ، معناه: ضَعُفَ وذهَبَ ما في يدِه. وهو مجازٌ، وأَصله من رَزَاحِ الإِبل: إِذا ضعُفَتْ ولصِقَت بالأَرض فلم يكن بها نُهوضٌ. وقيل: رزَح، أُخِذ من المَرْزَحِ، وهو المطمئنّ من الأَرْض، كأَنه ضَعُفَ عن الارتقاءِ إِلى ما علا منها.
ومن سجعات الأَساس: ومن كانت أَمْوالُه مُتنازِحة، كانت أَحوالُه مُترَازِحة.
ورَزَحَ العِنَبَ وأَرْزَحه: إِذا سقَطَ فرفَعَه.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
49-تاج العروس (سرح)
[سرح]: السَّرْحُ: المالُ السائِمُ. وعن اللّيث: السَّرْحُ: المالُ يُسام في المَرْعَى من الأَنعام. وقال غيره: ولا يُسمَّى من المالِ سَرْحًا إِلا ما يُغْدَى به ويُراحُ. وقيل: السَّرْحُ من المالِ: ما سَرَحَ عليك. والسَّرْحُ أَيضًا: سَوْمُ المالِ، كالسُّرُوحِ، بالضّمّ، قال شيخنا: ظاهره أَنه مَصدَرُ المتعدِّي، والصّواب أَنه مصدرُ اللّازمِ كما اقتضاه القياس. والسَّرْحُ: إِسَامَتُها، كالتَّسْريحِ. يقال: سرَحِت الماشيةُ تَسْرَحُ سَرْحًا وسُروحًا: سامَتْ. وسَرَّحَها هو: أَسامَها، يَتعدَّى ولا يتعَدَّى. قال أَبو ذُؤيب:وكان مِثْلَيْنِ أَنْ لا يَسْرَحُوا نَعَمًا *** حَيْثُ اسْتراحَتْ مَواشِيهِمْ وتَسْرِيحُ
تقول: أَرَحْتُ الماشيةَ، وأَنْفَشْتها، وأَسَمْتُها، وأَهْمَلْتُها، وسَرحْتُها سَرْحًا، هذه وَحْدَها بلا أَلِفٍ. وقال أَبو الهَيثم في قوله تعالى: {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} قال: يُقال: سَرَحْتُ الماشيةَ: أَي أَخرجتُها بالغَداةِ إِلى المرْعَى، وسَرَحَ المالُ نفسُه، إِذا رَعَى بالغداةِ إِلى الضَّحاءِ ويقال: سَرَحْت أَنا سُروحًا؛ أَي غَدَوْتُ. وأَنشد لجرير:
وإِذا غَدوْتِ فَصَبَّحَتْكِ تَحيَّةٌ *** سَبَقَتْ سُرُوحَ الشّاحِجاتِ الحُجَّلِ
والسَّرْح: شَجَرٌ كِبَارٌ عِظَامٌ طِوَالٌ، لا يُرْعَى، وإِنما يُستَظَلُّ فيه، ويَنْبُت بنَجْدٍ في السَّهْلِ والغَلْظِ ولا يَنْبُت في رَملٍ ولا جَبَلٍ، ولا يأْكلُه المالُ إِلّا قَلِيلًا، له ثَمرٌ أَصفرُ، أو هو كلُّ شَجرٍ لا شَوْكَ فيه، والوَاحِدُ سَرْحةٌ، أَو هو كلُّ شَجَر طَالَ. وقال أَبو حَنِيفَة: السَّرْحةُ: دَوْحةٌ مِحْلالٌ وَاسِعةٌ يَحُلُّ تحتَهَا النَّاسُ في الصَّيف، ويَبنُون تحتَها البُيوتَ، وظِلُّها صالحٌ. قال الشاعر:
فيا سَرْحَةَ الرُّكْبانِ ظِلُّكِ بارِدٌ *** وماؤُكِ عَذْبٌ لا يَحِلُّ لوارِدِ
وقال الأَزهريّ: وأَخبرني أَعرابيّ قال: في السَّرْحةِ غُبْرَةٌ، وهي دون الأَثْلِ في الطُّولِ، ووَرَقُها صِغَارٌ، وهي سَبْطَةُ الأَفْنانِ. قال: وهي مائلة النِّبْتَة أَبدًا، ومَيْلُهَا من بينِ جَميعِ الشَّجَرِ في شِقِّ اليَمين. قال: ولم أَبْلُ على هذا الأَعرابيّ كَذِبًا. ورُوِيَ عن اللَّيْث قال: السَّرْح: شَجرٌ له حَمْلٌ، وهي الأَلَاءُ، والواحدةُ سَرْحَةٌ. قال الأَزهَريّ: هذا غَلطٌ، ليس السَّرحُ من الأَلَاءِ في شيْءٍ، قال أَبو عُبيدٍ: السَّرْحةُ: ضَرْبٌ من الشَّجَرِ، مَعْرُوفَةٌ، وأَنشد قولَ عنترةَ:
بَطَلٌ كأَنّ ثِيابَهُ في سَرْحَةٍ *** يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ ليس بتَوْأَمِ
يَصفه بطولِ القَامَةِ. فقد بَيَّن لك أَن السَّرْحةَ من كِبار الشَّجر، أَلَا تَرَى أَنه شَبَّه به الرَّجُلَ لِطوله، والأَلَاءُ لَا سَاقَ له ولا طُولَ.
وفي حديثِ ظَبْيَانَ: «يأْكلون مُلَّاحَهَا ويَرْعَوْنَ سِرَاحَهَا». قال ابن الأَعْرَابيّ: السَّرْحُ: كِبَار الذَّكْوَانِ.
والذَّكْوَانُ: شَجَرٌ حَسَنُ العَسَالِجِ.
والسَّرْحُ: فِنَاءُ الدَّارِ. وفي اللسان: فِنَاءُ البابِ.
والسَّرْحُ: السَّلْح.
والسَّرْح والسَّرِيح: انْفِجَارُ البَوْلِ وإِدْرَارُه بعد احتباسه.
وسَرَّحَ عنه فانْسَرَحَ وتَسَرَّحَ: فَرَّجَ. ومنهحديث الحَسن: «يا لها نِعْمَةً ـ يعني الشَّربَةَ من الماءِ ـ تُشْرَب لَذَّةً، وتَخْرُجُ سُرُحًا»؛ أَي سَهْلًا سَريعًا.
والسَّرْح: إِخْرَاجُ ما في الصَّدْر. يقال: سَرَحْتُ ما في صَدري سَرْحًا؛ أَي أَخْرجْتَه. وسُمِّيَ السَّرْحُ سَرْحًا لأَنّه يُسْرَحُ فيَخْرُجُ وأَنشد:
وسَرَحْنَا كلَّ ضَبِّ مُكْتَمِنْ
والسَّرْح: الإِرسالُ. يقال: سَرَحَ إِليه رَسُولًا: أَي أَرسلَه؛ كما في الأَساس وفِعْل الكلِّ كمَنَع إِلّا الأَخير فإِنه استُعمِل فيه التشديد أَيضًا. يقال سَرَّحْت فلانًا إِلى مَوضعِ كذا، إِذا أَرسلْته. والتَّسريح: إِرسالُك رسولًا في حاجة سَرَاحًا؛ كما في اللسان.
وعَمْرو بنُ سَوَادِ بنِ الأَسود بنِ عَمْرِو بنِ محمّد بن عبد الله بن عَمْرِو بن أَبي السَّرْح؛ وأَحمدُ بنُ عَمْرِو بن السَّرْحِ، وهو أَبو طاهرٍ أَحمدُ بن عَمْرِو بنِ عبدِ الله بن عَمْرو بن السَّرْحِ، عن ابنِ عَيَيْنَة، وعنهُ مُسلمٌ وأَبو داوود؛ وابنه عُمَرُ بن أَبي الظّاهرِ، حَدَّثَ عن أَبيه وجدِّه؛ وولدُه أَبو الغَيْداق إِبراهِيمُ، حَدَّث وحَفيدُه عبدُ الله بن عُمَر بن أَحمدَ عن يُونُس بن عبدِ الأَعْلَى؛ قاله الذّهبيّ.
السَّرْحِيُّون، مُحَدِّثون.
وتَسْرِيحُ المرأَةِ: تَطْليقُها، والاسم سَرَاحٌ كسَحَابٍ، مثلُ التَّبْلِيغ والبلاغِ وسَمَّى الله عزّ وجلّ الطّلاقَ سَرَاحًا، فقال: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلًا} كما سمّاه طَلاقًا من طَلَّق المَرْأَةَ، وسَمّاه الفِراقَ؛ فهذه ثَلاثةُ أَلفاظٍ تَجمعُ صَرِيحَ الطَّلاقِ الّذِي لا يُدَيَّنُ فيها المُطلِّقُ بها إِذا أَنكرَ أَن يكون عنَى بها طَلَاقًا؛ كذا في اللِّسان.
والتَّسرِيحُ: التَّسهيلُ والتَّفْريجُ، وقد سَرَّحَ عنه فانْسَرَحَ.
والتَّسْرِيحُ: حلُّ الشَّعْرِ وإِرْسالُه قبلَ المَشْط؛ كذا في الصّحاح. وقال الأَزهريّ: تَسْريحُ الشَّعرِ: تَرْجِيلُه وتَخُليصُ بعضِه من بعْضٍ بالمشْط.
والمُنْسرِح من الرّجال: المُسْتَلْقِي على ظهْرِه المُفَرِّجُ بين رِجْلَيْه كالمُنْسَدِح، وقد تقدّم.
والمُنْسرِحُ: المُتجرِّد. وقيل: القَلِيلُ الثِّيَابِ الخَفِيفُ فيها، وهو الخارجُ من ثِيابِهِ، قال رُؤبة:
مُنْسَرِحٌ عنه ذَعاليبُ الخِرَقْ
والمُنْسَرِح: ضَرْبٌ من الشِّعْرِ لخِفَّتِه، وهو جِنْسٌ من العَرُوض تَفْعِيلُه: مُسْتفعلنْ مفعولاتُ مُسْتفعِلُنْ، ستّ مرّات. وقال شيخنا: وهو العاشر من البحُور، مُسَدَّسُ الدَّائرة.
والسِّرْياح، كجِرْيالٍ: الطَّويلُ من الرِّجال. والسَّرْياح: الجَراد واسم كَلْب. وأُمُّ سِرْياحٍ: اسمُ امرأَة، مُشْتقٌّ منه. قال بعض أُمراءِ مكَّة، وقيل: هو دَرّاجُ بن زُرْعَةَ بن قَطَنِ بن الأَعرَفِ الضِّبابيّ أَمير مكَّةَ زِيدتْ شَرفًا:
إِذا أُمُّ سِرْياحٍ غَدَتْ في ظَعَائِنٍ *** جَوالِسَ نَجْدًا فاضَتِ العِينُ تَدْمَعُ
قال ابن بَرّيّ: وذكر أَبو عُمَرَ الزَّاهِدُ أَنّ أُمّ سِرْياحٍ في غيرِ هذا المَوْضِع كُنْيَةُ الجَرَادَةِ. والسِّرْياح: اسمُ الجَرادِ.
والجالِسُ: الآتي نَجْدًا. قلت: وهكذا في الغَرِيبَين للهَرويّ.
والمَسْروحُ: الشَّراب حُكِيَ عن ثعلب، وليس منه على ثقَة.
وذو المَسْروحِ: موضع.
والسَّرِيحةُ: السَّيْرُ الّتي يُخْصَف بها، وقيل: هو الذي يُشَدُّ به الخَدَمةُ فوُقَ الرُّسْغ. والخَدَمَةُ: سَيْرٌ يُشَدّ في الرُّسْغ. والسَّرِيحَة: الطَّرِيقَةُ المُسْتَطِيلَةُ من الدَّمِ إِذا كَان سائلًا والسَّرِيحة: الطَّريقَةُ الظَّاهِرة من الأَرْضِ المُسْتَوِيةُ الضَّيِّقَةُ. قال الأَزْهَرِيّ: وهي أَكْثَرُ نَبْتًا وشَجَرًا ممَّا حَوْلَهَا وهي مُشرِفَةٌ على ما حَوْلَهَا، فترَاهَا مُسْتَطِيلةً شَجِيرةً، وما حَوْلَهَا، قَليلُ الشَّجرِ، ورُبما كانت عَقَبَةً. والسَّرِيحةُ: القِطْعَةُ من الثَّوْبِ المُتَمزِّقِ، الجمع: أَي جمع السَّرِيحة في الكُلِّ سَرائِحُ، وسَرِيحٌ في الأَخير، وسُرُوح في الأَوّل.
والمِسْرَحٍ، كمِنْبَر: المُشْط وهو المِرْجَل أَيضًا، لأَنه آلة التّسريح والتَّرجيل.
والمَسْرَح بالفَتْح: المَرْعَى الّذي تَسْرَح فيه الدّوابّ للرَّعْيِ، وجمعه المَسَارِحُ. وفي حديث أُمّ زرعٍ «له إِبلٌ قَليلاتُ المَسَارِحِ». قيل: تَصفه بكَثْرةِ الإِطعامِ وسَقْيِ الأَلبانِ؛ أَي أَن إِبلَه على كَثْرَتِها لا تَغيبُ عن الحيِّ، ولا تَسْرَحُ في المَراعي البَعِيدَةِ، ولكنها باركةٌ بفِنائه ليُقَرِّب لِلضِّيفانِ من لَبنها ولحمِها، خَوْفًا من أَن يَنزِل به ضَيْفٌ وهي بعيدةٌ عارِبةٌ.
وفرَسٌ سَرِيحٌ كأَمير: عُرْيٌ، وخَيْلٌ سُرُحٌ، بضمّتين؛ أَي سرِيعٌ، كالمُنْسَرِح. يقال: ناقَةٌ سُرُحٌ ومُنْسرِحةٌ في سَيْرِها؛ أَي سَريعةٌ. قال الأَعشى:
بجُلالةٍ سُرُحٍ كأَنّ بغَرْزِهَا *** هِرًّا إِذا انْتعل المَطِيُّ ظِلَالَها
وفي اللسان: والسَّرُوح والسُّرُحُ من الإِبل: السَّريعة المَشْي. وعَطاءٌ سُرُحٌ: بلا مَطْل. ومِشْيَةٌ سُرُحٌ، بكسر الميم ـ مثلُ سُجُح؛ أَي سَهْلة.
والسَّرْحَة: الأَتانُ، أَدْرَكَتْ ولم تَحْمِلْ. والسَّرْحَةُ: اسم كَلْب لهم.
والسَّرْحة: جَدّ عُمَرَ بنِ سَعيدٍ المُحَدِّث يَرْوِي عن الزهْرِيّ. وأَما اسم الموضع فبالشّين والجيم، وغَلِطَ الجَوْهريّ فإِنه تَصحَّفَ عليه؛ هكذا نبّهَ عليه ابنُ بَرِّيّ في حاشيته. ولكن في المَراصِد واللِّسَان أَن سرْحَةَ اسمُ مَوْضعٍ، كما قاله الجوهريّ، والذي بالشين والجيم موضعٌ آخرُ، وكذلك في البيت الذي أَنشده للبيدٍ:
لِمَنْ طَلَلٌ تَضمَّنَهُ أُثَالُ *** فَسَرْحةُ فالمَرَانةُ فالخَيَالُ
والخَيَالُ بالخَاءِ واليَاءِ على ما هو مَضبوطٌ في سائر نُسخ الصّحاح، وفي باب اللّام أَيضًا، تَصحيفٌ. ولكنْ صَرّحَ شُرّاحُ دِيوانِ لبَيدٍ وفسَّروه بالوَجْهَيْن. قال الجوهَريّ في باب اللّام: الخَيَالُ: أَرْضٌ لبني تَغْلب قال شيخنا: وهو مُوَافِقٌ في ذلك لما ذكره أَبو عُبيدٍ البَكْرِيّ في معجمه والمراصد، وغيره، وإِنما هو بالحاءِ المهملة والباءِ الموحّدة لحِبَال الرَّمْل، كذا صوَّبه بعضُ المحقّقين. ووجدتهُ هكذا في هامش الصّحاح بخطٍّ يُعتمد عليه. ووجدْت أَيضًا فيه أَن الخَيَالَ بالخَاءِ المعجمة والتّحتيةِ أَرضٌ لبني تَميم.
وقولُه: السَّرْحةُ يقال لها ـ نصّ عبارته: الوَاحِدَة سَرْحَةٌ، يقال: هي ـ الآءُ، على وَزْنِ العَاعِ، غَلَطٌ أَيضًا، وليس السَّرْحَةُ الآءَ بنفْسها وإِنما لها عِنَبٌ يُسَمَّى الآءَ يُشبِه الزَّيتونَ.
والسِّرْحان، بالكسر ـ فِعْلان من سَرَحَ يَسْرَح ـ: الذِّئْبُ.
قال سيبويه: النُّون زائدةُ كالسِّرْحال، عند يَعْقُوب، وأَنشد:
تَرَي رَذَايَا الكُومِ فَوْقَ الخَالِ *** عِيدًا لمُلِّ شَيْهَمٍ طِمْلالِ
والأَعْوَرِ العَيْنِ مع السِّرْحَالِ
والأُنثَى بالهَاءِ، والجمع كالجمع، وقد تَجْمَع هذه بالأَلفِ والتّاءِ؛ قاله الكسائيّ. والسِّرْحَانُ والسِّيد: الأَسد، بلُغة هُذَيْلٍ. قال أَبو المُثَلَّم يَرْثِي صَخْر الغَيّ:
هَبّاطُ أَوْدِيَةٍ حَمّالُ أَلْوِيَةٍ *** شَهّادُ أَنْدِيَةٍ سِرْحَانُ فِتْيَانِ
وسِرْحَان كلْبٌ، واسم فَرَس عُمَارةَ بنِ حَرْب البُحْتُريّ الطّائيّ، واسم فَرَس مُحْرِزِ بنِ نَضْلَةَ الكِنَانِيّ. والسِّرْحَان من الحَوْضِ: وَسَطُه، الجمع: سَرَاحٍ كثَمَانٍ قال شيخُنَا: أَي فيُعْرَب مَنقوصًا كأنهم حَذَفوا آخرَه. انتهَى، وسَراحِي، كما يقال: ثَعَالِبُ وثَعالِي، وسِرَاحٌ وسِرْحَانٌ كضِباعٍ وضِبْعَانٍ قال الأَزهريّ: ولا أَعرف لهما نَظيرًا، وسَراحِينُ، وهو الجارِي على الأَصل الّذي حكاه سيبويه. وأَنشد أَبو الهَيْثَم لطُفيل:
وخيلٍ كأَمْثَالِ السِّرَاحِ مَصونةٍ *** ذَخَائِرَ ما أَبْقَى الغُرَابُ ومُذْهَبُ
وذَنَبُ السِّرْحَانِ الوَارِد في الحَدِيث: هو الفَجْرُ الكاذِبُ؛ أَي الأَولُ، والمراد بالسِّرْحَان هنا الذِّئْب، ويقال: الأَسد.
وذو السِّرْح: وادٍ بين الحَرمَيْن، زادهما الله شرفًا، سُمِّي بشجرِ السَّرْح هُناك، قُرْبَ بَدْرٍ، ووادٍ آخرُ نَجْديّ.
وسَرِحَ، كفرِحَ: خَرَجَ في أُمُورِه سَهْلًا، ومنهحديث الحَسن: «يا لها نِعْمَةً ـ يعنِي الشِّرْبةَ [من] الماءِ ـ تُشْرَب لَذّةً، وتَخْرُج سُرُحًا»؛ أَي سَهْلًا سَريعًا.
ومُسَرَّحٌ، كمُحَمَّد: عَلَمٌ.
وبنو مُسَرِّحٍ، كمُحَدِّث: بَطْنٌ.
وسَوْدَةُ بنتُ مِسْرَحٍ، كمِنْبَرٍ، صَحَابِيَّةٌ حَضَرتْ وِلادَةَ الحَسَنِ بن عليّ، أَورده المِزِّيّ في ترجمته، وقيّد أَباها ابنُ ماكُولا، أَو هو مِشْرَحٌ، بالشِّين المعجمة.
وسَرَاحِ، مبنياًّ على الكسرِ كقَطَامِ: فَرَسٌ.
وكَسَحَابٍ، جَدُّ لأَبي حَفْصٍ عُمَرَ بنِ شَاهِينَ الحَافظِ المشهور.
وكَكتّانٍ، فَرَسُ المُحَلَّقِ، كمعظَّم، ابْن حَنْتَمٍ، بالنون والمثنّاة الفوقيّة، وسيأْتي.
وككُتُبٍ: ماءٌ لبني العَجْلَانِ، ذَكَرَه ابن مُقْبِل، فقال:
قالتْ سُلَيمَى ببطنِ القَاعِ من سُرُحٍ
وسَرْحٌ، بفتح فسكون عَلَمٌ قال الرّاعي:
فلَوْ أَنّ حَقَّ اليومِ منكم إِقامةٌ *** وإِنْ كان سَرْحٌ قد مَضَى فتَسَرَّعَا
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
السّارِحُ: يكون اسمًا للرّاعِي الّذي يَسْرَحُ الإِبلَ، ويكون اسمًا للقَوْمِ الّذِين لهم السَّرْح، كالحاضِرِ والسّامِر.
وماله سارِحةٌ ولا رائحة: أَي ماله شَيْءٌ يَروح ولا يَسْرَح. قال اللِّحْيَانيّ: وقد يكون في معنَى مالَه قَوْمٌ.
وقال أَبو عُبَيْدٍ: السّارِحَ والسَّرْح والسَّارحَة سَوَاءٌ: الماشيَةُ. وقال خالد بن جَنْبَة: السَّارِحَة: الإِبلُ والغَنَم. قال: والدَّابَّةُ الوَاحِدَة. قال وهي أَيضًا الجَمَاعَة.
ووَلَدَتْه سُرُحًا، بضمّتين؛ أَي في سُهولة. وفي الدّعاءِ: «اللهُمَّ اجْعَلْه سَهْلًا سُرُحًا.
وشَيْءٌ سَريحٌ: سَهْلٌ.
وافْعَلْ ذلك في سَرَاحٍ ورَوَاحٍ؛ أَي في سُهولة.
ولا يكون ذلك إِلَّا في سَريحٍ؛ أَي في عَجَلةٍ. وأَمْرٌ سَريحٌ: مُعجَّل، والاسم: السَّرَاحُ. والعرب تقول: إِنّ خَيْرَكَ لَفِي سَرِيحٍ، وإِن خَيْرك لَسَرِيحٌ، وهو ضِدُّ البَطِيءِ.
ويقال: تَسرَّحَ فُلانٌ من هذا المكانِ، إِذا ذَهَبَ وخَرَج.
ومن الأَمثال: «السَّرَاحُ من النَّجَاح» أَي إِذا لم تَقْدِر على قَضَاءِ حاجَةِ الرَّجُلِ فأَيْئسْه فإِن ذلك عنده بمنزلةِ الإِسعافِ؛ كذا في الصّحاح.
والمُسْتَرَاحُ: مَوْضِعٌ بمِشَانَ، وقَرْيةٌ بالشّام.
وسَرْح، بالفتح: عند بُصْرَى.
ومن المَجَاز: السَّرْحَة: المَرْأَةُ. قال حُميدُ بنُ ثَوْرٍ:
أَبَى اللهُ إِلّا أَنَّ سَرْحَةَ مالِكٍ *** على كُلِّ أَفنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ
كنَى بها عن امرأَةٍ. قال الأَزهريّ: العرب تَكْنِي عن المَرْأَةِ بالسَّرْحةِ النابِتَة على الماءِ. ومنه قوله:
يَا سَرْحَةَ المَاءِ قد سُدَّتْ مَوارِدُهُ *** أَمّا إِليكِ طريقٌ غيرُ مسدودِ
كَنَى بالسَّرحةِ النّابتةِ على الماءِ عن المَرْأَةِ، لأَنها حينئذٍ أَحْسَنُ ما تكون.
والمُنسرِح: الّذِي انْسَرَحَ عنه وَبَرُه.
وفي الصّحاح: ومِلَاطٌ سُرُحُ الجَنْبِ: مُنْسَرِحٌ للذَّهَابِ والمَجِيءِ. يعنِي بالمِلَاطِ الكَتِفَ، وفي التهذيب: العَضُد. وقال ابن شُمَيل: مِلاطَا البَعيرِ: هما العَضُدانِ.
والمِسْرَحَة: ما يُسرَّح به الشَّعْرُ والكَتّانُ ونَحْوُهما.
والسَّرائِحُ والسُّرُح: نِعالُ الإِبلِ. وقيل: سُيورُ نِعالِهَا، كلُّ سَيْرٍ منها سَرِيحةٌ. وأَورده ابن السيد في كتاب الفَرْق:
فَطِرْنَ بمُنْصُليِ في يَعْمَلاتٍ *** دَوَامِي الأَيْدِ يَخْبِطْن السَّرِيحَا
وقال السُّهيليّ في الرَّوْض: السَّريح شِبْهُ النَّعْل تُلْبَسُه أَخْفافُ الإِبل.
وعن أَبي سعيد: سَرَحَ السَّيْلُ يَسْرَح سَرْحًا: إِذا جَرَى جَرْيًا سَهْلًا، فهو سَيْلٌ سارحٌ.
وسَرائحُ السَّهْمِ: العَقَبُ الّذِي عُقِب به. وقال أَبو حَنيفَة: هي العَقَبُ الّذي يُدْرَجُ على اللِّيطِ، واحدتُه سَرِيحةٌ. والسَّرَائِحُ أَيضًا آثارٌ فيه كآثارِ النَّار.
ومن المَجَاز: سَرَحَه اللهُ وسَرَّحَه؛ أَي وَفَّقَه الله تعالى.
قال الأَزهَرِيّ: هذا حَرفٌ غريب، سمِعته بالحاءِ في المؤلَّف عن الإِياديّ.
والمَسْرَحَانِ: خَشَبتَانِ تُشَدَّانِ في عُنُق الثَّورِ الّذي يُحْرَث به، عن أَبي حَنيفَةَ.
وفَرَسٌ سِرْيَاحٌ: سَريعٌ. قال ابن مُقْبِل يَصف الخَيْل:
مِنْ كلِّ أَهْوَجَ سِرْيَاحٍ ومُقْرَبَةٍ
ومن المَجاز: هو يَسْرَح في أَعراضِ النّاسِ: يَغْتابُهم.
وهو مُنْسَرِحٌ من ثياب الكَرَم؛ أَي مُنْسَلخٌ؛ كذا في الأَساس. وأَبو سَريحَةَ: صَحَابيٌّ، اسمه حُذيفةُ بنُ سعيد: ذكره الحُفّاظ في أَهْلِ الصُّفَّةِ؛ قاله شيخنا. قلت: وقرأْت في مُعجم ابن فَهْدٍ: أَبو سَريحةَ الغِفَارِيّ حُذَيْفَةُ بن أَسيدٍ، بايعَ تحت الشّجرةِ، روَى عنه الأَسودُ بن يَزيدَ. وأَبو سِرْحَانَ وسُرَيُحَانَ: من كُنَاهم. وسُلَيمُ بنُ سَرْحٍ: من التّابعين؛ كذا في تاريخ البخاريّ. وبخطّ أَبي ذَرٍّ بالهامش: سَرْج، بالجيم. وسُوَيدُ بنُ سِرْحانَ، عن المُغيرةِ، وعنه إِيادُ بن لَقِيطٍ. وأَبو سَرْحٍ أَو أَبو مَسْروح: كُنْيَة أَنَسَةَ مولى النَّبيّ صَلّى الله عَليه وسلّم.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
50-تاج العروس (كفح)
[كفح]: الكَفِيحُ: الكُفْءُ والنَّدِيد، وزَوْجُ المَرْأَةِ، لِكَوْنه يُكافحُهَا مُواجَهةً. والضَّجِيع لها، كما في الأساس.والضَّيْف المفاجئُ على غَفْلَة.
والأَكْفَح: الأَسْوَد المَتغيِّر. وكفَحْته كَفْحًا كلَوَّحْته.
وكَفَحَه، كَمَنَعَه: كَشَفَ عنه غِطاءَه، ككَشَحَه وكَثَحَه.
وكَفَحَه بالعَصا كَفْحًا: ضَرَبَه بها. وقال الفرّاءُ: كفَحْته بالعصا؛ أَي ضَرَبْته، بالحاءِ. وقال شَمِرٌ: كَفَخْته، بالخَاءِ المعجمة. وقال الأَزهريّ كفَحْته بالعصا والسَّيْف، إِذَا ضَرَبْتهُ مُوَاجهةً، «صحيحٌ». وكفَخْته بالعصا، إِذا ضَرَبْته لا غَيرُ.
وكَفَحَ لِجَامَ الدّابّة كَفْحًا: جَذَبَه. وعبارة التّهذيب والمحكم: كفَحَهَا باللِّجَامِ كَفْحًا: جَذَبَهَا، كأَكْفَحَه. وفي التهذيب: أَكفَحَ الدّابَّةَ إِكْفاحًا تَلقَّى فاهَا باللِّجَام يضرِبُه به لِتَلْتَقِمَه، وهو من قولهم: لَقِيتُه كِفَاحًا؛ أَي استَقْبَلْتُه كَفَّةَ كَفَّةَ.
وكَفَحَ فُلانًا: وَاجَهَه وكَفَحَ المرأَةَ يَكْفَحُهَا: قَبَّلَها فَجْأَة؛ أَي غَفْلَة، ككافَحَها، فيهما؛ أَي في تقبيل المرأَةِ والمواجهة، وقول شيخنا إِنّ هذه عبارةٌ قَلِقَة غيرُ مُحرّرةٍ ليس بسديدٍ، بل هي في غايةِ الوُضُوح والبَيَانِ، فإِنه أَشارَ بقوله «فيهما» إِلى الوجهَين، ففي المحكم والمَشَارقِ والتّهذيب: المُكَافَحَة مُصادَقَةُ الوَجْهِ بالوَجْهِ مفاجأَةً، كَفَحَهُ كَفْحًا وكافَحَه مُكَافحةً وكِفَاحًا: لَقِيَهُ مُواجهة، ولَقِيَه كَفْحًا ومُكافحةً وكِفاحًا؛ أَي مُوَاجهةً، جاءَ المصدُر فيه على غير لفظِ الفِعْل، قال ابن سيده: وهو موقوفٌ عند سيبويه مطَّردٌ عند غيره. وأَنشد الأَزهريّ:
أَعاذِلُ مَن تُكتَبْ له النّارُ يَلْقَهَا *** كِفَاحًا ومن يُكْتَبْ له الخُلْدُ يَسْعَدِ
والمكافَحةَ في الحَرْب: المُضَارَبةُ تِلْقَاءَ الوُجُوه.
وفي النهاية: في الحديثِ أَنّه قال لحسّان «لا تَزَالُ مُؤَيَّدًا برُوحِ القُدُسِ ما كَافَحْتَ عَنْ رسول الله»، المُكَافَحة: المُضَارَبة والمُدَافَعَة تِلْقَاءَ الوَجْه، ويُرْوَى نَافَحْتَ، وهو بمعناه. وفي الصحاح: كافَحُوهُم، إِذا استَقْبَلُوهم في الحرْب بوُجُوهِهم ليس دونَها تُرْسٌ ولا غَيْرُه.
وفي حديث جابر «إِنَّ الله كلَّمَ أَباك كِفَاحًا» أَي مُوَاجَهةً ليس بينهما حجابٌ ولا رَسولٌ.
وقال الأَزهريّ في حديث أَبي هريرةَ «أَنَّه سُئِلَ: أَتُقبِّل وأَنتَ صائم؟ فقال: نعمْ وأكْفَحُهَا»؛ أَي أَتمكَّن من تَقبيلها وأَستَوْفِيه من غير اختلاسٍ، من المُكَافَحة، وهي مُصادَفةُ الوَجْهِ. وبعضهم يرويه: «وأقحَفُها» قال أَبو عُبَيْد: فمن رَوَاه وأَكفَحُها أَراد بالكَفْح اللِّقَاءَ والمباشَرَة للجِلْدِ؛ وكلُّ مَن واجَهتَه ولَقِيتَه كفةً كفةً فقد كافَحْته كفَاحًا ومُكافحةً، ومن رواه «وأَقحَفُهَا» أَراد شُرْبَ الرِّيق، من قَحَفَ الرَّجلُ ما في الإِناءِ، إِذا شَرِبَ ما فيه. وإِذا علِمتَ ذلك ظَهرَ لك وُضوحُ عبارته ودَفْعُ التعارُضِ بين عبارة النّهَايَة والقاموس على ما ادَّعَى القارئ في الناموس. والله تعالى أَعلم.
وكَفِحَ عنه كَسَمِعَ: خَجِلَ وجَبُنَ عن الإِقْدَام، وقال ابن شُمَيْل في تفسير الحديث: «أَعْطَيْتُ مُحَمّدًا كِفَاحًا» أَي أَشياءَ كثيرَةً مِن ونصّ عبارتِه: أَي كثيرًا من الأَشياءِ في الدُّنْيَا والآخرة. وأَكفَحْتُه عنِّي: ردَدْتُه عن الإِقدام علَيَّ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الكَفْحَةُ من النّاسِ: جماعةٌ ليست بكثيرة، كالكَثْحة، كذا في النوادر.
وكَفَحَتْه السَّمائمُ كَفْحًا: لَوَّحَتْه.
وتَكافَحُوا، وتَكَافَحَت الكِبَاشُ.
ومن المجاز: تَكَافَحَت الأمواجُ. وبَحْرٌ مُتكافِحُ الأَمواجِ. وكافَحَتْه السَّمُومُ. والمُكَافِحُ: المباشِرُ بنفْسِه، وفُلانٌ يكافِحُ الأَمورَ، إِذا باشَرَها بنفْسِه. وتكفَّحَت السَّمَائم أَنفُسُها: كَفَحَ بعضُها بعْضًا. قال جَندَلُ بن المثنَّى الحارثيّ:
فَرَّجَ عنها حَلَقَ الرَّتائجِ *** تكَفُّحُ السَّمَائِمِ الأَواجِجِ
أَراد الأَواجَّ، ففَكَّ التّضعيفَ للضّرورة.
وكافَحَه بما ساءَه.
وأَصابَه من السَّمُومِ لَفْح، ومن الحَرُور كَفْح.
والمكافَحَة: الدَّفْعُ بالحُجَّة، تَشبيهًا بالسَّيف ونحوِه.
وهذه استدركها شيخُنَا نقلًا مِنْ مُفردات الرّاغب.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
51-تاج العروس (شيخ)
[شيخ]: الشَّيْخ والشَّيْخُونُ، قال شيخنا: الثّاني غَريبٌ غير مَعْرُوف في الأُمّهات المشهورة، وأَوردَه بعض شُرّاح الفصِيح وقالوا: هو مُبالغة في الشَّيْخ: مَنِ اسْتَبَانَتْ فِيهِ السِّنُّ وظَهَر عليه الشَّيبُ، أَو هو شَيْخٌ من خَمْسِينَ إِلى آخرِه، أَو هو من إِحْدَى وخَمسينَ إِلى آخرِ عُمرِه، وقد ذكرَهما شُرَّاح الفصيح، أَو هو من الخمسين إِلى الثّمانين، حكاه ابن سيده في المخصّص، والقزّاز في الجامع، وكُراع، وغير واحد. الجمع: شُيُوخٌ، بالضمّ على القياس، وشِيُوخٌ، بالكسر لمناسَبَة التّحتيّة، كما في بيوتٍ وبابه، وأَشْيَاخٌ كبَيْت وأَبيات، وشِيَخَةٌ بكسْر ففتْح، وشِيخَةٌ كصِبْيَة، ذكرَه ابن سيده وكُراع. وشِيخانٌ، الكسر كضِيفانٍ ومَشْيَخَةٌ، بفتْح الميم وكسْرها وسكون الشين وفتْح التحتيّة وضمّها، وقد ذكرَ الرِّوَايتين اللِّحْيَانيّ في النوادر ومَشِيخَةٌ، بفتح الميم وكسر المعجمة، ومَشْيُوخاءُ، وقد مَرَّ في الجيم أَنّه لا نظير له إِلا أَلفاظ ثلاثة، ويزاد مَعْبُودَاءُ ومَعْيُوراءُ، وسيأْتي ذكرهما. ومَشْيُخَاءُ، بحذف الواو منها، ولم يذكره ابن منظور. ومَشايِخُ، وأَنكره ابن دريد، وقال القزّاز في الجامع: لا أَصْل له في كلام العرب. وقال الزَّمخشريّ: المَشايخ ليست جمْعًا لشَيخ، وتَصلح أَن تكون جمْع الجمَع. ونقل شيخُنا عن عِناية الخفاجيّ أَثناءَ المائدة: قيل مَشَايخ جمع شَيْخ لا على القياس، والتحقيق أَنَّه جمْعُ مَشْيَخة كمَأْسَدة، وهي جمْع شَيْخٍ.وممّا أَغفله من جُموع الشَّيخ الأَشاييخ. قال الزَّمَخْشَريّ: ويقولون: هؤلاءِ الأَشاييخ، يراد جمْع أَشياخٍ، مثل أَنايِيب وأَنيابٍ، نقله شُرّاح الفصيح، قاله شيخُنَا.
وتصغيره شُيَيْخ بالضّمّ، على الأصل، وشِيَيْخ، بالكسر على ما جَوَّزوه في اليائيّ العين، كبِيَيْت وشُوَيْخ بالواو، قليلة، بل أَنكرَها جماعة، ولم يعرِفها الجوهريّ الّذي نصُّ عبارته: ولا تقل شُوَيْخ. فانْظُرْه مع عبارة المصنف.
وعَبْدُ اللَّطِيف بن نصْرٍ، وعبد الله بن محمَّد بن عبد الجليلِ، المحدِّثانِ الشَّيْخِيَّانِ: نِسْبَةٌ إِلى الشَّيْخ القُطْب الإِمام أَبي نصرٍ المِيهَنِيّ، بكسر الميم، نسْبة إِلى مِيهَنَةَ بلْدةٍ بالعجم.
وهي شَيْخَةٌ، ولو قال: وهي بهاءٍ كفى، وكأَنّه صَرّحَ لبُعْد ذِكْرِ المُذَكَّر الّذي يُحال عليه، قال شيخنا. ثم إِنَّ إِثباتَها نقلَه القزّازُ وغيرُه من أَئمّة الُّلغة، وأَنشدوا قول عَبِيد بن الأَبرص:
كأَنّهَا لِقْوَةٌ طَلُوبٌ *** تَيْبَسُ في وَكْرِها القُلوبُ
باتَتْ علَى أُرَّمٍ عَذُوبًا *** كأَنّها شَيْخَةٌ رَقُوبُ
قال ابن بَرِّيّ: الضمير في باتت يعود إِلى اللِّقْوَة، وهي العُقاب، شبَّهَ بها فرَسَه إِذا انقَضَّت للصَّيد. وعَذُوب: لم تَأْكل شيئًا. والرَّقُوب: الّتي تَرْقُبُ وَلدَهَا خَوفًا أَن يَموت.
وقد شاخَ يَشيخُ شَيَخًا محرّكةً، وشُيُوخَةً بضمّ الشّين وكسرها كسُهُولة وشُيُوخِيَّة، بضمّ الشّين وكسْرها، حكاه اليَزيديّ في نوادره. وزاد اللِّحْيَانيّ شَيخُوخةً وشَيْخُوخِيَّة. فهو شَيْخٌ.
وشَيَّخَ تَشْيِيخًا وتَشَيَّخَ: شاخَ.
وفي اللِّسان: أَصلُ الياءِ في شَيخوخة متحرِّكة فسكّنتْ، لأَنّه ليس في الكلام فَعْلُول، وما جاءَ على هذا من الواو مثل كَيْنُونَة وقَيْدودة وهَيْعوعة فأَصله كَيَّنُونة، بالتشديد، فخفّف، ولولا ذلك لقالوا: كَوْنُونة وقَوْدُودَة، ولا يَجب ذلك في ذوات الياءِ مثل الحَيْدُودة والطَّيرورة والشَّيخوخة.
وأَشياخُ النُّجُومِ هي الدَّراريّ قال ابنُ الأَعرابيّ: أَشياخُ النُّجُومِ هي الّتي لا تَنزِل في مَنازل القمرِ المسمَّاة بنُجوم الأَخْذ. قال ابن سيده: أُرى أَنّه عَنَى بالنُّجوم الكواكبَ الثابِتَة. وقال ثعلب: إِنّمَا هي أَسناخُ النُّجوم، وهي أُصولُهَا الّتي عليها مَدَارُ الكواكب وسَيرُهَا، وقد تقدّم في س ن خ.
والشَّيْخُ: شَجَرَةٌ، قال أَبو زيد: ومن الأَشجار الشَّيْخ، وهي شجَرةٌ يقال لها شَجَرةُ الشُّيوخِ، وثَمرتُها جِرْوٌ كجِرْو الخِرِّيع. قال: وهي شَجَرَة العُصْفُر، مَنبِتها الرِّياضُ والقُرْيانُ.
والشَّيْخ للمرأَة: زَوْجُها.
ورُسْتَاقُ الشَّيْخِ: موضع بأَصْفَهَانَ.
وشَيْخَانُ: لَقبُ مِصْعَب بن عبد الله المُحدِّث. وشَيْخَانِ مَبنيًّا على الكسر على ما ضَبطه ابن الأَثير: موضع بالمدينة، على ساكِنها أَفضلُ الصَّلاةِ والسلامِ، وهو مُعَسْكَرُه صلى الله عليه وسلم يومَ أَحُدٍ، وبه عَرَضَ النّاس.
وشَيَّخَه تَشييخًا: دَعاهُ شَيخًا، تَبْجِيلًا وتَعظيمًا.
وشَيَّخَ عليه: عابَه وشنَّعَ عليه.
وشَيَّخَ به: فَضَحَه. قال أَبو زيد: شَيَّخْت بالرَّجلِ تشييخًا وسَمَّعتُ به تَسميعًا، ونَدّدْت به تَنديدًا، إِذا فَضَحْتَه.
والشَّيْخَة، مقتضَى إِطلاقِه أَنه بالفَتح، وقد حقّق غَيرُ واحدٍ أَنّه بالكسر: رَمْلَةٌ بيضاءُ ببلادِ أَسَد وحَنْظَلَة، وهكذا رَواه الجَرميُّ وغيره، ومنه قولُ ذِي الخِرَقِ خَليفةَ بنِ حَمَلٍ الطُّهَويّ ـ نِسبة لطُهيَّة بالضّمّ، قبيلة يأْتي ذِكْرُهَا، وإِنّمَا لُقِّبَ بيتٍ أَو شِعرٍ ـ على الصحيح، خلافًا لأَبي عُمَرَ الزّاهِد وابن الأَعرابيّ، فإِنّهما رَوياه بالحاءِ المهملة:
ويَستخرِجُ اليَرْبُوع من نافِقَائهِ
ومن جُحْرِهِ بالشَّيْخةِ اليَتَقَصَّعُ وهو من أَبياتٍ سبْعة أَوَردها أَبو زيدٍ في نَوادره لذِي الخِرَق، وبَسطَه في شرح شَواهد الرَّضيّ لعبد القادر البغداديّ.
والشِّيخَة، بكسر الشّين: ثَنِيَّةٌ، كذا في سائر الأُصول الموجودة عندنا، وفي نُسخة أُخرَى «بِنْية»، بكسر الموحَّدة وسكون النُّون وفتْح الياءِ التّحتيّة، وصحّحَ شيخنا الأُولَى والصّواب على ما في اللّسان وغيره من الامَّهَات «نَبْتة»، واحدةُ النّبتِ، بالنُّون ثم الموحَّدة، لبَياضِها، كما قالوا في ضَرْبٍ من الحَمْضِ: الهَرْمُ.
والشَّاخَة: المعتَدِلُ، قال ابن سيده: وإِنَّمَا قَضَينا على أَنّ أَلفَ شاخة ياءٌ لعدم ش وخ، وإِلّا فقد كان حقّها الواو لكونها عَينًا، كذا في اللسان.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
قال أَبو العبّاس: شَيْخٌ بَيِّنُ التّشيُّخ والتَّشيِيخ والشَّيْخُوخة.
والشَّيْخ: وَطْبُ اللَّبنِ، والشَّيْخ: الوَعِلُ المُسِنّ.
ومن المَجاز: وَرِثَ مِن مَشْيَخَته الكرَمَ ومن أَشياخِه: آبائه، كذا في الأَساس.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
52-تاج العروس (فرخ)
[فرخ]: الفَرْخُ: ولَدُ الطّائرِ، هذا الأَصلُ، وقد استُعمِل في كلّ صغيرٍ مِنَ الحَيَوَانِ والنَّبَاتِ: الشَّجَرِ وغَيرِهَا. الجمع: القليلُ أَفْرُخٌ، بضمّ الراءِ، وأَفْرَاخٌ، وهو شاذّ، لأَنّ فَعْلًا الصّحيحَ العَيْنِ لا يُجْمَع على أَفعالٍ، وشَذّ منه ثلاثةُ أَلفاظٍ فَرْخ وأَفراخٌ، وزَنْدٌ وأَزناد، وحَمْل وأَحمال، قاله ابن هِشام في شرْحِ الكَعبيّة، وأَشار إِليه في التَّوضيح وغيرِه. قال: ولا رابع لها، بخلاف نَحو ضَيْف وأَضياف، وسَيْف وأَسياف، فإِنَّه بابٌ واسعٌ، كذا نقلَه شيخنا. وفِرَاخٌ، بالكسر جمْعٌ كثيرٌ، وكذلك فُرُوخٌ، بالضّمّ، وفُرُخٌ، بحذْف الواو، وأَفْرِخَةٌ، جمعٌ قليلٌ نادرٌ، عن ابن الأَعرابيّ.وأَنشد:
أَفْوَاقُها حِذَةَ الجَفِيرِ كأَنّها *** أَفْوَاهُ أَفْرِخَةٍ من النِّغْرانِ
وفِرْخَانٌ، بالكسر جمْع كَثير.
والفَرْخُ: الرَّجُل الذَّليلُ المَطْرُودُ، وقد فَرَّخ، إِذَا ذَلّ، قاله أَبو منصور.
ومن المَجاز: الفَرْخُ الزَّرْعُ المُتَهيِّئ للانشِقاقِ بعد ما يَطلُعُ، وقيل هو إِذا صارَت له أَغصانٌ، وقد فَرَّخَ وأَفرَخَ، وقال اللّيث: الزَّرْعُ ما دَامَ في البَذْرِ فهو الحَبُّ، فإِذا انشَقَّ الحَبُّ عن الوَرَقِ فهو الفَرْخ، فإِذا طَلَعَ رأْسُه فهو الحَقْل.
والفَرْخ عَلَمٌ. والفَرْخُ مُقَدَّمُ الدِّماغِ، على التشبيه، كما قيل له: العُصْفُورُ، جمْعه فِرَاخٌ. قال الفرزدق:
ويَوْمَ جَعلْنا البِيضَ فيه لعامرٍ *** مُصَمّمَةً تَفْأْى فِرَاخَ الجَماجِمِ
يَعنِي به الدِّمَاغَ. والفَرْخ: مُقَدَّمُ دِمَاغِ الفَرَس.
وأَفْرَخَتِ البَيْضَةُ والطَّائرةُ وفَرَّخَتْ، مُشدّدًا: صارَ، هكذا بالصاد في النسخ التي بأَيدينا، والذي في اللّسان وغيره: طار لهَا، بالطّاءِ المهملة فَرْخٌ. وهي مُفْرِخٌ، كمُحْسِن ومُفرِّخ، بالتَّشْدِيد، وأَفرَخَ البيضُ: خَرَجَ فَرْخُه وأَفرَخَ الطائرُ: صار ذا فَرْخٍ، وفَرَّخَ، كذلك. والمَفَارِخُ: مَواضِعُ تَفريخِها، لم يذكُرُوا له مُفْرَدًا.
واسْتَفْرَخَ الحَمَامَ: اتَّخَذَها للفِرَاخِ، ومنه قَول الحَريريّ: يَستَفْرِخُ حيث لا أَفراخ.
ومن المَجاز: فَرَّخَ الرَّوْعُ، بفتح الرّاءِ تَفْرِيخًا: ذَهَبَ، كأَفْرَخَ، ومنهم من ضَبطَ الرُّوع، بالضمّ، ولا معنَى لذَهاب القَلْب، كما هو ظاهرٌ، يقال: ليُفرِخ عنك رَوْعُك؛ أَي ليَخْرُجْ عنك فزَعُك كَمَا يَخرجُ الفَرْخ عن البَيْضة. وفَرّخَ الرَّجُلُ: تَفْرِيخًا فَزِعَ ورَعَبَ، وفُرِّخَ الرِّعْدِيدُ، بالبناءِ للمجهول، تفريخًا: رُعِبَ وأُرْعِدَ، وكذلك الشَّيخُ الضّعيف. وقال الأَزهَرِيّ: يقال للفَرِقِ الرِّعديد: قد فَرّخَ تفريخًا، وفَرّخَ القَومُ: ضَعُفُوا؛ أَي صَارُوا كالفِرَاخِ من ضَعْفِهم.
وفي الأَساس: من المَجازِ فرَّخَ الزَّرْعُ تَفْريخًا: نَبَتَ أَفراخُهُ، وفَرَّخَ شَجرُهم فِرَاخًا كثيرةً، وهي ما يَخْرُجُ في أُصوله من صِغَاره.
وفَرِخَ الرَّجلُ: كَفَرِح: زَالَ فَزَعُهُ واطْمَأَنَّ. وقال الهوازنيّ: إِذا سَمِعَ صاحبُ الآمّةِ [صوت] الرَّعْدِ والطَّحْنِ فَرِخَ إِلى الأَرْضِ أَي لَزِقَ بها، تفريخًا، هذا مُقْتَضى عبارته، وقد وَرَد من باب فَرِحَ أَيضًا.
وفي حديث أَبي هُريرةَ: يا بَنِي فَرُّوخ، قال اللَّيْث: هو كَتَنُّورٍ من وَلَدِ إِبراهيمَ عليه وعلى نَبِيّنَا أَفضلُ الصّلاة والسّلام أَخو سيِّدنا الذّبيح إِسماعيلَ، وسيِّدنا الغَيورِ إِسحَاقَ عليهماالسلام، وُلدَ بعدهُمَا وكثُرَ نسلُه ونَمَا عَددُه، فهو أَبو العَجَم الّذين في وَسَطِ البِلادِ، وهو فارسيٌّ، ومعناه السَّعيد طالعُه، وقد تَسقُط واوُه في الاستعمال. وقال الشاعر:
فإِنْ يأْكُلْ أَبو فَرُّوخَ آكُلْ *** ولو كانَتْ خَنَانِيصًا صَغَارَا
قال ابن منظور: جَعلَه أَعجميًّا فلم يَصْرِفه، لمكانِ العُجْمَة والتّعريف.
ومن المجاز أَفْرَخَ الأَمْرُ وفَرَّخَ: اسْتَبَانَ آخِرُ أَمْرِه بَعْدَ اشتِبَاهٍ. ومنه أَيضًا أَفرَخَ القَوْمُ بَيْضَتَهم، وفي بعض الأُمَّهات بَيضَهُم، إِذا أَبْدَوْا سِرُّهُمْ، يقال ذلك للّذي أَظهرَ أَمْرَه وأَخرَجَ خَبَرَه، لأَنّ إِفراخ البَيضِ أَن يَخْرُجَ فَرْخُه، ومنه أَيضًا نقل الأَزهريّ عن أَبي عُبَيْدٍ من أَمثالهم المنتشرةِ في كَشْفِ الكَرب عند المخاوِف عن الجَبان قولَهم: أَفْرِخْ رُوعَكَ يا فلان؛ أَي سَكِّنْ جَأْشَكَ، يقول: ليَذْهَبْ، رُعبُك وفَزَعُك؛ فإِنَّ الأَمرَ ليس على ما تُحاذِر.
وفي الحديث كتبَ معاوية إِلى ابن زيادٍ «أَفْرِخْ روعَك قد وَلَّيناك الكُوفةَ» وكان يَخاف أَن يُولِّيَها غيرَه...
وأَفرَخَ فُؤادُ الرَّجُلِ، إِذَا خَرَجَ، روعُه وانكشَفَ عنه الفَزَعُ كما تُفرِخُ البَيضةُ إِذا انفَلَقَتْ عن الفَرْخِ فخرَجَ [منها]. وأَصْلُ الأَفراخ الانكشافُ، قال الأَزهريّ: وقَلَبَه ذُو الرُّمّة لمعرفته بالمعنى فقال:
ولَّىَ يَهُزّ انهزامًا وَسْطَهَا زَعِلًا *** جَذْلَانَ قد أَفْرخَتْ عن رَوعِه الكُرَبُ
قال: والرَّوْعُ في الفُؤادِ كالفَرْخِ في البَيْضَةِ. وأَنشد:
وقُلْ للفُؤادِ إِن نَزَا بِك نَزْوَةً *** من الخَوف أَفْرِخْ أَكثَرُ الرَّوْعِ باطلُهْ
وقال أَبو عُبَيْدَة: أَفْرَخَ رَوْعُه إِذا دُعِيَ له أَن يَسكن رَوْعُه ويَذهب.
والفَرْخَةُ، بفتْح فسكون: السِّنَانُ العرِيضُ.
وفُرَيْخ، كزُبَيْر: لَقَبُ أَزْهَرَ بنِ مَرْوَانَ المحدِّثِ.
وقولهم فُلانٌ فُرَيْخ قُريشٍ، إِنّما هو تَصغِيرُ تَعْظِيمٍ على وَجْهِ المدْح، كقول الحُبَاب بن المُنذر: «أَنا جُذَيلُها المُحَكَّكُ وعُذَيقُها المُرَجَّب». والعرب تقول: فلانٌ فُرَيخُ قَوْمِه، إِذا كَانُوا يُعظِّمونه ويُكرمونه، وصُغِّر على وَجْهِ المبالغةِ في كرامته.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
باض فيهم الشَّيْطَانُ وفَرَّخَ؛ أَي اتَّخَذَهُم مَسكَنًا ومعْبرًا لا يُفَارِقُهم، كما يُلازِم الطائِرُ مَوضعَ بَيْضِه وأَفْرَاخِه. وقال بعضُهم:
أَرَى فِتْنَةً هَاجَتْ وبَاضَتْ وفَرَّخَتْ *** ولو تُرِكَتْ طَارَتْ إِليها فِرَاخُها
وفي الحديث «أَنَّه نهَى عن بَيع الفَرُّوخ بالمَكِيل من الطَّعَام».
قال ابن الأَثير: الفَرُّوخ من السُّنْبُل: ما اسْتَبَانَ عَاقِبَتُه وانعَقَدَ حَبُّه، وهو مِثْلُ نَهْيِه عن بَيْعِ المُخَاضَرةِ والمَحَاقَلَةِ.
والفَرِخ، ككَتِفٍ: المُدَغْدَغُ من الرِّجَال.
والفُرَيخ، مُصغَّرًا، قَينٌ كان في الجاهليّة تُنسَب إِليه النِّصَالُ الفُرَيخِيَّةُ، ومنه قولُ الشاعر:
ومَقْذُوذَينِ مِن بَرْيِ الفُرَيْخِ
ومن المجاز: فُلانٌ فَرْخٌ من الفُرُوخ؛ أَي وَلَدُ زِنًى. وقال الخَفاجيُّ في شفاءِ الغَليل: هو إِطلاقُ أَهلِ المدينة خاصَّةً.
وقال شيخنا: بل هو إِطلاقٌ شائعٌ مُوَلّد في الحجاز.
وفي الأَساس: فُلانٌ فُرَيْخُ قَوْمِه، للمُكرَّم فيهم، شَبِيهٌ بفُرَيخٍ في بَيتِ قَومٍ يُرَبُّونه ويُرَفْرِفون عليه. وللمعاني متصرَّفَاتٌ ومذاهبُ، أَلَا تَرَاهُم قالوا: «أَعَزُّ من بَيْضَةِ البَلَدِ»، حَيْث كانت عَزيزةً لتَرفْرُفِ النَّعامةِ عليها وحَضْنِها، وأَذلُّ من بَيْضَةِ البَلَدِ، لتَرْكِهَا إِيّاهَا وحَضْنِ أُخرْى.
وشَيْبَانُ بن فَرُّوخٍ مَحدِّثٌ مَشهورٌ خَرَّجَ له الأَئمَّةُ، وذَكَرَه الحافظُ في التقريب. وعَمْرُو بن خالِد بن فَرّوخٍ الحَرّانيّ التّميميّ، والدُ أَبي عُلَاثةَ، من رِجال الصَّحيحَيْن.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
53-تاج العروس (حرد)
[حرد]: حَرَدهُ يَحْرِدُهُ، بالكسر، حَرْدًا: قَصدَهُ ومنَعَهُ، كلاهما عن ابن الأَعرابيّ، وقد فُسِّرَ بهما قوله تعالى: {وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ}: كَحرَّدَهُ تَحريدًا، قال:كأَنَّ فَداءَهَا إِذ حَرَّدُوهُ *** أَطافُوا حوْلَهُ سُلَكٌ يَتِمُ
وقال الفرّاءُ: تقول للرَّجل: وقد أَقبلْتُ قِبَلَكَ، وقَصَدتُ قَصْدَك، وحرَدْتُ حَرْدَك.
وحرَدَه: ثَقَبَهُ، ورجُلٌ حَرْدٌ، كعَدْلٍ، وحارِدٌ، وحَرِدٌ، ككَتِفٍ، وحَرِيدٌ، ومُتَحَرِّدٌ، وحَرْدانُ، من قَوْمٍ حِرَادٍ، بالكسر، جمع حَرِدٍ ككَتِفٍ، وحُرَدَاءَ، جمع حَرِدٍ: مَعْتَزِلٌ مُتَنِحٍّ، وامرأَة حَرِيدةٌ، ولم يقولوا: حَرْدَى، وحَيٌّ حَرِيدٌ: مُنْفَرِدٌ مُعْتَزلٌ من جماعة القَبِيلةِ، ولا يُخالِطهم في ارْتحاله وحُلُوله؛ إِمَّا لِعِزَّتِهِ، أَو لِقِلَّتِهِ وذِلَّته. وقالوا: كلُّ قليلٍ في كثير حَرِيدٌ، قال جَرِير:
نَبْنِي عَلَى سنَنِ العَدُوِّ بُيُوتَنا *** لا نَسْتجِيرُ ولا نَحُلُّ حَرِيدَا
يعني أَننا لا نَنْزِل في قَوْمٍ من ضَعْف وذِلّة، لما نَحن عليه من القُوَّةِ والكَثْرة.
وقد حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُودًا إِذا تَنَحَّى واعْتزلَ عن قَوْمه ونَزلَ مُنْفرِدًا لم يُخَالِطْهم، قال الأَعشَى يَصِف رَجُلًا شَديد الغَيْرةِ على امرأَته، فهو يَبْعُد بها إِذا نَزَل الحيُّ قريبًا من ناحِيَتهِ:
إِذا نَزَل الحَيُّ حَلَّ الجَحِيش *** حرِيدَ المحَلِّ غَوِيًّا غَيُورًا
والجَحِيشُ: المتنَحِّي عن الناسِ أَيضًا.
وفي حديثِ صَعْصَعَةَ: «فرُفعَ لي بَيْتٌ حَرِيدٌ» أَي مُنْتبِذٌ مُتْنَحٍّ عن النّاسِ.
وحَرِدَ عَلَيه كضَرَبَ وسَمِعَ، حَرَدًا، محرّكةً، وحَرْدًا، كلاهما: غَضِبَ، وفي التهذيب: الحَرْد، جَزْمٌ، والحَرَدُ، لغتان، يقالَ: حَرِد الرجلُ إِذا اغتاظَ فتحرَّشَ بالّذِي غاظَه وهَمَّ به، فهو حارِدٌ وَحرِدٌ، وأَنشد:
أُسُودُ شَرًى لاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ *** تَسَاقَيْنَ سُمًّا كُلُّهُنَّ حَواردُ
قال ابن سِيدَه: فأَمَّا سيبويه، فقال: حَرِدَ حَرْدًا ورجل حَرِدٌ وحاردٌ [غضْبانُ] قال أَبو العباس، وقال أَبو زيد، والأَصمعيّ، وأَبو عُبَيْدَةَ: الذي سمِعْنَا من العرب الفُصحاءِ، في الغضب: حَرِدَ يَحْرَد حَرَدًا، بتحريك الرّاءِ، قال أَبو العَبّاس: وسأَلْت ابنَ الأَعرابيّ عنها فقال: صَحِيحَةٌ، إِلّا أَن المُفَضَّل رَوَى أَنّ من العَرب من يقول: حَرِدَ حَرَدًا وحَرْدًا، والتسكين أَكثر، والأُخْرَى فَصيحةٌ، قال: وقَلَّمَا يَلْحَن النّاسُ في اللُّغَة.
وفي الصّحاح: الحَرَدُ: الغَضَبُ، وقال أَبو نْصَرٍ أَحمَدُ بنُ حاتمٍ، صاحبُ الأَصمعيّ: هو مُخَفَّف، وأَنشد للأَعْرَج المَغْنِيّ:
إِذا جِيادُ الخَيْلِ جاءَت تَرْدِي *** مَمْلوءَةً من غَضَبٍ وحَرْدِ
وقال الآخر:
يَلُوكُ من حرْد عَلَيَّ الأُرَّما
وقال ابن السّكّيت: وقد يُحَرَّك فيقال منه: حَرِدَ، بالكسر، فهو حارِدٌ وحَرْدانُ، ومنه قيل: أَسَدٌ حارِدٌ، ولُيوثٌ حَوارِدُ.
وقال ابن بَرِّيّ: الَّذِي ذَكَرَه سيبويه: حَرِدَ يَحْرَدُ حَرْدًا، بسكونِ الراءِ، إِذا غَضِبَ، قال: وهكذا ذَكَرَه الأَصمعيّ وابن دريد وعليُّ بن حَمْزَة، قال: وشاهده قولُ الأَشهَبِ بن رُمَيْلةَ:
أُسودُ شَرًى لَاقَتَ أُسُودَ خَفِيَّةٍ *** تَسَاقَوْا على حَرْدٍ دِمَاءَ الأَساوِدِ
والحِرْدُ، بالكسر: قِطْعَةٌ من السَّنَامِ، قال الأَزهَرِيّ: ولم أَسمعْ بهذا لغير اللّيْث، وهو خطأٌ، إِنما الحِرْدُ: المِعَى.
والحِرْد. بالكسر: مَبْعَرُ البَعِيرِ والنّاقَةِ، كالحِرْدَة، بالكسر أَيضًا. وهذه نقلها الصاغانيّ، والجمع حُرُودٌ.
وأَحرادُ الإِبل: أَمعاؤُهَا، وخَلِيقٌ أَن يكون واحدُها حِرْدا كوَاحِدِ الحُرودِ الّتي هي مَبَاعِرُهَا، لأَن المَبَاعِرَ والأَمعاءَ متقارِبَةٌ.
وقال الأَصمعيّ: الحُرُودُ مَباعِرُ الإِبلِ، واحِدُهَا حِرْدٌ وحِرْدَةٌ، قال شَمِرٌ: وقال ابنُ الأَعرابيّ: الحُرُود: الأَمعاءُ، قال: وأَقرَأَنَا لابنِ الرِّقاعِ:
بُنِيتْ على كَرِش كأَنَّ حُرُودَها *** مُقُطٌ مُطَوَّاةٌ أُمِرَّ قُوَاهَا
وزيادُ بن الحَرِد، كَكَتِف، مَولَى عمْرِو بن العاصِ، روى عن سَيِّده المذكورِ.
وحاردَتِ الإِبِلُ حِرَادًا: انقَطعَتْ أَلبانُها أَو قلَّتْ، أَنشد ثعلب:
سَيَرْوِي عقيلًا رِجْلُ ظَبْيٍ وعُلْبَةٌ *** تَمطَّتْ به مَصلوبةٌ لم تُحارِدِ
واستعاره بعضهم للنساءِ فقال:
وبِتْنَ علَى الأَعضادِ مُرْتفِقاتِها *** وحارَدْنَ إِلَّا ما شَرِبْن الحَمائِمَا
ييقول: انقَطعَتْ أَلبانُهنّ إِلّا أن يَشرَبْن الحَمِيمَ، وهو الماءُ يُسَخِّنَّه فيشْرَبْنَهُ، وإِنَّمَا يُسَخِّنَّهُ لأَنهنّ إِذا شَرِبْنَه بارِدًا على غيرِ مأْكُول عَقَرَ أَجوافَهُنّ.
ومن المجاز: حَارَدَت السَّنَةُ: قَلَّ ماؤُها ومَطَرُهَا، وقد استُعِير في الآنِيَة إِذَا نَفِذَ شَرَابُهَا، قال:
ولنا باطِيَةٌ مَمْلوءَةٌ *** جَوْنَةٌ يَتْبَعُهَا بِرْزِينُهَا
فإِذا ما حاردَتْ أَو بَكَأَتْ *** فُتَّ عن حاجِبِ أُخْرَى طِينُهَا
البِرْزِينُ: إِنَاءٌ يُتَّخَذُ مِن قِشْرِ طَلْعِ الفُحَّالِ، يُشْرَب به.
ويقال: ناقةٌ حَرُودٌ، كصَبُور، ومُحَارِدٌ، ومحَارِدَةٌ، بيّنَةُ الحِرَاد شَدِيدَته، وهي القليلةُ الدَّرِّ.
والحَرَدُ، محرّكةً داءٌ في قَوائم الإِبِلِ إِذا مَشَى نَفَضَ قَوَائِمَه فضَرَب بهنَّ الأرضَ كثيرًا.
أَو هو داءٌ يأْخُذ الإِبلَ من العِقَالِ في اليَدَيْنِ دُون الرِّجْلَيْن، بعيرٌ أَحرَدُ، وقد حَردَ حَرَدًا، بالتحريك لا غيرُ.
أَو الحَرَدُ يُبْسُ عَصَبِ إِحداهُما أَي إِحدى اليدين من العِقال، وهو فَصيلٌ فيَخْبِطُ بِيَدَيْه الأَرضَ أَو الصَّدْرَ إِذا مَشَى، وقيل: الأَحْرَد: الذي إِذا مَشَى رَفَعَ قَوائمَه رَفْعًا شَديدًا ووضَعَهَا مكانَهَا من شِدَّة قَطَافَتِه، يكون في الدَّوَابِّ وغيرِهَا، والحَرَدُ مَصْدَره.
وفي التهذيب: الحَرَد في البعير حَادِثٌ ليس بِخِلْقةٍ.
وقال ابن شُميلٍ: الحَرَد أَن تَنْقَطِعَ عَصَبَةُ ذِراعِ البَعِيرِ فتَسترْخِيَ يدُه، فلا يَزال يَخْفِق بها أَبَدًا، وإِنما تَنقطِع العَصَبةُ من ظاهِرِ الذِّراع، فترَاهَا إِذا مَشَى البَعيرُ كأَنّها تَمُدُّ مدًّا من شِدَّة ارتفاعها من الأِرض ورَخَاوَتِهَا.
والحَرَدُ: أَن تَثْقُلَ الدِّرْعُ على الرَّجُلِ فلَم يستَطع ولم يَقْدِرْ على الانْتِشَاطِ ـ وفي بعض النُّسخ: الانْبِسَاط. وهو الصواب ـ في المَشْيِ وقد حَرِدَ حَرَدًا، ورَجلٌ أَحْرَدُ، وأَنشد الأَزهَريّ:
إِذَا ما مَشَى في دِرْعِه غَيرَ أَحْرَدِ
والحَرَدُ: أَن يكون بعْضُ قُوَى الوَتَرِ أَطْوَل من بَعضٍ وقد حَرِدَ الوَتَرُ.
وفِعْلُ الكُلّ حَرِدَ كفَرِحَ، فهو حَرِدٌ ككَتِف.
والحُرْدِيُّ والحُرْدِيَّةُ، بضمّهما، حِيَاصَةُ الحَظِيرَةِ التي تُشَدّ على حائِط القَصَبِ عَرْضًا، قال ابنُ دريد: هي نَبَطيَّة.
وقد حَرَّده تَحريدًا، والجمع الحَرَادِيُّ.
وقال ابن الأَعرابيّ: يقال لخَشَبِ السَّقْف: الرَّوَافِدُ، ولِما يُلقَى عليها من أَطيانِ القَصبِ: حَرادِيُّ. وغُرْفَةٌ مُحَرَّدةٌ: فيها حَرَادِيُّ القَصبِ عَرْضًا. ولا يقال الهُرْديّ.
والمُحَرَّد، كمُعَظَّم: الكُوخُ المُسنَّم وبَيْت مِحَرَّد.
مُسَنَّم. والكُوخ فارسيّته لأنه ذُكِر في الخاءِ المعجمة: الكُوخ والكَاخ: بَيتٌ مُسَنَّم من قَصَبٍ بلا كُوَّةٍ، فذِكْرُ المُسَنَّمِ بعد الكُوخ كالتكرار.
والمُحَرَّد من كلِّ شيْءٍ: المُعْوَجُّ وتَحْرِيدُ الشيْءِ: تَعويجه كهَيئا الطَّاق.
والمُحَرَّد اسم البَيْتِ فيه حَرادِيُّ القَصَبِ عَرْضًا. وغُرْفَة مُحَرَّدة كذلك، وقد تقدّم.
وحَبْلٌ مُحَرَّدٌ، إِذا ضُفِرَ فصارَتْ له حُروفٌ لاعْوِجاجِه.
وحَرَّدَ الحَبْلَ تَحريدًا: أَدْرَج فَتْلَه فجاءَ مُستديرًا، حكاه أَبو حنيفةَ. وقال مَرَّةً: حَبْلٌ حَرِدٌ مِن الحَرَدِ: غيرُ مُسْتَوِي القُوَى.
وقال الأَزهريُّ: سَمِعْتُ العَرَبَ تقول لِلْحَبْلِ إِذا اشتدَّتْ إِغارة قُوَاهُ حَتَّى تَتَعَقَّد وتَتراكَب: جاءَ بِحَبْلٍ فيه حُرُودٌ.
وحَرَّدَ الشَّيْءَ: عَوَّجه كهيئةِ الطَّاق.
وفي التهذيب: وحَرَّدَ زَيْدٌ تَحْريدًا، إِذا آوَى إِلى كُوخٍ، هكذا نَصُّ عبارتِه.
وأَمّا قول المصنّف: مُسَنَّم، فليسَ في التهذيب، ولا في غَيْره. ومَرَّ الكلامُ عليه آنِفًا.
وتَحَرَّدَ الأدِيمُ: أُلْقِيَ مَا عَلَيْهِ من الشَّعَر.
وقولُهُم: قَطًا حُرْدٌ؛ أَي سِرَاعٌ، فقد قال الأَزهريُّ: هذا خَطاٌ. والقَطَا الحُرْد: القِصَارُ الأَرْجلِ. وهي موصوفةٌ بذلك.
والحَرِيد: السَّمَك المُقَدَّد، عن كُراع.
وأَحْرَدَهُ: أَفْرَدَهُ ونَحَّاه، عن الزَّجَّاج.
وأَحْرَدَ في السَّيْرِ: أَغَذَّ؛ أَي أَسْرَعَ.
ومن المجاز: الأَحْرَدُ: البَخِيلُ من الرجال، اللَّئيمُ.
قال رؤبة:
وكُلّ مِخلافٍ ومُكْلَئِزِّ *** أَحْرَدَ أَو جَعْدِ اليَدَينِ جِبْزِ
ويقال له: أَحْردُ اليَدَيْنِ أَيضًا؛ أَي فيهما انقِباضٌ عن العَطاءِ. كذا في التهذيب.
وفي الأَساس: حردَ زيدٌ: كان يُعطِي ثم أَمسَكَ.
والحُرَيْدَاءُ: رَمْلَةٌ ببلاد بني أَبي بَكْرِ بنِ كِلابِ بن ربيعةَ، نقله الصاغانيّ. والحُرَيْدَاءُ عَصَبَةٌ تكون في مَوْضِع العِقَال تَجعَل الدّابَّةَ حَرْدَاءَ تَنْفُض إِحدَى يَدَيْهَا إِذا مَشَتْ وقد يكون ذلك خِلْقَةً.
ويقال جاءَ بِحَبْل فيه حُرُودٌ، الحُرُود، بالضَّمّ: حُرُوفُ الحَبْلِ، كالحَرادِيدِ، وقد حَرَّدَ حَبْلَه.
والمَحَارِدُ: المَشَافِر، نقله الصاغانيّ.
وانْحَرَدَ النَّجْمُ: انْقَضَّ، والمُنْحَرِدُ: المُنْفَرِد، في لُغَة هُذَيل، قال أَبو ذُؤَيب:
كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ بالجَوِّ مُنحَرِدُ
ورواه أَبو عَمْرٍو بالجيم، وفسَّره بمنفرد، وقال: هو سُهَيْل.
وفي الصّحاح: كوكب حَرِيدٌ: مُعْتَزِلٌ عن الكَوَاكِب.
وحُرْدَانُ كعُثْمَانَ: قرية بدمَشْقَ، نقله الصاغانيُّ.
ورُوي أَن بَرِيدًا من بعِض المُلوكِ جاءَ يسأَل الزُّهْرِيَّ عن رَجلٍ، معه ما مع المرأَةِ: كيف يُوَرَّث. قال: مِن حيْثُ يخرجُ الماءُ الدّافقُ، فقال في ذلك قائلُهم:
ومُهِمَّةٍ أَعْيَا القُضَاةَ قَضاؤُهَا *** تَذَرُ الفَقِيهَ يَشُكُّ مثلَ الجاهِلِ
عَجَّلتَ قبلَ حَنيذِها بشِوائها *** وقَطعْتَ مَحْرِدَهَا بحُكْمٍ فاصِلِ
المَحْرِد كمَجْلِس مَفْصِلُ العُنُقِ أَو مَوضِع الرَّحْلِ. يقال: حَرَدْتُ من سَنامِ البَعيرِ حَرْدًا، إِذا قَطَعْت منه قِطْعةً، أَرادَ أَنَّك عَجَّلْتَ الفَتْوَى فيها ولم تَسْتَأْنِ في الجَوابِ، فشبَّهه برَجُلٍ نَزلَ به ضَيْفٌ فعجَّلَ قِراهُ بما قَطَعَ له مِن كَبِدِ الذَّبِيحة ولَحْمِها، ولم يَحْبِسْه على الحَنِيذِ والشِّواءِ، وتَعجِيلُ القِرَى عندهُم مَحمودٌ، وصاحبُه مَمْدُوحٌ.
والحَرْدَاءُ، كصَحْرَاءَ: لَقَبْ بني نَهْشَلِ بن الحَارِثِ، قاله أَبو عُبَيْد، وأَنشد للفرزْدَقِ:
لَعَمْرُ أَبيكَ الخَيْرِ ما زَعْمُ نَهْشَلٍ *** عَلَيَّ ولا حَرْدَاؤُها بِكَبِيرِ
وقد عَلِمَتْ يومَ القُبَيْبَاتِ نَهْشَلٌ *** وأَحْرَادُها أَن قد مُنُوا بِعَسيرِ
والحِرْدَة، بالكسر: د، بساحِلِ بَحْرِ اليَمَنِ، أَهلُه ممَّن سارَعَ إِلى مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ. وقيل بِفَتْح الحاءِ.
* وممَّا يستدرك عليه:
الحَرْدُ: الجِدُّ، وهكذا فَسَّرَ الليثُ في كتابِه الآية {عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ} قال: على جِدٍّ من أَمْرِهم. قال الأَزهريُّ: وهكذا وَجدْتُه مُقَيَّدًا. والصَّوابُ على حَدٍّ؛ أَي مَنْعٍ، قال: هكذا قاله الفَرَّاءُ. ورُوِيَ في بعض التفاسير أَن قَرْيَتهم كان اسمُها: حَرْدًا. ومثله في المراصد.
وتَحْريد الشِّعر: طلوعه منفردًا، وهو عيب، لأنه بُعْدٌ وخِلافٌ للنَّظِير.
والمُحَرَّد، كمُعَظَّم، من الأَوتارِ: الحَصَدُ الّذي يظْهَرُ بَعْضُ قُوَاه على بَعْض، وهو المُعَجر.
ورجل حُرْدِيٌّ، بالضّمّ: واسِعُ الأَمعاءِ.
وقال يونُسُ: سَمِعْت أعرابيًّا يَسْأَل ويَقُول: مَنْ يَتَصَدَّق على المسكينِ الحَرِدِ؛ أَي المُحْتاجِ.
وككِتَاب، حِرَادُ بن نَداوةَ بن ذُهْلٍ، في مُحَارِبِ خَصَفَةَ.
وحِرَاد بن شَلخَب الأَكبر في حَضْرَمَوْتَ.
وكغُراب. حُرَادُ بنُ مالِكِ بن كِنانة بن خُزَيمة.
وحُرَاد بن نَصْر بن سَعْد بن نَبْهَانَ في طَيِّئ.
وحُرَادُ بن مَعْن بن مالِك في الأَزْد. وحُرَادُ بنُ ظالِم بن ذُهلٍ في عبد القَيْس، قاله الحافظُ.
وأَحْرَاد وأُمُّ أَحْراد: بئِرٌ قَدِيمةٌ بمكةَ، احتفَرَها بنو عبْدِ الدَّارِ، لها ذكْرٌ في الحَدِيثِ.
وذكر القاليُّ في أَماليه من معانِي الحَرْد: القِلّة والحقْد.
وزاد غيره: السُّرْعَة.
قال شيخُنَا: ومن غريب إِطلاقاته ما رَوَاه بَعْضُ الأَئِمَّةِ عن الشّيْبَانِيُّ، أَنَّه قال: الحَرْدُ: الثَّوْبُ، وأَنشد لتأَبَّطَ شَرًّا:
أَترَكْتَ سَعْدًا للِّرمَاحِ دَرِيئةً *** هَبِلَتْكَ أُمُّكَ أَيَّ حَرْدٍ تَرْقَعُ
وقال الفَسَوِيُّ: الحَرْدُ في هذا البيتِ: الثَّوبُ الخَلَقُ.
واستَبْعَده غيرُهما وقال: إِنّه في البيت بالجِيم، قال البكريُّ في شرح الأَماليّ: وهو المعروفُ في الثَّوْبِ الخَلَقِ.
قال شيخُنَا: هو كذلك، إِلّا أَنَّ الرِّوَايَة مُقدَّمَةٌ، والحافظُ حُجَّةٌ.
ومن الأَمثال قولهم: «تَمَسَّكْ بِحَرْدِكَ حتى تُدْرِكَ حَقَّك» أَي دُمْ على غَيْظِكَ.
ومن المجاز: حارَدَتْ حالِي، إِذا تَنَكَّدَتْ. كذا في الأَساس.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
54-تاج العروس (غمد)
[غمد]: الغِمْدُ بالكسر: جَفْنُ السَّيْفِ، كالغُمُدَّانِ، بضمتين، والشَّدِّ، قال ابنُ دُرَيْدِ: ليس بِثَبتٍ، والجمع: غِمْدٍ أَغمادٌ وغُمودٌ، بالضَّمّ.والغَمْد بالفَتْح، مصْدَرُ غَمَدَهُ؛ أَي السَّيْفَ يَغْمِدُه، بالكسر، ويَغْمُدُه، بالضّمّ، غَمْدًا: جعَلَه في الغِمْدِ، أَو أَدخَله في غِمْدِه، كأَغْمَدَهُ فهو مُغْمَدٌ، ومَغْمُودٌ، قال أَبو عُبَيْدٍ، في باب فَعَلتُ وأَفْعلتُ: غَمَدْتُ السَّيْفَ وأَغْمدْتُه بمَعنًى واحِدٍ، وهما لغتانِ فَصِيحتانِ.
وغَمَدَ العُرْفُطُ غُمودًا، إِذا استَوفَرَتْ خُصْلَتُهُ وَرَقًا، حتَّى لا يُرَى شَوْكُهَا كأَنَّه قد أُغْمِد.
ومن المَجَاز غَمَدَت الرَّكِيَّةُ، من حدّ نَصَر، إِذا ذَهَب ماؤهَا ورَكِيٌّ غامِدٌ: ماؤُه مُغَطًّى بالتُّرَاب، وعَكْسُه: رَكِيٌّ مُبْدٍ، وهو من باب {عِيشَةٍ راضِيَةٍ} كما في الأَساس.
وغَمِدَ البئرُ غَمَدًا، كفَرِحَ: كَثُر ماؤُهَا، عن الأَصمعيِّ، أَو غَمِدَ [ت]، إِذا قَلَّ ماؤُهَا، قاله أَبو عُبَيْدٍ، فهو ضِدٌّ.
ومن المجاز: تَغَمَّدَهُ الله بِرَحْمَتِهِ غَمَدَه فيها. وغَمَرَه بِها. وفي الحديثِ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قالوا: ولا أَنتَ؟ قال: ولا أَنا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدني اللهُ برحْمَتِه».
قال أَبو عُبَيْدٍ: مَعْنَى قَوْلِه: يَتَغَمَّدني: يُلْبِسني، ويتغشَّاني، ويَستُرني بها، قال أَئِمَّةُ الغريبِ: مأْخوذٌ من غِمْد السَّيْفِ، وهو غِلافُه، لأَنَّك إِذا أَغمدْتَه فقد أَلبَسْتَه إِيَّاه وغَشَّيْتَهُ به.
ومن المجاز: تَغَمَّدَ الرَّجلُ فلانًا إِذا سَتَرَ ما كانَ منه وغَطَّاه، كَغَمَّدَه تَغْمِيدًا.
تَغمَّدَ الرَّجلَ وغَمَّدَه، إِذا أَخَذَه بخَتْلٍ حتَّى يُغَطِّيَه، قال العجَّاجُ:
يُغَمِّدُ الأَعداءَ جُونًا مِرْدَسَا
وفي الأَساس: ودُخِل [عليه] وبينَ يَدَيْه ثَوْبٌ فتغَمَّدَه: جَعَلَه تَحْتَهُ لِيُغَطِّيَه عن العُيونِ.
ومن المجاز تغمَّدَ الإِناءَ، كالمِيكال، إِذا مَلأَهُ.
ومن المجاز اغْتَمَدَ فُلانٌ اللَّيْلَ: دَخَلَ فيه جعَلَه لنفسِهِ غِمْدًا، كما في الأَساس. وعبارة اللسان: كأَنَّه صار كالغِمْدِ له، كما يقال ادَّرَعَ اللَّيْلَ، ويُنْشَد:
لَيْسَ لوِلْدانِكَ لَيْلٌ فاغْتَمِدْ
أَي ارْكَب اللَّيْلَ واطْلُب لهم القُوتَ.
ومن المجاز: أَغمَدَ الأَشياءَ: أَدْخَلَ بعضَها في بَعْضٍ كأَنَّه صار غِمْدًا له.
وبَرْكُ الغمَاد، مثلَّثَةَ الغَيْنِ، وصَرَّح بالغَيْن، وإِن كانت المادَّةُ كالنَّصّ في المُراد، دَفعًا لِما عَسَى أَن يَخْطُر بالبالِ من الإِيراد، وبَرْك، بالفتح، ويكسر، وسيأْتي في الكاف وقد اختُلف في ضَبْط الغماد. فَرَوَاه قومٌ بالضَّمّ، ونسبه صاحِبُ «المراصد» إِلى ابن دُرَيْد، وحكاه جماعةٌ عن ابن فارِسٍ، وآخرون بالكسر. والفتْحُ عَن القزَّازِ في «جامِعه». وفي بعض النُّسخ: الفَرّاءِ.
قال ابن خَالَوَيْه.
حضَرتُ مَجْلِسَ أَبي عبد الله محمّدِ بنِ إِسماعيلَ القاضِي المَحَامِليّ، وفيه زُهاءُ أَلْفٍ، فأَمْلَى عليهم، أَنَّ الأَنصار قالُوا للنَبيِّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ ما نَقُول لكَ ما قالَ قَوْمُ موسَى لموسَى: اذهب {أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ} بل نَفْدِيك بآبائِنا وأَبنائِنا، ولو دَعَوْتَنا إِلى بَرْكِ الغِمَادِ» بكسر الغين.
فقلتُ للمُسْتَمْلِي: قال النحويُّ: الغُماد بالضّمّ أَيَّها القاضِي. قال: وما بَرْك الغُمَاد؟ قال: سأَلتُ ابنَ دُرَيْد عنه، فقال: هو بُقْعَةٌ في جَهَنَّمَ، فقال القاضي: وكذا في كتابِي، على الغين ضَمَّةٌ. قال ابن خالويه: وأَنشدني ابن دريدٍ لنفسه:.
وإِذا تَنَكَّرَتِ البِلا *** دُ فَأْولِها كَنَفَ البِعادِ
لَسْتَ ابنَ أُمِّ القاطِني *** نَ ولا ابْنَ عَمٍّ للبِلادِ
واجْعَلْ مُقَامَك أَو مَقَ *** رَّكَ جَانِبَيْ بَرْكِ الغُمَادِ
قال ابنُ خالَوَيْه: وسأَلْت أَبا عُمَرَ عن ذلك فقال: يُرْوَى: بَرْكُ الغِمَادِ بالكسر، والغُمَادِ بالضم، والغِمَار، بالرَّاءِ، مكسورةَ الغين، وقد قيل: إِن الغِمَاد: موضع باليمن، وهو بَرَهُوت الذي جاءَ في الحديث: أَنَّ أَرواح الكافِرِين تكونُ فيه.
وزادَ في النهاية: وقيل: هو موضِع وراءَ مَكَّةَ بخمْسِ ليالٍ. زاد البكريّ: مِمَّا يَلِي البَحْر أَو هو أَقصَى مَعْمُور الأَرض، وهذا عن ابن عُلَيْمٍ، بالتصغير، في كتابه الباهِرِ، وهو غير الباهر لابن عُدَيس ونصُّ البكريِّ: وقيل هو أَقصَى حَجْرٍ باليمن. وورد في الحديثِ ذكْر غُمْدَان، كعُثْمَان: قصرٌ مشهورٌ من مضارِب الأَمثالِ باليَمَنِ، في مَقَرِّ مَلكِها، وهو صَنعاءُ، ولم يَزل قائِمًا حتى هَدَمَه عُثْمَانُ بن عَفّانَ، رضيَ الله عنه. واختلِف في بانيه، فقيل: هو سُليمانُ بنُ داوودَ، عليهماالسلام، بناه لبِلْقِيسَ زَوْجتِه، ومال إِليه كَثيرٌ من المفسَّرين. وفي «الروض الأُنف» غُمْدان: حِصْنٌ كان لِهَوذَةَ بنِ عليٍّ مَلِكِ اليَمَامَةِ، وفيه أَيضًا: ذَكَرَ ابنُ هِشَامٍ أَن غُمدانَ أَنشأَه يَعْرُبُ بن قَحْطَانَ، وأَكملَه بعدَه وائِل بن حِمْيَر بن سَبأَ، وكان مَلِكًا مُتَوَّجًا، كأَبِيه وجَدّه. وله ذِكْر في حديثِ سَيفِ بن ذي يَزن.
والذي رجَّحه جَماعةٌ واعتَمَدَه المصنِّف أَنه بَنَاهُ يَشْرُخُ هكذا بالشين والخاء المعجمتين، وفي بعض النسخ: بالمهملات، وفي بعضها: بزيادة اللام على التّحتيّة، وهو لقبٌ، والأَكثر أَنه اسمُه، وهو يَشْرُخُ بن الحارِث بن صَيْفِيّ بن سَبأَ جَدْ بلْقِيس، بناه بأَرْبَعةِ وُجُوهٍ، أَحمرَ، وأَبيضَ، وأَصفَرَ، وأَخضَر، وبَنَى دَاخِلَه قصْرًا بسَبْعَةِ سُقُوفٍ، بين كُلِّ سَقْفَيْنِ، وفي بعض النُّسَخ: بين كل سَقفٍ، بالإِفراد، أَربَعونَ ذِراعًا، وفي بعض التواريخ: قيل كان ارتفاعُ سقْفِه مِائَتَيْ ذِرَاعٍ.
ومن المجاز:
الغامِدةُ: البِئْرُ المُنْدَفِنَةُ كأَنَّهُ أُغْمِدَ ماؤُها بالتُّرابِ.
والغامِدَةُ أَيضًا، والآمِدَة: السَّفِينَةُ المشحونةُ. قال الأَزهريّ والخِنُّ: الفارِغَةُ من السُّفن. وكذلك الحَفَّانةُ كالغامِدِ والآمِدِ بحذف هائِهما. وغامِدَة، بلالامٍ التعريفيّةِ علَمٌ أَصالَةً: أَبو قبيلةٍ من جُهَيْنَةَ على ما قيل. وقِيل: من اليَمن ومثله في الصّحاح، قال:
أَلَا هَلْ أَتاهَا على نَأْيِهَا *** بما فَضَحَتْ قَوْمَهَا غامِدَهْ
حَمَلَه على القَبِيلةِ، يُنْسَبُ إِليها الغامِدِيُّونَ من المحدِّثين وغيرِهم، أَو هو غامِدٌ بلا هاءٍ، واسمه: عمرُو، وفي بعض النسخ عُمَرُ، وهو الصواب ابنُ عبدِ الله، وقيل: عَبْد بن كعْبِ بن الحارث بن كَعْبِ بن عبدِ الله بن مالِك بن نصْر بن الأَزد. وقد اختُلِف في اشتقاقِه، فقيل إِنما لُقِّبَ بِهِ، لإِصلاحِهِ أَمرًا كان بيْنَ قَوْمِهِ، وهو قولُ ابنِ الكَلْبِيّ. ونصّ عبارته: لأَنّه تَغَمَّدَ أَمْرًا كان بينَه وبين عَشيرتِه فسَتَرَه، فسمَّاه مَلكٌ من مُلوك حِمْيَر غامِدًا، وأَنشد لغامِد:
تَغَمَّدْتُ أَمْرًا كان بَيْنَ عَشِيرَتِي *** فَسَمَّانِيَ القَيْلُ الحَضُورِيُّ غَامِدَا
والحَضُور: قَبِيلَةٌ من حِمْيَر. وقيل: هو من غُمُودِ البِئْرِ، قال الأَصمعيُّ ليس اشتقاقُ غامِدٍ ممَّا قال ابنُ الكلبيِّ، إِنَّمَا هو من قَوْلِهِم: غمَدَت البِئْرُ غَمْدًا، إِذا كَثُرَ ماؤُها. وقال ابن الأَعْرَابيِّ: القَبِيلَة: غامِدَةُ بالهاءِ، وأَنشد:
أَلا هَلْ أَتاها على نَأْيِهَا *** بما فَضَحَتْ قَوْمَهَا غَامِدَهْ
* ومِمَّا يستدرك عليه:
قال الأَخفشُ: أَغمَدْتُ الحِلْسَ إِغْمَادًا، وهو أَن تَجْعَلَه تحت الرَّحْل تَقِي به البَعِيرَ من عَقْر الرَّحْلِ، وأَنشد:
وَوَضْعِ سِقَاءٍ وإِخْفَائِهِ *** وحَلِّ حُلُوسٍ وإِغْمَادِهَا
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
55-تاج العروس (فود)
[فود]: الفَوْدُ: مُعْظَمُ شَعرِ الرأْس مِمَّا يَلِي الأُذُنَ، قاله ابنُ فارِسٍ وغيرُه. والفَوْدُ: ناحيَةُ الرأْسِ، وهما فَوْدَانِ، وعليه مَشَى صاحِبُ «الكفاية» ونقَله في البارع عن الأَصمعيِّ وقال: إِن كلَّ شِقٍّ فَوْدٌ، والجمع: أَفوادٌ، وكذلك الحَيْدُ، قال الأَغلب:فَانْطَحْ بِفَوْدَيْ رَأْسِهِ الأَركانَا
ويقال: بَدَا الشَّيبُ بِفَوْدَيْهِ. وفي الحديث. «كان أَكثَرُ شَيْبِهِ في فَوْدَيْ رَأْسِهِ» أَي ناحِيَتَيْه. وقال ابنُ السِّكِّيت: إِذا كان للرَّجُلِ ضَفِيرَتَانِ يقال: للرّجُلِ فَوْدانِ.
والفَوْدُ: النّاحِيَةُ من كلِّ شْيءٍ.
والفَوْدُ: العِدْلُ، وقَعَدَ بين الفَوْدَيْنِ؛ أَي بينَ العِدْلَيْنِ. وقال مُعاويةُ لِلَبِيدٍ. كَم عَطاؤُكَ؟ قال: أَلْفانِ وخَمْسُمِائَةٍ. قال: ما بالُ العِلَاوَةِ بينَ الفَوْدَيْنِ. وهو مجاز.
والفَوْدُ الجُوَالِقُ، وهما فَوْدَانِ.
والفَوْدُ: الفَوْجُ، والجمع: أَفوادٌ، كأَفْواجٍ.
والفَوْد: الخَلْطُ، يقال: فُدْتُ الزَّعْفَرانَ، إِذا خَلَطْته، مقلوبٌ عن دُفْتُ، حكاه يَعقوب، وفادَه يَفوده، مثل: دَافَه يَدُوفُه، وأَنشد الأَزهريُّ لكُثَيِّر، يَصِفُ الجَوَارِيَ:
يُباشِرْنَ فَأْرَ المِسْكِ في كُلِّ مَهْجَعٍ *** ويُشرِقُ جادِيٌّ بِهِنَّ مَفُودُ
أَي مَدُوفٌ.
والفَوْد: المَوْتُ، فادَ يَفُود فَوْدًا: ماتَ، ومنه قولُ لَبِيدِ بن رَبِيعَةَ يَذْكُر الحارِثَ بن أَبي شَمِر الغَسَّانيّ، وكان كلُّ مَلِكٍ منهم كُلَّمَا مَضَت عليه سَنةٌ زادَ في تاجِهِ خَرَزةً، فأَراد أَنه عُمِّر حتَّى صارَ في تاجِه خَرَزَاتٌ كثيرةٌ:
رَعَى خَرَزَاتِ المُلْكِ سِتِّينَ حِجَةً *** وعِشْرِينَ حَتَّى فادَ والشَّيْبُ شامِلُ
وفي حديث سَطِيح:
أَمْ فادَ فَازْلَمَّ به شَأْوُ العَنَنْ
كالفَيْدِ بالياءِ، وسيأْتي. والفَوْزِ بالزَّاي، كذا في بعْضِ الرِّوَايَات، يَفُود ويَفِيد، بالوَاو والياءِ، لُغَتَان صَحِيحتان.
والفَوْد: ذَهَابُ المالِ أَو ثَباتُه، كالفَيْد فِيهِمَا، وسيأْتي قريبًا. والاسم الفائِدةُ، فهي واوِيَّة ويائِيَّة، لأَنَّ المصنِّف ذَكَرَهَا في المادَّتين.
وأَفَادَهُ واسْتفادَهُ وتَفَيَّدَه: اقْتنَاه، وأَفدْتُه أَنا: أَعطيتُه إِيَّاهُ، وسيأْتي بعضُ ذلك في فَيَد، لأَن الكلمةَ يائِيَّة وواوِيَّة.
وأَفَدْت فُلانًا: أَهلكتُه وَأَمَتُّهُ، هو من قَوْلك: فادَ الرَّجُلُ يَفِيدُ، إِذا مات، قال عَمْرو بن شَأْسٍ في الإِفادةِ بمعنى الإِهلاك:
وفِتْيَانِ صِدْقٍ قد أَفَدْتُ جَزُورَهُمْ *** بذِي أَوَدٍ جَيْشِ المَنَاقِدِ مُسْبِلِ
أَفدْتها: نَحَرتُها وأَهْلكتُها.
والفَوَادُ، كسَحَابٍ: لُغَةٌ في الفُؤَادِ، بالضّمّ والهمْز، وقد تقدّم أَنه قِرَاءَةٌ لبعضٍ، وحَمَلُوها على الإِبدال، وذَكره المصنِّفُ أَيضًا في كتاب «البصائر» له.
وتَفَوَّدَ الوَعِلُ فوقَ الجَبَلِ، إِذا أَشْرَفَ.
ويقال: رَجُلٌ مِتْلَافٌ مِفْوادٌ، بالواو، ومِفْيادٌ، بالياءِ؛ أَي مُتْلِفٌ مُفِيدٌ، وأَنشد أَبو زيدٍ للقَتَّال:
ناقَتُهُ تَرْمُلُ في النِّقالِ *** مُهْلِكُ مالٍ ومُفِيدُ مَالِ
ويقال: هُما يَتفاوَدانَ العِلْمَ، هكذا قَولُ عامّةِ النّاسِ والصّوابُ: أَنَّهما يَتفايَدانِ بالمال بينَهما؛ أَي يُفِيد كُلُّ واحدٍ منهما صاحِبَهُ. هكذا قالَهُ ابنُ شُمَيْلٍ، وهو نصُّ عبارتِه.
وتَوقَّف شيخُنا في وَجْههِ الصّوابِ، ظانًّا أَنه من اختياراتِ المصنِّف، وأَنها وَردَتْ واويَّةً ويائِيَّةً، من غير إِنكارٍ، ولو نَظَرَ إِلى بَقِيَّةِ قولِ ابن شُمَيْلٍ وهو: بالمالِ بينَهما، لزال الإِشكالُ. فتَأَمَّل.
* ومِمَّا يستدرك عليه:
من المجاز: ارْفَعْ فَوْدَ الخِبَاءِ؛ أَي جانِبَه وناحِيَتَه.
وأَلْقَت العُقَابُ فَوْدَيْهَا على الهَيْثَم؛ أَي جَناحَيْهَا، وقال خُفَاف:
مَتَى تُلْقِ فَوْدَيْهَا على ظَهْر ناهِضٍ *** ونَزَلوا بين فَوْدَيِ الوَادِي.
واستلمْتُ فَوْدَ البَيتِ: رُكْنَه.
وجعلتُ الكِتَابَ فَوْدَيْنِ: طَوَيْتُ أَعلاه على أَسْفَلِه، حتَّى صار نِصْفَيْنِ. كلُّ ذلك في الأَساس.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
56-تاج العروس (قعد)
[قعد]: القُعُودُ، بالضّم، والمَقْعَدُ، بالفتح: الجُلُوسُ.قَعَد يَقْعُد قُعُودًا ومَقْعَدًا، وكَوْنُ الجُلُوس والقُعود مُترادِفَيْنِ اقتصَر عليه الجوهريُّ وغيرُه، ورَجَّحه العلَّامة ابنُ ظفَر ونقلَه عن عُرْوَةَ بنِ الزُّبيرِ، ولا شكَّ أَنَّه مِن فُرْسَانِ الكَلَامِ، كما قالَه شيخُنَا. أَو هُوَ أَي القُعُود مِنَ القِيَامِ، والجُلُوسُ مِنَ الضَّجْعَةِ ومِنَ السُّجودِ، وهذا قد صَرَّحَ به ابنُ خَالَوَيْهِ وبعضُ أَئمَّة الاشتقاقِ، وجَزَم به الحَرِيريُّ في الدُّرَّة، ونَسَبَه إِلى الخَليل بن أَحمدَ، قال شيخُنا: وهناك قولٌ آخَرُ، وهو عَكْسُ قولِ الخَلِيل، حكاه الشَّنَوانيُّ، ونقلَه عن بعض المُتَقدِّمِين، وهو أَن القُعُودَ يكون من اضْطِجَاع وسُجودٍ، والجُلوس يكون مِن قِيامٍ، وهو أَضْعَفُهَا، ولستُ منه عَلى ثِقَةٍ، ولا رأَيْتُه لِمَن أَعتمدهُ، وكثيرًا ما يَنْقُل الشَّنَوَانيُّ غَرَائبَ لا تَكاد تُوجَدُ في النَّقْلِيَّاتِ. فالعُمْدَة على نَحْوِه وآرائِه النَّظَرِيَّة أَكثرُ. وهناك قولٌ آخرُ رابعٌ، وهو أَن القُعُودَ ما يكون فيه لُبْثٌ وإِقامةٌ مَا، قال صاحِبُه: ولذا يُقَال قَوَاعِدُ البَيْتِ، ولا يُقَال جَوَالِسُه. والله أَعلم.
وقَعَدَ بِه: أَقْعَدَه. والمَقْعَدُ والمَقْعَدَةُ: مَكَانُه أَي القُعودِ.
قال شيخُنا: واقْتِصارُه على قَوْلِه «مَكَانُه» قُصُورٌ، فإِن المَفْعَل مِن الثلاثيِّ الذي مُضَارِعه غيرُ مكسورٍ بالفَتْحِ في المَصْدَرِ، والمكانِ، والزَّمَانِ، على ما عُرِف في الصَّرْفِ.
انتهى. وفي اللسان: وحَكى اللِّحيانيُّ: ارْزُنْ في مَقْعَدِك ومَقْعَدَتِك، قال سيبويهِ: وقالوا: هو مِنّي مَقْعَدَ القَابِلَة؛ أَي في القُرْبِ، وذلك إِذا دَنَا فَلَزِقَ مِن بَيْنِ يَديْكَ، يرِيد: بِتِلْكَ المَنْزِلَة، ولكنه حذف وأَوْصَلَ، كما قالوا: دَخَلْت البيتَ؛ أَي في البيْتِ.
والقِعْدَةُ، بالكسر: نَوْعٌ منه؛ أَي القُعُودِ، كالجِلْسَةِ، يُقَال: قَعَدَ قِعْدَةَ الدُّبِّ، وثَرِيدَةٌ كقِعْدَةِ الرَّجُلِ. وقِعْدَةُ الرَّجُل: مِقْدَارُ ما أَخَذَه القَاعِدُ مِن المَكَانِ قعوده.
ويُفْتَح، وفي اللسان: وبالفَتْحِ المَرَّةُ الواحِدَةُ. قال اللِّحيانيُّ: ولها نَظائرُ. وقال اليَزيدِيُّ: قَعَدَ قَعْدَةً واحِدَةً وهو حَسَنُ القِعْدَةِ.
والقِعْدَةُ: آخِرُ وَلَدِكَ، يقال: للذَّكَرِ والأُنْثَى والجَمْعِ، نقلَه الصاغانيّ.
ويقال: أَقْعَدَ البِئرَ: حَفَرَهَا قَدْرَ قِعْدَةٍ بالكسر، أَوْ أَقْعَدَها، إِذا تَرَكَهَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ولَمْ يَنْتَهِ بها المَاءِ وقال الأَصمعيُّ: بِئْرٌ قِعْدَةٌ؛ أَي طُولُها طُولُ إِنسانٍ قاعِدٍ؛ وقال غيره: عُمْقُ بِئْرِنا قِعْدَةٌ وقَعْدَةٌ؛ أَي قَدْرُ ذلك، ومرَرْتُ بماءٍ قِعْدَةَ رَجُلٍ، حكاه سِيبويهِ، قال: والجَرُّ الوَجْهُ، وحكى اللِّحْيَانيُّ: ما حَفَرْتُ في الأَرْضِ إِلَّا قِعْدَةً وقَعْدَةً.
فظهر بذلك أَن الفَتْحَ لُغَةٌ فيه. فاقتصارُ المصنِّف على الكَسْرِ: قُصورٌ، ولم يُنَبّه على ذلك شَيْخُنَا.
وذو القَعْدَةِ، بالفتح ويُكْسَر: شَهْرٌ يَلِي شَوَّالًا، سُمِّيَ به لأَن العرَبَ كانوا يَقْعُدُونَ فِيه عَنِ الأَسْفَارِ والغَزْوِ والمِيرَةِ وطَلَبِ الكَلإِ ويَحُجُّون في ذي الحِجَّةِ، الجمع: ذَوَاتُ القَعْدَةِ يعني: بجمْع ذي وإِفراد القَعْدَة، وهو الأَكثر، وزاد في المِصْباح: وذَوَات القَعَدَاتِ. قلت: وفي التهذيب في ترجمة شعب، قال يونس: ذَوَات القَعَدَاتِ، ثم قال: والقِيَاس أَن يقول: ذَوَاتُ القَعْدَة.
والقَعَدُ، مُحَرَّكَةً، جمعُ قاعدٍ، كما قالوا حَارِسٌ وحَرَسٌ، وخادِمٌ وخَدَمٌ. وفي بعض النسخ: القَعَدَةُ. بزيادة الهاءِ ومثله في الأَساس، وعبارته: وهو من القَعَدَةِ قَوْمٍ من الخَوَارِج قَعَدُوا عن نُصْرَةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه و [عن] مُقَاتَلَتِه، وهو مَجاز. ومَنْ يَرَى رَأْيَهُمْ أَي الخوارِجِ قَعَدِيُّ، مُحَرَّكَةً كَعَرَبِيٍّ وعَرَبٍ، وعَجَمِيٍّ وعَجَمٍ، وهم يَرَوْنَ التَّحْكِيمَ حَقًّا، غيرَ أَنّهُمْ قَعَدُوا عَن الخُرُوجِ على الناسِ؛ وقال بعضُ مُجَّان المُحْدَثِينَ فيمَن يَأْبَى أَنْ يَشْربَ الخَمْرَ وهو يسْتَحْسِن شُرْبَها لِغَيْرِه، فشَبَّهه بالذي يَرَى التَّحْكِيمَ وقد قَعَد عنه فقال:
فَكَأَنِّي وَمَا أُحَسِّن مِنْهَا *** قَعَدِيٌّ يُزَيِّنُ التَّحْكِيمَا
والقَعَدُ: الذينَ لا دِيوانَ لَهُمْ، وقيل: القَعَدُ: الذين لا يَمْضُونَ إِلى القِتَالِ، وهو اسمٌ للجَمْع، وبه سُمِّيَ قَعَدُ الحَرُورِيَّة، ويقال: رَجُلٌ قاعِدٌ عن الغَزْوِ وقَوْمٌ قُعَّادٌ وقاعِدُون، وعن ابنِ الأَعرابيّ: القَعَدُ: الشُّرَاةُ الذين يُحَكِّمُونَ ولا يُحَارِبُون، وهو جمعُ قاعدٍ، كما قالُوا حَرَسٌ وحارِسٌ.
وقال النضْرُ: القَعَدُ: العَذِرةُ والطَّوْفُ.
والقَعَدُ: أَن يَكونَ بِوَظِيفِ البَعِير تَطَامُنٌ واسْتِرْخَاءٌ، وجملٌ أَقْعَدُ، من ذلك، والقَعَدَة، بِهَاءٍ: مَرْكَبٌ للنِّساءِ، هكذا في سائر النُّسخ التي عندنا، والصواب على ما في اللسان والتكملة: مَرْكَب الإِنسان، وأَمّا مَرْكَب النِّساءِ فهو القَعِيدةُ، وسيأْتي في كلام المصنف قريبًا. والقَعَدَةُ أَيضًا الطِّنْفِسَةُ التي يُجْلَس عليها وما أَشبهَها.
وقالوا: ضَرَبَه ضَرْبَةَ ابْنَة اقْعُدِي وقُومِي أَي ضَرْبَ الأَمَة، وذلك لِقُعودِهَا وقِيَامِها في خِدْمَة مَوالِيها، لأَنها تُؤْمَر بذلك، وهو نَصُّ كلامِ ابنِ الأَعرابيّ.
وأُقْعِد الرَّجُلُ: لم يَنْهَضْ، وقال ابنُ القَطَّاع: مُنِعَ القِيَامَ، وبه قُعَادٌ، بالضمّ، وإِقْعَادٌ أَي، دَاءٌ يُقْعِدُه، فهو مُقْعَدٌ، إِذا أَزْمَنَه داءٌ في جَسَدِه حتى لا حَرَاك به، وهو مَجَازٌ. وفي حديث الحُدُودِ: «أُتِيَ بامرأَةٍ قد زَنَتْ، فقال مِمَّنْ؟ قالت: من المُقْعَد الذي في حائِطِ سَعْدٍ»، قال ابنُ الأَثير: المُقْعَد: الذي لا يَقْدِر على القِيَامِ لِزَمَانَةٍ به، كأَنَّه قد أَلْزِم القُعُودَ، وقيل: هو من القُعَادِ الذي هو الدَّاءُ يأُخُذُ الإِبلَ في أَوْرَاكِها فيُمِيلُها إِلى الأَرض.
ومن المَجاز: أَسْهَرَتْنِي المُقْعَدَاتُ وهي الضَّفَادِعُ، قال الشَّمَّاخُ:
تَوَجَّسْنَ وَاسْتَيْقَنَّ أَنْ لَيْسَ حَاضِرًا
وجَعل ذُو الرُّمَّةِ فِرَاخ القَطَا قَبْلَ أَنْ تَنْهَضَ للطَّيَرانِ مُقْعَدَاتٍ فقال:
إِلى مُقْعَدَاتٍ تَطْرَحُ الرِّيحُ بِالضُّحَى *** عَلَيْهِنَّ رَفْضًا مِنْ حَصَادِ القَلَاقِلِ
وقال أَبو زيدٍ قَعَدَ الرجلُ: قَامَ، وروى أُبَيُّ بنُ كعْبٍ: «عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّه قَرَأَ: {فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} فهدَمه ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيه، قال أَبو بكرٍ: معناه ثُمَّ قامَ يَبنيه» وقال الَّلعِين المِنْقَرِيّ واسمُه مُنَازِلٌ، ويُكنى أَبا الأُكَيْدرِ:
كَلَّا وَرَبِّ البَيْتِ يا كَعَابُ *** لَا يُقنِعُ الجَارِيَةَ الخِضَابُ
ولَا الوِشَاحَانِ وَلَا الجِلْبَابُ *** مِنْ دُونِ أَنْ تَلْتَقِيَ الأَرْكَابُ
ويَقْعُدَ الأَيْرُ لَهُ لُعَابُ
أَي يَقُوم. وقَعَد: جَلَس، فهو ضِدٌّ. صَرَّح به ابنُ القَطَّاع في كتابِه، والصَّاغانيُّ وغيرُه.
ومن المجاز: قَعَدت الرَّخَمَةُ، إِذا جَثَمَتْ، ومن المَجَازِ: قعَدَدَت النَّخْلَةُ: حَمَلَتْ سَنَةً ولمْ تَحْمِلْ أُخْرَى، فهي قاعِدَةٌ، كذا في الأَساس، وفي الأَفعال: لم تَحْمِل عَامَهَا.
وقَعَدَ فُلانٌ بِقِرْنةِ: أَطَاقَهُ و [قَعَد] بَنُو فُلانٍ لبَنِي فُلانٍ يَقْعُدُون: أَطاقُوهُم وجَاءُوهم بأَعْدَادِهِم.
ومن المَجاز: قَعَدَ للحَرْبِ: هَيَّأَ لَهَا أَقْرَانَها، قال:
لأُصْبِحَنْ ظَالِمًا حَرْبًا رَبَاعِيَةً *** فَاقْعُدْ لَهَا وَدَعَنْ عَنْكَ الأَظَانِينَا
وقوله:
سَتَقْعُدُ عَبْدُ اللهِ عَنَّا بِنَهْشَلٍ
أَي سَتُطِيقُها بأَقْرَانِهَا فتَكْفِينا نحن الحَرْبَ.
ومن المجاز: قَعَدَت الفَسِيلَةُ: صَارَ لَهَا جِذْعٌ تَقْعُد عَلَيْه.
والقَاعِدُ هي، يقال: في أَرْض فُلانٍ مِن القاعِدِ كذا وكذا أَصْلًا، ذَهَبُوا به إِلى الجِنْسِ، أَو القاعِدُ من النَّخْلِ: التي تَنَالُهَا اليَدُ، وقال ابنُ الأَعرابيّ في قول الراجز:
تُعْجِلُ إِضْجَاعَ الجَشِيرِ القَاعِدِ
قال: القاعِدُ: الجُوَالِقُ المُمْتَلِيءُ حَبًّا كأَنَّه من امتلائه قاعِدٌ. والجَشِير: الجُوَالِق.
ومن المجاز: القَاعِدُ من النساءِ: التي قَعَدَتْ عَنِ الوَلَدِ و [عَن] الحَيض و [عن] الزَّوْجِ، والجمْعُ قَوَاعِدُ. وفي الأَفعال: قَعَدت المرأَةُ عن الحَيْضِ: انقَطَعَ عنهَا، وعن الأَزواج: صَبَرتْ، وفي التنزيل: {وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ}، قال الزجَّاجُ: هن اللواتي قَعَدْنَ عن الأَزواجِ، وقال ابن السّكّيت: امرأَةٌ قاعِدٌ. إِذا قَعَدَتْ عن المَحيضِ، فإِذا أَرَدْتَ القُعُودَ قلت: قاعِدَةٌ. قال: ويقولون: امرأَةٌ واضِعٌ، إِذا لم يكن عليها خِمَارٌ، وأَتَانٌ جامِعٌ إِذا حَمَلَت، وقال أَبو الهيثم: القواعِدُ من [صِفات]: الإِناث، لا يقال: رِجَالٌ قواعدُ.
وفي حديث أَسماءَ الأَشْهَلِيَّةِ: «إِنَّا مَعاشِرَ النِّسَاءِ مَحْصوراتٌ مقصوراتٌ قَوَاعِدُ بُيُوتِكم، وحَوَامِلُ أَوْلادِكم» قال ابن الأَثير: القواعِدُ: جمع قاعِدٍ، وهي المرأَةُ الكبيرةُ المُسِنَّةُ، هكذا يقال بغير هاءٍ؛ أَي أَنها ذاتُ قُعُودٍ، فأَمَّا قاعِدةٌ فهي فاعِلَة من قولِك قَدْ قَعَدَتْ قُعُودًا، ويجمع على قواعِدَ أَيضًا. وقَوَاعِدُ الهَوْدَجِ: خَشَبَاتٌ أَرْبَعُ مُعْترِضَة تَحْتَه رُكِّب فِيهِنَّ الهَوْدَجُ.
ورَجُلٌ قُعْدِيٌّ، بالضمّ والكسر: عاجِزٌ، كأَنه يُؤْثِر القُعُودَ، وكذلك ضُجْعِيٌّ وضِجْعِيّ، إِذا كان كثير الاضْطِجَاعِ.
ويقال: فلانٌ قَعِيدُ النَّسَبِ ذو قُعْدَدٍ ورجل قُعْدُدٌ بضمّ الأَوّل والثالث وقُعْدَدٌ بضم الأَوّل وفتح الثالث أَثبتَه الأَخْفَشُ ولم يُثْبِته سيبويه وأَقْعَدُ، وقُعْدُودٌ بالضمّ، وهذه طائِيَّةٌ: قَرِيبُ الآباءِ مِنَ الجَدِّ الأَكْبَرِ، وهو أَمْلَكُ القَرَابَةِ في النَّسبِ، قال سيبويه: قُعْدُدٌ مُلْحَق بِجُعْشُمٍ، ولذلك ظَهر فيه المِثْلَان.
وفلان أَقْعَدُ من فُلَانٍ؛ أَي أَقْرَبُ منه إِلى جَدِّه الأَكبر، وقال اللِّحْيَانيُّ؛ رجلٌ ذو قُعْدُّدٍ، إِذا كان قريبًا مِن القبيلةِ والعَدَدُ فيه قِلَّةٌ. يقال: هو أَقْعَدُهم؛ أَي أَقرَبُهُم إِلى الجَدِّ الأَكْبَرِ. وأَطْرَفُهُم وأَفْسَلُهم؛ أَي أَبْعَدُهم من الجَدِّ الأَكبرِ، ويقال: فلانٌ طَريفٌ بَيِّنُ الطَّرَافَةِ إِذَا كَان كثيرَ الآباءِ إِلى الجَدِّ الأَكبرِ، ليس بذي قُعْدُدٍ، وقال ابنُ الأَعرابيّ: فلانٌ أَقْعَدُ من فُلانٍ أَي أَقل آباءً، والإِقعادُ: قِلَّةُ الآباءِ والأَجدادِ.
والقُعْدُدُ: البَعِيدُ الآباءِ مِنْه؛ أَي من الجَدِّ الأَكبرِ وهو مَذمومٌ، والإِطْرَافُ كَثْرَتُهم، وهو محمودٌ، وقيل: كلاهُمَا مَدْحٌ. قال الجوهريّ: وكان عبدُ الصَّمدِ بنُ عَلِيّ بن عبد اللهِ الهاشميُّ أَقْعَدَ بني العَبَّاسِ نَسَبًا في زَمانِه، وليس هذا ذَمًّا عندهم، وكان يقال له: قُعْدُّدُ بني هاشم، ضِدُّ، قال الجوهريُّ: ويُمْدَح به مِنْ وَجْهٍ لأَنّ الوَلَاءَ لِلْكُبْرِ، ويُذمُّ به مِن وَجْهٍ لأَنه من أَولادِ الهَرْمَى، ويُنْسَب إِلى الضَّعْفِ، قال الأَعشى:
طَرِفُونَ وَلَّادُونَ كُلَّ مُبَارَكٍ *** أَمِرُونَ لَا يَرِثُونَ سَهْمَ القُعْدُدِ
أَنْشَدَه المَرْزُبانيُّ في مُعْجَم الشعراءِ لأَبِي وَجْزَة السَّعْدِيّ في آلِ الزُّبَيْرِ. ورَجُلٌ مُقْعَدُ النَّسبِ: قَصِيرُه، من الفُعْدُدِ، وبه فَسَّر ابنُ السِّكيتِ قَوْلَ البَعِيثِ:
لَقًى مُقْعَدُ الأَنْسَابِ مُنْقَطَعٌ بِهِ
وقوله: مُنْقَطَعٌ به: مُلْقًى؛ أَي لا سَعْيَ له إِن أَرادَ أَنْ يَسْعَى لم يَكُنْ به عَلَى ذلك قُوَّةُ بُلْغَةٍ؛ أَي شَيْء يَتَبَلَّغُ به، ويقال: فُلانٌ مُقْعَدُ الحَسَبِ، إِذا لمْ يَكن له شَرَفٌ، وقد أَقْعَدَه آباؤُه وتَقَعَّدُوه، وقال الطِّرِمَّاح يَهجو رجُلًا:
ولكِنَّه عَبْدٌ تَقَعَّدَ رَأْيَهُ *** لِئَامُ الفُحُولِ وارْتِخَاصُ المَنَاكِحِ
أَي أَقْعَدَ حَسَبَه عَن المكارمِ لُؤْمُ آبائِه وأُمَّهَاتِه، يقال: وَرِثَ فلانٌ بالإِقْعَادِ، ولا يُقَال: وَرِثَ بالقُعودِ.
والقُعْدُدُ: الجَبَانُ اللَّئيمُ في حَسَبِه القَاعِدُ عَن الحَرْبِ والمَكارِم وهو مَذمومٌ والقُعْدُدُ: الخَامِلُ قال الأَزهريُّ: رَجلٌ قُعْدُدٌ وقُعْدَدٌ: إِذا كان لئيمًا، مِنَ الحَسَبِ المُقْعَد.
والقُعْدُدُ: الذي يَقْعُد به أَنْسَابُه. وأَنشد:
قَرَنْبَى تَسُوفُ قَفَا مُقْرِفٍ *** لَئِيمٍ مَآثِرُهُ قُعْدُدِ
ويقال: اقتَعَدَ فُلانًا عن السَّخاءِ لُؤْمُ جِنْثِه، ومنه قولُ الشاعرِ:
فَازَ قِدْحُ الْكَلْبِيِّ واقْتَعَدَتْ مَعْ *** زَاءَ عَنْ سَعْيِهِ عُرُوقُ لَئِيمِ
ورجل قُعْدِيٌّ وقُعْدِيَّةٌ، بضمِّهما، ويُكْسَرانِ الأَخيرة عن الصاغانيّ وكذلك رجل ضُجْعِيٌّ بالضمّ ويُكْسَرُ، ولا تَدْخُلُه الهاءُ، وقُعَدَةٌ ضُجَعَةٌ، كهُمَزَةٍ. أَي كَثِيرُ القُعُودِ والاضْطِجَاعِ، وسيأْتي في العين إِن شاءَ الله تعالى.
والقُعُودُ، بالضمّ: الأَيْمَةُ، نَقَلَه الصاغانيّ، مصدر آمَتِ المرأَةُ أَيْمَةً، وهي أَيِّمٌ، ككَيِّس، من لا زَوْجَ لها، بِكْرًا كانت أَو ثَيِّبًا، كما سيأْتي.
والقَعُودُ، بالفتح: ما* اتَّخذه الراعِي للرُّكوب وحَمْلِ الزَّادِ والمَتَاع. وقال أَبو عبيدةَ: وقيل: القَعُودُ من الإِبل هو الذي يَقْتَعِدُه الرَّاعِي في كُلِّ حاجَةٍ، قال: وهو بالفَارِسِيّة رَخْتْ كالقَعُودَةِ، بالهَاءِ، قاله الليثُ، قال الأَزهريّ: ولم أَسْمَعْه لغيرِه. قلت: وقال الخليلُ: القَعُودَةُ من الإِبل: ما يَقْتَعِدُه الراعي لحَمْلِ مَتاعِه. والهاءُ للمبالَغَةِ، ويقال: نِعْمَ القُعْدَة هذا، وهو بالضمّ المُقْتَعَدُ.
واقْتَعَدَهُ: اتَّخَذَه قُعْدَةً، وقال النضْر: القُعْدَة: أَن يَقْتَعِدَ الراعِي قَعُودًا مِن إِبلِه فيَرْكَبه، فجَعَل القُعْدَةَ والقَعُودَ شيئًا واحدًا، والاقْتِعَادُ: الرُّكوبُ، ويقول الرجُلُ للراعي: نَسْتَأْجِرُك بكذا، وعلينا قُعْدَتُك. أَي عَلَيْنا مَرْكَبُك، تَرْكَبُ من الإِبل ما شِئْتَ ومتَى شِئْت. الجمع: أَقْعِدَةٌ وقُعُدٌ، بضمتين وقِعْدَانٌ، بالكسر، وقعائِدُ، وقَعَادِينُ جَمْعُ الجَمْعِ.
والقَعُود: القَلُوصُ، وقال ابن شُمَيْل: القَعُودُ، من الذُّكور، والقَلُوص، من الإِناث، والقَعود أَيضًا البَكْرُ إِلى أَن يُثْنِيَ؛ أَي يَدخل في السَّنَة الثانية.
والقَعُود أَيضًا: الفَصِيلُ، وقال ابنُ الأَثير: القَعُود من الدَّوَابِّ: ما يَقْتَعِده الرجُلُ للرُّكُوب والحَمْلِ، ولا يَكُونُ إِلَّا ذَكَرًا، وقيل: القَعُودُ ذَكَرٌ، والأُنثَى قَعُودَةٌ. والقَعُود من الإِبل: ما أَمْكَن أَنْ يُرْكَبَ، وأَدْنَاه أَن يَكُون له سَنَتَانِ، ثم هو قَعُودٌ إِلى أَن يُثْنِيَ فيَدْخُل في السَّنَةِ السَّادِسَة، ثم هو جَمَلٌ. وذكر الكِسَائيُّ أَنه سَمِعَ مَن يقول: قَعُودَةٌ للقَلُوصِ، وللذَّكر قَعُودٌ. قال الأَزهريّ: وهذا عند الكسائيّ مِن نوادِرِ الكَلَامِ الذي سَمِعْتُه من بعضهم. وكلامُ أَكثرِ العَرَبِ عَلَى غَيرِه، وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: هي قَلُوصٌ للبَكْرَة الأُنْثَى، وللبَكْرِ قَعُودٌ مِثْل القَلُوصِ إِلى أَن يُثْنِيَا، ثم هو جَمَلٌ، قال الأَزهَرِيّ: وعلى هذا التفسيرِ قولُ مَن شاهَدْتُ من العَربِ: لا يَكون القَعُودُ إِلَّا البَكْر الذَّكَر، وجَمْعُه قِعْدَانٌ، ثم القَعَادِينُ جَمْعُ الجمْعِ. وللبُشْتِيّ اعتراضٌ لَطِيفٌ على كلامِ ابنِ السِّكيتِ وقد أَجابَ عنه الأَزهريُّ وخَطَّأَه فيما نسَبَه إِليه. راجِعْه في اللسان.
والقَعِيدُ: الجَرَادُ الذي لَمْ يَسْتَوِ جَنَاحُه، هكذا في سائر النُّسخ بالإِفراد، وفي بعض الأُمهات: جَناحَاه بَعْدُ.
والقَعِيد: الأَبُ، ومنه قولهم قَعِيدَكَ لَتَفْعَلَنَّ كذا؛ أَي بِأَبِيكَ قال شيخنا: هو مِن غَرائِبه انفرَدَ بِهَا، كحَمْلِه في القَسَم على ذلك، فإِنه لم يَذْكُره أَحدٌ في معنى القَسَمِ وما يتعلّق به، وإِنما قالوا إِنه مَصْدَر كعَمْرِ اللهِ. قلت: وهذا الذي قاله المصنّف قولُ أَبي عُبَيْدٍ. ونَسَبَه إِلى عَلْيَاءِ مُضَرَ وفسَّره هكذا. وتَحَامُلُ شيخِنا عليه في غيرِ مَحلّه، مع أَنه نقل قول أَبي عُبَيْدٍ فيما بعْدُ، ولم يُتَمِّمْه، فإِنه قالَ بعد قوله عَلْياء مُضَر: تقولُ قَعِيدَك لتَفْعَلَنَّ. القَعِيدُ: الأَبُ، فحذف آخِرَ كلامِه. وهذا عجيبٌ. وقولهم قَعِيدَك الله لا أَفعل ذلك وقِعْدَك الله، بالكَسْرِ، ويقال بالفتح أَيضًا، كما ضَبَطَه الرَّضِيُّ وغيرُه، قال مُتَمِّم بنُ نُوَيْرةَ:
قَعِيدَكِ أَنْ لا تُسْمِعِيني مَلَامَةً *** ولا تَنْكَئِي قَرْحَ الفُؤَاد فَيَيجَعَا
استعطافٌ لا قَسَمٌ، قال ابنُ بَرِّيٍّ في الحواشِي في تَرْجَمَةِ وجع في بَيت مُتَمّم السابِق، وقال: كذا قالَه أَبو عليٍّ، ثم قال: بِدليل أَنّه لم يَجِئْ جَوابُ القَسَمِ. ونصُّ عبارَة أَبي عَلِيٍّ: والدليلُ على أَنه ليس بقَسم كَوْنُه لم يُجَبْ بِجَوابِ القَسَمِ. وهو أَي قَعيدَك الله مَصْدَرٌ واقِعٌ مَوْقِعَ الفِعْل بمنزلَة عَمْرَكَ الله في كونِه يَنْتَصِب انتصابَ المَصَادِرِ الواقِعَةِ مَوْقِعَ الفِعْلِ أَي عَمَرْتُكَ الله، ومعناه: سأَلْتُ الله تَعْمِيرَكَ، وكذلك قِعْدُكَ الله بالكسر تَقْديره قِعْدك الله، هكذا في سائر النّسخ. ونصّ عبارة أَبي عَليٍّ: قَعَّدْتُك اللهَ أَي سأَلتُ الله حِفظَك، من قوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أَي حفيظ، انتهت عبارَةُ ابْنِ بَرِّيّ نقلًا عن أَبي عَلِيّ. فإِذا عَرَفْتَ ذلك فقولُ شيخِنا: وقولُه استعطاف لا قَسَمٌ مُخَالِفٌ للجمهور، تَعَصُّبٌ على المصنّف وقُصُور.
وقال أَبو الهَيْثم: القَعِيدُ: المُقَاعِدُ الذي يُصاحِبك في قُعُودِك، فَعِيل بمعنى مُفَاعِل، وقَاعَدَ الرجُلَ: قَعَدَ معه، وأَنشد للفرزدق:
قَعِيدَكُما اللهَ الذي أَنْتُمَا لَه *** أَلَمْ تَسْمَعَا بِالبَيْضَتَيْنِ المُنَاديَا
والقَعِيد: الحَافِظ، للواحِدِ والجَمْعِ والمُذكّر والمُؤنَّث بلفظٍ واحِدٍ، وهما قَعِيدَانِ وفَعِيلٌ وفَعُول ممَّا يَستوِي فيه الواحِدُ والاثنانِ والجمعُ، كقوله تعالى: {إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ} وكقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} وبه فسِّر قولُه تَعالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ} وقال النحويّون: معناه: عن اليَمِين قَعِيدٌ وعن الشِّمالِ قَعِيدٌ، فاكْتُفِى بذِكْرِ الواحدِ عن صاحِبِه، وله أَمثِلَةٌ وشواهدُ. راجع في اللسان وأَنشد الكسائيُّ لِقُرَيْبَةَ الأَعرابيّة.
قَعِيدَكِ عَمْرَ اللهِ يا بِنْتَ مَالِكٍ *** أَلَمْ تَعْلَمِينَا نِعْمَ مَأْوَى المُعَصِّبِ
قال: ولم أَسْمَعْ بيتًا اجْتَمَع فيه العَمْرُ والقَعِيد إِلّا هذا.
وقال ثعلبٌ: إِذا قُلْتَ قَعِيدَكُما اللهَ. جاءَ مَعه الاستفهامُ واليمين، فالاستفهامُ كقوله: قَعِيدَكُما اللهَ أَلَمْ يَكنْ كَذا وكذا؟ وأَنشد قَوْلَ الفَرزدقِ السابِقَ ذِكْرُه. والقَسمُ قَعِيدَكَ اللهَ لأُكْرِمَنَّكَ، ويقال: قعِيدَكَ اللهَ لا تَفْعَلْ كذا، وقَعْدَكَ اللهَ بفتح القافِ، وأَمَّا قِعْدَكَ فلا أَعْرفه، ويقال: قَعَدَ قَعْدًا وقُعُودًا، وأَنشد:
فَقَعْدَكِ أَنْ لَا تُسْمِعِيني مَلَامَةً
وقال الجوهريّ: هي يَمِينٌ للعربِ وهي مصادرُ استُعْمِلت مَنصوبةً بفعْلٍ مُضمَرٍ.
والقَعِيدُ: ما أَتَاكَ منْ وَرَائِكَ مِنْ ظَبْيٍ أَو طائرٍ يُتَطَيَّرُ منه، بخلافِ النَّطِيح، ومنه قول عَبِيد بن الأبْرَصِ:
ولَقَدْ جَرَى لَهُمُ ولَمْ يَتَعَيَّفُوا *** تَيْسٌ قَعِيدٌ كالوَشِيجَةِ أَعْضَبُ
ذكره أَبو عُبَيْد في بابِ السَّانِح والبَارِح.
والقَعِيدَة بهاءٍ: المرأَةُ، وهي قَعِيدَةُ الرّجلِ وقَعِيدَةُ بَيْتِه، قال الأَسْعَرُ الجُعْفِيُّ:
لكِنْ قَعِيدَةُ بَيْتِنَا مَجْفُوَّةٌ *** بَادٍ جَنَاجِنُ صَدْرِهَا ولَهَا غِنَى
والجمعُ قَعَائدُ، وقَعِيدةُ الرجُلِ: امرأَتُه، قال:
أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ ثُمَّ آوِي *** إِلى بَيْتٍ قَعِيدَتُه لَكَاعِ
وكذلكِ قِعَادُه، قال عبدُ الله بن أَوْفَى الخُزَاعِيّ في امرأَتِه:
مُنَجَّدَةٌ مِثْلُ كَلْبِ الهِرَاشِ *** إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ تَهْجَعِ
فَلَيْسَتْ بِتَارِكَةٍ مَحْرَمًا *** وَلَوْ حُفَّ بالأَسَلِ المُشْرَع
فَبِئْسَتْ قِعَادُ الفَتَى وَحْدَهَا *** وبِئْسَتْ مُوَفِّيَةُ الأَرْبَعِ
والقَعيدَة أَيضًا شيْءٌ تَنْسُجُه النساءُ كالعَيْبَةِ يُجْلَسُ عليه، وقد اقْتَعَدَها، جمْعُها قَعَائدُ، قال امرُّؤُ القَيْس:
رَفَعْنَ حَوَايَا واقْتَعَدْنَ قَعَائِدًا *** وحَفَّفْنَ مِنْ حَوْكِ العِرَاقِ المُنَمَّقِ
والقَعِيدة أَيضًا: الغِرَارَةُ أَو شِبْهُها يكونُ فيها القَدِيدُ والكَعْكُ وجَمعُها قَعائدُ، قال أَبو ذُؤَيْب يَصف صائدًا:
لَهُ مِنْ كَسْبِهِنَّ مُعَذْلَجَاتٌ *** قَعائِدُ قَدْ مُلِئْنَ مِنَ الوَشِيقِ
والضمير في كَسْبِهنّ يَعود عَلَى سِهامٍ ذَكَرها قَبْلَ البيتِ. ومُعَذْلَجَاتٌ: مَمْلُوآت. والوَشِيق: ما جَفَّ مِن اللّحْمِ، وهو القَدِيدُ.
والقَعِيدَةُ من الرَّمْلِ: التي ليسَتْ بمُسْتطيلةٍ، أَو هي الحَبْل اللاطِئُ بالأَرْضِ، بفتح الحاءِ المُهملة وسكون المُوَحَّدة، وقيل هو ما ارْتكمَ منه.
وتَقَعَّدَهُ: قَامَ بأَمْرِه، حكاه ثعلب وابن الأَعرابيّ.
وتَقَعَّدَه: رَيَّثَه عَنْ حَاجَتِه وعَاقَه.
وتَقَعَّدَ فُلانٌ عن الأَمْرِ إِذا لم يَطْلُبْهُ، وقال ثعلب: قَعْدُك الله بالفتح ويُكْسَر، كما تقدّم، وبهما ضبطَ الرضيُّ وغيره، وزعم شيخُنا أَن المصنف لم يذكر الكسر فنسبه إِلى القصور وقَعِيدُك اللهَ لا آتيك، كلاهُما بمعنى نَاشَدْتُك الله، وقيل قَعْدَك الله وقَعِيدَك الله أَي كأَنَّه قاعِدٌ مَعَك بِحفْظِهِ، كذا في النُّسخ، وفي بعض الأُمَّهَاتِ يحفظ عَلَيْكَ قَوْلَك قال ابن منظور: وليس بِقَوِيٍّ، قال أَبو عُبَيْدٍ: قال الكسَائيُّ: يقال قِعْدك الله أَي الله مَعَك أَو مَعْنَاهُ بِصَاحِبِك الذي هو صاحِبُ كلِّ نَجْوَى كما يقال، نَشَدْتُك الله، وكذا قولهم قَعِيدَك لا آتيكَ وقَعْدَك لا آتيك، وكلّ ذلك في الصّحاح. وقد تقدّم بعضُ عِبارته، قال شيخُنَا: وصَرَّح المازنيُّ وغيره بأَنَّه لا فِعْلَ لقَعيدٍ، بخلاف عَمْرَك الله، فإِنهم بَنَوْا منه فِعْلًا، وظاهرُ المُصَنِّف بل صَرِيحُه كجَماعةٍ أَنه يُبْنَى مِن كُلٍّ منهما الفعْلُ. وفي شُرُوحِ الشواهِد: وأَمَّا قَعْدَك الله وقَعيدَك الله فقيل: هما مَصدرانِ بمعنى المُرَاقَبَةِ، وانتصابُهما بتقديرِ أُقْسِم بِمُراقَبتِك الله، وقيل: قَعْد وقَعِيد بمعنى الرَّقيب والحفيظ، فالمعْنِيُّ بهما الله تعالى، ونَصبهما بتقدير أُقْسِم، مُعَدًّى بالباءِ. ثم حُذف الفِعل والباءُ وانتصبا وأُبْدِل منهما الله.
وعن الخليل بن أَحمد المُقْعَدُ مِن الشِّعْرِ: كُلُّ بيتٍ فيه زِحَافٌ ولم يَرِد به إِلَّا نُقصانُ الحَرْفِ من الفاصلة أَو ما نُقِصَتْ مِنْ عَروضِه قُوَّةٌ كقول الرَّبيع بن زِيادٍ العَبْسِيّ:
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْر *** تَرْجُو النِّسَاءُ عَوَاقِبَ الأَطْهَارِ
والقول الأَخير قاله ابنُ القَطَّاع في الأَفعال له، وأَنشد البيت، قال أَبو عبيدة: الإِقواءُ نُقْصَانُ الحُرُوفِ من الفاصلة فَتَنْقُص مِن عَرُوض البيت قُوَّةٌ، وكان الخليلُ يُسَمِّي هذا: المُقْعَدَ، قال أَبو منصورٍ: هذا صحيحٌ عن الخليل، وهذا غيرُ الزِّحافِ، وهو عَيْبٌ في الشِّعْر، والزِّحَافُ ليس بعَيْب. ونقلَ شيخُنا عن علماءِ القوافي أَنّ الإِقْعَادَ عِبَارَةٌ عن اختلافِ العَرُوض مِن بَحْرِ الكامِل، وخَصُّوه به لكثرةِ حَرَكاتِ أَجزائه، ثم أَقامَ النَّكِير على المُصَنِّف بأَن الذي ذَهَبَ إِليه لم يُصَرِّحْ به أَحدٌ من الأَئمّة، وأَنه أَدْخَل في كِتابه مِن الزِّيادَة المُفْسِدة التي يَنْبَغِي اجتنابُها، إِذ لم يَعْرِفْ مَعناها، ولا فَتَحَ لهم بابَها، وهذا مع ما أَسْبَقْنَا النَّقْلَ عن أَبي عُبَيْدَة والخَليلِ وهُمَا هُمَا مِمَا يَقْضِي به العَجَبُ، والله تعالَى يُسامِح الجميعَ بفَضْلِه وكَرَمِه آمِين.
والمُقْعَدُ اسم رَجُل كانَ يَرِيشُ السِّهَامَ بالمَدينة، وكان مُقْعَدًا، قال عاصِم بنُ ثابِتٍ الأَنصاريُّ رضي الله عنه، حين لَقِيَه المُشْرِكون ورَمَوْه بالنَّبْل:
أَبُو سُلَيْمَانَ وَرِيشُ المُقْعَدِ *** وَمُجْنَأٌ مِنْ مَسْكِ ثَوْرٍ أَجْرَدِ
وَضَالَةٌ مِثْلُ الجَحِيمِ المُوقَدِ *** وصَارِمٌ ذُو رَوْنَقٍ مُهَنَّدِ
وإِنما خُفِض مُهَنَّد على الجِوار أَو الإِقواءِ؛ أَي أَنا أَبو سليمان، ومعي سِهامٌ رَاشَهَا المُقْعَدُ. فما عُذْرِي أَن لا أُقاتل؟ قال الصاغانيّ: ويُرْوَى المُعْقَد، بتقديم العين وقيل: المُقْعَدُ: فَرْخُ النَّسْرِ، ورِيشُه أَجْوَدُ الرِّيشِ، قاله أَبو العباس، نقلًا عن ابنِ الأَعرابيّ وقيل: المُقْعَد: النَّسْرُ الذي قُشِبَ له فصِيدَ وأُخِذَ رِيشُه وقيل: المُقْعَدُ: فَرْخُ كُلِّ طائر لَمْ يَسْتَقِلَّ، كالمُقَعْدِدِ، فيهما أَي في النَّسْرِ وفَرْخِهِ، والذي ثَبتَ عن كُراع: المُقَعْدَدُ: فَرْخ النَّسرِ.
ومن المَجاز: المُقْعَدُ مِن الثَّدْيِ: الناتئُ على النَّحْرِ مِلْءَ الكَفِّ، النَّاهِدُ الذي لم يَنْثَنِ بَعْدُ ولم يَتَكَسَّرْ، قال النابِغَة:
والبَطْنُ ذُو عُكَنٍ لَطِيفٌ طَيُّهُ *** والإِتْبُ تَنْفُجُه بِثَدْيٍ مُقْعَدِ
ومن المجاز رَجُلٌ مُقْعَدُ الأَنْفِ إِذا كان في مَنْخِرَيْهِ سَعَةٌ وقِصَرٌ.
والمُقْعَدَةُ بهاءٍ: الدَّوْخَلَّةُ مِنَ الخُوصِ، نقله الصاغانيّ. والمُقْعَدَة: بئر حُفِرَتْ فَلَمْ يَنْبَطْ مَاؤُها وتُرِكَتْ، وهي المُسْهَبَةُ عندهم.
والمُقْعَدَانُ، بالضمّ: شَجرةٌ تَنْبُتُ نَبَاتَ المَقِرِ ولا مَرارةَ لها، يَخرُجُ في وَسَطِها قَضيبٌ يَطولُ قامَةً، وفي رأْسِهَا مثْل ثَمَرَة العَرْعَرةِ صُلْبَةٌ حمراءُ يتَرامَى بها الصِّبيَانُ ولا تُرْعَى.
قاله أَبو حنيفة.
وعن ابن الأَعرابيّ: حَدَّدَ شَفْرَتَه حَتَّى قَعَدَتْ كأَنَّهَا حَرْبَةٌ؛ أَي صَارَتْ وهو مَجازٌ. ولما غفلَ عنه شيخُنَا جعَلَه في آخرِ المادّة من المُسْتَدْرَكَات.
وقال ابن الأَعْرَابيّ أَيضًا ثَوْبَكَ لا تَقْعُدْ تَطِيرُ به الرِّيحُ؛ أَي لا تَصِيرُ الرِّيحُ طائرَةً بهِ ونَصب ثوبَكَ بفعلٍ مُضْمَر؛ أَي احفظْ ثوبَك وقال أَيضًا: قعَدَ لا يسْأَله أَحدٌ حاجَةً إِلَّا قَضَاهَا. ولم يُفَسِّره، فإِن عنَى به صارَ فقد تَقدَّم لها هذه النظائر، واسْتَغْنى بتفسير تلكَ النظائرِ عن تفسيرِ هذه، وإِن كان عنَى القُعُودَ فلا معنَى له، لأَن القُعُود ليست حالٌ أَوْلَى به مِن حالٍ، أَلَا ترَى أَنك تقول: قَعَدَ لا يَمُرُّ به أَحَدٌ إِلَّا يَسبُّه، وقَعَدَ لا يَسْأَلُه سائلٌ إِلَّا حَرَمَه، وغير ذلك مما يُخْبَر به من أَحوالِ القاعد، وإِنما هو كقولِك: قَامَ لا يُسْأَلُ حاجَةً إِلَّا قَضاها. قلت. وسيأْتي في المستدركات ما يتعلَّق به.
والقُعْدَةُ، بالضمّ: الحِمَارُ، الجمع: قُعْدَاتٌ، بضمّ فسكون، قال عُرْوَة بن مَعدِيكربَ:
سَيْبًا عَلَى القُعْدَاتِ تَخْفِقُ فَوْقَهُمْ *** رَايَاتُ أَبْيَضَ كالفَنِيقِ هِجَانِ
والقُعْدَةُ: السَّرْجُ والرَّحْلُ يُقْعَد عليهما، وقال ابنُ دُرَيْد: القُعْدَات: الرِّحَالُ والسُّرُوجُ، وقال غيره: القُعَيْدَات.
وأَقْعَدَه، إِذا خَدَمَه، وهو مُقْعِدٌ له ومُقَعِّد، قاله ابنُ الأَعرابيّ وأَنشد:
ولَيْست لِي مُقْعِدٌ في البَيْتِ يقْعِدُنِي *** ولَا سَوَامٌ ولَا مِنْ فِضَّةٍ كِيسُ
وأَنشد للآخَر:
تَخِذَهَا سُرِّيَّةً تُقَعِّدُهْ
وفي الأَساس: ما لفلان امرأَةٌ تُقْعِده وتُقَعِّده.
ومن المَجاز: أَقْعَدَ أَباهُ: كَفَاهُ الكَسْبَ وأَعانَه، كَقَعَّدَه تَقْعِيدًا، فيهما، وقد تقدَّمَ شاهده.
واقْعَنْدَدَ بالمكانِ: أَقامَ به، وقال ابنُ بُزُرْج يقال: أَقْعَدَ بِذلك المكانِ، كما يُقالُ: أَقَامَ، وأَنشد:
أَقْعَدَ حَتَّى لَمْ يَجِدْ مُقْعَنْدَدَا *** ولَا غَدًا ولَا الَّذِي يَلِي غَدَا
والأَقْعَادُ، بالفَتْح، والقُعَادُ، بالضمّ: دَاءٌ يأْخُذُ في أَوْرَاكِ الإِبلِ والنَّجَائبِ فَيُميلُها إِلى الأَرْضِ. وفي نصّ عِبارة ابنِ الأَعرابيّ: وهو شِبْهُ مَيْلِ العَجُزِ إِلى الأَرض، وقد أُقْعِدَ البَعِيرُ فهو مُقْعَد، وفي كتاب الأَفعال لابن القطّاع: وأُقْعِد الجَمَلُ: أَصابَه القُعَاد، وهو اسْتِرْخاءُ الوَرِكَيْنِ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
المَقْعَدَة: السَّافِلة.
والمَقَاعِدُ: موضِع قُعود النَّاسِ في الأَسْوَاقِ وغيرِهَا.
وعن ابنِ السِّكّيت: يقال: ما تَقَعَّدَنِي عن ذلك الأَمْرِ إِلَّا شُغُلٌ؛ أَي ما حَبَسَني.
وفي الأَفعال لابن القَطَّاع: قَعَد عن الأَمْرِ: تَأَخَّر. وبي عَنْك شُغلٌ حَبَسَني. انتهى.
والعرب تدعو على الرّجل فتقول: حَلَبْتَ قاعِدًا وشَرِبْتَ قائمًا، تقول: لا مَلَكْت غيرَ الشَّاءِ التي تُحْلَبُ مِن قُعُودٍ ولا مَلَكْتَ إِبلًا تَحْلُبُها قائمًا، معناه: ذَهبَتْ إِبلُك فصِرْتَ تَحْلُبُ الغَنَم والشَّاءُ مَالُ الضُّعفاءِ. والأَذلَّاءِ. والإِبلُ مالُ الأَشرافِ والأَقوِيَاءِ.
ويقال: رجلٌ قاعدٌ عن الغَزْوِ، وقَوْمٌ قُعَّادٌ وقاعدُونَ.
وتقَاعَدَ به فُلانٌ، إِذا لم يَخْرُج إِليه منْ حَقَّه.
وما قَعَّدَك واقْتَعَدك: ما حَبَسَك.
والقَعَدُ: النَّخْلُ، وقيل: صِغَارُ النَّخْلِ، وهو جمع قاعِدٍ، كخادمٍ وخَدَمٍ.
وفي المثل: «اتَّخذوه قُعَيِّدَ الحاجات» تصغير القَعُود، إِذا امْتَهنُوا الرَّجُلَ في حَوائجهم.
وقاعَدَ الرَجُلَ: قَعَدَ معه.
والقِعَادَةُ: السَّريرُ، يَمانِيَة.
والقاعِدَة أَصْلُ الأُسِّ. والقَوَاعِدُ الإِسَاسُ وقَوَاعِدُ البيت إِسَاسُه، وقال الزَّجّاج: القَوَاعِد: أَساطِينُ البِنَاءِ التي تَعْمِدُه، وقولُهم: بَنَى أَمْرَه على قَاعِدَةٍ، وقَوَاعِدَ، وقاعِدَةُ أَمْرِك وَاهِيَةٌ، وتَركوا مقاعِدَهم: مَرَاكِزَهم، وهو مَجازٌ، وقواعِدُ السَّحاب: أُصولُها المُعْتَرِضة في آفاق السماءِ، شُبِّهَتْ بقواعِدِ البِنَاءِ، قاله أَبو عُبَيْدٍ، وقال ابنُ الأَثير: المُرَاد بالقواعِدِ ما اعترَضَ منها وسَفَلَ، تَشْبِيهًا بقَوَاعِد البِنَاءِ.
ومن الأَمثَال: «إِذا قام بك الشَّرُّ فاقْعُدْ» قال ابنُ القَطَّاع في الأَفعال: «إِذا نَزَل بك الشرُّ» بدل «قام». وقوله فاقْعُدْ.
أَي احْلُم. قلت: ومعناه ذِلَّ له ولا تَضْطَرِبْ، وله معنًى ثَانٍ؛ أَي إِذا انْتَصَب لك الشّرُّ ولم تَجِدْ منه بُدًّا فانْتَصِبْ له وجاهِدْه، وهذا مما ذَكَرَه الفَرَّاءُ.
وفي اللسان والأَفْعَالِ: الإِقْعَادُ في رِجْلِ الفَرس: أَن تُفْرَشَ جدًّا فلا تَنْتَصِب.
وقعَدَ الرَّجلُ: عَرَجَ، والمُقْعَد: الأَعْرَجُ.
وفي الأَساس: من المَجازِ: قَعَدَ عن الأَمْرِ: تَرَكَه. وقَعَد يَشْتُمُني: أَقْبَلَ. انتهى. والذي في اللسان: الفَرَّاءُ: العَرَبُ تقول: قَعَدَ فُلانٌ يَشْتُمني، بمعنى طَفِقَ وجَعَل، وأَنشد لبعض بني عامر:
لَا يُقْنِعُ الجَارِيَةَ الخِضَابُ *** وَلَا الوِشَاحَانِ ولا الجِلْبَابُ
مِنْ دُونِ أَنْ تَلْتَقِيَ الأَرْكَابُ *** وَيَقْعُدَ الأَيْرُ لَهُ لُعَابُ
ورَحىً قاعِدَةٌ: يَطْحَن الطاحِنُ بها بالرَّائِدِ بِيَدِه.
ومن المَجاز: ما تقَعَّدَه وما اقْتَعَده إِلَّا لُؤْمُ عُنْصُرِه.
ورجُلُ قُعْدُدَةٌ. جَبَانٌ.
والمُقْعَنْدَدُ: موضِعُ القُعود. والنون زائدة قال:
أَقْعَدَ حَتَّى لَمْ يَجِدْ مُقْعَنْدَدَا
وقد أَقْعَدَ بالمكان وأُقْعِد.
وورِثَ المال بالقُعْدَى، كبُشْرَى؛ أَي بالقُعْدُد.
والقَعُود، كصَبور: أَربعَةُ كَواكِبَ خَلْفَ النَّسْرِ الطائِرِ تُسَمَّى الصَّلِيب. والقُعْدُد من الجَبَل: المُسْتَوِي أَعلاه.
ويقال: اقْتَعَد فُلانًا عن السَّخَاءِ لُؤْمُ جِنْثِه، قال:
فَازَ قِدْحُ الكَلْبِيِّ وَاقْتَعَدَتْ مَعْ *** زَاءَ عَنْ سَعْيهِ عُرُوقُ لَئِيمِ
واقْتَعَدَ مَهْرِيًّا: جعلَه قَعُودًا له.
وفي الحديث «نَهَى أَنْ يُقْعَد على القَبْر». قيل: أَرادَ القُعودَ للتَّخَلِّي والإِحْدَاثِ، أَو القُعودَ للإحْدادِ، أَو أَرادَ تَهْوِيلَ الأَمْرِ، لأَن في القُعُودِ عليه تَهاوُنًا بالمَيت والمَوْتِ.
وسَمَّوْا قِعْدَانًا، بالكسر.
وأَخَذَه المُقِيمُ المُقْعِد.
وهذا شَيءٌ يَقْعُدُ به عليك العَدُوُّ ويَقومُ.
* ومما استدْرَكه شيخُنا:
التَّقَعْدُدُ: التَّثَبُّتُ والتَّمَكُّن، استعمله القاضي عياضٌ في الشفاءِ، وأَقَرَّه شُرَّاحُه. والمُقَعَّد، كمُعَظَّم: ضَرْبٌ من البُرُود يُجْلَب مِن هَجَرَ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
57-تاج العروس (كرد)
[كرد]: الكَرْدُ: العُنُقُ، لُغَة في القَرْدِ، فارِسِيّ مُعَرَّب، قال الشاعر:فَطَارَ بِمَشْحُوذِ الحَدِيدَةِ صَارِمٍ *** فَطَبَّقَ مَا بَيْنَ الذُّؤَابَةِ والكَرْدِ
وقال آخر:
وكُنَّا إِذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّه *** ضَرَبْنَاهُ دُون الأُنْثَيَيْنِ عَلَى الكَرْدِ
أَوْ أَصْلُها، وهو مَجْثَمُ الرّأْسِ على العُنق، وتأْنيثُ الضَّمير على لُغةِ بعضِ أَهلِ الحِجاز، فإِنهم يُؤنِّثون العُنُقَ، وهي مَرجُوحةٌ، قاله شيخُنَا. وفي اللسان: والحَقيقة في الكَرْد أَنه أَصْلُ العُنُقِ.
والكَرْدُ: السَّوْقُ وطَرْدُ العَدُوِّ كَرَدَهم يَكْرُدُهم كَرْدًا: ساقَهم وطَرَدَهم ودَفَعَهم، وخَصَّ بعضُهم بالكَرْدِ سَوْقَ العَدُوِّ في الحَمْلَةِ. وفي حديثِ عُثْمَانَ رَضي اللهُ عنه لمَّا أَرادوا الدُّخول عليه لقتله: «جَعَلَ المُغِيرَةُ بنُ الأَخْنَسِ يَحْمِل عَلَيْهِم وَيَكْرُدُهم بِسَيْفِه» أَي يَكُفُّهم ويَطْرُدُهم.
والكَرْدُ: القَطْعُ، ومنه: شَارِبٌ مَكْرُودٌ؛ أَي مقطوع.
والكَرْدُ: بالضمِّ: جِيلٌ معروف معروف وقبائلُ شَتَّى، الجمع: أَكْرَادٌ كقُفل وأَقْفَالٍ، واختُلِف في نَسبهم، فقيل: جَدُّهم كُرْدُ بن عَمْرٍ ومُزَيْقَاءَ وهو لَقَبٌ لِعَمْرٍ و، لأنه كان كلَّ يوم يَلْبَس حُلَّةً، فإِذا كان آخر النهار مَزَّقها لئلا تُلْبَس بعدَه، ابنِ عامِرِ بنِ ماءِ السَّماءِ، هكذا في سائر النُّسخ والصواب أَنّ ماءَ السماءِ لَقَبٌ لعامر، ويَدُلُّ له قولُ الشاعِرِ:
أَنَا ابنُ مُزَيْقِيَا عَمْرٍو وجَدِّي *** أَبوه عامِرٌ ماءُ السَّماءِ
هكذا رواه أَهلُ الأَنْسَاب، كابن حَزْمٍ وابن رَشِيق والسُّهَيليّ، ويرويه النحويّون أَبُوه مُنْذِرٌ، بدل «عامر» وهو غَلَطٌ، قاله شيخُنا، وإِنما لُقِّب به لأَنه كان إِذا أَجْدَب القَوْمُ وحَلَّ بهم المَحْلُ مَانَهم وقامَ بِطَعَامِهِم وشرابهِم حتى يَأْتِيَهم المَطَرُ، فقالوا له: ماءُ السماءِ. قلت: وعامرٌ ماءُ السماءِ أَعْقَب عِمْرَانَ بن عامِر وعَمْروًا مُزَيْقِياءَ، فهما ابنا عامرٍ ماءِ السماءِ بن حارِثةَ الغِطْرِيفِ بنِ امرِئ القيس الغِطريفِ بن ثَعْلَبة البُهْلول بن مازن السِّراج بن الأَزد، والعَقِب من عمرٍ ومُزيقياءَ في سِتِّ أَبْطُنٍ: ثَعْلَبَة العَنْقَاء، وحارِثَة، وجَفْنَة، وعِمْرَان، ومُحَرِّق، وكَعْب. أَولاد عَمْرو، ومن ثَعلبةَ العنقاءِ: الأَوْسُ والخَزْرَجُ، كما حَقّقناه في مُؤلّفاتنا في هذا الفن، وهذا الذي ذهب إِليه المُصنّف هو الذي جَزم به ابنُ خِلِّكان في وَفَيات الأَعيان، في ترجمة المُهلَّب بن أَبي صُفْرة. قال: إِن الأَكْرَاد من نَسْل عَمْرٍو مُزيقياءَ، وَقَعوا إِلى أَرْض العَجَم فتَنَاسَلُوا بها وكَثُر وَلَدُهم، فَسُمُّوا الأَكرادَ، قال بعضُ الشعراءِ:
لَعَمْرُكَ مَا الأَكْرَادُ أَبْنَاءُ فَارِسٍ *** ولكِنَّهُ كُرْدُ بنُ عَمْرِو بنِ عَامِرِ
هكذا زَعَمَ النسّابون. وقال ابنُ قُتَيبة في كتابِ المَعَارِف: تَذْكُر العَجَمُ أَنَّ الأَكْرَادَ فَضْلُ طعام بِيورَاسفَ.
وذلك أَنه كان يَأْمُر أَن يُذْبَح له كُلَّ يوم إِنسانانِ ويتّخذ طعامَه من لُحومِهما، وكان له وزيرٌ يقال له أَرياييل، فكان يذبَح واحدًا ويُبْقِي واحدًا يَسْتَحْيِيه ويَبعثُ بهِ إِلى جبَلِ فَارِس، فتوالَدوا في الجِبال وكَثُروا. قال شيخنا: وقد ضَعَّفَ هذا القولَ كثيرٌ من أَهلِ الأَنسابِ. قلت: وبيوراسف هذا هو الضَحَّاك المارِي، مَلَكَ العَجَمَ بعدَ جم بن سُلَيْمان أَلفَ سَنَةٍ، وفي مفاتيحِ العُلومِ هو مُعَرَّب دَهْ آك؛ أَي ذو عَشْرِ آفاتٍ، وقيل معرَّب أَزدها؛ أَي التّنِّينُ، للسَّلَعَتَيْنِ اللَّتينِ كانَتَا له، وقال أَبو اليقظان: هو كُرْدُ بن عمرِو بن عامِرِ بن رَبِيعَةَ [بن عامر] بن صَعْصَعَةَ، وقد أَلَّفَ في نَسَب الأَكْرَادِ فاضلُ عصرِه العلَّامَةُ محمّد أَفندي الكُرْدِيّ، وذكر فيه أَقولًا مختلِفَةً بعضُها مُصادِمٌ للبَعْضِ، وخَبَطَ فيه خَبْطَ عَشْوَاءَ، ورَجَّح فيه أَنه كُرْد بن كَنْعَانَ بن كوش بن حام بن نوح، وهم قبائلُ كثيرةٌ، ولكنهم يَرجِعُون إِلى أَربعةِ قبائلَ، السوران والكوران والكلهر واللرّ. ثم أَنّهم يتشَعَّبون إِلى شُعوبٍ وبُطونٍ وقَبَائلَ كثيرةٍ لا تُحْصَى، مُتغايِرَةٌ أَلسِنتهم وأَحوالُهم.
ثم نَقَلَ عن مناهج الفكر ومباهج العبر للكُتْبِيّ ما نَصُّه: أَمَّا الأَكرادُ فقال ابنُ دُرَيدٍ في الجمهرة: الكُرْدُ أَبو هذا الجِيلِ الذين يُسمَّوْنَ بِالأَكراد، فزعمَ أَبو اليَقظانِ أَنَّه كُرْدُ بن عمرِو بن عامر [بن: ربيعةَ بنِ عامر] بن صَعْصَعَةَ. وقال [ابن] الكلبِيِّ: هو كُرْد بن عمرو مزيقياءَ. وقعوا في نَاحِيَةِ الشَّمَال لَمَّا كان سَيْلُ العَرِم، وتَفَرَّقَ أَهلُ اليَمن أَيْدِي سَبَا.
وقال المسعوديُّ: ومن الناس مَن يَزعم أَن الأَكراد من ولَد رَبيعةَ بنِ نِزارٍ، ومنهم مَن يزعم أَنهم من وَلَدِ مُضَرَ بن نِزارٍ، ومنهم من زعم أَنهم من ولد كُرْدِ بن كَنْعَانَ بن كُوش بن حام. والظاهر أَن يكونوا من نَسْلِ سامٍ، كالفُرْسِ، لما مَرَّ من الأَصْل، وهم طوائف شَتَّى، والمعروف منهم السورانية والكورانية والعمادية والحكارية والمحمودية والبختية والبشوية والجوبية والزرزائية والمهرانية والجاوانية والرضائية والسروجية والهارونية واللرية، إِلى غير ذلك من القبائل التي لا تُحْصَى كَثْرَةً، وبلادهم أَرضُ الفارِس وعراقُ العَجَم والأَذربيجان والإِربل والمَوْصِل، انتهى كلامُ المسعوديّ ونقله هكذا العلامة محمد أَفندي الكُرديّ في كتابه. قلت: والذي نقل البُلبيسيّ عن المسعوديّ نصّ عبارته: هكذا تنازعَ الناس في بدءِ الأَكراد، فمنهم من رأَى أَنهم من ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل، انفردوا في الجبال قديمًا لحالٍ دعتهم إِلى ذلك، فجاوروا الفُرس فحالت لغتهم إِلى العُجمة، وولدَ كلّ نوع منهم لغة لهم كُردية، ومنهم من رأَى أَنهم من ولد مضر بن نزار، وأَنهم من ولد كُرد بن مرد بن صعصعة [بن هوازن] انفردوا قديمًا لدماءٍ كانت بينهم وبين غسّانَ، ومنهم من رأَى أَنهم من ولد ربيعة بن مضر اعتصموا بالجبال طلبًا للمياه والمرعى، فحالوا عن العربية لمن جاورهم من الأُمم، وهم عند الفُرس من ولد كرد بن إِسفنديار بن منوجهر، ومنهم من أَلحقهم بإِماءِ سليمان عليهالسلام حين وقع الشيطانُ المعروف بالجَسد على المنافقات فعلِقن منه وعُصِمَ منهن المؤمنات، فلما وضعْن قال: اكردوهن إِلى الجبال. منهم ميمون بن جابان أَبو بصير الكردي قاله الرشاطي عن أَبيه، انتهى ثم قال محمد أَفندي المذكور: وقيل أَصل الكرد من الجنّ، وكل كرديّ على وجه الأَرض يكون رُبعه جِنيًّا، وذلك لأَنهم من نسل بِلْقيس، وبلقيس بالاتفاق أُمها جِنيّة، وقيل: عصى قوم من العرب سليمانَ عليهالسلام وهربوا إِلى العجم، فوقعوا في جَوَارٍ كان اشتراها رجل لسليمان عليهالسلام، فتناسلت منها الأَكراد، وقال أَبو المعين النسفيّ في بحر الكلام: ما قيل إِن الجنّيّ وصل إِلى حرم سليمان عليهالسلام وتصرف فيها وحصل منها الأَكراد باطلٌ لا أَصل له، انتهى. قلت: وذكر ابن الجواني النسّابة في آخر المقدمة الفاضليّة عند ذِكر ولد شالخ بن أَرفخشذ ما نصُّه: والعقب من فارسان بن أَهلو بن أَرم بن أَرفخشذ أَكراد بن فارسان جد القبيلة المعروفة بالأَكراد، هذا على أَحد الأَقوال، وأَكثر من يَنسبهم إِلى قيس، فيقول كُرد بن مرد بن عمرو بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هَوَازن بن منصور بن عِكرمة بن خَصَفة بن قيس عَيلان بن مُضر بن نِزار بن معدّ بن عدنان، ويُجرِي عَمْرًا مُجرَى باسل بن ضبّة جدّ الدَّيلم في خروجه إِلى بلاد العجم مغاضِبًا لأَهله، فأَوْلد فيها ما أَوْلد. قال: وعليه اعتمد الأَرقطيَّ النسابة في شجرته. ومن أَراد الزيادة على ذلك فعليه بكتاب الجوهر المكنون في القبائل والبطون لابن الجواني المذكور، وفيما ذكرنا كفاية، والله أَعلم.
والكُرْدُ: الدَّبْرَةُ مِن المَزَارعِ معرب، وهي المَشَارات؛ أَي سَواقيها، الواحدةُ بهاءٍ والجمع كُرُودٌ، قال الصاغانيّ: وهو مما وافق كلامَ العرب من كلام العجم، كالدَّشْتِ والسَّخْت.
والكُرْدُ: قرية بالبيضاءِ بفارسَ، منها أَبو الحسن عليّ بن الحسن بن عبد الله الكُرْدِيّ.
وكُرْدُ بنُ القاسِم، وأَظُّن هذا تصحيفًا من كُرْدِين بن القاسم مُحَدِّثٌ، وكذا محمّد بن كُرْدِ الإِسْفَرَايِنِيُّ.
ومُحَمد بن عَقيل المعروف بابن الكُرَيْدِيِّ بالتّصغير.
وكُرْدِينُ لقب واسمه عبدُ الله بنُ القاسِمِ مُحَدّث، هكذا ساق هذه الأَسماءَ الصاغانيُّ في تَكملته، وقلَّده المصنف، والذي في التبصير للحافظ أَن المُسَمَّى بعبد الله بن القاسم يعرف بكُورِين، ويكنى أَبا عبيدة، وأَما ابن كُرْدِين فاسمه مِسْمع، فتنبَّهْ لذلك.
والكِرْدِيدَةُ، بالكسر: القطْعَةُ العَظِيمةُ من التَّمْرِ، وهي أَيضًا جُلَّتُه؛ أَي التَّمرِ، عن السيرافيّ، قال الشاعر:
أَفْلَحَ مَنْ كانَتْ له كِرْدِيدَهْ *** يأْكُلُ مِنْهَا وهْوَ ثَانٍ جِيدَهْ
أَنشد أَبو الهيثم:
قَدْ أَصْلَحَتْ قِدْرًا لَهَا بِأُطْرَهْ *** وأَبْلَغَتْ كِرْدِيدَةً وفِدْرَهْ
أَو الكِرْدِيدَةُ: ما يَبْقَى في أَسْفَلِها أَي الجُلَّةِ مِنْ جَانِبَيْهَا مِن التَّمْرِ، كذا في الصحاح، الجمع: كَرَادِيدُ وكِرَادٌ، الأَخير بالكسر، قال الشاعر:
للقاعِدَات فلا يَنْفَعْنَ ضَيْفَكُمُ *** والآكِلَات بَقِيَّاتِ الكَرَادِيدِ
كالكِرْدِيَةِ، بالكسر، عن الصاغانيّ. وعبدُ الحَمِيدِ بنُ كَرْدِيدٍ مُحَدِّثٌ ثِقَةٌ، وهو صاحب الزِّيَادِيّ.
وكارَدَهُ: طَارَدَهُ ودَافَعَه، قيل: ومنه اشتقاق الكُرْدِ الطائِفَةِ المشهورة.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
يقال: خُذْ بِقَرْدَنِه وكَرْدَنِه؛ أَي بقَفَاه، أَورده الأَزهري في رباعيّ التهذيب.
وأَبو عليّ أحمد بن محمد الكَرْدِيّ، بفتح الكاف، هكذا ضبطه حمزة بن يوسف السهميّ، مُحدّث، روَى عن أَبي بكر الإِسماعيليّ.
وجابر بن كُرْدِيّ الواسِطيّ، بالضّم، ثِقَةٌ، عن يَزيدَ بن هارونَ.
والكَرْد، بالفتح: ماءٌ لبني كِلاب في وَضحِ حَمِى ضَرِيَّة.
ومحمّد بن أَحمد بن كردان، محدِّث.
وعُمر بن الخليل أَبو كِرْدِينِ، بالكسر، وَليَ قضاءَ أَصبهانَ، وحدّث عن حمّاد بن مَسْعَدة، ذكره أَبو نُعيم في تاريخه.
وأَبو الفضل أَحمد بن عبد المنعم بن الكِرْدِيديّ، وأَبو بكر أَحمد بن بدران الكِرْدِيدِيّ، وعُمر بن عبد الله بن إِسحاق الكِرْدِيديّ، مُحَدّثون.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
58-تاج العروس (وجد)
[وجد]: وَجَدَ المَطلوبَ والشيْءِ كوَعَدَ وهذَه هي اللغة المشهورة المتّفق عليها ووَجِدَه مثل وَرِمَ غير مشهورة، ولا تُعرَف في الدواوين، كذا قاله شيخُنَا، وقد وَجَدْت المصنِّفَ ذكَرَها في البصائر فقال بعد أَن ذَكَر المفتوحَ: ووَجِدَ، بالكسر، لُغَةٌ، وأَورده الصاغانيّ في التكملة فقال: وَجِد الشَيءَ، بالكسر، لغة في وَجَدَه يَجِدُه ويَجُدُهُ، بضمّ الجيم، قالَ شيخنا: ظاهره أَنه مُضارعٌ في اللغتينِ السابِقَتينِ، مع أَنه لا قائلَ به، بل هاتانِ اللغتانِ في مُضارِعِ وَجَدَ الضالَّة ونَحْوها، المَفْتوح، فالكسر فيه على القياس لُغَةٌ لجميعِ العَرَب، والضمُّ مع حذفِ الواو لُغَة لبني عامرِ بن صَعْصَعَةَ، ولا نَظِيرَ لَهَا في باب المِثَال، كذا في ديوان الأَدب للفَارابيّ، والمصباح، وزاد الفيُّوميُّ: ووَجْه سُقُوطِ الواو على هذه اللغةِ وُقوعُها في الأَصل بين ياءٍ مفتوحةٍ وكسرةٍ، ثم ضُمَّت الجيم بعد سُقوط الواوِ من غير إِعادتها، لعدمِ الاعتداد بالعارِض، وَجْدًا، بفتح فسكون وجِدَةً، كعِدَة، ووُجْدًا، بالضَّمّ، ووُجُودًا، كقُعُود، ووِجْدَانًا وإِجْدَانًا، بِكَسْرِهما، الأَخِيرة عن ابن الأَعْرابيّ: أَدْرَكَه، وأَنشد:وآخَر مُلْتَاث يجُرُّ كِساءَه *** نَفَى عَنْه إِجْدَانُ الرِّقِينَ المَلَاوِيَا
قال: وهذا يَدُلّ على بَدَلِ الهمزة من الواوِ المكسورةِ، كما قالوا إِلْدَة في وِلْدَة. واقتصر في الفَصيح على الوِجْدَان، بالكسر، كما قالوا في أَنشَدَ: نِشْدَان، وفي كتاب الأَبنيَة لابن القطّاع: وَجَدَ مَطْلوبَه يَجِدُه وُجُودًا ويَجُدْه أَيضًا، بالضمّ، لُغَة عامِريّة لا نظير لَهَا في باب المِثال، قال لَبِيدٌ وهو عامِرِيٌّ:
لَمْ أَرَ مِثْلَكِ يَا أُمَامَ خَلِيلَا *** آبَى بِحَاجَتِنَا وَأَحْسَنَ قِيلَا
لَوْ شِئْتِ قَدْ نَقَعَ الفُؤَادُ بِشَرْبَةٍ *** تَدَعُ الصَّوادِيَ لَا يَجُدْنَ غَلِيلًا
بِالعَذْبِ مِنْ رَضَفِ القِلَاتِ مَقِيلَةً *** قَضَّ الأَباطِحِ لَا يزالُ ظَلِيلَا
وقال ابْنُ بَرّيّ: الشِّعْرُ لِجَرِيرٍ وليس للبيدٍ، كما زعم الجوهَرِيُّ. قلت: ومثله في البصائر للمُصَنِّف وقال ابن عُدَيْس: هذه لُغَة بني عامرٍ، والبيتُ للبيد، وهو عامِريٌّ، وصرّحَ به الفرَّاءُ، ونقله القَزَّاز في الجامع عنه، وحكاها السيرافيُّ أَيضًا في كتاب الإِقناع، واللِّحْيَانيُّ في نوادِرِه، وكُلُّهم أَنشدوا البَيْتَ، وقال الفَرَّاءُ: ولم نسمع لها بنَظِيرٍ، زاد السيرَافيّ: ويُروَى: يَجِدْن، بالكسر، وهو القياس، قال سِيبويهِ: وقد قال ناسٌ من العرب وَجَد يَجُد، كأَنهم حَذَفوها مِن يَوجُدُ، قال: وهذا لا يكادُ يُوجد في الكلام. قلت: ويفهم من كلام سيبويه هذا أَنها لُغَة في وَجَد بجميع معانِيه، كما جَزَم به شُرَّاح الكتابِ، ونقلَه ابنُ هِشَامٍ اللَّخميُّ في شَرْح الفَصِيح، وهو ظاهرُ كلامِ الأَكثر، ومقتضَى كلام المصنّف أَنها مقصورةٌ على مَعْنَى وَجَدَ المَطلوبَ، ووَجَد عليه إِذا غَضِب، كما سيأْتي، ووافقَه أَبو جَعفر اللَّبْلِيّ في شَرْح الفصيحِ، قال شيخُنَا: وجَعلُها عامَّةً هو الصواب، ويدلُّ له البيتُ الذي أَنشدُوه، فإِن قوله: «لا يَجُدْن غَلِيلًا» ليس بشيْءٍ مما قَيَّدُوه به، بل هو من الوِجْدَانِ، أَو من معنَى الإِصابة، كما هو ظاهر، ومن الغريب ما نَقَلَه شيخُنَا في آخرِ المادّة في التنبيهات ما نَصُّه: الرابع، وقَعَ في التسهيل للشيخ ابنِ مالكٍ ما يقتضي أَن لُغَة بني عامِرٍ عامَّة في اللسان مُطْلقًا، وأَنَّهُم يَضُمُّون مُضَارِعَه مُطْلَقًا من غيرِ قَيْدٍ بِوَجَدَ أَو غيرِه، فيقولون وَجَد يَجُد ووَعَدَ يَعُدُ، ووَلَد يَلُدُ، ونَحْوها، بضمّ المضارع، وهو عجيبٌ منه رحمه الله، فإِن المعروف بين أَئمّة الصَّرْف وعُلماءِ العَربيَّةِ أَن هذه اللغةَ العامريَّةَ خاصَّةٌ بهذا اللفظ الذي هو وَجَدَ، بل بعضُهم خَصَّه ببعضِ مَعَانِيه، كما هو صَنِيعُ أَبي عُبيدٍ في المُصَنَّف، واقتضاه كلامُ المُصَنِّف، ولذلك رَدّ شُرَّاحُ التسهيل إِطلاقَه وتَعَقَّبُوه، قال أَبو حَيَّان: بنو عامرٍ إِنما رُوِيَ عنهم ضَمُّ عَيْنِ مُضَارعِ وَجَدَ خاصَّةً، فقالوا فيه يَجُدُ، بالضّمّ، وأَنشدوا:
يَدَعُ الصَّوَادِيَ لَا يَجُدْنَ غَلِيلَا
على خلافٍ في رِوَايَةِ البيتِ، فإِن السيرافيّ قال في شرح الكتاب: ويُرْوَى بالكسر، وقد صرَّح الفارَابِيُّ وغيرُه بِقَصْرِ لُغَةِ بني عامرِ بن صَعْصَعَة على هذه اللفظةِ، قال: وكذا جَرَى عليه أَبو الحسن بن عصفور فقال: وقد شَذَّ عن فَعَل الذي فاؤه واوٌ لفظةٌ واحدةٌ، فجاءَت بالضمّ، وهي وَجَد يَجُد، قال: وأَصلُه يَوْجُد فحُذِفت الواو، لكَون الضَّمَّة هنا شاذَّةً، والأَصل الكسْر. قلت: ومثل هذا التعليل صَرَّحَ به أَبو عليٍّ الفارسيُّ قال: ويَجُد كانَ أَصلُه يَوْجُد، مثل يَوْطُؤُ، لكنه لما كان فِعْلٌ يُوْجَدُ فيه يَفْعِل ويَفْعُلُ كأَنَّهم توَهَّموا أَنه يَفْعُل، ولما كان فِعْلٌ لا يُوجَد فيه إِلَّا يَفْعِل لم يَصِحّ فيه هذا.
ووَجَدَ المالَ وغَيْرَه يَجِدُه وجْدًا، مثلَّثَةً وجِدَةً، كعِدَةٍ: اسْتَغْنَى، هذه عبارةُ المُحْكَم، وفي التهذيب يقال: وَجَدْتُ في المال وُجْدًا ووَجْدًا ووِجْدًا ووِجْدَانًا وجِدَةً؛ أَي صرْتُ ذا مالٍ، قال: وقد يُستعمل الوِجْدَانُ في الوُجْدِ، ومنه قولُ العَرَب: «وِجْدَانُ الرِّقِينَ يُغَطِّي أَفَنَ الأَفِينِ».
قلت: وجرى ثعلبٌ في الفصيح بمثْلِ عبارةِ التهذيبِ، وفي نوادِر اللِّحْيَانيِّ: وَجَدْتُ المالَ وكُلّ شيْءٍ أَجِدُه وَجْدًا ووُجْدًا ووِجْدًا وجِدَةً، قال أَبو جعفرٍ اللَّبْليُّ: وزاد اليزيديُّ في نوادِره ووُجُودًا، قال: ويُقَال وَجَدَ بعد فَقْرٍ، وافتقَرَ بَعْدَ وَجْدٍ. قلْت: فكلام المصنّف تَبَعًا لابنِ سيدَه يقتضِي أَنه يَتَعَدَّى بنفسِه. وكلام الأَزهريّ وثَعْلبٍ أَنه يتعدَّى بِفي، قال شيخُنا: ولا منافاةَ بينهما، لأَن المقصود وَجَدْتُ إِذ كان مَفْعُولُه المالَ بكون تَصريفُه ومصدَرُه على هذا الوَضْعِ، والله أَعلَم.
فتأَمّل، انتهى، وأَبو العباسِ اقتصرَ في الفصيح على قَوْلِه: وَجَدْت المالَ وُجْدًا؛ أَي بالضمّ وجِدَةً، قال شُرَّاحُه: معناه: استَغْنَيْتُ وكَسَبْتُ. قلت: وزاد غيرُه وِجْدَانًا، ففي اللسانِ: وتقول وَجَدْت في الغِنَى واليَسَارِ وُجْدًا ووُجْدَانًا.
ووَجَدَ عَلَيْهِ في الغَضَب يَجِدُ ويَجُدُ، بالوجهينِ، هكذا قاله ابنُ سِيدَه، وفي التكملة: وَجَدَ عليه يَجُدُ لُغَة في يَجِدُ، واقتصر في الفصيحِ على الأَوَّل وَجْدًا بفتح فسكون وجِدَةً، كعِدَةٍ، ومَوْجِدَةً، وعليه اقتصر ثعلبٌ، وذكر الثلاثةَ صاحبُ الواعِي، ووِجْدَانًا، ذكرَه اللحيانيُّ في النوادر وابنُ سِيدَه في نَصِّ عِبارته، ـ والعَجَب من المُصَنِّف كيف أَسْقَطَه مع اقتفائِه كلامَه ـ: غَضِبَ. وفي حديثِ الإِيمان: «إِنِّي سائِلُكَ فلا تَجِدْ عَلَيَّ»؛ أَي لا تَغْضَبْ مِن سُؤَالي، ومنه الحديث: «لم يَجِدِ الصائمُ على المُفْطِرِ» وقد تَكَرَّر ذِكْرُه في الحديث اسْمًا وفِعْلًا ومَصدَرًا، وأَنشدَ اللِّحيانيُّ قولَ صَخْرِ الغَيِّ:
كِلَانَا ردَّ صَاحِبَهُ بِيَأْسٍ *** وتَأْنِيبٍ وَوِجْدَانٍ شَدِيدِ
فهذا في الغَضَب، لأَن صَخْرَ الغَيِّ أَيْأَسَ الحَمَامَةَ مِن وَلَدِهَا فَغَضِبَتْ عليه، ولأَن الحمامةَ أَيأَسَتْه من وَلَده فغَضِبَ عليها، وقال شُرَّاح الفصيحِ: وَجَدْتُ على الرَّجُلِ مَوْجِدَةً؛ أَي غَضِبْتُ عليه، وأَنا واجِدٌ عليه؛ أَي غَضْبَانُ، وحكَى القَزَّازُ في الجامِع وأَبو غالبٍ التِّيّانِيّ في المُوعب عن الفَرَّاءِ أَنه قال: سَمِعْت بعضَهم يقول: قد وَجِدَ، بكسر الجيم، والأَكثر فَتْحُهَا، إِذا غَضَبَ، وقال الزمخشريُّ عن الفراءِ: سَمِعْت فيه مَوْجَدَةً، بفتح الجيم، قال شيخُنَا: وهي غَرِيبَةٌ، ولم يَتَعَرَّض لها ابنُ مالكٍ في الشَّواذِّ، على كَثْرَةِ ما جَمَع، وزادَ القَزَّازُ في الجامِع وصاحِبُ المُوعب كِلاهُمَا عن الفَرَّاءِ وُجُودًا، من وَجَدَ: غَضِبَ؛ وفي الغريب المُصَنَّف لأَبي عُبَيد أَنه يقال: وَجَد يَجِدُ مِن المَوْجِدَة والوِجْدَانِ جَمِيعًا.
وحكى ذلك القَزَّازُ عن الفَرَّاءِ، وأَنشد البيتَ، وعن السيرافيّ أَنه رَوَاه بالكَسْرِ، وقال: هو القياسُ، قال شيخُنَا: وإِنما كانَ القِيَاسَ لأَنه إِذا انضَمَّ الجيمُ وَجَبَ رَدُّ الواوِ، كقولِهم وَجهُ يَوْجُه، مِن الوَجَاهة، ونَحْوه.
ووَجَد به وَجْدًا، بفتح فسكون، فِي الحُبِّ فَقَطْ، وإِنه لَيَجِد بِفُلَانَةَ وَجْدًا شَدِيدًا، إِذا كانَ يَهْوَاها ويُحِبُّهَا حُبًّا شديدًا، وفي حديث وَفْد هَوَازِنَ قَوْلُ أَبي صُرَد: «ما بَطْنُها بِوَالِد، ولا زَوْجُها بِوَاجِد» أَي أَنه لا يُحِبُّهَا، أَوردَه أَبو جَعْفَر اللبليّ، وهو في النهاية، وفي المحكم: وقالتْ شاعِرَةٌ مِن العرب وكَانَ تَزَوَّجَهَا رجُلٌ مِن غَيْرِ بَلَدِهَا فَعُنِّنَ عَنْهَا:
وَمَنْ يَهُدِ لِي مِنْ مَاءِ بَقْعَاءَ شَرْبَةً *** فَإِنَّ لَهُ مِنْ مَاءِ لَينَةَ أَرْبَعَا
لَقَدْ زَادَنَا وَجْدًا بِبَقْعَاءَ أَنَّنَا *** وَجَدْنَا مطَايَانَا بِلِينَةَ ظُلَّعَا
فَمَنْ مُبْلِغٌ تِرْبَيَّ بِالرَّمْلِ أَنَّنِي *** بَكَيْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِعَيْنَيَّ مَدْمَعَا
تقول: من أَهْدَى لِي شَرْبَةَ ماءٍ مِن بَقْعَاءَ على ما هُوَ به مِنْ مَرَارَةِ الطَّعْمِ فإِن له مِن ماءِ لِينَةَ على ما هُوَ به مِن العُذُوبَةِ أَرْبَعَ شَرَبَاتٍ، لأَن بَقْعَاءَ حَبِيبَةٌ إِليَّ إِذْ هِي بَلَدي ومَوْلِدِي، ولِينَةُ بَغِيضَةٌ إِليَّ، لأَن الذي تَزوَّجَني مِن أَهْلِها غيرُ مَأَمُونٍ عَلَيَّ. وإِنما تلك كِنايةٌ عَنْ تَشَكِّيها لهذا الرَّجُلِ حين عُنِّن عَنْهَا. وقولُها: لقد زَادَني حُبًّا لِبَلْدَتِي بَقْعَاءَ هذِهِ أَن هذا الرجُلَ الذي تَزَوَّجَني من أَهلِ لِينَةَ عُنِّنَ عَنِّي، فكانَ كالَمطِيَّةِ الظَّالِعَةِ لا تَحْمِلُ صاحِبَها، وقولها:
فَمَنْ مُبْلِغٌ تِرْبَيَّ...
البيت، تقول: هَلْ مِن رَجُلٍ يُبْلِغُ صاحِبَتَيَّ بالرَّمْلِ أَنَّ بَعْلِي ضَعُفَ عَنِّي وعُنِّنَ فأَوْحَشَني ذلك إِلى أَنْ بَكَيْتُ حَتّى قَرِحَتْ أَجفانِي فزَالَتِ المَدَامِعُ، ولم يَزُلْ ذلك الجَفْنُ الدَّامِعُ، قال ابنُ سِيدَه، وهذه الأَبياتُ قَرَأْتُها على أَبِي العَلاءِ صاعِدُ بنِ الحَسَن في الكِتَاب المَوْسُوم بالفُصُوصِ.
وَكَذَا في الحُزْنِ ولكن بِكَسْرِ ماضِيه، مُرَاده أَن وَجِدَ في الحُزْن مِثْل وَجَدَ في الحُبِّ؛ أَي ليس له إِلَّا مَصْدَرٌ واحِدٌ، وهو الوَجْدُ، وإِنما يخالفه في فِعْلِه، ففِعل الحُبِّ مفتوح، وفِعْل الحُزْن مَكسورٌ، وهو المراد بقوله: ولكن بكسرِ ماضِيه. قال شيخُنا: والذي في الفصيح وغيرِه من الأُمَّهات القديمةِ كالصّحاحِ والعَيْنِ ومُخْتَصر العينِ اقتَصَرُوا فيه على الفَتْح فقط، وكلامُ المصنّف صَرِيحٌ في أَنه إِنما يُقال بالكَسْرِ فقطْ، وهو غَرِيبٌ، فإِن الذين حَكَوْا فيه الكَسْرَ ذَكَرُوه مع الفَتْح الذي وَقَعَتْ عليه كَلِمَةُ الجماهيرِ، نَعمْ حَكَى اللَّحْيَانيُّ فيه الكسْرَ والضَّمَّ في كتابِه النوادِر، فظَنَّ ابنُ سِيدَه أَن الفَتْحَ الذي هو اللغةُ المشهورةُ غير مَسمُوعٍ فيه، واقتصر في المُحكمِ على ذِكْرِهما فقط، دون اللغَةِ المشهورةِ في الدَّوَاوِين، وهو وَهَمٌ، انتهى. قلت: والذي في اللسانِ: وَوَجَدَ الرَّجُلُ في الحُزْنِ وَجْدًا، بالفتح، وَوَجِدَ، كِلَاهُمَا عن اللِّحْيَانيِّ: حَزِنَ. فهو مُخَالِفٌ لما نَقَلَه شَيْخُنَا عن اللِّحْيانيِّ من الكَسْرِ والضّمِّ، فليتأَمَّل، ثم قال شيخُنَا: وابنُ سيده خالَفَ الجُمْهُورَ فَأَسْقَطَ اللُّغَةَ المشهورَةَ، والمُصَنِّف خالَف ابنَ سِيدَه الذي هو مُقْتَدَاه في هذه المادَّةِ فاقتَصَر على الكَسْرِ، كأَنَّه مُرَاعاةً لِرَدِيفه الذي هو حَزِنَ، وعلى كِلِّ حالٍ فهو قُصُورٌ وإِخلالٌ، والكَسْر الذي ذَكَرَه قد حكاه الهَجَرِيُّ وأَنشَدَ:
فَوَاكَبِدَا مِمَّا وَجِدْتُ مِن الأَسَى *** لَدَى رَمْسِه بَيْنَ القَطِيلِ المُشَذَّب
قال: وكأَنَّ كَسْر الجِيمِ مِن لُغَتِه، فتحَصَّل مِن مجموعِ كَلامِهم أَنَّ وَجَدَ بمعنى حَزِن فيه ثلاثُ لُغَاتٍ، الفتْح الذي هو المشهور، وعليه الجمهور، والكسْر الذي عليه اقتصر المُصَنِّف والهَجَرِيّ وغيرُهما، والضمُّ الذي حكاه الِّلحيانيّ في نَوَادِرِه، ونقلَهما ابنُ سِيده في المُحْكَم مقتَصِرًا عليهما.
والوُجْدُ: الغِنَى، ويُثَلَّث، وفي المحكم: اليَسَار والسَّعَةُ، وفي التنزيلِ العزيز: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وقد قُرِئ بالثلاث؛ أَي في سَعَتِكم وما مَلَكْتُم، وقال بعضُهم: مِن مَسَاكِنِكُم. قلت: وفي البصائر: قَرَأَ الأَعْرَجُ ونافِعٌ ويَحْيَى بن يَعْمُر وسَعِيد بن جُبَير وطَاوُوس وابنُ أَبي عَبْلَة وأَبو حَيْوَةَ: «مِنْ وَجْدِكُم»، بالفتح، وقرأَ أَبو الحَسن رَوْحُ بن عبد المُؤْمن: «من وِجْدِكم» بالكسر، والباقُون بالضَّمّ، انتهى، قال شيخُنَا: والضمُّ أَفْصَح، عن ابنِ خَالَوَيْه، قال: ومعناه: من طَاقَتِكُم ووُسْعِكُم، وحكَى هذا أَيضًا اللّحيانيُّ في نَوَادِرِه.
والوَجْدُ، بالفتح: مَنْقَعُ الماءِ، عن الصاغانيِّ، وإِعجام الدال لغةٌ فيه، كما سيأْتي الجمع: وِجَادٌ، بالكسر.
وأَوْجَدَه: أَغْنَاهُ.
وقال اللِّحيانيُّ: أَوْجَدَه إِيَّاه: جَعَلَه يَجِدُه.
وأَوْجَدَ اللهُ فُلانًا مطلُوبَهُ؛ أَي أَظْفَرَهُ به.
وأَوْجَدَه عَلى الأَمْرِ: أَكْرَهَهُ وأَلْجَأَه، وإِعجام الدَّالِ لُغَةٌ فيه.
وأَوْجَدَهُ بَعْدَ ضُعْفٍ: قَوَّاهُ، كآجَدَه والذي في اللسان: وقالُوا: الحَمْدُ للهِ الذي أَوْجَدَني بَعْدَ فَقْر؛ أَي أَغْنَاني، وآجَدَنِي بَعْدَ ضَعْف؛ أَي قَوَّانِي.
وعن أَبي سعيدٍ: تَوَجَّدَ فلانٌ السَّهَرَ وغَيْرَه: شَكَاهُ، وهم لَا يَتَوَجَّدُونَ سَهَرَ لَيْلِهم ولا يَشْكُونَ ما مَسَّهم مِنْ مَشَقَّتِه.
والوَجِيدُ: مَا اسْتَوَى من الأَرْضِ، الجمع: وُجْدَانٌ، بالضَّمّ، وسيأْتي في المُعْجَمَة.
ووُجِدَ الشيْءُ مِن العَدَمِ، وفي بعضِ الأُمّهات: عن عَدَمٍ، ومثلُه في الصَّحاح كعُنِىَ، فهو مَوجودٌ [مثل]: حُمَّ، فهو مَحْمُومٌ، ولا يُقَال: وَجَدَه الله تَعالى، كما لا يُقَال: حَمَّه اللهُ، وإِنما يقال: أَوْجَدَه الله تَعَالى وأَحَمَّه، قال الفيّومِيّ: الموجود خِلافُ المَعْدُومِ، وأَوْجَد اللهُ الشيْءَ من العَدَمِ فوُجِدَ فهو مَوْجُود، من النَّوادِر، مثْل أَجَنَّه اللهُ فجُنَّ فهو مَجْنُونٌ، قال شيخُنا: وهذا البابُ من النوادرِ يُسَمِّيه أَئمّةُ الصَّرْفِ والعَربيَّةِ بابَ أَفْعَلْتُه فهو مَفْعُولٌ، وقد عَقَدَ له أَبو عُبَيْدٍ بَابًا مُستقِلًّا في كتابِه الغَرِيب المُصَنَّف وذكر فيه أَلفاظًا منها: أَحَبَّه فهو مَحْبُوبٌ. قلت: وقد سبق البَحْثُ فيه في مواضِعَ مُتَعَدِّدةٍ في ح ب ب. وس موضع د، ون ب ت، فراجِعْه، وسيأْتي أَيضًا.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الواجِدُ: الغَنِيُّ قال الشاعِر:
الحَمْدُ للهِ الغَنِيِّ الوَاجِدِ
وفي أَسماءِ الله تعالى: الواجِدُ، هو الغَنِيُّ الذي لا يَفْتَقِر.
وقد وَجَدَ يَجِدُ جِدَةً؛ أَي استَغْنَى غِنىً لا فَقْرَ بَعْدَه، قاله ابنُ الأَثير، وفي الحديث: «لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وعِرْضَهُ» أَي القادِر على قَضَاءِ دَيْنِه، وفي حديثٍ آخَرَ: «أَيُّهَا النَّاشِدُ، غَيْرُك الوَاجِدُ» مِنْ وَجَدَ الضّالَّةَ يَجِدُهَا.
وتَوَجَّدْتُ لِفُلانٍ: حَزِنْتُ له.
واستَدْرَك شيخُنَا: الوِجَادَة، بالكسر، وهي في اصْطِلاح المُحَدِّثين اسمٌ لما أُخِذَ من العِلْمِ مِن صَحِيفَةٍ مِن غَيْرِ سَمَاعٍ ولا إِجَازَةٍ ولا مُنَاوَلَةٍ، وهو مُوَلَّدٌ غيرُ مَسموعٍ، كذا في التقريبِ للنووي.
والوُجُدُ، بضمتين، جَمْعُ واجِد، كما في التَّوشيحِ، وهو غَرِيبٌ، وفي الجامع للقَزَّاز: يقولون: لم أَجْدِ مِن ذلك بُدًّا، بسكون الجيم وكسْرِ الدال، وأَنشد:
فَوَ اللهِ لَوْلَا بُغْضُكُمْ ما سَبَبْتُكُمْ *** ولكِنَّنِي لَمْ أَجْدِ مِنْ سَبِّكُمْ بُدًّا
وفي المُفْرَدات للراغب: وَجَدَ اللهُ: عَلِم، حَيْثُمَا وَقَعَ، يعنِي في القُرآنِ، ووافقَه على ذلك الزَّمَخْشَرِيُّ وغيرُه.
وفي الأَساس: وَجَدْت الضَّالَّةَ، وأَوْجَدَنِيه اللهُ، وهو واجِدٌ بِفُلانَةَ، وعَلَيْهَا، وَمُتَوَجِّدٌ.
وَتَوَاجَدَ فُلانٌ: أَرَى مِن نَفْسِه الوَجْدَ.
ووَجَدْتُ زَيْدًا ذَا الحِفَاظِ: عَلِمْتُ.
والإِيجادُ: الإِنشاءُ من غير سَبقِ مِثَالٍ.
وفي كِتَاب الأَفْعَال لابنِ القطَّاع: وأُوْجِدَتِ النّاقَةُ: أُوثِقَ خَلْقُهَا.
تكميل وتذنيب: قال شيخنا نقلًا عن شَرْحِ الفصيح لابنِ هشامٍ اللَّخميِّ: وَجدَ له خَمْسَةُ مَعَانٍ، ذَكرَ منها أَرْبَعَةً ولم يَذكر الخَامِس، وهو: العِلْمُ والإِصابَةُ والغَضَب والإِيسارُ وهو الاستغْنَاءُ، والاهتمام وهو الحُزْن، قال: وهو في الأَوّل مُتَعَدٍّ إِلى مفعولينِ، كقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى}.
وفي الثاني مُتَعدٍّ إِلى واحِدٍ، كقولِه تعالى: {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفًا}.
وفي الثالثِ متَعدٍّ بحرْف الجَرِّ، كقولِه وَجَدْت على الرَّجُلِ، إِذا غَضِبْتَ عليه.
وفي الوجهين الأَخِيرَين لا يَتَعَدَّى، كقولِك: وَجَدْت في المالِ؛ أَي أَيْسَرْت، ووَجَدْتُ في الحُزْن؛ أَي اغْتَمَمْتُ.
قال شيخُنَا: وبقيَ عليه: وَجَدَ به، إِذَا أَحَبَّه وَجْدًا، كما مَرَّ عن المُصنِّف، وقد استدرَكه الفِهْرِيُّ وغيرُه على أَبي العَبَّاسِ في شَرْحِ الفصيحِ، ثم إِن وَجَدَ بمعنى عَلِمَ الذي قال اللّخميّ إِنه بَقِيَ على صاحِبِ الفصيح لم يَذْكُر له مِثَالًا، وكأَنّه قَصَدَ وَجَدَ التي هي أُخْتُ ظَنَّ، ولذلك قال يَتَعَدَّى لِمَفْعُولينِ، فيبقى وَجَدَ بمعنَى عَلِم الذي يتعدَّى لمفعولٍ واحِدٍ، ذكرَه جمَاعَةٌ، وقَرِيبٌ من ذلك كلامُ الجَلَالِ في هَمْعِ الهَوَامِعِ، وَجَدَ بمعنَى عَلِمَ يتعَدَّى لمفعولينِ ومَصْدَرُه وِجْدَانٌ، عن الأَخْفَش، ووُجُود، عن السيرافيّ، وبمعنى أَصَابَ يتعدَّى لواحِدٍ، ومَصْدرُه وِجْدَانٌ، وبمعنى اسْتَغْنَى أَو حَزِنَ أَو غَضِب لازِمَةٌ، ومصدر الأَوَّل الوَجْد، مثلّثه، والثاني الوَجْدُ، بالفتح، والثالث المَوْجِدَة.
قلت: وأَخْصَرُ من هذا قولُ ابنِ القَطّاعِ في الأَفعال: وَجَدْتُ الشيْءَ وِجْدَانًا بعد ذَهَابِه وفي الغِنَى بَعْدَ الفَقْرِ جِدَةً، وفي الغَضَب مَوْجِدَةً وفي الحُزْن وَجْدًا حَزِنَ.
وقال المُصَنّف في البصائرِ نقلًا عن أَبي القاسم الأَصبهانيّ: الوُجُودُ أَضْرُبٌ، وُجُودٌ بِإِحْدى الحَوَاسِّ الخَمْسِ، نحو وَجَدْتُ زَيْدًا وَوَجَدْتُ طَعْمَه ورائحتَه وصَوتَه وخُشُونَتَه، ووجُودٌ بِقُوَّةِ الشَّهْوَةِ نحو وَجَدْتُ الشِّبَع، ووُجُودٌ أَمَدَّه الغَضَبُ، كوُجُودِ الحَرْبِ والسَّخَطِ، ووُجُودٌ بالعَقْل أَو بِوسَاطَة العَقْلِ، كمَعْرِفَة الله تعالى، ومَعْرِفَة النُّبُوَّةِ. وما نُسِب إِلى الله تعالى مِن الوُجُود فبِمَعْنَى العِلْمِ المُجَرَّدِ، إِذ كان اللهُ تعالَى مُنَزَّهًا عن الوَصْفِ بالجَوَارِحِ والآلاتِ، نحو قولهِ تَعالى: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ} وكذا المعدوم، يقال على ضِدّ هذه الأَوْجُهِ. ويَعبَّر عن التَمَكُّنِ من الشيءِ بالوُجُودِ نحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أَي حَيْثُ رَأَيْتُمُوهُم، وقوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ}، وقوله: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} وقوله: (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ) ووجود بالبصيرة، وكذا قوله: (وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) وقوله: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) أَي إِن لم تَقْدِروا على الماءِ.
وقال بعضهم: المَوْجُودَات ثلاثةُ أَضْرُبٍ: مَوجُودٌ لا مَبْدَأَ له ولا مُنْتَهَى، وليس ذلك إِلَّا البارِئَ تَعالَى، ومَوْجُودٌ له مَبْدَأٌ ومُنْتَهًى، كالجَوَاهِرِ الدُّنْيَوِيَّة، وموجودٌ له مَبْدَأٌ وليس له مُنْتَهًى، كالنَّاسِ في النّشْأَةِ الآخِرِة، انتهى.
قال شيْخنا في آخِر هذه المادة ما نصُّه: وهذا آخِرُ الجزءِ الذي بخطّ المُصَنّف، وفي أَوّل الذي بَعْدَه: الواحد، وفي آخر هذا الجزءِ عَقِبَ قَوله: وإِنما يقال أَوجَدَه اللهُ، بخط المُصَنّف رَحمه الله تعالى ما نَصُّه: هذا آخِرُ الجُزءِ الأَوَّل من نُسْخَةِ المُصَنِّف الثانِيَة مِن كِتَابِ القَامُوسِ المُحِيط والقَابُوس الوَسِيط في جَمع لُغَاتِ العَرب التي ذَهَبَتْ شَماطِيطَ، فَرغَ منه مُؤَلِّفه مُحمد بن يَعْقُوب بن مُحمّد الفَيْرُوزَاباديّ في ذِي الحِجَّة سنةَ ثمانٍ وسِتّينَ وسَبْعمَائةٍ.
انتهى من خطّه، وانتهى كلام شَيْخِنَا.
قلت: وهو آخِر الجزءِ الثاني من الشَّرْحِ وبه يَكْمُل رُبْعُ الكِتَابِ ما عدَا الكلامَ على الخُطْبَة، وعلى الله التيسيرُ والتَّسْهِيل في تمامه وإِكماله على الوَجْهِ الأَتَمَّ، إِنّه بكُلّ شيْءٍ قدير، وبكُلِّ فَضْل جَدير، عَلَّقَه بِيَدِه الفَانِيَةِ الفقيرُ إِلى مولاه عَزَّ شَأْنُه مُحمّد مُرْتَضَى الحُسَيني الزَّبيدِيُّ، عُفِيَ عَنه، تَحرِيرًا في التاسِعَة مِن لَيْلَةِ الاثْنَيْنِ المُبَارَكِ عاشِر شهرِ ذِي القِعْدَةِ الحَرَامِ من شهور سنة 1181 خُتِمَتْ بِخَيْرٍ، وذلك بِوكالة الصَّاغَةِ بمصر.
قال مُؤَلِّفه: بلَغ عِرَاضُهُ على التَّكْمِلَة للصاغانيّ في مَجالِسَ آخِرُها يوم الاثنين حادِي عَشَرَ جُمَادَى سنة 1192، وكتبه مُؤَلِّفه محمد مرتضى، غَفَر له بمَنِّه.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
59-تاج العروس (وحد)
[وحد]: الوَاحِدُ: أَوَّلُ عَدَدِ الحِسَابِ. وفي المصباح: الوَاحِدُ: مُفْتَتَحُ العَدَدِ، وقد يُثَنَّى. أَنشَد ابنُ الأَعْرَابِيّ.فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَاحِدَيْنِ عَلَوْتُهُ *** بِذِي الكَفِّ إِنِّي لِلْكُمَاةِ ضَرُوبُ
وقد أَنكَر أَبو العباس تَثْنِيَتَه، كما نَقلَه عنه شيخُنا. قلت: وسيأْتي قريبًا، ومَرَّ للمصنِّف بِعَيْنِه في أَ ح د، الجمع: واحِدُونَ، ونَقَلَ الجَوهرِيُّ عن الفَرَّاءِ يقال: أَنتم حَيٌّ واحِدٌ وحَيُّ واحِدُونَ، كما يُقَال شِرْذِمَةٌ قَليلونَ، وأَنشد للكميت:
فَضَمَّ قَوَاصِيَ الأَحْياءِ مِنْهُمْ *** فَقَدْ رَجَعُوا كَحَيٍّ وَاحِدِينَا
والواحد: المُتَقَدِّم في عِلْمِ أَو بَأْسٍ أَو غَيْرِ ذلك، كأَنه لا مِثْلَ له، فهو وَحْدَه لذلك، قال أَبو خِرَاشٍ:
أَقْبَلْتُ لَا يَشْتَدُّ شَدِّي وَاحِدٌ *** عِلْجٌ أَقَبُّ مُسَيَّرُ الأَقْرَابِ
الجمع: وُحْدَانٌ وأُحْدانٌ، كرَاكبٍ ورُكْبَان، ورَاعٍ ورُعْيَانٍ، قال الأَزهريُّ: يقال في جَمْعِ الواحد أُحْدَانٌ، والأَصْل وُحْدَانٌ، فقُلِبت الواوُ هَمزةً لانْضِمامِها، قال الهُذَلِيُّ:
يَحْمِي الصَّرِيمَةَ أُحْدَانُ الرِّجَالِ لَهُ *** صَيْدٌ ومُجْتَرِئٌ بِاللَّيْلِ هَمَّاسُ
قال ابن سِيده: فأَمَّا قَوْلُه:
طَارُوا إِلَيْهِ زُرَافَاتٍ وَأُحْدَانَا
فقد يجوز أَن يَعْنِيَ: أَفْرَادًا، وهو أَجْوَدُ، لقوله: زُرَافَات، وقد يَجُوز أَن يَعْنِيَ به الشُّجْعَانَ الذين لا نَظِيرَ لهم في البَأْسِ.
والواحِدُ بمَعنَى الأَحَدِ، همزتُه أَيضًا بَدَلٌ من الواو، وروَى الأَزهَرِيُّ عن أَبي العبّاسِ أَنه سُئِل عن الآحاد أَهِي جَمْعُ الأَحَدِ؟ فقال: معاذَ اللهِ، ليس للأَحَدِ جَمْعٌ، ولكن إِن جُعِلَتْ جَمْعَ الواحِد فهو مُحْتَمَلٌ مثلُ شَاهِدٍ وأَشْهَادٍ، قال: وليس للواحِدِ تَثْنِيَة ولا للاثْنينِ واحِدٌ مِن جِنْسِه، وقال أَبو إِسحاقَ النحويُّ: الأَحَدُ أَصلُه الوَحَدُ، وقال غيرُه: الفَرْقُ بين الوَاحِد والأَحَدِ أَن الأَحَدَ شيْءٌ بُنِيَ لِنَفْيِ ما يُذْكَر مَعَه مِن العَدَدِ، والواحِدُ اسمٌ لِمُفْتَتَحِ العَددِ، وأَحَدٌ يَصْلُح في الكلامِ في مَوْضِع الجُحُودِ، وواحدٌ في موضِع الإِثباتِ، يقال: ما أَتاني منهم أَحَدٌ، فمعناه: لا وَاحِدٌ أَتَانِي ولا اثنانِ، وإِذا قلتَ جاءَني منهم واحِدٌ، فمعناه أَنه لم يَأْتِنِي منهم اثنانِ، فهذا حَدُّ الأَحَدِ، ما لم يُضَفْ، فإِذا أُضِيف قَرُبَ من مَعْنَى الواحِدِ، وذلك أَنك تقولُ: قال أَحَدُ الثلاثةِ كَذَا وكَذَا، وأَنت تُرِيد واحِدًا من الثلاثةِ، والواحِدُ بُنِيَ على انْقِطَاعِ النَّظِير وعَوَزِ المِثْلِ، والوَحِيدُ بُنِيَ عَلَى الوَحْدَةِ والانْفِرَادِ عن الأَصْحابِ مِنْ طَرِيقِ بَيْنُونَتِه عنْهمْ.
وَحُدَ، كعَلِم وكَرُمَ، يَحِدُ، فيهما قال شيخُنَا: كِلَاهما مما لَا نَظِيرَ له، ولم يَذْكُرْهُ أَئمَّةُ اللغة والصَّرْفِ فإِن وَحِدَ كعَلِم يَلحَقُ بباب وَرِث، ويُسْتَدْرَك به على الأَلفاظِ التي أَوْرَدَهَا الشيخُ ابنُ مالكٍ في مُصَنَّفاتِه الكافِيَةِ والتَّسْهِيلِ، وأَشارَ إِليها في لامِيَّةِ الأَفعال الثمانِيةَ، واسْتَدْرَك الشيخُ بَحْرَقٌ في شَرْحِها عليه أَلفاظًا مِن القَاموسِ، وأَغْفَلَ هذا اللفْظَ، مع أَنَّه أَوْضَحُ ما استدْرَكه عليه لوْ صَحَّ، لأَن تلك فيها لُغاتٌ تُخَرَّجُ على التَّداخُلِ، وأَما هذا فهو من بابِها نَصًّا على ما قاله، ولو وَزَنَه بِوَرِث لكان أَقْرَب للصِّنَاعَةِ، وأَجْرَى عَلى قَوَاعِدِه، وأَمَّا اللُّغَةُ الثانِيةُ فلا تُعْرَف، ولا نَظِير لَها، لأَن فَعُلَ بالضمّ قد تَقَرَّرَ أَنّ مُضَارِعه إِنما يكون على يَفْعُل بالضَّمّ، وشذَّ منه لَبُبَ، بالضم، يَلْبَبُ، بالفتح، ومع ذلك أَنْكَرُوه وقالوا هو من التَّدَاخُلِ، كما ذَكَرْنَا هنالك، أَمَّا فَعُلَ بالضمّ يَكونُ مُضارِعه يَفْعِل، بالكسر، فهذا من الغرائب التي لم يَقُلْهَا قائِلٌ، ولا نقَلَهَا ناقِلٌ، نعم وَرَدَ عَكْسُه، وهو فَعِل، بالكسر، يَفْعُلُ بِالضم، في فَضِلَ، بِالكسر، يَفْضُل، بالضمّ، ونَعِمَ يَنْعُمُ لا ثالث لهما، كما قاله ابنُ القُوطِيَّةِ، وغيرُه، فَصَوَّبَ الأَكثرونَ أَنه من التَّدَاخُل، وبما قَرَّرنَاه يُعْلَم أَن كلامَ المُصنِّف فيه مُخَالَفَةٌ لكلامِ الجُمهورِ مِن وُجوه، فتَأَمَّلْ، وفي المحكم وَحِدَ ووَحُدَ وَحَادَةً، كسَحَابَةٍ ووُحُودَةً ووُحُودًا، بضمهما، ولم يذكرهما ابنُ سِيدَه، ووَحْدًا، بفتح فسكون، ذكرَه ابنُ سيده، ووُحْدَةً بالضمّ، لم يذكره ابنُ سيده، وحِدَةً كعِدَةٍ، ذكره ابنُ سِيده: بَقِيَ مُفْرَدًا، كتَوَحَّدَ. والذي يَظهر لي أَن لفظة «فيهما» يَجِب إِسقاطُها فيعتَدِلُ كلامُ المصنِّف ويُوافِقُ الأُصولَ والقواعِدَ، وذلك لأَن اللغتينِ ثابِتتانِ في المُحْكم، وفي التكملةِ وَحِدَ ووَحُدَ، ونَظَّرَه الصاغانيُّ فقال: وكذلك فَرِدَ وَفَرُدَ، وَفَقِهَ وفَقُهَ، وسَقِمَ وسَقُمَ، وسَفِهَ وسَفُهَ. قلت: وهو نصُّ اللِّحيانيّ في نوادِرِه، وزاد: فَرعَ وفَرُعَ وحَرِضَ وحَرُضَ، وقال في تفسيره: أَي بَقِيَ وَحْدَه، انتهى، فتامَّلْ، وفي حديث ابنِ الحَنْظَلِيَّةِ: «وكان رَجُلًا مُتَوَحِّدًا» أَي مُنْفَرِدًا لا يُخَالِط الناسَ ولا يُجَالِسهم.
ووَحَّدَه تَوْحِيدًا: جعَلَه وَاحِدًا، وكذا أَحَّدَهُ، كما يُقَال ثَنَّاهُ وثَلَّثَه، قال ابنُ سِيده: ويطَّرِدُ إِلى العَشَرةِ عن الشيبانيّ.
ورجُلٌ وَحَدٌ وأَحَدٌ مُحَرَّكتينِ، ووَحِدٌ، ككَتِفٍ، ووَحِيدٌ، كأَميرٍ، ووَحْدٌ، كعَدْلٍ، ومُتَوَحِّدٌ؛ أَي مُنْفَرِدٌ. ورَجُلُ وَحِيدٌ: لا أَحَدَ مَعَه يُؤْنِسُه، وأَنكر الأَزهريُّ قولهم رَجُلٌ أَحَدٌ، فقال: لا يُقَال رَجُلٌ أَحَدٌ ولا دِرْهَمٌ أَحَدٌ، كما يقال رَجُلٌ واحِدٌ؛ أَي فَرْدٌ، لأَن أَحَدًا مِن صفاتِ الله عَزَّ وجَلَّ التي استَخْلَصها لِنَفْسه ولا يَشْرَكُه فيها شيءٌ، وليس كقولك: اللهُ وَاحِدٌ وهذا شيءٌ واحِدٌ، ولا يقالُ شَيْءٌ أَحَدٌ وإِن كانَ بعضُ اللغويِّينَ قال: إِن الأَصْل في الأَحَدِ وَحَدٌ.
وهي؛ أَي الأُنْثى وَحِدَةٌ، بفتح فكسر فقط، ولذا عَدَلَ عن اصطلاحِه وهو قولُه وهي بِهاءٍ، لأَنه لو قال ذلك لاحْتَمَل أَو تَعَيَّن أَن يَرْجِعَ للأَلفاظ التي تُطْلَق على المُذَكَّر مُطْلَقًا، قاله شيخُنا، قلت: وهذا حكاه أَبو عَلِيٍّ في التَّذْكِرَةِ، وأَنشد:
كَالبَيْدَانَةِ الوَحِدَهْ
قال الأَزهريُّ: وكذلك فَرِيدٌ وفَرَدٌ وفَرِدٌ.
وأَوْحدَه للأَعْدَاءِ: تَرَكَه، وأَوْحَدَ الله تَعَالَى جانِبَه؛ أَي بَقِيَ وَحْدَه، وفي الأَساس: أَوْحَدَ الله فلانًا: جَعَلَه واحِدَ زَمَانِه؛ أَي بِلا نَظِيرٍ، وفُلانٌ واحِدُ دَهْرِه؛ أَي لا نَظِيرَ له، وكذا أَوْحَدُ أَهلِ زَمانِه.
وأَوْحَدَتِ الشَّاةُ: وضَعَتْ وَاحِدَةً، مِثْل أَفَذَّتْ وأَفْرَدَتْ، وهي مُوحِدٌ ومُفِذٌّ ومُفْرِدٌ، إِذا كانت تَلِدُ واحِدًا، ومنهحديثُ عائشةَ تَصِف عُمَر، رضي الله عنهما: «للهِ أُمٌّ حفَلَتْ عليه ودَرَّتْ، لقدْ أَوْحَدَتْ به»؛ أَي ولَدَتْه وَحِيدًا فرِيدًا لا نَظِيرَ له.
ويقال دَخَلُوا مَوْحَدَ مَوْحَدَ، بفتح الميمِ والحاءِ، وأُحَادَ أُحادَ؛ أَي فُرَادَى واحِدًا واحِدًا، مَعدولٌ عنه؛ أَي عن واحِدٍ واحِدٍ اختصارًا، قال سيبويهِ. فَتَحُوا مَوْحَد إِذا كانَ اسْمًا موضوعًا ليس بمصْدَرٍ ولا مَكَانٍ، ويقال: جاءُوا مَثْنَى مَثْنَى ومَوْحَدَ مَوْحَدَ، وكذلك جاءُوا ثُلاثَ وثُنَاءَ وأُحَادَ، وفي الصّحاح: وقولُهم أُحَادَ ووُحَادَ ومَوْحَدَ، غيرُ مَصرُوفاتٍ، للتعْلِيلِ المذكورِ في ثُلاثَ.
وَرَأَيْتُه، والذي في المحكم: ومرَرْت به وَحْدَه، مَصْدَرٌ لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع ولا يُغَيَّرُ عن المصدَرِ، وهو بمنزلة قولِك إِفْرَادًا. وإِن لم يُتَكَلَّمْ به، وأَصلُه أَوْحَدْتُه بِمرُوري إِيحادًا، ثم حُذِفَتْ زِيَادَاتُه فجاءَ على الفِعْل، ومثلُه قولُهم: عَمْرَكَ الله إِلَّا فَعَلْتَ؛ أَي عَمَّرْتُك الله تَعْمِيرًا. وقال أَبو بكر: وَحْدَه مَنْصُوبٌ في جَمِيع كلامِ العَربِ إِلَّا في ثلاثةِ مَواضِعَ، تقول: لا إِله إِلَّا الله وَحْدَه لا شَرِيكَ له، ومررْتُ بزيدٍ وَحْدَه وبالقَوْم وَحْدِي، قال: وفي نَصْبِ وَحْدَه ثلاثةُ أَقوالٍ: نَصْبُه على الحَالِ، وهذا عند البَصْرِيِّينَ، قال شيخُنا المدابِغِيّ في حَاشِيَةِ التحرير: وَحْدَه مَنْصُوبٌ على الحالِ؛ أَي مُنْفَرِدًا بذلك، وهو في الأَصْلِ مَصْدَرٌ مَحذُوفٌ الزوائِد، يقال أَوْحَدْتُه إِيحادًا أَي أَفْرَدْتُه. لا عَلَى المَصْدَرِ، وأَخْطَأَ الجَوْهَرِيُّ؛ أَي في قولِه: وعند أَهلِ البَصْرَةِ على المَصْدَرِ في كُلِّ حالٍ، كأَنك قُلْتَ: أَوحَدْتُه بِرُؤْيتِي إِيحادًا؛ أَي لمْ أَرَ غيرَه. وهذه التَّخْطِئَةُ سبقَه بها ابنُ بَرِّيٍّ كما يأْتي النَّقْلُ عنه، ويُونُسُ مِنْهُم يَنْصِبُهُ على الظَّرْف بإِسْقاطِ علَى، فوحْدَه عنده بمنزِلَة «عِنْدَه»، وهو القولُ الثاني، والقولُ الثالث: أَنه مَنْصُوبٌ على المَصْدَرِ، وهو قَوْلُ هِشَامٍ، قال ابنُ بَرِّيٍّ عند قَولِ الجوهَرِيّ: رأَيْتُه وَحْدَه مَنْصُوب على الظَّرْفِ عندَ أَهْلِ الكُوفَةِ وعِنْد أَهْلِ البَصْرَةِ على المَصْدَرِ، قال: أَمَّا أَهْلُ البَصْرَة فيَنْصِبُونَه على الحَالِ، وهو عِنْدَهم اسمٌ واقِعٌ مَوْقِعَ المَصدَر المُنْتَصِب على الحالِ، مثل جَاءَ زَيْدٌ رَكْضًا؛ أَي راكِضًا، قال: ومن البصريِّينَ مَن يَنْصِبه على الظَّرْفِ، قال: وهو مَذْهَب يُونُسَ، قال: فليس ذلك مُخْتَصًّا بالكُوفِيِّينَ كما زَعَمَ الجوهَرِيُّ، قال: وهذا الفَصْلُ له بابٌ في كُتُب النَّحوِيِّينَ مُسْتَوفًى فيه بيَانُ ذلك، أَوْ هُو اسْمٌ مُمَكَّنٌ، وهو قول ابن الأَعرابيّ، جعل وحده اسمًا ومكَّنَه، فيقال جَلَسَ وَحْدَه، وعلى وَحْدِه، وجلسَا عَلى وَحْدِهِمَا، وعلى وَحْدَيْهِمَا، وجَلسوا على وَحْدِهِم. وفي التهذيب: والوَحْدُ، خَفِيفٌ: حِدَةُ كُلِّ شَيْءٍ، يقال: وَحَدَ الشيءُ فهو يَحِدُ حِدَةً، وكلُّ شيْءٍ على حِدَةٍ يقال: هذا على حِدَتِه، وهما على حِدَتِهما، وهم على حِدَتِهِم. وعَلى وَحْدِه أَي تَوَحُّدِهِ. وفي حديث جابرٍ ودَفْنِ ابْنِه فَجَعَلَه في قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ» أَي مُنْفَرِدًا وَحْدَه، وأَصْلُها من الواو فحُذِفَت من أَوَّلها وعُوِّضَتْ منها الهاءُ في آخِرِها، كعِدَة وزِنَةٍ، من الوَعْد والوَزْنِ.
وحِدَةُ الشيْءِ: تَوَحُّدُه، قالَه ابنُ سيدَه، وحكَى أَبو زيد: قُلْنَا هذا الأَمْرَ وحْدِينا، وقَالَتَاه وَحْدَيْهِمَا.
والوَحْدُ مِن الوَحْشِ: المُتَوَحِّدُ.
والوَحَدُ: رَجُلٌ لا يُعْرَفُ نَسَبُه وأَصْلُه.
وقال الليثُ: الوَحَدُ: المُتَفَرِّدُ، رَجُلٌ وَحَدٌ، وثَوْرٌ وَحَدٌ، وتَفْسِيرُ الرجُلِ الوَحَدِ أَن لا يُعْرَف لهُ أَصْلٌ، قال النابِغَةُ:
بِذِي الجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ
والتَّوْحِيدُ: الإِيمانُ بالله وَحْدَه لا شَرِيكَ له. والله الوَاحِدُ الأَوْحَدُ الأَحَدُ والمُتَوَحِّدُ: ذُو الوَحْدَانِيَّةِ والتَّوَحُّدِ، قال أَبو منصورٍ: الواحِدُ مُنْفَرِدٌ بالذّات في عَدَمِ المِثْلِ والنَّظِيرِ، والأَحَدُ مُنْفَرِدٌ بالمعنَى، وقيل: الوَاحِدُ: هو الذي لا يَتَجَزَّأُ ولا يُثنَّى ولا يَقْبَلُ الانْقِسَام، ولا نظِيرَ له ولا مِثْلَ ولا يجْمَعُ هذَيْنِ الوَصْفَيْنِ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وقال ابنُ الأَثيرُ: وفي أَسْمَاءِ اللهِ تعالى {الْواحِدُ}، قال: هو الفَرْدُ الذي لم يَزَلْ وَحْدَه، ولم يَكُنْ مَعَه آخَرُ، وقال الأَزهريُّ: و {الْواحِدُ} مِن صفاتِ الله تَعَالى مَعْنَاه أَنَّه لا ثَانِيَ له، ويَجوز أَن يُنْعَتَ الشيْءُ بأَنَّه واحِدٌ، فأَمَّا أَحَدٌ فلا يُنْعَتُ به غَيْرُ اللهِ تَعالى، لِخُلُوصِ هذا الاسمِ الشرِيفِ له، جَلَّ ثَنَاؤه. وتقول: أَحَّدْتُ الله ووَحَّدْتُه، وهو الوَاحِدُ الأَحَدُ، وفي الحديث: «أَن الله تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِالوَحْدَانِيَّةِ لِأَحَدٍ غَيْرِهُ، شَرُّ أُمَّتِي الوَحْدَانِيُّ المُعْجِبُ بِدِينِه، المُرائِي بِعَمَلِه» يريد بالوَحْدَانِيِّ المُفَارِقَ الجَمَاعَةِ المُتَفَرِّدَ بِنَفْسِهِ، وهو منسوب إِلى الوَحْدَةِ: الانْفِرَادِ، بزيادة الأَلَفِ والنُّون للمبالغَةِ.
وإِذَا رَأَيْتَ أَكَمَاتٍ مُنْفَرِدَاتِ، كُلُّ واحِدةٍ بائِنَةٌ، كذا في النسخ، وفي بعضها: نائِيَةٌ. بالنون والياءِ التَّحْتِيَّة، عن الأُخْرَى فتِلْكَ مِيحَادٌ، بالكسر، والجمعُ مَوَاحِيدُ، وقد زَلَّتْ قَدَمُ الجَوهرِيّ فقال: المِيحَادُ مِن الوَاحِدِ كالمِعْشَارِ مِن العَشَرَةِ، هذا خِلَافُ نَصِّ عِبارته، فإِنه قال: والمِيحَادُ من الواحِدِ كالمِعْشَارِ، وهو جُزْءٌ واحِدٌ، كما أَنَّ المِعْشَارَ عُشْرٌ. ثُمَّ بيَّنَ المُصَنِّف وَجْهَ الغَلَطِ فقال: لأَنَّه إِن أَرادَ الاشتقاقَ وبَيَانَ المَأْخَذِ، كما هو المتبادِرُ إِلى الذِّهْنِ فَمَا أَقَلَّ جَدْوَاهُ، وقد يقال: إِن الإِشارَةَ لِبَيَانِ مِثْلِه ليس ممَّا يُؤاخَذُ عليه، خُصُوصًا وقد صَرَّح به الأَقْدَمُونَ في كُتبهم، وإِن أَرادَ أَنَّ المِعْشَارَ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ، كما أَنَّ المِيحَادَ فَرْدٌ فَرْدٌ، فَغَلَطٌ، وفي التكملة: فقد زَلَّ، لأَنَّ المِعْشَارَ والعُشْرَ واحِدٌ مِن العَشَرةِ، ولا يُقال في المِيحَادِ وَاحِدٌ مِن الواحِدِ، هكذا أَوْرَدَه الصاغانيُّ في تَكْمِلَته، وقَلَّدَه المُصنِّف في عادَتِه، وأَنت خَبِيرٌ بأَنَّ ما ذَكره المُصنِّف ليس مَفْهُومَ عِبَارَتِه التي سُقْنَاهَا عنه، ولا يَقُولُ به قائلٌ فَضْلًا عن مثْل هذا الإِمامِ المُقْتَدَى به عند الأَعلام.
والوَحِيدُ: موضع بِعَيْنِه، عن كُرَاع، وذكره ذُو الرُّمَّة فقال:
أَلَا يَا دَارَ مَيَّةَ بِالوَحِيدِ *** كأَنَّ رُسُومَها قِطَعُ البُرُودِ
وقال السُّكَّرِيّ: نَقًا بالدَّهْنَاءِ لبنِي ضَبَّةَ، قاله في شَرْحِ قولِ جَريرٍ:
أَسَاءَلْتَ الوَحِيدَ وجَانِبَيْهِ *** فَمَا لَكَ لَا يُكَلِّمُكَ الوَحِيدُ
وذَكَر الحَفْصِيُّ مَسافَةَ بَيْنَ اليَمَامَةِ والدَّهْنَاءِ ثم قال: وأَوَّلُ جَبَلٍ بالدَّهْنَاءِ يُقَال له الوَحِيدُ: ماءٌ من مِيَاه عُقَيْلٍ يُقَارِب بلادَ بَنِي الحارث بن كَعْبٍ.
والوَحِيدَانِ: مَاءَانِ بِبلادِ قيْسٍ مَعْرُوفَانِ، قاله أَبو منصورٍ، وأَنشد غيرُه لابنِ مُقْبِلٍ:
فَأَصْبَحْنَ مِنْ مَاءِ الوَحِيدَيْنِ نُقْرَةً *** بِمِيزَانِ رَغْمٍ إِذْ بَدَا صَدَوَانِ
ويُرْوَى الوَجِيدَانِ، بالجيم والحاءِ، قاله الأَزْدِيُّ عن خالِدٍ.
والوَحِيدَةُ: من أَعْرَاضِ المَدِينَة، على مُشْرِّفها أَفضْلُ الصلاةِ والسلامِ، بَيْنَها وبينَ مَكَّة زِيدَتْ شَرَفًا، قال ابنُ هَرْمَةَ:
أَدَارَ سُلَيْمَى بِالوَحِيدَةِ فَالغَمْرِ *** أَبِينِي سَقَاكِ القَطْرُ مِنْ مَنْزِلٍ قَفْرِ
ويقال: فَعَلَه مِنْ ذاتِ حِدَتِه، وعلى ذاتِ حِدَتِه، ومن ذِي حِدَتِه؛ أَي مِن ذاتِ نَفْسِه وذاتِ رَأْيِه، قاله أَبو زيد، وتقول: ذلك أَمْرٌ لَسْتُ فيه بِأَوْحَدَ؛ أَي لا أُخَصُّ به، وفي التهذيب: أَي لَسْتُ عَلَى حِدَةٍ، وفي الصحاح: ويقال: لَسْتُ في هذا الأَمْرِ بأَوْحَدَ، ولا يُقَال للأُنْثَى وَحْدَاءُ، انتهى: وقيل: أَي لَسْتُ بِعَادِمٍ فيه مِثْلًا أَو عِدْلًا، وأَنْشَدَنا شيخُنَا المَرحوم مُحمّد بن الطيِّب قال: أَنْشدَنَا أَبو عبد الله مُحَمّد بن المسناويّ قال: مما قَالَه الإِمام الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه مُعَرِّضًا بأَنّ الإِمَامَ أَشْهَبَ رحمه الله يَتَمَنَّى مَوْتَه:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ فَإِنْ أَمُتْ *** فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيها بِأَوْحَدِ
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى *** تَهَيَّأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ
قلتُ: ويُجْمَع الأَوْحَدُ على أُحْدَانٍ، مثل أَسْوَدَ وسُودَانٍ، قال الكُمَيْت:
فَبَاكَرَهُ والشَّمْسُ لَمْ يَبْدُ قَرْنُهَا *** بِأُحْدَانِه المُسْتَوْلِغَاتِ المُكَلِّبُ
يَعْنِي كِلَابه التي لا مِثْلُهَا كِلَابٌ؛ أَي هي واحِدَةُ الكِلابِ.
وفي المحكم: وفُلَانٌ لا وَاحِدَ له؛ أَي لا نَظِيرَ له.
ولا يَقُوم لهذا الأَمْرِ إِلَّا ابْنُ إِحْدَاها، يقال: هو ابنُ إِحْدَاهَا، إِذا كان كَرِيم الآباءِ والأُمَّهَاتِ مِن الرِّجَالِ والإِبِلِ، وقال أَبو زيد: لا يَقُومُ بهذا الأَمْرِ إِلَّا ابنُ إِحْدَاها؛ أَي الكَرِيمُ مِن الرِّجَالِ. وفي النوادر: لا يَستطِيعُها إِلَّا ابنُ إِحْدَاتِها، يعني إِلَّا ابْنُ وَاحِدَة منها.
وَوَاحِدُ الآحَادِ، وإِحدى الإِحَدِ، وواحد الأَحَدِينَ، وأَن أَحَدًا تَصغيره أُحَيْد، وتَصْغِير إِحْدَى أُحَيْدَى مَرَّ ذِكْرُه في أَ ح بلد واختار المُصنِّف تَبعًا لشيخِه أَبي حَيَّان أَن الأَحَد مِن مادة الوَحْدَة كما حَرَّرَه، وأَن التفرِقَة إِنما هي في المَعاني، وجَزَم أَقوامٌ بأَن الأَحَدَ من مادَّة الهَمزة، وأَنه لا بَدَلَ، قاله شيخُنا.
وَنَسِيجُ وَحْدِه، مَدْحٌ. وعُيَيْرُ وَحْدِه وجُحَيْشُ وَحْدِه، كلاهما ذَمٌّ، الأَوَّل كأَمِيرٍ، والاثنانِ بعْدَه تَصْغِيرُ عَيْرٍ وجَحْش، وكذلك رُجَيْلُ وَحْدِه، وقد ذَكرَ الكُلَّ أَهْلُ الأَمْثَال، وكذلك المصنِّف، فقد ذَكَرَ كُلَّ كَلِمَةٍ في بَابِها، وكُلُّهَا مَجَازٌ، كما صَرَّحَ به الزمخشريُّ وغيرُه، قال الليثُ: الوَحْدُ في كُلِّ شَيْءٍ مَنصوبٌ [لأنه] جَرَى مَجْرَى المَصْدَرِ خارِجًا مِن الوَصْفِ ليس بِنَعْتٍ فيَتْبَع الاسْمَ، ولا بِخَبَرٍ فيُقْصَد إِليه، فكانَ النَّصْب أَوْلَى به، إِلّا أَنّ العَرَب أَضافَتْ إِليه فقالَتْ: هو نَسِيجُ وَحْدِه، وهما نَسِيجًا وَحْدِهما، وهُمْ نَسِيجُو وَحْدِهم، وهي نَسِيجَةُ وَحْدِهَا، وهُنَّ نَسَائِجُ وَحْدِهِنَّ، وهو الرَّجُلُ المُصِيبُ الرَّأْيِ، قال: وكذلك قَرِيعُ وَحْدِه، وهو الذي لا يُقَارِعُه في الفَضْلِ أَحدٌ. وقال هِشَامٌ والفَرَّاءُ: نَسِيجُ وَحْدِه، وعُيَيْرُ وَحْدِه، ووَاحِدُ أُمِّهِ، نَكِرَاتٌ، الدَّليلُ على هذا أَنَّ العَرَب تقولُ: رُبَّ نَسِيجِ وَحْدِه قد رأَيْتُ، ورُبَّ وَاحِدِ أُمِّه قَدْ أَسَرْت، قال حاتِمٌ:
أَماوِيَّ إِنِّي رُبَّ وَاحِدِ أُمِّهِ *** أَخَذْتُ وَلَا قَتْلٌ عَلَيْهِ ولا أَسْرُ
وقال أَبو عُبَيْدٍ في قولِ عائشةَ وَوَصْفِها عُمَرَ، رضي الله عنهما: «كَان وَاللهِ أَحْوَذِيًّا نَسِيجَ وَحْدِه» تَعْنِي أَنَّه ليس له شِبْهٌ في رَأْيِه وجَمِيعِ أُمورِه. قال: والعرب تَنْصِبُ وَحْده في الكلام كُلِّه لا تَرْفَعُه ولا تَخْفِضُه إِلا في ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ: نَسِيجُ وَحْدِه، وعُيَيْرُ وَحْدِه، وجُحَيْشُ وَحْدِه، قال شَمِرٌ: أَمَّا نَسِيجُ وَحْدِه فَمَدْحٌ، وأَمّا جُحَيْشُ وَحْدِه وعُيَيْرُ وَحْدِه فمَوْضوعانِ مَوْضِعَ الذَّمِّ، وهما اللذانِ لا يُشَاوِرَانِ أَحَدًا ولا يُخَالِطَانِ، وفيهما مع ذلِك مهَانَةٌ وضَعْفٌ، وقال غيرُه: معنَى قَوْلِه: نَسِيجُ وَحْدِه أَنَّه لا ثَانِيَ له، وأَصْلُه الثَّوْبُ الذي لا يُسْدَى على سَدَاه لِرِقَّتِه غَيْرُهُ مِن الثِّيَابِ، وعن ابنِ الأَعْرَابيّ: يقال: هو نَسِيجُ وَحْدِه وعُيَيْرُ وَحْدِه ورُجَيْلُ وَحْدِه، وعن ابنِ السِّكِّيت: تقول: هذا رَجُلٌ لا وَاحِدَ له، كما تقول: هو نَسِيجُ وَحْدِه، وفي حَدِيث عُمَرَ: «مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى نَسِيجِ وَحْدِه».
وإِحْدَى بَنَاتِ طَبَقٍ: الدَّاهِيَةُ وقيل: الحَيَّةُ سُمِّيَتْ بذلك لِتَلَوِّيها حتى تَصِيرَ كالطَّبَقِ.
وفي الصّحاح: بنُو الوَحِيدِ: قَوْمٌ من بني كِلَاب بن رَبيعةَ بن عامِرِ بن صَعْصَعَةَ.
والوُحْدَانُ، بالضمِّ: أَرْضٌ، وقيل رِمَالٌ مُنْقَطِعَةٌ، قال الراعي:
حَتَّى إِذَا هَبَطَ الوُحْدَانُ وَانْكَشَفَتْ *** عَنْهُ سَلَاسِلُ رَمْلٍ بَيْنَها رُبَدُ
وتَوَحَّدَه الله تَعالى بِعِصْمَتِه؛ أَي عَصَمَه ولم يَكِلْهُ إِلى غَيْرِه. وفي التهذيب: وأَما قولُ الناسِ تَوَحَّدَ اللهُ بالأَمْرِ وتَفَرَّدَ، فإِنه وإِن كان صحيحًا فإِني لا أُحِبّ أَن أَلْفِظَ به في صِفَةِ الله تعالى في المَعْنَى إِلَّا بما وَصَفَ بِه نَفْسَه في التَّنْزِيلِ أَو في السُّنَّةِ، ولم أَجِد المُتَوَحِّدَ في صِفَاتِه ولا المُتَفَرِّدَ، وإِنّمَا نَنْتَهِي في صِفَاته إِلى ما وَصَفَ به نَفسَه ولا نُجَاوِزُهُ إِلى غيرِه لمَجَازِه في العَرَبِيَّةِ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الأُحْدَانُ، بالضَّمّ: السِّهَامُ الأَفْرَادُ التي لا نَظائرَ لها، وبه فسّر قول الشاعِر:
لِيَهْنِيءْ تُرَاثِي لِامْرِيءٍ غَيْرِ ذِلَّةٍ *** صَنَابِرُ أُحْدانٌ لَهُنَّ حَفِيفُ
سَرِيعَاتُ مَوْتٍ رَيِّثَاتُ إِفَاقَةٍ *** إِذَا مَا حُمِلْنَ حَمْلُهُنَّ خَفِيفُ
والصَّنابِر: السِّهَام الرِّقَاق وحكَى اللحيانيُّ: عَدَدْتُ الدَّرَاهِمَ أَفْرادًا ووِحَادًا، قال: وقال بعضُهم: أَعْدَدْت الدَّراهِمَ أَفرَادًا وَوِحَادًا، ثم قال: لا أَدْرِي أَعْدَدْتُ، أَمِنَ العَدَدِ أَم من العُدَّةِ.
وقال أَبو مَنْصُور: وتقول: بَقِيتُ وَحِيدًا فَرِيدًا حَرِيدًا، بمعنًى واحدٍ، ولا يُقَال: بقيتُ أَوْحَدَ، وأَنت تُريدُ فَرْدًا، وكلامُ العَرَبِ يَجِيءُ على مَا بُنِيَ عليه وأُخِذَ عَنْهُمْ، ولا يُعْدَّى به مَوْضِعُه، ولا يَجُوز أَن يَتَكَلَّمَ به غيرُ أَهلِ المَعرِفة الراسخينَ فيه، الذين أَخَذُوه عن العَرَبِ أَو عمّن أَخَذَ عنهم من ذَوِي التَّمْييزِ والثِّقَة.
وحكى سيبويهِ: الوَحْدَةُ في معنى التَّوَحُّد.
وتَوَحَّدَ بِرَأَيِهِ: تَفَرَّدَ به.
وأَوْحَدَه النَّاسُ: تَرَكُوه وَحْدَهُ، وقال اللِّحْيَانيُّ: قال الكسائيُّ: ما أَنْتَ مِن الأَحَدِ؛ أَي من الناسِ، وأَنشد:
وَلَيْسَ يَطْلُبُنِي في أَمْرِ غَانِيَةٍ *** إِلَّا كعَمْرٍو وَمَا عَمْرٌو مِنَ الأَحَدِ
قال: ولو قَلْتَ: ما هُو مِنَ الإِنسانِ، تُرِيد ما هُو مِن النَّاسِ، أَصْبَتَ.
وبنو الوَحَدِ قَوْمٌ من تَغْلِبَ، حكاه ابنُ الأَعْرَابيّ، وبه فسّر قوله:
فَلَوْ كُنْتُمُ مِنَّا أَخَذْنَا بِأَخْذِكُمْ *** وَلكِنَّهَا الأَوْحَادُ أَسْفَلُ سَافِلِ
أَراد بني الوَحَدِ من بني تَغْلِبَ: جعل كُلَّ واحِدٍ منهم أَحَدًا.
وابنُ الوَحِيدِ الكاتبُ صاحِبُ الخَطِّ المَنْسُوبِ، هو شَرَفُ الدينِ محمد بن شَرِيف بن يوسف، تَرْجَمه الصَّلَاح الصَّفَدِيُّ في الوافي بالوَفَيَاتِ.
ووَحْدَةُ، من عَمَلِ تِلِمْسَانَ، منها أَبو محمّد عبد الله بن سعيد الوَحْديّ وَلِيَ قَضَاءَ بَلَنْسِيَةَ، وكان من أَئِمَّة المالِكِيّةَ، توفِّيَ سنة 510.
والواحِدِيُّ، معروف، من المُفَسِّرِين.
وأَبو حَيَّان عليّ بن محمّد بن العبَّاس التَّوْحِيدِيّ، نِسبة لِنَوْعٍ من التَّمْرِ يقال له التَّوْحِيد، وقيل هو المُرَاد من قَوْلِ المُتَنَبِّي:
هُوَ عِنْدِي أَحْلَى مِنَ التَّوْحِيدِ
وقيل: أَحْلَى مِن الرَّشْفَةِ الوَاحِدَةِ، وقال ابنُ قاضِي شَهْبَةَ، وإِنما قيل لأَبي حَيَّانَ: التَّوْحِيديُّ، لأَن أَباه كان يَبِيع التَّوْحِيدَ ببغدَادَ، وهو نَوْعٌ من التَّمْر بالعِراقِ.
وواحِدٌ: جَبَلٌ لِكَلْبٍ، قال عَمْرُو بنُ العَدَّاءِ الأَجْدَارِيُّ ثم الكَلْبِيُّ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً *** بِإِنْبِطَ أَوْ بِالرَّوْضِ شَرْقِيَّ وَاحِدِ
بِمَنْزِلَةٍ جَادَ الرَّبِيعُ رِيَاضَهَا *** قَصِيرٌ بِهَا لَيْلُ العَذَارَى الرَّوَافِدِ
وحَيْثُ تَرَى جُرْدَ الجِيَادِ صَوَافِنًا *** يُقَوِّدُهَا غِلْمَانُنَا بِالقَلائِدِ
كذا في المعجم.
تَذيِيل. قال الرّاغِبُ الأَصْبهانيّ في المُفْرَدَات: الواحِد في الحَقِيقَة هو الشيءُ الذي لا جُزْءَ له البَتَّةَ، ثم يُطْلَقُ على كُلِّ موجودٍ حتى أَنَّه ما مِن عَدَدٍ إِلَّا ويَصِحُّ وَصْفُه به، فيقال عَشَرَةٌ واحِدَةٌ، ومائةٌ واحِدَةٌ، فالوَاحِدُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُسْتَعْمَل على سِتَّةِ أَوْجُهٍ: الأَوّل: ما كان واحِدًا في الجِنْسِ أَو في النَّوْعِ، كقولِنا الإِنسان والقَوس واحِدٌ في الجِنْس وزَيْدٌ وعَمْرٌو واحِدٌ في النَّوْعِ.
الثاني: ما كان واحِدًا بالاتّصال، إِما من حَيْثُ الخِلْقَةُ، كقولك شَخْصٌ واحِدٌ، وإِما من حيثُ الصّنَاعَةُ، كقولك. الشَّمْسُ واحِدَةٌ، وإِما في دَعْوَى الفَضِيلَة، كقَولك فُلانٌ واحِدُ دَهْرِه ونَسِيجُ وَحْدِه.
الرابع: ما كانَ واحِدًا لِامْتِنَاع التَّجَزِّي فيه، إِمَّا لِصِغَرِه، كالهَبَاءِ، وإِما لِصَلَابَتِه، كالمَاسِ.
الخَامِس للمَبْدَإِ، إِمّا لِمَبْدَإ العَدَدِ، كقولِك واحِد اثنانِ وإِما لمبدإِ الخَطِّ، كقولِك: النُّقْطَة الواحِدَة.
والوَحْدَة في كُلِّهَا عَارِضَةٌ، وإِذا وُصِف اللهُ عَزَّ وجَلَّ بالوَاحِدِ فمَعْنَاهُ هو الذي لا يَصِحُّ عَلَيْه التَّجَزِّي، ولا التكثُّر.
ولصُعوبةِ هذه الوَحْدَةِ قال الله تعالى: {وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ..} الآية، هكذا نقلَه المُصَنِّف في البصائر، وقد أَسْقَطَ ذِكْرَ الثالِث والسادِس فلعلَّه سَقَطَ من الناسِخ فليُنْظَرْ.
تَكميل: التَّوْحِيدُ تَوْحِيدَانِ.
تَوْحِيد الرُّبُوبِيَّة، وتَوْحِيدُ الإِلهيّة.
فصاحِبُ تَوْحِيد الرَّبَّانِيَّةِ يَشْهَد قَيُّومِيَّةَ الرَّبِ فَوْقَ عَرْشِه يُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِه وَحْدَه، فلا خالِقَ ولا رَازِقَ ولا مُعْطِيَ ولا مَانِعَ ولا مُحْيِيَ ولا مُمِيتَ ولا مُدَبِّرَ لأَمْرِ المَمْلَكَةِ ظَاهِرًا وباطِنًا غيرُه، فما شاءَ كانَ، وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ، ولا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بإِذْنِه، ولا يَجُوز حادِثٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِه، ولا تَسْقُط وَرَقَةٌ إِلَّا بِعِلْمِه، ولا يَعْزُب عنه مِثُقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمواتِ ولا في الأَرْضِ ولا أَصْغَرُ مِن ذلك ولا أَكْبَرُ إِلَّا وقد أَحْصَاها عِلْمُه، وأَحاطتْ بها قُدْرَتُه، ونَفَذَتْ فيها مَشِيئَتُه، واقْتَضَتْهَا حِكْمَتُه.
وأَمّا تَوْحِيدُ الإِلهِيَّة، فهو أَن يُجْمِعَ هِمَّتَه وقَلْبَه وعَزْمَه وإِرادَتَه وحَرَكاتِه على أَداءِ حَقِّه، والقيامِ بِعُبُودِيَّتِهِ. وأَنشَدَ صاحِبُ المنَازِل أَبياتًا ثلاثَةً ختَم بها كِتَابَه:
مَا وَحَّدَ الوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ *** إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَه جَاحِدُ
تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَفْسِهِ *** عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الوَاحِدُ
تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ *** ونَعْتُ مَنْ يَنْعَتُه لَاحِدُ
وحاصِل كلامِه وأَحْسَنُ ما يُحْمَلُ عليه أَن الفَنَاءَ في شُهُودِ الأَزَلِيَّةِ، والحُكْمِ يَمْحُو شُهُودَ العَبْدِ لِنَفْسِه وصِفَاتِه فَضْلًا عن شُهُودِ غَيْرِه، فلا يَشْهَدُ مَوْجُودًا فاعِلًا على الحَقِيقَةِ إِلا اللهَ وَحْدَه، وفي هذا الشُّهودِ تَفْنَى الرسُومُ كُلُّهَا، فَيَمْحَقُ هذا الشُّهُودُ مِن القَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى الحَقِّ، إِلَّا أَنه يَمْحَقُه مِن الوُجُودِ، وحينئذٍ يَشْهَد أَنَّ التَّوْحِيدَ الحَقِيقيَّ غيرَ المُسْتَعَارِ هو تَوْحِيدُ الرَّبِّ تَعَالَى نَفْسِه، وتَوْحِيدُ غَيْرِه له عارِيَةٌ محْضَةٌ أَعَارَهُ إِيَّاها مالِكُ المُلُوكِ، والعَوَارِي مَرْدُودَةٌ إِلى مَن تُرَدُّ إِليه الأُمُورُ كُلُّهَا. {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ}.
وقد استَطْرَدْنَا هذا الكلامَ تَبرُّكًا به لئلًا يَخْلُوَ كِتَابُنَا مِن بَرَكَاتِ أَسْرَارِ آثارِ التَّوْحِيد، {وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ} وَهُوَ يَهْدِي سَوَاءَ السَّبِيل.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
60-تاج العروس (جنبذ)
[جنبذ]: الجُنْبُذُ، بالضمِّ، كالْجُلَّنَارِ من الرُّمَّانِ. قال شيخنا: في العبارة قَلَقٌ أَوجَبَه التشبيهُ، إِذ الأَكثر أَن الجُنْبُذ هو الجُلَّنَار، وكلامه يَقتضِي أَنه غيرُه، وفي كتاب «ما لا يسع» وغَيْرِه: الجُنْبُذُ: وَرْدُ شَجَرَةٍ قبل أَن يَتفتَّحَ، وقد سُمِّيَ شَجَرُ الرُّمَّانِ جُنْبُذًا. ومن مَحَاسن الصاحب بن عَبَّادٍ التي أَبدعَ فيها قولُه يُشَبِّه الرَّقِيبَ والمَحْبُوبَ بالّذِي وصِلَتِه:ومُهَفْهَفٍ ذِي وَجْنَةٍ كالجُنْبُذِ *** وَسِهَامِ لَحْظٍ كالسِّهَامِ النُّفَّذِ
قَدْ قُلْتُ مُنْذُ مُرَادِ نَفْسِي فِي الهَوَى *** ومَلَكْتُه لَوْ لَمْ يَكُنْ صِلَةَ الذِي
قلت: إِنما مُرَاد المُصَنِّف الإِطلاق، ومعنى عبارته هكذا: الجُنْبُذ، بالضمّ: المُرْتفِعُ من كُلِّ شَيْءٍ كالجُلّنار من الرُّمَّان وغيره، كما فسَّرَه غيرُ واحدٍ من أَئمة اللغةِ، وأَمَّا تَسمِيَة الجُلّنار جُنْبُذًا إِنما هو من بابِ التَّخْصِيص، لارتفاعه واستدارته، وإِلّا فكُلُّ مُرْتَفِع مُستديرٍ يُسمَّى جُنْبُذًا، سواءٌ كان من الجُلّنار أَو غيره، ويدُّلُّك على ذلك أَنه مُعرَّب عن كُنْبُد بالفارسية، اسمٌ لكُلِّ مُستديرٍ من الأَبْنِيَة والآزَاجِ، كالقُبَّة، وقد أَسْلَفْنَا في جَبَذ ما يُؤَيّد ما ذَهَبْنَا إِليه، فراجِعْه.
وجُنْبُذُ بنُ سَبُعٍ، هكذا مُكَبَّرًا في نُسختنا، وفي بعضها مُصغَّرًا، أَو سِبَاعٍ واختُلِف في اسمه أَيضًا كاسم أَبيه، فقيل: جُنْبُذ، كما هو هنا، وقيل: جُنْدُب، وقيل: جُنَيد، مُصغَّرًا لِجُنْد، وقيل: حَبِيب مُكَبَّرًا، وهو أَرجح الأَقوالِ، وهكذا ذكره الذهبيُّ في التجريد، قَاتَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم البُكْرَةَ كافِرًا، وقاتَلَ مَعَهُ العَشِيَّةَ مُسْلِمًا.
أَخرجَه الطَّبرانيّ عنه بسَنده، وكان ذلك في الحُدَيْبِيَة، وكُنَيتُه أَبو جُمْعَة، وبها اشتهَرَ، واختُلِف في نَسبِه، فقيل: كِنَانِيٌّ، وقيل: أَنصاريٌّ، فراجِعْه في الإِصابة.
وذُكِرَ باقِي مَعَانِيه في الجمع: ب ذ، وهذا موضعه أَي بِناءً على أَن النون فيه أَصليّة، قال شيخنا: وإِذا كان هذا موضِعَه فما معنى تَعَرُّضِه لمعانيه هناك وعَدَمِ التنبيه عليه، والأَكثرون على زيادة النون، والله أَعلم.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
أَبو الفضل محمّد بن عُمر بن محمّد الجُنْبُذِيُّ الأَديب، وشيخ الإِقراءِ بِسمرْقَنْدَ شهاب الدّين أَبو أَحمد مُحمّد بن محمد بن عُمر بن الخَالِديّ الجُنْبُذِيّ، وابنه شمْس الدينِ أَبو محمود، مُحدِّثون.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
61-تاج العروس (جبر)
[جبر]: الجَبْرُ خِلافُ الكَسْرِ، والمادَّة موضُوعةٌ لإِصلاح الشيْءِ بضَرْب من القَهْر.وفي المُحْكَم لابن سِيدَه: الجَبْرُ: المَلِكُ، قال: ولا أَعْرفُ مِمَّ اشْتُقَّ، إِلّا أَنّ ابنَ جِنِّي قال: سُمِّيَ بذلك لأَنه يَجْبُر بجُودِه. وليس بقَوِيّ، قال ابنُ أَحمر:
واسْلَمْ براوُوقٍ حُيِيتَ به *** وانْعَمْ صَباحًا أَيُّهَا الجَبْرُ
قال: ولم يُسمَع بالجَبْرِ المَلِكِ إِلّا في شِعر ابنِ أَحمرَ، قال: حَكَى ذلك ابنُ جِنِّي، قال: وله في شِعر ابنِ أَحمَر نظائرُ كلُّها مذكورٌ في مواضعه. وفي التَّهْذِيب: عن أَبي عَمْرو: يُقَال للمَلِك جَبْرٌ.
والجَبْرُ: العَبْدُ، عن كُرَاع، ورُوِيَ عن ابن عَبّاس في جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ، كقولك: عبدُ الله وعبدُ الرَّحمن. وقال الأَصمعيّ: معنى «إِيل» هو الرُّبُوبِيّةُ فأُضِيفَ «جَبْر» و«مِيكا» إِليه. قال أَبو عُبَيْد: فكأَنّ معناه عبدُ إِيل، رجل إِيل.
ضدٌّ.
وقال أَبو عَمْرو: الجَبْرُ: الرَّجُلُ، وأَنشدَ قولَ ابنِ أَحمرَ:
وانْعَمْ صَبَاحًا أَيُّهَا الجَبْرُ
أَي أَيُّها الرجلُ.
والجَبْر أَيضًا: الشُّجاعُ وإِن لم يكن مَلِكًا.
والجَبْرُ: خِلافُ القَدَر، وهو تَثْبيتُ القَضَاءِ والقَدَر، ومنه الجَبْريَّةُ، وسيأْتِي.
والجَبْرُ: الغُلامُ، وبه فَسَّر بعضٌ قولَ ابنِ أَحمرَ.
والجَبْرُ: اسمُ العُود الذي يُجْبَر به.
ومُجَاهدُ بنُ جَبْر أَبُو الحَجّاج المَخْزُوميُّ مَوْلَاهم المَكِّيُّ: مُحَدِّثٌ ثِقَةٌ، إِمامٌ في التَّفْسير. وفي العلْم، من الثالثة، مات بعدَ المائة بأَربع أَو ثلاث، عن ثلاثِ وثمانين.
وجبَرَ العَظْمَ مِن الكَسْر، ومِن المَجَاز: جَبَرَ الفَقيرَ مِن الفَقْر، وكذلك اليَتِيمَ، كذا في المُحْكَم [يَجْبُره] جَبْرًا، بفتحٍ فسكونٍ، وجُبُورًا، بالضَّمّ، وجِبَارَةً، بالكسر، عن اللِّحْيَانيِّ.
وجَبَّرَه المُجَبِّرُ تَجْبِيرًا، فجَبَرَ العَظْمُ والفَقِيرُ واليَتِيمُ جَبْرًا بفتحٍ فسكونٍ، وجُبُورًا بالضمّ، وانْجَبَرَ واجْتَبَرَ، وتَجَبَّرَ، ويقال: جَبَرْتُ العَظْمَ جَبْرًا، وجَبَرَ العَظْمُ بنَفسِه جُبُورًا؛ أَي انْجَبَر، وقد جَمَع العَجّاج بين المتعدِّي واللَّازمِ، فقال:
قد جَبَرَ الدِّينَ الإِلهُ فجَبَرْ
قلتُ: وقال بعضُهم: الثانِي تأْكيدٌ للأَوّل؛ أَي قَصَدَ جَبْرَه فَتَمَّمَ جَبْرَه، كذا في البَصَائِر. قال شيخُنا: وقد خَلَطَ المصنِّفُ بين مَصْدَرَيِ الّلازِمِ والمتعدِّي، والذي في الصّحاح وغيرِه التفصيلُ بينهما؛ فالجُبُورُ كالقُعُودِ مصدرُ اللازمِ، والجَبْرُ مصدرُ المتعدِّي، وهو الذي يَعْضُده القِياسُ. قلتُ: ومثلُه قولُ اللِّحْيَانيِّ في النَّوادر: جَبَرَ الله الدِّينَ جَبْرًا، فجَبَرَ جُبُورًا، ولكنه تَبعَ ابنَ سِيدَه فيما أَوردَه من نَصِّ عبارتِه على عادَتِه، وقد سُمِعَ الجُبُورُ أَيضًا في المتعدِّي، كما سُمِعَ الجَبْرُ في اللَّازم، ثمّ قال شيخُنَا: وظاهرُ قولِه: جَبَرْتُ العَظْمَ والفَقِيرَ، إِلخ، أَنه حقيقةٌ فيهما، والصَّوابُ أَن الثانيَ مَجازٌ.
قال صاحبُ الواعِي: جَبَرْتُ الفقيرَ: أَغْنَيْتُه، مثْل جَبَرتُه من الكَسْر، وقال ابنُ دُرُسْتَوَيْهِ في شرح الفَصِيح: وأَصلُ ذلك؛ أَي جَبْرِ الفقيرِ، مِن جَبْرِ العَظْمِ المُنْكسِر، وهوَ إِصلاحُه وعِلاجُه حتى يَبْرَأَ، وهو عامٌّ في كلّ شيْءٍ؛ على التشْبِيهِ والاستعارةِ، فلذلك قِيل: جَبَرْتُ الفقيرَ، إِذا أَغْنَيْتَه؛ لأَنه شَبَّه فَقْرَه بانكسارِ عَظْمِه، وغِنَاه بجَبْره، ولذلك قيل له: فَقِيرٌ؛ كأَنه قد فُقِرَ ظَهْرُه؛ أَي كُسِرَ فَقارُه.
قلْت: وعبارةُ الأَساس صريحةٌ في أَن يكونَ الجَبْرُ بمعنَى الغِنَى حقيقةً لا مَجازًا، فإِنه قال في أَوَّل الترجمةِ: الجَبْرُ أَن يُغْنِيَ الرجلَ مِن فَقْرٍ، أَو يُصْلِحَ العَظْمَ من كَسْرٍ، ثم قال في المَجَاز في آخر الترجمة: وجَبَرتُ فلانًا فانْجَبَرَ: نَعَشْتُه فانْتَعَشَ. وسيأتي.
وقال اللَّبْلِيُّ في شرح الفَصِيح: جَبَرَ من الأَفعال التي سَوَّوْا فيها بين اللَّازمِ والمتعدِّي، فجاءَ فيه بلفظٍ واحد، يقال: جَبَرتُ الشيءَ جَبْرًا، وجَبَرَ هو بنفسِه جُبُورًا، ومثلُه صَدَّ عنه صُدُودًا، وصَدَدْتُه أَنا صَدًّا.
وقال ابن الأَنباريِّ: يقال جَبَّرتُ اليَدَ تَجْبِيرًا.
وقال أَبو عُبَيْدَةَ في «فعل وأَفعل»: لم أَسمع أَحدًا يقول: أَجبرتُ عَظْمَه. وحكى ابنُ طَلْحَةَ أَنه يقال: أَجبرْتُ العَظْمَ والفَقِيرَ، بالأَلف. وقال أَبو عليّ في «فعلت وأَفعلت»: يقال: جَبَرتُ العَظْمَ وأَجْبَرتُه. وقال شيخُنَا: حكايةُ ابنِ طَلْحَةَ في غاية الغَرَابةِ خَلَتْ عنها الدَّواوِينُ المشهورة.
واجْتَبَرَه فتَجَبَّرَ، وفي المُحْكَم: جَبَرَ الرَّجلَ: أَحْسَنَ إِليه، أَو كما قال الفارسيّ: جَبَرَه. أَغْنَاه بعدَ فَقْرٍ، قال: وهذه أَلْيقُ العِبَارتَيْن، فاستَجْبَر واجتَبَرَ.
وقال أَبو الهَيْثم: جَبَرتُ فاقَةَ الرجلِ، إِذا أَغنيتَه.
وفي التَّهْذِيب: واجْتَبَرَ العَظْمُ مثل انْجَبَرَ، يقال: جَبَرَ الله فلانًا فاجْتَبَرَ؛ أَي سَدَّ مَفاقِرَه، قال عَمْرُو بن كُلْثُومٍ:
مَن عالَ مِنّا بعدَهَا فلا اجْتَبَرْ *** ولا سَقَى الماءَ ولا راءَ الشجَرْ
معنى عالَ: جارَ ومالَ.
وجَبَرَه على الأَمْر يَجْبُرُهُ جَبْرًا وجُبُورًا: أَكْرَهَهُ كأَجْبَرَه، فهو مُجْبَر، الأَخيرَةُ، أَعْلَى، وعليها اقتَصَر الجوهَرِيُّ كصاحب الفَصِيح، وحكاهما أَبو عليٍّ في «فعلت وأَفعلت»، وكذلك ابن دُرُسْتَوَيْهِ والخَطّابيُّ وصاحبُ الواعِي. وقال اللِّحْيَانِيّ: جَبَرَه لغةُ تَمِيم وَحْدَهَا، قال: وعامَّةُ العربِ يقولون: أَجْبَرَه.
وقال الأَزهريُّ: وجَبَرَه لغةٌ معروفةٌ، وكان الشافعيُّ يقول: جَبَرَ السُّلْطَانُ، وهو حِجَازيٌّ فَصِيحٌ؛ فهما لُغَتَانِ جَيِّدَتانِ: جَبَرْتُه وأَجْبَرْتُهُ غير أَن النَّحْوِيِّين استَحبُّوا أَن يَجْعَلُوا جَبَرْتُ لِجَبْرِ العَظْمِ بعد كَسْرِه، وجَبْرِ الفَقِيرِ بعد فاقَتِه، وأَنْ يكون الإِجبارُ مقصورًا على الإِكراه؛ ولذلك جَعَلَ الفَرّاءُ الجَبّارَ من أَجبرتُ لا مِن جَبَرتُ، كما سيأْتي.
وفي البَصَائِر: والإِجْبَارُ في الأَصل: حَمْلُ الغيرِ على أَن يَجْبُرَ الأَمْرَ، لكن تُعُورِفَ في الإِكراه المجرَّد، فقوله: أَجْبَرْتُه على كذا، كقولك: أَكْرَهْتُه.
وتَجَبَّرَ الرجلُ، إِذا تَكَبَّرَ.
وتَجَبَّرَ النَّبْتُ والشَّجَرُ: اخْضَرَّ وأَوْرَقَ، وظَهَرَتْ فيه المَشْرَةُ وهو يابِسٌ، وأَنشَدَ اللِّحْيَانيُّ لامرئِ القَيْس:
ويَأْكُلْنَ مِن قَوٍّ لُعَاعًا ورِبَّةً *** تَجَبَّرَ بعد الأَكْلِ فهو نَمِيصُ
قَوّ: موضعٌ، واللُّعَاع: الرَّقِيقُ من النَّبَات في أَوّل ما يَنْبُتُ، والرِّبَّةُ: ضَرْبٌ من النَّبات، والنَّمِيصُ: النَّبَاتُ حين طَلَعَ وَرَقُه. وقيل: معنى هذا البِيتِ أَنه عادَ نابِتًا مُخْضَرًّا بعد ما كان رُعِيَ؛ يعني الرَّوْضَ.
وتَجَبَّرَ النَّبْتُ؛ أَي نَبَتَ بعد الأَكل. وتَجَبَّرَ النَّبْتُ والشَّجَرُ، إِذا نَبَتَ في يابِسِه الرَّطْبُ.
وتَجَبَّرَ الكَلأُ: أُكِلَ، ثم صَلَحَ قَلِيلًا بعد الأَكل.
وتَجَبَّرَ المَرِيضُ: صَلَحَ حالُه. ويقال للمريض: يومًا تَرَاه مُتَجَبِّرًا، ويومًا تَيْأَسُ منه؛ معنى قوله: مُتَجَبِّرًا. أَي صالِحَ الحال.
وتَجَبَّرَ فلانٌ مالًا: أَصابَه، وقيل: تَجَبَّرَ الرَّجلُ: عادَ إِليه ما ذَهَبَ عنه. وحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: تَجَبَّرَ الرَّجلُ، في هذا المعنَى، فلم يُعَدِّه. وفي التَّهْذِيب: تَجَبَّرَ فلانٌ؛ إِذا عادَ إِليه مِن ماله بعضُ ما ذَهَب.
والجَبَرِيَّةُ، بالتَّحْرِيك: خِلافُ القَدَرِيَّةِ، وهو كلامٌ مُوَلَّدٌ.
وفي الصّحاح: الجَبْرُ خِلَافُ القَدَرِ. قال أَبو عُبَيْد: هو كلامٌ مولَّد: قال اللَّبليّ في شرح الفَصِيح: وهم فرقةٌ أَهلُ أَهواءٍ، مَنْسُوبُون إِلى شيخهم الحُسَيْنِ بنِ محمّدٍ النَّجَّار البَصْرِيِّ، وهم الذين يقولون: ليس للعَبْد قُدْرَةٌ، وأَنّ الحَرَكاتِ الإِراديَّةَ بمثَابَةِ الرِّعْدَةِ والرَّعْشَةِ، وهؤلاءِ يَلْزمُهُم نَفْيُ التَّكْلِيفِ.
وفي اللِّسَان: الجَبْرُ تَثْبِيتُ وُقُوعِ القَضَاءِ والقَدَرِ، والإِجبارُ في الحُكْمِ، يقال: أَجْبَرَ القاضِي الرجلَ على الحُكْم، إِذا أَكْرَهَه عليه.
وقال أَبو الهَيْثَم: والجَبْرِيَّةُ: الذين يقولُوون أَجْبَرَ الله العِبَادَ على الذُّنُوب؛ أَي أَكْرَهَهُم، ومَعاذَ الله أَن يُكْرِهَ أَحدًا على مَعْصِيَة. وقال بعضُهم: إِن التَّسْكينَ لَحْنٌ فيه، والتَّحْرِيكَ هو الصَّوابُ، أَو هو أَي التَّسْكِينُ [الصَّواب. وهو الأَصل لأنه نسبة] * للجَبْر، قال شيخُنَا: وهو الظّاهِرُ الجارِي على القِيَاس. وقالوا في التَّحْرِيَك: إِنه للازْدِواج أَي لمناسبة ذِكْرِه مع القَدَرِيَّة، وقد تقدَّم أَنها مُوَلَّدة.
وفي الفَصِيحِ: قومٌ جَبْرِيَّةٌ ـ بسكونِ الباءِ ـ أَي خِلافُ القَدَرِيَّة وقال الحافظُ في التَّبصير: وهو طَريقُ متَكلِّمِي الشافعية. وفي البصائر: وهذا في قول المتقدِّمين، وأَما في عُرْف المتكلِّمين، فيقال لهم: المُجبرَة، وقال: وقد يُستعمَل الجَبر في القَهر المجرَّد، نحو قوله صَلى الله عليه وسلّم: «لا جَبر ولا تَفويض».
والجَبّار هو الله، عَزَّ اسْمُه وتعالَى وتَقدَّسَ، القاهر خَلْقه على ما أَراد من أَمْرٍ ونَهيٍ. وقال ابن الأَنباريّ: الْجَبّارُ في صفة الله عزّ وجلّ: الذي لا يُنال، ومنه جَبّارُ النَّخلِ. قال الفَرّاءُ: لم أَسمع فَعّالًا من أَفْعلَ إِلّا في حرفَين، وهو جَبّارٌ من أَجْبرتُ، ودَرَّاكٌ من أَدْرَكتُ.
قال الأَزهريُّ: جَعلَ جَبّارًا في صِفة الله تعالَى، أَو صِفة العبَاد من الإِجبار، وهو القَهْر والإِكراه، لا من جَبَرَ.
وقيل: الْجَبّارُ: العالِي فَوقَ خَلْقِه، ويجوزُ أَن يكونَ الْجَبّارُ في صِفَة الله تعالَى من جَبْره الفَقْرَ بالغِنَى، وهو تَباركَ وتعالَى جابِرُ كُلِّ كَسيرٍ وفَقيرٍ، وهو جابرُ دِينه الذي ارتَضاه كما قال العجّاج:
قد جَبَر الدِّينَ الإِلهُ فَجَبَرْ
وفي حديث عليٍّ كرَّم الله وَجهَه: «وجَبّار القُلوبِ على فِطَرَاتها»؛ هو مِن جَبْر العَظم المكسور؛ كأَنه أَقام القُلوبَ وأَثْبتَها على ما فَطَرَها عليه من معرفتِه، والإِقرارِ به، شَقِيَّها وسعِيدَها. قال القُتَيْبِيُّ: لم أَجعلْه مِن أَجْبَرت؛ لأَنّ أَفْعلَ لا يقَال: فعّال. وقيل: سُمِّيَ الجبَّارَ لتكَبُّرِه وعُلوِّهِ.
والجَبَّارُ في صِفَةِ الخَلقِ: كلُّ عاتٍ متَمرِّدٍ. ومنه قولهم: وَيْلٌ لجَبّارِ الأَرْضِ من جَبّارِ السَّماءِ، وبه فَسَّرَ بعضُهم الحديثَ في ذِكْر النّارِ: «حتى يَضَع الجَبَّارُ فيها قَدَمَه». ويَشْهد له قولُه في حديثٍ آخر: «إِنَّ النارَ قالت: وُكِّلْت بثلاثة: بمَن جَعَل مع اللهِ إِلهًا آخَرَ، وبكلِّ {جَبّارٍ عَنِيدٍ}، والمصَوِّرِين». وقال اللِّحْيَانِيُّ: الجَبّار: المتكبِّر عن عبادةِ اللهِ تعالى، ومنه قولُه: {وَلَمْ يَكُنْ جَبّارًا عَصِيًّا} وفي الحديث «أَنّ النبيَّ صَلى الله عليه وسلّم حَضَرَتْه امرأَةٌ فأَمَرهَا بأَمْرٍ، فتأَبَّتْ، فقال النبيُّ صَلى الله عليه وسلّم: دَعُوهَا فإِنهَا جَبّارَةٌ»؛ أَي عاتِيَةٌ متكبِّرةٌ.
كالجِبِّيرِ، كسِكِّيتٍ، وهو الشَّدِيدُ التَّجبُّرِ.
والجَبّارُ: اسمُ الجَوْازءِ، وهو مَجازٌ، يقال: طَلَعَ الجَبّارُ؛ لأَنها بصورةِ مَلِكٍ مُتَوَّجٍ على كذرْسِيٍّ. كذا في الأَساس.
ومِن المَجاز: قَلبٌ جَبّارٌ لا تَدخلُه الرَّحْمَةُ؛ وذلك إِذا كان ذا كِبْرٍ لا يَقْبلُ مَوعظةً.
والجَبّار: القَتَّالُ في غير حَقٍّ. وفي التَّنْزِيل العزيز: {وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ}. وكذلك قولُ الرجلِ لموسى عليهالسلام في التَّنْزِيل العَزِيز: {إِنْ تُرِيدُ إِلّا أَنْ تَكُونَ جَبّارًا فِي الْأَرْضِ} أَي قَتّالًا في غير الحَقّ. وكلُّه راجعٌ إِلى معنى التَّكَبُّر.
وقال اللِّحْيَانيُّ: العَظِيمُ الطَّوِيلُ القَوِيُّ جَبّارٌ، وبه فُسِّرَ قولُه تعالى: {إِنَّ فِيها قَوْمًا جَبّارِينَ} قال: أَرادَ الطُّولَ والقُوَّة والعِظَمَ، وهو مَجازٌ. وفي الأَساس: وقد فُسِّرَ بعِظَامِ الأَجْرَامِ. قال الأَزهريُّ: كأَنَّه ذَهَب إِلى الجَبّار من النَّخِيل، وهو الطَّوِيلُ الذي فاتَ يدَ المُتَنَاوِلِ. ويقال: رجلٌ جَبّارٌ، إِذا كان طويلًا عظيمًا قَوِيًّا؛ تشبيهًا بالجَبَّار من النَّخْل.
وجَبّارُ بنُ الحَكَمِ السُّلميّ، قيل: له وِفَادَةٌ: أَسْلَمَ وصَحِبَ ورَوَى، قالَه ابن سَعْد.
وجَبّارُ بنُ سلْمَى، وفي بعض النُّسَخ: سَلْمُ بنُ مالِكِ بنِ جعفرٍ العامِريُّ، له وِفَادة، وهو جدّ والِدِ السَّفَّاح؛ فإِنّ أُمَّه أُمُّ سَلمَةَ بنتُ يعقوبَ بنِ سَلَمَةَ بنِ عبد اللهِ بنِ المُغِيرة، وأُمُّها هندُ بنتُ عبد اللهِ بنِ جَبّار. وجَبّارُ بنُ صَخْرِ بنِ أُمَيَّة ابن خَنْسَاءَ نِ عُبَيْدِ بنِ عَدِيِّ بنِ غَنْمِ بنِ كَعْبِ بنِ سَلَمَةَ السُّلميُّ، بَدْرِيٌّ كبيرٌ، وقيل: إِن اسمَه جابِرٌ، والأَصَحُّ جَبّار، مات سنة ثلاثين.
وجَبّارُ بنُ الحارِثِ الحَدَسيّ المناريّ، له وِفادَةٌ، وروايَةُ حَدِيثِه عند وَلدِه: صحَابِيُّون رضيَ الله عنهم، والَأخِيرُ سَمّاه النبيُّ صَلى الله عليه وسلّم عبدَ الجَبّارِ، هكذا ذَكَره المحدِّثون.
وجبّارٌ الطّائِيُّ: محدِّثٌ عن ابن عَبّاس، وعنه أَبو إِسحاقَ السَّبِيعِيُّ، قاله الذَّهبيّ، وهو غيرُ جَبّارِ بنِ عَمْرٍو الطّائِيِّ المَلَقَّبِ بالأَسَدِ الرَّهِيصِ.
وجَبّارٌ فارِسُ الضُّبَيبِ.
وأَبو الرَّيَّان بِشرُ بنُ جَبّار الجَبّاريّ، مَدَحَه ابنُ الرِّقاع.
وعُقْبَةُ بنُ جَبّارٍ، عن ابن مسعود.
وبِشْرُ بنُ قَيْسِ بنِ جَبّار، مشهورٌ بالبُخْل، وفيه يقولُ الشاعر:
لو أَنَّ قِدْرًا بَكَتْ مِن طُولِ مَجْلِسِها *** على العُفُوق بَكَتْ قِدْرُ ابنِ جَبّارِ
ما مَسَّهَا دَسَمٌ قد فَضَّ مَعْدِنَها *** ولا رَأَتْ بَعْدَ نارِ القَيْنِ مِن نارِ
وعُقْبَةُ بنُ جابرٍ البَصْرِيّ الْمِنْقَريّ الجَبّارِيّ.
وَجَبّارُ بنُ سُلْمَى بنِ مالكِ بنِ جعفرِ بنِ كِلابٍ، الذي طَعَنَ عامرَ بنَ فُهَيْرَةَ يَومَ بِئْرِ مَعُونَةَ، ثم أَسْلَمَ، وانْظُرْه في فهر.
وجَبّارُ بن جَبْرٍ العَبْدِيّ، عن أَبي الدَّرْدَاءِ بن محمّدِ بن نَعامَةَ، عن أَبِيه، تاريخُ مَرْوَ.
وجَبّارُ بنُ مالكٍ الفَزَارِيّ، شاعرٌ فارِسٌ.
وشَمْعَلَةُ بنُ طَيْسَلَةَ بنِ جَبّارٍ، شاعرٌ إِسلاميّ. ذَكَرَهم الأَمِيرُ.
والجَبّارُ، بغير هاءٍ، حَكاه السِّيرافيّ: النَّخْلَةُ الطَّوِيلَةُ الفَتِيَّةُ. قال الجوهريّ: الجَبّارُ مِن النَّخل: ما طالَ وفَاتَ اليَدَ، قال الأَعشى:
طَرِيقٌ وجَبّارٌ رِوَاءٌ أُصُولُه *** عليه أَبابِيلٌ مِن الطَّيْرِ تَنْعَبُ
ونَخْلَةٌ جَبّارةٌ؛ أَي عظيمةٌ سَمِينةٌ، وهو مَجازٌ، وهي دُونَ السَّحُوقِ. وفي المُحْكَم: نخْلَةٌ جَبّارةٌ: فَتِيَّةٌ قد بَلَغَتْ غايةَ الطُّولِ، وحَمَلَتْ، والجَمْعُ جَبّارٌ، قال:
فاخِرَاتٌ ضُلُوعها في ذُرَاها *** وأَناضَ العَيْدَانُ والجَبّارُ
وقال أَبو حنيفةَ: الجَبّارُ: الذي قد ارتُقِيَ فيه ولم يَسقُط كَرْمُه، قال: وهو أَفْتَى النَّخْلِ وأَكرَمُه.
وقد تُضَمُّ، وهذه عن الصَّاغانيّ.
والجَبّارُ أَيضًا: المُتَكَبِّرُ الذي لا يَرَى لأَحَدٍ عليه حَقًّا، يُقَال: هو جَبّارٌ من الجَبَابِرَة، فهو بَيِّنُ الجِبْرِيَّةِ والجِبْرِيَاءِ، مكسورتَيْن غير أَنّ الأُولَى مشدَّدةُ الياءِ التحتيَّة، والثانيةَ ممدودةٌ والجِبِرِيَّةِ، بكَسَرَاتٍ مع تشديدِ التحتيّة، والجَبَرِيَّةِ محرَّكة، ذَكَره كُرَاع في المجرَّد والجَبَرُوَّةِ، بضمِّ الراءِ وتشديدِ الواوِ المفتوحَةِ، وقد جاءَ في الحديث: «ثم يكونُ مُلْكٌ وَجَبَرُوَّةٌ»؛ أَي عُتُوٌّ وقَهْرٌ. والجَبَرُوتَا، على مثال رَحَمُوتَا، نقلَه شُرّاحُ الفَصِيح كالتُّدْمِيرِيِّ وغيره، والجَبَرُوتِ، الأَربعةُ مُحَرَّكاتٌ، وهذا الأَخيرُ من أَشهرِهَا، وفي الحديث: «سُبْحَانَ ذِي الجَبَرُوتِ والمَلَكُوتِ» قال ابنُ الأَثِير، والفِهْرِيُّ شارحُ الفَصِيح، وابنُ مَنْظُورٍ، وغيرُهم: هو فَعَلُوت من الجَبْر والقَهْر والقَسْر، والتاءُ فيه زائدةٌ للإِلحاق بقَبَرُوس، ومثلُه مَلَكُوت من المُلْك، ورَهَبُوت من الرَّهْبَة، ورَغَبُوت من الرَّغْبَة، ورَحَمُوت من الرَّحْمَة، قيل: ولا سادِسَ لها، قال شيخُنا: وفيه نَظَرٌ، وفي العِناية:
الجَبْرُوتُ: القَهْرُ والكِبْرِيَاءُ والعَظَمةُ، ويُقَابِله الرَّأْفَةُ.
والجَبْرِيَّةِ بسكونِ الموحَّدةِ وتشديدِ التحتيَّةِ والجَبْرُوَّة، هو مثل الذي تقدَّم، غير أَن الموحَّدةَ هنا ساكنةٌ، والتَّجْبَار والجَبَّورَةِ مثلِ الفَرُّوجَةِ، مَفْتُوحات، والجُبُّورَةِ والجُبْرُوتِ، مضمومتَيْن، فهؤلاءِ ثلاثةَ عشرَ مصادرَ، ذَكَرها أَئِمَّةُ الغَرِيب، وهي مفرَّقة في الدَّواوين، ومما زِيدَ عليه: جَبُّورٌ، كتَنَّور، ذَكَره اللِّحْيَانيُّ في النوادر، وكُراع في المجرَّد، وجُبُور، بالضمّ، ذَكَره اللِّحْيَانيُّ، وجَبَريَّا محرَّكة، ذكره أَبو نصرٍ في الأَلفاظ، وجَبْرَؤت، كعَنْكَبُوت، ذَكَره التدْمِيرِيُّ شارحُ الفصيحِ، والجِبْرِيَاءُ، ككِبْرِيَاءَ، أَوردَه في اللسان، فصار المجموع ثمانيةَ عشرَ، ومعنى الكلِّ الكِبْر. وأَنشدَ الأَحْمَرُ لمُغَلِّسِ بنِ لَقِيطٍ الأَسَدِيِّ يُعَاتِبُ رجلًا كان والِيًا على أُضَاخَ:
فإِنّكَ إِنْ عادَيْتَنِي غَضِبَ الحَصَى *** عليك وذُو الجُبَّورة المَتغطرِفُ
يقول: إِن عادَيْتَنِي غَضِبَ عليك الخَلِيقَةُ، وما هو في العَدَد كالحَصَى، والمُتغَطرف: المتكبِّر.
وجَبْرَائِيلُ: عَلَمُ مَلَك، ممنوع من الصَّرف للعَلَمِيَّة والعُجْمَةِ، والتَّرْكِيبِ المَزْجِيِّ، على قولٍ؛ أَي عبدُ الله.
قال الشِّهَاب: سُرْيانيٌّ، وقيل: عِبْرانيّ، ومعناه عبدُ الله، أَو عبدُ الرَّحمن، أَو عبدُ العَزِيز. وذكر الجوهريُّ والأَزهريُّ وكثيرٌ من الأَئِمَّة أَنّ «جَبْر» «ومِيك» بمعنى عَبْد. و«إِيل» اسم الله، وصَرَّح به البُخارِيُّ أَيضًا، ورَدَّه أَبو عليٍّ الفارسيُّ بأَنَّ إِيل لم يَذكره أَحدٌ في أَسمائه تعالَى. قال الشِّهَاب: وهذا ليس بشيْءٍ. قال شيخُنا: ونُقِلَ عن بعضهم أَنّ إِيلَ هو العَبْدُ، وأَنّ ما عَداه هو الاسمُ مِن أَسماءِ الله، كالرَّحمن والجَلالة، وأَيَّدَه اختلافُها دُونَ إِيل، فإِنه لازِمٌ، كما أَنّ عَبْدًا دائمًا يُذْكَرُ، وما عَداه يَختلفُ في العربيَّة، وزادَه تأْييدًا بأَن ذلك هو المعروفُ في إِضافة العَجَمِ. وقد أَشار لمثل هذا البحثِ عبدُ الحَكِيم في حاشية البَيْضَاوِيِّ. قلتُ: وأَحسنُ ما قِيل فيه أَن الجَبْرَ بمنزلةِ الرَّجُلِ، والرجلُ عبدُ الله، وقد سُمِعَ الجَبْرُ بمعنى الرَّجُلِ في قول ابنِ أَحْمَرَ، كما تَقَدَّمتِ الإِشارُ إِليه، كذا حَقَّقَه ابنُ جِنِّي في المحتسب. فيه لُغاتٌ قد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ على عادتها في الأَسماءِ الأَعجميَّة، وهي كثيرٌ.
وقد ذَكَر المصنِّف هنا أَرباعَ عشرَةَ لغةً:
الأُولَى: جَبْرَئِيلُ، كَجَبْرَعِيل، قال الجوهريُّ: يُهمَز ولا يُهمَز، قال الشِّهاب: ومن قَواعدهم المشهورةِ أَنَّهم يُبْدِلُون همزَةَ الكلمة بالعَيْن، عند إِرادة البَيَانِ، وعليه جَرَى سِيبَوَيْه في الكتاب، فمَن دُونَه، ومنهم مَن نَظَّرَه بسَلْسَبِيل، وبها قرأَ حمزةُ والكسائيُّ، وهي لغةُ قيس وتَمِيم. وقال الجوهريُّ: وأَنشدَ الأَخْفَشُ لكَعْبِ بنِ مالك:
شَهِدْنا فما تَلْقَى لنا مِن كَتِيبَةٍ *** يَدَ الدَّهْرِ إِلّا جَبْرَئِيلُ أَمَامُهَا
قال ابن بَرِّيٍّ: ورفع «أَمامها» على الإِتباع؛ لنَقْلِه من الظُّرُوف إِلى الأَسماءِ.
والثانيةُ: جِبْرِيلُ، بالكسر مثالُ حِزْقِيل، وهي أَشهرُهَا وأَفصحُهَا، وهي قراءَةُ أَبي عَمْرو ونافعٍ وابنِ عامرٍ وحَفْص عن عاصم، وهي لغةُ الحِجَاز، وقال حَسّان:
وجِبْرِيلٌ رسولُ الله فينا *** ورُوحُ القُدِس ليس له كِفَاءُ
والثالثةُ: جَبْرَئِلُ، مثالُ جَبْرَعِل؛ أَي بدون ياءِ بعد الهمزةِ، وتُرْوَى عن عاصم، ونَسَبَهَا ابنُ جِنِّي في الشّواذّ إِلى يحيَى بنِ يَعْمُرَ.
والرابِعَةُ: جَبْرِيلُ، مثالُ سَمْوِيل، بفتحٍ فسكونٍ فكسرٍ، وهي قراءَةُ ابنُ كَثِيرٍ والحَسَنِ. قال الشِّهَاب: وتضعيفُ الفَرّاءِ لها بأَنه ليس في كلامهم فَعْلِيل؛ أَي بالفتح، ليس بشيْءٍ؛ لأَنّ الأَعْجَميَّ إِذا عُرِّبَ قد يُلْحِقونه بأَوزانهم، وقد لا يُلحقونه، مع أَنه سُمِعَ سَمْوِيلُ لطائرٍ. قال شيخُنَا: وفي سَماعِه نَظَرٌ، ومَن سمِعه لم يدَّعِ أَنه فَعْلِيلٌ بل فَعْوِيلٌ، وهو ليس بعزِيز. قلتُ: وقد يأْتي للمصنِّف في سمل ما يدلُّ على أَن سَمْوِيل فَعْوِيل لا فَعْلِيل.
والخامسةُ: جَبْرَائِلُ، بفتحِ فسكونٍ وهمزة مكسورة بدون ياءٍ بعد الأَلف، مثال جبْراعِل، وبها قرأَ عِكْرِمَةُ، ونَسبَهَا ابنُ جنِّي إِلى فَيّاضِ بنِ غَزْوانَ ويحْيى بنِ يَعْمُر أَيضًا.
والسادسةُ: جَبْرائيلُ، مثلُهَا مع زيادةِ ياءٍ بعد الهمزة، مثال جَبْراعِيل.
والسابعةُ: جَبْرَئِلُّ، بفتحٍ فسكونٍ وهمزةٍ مكسورة ولام مشدَّدَة، مثالُ جَبْرَعِلّ، وتُرْوَى عن عاصم، وقد قِيل إِنّ معناه عبدُ الله في لغتهم. قالَه ابنُ جِنِّي.
والثامِنَةُ: جبْرَالُ، بالفتح، مثالُ خَزْعَال، وسيأْتي أَنه ليس لهم فَعْلالٌ سِواه، عن الفَرّاءِ. والتاسعةُ: جِبْرَالُ، بالكسر، مثالُ طِرْبَال.
والعاشرةُ: بسكون الياءِ بلا هَمْزِ: جَبْرَيْلُ؛ أَي مع فتحٍ فسكونٍ في الأَول، وهي قراءَةُ طلحةَ بنِ مُصرِّف.
والحاديةَ عشرةَ بفتحِ الياءِ: جَبْرَيَلُ، والباقي كالضَّبْط السابق.
والثانيةَ عشرةَ بياءَيْن تَحْتِيَّتَيْنِ: جَبْرَيِيلُ، كسَلْسَبيل.
والثالثةَ عشرةَ: جَبْرِينُ، بالنُّون، بَدَلَ اللَّامِ، ويُكْسَرُ.
وبه تَتمُّ اللغاتُ أَربعَ عَشرةَ، ففي قول شيخنَا: إِنَّهَا عند المصنِّف ثلَاثَ عشَرَةَ نَظَرٌ. وقد ذَكر منها البيْضاوِيُّ ثمان لغات، وما بقِيَ أَوردَه ابنُ مالكٍ وأَرْبَابُ الأَفْعَالِ، وقد نَظَم الشيخُ ابنُ مالِك سَبْعَ لغَات، من ذلك في قوله:
جِبْرِيل جبْرِيلُ جَبْرَائِيلُ جبْرئِلٌ *** وجَبْرئِيلُ وجبْرالُ وجِبْرِينُ
قال شيخُنَا وذَيَّلَهَا الجَلَالُ السُّيُوطِيُّ بقوله:
وجَبْرَأَلُّ وجَبْرايِيلُ معْ بَدلٍ *** جبْرائِلٌ وبِيَاءٍ ثمَّ جَبْرِينُ
قال شيخُنَا: وقولُه: «مع بدلٍ»، إِشارةٌ إِلى جبْرائِين؛ لأَن فيه إِبدال الياءِ بالهمزة واللام بالنُّون.
قلتُ: وقد فاتَ المصنِّف جبْرَايِيل الذي ذَكَرَه السُّيُوطِيُّ، وهو بياءَيْن بعد الأَلِفِ، وقد أَورَده الشِّهابُ، وقبله ابنُ جِنِّي في الشَّواذّ، فقال: وبها قرأَ الأَعْمشُ، وكذلك جَبْرَايِلُ مقصورًا بالياءِ بدلَ الهمزةِ، وقد ذَكَرَه السُّيُوطِيُّ، وجَبْرَأَلُ، بتخفيفِ اللّام، أَورَده ابنُ مالكٍ. قال ابنُ جِنِّي: ومِن أَلفاظهم في هذا الاسم أَن يقولوا كُوريال ـ الكاف بين الكاف والقاف ـ فغالبُ الأَمر على هذا أَن تكونَ هذه اللُّغَاتُ كلُّها في هذا الاسم إِنما يراد بها جُبْرَال، الذي هو كُوريال، ثم لَحِقَها من التَّحْرِيف على طُولِ الاستعمالِ ما أَصارَهَا إِلى هذا التَّفَاوُتِ، وإِن كانت على كلِّ أَحوالِهَا مُتَجَاذِبَةً، يَتَشَبَّثُ بعضُها ببعض. واستدلَّ أَبو الحَسَنِ على زيادة الهمزة في جَبْرئيلَ بقراءَة مَن قرأَ جَبْرِيل ونَحْوه، وهذا كالتَّضَيُّفِ من أَبي الحَسَنِ رَحِمَه اللهُ؛ لِما قَدَّمْنَاه مِن التَّخْلِيط في الأَعجميِّ، ويَلزمُ منه زيادةُ النُّون في زَرَجُون؛ لقوله:
منها فَظِلْتَ اليوْمَ كالمُزَرَّج
والقَوْل ما قَدَّمْنَاه.
ويُذْكَرُ فيه لُغاتٌ أُخَرُ، هكذا تُوجَد هذه العبارةُ في بعض النُّسخ، وقد تَسقُط عن بعضها.
والجَبَارُ: كَسَحَاب: فِنَاءُ الجَبّانِ نقلَه الفَرّاءُ عن المفضَّل. والجَبَّان، ككَتَّان: المَقْبرَةِ، والصَّحراءُ، وسيأْتي في النُّون إِن شاءَ الله تعالى.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
62-تاج العروس (دبر)
[دبر]: الدُّبْرُ، بالضَّمّ وبِضَمَّتَيْن، نَقِيضُ القُبُل. والدُّبُر مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: عَقِبُه ومُؤَخَّرُه. ومن المَجاز: جِئْتُكَ دُبُرَ الشَّهْرِ؛ أَي آخِرَه، على المَثَل. يقال: جِئْتك دُبُرَ الشَّهْر وفِيهِ؛ أَي في دُبُره، وعَلَيْهِ؛ أَي عَلى دُبُره، والجَمْع من كُلّ ذلك أَدْبَارٌ. يقال: جئتُك أَدْبَارَه، وفِيهَا؛ أَي في الأَدْبار. أَي آخِرَه. والأَدْبارُ لذَوات الظِّلف والمِخْلَب: ما يَجْمَع الاسْت والحَيَاءَ. وخَصّ بعضُهُم به ذَواتِ الخُفِّ والحَيَاءِ، الواحِدُ دُبُرٌ.والدُّبُرُ والدُّبْر: الظَّهْرُ، وبه صَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيّ في الأَساس، والمصنِّف في البصائر، وزاد الاستدلالَ بقوله تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قال: جَعَله للجماعة، كقولِه تَعالى: {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} والجمعُ أَدْبَارٌ. قال الفَرَّاءُ: كان هذا يوم بَدْرٍ. وقال ابنُ مُقْبِل:
الكاسِرِينَ القَنَا في عَوْرَةِ الدُّبُرِ
وإِدْبَارُ النُّجُومِ: تَوَالِيهَا. وأَدْبارُهَا أَخْذُهَا إِلى الغَرْب للغُرُوب آخِرَ اللَّيْل. هذِه حِكايَةُ أَهل اللُّغَة، قال ابنُ سِيدَه: ولا أَدرِي كَيْف هذا، لأَنَّ الأَدْبَارَ لا يَكُون الأَخْذَ، إِذ الأَخْذُ مَصْدرٌ والأَدْبَارُ أَسماءٌ. وأَدْبار السُّجُودِ وإِدْبارُه: أَواخِرُ الصَّلوَاتِ. وقد قُرِئَ: {وَأَدْبارَ}، وإِدْبار، فمَنْ قرأَ {وَأَدْبارَ}، فمِن بابِ خَلْفَ ووَرَاء، ومَن قَرأَ وإِدْبَار، فمِن بابِ خُفُوق النَّجْم.
قال ثعلب في قَوْلِه تعالى: {وَإِدْبارَ النُّجُومِ} {وَأَدْبارَ السُّجُودِ} قال الكسَائيّ: {إِدْبارَ النُّجُومِ} أَن لها دُبُرًا واحدًا في وقت السحر. و {أَدْبارَ السُّجُودِ} لأَنَّ مع كل سَجْدَةٍ إِدْبارًا.
وفي التهذيب: مَنْ قرأَ: {وَأَدْبارَ السُّجُودِ}، بفتح الأَلف جمع على دُبُر وأَدْبَار، وهما الرَّكْعَتَان بعد المَغْرِب، رُوِيَ ذلِك عن عَلِيّ بن أَبِي طالِبٍ رضي الله عَنْه. قال: وأَما قوله: {وَإِدْبارَ النُّجُومِ} في سورة الطُّور، فهما الرَّكْعَتَان قبل الفجر، قال: ويُكسرَان جميعًا ويُنْصَبانِ، جائزانِ.
والدُّبُر: زَاوِيَةُ البَيْتِ ومُؤَخَّرُه.
والدَّبْر، بالفَتْحِ: جَماعَةُ النَّحْلِ، ويقال لها الثَّوْلُ والخَشْرَمُ، ولا وَاحِدَ لشيْءٍ من هذا، قاله الأَصمَعيّ.
وروَى الأَزْهَرِيّ بسنده عن مُصعَب بن عبد الله الزُّبَيْرِيّ: الدَّبْر: الزَّنَابِيرُ. ومن قال النَّحْل فقد أَخطأَ. قال: والصواب ما قاله الأَصمعيّ.
وفَسَّر أَهلُ الغَرِيبِ بهما في قصّة عاصم بن ثابتٍ الأَنصاريّ المعروف بحَمِيِّ الدَّبْرِ، أُصِيبَ يومَ أُحُدٍ فمَنَعت النَّحْلُ الكُفَّارَ منه؛ وذلك أَن المشركين لمَّا قَتلُوه أَرادوا أَن يُمَثِّلُوا به، فسلَّطَ الله عليهم الزَّنابيرَ الكِبَارَ تَأْبِر الدَّارِعَ، فارتَدَعوا عنه حتى أَخَذَه المُسْلِمُون فَدَفَنُوه، وفي الحديث: «فأَرْسلَ الله عليهم مِثْلَ الظُّلَّةِ مِن الدَّبْر»، قيل: النَّحْل، وقيل: الزَّنابير.
ولقد أَحسنَ المُصنِّف في البَصَائر حيث قال: الدَّبْر: النَّحْل والزّنابِير ونَحْوهُمَا مما سِلاحُها في أَدْبَارِها.
وقال شَيْخُنَا نَقْلًا عن أَهْل الاشْتِقَاق: سُمِّيَت دَبْرًا لتَدْبِيرها وتَأَنُّقِها في العَمَل العَجِيب، ومنه بِنَاءُ بُيوتِها.
ويُكْسَر فِيهِما، عن أَبي حَنِيفَة، وهكذا رُوِيَ قَولُ أَبي ذُؤَيْب الهُذَليّ:
بأَسْفَلِ ذَاتِ الدَّبْرِ أُفرِدَ خِشْفُهَا *** وقد طُرِدَتْ يَوْمَيْن وهْي خَلُوجُ
عَنَى شُعْبَةً فيها دَبْر.
وفي حديث سُكَيْنةَ بنتِ الحُسَيْن «جاءَت إِلى أُمّها وهي صغيرة تَبْكِي فقالت لها: ما لَكِ؟ فقالتْ: مَرَّت بي دُبَيْرة، فلسَعَتْني بأُبَيْرة»، هي تصغير الدَّبْرة: النّحلة، الجمع: أَدْبُرٌ ودُبُورٌ، كفَلْس وأَفْلُسٍ وفُلُوس. قال لبيد:
بأَشْهَبَ من أَبْكارِ مُزْنِ سَحَابةٍ *** وأَرْيِ دُبُورٍ شَارَهُ النَّحْلَ عاسِلُ
أَراد: شارَه من النَّحْل؛ أَي جَناه.
قال ابنُ سِيدَه: ويجوز أَن يكون جمْع دَبْرة، كصَخْرَة وصُخُور، ومَأْنَة ومُؤُون.
والدَّبْرُ: مَشَارَاتُ المَزْرَعَةِ؛ أَي مَجَارِي مائِها، كالدِّبَارِ، بالكَسْرِ، واحِدُهُما بِهَاءٍ، وقيل: الدِّبَار جمْع الدَّبْرة، قال بِشْر بن أَبِي خَازِم:
تَحَدُّرَ ماءِ البِئْر عن جُرَشِيَّةٍ *** علَى جِرْبةٍ يَعْلُو الدِّبَارَ غُرُوبُها
وقيل الدِّبَار: الكُرْدَة من المَزْرعَة، الواحِدَة دِبَارَةٌ.
والدِّبَاراتُ: الأَنْهَار الصِّغَار التي تَتَفَجَّر في أَرض الزَّرْع، واحدتها دَبْرة، قال ابنُ سِيدَه: ولا أَعْرف كيف هذا إِلَّا أَن يكون جمعَ دَبْرَة على دِبَار، ثمّ أُلْحِق الْهاءُ للجَمْع، كما قالُوا الفِحَالَة، ثُمَّ جُمِع الجَمْعُ جَمْعَ السَّلَامة.
والدَّبْر أَيضًا: أَوْلادُ الجَرَادِ، عن أَبي حَنِيفَة: ونصّ عبارته: صِغَار الجَرَادِ، ويُكْسَرُ.
والدَّبْر: خَلْفُ الشَّيْءِ، ومنه: جَعَلَ فُلانٌ قَوْلَكَ دَبْرَ أُذُنِهِ؛ أَي خَلْف أُذُنه. وفي حديث عُمَر: «كُنْتُ أَرجو أَن يَعيشَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبُرَنا»؛ أَي يَخْلُفنا بعد مَوْتِنَا.
يقال: دبَرْتُ الرَّجُلَ دَبْرًا إِذا خَلَفْتَه وبَقِيتَ بَعْدَه.
والدَّبْر: المَوْتُ، ومنه دَابَر الرَّجُلُ: ماتَ. عن اللِّحْيَانيّ، وسيأْتي.
والدَّبْر: الجَبَلُ، بلسانِ الحَبشة.
ومِنْه حَدِيثُ النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشةِ أَنه قال: «ما أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا وأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِين».
قال الصَّاغانِيّ: وانْتِصَاب «ذَهبًا» على التَّمْيِيز. ومثله قولُهم: عندي راقُودٌ خَلًّا، ورِطْلٌ سَمْنًا والواو في «وأَنّي» بمعنى «مَعَ»؛ أَي ما أُحِبّ اجْتِمَاع هذَيْنِ، انْتَهَى. وفي رواية «دَبْرًا من ذَهبٍ». وفي أُخرى: «ما أُحِبُّ أَن يكون دَبْرَى لي ذَهَبًا» وهكذا فَسَّروا، فهو في الأَوَّل نَكِرة وفي الثَّاني مَعْرفة. وقال الأَزهريّ: لا أَدْرِي أَعرَبِيّ هو أَم لا؟.
والدَّبْر: رُقَادُ كُلِّ سَاعَة، وهو نحْو التَّسبيح، والدَّبْر الاكْتِتاب، وفي بعض النسخ الالتتاب، باللام، وهو غَلَط. قال ابنُ سِيدَه: دَبَرَ الكِتَابَ يَدْبُره دَبْرًا: كَتَبَه، عن كُراع. قال: والمعروف ذَبَره، ولم يَقُل دَبَرَه إِلّا هو.
والدَّبْر: قِطْعَةٌ تَغْلُظُ في البَحْرِ كالجَزِيرَة يَعْلوهَا الماءُ ويَنْصَبُّ عنها، هكذا في النُّسَخ، وهو مُوافِقٌ لِما في الأُمَّهات اللُّغَوِيَّة. وفي بعض النُّسخ: يَنضُب من النضب، وكلاها صَحِيح.
والدَّبْر: المَالُ الكَثِيرُ الذي لا يُحصَى كَثْرة، واحدُه وجَمْعُه سَوَاءٌ، ويُكْسَرُ يقال: مَالٌ دَبْر، ومَالانِ دَبْر، وأَمْوَالٌ دَبْرٌ. قال ابنُ سِيدَه: هذا الأَعْرف، قال: وقد كُسِّر على دُبُور، ومثْله مال دَثْر. وقال الفَرَّاءُ: الدَّبْرُ: الكَثِيرُ الضَّيْعَةِ والمَالِ. يقال: رجلٌ كَثِيرُ الدَّبْرِ، إِذا كانَ فاشِيَ الضَّيْعَة، ورجُل ذو دَبْرٍ: كثيرُ الضَّيْعَةِ والمالِ، حكاه أَبو عُبَيْد عن أَبِي زَيْد.
والدَّبْرُ: مُجَاوَزَةُ السَّهْمِ الهَدَفَ، كالدُّبُورِ، بالضّمّ، يقال: دَبَرَ السَّهْمُ الهَدَفَ يَدْبُره دَبْرًا ودُبُورًا، جاوَزَه وسَقَطَ وَراءَه.
وقولُهم: جَعَلَ كَلَامَكَ دَبْرَ أُذُنِه؛ أَي خَلْفَ أُذُنه، وذلِك إِذا لم يُصْغِ إِليْهِ ولم يُعَرِّجْ عَلَيْهِ؛ أَي لم يَعْبَأْ وتَصَامَمَ عنه وأَغْضَى عنه ولم يَلتفِتْ إِليه، قال الشاعر:
يَدَاهَا كأَوْبِ الماتِحِينَ إِذَا مَشَتْ *** ورِجْلٌ تَلَتْ دَبْرَ اليَدَيْن طَرُوحُ
والدَّبْرَةُ: نَقِيضُ الدَّوْلةِ، فالدَّوْلةُ في الخَيْر، والدَّبْرَة في الشَّرّ. يقال: جَعَل الله عليك الدَّبْرَة. قاله الأَصْمَعِيّ. قال ابنُ سِيدَه: وهذا أَحْسَنُ ما رَأَيْتُه في شَرْح الدَّبْرَةِ، وقيل: الدَّبْرَةُ: العَاقِبَةُ، ومنه قَولُ أَبِي جهل لابْنِ مَسْعودٍ وهو صَرِيعٌ جَريحٌ: لِمَنِ الدَّبْرةُ؟ فقال لِلّه ولرسُولِه، يا عَدُوَّ الله.
ويقال: جَعَلَ الله عليهم الدَّبْرةَ؛ أَي الهَزِيمة في القِتَالِ، وهو اسْمٌ من الإِدْبَار، ويُحَرَّك، كما في الصّحاح، وذَكَرَه أَهْلُ الغَرِيب.
وعن أَبي حَنِيفةَ: الدَّبْرَةُ: البُقْعَةُ من الأَرْض تُزْرَعُ، والجَمْع دِبَارٌ.
ومن المَجَاز: الدِّبْرَة: بالكَسْرِ، خِلَافُ القِبْلَةِ. ويقال: ما لَهُ قِبْلَةٌ ولا دِبْرَةٌ؛ أَي لَمْ يَهْتَدِ لجِهَةِ أَمْرِهِ وقَوْلُهم: فُلانٌ مَا يَدْرِي قِبَالَ الأَمر من دِبارِه؛ أَي أَوَّلَه من آخِرِه وليس لِهذا الأَمرِ قِبْلَةٌ ولا دِبْرَةٌ، إِذا لم يُعْرَف وَجْهُه.
والدَّبَرَة: بالتَّحْرِيكِ: قَرْحَةُ الدَّابَّةِ والبَعِيرِ، الجمع: دَبَرٌ، مُحَرَّكةً، وأَدْبَارٌ، مثل شَجَرة وشَجَر وأَشْجَار. وفي حديث ابْنِ عَبّاس: «كانُوا يَقولون في الجاهليّة: إِذا بَرَأَ الدَّبَر، وعَفَا الأَثَر»، وفسّروه بالجُرْح الذي يكون في ظَهْر الدّابّة. وقيل: هو أَن يَقْرَح خُفُّ البَعِير، وقد دَبِرَ البَعِيرُ، كفَرِحَ، يَدْبَر دَبَرًا، وأَدْبَرَ، واقتصر أَئِمَّة الغَرِيب على الأَوَّل، فهو؛ أَي البَعِيرُ دَبِرٌ، ككَتِف، وأَدْبَرُ، والأُنثَى دَبِرَةٌ ودَبْراءُ، وإِبِلٌ دَبْرَى.
وفي المَثَل: «هَانَ عَلَى الأَمْلَسِ ما لَاقَى الدَّبِرُ». ذَكَرَه أَهلُ الأَمْثَال في كُتُبِهم، وقالوا: يُضْرَبُ في سُوءِ اهْتِمَامِ الرَّجُلِ بِصَاحِبِه، وهكذا فَسَّرَه شُرَّاحُ المَقَامَات.
وأَدْبَرَهُ الحِمْلُ والقَتَبُ فدَبِرَ.
ودَبَرَ الرَّجلُ دَبْرًا: وَلَّى، كأَدْبَرَ إِدْبَارًا، ودُبْرًا، وهذا عن كُرَاع.
قال أَبو مَنْصُور: والصَّحيح أَن الإِدْبارَ المَصْدَرُ، والدُّبْر الاسْمُ. وأَدْبَرَ أَمرُ القَوْمِ: وَلَّى لِفَسَادٍ، وقَوْلُ الله تَعَالَى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} هذا حالٌ مُؤَكّدة، لأَنه قد عُلِم أَنَّ مع كُلِّ تَوْلِيَة إِدبارًا فقال: مُدْبِرِينَ، مُؤَكّدًا.
وقال الفَرَّاءُ: دَبَرَ النَّهَارُ، وأَدْبَرَ، لُغَتانِ، وكذلك قَبَلَ وأَقْبَلَ،، فإِذا قالوا: أَقْبَلَ الرّاكبُ أَو أَدْبَرَ، لم يقولوا إِلّا بالأَلف.
قال ابنُ سِيده: وإِنَّهُمَا عندي في المعَنى لَواحِدٌ لا أُبْعِدُ أَن يَأْتِيَ في الرِّجَال ما أَتَى في الأَزْمِنَة. وقرأَ ابنُ عَبَّاس ومُجَاهِدٌ: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} مَعْنَاه وَلَّى ليَذْهَب.
ودَبَر بالشَّيْءِ: ذَهَبَ بِهِ. ودَبَرَ الرَّجُلُ: شَيَّخَ، وفي الأَساس شَاخَ، وهو مَجَازٌ، وقيل ومنه قَوْلُه تَعَالى: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}.
ودَبَرَ الحَدِيث عن فُلانٍ: حَدَّثَه عَنْه بَعْدَ مَوْتِهِ، وهو يَدْبُر حَدِيثَ فُلانٍ أَي يَرْوِيه، ورَوَى الأَزْهَرِيّ بسَنَده إِلى سَلَّام بنِ مِسْكين قال: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحدِّث عن فلانٍ يَرويه عن أَبي الدَّرْدَاءِ، يَدْبُرُه عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما شَرَقَتْ شَمْسٌ قطُّ إِلّا بجَنْبِهَا مَلَكَانِ يُنادِيَان، إِنهما يُسْمِعَانِ الخلائقَ غَيْرَ الثَّقلَيْن الجِنِّ والإِنْس: أَلَا هَلُمُّوا إِلى رَبّكم فإِنَّ ما قَلَّ وكَفَى خَيْرٌ مما كَثُر وأَلْهَى، اللهُمَّ عَجِّل لمُنْفِقٍ خَلَفًا، وعَجِّل لمُمْسِك تَلَفًا».
قال شَمِرٌ: ودَبَّرْتُ الحَدِيثَ، غيْرُ مَعروف. وإِنما هو يُذْبُره، بالذّال المُعْجَمَة؛ أَي يُتْقِنه، قال الأَزهَرِيّ: وأَما أَبو عُبَيْد فإِن أَصحابَه رَوَوْا عنه: يُدَبِّرهُ، كما تَرَى.
ودَبَرَت الرِّيحُ: تَحَوَّلَت، وفي الأَسَاس: هَبَّت دَبُورًا، وفي الحديث. قال صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْت بالصَّبَا وأُهلِكَت عادٌ بالدَّبُور» وهي ـ أَي الدَّبور، كصَبُور، وفي نسخة شَيْخنا «وهو» بتَذْكِير الضَّمِير، وهو غَلَطٌ، كما نَبَّه عليه، إِذ أَسماءُ الرِّيَاح كُلِّهَا مُؤَنَّثةٌ إِلَّا الإِعْصَارَ ـ رِيحٌ تُقَابِل الصَّبَا؛ والقَبُول: رِيحٌ تَهُبّ من نَحْو المَغْرب، والصَّبَا يُقَابِلها من ناحِيَة المَشْرِق، كذا في التَّهْذِيب. وقيل: سُمِّيَت [بالدَّبُور] لأَنَّهَا تأْتِي من دُبُر الكَعبة مّما يَذْهَب نحو المَشْرِق، وقد رَدَّه ابنُ الأَثِير وقال: ليس بشيْءٍ، وقيل: هي التي تَأْتِي من خَلْفِك إِذا وَقفْت في القِبْلَة.
وقال ابنُ الأَعرابيّ: مَهَبُّ الدَّبُور من مَسْقَطِ النَّسْر الطَّائرِ إِلى مَطْلَعِ سُهَيْلِ.
وقال أَبو عَلِيّ في التّذْكِرَة: الدَّبُور: يكون اسْمًا وصِفَةً، فمِنَ الصِّفة قَولُ الأَعْشَى:
لها زَجَلٌ كحَفِيف الحَصَا *** دِ صادَف باللَّيْل رِيحًا دَبُورَا
ومن الاسم قولُه، أَنشدَه سِيبَوَيْهِ لرجُل من باهِلَة:
رِيحُ الدَّبُورِ مع الشَّمَالِ وتارَةً *** رِهَمُ الرَّبِيعِ وصائِبُ التَّهْتانِ
قال: وكَونُها صِفَةً أَكثرُ. والجمع دُبُرٌ ودَبائِرُ.
وفي مجمع الأَمثال للمَيْدانيّ: وهي أَخْبَثُ الرِّياح، يقال إِنَّهَا لا تُلِقح شَجرًا ولا تُنْشِيءُ سَحابًا.
ودُبِرَ الرّجلُ، كعُنِيَ، فهو مَدْبُورٌ: أَصابَتْه رِيحُ الدَّبُورِ.
وأَدْبَرَ: دَخَل فِيهَا، وكذلِك سائِرُ الرِّيَاح.
وعن ابنِ الأَعْرَابِيّ: أَدْبَرَ الرَّجلُ إِذا سافَر في دُبَارٍ، بالضَّمّ؛ يوم الأَرْبَعَاءِ، كما سيأْتِي للمُصَنِّف قريبًا، وهو يَومُ نَحْسٍ، وسُئِل مُجَاهِدٌ عن يوم النَّحْس فقال: هو الأَربعاءُ لا يَدُور في شَهْرِه.
ومن المَجاز: قال ابنُ الأَعْرَابِيّ: أَدْبَرَ الرّجلُ، إِذا عَرَفَ قَبِيله مِنْ دِبِيرِه، هكذا في النُّسَخ، ونَصُّ ابنِ الأَعْرَابِيّ: دَبِيرَه من قَبِيله، ومن أَمْثَالهم: «فُلانٌ ما يَعْرِف قَبِيلَه من دَبِيرِه». أَي ما يَدْرِي شيئًا.
وقال اللَّيْث: القَبِيل: فَتْل القُطْنِ، والدَّبِير: فَتْل الكَتّانِ والصُّوفِ.
وقال أَبو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيّ: مَعْنَاهُ طَاعَته من مَعْصِيَته.
ونصّ عِبارته: مَعْصِيِته من طَاعَتِه، كما في بَعْض النُّسَخ أَيضًا، وهو مُوافِقٌ لنَصِّ ابْنِ الأَعْرَابِيّ.
وقال الأَصْمَعِيّ: القَبِيلُ: ما أَقْبَلَ مِن الفاتِل إِلى حَقْوِه، والدَّبِير: ما أَدْبَر به الفاتِلُ إِلى رُكْبَته.
وقال المُفَضَّل: القَبِيلُ: فَوْزُ القِدَاح في القِمَار، والدَّبِيرُ: خَيْبَةُ القِدَاحِ. وسيُذْكَر من هذا شَيْءٌ في قبل إِن شاءَ الله تعالى. وسيأْتي أَيضًا في المَادَّة قَرِيبًا للمُصنِّف ويَذْكُر ما فَسَّر به الجَوْهَرِيّ، ونقل هنا قَوْلَ الشّيبَانِيّ وتَرَكَ الأَقْوَالَ البَقِيّة تَفَنُّنًا وتَعْمِيَةً على المُطالِع.
وأَدْبَرَ الرّجلُ، إِذا مَاتَ، كدَابَرَ، الأَخِير عن اللِّحْيَانيّ، وأَنْشَد لأُميَّةَ بنِ أَبي الصَّلْت:
زَعَمَ ابنُ جُدْعَانَ بنِ عَمْ *** روٍ أَنَّني يَوْمًا مُدابِرْ
ومُسَافِرٌ سَفَرًا بَعِي *** دًا لا يَؤُوبُ له مُسَافِرْ
وأَدْبَر، إِذا تَغَافَلَ عَنْ حاجَةِ صَدِيقِه، كأَنَّه وَلَّى عنه. وأَدْبَرَ، إِذا دَبِرَ بَعِيرُهُ، كما يقولون أَنْقَبُ، إِذا حَفِي خُفُّ بَعِيرِه، وقد جُمِعَا في حَدِيث عُمَر قال لامرأَة: «أَدْبَرْتِ وأَنْقَبْتِ»؛ أَي دَبِرَ بَعِيرُك وحَفِيَ. وفي حَدِيث قَيْسِ بنِ عاصم: «البَكْرَ الضَّرَعَ والنّابَ المُدبِرَ»، قالوا: الَّتي أَدْبَرَ خَيْرُهَا.
وأَدبَرَ الرجُلُ: صَارَ له دَبْر؛ أَي مَالٌ كَثِيرٌ.
وعن ابن الأَعْرَابيّ: أَدْبَرَ، إِذَا انْقَلَبَتْ فَتْلَةُ أُذُنِ النَّاقَةِ إِذا نُحِرَت إِلى ناحِيَة القَفَا، وأَقْبَلَ، إِذا صارتْ هذه الفَتْلَةُ إِلى ناحِيَةِ الوَجْهِ.
ومن المَجاز. شَرُّ الرَّأْي الدَّبَريّ، وهو مُحرّكةً: رَأْيٌ يَسْنَحُ أَخِيرًا عنْد فَوْتِ الحَاجَةِ؛ أَي شَرُّه إِذا أَدْبَر الأَمرُ وفَاتَ. وقيل: الرَّأْيُ الدَّبَرِيّ: الذي يُمْعَنُ النَّظَرُ فيه، وكذلك الجَوِابُ الدَّبَرِيّ.
ومن المَجاز: الدَّبرِيّ: الصّلاةُ في آخِرِ وَقْتِها. قلت: الّذِي وَرَدَ في الحديث: «لا يَأْتِي الصَّلاةَ إِلَّا دَبَرِيًّا».
وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «لا يَأْتِي الصَّلاةَ إِلا دَبْرًا»، يُروَى بالضَّمّ وبالفَتْح. قالوا: يقال: جاءَ فُلانٌ دَبَرِيًّا أَي أَخيرًا، وفُلانُ لا يُصَلِّي [الصلاة] إِلَّا دَبَرِيًّا، بالفَتْح؛ أَي في آخِر وَقْتها. وفي المحكم: أَي أَخيرًا، رَواه أَبو عُبَيدٍ عن الأَصمعيّ. وتُسَكَّنُ الباءُ، رُوِيَ ذلِك عن أَبي الهَيْثَم، وهو مَنْصُوب على الظَّرف. ولا تَقُلْ دُبُرِيًّا، بِضَمَّتَيْن، فإِنَّه مِنْ لَحْنِ المُحَدِّثِين، كما في الصّحاح.
وقال ابنُ الأَثِير: هو منسوبٌ إِلى الدَّبْرِ آخِرِ الشيْءِ، وفَتْح الباءِ من تَغْييرات النَّسب، ونَصْبُه على الحَالِ من فاعلِ يَأْتِي.
وعِبارة المُصَنِّف لا تَخْلو عن قَلاقَةٍ وقَولُ المُحَدِّثين: «دُبُرِيًا»، إِن صَحَّت رِوايَتُه بسَمَاعِهِم من الثِّقات فلا لَحْنَ، وأَمّا مِن حَيْثُ اللُّغَة فصَحِيحٌ، كما عَرَفْت. وفي حَدِيثٍ آخرَ مَرْفُوعٍ أَنه قال: «ثَلاثَةٌ لا يَقْبَل الله لهُم صَلَاةً: رَجُلٌ أَتَى الصَّلاةَ دِبَارًا، ورَجلٌ اعتَبَدَ مُحَرَّرًا، ورَجلٌ أَمَّ قَومًا هم له كارهون»، قال الإِفْرِيقيّ، راوِي هذا الحديثِ: معنى قوله: دِبَارًا؛ أَي بعدَ ما يَفُوت الوَقْتُ.
وفي حديثِ أَبي هُرَيْرَة أَنَّ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِن للمُنافقيِنَ عَلامات يُعْرَفُون بها، تَحِيَّتُهم لَعْنَةٌ وطَعَامُهم نُهْبَةُ، لا يَقْرَبُون المساجدَ إِلَّا هَجْرًا، ولا يَأْتُون الصلاةَ إِلا دَبْرًا، مُسْتَكْبِرِين، لا يَأْلَفون ولَا يُؤْلَفُون، خُشُبٌ باللَّيْل، صُخُب بالنَّهار». قال ابنُ الأَعرابيّ: قوله: «دِبارًا» في الحدِيثِ الأَوّل جمع دَبْرٍ ودَبَرٍ، وهو آخر أَوقاتِ الشَّيْءِ: الصَّلاةِ وغَيْرِهَا.
والدَّابِرُ يقال للمُتَأَخِّرِ والتّابِع، إِمَّا باعْتَبَار المَكَانِ أَو بِاعْتِبَار الزّمَان أَو باعْتِبَار المَرْتَبَة. يقال: دَبَرَه يَدْبُره ويَدْبِره دُبُورًا إِذا اتَّبَعه مِنْ ورائِه وتَلَا دُبُرَه، وجاءَ يَدْبُرهُم؛ أَي يَتْبَعُهم، وهو من ذلك.
والدّابِر: آخِرُ كُلِّ شَيْءٍ، قاله ابن بُزُرْج، وبه فُسِّر قولُهُم: قَطَع الله دابِرَهم؛ أَي آخرَ مَنْ بَقِيَ منهم، وفي الكتاب العَزِيز: {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أَي استُؤصِل آخِرُهم. وقال تَعَالَى في مَوضع آخَرَ {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} وفي حَدِيث الدّعَاءِ: «وابْعَث عَلَيْهم بأْسًا تَقْطَع به دَابِرَهم»؛ أَي جَمِيعَهم حتَّى لا يَبْقَى منهم أَحَدٌ.
وقال الأَصمعيّ وغيره: الأَصْلُ. ومَعْنَى قَوْلهم: قَطَع الله دابِرَه؛ أَي أَذْهَبَ الله أَصْلَه، وأَنشد لوَعْلَةَ:
فِدًى لَكْمَا رِجْلَيّ أُمِّي وخَالَتِي *** غَداةَ الكُلَابِ إِذْ تُحَزُّ الدَّوابِرُ
أَي يُقتَل القَومُ فتَذْهَب أُصُولُهم ولا يَبْقَى لهم أَثَرٌ.
والدَّابِر: سَهْمٌ يَخْرُجُ من الهَدَفِ ويَسْقُط وَرَاءَه، وقد دَبَرَ دُبُورًا.
وفي الأَسَاس: ما بَقِيَ في الكِنَانة إِلا الدَّابِرُ، وهو آخِرُ السِّهَام.
والدَّابِرُ: قِدْحٌ غَيْرُ فَائِز، وهو خِلافُ القَابِل، وصَاحِبُه مُدَابِرٌ. قال صَخْرُ الغَيِّ الهُذَلِيّ يَصِف ماءً وَرَدَه:
فَخَضْخَضْتُ صُفْنِيَ في جَمِّه *** ـ خِيَاضَ المُدَابِرِ قِدْحًا عَطُوفَا
المُدَابِر: المَقْمُور في المَيْسِر. وقيل هو الّذِي قُمِرَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فيُعَاوِدُ ليَقْمُرَ. وقال أَبو عُبيد: المُدابِر: الذي يَضْرِب بالقِداحِ.
والدَّابِر: البِنَاءُ فَوْقَ الحِسْيِ، عن أَبي زَيْد. قال الشَّمَّاخ:
ولمَّا دَعَاهَا مِنْ أَبَاطِحِ وَاسِطٍ *** دَوَابِرُ لم تُضْرَبْ علَيْهَا الجَرَامِزُ
والدَّابِر: رَفْرَفُ البِنَاءِ، عن أَبي زَيْد.
والدَّابِرَةُ، بهاءٍ: آخِرُ الرَّمْلِ، عن الشَّيْبَانِيّ، يقال: نَزَلُوا في دَابِرَةِ الرَّمْلَة، وفي دَوابِرِ الرِّمَال، وهو مَجَاز.
وعن ابن الأَعْرَابِيّ: الدَّابِرَةُ: الهَزِيمَةُ، كالدَّبْرَةِ.
والدّابِرَةُ: المَشْؤُومَةُ، عنه أَيضًا.
ويقال: صَكَّ دَابِرَتَه، هي منْكَ عُرْقُوبُكَ. قال وَعْلَةُ:
إِذ تُحَزُّ الدَّوابرُ...
والدَّابِرَةُ: ضَرْبٌ من الشَّغْزَبِيَّة في الصِّرَاع.
ودابِرةُ الحافِرِ: مُؤَخَّرُه، وقيل: ما حاذَى مَوْضِعَ الرُّسْغِ، كما في الصّحاح، وقيل: هي الَّتي تَلي مُؤَخَّرَ الرُّسْغِ، وجَمْعُهَا الدَّوَابِرُ.
والمَدْبُورُ: المَجْرُوحُ، وقد دُبِرَ ظَهْرُه.
والمَدْبُور: الكَثِيرُ المَالِ يقال: هو ذو دَبْرٍ ودِبْرٍ، كما تقدَّم.
والدَّبَرَانُ مُحَرَّكَةً: نَجْمٌ بَينَ الثُّرَيَّا والجَوْزاءِ، ويقال له التَّابعُ والتُّوَيْبع، وهو مَنْزِلٌ للقَمر سُمِّيَ دَبَرَانًا لأَنَّه يَدْبُر الثُّرَيَّا؛ أَي يَتْبَعُه. وفي المُحْكَم: الدَّبَرَانُ: نجْمٌ يَدْبُر الثُّرَيَّا، لَزِمته الأَلفُ واللامُ لأَنَّهم جَعَلوه الشَّيْءَ بعَينه. وفي الصّحاح: الدَّبَرَانُ: خَمْسَةُ كَوَاكِبَ من الثَّوْرِ يقال: إِنّه سَنَامُه.
ورجُلٌ أُدَابِرٌ، بالضَّمّ: قاطِعٌ رَحِمَه، كأُبَاتِر. ورجل أُدَابِرٌ: لا يَقْبَلُ قولَ أَحَدٍ ولا يَلْوِي على شيْءٍ. وقال ابنُ القَطَّاع: هو الّذِي لا يَقْبَل المَوْعِظَةَ.
قال السِّيرَافِيّ: وحَكى سِيبويهِ أُدابِرًا في الأَسماءِ ولم يُفَسِّره أَحَدٌ، على أَنّه اسمٌ. لكنّه قد قَرَنه بأُحامِرٍ وأُجارِدٍ، وهما مَوْضعانِ، فعَسَى أَن يكون أُدَابِرٌ مَوْضِعًا.
وذَكَر الأَزهَرِيُّ «أُخَايِل»، وهو المُخْتَالُ، وهو أَحَدُ النَّظائر التِّسْعَةِ التي نَبَّهْنا عليها في «جرد» و«بتر».
وفي الصّحاح: الدَّبِيرُ: ما أَدْبَرَتْ به المَرْأَة من غَزْلِها حين تَفْتِلُه، وبه فُسِّرَ: فُلانٌ ما يَعْرِف دَبِيرَه مِن قَبِيلِه.
وقال يَعْقُوب: القبيل: ما أَقْبلتَ به إِلى صَدْرِك. والدَّبِيرُ: مَا أَدْبَرْتَ به عن صَدْرِك. يقال: فُلانٌ ما يَعْرِف قَبِيلًا من دَبِيرٍ. وهو مَجاز.
ويقال: هو مُقَابَلٌ ومُدابَرٌ؛ أَي مَحْضٌ مِنْ أَبَوَيْهِ كَريمُ الطَّرَفَيْن وهو مَجَاز. قال الأَصمَعِيّ: وأَصْلُه من الإِقْبالَةِ والإِدْبَارَةِ، وهو شَقٌّ في الأُذُن ثم يُفْتَلُ ذلك، فإِنْ ـ وفي اللسان: فإِذا ـ أُقْبِلَ بِهِ فَهو إِقْبَالَةٌ، وإِن ـ وفي اللِّسَان: وإِذا ـ أُدْبِرَ به فإِدْبَارَةٌ. والجِلْدَةُ المُعَلَّقَةُ مِن الأُذُنِ هي الإِقبالَةُ: والإِدْبَارَةُ كأَنَّهَا زَنَمَةٌ. والشّاةُ مُقَابَلَةٌ ومُدَابَرَةٌ، وقد دابَرْتُها ـ والذّي في اللسان: وقد أَدْبَرْتُها ـ وقَابَلْتُها.
والّذِي عند المُصَنِّف أَصْوَبُ.
ونَاقَةٌ ذاتُ إِقْبَالَةٍ وإِدبارَةٍ وناقةٌ مُقَابَلَةٌ مُدَابَرَة؛ أَي كَريمةُ الطَّرفَيْنِ من قِبَلِ أَبِيهَا وأُمِّهَا، وفي الحَدِيث: «أَنه نَهَى أَن يُضَحَّى بمُقَابَلَةٍ أَو مُدابَرَة». قال الأَصمعيّ: المُقَابَلَة: أَن يُقْطَع من طَرَف أُذُنِهَا شَيْءٌ ثمّ يُتْرَك مُعَلَّقًا لا يَبِينُ كأنَّه زَنَمةٌ، ويقال لمثل ذلك من الإبل: المزنَّمُ، ويسَمَّى ذلك المُعَلَّقُ: الرَّعْلَ، والمُدَابَرَةُ: أَن يُفْعَلَ ذلِك بمُؤَخَّرِ الأُذُنِ من الشّاةِ. قال الأَصمعيّ: وكذلك إِن بان ذلِك من الأُذُن فهي مُقَابَلَةٌ ومُدَابَرةٌ بعد أَن كان قُطِعَ.
ودُبَارٌ، كغُرَابٍ وكِتَابٍ: يَومُ الأَربعاءِ. وفي كِتَاب العَيْن للخَلِيل بنِ أَحْمَد: ليلَتُه، ورَجَّحَه بَعْضُ الأَئِمَّة، عادِيَّة، من أَسمائهم القديمةِ. وقال كُرَاع: جاهِلِيَّة، وأَنشد:
أُرَجِّى أَن أَعِيشَ وأَنَّ يَومِي *** بِأَوّلَ أَو بأَهْوَنَ أَو جُبَار
أَو التّالي دُبَارِ فإِن أَفُتْه *** فمُؤْنِسٍ أَو عَرُوبَةَ أَو شِيَارِ
أَوَّلٌ: الأَحَد. وشِيَارٌ: السَّسْت. وكلّ منها مَذْكُور في مَوْضِعه. والدِّبَارُ: بالكَسْرِ: المُعَادَاةُ من خَلْفٍ، كالمُدابَرَةِ.
يقال: دَابَرَ فلانٌ فُلانًا مُدَابَرةً ودِبَارًا: عَادَاه وقَاطَعَه وأَعرَضَ عنه.
والدِّبَارُ: السَّواقِي بَيْنَ الزُّرُوعِ، واحدتها دَبْرةٌ، وقد تقدّم. قال بِشْرُ بنُ أَبِي خازِم؛
تَحَدُّرَ ماءِ البِئْر عن جُرَشِيِّها *** على جِرْيةٍ تَعلُو الدِّبَارَ غُرُوبُهَا
وقد يُجْمَع الدِّبَار على دِبَاراتٍ، وتقدّم ذلِك في أَوّل المَادّةِ.
والدِّبَار: الوَقَائِعُ والهَزَائِمُ، جمْعُ دَبْرة. يقال: أَوْقَعَ الله بهم الدِّبَارَ، وقد تقدّم أَيضًا.
وقال الأَصمعيّ: الدَّبَارُ بالفَتْحِ: الهَلَاكُ، مثل الدَّمَار.
وزادَ المصنِّف في البَصائر: الّذِي يَقْطَع دابِرَهم. ودَبَرَ القَوْمُ يَدْبُرُون دبَارًا: هَلَكُوا، ويقال: عَلَيْهِ الدَّبارُ إِذا دَعَوْا عَلَيْه بأَن يَدْبُرَ فلا يَرْجع، ومثله: عَلَيْه العَفَاءُ؛ أَي الدَّرُوسُ والهَلاكُ.
والتَّدْبِيرُ: النَّظَرُ في عاقِبَةِ الأَمْر؛ أَي إِلى ما يَؤُول إِليه عاقِبَتُه، كالتَّدَبُّر. وقيل: التَّدَبُّر التَّفكُّر أَي تَحْصِيل المَعْرِفَتَيْنِ لتَحْصِيل مَعْرِفةٍ ثالثة، ويقال عَرَف الأَمرَ تَدَبُّرًا؛ أَي بأَخَرَةٍ.
قال جَرِير:
ولا تَتَّقُون الشَّرَّ حتَّى يُصِيبَكُمْ *** ولا تَعْرِفون الأَمرَ إِلَّا تَدَبُّرَا
وقال أَكثَمُ بنُ صَيْفِيّ لبَنِيه: يا بَنِيَّ، لا تَتَدَبَّروا أَعْجازَ أُمُورٍ قد وَلَّتْ صُدُورُها.
والتَّدْبِير: عِتْقُ العَبْدِ عَنْ دُبُرٍ، هو أَن يَقُول له: أَنت حُرٌّ بعد مَوْتِي، وهو مُدَبَّر. ودَبَّرْتُ العَبْدَ، إِذا عَلَّقْتَ عِتْقَه بمَوْتِك.
والتَّدْبِير: رِوَايَةُ الحَدِيثِ ونَقْلُه عن غَيْرِك، هكذا رواه أَصْحَابُ أَبِي عُبَيْد عَنْه، وقد تَقَدَّم ذلك.
وتَدَابَرُوا: تَعَادَوْا وتَقاطَعُوا. وقِيلَ: لا يَكُون ذلِك إِلّا في بَنِي الأَبِ. وفي الحديث: «لا تَدَابَرُوا ولا تَقاطَعُوا».
قال أَبو عُبَيْد: التَّدَابُر: المُصَارَمَة والهِجْرَانُ. مأْخُوذٌ من أَن يُوَلِّيَ الرجلُ صاحبَه دُبُرَه وقَفَاه، ويُعرِضَ عنه بوَجْهه ويَهْجُرَه، وأَنشد:
أَأَوْصَى أَبُو قَيْسٍ بأَنْ تَتَواصَلُوا *** وأَوْصَى أَبُوكُم ويْحَكُمْ أَن تَدَابَرُوا
وقيل في معنَى الحَدِيث: لا يَذْكُرْ أَحَدُكم صاحِبَه من خَلْفِه.
واسْتَدْبَرَ: ضِدُّ استَقْبَلَ، يقال استَدْبَرَه فَرَمَاه؛ أَي أَتَاه من وَرائِه. واستدبَرَ الأَمْرَ: رَأَى في عاقِبَتِه ما لَمْ يَرَ في صَدْرِهِ.
ويقال: إِن فُلانًا لو استَقْبَلَ من أَمْرِه ما استَدْبَره لَهُدِيَ لِوِجْهَةِ أَمْرِه. أَي لو عَلِمَ في بَدْءِ أَمْرِه ما علِمَه في آخِرِه لاسْتَرْشَدَ لأَمْره.
واستَدْبَرَ: استَأْثَرَ، وأَنشد أَبو عُبَيْدةَ للأَعْشَى يَصِف الخَمْر:
تَمَزَّزْتُهَا غَيْرَ مُسْتَدْبِرٍ *** علَى الشَّرْبِ أَو مُنْكِرٍ ما عُلِمْ
قال: أَي غير مُستَأْثِر، وإِنما قيلَ للمُسْتَأْثِر مُسْتَدبِر، لأَنَّه إِذا استأْثَر بشُرْبها استَدْبَر عنهم ولم يَسْتَقْبِلهم، لأَنَّه يَشرَبُها دُونَهُم ويُوَلِّي عنهم.
وفي الكِتَابِ العَزِيز: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَي أَلم يَتَفَهَّموا ما خُوطِبُوا به في القُرآن وكذلك قَوْلُه تَعالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} أَي أَفَلَا يَتَفَكَّرُون فيَعتبِروا، فالتَّدبُّر هو التَّفَكُّر والتَّفَهُّم. وقوله تَعَالى {فَالْمُدَبِّراتِ أَمْرًا}، يَعنِي ملائِكَةً مُوَكَّلَةً بتَدْبِير أُمورٍ.
ودُبَيْر كزُبَيْر: أَبو قَبِيلَة من أَسَدٍ وهو دُبَيْر بنُ مالِك بْنِ عَمْرو بنِ قُعَيْن بن الحارِث بن ثَعْلَبَة بنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ، واسمه كَعْب، وإِليه يَرْجِع كُلُّ دُبَيْريّ، وفيهم كَثْرةٌ.
ودُبَيْر: اسْمُ حِمَارٍ. ودُبَيْرَةُ، بِهاءٍ: قرية، بالبَحْرَين، لبَنِي عَبْدِ القَيْس. وذَاتُ الدَّبْر، بفتح فسكون: ثَنِيَّةٌ لِهُذَيْل، قال ابنُ الأَعْرَابِيّ، وقد صَحَّفه الأَصْمَعِيّ فقال: ذات الدَّيْر. قال أَبو ذُؤَيب:
بأَسْفلِ ذاتِ الدَّبْرِ أُفرِدَ خِشْفها *** وقد طُرِدَت يَوْمَيْنِ فهْيَ خَلُوجُ
ودَبْرٌ، بفتح فسكون: جَبَلٌ بَينَ تَيْمَاءَ وجَبَلَيّ طَيِّيء.
ودَبِيرٌ كأَمِيرٍ: قرية بنَيْسَابُورَ، على فَرْسَخ، مِنَها أَبو عبد الله محمَّدُ بنُ عبدِ الله بنِ يُوسفَ بن خُرْشِيد الدَّبِيْرِيّ، ويقال الدَّوِيرِيّ أَيضًا، وذكره المُصنّف في دار، وسيأْتي، وهنا ذَكَره السَّمْعَانيّ وغيره، رَحَل إِلى بَلْخَ ومَرْو، وكتَبَ عن جماعةٍ، وستأْتي ترجمته.
ودَبِير: جَدُّ مُحمَّدِ بنِ سُليمانَ القَطَّانِ المحدِّثِ البَصْرِيّ، عن عَبدِ الرَّحمن بنِ يُونس السَّرّاج، تُوفِّيَ بعد الثلاثمائة، وكان ضَعِيفًا في الحديث.
ودبِيرَا: قرية بالعِراقِ من سَوادِه، نقله الصَّاغانِيّ.
ودَبَرُ كجَبَل: قرية باليَمَنِ من قُرَى صَنْعَاءَ، منها أَبو يَعْقُوب إِسحاقُ بنُ إِبراهِيمَ بن عبَّادٍ المحدِّثُ راويِ كُتُب عبد الرزّاق بن هَمَّام، روى عنه أَبو عَوانَةَ الأَسْفَرَاينيّ الحافظ، وأَبو القَاسم الطَّبَرانيّ، وخَيْثَمَة بنُ سَلْمَان الأَطْرابُلُسيّ وغَيْرُهم.
والأَدْبَرُ: لَقَبُ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ الكِنْدِيّ، نُبِزَ به لأَن السِّلاح أَدْبَرَت ظَهَرْه. وقيلَ: لأَنّه طُعِنَ مُوَلِّيًا، قالَه أَبو عَمْرو.
وقال غيرُه: الأَدْبَرُ: لَقَبُ أَبِيه عَدِيٍّ، وقد تقدّم الاخْتِلاف في «ح الجمع: ر» فراجِعْه.
والأَدْبَر أَيضًا: لَقَبُ جَبَلَةَ بن قَيْسٍ الكِنْدِيّ، قِيل إِنه؛ أَي هذا الأَخير صَحَابيّ، ويقال هو جَبَلَةُ بنُ أَبي كَرِبِ بنِ قَيْسٍ، له وِفَادَةٌ، قاله أَبو موسَى.
قُلْت: وهو جَدُّ هانِيءِ بْنِ عَدِيِّ بن الأَدْبر.
ودُبَيْرٌ، كزُبَيْر: لَقَبُ كَعْبِ بن عَمْرِو بن قُعَيْن بن الحَارث بن ثَعْلَبَةَ بن دُودَانَ بن أَسَد الأَسَدِيِّ لأَنه دُبِرَ من حَمْل السِّلاح. وقال أَحمدُ بنُ الحباب الحِمْيَريّ النَّسّابة: حَمَلَ شيئًا فَدبَرَ ظَهْرَه.
وفي الروض أَنه تَصْغِير أَدبَر، على التَّرْخِيم، ولا يَخْفَى أَنه بعَيْنه الذي تقدَّم ذِكْرُه، وأَنه أَبو قَبِيلَةٍ من أَسد، فلو صَرَّحَ بذلِك كان أَحسنَ، كما هو ظاهرٌ.
والأُدَيْبِرُ، مُصَغَّرًا: دُوَيْبَة، وقيل: ضَرْبٌ مِنَ الحَيَّاتِ.
ويقال: لَيْسَ هُوَ من شَرْجِ فُلان ولا دَبُّورِهِ، كتَنَّورِه أَي من ضَرْبِه وزِيِّهِ وشَكْلِه.
ودَبُّورِيَةُ: د، قُربَ طَبَرِيَّةَ. وفي التَّكْمِلَة: من قُرَى طَبَرِيَّةَ، وهي بتَخْفِيف الياءِ التحتيّة.
* ومما يُسْتَدْرك عليه:
دَابِرُ القَوْمِ: آخِرُ مَنْ يَبْقَى منهم ويَجِيءُ في آخِرِهم، كالدَّابِرَة. وفي الحديث: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ خَلَفَ غازِيًا في دابِرَتِه» أَي مَنْ يَبْقَى بعدَه.
وعَقِبُ الرَّجُلِ: دابِرُه.
ودَبَرَه: بَقِيَ بَعْدَه.
ودابِرةُ الطّائر: الإِصْبَعُ الَّتي من وَراءِ رِجْله، وبها يَضرِب البازِي. يقال: ضَرَبَه الجارِحُ بدَابِرَتِه، والجوارِحُ بدَوابِرِها. والدّابِرة للدِّيك: أَسْفلُ من الصِّيصِيَة يَطَأُ بها.
وجاءَ دَبَرِيًّا؛ أَي أَخيرًا. والعِلْم قَبْلِيٌّ وليس بالدَّبَرِيّ.
قال أَبو العَبَّاس: معناه أَنّ العالم المُتْقِنَ يُجِيبُك سَرِيعًا، والمُتَخَلِّف يقول: لي فيها نَظَرٌ. وتَبِعْتُ صاحِبي دَبَرِيًّا، إِذَا كنتَ معه فتَخَلَّفْت عنه ثم تَبِعْتَه وأَنتَ تَحْذَر أَن يَفُوتَك، كذا في المحكم.
والمُدْبَرَة، بالفَتْح: الإِدْبَار. أَنشد ثَعْلبٌ:
هذا يُصَادِيك إِقبَالًا بمَدْبَرَةٍ *** وذَا يُنَادِيك إِدْبَارًا بإِدْبارِ
وأَمْسِ الدَّابِرُ: الذّاهِبُ الماضِي لا يَرْجِع أَبدًا.
وقالوا: مَضَى فلان أَمْسِ الدّابِرُ وأَمْسِ المُدْبِرُ، وهذا من التَّطوّع المُشَام للتَّوكيد، لأَن اليوم إِذا قيل فيه أَمْسِ فمعلوم أَنَّه دَبَرَ، لكنه أَكَّده بقوله: الدَّابِر. قال الشاعر:
وأَبِي الَّذِي تَرَكَ المُلُوكَ وجَمْعَهمْ *** بصُهَابَ هامِدَةً كأَمْسِ الدّابِرِ
وقال ضَخْرُ بنُ عَمْرِو بنِ الشَّرِيد السُّلَمِيّ:
ولقدْ قَتَلْتكُمُ ثُنَاءَ ومَوْحَدًا *** وتَرَكْتُ مُرَّةَ مِثْلَ أَمِس المُدْبِرِ
ورجل خاسِرٌ دَابِرٌ، إِتْبَاعٌ. ويقال: خاسِرٌ دامِرٌ، على البَدَل وإِن لم يَلْزم أَن يكون بَدَلًا، وسيأْتِي.
وقال الأَصمَعِيّ: المُدابِرُ: المُوَلِّي المُعْرِض عن صاحِبِه.
ويقال: قَبَحَ الله ما قَبَلَ منه وما دَبَرَ.
والدّلْوُ بَينَ قابِلٍ ودابِرٍ: بين مَنْ يُقْبِل بها إِلى البِئْر ومَنْ يُدْبِر بها إِلى الحَوْض.
وما لَهُم من مُقْبَلٍ ولا مُدْبَرٍ؛ أَي من يَذْهَب في إِقبال ولا إِدبار.
وأَمْرُ فُلانٍ إِلى إِقبالٍ وإِلى إِدبارٍ.
وعنِ ابْنِ الأَعرابيّ: دَبَرَ: رَدَّ ودَبَرَ: تأَخَّر.
وقالوا: إِذَا رأَيتَ الثُّريَّا يُدْبِر فشَهْرُ نَتَاجٍ وشَهْرُ مَطَرٍ.
وفلان مُسْتَدْبَرُ المَجْدِ مُسْتَقْبَلٌ؛ أَي كَريم أَوّل مَجْدِهِ وآخِره، وهو مَجاز.
ودَابَر رَحِمَه: قَطَعها.
والمُدابَرُ من المَنازِل خِلافُ المُقَابَلِ.
وأَدْبَرَ القَوْمُ، إِذا وَلَّى أَمرُهُم إِلى آخِرِه، فلم يَبْقَ منهم باقِيَةٌ.
ومن المَجَاز: جَعَله دَبْرَ أُذُنِه إِذا أُعْرضَ عنه. ووَلَّى دُبُرَه: انهزمَ. وكانت الدَّبْرةُ له: انْهزَم قِرْنُه، وعليه: انهزمَ هو. وَوَلّوا دُبُرَهم مُنْهَزِمين. ودَبَرَتْ له الرِّيحُ بعد ما قَبَلَتْ، ودَبَر بعد إِقبال. وتقول: عَصَفَت دَبُورُه، وسَقَطت عَبُورُه، وكلّ ذلك مَجَازٌ.
وكَفْر دَبُّور، كتَنّور: قَرية بمصر.
والدَّيْبور: موضع في شعر أَبي عباد، ذكره البَكْرِيّ.
ودَبْرَةُ، بفتح فسكون: ناحيةٌ شاميّة.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
63-تاج العروس (دمر)
[دمر]: الدُّمُورُ، بالضّم، والدِّمَارُ والدَّمَارَةُ، بفتحهما: الإِهلاكُ. يقال: دَمَرَهم الله دُمُورًا؛ أَي أَهْلَكَهُم والدَّمَارُ والدَّمَارةُ: اسْتِئصالُ الهَلاكِ. دَمَرَ القَوْمُ يَدْمُرُونَ دَمَارًا: هَلَكُوا. كالتَّدْمِيرِ. يقال: دَمَرَهم الله ودَمَّرهم. وفي الكِتَاب العَزيز: فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيرًا يعني به فِرْعَوْنَ وقَومَه الذين مُسِخُوا قِرَدَةً وخَنَازِيرَ. ودَمَّر عليهم، كذلك. وفي حديث ابن عُمَر: «قد جاءَ السَّيْلُ بالبَطْحَاءِ حَتّى دَمَّرَ المكانَ الذي كان يُصَلِّي فيه» أَي أَهلَكَه. هكذا جاء هذَا البابُ مُتَعدِّيًا بنفسه وبالتَّضْعِيف ولازِمًا، كما في المحكم وغَيْره.وقال شيخنا: فيه تَفْسِير اللّازم بالمُتَعَدِّي ولا دَاعِيَ له، والمصادِرُ الثّلاثَة كلّها من اللَّازم، فالأَوْلَى أَن يَقُول: الدَّمَارُ: الهَلَاكُ، كما قاله غَيْره، ثم قال: وأَشدُّ منه في الإِيهام والوُقوعِ في الأَوهامِ بعد قوله كالتَّدْمِير، فهو صَرِيح في أَن دَمَرَ الثُّلاثِيّ يكون مُتَعدِّيًا ولا قائِلَ به. بل دَمَرَ كنَصَر: هَلَكَ. ودَمَّرَه تَدْمِيرًا: أَهْلَكَه، كما في الصحاح والمصباح وغيرهما، انتهى.
وأَنت خَبِير بأَنَّ المُصَنِّفَ تابِعٌ لابْنِ سِيدَه في إِيرَادِ عِبَارَته غَالِبًا، وهو قد صَرَّحَ بأَنَّ دَمَرَ الثلاثيّ يأْتِي مُتَعدِّيًا بنَفْسه ولازِمًا. ومن مصادره الدُّمُور والدَّمارُ. والدَّمارة من مصادر دمر اللّازم، فلا يتَوَجَّه المَلَامُ للمُصنِّف إِلَّا من حيثُ إِنه خَلَطَ المصادرَ ولم يُصَرِّح بما هو المَشْهُور في الباب، وهو كَوْنُه لازمًا، وإِلّا فتَفْسِيرُه بالإِهلاك في محَلِّه، كما نقلْناه، فتَأَمَّلْ.
وفي الأَساس؛ التَّدْمِير: الإِهلاكُ المُسْتَأْصِلُ.
ودَمَرَ عليهم دُمُورًا، بالضّمّ، ودَمْرًا، بفتح فسُكون: دَخَل عليهم بغَيْر إِذْنِ، وقيل: هَجَمَ هُجُومَ الشَّرِّ، وهو نحْو ذلك، ومنهالحديث: «مَنْ نَظَرَ من صِيرِ بابٍ فقدْ دَمَرَ» قال أَبو عُبَيْد وغَيْرُه: أَي دَخَلَ بغيرِ إِذْنٍ، ومثلُه دَمَقَ دُمُوقًا ودَمْقًا. وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ سَبَقَ طَرْفُه استِئْذانَه فقد دَمَرَ»؛ أَي هَجَمَ ودَخَلَ بغير إِذْن، وهو من الدَّمَار: الهَلاكِ، لأَنه هُجومٌ بما يُكرَه. وفي رِوَايَة: «من اطَّلَعَ في بَيْتِ قومٍ بغيرِ إِذْنِهم فقد دَمَرَ». والمعنَى: إِن إِساءَة المُطَّلِع مِثْلُ إِساءَةِ الدَّامِر. ومن سجعات الأَساس: إِذا دخَلْتَ الدُّورَ، فإِيَّاك والدُّمُورَ.
وتَدْمُرُ، كتَنْصُر: بنْتُ حَسّانَ بنِ أُذَيْنَةَ، بها سُمِّيتْ مَدِينَتُها بالشَّام. قال النّابِغَة:
وخَيِّسِ الجِنَّ إِنّي قد أَذِنْتُ لهم *** يَبْنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ والعَمَدِ
والتَّدْمُرِيُّ، بفتح الأَوّل وضمّ الثّالِث: فَرسٌ لبَنِي ثَعْلَبَةَ ابنِ سَعْد بنِ ذُبْيانَ، نقله الصَّاغانيّ تَشْبِيهًا لها بجِنْسٍ من اليَرابِيع يقال له التَّدْمُرِيّ، كما نُبَيِّنه.
وفي المحكم: التَّدْمُرِيُّ: اللَّئِيمُ من الرِّجَال.
ويقال: مَا بِه ـ ونقل الفَرَّاءُ عن الدُبَيْرِيّة: ما في الدّار ـ تَدْمُرِيٌّ، ويُضَمُّ أَوَّلُه، وكذلِك دَامِرِيّ، كما في الأَساس أَي أَحَدٌ. وكذلك لا عَيْنٌ ولا تامُورِيّ ولا دُبِّيّ وقد تَقَدَّم شيءٌ من ذلك.
ويُقَالُ لِلجَمِيلَةِ: ما رأَيتُ تَدْمُرِيًّا أَحْسَنَ منها؛ أَي أَحدًا.
وأُذُنٌ تَدْمُرِيَّةٌ: صَغِيرَةٌ، على التَّشْبِيه.
والدَّمْرَاءُ: الشَّاةُ القَلِيلةُ اللَّبَنِ. وهي أَيضًا القَصِيرَةُ الخِلْقَةِ.
والدَّمْرَاءُ: الهَجُومُ من النّسَاءِ وغَيْرِهنّ من غير إِذْنٍ.
ودُمَّرُ، كسُكَّر: عَقَبَةٌ بدِمَشْقَ مُشْرِفةٌ على غُوطَتِها.
ومن المَجَاز: يقال للصَّائد المَاهِر هو مُدَمِّر، وتَدْميرُ الصائِدِ: أَن يُدَخِّنَ قُتْرَتَه بالوَبَرِ لِئَلّا يَجِدَ الوَحْشُ رِيحَهُ، لأَنَّه يَهْجُم عليه بغَيْر إِذْنٍ ولا يُحَسُّ به.
ومن المَجَاز: دَامَرْتُ اللَّيْلَ كلَّه؛ أَي كابَدْتُهُ وسَهِرْتُه.
وفي الأَسَاس: قَضيْتُه بالسَّهَر.
ويقال: إِنه لَدَيْمُرِيُّ؛ أَي حَدِيدٌ عَلِقٌ، ككَتِف.
ودَمِيرَةُ، كسَفِينَةٍ: قَرْيَتَانِ بمصر، بالسَّمَنُّودِيَّةِ القِبْلِيَّة والبَحرِيّة، وقد يُضَاف إِليهما بَعضُ الكُفُورِ فيطلَق على الكُلِّ الدَّمَائر.
من إِحْدَاهُمَا أَبُو أَيُّوبَ عبدُ الوهَّابِ بنُ خَلَف بنِ عُمَرَ بنِ يَزِيدَ بن خَلفٍ الدَّمِيريّ، تُوفِّي بها بعد سنة 270 قاله ابنُ يُونس. وعبدُ الباقي بنُ الحَسَنِ الدَّميريّ، محدِّثانِ.
قلْت: ومِمّن نَزَل الدَّميرَة وانْتَسَب إِليها أَبو غَسّانَ مالِكُ بنُ يَحْيَى بنِ مالِكِ بن كبر بن راشدِ الهَمْدَانِيّ، انتقل من الكوفة إِلى الدَّمِيرة وسَكَن بها، وكان يَقْدمُ فُسْطَاطَ مصر أَحيانًا فيحدِّث بها، تُوفِّيَ سنة 274، وأَبو الحسن عليُّ بنُ الحَسَن بنِ عَلِيّ بنِ المُثَنَّى بن زِيادٍ الدَّمِيرِيّ، بَغْدَادِيّ، قَدِم مصرَ وتُوفِّيَ بدَمِيرةَ سنة 259. وأَحمدُ بنُ إِسحاق الدَّمِيريّ المِصريّ، رَوَى عنه الطَّبَرَانيّ في المُعْجم. ومن المُتَأَخِّرين من أَهْل الدَّمِيرةِ: الكَمَالُ الدَّمِيرِيّ صاحِبُ حَيَاةِ الحَيَوان، وترجمته مَعْلُومة، وعَبْدُ الرّحِيم بنُ عبد المُنْعم بن خَلَف الدَّمِيريّ، مِمّن رَوَى عنه أَبو الحرم القَلَانسيّ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
رجلٌ دامرٌ: هالِكٌ لا خَيْرَ فِيه. يقال: رَجُلٌ خَاسِرٌ دَامِرٌ، عن يَعْقُوبَ، كدَابِرٍ، وحَكَى اللِّحْيَانيّ أَنَّه على البَدَل، وقال: خَسِرٌ ودَبِرٌ ودَمِرٌ، فأَتْبَعُوهما خَسِرًا، قال ابنُ سِيدَه: وعندي أَنَّ خَسِرًا على فِعْلِه، ودَمِرًا ودَبِرًا على النَّسَب، وما رأَيتُ من خَسَارَتِه ودَمارَته ودَبَارَته.
والدُّمَارِيّ، بالضَّم، والتَّدْمُرِيّ بالفَتْح ويُضَمّ: من اليَرابيعِ: اللّئيمُ الخِلْقةِ، المَكْسورُ البَراثِنِ، الصُّلْبُ اللَّحْمِ. وقيل: هو المَاعِزُ منها، وفيه قِصَرٌ وصِغَرٌ، ولا أَظفارَ في ساقَيْه، ولا يُدْرَك سَرِيعًا، وهو أَصغَرُ من الشُّفَارِيّ، قال:
وإِنّي لأَصْطادُ اليَرابِيعَ كُلَّها *** شُفَارِيَّهَا والتَّدْمُرِيَّ المُقَصِّعَا
قال: وأَمَّا ضَأْنُها فهو شُفَارِيُّها وعَلامةُ الضَّأْن فيها أَنّ له في وَسطِ ساقِه ظُفرًا في مَوْضِعِ صِيصِيَةِ الدِّيك.
والتَّدْمُرِيَّة من الكِلاب: التي ليست بسَلُوقِيَّةٍ ولا كُدْرِيَّة. وتُدْمِير: بلدٌ بالأَندلس، سكنها أَهلُ تُدْمِيرِ مصرَ، فسُمِّيَت بهم، كغَيرِها من أَكثرِ بلادِ الأَندلس.
ودمرو الخَمَّارة: قرية بمصر بالغَرْبِيَّة.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
64-تاج العروس (ضبر)
[ضبر]: ضَبَرَ الفَرَسُ، وكذلك المُقَيَّدُ في عَدْوِه يَضْبِر، بالكَسْر، ضَبْرًا، بالفَتْح، وضَبَرَانًا، محرّكةً، إِذا عَدَا، وفي المحكم: جَمَعَ قَوَائِمَهُ وَوَثَبَ.وقال الأَصمعيّ: إِذَا وَثَبَ الفَرَسُ فوَقَعَ مَجْموعَةً يَدَاهُ، فذلِك الضَّبْرُ، قال العَجّاجُ يَمدح عُمَر بنَ عُبَيْدِ الله بنِ مَعْمَرٍ القُرَشِيّ:
لَقَدْ سَمَا ابنُ مَعْمَرٍ حينَ اعْتَمَرْ *** مَغْزًى بَعِيدًا مِن بَعِيدٍ وضَبَرْ
يقول: ارْتَفَع قَدْرُه حين غَزَا مَوضِعًا بَعيدًا من الشام، وجَمعَ لذلك جَيْشًا.
وفي حديث سعْدِ بنِ أَبي وَقّاص: «الضَّبْرُ ضَبْرُ البَلْقَاءِ، والطَّعْنُ طَعْنُ أَبي مِحْجَن»، البَلْقَاءُ: فَرَسُ سَعْد، وكان أَبو مِحْجَن قد حَبَسَه سَعْدٌ في شُرْبِ الخَمْرِ، وهم في قِتَالِ الفُرْسِ، فلمّا كان يوم القادِسيّة رأَى أَبو مِحْجَن الثَّقَفِيُّ من الفُرْسِ قُوَّةً، فقال لامرأَةِ سَعْد: أَطْلِقِينِي ولك اللهُ عَلَيَّ [إِن سلَّمني اللهُ] أَنْ أَرجِعَ حتّى أَضَعَ رِجْلي في القَيدِ، فحَلَّتْه، فرَكِبَ فَرسًا لسعْدٍ يقال لها: البَلْقَاءُ، فجعلَ لا يَحْمِل على ناحية من العَدُوِّ إِلّا هَزَمَهُم، ثم رَجعَ حتّى وَضعَ رِجْلَه في القَيْدِ، ووَفَى لها بذِمَّتِه. فلمّا رَجَعَ [سعدٌ] أَخبَرَتْهُ بما كانَ مِن أَمرِه، فخَلَّى سَبِيلَه.
وضَبَرَ الكُتُبَ يَضْبِرُهَا ضَبْرًا، بالفَتْح: جَعَلَها إِضْبَارَةً؛ أَي حُزْمَةً، كما سيأْتي.
وضَبَرَ الصَّخْرَ يَضْبِرُه ضَبْرًا: نَضَّدَه، قال الراجِزُ يَصف ناقَةً:
تَرَى شُئُونَ رَأْسِهَا العَوارِدَا *** مَضْبُورَةً إِلى شَبًا حَدَائِدَا
ضَبْرَ بَراطِيلَ إِلى جَلامِدَا
هَكَذَا أَنشدَه الجَوهريّ، قال الصَّاغانيّ: والصَّوَابُ يَصِف جَمَلًا، وهذا موضع المَثَلِ «اسْتَنْوَق الجَمَلُ» والرَّجَز لأَبي محمّد الفَقْعَسِيّ، والرواية: «شُئُونَ رَأْسِه».
وفَرَسٌ ضِبِرٌّ، كطِمِرٍّ: وَثّابٌ، وكذلك الرجلُ.
والتَّضْبِيرُ: الجَمْعُ، يقال: ضَبَّرْتُ الكُتُبَ وغَيْرَها تَضْبِيرًا: جَمَعْتُهَا.
والضَّبْرُ، والتَّضْبِيرُ: شِدَّةُ تَلْزِيزِ العِظَامِ، واكتِنَازُ اللَّحْمِ، يقال: جَمَلٌ مَضْبُورٌ؛ أَي مُجْتَمِعُ الخَلْقِ أَملسُ، قاله اللَّيث. ومُضِّرٌ كمُعْظْمٍ، وفَرَسٌ مُضَبَّرُ الخَلْقِ؛ أَي مُوَثَّقُه، وناقَةٌ مُضَبَّرَةُ الخَلْقِ.
ورَجُلٌ ذُو ضَبَارَةٍ في خَلْقِه، كسَحَابَةٍ: مُجْتَمِعُ الخَلْقَ، وقيل: وَثِيقُ الخَلْقِ، ومنه سُمِّيَ الرَّجلُ ضُبَارَةَ، وكذا أَسَدٌ ضُبَارِمٌ وضُبَارِمَةٌ منه، بضَمِّهما، فُعَالِمٌ عند الخليلِ، وقد أَعادَه المصنّف في الميم من غير تَنْبِيهٍ عليه.
والإِضْبارَةُ بالكَسْرِ والفَتْحِ، الحُزْمَةُ من الصُّحُفِ، كالإِضْمَامَة، الجمع: أَضابِيرُ، قال ابنُ السِّكّيتِ: يقال: جاءَ فلانٌ بإِضْبَارةٍ من كُتُب وإِضْمامَة من كُتُب، وهي الأَضابِيرُ والأَضامِيمُ.
وقال اللَّيْثُ: إِضْبارَةٌ من صُحُفٍ أَو سِهَام؛ أَي حُزْمَة.
والضُّبارُ، ككِتَاب وغُرَابٍ: الكُتُبُ، بلا واحِدٍ، قال ذُو الرُّمَّة:
أَقُولُ لنَفْسِي وَاقِفًا عِنْدَ مُشْرِفٍ *** عَلَى عَرَصَات كالضُّبَارِ النّواطِقِ
والضَّبْرُ، بالفَتْح: الجَمَاعَةُ يَغْزُونَ على أَرْجُلِهم، يقال: خَرَجَ ضَبْرٌ من بني فُلان، ومنه قول ساعِدَةَ الهُذَلِيّ:
بَيْنَا هُمُ يَومًا كذلك راعَهُمْ *** ضَبْرٌ لِبَاسُهُم القَتِيرُ مُؤَلَّبُ
أَرادَ بالقَتِير: الدُّرُوعَ، مُؤَلّب: مُجَمَّع.
والضَّبْرُ أَيضًا: جِلْدُ يُغَشَّى خَشَبًا فيها رِجالٌ تُقَرَّبُ إِلى الحُصُونِ للقِتَالِ؛ أَي لِقِتَالِ أَهلِهَا، الجمع: ضُبُورٌ.
وقال الزمخشَريّ واللَّيْثُ: الضُّبُورُ هي الدّبّابَاتُ التي تُقَرَّبُ للحُصُون لتُنْقَبَ من تحتها، الواحد ضَبْرَةٌ.
والضَّبْرُ: شَجَرُ جَوْزِ البَرِّ، يكون بالسَّرَاة في جِبَالها، يُنَوِّر ولا يَعْقِد، كالضَّبِرِ، ككَتِف لغة، في الضَّبْرِ، نقلها أَبو حنيفةَ، وكذلك رَواه آخرونَ عن الأَصمعيّ، والواحد ضَبِرَة، قال ابنُ سِيده: ولا يمتنع ضَبْرَة غير أَنّي لم أَسْمَعْه.
وفي حديثِ الزُّهْرِيّ: «أَنه ذَكَرَ بنِي إِسرائيل، فقال: جعلَ الله عِنَبَهُم الأَرَاكَ، وجَوْزَهم الضَّبْرَ، ورُمّانَهُم المَظَّ».
قال الجَوْهَرِيُّ: وهو جَوْزٌ صُلْبٌ، قال: وليس هو الرُّمّانَ البَرِّيَّ؛ لأَنَّ ذلك يُسَمَّى المَظَّ.
وقال ابنُ الأَعرابيّ: الضَّبْرُ، بالفَتْح: الذي يُسمَّيه أَهْلُ الحَضَرِ جَوْزَبُويَا، وبعضُهُم جَوْزُبَوَّا.
وقال ابنُ الفَرَجِ: الضِّبْرُ، بالكَسْر: الإِبْطُ، وكذلك الضِّبْن، قال جَنْدَل:
ولا يَؤُوبُ مُضْمَرًا في ضِبْرِي *** زَادِي وقد شَوَّلَ زادُ السَّفْرِ
أَي لا أَخْبَأُ طَعَامِي في السَّفَر فأَؤُوب به إِلى بَيْتي، وقد نَفِدَ زَادُ أَصحابِي، ولكنّي أُطْعِمُهم إِيّاه، ومعْنَى شَوَّل: خَفَّ.
والضُّبَّارُ، كرُمّانِ: شَجَرٌ يُشْبِهُ شَجَرَ البَلُّوطِ، وحَطَبُه جَيِّدٌ مثْلُ حَطَب المَظِّ، قال أَبو حنيفَة: فإِذا جُمِع حَطَبُه رَطْبًا، ثم أُشْعِلَت فيه النّار فَرْقَعَ فَرْقَعَةَ المَخَارِيقِ، ويُفْعَل ذلك بقُرْب الغِيَاض التي فيها الأُسْد، فتهرب، الواحِدَةُ ضُبّارَة، بهاءٍ.
وضُبَيْرَةُ، كجُهَيْنَة: امْرَأَةٌ، قال الأَخْطَلُ:
بَكْرِيّةٌ لمْ تَكُنْ دارِي لَهَا أَمَمًا *** ولَا ضُبَيْرَةُ مِمَّن تَيَّمَتْ صَدَدُ
وضَبَّارٌ، ككَتَّانٍ: اسم كَلْب، قال الحارِثُ بنُ الخَزْرَج الخَفَاجِيّ:
سَفَرَتْ فقُلْتُ لَهَا هَجٍ فتَبَرْقَعَتْ *** فذَكَرْتُ حين تَبَرْقَعَتْ ضَبّارَا
وتَزيَّنَتْ لتَرُوعَنِي بجَمَالِها *** فكأَنَّمَا كُسِيَ الحِمَارُ خِمَارَا
فخَرَجْتُ أَعْثُرُ في قَوَادِمِ جُبَّتِي *** لَوْلَا الحَيَاءُ أَطَرْتُها إِحْضارَا
قال الصّاغانيّ: وقال أَبو عُبَيْدِ الله محمّدُ بنُ عِمْرَانَ بنِ مُوسَى المَرْزُبَانِيّ: هو للخَزْرَجِ بنِ عَوْفِ بن جَمِيلِ بنِ مُعَاوِيَةَ بنِ مالِك بن خَفَاجَةَ، قال: وفي الكتاب المنسوبِ إِلى الخَلِيل عَقَّار: اسمُ كَلْب ذَكَرَه مالكُ بنُ الرَّيْب حين رأَى الغُول، وأَنشد البيتَ، ولم أَجِدْه في شعر مالك، وذَكَرَه الجَوْهَرِيّ في فَصْلِ الهاءِ من بابَيِ الجيم والرَّاءِ على أَنَّه هَبّار، فقال [في باب الراءِ] الهَوْبَرُ: القِرْدُ الكثيرُ الشَّعْرِ، وكذلك الهَبَّارُ، وأَنشد البيت، فعِنْده هو هَبّار، بالهَاءِ، ومَعْنَاه القِرْد، وكذا ذَكَرَه ثعلبٌ في ياقوتته، إِلّا أَنه قال: هَبّارٌ اسم كَلْبٍ، والصَّوَاب ضَبّارٌ بالضاد.
والضَّبُورُ، كصَبُورٍ، وضِبِرّ، مثل طِمِرّ، ومُضَبَّر، مثل مُعَظَّم: الأَسَدُ، ذكر الصّاغانيّ الأَوَّلَ والثَّالثَ، وأَمّا ضِبِرٌّ، كطِمِرٍّ، فمعناه الشَّدِيدُ، فلعلّه سُمِّيَ به الأَسَدُ لشِدَّتِه.
والضَّبِيرُ، كأَمِيرٍ: الشَّدِيدُ، من الضَّبر، وهو الشَّدّ، عن ابن الأَعرابيّ.
والضَّبِيرُ: الذَّكَرُ، لشِدّتهِ نقله الصاغانيّ.
وضَيْبَرٌ، كحَيْدَرٍ: جَبَلٌ بالحجاز قال كُثَيِّر:
وقد حَالَ منْ رَضْوَى وضَيْبَرَ دُونَهُم *** شَمَارِيخُ للأَرْوَى بهِنَّ حُصُونُ
وضِبَارَى، بالكسر والقَصْرِ: رَجُلٌ مِنْ بني تَمِيمٍ، وهو ضِبَاري بنُ عُبَيْد بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ يَرْبُوع، ولم يَتعرّض الصاغانيّ للقَصْر، ولا الحافظُ.
وضَبَارَى، بالفَتْحِ؛ أَي مع القَصْرِ، كما هو مفهوم عبارته، وضبطَه غيرُ واحدٍ بكسر الراءِ وتشدِيدِ الياءِ، في الرِّبابِ وهو ضَبَارِيّ بنُ نُشْبَةَ بنِ رُبَيْعِ بنِ عَمْرو بنِ عبدِ الله بن لُؤَيّ بنِ عَمْرِ بنِ الحارِثِ بن تَيْم. منهم وَرْدانُ بنُ مُجَالِد بنِ عُلَّفَةَ بنِ القُرَيش بن ضَبَارِيّ، والمُتَوَرِّدُ بنُ عُلَّفَةَ الخارجِيّ.
زاد الحافظ: وفي سَدوس ضَبَارى بنُ سَدُوسِ بنِ شَيْبَانَ.
وعَمْرُو بنُ ضُبَارَةَ، بالضّمّ، وضَبطَه الصّاغانيّ بالفَتْح: فارِسُ رَبِيعَةَ، ومن رؤساءِ أَجْنَادِ بني أُمَيّةَ.
وضُبَارَةُ بن السُّلَيْكِ، من الثِّقاتِ. قلْت: وهو ضُبَارَةُ بنُ عبدِ الله بنِ مالِكِ بن أَبِي السُّلَيْكِ الحَضْرَمِيّ، ويقال الأَلْهَانيّ، أَبو شُرَيْحٍ الشّاميّ الحِمْصِيّ، كان يَسْكُن اللّاذِقِيّةَ، رَوَى عن ذُوَيْدِ بن نَافِع، وعنه إِسماعيلُ بن عيّاش.
والضُّبارَةُ: الحُزْمَةُ، عن اللَّيْثِ وتُكْسَر، وغيرُ اللَّيْثِ لا يُجِيز ضُبَارَة من كُتُبٍ، ويقول إِضْبَارَة، كما تقدّم.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
المَضْبُورُ: المِنْجَل.
والضَّبَائِرُ: جَمَاعَاتُ النَّاسِ في تَفْرِقَة، كأَنه جمْع ضِبَارَةٍ، مثل عِمَارَة وعَمائِر.
والضَّبْرُ: الرَّجّالَةُ.
وعن ابن الأَعرابيّ: الضَّبْرُ: الفَقْرُ، والضَّبْرُ: الشَّدُّ.
وقد سَمَّوْا ضَنْبَرًا، وهو الشَّدِيدُ، قال ابنُ دُرَيْد: أَحسب أَن النون فيه زائدة.
وضِنْبِر، كزِبْرِج: من الأَعلام، وهو فِنْعِل من الضَّبْرِ، وهو الوَثْبُ، قاله الصاغانيّ.
والمُطَّلِبُ بنُ وَدَاعَةَ بنِ ضُبَيْرَةَ، مصغَّرًا، حكاه السُّهَيْلِيّ عن الخَطّابي، قاله الحافظ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
65-تاج العروس (ظفر)
[ظفر]: الظُّفْرُ، بالضَّمِّ فالسُّكُونِ، والظُّفُرُ، بضَمَّتَيْنِ، قيل: هو أَفصحُ اللُّغَات، وقَرَأَ أَبو السَّمَّالَ: {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، بالكَسْرِ، وهو شَاذٌّ غيرُ مأْنوسٍ به؛ إِذْ لا يُعْرَف ظِفْرٌ، بالكسر، هكذا قالوا، وأَنكرَ شيخُنَا الشُّذوذَ ومخالفَتَه للقياس.والظُّفْرُ: معروفٌ، يَكُونُ للإِنْسانِ وغَيْرِه.
وقيل: الظُّفْرُ: لمَا لا يَصِيدُ، والمِخْلَبُ لما يَصِيدُ، كُلُّه مذَكَّرٌ، صَرَّحَ به اللِّحْيَانِيّ، وخَصَّه ابنُ السيّد في «الفَرق» بالإِنْسَان، كالأَظْفُورِ، بالضَّمِّ، وهو لغة في الظُّفْرِ، وصَرّح به الأَزْهَرِيّ، وأَنشَدَ البيتَ.
وَقَوْلُ الجَوْهَرِيّ: جَمْعُه أُظْفُورٌ، غَلَطٌ، وإِنّمَا هو واحِدٌ، مثل الظُّفْرِ، قالَ الشّاعر:
ما بَيْنَ لُقْمَتِهَا الأُولَى إِذَا انْحَدَرَتْ *** وبَيْنَ أُخْرَى تَلِيهَا قِيسُ أُظْفُورِ
ويروى: «إِذا ازْدَرَدَتْ» وهكذا أَنْشَدَه المصنّف في كتابه البصائر.
ج: أَظفَارٌ، وأَظافِيرُ، وقد سبَقَ المصَنّفَ في الردّ على الجَوْهَرِيّ الصاغانيُّ.
وقد تَمَحَّل شيخُنا من طَرَفِ الجَوْهَريّ بجَوَابٍ كاد أَن يَكُونَ الصّوَاب، قال: عبارَةُ الجَوْهَرِيّ الظُّفُرُ جمعه أَظْفَار، وأُظْفُورٌ جمعه أَظافِيرُ، كذا في أَكثرِ أُوصولِنا، وهو صَوابٌ، بل هو أَصوبُ من عبارةِ المصنّف؛ لأَنّه أَعطَى كلَّ جَمْعٍ لمُفْرَدِه، فالأَظفار جمع ظُفُر، كعُنُقٍ وأَعْنَاق، والأَظافِيرُ، جَمْع أُظْفُورٍ، كما هو ظاهِر. وكلامُ المصنّفِ يُوهم أَنّ كلًّا من الأَظْفَارِ والأَظَافِير جمعٌ لظُفُرٍ، وليس كذلك، بل الأَظافِيرُ جمع أُظفُورِ المُفرد، أَو جمع لأَظفَار الجمع، فيكون جمعَ الجَمعِ، ووَقَعَ في بعض نُسَخ الصّحاح زِيَادَةُ واو قبل أَظافِير، فأَوْهَمَ أَنَّهَا عاطفة، وأَنّ أَظافِيرَ وأُظْفُور وأَظْفَار كلٌّ منها جمع لظُفُرٍ المفرد، وزيادةُ الواو تحريفٌ لا يَنْبَغِي حَمْلُ كَلام الجوهَرِيّ على ثُبوتِها والله أَعلم، انتهى.
قلت: نُسخ الصّحاحِ كلها بثُبُوتِ الواو، وليس في واحِدَة منها بحذفِهَا أَصلًا، وكذلك النُّسْخَة التي نَقَلَ منها الصّاغانِيُّ وصاحِبُ اللسان، وهُمَا هما ثم ما ذكره من كونِ الأَظافِيرِ جمعَ الجمعِ، فقد قال اللّيْثُ: الظُّفُرُ ظُفُرُ الإِصبع، وظُفُرُ الطّائِر، والجميع أَظْفَارٌ، وجماعةُ الأَظْفَارِ أَظَافِيرُ، وهو في الأَشعار جَيّد جائز.
وقال غيره: الجمعُ أَظْفَارٌ، وهو الأُظْفُور، وعلى هذا قولهم: أَظافير، لا على أَنّه جمعُ أَظْفَار الذِي هو جَمْعُ ظُفُرٍ؛ لأَنّه ليس كلُّ جمْعٍ يُجمع، ولهذا حَمَلَ الأَخفش قِرَاءَةَ من قَرَأَ: فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ على أَنّه جَمْع رَهْنٍ، ويجوزُ قِلَّتُه؛ لئَلّا يَضطَرَّه إِلى ذلك أَن يكونَ جمعَ رِهان الذِي هو جمعُ رَهْنٍ.
وأَمّا من لم يَقُلْ إِلا ظُفرٌ فإِنّ أَظافيرَ عندَهُ مُلْحِقَةٌ له بباب دُمْلُوج، بدليلِ ما انضافَ إِليها من زِيَادةِ الواوِ معها، قال ابنُ سِيدَه: هذا مَذْهَبُ بعضِهم.
وإِذا عَرفْتَ ذلك فاعْلَمْ أَنّه لا تَوَهُّمَ في كلامِ المصنّف، كما زَعَمَه شيخُنَا. فتأَمَّلْ.
والأَظْفَرُ: الطَّوِيلُ الأَظْفَارِ العَرِيضُهَا، ولا فَعْلَاءَ لها من جِهَةِ السّمَاع، كما يقال: رجلٌ أَشْعَرُ للطَّوِيلِ الشَّعرِ، ومَنْسِمٌ أَظْفَرُ كذلك، قال ذو الرُّمَّةِ:
بأَظْفَرَ كالعَمُودِ إِذَا اصْمَعَدَّتْ *** عَلَى وَهَلٍ وأَصْفَرَ كالعَمُودِ
وظَفَرَهُ يَظْفِرُه، بالكسر، وظَفَّرَه تَظْفِيرًا، وأَظْفَرَه، المضبوط في النُّسخ بفتح الهَمْزَة وسكون الظاءِ، والصواب اظَّفَرَه، بتشديد الظاءِ، كافتعله، وكذلك اطَّفَرَه، بالطَّاءِ المشدّدةِ، إِذا غَرَزَ في وَجْهِهِ ظُفْرَه، ويقال: ظَفَّرَ فُلانٌ في وَجْهِ فُلانٍ، إِذا غَرَزَ ظَفْرَه في لَحْمِه فعَقَره، وكذلك التَّظْفِيرُ في القِثَّاءِ والبطِّيخ، وكلُّ ما غَرَزْتَ فيه ظُفْرَك فشدَخْتَه، أَو أَثَّرتَ فيه فقد ظَفَّرْتَه.
ومن المَجَاز: رَجُلٌ مُقَلَّمُ الظُّفرِ عن أَذى النّاسِ؛ أَي قليلُ الأَذَى، ويقال: إِنّه لمَقْلَومُ الظُّفرِ؛ أَي لا يُنْكِي عَدُوًّا، أَو كَلِيلُه؛ أَي الظُّفرِ عن العِدَاءِ؛ أَي مَهِينٌ، قال طَرَفةُ:
لَسْتُ بالفَانِي ولا كَلِّ الظُّفُرْ
وقال الزَّمَخْشَرِيّ: هو كَلِيلُ الظُّفُر للمَرِيضِ.
والظُّفْرَةُ، بالضّمّ: نَبَاتٌ حِرِّيفٌ يُشْبِه الظُّفُر في طُلُوعِهِ، يَنْفَعُ القُرُوحَ الخَبِيثَة والثَّآلِيلَ.
وظُفْرَةُ العَجُوزِ: ثَمَرُ الحَسَكِ، وهي شَوْكَةٌ مُدَحْرَجَةٌ.
وظُفْرُ النَّسْرِ: نَبَاتٌ يُشْبِهُه.
وظُفْرُ القِطِّ: نَبَاتٌ آخَرُ.
ومن المَجازِ: الأَظْفَارُ، وظَفَارٌ، كسَحابٍ، وقد يُمْنَعُ من الصّرفِ، فيقال: هذه ظَفَارُ ورأَيْتُ ظَفَارَ، ومررتُ بظَفَارَ، هكذا. نقَلَه الصاغانيُّ في التكملة، وتَبِعَه المصَنّف، وفيه تأَمُّل، فإَنّ الصاغانيّ نَقَل عن ابنِ دُرَيْد ظَفَار، ونقل فيه الصَّرْفَ والمَنعَ إِنّمَا عَنَى به المدينَةَ التي باليَمَنِ، بدليلِ قولِ الصاغانيّ بعدُ: وقال الجَوْهَرِيُّ: وظَفَارِ مثْلُ قَطامِ، فأَشَار إِلى أَنَّ الجَوْهَرِيّ اقتصر على المَنْعِ وابنُ دُرَيْد ذَكَرَ الوجهين، ثم قال بَعْدُ: مدينةٌ باليَمَنِ، وهذا من المصنِّفِ غَرِيبٌ جِدًّا يَنْبَغِى التَّفَطُّنُ له، فإِني رَاجَعْتُ المُحْكَمَ والتهذيبَ والعُبَابَ وغيرَهَا من الأُمَّهَاتِ فلم أَجِدْهُمْ ذَكَرُوا في مَعْنَى الطِّيبِ إِلّا الأَظْفَارَ فقط، وكذلك الصّاغانِيّ في التَّكْمِلَة مع ذِكْرِه الغَرَائِبَ والنَّوادِرَ، واقتصرَ على ذِكْر الأَظْفَار، ونصُّ عبارَتِه: الأَظْفَارُ شَيْءٌ من العِطْر أَسْوَدُ كأَنَّه ظُفُرٌ مُقْتَلَفٌ من أَصْلِه يُجْعَلُ في الدُّخْنَةِ، انتهى.
وفي المحكم: والظُّفْرُ: ضَرْبٌ من العِطْرِ أَسْوَدُ مُقْتَلَفٌ من أَصْلِهِ على شَكْلِ ظُفْر الإِنسانِ يُوضَعُ في الدُّخْنَةِ، والجمعُ أَظْفَارٌ، وأَظافِيرُ. انتهى، وفيه نوْعُ مَخالَفةٍ لما ذَهَب إِليه المصنّف.
وقال صاحِبُ العَيْنِ: لا واحدَ لَهُ، وقال الأَزْهَرِيّ في التهذيب، وتَبعه الصّاغانِيّ في التكملة: لا يُفْرَد منه الواحد، قالا: ورُبّمَا قِيلَ أَظْفَارَةٌ واحِدَةٌ، ولا يَجُوزُ في القِيَاس، الجمع: أَي ويَجمعونه على أَظَافِير، وهذا في الطِّيبِ فإِن أُفْرِدَ شيْءٌ من نَحْوِهَا فالقِيَاسُ أَن يُقَالَ: ظُفْرٌ وفُوهٌ، وهم يقولون أَظفارٌ وأَظَافِير، وأَفْوَاهٌ وأَفَاوِيهُ، لهذين العِطْرَيْنِ، انتَهَى، وفي حديث أُمِّ عَطِيَّةَ: «لا تَمَسُّ المُحِدُّ إِلّا نُبْذَةً من قُسْطِ أَظْفَارٍ» وفي رواية: «من قُسْطٍ وأَظْفَارٍ» قال ابنُ الأَثِيرِ: الأَظْفَارُ: جِنْسٌ من الطِّيبِ لا واحدَ له من لفظِه، وقيل: واحده ظُفْرٌ، وهو شيْءٌ من العِطْرِ أَسوَدُ، والقِطْعَةُ منه شَبِيهةٌ بالظُّفْرِ. انتهى.
قلت: وفي المنهاج: أَظْفَارُ الطِّيب أَقطاعٌ تُشْبِه الأَظْفَارَ عَطِرَةُ الرّائحةِ، قال ديسقُورِيدُوس: هي من جِنْس أَخْزافِ الصَّدَفِ تُوجَدُ في جَزِيرَةِ بَحْرِ الهِنْدِ حيثُ يكونُ فيه السُّنْبُل، منه قلْزميٌّ ومنه نَابليٌّ أَسْوَدُ صغيرٌ وأَجودُه الذي إِلى البياض الواقع إِلى اليمن والبَحريَن.
وظَفَّرَ [به] ثَوبَهُ تظْفيرًا: طَيَّبَه بِهِ بالظُّفْرِ.
والظُّفْرُ، بالضّمّ: جُلَيْدَةٌ تُغَشِّي العَيْنَ نابتَةٌ من الجانِبِ الذي يَلِي الأَنفَ على بَياضِ العَيْنِ إِلى سَوادِهَا، ونَسَبَهُ الجَوْهَرِيُّ إِلى أَبي عُبَيْدٍ، كالظَّفَرَةِ، مُحَرَّكَة، والظَّفَرِ، بلا هاءٍ أَيضًا، وقد جاءَ في صِفَةِ الدَّجّال: «وعَلَى عَيْنِه ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ» قالوا: هي جُلَيْدَة تَغْشَى العَيْنَ، تَنْبُتُ تِلقاءَ المآقِي، ورُبّمَا قُطِعَتْ، وإِنْ تُرِكَتْ غَشِيَتْ بَصَرَ العَيْنِ حتّى تَكِلَّ.
وقد ظَفِرَت العَيْنُ، كفَرِحَ، تَظْفَر ظَفَرًا، فهيَ ظَفِرَةٌ.
ويُقَال: ظُفِرَ الرّجُلُ كعُنِيَ، فهو مَظْفُورٌ، من الظَّفَرَةِ، قال أَبو الهَيْثَمِ:
ما القَوْلُ في عُجَيِّزٍ كالحُمَّرَة *** بعَيْنِها من البُكَاءِ ظَفَرَهْ
حَلَّ ابْنُها في السِّجْنِ وَسْطَ الكَفَرَهْ
وقال الفَرّاءُ: الظَّفَرَةُ: لحْمَةٌ تَنْبُتُ في الحَدقَةِ.
وقال غيرُه: الظُّفْرُ: لَحْمٌ يَنْبُت في بَياضِ العَيْن، وربّمَا جَلَّلَ الحَدَقَةَ.
ومن المَجَاز: قَوْسٌ لَطِيفَةُ الظُّفْرَيْنِ، قال الأَصمَعِيُّ: في السِّيَة الظُّفْرُ، وهو مَا وَرَاءَ مَعْقِدِ الوَتَرِ إِلى طَرَفِ القَوْسِ، جمْعه ظِفَرَةٌ كعِنَبَة، أَو طَرَفَاهَا، لا يَخْفَى أَنه لا فَرْقَ بينهما، ولذا اقتصر الأَزهرِيُّ وابنُ سِيدَه على ما ذَكَرَه الأَصْمَعِيّ، وبيّنَه الزَّمَخْشَرِيّ، فقال: قَوْسٌ لَطِيفَةُ الظُّفْرَيْنِ، وهما طَرَفاهَا وَرَاءَ مَعْقِدِ الوَتَرِ، فتأَمَّلْ.
والظُّفْرُ، بالضَّمّ: حَصْنٌ من حُصونِ اليَمَن.
ومن المَجَاز: ما بالدَّارِ شُفْرٌ ولا ظُفْرٌ؛ أَي أَحَدٌ، كذا في الأَساسِ والتَّكْمِلَة.
والظَّفَرُ، بالتَّحْرِيكِ: المُطْمَئنُّ من الأَرْضِ، وعبارَةُ الصّحاح: ما اطمَأَنَّ من الأَرض وأَنْبَتَ.
والظَّفَرُ: الفَوْزُ بالمَطْلُوبِ، وقال اللَّيْث: الظَّفَرُ: الفَوْزُ بما طَلَبْتَ والفَلْجُ على مَنْ خاصَمْتَ.
وقد ظَفِرَهُ ظَفَرًا وظَفِرَ بِهِ، مثل لَحِقَه، ولَحِقَ به، وظَفِرَ عَلَيْهِ، كلّ ذلك كفَرِحَ، فهو ظَفِرٌ.
وتقول: ظَفِرَ اللهُ فُلانًا على فُلان، وكذلك أَظْفَرَهُ الله بهِ، وعليه، وظَفَّرَه به تَظْفِيرًا.
واظَّفَرَ، كافْتَعَلَ، فأُدْغِم، بمعنَى ظَفِرَ بهم.
ورجُلٌ مُظَفَّرٌ، كمُعَظَّم، وظَفِرٌ، ككَتِفٍ، وظَفِيرٌ، كأَمِيرٍ، وظِفِّيرٌ، كسِكِّيتٍ: كثيرُ الظَّفَرِ، عن ابن دريد قال: وليس بثبت ولكن ضَبطَه الصّاغانِيُّ بوَزْنِ أَمِير، وأَصلَحَه بخَطِّه.
قال ابنُ دُرَيْد: ورجُلٌ مِظْفَارٌ، بالكسر: كثيرُ الظَّفَرِ، وقال غيرُه: مُظَفَّرٌ، وظَفِيرٌ وظَفِرٌ: لا يُحَاوِلُ أَمْرًا إِلَّا ظَفِرَ بِهِ، وهو مَجاز، قال العُجَيْرُ السَّلُولِيُّ يَمدحُ رجلًا:
هو الظَّفِرُ المَيْمُونُ إِن رَاحَ أَوْ غَدَا *** به الرّكْبُ والتِّلْعَابَةُ المُتَحَبِّبُ
ورَجُلٌ مُظَفَّرٌ: صاحِبُ دَوْلَةٍ في الحربِ.
وفُلانٌ مُظَفَّرٌ: لا يَؤُوبُ إِلا بالظَّفَرِ، فثُقِّل نَعْتُه للكثرةِ والمُبَالَغةِ.
وإِن قيل: ظَفَّرَ الله فُلانًا؛ أَي جعَلَه مُظَفَّرًا، جازَ وحَسُنَ أَيضًا.
وتقول: ظَفَّرَهُ الله عليه؛ أَي غَلّبَه عليه، وكذلك إِذا سُئلَ: أَيُّهما أَظفَرُ؟ فأَخْبِرْ عن واحدٍ غَلَبَ الآخرَ، وقد ظَفَّرَه. وتقولُ العَرَبُ: ظَفِرْتُ عليهِ، في مَعْنَى ظَفِرْتُ بهِ.
وظَفَّرَهُ تَظْفِيرًا: دَعَا لهُ به؛ أَي بالظَّفَرِ.
وظَفِرْتُ به فأَنا ظَافِرٌ، وهو مَظْفُورٌ بهِ، ويقال: أَظْفَرَنِي الله به.
ومن المَجَاز: ظَفَّرَ العَرْفَجُ والأَرْطَى: خَرَجَ منه شِبْهُ الأَظْفَارِ وذلك حين يُخَوِّصُ.
وظَفَّرَ البَقْلُ: خَرَجَ كأَنَّه أَظْفَارُ الطّائرِ.
وظَفَّرَ النَّصِيُّ، والوَشِيجُ، والبَرْدِيُّ، والثُّمَامُ، والصِّلِّيَانُ، والعَرَزُ، والهَدَبُ، إِذَا خَرَجَ له عُنْقُرٌ أَصْفَرُ كالظُّفرِ، وهي خُوصَةٌ تَنْدُرُ منه فيها نَوْرٌ أَغْبَرُ.
وقال الكِسَائِيّ: إِذَا طَلَعَ النَّبْتُ قيلَ: قد ظَفَّرَ تَظْفِيرًا، قال أَبو منصور: هو مأْخوذٌ من الأَظْفَارِ.
وظَفَّرَت الأَرْضُ تَظْفِيرًا: أَخْرَجَتْ من النّبَاتِ ما يُمْكِنُ احْتِفَارُه بالأَصابعِ، وفي اللسان: بظُفْرِ، وهو الأَشْبَهُ.
وظَفَّرَ الجِلْدَ تَظْفِيرًا: دَلَكَه لتَمْلَاسَّ أَظْفارُه.
وأَظْفارُ الجِلْدِ: ما تكَسَّرَ منه فصارَت له غُضُونٌ.
وظَفَّرَ تَظْفِيرًا: غَمَزَ الظُّفْرَ في التُّفَّاحَةِ ونَحْوِهَا، كالقِثّاءِ والبِطِّيخِ، وكلُّ ما غَرَزْتَ فيه ظُفْرَك فشَدَخْتَه أَو أَثَّرْت فيه فقَدْ ظَفَّرْتَه، وقد تَقَدَّم قريبًا.
وظَفَارِ كقَطَامِ: د، باليَمَنِ، يقال: «مَنْ دَخَلَ ظَفَارِ حَمَّرَ»، كذا في الصّحاحِ؛ أَي تَعلَّمَ الحِمْيَرِيَّةَ، وقد تَقَدَّم، وذكر ابنُ دُرَيْدٍ فيه الصَّرْفَ نقله الصّاغانيّ، وقال غيره: وقد جاءَت مَرفوعَةً أُجْرِيَت مُجْرَى رَبَاب إِذَا سَمَّيتَ بها، وهذا قد أَغفلَه المصنِّف هنا، وذَكَرَه في أَظْفَار الطِّيبِ، وتقدّمَت الإِشَارةُ إِليه.
قال الصاغانيّ: وفي اليمنِ أَربعَةُ مَواضِعَ يُسَمَّى كلُّ واحدٍ منها بظَفَارِ: مَدِينَتانِ وحِصْنانِ، أَمّا المَدِينَتَان فَظَفَارُ الحَقْلِ: قُرْبَ صَنْعَاءِ على مَرحَلَتَيْنِ منها يَمَانِيَهَا، وكانَ يَنْزِلُهَا التَّبَابِعَةُ، وقيل: هي صَنْعَاءُ، قالَهُ ياقُوت، إِليه يُنْسَبُ الجَزْعُ الظَّفَارِيّ، وقال ابن السِّكِّيتِ: الجَزْعُ الظَّفَارِيّ: مَنْسُوبٌ إِلى ظَفَارِ أَسَدٍ: مدينَةٍ باليَمَن.
وآخَرُ بِهَا قُرْبَ مِرْباطَ، بأَقْصَى اليَمَنِ، ويُعْرَف بظَفارِ السّاحِلِ، وإِليه يُنْسَبُ القُسْطُ. وهو العُود الذي يُتَبَخَّرُ بهِ؛ لأَنّه يُجْلَبُ إِليهِ من الهِنْدِ، ومنه إِلى اليَمَن، كنِسْبَةِ الرِّمَاحِ إِلى الخَطّ فإِنَّه لا يَنْبُت به.
قلت: وإِيّاه عَنَى ياقُوت، فإِنّه قال: ظَفَارِ مبنِيَّة على الكَسْرِ: مدينةٌ بأَقْصَى اليَمَنِ على سَاحِل بَحْرِ الهِنْدِ قريبة من الشِّحْر.
وأَمّا الحِصْنَانِ فَأَحَدُهُما حِصْنٌ يمانِيَّ صَنْعَاءَ، على مَرْحَلَتَيْنِ منها في بِلادِ بني مُرَادٍ، ويَسَمَّى ظَفَارَ الوَادِيَيْنِ.
قلت: ويُسَمَّى أَيضًا ظَفَارَ زَيْدٍ.
وآخَرُ شَامِيَّهَا، على مرحَلَتَيْنِ منها أَيضًا في بلاد هَمْدَانَ، ويُسَمَّى ظَفَارَ الظّاهِرِ.
قلْت: وإِلى أَحدِ هؤلاء نُسِب الخَطِيبُ أَبو جَعْفَرٍ حمدين بنُ جَعْفَرِ بنِ فارسٍ القَحْطَانِيّ، وابنُه الخطيبُ عُمَرُ، وحَفِيدُه المُقْرِي محمَّدُ بنُ عُمَرَ.
وبَنُو ظَفَرٍ، مُحَركَةً، بَطنانٍ: بَطْنٌ في الأَنْصَارِ، وهم بنُو كَعْبِ بنِ الخَزْرَجِ بنِ عَمْرٍو النَّبِيتِ بنِ مالِكِ بنِ الأَوْسِ، وبَطْنٌ في بَنِي سُلَيْمٍ، وهم بَنُو ظَفَرِ بن الحَارِثِ بنِ بُهْثَةَ بنِ سُلَيْمٍ. والأَنصار يقولون: هو ظَفَرٌ الَّذِي في الأَنْصارِ، كذا لابن الكَلْبِيّ، والصّوابُ ما قاله المصَنِّف.
واظَّفَرَ الرجلُ، كافْتَعَلَ، وكذلك اطَّفَرَ، بالطاءِ المهملة: أَعْلَقَ ظُفْرَهُ وأَنْشَب، فهو مَجَازٌ.
واظَّفَرَ الصَّقْرُ الطّائِرَ: أَخَذَه بِبَرَاثِنِه، قال العَجّاجُ يَصِف بازِيًا:
تَقَضِّيَ البازِي إِذا الَبازِي كَسَرْ *** أَبْصَرَ خِرْبَانَ فَضَاءٍ فانْكَدَرْ
شَاكِي الكَلالِيبِ إِذَا أَهْوَى اظَّفَرْ
الكَلالِيبُ: مَخالِيبُ البازِي، والشّاكي: مأْخُوذٌ من الشَّوْكَة، وهو مَقلوبٌ؛ أَي حادُّ المَخَالِيبِ. ومن المَجَاز: ما ظَفرَتْكَ عَيْنِي، بالفتح، منذُ حِين؛ أَي مَا رَأَتْكَ، وكذلك ما أَخَذَتْكَ وما عَجَمَتْكَ.
والمِظْفَارُ، بالكسر: المِنْقَاشُ، نقله الصّاغانِيُّ عن الفَرّاءِ.
وسَمَّوْا ظَفْرًا، بفتح فسكون، وفي بعض النسخ بالتحريك، ومُظَفَّرًا، كمُعَظّم، ومِظْفَارًا، وظَفِيرًا، على التَّفَاؤُلِ. وفَاتَه ظافِرٌ.
والأُظْفُورُ، بالضَّمّ: الدَّقِيقُ الّذي يَلْتَوِي على قَضِيبِ الكَرْمِ، ونَصُّ أَبي حيّان جَمْعٌ: خُيُوطٌ تَلْتَوِي على قُضْبانِ الكَرْم.
وظَفِرَانُ، وظَفِرٌ، وظَفِيرٌ ـ بكسر فائِهنّ ـ: حُصونٌ باليَمَنِ، ظَفِر: من حُصون آنِس، وظَفِيرٌ يُعْرَف بظَفِيرِ حجَّةَ.
وظَفَرٌ، كجَبَل: موضع، قُرْبَ الحَوْأَبِ إِلى جَنْبِ الشمط بينَ المَدِينَةِ والشَّأْم من دِيَارِ فَزَارَةَ، هُنَاك قُتِلَت أُمُّ قِرْفَةَ، قتلَها خالِدُ بنُ الوَلِيدِ لمّا تَأَلَّفَ إِليهَا ضُلّالُ طُلَيْحَةَ. ومنهُم مَنْ ضَبَطَه بضمّ فسكونٍ أَيضًا. وظَفَرُ: قرية، بالحِجازِ، وقيل؛ هي التي قَتَلَ بها أُمَّ قِرْفَةَ. والحَوْأَبُ: من مياه العَرَب على طَرِيقِ البَصْرَةِ، وقد تقدّم.
وظَفَرُ الفَنْجِ: حِصْنٌ من جَبَلِ وَصَابٍ من أَعْمَالِ زَبِيدَ، وضبَطَه الصّاغانيّ بكسر الفّاءِ من ظَفِر. والفَنْجُ بفتح فسكون.
والظَّفَرِيَّةُ، مُحَرَّكةً، وقَرَاحُ، كسَحابٍ مضاف إِلى ظَفَرَ، بالتحريك: مَحَلَّتانِ بِبَغْدَادَ شَرْقِيَّتانِ، ومن الأُولى: أَبو نَصْر أَحْمَدُ [بن محمد] بنُ عبدِ المَلِك الأَسَدِيّ الظَّفَرِيّ، عن أَبي بَكْر الخَطِيب، تُوُفِّيَ سنة 532.
ومن المَجَاز: رَأَيْتُه بظُفْرِه، بالضَّمِّ؛ أَي بِنَفْسِه.
ويُقَال: قَوْسٌ مُظَفَّرَةٌ، كمُعَظَّمَةٍ. إِذا قُطِعَ مِنْ ظُفْرَيْها؛ أَي طَرَفَيْها شَيْءٌ، نقله الصّاغانِيّ.
والأَظْفَارُ، كأَنَّه جَمْع ظُفْر: كَوَاكِبُ صِغَارٌ قُدّامَ النَّسْرِ.
والأَظْفَارُ: كِبَارُ القِرْدَانِ.
وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا} كُلَّ ذِي ظُفُرٍ دَخَلَ فيهِ؛ أَي في ذِي ظُفُرٍ ذواتُ المَنَاسِمِ من الإِبِلِ والأَنْعَامِ؛ لأَنّها كالأَظْفارِ لَهَا. هكذا في سائر النُّسَخ، «والأَنْعَام» وهو خطأٌ، والصوابُ والنَّعَامُ، كما في التهذيبِ والمُحْكَمِ واللِّسانِ والتَّكْمِلَةِ، وقد رَدَّه عليه البَلْقِينِيّ في حواشيه والبَدْر القَرَافيّ، وتَبِعَهُم شَيخُنَا، قال: لأَنَّ الأَنْعَامَ هي الإِبِلُ، أَو معها غيرُهَا، فالأَوّلُ مُوجِبٌ لعَطْفِ التّرادُفِ بِلا حاجَةٍ، والثاني قد يَدْخُلُ فيه الشّاءُ مع أَنّه من ذَوَاتِ المَناسِم، انتهى. ونقل القَرَافِيّ عن تَفْسِير القُرْطُبِيّ، عن مُجَاهِدٍ وقَتَادَةَ أَنّ كُلّ ذِي الظُّفُرِ هُوَ ما لَيْسَ بمُنْفَرِجِ الأَصابِعِ من البهائِمِ والطَّيْرِ، كالإِبِلِ، والنَّعامِ والإِوَزّ والبَطّ.
وعن ابن عبّاس: الإِبِل والنَّعام؛ لأَنّها ذاتُ ظُفُرٍ كالإِبِل، أَو كل ذِي مِخْلَبٍ من الطّائِرِ، وحافِرٍ من البَهَائِم؛ لأَنّهَا كالأَظْفارِ لها.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
تَظَافَرَ القَوْمُ، وتَظَاهَرُوا بمعنًى واحدٍ، قاله الصاغانيّ.
قلْتُ: وفي إِضاءَة الأُدموس لشيخِ مشايخِنا أَحْمَدَ بنِ عبدِ العَزِيزِ الفيلالي ما نَصُّه: وقد نَبَّه السَّعْدُ في شَرْح العَضُدِ أَن التّظافُرَ بالظَّاءِ لَحْن، قال: لكِنّي رأَيْتُ في تأْليفٍ لطيف لابن مالِكٍ فيما جاءَ بالوَجْهَيْنِ أَنّ التضافر مما يُقَالُ بالضَّادِ وبالظّاءِ، انتهى. قلْت: يَعِني بذلك التأْليفِ اللطيف كتابَه: الاعْتِضاد في الفَرْقِ بين الظاء والضّاد، واختصرَه أَبو حَيّان، فسماه: الارتضاء، وهذا القولُ مذكور فيهما.
وكلُّ أَرْضٍ ذاتِ مَغَرَّةٍ ظَفَارِ. وظَفُورٌ، كصَبُورٍ: من أَسمائه صلى الله عليهوسلم، نقله شيخُنَا من سيرة الشّاميّ.
ورجل ظَفِرٌ، ككَتِفٍ: حَدِيدُ الظُّفُرِ قالَه الزَّمَخْشَرِيّ.
ومن المَجَاز: ظَفِرَت النّاقَةُ لَقْحًا: أَخَذَتْهُ وقَبِلَتْه.
ويُقَال: به ظُفُرٌ من مَرَضٍ.
وأَفْرحْته من ظُفْرِه إِلى شُفْرِه، كما تقولُ: من قَدَمِه إِلى قَرْنه، كما في الأَساس.
وأَظْفَارُ: أُبَيْرِقَاتٌ حُمْرٌ في دِيَارِ فَزَارَةَ.
وظَفَرٌ، محركةً: مكانٌ مُطمَئنٌّ يُنْبِتُ.
وظُفِرَت العَيْنُ كعُنِيَ، فهي مَظْفُورَةٌ، إِذا حَدَثَتْ فيها الظَّفَرَةُ.
وظَفَرَه: كَسَرَ ظُفْرَه، أَو قَلَعَه.
وهو كَلِيلُ الظُّفْرِ؛ أَي ذَلِيلٌ.
والتَّظْفِيرُ: دَلْكُ الرْجُلِ الجِلْدَ.
والظُّفْرُ، بالضمِّ: ظَفَرَةُ العَيْنِ ورأْسُ الكُظْر.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
66-تاج العروس (عثر)
[عثر]: عَثرَ، كضَرَبَ ونَصرَ وعَلِمَ وكَرُمَ يَعْثِرُ ويَعْثُرُ ويَعْثَرُ، الثالثةُ عن اللِّحْيَانِي عَثْرًا، بالفتح، وعَثِيرًا، كأَمِير، وعِثَارًا، ككِتَابٍ، وتَعَثَّرَ، إِذا كَبَا.وقد عَثرَ في ثَوْبِه، وخَرَجَ يَتَعَثَّرُ في أَذْيَالِه، وعَثرَ به فَرَسُه فسَقَطَ.
وفي التهذيب: عَثَرَ الرَّجُل يَعْثُر عَثْرَةً، وعَثَرَ الفَرَسُ عِثَارًا، قال: وعُيُوبُ الدَّوَابِّ تَجِيءُ على فِعَالٍ مثل العِضَاضِ والعِثَارِ والخِرَاظِ [والضِّراح] والرِّمَاحِ وما شَاكَلَهَا.
ومن المَجَاز: عَثرَ جَدُّه، يَعْثُرُ ويَعْثَرُ: تَعِسَ، على المَثَلِ، وأَعْثَرَهُ الله تعالَى، وعَثَّرَه تَعْثِيرًا، فيهِمَا، وأَنشد ابنُ الأَعْرَابِيّ:
فَخَرَجْتُ أُعْثَرُ فِي مَقَادِمِ جُبَّتِي *** لَوْلَا الحَيَاءُ أُطَرْتُهَا إِحْضَارَا
هكذا أَنشده أُعْثَرُ، على صيغَةِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، ويُرْوَى أَعْثُر.
وأَعْثَرَهُ الله: أَتْعَسَه.
والعَاثُورُ: المَهْلَكَةُ من الأَرَضِينَ، قال ذُو الرُّمَّةِ.
ومَرْهُوبَةِ العَاثُورِ تَرْمِي بِرَكْبِهَا *** إِلى مِثْلِه حَرْفٍ بَعِيدٍ مَنَاهِلُهْ
وقال العَجّاج:
وَبَلْدَةٍ كَثِيرَةِ العاثُورِ *** تُنَازِعُ الرّياحَ سَحْجَ المُورِ
يعني المَتَالِفَ، ويروي «مَرْهُوبَةِ العَاثُورِ».
ومن المَجَاز: العاثُورُ: الشَّرُّ والشِّدَّةُ، كالعِثَارِ، بالكسر، يقال: لَقِيتُ منه عاثُورًا، وعِثَارًا؛ أَي شِدَّةً، ووَقَعُوا في عاثُورِ شَرٍّ؛ أَي في اخْتِلاطٍ من الشّرِّ وشِدَّة.
والعِثَارُ والعَاثُور: ما عُثِرَ به.
والعاثُورُ: ما أُعِدَّ لِيَقَعَ فيه أَحَدٌ، وفي اللسان: ما أَعَدَّه ليُوقِعَ فيه آخَرَ.
وقال الزَّمَخْشَرِيّ: يقال للمُتَوَرِّطِ: وَقَع في عاثُورٍ؛ أَي مَهْلَكَة، وأَصْلُه: حُفْرَةٌ تُحْفَرُ للأَسَدِ؛ ليَقَعَ فيها، للصَّيْدِ أَو غيرِه.
قلْت: وذَهَبَ يعقوبُ إِلى أَنَّ الفَاءَ في عافُورٍ بَدَلٌ من الثاءِ في عاثُور، قال الأَزْهَرِيُّ: ولِلَّذِي ذَهَبَ إِليه وَجْهٌ، إِلّا أَنّا إِذَا وَجَدْنا للفاءِ وَجْهًا نَحْمِلُهَا فيه على أَنه أَصلٌ لم يَجُز الحُكْمُ بكَوْنِهَا بدَلًا فيه إِلّا على قُبْحٍ وضَعْفِ تَجَوَّزٍ، وذلك أَنه يَجُوزُ أَن يكونَ قولُهم: وَقَعُوا في عافُورٍ، فاعُولًا من العَفْرِ؛ لأَنّ العَفْرَ من الشّدَّةِ أَيضًا، ولذلك قَالُوا: عِفْرِيتٌ، لشِدَّتِه.
والعاثُورُ: البِئْرُ، ورُبما وُصِفَ به، قال بعضُ الحِجَازِيِّينَ:
أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً *** وذُكْرُكِ لا يَسْرِي إِليَّ كما يَسْرِي
وهلْ يَدَعُ الوَاشُونَ إِفْسَادَ بَيْنِنَا *** وحَفْرَ الثَّأَى العَاثُورِ من حَيْثُ لا نَدْرِي
وفي الصّحاح: «وحَفْرًا لنا العَاثُور»، قال ابنُ سِيدَه: يكون صِفَةً ويكونُ بَدَلًا. قال الأَزْهَرِيُّ: والعاثُورُ ضَرَبَه مَثَلًا لما يُوقِعُه فيه الواشِي من الشَّرِّ.
ومن المَجَاز: العُثُورُ، بالضّمّ: الاطّلاعُ على أَمْر من غَيْرِ طَلَب، كالعَثْرِ، بالفَتْح. عَثَرَ على سِرِّ الرجلِ يَعْثُرُ عُثُورًا وعَثْرًا: اطَّلَعَ.
وأَعْثَرَه: أَطْلَعَه.
وفي كتاب الأَبْنِيَةِ لابنِ القَطّاع: عَثَرْتُ على الأَمْرِ عَثْرًا، ولغَة أَعْثَرْتُ، ولغَةُ القُرْآنِ: أَعْثَرْتُ غَيْرِي. انتهَى، وفي التَّنْزِيلِ: {وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ} أَي: غَيْرَهم، فحذَف المفعولَ، وفي البَصَائِر قولُه تعالَى: {أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ} أَي وقَفْنَاهُمْ علَيْهم من غَيْرِ أَن طَلَبُوا.
وقوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْمًا} معناه، فإِن اطُّلِعَ على أَنّهُمَا قد خَانَا.
وقال اللَّيْثُ: عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عُثُورًا، إِذا هَجَمَ على أَمرٍ لم يَهْجُمْ عليه غيرُه.
وعَثَرَ يَعْثُرُ عَثْرًا: كَذَبَ، عن كُرَاع، يقال: فُلانٌ في العَثْرِ والبَائِنِ، يُرَادُ في الحَقِّ والباطِلِ، قاله الصاغانيّ.
وعَثَرَ العِرْقُ يَعْثُرُ عَثْرًا: ضَرَبَ، عن اللِّحْيَانِيّ.
والعِثْيَرُ، كحِذْيَمٍ؛ أَي بكسر فسكون ففتح: التُّرَابُ، ولا تَقُلْ فيه: عَثْير؛ أَي بالفَتْح؛ لأَنه ليس في الكلام فَعْيَل بفتح الفاءِ إِلّا ضَهْيَد، وهو مَصْنُوعٌ.
والعِثْيَرُ: العَجَاجُ الساطِعُ، كالعِثْيَرَةِ، قال:
تَرَى لَهُمْ حَوْلَ الصِّقَعْلِ عِثْيَرَة
يَعْنِي الغُبَارَ.
والعِثْيَرَاتُ: التُّرَابُ، حكاه سيبويه.
وقيل: العِثْيَرُ: كُلُّ ما قَلَبْتَ من الطِّينِ أَو التُّرَابِ أَو المَدَرِ بأَطْرَافِ أَصابِعِ رِجْلَيْكَ إِذَا مَشَيْتَ، لا يُرَى من القدمِ أَثَرٌ غيره، فيقال: ما رأَيْتُ له أَثَرًا ولا عِثْيَرًا.
والعَثْيَرُ: الأَثَرُ الخَفِيُّ، وقيل هو أَخْفَى من الأَثَرِ، كالعَيْثَرِ، بتَقْدِيم المُثَنّاةِ التَّحْتِيَّةِ، ولا يَخفَى لو قال: مِثَال غَيْهَب كان أَحسنَ، وفَتْحُ العَيْنِ فِيهِمَا؛ أَي في اللَّفْظَيْن في مَعْنَى الأَثَرِ لا التُّرَابِ، كما تقدَّم.
وفي المَثَل: «ما له أَثَرٌ ولا عَثْيَرٌ» ويقال: ولا عَيْثَرٌ، مثال فَيْعَلٍ؛ أَي لا يُعْرَف راجلًا فيُتَبَيَّن أَثَرُه، ولا فارسًا فيُثِير الغُبَارَ فرَسُه.
وَرَوَى الأَصْمَعِيُّ عن أَبي عَمْرِو بنِ العَلَاءِ أَنّه قال: بُنِيَتْ سَلْحُون ـ مدينَةٌ باليَمَنِ ـ في ثَمَانِينَ سنةً، أَو سَبْعينَ سنةً، وبُنِيَتْ بَرَاقِشُ ومَعِينِ بغُسَالَةِ أَيْدِيهِم، فلا يُرَى لسَلْحِينَ أَثَرٌ ولا عَيْثَرٌ، وهَاتَان قائِمَتَانِ، وقال الأَصْمَعِيُّ: العَيْثَر تَبَعٌ لأَثَرٍ.
وعَيْثَرَ الطَّيْرَ: رَآهَا جارِيَةً فَزَجَرَهَا، قال المُغِيرَةُ بنُ حَبْنَاءَ التَّميميّ:
لَعَمْرُ أَبِيكَ يا صَخْرُ بنَ لَيْلَى *** لقد عَيْثَرْتَ طَيْرَكَ لو تَعِيفُ
يُرِيدُ: لقد أَبْصَرْتَ وعايَنْتَ: والعُثْرُ، بالضّمّ: العُقَابُ، وقد تقدّم أَنه بالموحّدَة تصحيف، والصوابُ أَنه بالثاءِ.
والعُثْرُ الكَذِبُ، ويُحَرَّكُ، الأَخِيرَةُ عن ابنِ الأَعرابيّ.
وفي الحديثِ: «ما كانَ بَعْلًا أَو عَثَرِيًّا ففيه العُشْرُ» قال الأَزْهَرِيُّ: العَثَرِيُّ، محْرَكَةٌ: العِذْيُ، وهو ما سَقَتْهُ السّماءُ من النَّخْلِ، وقيل: هو من الزَّرْعِ: ما سُقِيَ بماءِ السَّيْلِ والمَطَرِ، وأُجْرِيَ إِليه الماءُ من المَسَايِلِ وفي الجَمْهَرَةِ: العَثَرِيُّ: الزَّرْعُ الذي تَسْقِيه السماءُ، كالعَثْرِ، بفتح فسكون.
وقال ابنُ الأَثِيرِ: هو [من] النّخيلِ الذي يشرب بعُروقِه من ماءِ المَطَرِ يجتمع في حَفِيرَةٍ.
ومن المَجَاز: في الحَدِيث: «أَبْغَضُ النّاسِ إِلى اللهِ العَثَرِيُّ» وقال: هو الذي لا يَكُونُ في طَلَبِ دُنْيَا ولا آخرَةٍ، يقال: جاءَ فلانٌ عَثَرِيًّا، إِذا جاءَ فارِغًا، وقد تُشَدَّدُ تاؤُه المُثَلَّثَةُ، عن ابن الأَعرابيّ وشَمِرٍ، ورَدَّه ثَعْلَب فقال: والصَّواب تَخْفِيفُها، وقيل: هو من عَثَرِيِّ النّخْلِ، سُمِّيَ به لأَنّه لا يحتاج في سَقْيِه إِلى تَعَبٍ بدَالِيَةٍ وغَيْرِهَا، كأَنّه عَثَرَ على الماءِ عَثْرًا بِلا عَمَلٍ من صاحِبِه، فكأَنّه نُسِب إِلى العَثْرِ. وحَركةُ الثاءِ من تَغْيِيراتِ النّسَبِ.
و [قال مَرَّةً: جاءَ رائقًا عَثَرِيًّا؛ أَي فارِغًا دون شَيْءٍ]، قال أَبو العَبَاس: هو غير العَثَرِيِّ الذي جاءَ في الحديث مُخَفّفُ الثاءِ وهذا مُشَدّدُ الثَّاءِ.
وعَثَّر كبَقَّمٍ: مَأْسَدَةٌ باليَمَنِ، وقيل: جَبَلٌ بتَبَالَةَ، به مَأْسَدَةٌ، ولا نَظِيرَ لها إِلّا خَضَّمٌ، وبَقَّمٌ، وبَذَّرٌ، وقد وقَعَ في شِعْر زُهَيْرِ بنِ أَبي سُلْمَى، وفي شعر ابنِه كَعْبِ بنِ زُهَيْرٍ، قال كَعْبٌ:
مِنْ خادِر من لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُه *** بِبَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دونَه غِيلُ
وقال زُهَيْرٌ:
لَيْثٌ بعَثَّرَ يَصْطادُ الرّجالَ إِذا *** ما اللَّيْثُ كَذَّبَ عن أَقْرَانِه صَدَقَا
وعَثْر كبَحْرٍ: د، باليَمَنِ، هكذا قَيَّدَه أَبو العَلاءِ الفَرَضِيُّ بالسكون، وذَكَره كذلك ابن السَّمْعَانِيّ وتبعه ابنُ الأَثِيرِ، وهو مُقْتَضَى قَولِ الأَمِير، وإِليه نُسِب يُوسُفُ بنُ إِبراهيمَ العَثْرِيُّ، عن عبدِ الرَّزَّاق، وعنه شُعَيْبٌ الذّارِعُ، ورَدّ الحازَمِيُّ على ابنِ ماكُولا، وزَعَمَ أَنه منسوبٌ إِلى عَثَّر كبَقَّمٍ، قال الحافظ: وليس كذلك فإِنّ المُشَدَّد لم يُنْسَبْ إِليه أَحدٌ، ثم قال: وبالسكونِ أَيضًا أَبو العَبّاس أَحمَدُ بنُ الحَسَنِ بنِ عليٍّ الحارِثِيّ العَثْرِيّ، ومن المتأَخّرين محمّد بنُ إِبراهِيمَ العَثْرِيّ، ابن قرية الشاعرُ.
وعُثَارَى، كسُكَارَى، بالضَّمِّ: اسم وَادٍ، لا يَخفَى أَنّه لو اقتصر على قَوْله بالضّمّ لكان أَخْصَر.
ويقال: عَثْيَرُ الشَّيْءِ، كجَعْفَر عَيْنُه وشَخْصُه، هكذا في الأُصُولِ كُلِّهَا، والصَّوابُ عَيْثَرُ الشيْءِ، بتقديمِ الياءِ على المثَلَّثَةِ، كما في التَّكْمِلَةِ واللِّسَانِ، ومنه يقال: عَيْثَرْتُ الشَّيْءَ، إِذَا عايَنْتَ وشَخصت.
وعَثِرَةُ كزَنِخَة، قد جاءَ ذِكْرُهَا في الحَدِيثِ، وقالُوا: إِنّهَا اسمُ أَرْض. وأَما الحَدِيثُ فهو: «أَنه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بأَرْض تُسَمَّى عَثِرَةَ أَو عَفِرَةَ أَو غَدِرَةَ فسمّاهَا خَضِرَةَ» أَي تفاؤُلًا؛ لأَنّ العَثِرَة هي التي لا نَباتَ بها، إِنّمَا هي صَعيدٌ قد عَلَاها العِثْيَرُ، وهو الغُبَارُ، والعَفِرَةُ من عُفْرَةِ الأَرضِ، والغَدِرَةُ: التي لا تَسْمَحُ بالنَّبَاتِ، وإِنْ أَنْبَتَتْ شيئًا أَسْرَعَتْ فيه الآفَةُ، قاله الصاغانيّ، وقد تَقَدَّم في خ ض ر فراجعْه.
ومن المَجَاز: يُقَال: أَعْثَرَ به عندَ السُّلْطَانِ؛ أَي قَدَحَ فيهِ وطَلَبَ تَوْرِيطَه وأَن يَقَعَ منه في عاثُورٍ، كذا في الأَساسِ والتكملة.
وعَيْثَرٌ، كحَيْدَر، ابنُ القَاسِمِ، مُحَدِّثٌ وذكره الصاغانيّ في موضع ب ث ر.
وعُثَيْرٌ، كزُبَيْرٍ، في موضع ت ر، كأَنَّه يُشير إِلى اسمِ بانِي قَلعَةِ عُمَارَةَ بنِ عُتَيْرٍ، الذي تقدّم ذِكْرُه، وإِلّا فليس هناك ما يُحَال عليه، والصواب، أَنّه عُبَيْثِرٌ، بضمّ ففتْح الموحَّدةِ، تصغير عَبْثَر، وهو ابن صُهْبَانَ القَائِدُ كما ذَكره الصاغانيّ في محلّه، فتصحَّفَ على المصَنِّف في اسمين، والصّوابُ مع الصّاغانِيّ، فتأَمَّلْ.
وعِثْرَانُ، بالكسر، وعُثَيْرٌ، كزُبَيْرٍ، وعَثِيرٌ، مثل أَمِيرِ، وعِثْيَرٌ، مثل حِذْيَمٍ: أَسْمَاءٌ، هكذا في الأُصولِ كُلِّها، وهو غَلَطٌ أَيضًا؛ فإِنّ الصّاغانيّ ذَكرَ في هؤلاءِ الأَرْبَعَةِ أَنّهَا مَواضِعُ لا أَسماءُ رِجالٍ، كما هو مفهوم عِبارَتهِ، فتأَمَّلْ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
العَثْرَةُ، بالفتح: الزَّلَّةُ، وهو مَجَازٌ، وفي الحديثِ: «لا حَلِيمَ إِلّا ذُو عَثْرَةٍ»؛ أَي لا يُوصَفُ بالحِلْمِ حتّى يَرْكَبَ الأُمُورَ؛ ويَعْثُرَ فِيهَا، فيَعْتَبِرَ بها ويَسْتَبِينَ مَواضِعَ الخَطَإِ فيَجْتَنبها.
والعَثْرَةُ: المَرَّةُ من العِثَارِ في المَشْيِ.
والعَثْرَةُ: الجِهَادُ والحَرْبُ، ومنهالحَدِيثُ: «لا تَبْدَأْهُم بالعَثْرَةِ» أَي بل ادْعُهُم إِلى الإِسلامِ أَوّلًا، أو الجِزْيَةِ، فإِن لم يُجِيبُوا فبالجِهَادِ، إِنما سمَّي الحربَ بالعَثْرَةِ نفْسِهَا؛ لأَنّ الحَرْبَ كَثِيرةُ العِثَارِ.
وتَعَثَّرَ لسانُه: تَلَعْثَمَ، وهو مَجازٌ.
وأَقَالَ الله عَثْرَتَكَ وعِثَارَكَ، وهو مَجازٌ.
وجمع العَثْرَةِ عَثَرَاتٌ، محرَّكةً.
وأَعْثَرَهُ على أَصْحابِهِ: دَلَّهُ عليهمِ، وهو مَجاز.
وعَثارُ شَرٍّ: مثل عاثُورِ شَرٍّ، عن الفَرّاءِ.
وفلانٌ يَبْغِي صاحِبَه العَوَاثِرَ. وهو جمع جَدٍّ عاثِرٍ، وهو مَجاز. وأَنشد ابنُ الأَعرابِيّ.
فهَلْ تَفْعَلُ الأَعْدَاءُ إِلّا كَفِعْلِهِمْ *** هَوَانَ السَّرَاةِ وابْتِغَاءَ العَوَائِرِ
وقد يكون جمعَ عاثُورٍ، وحذف الياءَ للضّرُورَةِ.
والعُثُورُ: الهُجُومُ على السّرِّ، وعَثَرَ في كلامِهِ، وهو مَجازٌ.
ويقال: كانت بين القَوم عَيْثَرَةٌ وغَيْثَرَةٌ، وكَأَنَّ العَيْثَرَةَ دونَ الغَيْثَرَةِ، وتَركْتُ القَوْمَ بينَ عَيْثَرَةٍ وغَيْثَرَةٍ؛ أَي في قِتَال دُونَ قِتَالٍ، قاله الأَصْمَعيُّ.
وفي الحديثِ: «أَن قُرَيْشًا أَهلُ أَمانَة مَنْ بَغَاهَا العَواثِيرَ كَبَّهُ الله لمُنْخُرَيْهِ».
ويُرْوَى «العَواثِر».
والعَاثِرَةُ: الحادِثَةُ تَعْثُرُ بصاحِبِها.
وعَثَرَ بهم الزّمَانُ: أَخْنَى علَيهِم. وهو مَجاز.
والعَاثِرُ: الكَذّابُ.
وأَرْضٌ عِثْيَرَةٌ: كَثِيرَةُ الغُبَارِ.
والعَثَّارُ، ككَتّان: قَرْحَةٌ لا تَجِفُّ، قال الصّاغانِيُّ: وفي ذلك نَظَرٌ، وأَنشد الأَزْهَرِيّ للأَعْشَى:
فباتَتْ وقَدْ أَوْرَثَتْ في الفُؤا *** دِ صَدْعًا يُخَالِطُ عَثَّارَهَا
وفي التكملة «فبانَتْ وقَدْ أَسْارَتْ» والباقي سَواءٌ، وقيل: عَثّارُهَا هو الأَعْشَى عَثَر بها فابْتُلِيَ، وتَزَوَّدَ منها صَدْعًا في الفُؤادِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
67-تاج العروس (غدر)
[غدر]: الغَدْرُ: ضِدُّ الوَفاءِ بالعَهْدِ؛ قالهُ ابنُ سِيدَه في المُحْكَم. وقال غيرُه: الغَدْر: تَرْك الوَفَاءِ، وقيل: هو نَقْضُ العَهْدِ. وفي البصائر للمُصَنّف: الغَدْرُ: الإِخْلالُ بالشَّيْءِ وتَرْكُه. وقال ابنُ كَمال باشا: الوَفاءُ: مُرَاعَاةُ العَهْد، والغَدْرُ: تَضْيِيعُه، كما أَنَّ الإِنْجَازَ مراعَاةُ الوَعْد، والخُلْفُ تَضْيِيعُه، فالوَفَاءُ والإِنْجازُ في الفِعْل كالصِّدْقِ في القَوْل، والغَدْرُ والخُلْفُ كالكَذِب فيه.غَدرَهُ، وغَدرَ بِهِ؛ أَي مُتَعَدِّيًا بنَفْسِه وبالباءَ كنَصَر وضَرَبَ وسَمِعَ الأَوّلان ذَكَرَهُمَا ابنُ القَطّاع وابنُ سِيدَه، واقْتَصَر على الأَوّل أَكثرُ الأَئِمّة، والثالِثَة عن اللّحْيَانِيّ، قال ابنُ سِيدَه: ولَسْتُ منه على ثِقَةٍ، يَغْدِرُ غَدْرًا، بالفَتْح، مصدرُ البابَيْن الأَوَّلَيْن وغَدَرًا وغَدَرانًا مُحَرّكة فِيهما، وهُمَا مَصْدَرُ البابِ الثالِث على ما نَقَلَهُ اللّحْيَانيّ، وأَنْكَرَه ابنُ سِيدَه.
وهي غَدُورٌ، كصَبُورٍ وغَدّارٌ وغَدّارَةٌ، بالتَّشْدِيد فِيهما، وهو غادِرٌ وغَدّارٌ، ككَتّانٍ، وغِدِّير وغَدُورٌ، كسِكّيتٍ وصَبُورٍ، وغُدَرٌ، كصُرَدٍ، وأَكْثَرُ ما يُسْتَعْمَل هذا الأَخيرُ في النِّداءِ في الشَّتْمِ، يُقَالُ: يا غُدَرُ. وفي حديث الحُدَيْبِيَّة: قال عُرْوَةُ بنُ مَسْعُود للمُغِيرَة: «يا غُدَرُ، وهَلْ غَسَلْتُ غَدْرَتَكَ إِلّا بالأَمْسِ؟» وفي حديث عائِشَةَ: قالت للقَاسِم: «اجْلِسْ غُدَرُ» أَي يا غُدَر، فحَذَفَت حَرْفَ النّداءِ. ويُقَالُ في الجَمْعِ: يالَ غُدَرَ، مثل يالَ فُجَرَ. وفي المُحْكَم: قال بعضُهُم يُقَال للرَّجُلِ: يا غُدَرُ ويا مَغْدَرُ، كمَقْعَدٍ ومَنْزِل، وكذا يا ابْنَ مَغْدَرٍ بالوَجْهَيْن، مَعارِفَ. قال: ولا تقولُ العَرَب: هذا رَجُلٌ غُدَرُ، لأَنّ الغُدَرَ في حالِ المَعْرِفَة عندهم. وقال شَمِرٌ: رجل غُدَرٌ؛ أَي غادِرٌ، ورَجُلٌ نُصَرٌ؛ أَي ناصِرٌ، ورَجُلٌ لُكَعٌ؛ أَي لَئيمٌ. قال الأَزهريّ: نَوَّنَها كلَّها خِلافَ ما قالَ اللَّيْث، وهو الصَّواب، إِنَّمَا يُتْرَكُ صَرْفُ باب فُعَل إِذا كان اسمًا معرفَةً مثل عُمَرَ وزُفَرَ. وقال ابنُ الأَثِيرِ: غُدَر معدولٌ عن غادِرٍ للمُبَالَغَة، ويُقَال للذَّكَرِ: يا غُدَرُ، ولها: يا غَدَارِ، كقَطامِ، وهما مُخْتَصّان بالنّداءِ في الغالِب.
وأَغْدَرَهُ: تَرَكَهُ وبَقّاهُ. حَكَى اللّحيانيّ: أَعانَنِي فُلانٌ فأَغْدَرَ لَهُ ذلك في قَلْبِي مَوَدَّة؛ أَي أَبْقَاهَا. وفي حديث بَدْرٍ: «فخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في أَصْحَابِه فَبَلَغَ قَرْقَرَةَ الكُدْرِ فَأَغْدَرُوه»؛ أَي تَرَكُوه وخَلَّفُوه. وفي حديث عُمَرَ، وذَكر حُسْنَ سِيَاسَتهِ فقال: «ولوْ لا ذلك لأَغدَرْتُ بعضَ ما أَسُوقُ»؛ أَي خَلَّفْت، شَبَّه نَفْسَه بالرّاعِي، ورَعِيَّتَه بالسَّرْحِ. ورُوِيَ «لَغَدَّرْتُ»؛ أَي لأَلْقَيتُ الناسَ في الغَدَر، وهو مكانٌ كثيرُ الحِجَارَة.
كغادَرَه مُغَادَرَةً وغِدَارًا، ككِتَابٍ. وفي قول الله عَزّ وجلَّ: {لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} أَي لا يَتْرُكُ. وقال المُصَنّف: أَي لا يُخِلّ. وفي الحَدِيث أَنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْتَنِي غُودِرْتُ مع أَصْحَابِ نُحْصِ الجَبَل». قال أَبو عُبَيْد: مَعْنَاه يا لَيْتَنِي استُشْهِدْت معهم. النُّحْصُ: أَصلُ الجَبَلِ وسَفْحُه، وأَراد بأَصْحاب النُّحْصِ قَتْلَى أُحُدٍ أَو غَيْرَهُم من الشهداءِ.
والغُدْرَة، بالضّمّ والكَسْر: ما أُغْدِرَ من شَيْءٍ؛ أَي تُرِكَ وبَقِيَ، كالغُدَارَةِ بالضمّ، قال الأَفْوَهُ:
في مُضَرَ الحَمراءِ لَمْ يَتَّرِكْ *** غُدَارَةً غَيْرَ النساءِ الجُلُوسْ
وكذلِكَ الغَدَرَةُ والغَدَرُ، محرَّكَتَيْن، يُقَال: عَلَى بَنِي فُلانٍ غَدَرَةٌ من الصَّدَقَةِ وغَدَرٌ؛ أَي بَقِيَّةٌ. وجَمْعُ الغَدَرِ غُدُورٌ، والجمع: الغُدْرَة، بالضّمّ غُدْرَاتٌ، بالضّمّ أَيضًا. ونقل الصاغانيّ عن ابنِ السِكّيت: يُقَال على فلان غِدَرٌ من الصَّدَقَة، بالكَسْرِ مِثَالُ عِنَب؛ أَي بَقَايَا منها، الواحِدَة غِدْرَة، وتُجْمَع غِدَرَات. قال الأَعْشَى.
وأَحْمَدْتَ أَنْ أَلْحَقْتَ بالأَمْسِ صِرْمَةً *** لَهَا غِدَرَاتٌ واللَّوَاحِقُ تَلْحَقُ
انْتَهَى. وقال أَبو مَنْصُورٍ: واحِدَة الغِدَرِ غِدْرَةٌ، وتُجْمَع غِدَرًا وغِدَرَاتٍ. ورَوَى بيتَ الأَعْشَى. ففي كلام المُصَنّف نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ.
والغُدَرُ، كصُرَدٍ: القِطْعةُ من الماءِ يُغَادِرُهَا السَّيْلُ؛ أَي يَتْرُكها ويُبْقِيهَا، كالغَدِير، هكذا في سائر الأُصول المُصَحَّحة. ولمْ أَجِدْ أَحَدًا من الأَئمةِ ذَكَرَ الغُدَرَ بمعنَى الغَدِيرِ، مع كَثْرَة مُرَاجَعَة الأُمّهاتِ اللُّغَوِيّة. ولم أَزَلْ أُجِيلُ قِدَاحَ النَّظَر في عِبَارَة المصنِّف ومَأْخَذها حَتّى فَتَحَ الله وَجْهَ الصَّواب فيها. وهُوَ أَنّا قَدَّمْنَا آنِفًا النَّقْلَ عن ابنِ السِكّيتِ وعن أَبي مَنْصُورٍ، فجاءَ المُصَنّف أَخَذَ من عِبارتَيْهما بطَرِيق المَزْجِ على عادَته، فأَخَلَّ بالمَقْصُود ولم يَدُلّ على المُرَادِ عَلَى الوَجْه المَعْهُود. فالصَّوابُ في عِبَارَته أَن يَقُول: والغُدْرَة، بالضَّمّ وكِعنَبٍ: ما أُغْدِرَ من شيْءٍ، كالغُدَارَةِ بالضَّمّ، والغَدَرَةِ والغَدَرِ ـ مُحَرَّكَتَيْنِ ـ جمعُه غِدَرَاتٌ، كعِنَبَاتٍ، وبالضّمّ وكصُرَدٍ، فيكون الجَمْعَانِ الأَخِيرَانِ للغُدْرَة بالضّمّ، أَو الاقْتِصارُ على الجَمْع الأَوّل كما اقْتَصَرَ غيرُهُ، ثم يقول: والغَدِيرُ: القِطْعَة من الماءِ يُغَادِرُهَا السَّيْلُ.
هذا هو الصَّواب الذي تَقْتَضِيه نُقُول الأَئمة في هذا المَقَامِ.
ومَن راجَعَ التَّكْمِلَةَ واللّسَانَ زالَ عنه الإِبْهام، والله أَعلم. ثمّ قولُه الجمع: كصُرَدٍ وتُمْرانٍ يَدُلّ على ما صوّبْناهُ ويُبَيِّنُ ما أَوْرَدْنَاه، فإِنَّ الغَدِيرَ جَمْعُه غُدْرَانٌ وغُدَرٌ كما ذَكَرَه على المَشهور صَحِيحٌ ثابِتٌ. فيُقَال: ما جَمْعُ غُدَرٍ كصُرَدٍ الذي أَوْرَدَه مُفْرَدًا فيحتاج أَنْ يقولَ غِدْرانٌ بالكسر كصِرْدانٍ، أَوْ يَقُولُ إِنّهُ يُسْتَعْمَل هكذا مُفْرَدًا وجَمْعًا. وكُلّ ذلك لم يَصِحّ ولَمْ يَثْبُت، فتأَمَّلْ. ثم ثَبَتَ في الأُصُول المُصَحَّحَةِ من النِّهَايَةِ واللّسَان أَنَّ جَمْعَ الغَدِير غُدُرٌ، بضمَّتَيْن، كطَرِيق وطُرُق، وسَبِيلٍ وسُبُل، ونَجِيب ونُجُب، وهو القِياسُ فيه، وقد يُخفَّف أَيضًا بالتَّسْكِين. ففي قولِ المُصَنّف كصُرَدٍ نَظَرٌ أَيضًا فَتَأَمَّلْ.
وقولُه في مَعْنَى الغَدير: القِطْعَةُ من الماءِ يُغَادِرها السَّيْلُ، قال ابنُ سِيدَه: هو قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، فهُوَ إِذًا فَعِيلٌ في معنَى مَفْعُولٍ على اطِّراح الزائد. وقد قِيلَ: إِنّه من الغَدْرِ، لأَنّه يَخُون وُرّادَه فيَنْضُب عَنْهُم، ويَغْدِرُ بأَهْلِه فَينْقَطِع عند شِدَّة الحاجَةَ إِلَيْه. ويُقوِّي ذلك قولُ الكُميت:
ومِنْ غَدْرِه نَبَزَ الأَوَّلُونَ *** بأَنْ لَقَّبُوه الغَدِيرَ الغَدِيرَا
أَراد: من غَدْرِهِ نَبَزَ الأَوّلُون الغَدِيرَ بأَنْ لَقَّبُوه الغَدِيرَ، فالغَدِيرُ الأَوّل مَفْعول نَبَزَ، والثَّانِي مفْعُولُ لَقَّبُوه. وقال اللّحْيَانيّ: الغَدِيرُ اسمٌ، ولا يُقَال هذا ماءٌ غَدِير. وقال اللَّيْث: الغَدِيرُ: مُسْتَنْقَعُ الماءِ ماءِ المطرِ، صغيرًا كانَ أَو كَبِيرًا، غيرَ أَنّهُ لا يَبْقَى إِلَى القَيْظ إِلّا ما يَتَّخِذه الناسُ من عِدٍّ أَو وَجْذٍ أَو وَقْطٍ أَو صِهْرِيج أَو حائِر. قال أَبو مَنْصُورٍ: العِدّ: المَاءُ الدائم الذي لا انْقطاع له، ولا يُسمَّى المَاءُ الّذي يُجمَع في غَدِيرٍ أَو صِهْرِيج أَو صِنْع عِدًّا، لأَنّ العِدَّ ما يَدُومُ مِثْل ماءِ العَيْنِ والرَّكِيَّة.
واسْتَغْدَرَ المَكَانُ: صارَتْ فيه غُدْرَانٌ، فالسّين هنا للصَّيْرُورَة. ومن سَجَعَات الأَسَاس: اسْتَغْزَرَت الذِّهَابُ واسْتَغْدَرَت اللِّهَابُ. قال: الذِّهْبَة: مَطْرَةٌ شَدِيدَةٌ سَرِيعَةُ الذَّهَاب. واللِّهْبُ: مَهْواةُ ما بَيْنَ الجَبَلَيْن. وفي الحَدِيث «أَنّ قادِمًا قَدم عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَه عن خِصْبِ البِلاد.
فحَدَّث أَنَّ سَحابَةً وَقَعَتْ فاخْضَرَّت لها الأَرْضُ، وفيها غُدُرٌ تَنَاخَسُ، والصَّيْدُ قد ضَوَى إِلَيْهَا» قال شَمِرٌ: قولُه: غُدُرٌ تَناخَسُ؛ أَي يَصُبُّ بعضُهَا في إِثْرِ بَعْض.
ومن المَجَازِ الغَدِيرُ: السَّيْفُ، على التَّشْبِيه، كما يقال له اللُّجّ.
والغَدِيرُ: اسمُ رَجُل، هكذا ذَكَرُوه. قلتُ: وهو اسْمُ والِدِ بَشامَةَ الشاعِر، من بَنِي غَيْظِ بنِ مُرَّةَ بنِ عَوْفِ بنِ سَعْدِ بنِ ذُبْيَانَ، ووالدُ عَلِيٍّ الشاعر مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بنِ سَعْدِ بنِ عَوْفِ بنِ كَعْبِ بنِ جِلّانَ ابن غَنْمِ بنِ غَنِيٍّ.
وغَدِيرٌ: وادٍ بدِيار مُضَرَ، نَقَلَه الصاغانيّ.
والغَدِيرُ والغدِيرَة، بهاءٍ: القِطْعَة من النَّبَات، على التَّشْبيه أَيضًا، الجمع: غُدْرانٌ، بالضمّ لا غير.
والغَدِيرَةُ: الذُّؤَابَةُ، قال اللَّيْث: كلُّ عَقِيصَةٍ غَدِيرَةٌ.
والغَديرَتانِ: الذُؤابَتانِ اللَّتَان تَسْقُطَان على الصَّدْرِ، الجمع: غَدائِرُ، وقِيل: الغَدَائِرُ لِلنِّساءِ، وهي المَضْفُورَة، والضَّفَائِرُ للرِّجال. وقال امرُؤ القَيس:
غَدائِرُه مُسْتَشْزَرَاتٌ إِلى العُلَا *** تَضِلُّ العِقَاصُ في مُثَنًّى ومُرْسَلِ
والغَدِيرَةُ: الرَّغِيدَةُ، عن الفَرّاءِ واغْتَدَر: اتَّخَذَ غَدِيرَةً، إِذا جَعَلَ الدَّقِيقَ في إِنَاءٍ وصَبَّ عَلَيْه اللَّبَن ثمّ رَضَفَه بالرِّضاف. وقال الصّاغانيّ: الغَدِيرَةُ: هي اللَّبَن الحَلِيبُ يُغْلَى ثم يُذَرّ عليه الدَّقِيقُ حَتَّى يَخْتَلِطَ فيَلْعَقَه الغُلَامُ لَعْقًا.
والغَدِيرَةُ: الناقَةُ تَرَكها الرّاعِي، وقد أَغْدَرَها. قال الراجِز:
فَقَلَّمَا طارَدَ حَتَّى أَغْدَرَا *** وَسْطَ الغُبَارِ خَرَبًا مُجَوَّرَا
وإِنْ تَخَلّفَتْ عن الإِبِلِ هي بنَفْسها فلَمْ تَلْحَقْ فغَدُورٌ، كصَبُورِ، وفي بعض النُّسخ: فغَدُورَةٌ، بزيادة الهاءِ، والأُولى الصَّواب. وغَدَر، كضَرَبَ: شَرِبَ ماءَ الغَدِيرِ، وهو المُجْتَمِع من السَّيْلِ ومن ماءِ السَّمَاءِ. وكفَرِحَ: شَرِبَ ماءَ السَّمَاءِ، هكذا في سائر النُّسَخ والأُصول المُصَحَّحَة، وفي التَّهْذِيب: قال المُؤَرّج: غَدَرَ الرَّجُلُ يَغْدِرُ غَدْرًا، إِذا شَرِبَ من ماءِ الغَدِيرِ.
قال الأَزهريّ: والقِيَاسُ غَدِرَ يَغْدَرُ، بَهذا المَعْنَى، لا غَدَر، مِثْل كَرِعَ، إِذا شَرِبَ الكَرَع، وهكذا نقله الصاغانيّ، ولكنّه زاد بعد قوله: الكَرَع: وهو ماءُ السَّمَاءِ. قلتُ: فقولُه: وهو ماءُ السماءِ، راجعٌ إِلى الكَرَع، لا أَنَّه معنى غَدِرَ كفَرِحَ.
وظَنّ المصنّف أَنّه من جُمْلَة مَعانِي غَدِرَ، وهو وَهَمٌ صَرِيحٌ.
ثم إِنّه فَرَّقَ بَيْنَ ماءِ الغَدِير وماءِ السَّماءِ، مع أَنَّ الغَدِيرَ هو مُسْتَنْقَع ماءِ السماءِ، كما تَقَدَّم عن اللَّيث، وهذا غَرِيبٌ مع أَنّ الأَزهريّ أَزالَ الإِشْكَالَ بقوله: بهذا المَعْنَى. فَتَأَمَّل، ولا تَغْتَرّ بقول المُصَنّف، فقد عَرَفْتَ مِنْ أَيْنَ أَخَذ؟ وكيف أَخَذَ؟ واللهُ يَعْفُو عَنّا وعَنْه.
وغَدِرَ اللَّيْلُ، كفَرِحَ، يَغْدَرُ غَدَرًا، وأَغْدَرَ ـ ذَكَره ابنُ القَطّاع، ومثْلهُ في اللسان. فالعَجَبُ من المُصَنّف كَيْفَ تَرَكَه ـ: أَظْلَمَ أَو اشْتَدَّ ظَلامُه، كما قاله ابنُ القَطّاع فهِيَ أَي اللَّيْلَة غَدِرَة، كفَرِحَة يُقَال: لَيْلَةٌ غَدِرَة بَيِّنَةُ الغَدَر، ومُغْدِرَة، كمُحْسِنَةٍ: شَدِيدَةُ الظُّلْمَةِ تَحْبِسُ الناسَ في مَنَازِلِهم وكِنِّهم فيَغْدِرُون؛ أَي يَتَخَلَّفُون. وفي الحديث: «مَنْ صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعةٍ في اللَّيْلَة المُغْدِرَة فقد أَوْجَبَ». وقيل إِنَّمَا سُمِّيَتْ مُغْدِرَةً لِطَرْحها مَنْ يَخْرُج فيها في الغَدَرِ، وهي الجِرَفَة. وفي حَدِيث كَعْبٍ: «لَوْ أَنَّ امْرَأَةً من الحُورِ العِينِ اطَّلَعَتْ إِلى الأَرْضِ في لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ مُغْدِرَةٍ لأَضاءَتْ ما عَلَى الأَرْض».
وغَدِرَتِ الناقَةُ عن الإِبِلِ غَدَرًا: تَخلَّفَتْ عن اللُّحُوق، وكذا الشاةُ عن الغَنَمِ. ولو ذكره عند قَوْله: «وإِنْ تَخَلَّفَتْ هي فغَدُورٌ» وقال: وقد غَدِرَتْ، بالكَسْرِ، كان أَخْصَرَ.
وغَدِرَت الغَنَمُ غَدَرًا: شَبِعَتْ في المَرْتَع. وفي المحكم: في المَرْجِ في أَوَّلِ نَبْتِه.
وغَدِرَتِ الأَرضُ: كَثُر بها الغَدَرُ، فهِيَ غَدْرَاءُ؛ قاله ابنُ القَطَّاع.
والغَدَرُ مُحَرَّكةً: كُلُّ ما وَارَاكَ وسَدَّ بَصَرَكَ وقِيلَ: هُوَ كُلُّ مَوْضِع صَعْبٍ لا تَكَادُ الدَّابَّةُ تَنْفُذ فيه. وقِيلَ: الغَدَرُ: الأَرْضُ الرِّخْوَةُ ذات اللَّخاقِيقِ. وقال اللِّحْيَانِيّ: الغَدَرُ الجِحَرَةُ، بكَسْرٍ فَفتْح. والجِرَفَةُ واللَّخاقِيقُ وفي بعض النُّسَخ: الأَخاقِيقُ من الأَرْضِ. وقولُه: المُتَعَادِيَةُ، صِفَة اللَّخاقيقِ لا الأَرْض، فلذا لو قَدَّمَه كما هُوَ في نَصّ اللّحْيَانِيّ كانَ أَصْوَبَ، كما لا يَخْفَى، والجَمْعُ أَغْدَارٌ، كسَبَب وأَسْبَابٍ، وقيل: الغَدَرُ: الحِجَارَةُ مع الشَّجَرِ، وكذلك الجَرَلُ والنَّقَلُ، وهو قَوْلُ أَبِي زَيْدٍ وابن القَطّاع.
وقِيلَ: الغَدَرُ: المَوْضِعُ الظَّلِفُ الكَثِيرُ الحِجَارَةِ. وقال العَجّاج:
سَنابِكُ الخَيْلِ يُصَدِّعْنَ الأَيّرْ *** من الصَّفَا القاسِي ويَدْعَسْنَ الغَدَرْ
ومن المَجَازِ: رَجُلٌ ثَبْتُ الغَدَرِ، محرّكة، إِذا كانَ يَثْبُتُ في مَواضِع القِتَالِ والجَدَل والكَلامِ. قال الزَّمَخْشَرِيّ: وأَصلُ الغَدَرِ اللَّخَاقِيقُ. ويُقَال أَيضًا: إِنَّه لثَبْتُ الغَدَرِ: إِذا كان ثابِتًا في جَمِيع ما يَأْخُذ فيه، ويُقَالُ: ما أَثْبَتَ غَدَرَهُ؛ أَي ما أَثْبَتَه في الغَدَر، يُقَال ذلك للفَرَسِ وللرَّجُلِ إِذا كانَ لِسَانُه يَثْبُتُ في مَوْضِعِ الزَّلَلِ والخُصُومَةِ. وقال اللِّحْيَانيّ: مَعْنَاهُ ما أَثْبَتَ حُجَّتَه وأَقَلَّ ضَرَرَ الزَّلَقِ والعِثَارِ عليه. قال: وقال الكِسَائِيّ: ما أَثْبَتَ غَدَرَ فلانٍ؛ أَي ما بَقِيِ مِنْ عَقْلِه.
قال ابنُ سِيدَه: ولا يعجبني. وقال الأَصمعيّ: الغَدَرُ: الجِحَرةُ والجِرَفة والأَخَاقِيقُ في الأَرض: فتقولُ: ما أَثْبَتَ حُجَّتَه وأَقَلَّ زَلَقَه وعِثَارَه. وقال ابن بُزُرْج: إِنَّه لثَبْتُ الغَدَرِ، إِذا كانَ ناطَقَ الرِّجالَ ونازَعَهم [كان] قوِيًّا. وفَرَسٌ ثَبْتُ الغَدَرِ: يَثْبُتُ في مَوْضِع الزَّلَل. فاتَّضَحَ بهذه النُّصُوص أَنَّه ليس بمُخْتَصٍّ بالإِنْسَان بل يُسْتَعْمَل في الفَرَسِ أَيْضًا.
والغَدْرَةُ، بالفَتْح، هكذا في سائر النُّسَخ، والصَّوابُ «الغَيْدَرَة» كحَيْدَرَة: الشَّرُّ، عن كُراع، كذا في اللِّسَان، وهو لُغَةٌ في «الغَيْذَرَةِ» بالغَيْن والذال المُعْجَمَتَيْن، كما وهو أَيضًا التَّخْلِيطُ وكَثْرَةُ الكَلام. والغَيْدارُ، بالفَتْح: الرَّجُلُ السَّيِّئُ الظَّنِّ فيَظُنُّ، هكذا في النُّسَخ بالفاءِ وصَوابُه: يَظُنُّ فيُصِيبُ، كما في اللّسَان وغيره.
وآلُ غُدْرَانٍ، بالضَّمّ: بَطْنٌ من العَرَبِ.
ويُقَال: خَرَجْنَا في الغَدْرَاء أَي الظُّلْمَة. والغَدْرَاءُ أَيضًا: اللَّيْلَة المُظْلِمَة؛ قاله ابنُ القَطّاع.
وغَدْرٌ، بالفتح، قرية بالأَنْبَار، قلتُ: وإِليها نُسِبَ أَحمدُ بنُ محمّدِ بنِ الحُسَيْنِ الغَدْرِيُّ؛ ذكره المَالِينيّ.
وغُدَرُ، كزُفَرَ: مِخْلافٌ باليَمَن، فيه ناعِط، وهو حِصْنٌ عَجِيبٌ قيل: هو مَأْخُوذٌ من الغَدَر، وهو المَوْضِع الكَثِيرُ الحِجَارَة الصَّعْبُ المَسْلك، ويُصَحَّف بعُذَر، كذا في مُعْجَم ما اسْتَعجم.
* وممّا يُستدرك عليه:
سِنُونَ غَدّارَةٌ، إِذا كَثُرَ مَطَرُهَا وقَلَّ نَباتُهَا، فَعّالَة من الغَدْر؛ أَي تُطمِعُهُم في الخِصْب بالمَطَرِ ثمّ تُخْلِفُ، فجَعلَ ذلك غَدْرًا منها، وهو مَجاز.
وفي الحديث: «أَنّه مَرَّ بأَرْضٍ غَدِرَة فسّمّاهَا خَضِرَة» كأَنّها كانت لا تَسْمَحُ بالنَّبَات، أَو تُنْبِت ثمّ تُسْرِع إِليه الآفَة، فشُبِّهَتْ بالغادِرِ لأَنّه لَا يَفِي.
وقالوا: الذِّئْب غادِرٌ؛ أَي لا عَهْدَ له، كما قالوا: الذِّئب فاجِرٌ.
وأَلقَتِ الناقَةُ غَدَرَها، محرَّكَةً؛ أَي ما أَغْدَرَتْه رَحِمُهَا من الدَّمِ والأَذَى.
وأَلْقَتِ الشاةُ غُدُورَها، وهي بَقَايَا وأَقْذَاءٌ تَبْقَى في الرَّحِم تُلْقِيهَا بَعْد الوِلادَة.
وبه غادِرٌ من مَرَضٍ، وغابِرٌ؛ أَي بَقِيَّة.
وأَغْدَرَهُ: أَلْقاهُ في الغَدَرِ.
وغَدِرَ فُلانٌ بَعْدَ إِخْوَته؛ أَي ماتُوا وَبَقِيَ هو.
وغَدِرَ عن أَصْحَابه، كفَرِحَ: تَخَلَّفَ.
وقال اللّحيانيّ: ناقَةٌ غَدِرَةٌ غَبِرَةٌ غَمِرَةٌ، إِذا كانَت تَخَلَّفُ عن الإِبل في السَّوْق.
وفي النَّهْرِ غَدَرٌ، محرّكةً، هو أَن يَنْضَبَ الماءُ ويَبْقَى الوَحلُ.
وعن ابن الأَعرابيّ: المَغْدَرَة: البِئْر تُحْفَر في آخِرِ الزَّرْعِ لتَسْقِيَ مَذَانِبَه.
وتَغدَّرَ: تَخَلَّفَ؛ قاله الأَصمعيّ، وأَنشد قولَ امْرِئ القَيْس:
عَشِيَّةَ جاوَزْنا حَماةَ وسَيْرُنَا *** أَخُو الجَهْدِ لا نَلْوِي عَلَى مَنْ تَغَدَّرَا
ويُرْوَى: «تَعَذَّرا» أَي احْتَبَسَ لِمَا يُعْذَر به.
وغَدَرَتِ المَرْأَةُ وَلَدَها غَدْرًا: مثل دَغَرَتْهُ دَغْرًا.
وغُدْرٌ، بالضَّمّ: مَوْضِعٌ، وله يَوْمٌ، وفيه يقولُ حارِثَةُ بنُ أَوْسِ بنِ عَبْدِ وَدٍّ، مِنْ بَنِي عُذْرَةِ بنِ زَيْد اللّاتِ، وهَزَمَتْهم يومئذ بَنُو يَرْبُوع:
ولَوْلَا جَرْيُ حَوْمَلَ يَومَ غُدْرٍ *** لَمزَّقَنِي وإِيّاهَا السِّلاحُ
أَوْرَدَه ابنُ الكَلْبِيّ في أَنْسَابِ الخَيْل.
والغادِرِيَّةُ: طائفةٌ من الخَوَارِج؛ قاله الحافِظُ.
والغَدْرُ، بالفَتْح: مَحَلّة بمِصْر.
وعَبْدُ الله بنُ رِفَاعَةَ بنِ غَدِيرٍ السَّعْدِيّ، صاحِبُ الخِلَعيّ، مُحَدِّث مشهور.
وغَدِيرُ خُمّ: سيأْتي في المِيمِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
68-تاج العروس (قتر)
[قتر]: القَتْرُ والتَّقْتِيرُ: الرُّمْقَةُ من العَيْشِ. وقال اللّيْث: القَتْرُ: الرُّمْقَةُ في النَّفَقَة، قَتَرَ يَقْتُرُ، بالضَّمّ، ويَقْتِرُ، بالكَسْرِ، قَتْرًا وقُتُورًا، كقُعُود، فهو قاتِرٌ وقَتُورٌ، كصَبُور، وقَتَّرَ عَلَيْهِم تَقْتِيرًا وأَقْتَرَ إِقْتَارًا: ضَيَّقَ في النَّفَقَةِ، وقُرِئَ بهما قولُه تعالَى: {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} وقال الفَرّاءُ: لم يُقَتِّرُوا عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِم من النَّفَقَة. وفاتَتْه اللُّغَةُ الثالِثَة، وهي: قَتَرَ عَلَى عِيَالِه يَقْتِرُ ويَقْتُرُ قَتْرًا وقُتُورًا: ضَيَّقَ عليهم، فالقَتْرُ والتَّقْتِيرُ والإِقْتَارُ ثلاثُ لُغَاتٍ، صَرَّح به في المُحْكَم. وفي الحديث: «بِسُقْمٍ في بَدَنِه وإِقْتَارٍ في رِزْقِه» قال ابنُ الأَثِير: يقال: أَقْتَرَ الله رِزْقَه؛ أَي ضَيَّقَهُ وقَلَّلَهُ. وقال المُصَنّف في البَصَائر: كأَنَّ المُقْتِرَ والمُقَتِّرَ يَتَناوَلُ من الشَّيْءِ قُتَارَهُ.والقَتَرُ والقَتَرَةُ ـ محرّكَتَيْن ـ والقَتْرُ، بالفَتْح: الغَبَرَةُ ـ ومنه قولُه تَعالَى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ} ـ عن أَبي عُبَيْدَةَ، وأَنشد للفَرَزْدَقِ:
مُتَوَّج برِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُهُ *** مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرّايَاتِ والقتَرَا
وفي التَّهْذِيب: القَتَرَةُ: غَبَرَةٌ يَعْلُوها سَوَادٌ كالدُّخانِ. وفي النّهَايَة: القَتَرَةُ: غَبَرَةُ الجَيْشِ.
والقُتَارُ، كهُمَامٍ: رِيحُ البَخُورِ، وهو العُودُ الذي يُحْرَقُ فَيُدَخَّنُ به، قال الأَزهريّ: وهو صَحِيح. وقال الفَرّاءُ: هو آخِرُ رائِحَةِ العُودِ إِذا بُخِّرَ به؛ قالَه في كِتاب المَصَادِر. وقال طَرَفَةُ:
حينَ قالَ القَوْمُ في مَجْلِسِهِمْ *** أَقُتَارٌ ذاكَ أَمْ رِيحُ القُطُرْ
والقُطُرُ: العُودُ الذي يُتَبَخَّرُ به والقُتَارُ: رِيحُ القِدْرِ، وقد يكونُ من الشِّواءِ والعَظْمِ المُحْرَقِ، ورِيحُ اللّحْمِ المَشْوِيّ. وفي حديث جابرٍ: «لا تَؤْذِ جارَك بقُتَارِ قِدْرِك» هو رِيحُ القِدْرِ والشِّواءِ ونَحْوِهما. وفي التَّهْذِيب: القُتَارُ عند العَرَب: رِيحُ الشِّواءِ إِذا ضُهِّبَ على الجَمْرِ، وأَمّا رائِحَةُ العُودِ [إِذا أُلقي على النار] فإِنّه لا يُقَالُ له القُتَارُ، ولكنّ العرَبَ وَصَفَت اسْتطابَةَ المُجْدِبِينَ رائحَةَ الشِّواءِ أَنّه عندهم لشِدَّةِ قَرَمِهِم إِلى أَكْلِه كرائحَةِ العُودِ لطِيبِه في أُنُوفهم. وقال لَبِيدٌ:
ولا أَضِنُّ بمَعْبُوطِ السَّنَامِ إِذا *** كانَ القُتَارُ كَمَا يُسْتَرْوَحُ القُطُرُ
أَخْبَرَ أَنَّه يَجُودُ بإِطْعَامِ اللَّحْمِ في المَحْلِ إِذا كان رِيحُ قُتَارِ اللَّحْمِ عند القَرِمِين كرائحَةِ العُودِ يُبَخَّر به.
قَترَ اللَّحْمُ، كفَرِحَ ونَصَرَ وضَرَبَ، وقَتَّر تَقْتِيرًا: سَطَعَتْ رائحَتُه؛ أَي رِيحُ قُتَارِه.
والتَّقْتِيرُ: تَهْيِيجُ القُتَارِ. وقَتَّرَ للأَسَدِ تَقْتِيرًا: وَضَعَ له لَحْمًا في الزُّبْيَةِ يجِدُ قُتارَه؛ أَي رِيحَه، وقَتَّرَ الصائدُ للوَحْشِ، إِذا دَخَّنَ بأَوْبارِ الإِبلِ لئلَّا يَجِدَ رِيحَ الصائِدِ فيَهْرُب منه. وقَتَّرَ فُلانًا: صَرَعَه على قُتْرَةٍ، بالضَّمِّ. وقَتَّرَ بَيْنَهُمَا تَقْتِيرًا: قارَبَ، وقال اللَّيْثُ: التَّقْتِيرُ: أَنْ تُدْنِيَ مَتَاعَك بَعْضَه من بَعْض، أَو بَعْضَ رِكَابِكَ من بَعْض.
والقُتْرُ، بالضَّمّ وبضَمَّتَيْن: النّاحِيَة والجانِب، لغةٌ في القُطْرِ، وهي الأَقْتارُ والأَقْطَار.
وتَقَتَّرَ: غَضِبَ وتَنَفَّشَ، وتَقَتَّرَ للأَمْرِ: تَهَيَّأَ لَهُ وغَضِبَ، وتَقَتَّرَ فلانٌ للقِتَالِ: مثل تَقَطَّرَ. وقال الزمخشريّ: تَقَتَّر للأَمْرِ، إِذا تَلَطَّفَ له، وهو مَجاز و. تَقَتَّرَ فُلانًا: حاوَلَ خَتْلَهُ والاسْتِمْكَانَ به، كاسْتَقْتَرَه، الأَخيرةُ عن الفارسيّ، وقد تَقَتَّرَ عَنْه وتَقَطَّرَ، إِذا تَنَحَّى، قال الفرزدقُ:
وكُنَّا به مُسْتَأْنِسِينَ كأَنَّهُ *** أَخٌ أَو خَلِيطٌ عن خَلِيطٍ تَقَتَّرَا
والتَّقَاتُرُ: التَّخاتُل، عنه أَيضًا.
والقَتْرُ، بالفَتْح: القَدْرُ، كالتَّقْتِيرِ؛ هكذا ذَكَرَهُمَا صاحبُ اللّسَان. يقال: قَتَرَ ما بَيْنَ الأَمْرَيْن، وقَتَّرَه: قَدَّرَه. وقال الصاغانيّ: القَتْرُ، بالفَتْح: التَّقْدِيرُ. يقال: اقْتُرْ رُؤُوسَ المَسَامِيرِ؛ أَي قَدِّرْهَا، فلا تُغلِّظْهَا فتَخْرِمَ الحَلْقَةَ، ولا تُدَقِّقها فتَمْرَجَ وتَسْلَس. ويُصِدِّق ذلك قولُ دُرَيْدِ بنِ الصِّمَّة:
بَيْضَاءُ لا تُرْتَدَى إِلَّا إِلى فَزَعٍ *** مِنْ نَسْجِ دَاوُودَ فِيها السَّكُّ مَقْتُورُ
ويُحَرَّك.
والقِتْرُ، بالكَسْرِ: نَصْلٌ لسِهَامِ الهَدَفِ، وقال الجوهريّ: القِتْرُ: ضَرْبٌ من النِّصالِ. وفي التَّكْمِلَة: القِتْرُ: بالكسر: السَّهْمُ الذي لا نَصْلَ فيه، فيما يُقَال. وقال اللَّيْث: هي الأَقْتَارُ، وهي سِهَامٌ صِغارٌ. يقال: أُغَالِيكَ إِلى عَشْرٍ أَو أَقَلَّ، فذلِكَ القِتْرُ بلُغَة هُذَيْل، يُقَال: كم جَعَلْتُم قِتْرَكُم؟ وأَنشد قولَ أَبي ذُؤَيْبٍ يصفُ النَّحْل:
إِذا نَهَضَتْ فِيه تَصَعَّدَ نَفْرَها *** كقِتْرِ الغِلاءِ مُسْتَدِرًّا صِيَابُهَا
القِتْرُ: سَهْمٌ صغيرٌ. والغِلَاءُ: مصدرُ غالَى بالسَّهْمِ، إِذا رَمَاه غَلْوَةً. وقال ابنُ الكَلبيّ: أَهْدَى يَكْسُومُ ابنُ أَخِي الأَشْرَم للنَّبيّ صلى الله عليه وسلم سِلاحًا، فيه سَهْمٌ لَغْبٌ، وقد رُكِّبت مِعْبَلَةٌ في رُعْظِه، فقَوَّم فُوقَه، وقال: هو مُسْتَحْكِمُ الرِّصافِ، وسَمّاهُ قِتْرَ الغِلَاءِ.
والقِتْرُ والقِتْرَةُ أَيضًا: نَصْلٌ كالزُّجِّ حَدِيدُ الطَّرْفِ قَصِيرٌ نحوٌ من قَدْرِ الإِصبع، أَو قَصَبٌ يُرْمَى بها الْهَدَفُ. وقِيلَ: القتْرَةُ وَاحِدَة، والقِتْرُ جَمْعٌ، فهو على هذا من بابِ سِدْرَةٍ وسِدْرٍ. وقال أَبو حَنيفَةَ: القِتْرُ من السِّهام: مثلُ القُطْبِ، واحِدَتُه قِتْرَةٌ، والقِتْرَةُ والسِّرْوَة واحِدٌ.
والقَتِرُ، ككَتِفٍ: المُتَكَبِّرُ، عن ثعلب، وأَنشد:
نَحْنُ أَجَزْنَا كُلَّ ذَيّالٍ قَتِرْ *** في الحَجِّ من قَبْلِ دَآدِي المُؤْتَمِرْ
ومن المَجَاز: لاحَ به القَتِيرُ، كَأَمِير: الشِّيْبُ، أَوْ أَوّلُه.
وأَصلُ القَتِير رُؤُوسُ مَسَامِير حَلَقِ الدُّرُوعِ تَلُوحُ فيها، شَبَّهَ به الشَّيْبَ إِذا نَقَّبَ في سَوَادِ الشَّعرِ، ولو قال «الدِّرْع» كما في الصحاح كانَ أَحسنَ. وقرأْتُ في كِتاب «الدِّرْع والبَيْضَة» لأَبي عُبَيْدَةَ مَا نصّه: ويُقَال لطَرَفَيِ الحِرْباءِ اللَّذَيْنِ هُمَا نِهَايَةُ الحِرْبَاءِ، من ناحِيَتَيْ طَرَفَيِ الحَلْقَةِ، ثم يُدَقَّانِ فيَعْرُضَانِ لئلّا يَخرُجَا من الخَرْت، وكأَنّهما عَيْنَا الجَرَادَةِ: قَتِيرَانِ، والجَمْع قَتَائِرُ وقُتُرٌ، ويُقَال للقَتِيرِ إِذا كانَ مُدَاخَلًا ولا يَكَادُ يُرَى من اسْتوَائه بالحَلْقَةِ: قَتِيرٌ مُعَقْرَبٌ، قال:
وزُرْق من الماذِيِّ كَرَّهَ طَعْمَهَا *** إِلى المَشْرَفِيّاتِ القَتِيرُ المُعَقْرَبُ
ويُشَبَّهُ القَتِيرُ بحَذَقِ الجَرادِ، وبحَدَقِ الأَساوِدِ، وبالقَطْر من المَطَرِ. وذَكَرَ لها شَواهِدَ ليس هذا مَحَلَّها.
والقاتِرُ والمُقْتِرُ، كمُحْسِن، الأَخيرةُ للصاغانيّ، مِنَ الرِّحالِ والسُّرُوجِ: الجَيِّدُ الوُقُوعِ على الظَّهْرِ؛ أَي ظَهْرِ البَعِيرِ، أَو اللَّطِيفُ منها، وقِيل: هو الذي لا يَسْتَقْدِمُ ولا يَسْتَأْخِرُ وقال أَبو زَيْد: هو أَصْغَرُ السُّروجِ. وقَرأْتُ في «كتاب السَّرْج واللِّجام» لابنِ دُرَيْد، في بابِ صفاتِ السَّرْج: وسَرْجٌ قاتِرٌ، إِذا كَانَ حَسَنَ القَدِّ مُعْتَدِلًا، ويُقَابِلُهُ الحَرَجُ.
والقُتْرَةُ، بالضَّمّ: نامُوسُ الصائدِ الحَافِظُ لِقُتَارِ الإِنْسَان؛ أَي رِيحِه، كما في البَصَائر، وقد أَقْتَرَ فِيها، هكذا في النُّسَخ من باب الإِفْعَال، والصَّوابُ كما في اللّسَان والأَسَاس: «اقْتَتَرَ فيها» من باب الافْتِعَال، قال الزمخشريّ: أَي اسْتَتَر. وتَقَتَّر للصَّيدِ: تَخَفَّى في القُتْرَة ليَخْتِلَه. وقال أَبو عُبَيْدَة: القُتْرَةُ: البِئْرُ يَحْتَفِرُهَا الصائدُ يَكْمُنُ فِيها، وجَمْعُهَا قُتَرٌ والقُتْرَةُ: كُثْبَةٌ من بَعرِ أَو حَصًى تكونُ قُتَرًا قُتَرًا. قال الأَزهريّ: أَخاف أَنْ يَكُونَ تصحيفًا، وصَوابُه القُمْزَةُ، والجَمْعُ قُمَز، للكُثْبَةِ من الحَصَى وغَيْرِه.
وقَتَرَ الشيءَ: ضَمَّ بعضَه إِلى بَعْضٍ، وكذلك قَتَّرَه، بالتَّشْدِيد، كما تقدّم، وقَتَرَ الدِّرْعَ: جَعَلَ لها قَتِيرًا؛ أَي مِسْمَارًا؛ نَقله الصاغانيّ. وقَتَرَ الشَّيْءَ: لَزِمَه، كأَقْتَرَ، نقله الصاغانيّ، ونَصّ عِبَارِته: وأَقْتَرَ الرَّجُلُ، إِذا لَزِمَ، مِثْلُ قَتَرَ.
ومن المَجَازِ: عَضَّهُ ابنُ قِتْرَةَ، بالكَسْرِ: حَيَّةٌ خَبِيثَةٌ إِلى الصِّغَر ما هُوَ، لا يَنْجُو سَمِيمُهَا مشتقٌّ من قِتْرَةِ السَّهْمِ، وقيل: هو بِكْرُ الأَفْعَى، وهو نَحْوُ الشِّبْر، يِنْزُو ثمّ يَقَعُ. وقال شَمِرٌ: ابنُ قِتْرَةَ: حَيَّةٌ صغيرةٌ تَنْطَوِي ثم تَنْزُو في الرَّأْس، والجمعُ بَناتُ قِتْرَةَ. وقال ابنُ شُمَيْل: هو أُغَيْبرُ اللَّوْنِ صَغِيرٌ أَرْقَطُ يَنْطَوِي ثم يَنْقُزُ ذِراعًا أَو نحوَها؛ وهو لا يُجْرَى، يُقَالُ: هذا ابنُ قِتْرَةَ. وأَنشد:
له مَنْزِلٌ أَنْفُ ابنِ قِتْرَةَ يَقْتَرِي *** بِهِ السّمَّ لم يَطْعَمْ نُقَاخًا ولا بَرْدَا
وقِتْرَةُ مَعْرِفةٌ لا يَنْصرِف. وصَرَّحَ الزَّمخشريّ أَنّها إِنّمَا سُمِّيَتْ بذلك كأَنَّ لها قِتْرَةً تَرْمِي بها، قال:
أَحْدُو لِمَوْلاتِي وتُلْقِي كِسْرَهْ *** وإِنْ أَبَتْ فعَضَّها ابنُ قِتْرَهْ
ومن المَجاز: أَبو قِتْرَةَ: إِبْلِيسُ، لَعَنَهُ الله تعالَى، وهي كُنْيَتُه، أَو قِتْرَةُ: عَلَمٌ للشَّيْطَانِ، وفي الحَدِيث: «تَعَوَّذُوا بالله من الأَعْمَيَيْنِ، ومن قِتْرَةَ وما وَلَدَ».
قال الخَطّابِيّ في إِصلاح الأَلفاظ: يُرِيدُ بالأَعْمَيَيْن الحَرِيقَ والسَّيْلَ.. وقِتْرَةُ، بكَسْرٍ فَسُكُون: من أَسماءِ إِبْلِيسَ. وقيل: كُنْيَتُه أَبو قِتْرَةَ.
وهكذا نقَلَهُ الحَافِظُ في التَّبْصِير.
وأَقْتَرَ الرَّجُلُ: افْتَقَر، قال:
لَكُمْ مَسْجِدَ الله المَزُورَانِ، والحَصَى *** لَكُمْ قِبْصُهُ من بَيْنِ أَثْرَى وأَقْتَرَا
يريدُ من بَيْنِ من أَثْرَى وأَقْتَر. وفي الحَدِيثِ: «فَأَقْتَرَ أَبَواه حَتَّى جَلَسَا مع الأَوْفاض»؛ أَي افْتَقَرا حَتّى جَلَسَا مع الفُقَرَاءِ. ويُقَالُ: أَقْتَر: قَلَّ مالُه ولَهُ بَقِيَّةٌ مع ذلك. فهو مُقْتِرٌ. وأَقْترَتِ المَرْأَةُ فهي مُقْتِرَةٌ، إِذا تَبَخَّرَت بالعُودِ، قال الشاعِر:
تَرَاهَا الدَّهْرَ مُقْتِرَةً كِبَاءً *** ومِقْدَحَ صَفْحَةٍ فيها نَقِيعُ
والقَتُورُ، كصَبُور: البَخِيلُ، يقال: رَجُلٌ مُقَتِّرٌ وقَتُورٌ.
وقولُه تعالى: {وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا} تَنْبيهٌ على ما جُبِلَ عليه الإِنْسَانُ من البُخْل؛ كذا في البَصَائر.
وقُتَيْرَةُ، كجُهَيْنَةَ: اسمٌ، وقُتَيْرَةُ: أَبو قَبِيلَةٍ من تُجِيبَ، منهم المُحَدِّثانِ مُحَمّدُ بنُ رَوْحٍ، حَدَّث عن جماعَة، وعنه الحَسَنُ بنُ داوُودَ بنِ وَرْدَانَ؛ والحَسَنُ بنُ العَلاءِ القُتَيْرِيّانِ، عن عَبْدِ الصَّمَدِ بنِ حَسّانَ، وعنه جابِرُ بنُ قَطَنٍ الخُجَنْديّ. وفاتَهُ حَبِيبُ بنُ الشّهِيدِ القُتَيْرِيُّ، مَوْلَى عُقْبَةَ بنِ نَجْدَةَ القُتَيْرِيِّ، رَوَى عنه يَزِيدُ بن أَبِي حَبِيب؛ هكذا ضَبَطَهُ الأَئِمَّة بالتَّصْغِيرِ في كلّ ذلك، وضَبَطَهُ الحافِظُ في التَّبْصِير بفَتْح فكَسر.
* ومّما يُسْتَدْرك عليه:
الْقُتْرَة، بالضَّمِّ: ضِيقُ العَيْشِ، وهو مَجازٌ.
ولحمٌ قاتِرٌ، إِذا كانَ لَهُ قُتَارٌ، لِدَسَمِه، ورُبّمَا جَعَلَتِ العربُ الشَّحْمَ واللَّحْمَ قُتَارًا، ومنه قولُ الفَرَزْدَقِ:
إِلَيْكَ تَعَرَّقْنَا الذُّرَا برِحَالِنَا *** وكُلَّ قُتَارٍ في سُلامَى وفي صُلْبِ
وكِبَاءٌ مُقَتَّر، كمُعَظَّم.
وقَتَرَتِ النارُ: دَخَّنَت. وأَقْتَرتُهَا أَنا.
واسْتَقْتَرَهُ: حاوَلَ الاسْتمكانَ به؛ عن الفَارِسيّ.
والقُتْرَةُ، بالضَّمّ: صُنْبُورُ القَنَاةِ. وقِيل: هو الخَرْقُ الَّذِي يَدْخُل منه الماءُ الحائطَ، وهو مَجاز.
ورَحْلٌ قاتِرٌ؛ أَي قَلقٌ لا يَعْقِرُ ظَهْرَ البَعِيرِ. وفي الأَساسِ: إِذا كانَ قَدْرًا لا يَمُوجُ فيَعْقِر.
والقَتِيرُ: الدِّرْعُ نَفْسُها، قال سَاعِدَةُ بن جُؤَيَّةَ:
ضَبْرٌ لِبَاسُهُمُ القَتِيرُ مُؤَلَّبُ
وهو مما جاءَ بَعْض ما في الدّرعِ فقامَ مَقَامَ الدِّرْعِ، وهو مستدرَكٌ على أَبي عُبَيْدَة، فإِنّه لم يذكُرْه في كِتابه.
والقُتْرَة، بالضَّمّ: الكُوَّةُ، والجَمْعُ القُتَر، ومنه قولُهم: اطَّلَعْنَ من القُتَرِ؛ أَي الكُوَى وهُوَ مجازٌ، وبه فُسِّرَ حَدِيثُ أَبي أُمَامَة رضي الله عنه: «مَن اطَّلعَ من قُتْرَةٍ ففُقِئَتْ عَيْنُه فَهِيَ هَدَرٌ».
والقُتْرَةُ أَيضًا: النافِذَة، وعَيْنُ التَّنُّورِ، وحَلْقَةُ الدِّرْعِ. وقُتْرةُ البابِ: مَكانُ الغَلقِ؛ وكُلُّ ذلك مَجاز.
وجَوْبٌ قاتِرٌ؛ أَي تُرْسٌ حَسَنُ التَّقْدِيرِ. ومنه قولُ أَبي دَهْبَلٍ الجُمَحِيّ:
دِرْعِي دِلَاصٌ شَكُّهَا شَكٌّ عَجَبْ *** وَجَوْبُهَا القاتِرُ من سَيْرِ اليَلَبْ
وفي الحَدِيث: «يُقَتِّرُ بَيْنَ يَدَيْه» قال ابنُ الأَثِير: أَي يُسوِّي لَهُ النُّصُولَ، ويَجْمَع له السِّهَامَ. من التَّقْتِير، وهو إِدْنَاءُ أَحَدِهِمَا إِلى الآخَر.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
69-تاج العروس (قدر)
[قدر]: القَدَرُ، محرّكةً: القَضَاءُ المُوَفَّق، نقله الأَزهرِيُّ عن اللَّيْث، وفي المُحْكَم: القَدَرُ: القَضَاءُ والحُكْمُ، وهو ما يُقدِّرُه الله عَزَّ وجَلَّ من القَضَاءِ ويَحْكُمُ به من الأُمورِ.والقَدَرُ أَيضًا: مَبْلَغُ الشَّيْءِ. ويُضَمُّ، نقله الصاغانيّ عن الفرّاءِ، كالمِقْدَارِ، بالكَسْر. والقَدَر أَيضًا: الطَّاقَة، كالقَدْرِ، بفَتْح فسُكُون فِيهما، أَمّا في معنَى مَبْلَغِ الشَّيْءِ فقد نَقَلَه اللَّيْث، وبه فَسَّرَ قَولَه تَعَالَى: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} قال: أَي ما وَصَفوهُ حَقَّ صِفَتِه. وقال: والقَدْر والقَدَر ها هنا: بمعنًى واحِدٍ. وقَدَرُ الله وقَدْرُهُ بمَعْنًى، وهو في الأَصلِ مَصْدرٌ. وقال أَيضًا: والمِقُدَارُ: اسمُ القَدَرِ.
وأَمّا في مَعْنَى الطَّاقَةِ فقَدْ نُقِلَ الوَجْهَانِ عن الأَخْفَشِ؛ ذَكَرَه الصاغَانيّ، وذَكَرَه الأَزهرِيّ عنه وعن الفَرّاءِ. وبِهِمَا قُرِئ قولُه تَعَالَى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} قال الأَزهريُّ: وأَخبَرَنِي المُنْذِرِيّ عن أَبي العَبّاس في قوله تعالَى: {عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}. وقَدْرُه قال: التَّثْقِيلُ أَعْلَى اللُّغَتَيْنِ وأَكْثَرُ، ولِذلك اخْتِير. قال: واخْتَارَ الأَخْفَشُ التَّسْكِينَ قال: وإِنَّمَا اخترنَا التَّثْقِيل لأَنَّه اسمٌ. قال الكسائيّ؛ يُقْرَأُ بالتَّخفِيف وبالتَّثْقِيل، وكلٌّ صَوابٌ. قلتُ: وبالقَدْرِ بمعنَى الحُكْمِ فُسِّرَ قولُه تعالَى: {إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أَي الحُكْمِ، كما قال تعالَى: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، وأَنشد الأَخْفَشُ لهُدْبَةَ بنِ الخَشْرَمِ:
أَلَا يَا لَقَوْمِي للنَّوائبِ والقَدْرِ *** وللأَمْرِ يَأْتِي المَرْءَ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي
فقولُ المُصَنّف «كالقَدْرِ» فيهما مَحَلُّ نَظَر، والصَّوابُ «فيها» أَي في الثَّلاثَة، فتَأَمَّلْ. والقَدْرُ، بالمَعَاني السابِقَة، كالقَدَرِ فيها، الجمع: أَقْدَارٌ؛ أَي جَمْعُهَا جَمِيعًا. وقال اللّحْيَانيّ: القَدَرُ الاسْمُ، والقَدْر المَصْدَرُ. وأَنشد:
كُلُّ شيْءٍ حَتَّى أَخِيكَ مَتَاعُ *** وبِقَدْرٍ تَفَرُّقٌ واجتماعُ
وأَنشدَ في المَفْتُوح:
قَدَرٌ أَحَلَّكَ ذا النُّخَيْلِ وقد أَرَى *** وأَبِيكَ مالَكَ ذُو النُّخَيْلِ بِدَارِ
قال ابنُ سِيدَه: هكذا أَنشدَهُ بالفَتْحِ، والوَزْنُ يَقْبَل الحَرَكَةَ والسُّكُونَ.
والقَدَرِيَّةُ، مُحَرَّكَةً: جاحِدُو القَدَرِ، مُوَلَّدةٌ. وقال الأَزهرِيّ: هم قومٌ يُنْسَبُونَ إِلى التَّكْذِيبِ بما قَدَّر الله من الأَشْيَاءِ. وقال بعضُ مُتَكَلِّمِيهمٍ: لا يَلْزَمُنَا هذا اللَّقَب، لأَنَّنَا نَنْفِي القَدَرَ عن الله عزّ وجلّ، ومَنْ أَثْبَتَهُ فهُوَ أَوْلَى بِه.
قال: وهذا تَمْوِيهٌ منهم؛ لأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ القَدَرَ لأَنْفُسِهم، ولِذلك سُمُّوا قَدَرِيَّةً. وقولُ أَهْلِ السُّنَّة إِنَّ عِلْمَ الله عَزّ وجلَّ سَبَقَ في البَشَرِ، فعَلِمَ كُفْرَ مَنْ كَفَرَ منهم كما عَلِمَ إِيمانَ من آمَنَ، فأَثْبَتَ عِلْمَه السابقَ في الخَلْق وكَتَبَه، وكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له [وكُتِبَ عليه].
ويُقَال: قَدَرَ الله تعالَى ذلك عَلَيْه يَقْدُرُهُ، بالضَّمّ، ويَقْدِرُه، بالكَسْر، قَدْرًا، بالتَّسْكِين، وقَدَرًا، بالتَّحْرِيك، وقَدَّرَهُ عليه تَقْدِيرًا، وقَدَّرَ لَهُ تَقْدِيرًا: كلُّ ذلك بمَعْنًى. قال إِياسُ بنُ مالِك:
كِلَا ثَقَلَيْنَا طامِعٌ بغَنِيمَةٍ *** وقَدْ قَدَرَ الرَّحْمنُ ما هُوَ قادِرُ
قولُه: ما هو قادِر؛ أَي مُقَدِّرٌ. وأَرادَ بالثَّقَلِ هُنَا النِّسَاءَ.
واسْتَقْدَرَ الله خَيْرًا، سَأَلَهُ أَنْ يَقْدُرَ له به، من حَدِّ نَصَرَ، كما في نُسْخَتِنَا. وفي بَعْضِها «أَنْ يُقَدِّرَ له به» بالتَّشْدِيد، وهما صَحِيحَان. قال الشاعر:
فاسْتَقْدِرِ الله خَيْرًا وارْضَيَنَّ بهِ *** فبَيْنَمَا العُسْرُ إِذ دَارَتْ مَياسِيُر
وفي حديث الاسْتِخارَة: «اللهُمَّ إِني أَسْتَقْدِرُك بقُدْرَتِك»؛ أَي أَطْلُبُ منك أَن تَجْعَلَ لي عليه قُدْرَةً.
وقَدَرَ الرِّزْقَ يَقْدُرُه ويَقْدِرُه: قَسَمَهُ، قِيلَ: وبه سُمِّيَت لَيْلَةُ القَدْرِ؛ لأَنَّهَا تُقَسَّم فيها الأَرزاقُ.
والقَدْرُ، بفتح فسُكُون؛ الغِنَى واليَسَارُ، وهُمَا مَأْخُوذان مِن القُوَّة، لأَنَّ كُلًّا منهما قُوَّةٌ، كالقُدْرَةِ، بالضّمّ، والمَقْدِرَةِ، مثلثةَ الدالِ، يُقَال: رَجُلٌ ذو قُدْرَة ومَقْدرَةٍ؛ أَي ذُو يَسَارٍ. وأَمَّا مِنَ القَضَاءِ والقَدَرِ فالمَقْدَرَةُ، بالفَتْح لا غَيْرُ.
قال الهُذَليّ:
وما يَبْقَى على الأَيّامِ شَيْءٌ *** فيا عَجَبًا لمَقْدَرَةِ الكِتَابِ
والمِقْدَارُ والقَدْرُ: القُوَّة. وأَمّا القَدَارَةُ، بالفَتْح، والقَدَرُ، محرَّكَةً، والقُدُورَةُ والقُدُورُ، بضَمِّهما، فمِنْ قَدِرَ، بالكَسْر، كالقُدْرَة، والقِدْرَانِ، بالكَسْر، وفي التهذيب بالتَّحْرِيك ضَبْطَ القَلَم، والقَدَارُ، بالفَتْح ذَكره الصاغانيّ، ويُكْسَرُ، وهذه عن اللّحيانيّ، والاقْتِدار على الشَّيْءِ: القُدْرَةُ عَلَيه والفِعْلُ كَضَرب، وهي اللُّغة المشهورةُ ونَصَرَ، نَقَلَهَا الكسائيُّ عن قوم من العَرَبِ، وفَرِحَ، نقلها الصّاغَانيّ عن ثَعْلَب، ونَسَبَهَا ابنُ القَطّاع لِبَنِي مُرَّةَ من غَطَفَانَ، واقْتَدَرَ. وهُوَ قادرٌ وقَديرٌ ومُقْتَدِرٌ.
وأَقْدَرَه الله تعالَى على كذا؛ أَي جَعَلَه، قادِرًا عليه.
والاسْمُ من كُلِّ ذلك المَقْدرَةُ، بتثليث الدّال.
والقَدْر: التَّضْييق، كالتَّقْدِير. والقَدْر: الطَّبْخُ. وفِعْلُهُمَا كضَرَبَ ونَصَر، يُقَال: قَدَرَ عليه الشَّيْءَ يَقْدِرُه ويَقْدُرُه قَدْرًا وقَدَرًا، وقَدَّرَه: ضَيَّقَه، عن اللّحيانيّ. وتَرْكُ المُصَنِّف القَدَرَ بالتَّحْرِيك هنا قُصُورٌ.
وقولُه تَعَالَى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أَي لَنْ نُضَيِّق عليه؛ قاله الفَرّاءُ وأَبو الهَيْثَم. وقال الزَّجّاج: أَي لَنْ نُقدِّر عليه ما قَدَّرنا من كوْنِه في بَطْنِ الحُوتِ. قال: ونَقْدِرُ: بمعنَى نُقدِّر. قال: وقد جَاءَ هذا في التَّفْسِير. قال الأَزهريّ: وهذا الذي قالَهُ صحيحٌ، والمعنى ما قَدّرَهُ الله عَلَيْه من التَّضْيِيقِ في بَطْنِ الحُوت... وكُلُّ ذلك سائغٌ في اللُّغَة، والله أَعلم بما أَراد. وأَمّا أَنْ يكونَ من القُدْرَة فلا يَجُوز، لأَنَّ من ظَنَّ هذا كَفَر، والظَّنُّ شَكٌّ، والشَّكُّ في قُدْرَةِ الله تعالَى كُفْرٌ. وقد عَصَمَ الله أَنْبِيَاءَه عن ذلك، ولا يَتَأَوَّل مِثْلَه إِلّا جاهلٌ بكلامِ العَرَب ولُغَاتِهَا. قال: ولَمْ يَدْرِ الأَخْفَشُ ما مَعْنَى نَقْدِر، وذَهَب إِلى مَوضع القَدْرَة، إِلى مَعْنَى فظَنَّ أَن لا يَفُوتَنا، ولم يَعْلَمْ كلامَ العرب حتى قال: إِنّ بعض المفسّرين قال: أَرادَ الاسْتِفْهَام: أَفَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْه؟ ولو عَلِمَ أَنّ معنَى نَقْدِر: نُضَيِّق، لم يَخْبِطْ هذا الخَبْطَ. قال ولَمْ يَكُنْ عالِمًا بكلام العَرَب، وكان عالِمًا بقياسِ النَّحْو.
وقال: وقولُه تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أَي ضُيِّقَ.
وَقَدَر عَلَى عِيَالِه قَدْرًا: مِثْل قَتَرَ. وقُدِرَ على الإِنْسَانِ رِزْقُه: مثل قُتِرَ.
وأَمّا القَدْرُ بمعنَى الطَّبْخِ الّذِي ذكرَهُ المُصَنّف فإِنّه يُقال: قَدَرَ القِدْرَ يَقْدُرهَا ويَقْدِرُها قَدْرًا: طَبَخَهَا. ومنهحَدِيثُ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ: «أَمَرنِي مَوْلايَ أَنْ أَقْدُرَ لَحْمًا» أَي أَطْبُخَ قِدْرًا من لَحْم. واقْتَدَرَ: أَيضًا: بمَعْنَى قَدَرَ، مثلُ طَبَخَ واطَّبَخَ، وقد تَرَكَه المصنّف هُنَا قُصورًا، ولَمْ يَذْكُرُهْ فيما بَعْد، ولهذا لَوْ قَالَ: والقَدْرُ: التَّضْيِيقُ كالتَّقْدِيرِ، والقَدْرُ: الطَّبْخُ كالاقْتِدار، لكانَ أَحْسَنَ.
والقَدْرُ: التَّعْظِيمُ، وبه فُسِّر قولُه تَعَالَى: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَي ما عَظَّمُوا الله حَقَّ تَعْظِيمِه.
والقَدْرُ؛ تَدْبِيرُ الأَمْرِ، يُقَالُ: قَدَرَهُ يَقْدِرُه، بالكَسْرِ أَي دَبَّرَه.
والقَدْرُ: قِياسُ الشَّيْءِ بالشَّيْءِ يُقَالُ: قَدَرَه بِهِ قَدْرًا، وقَدَّرَهُ، إِذا قاسَهُ. ويُقَالُ أَيضًا: قَدَرْتُ لِأَمْرِ كذا أَقْدِرُ لَهُ، بهذا المعنَى. ومنهحَدِيث عائشةَ رَضي الله عنها: «فَاقْدِرُوا قَدْرَ الجَارِيَةِ الحَدِيثَةِ السِّنِّ المُشْتَهِيَة للنّظَر»؛ أَي قَدِّرُوا وقايِسوا وانظُرُوه وأَفْكِرُوا فيه.
والقَدْرُ: الوَسَطُ من الرِّحالِ والسُّرُوجِ يقال: رَحْلٌ قَدْرٌ، وسَرْجٌ قَدْرٌ؛ ذكره الزمخشري في الأَساس. وزادَ في اللسان: يُخَفَّف ويُثقَّل. وفي عبارة المُصَنّف قُصُورٌ ظاهِرٌ.
ولم يذكر أَبو عُبَيْدَة في كِتَابِ «السَّرْجِ واللجَام» إِلَّا: سَرْجٌ قاتِرٌ، وقد تقدّم، وكَأَنّ الدالَ لُغَةٌ في التاءِ. وفي التَّهْذِيب: سَرْجٌ قادرٌ: قاترٌ، وهو الواقِي الذي لا يَعْقِرُ. وقيل: هو بَيْنَ الصَّغِيرِ والكَبير.
والقَدْرُ: رَأْسُ الكَتِف.
والقَدَرُ، بالتَّحْرِيك: قِصَرُ العُنُقِ، قدِرَ، كفَرِحَ يَقْدَرُ قَدَرًا فهُوَ أَقْدَرُ: قَصِيرُ العُنُقِ. وقِيل: الأَقْدَر: القَصِيرُ من الرَّجَالِ، وبه فُسِّر قولُ صخْرِ الغَيِّ يصفُ صائدًا، ويَذْكُر وُعُولًا، وقد وَرَدتْ لِتَشْرَبَ الماءَ:
أَرَى الأَيّامَ لا تُبْقِي كَرِيمًا *** ولا الوَحْشَ الأَوابِدَ والنَّعَامَا
ولا عُصْمًا أَوَابِدَ في صُخُورٍ *** كُسِينَ عَلَى فَرَاسِنِها خِدَامَا
أُتِيحَ لَهَا أُقَيْدِرُ ذُو حَشِيفٍ *** إِذا سَامَتْ على المَلَقَاتِ سَامَا
العُصْمُ: الوُعولُ. والخِدَامُ: الخَلْخَالُ، وأَراد بِها الخُطُوطَ السُّودَ التي في يَدَيْه. والأُقَيْدِرُ: أَراد به الصائدَ.
والحَشِيفُ: الثَّوْبُ الخَلَقُ. وسامَتْ: مَرَّتْ ومَضَتْ.
والمَلَقَاتُ: جمع مَلَقَة، وهي الصَّخْرَةُ المَلْسَاءُ.
وقال أَبو عَمْرو: الأَقْدَرُ: فَرَسٌ إِذا سارَ وَقَعَتْ رِجْلاه مَواقِعَ يَدَيْهِ قال عَدِيُّ بن خَرَشَةَ الخَطْمِيُّ:
وأَقْدَرُ مُشْرِفُ الصَّهَواتِ ساطٍ *** كُمَيْتٌ لا أَحَقُّ ولا شَئِيتُ
وقد قَدِرَتْ، بالكَسْر، أَو الأَقْدَر: هو الذي يَضَعُ رِجْلَيْه، وفي بعض النسخ: «يَدَيْه» وهو غلطٌ، حَيْثُ يَنْبَغِي، وقال أَبو عُبَيْد: الأَقْدَرُ: هو الّذي يُجَاوِزُ حافِرَا رِجْلَيْه مَواقِعَ حافِرَيْ يَدَيْه. والشَّئيت: خِلافُه. والأَحَقُّ: الَّذِي يُطَبِّق حافِرَا رِجْلَيْه حافِرَيْ يَدَيْهِ.
والقِدْر، بالكَسرِ: م، معروفَةٌ أُنْثَى، بلا هاءٍ عند جِميع العَرَب، وتَصْغِيرُهَا قُدَيْرَةٌ، وقُدَيْرٌ، الأَخيرة على غَيْرِ قِيَاسٍ؛ قاله الأَزهريّ أَو يُذَكَّر، ويُؤَنَّث. ومن قال بتذَكِيرِهَا غَرَّهُ قَوْلُ ثَعْلَب. قال أَبو مَنْصُورٍ: وأَمّا ما حَكَاهُ ثَعْلَبٌ من قَوْلِ العَرَب: ما رَأَيْتُ قِدْرًا غَلَا أَسْرَعَ مِنْهَا فإِنّه لَيْس على تَذْكِير القِدْر، ولكِنَّهم أَرادُوا: ما رَأَيْتُ شَيْئًا غَلَا. قال: ونَظِيرُه قولُ الله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} قال ذَكَّرَ الفِعْلَ لأَنّ مَعْنَاه مَعْنَى شَيْءٍ، كأَنَّه قال: لا يَحِلُّ لك شيءٌ من النّسَاءِ. ولابْنِ سِيدَه هُنَا في المُحْكم كلامٌ نَفِيسٌ، فراجِعْه.
قلتُ: وعلى قَوْلِ من قَالَ بالتَّذْكِير يُؤَوَّل
قولُ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، فِيمَا يُرْوَى عنه: «غَلَا قِدْرِي، عَلَا قَدْرِي» كذا أَوْرَدَه بعضُ أَئمّة التَّصْحِيف.
الجمع: قُدُورٌ، لا يُكَسَّر على غَيْر ذلك.
والقَدِيرُ والقادِرُ: ما يُطْبَخْ في القِدْر، هكذا في سائر النُّسَخ. وفي اللّسَانِ: مَرَقٌ مَقْدُورٌ وقَدِيرٌ أَي مَطْبُوخ.
والقَدِيرُ: ما يُطْبَخُ في القِدْر. وقال اللَّيْث: القَدِيرُ: ما طُبِخَ من اللَّحْمِ بَتَوَابِلَ، فإِنْ لم يكن ذا تَوابلَ فهو طَبِيخٌ. وما رأَيتُ أَحَدًا من الأَئمّة ذكرَ القادِرَ بهذا المَعْنَى. ثم إِنَّنِي تَنَبَّهْتُ بعدَ زَمان أَنَّه أَخَذَه من عِبَارَة الصاغانيّ: «والقَدِيرُ: القَادِرُ» فوَهِمَ، فإِنَّه إِنّمَا عَنَى به صِفَةَ الله تعالَى لا بمَعْنَى ما يُطْبَخُ في القِدْر، فتَدبَّر. ويُمكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنّ الصّواب في عِبارَته: «والقَدِيرُ: القادِرُ، وما يُطْبَخُ في القِدْرِ» فيَرْتَفِعُ الوَهَمُ حينئذٍ، ويكونُ تَوْسِيطُ الوَاوِ بَيْنَهما من تَحْرِيفِ النُّسّاخ، فافْهَمْه.
والقُدَارُ، كهُمَامٍ: الرَّبْعَةُ من الناسِ ليس بالطَّوِيلِ ولا بالقَصِيرِ. والقُدَارُ: الطَّبّاخُ، أَو هو الجَزّارُ، على التَّشْبِيه بالطَّبّاخِ، وقِيلَ الجَزّارُ هو الّذِي يَلِي جَزْرَ الجَزُورِ وطَبْخَها. قال مُهَلْهِلٌ:
إِنَّا لَنَضْرِبُ بالصَّوارِمِ هَامَها *** ضَرْبَ القُدَارِ نَقِيعَةَ القُدّامِ
ومن سَجَعاتِ الأَساس: ودَعَوْا بالقُدَارِ فنَحَرَ فاقْتَدَرُوا، وأَكَلُوا القَدِيرَ؛ أَي بالجَزّار وطَبَخُوا اللَّحْمَ في القِدْر وأَكَلُوه.
والقُدَارُ الطابِخُ في القِدْرِ، كالمُقْتَدِرِ يقال: اقْتَدَرَ وقَدَرَ، مثل طَبَخَ واطَّبَخَ، ومنه قولُهُم: أَتَقْتَدِرُون أَم تَشْتَوُونَ.
وقُدَارُ بنُ سالِفٍ الذي يُقَالُ له أُحَيْمِرُ ثَمُودَ: عاقِرُ الناقَةِ ناقَةِ صالحٍ عليهالسلام.
والقُدَار بنُ عَمْرِو بن ضُبَيْعَة رَئِيسُ رَبِيعَةَ، كانَ يَلِي العِزَّ والشَّرَف فيهم.
والقُدَارُ، الثُّعْبَانُ العَظِيمُ، وقِيلَ الحَيَّة.
وقَدَارٌ، كَسَحَابِ: موضع، قال امرُؤ القَيْس:
ولا مِثْلَ يَومٍ في قَدَارٍ ظَلِلْتُه *** كَأَنِّي وأَصْحَابِي بقُلَّةِ عَنْدَرَا
قال الصاغانيّ: ورَوَى ابنُ حَبِيب وأَبو حاتِمٍ: «في قَدَارَانَ ظَلْتُه» وقد تَقَدَّم في «ع بلد ر».
والمُقْتَدِرُ: الوَسَطُ من كُلِّ شَيْءٍ، هذه عبارةُ المُحْكَم.
وقال غَيْرُه: وكُلَّ شيْءٍ مُقْتدِرٌ: فهو الوَسَطُ. وقال ابنُ سِيدَه أَيضًا: ورَجُلٌ مُقْتَدِرُ الخَلْقِ؛ أَي وَسَطُه ليس بالطَّوِيلِ والقَصِيرِ، وكذلك الوَعِلُ والظَّبْيُ وغيرُهما. وفي الأَساس: رَجُلٌ مُقْتَدِرُ الطُّول: رَبْعَةٌ.
وبَنُو قَدْراءَ: المَيَاسِيرُ؛ أَي الأَغْنِيَاءُ، وهو كِنَايَةٌ.
والقَدَرَةُ، بالتَّحرْيِك: القَارُورَةُ الصَّغِيرَةُ، نقله الصاغانيّ. وقادَرْتُه مُقَادَرَةً: قايَسْتُه، وفَعَلْتُ مِثْلَ فِعْلِه، وفي الأَساس: قاوَيْتُه.
وفي التَّهْذِيب: التَّقْدِيرُ، على وُجوه من المَعَانِي: أَحدُها: التَّرْوِيَةُ والتَّفْكِيرُ في تَسْوِيَةِ أَمرٍ وتَهْيئَتِه، زادَ في البَصَائِر: بحَسَبِ نَظَر العَقْل وبناءِ الأَمْرِ عليه، وذلك مَحْمُودٌ. ثم قال: والثّاني: [تَقْدِيرُه] بعلاماتٍ يُقطِّعُه عليها. والثالث: أَنْ تَنْوِيَ أَمرًا بعَقْدِك، تقولُ: قَدَّرْتُ أَمرَ كذا وكذا؛ أَي نَوَيْتُه وعَقَدْتُ عليه. وذكر الصاغانيّ الأَوّلَ والثالِثَ، وأَما المصنّف في البصائر فذَكَر بعد الأَوّل ما نَصُّه: والثانِي: أَنْ يكونَ بحَسَبِ التَّهَيُّؤِ والشَّهْوَة. قال: وذلك مَذْمُومٌ، كقوله تعالى: {فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} وقال: إِنَّ كِلَيْهِمَا من الإِنْسَان. وقال أَيضًا: وأَمَّا تَقْدِيرُ الله الأُمورَ فعَلَى نَوْعَيْن: أَحدُهما بالحُكْم منه أَنْ يَكُونَ كذا أَو لا يَكُون كذا، إِمَّا وُجُوبًا وإِمّا إِمْكَانًا وعَلَى ذلك قولُه تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}.
والثاني: بإِعْطَاءِ القُدْرَة عليهِ، ومنه قولُه تعالَى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى} أَي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ ما فيه مَصْلَحَةٌ، وهَداهُ لِما فيه خَلاصٌ، إِمّا بالتَّسْخِير وإِمّا بالتَّعْلِيم، كما قال: {أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}.
وتَقَدَّر له الشيءُ: تَهَيَّأَ.
وَقَدَرَهُ وقدَّرَه: هَيَّأَه.
وقولُه تعالَى و {ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، قِيلَ: أَي ما عَظَّمُوه حَقَّ تَعْظِيمِه، وقال اللَّيْث: ما وَصَفُوه حَقَّ صِفَتِه.
وفي البصائر: أَي ما عَرَفُوا كُنْهَه، تَنْبِيهًا أَنه كَيْفَ يُمْكِنُهم أَنْ يُدْرِكُوا كُنْهَه وهذا وَصْفُه، وهو قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ}.
ويُقَالُ: قَدَرْتُ الثَّوْبَ عليه قَدْرًا، فانْقَدَرَ؛ أَي جاءَ على المِقْدَارِ.
وفي الأَساسِ: تَقَدَّرَ الثَّوْبُ عليه: جاءَ على مِقْدَارِه.
ومن المَجَازِ: قولُهُم: بَيْنَنَا ـ ونصُّ يَعْقُوبَ: بَيْنَ أَرضِك وأَرْضِ فلان ـ لَيْلَةٌ قادِرَةٌ؛ أَي هَيِّنَة، ونَصُّ يَعْقُوبَ والزَّمَخْشَرِيّ: لَيِّنَةُ السَّيْرِ لا تَعَبَ فيها، زادَ يعقُوبُ: مِثْل قاصِدَةٍ ورَافِهَة.
وقَيْدَارُ: اسمٌ، قال ابنُ دُرَيْد: فإِنْ كان عرَبِيًّا فاليَاءُ زائدَة، وهو فَيْعَالٌ من القُدْرَة.
والقَدْرَاءُ من الآذانِ: الّتي لَيْسَتْ بصَغِيرةٍ ولا كَبِيرةٍ، نقله الصَّاغانِيّ.
وقال ابنُ القَطّاع قَدِرَت الأُذُنُ قَدَرًا: حَسُنَتْ.
ويُقَال كَمْ قَدَرَةُ نَخْلِك؟ محرَّكَةً. ويُقَال أَيضًا: غُرِسَ نخْلُك على القَدَرَة، مُحَرّكةً أَيضًا، وهي ـ ونَصُّ الصاغانِيّ: وهُوَ ـ أَنْ يُغْرَسَ على حَدٍّ مَعْلُومٍ بَيْنَ كُلِّ نَخْلَتَيْن، هذا نَصّ الصاغانِيّ.
وقَدَّرَه تَقْدِيرًا: جَعَلَهُ قَدَرِيًّا، نقله الصاغانيّ عن الفَرّاءِ، وهي مُوَلَّدَةٌ.
ودَارٌ مُقَادَرَةٌ، بفتح الدال: ضَيِّقَةٌ، سُمّيَ بالمَصْدَر، من قادَرَ الرَّجُلَ.
وعن شَمِرٍ: قَدَرْتُه أَقْدِرُه، من حَدِّ ضَرَبَ، قَدَارَةً، بالفَتْح: هَيَّأْتُ. وقَدَرْتُ: وَقَّتُّ، قال الأَعْشى:
فاقْدِرْ بذَرْعِك بَيْنَنَا *** إِنْ كُنْتَ بَوّأْتَ القَدَارَهْ
بَوَّأْت: هَيَّأْت. وقَال أَبو عُبَيْدَةَ: اقْدِرْ بذَرْعِك بَيْنَنا؛ أَي أَبْصِرْ واعْرِفْ قَدْرَكَ. وقال لَبِيدٌ:
فقَدَرْتُ للوِرْدِ المُغَلِّس غُدْوَةً *** فَوَرَدْتُ قَبْلَ تَبَيُّنِ الأَلْوَانِ
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ: القَدِيرُ، والقَادِرُ: من صِفَاتِ الله عَزَّ وجَلَّ، يكونَان من القُدْرَة، ويَكُونانِ من التَّقْدِير. قال ابنُ الأَثِير: القَادِرُ: اسمُ فاعِل من قَدَرَ يَقْدِرُ؛ والقَدِيرُ فَعِيلٌ منه، وهو للمُبَالَغَةِ، والمُقْتَدِرُ مُفْتَعِلٌ من اقْتَدر، وهو أَبْلغُ. وفي البَصائر للمُصَنِّف: القَدِيرُ: هو الفَاعِلُ لِمَا يَشَاءُ على قَدْرِ ما تقْضِي الحِكْمَة، لا زائدًا عليه ولا ناقِصًا عنه، ولذلك لا يَصِحُّ أَنُ يُوصَفَ به إِلَّا الله تعالى، والمُقْتَدِرُ يُقَارِبُه إِلّا أَنَّهُ قد يُوصَفُ به البَشَرُ، ويكونُ مَعْنَاهُ المُتَكَلِّف والمُكْتَسِبُ للقُدْرَةِ، ولا أَحَدَ يُوصَفُ بالقُدْرَة من وَجْهٍ إِلّا ويَصِحّ أَنْ يُوصَفَ بالعَجْز من وَجْهٍ، غَيْرَ الله تعالَى، فهُوَ الَّذِي يَنْتَفِي عنه العَجْزُ من كلّ وَجْهٍ، تعالَى شَأْنُه.
وفي الأَساس: صانِعٌ مُقْتَدِرٌ: رَفِيقٌ بالعَمَل. قال [امرؤ القيس].
لَهَا جَبْهَةٌ كسَرَاةِ المِجَنِّ *** حَذَّقَه الصانِعُ المُقْتَدِرْ
والأُمورُ تَجْرِي بقَدَرِ الله ومِقْدَارِه وتَقْدِيرِه وأَقْدَارِه ومَقَادِيرِه.
وفَرَسٌ بَعِيدُ القَدْرِ: بَعِيدُ الخَطْوِ. قال:
بِبَعِيدٍ قَدْرُهُ ذِي جُبَبٍ *** سَبِطِ السُّنْبُكِ في رُسْغٍ عَجُرْ
وهو مَجاز:
والقَدْرُ: الشَّرَف، والعَظَمةُ، والتَّزيِينُ، وتَحْسِينُ الصُّورَة. وبه فُسِّر قولُه تعالَى: {فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ} أَي صَوّرْنَا فنِعْمَ المُصَوِّرُونَ.
قال الفَرّاءُ: قَرَأَهَا عليٌّ كرَّمَ الله وَجْهَه «فَقدَّرْنا» بالتَّشْدِيدِ وخَفَّفها عاصِمٌ. قال: ولا يَبْعُدُ أَنْ يكونَ المعنَى في التَّخْفِيفِ والتَّشْدِيدِ وَاحِدًا، لأَنَّ العَرَب تقولُ: قُدِّرَ عليه وقُدِرَ عَلَيْه. واحتجَّ الّذِين خَفَّفُوا فقالوا: لو كانَتْ كذلك لَقَالَ: فنِعْمَ المُقَدِّرُون. وقد تَجْمَع العربُ بَيْنَ اللُّغَتَيْن، قال الله تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}. والتَّقْدِيرُ: الجَعْلُ والصُّنْع، ومنه قولُه تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ} أَي جعلَ له، وكذا قولُه تعالى: {وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها}. والتَّقْدِيرُ أَيضًا: العِلْمُ والحِكْمَة، ومنه قولُه تعالى: {وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} أَي يَعْلَم؛ كذا في البصائر. قلتُ: ومنه أَيضًا قولُه تعالَى: (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ)، قال الزَّجَّاج: المَعْنَى عَلِمْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الغابِرين. وقيل: دَبَّرْنَا. وقَدَّرْتُ عليه الشَّيءَ: وَصَفْتُه.
ورَوَى أَبو تُرَاب عن شُجَاع «غُلامٌ قُدُرٌّ، كعُتُلٍّ: وهو التامُّ الشديدُ المُكْتَنِزُ.
واقْتَدَرَ الشيءَ: جَعَلَه قَدْرًا.
ومن أَمثالِهم: «المَقْدرَةُ تُذْهِبُ الحَفِيظة».
ومِقْدَارُ كلّ شيْءٍ: مِقْيَاسُه، كالقَدْرِ والتَّقْدِير.
وقال شَمِرٌ: قَدَرْتُ: مَلَكْتُ.
وقال الأَزْهَرِيّ: قَدَّرْتُ أَمرَ كذا وكذا تَقْدِيرًا: نَوَيْتُه وعَقَدْتُ عَلَيْه.
والقَدَرُ، بالتَّحْرِيك: المَوْعِدُ.
وقَدَرَ الشَّيْءَ: دَنَا لَهُ، قال لَبِيدٌ:
قُلْتُ: هَجِّدْنا فَقَد طالَ السُّرَى *** وقَدَرْنَا إِنْ خَنَى اللَّيْلِ غَفَلْ
قال الكسائيّ: قَدَرْتُ الشَّيءَ فأَنَا أَقْدِرُه، لم أَسْمَعْه إِلّا مَكْسُورًا.
وقولُه تعالى: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} خفيفٌ، ولو ثُقِّلَ كانَ صَوَابًا.
وقوله تعالى: {إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} مُثَقَّلٌ.
وقولُه: {فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها} مُثَقَّل، ولو خُفِّف كان صَوابًا.
وقال ابنُ القَطّاع: وقَدَرَ الشَّيْءَ: جعله بقَدَرٍ، وقَدَرَ الإِنْسَانُ الشَّيْءَ: حَزَرَه لِيَعْرِف مَبْلَغَه؛ كذا في التَّهْذيب له. والمِقْدَارُ: الهِنْدازُ؛ والمَوْت. وقالوا: إِذا بَلَغَ العَبْدُ المِقْدَارَ ماتَ. وأَنشد اللَّيْث:
لو كَانَ خَلْفَكَ أَو أَمَامَكَ هائِبًا *** بَشَرًا سِوَاكَ لَهَابَكَ المِقْدَارُ
يَعنِي المَوْتَ. وجَمْعُ المِقْدَارِ المَقَادِيرُ.
وسَرْجٌ قادِرٌ: قاتِرٌ.
والقُدَارُ، كغُرَاب: الغُلام الخَفِيفُ الرُّوحِ الثَّقِفُ اللَّقِفُ.
وفي الحديث: «كانَ يَتَقَدَّرُ في مَرَضِه: أَينَ أَنا اليَوْمَ»: أَي يُقَدِّر أَيامَ أَزْوَاجِه في الدَّوْرِ عليهنّ.
وقال اللّحْيَانيّ: يقال: أَقَمْت عندَه قَدْرَ أَنْ يَفْعَلَ ذلك.
قال: ولم أَسْمَعْهُمْ يَطْرَحُونَ «أَنْ» في المَوَاقِيت إِلا حَرْفًا حكاه هو والأَصمعيّ، وهو قولهم: ما قَعَدْت عندَه إِلا رَيْثَ أَعْقِدُ شِسْعِي.
وفي الحَدِيث: «فإِنْ غُمَّ عليكُمْ فاقْدُرُوا له» وفي حديث آخر: «فأَكْمِلُوا العِدَّة» قولُه فاقْدُرُوا له؛ أَي قَدِّرُوا له عَدَدَ الشَّهْرِ حتَى تُكْمِلُوه ثَلاثِينَ يَوْمًا، واللَّفْظَانِ وإِنِ اخْتَلَفَا يَرْجِعَانِ إِلى مَعْنًى واحِدٍ. ولابْنِ سُرَيْج هُنَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، ذكرَه الأَزْهَرِيُّ في التَّهْذِيب، والصَّاغَانيّ في التكملة، فراجِعْهما.
وعبدُ الله بنُ عُثْمانَ بنِ قُدَيرَة، كجُهَيْنَةَ: سَمِعَ من أَبي البَدْرِ الكَرْخِيِّ، وأَخُوه يُوسُفُ سَمِعَ من سَعِيدِ بنِ البَنّاءِ، وماتا مَعًا سنة 612.
وبَيْتُ القُدَارَى، بالضَّمّ: قَرْيَةٌ باليَمَن. ومنها في المتأَخِّرِين سَعِيدُ بنُ عَطّافِ بنِ قحليل القداريّ، سَمِع الحديثَ عن عبد الرَّحْمن بن حُسَيْنٍ النَّزِيلِيّ وغيره، وتُوُفِّيَ بها سنة 1023.
وقَدُّورَةُ، كسَفُّودَةَ: لَقَبُ أَبي عُثْمَانَ سَعِيدِ بنِ إِبرَاهِيمَ التُّونُسِيّ الجَزَائريّ الإِمَام مُسْنِد المَغْرِبِ، رَوَى بتِلِمْسَانَ عن المُسْنِدِ المُعَمَّر أَبي عُثْمَانَ سَعِيدِ بن أَحْمَد المَقَّرِيّ التِّلِمْسَانِيْ، وجالَ في البِلاد إِلى أَنْ أَلقَى عَصَا التَّسْيارِ بثَغْر الجَزَائِرِ، وبها تُوُفِّيَ سنة 1026 وقد تَرْجَمَه تلميذُه الإِمامُ أَبو مَهْديّ عِيسَى الثَّعَالِبِيّ في «مَقَالِيد الأَسَانِيد».
وقَدَرَانُ بالفَتْح: مَوْضِعٌ في شعر امرئِ القَيْس، على رِوَايَة ابنِ حَبِيب وأَبِي حاتم، كما تقدّمت الإِشَارَةُ إِليه.
وابنُ قِدْرَانَ، بالكَسْرِ: رجلٌ أَظنّه من جُذامَ، إِلَيْه نُسِبَت الكُبَيْشَة القِدْرَانِيّة، إِحدَى الأَفْراسِ المَخْبُورَةِ المَشْهُورَةِ بالشّأْم.
ومِقْدَارُ بنُ مُخْتَارٍ المَطَامِيريّ، له دِيَوانُ شِعْر.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
70-تاج العروس (قر قرر قرقر)
[قرر]: القُرُّ، بالضّمّ: البَرْدُ عامَّة، أَو يُخَصُّ القُرُّ بالشِتَاءِ، والبَرْدُ في الشِّتَاءِ والصَّيْف. والقَوْلُ الأَخِيرُ نَقَلَهُ صاحِبُ المَعَالِم، وهو في المُحْكَم. قال شيخُنَا: وحَكَى ابنُ قُتَيْبَةَ فيه التَّثْلِيثَ. والفَتْحُ حَكَاه اللّحْيَانيّ في نَوَادِره، ومع الحَرِّ أَوْجَبوه لأَجَلِ المُشَارَكَة. قلتُ: يَعْنِي بِه ما وَقَع في حَدِيثِ أُمِّ زَرْع: «لا حَرٌّ ولا قُرٌّ» أرادت أَنَّه مُعْتَدِلٌ، وكَنَتْ بالحَرِّ والقُرِّ عن الأَذَى، قَلِيلِه وكَثِيرِه.والقِرَّةُ، بالكَسْرِ: ما أَصابَكَ من القُرِّ ولَيْلَةٌ ذاتُ قِرَّة؛ أَي بَرْد.
والقُرَّةُ، بالضَّمّ: الضِّفْدَعُ وقال ابنُ الكَلْبِيّ: عُيِّرَتْ هَوَازِنُ وبَنُو أَسَد بأَكْلِ القُرَّةِ، وذلك أَنَّ أَهْل اليَمَنِ كانُوا إِذا حَلَقُوا رُؤُوسَهُم بمِنًى وَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى رَأْسِه قُبْضَةَ دَقِيقٍ. فإِذا حَلَقُوا رُؤُوسهم سَقَطَ الشَّعرُ مع ذلك الدَّقِيقِ، ويَجْعَلُونَ ذلك الدَّقِيقَ صَدَقَةً. فكانَ ناسٌ من أَسَد وقَيْس يأْخذونَ ذلك الشَّعَرَ بدَقِيقِهِ فيَرْمُونَ بالشَّعَرِ، ويَنْتَفِعُون بالدَّقِيق. وأَنشد لمُعَاوِيَة بن أَبِي مُعَاوِيَة الجَرْمِيّ:
أَلمْ تَرَ جَرْمًا أَنْجَدَتْ وأَبُوكُمُ *** مَع الشَّعْرِ في قَصِّ المُلَبِّدِ شَارِعُ
إِذا قُرَّةٌ جَاءَتْ تَقُول: أَصِبْ بها *** سِوَى القَمْلِ إِنّي مِنْ هَوَازِنَ ضارِعُ
ويُثلَّث، الفتح والكسر نقلهما الصاغانيّ عن أَبي عمرو.
والقُرَّةُ. قرية قُرْبَ القَادِسِيَّةِ، نَقَلَه الصّاغَانِيّ.
والقُرَّةُ. الدُّفْعَةُ، وجَمْعُها قُرَرٌ، ومنه قَرَّرَتِ الناقَةُ تَقْرِيرًا: رَمَتْ ببَوْلِهَا قُرَّةً بَعْدَ قُرَّة؛ أَي دُفْعَةً بعد دُفْعَةٍ، خَاثِرًا من أَكْل الحِبَّة، قال الراجزُ:
يُنْشِقْنَه فَضْفَاضَ بَوْلٍ كالصَّبَرْ *** في مُنْخُرَيْهِ قُرَرًا بَعْدَ قُرَرْ
وقُرَّةُ العَيْنِ: من الأَدْوِيَة، ويُقَال لها جِرْجِيرُ المَاءِ، تكونُ في المِيَاهِ القائِمَةِ، وفيها عِطْرِيَّة، تَنْفَع من الحَصَاة، وتُدِرُّ البَوْلَ والطَّمْثَ.
وقُرَّ الرَّجُلُ، بالضّمّ: أَصَابَه القُرّ: البَرْدُ.
وأَقَرَّه الله تَعَالَى: من القُرِّ، وهو مَقْرورٌ، على غَيْر قِيَاسٍ، كأَنَّه بُنِيَ على قُرٍّ، ولا تَقُلْ: قَرَّهُ اللهُ تَعَالَى.
وأَقَرَّ: دَخَلَ فيه؛ أَي القُرّ.
ويَوْمٌ مَقْرُورٌ، وقَرٌّ، بالفَتْح، وكذا قَارٌّ؛ أَي بارِدٌ. ولَيْلَةٌ قَرَّةٌ وقارَّةٌ: بارِدَةٌ. والقَرُّ: اليَوْمُ البَارِدُ. وكُلُّ بارِدٍ: قَرٌّ.
وقَد قَرَّ يَوْمُنَا يَقرُّ، مثلّثَةَ القافِ، ذكر اللّحْيَانيّ الضَّمّ والكَسْر في نوادِرِه. وحَكَى ابنُ القَطّاع فيه التَّثْلِيثَ؛ كما قالَهُ المُصَنّف، وكذا ابنُ سِيدَه وصاحِبُ كِتَاب المَعَالِم؛ كما نَقَلَهُ شَيْخُنَا. قلتُ: الذي قالَهُ ابنُ القَطَّاع في تَهْذِيبِ الأَبْنِيَة له: واليَوْمُ يَقِرُّ ويَقَرُّ قُرًّا: بَرَدَ؛ أَي بالفَتْح والكَسْر؛ هكذا رأَيْتُه مُجَوَّدًا مُصَحَّحًا. ولعلَّه ذكر التَّثْلِيث في كِتَابٍ آخَرَ له. ولكن من مَجْمُوعِ قولِه وقَوْلِ اللّحْيَانِيّ يَحْصُل التَّثْلِيثُ، فإِنَّ الذِي لم يَذْكُرْه ذَكَرَه اللّحْيَانيّ، وهو الضّمُّ.
وقال شيخُنَا: والفَتْح المَفْهُوم من التَّثْلِيث لا يَظْهَر له وَجْهٌ، فإِنْ سُمِعَ في المَاضِي الكَسْر فهو ذاك أَوْ مِنْ تَدَاخُلِ اللُّغَات، على ما قَالَهُ غيرُ واحِد. أَمّا إِطْلاق التَّثْلِيث مع فتح الماضِي فلا يَظْهَر له وَجْهٌ. انتهى. ولكن تَعْيِين شَيْخنا الضَّمَّ والكَسْرَ عن اللّحْيَانيّ مَحَلّ تَأَمّل، وذلك فإِنّ سِيَاقَ عِبَارَتِه في النَّوادِر على ما نَقَلَه عنه صاحِبُ اللّسَان هكذا: وقال اللّحْيَانيُّ قَرَّ يَوْمُنا يَقُرُّ، ويَقَرُّ لغَةٌ قليلةٌ. وقد ضَبَطَه مُجَوَّدًا بالقَلَمِ بالضَّمّ والفَتْح، وهذا يُخَالِف ما نَصّ عليه شَيْخُنَا فتَأَمَّلْ.
والقُرَارَة، بالضَّمّ: مَا بَقِيَ في القِدْر بعدَ الغَرْفِ منها، أَو القُرَارَةُ: مَا لَزِقَ بأَسْفَلِهَا من مَرَقٍ يابِسٍ أَو حُطَامِ تابَلٍ مُحْتَرِقٍ أَو سَمْنٍ أَوغَيْرِه، كالقُرُورَة، والقُرَّة ـ بضمّهما ـ والقُرُورَة ـ بضَمَّتَيْن ـ والقُرَرَةُ، كهُمَزة.
وقد قَرَّ القِدْرَ يَقُرُّهَا قَرًّا: فَرَّغَ ما فيها من الطَّبِيخ، وصَبَّ فيها ماءً بارِدًا كَيْ لا تَحْتَرِق.
والقُرُورَةُ ـ بالضَّمّ ـ والقَرَرَةُ ـ محرَّكةً ـ والقرَارَةُ، مثلّثَةً وكهُمَزَةٍ أَيضًا كُلُّه: اسمُ ذلِك المَاءِ.
ويُقَال: أَقْبَلَ الصِّبْيَانُ على القِدْرِ يَتَقرَّرُونَها، إِذا أَكَلُوا القُرَّةَ.
وقَرَّرْت القِدْرَ تَقْرِيرًا، إِذا طَبَخْت فيها حَتَّى يَلتَصِقَ بأَسْفَلِهَا؛ كذا في التكملة.
وعِبَارَةُ اللّسَان هكذا: وتَقَرَّرَهَا واقْتَرَّها: أَخَذَهَا وائْتَدَمَ بها. يقال: قد اقْتَرَّتِ القِدْرُ. وقد قَرَرْتُهَا، إِذا طَبَخْتَ فيها حَتّى يَلْتَصِقَ بأَسْفَلِهَا. وأَقْرَرْتُهَا، إِذا نَزَعْتَ ما فيها مِمّا لَصِقَ بها؛ عن أَبِي زَيْد.
والقَرُّ: صَبُّ الماءِ دَفْعَةً واحِدَةً.
وتَقَرَّرتِ الإِبِلُ: صَبَّتْ بَوْلَهَا على أَرْجُلِهَا. وتَقَرَّرَتْ: أَكَلَتِ اليَبِيسَ فتَخَثَّرَتْ أَبْوَالُهَا.
والاقْتِرارُ: أَنْ تَأْكُلَ الناقَةُ اليَبِيسَ والحِبَّةَ فَينْعَقِدَ عَلَيْهَا الشَّحْمُ فتَبُول في رِجْلَيْهَا من خُثُورَةِ بَوْلِها.
وقَرَّت تَقِرّ، بالكَسْر: نَهِلَتْ ولَم تَعُلَّ، عن ابن الأَعْرَابِيّ، وأَنشد:
حَتَّى إِذا قَرَّتْ ولَمَّا تَقْرَرِ *** وجَهَرَتْ آجِنَةً لَمْ تَجْهَرِ
جَهَرَتْ: كَسَحَتْ. وآجِنَة: مُتَغَيِّرَةٌ. ويُرْوَى: «أَجِنَّةً» أَي أَمْواهًا مُنْدَفِنَةً، على التَّشْبِيه بأَجِنَّة الحَوَامِل.
وقَرّتِ الحَيَّةُ قَرِيرًا: صَوَّتَتْ، وكذا الطّائِرُ، وعَلَيْه اقْتَصَر ابنُ القَطَّاع.
ومن المَجَاز: قَرّتْ عَيْنُه تَقِرّ، بالكَسْرِ والفَتْح، نَقلهما ابنُ القَطّاع، والأَخيرُ أَعْلَى؛ عنه ثعلب، قَرَّةً، بالفَتْح وتُضَمّ وهذه عن ثعلَب، قالّ: هي مَصْدَرٌ، وقُرُورًا كقُعُود: ضِدّ سَخُنتْ، ولذلِك اختارَ بَعْضُهُم أَنْ يَكُونَ قَرَّت فَعُلَتْ لِيَجِيء بها على بِنَاءِ ضِدِّهَا. واخْتَلَفُوا في اشْتِقَاق ذلِك، قال بعضُهُمْ: معناه بَرَدَتْ وانْقَطَع بُكَاؤُهَا واسْتِحْرارُهَا بالدَّمْع، فإِن للسُّرورِ دَمْعَةً بارِدَةً، وللْحُزْنِ دَمْعَةً حَارَّةً. أَو قَرَّتْ: من القَرَارِ؛ أَي رَأَتْ مَا كَانَت مُتَشَوِّفةً إِليه فقَرَّتْ ونَامَتْ. وأَنشد الزمخشريُّ في الأَساس:
بِهَا قَرَّتْ عُيُونُ الفَحْلِ عَيْنًا *** وَحَلَّ بها عَزالِيَهُ الغَمَامُ
وقَال بعضُهُم: قَرَّت عَيْنُه. من القَرُورُ، وهُوَ الدَّمْعُ البَارِد يَخرجُ مع الفَرَح. وقال الأَصمَعِيّ: دَمْعَةُ السُّرُورِ بارِدَة.
وقوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} قال الفَرّاءُ: جاءَ في التَّفْسِير: أَي طِيبِي نَفْسًا. وفي حَدِيثِ الاسْتِسْقَاءِ: «لو رآك لَقَرَّتْ عَيْنَاه»؛ أَي لسُرَّ بذلِكَ وفَرِحَ.
ورجلٌ قَريرُ العَيْنِ.
وقَرِرْتُ به عَيْنًا فَأَنَا أَقَرُّ.
وقَرَّتِ الدَّجَاجَةُ تَقِرُّ، بالكَسْر، قَرًّا، بالفَتْح، وقَرِيرًا، كَأَمِير: قَطَعَتْ صَوْتَها.
وقَرْقَرَت: رَدَّدَتْ صَوْتَهَا؛ حكاه ابنُ سِيدَه عن الهَرَوِيّ في الغَرِيبَيْن.
ومن المَجَاز: قَرَّ الكَلامَ في أُذُنِه وكذا الحَدِيثَ، يَقُرّه قَرًّا: أَوْدَعَه؛ قاله ابنُ القَطّاع. وقِيلَ: فَرَّغَهُ وصَبّهُ فيها، أَو سارَّهُ بأَنْ وَضَعَ فاهُ على أُذُنِهِ فأَسْمَعَهُ، وهو من قَرَّ الماءَ في الإِنَاءِ، إِذا صَبَّه فيه؛ قاله الزمخشريّ. وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: القَرُّ: تَرْدِيدُك الكَلامَ في أُذُنِ الأَبْكَمِ حَتَّى يَفْهَمَه. وقال شَمِرٌ: قَرَرْتُ الكلامَ في أُذُنِه أَقُرُّه قَرًّا: وهو أَنْ تَضَع فاكَ على أُذُنِه فتَجْهَرَ بكَلامِكَ كما يُفْعَل بالأَصَمّ، والأَمْرُ قُرَّ.
وقَرَّ عَلَيْهِ المَاءَ يَقُرُّه قَرًّا: صَبَّهُ عَلَيْه وفِيهِ. وقال ابنُ القَطَّاع: وقَرَّتِ المَرْأَةُ على رَأْسِهَا دَلْوًا من ماءً: صَبَّتْهَا.
وقَرَّ بالمَكَانِ يَقِرَّ بالكَسْرِ وبالفَتْح؛ أَي منْ حدّ ضَرَبَ وعَلِمَ، ذكرُهما ابنُ القَطّاع. وقال ابنُ سِيدَه: والأُولَى أَعْلَى؛ أَي أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، قَرَارًا، كسَحَابٍ، وقُرُورًا، كقُعُود، وقَرًّا، بالفَتْح، وتَقْرارَةً وتَقِرَّةً، الأَخِيرَةُ شَاذَّة: ثَبَتَ وسَكَنَ، فهو قارٌّ، كاسْتَقَرّ، وتَقَارَّ، وهو مُسْتَقِرٌّ.
ويُقَال: فلانٌ ما يَتَقارُّ في مَكَانِه؛ أَي ما يَسْتَقِرّ. وأَصْلُ تَقَارَّ تَقَارَرَ، أُدْغِمَت الراءُ. وفي حَدِيث أَبي ذَرٍّ: «فلم أَتَقارَّ أَنْ قُمْتُ» أَي لَمْ أَلْبَثْ. وأَقَرَّه فيهِ وعَلَيْه إِقْرَارًا فاسْتَقَرَّ وقَرَّرَهُ فتَقَرَّرَ.
والقَرُورُ، كصَبُورٍ: المَاءُ البارِدُ يُغْتَسَلُ به، كالبَرُود؛ قاله ابنُ السِّكِّيت، والمَرْأَةُ قَرُورٌ: لا تَمْنَعُ يدَ لامسٍ كأَنَّهَا تَقَرّ وتَسْكُن لِما يُصْنَعُ بِهَا، لا تَرُدُّ المُقَبِّلَ والمُرَاوِدَ، ولا تَنْفِرُ من الرِّيبة؛ وبعضُهُ من النَّوَادِر للّحْيَانِيّ.
والقَرَارُ، والقَرَارَةُ، بفتحِهما: مَا قَرَّ فيه المَاءُ. والقَرَارُ، والقَرَارَةُ: المُطْمَئِنُّ من الأَرْضِ والمُسْتَقِرُّ منها. وقال أَبو حَنِيفَةَ: القَرَارَةُ: كُلُّ مُطْمَئنٍّ انْدَفَعَ إِليه المَاءُ فاسْتَقَرّ فيه.
قال: وهِيَ من مَكَارِمِ الأَرْضِ إِذا كانَت سُهُولَة. وفي حَدِيث ابنِ عَبّاس، وذَكَرَ عَلِيًّا رَضيَ الله عنهم، فقال: «عِلمِي إِلى عِلمِه كالقَرَارَةِ في المُثْعَنْجِر». وفي حَدِيث يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ: «ولَحِقَتْ طائفَةٌ بقَرَارِ الأَوْدِيَة». وكذا قولُ أَبِي ذُؤَيْب:
بقَرَارِ قِيعَانٍ سَقَاهَا وَابِلٌ *** وَاهٍ فأَثْجمَ بُرْهَةً لا يُقْلِعُ
قال الأَصمعيّ: القَرَارُ هُنَا: جمع قَرَارَة. وقال ابنُ شُمَيْل: بُطُونُ الأَرْضِ قَرَارُهَا، لأَنَّ المَاءَ يَسْتَقِرُّ فيها.
ويُقَال: القَرَارُ: مُسْتَقَرُّ الماءِ في الرَّوْضَة. وقال ابنُ الأَعرابيّ: القَرَارَةُ: القاعُ المُسْتَدِير. وقولُه عَزّ وجلّ: {ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ} قالُوا: هو المَكَانُ المُطْمَئنُّ الذِي يَسْتَقِرّ فيه الماءُ. ويُقَال للرَّوْضَة المُنْخَفِضَة: القَرَارَة.
والقَرَارُ: الغَنَمُ عامَّةً، عن ابنِ الأَعْرَابِيّ، وأَنشد:
أَسْرَعْتِ في قَرَارِ *** كأَنَّما ضِرَارِي
أَرَدْتِ يَا جَعَارِ
أَو يُخَصّانِ بالضِّأْنِ، خَصّهُ ثعلَبٌ، أَو النَّقَد قَال الأَصْمَعِيّ: القَرَارُ، والقَرَارَةُ: النَّقَدُ، وهو ضَرْبٌ من الغَنَم قِصَارُ الأَرْجُلِ قِبَاحُ الوُجُوهِ؛ وأَجْوَدُ الصُّوفِ صُوفُ النَّقَدِ.
وأَنشد لعَلْقَمَة بن عَبَدَةَ:
والمَالُ صُوفُ قَرَارٍ يَلْعَبُونَ بِه *** على نِقَادَتِهِ وَافٍ ومَجْلُومُ
أَي يَقِلُّ عند ذا وَيَكْثُر عِنْد ذا.
ومن المَجَازِ قولُهُم: أَقَرَّ الله عَينَه، وكذا بعَيْنِه، ويَقَرُّ بعَيْنِي أَنْ أَراكَ. واخْتُلِفَ في مَعْنَاه: فقِيل: معناهُ أَعْطَاهُ حتَّى تَقَرَّ فلا تَطْمَح إِلى مَنْ هو فَوقَه. ويُقَالُ: تَبْرُدُ ولا تَسْخُنُ. وقال الأَصْمَعِيُّ: أَبْرَدَ الله دَمْعَتَه، لأَنّ دَمْعَة السُّرورِ بارِدَة. وأَقَرَّ الله عَيْنَه: من القَرُورِ، وهو الماءُ البارِدُ.
وقيل: معناه صادَفْتَ ما يُرْضِيكَ فتَقَرّ عَيْنُك من النَّظَر إِلى غَيْرِه. ورَضِيَ أَبو العَبّاس هذا القَوْلَ واختارَهُ. وقال أَبو طالِبٍ: أَقَرّ الله عَيْنَه: أَنامَ عَيْنَه، والمَعْنَى صادَفَ سُرورًا يُذْهِبُ سَهَرَه فَيَنَامُ. وأَنشد:
أَقرَّ به مَوَالِيكِ العُيُونَا
أَي نامَتْ عُيُونُهُم لمّا ظَفِرُوا بالمُرَاد.
وعَيْنٌ قَرِيرَةٌ، وقارَّةٌ، ورجُلٌ قَرِيرُ العَيْنِ. وقَرِرْتُ به عَيْنًا فأَنَا أَقَرُّ. وقُرَّتُهَا: ما قَرَّت به، وفي التَّنْزِيل العزِيز: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وقَرَأَ أَبو هُرَيْرَة: «من قُرّاتِ أَعْيُن». ورَوَاه عن النبيّ صلى الله عليهوسلم.
وفي الحَدِيث: «أَفْضَلُ الأَيّامِ عندَ الله يومُ النَّحْرِ ثمّ يَوْمُ القَرِّ» وهو الذي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ لأَنَّهُم يَقِرّون فيه بمِنًى، عن كُرَاع. وقال غيرُه: لأَنّهُم يَقَرُّون في منازِلهم. وقال أَبو عُبَيْد: وهو حادِي عَشرَ ذي الحِجَّة، سُمِّي به لأَنَّ أَهْلَ المَوْسِم يوم التَّرْوِيَةِ ويومَ عَرَفَةَ ويومَ النَّحْر في تعَب من الحَجّ، فإِذا كانَ الغَدُ من يوْمِ النَّحْرِ قَرُّوا بمِنًى، فسُمِّيَ يَوْمَ القَرِّ.
ومَقَرُّ الرَّحِمِ: آخِرُهَا.
ومُسْتَقرُّ الحَمْلِ، منه، وقوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أَي فلَكْمُ في الأَرْحامِ مُسْتَقَرٌّ، ولكم في الأَصْلاب مُسْتَوْدَع. وقُرِئَ: «فمُسْتَقِرٌّ ومُسْتَوْدَع» أَي مُسْتَقِرّ في الرَّحِم. وقيل: مُسْتَقِرّ في الدُّنيا موجودٌ، ومُسْتَوْدَع في الأَصْلاب لم يُخْلَق بعدُ. وقال اللَّيْثُ: المُسْتَقرُّ: ما وُلِدَ من الخَلْق وظَهَر على الأَرْض، والمُسْتَوْدَع: ما في الأَرْحَامِ. وقيل: مُسْتَقَرُّها في الأَصْلابِ، ومُسْتَوْدَعها في الأَرْحَامِ. وقيل: مُسْتَقَرُّها في الأَحْيَاءِ، ومُسْتَوْدَع في الثَّرَى. وسيأْتي ذكرُ ذلك في حَرْف العَيْن، إِنْ شَاءَ الله تعالَى: ومن المَجَاز: القَارُورَةُ: حَدَقَةُ العَيْنِ، على التَّشْبِيه بالقَارُورَة من الزُّجَاج، لِصَفائِها وأَنّ المُتَأَمِّلَ يَرَى شَخْصَه فيها، قال رؤبة:
قَد قَدَّحتْ من سَلْبِهِنَّ سَلْبَا *** قَارُورَةُ العَيْنِ فصارَتْ وَقْبَا
والقَارُورَةُ. مَا قَرَّ فيه الشَّرَابُ ونَحوُه، أَو يُخَصُّ بالزُّجَاج، وقولُه تعالَى: {كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا} مِنْ فِضَّةٍ قال بعضُ أَهلِ العِلْم: أَي أَوانِيَ من زُجَاج في بَيَاضِ الفِضّةِ وصفاءِ القَوَارِيرِ. قال ابنُ سِيدَه: وهَذا أَحْسَنُ، فأَمّا مَنْ أَلحَقَ الأَلِفَ في «قوارِيرَ» الأَخِيرَة فإِنّه زادَ الأَلِفَ لتَعْدِلَ رؤُوسَ الآيِ. وفي حَدِيثِ عليّ رضي الله عنه: «ما أَصَبْتُ منذ وَلِيتُ عَمَلِي إِلّا هذِه القُوَيْرِيرَةَ، أَهداهَا إِليّ الدِّهْقَانُ» هي تَصْغِيرُ قَارُورَةٍ.
والاقتِرَار: اسْتِقْرَارُ ماءِ الفَحْلِ في رَحِمِ الناقَةِ، وقد اقْتَرَّ ماءُ الفَحْلِ: اسْتَقَرَّ. والاقْتِرارُ: تَتَبُّع النَّاقَةِ ما فِي بَطْنِ الوَادِي من باقِي الرُّطْبِ، وذلِك إِذا هَاجَتِ الأَرْضُ ويَبِسَت مُتُونُها. والاقْترارُ: الشِّبَع، يُقَال: اقْتَرَّ المالُ، إِذا شَبعَ، يقال ذلك في النّاسِ وغَيْرِهم. والاقْتِرارُ: السِّمَن، تقولُ: اقْتَرَّتِ النَّاقةُ، إِذا سَمِنَتْ، أَو نِهَايَتُه، وذلك إِنَّمَا يكونَ إِذا أَكَلَت اليَبِيسَ وبُزُورَ الصحرَاءِ، فعَقَدَتْ عَلَيْهَا الشَّحْمَ، وبهما فُسِّرَ قولُ أَبي ذُؤيْب الهُذَلِيّ يصف ظَبْيَةً:
بِه أَبَلَتْ شَهْرَيْ رَبِيع كِلَيْهِمَا *** فَقَدْ مارَ فِيهَا نَسْؤُهَا واقْتِرَارُهَا
نَسْؤُها: بَدْءُ سِمَنها، وذلك إِنّمَا يكونُ في أَوَّل الرَّبِيعِ إِذا أَكَلَت الرُّطْبَ. والاقْتِرَار: الائْتِدامُ بالقُرَارَةِ؛ أَي ما فِي أَسْفَلِ القِدْرِ كالتَّقَرُّرِ، يُقَال: تَقَرَّرَهَا واقْتَرَّهَا: أَخَذَهَا وائتَدَمَ بها.
والاقْتِرَارُ: الاغْتِسَالُ بالقَرُورِ وهو المَاءُ البارِد. واقْتَرَرْتُ بالقَرُورِ: اغْتَسَلْتُ به.
ونَاقَةٌ مُقِرٌّ، بالضَّمّ وكَسْرِ القَاف: عَقَدَتْ ماءَ الفَحْلِ فَأَمْسَكَتْه، هكذا في النُّسخ، وفي بعضها: فَأَسْكَنَتْه في رَحِمِها ولم تُلْقِه. وقد أَقَرَّتْ، إِذا ثَبَتَ حَمْلُهَا. وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: إِذا لَقِحَت الناقةُ فهي مُقِرٌّ وقارِحٌ.
والإِقْرَارُ: الإِذْعَانُ لِلْحَقّ والاعْتِرَافُ به، أَقَرَّ به: اعترف.
وقد قَرَّرَه عَليْه، وقَرَّرَه بالحَقِّ غَيْرُه حَتَّى أَقَرَّ.
وفي البصائر: الإِقْرارُ: إِثْبَاتُ الشَّيْءِ إِمَّا باللّسَان وإِمّا بالقَلْبِ أَو بِهِمَا جميعًا.
والقَرُّ، بالفَتْح: مَرْكَبٌ للرِّجَالِ بَيْن الرَّحْلِ والسَّرْج يَقَرُّون عَلَيْه، وقِيلَ: القَرُّ: الهَوْدَجُ وأَنشد:
كالقَرِّ نَاسَتْ فَوْقَه الجَزَاجِزُ
وقال امرُؤُ القَيْسِ:
فإِمَّا تَرَيْنِي في رِحَالَةِ جَابِرٍ *** عَلَى حَرَجٍ كالقَرِّ تَخْفِقُ أَكْفَانِي
وقِيلَ: القَرُّ: مَرْكَبٌ للنِّسَاءِ.
والقَرُّ؛ الفَرُّوجَة، وأَنشد الجَوهريّ لابن أَحْمَر:
كالقَرِّ بينَ قَوَادِمٍ زُعْرِ
قال الصاغانيّ: لم أَجدْه في دِيوانِ ابْنِ أَحْمَر، ووجَدْت فيه بَيْتًا ولَيْسَ فيه حُجّةٌ على القَرّ، وهو:
حَلَقَتْ بَنُو غَزْوَانَ جُؤْجُؤَهُ *** والرّأْسَ غَيْرَ قَنَازِعٍ زُعْرِ
قلتُ: وقال ابنُ بَرّيّ: هذا العَجُزُ مُغَيَّر، وصوابُ إِنشادِ البَيْت، على ما رَوَتْه الرُّواة في شِعْره: حَلَقَت إِلى آخر البيت: كما أورده الصاغانيّ، وأَورد بعده:
فيظَلُّ دَفّاهُ له حَرَسًا *** ويَظَلُّ يُلْجِئُه إِلى النَّحْرِ
قال: هذا يَصِف ظَلِيمًا، وبَنُو غَزْوَانَ: حَيٌّ من الجِنّ، يُرِيدُ أَنَّ جُؤْجُؤَ هذا الظَّلِيمِ أَجْرَبُ، وأَنَّ رَأْسَه أَقْرَعُ، والزُّعْرُ: القَلِيلَةُ الشَّعر، ودَفّاهُ: جَنَاحاهُ. والهاءُ في «له» ضَمِيرُ البَيْضِ؛ أَي يَجْعَلُ جَناحَيْه حَرَسًا لِبَيْضِه ويَضُمُّه إِلى نَحْرِه، وهو مَعْنَى قَوْله: «يُلْجئْهُ إِلى النَّحْر».
والقَرّ: موضع، ذكره الصاغانيّ، ولم يُحَلِّه، وهو بالحِجَازِ في دِيَارِ فَهْم؛ كذا في أَصلٍ. وأَظنُّه «قَوّ» بالوَاوِ، وقد تَصَحَّفَ على مَنْ قال بالرّاءِ، وقَوٌّ يَأْتِي ذِكْره في مَحَلِّه؛ كذا حَقَّقه أَبو عُبَيْدٍ البَكْرِيّ وَغَيْرُه.
وفي الأَساس: وأَنا آتِيهِ القَرَّتَيْن القَرَّتَانِ: البَرْدَانِ، وهما الغَدَاةُ والعَشِيُّ، وقال لَبِيدٌ:
وجَوَارِنُ بِيضٌ وكلُّ طِمِرَّةٍ *** يَعْدوُ عَلَيْهَا القَرَّتيْنِ غُلامُ
والقُرَرُ، كصُرَد: الحَسَا، وَاحِدتُهَا قُرَّةٌ؛ حكاها أَبو حَنِيفةَ. قال ابنُ سِيدَه: ولا أَدْرِي أَيّ الحَسَا عَنَى: أَحَسَا الماءِ أَمْ غَيْره مِنَ الشَّراب؟
وقَرُّ الثَّوْبِ: غَرُّه، قال ابنُ الأَعرابيّ: ويُقَال: اطْوِ الثَّوْبَ على قَرِّه وغَرِّه ومَقَرِّه؛ أَي على كَسْرِه.
والمقَرُّ، ظاهرُه أَنّه بالفَتْح، ولَيْسَ كذلك بل هُوَ بكَسْرِ المِيم وفَتْح القَاف؛ كما ضبطه أَبو عُبَيْد والصَّاغَانيّ: موضع بكاظِمةَ حيثُ دِيَارُ بَنِي دارِمٍ، وبه قَبْرُ غَالِبٍ أَبي الفَرَزْدَق، وقَبْرُ امرأَةِ جَرير، قال الرّاعِي:
فصَبَّحْنَ المِقَرَّ وهُنَّ خُوصٌ *** عَلَى رَوَحٍ يُقَلِّبْنَ المَحَارَا
وقال خالِدُ بن جَبَلَةَ: زَعَمَ النُّمَيْرِيّ أَنّ المقَرَّ جَبَلٌ لِبَني تَمِيم؛ كذا في اللِّسَانِ. وقال الصاغانيّ: أَنشد الأَصمعيّ لبِعْض الرُجّازِ:
تَذَكَّرَ الصُّلْبَ إِلى مِقَرِّهِ *** حَيْثُ تَدانَى بَحْرُه مِنْ بَرِّهِ
والصُّلْبُ وَراءَ ذلك قَلِيلًا.
والقُرَّى، بضَمٍّ فتَشْدِيدِ راءٍ مَفْتُوحَة: الشِّدَّةُ الوَاقِعَةُ بعدَ تَوَقِّيهَا، نقله الصَّاغَانِيّ.
وقُرَّى: موضع، أَو وادٍ، ويُقَالُ له: قُرَّى سَحْبَلٍ، وهُوَ في بلاد الحَارِثِ بنِ كَعْب، قال جَعْفَرُ بنُ عُلْبَة الحَارِثِيّ:
أَلَهْفَى بقُرَّى سَحْبَلٍ حِينَ أَجْلَبَتْ *** عَلَيْنَا الوَلَايَا والعَدُوُّ المُبَاسِلُ
ومنه يَوْمُ قُرَّى، قال ذُو الإِصْبع:
كأَنَّا يوْمَ قُرَّ *** ـى إِنَّما نَقْتُل إِيّانا
قَتَلْنَا مِنْهُم كُلَّ *** فَتًى أَبْيَضَ حُسّانَا
وقُرّانُ بالضّمّ: رَجُلٌ، كأَنَّه يَعْنِي به قُرّانَ بنَ تَمّامٍ الأَسَدِيّ الكُوفِيّ، الذِي رَوَى عن سُهَيْلِ بن أَبِي صالِح وغَيْرِه.
وقُرّانُ، في شِعْرِ أَبي ذُؤَيْبٍ: وَادٍ، قِيلَ: هو بِتِهَامَةَ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ شَرّفَهما الله تَعَالَى.
وقُرّانُ: قرية باليَمَامَةِ تُذْكَر مع «مَلْهَم» ذاتُ نَخْل وسُيُوحٍ جارِيَةٍ لِبَنِي سُحَيْمٍ من بَنِي حَنِيفَةَ، قال عَلْقَمة:
سُلّاءَةٌ كعَصَا النَّهْدِيِّ غُلَّ لها *** ذُو فَيْئةٍ مِنْ نَوَى قُرّانَ مَعْجُومُ
وقُرّانُ، قرية قُرْبَ مَكَّة بِمَرِّ الظَّهْرانِ.
وقُرّانُ أَيضًا: قَصَبَة البَذَّيْنِ بأَذْرَبِيجَانَ حَيْث استوطَنَ بابَكُ الخُرَّميُّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
71-تاج العروس (قصر)
[قصر]: القَصْرُ، بالفَتْح، والقِصَرُ، كعِنَب، في كلّ شيْءٍ: خِلافُ الطُّولِ، لُغَتَانِ، كالقَاصَارَة، بالفَتْح، وهذه عن اللِّحْيَانيّ.قصُرَ الشيءُ، ككَرُمَ، يَقْصُر، قِصَرًا، وقَصَارَةً: خِلافُ طالَ.
فهو قَصِيرٌ من قُصَرَاءَ، وقِصَارٍ، وقَصِيرةٌ من قِصَارٍ وقِصَارَةِ، ومن الأَخِير قولُ الأَعْشَى:
لا نَاقِصِي حَسَبٍ ولا *** أَيْدٍ إِذا مُدَّتْ قِصَارَهْ
قال الفَرّاءُ: والعَرَب تُدْخِل الهاءَ في كُلّ جمع على فِعال، يقولُون: الجِمَالَةُ والحِبَالَةُ والذِّكارَةُ والحِجَارَةُ. أَو القِصَارَةُ: القَصِيرةُ، وهو نادِرٌ، قاله الصَّاغَانِيّ والأَقَاصِرُ: جَمْعُ أَقْصَر، مِثْلُ أَصْغَرَ وأَصاغِرَ. وأَنشد الأَخْفَش:
إِلَيْكِ ابْنَةَ الأَغْيَارِ خافِي بَسالَةَ الرِّ *** جالِ وأَصْلالُ الرِّجالِ أَقاصِرُهْ
ولا تَذْهَبَنْ عَيْنَاكِ في كلِّ شَرْمَحٍ *** طُوَالٍ فإِنّ الأَقْصَرِينَ أَمازِرُهْ
يقول لها: لا تَعِيبِيِني بالقِصَرِ فإِنّ أَصْلالَ الرِّجَال ودُهَاتَهم أَقاصِرُهم، وإِنّمَا قال: «أَقَاصِرُه» على حَدِّ قولهم: هو أَحْسَنُ الفِتْيَانِ وأَجْمَلُه، يريد: وأَجْمَلُهم: وكذلك قوله: فإِنّ الأَقْصَرِين أَمازِرُه.
وقَصَرَه يَقْصِرُه، بالكَسْر، قَصْرًا: جَعَلَهُ قَصِيرًا.
والقَصِيرُ من الشَّعر: خلافُ الطَّوِيلِ.
وقد قَصَرَ الشَّعَر: كَفَّ منه وغَضَّ حتّى قَصُر، وكذا قَصَّرَه تَقْصِيرًا، والاسمُ القِصَار، بالكَسْر عن ثَعْلب. وقال الفرّاءُ: قلتُ لأَعرابيّ بمِنًى: آلقِصارُ أَحبُّ إِلَيْكَ أَم الحَلْق؟ يريد: التَّقْصِيرُ أَحبَّ إِلَيْكَ أَمْ حَلْقُ الرأْسِ.
وتَقَاصَرَ: أَظْهَر القِصَرَ، كتَقَوْصَرَ، ذكرهما الصاغَانيّ هكذا، وفَرَّق بينهما غيرُه كما يأْتي.
والقَصْرُ: خِلافُ المَدِّ، والفِعْل كالفِعْل، والمصدر كالمَصْدَر.
والقَصْرُ: اخْتِلاطُ الظَّلامِ، كالمَقْصَرِ والمَقْصَرَة؛ عن أَبي عبيد.
والقَصْرُ الحَبْسُ ومنهحديث مُعاذ: «فإِنّ له ما قَصَرَهُ في بَيْتِه» أَي حَبَسه.
وفي حديث أَسْمَاءَ الأَشْهَلِيّة: «إِنّا مَعْشَرَ النِّسَاءِ مَحْصُوراتٌ مَقْصُوراتٌ» أَي مَحْبُوسَاتٌ مَمْنُوعاتٌ.
وفي حديث عُمَرَ: «فإِذا هُمْ رَكْبٌ قد قَصَر بِهِم اللَّيْل»؛ أَي حَبَسَهُم. وفي حديث ابنِ عَبّاس: «قُصِرَ الرِّجَالُ على أَربعٍ من أَجْلِ أَموالِ اليَتَامَى» أَي حُبِسُوا أَو مُنِعُوا عن نِكاحِ أَكْثَرَ من أَرْبَع.
في قول الله تعالى: {حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ} قال الأَزْهَرِيّ: أَي محبوساتٌ في خِيَامٍ من الدُّرّ مُخَدَّراتٌ على أَزْوَاجِهِنَّ. وقال الفَرَّاءُ: قُصِرْن على أَزْوَاجِهِنَّ؛ أَي حُبِسْن فلا يُرِدْنَ غَيرَهم ولا يَطْمَحْنَ إِلى مَنْ سِواهُم. وكذا قوله في: {قاصِراتُ الطَّرْفِ} ويقال: قَصَرْتُ نفْسِي على الشَّيْءِ، إِذا حَبَسْتَها عليه وأَلزَمْتَها إِيّاه. ومنهحَدِيثُ إِسْلامِ ثُمَامَةَ: «فأَبَى أَنْ يُسْلِمَ قَصْرًا فَأَعْتَقَه» يعني حَبْسًا عليه وإِجْبَارًا. وقِيلَ: أَرادَ قَهْرًا وغَلَبَةٌ، من القَسْر، فأَبْدَل السين صَادًا، وهُمَا يَتَبادَلانِ في كثيرٍ من الكَلامِ. ومن الأَوّل الحديثُ: «ولَتَقْصُرَنَّه على الحقِّ قَصْرًا» وقال أَبو دُوَادٍ يَصف فَرَسًا:
فقُصِرْنَ الشِّتَاءَ بَعْدُ عَلَيْهِ *** وهْوَ للذَّوْدِ أَنْ يُقَسَّمْنَ جارُ
أَي حُبِسْنَ عليه يَشْرَبُ أَلْبَانَهَا في شِدَّةِ الشِّتَاءِ.
والقَصْرُ: الحَطَبُ الجَزْلُ، وبه فَسَّرَ الحَسَنُ قوله تعالى: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} والوَاحِدَة قَصْرَةٌ كتَمْر وتَمْرَة؛ كذا حكى اللّحْيَانيّ عنه.
والقَصْرُ من البِنَاءِ، مَعْرُوفٌ. وقال اللّحْيَانيّ: هو المَنْزِلُ أَو كُلُّ بَيْت من حَجَرٍ: قَصْرٌ؛ قُرَشِيَّةٌ، سُمِّيَ بذلك لأَنّه يُقْصَرُ فيه الحُرَم؛ أَي يُحْبَسْن. وجمعه قُصُورٌ. وفي التَّنْزِيل العَزِيز: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}.
والقَصْرُ: عَلَمٌ لِسَبْعَةٍ وخَمْسِينَ مَوْضِعًا: ما بَيْنَ مَدِينةٍ، وقريةٍ، وحِصْنِ، ودارٍ فمنها: قَصْرُ مَسْلَمَةَ بَيْنَ حَلَب وبالِس، بناهُ مَسْلَمَةُ بنُ عبدِ المَلِك، منِ حجارة، في قَرْيَةٍ اسمُها ناعُورَة.
وقَصْرُ نَفِيسٍ، على مِيلَيْنِ من المَدِينَة، يُنْسَب إِلى نَفِيسِ بنِ محمّد، من مَوالِي الأَنْصَار.
وقَصْرُ عِيسَى بن عَلِيٍّ عَلَى دِجْلَةَ.
وقَصْرُ عَفْرَاءَ بالشَّأْم، ذكره المصنّف في «عفر».
وقَصْرُ المَرْأَةِ بالقُرْبِ من البَصْرَةِ.
وقَصْرُ المُعْتَضِدِ، على نَهْرِ الثَّرْثَار.
وقَصْرُ الهُطَيْفِ على رَأْسِ وادِي سَهَام لِحِمْيَرَ. وقَصْرُ عِسْل ـ بكسر العين المهملة ـ بالبَصْرَة، قريب من خِطّة بني ضَبَّة.
وقَصْر بَنِي الجَدْماءِ بالقُرْب من المَدِينَةِ.
وقَصْرُ كُلَيْبٍ بنَواحِي قُوص.
وقَصْرُ خاقَانَ بالجِيزَة.
وقَصْرُ المَعْنىّ بالشَّرْقِيّة.
والقَصْرُ: حِصْنٌ من حُدُودِ الوَاحِ.
وجَزيرةُ القَصْرِ، وشِيبِين القَصْرِ: كِلاهُمَا في الشَّرْقِيَّة.
وقَصْرُ الشَّوْقِ: خِطّة بمِصرَ، وتُعْرَف الآن بالشّوك.
والقَصْرُ: مدينةٌ كَبِيرَةٌ بالمَغْرِب، منها الإِمامُ أَبو الحَسَنِ إِسماعيلُ بنُ الحَسَنِ بنِ عبدِ الله القَصْرِيّ؛ والإِمَامُ أَبو محمّد عَبْدُ الجَلِيلِ بنِ مُوسَى بنِ عبدِ الجَلِيلِ الأَوْسِيُّ المَعْرُوف بالقَصْرِيّ صاحبُ شُعَبِ الإِيمانِ؛ والإِمامُ أَبُو الحَسَنِ عليُّ بنُ خَلَفِ بن غالِب الأَنْدَلُسِيّ القَصْرِيُّ، المُتَوَفَّى بالقَصْر سنة 568 وغَيْرُهم.
والقَصْرُ: قَرْيَةٌ بالقُرْبِ مِنْ مالَقَة، ومنها الإِمام أَبو البَرَكَاتِ عبدُ القادِرِ بن عَلِيّ بنِ يُوسُفَ الكنَانيّ القَصْرِيّ، جُدُودُهُم منها، ونَزَلُوا بفاسَ، وتَدَيَّرُوا بها، وبها وُلِدَ سنة 1007، وتُوُفِّيَ سنة 1091؛ ووَالِدُهُ أَبو الخَيْرِ عليّ تُوُفِّيَ سنة 1030، وعَمّه محمّدٌ العَرَبِيّ بن يُوسُفَ؛ وعَمُّ والِدِه أَبو المَعَارِفِ عبدُ الرَّحْمن؛ وإِخْوَتُه؛ وابنُ عَمِّه مُفْتِي الحَضْرَة الفاسِيّة الآنَ شَيْخُنَا الفَقِيه النَّظّار عُمَرُ بنُ عبدِ الله بنِ عُمَرَ بنِ يُوسُفَ بنِ العَرَبِيّ: مُحَدِّثون، وقد حَدَّثَ عنه شيوخُ مَشَايِخِنا عالِيًا.
والقَصْرُ: مَوضعٌ خارِجَ القَاهِرَة.
وقَصْرُ اللُّصُوص: بالعَجَم.
أَعْجَبُهَا قَصْر بالعَجَم، بَناهُ بَهْرام جُورَ مَلِكُ الفُرْسِ من حَجَرٍ واحد، قُرْبَ هَمَذَانَ.
وقَصَرَه عَلَى الأَمْرِ قَصْرًا: رَدَّه إِليْه. ويُقَال: قصَرْتُ الشَّيْءَ عَلَى كَذَا، إِذا لم تُجَاوِزْ به غَيْرَه. وتقولُ: قَصَرْتُ اللِّقْحَةَ على فَرَسِي: إِذا جَعَلْتَ دَرَّهَا له.
وامْرَأَةٌ قاصِرَةُ الطَّرْفِ: لا تَمُدُّه إِلى غَيْرِ بَعْلِهَا.
وقال أَبو زَيْد: قَصَرَ فلانٌ على فَرسِه ثلاثًا أَو أَرْبَعًا من حَلائِبِه تَسْقِيهِ أَلْبَانَهَا.
وقَصَرَ عَنِ الأَمْرِ يَقْصُرُ قُصُورًا كقُعُودٍ، وأَقْصَرَ، إِقْصَارًا، وقَصَّرَ تَقْصِيرًا، وتَقَاصَرَ، كُلّه: انْتَهَى، كذا في المُحْكَم، وأَنشد:
إِذا غَمَّ خِرْشاءُ الثُّمَالَةِ أَنْفَهُ *** تَقَاصَرَ مِنْهَا للصَّرِيحِ فَأَقْنَعَا
وقال ابنُ السِّكِّيت: أَقْصَرَ عن الشَّيْءِ، إِذا نَزَعَ عنه وهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْه، وقَصَرَ عنه، إِذا عَجَزَ عنه ولم يَسْتَطِعْه، وربما جاءَا بمعنًى واحدٍ إِلّا أَنّ الأَغَلَبَ عليه الأَوّل.
وقَصَرَ عَنِّي الوَجَعُ والغَضَبُ يَقْصُرُ قُصُورًا، بالضَّمّ: سَكَنَ، كقَصَّرَ، المَضْبُوط عندنا بقلم النّساخ بالتَّشْدِيد، والصَّواب كفَرِحَ. وقِيلَ: قَصَّر عنه تَقْصِيرًا: تَرَكَهُ وهو لا يَقْدِر عليه، وأَقْصَرَ: تَرَكَهُ وكَفَّ عنه وهو يَقْدِرُ عَلَيْه.
وقال اللّحْيَانيّ: ويقال للرَّجُلِ إِذا أُرْسِلَ في حاجَةٍ فقَصَرَ دُونَ الذي أُمِرَ بِه: ما مَنَعَهُ أَنْ يَدْخُلَ المكانَ الذي أُمِرَ بِه إِلَّا أَنَّه أَحَبَّ القَصْرَ، بفَتْحٍ فَسُكُونٍ، ويُحَرَّكُ، والقُصْرَةَ، بالضمّ؛ أَي أَنْ يُقَصِّر.
والتَّقْصِيرُ في الأَمْرِ: التَّوانِي فيه.
وامْرَأَةٌ مَقْصُورَةٌ، وقَصُورَةٌ، وقَصِيرَةٌ: مَحْبُوسَةٌ في البَيْتِ لا تُتْرَكُ أَنْ تَخْرُجَ، قال كُثَيِّر:
وأَنْتِ الَّتي حَبَّبْتِ كلَّ قَصِيرَةٍ *** إِليّ وما تَدْرِي بِذاكَ القَصَائِرُ
عَنَيْتُ قَصِيرَاتِ الحِجَالِ ولم أُرِدْ *** قِصارَ الخُطَا شَرُّ النِّسَاءِ البَحَاتِرُ
وفي التَّهْذِيب: «قَصُورَاتِ الحِجالِ». وهكذا أَنْشَدَه الفَرّاءُ. وفيه: «شَرُّ النّسَاءِ البَهَاتِرُ». واقتصر الأَزهريّ على القَصِيرَة والقَصُورَة، قال: وهي الجارِيَةُ المُصُونَةُ التي لا بُرُوزَ لها. ويقال: امرأَةٌ مَقْصُورَةٌ؛ أَي مُخَدَّرة، وتُجْمَع القَصُورة على القَصَائِر. قال: فإِذا أَرادُوا قِصَرَ القامَةِ قالُوا: امرأَة قَصِيرَةٌ، وتُجْمَع قِصَارًا.
وسَيْلٌ قَصِيرٌ: لا يَسِيلُ وَادِيًا مُسَمًّى، وإِنَّمَا يُسِيل فُروعَ الأَوْدِيَةِ وأَفْنَاءَ الشِّعَابِ وعَزَازَ الأَرضِ.
ويُقَال: هو يَسْكُنُ مَقْصُورَةً من مَقَاصِيرِ دارِ زُبَيْدَة، المَقْصُورَةُ: الدّارُ الواسِعَة المُحصَّنة بالحِيطانِ، أَو هِيَ أَصْغَرُ من الدّارِ، وقال اللَّيْث: المَقْصُورَة: مَقَامُ الإِمَامِ.
وقال: وإِذا كانَت دارًا واسِعَةً مُحَصَّنةَ الحِيطَانِ، فكُلُّ ناحِيَةٍ منها على حِيَالِهَا مَقْصُورَةٌ. وجَمْعُهَا مَقاصِرُ ومَقَاصِيرُ.
وأَنشد:
ومنْ دُونِ لَيْلَى مُصْمَتَاتُ المَقَاصِرِ
المُصْمَتُ: المُحْكَم، كالقُصَارَة، بالضمّ، وهي المَقْصُورَة من الدّارِ لا يَدْخُلُها إِلّا صاحِبُهَا، وقال أُسَيْدٌ: قُصَارَةُ الدارِ: مَقْصُورَةٌ منها لا يَدْخُلُهَا غيرُ صاحِبِ الدّارِ.
قال: وكانَ أَبِي وعَمِّي على الحِمَى، فقَصَرَا منها مَقصورَةً لا يَطَؤُهَا غَيْرَهُما. والمَقْصُورَةُ: الحَجَلَةُ، كالقَصُورَة، كصَبُورَة، كِلاهُما عن اللّحيانيّ.
وقَصَرَهُ على الأَمْرِ، واقْتَصَرَ عَلَيْه: لم يُجَاوِزْه إِلى غَيْرِه.
وماءٌ قاصِرٌ، ومُقْصِرٌ ـ كمُحْسِنٍ: يرَعَى المالُ حَوْلَه لا يُجَاوِزُه، أَو بَعِيدٌ عن الكَلإِ، قال ابنُ الأَعرابيّ: الماءُ البَعِيدُ عن الكَلإِ قاصرٌ، ثمّ باسِطٌ، ثمّ مُطْلِبٌ. وقال ابنُ السِّكْيت: ماءٌ قاصرٌ. ومُقْصِرٌ، إِذا كان مَرْعَاهُ قَرِيبًا، وأَنشد:
كانتْ مِيَاهِي نُزُعًا قَوَاصِرَا *** ولمْ أَكُنْ أُمَارِسُ الجَرَائِرَا
النُّزُعُ: جَمْعُ نَزُوع، وهي البِئر التي يُنْزَعُ منها باليَدَيْن نَزْعًا، وبِئرٌ جَرُورٌ: يُسْتَقَى منها على بَعِيرٍ. أَو ماءٌ قاصِرٌ:
بارِدٌ، وقد قَصَرَ قَصْرًا؛ قاله ابنُ القَطّاع.
والقُصَارَةُ ـ بالضَّمِّ ـ والقِصْرَى ـ بالكَسْر ـ والقَصَرُ، وهذه عن اللّحيانيّ، والقَصَرَةُ ـ محرَّكَتَيْن ـ والقُصْرَى ـ كبُشْرَى ـ: ما يَبْقَى في المُنْخُلِ بعد الانْتِخَال، أَو هو ما يَخْرُج من القَتِّ ويَبْقى في السُّنْبُل من الحَبِّ بَعْدَ الدَّوْسَةِ الأَولى، وقال اللَّيْث: القَصَرُ: كَعَابِرُ الزَّرْعِ الذي يَخْلُصُ من البُرِّ وفيه بَقِيَّةٌ من الحَبِّ، يقَال له: القِصْرَى، على فِعْلى، أَو، القَصَرَةُ: القِشْرَةُ العُليَا من الحَبَّةِ إِذا كانَت في السُنْبُلَة، كالقُصَارَة؛ قالَهُ ابنُ الأَعْرَابِيّ. وذكر النَّضْرُ عن أَبي الخَطّابِ أَنّه قال: الحَبُّ عليها قِشْرَتَانِ: فالَّتِي تَلِي الحَبَّةَ: الحَشَرَةُ، والَّتِي فَوْقَ الحَشَرَة: القَصَرَةُ. وقال غيرُه: القَصَرَةُ والقَصَرُ: قِشْرُ الحِنْطَةِ إِذا يَبِسَتْ.
والقَصَرَة، محرّكَة: زُبْرَةُ الحَدّادِ، عن قُطْرُب.
والقَصَرَةُ: القِطْعَةُ من الخَشَب أَيَّ خَشَبٍ كان، ومنهم من خَصّه بالعُنّاب.
والقَصَرَةُ: الكَسَلُ، وفي النَّوَادِرِ لابنِ الأَعْرَابِيّ: «القَصَرُ» بغير هاءٍ؛ كذا نَقَلَه صاحِبُ اللّسَان، وجَوَّدَهُ الصاغَانِيّ، وضَبَطَه هكذا بخَطِّه، كالقَصَارِ، كسَحابٍ، وقال أَعرابيّ: أَرَدْتُ أَنْ آتيَك فمَنَعَنِي القَصَارُ. وقال الأَزهريّ: أَنشدني المُنْذرِيّ رِوَايَةً عن ابن الأَعرابيّ:
وصارِمٍ يَقْطَعُ أَغلالَ القَصَرْ *** كَأَنّ في مَتْنَتِه مِلْحًا يُذَرّ
أَوْ زَحْفَ ذَرٍّ دَبَّ في آثَارِ ذَرّ
قال: ويُرْوَى:
كَأَنّ فَوْقَ مَتْنِه مِلْحًا يُذَرّ
والقَصَرَةُ: زِمِكَّى الطائرِ، وهذه نقلها الصاغانيّ.
والقَصَرَةُ: أَصْلُ العُنُقِ ومنه قَوْلُهم: ذَلَّتْ قَصَرَتُه. وقال نُصَيرٌ: القَصَرَةُ: أَصْلُ العُنُقِ في مُرَكَّبه في الكاهِل، قال: ويُقَال لعُنُقِ الإِنْسَانِ كُلِّه: قَصَرَةٌ. وقال اللّحْيَانيّ: إِنّمَا يُقَال لأَصْلِ العُنُق قَصَرَةٌ إِذا غَلُظَت، والجَمْع قَصَرٌ، وبه فَسَّر ابنُ عبّاس قولَه تَعَالَى: {إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} وقال كُراع: والجمع: القَصَرَةِ أَقْصَارٌ، قال الأَزهريّ: وهذا نادرٌ إِلّا أَنْ يَكُونَ على حَذْفِ الزائد، وفي حديثِ سَلْمانَ، قال لأَبِي سُفْيَانَ، وقد مَرَّ به: «لقد كانَ في قَصَرَةِ هذا مَوْضِعٌ لِسُيُوف المُسْلِمينَ». وذلِك قَبْلَ أَن يُسْلِمَ فإِنّهُم كانُوا حِراصًا على قَتْلِه. وقيل: كانَ بَعْدَ إِسْلامِه. وفي حديث أَبِي رَيْحَانَةَ: «إِنّي لأَجِدُ في بَعْضِ مَا أُنْزِلَ من الكُتُب: الأَقْبَلُ، القَصِيرُ القَصَرَةِ، صاحِبُ العِرَاقَيْن، مبدِّل السُّنَّة يَلْعَنُهُ أَهلُ السَّمَاءِ وأَهْلُ الأَرْضِ، وَيْلٌ له، ثُمّ وَيْلٌ له».
وقال: القِصَارُ ككتَاب: سِمَةٌ عليها؛ أَي على القَصَرَة، وأَرادَ بها قَصَرَةَ الإِبِل، وقد قَصَّرَها تَقْصِيرًا: إِذا وَسَمَها بها، ولا يُقَال: إِبِلٌ مُقَصَّرَةٌ، قاله ابنُ سِيدَه. وقال النَّضْرُ: القِصَارُ: مِيسَمٌ يُوسَمُ به قَصَرَةُ العُنُقِ، يُقَال: قَصَرْتُ الجَمَلَ قَصْرًا، فهو مَقْصُورٌ.
والقَصَرُ، مُحَرَّكةً: أُصولُ النَّخْلِ، وبه فُسِّر قوله تَعَالَى: {بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} وقال أَبو مُعَاذ النَّحْوِيّ: واحِدُ قَصَرِ النَّخْلِ قَصَرَةٌ، وذلك أَنَّ النَّخْلَة تُقْطَعُ قَدْرَ ذِرَاع يَسْتَوْقِدُون بها في الشِّتَاءِ، وهو من قولك للرَّجُل: إِنّه لَتامُّ القَصَرَةِ، إِذا كانَ ضَخْمَ الرَّقَبَةِ. وصرَّحَ في الأَساسِ أَيضًا أَنّه مَجاز.
وقِيلَ: القَصَرُ: أُصولُ الشَّجَر العِظَامِ؛ قاله الضَّحّاك، وقِيل: هِيَ بَقَاياها؛ أَي الشَّجَرِ. وفي الحَدِيث: «مَنْ كانَ لَهُ في المَدِينَةِ أَصْلٌ فَلْيَتَمَسَّكْ به، ومنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَجْعَلْ لَهُ بِهَا أَصْلًا ولو قَصَرَةً»، أَرادَ ولو أَصْلَ نَخْلَةٍ واحِدَة.
وقيل: القَصَرُ: أَعْنَاقُ النّاسِ وأَعْناقُ الإِبلِ، جَمْع قَصَرَةٍ، والأَقْصَارُ جَمْعُ الجَمْع. قال الشاعِرُ:
لا تَدْلُكُ الشَّمْسُ إِلّا حَذْوَ مَنْكِبِهِ *** في حَوْمَة تَحْتَها الهامَاتُ والقَصَرُ
والقَصَرُ: يُبْسٌ في العُنُق، وفي المحكم: داءٌ يأْخُذُ في القَصَرَة. وقال ابنُ السِّكّيت: هو داءٌ يأْخُذُ البَعِيرَ في عُنُقِه فيَلْتَوِي، فتُكْوَى مَفاصِلُ عُنُقِه فرُبَّمَا بَرَأَ. وفي الصّحاح: قَصِرَ البَعِيرُ، كفَرِحَ، يَقْصَرُ قَصَرًا فهو قَصِرٌ، وقَصِرَ الرَّجُلُ، إِذا اشْتَكَى ذلك. وقال أَبو زَيْدِ: قَصِرَ الفَرَسُ يَقْصَر قَصَرًا، إِذا أَخَذَه وَجَعٌ في عُنُقِه، يقال: به قَصَرٌ، وهو قَصِرٌ وأَقْصَرُ، وهي قَصْرَاءُ. وقال ابنُ القَطّاعِ: وقَصِرَ البَعِيرُ وغَيْرُه قَصَرًا: وَجِعَتْه قَصَرَتُه: أَصْلُ عُنُقِهِ.
والتِّقْصارُ، والتِّقْصَارَةُ، بكَسْرِهما: القِلادَة، لِلُزومِها قَصَرَة العُنُقِ. وفي الصّحاح: قِلادَةٌ شَبِيهَةٌ بالمِخْنَقَة. وفي الأساس: وتَقَلَّدَتْ بالتِّقْصارِ: بالمِخْنَقَة على قَدْرِ القَصَرَة، الجمع: تَقاصِير قال عَدِيّ:
وأَحْوَرِ العَيْنِ مَرْبُوع له غُسَنٌ *** مُقَلَّدٍ مِنْ نِظَامِ الدُّرِّ تِقْصَارَا
وقَصَرَ الطَّعَامُ قُصُوارًا، بالضمّ: نَمَا. وقال ابنُ القَطّاعِ: قَصَرَ قُصُورًا: غَلَا، وقَصَر قُصُورًا: نَقَصَ، ومنه قُصُورُ الصَّلاة، وقَصَرُ قُصُورًا: رَخُصَ، وهو ضِدّ.
والمَقْصرُ، كمَقْعَدٍ ومَنْزِل ومَرْحَلَةِ: العَشِيّ، وكذلك القَصْرُ.
وقَصَرْنَا وأَقْصَرْنا: دَخَلْنَا فيه؛ أَي في قَصْرِ العَشِيِّ، كما تَقُولُ: أَمْسَيْنَا، من المَسَاءِ.
والمَقَاصِرُ والمَقَاصِيرُ: العِشَاءُ الآخِرَةُ، هكذا في سائر النُّسَخ، والصَّوابُ: والمَقَاصِرُ والمَقَاصِيرُ: العَشَايَا، الأَخِيرَة نادِرَةٌ؛ كذا هو عبارة الأَزهريّ، وكأَنّه لَمّا رَأَى الأَخيرَةَ لم يَلْتَفِتْ لمَا بَعْدَه، وجَعله وصفًا للعشاءِ، وهو وَهَمٌ كبيرٌ فإِنَّ المقاصِيرَ اسمٌ للعِشاءِ، ولم يُقَيِّده أَحدٌ بالآخرة. وفي التَّهْذِيب لابْنِ القَطّاع: قَصَرَ صارَ في قَصْرِ العَشِيِّ آخِرَ النّهَار، وأَقْصَرْنَا: دَخَلْنَا في قَصْرِ العَشِيّ. انتهى. وفي الأَساس: جئتُ قَصْرًا، ومَقْصِرًا، وذلِك عِنْدَ دُنُوِّ العَشِيِّ قُبَيْلَ العَصْرِ، وأَقْبَلَتْ مَقَاصِيرُ العَشِيِّ. فظَهَر بذلك كُلّه أَنَّ قَيْدَ العِشَاءِ بالآخِرَة في قول المُصَنّف وَهَمٌ وغَلَط، فَتَنَبَّه.
وقال سِيبَوَيْه: ولا يُحَقَّر القَصْر، اسْتَغْنَوْا عن تَحْقيرِه بتَحْقِيرِ المَساءِ. قال ابنُ مُقْبِل:
فبَعَثْتُهَا تَقِصُ المَقَاصِرَ بَعْدَ ما *** كَرَبَتْ حَياةُ النارِ للمُتَنوِّرِ
ومَقَاصِيرُ الطَّبَقِ، هكذا في النُّسَخ، وهُو غَلَط، والصَّوابُ: مَقَاصِيرُ الطَّرِيقِ: نَوَاحِيهَا واحدتُهَا مَقْصَرَةٌ، على غَيْر قِيَاس. والقُصْرَيَانِ، والقُصَيْرَيَانِ، بضَمّهما: ضِلَعانِ يَلِيَانِ الطِّفْطِفَةَ أَوْ يَلِيَانِ التَّرْقُوَتَيْن. والقُصَيْرَى، مَقْصُورَةً مَضْمُومَةً: أَسْفَلُ الأَضْلاع، وقِيلَ هي: الضِّلَع الَّتِي تَلِي الشاكِلَةَ، وهي الوَاهِنَةُ، أَو آخِرُ ضِلَعٍ في الجَنْبِ، وقال الأَزْهَرِيّ: القُصْرَى والقُصَيْرَى: الضِّلَعُ الَّتِي تَلِي الشّاكِلَةَ بَيْنَ الجَنْبِ والبَطْن. وأَنشد:
نَهْدُ القُصَيْرَى يَزِينُه خُصَلُهْ
وقال أَبو الهَيْثَم: القُصْرَى: أَسْفَلُ الأَضْلاعِ، والقُصَيْرَى: أَعْلَى الأَضْلاعِ. وقال أَوْسٌ:
مُعَاوِدُ تَأْكالِ القَنِيصِ، شِواؤُه *** من اللَّحْمِ قُصْرَى رَخْصَةٌ وطَفاطِفُ
قال: وقُصْرَى هُنَا اسمٌ، ولو كانَت نَعْتًا لكانَت بالأَلف والّلام. وفي كتاب أَبِي عُبَيْدٍ: القُصَيْرَى: هي الَّتِي تَلِي الشاكِلَةَ، وهي ضِلَعُ الخَلْفِ، وحكى اللّحْيَانيّ أَنَّ القُصَيْرَى أَصْلُ العُنُقِ، وأَنشد:
لا تَعْدِليني بظُرُبٍّ جَعْد *** كَزِّ القُصَيْرَى مُقْرِفِ المَعَد
قال ابنُ سيدَه: وما حَكَاه اللِّحْيَاني فهو قولٌ غير مَعْرُوفٍ إِلّا أَنْ يُريدَ القُصَيْرة، وهو تصغيرُ القَصَرَة من العُنُق، فأَبْدَلَ الهاءَ لاشتراكهما في أَنّهما عَلَمَا تَأْنيثٍ.
والقَصَرَى ـ كجَمَزى وبُشْرَى ـ والقُصَيْرَى، مُصَغَّرًا مَقْصورًا: ضَرْبٌ من الأَفَاعي صَغيرٌ يَقتُلُ مَكَانَه، يقال: قَصَرَى قِبَالٍ وقُصَيْرَى قِبَال، وسيأْتي في «ق ب ل».
والقَصّارُ، والمُقَصِّر، كشَدّادٍ ومُحَدِّث: مُحَوِّرُ الثِّيَاب ومُبَيِّضُها، لأَنّه يَدُقُّها بالقَصَرَة التي هي القطْعَةُ من الخَشَب، وهي من خَشَب العُنّاب، لأَنّه لا نَارَ فيه، كما قَالُوا، وحِرْفَتُه القِصَارَة، بالكَسْر على القياسِ. وقَصَرَ الثوبَ قِصَارَةً، عن سيبويه، وقَصَّرَه، كلاهُمَا: حَوَّرَه ودَقَّه. وَخَشَبَتُه المِقْصَرَة، كمِكْنَسةٍ، والقَصَرَةُ، مُحرَّكَةً، أَيضًا.
والمُقَصِّر: الّذي يُخِسُّ العَطيَّةَ ويُقِلُّهَا.. والتَّقْصيرُ: إِخْساسُ العَطيَّةِ وإِقلالُهَا.
والتَّقْصيرُ: كَيَّةٌ للدَّوَابِّ، واسمُ السِّمَة القِصَارُ، كما تَقَدّم، وهُوَ العِلَاطُ، يقال فيه القَصْرُ والتَّقْصِيرُ، ففي اقْتصارِه على التَّقْصِير نوعٌ من التَّقْصِير، كما لا يَخْفَى على البَصِير.
وهو ابنُ عَمِّي قَصْرَةً ـ ويُضَمّ ـ ومَقْصُورَةً، وقَصِيرَةً، كقولهم: ابنُ عَمِّي دِنْيا ودُنْيا؛ أَي دانِيَ النَّسَب، وكَانَ ابنَ عَمِّه لَحًّا. وقال اللّحْيَانيّ: تُقَالُ هذه الأَحرُف في ابن العَمَّة وابْن الخالة وابن الخال.
وتَقَوْصَرَ الرَّجُلُ: دَخَلَ بَعْضُه في بعضٍ، قال الزمخشريُّ: وهو من القَوْصَرة؛ أَي كَأَنَّهُ صارَ مِثْلَه. وقد تقدّم للمُصَنّف ذِكْرُ تَقَوْصَرَ مع تَقاصَر، تَبَعًا للصغانيّ، وهذا نَصّ عِبَارَتِه: وتَقَوْصَرَ الرَّجُلُ مِثْلُ تَقَاصَر. ولا يَخْفَى أَنّ التَّداخُل غَيْرُ الإِظْهَار. ولو ذَكَرَ المصنّف الكُلَّ في مَحَلٍّ واحِد كانَ أَفْوَد.
والقَوْصَرَّةُ، بالتَّشْدِيدِ وتُخَفَّف: وِعَاءٌ للتَّمْرِ من قَصَبٍ.
وقِيلَ: من البَوَارِيّ. وقَيَّد صاحبُ المُغرِب بأَنَّها قَوْصَرّة ما دام بِهَا التَّمْر، ولا تُسَمَّى زَنْبيلًا في عُرْفهم؛ هكذا نقله شَيْخُنَا. قلتُ: وهو المَفْهُوم من عبارة الجَوْهَريّ قال الأَزهريّ: ويُنْسَبُ إِلى عليٍّ كَرَّم الله وَجِهَه:
أَفْلحَ مَنْ كانَتْ لَهُ قَوْصَرَّهْ *** يَأْكُلُ منها كُلَّ يوْمٍ تَمْرَهْ
وقال ابنُ دُرَيْدٍ في الجَمْهَرة: لَا أَحْسَبُه عَرَبيًّا، ولا أَدْري صحَّةَ هذا البَيْت. والقَوْصَرّةُ: كنَايَةٌ عن المرْأَة، قال ابنُ الأَعْرَابيّ: والعَرَبُ تَكْنِي عن المَرْأَة بالقَارُورَة والقَوْصَرَّة. قال ابنُ بَرّيّ في شرح البَيْت السابق: وهذا الرَّجَزُ يُنْسب إِلى عليّ رضي الله عنه، وقالوا: أَرادَ بالقَوْصَرَّةِ المَرْأَةَ، وبالأَكْلِ النِّكَاحَ. قال ابنُ بَرّيّ: وذكر الجوهريّ أَنَّ القَوْصَرَّةَ قد تُخفَّفُ، ولم يَذْكُر عليه شاهِدًا.
قال وذَكَرَ بعضُهم أَنّ شاهِدَه قولُ أَبِي يَعْلَى المُهَلَّبِيّ:
وسائِلِ الأَعْلَمَ بنَ قَوْصَرَةِ *** مَتَى رَأَى بِي عن العُلَا قصرَا
وقَيْصَرُ: لَقَبُ مَنْ مَلَكَ الرُّومَ، ككِسْرَى لَقَبُ مَنْ مَلَك فارِسَ، والنَّجَاشِيّ مَنْ مَلَك الحَبَشَة.
والأُقَيْصِر، كأُحَيْمِر: صَنَمٌ كان يُعْبَدُ في الجاهِلِيَّة، وأَنشد ابنُ الأَعرابيّ:
وأَنْصَابُ الأُقَيْصِرِ حِينَ أَضْحَتْ *** تَسِيلُ على مَنَاكِبها الدِّمَاءُ
وابنُ أُقَيْصِر: رجلٌ كان بَصِيرًا بالخيْلِ وسِيَاسَتِه ومَعْرِفَةِ أَمَارَاتِه.
وقاصِرُونَ: موضع، وفي النَّصْبِ والخَفْضِ: قاصِرِينَ، وهو من قَرَى بالِسَ.
ويُقَال: قَصْرُك أَنْ تَفْعَلَ كذا، بالفَتْح، وقَصَارُك ـ ويُضمّ ـ وقُصَيْرَاكَ، مُصَغَّرًا مَقْصُورًا، وقُصَارَاكَ، بضمّهما؛ أَي جُهْدُك وغايَتُك وآخِرُ أَمرِكَ وما اقْتَصَرْت عليه.
قال الشاعر:
إِنّمَا أَنْفُسُنا عارِيَّةٌ *** والعَوَارِيُّ قُصَارٌ أَنْ تُرَدّ
ويُقَالُ: المُتَمَنِّي قُصَارَاهُ الخَيْبَةُ. ورُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه أَنه كتب إِلى مُعَاوِيَةَ: «غَرَّك عِزُّك، فَصَارَ قَصَارُ ذلِكَ ذُلَّك، فاخْشَ فاحِشَ فِعْلِك، فعَلَّك تَهْدَا بهذا». وهي رسالة تَصْحِيفِيّةٌ غريبةٌ في بابها، وتقدّم جَوابُهَا في «ق بلد ر» فراجِعه. وأَنشد أَبو زَيْد:
عِشْ ما بَدا لَكَ قَصْرُك المَوْتُ *** لا مَعْقِلٌ منه ولا فَوْتُ
بَيْنَا غِنَى بَيْتٍ وبَهْجَتِه *** زالَ الغِنَى وتَقوَّضَ البيتُ
قال: القَصْرُ: الغايَةُ، وكذلك القَصَارُ، وهو من مَعْنَى القَصْرِ بمعنَى الحَبْسِ، لأَنّك إِذا بَلَغْتَ الغَايَةَ حَبَسَتْك.
وأَقْصَرَتِ المَرْأَةُ: وَلَدَتْ أَوْلَادًا قِصَارًا وأَطالَتْ، إِذا وَلَدَتْ طِوَالًا. وأَقَصَرَتِ النَّعْجَةُ أَو المعزُ: أَسَنَّتْ، ونصُّ يَعْقُوبَ في الإِصْلاحِ: وأَقْصَرَتِ النَّعْجَةُ والمَعزُ: أَسَنَّتَا حَتَّى تَقْصُرَ أَطرافُ أَسْنَانِهِمَا، فهي مُقْصِرٌ، ونصّ ابن القَطّاع في التَّهْذِيب: وأَقْصَرَت البَهِيمَةُ: كَبِرَتْ حتَّى قَصُرَت أَسْنَانُهَا.
ويُقَال: إِنَّ الطَوِيلَةَ قد تُقْصِرُ، والقَصِيرَةَ قد تُطِيلُ. وقولُ الجوهريِّ «في الحديث» وَهَمٌ، فإِنّه ليس بحديثٍ بَلْ هو من كَلامِ الناسِ، كما حَقَّقه الصاغاني وتَبِعَه المُصَنِّف.
ويُقَالُ: هو جارِي مُقَاصرِي: أَي قَصْرُه بحِذاءِ قَصْرِي، وأَنشد ابن الأَعرابيّ:
لِتَذْهَبْ إِلى أَقْصَى مُباعَدَةٍ جَسْرُ *** فما بِي إِلَيْهَا من مُقَاصَرَةٍ فَقْرُ
يقولُ: لا حَاجَةَ لي في مُجاوَرَتِهم. وجَسْرٌ من مُحَارِب.
والقُصَيْر، كزُبَيْرٍ: د، بساحلِ بحرِ اليَمَنِ من بَرِّ مِصْرَ وهو أَحَدُ الثُّغُورِ التّسْعَة بالدِيَارِ المِصْرِيَّة.
والقُصَيْرُ: قرية، بدِمَشْقَ على فَرْسَخ منها.
والقُصَيْرُ: قرية، بظاهِرِ الجَنَدِ باليَمَن.
والقُصَيْرُ: جَزِيرَةٌ صغيرةٌ عالِيَة قُرْبَ جزيرةِ هِنْكَامَ، قال الصّاغانيّ: ذُكِر لي أَنّ بها مَقَام الأَبْدَالِ والأَبْرَارِ. قال شَيْخُنَا: ولم يَذْكُر جَزِيرَةَ هَنْكَام في هذا الكتَاب، فهو إِحَالَةٌ على مَجْهُولٍ، والمُصنّف يَصْنَعه أَحْيَانًا.
وقَصْرَانِ: ناحِيَتَانِ بالرَّيِّ، نقله الصاغَاني.
والقَصْرَانِ: دارانِ بالقَاهِرَة مَعْرُوفَتَانِ، وخِطّهُما مشهورٌ، وهُمَا من بِنَاءِ الفَوَاطِم مُلُوك مِصْرَ العُبَيْدِيِّين، وحَدِيثُهُمَا في الخِطَطِ للمقْرِيزيّ.
وتَقَصَّرْتُ به: تَعَلَّلْتُ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيّ في الأَسَاس.
وقُصَائِرِةُ، بالضَّمّ: جَبَلٌ.
ويُقَال: فُلانٌ قَصِيرُ النَّسَبِ: أَبُوه مَعْرُوفٌ، إِذا ذَكَرَه الابنُ كَفَاهُ عن الانْتِمَاءِ إِلى الجَدِّ الأَبْعَدِ، وهِيَ بهاءٍ، قال رؤْبَة:
قدْ رَفَعَ العَجّاجُ ذِكْرِي فادْعُنِي *** باسْمٍ إِذا الأَنْسابُ طالَتْ يَكْفِنِي
ودَخَل رُؤْبَةُ عَلى النَّسَّابَة البَكْرِيّ، فقال: مَنْ أَنْتَ؟
رؤْبَةُ بنُ العَجّاج. قال: قُصِرْتَ وعُرِفْتَ. وأَنشدَ ابنُ دُرَيْد:
أُحِبُّ مِنَ النِّسْوانِ كُلَّ قَصِيرَةٍ *** لَها نَسبٌ في الصالِحِين قَصِيرُ
مَعْنَاهُ أَنّهُ يَهْوَى من النّساءِ كُلَّ مَقْصُورَة تَغْنَى بنَسَبِهَا إِلى أَبِيها عن نَسَبِهَا إِلى جَدِّهَا. وقال الطائيّ:
أَنْتُمْ بَنُو النَّسَبِ القَصِيرِ وطولُكُم *** بادٍ عَلَى الكُبَراءِ والأَشْرَافِ
قال شيخُنَا: وهو مِمّا يُتمادَحُ به ويُفْتَخَر، وهو أَنْ يُقَالَ: أَنا فلانٌ، فيُعْرَف، وتلك صِفَةُ الأَشْرَاف، ومن لَيْس بشَرِيفٍ لا يُعْلَم، ولا يُعْرَف حتَّى يَأْتِيَ بنَسَبٍ طَوِيلٍ يبلُغ به رَأْسَ القَبِيلَة.
وقال أُسيْدٌ: قُصَارَةُ الأَرْضِ، بالضَّمّ: طائفةٌ قَصِيرَة منها، وهي أَسْمَنُهَا أَرْضًا، وأَجْوَدُهَا نَبْتًا، قَدْرَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا أَو أَكْثَرَ، هكذا نقله صاحبُ اللّسان والتكملة، وهو قَوْلُ أُسَيْد، وله بَقِيّة، تَقدَّم في قُصَارَة الدّارِ، ولو جَمَعَهُمَا بالذِّكْر كان أَصْوَبَ.
ورَوَى أَبو عُبَيْدٍ حديثًا عن النبيّ صلى الله عليهوسلم في المُزارَعة «أَنّ أَحَدَهُمْ كان يَشترِطُ ثَلاثَةَ جَدَاوِلَ والقُصَارَةَ»، وفَسَّرَه فقال: هو ما بَقِيَ في السُّنْبُلِ من الحَبِّ مِمَّا لا يَتَخلَّصُ بَعْدَ ما يُدَاسُ فنَهَى النبيّ صلى الله عليهوسلم عن ذلك. كالقِصْرِيّ، كهِنْديّ، قاله أَبو عُبَيْد، وقال: هو بِلُغَة الشَّأْم. قال الأَزهريّ: هكذا أَقْرَأَنِيهِ ابنُ هاچك عن ابْن جَبَلَةَ عن أَبِي عُبَيْدٍ، بكسر القَاف، وسُكُونِ الصادِ، وكَسْرِ الرَّاءِ، وتَشْدَيد الياءِ.
قال: وقال عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ: سمِعتُ أَحْمَدَ بنَ صالِح يقولُ: إِذا دِيسَ الزَّرْعُ فغُرْبِلَ، فالسَّنابِلُ الغَلِيظَةُ هي القُصَرَّى، على فُعَلَّى.
وقال اللَّيْث: القَصَرُ: كَعابِرُ الزَّرْعِ الذي يَخْلُصُ من البُرِّ وفيه بَقِيَّةٌ من الحَبّ يُقال له القِصْرَى، على فِعْلى.
وفي المَثَل: «قَصِيرَةٌ من طَوِيلَةٍ»: أَي تَمْرَةٌ من نَخْلَة، هكذا فَسَّرَه ابنُ الأَعْرَابِيّ، وقال: يُضْرَبُ في اخْتِصَارِ الكلام.
وقَصِيرُ بنُ سَعْدٍ اللَّخْمِيّ: صاحِبُ جَذِيمَةَ الأَبْرَشِ، ومنه المَثل: «لا يُطَاعُ لقَصِيرٍ أَمرٌ».
وفَرَسٌ قَصِيرٌ؛ أَي مُقْرَبَةٌ، كمُكْرَمَة، لا تُتْرَكُ أَنْ تَرُودَ لِنَفاسَتِهَا. قال زُغْبَةُ الباهِلِيّ يَصِفُ فَرَسَه وأَنّهَا تُصَانُ لِكَرَامتِهَا وتُبْذَل إِذا نَزَلَتْ شِدَّةٌ:
وذاتِ مَنَاسِبٍ جَرْدَاءَ بِكْرٍ *** كَأَنّ سَرَاتَها كَرٌّ مَشِيقُ
تُنِيفُ بصَلْهَبٍ للخَيْلِ عالٍ *** كأَنَّ عَمُودَه جِذْعٌ سَحُوقُ
تَراهَا عند قُبَّتِنَا قَصِيرًا *** ونَبْذُلُها إِذا باقت بَؤُوقُ
والبَوؤُوق: الدّاهيَةُ. ويقالُ للمَحْبُوسةِ من الخَيْل: قَصِيرٌ.
وامرأَةٌ قاصِرَةُ الطَّرْفِ: لا تَمُدُّهُ؛ أَي طَرْفَها، إِلى غَيْرِ بَعْلِها. وقال الفَرَّاء في قولهِ تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ} قال: حُورٌ قَصرْنَ أَنْفُسَهُنَّ على أَزْوَاجِهِنَّ فلا يَطْمَحْنَ إِلى غَيْرِهم. ومنه قولُ امرِئ القيس:
منَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْدَبَّ مُحْوِلٌ *** مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإِتْبِ مِنْهَا لأَثَّرَا
وفي حديث سُبَيْعَة: «نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ القُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى»، تريد سُورَة الطَّلاقِ، والطُّولَى: سُورةُ البَقَرَة، لأَنّ عِدَّةَ الوَفاةِ في البَقَرة أَرْبَعةُ أَشْهُر وعَشْر، وفي سُورة الطَّلاقِ وَضْعُ الحَمْلِ، وهو قوله عزّ وجلّ: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
أَقْصَرَ الخُطْبَة: جاءَ بها قَصِيرَةً.
وقَصَّرْتُه تَقْصِيرًا: صَيَّرْتُه قَصِيرًا.
وقالُوا: «لا وقائتِ نَفَسِي القَصِير» يَعْنُونَ النَّفَسَ لقِصرِ وقْتِه، والقَائِتُ هنا: هو الله عَزَّ وجَلَّ، من القَوْتِ.
وقَصَّرَ الشَّعَرَ تَقْصِيرًا: جَزَّه.
وإِنَّهُ لَقَصِيرُ العِلْمِ، على المَثَل.
والمَقْصُورُ من عَرُوضِ المَدِيدِ والرَّمَل: ما أُسْقِطَ آخِرُه وأُسكِنَ، نحوَ فاعِلاتُن حُذِفَتْ نُونُه وأُسْكِنَتْ تاؤُه فبَقِيَ فاعِلاتْ، فَنُقِلَ إِلى فاعِلانْ، نحو قوله:
لا يَغُرَّنَّ امْرَأً عَيْشُه *** كُلُّ عَيْشٍ صائِرٌ للزَّوالْ
وقولُه في الرَّمَل:
أَبْلَغ النُّعْمَانَ عَنّي مَأْلُكًا *** أَنَّنِي قَدْ طالَ حَبْسِي وانْتِظَارْ
والأَحَادِيثُ القِصَارُ: الجامِعَةُ المُفِيدَة. قال ابنُ المُعْتَزّ:
بَيْنَ أَقْدَاحِهم حَدِيثٌ قَصِيرٌ *** هُوَ سِحْرٌ وما سواهُ كَلامُ
وقولُه أَيضًا:
إِذا حَدَّثْتَنِي فَاكْسُ الحَدِيثَ ال *** ذِي حَدَّثْتَنِي ثَوْبَ اخْتِصَارْ
فما حُثَّ النَّبِيذُ بمِثْلِ صَوْتِ الْ *** أْغانِي والأَحَاديثِ القِصَارْ
هكذا أَنشدَهُ شَيْخُنَا رحمه الله تعالَى. قلتُ: ومثلُه قولُ ابنِ مُقْبِل:
نازَعْتُ أَلْبابَها لُبِّي بمُقْتَصِرٍ *** من الأَحادِيثِ حَتَّى زِدْنَنِي لِينَا
أَراد بقَصِيرٍ من الأَحادِيثِ.
والقُصْرَى، كبُشْرَى: آخِرُ الأَمرِ؛ نقله الصاغانيّ.
والقَصْرُ: كَفُّك نَفْسَك عن أَمرٍ، وَكَفُّكَها عن أَنْ يَطْمَحَ بها غَرْبُ الطَّمَعِ.
وقال المازِنيُّ: لستُ وإِنْ لُمْتَنِي حتّى تُقْصِرَ بِي بمُقْصِرٍ عَمّا أُرِيد.
والقُصُور: التَّقْصِير، قال حُمَيْد:
فلئنْ بَلَغْتُ لأَبْلُغَنْ مُتَكَلِّفًا *** ولئن قَصَرْتُ لَكَارِهًا ما أَقْصُرُ
والاقْتِصَارُ على الشَّيْءِ: الاكْتِفَاءُ به.
واسْتَقْصَرَهُ: عَدَّه مُقَصِّرًا، وكذلك إِذَا عَدَّه قَصِيرًا، كاسْتَصْغَرَه.
وتَقاصَرَتْ نَفْسُه: تَضَاءَلتْ. وتَقاصَرَ الظِّلُّ: دَنَا وقَلَصَ.
وظِلٌّ قاصِرٌ، وهو مَجاز.
والمَقْصَر، كمَقْعَدٍ: اخْتِلاطُ الظَّلامِ؛ عن أَبِي عُبَيْدٍ، والجمعُ المَقَاصِرُ. وقال خالِدُ بن جَنبَة: المَقَاصِرُ: أُصُولُ الشَّجَرِ، الوَاحِدُ مَقْصُورٌ. وأَنشد لِابْنِ مُقْبَل يَصِفُ ناقَتَه:
فبَعَثْتُها تَقِصُ المَقَاصِرَ بعدَ مَا *** كَرَبَتْ حَيَاةُ النارِ للمُتَنَوِّرِ
وتَقِصُ: من وَقَصْتُ الشَّيءَ، إِذا كَسَرْتَه؛ أَي تَدُقُّ وتَكْسِرُ.
ورَضِيَ بمَقْصرٍ من الأَمر، بفتح الصاد وكسرها: أَي بدُونِ ما كانَ يَطْلُبُ.
وقَصَرَ سَهْمُه عن الهَدَفِ قُصُورًا: خَبَا فلم يَنْتِهِ إِليه.
وقَصَرْتُ لهُ من قَيْدِه أَقْصُرُ قَصْرًا: قارَبْتُ. والمَقْصُورَةُ: ناقَةٌ يَشْرَبُ لَبَنَهَا العِيَالُ. قال أَبو ذُؤَيْب:
قَصَرَ الصَّبُوحَ لَهَا فَشَرَّجَ لَحْمَهَا *** بالنِّيِّ فَهْيَ تَتُوخُ فِيهِ الإِصْبَعُ
ويقال: قَصَرْتُ الدارَ قَصْرًا: إِذا حَصَّنْتَهَا بالحِيطانِ.
قَصَرَ الجارِيَةَ بالحِجَابِ: صانَهَا، وكذلك الفَرَس.
وقَصَرَ البَصَرَ: صَرَفَه.
وقَصَرَ الرَّجلَ عنِ الأَمْرِ: وَقَفه دونَ ما أَرادَه.
وقَصَرَ لِجامَ الدَّابَّةِ: دَقَّه؛ قاله ابنُ القَطّاع.
وقَصَرْتُ السِّتْرَ: أَرْخَيْتُه. قال حاتِمٌ:
ومَا تَشْتَكِيني جارَتِي غَيْرَ أَنَّنِي *** إِذا غابَ عنها زَوْجُهَا لا أَزُورُهَا
سيَبْلُغُها خَيْرِي ويَرْجعُ بَعْلُهَا *** إِلَيْهَا ولم تُقْصَرْ عَلَيَّ ستُورُهَا
هكذا أَنشده الزمخشريّ في الأساس، والمصَنِّف في البَصَائِر.
والقَصْر: القَهْر والغَلَبَة، لغة في القَسْرِ، بالسّين، وهمَا يَتبادَلان في كثير من الكلام. وقال الفرّاءُ: امرَأَةٌ مَقْصورَةُ الخَطْوِ، شُبِّهَتْ بالمقَيَّدِ الّذِي قَصَرَ القَيْدُ خَطْوَه، ويقَال لها: قَصِيرُ الخُطَا، وأَنشد:
قَصِيرُ الخُطَا ما تَقْرُبُ الجِيرَةَ القُصَا *** ولا الأَنَسَ الأَدْنَيْنَ إِلا تَجَشُّمَا
وقال أَبو زَيْدٍ: يُقَال: أَبْلِغ هذا الكَلَامَ بَنِي فُلانٍ قصْرَةً، ومَقْصُورَةً: أَي دُونَ النَّاسِ.
واقْتَصَرَ عَلَى الأَمْرِ: لَمْ يُجَاوِزْه.
وعن ابنِ الأَعْرَابِيّ: كَلاءٌ قاصِرٌ: بَيْنَه وَبَيْنَ الماءِ نَبْحَةُ كَلْب.
والقَصَرُ، محرَّكَةً: القَصَلُ، وهو أَصْلُ التِّبْنِ؛ قالهُ أَبو عَمْرو. وقال اللّحْيَانيّ: يقَال: نُقِّيَتْ من قَصَرِه وقَصَلِه؛ أَي من قُمَاشِه.
والقُصَيْراةُ: مَا يَبْقَى في السُّنْبُلِ بَعْدَمَا يُدَاسُ؛ هكذا في اللِّسَان.
وقَال أَبو زَيْدٍ: قَصَرَ فلانٌ يَقْصُرُ قَصْرًا، إِذا ضَمَّ شيئًا إِلى أَصْله الأَوّلِ. قال المُصَنّف في البَصَائِر: ومنه سُمِّيَ القَصْرُ.
وقَصَرَ فلانٌ صَلَاتَهُ يَقْصُرُها قَصْرًا في السَّفَر، وأَقْصَرَهَا، وقَصَّرَها، كلُّ ذلك جائزٌ، والثانِيَةُ شاذَّة.
وقَصَرَ العَشِيُّ يَقْصُرُ قُصُورًا، إِذا أَمْسَيْتَ. قال العجّاج:
حَتَّى إِذَا مَا قَصَرَ العَشِيُّ
ويُقَال: أَتَيْتُه قَصْرًا؛ أَي عَشِيًّا. وقال كُثَيّرُ عَزَةَ:
كأَنَّهُمُ قَصْرًا مَصَابِيحُ راهِبٍ *** بِمَوْزَنَ رَوَّى بالسَّلِيطِ ذُبَا لَهَا
هُمُ أَهلُ أَلْوَاحِ السَّرِيرِ ويَمْنِه *** قَرَابِينُ أَرْدافًا لها وشِمَالَهَا
وجاءَ فلانٌ مُقْصِرًا: حِينَ قَصَرَ العَشِيُّ؛ أَي كادَ يَدْنُو من الَّليْل. وقَصْرُ المَجْدِ: مَعْدِنُه. قال عَمْرُو بنُ كُلْثُومٍ:
أَباحَ لنا قُصُورَ المَجْدِ دِينَا
وقال ابنُ بَرّيّ: قال ابنُ حمْزَةَ: أَهلُ البَصْرة يُسَمُّون المَنْبُوذَ ابنَ قَوْصَرَةَ، بالتَّخْفيف، وُجِدَ في قَوْصَرَةٍ أَو في غَيْرهَا.
وقَيْصَرَانُ، في قَوْل الفَرَزْدَقِ:
عَلَيْهِنّ رَاحُولاتُ كُلِّ قَطِيفَةٍ *** مِنَ الشَأْمِ أَوْ مِنْ قَيْصَرَانَ عِلَامُهَا
ضَرْبٌ من الثِّيَابِ المَوْشِيَّة. وقيل: أَرادَ من بِلادِ قَيْصَرَ، قاله الصاغانيّ. وقَصَرْتُ طَرْفِي: لم أَرْفَعْهُ إِلى ما لا يَنْبَغِي.
وقَصَّرَ عن مَنْزِلهِ، وقَصَّرَ به أَمَلُه. قال عَنْتَرَةُ:
أَمّلْتُ خَيْرَك هَلْ تَأْتِي مَواعِدُهُ *** فاليَوْمَ قَصَّرَ عَنْ تِلْقَائِكَ الأَمَلُ
وقَصَّرَتْ بِكَ نفْسُك، إِذا طَلَبَ القَلِيلَ والحَظَّ الخَسِيسَ.
واقْتَصَرْتُه ثم تَعَقَّلْتُه؛ أَي قَبَضْتُ بقَصَرتِه ثمّ رَكِبْتُه ثانيًا رِجْلِي أَمامَ الرَّحلِ.
وقَصَّرْتُ نَهارِي بِهِ. وعِنْدَه قُوَيْصِرَّةٌ من تَمْر بالتَّشْدِيد والتَّخْفِيف: تصغيرُ قَوْصَرّة.
وهو قَصيرُ اليَدِ، ولَهُم أَيْدٍ قِصَارٌ: وهو مَجاز. وأَقْصَرَ المَطَرُ: أَقْلَعَ. قال امرُؤ القَيْس:
سَمَالَكَ شَوْقٌ بَعْدَ ما كانَ أَقْصَرَا
ومُنْيَةُ القَصْرِيّ: قَرْيَتَان بمِصْرَ من السَّمَنُّودِيَّة والمُنُوفِيّة.
والقُصَيْر، وكَوْمُ قَيْصَر: قَرْيَتان بالشَّرْقِيّة.
وفيها أَيْضًا مُنْيَةُ قَيْصَر.
وأَمّا تَلْبَنْت قَيْصَر ففي الغَرْبِيّة.
وقَصْرانُ، بالفَتْح: مَدِينَة بالسِّنْد.
ووَادِي القُصُورِ: في دِيَارِ هُذَيْل، قال صَخْرُ الغَيِّ يصف سحابًا:
فأَصْبَحَ مَا بَيْنَ وَادِي القُصُو *** رِ حَتَّى يَلَمْلَمَ حَوْضًا ثقِيفَا
وقاصِرِينُ: من قُرَى بالِسَ.
وحِصْنُ القَصْرِ: في شَرْقِيّ الأَنْدَلُس.
وقُصُورُ: بلدةٌ باليَمَن، منها عبدُ العَزِيزِ بنُ أَحْمَدَ القُصُورِيُّ، لَقِيَه البُرْهَانُ البِقَاعِيُّ في إِحَدى قُرَى الطائفِ، وكَتَبَ عنه شِعْرًا.
والأَقْصُرَيْنِ، مُثَنَّى الأَقْصُر: مدينةٌ من أَعْمَالِ قُوص.
ومنها الوَلِيُّ المَشْهُورُ أَبُو الحَجّاجِ يُوسُفُ بنُ عبدِ الرَّحِيم بنِ عَرِبيٍّ القُرَشِيُّ المَهْدَوِيُّ، نزيلُ الأَقْصُرَيْن ودَفِينُهَا، وحَفِيدُه الشيخُ المُعَمَّرُ شَمْس الدِّين أَبو عَلِيٍّ محَمّد بنُ محمّدِ بنِ محمَّدِ بنِ يوسفَ، لبِسْنَا من طَرِيقهِ الخَرْقَةَ المَدينيّة.
والقَصِير، كأَمِير: لَقَب رَبِيعَةَ بنِ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيّ من أَعْيَان التَّابِعِين.
ومحمّد بنُ الحَسَنِ بنِ قَصِيرٍ: شَيْخٌ لابْنِ عَدِيّ.
وبالتَّصْغِيرِ والتَّثْقِيل: أَبو المَعَالِي محمّد بنُ عليِّ بنِ عبدِ المحْسِنِ الدِّمَشْقِيّ القُصَيِّر، رَوَى عن سَهْلِ بنِ بِشْرٍ الإِسْفَراينيّ.
والقُصَيْر، كزُبَيْرٍ: قريةٌ بلِحْفِ جَبَلِ الطَّيْرِ بالصَّعِيد.
والمَقَاصِرَةُ: قَبِيلةٌ باليَمَن.
وككَتّانٍ: لقب الإِمامِ المحَدّثِ النَّسَّابَةِ أَبِي عَبدِ لله محمدِ بنِ القاسِمِ الغَرْنَاطِيّ الشهير بالقَصّار، حَدَّثَ عن محمّدِ بنِ خَروفٍ التُّونُسِيّ، وأَبِي عبدِ الله البُسْتِيّ، والخَطِيبِ أَبي عبد الله بنِ جَلالٍ التِّلِمْسَانِيّ، ورِضْوَانَ الجَنَوِيِّ، وأَبِي العَبّاسِ النّسوِليّ، والبَدْرِ القَرَافِيّ، ويْحيَى الحَطّاب، وأَبي القَاسِمِ الفيحمجيّ، وأَبي العَبّاس الركالِيّ، وغيرِهم، وعَنْهُ الإِمام أَبو زَيْد الفاسيُّ، وأَبو العَبّاسِ بنُ القَاضِي، وغَيْرُهم.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
72-تاج العروس (كفر)
[كفر]: الكُفْرُ، بالضَّمِّ: ضِدُّ الإِيمان، ويُفْتَحُ، وأَصْل الكُفْرِ من الكَفْرِ بالفَتْح مَصْدَر كَفَر بمَعْنَى السَّتْر، كالكُفور والكُفْرَانِ، بضمّهما، ويُقَال: كَفَرَ نِعْمَةَ الله يَكْفُرها، من باب نَصَر، وقول الجوهريّ تبعًا لخالِه أَبي نَصْرٍ الفَارَابيّ إِنّه من باب ضَرَب لا شُبْهَة في أَنَّه غَلَط، والعجبُ من المصنِّف كيف لم يُنَبِّه عليه وهو آكَدُ من كثير من الأَلْفاظ التي يُورِدُهَا لغير فائدة ولا عائدة، قاله شيخُنَا. قلتُ: لا غَلَط، والصَّوابُ ما ذهب إِليه الجَوْهَرِيّ والأَئمَّة، وتَبِعَهم المصنّف، وهو الحَقُّ، ونصّ عبارته: وكَفَرْتُ الشَّيْءَ أَكْفِرُه، بالكَسْر؛ أَي سَتَرْتُه، فالكَفْر الذي هو بمعنى السَّتْر بالاتّفاق من باب ضَرَب، وهو غير الكَفُرْ الذي هو ضِدّ الإِيمان فإِنّه من باب نَصَر، والجوهريّ إِنّمَا قال في الكَفْر الذي بمعنى السَّتْر، فظَنَّ شيخُنَا أَنَّهُمَا واحدٌ، حيث إِنّ أَحدَهما مأْخوذٌ من الآخر.وكَمْ من عائبٍ قَوْلًا صَحِيحًا *** وآفتُه من الفَهْمِ السَّقِيمِ
فتأَمّل. وكذلك كَفَرَ بها يَكْفُر كُفورًا وكُفْرَانًا: جَحَدَها وسَتَرَها.
قال بعضُ أَهلِ العِلْم: الكُفْر على أَربَعَةِ أَنحاءٍ: كُفْر إِنكار، بأَن لا يعرِفَ الله أَصلًا ولا يَعْتَرِف به؛ وكُفْرُ جُحود؛ وكُفْرُ مُعَانَدَة؛ وكُفْرُ نِفاق، مَنْ لقي ربَّه بشيءٍ من ذلك لم يَغْفِر له، {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ}. فأَما كُفْرُ الإِنكار فهو أَنْ يَكفُر بقَلْبِه ولِسَانِه، ولا يَعْرِف ما يُذْكَر له من التَّوْحِيد؛ وأَمّا كُفْر الجُحُود فَأَنْ يَعترف بقلْبه ولا يُقِرّ بلِسَانه، فهذا كافِرٌ جاحِدٌ ككُفْر، إِبليسَ وكُفْر أُمَيَّةَ بن أَبي الصَّلْت؛ وأَمّا كُفْرُ المُعَانَدة فهو أَنْ يَعْرِف الله بقَلْبِه ويُقِرَّ بلِسَانِه ولا يَدِينَ به حَسَدًا وبَغْيًا، ككُفْر أَبي جَهْل وأَضْرابِه.
وفي التهذيب: يَعْتَرِف بقَلْبِه ويُقِرّ بلِسانه ويأَبَى أَنْ يَقْبَل، كأَبِي طالِب حيث يَقُول:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ *** مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّة دِينَا
لَوْلَا المَلَامَةُ أَو حِذارُ مَسَبَّةٍ *** لَوَجَدْتنِي سَمْحًا بذاك مُبِينَا
وأَما كُفْرُ النِّفَاق فإِنْ يُقرّ بلسانه ويَكْفُر بقَلْبِه ولا يعتقد بقلبه، قال الأَزهَريّ: وأَصلُ الكُفْرِ تَغطِية الشَّيْءِ تَغْطِيَةً تَسْتَهْلِكُه. قال شَيخُنَا: ثمّ شاع الكُفْرُ في سَتْرِ النِّعْمَة خاصَّة، وفي مُقَابَلَة الإِيمان، لأَنّ الكفر فيه سَتْرُ الحَقِّ، وسَتْرُ نِعَمِ فَيَّاضِ النِّعَم. قلتُ: وفي المُحْكَم: الكُفْر: كُفْرُ النِّعْمَة، وهو نَقِيضُ الشُّكْر، والكُفْر: جُحُود النِّعْمَة، وهو ضدّ الشُّكْر، وقوله تعالى: {إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ} أَي جاحِدُون. وفي البَصَائر للمُصَنِّف: وأَعْظَمُ الكُفْرِ جُحُودُ الوَحْدانيّة أَو النُّبُوّة أَو الشَّريعة. والكَافِرُ، مُتَعَارَفٌ مطلقًا فيمن يَجْحَدُ الجَمِيعَ. والكُفْران في جُحود النِّعْمَة أَكْثَرُ استِعْمَالًا، والكُفْر في الدِّين، والكُفُور فيهما، ويُقَال فيهما: كَفَر [فهو كافر] قال تَعَالَى في الكُفْرَان: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وقولُه تعالَى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ} أَي تَحَرَّيْت كُفْرانَ نِعْمَتِي. ولَمّا كانُ الكُفْران جُحُودَ النِّعْمَة صار يُسْتَعْمَل في الجُحُود.
{وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ} أَي جاحِد وساتِر. وقد يُقَال: كَفَرَ، لمن أَخَلَّ بالشَّرِيعَة وتَرَكَ ما لَزِمَه من شُكْرِ الله تعالَى عليه، قال تعالَى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} ويَدلُّ على ذلك مُقابَلَتُه بقولِه: {وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}.
وكَافَرَه حَقَّه، إِذا جَحَدَهُ.
والمُكَفَّرُ، كمعَظَّم: المَجْحُودُ النِّعْمَةِ مع إِحسانِه.
ورجلٌ كافِرٌ: جاحِدٌ لأَنْعُمِ الله تعالَى. قال الأَزهريّ: ونِعَمُهُ آياتُه الدَّالَّةُ على تَوحِيدِه. والنِّعمُ التي سَتَرها الكافرُ هي الآياتُ الّتي أَبانَتْ لذَوِي التَّمْيِيز أَنَّ خالِقَها واحِدٌ لا شريكَ له، وكذلك إِرسَالُه الرُّسُلَ بالآياتِ المُعْجِزَة والكُتُب المُنَزَّلة والبَرَاهِينِ الواضِحَةِ نِعْمَةٌ منه ظاهِرَة، فمَنْ لم يصدِّق به ورَدّهَا فقد كَفَرَ نِعْمَةَ الله؛ أَي سَتَرها وحَجَبَها عن نفْسه. وقيل: سُمِّيَ الكَافِرُ كافِرًا لأَنّه مُغَطًّى على قَلْبِه؛ قال ابنُ دُرَيْد: كأَنَّه فاعِلٌ في معنى مَفْعُول. الجمع: كُفَّارٌ، بالضَّمّ، وكَفَرَةٌ، محرَّكة، وكِفَارٌ، ككِتاب، مثل جائع وجِياع ونائم ونِيَامٍ. قال القُطامِيّ:
وشُقَّ البَحْرُ عن أَصْحَابِ مُوسَى *** وغُرِّقَت الفَرَاعِنَةُ الكِفَارُ
وفي البَصَائر: والكُفَّار في جمع الكافِر المُضادّ للمُؤْمِن أَكثرُ استعمالًا، كقوله؛ {أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ} والكَفَرَة في جمع كافِرِ النِّعْمَة أَكْثَرُ استعمالًا، كقوله: {أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} والفَجَرَة قد يُقَال للفُسَّاقِ من المُسْلِمِين.
وهِيَ كافِرَةٌ من نِسْوَة كَوَافِرَ، وفي حَدِيث القُنُوت: «واجْعَل قُلُوبَهُم كقُلوبِ نِسَاءٍ كَوَافِرَ» يعني في التّعَادِي والاخْتِلاف، والنِّساءُ أَضعفُ قُلُوبًا من الرِّجال لا سيّمَا إِذا كُنَّ كَوَافِرَ.
ورجُلٌ كَفَّارٌ، كشَدَّادٍ، وكَفُورٌ، كصَبُور: كافِرٌ. وقيل: الكَفُور: المُبَالِغُ في كُفْرَانِ النَّعْمَة، قال تَعالَى: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ} والكَفَّارُ أَبلغُ من الكَفُور كقوله تَعالَى: {كُلَّ} {كَفّارٍ عَنِيدٍ}.
وقد أُجْرِيَ الكَفّار مُجرَى الكَفُور في قوله: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ} كذا في البصائر. ج: كُفُرٌ، بضمِّتَيْن، والأُنْثَى كَفُورٌ أَيضًا، وجمعُه أَيضًا كُفُرٌ، ولا يُجْمَع جَمْعَ السلامَة، لأَنّ الهاءَ لا تدخُلُ في مُؤَنَّثِه، إِلّا أَنّهم قد قالُوا عَدُوَّة اللهِ، وهو مذكور في مَوضعه. وقولُه تعالَى: {فَأَبَى الظّالِمُونَ إِلّا كُفُورًا} قال الأَخْفَشُ: هو جَمْعُ الكُفْرِ، مثل بُرْد وبُرُود.
وكَفَرَ عليه يَكْفرُ، من حَدّ ضَرَب: غطَّاهُ، وبه فُسِّرَ الحديث: إِن الأَوْسَ والخَزْرَجَ ذَكَرُوا ما كان منهم في الجَاهِلِيَّةِ فثَارَ بعضُهم إِلَى بَعْض بالسُّيُوف، فأَنْزَلَ الله تَعَالَى {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} ولم يكن ذلك على الكُفْرِ بالله، ولكن على تَغْطِيَتِهم ما كَانُوا عليه من الأُلْفَةِ والمَوَدَّة. وقال اللَّيْثُ؛ يُقَال: إِنَّه سُمِّيَ الكافِرُ كافِرًا لأَنّ الكُفْر غَطَّى قلبه كُلَّه. قال الأَزهريّ: ومعنى قولِ اللَّيْث هذا يَحْتَاج إِلى بَيَان يَدُلُّ عليه، وإِيضاحُه: أَنَّ الكُفْر في اللُّغَة التَّغْطِيةَ، والكَافر ذو كُفْر؛ أَي ذو تَغْطِيَة لقَلْبِه بكُفْره، كما يُقَال لِلَابِس السِّلاحِ كافرٌ، وهو الذي غَطَّاه السِّلاح، ومثلُه رجُلٌ كاسٍ؛ أَي ذُو كُسْوَة، وماءٌ دافِقٌ؛ أَي ذُو دَفْقٍ. قال: وفيه قَولٌ آخَرُ: [وهو] أَحْسَنُ ممّا ذَهَب إِليه [الليث]، وذلِكَ أَنَّ الكافِر لمَّا دَعاه الله إِلى تَوْحِيده فقد دَعاه إِلى نعْمَةٍ وأَحَبَّها له إِذَا أَجابَه إِلى ما دَعاه إِليه، فلمّا أَبَى ما دعَاهُ إِليه من تَوْحيده كان كافِرًا نِعْمَةَ الله؛ أَي مُغَطِّيًا لها بإِبَائه، حاجِبًا لها عنه.
وكَفَرَ الشَّىْءَ يَكْفِرُه كَفْرًا: سَتَرَه، ككَفَّرَهُ تَكْفِيرًا.
والكَافِرُ: اللَّيْلُ. وفي الصحاح: اللَّيْلُ المُظْلِمُ، لأَنّه يَسْتُر بظُلْمَته كلَّ شيءٍ. وكَفَرَ الليلُ الشيءَ وكَفَرَ عَلَيْه؛ غَطَّاهُ؛ وكَفَرَ الليلُ على أَثَر صاحِبِي: غَطَّاه بسَوَادِه، ولقد استُظْرِفَ البَهَاءُ زُهَيْر حَيْثُ قَالَ:
لِي فِيكَ أَجْرُ مُجَاهِدٍ *** إِنْ صَحَّ أَنَّ اللَّيْلَ كافِرْ
والكافِر: البَحْر، لسَتْرِه ما فيه، وقد فُسِّر بهما قَوْلُ ثَعْلَبَة بن صُعَيْرة المازِنيّ يَصِفُ الظَّلِيمَ والنَّعَامَة ورَوَاحَهما إِلى بَيضهما عند غُروبِ الشمس:
فَتَذَكَّرَا ثَقَلًا رَثِيدًا بَعْدَ مَا *** أَلْقَت ذُكَاءُ يَمِينَهَا في كَافِرِ
وذُكاءُ: اسمٌ للشَّمْس، وأَلْقَت يَمينَهَا في كَافر؛ أَي بَدَأت في المَغِيب. قال الجَوْهَرِيّ: ويحتمل أَن يكونَ أَراد اللَّيْل.
قُلْت: وقال بعضُهم: عَنَى به البَحْرَ، وهكذا أَنشده الجَوْهَرِيّ. وقال الصّاغَانيُّ: والرِّوَايَةُ «فَتَذَكَّرَت» على التَّأْنِيث، والضَّمِير للنَّعامة، وبعده:
طَرِفَتْ مَرَاوِدُها وغَرَّدَ سَقْبُها *** بِاْلآءِ والحَدَجِ الرِّوَاءِ الحادِرِ
طَرِفت؛ أَي تباعدت. قلتُ: وذكر ابنُ السِّكّيتَ أَنّ لَبِيدًا سَرَق هذا المَعْنَى فقال:
حَتّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا في كافِرٍ *** وأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلامُهَا
قال: ومن ذلك سُمِّيَ الكَافرُ كافِرًا لأَنّه سَتَر نِعَمَ الله.
والكافِرُ الوادِي العَظِيمُ. وقيل الكَافِر: النَّهْر الكَبِير، وبه فَسَّر الجَوْهريُّ قَوْلَ المُتَلَمِّس يذكر طَرْحَ صَحيفَتِه:
فأَلْقَيْتُها بالثِّنْيِ من جَنْبِ كافرٍ *** كَذلِك أَقْنو كُلَّ قِطٍّ مضَلَّلِ
والكافِر: السَّحاب المُظْلِمُ لأَنّه يَستُر ما تَحْتَه.
والكافِر: الزَّارِعُ لسَتْرِه البَذر بالتُّرَابِ. والكُفَّارُ: الزُّرَّاع وتقولُ العربُ للزَّارِع. كافرٌ لأَنّه يَكْفُر البَذْرَ المَبْذُورَ [في الأَرض] بتُرَاب الأَرْضِ المُثَارَة إِذا أَمَرَّ عليها مَالَقَهُ، ومنه قولُه تعالَى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ} أَي أَعْجَب الزُرّاعَ نَباتُه، وإِذا أَعجَبَ الزُّرَّاعَ نَباتُه مع عِلْمِهم به فهو غايةُ ما يُسْتَحْسَن، والغَيْث: المَطَرُ هنا، وقد قيل: الكُفَّارُ في هذه الآية الكُفَّار بالله تعالَى، وهم أَشَدُّ إِعْجابًا بزِينَة الدُّنْيَا وحَرْثِهَا من المُؤْمِنين. والكافِرُ: الدِّرْعُ، نقله الصاغَانيُّ، لسَتْرِهَا ما تحتَها. والكافِر من الأَرْضِ: مَا بَعُد عن الناسِ، لا يَكادُ يَنْزِلُه أَو يَمُرُّ به أَحدٌ، وأَنشد اللَّيْثُ في وصف العُقَابِ والأَرْنَبِ:
تَبَيَّنَتْ لَمْحَةً من فَزٍّ عكْرِشةٍ *** في كافِرٍ ما بِه أَمْتٌ ولا عِوَجُ
كالكَفْرِ، بالفَتْح، كما هو مُقْتَضَى إِطلاقه، وضبطه الصّاغَانيُّ بالضَّمِّ هكذا رأَيْتُه مُجَوَّدًا والكافِر: الأَرْضُ المُسْتَوِيَةُ، قالَه الصاغَانِيُّ، وقال ابنُ شُمَيْل: الكافر: الغائطُ الوَطِئُ، وأَنشد البيتَ السابِقَ وفيه:
فأَبْصَرَتْ لَمْحَةً من رَأْسِ عِكْرِشَةٍ
والكافِر: النَّبْتُ، نقله الصاغانيّ.
وكافِرٌ: موضع ببِلادِ هُذَيْل. والكَافِرُ: الظُلْمَة، لأَنَّهَا تَستر ما تَحْتَهَا، وقولُ لبيد:
فاجْرَمَّزَتْ ثمَّ سارَتْ وهْي لَاهيَةٌ *** في كافِرٍ ما بِهِ أَمْتٌ ولا شَرَفُ
يجوز أَن يكونَ ظُلْمَةَ اللَّيْل، وأَنْ يكونَ الوادِيَ، كالكَفْرَة، بالفَتْح، هكذا في سائر النُّسخ، والّذي في اللسان: كالكَفْرِ. والكافِرُ: الدَّاخِلُ في السِّلاح، من كَفَرَ فوقَ دِرْعِه، إِذا لَبِسَ فوقَها ثَوْبًا، كالمُكَفِّرِ، كمُحَدِّث، وقد كَفَّرَ دِرْعَه بثَوْبٍ تَكْفِيرًا: لَبِسَ فوقَهَا ثَوْبًا فَغَشَّاها به، ومنه الحَدِيثُ: «أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليهوسلم قال في حَجَّة الوَداع: لا تَرْجِعْوا ـ وفي روايَة: أَلَا لا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بعضُكم رِقَابَ بَعْض» قال أَبو مَنْصُورٍ: في قوله كُفَّارًا قَولانِ: أَحَدُهُمَا: لا بِسِين السِّلاحَ مُتَهَيِّئين لِلْقِتَال، كأَنَّه أَراد بذلك النَّهْيَ عن الحرْب، أَو مَعْنَاهُ لا تُكَفِّرُوا الناسَ فَتَكْفُرُوا، كما يَفعل الخَوَارجُ إِذا استعرضُوا النَّاسَ فكَفَّرُوهم. وهوكقولِه صلى الله عليهوسلم: «منْ قالَ لأَخِيه يا كافِرُ فقد باءَ به أَحدُهُمَا». لأَنّه إِمَّا أَنْ يَصْدُق عليه أَو يَكْذِب، فإِنْ صَدَق فهو كافِرٌ، وإِنْ كَذَب، عاد الكُفْرُ إِليه بتكْفِيرِه أَخاه المُسْلِم.
والمُكَفَّرُ، كمُعَظَّم: المُوثَقُ في الحَدِيد، كأَنَّه غُطِّيَ به وسُتِرَ.
والكَفْرُ، بالفَتْح: تَعْظِيمُ الفارِسِيّ، هكذا في اللّسَان والأَساس وغيرهما من الأُمّهات وشَذّ الصّاغَانيّ فقال في التَّكْمِلَةِ: الفارِس مَلِكَهُ، بغير ياءٍ ولعلَّه تَصْحِيفٌ من النُّسَّاخِ وهو: إِيماءٌ بالرَّأْسِ قَرِيبٌ مِن السُّجُود. والكَفْرُ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وسَوادُه وقد يُكْسَرُ، قال حُميْد:
فوَرَدتْ قَبْلَ انْبِلاجِ الفَجْرِ *** وابنُ ذُكَاءَ كامِنٌ في الكَفْرِ
أَي فيما يُوَارِيهِ مِنْ سوَادِ اللَّيْل. قال الصَّاغَانيُّ: هكذا أَنشَدَه الجَوْهَرِيُّ، وليس الرَّجَزُ لحُمَيْد وإِنّمَا هو لبَشِيرِ بنِ النِّكْث، والرِّواية:
وَرَدْتُهُ قَبْلَ أُفُولِ النَّسْرِ
والكَفْرُ: القَبْرُ ومنه قيل: اللهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ الكُفُورِ، ورُوِيَ عن مُعَاوِيَة أَنَّه قَالَ: أَهْلُ الكُفُورِ أَهْلُ القُبُور.
قال الأَزهريّ: الكُفُور جمع كَفْرٍ بمعْنى القَرْيَة، سُرْيَانِيَّة، وأَكْثَرُ مَنْ يَتَكَلَّم بهذه أَهلُ الشام، ومنه قيل: كَفْرُ تُوثَى وكَفْرُ عاقِب، وإِنما هي قُرًى نُسِبَتْ إِلى رِجال. وفي حَدِيث أَبي هُرَيْرَة: أَنَّه قال: لتُخْرِجَنَّكُم الرُّومُ منها كَفْرًا كَفْرًا إِلى سُنْبُكٍ من الأَرْض. قيل: وما ذلِك السُّنْبُكُ؟ قال: حِسْمَى جُذَامَ»؛ أَي من قُرَى الشامِ. قال أَبو عبَيْد: كَفْرًا كَفْرًا؛ أَي قَرْيَةً قَرْيَة. وقال الأَزهريّ، في قول معَاوِيَة، يَعْنِي بالكُفُورِ القُرَى النائِيَة عن الأَمْصَار ومجْتَمَع أَهلِ العِلْم [والمسلمين]، فالجَهْلُ عَلَيْهم أَغْلَب، وهم إِلى البِدَعِ، والأَهْوَاءِ المُضِلَّةِ أَسْرَعُ. يقول: إِنَّهم بمنزلة المَوْتَى لا يُشَاهدون الأَمْصَارَ والجُمَعَ والجَمَاعَات وما أَشْبَهَها، وفي حَدِيثٍ آخَر: «لا تَسْكُنِ الكُفُور فإِنّ ساكِنَ الكُفُورِ كسَاكِنِ القُبور». قال الحَرْبيّ: الكُفُور: ما بَعُدَ من الأَرض عن الناس فلا يمرّ به أَحدٌ، وأَهلُ الكُفُور عند أَهل المدنِ كالأَمْوَاتِ عند الأَحْيَاءِ، فكأَنَّهمْ في القُبور. قلتُ: وكذلك الكُفُور بمصر هي القُرَى النَّائِيَةُ في أَصْلِ العُرْف القَدِيم.
وأَمّا الآن فيُطْلِقُون الكَفْر على كلّ قَرْيَة صغيرة بجَنْب قرية كبيرة، فيقُولُون: القَرْيَةُ الفُلانِيّة وكَفْرها. وقد تكون القَرْيَةُ الواحِدَةُ لها كُفورٌ عِدّة؛ فمن المَشَاهِير: الكُفُور الشّاسِعَة، وهِي كُورَةٌ مستقلَّة مشْتَمِلَة على عِدَّة قُرًى، وكَفْر دِمْنَا، وكَفْر سَعْدون، وكفْر نطْروِيسَ، وكفْر بَاوِيط، وكَفْر حِجَازي، وغير ذلك ليس هذا محلّ ذكرها.
وأَكْفَرَ الرَّجلُ: لَزِمَهَا؛ أَي القَرْيَة، كاكْتَفَرَ، وهذه عن ابن الأَعْرَابِيّ.
والكَفْر: الخَشَبَةُ الغَلِيظَةُ القَصِيرَةُ، عن ابن الأَعْرَابِيّ، أو هو العَصَا القَصِيرَةُ، وهي التي تُقْطَع من سَعَفِ النَّخْلِ.
والكُفْر بالضَّمِّ: القِير. قال ابنُ شُمَيْل: القِير ثَلاثةُ أَضْربِ: الكُفْر، والقِير، والزِّفْتُ؛ فالكُفْر يُذاب ثمّ يُطْلَى* به السُّفُن؛ والزِّفْتُ يُطْلَى به الزِّقاق.
والكَفِرُ ككَتِف: العَظيمُ من الجِبَال، والجمع كَفِرَاتٌ، قال عبدُ الله بن نُمَيْر الثَّقَفيُّ:
لَهُ أَرَجٌ من مُجْمِرِ الهِنْدِ ساطعٌ *** تطَلَّعُ رَيَّاهُ من الكَفِرَاتِ
أَو الكَفِرُ: الثَّنِيَّةُ منها؛ أَي من الجبَال.
والكَفَرُ، بالتَّحْريك: العُقَابُ، ضبط بالضَّمِّ في سائر النُّسخ، وهو غَلَطٌ والصَّوابُ بكسر العَيْن، جمع عَقَبة، قال أَبو عَمْرو: الكَفَرُ الثَّنَايَا: العِقَابُ، الوَاحِدَة كَفَرَةٌ، قال أُميّةُ:
ولَيْسَ يَبْقَى لوَجْه الله مُخْتَلَقٌ *** إِلّا السماءُ وإِلَّا الأَرْضُ والكَفَرُ
والكَفَر: وِعَاءُ طَلْعِ النَّخْلِ وقِشْرُه الأَعْلَى، كالكَافُورِ والكَافِرِ، وهذه نقَلَهَا أَبو حَنيفَةَ.
والكُفُرَّى، وتُثَلَّث الكافُ والفَاءُ معًا. وفي حديثٍ: «هو الطِّبِّيعُ في كُفُرَّاه»، الطِّبِّيعُ: لُبُّ الطَّلْع، وكُفُرَّاهُ بالضَّمّ: وِعَاؤُه. وقال أَبو حَنيفَة: قال ابنُ الأَعْرابيّ: سمعتُ أُمَّ رَبَاح تقول: هذه كُفُرَّى، وهذَا كُفُرَّى [وكَفَرّى] وكِفِرَّاهُ وكُفَرَّاهُ، وقد قَالُوا فيه كافِرٌ. وجمع الكافُور كَوَافيرُ، وجَمْع الكَافِر كَوَافِرُ، قال لَبيدٌ:
جَعْلٌ قِصَارٌ وعَيْدانٌ يَنُوءُ به *** من الكَوَافِر مَكْمُومٌ ومُهْتَصَرُ
والكَافُورُ: نَبْتٌ طَيِّبٌ، نَوْرُهُ أَبيضُ كنَوْرِ الأُقْحُوَان، قاله اللَّيْث ولم يَقُلْ طَيِّب، وإِنّمَا أَخَذه من قول ابن سيدَه.
والكافُورُ أَيضًا: الطَّلْعُ حين يَنْشَقُّ، أَو وِعَاؤُه وقيل: وِعَاءُ كلّ شيْءٍ من النَّبات كافورُه، وهذا بعَينه قد تقدَّم في قول المُصَنِّف، فهو تَكْرَار. وفي التَّهْذيب: كافُورُ الطَّلْعَة: وِعَاؤُها الذي يَنْشَقُّ عنها، سُمِّيَ به لأَنّه قد كَفَرَها؛ أَي غَطَّاها.
والكَافُور: طِيبٌ، م. وفي الصحاح: من الطِّيب، وفي المُحْكَم: أَخْلاطٌ [تُجمعُ] من الطِّيب تُركَّب من كافُورِ الطَّلْع. وقال ابنُ دُرَيْد: لا أَحسبُ الكَافُورَ عَرَبيًّا، لأَنَّهُم ربَّمَا قالوا القَفُور والقَافُور، وقيل الكَافُور: يَكُونُ من شَجَرٍ بجبَال بَحْرِ الْهِنْدِ والصِّين يُظِلُّ خَلْقًا كَثيرًا، لعِظَمه وكَثْرَةِ أَغْصانِه المتفرّعة، تَأْلفُهُ النُّمُورَةُ، جَمْع نَمِر، وخَشَبُه أَبْيَضُ هَشٌّ، ويُوجَدُ في أَجْوَافه الكافُور، وهو أَنواعٌ، ولَوْنُهَا أَحْمرُ، وإِنَّمَا يَبْيَضُّ بالتَّصْعيد، وله خواصّ كثيرةٌ ليس هذا محلَّ ذِكْرها. والكافُور: زَمَعُ الكَرْمِ، وهو الوَرَقُ المُغَطِّي لما في جَوْفه من العُنْقُود، شَبَّهَه بالكافُورِ الطَّلْع، لأَنّه يَنفرج عَمَّا فيه أَيضًا، الجمع: كَوَافيرُ وكَوَافِرُ. قال العَجّاج:
كالكَرْمِ إِذْ نَادَى من الكَافُورِ
وهو مَجاز، والمَشْهُور في جمْع الكافُور كَوَافيرُ، وأَمَّا كَوافِرُ فإِنَّه جَمْع كافِر. وقولُه تعالَى: {إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُورًا} قال الفَرَّاءُ: عَيْنٌ في الجَنَّة تُسَمَّى الكافُور طَيبّة الرِّيح، قال ابنُ دُرَيْد: وكانَ يَنْبَغي أَن لا يَنْصَرفَ، لأَنَّهُ اسمُ مُؤَنَّث مَعْرفة على أَكثرَ من ثلاثةِ أَحْرُف، لكن إِنَّمَا صَرَفُه لتَعْديل رُؤُوس الأيِ. وقال ثَعْلَب: إِنّمَا أَجْراه لأَنّه جعله تشبيهًا، ولو كان اسمًا لعَيْنِ لم يَصْرِفْه. قال ابنُ سِيدَه: قولُه جعَلَه تشبيهًا، أَراد كانَ مِزاجُهَا مثْلَ كافُور. وقال الزَّجَّاج: يجوز في اللُّغَة أَنْ يكونَ طَعْمُ الطِّيبِ فيها والكافورِ، وجائزٌ أَن يُمْزَجَ بالكافُورِ ولا يكون في ذلك ضَرُورَةٌ، لأَنّ أَهْلَ الجنَّةِ لا يَمسُّهم فيها نَصَبٌ ولا وَصَبٌ.
والتَّكْفِيرُ في المَعَاصي كالإِحْبَاط في الثَّوَاب. وفي اليَمِين: فِعْلُ ما يَجبُ بالحِنْث فيها، والاسمُ الكَفَّارةُ. وفي البَصائر: التَّكْفيرُ: سَتْرُ الذَّنْب وتَغْطِيَتُه، وقولُه تعالَى: {لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ} أَي ستَرْنَاهَا حتَّى تَصير كأَنْ لم تَكن، أَو يكون المَعْنَى: نُذْهِبُهَا ونُزِيلُهَا، من باب التَّمْريض لإِزالة المَرَض، والتَّقْذِيَة لإِذهاب القَذَى. وإِلى هذا يُشير قولُه تعالَى: {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} والتَّكْفِيرُ: أَنْ يخْضَعَ الإِنسانُ لغَيْره وَيَنْحَنِيَ ويُطَأْطِئَ رَأْسَهُ قريبًا من الرُّكُوع، كما يَفعل مَنْ يُريد تَعظيمَ صاحِبه، ومنهحديث أَبي مَعْشَر: «أَنَّه كان يَكْرَهُ التَّكْفيرَ في الصَّلاة»، وهو الانْحنَاءُ الكَثِيرُ في حالَة القيَامِ قبلَ الرُّكُوع. وتَكْفيرُ أَهْلِ الكتَاب أَن يُطَأْطئَ [أَحدُهُم] رَأْسَه لصاحبه كالتَّسْليم عندنا. وقد كَفَّرَ له. وقيل: هو أَن يَضَع يَدَه أَو يَدَيْه على صَدْرِه، قال جَريرٌ يخاطبُ الأَخطلَ ويذكر ما فعلَتْ قَيْسٌ بتَغْلب في الحُروب التي كانت بعدهم:
وإِذَا سَمِعْتَ بحَرْب قَيْس بَعْدَها *** فضَعُوا السِّلاحَ وَكَفِّرُوا تَكْفيرَا
يقول: ضَعُوا سِلاحَكُم فلسْتم قادِرين على حَرْبِ قَيْسٍ لعجْزِكم عن قِتَالهم، فَكفِّرُوا لهم كما يُكَفِّر العبدُ لمَوْلاه، وكما يُكَفِّر العِلْجُ للدِّهْقان يضَع يَدَه على صَدْرِه ويَتَطَامنُ له، واخْضَعُوا وانْقَادُوا. وفي الحَديث عن أَبي سعيدٍ الخُدْريّ رَفَعَه قال: «إِذا أَصْبَحَ ابنُ آدَمُ فإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّها تُكَفِّرُ للّسَان، تَقُولُ اتَّقِ الله فينَا فإِن اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإِن اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا» أَي تَذِلُّ وتُقِرُّ بالطاعة له وتَخْضَعُ لأَمْره. وفي حديث عَمْرو بن أُمَيَّة والنَّجاشيّ: «رَأَى الحَبَشَة يَدخلُون من خَوْخَةٍ مُكَفِّرين فوَلَّاهُ ظَهْرَه ودخَل».
والتَّكْفِيرُ: تَتْويج المَلِك بتَاج إِذَا رُئِيَ كُفِّرَ لهُ، والتَّكْفِيرُ أَيضًا: اسمٌ للتَّاج، وبه فَسَّر ابنُ سيدَه قولَ الشاعر يصفُ الثَّوْرَ:
مَلِكٌ يُلَاثُ برَأْسه تَكْفيرُ
قال: سمَّاه بالمَصْدَر، أَو يكون اسمًا غيرَ مَصْدر، كالتَّنْبِيت للنَّبْت، والتَّمْتين للمَتْن.
وقال ابنُ دُرَيْد: رجل كُفَارِيٌّ: الكُفَاريُّ بالضّمِّ، وفي بعض النُّسخ كغُرَابِيّ: العَظيمُ الأُذُنَينْ، مِثْل شُفارِيّ. والكَفَّارَةُ، مُشَدَّدَةً: ما كُفِّر به من صَدَقَة وصَوْم ونَحْوِهما، كأَنَّه غُطِّيَ عليه بالكَفَّارة. وفي التهذيب: سُمِّيَت الكَفّارات [كفَّاراتٍ] لأَنّهَا تُكَفِّر الذُّنُوبَ؛ أَي تَسْتُرهَا، مثل كَفَّارَة الأَيْمَان، وكفَّارَة الظِّهَار والقَتْل الخَطَإِ، وقد بَيَّنه الله تعالَى في كتابه وأَمَر بها عِبَادَه، وقد تكرَّر ذِكْرُ الكَفَّارة في الحديث اسْمًا وفِعْلًا مُفْرَدًا وجَمْعًا، وهي عبارةٌ عن الفَعْلَة والخَصْلَة الَّتي من شأْنهَا أَن تُكَفِّرَ الخَطيئة؛ أَي تَمحُوَها، وهي فَعَّالَة للمُبَالَغَة، كقَتَّالَة، وضَرَّابَة من الصفات الغالبةَ في باب الاسميّة.
وكَفَرِيَّةُ، كطَبَريَّة: قرية بالشام، ذكرَه الصاغانيُّ.
ورَجُلٌ كِفِرِّينٌ كعِفِرِّينٍ: دَاهٍ، وقال الَّليْث: أَي عِفْريت خَبيثٌ كعِفرِّينٍ وَزْنًا ومعنًى.
ورجلٌ كَفَرْنَى؛ أَي خامِلٌ أَحْمَقُ، نَقَلَهُ صاحبُ اللِّسَان.
والكَوَافِرُ: الدِّنَانُ، نقَلَه الصاغَانيّ.
وفي نوادر الأَعْرَاب: الكافِرَتانِ والكَافِلتَان: الأَلْيَتَانِ، أَو هما الكَاذَتَان، وهذه عن الصاغانيّ.
وأَكْفَرَهُ: دَعَاهُ كافرًا. يُقَال: لا تُكْفِرْ أَحَدًا من أَهْل قِبْلَتك؛ أَي لا تَنْسُبْهم إِلى الكُفْرِ؛ أَي لا تَدْعُهم كُفَّارًا ولا تَجْعَلْهُم كُفَّارًا بزَعْمِك وقَولك.
وكَفَّرَ عن يَمِينه تَكْفيرًا: أَعْطَى الكَفَّارَةَ، وقد تَقَدَّم الكلامُ عليه قريبًا، وهذا مع ما قَبْلَه كالتَّكْرَار.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الكُفْرُ: البَرَاءَةُ، كقَوْله تعالَى حكايةً عن الشَّيْطَان في خَطيئَته إِذا دَخَل النارَ: {إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} أَي تَبَرَّأْت.
والكافِرُ: المُقِيمُ المُخْتَبئُ، وبه فُسّر حديثُ سَعْد: «تَمَتَّعْنا مع رسول الله صلى الله عليهوسلم، ومُعَاويَةُ كافِرٌ بالعُرُش»، والعُرُشُ: بُيُوتُ مَكَّة.
وكَفَّرَه تَكْفيرًا: نَسَبَه إِلى الكُفْر.
وكَفَرَ الجَهْلُ على عِلْم فُلانٍ: غَطّاه.
والكافِرُ من الخَيْل: الأَدْهَمُ، على التَّشبيه.
وفي حَديث عبد المَلِك: كَتَب إِلَى الحَجّاج «مَنْ أَقَرَّ بالكُفْر فخَلِّ سَبيلَه» أَي بكُفْر من خالَفَ بَني مَرْوَانَ وخَرَج عَلَيْهم.
وقولُهُم «أَكْفَرُ من حِمَار» تقدّم في: ح معروف ر، وهو مَثَلٌ.
وكافِرٌ: نَهْرٌ بالجَزيرة. وبه فُسِّر قولُ المُتَلَمِّس. وقال ابنُ بَرّيّ: الكافِرُ: المَطَر، وأَنشد:
وحَدَّثَهَا الرُّوَّادُ أَنْ ليس بَيْنَها *** وبَيْنَ قُرَى نَجْرَانَ والشّامِ كافِرُ
أَي مَطرٌ، والمُكَفَّرُ، كمُعَظَّم: الْمِحْسَانُ الَّذي لا تُشْكَر نِعْمَتُه.
والكَفْرُ، بالفَتْح: التُّرَابُ، عن اللّحْيَانيّ، لأَنّه يَستُر ما تَحْتَهُ. ورَمَادٌ مكْفُورٌ: مُلْبَسٌ تُرابًا؛ أَي سَفَتْ عليه الرِّياحُ التُّرَابَ حتّى وَارَتْه وغَطَّتْه، قال:
هلْ تَعْرِفُ الدارَ بأَعْلَى ذي القُورْ *** قد دَرَسَتْ غَيْرَ رَمَادٍ مَكْفُورْ
مُكْتَئبِ اللَّوْنِ مَرُوحٍ مَمْطُورْ
وكَفَرَ الرَّجُلُ مَتاعَه: أَوْعاهُ في وعَاءٍ.
والكافِرُ: الذي كَفَرَ دِرْعَه بثَوْبٍ؛ أَي غَطَّاهُ.
والمُتَكَفِّر: الدَّاخلُ في سِلَاحه. وتَكَفَّرَ البَعيرُ بحِبَاله، إِذا وَقَعَتْ في قَوَائمه. وفي الحَدِيث: «المُؤْمِنُ مُكَفَّر»؛ أَي مُرَزَّأٌ في نَفْسِه وَمَالِه لِتُكَفَّرَ خَطاياه.
والكافُور: اسمُ كِنَانَةِ النّبيّ صلى الله عليهوسلم، تَشْبِيهًا بِغِلاف الطَّلْع وأَكمامِ الفَوَاكِه، لأَنَّهَا تَستُرها، وهي فيها كالسِّهامِ في الكِنَانَة.
وكَفْر لَاب: بَلَدٌ بالشَّامِ قَرِيبٌ من السّاحِلِ عند قَيْسَارِيَّةَ، بناه هِشَامُ بنُ عبدِ المَلِك. وكَفْرُ لَحْم: ناحِيَةٌ شامِيَّة.
وقولُ العَرَب: كَفْرٌ على كَفْرٍ؛ أَي بَعْضٌ على بَعْض.
وأَكْفَرَ الرجلُ مُطِيعَه: أَحْوَجَه أَنْ يَعْصِيَه. وفي التهذيب: إِذا أَلجأْتَ مُطِيعَك إِلى أَن يَعْصِيَكَ فقد أَكْفَرْتَه. وفيه أَيضًا: وكَلِمَةٌ يَلْهَجُون بها لمن يُؤْمَر بأَمْر فيَعمل على غيرِ ما أُمِر به فيقولونَ له: مَكْفُورٌ بك يا فُلانُ، عَنَّيْتَ وآذَيْتَ. وقال الزمخْشَرِيّ: أَي عَملُك مَكْفُورٌ لا تُحْمَد عليه لإِفْسَادك له.
ويقال: تَكَفَّرْ بثَوْبِك؛ أَي اشْتَمِلْ به. وطائِرٌ مُكَفَّر، كمُعَظَّمٍ: مُغَطًّى بالرِّيش.
وحَفْصُ بن عُمَر الكَفْرُ، بالفَتْح، مشهورٌ ضَعِيف، والكَفْر لقَبُه، ويُقَال بالبَاءِ، وقد تقَدَّم. والصوابُ أَنّ باءَه بين البَاءِ والفاءِ، ومنهم من جعَله نِسْبتَه، والصَّوَاب أَنَّه لَقَب.
والكَفِير، كأَمِيرٍ: مَوضعٌ في شِعْر أَبي عُبَادةَ.
وكافُور الإِخْشِيدِيّ الّلابِيّ: أَمِيرُ مِصْر، معْرُوفٌ، وهُو الذي هجَاه المُتَنَبِّي.
والشَّيْخُ الزَّاهِد أَبو الحَسَنِ عليّ الكُفُورِيّ، دَفِين المَحلّة، أَحد مشايخنا في الطريقة الأَحْمديّة، منسوب إِلى الكُفُور، بالضَّمّ، وهي ثَلَاثُ قُرًى قرِيبَة من البَعْض، أَخذ عنه القُطْبُ محمّد بنُ شُعَيْب الحِجَازيّ.
وشْيخُ مشايِخنا العلامّة يُونُس بنُ أَحمد الكَفْراوِيّ الأَزْهَريّ نزيل دِمَشْق الشام، إِلى إحدى كُفُور مصر، أَخذ عن الشَّبْراملْسيّ والبَابِلِيّ والمزاحيّ والقلْيُوبِيّ والشوبَرِيّ والأُجْهُوريّ واللَّقانيّ وغيرهم، وحَدَّث عنه الإِمَامُ أَبو عبْدِ الله محمّد بنُ أَحْمَد بنِ سعِيد المَكِّيّ، وشيخنا المُعمَّر المُسنِد أَحمَدُ بنُ عَلِيّ بنِ عُمَر الحَنَفِيّ الدِّمشْقِيّ، وغيرهم.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
73-تاج العروس (نجر)
[نجر]: النَّجْرُ: الأَصْلُ والحَسَب، كالنِّجَارِ والنُّجَارِ، بالكَسْر والضّمّ، هكذا في نُسخَتنَا. وفي بعَضهَا كالنّجَار، بالكَسْرِ والضَّمّ. ويُقَال النَّجْر: اللَّوْن، ومنه المَثَل في المُخَلَّط قَوْل الشّاعِر:كُلُّ نِجَارِ إِبِلٍ نِجَارُهَا *** ونَارُ إِبْلِ العَالَمِينَ نَارُهَا
هذِه إِبلٌ مَسْرُوقةٌ من آبَالٍ شَتَّى، وفيهَا من كلِّ ضَرْب ولَوْن. وقال الجَوْهَرِيّ: أَي فيه كلُّ لوْنٍ من الأَخْلَاقِ. ولا يَثْبُت على رَأْي نَقَلَه عن أَبي عُبَيْدَة، ونَصُّه: وليس له رَأْي يَثبُت عليه.
والنَّجْرُ: أَنْ تَضُمَّ من كَفِّكَ بُرْجُمَةَ الإِصْبَعِ الوُسْطَى ثمّ تَضْرِبَ بها رَأْسَ أَحَدٍ، قاله اللَّيْث، ونقَلَه ابن القَطّاع في التَّهْذيب، والزّمخشريُّ في الأَساس، والصاغانيُّ في التَّكْملَة، وقد نَجَرَهُ نجْرًا، إِذا جَمَعَ يَدَه ثمّ ضَرَبَهُ بالبُرْجُمَةِ الوُسْطَى. وقال الأَزْهَرِيُّ: لم أَسْمَعْهُ لغَيْر اللَّيْث، والذي سَمِعْنَاه: نَحَزْتهُ ـ بالحَاءِ والزاي ـ إِذا دَفَعْته ضَرْبًا، كذا في اللّسَان، ونقله الصّاغَانِيّ أَيضًا.
وقال اللَّيْث: النَّجْرُ: نَحْتُ الخَشَبِ، نَجَرَهُ يَنْجُره نَجْرًا. وقال غيرُه: النَّجْر: القَطْع، قال: ومنه نَجَرَ العُودَ نَجْرًا، وعُودٌ مَنْجورٌ: نَجَرَه النَّجّار.
والنَّجْر: القَصْد، ومنه المَنْجَر بمعنَى المَقْصِد، وسيأْتي. وقال ابن سيدَه: النَّجْر: الحَرُّ، قال الشاعر:
ذهَبَ الشتاءُ مُوَلِّيًا هَرَبًا *** وأَتَتْكَ وَافِدَةٌ من النَّجْرِ
والنَّجْر: سَوْقُ الإِبِلِ شَدِيدًا. يقال: نَجَرَ الإِبلَ يَنْجُرهَا نَجْرًا: ساقَهَا سَوْقًا شديدًا.
وقال الجَوْهَرِيّ: نَجْرٌ: عَلَمُ أَرْضَيْ مَكةَ والمَدِينَةِ شرَّفهما الله تَعالى: والمَجَاز: النَّجْر: المُجَامَعَةُ وقد نَجَرَها نَجْرًا: نَكَحها.
والنَّجْرُ: اتِّخاذُ النَّجِيرَةِ. يقال للمرأَة: انْجُرِي لصِبْيانِك ولرِعائِك؛ أَي اتَّخِذي لهم النَّجِيرَةَ من الطَّعَام.
والنَّجَر، بالتَّحْرِيك: عَطَشُ الإِبِلِ والغَنَم عن أَكْلِ الحِبَّةِ، وهي بُزورُ الصّحراءِ، فلا تَكَاد تَرْوَى من الماءِ فتَمْرَضُ عنه فتَموت. وهي إِبِلٌ نَجْرَى ونَجَارَى، كسَكْرَى وسَكَارَى، ونَجِرَةٌ، كفَرحَة. يقَال: نَجِرَت الإِبل ومَجِرَت أَيضًا. وقد ذُكرَ في محلّه. قال أَبو محَمّد الفَقْعَسِيُّ:
حتَّى إِذا ما اشْتَدَّ لُوبَانُ النَّجَرْ *** ورَشَفَتْ مَاءَ الإِضاءِ والغُدُرْ
ولاحَ للعَيْنِ سُهَيْلٌ بسَحَرْ *** كشُعْلَةِ القابِس يَرْمِي بشَرَرْ
يَصِفُ إِبلًا أَصابَها عَطشٌ شَديد.
واللُّوبانُ: شدَّةُ العَطَش، قال يَعْقوب: وقد يُصِيبُ الإِنسانَ النَّجَرُ، وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: النَّجَر والنَّجَرَانُ: العَطَشُ وشِدَّةُ الشُّرْبِ. وقيل: هو أَن تَمتِلئَ بَطنُه من شُرْبِ الماءِ واللَّبَنِ الحامِضِ فلا يَرْوَى من المَاءِ، وقد نَجِرَ نَجَرًا فهو نَجِرٌ.
والنُّجَارَةُ، بالضّمّ: ما انْتَحَتَ من العُودِ عندَ النَّجْر، وصاحِبُه النَّجَّارُ، وحِرْفَتُه النِّجَارَةُ، بالكَسْرِ على القِياس.
والنَّجْرانُ، بالفَتْح: الخَشَبَة التي تَدُور فيهَا رِجْلُ البابِ*. قال الشاعر:
صَبَبْتُ المَاءَ في النَّجْرانِ صَبًّا *** تَرَكْت البابَ ليس له صَريرُ
وهكذا قول ابن دُرَيْد، وقال ابن الأَعْرَابِيّ: يقال لأَنْفِ البابِ الرِّتَاجُ، ولدَ رَوَنْدِه: النَّجْرَانُ، ولِمِتْرَسِهِ: النِّجَاف.
ونَجْرَانُ، بلا لَامٍ: موضع باليَمَن يُعَدُّ من مَخَالِيفِ مَكَّةَ، فُتِح سَنَة عَشْرٍ من الهِجْرة صُلْحًا على الفَيْءِ، سُمِّيَ بنَجْرانَ بنِ زَيْدَانَ بن سَبَإ. قلْت: إِن كان المُرَادُ بسَبَإ هو عَبدُ شَمْسِ بن يَشْجُبَ بنِ يَعْرُبِ بن قَحْطَان فوَلَدُهُ حِمْيَرٌ وكَهْلانُ باتِّفَاق النَّسَّابة. وقال قَومٌ من النّسّابين: ومراءُ بن سبإِ وهو أَبو شَعْبَان وصَريحان، قبيلتان وليس لسَبَأ وَلدٌ اسمه زَيْدَان. وإِن كان المراد به سبأ الأَصغر فمِنْ وَلَدِه زَيْدُ بن سَدَد بن زُرْعَةَ بن سَبَإ. فلينظر، ثمّ رَأَيْت ياقوتًا ذهَب في المُعْجَم إِلى ما ذهبْت إِليه، وتوقّف في سياق هذا النَّسَبِ على الوَجْه المتقدِّم بعد أَنْ نَسَبَه إِلى كتابِ ابنِ الكلبيِّ. قال: وفي كتابٍ غيره: نَجْرَان بن زَيْدِ بن سبأَ.
قلت: وفي نَجْرَانَ هذا يقول الأَخْطَل:
مِثْل القَنَافذِ هَدَّاجُونَ قد بَلَغَتْ *** نَجْرَانُ أَو بَلَغَتْ سَوْآتِهِم هَجَرُ
القافِيَة مرفوعة، ويقول الأَعْشَى:
وكَعْبَة نَجْرَانَ حَتْمٌ عَلَيْ *** كِ حَتَّى تُنَاخِي بأَبْوابِهَا
نَزورُ يَزِيدَ وعَبْدَ المَسِيحِ *** وقْيْسًا هُمُ خَيْرُ أَرْبَابِها
قال ياقوت: وكَعبةُ نَجْرَانَ هذه بِيعَةٌ بَناهَا عَبدُ المَدَانِ بن الدَّيَّان الحارثيُّ على بِناءِ الكعْبَة وعظَّموها، وكان فيها أَساقِفَةٌ مُقِيمُون.
ونَجْرانُ: موضع بالبَحْرَيْن، قيل وإِليه نُسِبت الثِّيَابُ النَّجْرَانِيَّة. وفي الحَدِيث: «أَنَّهُ كُفِّنَ في ثلاثةِ أَثْوَابٍ نَجْرَانِيَّة» قيل: إِلى نَجْرَانَ هذا، وقيل: إِلى نَجْرَانِ اليَمَنِ.
ونَجْرَانُ: موضع بحَوْرَانَ قُرْبَ دِمَشْقَ، وهي بِيعَةٌ عَظِيمةٌ عامرةٌ حَسنةٌ مبنيَّةً على العَمَد الرَّخام منمَّقَةٌ، بالفُسَيْفِسَاءِ، وهو مَوضعٌ مُبَارَكٌ يَنْذِرُ لهُ المسلمون والنَّصَارَى، قيل: منه يَزِيدُ بن عبدِ الله بنِ أَبي يَزِيدَ، يُكْنَى أَبا عبد الله، من أَهْل دمشق، رَوَى عن الحسن بن ذَكْوان والقاسم بن أَبي عبد الرحمن، وعنه يحيى بن حَمْزة وسُوَيد بن عبد العزيز وهِشَام بن الغَاز وحُمَيْدٌ قيل: هو شيخٌ لأَبي إِسْحَاق، النَّجْرانِيَّانِ، أَو هو أَي حُمَيْدٌ مِن غيرِهَا، هكذا في النُّسخ، وصوابه: مِن غَيره.
وفاتَه: بِشْرُ بن رَافع النَّجْرانيُّ، عن يَحْيَى بن أَبِي كَثِير، وعنه عَبْدُ الرزّاق، ذكره الحافِظ ولم يَنْسبْه إِلى أَيّ نَجْران.
قلتُ وهو من نَجْرانِ اليَمَن، وكُنْيتُه أَبو الأَسْبَاط، هكذا نسبه الحازميّ، ويُنسب إِلى نَجرانِ اليَمَن أَيضًا محمّدُ بن عَمْرو بن حَزْم الأَنْصَاريّ قَتِيل الحَرَّة، لأَنّه وُلِدَ بها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رَوَى عنه ابنه أَبو بَكْر. ومن نَجْرَانِ اليَمَن عُبَيْدُ الله بن العبّاس بن الرَّبِيع النَّجْرَانيّ، عن محمّد بن إِبراهيم البَيْلمَانيّ، وعنه محمَّدُ بن بَكْر بنِ خَالِد النَّيْسَابُوريّ.
ونَجْرَانُ: موضع بين الكوفَةِ وواسِطَ، على يومَيْن من الكوفَة، ولَمَّا أخْرِج نَصَارَى نَجْرانَ منها أُسْكِنوا هذا المَوْضعَ وسُمِّيَ باسم بَلَدِهم الأَوّل.
والنَّوْجَرُ: الخَشَبَة التي يُكْرَبُ بهَا الأَرْضُ. قال ابن دُرَيْد: لا أَحسبها عَربيَّةً مَحْضةً، وقال أَيضًا: المَنْجُورُ في بعض اللُّغات: المَحَالَةُ التي يُسْنَى عليها.
والنَّجِيرَة، كسَفِينة: سَقيفَةٌ من خَشبٍ ليسَ فيها قَصَبٌ، قاله الليث، ونصّ عبارتِه: لا يُخَالِطُهَا قَصبٌ ولا غيْرُهُ.
والنَّجِيرَة: لَبَنٌ يُخْلَط بطَحِين، أَو لَبَنٌ حَلِيبٌ يُجْعَل عليه سَمْن، وقال ابنُ الأَعْرَابيّ: هي العَصيدَة، ثم النَّجِيرَة، ثم الحَسْوُ.
والنَّجِيرَة: النَّبْتُ القَصِيرُ الذي عَجزَ عن الطُّول.
ويقال: لأَنْجُرَنَّ نَجيرَتَك: أَي لأَجْزِيَنَّ جَزَاءَكَ، عن ابنِ الأَعْرَابِيّ: وأَحَدُ شَهْرَيْ ناجِر: رَجَبٌ أَو صَفَرٌ، سُمِّيَ بذلك لأَنّ المَالَ إِذَا وَرَدَ شَرِبَ المَاءَ حتى يَنْجَرَ، أَنشدَ ابنُ الأَعْرَابيّ:
صَبَحْنَاهُمُ كأْسًا من المَوْتِ مُرَّةً *** بنَاجِرَ حَتَّى اشْتَدَّ حَرُّ الوَدَائقِ
وقال بعضُهُمْ: إِنّمَا هو بِنَاجَر، بفَتْح الجِيمِ، وجمعُهَا نَوَاجِرُ. وقال المُفضَّل: كانَت العربُ تقول في الجاهليَّة للمُحَرَّم مُؤْتَمِرٌ ولِصَفَر ناجرٌ ولربيعٍ الأَوّلِ: خَوَّانُ.
وفي اللّسَان: ويزعمُ قومٌ أَن شَهْرَيْ ناجِر حَزِيرَانُ وتَمُّوزُ، وهو غَلطٌ، إِنما هو وَقْتُ طلوع نَجْمَيْن من نُجومِ القَيْظ. وقيل: كُلُّ شَهْرٍ من شُهُور الصَّيْفِ ناجِرٌ، لأَنّ الإِبل تَنْجَرُ فيه؛ أَي يَشْتَدُّ عَطَشُهَا حتى تَيْبَسَ جُلُودُها. قال الحُطَيْئة:
كنِعَاجِ وَجْرَةَ ساقَهُنَّ *** إِلى ظِلالِ السِّدْرِ ناجِرْ
ومن أَمثالِهم «أَثْقَلُ من أَنْجَرَة» الأَنْجَرُ: مِرْسَاةُ السَّفِينَة، فارسيّ. وفي التَّهْذِيب: هو اسمٌ عِراقيٌّ، وهو خَشَبَاتٌ يُخالَفُ بينَها وبينَ رُؤُوسها، وتُشَدُّ أَوساطُها في مَوْضعٍ واحِدٍ، ثمّ يُفْرَغُ بينَها الرَّصاصُ المُذابُ فتَصِيرُ كصَخْرَة. ورُؤُوس الخَشَب ناتِئَةٌ تُشَدُّ بها الحِبَالُ وتُرْسَل في الماءِ إِذا رَسَتْ رَسَتِ السَّفِينَةُ فأَقامتْ، معَرَّب لَنْكَر، كجَعْفَر. والكَافُ مَشُوبٌ بالجيم.
والمِنْجَار: لُعْبَةٌ لِلصِّبْيَان يَلْعَبون بها قال:
والوَرْدُ يَسْعَى بعُصْم في رِحَالِهِمُ *** كأَنّه لاعِبٌ يَسْعَى بمِنْجَارِ
أَو الصَّوَابُ المِيجَارُ، باليَاءِ التَّحْتِيَّة، كما سيأْتي، وتقدَّمت الإِشَارَةُ إِليه أَيضًا في أ الجمع: ر.
وبَنُو النَّجّارِ، كشدّاد: قَبِيلَةٌ من الأَنْصَارِ وهو تَيْمُ الله ويقال له العِتْرُ بنُ ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الخَزْرَج، وإِنّمَا سُمِّيَ النَّجَّارَ لأَنّه نَجَرَ وَجْهَ إِنسانٍ، بقَدُومٍ فقَتَلَه. وهم ـ أعني بَنِي النَّجَّار ـ أَخوالُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، من قِبَلِ جَدِّه عبد المُطَّلب، لأَنّ أُمَّ عبد المطّلب سَلْمَى بنت عَمْرِو بن زَيد بن لَبِيد بن خِدَاش بن حَرَام بن جُنْدَب بنِ عامِرِ بن غَنْم بن عَدِيِّ بن النجّار، قاله ابنُ الجوّانيّ في المقدِّمة.
والمَنْجَرُ، كمَقْعَد: المَقْصِدُ الذي لا يَحُورُ ولا يَعْدِل عن الطَّرِيقِ، قال حُصَيْنُ بن بُكَيْر الرَّبَعِيُّ:
إِنِّي إِذا حارَ الجَبَانُ الهِدَرَهْ *** رَكِبْتُ من قَصْدِ الطَّرِيق مَنْجَرَهْ
قال الصّاغَانيّ: هكذا رَوَى الأَزْهَرِيّ مَنْجَره، بالنُّون، والرِّواية الصَّحِيحَة عندي مَثْجَرَة، بالثّاءِ المُثَلَّثَة، والمَثْجَرَة والثُّجْرَة: المَوْضِعُ العَرِيضُ من الوَادِي أَو الطَّرِيق.
والإِنْجَارُ، بالكَسْر: لغة يمانِية في الإِجَّار بمعنى السَّطْح.
والنُّجَيْر، كزُبَيْر: حِصْنٌ مَنِيع قُرْبَ حَضْرَمَوْتَ، لجَأَ إِليه أَهلُ الرِّدَّة مع الأَشْعَث بن قَيْسٍ أَيامَ أَبي بكرٍ، رضي الله عنه. قال الأَعشَى.
وأَبْتَعِثُ العِيسَ المَرَاسيلَ تَغْتَلِي *** مَسَافةَ مَا بَيْنَ النُّجَيْرِ وصَرْخَدَا
وقال أَبو دَهْبَل الجُمَحيُّ:
أَعَرَفْت رَسْمًا بالنُّجَيْ *** رِ عَفَا لزَيْنَبَ أَو لِسَارَهْ
لعَزِيزَةٍ من حَضْرَمَوْ *** تَ على مُحيَّاهَا النَّضَارَهْ
ونُجَيْر: ماءَةٌ في دِيَار بَنِي سُلَيْم قُرْبَ صُفَيْنةَ*. والنِّجَارَةُ ككِتَابَة: ماءَةٌ أُخْرَى بحِذائها كِلْتاهُمَا بمُلُوحَةٍ ليستْ بالشَّدِيدَة، وهي على يَوْمَيْن من مَكَّةَ.
ونِجَارٌ، ككِتَاب: موضع، عن العِمْرانيّ، ونُجَارٌ كغُرَاب: موضع ببِلادِ تَمِيم، وقيل: من ميَاههم، وماءٌ بالقُرْب من صُفَيْنةَ حِذَاءَ جَبَلِ السِّتَارِ في دِيار سُلَيْم، عن نَصْر، والنَّجْرَاءُ: موضع، قال ابنُ حَبِيب: قُتِلَ به الوَلِيدُ بنُ يَزِيدَ بنِ عَبْدِ المَلِك، كذا نقله الصّاغَانيّ. قُلْتُ: وهو بالقُرْب من دِمَشْقَ، وذلك في سنة سَتٍّ وعِشْرِينَ ومِائة. قَتَلَه عَبْدُ العَزيز بنُ الحجَّاج بنِ عبد المَلك، أَرسلَه إِليه يَزِيدُ بنُ الوَلِيدِ بنِ عَبْدِ المَلِك، ودعا إِلى نَفْسه، ولم يُصَلِّ عليه، ودفَنَه هناك.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
النَّجْر: الطَّبْع واللَّوْن وشَكْل الإِنْسَانِ وهَيْئَتُه. قال الأَخْطَل:
وبَيْضَاءَ لا نَجْرُ النَّجَاشِيِّ نَجْرُهَا *** إِذا الْتَهَبَتْ منها القَلائِدُ والنَّحْرُ
والنَّجْر: القَطْع، قيل: ومنه النَّجَّار. والنَّجْر: الدّقُّ، ومنه المِنْجَار، بالكَسْر، للهَاوُنِ، هكذا ذَكرَه صاحِب اللسان، ولكن أَوردَه ابن القَطّاع في نحز ـ بالنون والحاءِ والزاي ـ ولعلّ هذا هو الصَّواب، وقد تَصَحَّف على صاحِبِ اللسان.
ويقال: ماءٌ مَنْجورٌ؛ أَي مُسَخَّن، وقد نَجَرَه.
والمِنْجَرَةُ: حَجَرٌ مُحْمىً يُسَخَّن به الماءُ، وذلِك المَاءُ نَجيرَةٌ. والنَجَرَانُ: العَطَشُ، ورَجلٌ مِنْجَرٌ، كمِنْبَر: شَديدُ السَّوْقِ للإِبلِ. قال الشَمَّاخ:
جَوَّابُ لَيْلٍ مِنْجَرُ العَشِيَّاتْ
ونُجَّيْرٌ، مُصغَّرًا مشَدَّدًا: ماءَةٌ في دِيَارِ تَمِيم.
وأَنْجَرْنا: صِرْنَا في ناجِر، وهو أَشدُّ الحَرِّ.
وعبدُ الله بنُ عبد الله بن نَجْرَانَ، بالفَتْح، البَصْرِيّ، شَيْخٌ لأَبي عاصمٍ النَّبِيل. وعبدُ الرَّحْمن بن أَبي نَجْرَانَ، من الشِّيعَة.
وعليّ بن محمّد المَنْجورِيّ، عن شُعْبَة، وعنه عَبْد الصَّمَد بن الفَضْل البَلْخِيُّ، إِلى مَنْجورَ، قَرْيَةٍ من قُرَى بَلْخ، ذكره أَبو عَبْد الله محمّد بنُ جَعْفَر الوَزَّانُ البَلْخِيُّ في تارِيخِه.
ونَجِيرُ، كأَمِير: قَرْيَةٌ بمِصْر من الدَّقَهْلِيَّة.
ومَنْجورَانُ: قريةٌ بينها وبين بَلْخ فَرْسَخَانِ.
ونَاجِرَةٌ، بكسر الجيم: مدينة في شَرْقِيِّ الأَنْدَلُسِ من أَعمال تُطِيلَةَ هي الآنَ بيَدِ الإِفْرِنْج.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
74-تاج العروس (عيز)
[عيز]: عِيزَ عِيزَ، مكسوران مَبْنِيَّانِ على الفَتْح، ويُفْتَحَان: زَجْرٌ للضَّأْنِ، أَهمله الجوهَرِيّ، ونقله الصاغانِيّ ونَصُّ عِبارَته هكَذا: وعِيزْ عِيزْ، مَكْسُورَانِ مَبْنِيَّان على السُّكون ويُفْتَحَان. وفي كَلام المُصَنِّف مُخَالَفة ظاهِرةٌ، ثم إِنه لُغَة في حَيْز حَيْز بالحَاءِ، وقد ذُكِر في موضِعه.تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
75-تاج العروس (قحش)
[قحش]: الاقْتِحاشُ ـ أهْمَلَه الجَوْهَريُّ وصاحبُ اللّسَان، قال الفَرّاء: ونَصُّهُ الانْقِحاشُ ـ: هو التَّفْتِيشُ، يُقَالُ: لأَقْتَحِشَنَّهُ، هكذا في النُّسَخِ والصَّوَابُ: لأَنْقَحِشَنه، كما هُوَ نَصُّ الفَرّاء فَلأَنْظُرَنَّ أَسَخِيُّ هو أَم لا، وهذا أَحَدُ ما جَاءَ على الافْتِعَالِ، هكذا في النُّسخِ مُتَعَدِّيًا، وهو نادِرٌ.* قُلْتُ: قَلَّدَ المُصَنِّفُ فيه الصّاغَانِيَّ وصَحَّفَ عِبَارَتَه، والصَّوَابُ أَنّ هذه المادةَ أَصْلُهَا نَقْحَشَ النُّونُ تكونُ أَصْلِيَّةً، مثلْ: نهْمَسَ، وأَمْرٌ مُنْهَمِسٌ، وقد سَبَقَ له ذلِكَ، وبابُ فَعْلَلَ يَأْتِي مُتَعَدِّيًا فَيُقَالُ حِينَئذٍ: لأُنَقْحِشَنَّهُ كأْدَحْرِجَنّهُ فحِينَئذٍ يَكُونُ لانُدَرَةَ فِيهِ، فَلْيُتَأَمَّلْ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
76-تاج العروس (خلص)
[خلص]: خَلَصَ الشّيْءُ يَخْلُصُ، بالضَّمِّ، خُلُوصًا، كقُعُودٍ، وخَالِصَةً ـ كعَافِيَةٍ وعاقِبَةٍ، قالَ شَيْخُنَا: وزَعَمَ بَعْضُهُم أَنّ الهَاءَ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ، كرَاوِيَةٍ، والسِّياق يَأْباهُ، انْتَهَى. وفي اللِّسَانِ: ويُقَالُ: هذَا الشَّيْءُ خَالِصَةٌ لكَ، أَيْ خَالِصٌ لَكَ خَاصَّةً. قُلْتُ وكَوْنُ هذَا البَابِ ككَتَبَ هُوَ المَشْهُور في دَوَاوِينِ أَنَّه ككَرُمَ وكَتَبَ، وبَقِي عَلَيْه مِنَ المَصَادِرِ الخَلَاصُ، بالفَتْحِ، وقيلَ: الخَالِصَةُ والخَلَاصُ: اسْمَانِ ـ: صَارَ خالِصًا.ومِن المَجَازِ: خَلَصَ إِليْهِ خُلُوصًا: وَصَلَ، وكذا خَلَصَ بهِ، ومِنْهُ حَدِيثُ الإِسْرَاءِ: «فلمَّا خَلَصْتُ بمُسْتوًى مِنَ الأَرْضِ» أَيْ وَصَلْتُ وبَلغْتُ، وكَذا خَلَصَ إِليْهِ الحُزْنُ والسُّرُورُ.
وقالَ الهوَازِنِيُّ: خَلِصَ العَظْمُ، كفَرِحَ خَلَصًا، إِذا نَشِطَ، هكَذَا في سَائِرِ النُّسَخ الَّتِي بِأَيْدِينَا، وهو غَلَطٌ وصوابُه تَشَظَّى في اللَّحْمِ، كَمَا هو نَصُّ الهَوَازِنِيِّ فِي اللِّسَانِ والتَّكْمِلَةِ، قالَ: وذلِكَ فِي قَصَبِ عظَامِ اليَدِ والرِّجْلِ، وزادَ في اللِّسَانِ بَقِيَّةَ نَصِّ الهَوَازِنِيِّ، يُقالُ: خلِصَ العَظْمُ [يَخْلَصُ] خَلَصًا: إِذَا بَرَأَ وفِي خِلَلِه شَيْءٌ مِنَ اللَّحْمِ.
وقالَ الدِّينَوَرِيُّ: أَخْبَرنِي أَعْرَابِيُّ أَنَّ الخَلَصَ، مُحَرَّكَةً: شَجَرٌ يَنْبُتُ كالكَرْمِ يَتَعَلَّقُ بالشَّجَرِ، فيَعْلُو ولَهُ وَرَقٌ أَغْبَرُ رِقَاقٌ مُدَوَّرَةٌ وَاسِعَةٌ، ولَهُ وَرْدٌ كوَرْدِ المَرْوِ، وأُصُولُه مُشْرَبَةٌ، وهُوَ طَيِّبُ الرِّيحِ، وحَبُّه كنحْوِ حَبِّ عنَبِ الثّعْلَبِ، يَجْتَمِعُ الثَّلاثُ والأَرْبَعُ مَعًا، وهُوَ أَحْمَرُ كخَرَزِ العَقِيقِ لا يُؤْكَلُ، ولكنّه مَرْعًى، وَاحِدَتُه بهَاءٍ.
والخَالِصُ: كُلُّ شَيْءٍ أَبْيَض، يُقَالُ: لَوْنٌ خَالِصٌ، وماءٌ خَالِصٌ، وثَوْبٌ خَالِصٌ.
وقال اللِّحْيَانِيُّ: الخَالِصُ من الأَلْوَانِ: ما صَفَا ونَصَعَ، أَيّ لَوْنٍ كانَ، وفي البَصَائِر: الخَالِصُ: الصّافِي الَّذِي زالَ عَنْهُ شَوْبُه الَّذِي كانَ فِيه.
والخَالِصُ: نَهْرٌ شَرْقِيَّ بَغْدَاد، عَلَيْه كُورَةٌ كَبِيرَةٌ تُسَمَّى الخَالِصَ، وقَدْ نُسِبَ إِلَيْهَا بَعْضُ المُحَدِّثِينَ هكذَا وبَعْضُهُم: بِالنَّهْرِ خالِصِيّ.
وخالِصَةُ: د، بجَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ.
وخَالِصَة: بِرْكَةٌ بَيْنَ الأَجْفَرِ والخُزَيْمِيَّةِ والخَلْصَاءُ: موضع، بالدَّهْنَاءِ فِيه عَيْنُ ماءٍ، قَالَ الحارِثُ بنُ حِلِّزَةَ:
بَعْدَ عَهْدِي لَهَا ببُرْقَةِ شَمَّا *** ءَ فأَدْنَى دِيَارِهَا الخَلْصَاءُ
وقالَ غَيْرُه:
أَشْبَهْنَ من بَقَرِ الخَلْصَاءِ أَعْيُنَهَا *** وهُنَّ أَحْسَنُ من صِيرَانِهَا صُوَرَا
وقَوْلُه عزَّ وجَلّ {إِنّا} أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ {ذِكْرَى الدّارِ} أَيْ خَلَّةٍ خَلَّصْنَاهَا لَهُم، فمن قَرَأَ بالتَّنْوِينِ جَعَلَ {ذِكْرَى الدّارِ} بَدَلًا مِنْ خالِصَة، ويَكُونُ المَعْنَى جَعَلْنَاهُم خالِصِينَ بِأَنْ جَعَلْنَاهُم يُذَكِّرُونَ بِدَارِ الآخرة، ويُزَهِّدُونَ فِيهَا أَهْلَ الدُّنْيَا، وذلِكَ شَأْنُ الأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهمُ الصّلاةُ والسّلامُ، ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ، يُكْثِرُونَ ذِكْرَ الآخِرَةِ والرُّجُوعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وقُرِئَ عَلَى إِضَافَةِ خَالِصَةٍ إِلى ذِكْرَى أَيْضًا.
وخَلْصٌ، بالفَتْح: موضع، بآرَةَ، من دِيَارِ مُزَيْنَةَ، قَال ابنُ هَرْمَةَ:
كأَنَّكَ لم تَسِرْ بجُنُوبِ خَلْصٍ *** ولَمْ تَرْبَعْ على الطَّلَلِ المُحِيلِ
وخُلَيْصٌ كزُبَيْرٍ: حِصْنٌ بَيْنَ عُسْفانَ وقُدَيْد، عَلَى ثَلاثِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ، شَرّفَها الله تَعَالَى.
وكُلُّ أَبْيَضَ خُلَيْصٌ، كالخَالِصِ.
وخَلْصَا الشَّنَّةِ ـ مُثَنّى خَلْص بِالْفتْحِ، والشَّنَّةُ بفتْحِ الشِّينِ وتشْدِيدِ النّونِ ـ: عِرْقاهَا، هكذا في سَائرِ الأُصُولِ، وصَوَابُه: عِرَاقاهَا، وهو ما خَلَصَ من الماءِ مِنْ خَلَلِ سُيُورِهَا، عن ابنِ عَبّادٍ.
ويُقالُ: هُوَ خِلْصُكَ، بالكسْرِ، أَيْ خِدْنُكَ، ج: خُلَصاءُ، بالضَّمِّ والمدّ، تَقُولُ: هؤُلاءِ خُلصَائِي، إِذا كانُوا مِنْ خاصَّتِك، نقَلَه ابنُ دُرَيْدٍ.
وخُلَاصَةُ السَّمْنِ، بالضَّمِّ، وعَليْه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ، والكَسْر، نقَلَهُ الصاغَانِيُّ عَن الفَرّاءِ: ما خَلَصَ منْهُ، لِأَنَّهُمْ إِذَا طَبَخُوا الزُّبْدَ ليتَّخذُوه سَمْنًا طَرحُوا فيه شَيْئًا من سَوِيقٍ وتَمْرٍ وأَبْعَارِ غزْلانٍ، فإِذا جاد وخَلَصَ من الثُّفْل فذلكَ السَّمْنُ هو الخُلاصةُ.
والخِلاصُ، بالكَسْرِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عَنْ أَبِي عُبيْدٍ: الإثْرُ، بكَسْرِ الهَمْزَة، وقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الزُّبْدُ حِينَ يُجْعَلُ في البُرْمَةِ لِيُطْبَخَ سَمْنًا فهُو الإِذْوَابُ والإِذْوَابَةُ، فإِذا جادَ وخَلَصَ اللَّبَنُ من الثُفْلِ فذلِك اللَّبَنُ الإِثْرُ والإِخْلاصُ، وقَال الأَزْهَرِيُّ: سَمِعْتُ العَرَبَ تقُولُ لِمَا يُخْلَصُ بِهِ السّمْنُ في البُرْمَةِ مِن الماءِ واللَّبَنِ والثُفْلِ: الخِلَاصُ، وذلِك إِذا ارْتجَن واخْتَلَطَ اللّبَنُ بالزُّبْدِ، فيُؤْخذُ تَمْرٌ أَو دَقِيقٌ أَو سَوِيقٌ فيُطْرَحُ فِيه ليَخْلُصَ السَّمْنُ منْ بَقيَّة اللَّبَن المُخْتلط به، وذلِكَ الَّذِي يَخْلُصُ هو الخِلَاصُ، بالكَسْرِ، وأَمَّا الخُلَاصَةُ فهو ما بَقِيَ في أَسْفلِ البُرْمَة من الخلَاصِ وغيْرِهِ من ثُفْلٍ أَوْ لبَنٍ وغيْرِه، وقال أَبُو الدُّقَيْشِ: الزُّبْدُ: خِلَاصُ اللَّبَنِ، أَيْ منْهُ يُسْتخْلصُ، أَيْ يُسْتَخْرَجُ. والخلَاصُ: ما أَخْلَصَتْهُ النّارُ من الذَّهَبِ والفضَّة والزُّبْد، وكذلك الخُلَاصَة، حَكاهُ الهَرَوِيّ في الغَرِيبَيْنِ، وبِهِ فُسِّر حَدِيثُ سَلْمَانَ «أَنَّه كاتَبَ أَهْلَهُ عَلى كَذَا وكَذَا، وعَلى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةَ خِلَاصٍ». والخُلاَّصُ، كرُمّانٍ: الخَلَلُ في البَيْتِ، بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، نَقَلَه ابنُ عَبّادٍ.
والخُلُوصُ، بالضَّمِّ: القِشْدَةُ والثُّفْلُ، والكُدَادَةُ والقِلْدَةُ: الَّذِي يَبْقَى في أَسْفَلِ خُلاصَةِ السَّمْنِ، والمَصْدَرُ مِنْهُ الإِخْلَاصُ، نقلَهُ الجَوْهَرِيُّ، وقد أخْلَصْت السَّمْنَ.
وذُو الخَلَصَةِ، مُحَرّكَةً، وعَلَيْه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ، ويُقَالُ بضَمَّتَيْنِ، حَكاهُ هِشامٌ، وحَكَى ابنِ دُرَيْدٍ فتْحَ الأَوَّلِ وإِسْكانَ الثّانِي، وضَبَطَه بَعْضُهُم بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وضَمِّ ثانِيه، والأَوَّلُ الأَشْهُرُ عِنْدَ المُحَدِّثِينَ: بَيْتٌ كان يُدْعَى الكَعْبَةَ اليَمَانِيَّة، ويُقَالُ لهُ: الكَعْبَةُ الشّامِيةُ أَيْضًا، لِجَعْلِهِم بَابَه مُقَابِل الشَّامِ، وصَوَّبَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ اليَمَانِيّة، كما نَقَلَه شَيْخُنَا.
قُلْتُ: وفي بَعْضِ الأُصُولِ: كانَ يُدْعَى كعْبَةَ اليَمامَةِ، وهُوَ الَّذِي في أُصُولِ الصّحاحِ، وقوْلُه: لِخثْعَمٍ، هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَليْه الجَوْهَرِيّ، فلا تقْصِيرَ في كَلامِ المُصَنّفِ، كمَا زَعَمَهُ شيْخُنَا، لِأَنَّه تَبعَ الجَوْهَرِيَّ فيما أَورَدَه، وزادَ غَيْرُه: ودَوْسٍ وبَجِيلَةَ وغَيْرِهم، ومِنه الحَدِيثُ: «لا تَقُوم السّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلْيَاتُ نِساءِ دَوْس عَلَى ذِي الخَلَصَة» والَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سياقِ الحافظِ، في الفَتْحِ، أَنَّ المَذْكُورَ فِي هذا الحَدِيثِ غيْرُ الَّذِي هَدَمَه جَرِيرٌ؛ لِأَنَّ دَوْسًا رَهْطُ أَبِي هُرَيْرَةَ من الأَزْد، وخَثْعَمُ وبَجِيلَةُ من بنِي قَيْسِ، فالأَنْسَابُ مُخْتَلِفَة، والبِلادُ مُخْتَلِفةٌ، والصَّحِيحُ أَنَّهُ صَنَمٌ كانَ أَسْفَلَ مَكَّةَ نَصَبَهُ عَمْرُو بنُ لُحَيٍّ، وقَلَّدَه القَلائدَ، وعَلَّقَ بِه بَيْضَ النَّعامِ، وكانَ يُذْبَحُ عِنْدَه، فتأَمَّلْ ذلِك.
كانَ فيهِ صَنَمٌ اسْمُه الخَلَصَةُ، فأَنْفَذَ إِليْهِ رَسُولُ الله، صلى الله عليه وسلم جَرِيرَ بنَ عَبْدِ الله، رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ، فهَدَمَه وخَرَّبَه.
وقِيلَ: ذُو الخَلَصَةِ: الصَّنَمُ نَفْسُهُ، قال ابنُ الأَثِيرِ: وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ «ذُو» لا تُضَافُ إِلاَّ إِلَى أَسْمَاءِ الأَجْنَاسِ: أَو لِأَنَّه كانَ مَنْبتَ الخَلَصَةِ، النّبَاتِ الَّذِي ذُكِرَ قريبًا.
وأَخْلَصَ لله الدِّينَ: أَمْحَضَهُ وتَرَكَ الرِّيَاءَ فِيهِ، فهُوَ عَبْدٌ مُخْلِصٌ ومُخْلَصٌ، وهو مَجَازٌ، وفي البَصَائِرِ: حَقِيقَةُ الإِخْلَاصِ: التِّبَرِّي من دُونِ الله تعَالَى، وقُرِئَ: {إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ} الْمُخْلَصِينَ بكَسْرِ اللاَّمِ وفتْحِها، قال الزَّجّاجُ: المُخْلَص: الَّذِي جَعَلَه الله مُخْتارًا خَالِصًا من الدَّنَسِ، والمُخْلِصُ: الَّذِي وحَّدَ الله تعالى خَالِصًا.
وأَخْلَصَ الرَّجُلُ السَّمْنَ: أَخَذَ خُلاصَتَهُ، نَقَلَه الفَرّاءُ.
وأَخْلَصَ البَعِيرُ سَمِنَ، وكَذلِكَ النّاقَةُ، نَقَلَهُ أَبو حَنِيفَةَ وأَنْشَدَ:
وأَرْهَقَتْ عِظَامُهُ وأَخْلَصَا
وقالَ اللَّيْثُ: أَخْلَصَ، إِذا صَارَ مُخُّهُ قَصِيدًا سَمِينًا، وأَنْشد:
مُخْلِصَةَ الأَنْقاءِ أَوْ زَعُومَا
وخَلَّصَ الرَّجُلَ تَخْلِيصًا: أَعْطَى الخَلَاصَ، وهو مِثْلُ الشَّيْءِ، ومِنْهُ حَدِيثُ شُرَيْحٍ «أَنَّه قَضَى في قَوْسٍ كَسَرَهَا رَجُلٌ بالخَلَاصِ»، أَيْ بمِثْلِهَا.
والخَلَاصُ أَيْضًا: أُجْرَةُ الأَجِيرِ، يُقالُ: أَعْطَى البَحَّارَةَ خَلاصَهُم، أَيْ أَجْرَ أَمْثالِهِم.
وخَلَّصَ تَخْلِيصًا: أَخَذَ الخُلَاصَةَ من السَّمْنِ وغَيْرِه، كَذا يَقْتَضِيه سِيَاقُ عِبَارَتِهِ، والَّذِي في الأُصُولِ الصّحِيحَة أَنّ فِعْلَه بالتَّخْفِيفِ، يقال أَخْلَصَ وخَلَصَ إِخْلاصًا وخَلَاصًا وخُلُوصًا: إِذا أَخَذَ الخُلَاصَةَ، ومِثْلُه في التّكْمِلَةِ، وهُوَ مَضْبُوطٌ بالتَّخْفِيفِ هكذا، فتأَمَّلْ.
وخَلَّصَ الله فُلانًا: نَجّاهُ بَعْدَ أَنْ كانَ نَشِبَ، كأَخْلَصَه فتَخلَّصَ كما يَتَخَلَّصُ الغَزْلُ إِذا الْتَبَسَ.
ومِنَ المَجَازِ خَالَصَةُ في العِشْرَةِ، أَيْ صافاهُ ووَادَدَهُ.
واسْتَخْلَصَه لِنَفْسِه: اسْتَخَصَّهُ بدُخْلُلِهِ، كأَخْلَصَه، وذلِكَ إِذَا اخْتَارَه.
* وممّا يُسْتَدْرَك عَلَيْه:
التَّخْلِيصُ: التَّصْفِيَةُ. ويَاقُوتٌ مُخَلَّصٌ؛ أَي مُنَقّىً.
وقِيل لِسُورَة: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} سُورَةُ الإِخْلَاص، قال ابنُ الأَثِيرِ: لِأَنَّها خَالِصَةٌ في صِفَةِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَنَّ اللاَّفظَ بها قدْ أَخْلَصَ التَّوْحِيدَ للهِ عَزَّ وجَلَّ.
وكَلِمَةُ الإِخْلاصِ: كَلِمَةُ التّوْحِيدِ.
والخَالِصَةُ: الإِخْلاصُ.
وقولُه عَزَّ وجَلَّ خَلَصُوا {نَجِيًّا}، أَيْ تَمَيَّزُوا عَنِ النّاسِ يتَناجَوْنَ فِيمَا أَهَمَّهُم.
ويَوْمُ الخَلَاصِ: يَوْمُ خُرُوجِ الدَّجّالِ: لتَمَيُّزِ المُؤْمِنِين وخَلاصِ بَعْضِهِم مِنْ بَعْضٍ.
وأَخْلَصَه النَّصِيحَة والحُبَّ، وأَخْلَصَهُ له، وهُوَ مَجَاز.
وهُم يَتَخالَصُون: يُخْلِصُ بَعْضُهم بَعْضًا.
والخُلُوصُ، بالضّمِّ: رُبٌّ يُتَّخَذُ مِنْ تَمْرٍ.
والإِخْلَاصُ والإِخْلاصَةُ: الإِذْوَابُ والإِذْوَابَةُ.
وهو خَالِصَتِي وخُلْصَانِي، يَسْتَوِي فِيهِ الوَاحِدُ والجَمَاعَةُ.
وقالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَخْلَصَ العَظْمُ، إِذا كَثُرَ مُخُّه.
وأَبُو عَبْدِ الله مُحَمّدُ بنُ عَبْدِ الرّحْمنِ بنِ خَلَصَةَ، مُحَرَّكَةً، اللَّخْمِيُّ، البَلَنْسِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغوِيُّ، أَخَذَ عن ابنِ سِيدَه، ونَزَل دَانِيَةَ، تُوفِّي سنة 521.
وخُلْصٌ، بالضَّمّ: مَوْضع.
وخَلَصَ مِن القَوْمِ: اعْتَزَلَهُم، وهو مَجَازٌ.
وخَالِصَةُ: اسْمُ امْرَأَة.
والخَلَصِيُّون: بَطْنٌ مِن الجَعَافِرَةِ، جَدُّهُمْ أَبْو الحَسَنِ عُبَيْدُ الله بنُ محمَّدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عِيسَى بنِ جَعْفَر بن إِبراهِيمَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ بنِ عَبْدِ الله بنِ جَعْفَرِ بنِ أَبِي طالِبٍ، قالَ الهَجَرِيُّ: وهو الخَلَصِيُّ، مِنْ ساكِنِي خَلَص.
ولَعَلَّهُ يُرِيدَ ذا الخَلَصَةِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
77-تاج العروس (قبص)
[قبص]: قَبَصَه يَقْبِصُهُ قَبْصًا: تَنَاوَلَه بأَطْرَافِ أَصابِعهِ، كما في الصّحاحِ، وهُو دُونَ القَبْضِ، كقَبَّصَهُ تَقْبِيصًا.وهذا عن ابْنِ عَبَّادٍ. وذلِكَ المُتَنَاوَلُ بأَطْرَافِ الأَصَابِع: القَبْصَةُ، بالفَتْحِ والضَّمِّ. وعَلَى الأَوّل قِرَاءَةُ ابْنِ الزُّبَيْر وأَبِي العَالِيَةِ وأَبِي رَجَاءٍ وقَتَادَةَ، ونَصْرِ بن عَاصم [قوله تَعَالَى]: فَقَبَصْتُ قَبْصَةً من أَثَر الرَّسُولِ بفَتْح القَاف. وعلى الثَّاني قرَاءَة الحَسَنِ البَصْرِيّ، مِثَالُ غُرْفَة. وقِيلَ: هو اسْمُ الفِعْل، وقِرَاءَةُ العَامَّة بالضَّاد المُعْجَمَة.
وقال الفَرّاءُ: القَبْضَةُ بالكَفِّ كُلِّهَا، والقَبْصَةُ بأَطْرَافِ الأَصَابع. والقُبْصَةُ والقَبْصَةُ: اسمُ ما تَناوَلْتَهُ بعَيْنِه.
وقَبَصَ فُلانًا، وكَذَا الدَّابَّةَ، يَقْبِصُهُ قَبْصًا: قَطَعَ عَلَيْه شُرْبَهُ قَبْلَ، أَنْ يَرْوَى.
وقال أَبو عُبَيْدٍ: قَبَصَ الفَحْلُ: نَزَا، وأَنْشَدَ لِذي الرُمَّةِ يَصِفُ رِكَابًا:
ويَقْبِصُ من عَادٍ وسادٍ ووَاخِدٍ *** كما انْصَاعَ بالسِّيِّ النَّعامُ النَّوافِرُ
وقَبَصَ التِّكَّةَ يَقْبِصُهَا قَبْصًا: أَدْخَلَها في السَّراوِيلِ فجَذَبَها، عن ابنِ عَبَّادٍ.
والقَبْصَةُ، بالفَتْح: الجَرَادَةُ الكَبِيرَةُ، عن كُرَاع.
والقَبْصَةُ من الطَّعَام: ما حَمَلَت كَفَّاك، ويُضَمُّ، والجَمْعُ قُبَصٌ، مِثْلُ غُرْفَةٍ وغُرَفٍ، ومنه الحَدِيثُ: «أَنَّه دَعَا بِلالًا، رَضِيَ الله تَعَالَى عنه، بتَمْرٍ فجَعَلَ يَجِيءُ به قُبَصًا قُبَصًا، فقال: يا بِلَالُ أَنْفقْ ولا تَخْشَ من ذي العَرْش إِقْلالًا». وقال مُجَاهدٌ في قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} يعني القُبَصَ الَّتِي تُعْطَى عِنْدَ الحَصَاد للْفُقَرَاءِ.
قال ابنُ الأَثيرِ: هكَذا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيّ حَدِيثَ بِلَال ومُجَاهِدٍ في الصَّاد المُهْمَلَة، وذَكَرَهُمَا غَيْرُه في الضَّادِ المُعْجَمَة. قال: وكلاهُمَا جَائزَان، وإِن اخْتَلَفَا.
والقَبِيصَةُ: التُّرَابُ المَجْمُوع، وزادَ ابنُ عَبّادٍ: والحَصَى، وقال غَيْرُه: وكَذلِك القَبِيص.
والقَبِيصَةُ: قرية، شَرْقيَّ المَوْصِل من أَعْمَالِه. وأَيضًا: قرية، قربَ سُرَّ مَنْ رَأَى، هكذا مُقْتَضَى سِياقِه. والصَّوابُ فيهما القَبِيصِيَّة، بزِيَادَة الياءِ المُشَدَّدَة، كما هو في العُبَابِ والتَّكْمِلَة مُجَوَّدًا مَضْبُوطًا.
وقَبِيصَةُ بْنُ الأَسْوَد بنِ عَامِرِ بنٍ جُوَيْن الجَرْميّ ثمّ الطَّائِيّ، له وِفادَة، قالَه ابنُ الكَلْبيّ. وقَبِيصَةُ بنُ البَرَاءِ، رَوَى عنه مُجاهدٌ، ولا تَصحُّ له صُحْبَةٌ، وقد أَرْسَلَ.
وقَبِيصَةُ بنُ جَابِر، أَدْرَكَ الجاهِلِيَّةَ. وقَبِيصَةُ بنُ ذُؤَيْبٍ الخُزَاعِيُّ الكَعْبِيّ، أَبُو سَعِيدِ وأَبُو إِسْحَاقَ، وُلِدَ في حَياةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، كذا في مُعْجَم ابْنِ فَهْد. قُلْتُ: ويُقَالُ عَامَ الفَتْح، وتُوفِّيّ سنة 86. رَوَى عن أَبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وأَبِي الدَّرْدَاءِ، وعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِت، وبِلالٍ رَضي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعين. وقَبِيصَةُ بنُ شُبْرُمَةَ، أَو هو ابنُ بُرْمَةَ بنِ مُعَاوِيَةَ الأَسَدِيّ. قال أَبو حَاتِمٍ: حَدِيثُه مُرْسَلٌ. قُلْتُ: لأَنَّه يَرْوِي عن ابْنِ مَسْعُودٍ، والمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وهُوَ وَالِد يَزِيدَ بْنِ قَبِيصَة [وقبيصة] * بنُ الدَّمُونِ أَخُو هُمَيْلٍ، ذَكَرَهُمَا ابنُ مَاكُولَا، أَنْزَلَهُمَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في ثَقيف، وقَبِيصَةُ بنُ المُخَارِقِ بنِ عَبْدِ الله بن شَدَّادٍ العَامِريُّ الهِلَالِيُّ، أَبو بِشْرٍ له وِفَادَةٌ، رَوَى له مُسْلم. قُلْتُ: وقد نَزَلَ البَصْرَةَ، ورَوَى عنه ابنُه قَطَنْ بنُ قَبِيصَةَ. وقَبِيصَةُ بن وَقَّاصٍ السُّلَميّ، نَزَلَ البَصْرَةَ، رَوَى عَنْه صَالح بنُ عُبَيْد، شيخُ أَبي هَاشِم الزَّعْفَرَانِيّ لا يُعْرَفُ إِلا بهذا الحَدِيث، ولم يَقُل فيه سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فلِذَا تَكَلَّمُوا في صُحْبَته لجَوَازِ الإِرْسَال. قُلْتُ: ولم يُخَرِّج حَدِيثَه غَيْرُ أَبِي الوَلِيدِ الطَّيَالِسِيّ: صَحابِيَّون.
وفَاتَهُ: قَبِيصَةُ البَجَلِيُّ، رَوَى عنه أَبُو قِلابَةَ في الكُسُوفِ، وقَبِيصَةُ المَخْزُومِيّ، يُقَال هو الَّذِي صَنَعَ مِنْبَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ذَكَره بَعضُ المَغَارِبَة. وقَبِيصَةُ، وَالِدُ وَهْب، رَوَى عنه ابنُه: «العِيَافَة والطَّرْق والجِبْتُ من عَمَلِ الجَاهِلِيَّة». وقَبِيصَةُ، رَجُلٌ آخَرُ، رَوَى عنه ابنُ عَبّاسٍ، ذَكَرَهم الذَّهَبِيُّ وابنُ فَهْدٍ في مُعْجَمِ الصَّحابَةِ.
وقَبِيصَةُ بنُ عُقْبَةَ السُّوَائيُّ الكُوفِيّ، خرَّج له البُخَارِيّ ومُسْلِم، تُوُفِّيَ بالكُوفَة سنة 215 وإِياسُ بنُ قَبِيصَةَ الطَّائيّ، الَّذي ذَكَرَه الجَوْهَرِيّ، فَهُوَ ابْنُ قَبِيصَةَ بن الأسْوَدِ الَّذِي أَوْرَدَهُ المُصَنِّف، رَحمَه الله تَعَالَى، في أَوّلِ هذِه الأَسْمَاءِ.
وقال ابنُ عَبّاد: القَبُوصُ، كصَبُورٍ، كما في العُبَابِ، وَوَقَع في التَّكْمِلَةِ: القَبِيصُ، كأَمِيرٍ: الفَرَسُ الوَثِيقُ الخَلْقِ. وقيل: هو الَّذِي إِذا رَكَضَ لم يُصِبِ الأَرْضَ إِلاّ أَطْرَافُ سَنَابِكِهِ من قُدُمٍ. قال الشاعر:
سَلِيمُ الرَّجْعِ طَهْطَاهٌ قَبُوصُ
وهو مَأْخُوذ من قَوْلِهِم: قد قَبَصَ الفَرَسُ، يَقْبِصُ، من حَدِّ ضَرَب: إِذا خَفَّ ونَشِطَ، وهو مَجازٌ، ولو قَالَ بَدَلَ خَفَّ ونَشِطَ: عَدَا ونَزَا، كانَ أَحْسَنَ، فإِنّ الخِفَّةَ والنَّشَاطَ من مَعانِي القَبَصِ، مُحَرَّكَة، وهو من باب فَرِح، كما حَقَّقه الجَوْهَرِيّ. وَسَيَأْتِي الكَلامُ عَلَيْه. وأَمّا الَّذِي من حَدّ ضَرَبَ فهو القَبْصُ بمَعْنَى العَدْوِ والنَّزْوِ، أَو بمَعْنَى الإِسْرَاع، كما سَيَأْتي أَيضًا.
والقِبْصُ، بالكَسْرِ: العَدَدُ الكَثِيرُ عن أَبي عُبَيْدَةَ، وزادَ الجَوْهَرِيُّ: من النَّاسِ، ومنه الحَدِيثُ: «أَن عُمَرَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وعِنْدَهُ قِبْصٌ من النّاسِ»؛ أَي عَدَدٌ كَثِيرٌ. وقال الكُمَيْتُ:
لَكُمْ مَسْجِدَا الله المَزُورانِ والحَصَى *** لَكُمْ قِبْصُه من بَيْنِ أَثْرَى وأَقْتَرَا
وهو فِعْلٌ بمْعنَى مَفْعُول من القَبْصِ. وفي العُبَاب والفَائِقِ: إِطْلاقُه على العَدَد الكَثِيرِ من جِنْس ما صَغَّروه من المُسْتَعْظَم.
وقال ابنُ دُرَيْدٍ: القِبْصُ: الأَصْلُ يُقَال: هو كَرِيمُ القِبْصِ. قُلْتُ: وسَيَأْتِي في النُّون أَيضًا القِنْصُ: الأَصْلُ، ومَرّ في السِّين المُهْمَلَة أَيضًا.
وقال ابنُ عَبَّادٍ: القِبْصُ: مَجْمَعُ الرَّمْلِ الكَثيرِ، ويُفْتَحُ.
يُقَال: هو في قِبْصِ الحَصَى وقَبْصِها؛ أَي فيما لا يُسْتَطاع عَدَدُه من كَثْرَته، هكذا نَقَلَه الصّاغَانِيُّ في العُبَاب. والَّذي في كتَاب العَين: القِبْصُ: مُجْتَمَعُ النَّمْلِ الكَبير الكَثيرِ.
يُقَالُ: إِنَّهُمِ لَفي قِبْصِ الحَصَى، أَيْ في كَثْرَتِهَا. وقولُه: ويُفْتَحُ؛ أَي في هذه اللُّغَةِ الأَخيرَة، هكذا سِيَاقُ عِبَارَته. والصَّوابُ أَنّه يُفْتَحُ فيه وفي مَعْنَى العَدَدِ الكَثير من النَّاسِ أَيْضًا، كما صَرَّح به ابنُ سِيدَه، فتَأَمَّلْ.
والمِقْبَصُ، كمنْبَرٍ، وضُبطَ في نُسْخَةِ الصّحاحِ أَيضًا كمَجْلِسٍ: الحَبْلُ يُمَدُّ بَيْنَ يَدَيِ الخَيْلِ في الحَلْبَةِ، عِنْدَ المُسَابَقَةِ، وهو الْمِقْوَسُ، أَيضًا. ومنه قَوْلُهُم: أَخَذْتُهُ على المِقْبَص. وقال الشّاعِر:
أَخَذْتُ فُلانًا على المِقْبَصِ
قال الصّاغَانِيُّ: أَي على قَالَبِ الاسْتِواءِ، وقيلَ: بَلْ إِذا أَخَذْتَهُ في بَدْءِ الأَمْر.
والقَبَصُ، مُحَرَّكَةً: وَجَعٌ يُصيبُ الكَبِدَ من أَكْلِ التَّمْرِ عَلَى الرِّيقِ، ثمّ يُشْرَبُ علَيْه المَاءُ. قال الراجزُ:
أَرُفْقَةٌ تَشْكُو الجُحَافَ والقَبَصْ *** جُلُودُهُمْ أَلْيَنُ من مَسِّ القُمُصْ
والقَبَصُ، أَيضًا: ضِخَمُ الهَامَةِ وارْتِفاعُها، قَبِصَ، كفَرِحَ، فهو أَقْبَصُ الرَّأْسِ: ضَخْمٌ مُدَوَّرٌ، وهَامَةٌ قَبْصَاءُ:
ضَخْمَةٌ مُرْتَفِعَةٌ: قال الرّاجِزُ:
بهَامَةٍ قَبْصَاءَ كالمِهْرَاسِ
كما في الصّحاح. وفي العُبَابِ. قال أَبُو النَّجْم:
يُدِيرُ عَيْنَيْ مُصْعَبٍ مُسْتَفْيِلِ *** تَحْتَ حِجَاجَيْ هامَةٍ لم تُعْجَلِ
قَبْصاءَ لم تُفْطَحْ ولم تُكَتَّلِ *** مَلْمُومَةٍ لَمًّا كَظَهْرِ الجُنْبُلِ
مُسْتَفِيلٌ: مثْلُ الفِيلِ لِعِظَمه. والجُنْبُلُ: العُسُّ العَظيم.
والقَبَصُ، أَيضًا: الخِفَّةُ والنَّشَاطُ، عن أَبي عَمْرٍو، وقد قُبِصَ، كعُنِيَ، وفي الصّحاح: كفَرِحَ، فَهُوَ قَبصٌ، ومِثْلُه في العُباب.
والأَقْبَصُ: الَّذي يَمْشِي فيَحْثِي التُّرَابَ بصَدْرِ قَدَمِه فيَقَعُ عَلَى مَوْضِعِ العَقِبِ، عن ابن عَبَّاد.
قال: وقَبِصَتْ رَحِمُ النّاقَةِ، كفَرِحَ: انْضَمَّتْ.
وقَبِصَ الجَرَادُ على الشَّجَرِ: تَقَبَّصَ.
وحَبْلٌ قَبِصٌ، ككَتِفٍ، ومُتَقَبِّصٌ؛ أَي غَيْرُ مُمْتَدٍّ، عن أَبِي عَمْرٍو. قال الرجيلُ بنُ القربِ السمينيّ:
أَرُدُّ السائِلَ الشَّهْوَانَ عَنْهَا *** خَفِيفًا وَطْبُه قَبِصَ الحِبَالِ
وقِيلَ حَبْلٌ مُتَقَبِّصٌ. إِذا كان مَطْوِيًّا.
والقِبِصَّى، كزِمِكَّى: العَدْوُ الشَّدِيدُ، وقِيلَ: عَدْوٌ كَأَنَّهُ يَنْزُو فِيه، وقد قَبَصَ يَقْبَصُ، قال الأَزْهَرِيّ في ترجمة «ق ب ض»:
وتَعْدُو القِبِضَّى قَبْلَ عَيْرٍ وما جَرَى *** ولم تَدْرِ ما بالِي ولَمْ أَدْرِ ما لَهَا
قال: والقِبِضَّى والقِمِصَّى: ضَرْبٌ مِنَ العَدْوِ فِيه نَزْوٌ.
وقال غَيْرُهُ: قَبَصَ بالصَّادِ المُهْمَلَة يَقْبِصُ: إِذا نَزَا. فَهُمَا لُغَتَان. قال: وأَحْسَبُ بَيْتَ الشَّمّاخ يُرْوَى: وتَعْدُو القِبِصَّى بالصاد المُهْمَلَة. وقال ابنُ بَرّيّ: أَبُو عَمْرٍو يَرْويه القِبِضَّى بالضَّاد المُعْجَمَة، مَأْخُوذٌ من القَبَاضَةِ وهي السُّرْعَة. ووَجْه الأَوَّلِ أَنَّه مَأْخُوذ من القَبَصِ، وهو النَّشَاط. ورَوَاهُ المُهَلَّبيُّ: القِمِصَّى، بالميم، وجَعَلَه من القِمَاص.
وانْقَبَصَ غُرْمولُ الفَرَسِ: انْقَبَضَ وبَيْنَهُمَا جِناس. وقال الصّاغانِيّ: والتَّركيبُ يَدُلُّ عَلَى خِفَّةٍ وسُرْعَةٍ، وعَلَى تَجَمُّعٍ، وقد شَذَّ عن هذَا التَّرْكيبِ: القَبَصُ: وجَعُ الكَبِد.
* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:
القَبِيصَةُ: ما تَناوَلْتَهُ بأَطْرَافِ أَصابعِكَ، كما في الصّحاح، وتَرَكَه المُصَنِّف قُصُورًا.
والقَبِيصُ: التُّرَابُ المَجْمُوعُ، كالقَبِيصَة.
وقِبْصُ النَّمْلِ وقَبْصُه: مُجْتَمَعُهُ.
والقَوَابِصُ: الطَّوَائفُ، والجَمَاعَة، وَاحدُهَا قابصَةٌ.
والقَبْصُ: العَدْوُ الشَّديدُ، كالقِبِصَّى.
وهم يَقْبِصُون قَبْصًا، أَيْ يَجْتَمِعُ بَعْضُهُم إِلى بَعْضٍ، من شِدَّةٍ أَو كَرْبٍ.
والأَقْبَصُ: العَظيمُ الرَّأْس.
وقَبَصَ الغُلامُ: شَبَّ وارْتَفَعَ.
ومن المَجَاز: اقْتَبَصَ منْ آثارِه قُبْصَةً.
والقُبَيْصَةُ، كجُهَيْنةَ: مَوْضِعٌ.
وعُبَيْد بنُ نِمْرَانَ القَبَصيُّ «مُحَرَّكَةً» رُعَيْنِيٌّ، شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ، وابْنُه زِيَادٌ، رَوَى عَنْه حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ، رَحِمَهُم الله تَعَالَى.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
78-تاج العروس (خرض)
[خرض]: الخَرِيضَةُ، كسَفِينَةٍ، أَهْمَلَهُ الجَوْهَرِيّ. وقال اللَّيْثُ: هي الجَارِيَةُ الحَدِيثَةُ السِّنِّ، الحَسَنَةُ، البَيْضَاءُ التَّارَّةُ، وجَمْعُهَا وخَرَائِضُ.هكَذَا نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ والصّاغَانِيّ عن اللَّيْثِ. وقال الأَوّلُ: لَمْ أَسْمَعْهُ لِغَيْرِ اللَّيْث، ولَعَلَّهُ بالصَّادِ وهذا يَقْتَضِي أَنَّهُ من مادَة «خ ر ص» وذَكَرَهَا الأَزْهَرِيّ في رُباعِيّ الخَاءِ مَعَ الصَّادِ المُهْمَلَةِ، امْرَأَةٌ خَرْبَصَةٌ: شَابَّةٌ ذَاتُ تَرَارَةٍ. والجمعُ خَرَابِصُ وذَكَرَهَا ابنُ عَبَّادٍ في رُبَاعِيّ الخَاءِ مَعِ الضادِ المُعْجَمَتَيْن، بعد ذَكْره إيَّاها في الثُّلَاثِيّ في الخَاءِ والضَّادِ المُعْجَمَتَيْن. قال الصّاغَانِيّ: وأَنَا من عُهْدَةِ هذِهِ اللَّفْظَةِ فَالِجُ بنُ خَلَاوَةَ، وبَرِيءٌ بَرَاءَةَ الذِّئْبِ من دَمِ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللهِ وسَلَامُه عَلَيْه، كما في العُبَابِ. واختَلَفَتْ عِبَارَتُه في التَّكْمِلَة، فَإِنَّه بَعْد ذِكْرِ عِبَارَةِ الأَزْهَرِيّ التي تَقَدَّمت قال: والصَّوابُ ما ذَكَرَه اللَّيْثُ؛ أَي في رُبَاعِيّ الخَاءِ والصَّادِ. وفي إِطلاقِ قَوْلِ المصنِّف: ولَعَلَّه بالصَّادِ، مَحَلُّ نَظَرٍ وتَأَمُّلٍ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
79-تاج العروس (سقط)
[سقط]: سَقَطَ الشَّيْءُ من يَدِي سُقُوطًا، بالضَّمِّ، ومَسْقَطًا، بالفَتْح: وَقَعَ، وكُلُّ مَنْ وَقَع في مَهْوَاةٍ يُقَال: وَقَعَ وسَقَطَ. وفي البَصَائِر: السُّقُوط: إِخْرَاجُ الشَّيْءِ إِمّا من مَكَانٍ عالٍ إِلى مُنْخَفِضٍ، كالسُّقوطِ من السَّطْح. وسُقُوطِ مُنْتَصِبِ القَامَةِ، كاسّاقَطَ، ومِنْهُ قولُه تَعَالى: تُساقِطْ {عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}، وَقَرَأَ حَمّاد ونُصَيْرٌ وَيَعْقُوبُ وسَهْلٌ «يَسَّاقَط» باليَاءِ التَّحْتِيَّةِ المَفْتُوحَةِ، كما في العُبَابِ. قلتُ: فمَنْ قرأَ بالياءِ فهو الجِذْعُ، ومن قَرَأَ بالتّاءِ فهي النَّخْلَة، وانْتِصَابُ قوله: {رُطَبًا جَنِيًّا} على التَّمْيِيز المُحَوَّلِ، أَراد يَسّاقَط رُطَبُ الجِذْع، فلمّا حُوِّل الفِعْلُ إِلى الجِذْع خَرَجَ الرُّطَبُ مُفَسِّرًا، قال الأَزْهَرِيُّ: هذا قَوْلُ الفَرّاءِ. فهو سَاقِطٌ وسَقُوطٌ، كصَبُورٍ، المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ فيه سوَاءٌ، قال:مِنْ كُلِّ بَلْهَاءَ سَقُوطِ البُرْقُعِ *** بَيْضَاءَ لم تُحْفَظْ ولم تُضَيَّعِ
يعني أَنَّهَا لم تُحْفَظْ من الرِّيبَة ولم يُضَيِّعْهَا وَالِدَاهَا.
والمَوْضِعُ: مَسْقِطٌ كمَقْعَدٍ ومَنْزِلٍ الأُولَى نادِرَةٌ نَقَلَهَا الأَصْمَعِيُّ، يُقَال: هذا مَسْقَط الشَّيْءِ ومَسْقِطُهُ؛ أَي مَوضِعُ سُقُوطِه.
وقال الخَلِيلُ: يُقَال: سَقَطَ الوَلَدُ من بَطْنِ أُمِّهِ؛ أَي خَرَجَ، ولا يُقَال: وَقَعَ، حِينَ تَلِدُه، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ والصّاغَانِيُّ. وفي الأَساسِ: ويُقَال: سَقَطَ المَيِّتُ من بَطْنِ أُمِّه، ووَقَعَ الحَيُّ.
ومن المَجَازِ: سَقَطَ الحَرُّ يَسْقُطُ سُقُوطًا؛ أَي وَقَعَ، وأَقْبَلَ ونَزَلَ.
ويُقَال: سَقَطَ عَنَّا الحَرُّ، إِذا أَقْلَعَ، عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ، كأَنَّه ضِدٌّ.
ومن المَجَازِ: سَقَطَ في كَلامِه وبِكَلامِه سُقُوطًا، إِذا أَخْطَأَ، وكذلِكَ أَسْقَطَ في كَلامِه.
ومن المَجَازِ: سَقَطَ القومُ إِليَّ سُقُوطًا: نَزَلُوا عَلَيَّ، وأَقْبَلُوا، ومنه الحَدِيثُ: «فَأَمَّا أَبو سَمّالٍ فسَقَطَ إِلى جِيرَانٍ له» أَي أَتَاهُمْ «فأَعَاذُوهُ وسَتَرُوهُ».
ومِنَ المَجَازِ: هذا الفِعْلُ مَسْقَطَةٌ له من أَعْيُنِ النّاسِ، وهو أَنْ يَأْتِيَ بما لا يَنْبَغِي. نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وصاحِبُ اللِّسَانِ.
ومَسْقِطُ الرَّأْسِ: المَوْلِدُ، رَوَاه الأَصْمَعِيُّ بفتح القافِ، وغيرُه بالكَسْر، ويُقَال: البَصْرَةُ مَسْقَطُ رَأْسِي، وهو يَحِنُّ إِلى مَسْقَطِهِ، يعني حَيْثُ وُلِدَ، وهو مَجَازٌ، كما في الأَسَاسِ.
وتَسَاقَطَ الشَّيْءُ: تَتَابع سُقُوطُهُ.
وسَاقَطَهُ مُسَاقَطَةً، وسِقَاطًا: أَسْقَطَه، وتَابَعَ إِسْقَاطَهُ، قال ضابِئُ بنُ الحارِثِ البُرْجُمِيُّ يَصِفُ ثَوْرًا والكلابَ:
يُسَاقِطُ عنه رَوْقُهُ ضَارِيَاتِهَا *** سِقَاطَ حَدِيدِ القَيْنِ أَخْوَلَ أَخْوَلَا
قوله: أَخْوَلَ أَخْوَلَا؛ أَي مُتَفَرِّقًا، يعني شَرَرَ النَّارِ.
والسُّقْطُ، مُثَلَّثَةً: الوَلَدُ يَسْقُطُ من بَطْنِ أُمِّه لِغَيْرِ تَمَامٍ، والكَسْرُ أَكثرُ، والذَّكَرُ والأُنْثَى سَواءٌ ومِنهُ الحَدِيثُ: «لأَنْ أُقَدِّمَ سِقْطًا أَحَبُّ إِليَّ من مِائَةِ مَسْتَلْئِمٍ» المُسْتَلْئِم: لابِسُ عُدَّةِ الحَرْبِ، يَعني أَنَّ ثَوَابَ السِّقْطِ أَكْثَرُ من ثَوابِ كِبَار الأَوْلادِ.
وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «يُحْشَرُ ما بَيْنَ السِّقْطِ إِلى الشَّيْخِ الفانِي مُرْدًا جُرْدًا مُكَحَّلِينَ أَولِي أَفَانِينَ». وهي الخُصَل من الشَّعرِ؛ وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «يَظَلُّ السِّقْطُ مُحْبَنْطِئًا على باب الجَنَّة» ويُجْمَع السِّقْطُ على الأَسْقاطِ، قال ابْنُ الرُّومِيّ يَهْجُو وَهْبًا عند ما ضَرَط:
يا وَهْبُ إِنْ تَكُ قد وَلَدْت صَبِيَّةً *** فبحَمْلِهم سَفرًا عليكَ سِبَاطَا
مَنْ كانَ لا يَنْفَكُّ يُنْكَح دَهْرَهُ *** وَلَدَ البَنَاتِ وأَسْقَطَ الأَسْقاطَا
وقد أَسْقَطَتْهُ أُمُّه إِسْقَاطًا، وهي مُسْقِطٌ، ومُعْتَادَتُه: مِسْقَاطٌ، وهذا قد نَقَلَه الزَّمَخْشَرِيُّ في الأَسَاس. وعِبَارَةُ الصّحاحِ والعُبَابِ: وأَسْقَطَت النّاقَةُ وغَيْرُها، إِذا أَلْقَتْ وَلَدَهَا، والَّذِي في أَمَالِي القَالِي، أَنَّه خاصٌّ بِبَنِي آدَمَ، كالإِجْهَاضِ للنّاقَةِ، وإِليه مال المُصَنِّف. وفي البَصَائر: في أَسْقَطَت المَرْأَةُ، اعْتُبِرَ الأَمْرَانِ: السُّقُوطُ من عالٍ، والرَّدَاءَةُ جميعًا، فإِنَّهُ لا يُقَال أَسْقَطت المرأَةُ إِلاّ في الّذِي تُلْقِيه قَبْلَ التَّمَامِ، ومنه قِيلَ لذلِكَ الوَلَدِ: سِقْطٌ.
قال شَيْخُنَا: ثُمَّ ظَاهِرُ المُصَنِّف أَنَّهُ يُقَال: أَسْقَطَت الوَلَدَ، لأَنَّهُ جاءَ مُسْنَدًا للضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: أَسْقَطَتْهُ، وفي المِصْباحِ، عن بَعْضِهِم: أَماتَت العرَبُ ذِكَرْ المفعولِ فلا يَكَادُونَ يقولون: أَسْقَطَت سِقْطًا، ولا يُقَال: أُسْقِطَ الوَلَدُ، بالبِنَاءِ للمَفْعُولِ، قلتُ: ولكن جاءَ ذلِكَ في قَوْلِ بَعْضِ العَرَب:
وأُسْقِطَت الأَجِنَّةُ في الوَلَايَا *** وأُجْهِضَتِ الحَوَامِلُ والسِّقَابُ
والسَّقْطُ: ما سَقَطَ بينَ الزَّنْدَيْنَ قَبْلَ اسْتِحْكَام الوَرْيِ، وهو مَثَلٌ بذلِك، كما في المُحْكَمِ ويُثَلَّثُ، كما في الصّحاحِ، وهو مُشَبَّه بالسّقْطِ للوَلَدِ الَّذِي يَسْقُطُ قبلَ التَّمَامِ، كما يَظْهَرُ من كَلامِ المُصَنِّفِ، وصَرّحَ به في البَصَائِرِ. وفي الصّحاحِ: سَقْطُ النّارِ: مَا يَسْقُطُ مِنْهَا عندَ القَدْح، ومِثْلُه في العُبَابِ، قالَ الفَرّاءُ: يُذَكَّرُ ويُؤَنَّث قال، ذُو الرُّمَّة:
وسِقْطٍ كعَيْنِ الدِّيك عَاوَدْتُ صاحِبِي *** أَباهَا، وهَيَّأْنَا لِمَوْقِعها وَكْرَا
والسَّقْطُ: حيثُ انْقَطَعَ مُعظَمُ الرِّمْلِ ورَقَّ، ويُثَلَّثُ أَيْضًا، كما صَرَّح به الجَوْهَرِيُّ والصّاغَانِيُّ وقد أُغْفِل عن ذلِكَ فيه وفي الّذِي تَقَدَّم، ثم إِنَّ عِبَارَةَ الصّحاحِ أَخْصَرُ من عِبارَتهِ، حيثُ قال: وسِقْط الرَّمْلِ: مُنْقَطَعُه، وأَمَّا قولُه «رَقَّ» فهُوَ مَفْهُومٌ من قوله: «مُنْقَطَعُه» لأَنَّه لا يَنْقَطِعُ حَتَّى يَرِقَّ، كمَسْقَطِهِ، كمَقْعَدٍ، على القِيَاسِ، ويُرْوَى: كمَنْزِلٍ، على الشٌّذوذِ، كما في اللِّسَانِ، وأَغْفَلَه المُصَنِّفُ قُصُورًا.
وقِيل: مَسْقَطُ الرَّمْلِ حيثُ يَنْتَهِي إِليه طَرَفُه، وهو قَرِيبٌ من القَوْلِ الأَوَّلِ، وقال امْرُؤُ القَيْسِ:
قِفَا نَبْكِ من ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ *** بسِقْطِ اللِّوَى بين الدَّخُولِ فحَوْمَلِ
والسَّقْط، بالفَتْحِ: الثَّلْجُ، وأَيضًا: مَا يَسْقُطُ من النَّدَى، كالسَّقِيطِ، فيهما، كما سَيَأْتِي للمُصَنِّفِ قَرِيبًا، ومن الأَوَّلِ قولُ هُدْبَةَ بنِ خَشْرَمٍ:
ووَادٍ كجَوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُه *** تَرَى السَّقْطَ في أَعْلامِه كالكَرَاسِفِ
والسَّقْطُ: من لا يُعَدُّ في خِيَارِ الفِتْيَانِ، وهو الدّنِيءُ الرَّذْلُ كالسّاقِطِ وقِيل: السّاقِطُ اللَّئيمُ في حَسَبِهِ ونَفْسِه.
ويُقَالُ للرجُلِ الدَّنِيءِ: ساقِطٌ مَاقِطٌ، كما في اللِّسَانِ، والَّذِي في العُبَابِ: وتَقُول العَرَبُ: فُلانٌ ساقِطُ ابنُ ماقِطِ ابنِ لاقِطٍ، تَتَسابُّ بها. فالسّاقِطُ: عَبْدُ المَاقِطِ، والمَاقِطُ: عَبْدُ اللاَّقِط، والَّلاقِطُ: عَبْدٌ مُعْتَقٌ.
ومِنَ المَجَازِ: قَعَدَ في سِقْطِ الخِبَاءِ، وهو بالكَسْرِ:
ناحِيَةُ الخِبَاءِ كما في الصّحاح، ورَفْرَفُهُ، كما في الأَساسِ، قال: اسْتُعِيرَ من سِقْطِ الرَّمْلِ، وللخِبَاءِ سِقْطَانِ.
ومِنَ المَجَازِ: السِّقْطُ: جَنَاحُ الطّائرِ، كسِقَاطِه، بالكَسْرِ، ومَسْقَطِهِ، كمَقْعَدِه، ومنه قَوْلُهم: خَفَقَ الظَّليمُ بسِقْطَيْه. وقيل: سِقْطَا جَنَاحَيْه: ما يَجُرُّ منهُمَا على الأَرْضِ، يُقَال: رَفَعَ الظَّلِيمُ سِقْطَيْهِ ومَضَى.
ومنَ المَجَازِ: السِّقْطُ: طَرَفُ السَّحَابِ حَيْثُ يُرَى كأَنَّه سَاقِطٌ على الأَرْضِ في نَاحِيَةِ الأُفُقِ، كما في الصّحَاح، ومنه أُخِذَ سِقْطُ الخِبَاءِ.
والسَّقَطُ، بالتَّحْرِيكِ: ما أُسْقِطَ من الشَّيْءِ وتُهُووِنَ به، وسَقَطُ الطَّعَامِ: ما لا خَيْرَ فِيهِ منه، ج: أَسْقَاطٌ. وهو مَجَازٌ.
والسَّقَطُ: الفَضِيحَةُ، وهو مَجَازٌ أَيْضًا.
وفي الصّحاحِ: السَّقَطُ: رَدِيءُ المَتَاعِ، وقال ابنُ سِيدَه: سَقَطُ البَيْتِ خُرْثِيُّه؛ لأَنَّه سَاقِطٌ عن رَفِيعِ المَتَاعِ، والجَمْع: أَسْقَاطٌ، وهو مَجَازٌ. وقال اللَّيْثُ: جمعُ سَقَطِ البَيْتِ: أَسْقَاطٌ؛ نحو الإِبْرَةِ والفَأْسِ والقِدْرِ ونَحْوِهَا. وقيل: السَّقَطُ: ما تُنُووِلَ بَيْعُه من تَابِلٍ ونَحْوِه، وفي الأَسَاسِ: نَحْو سُكَّرٍ وزَبِيبٍ. وما أَحْسَنَ قولَ الشّاعِر:
وما لِلْمَرْءِ خَيْرٌ في حَيَاةٍ *** إِذا ما عُدَّ من سَقَطِ المَتَاعِ
وبائعُه: السَّقَّاطُ، ككَتَّانٍ، والسَّقَطِيُّ، مُحَرَّكةً، وأَنْكَرَ بَعْضُهم تَسْمِيَتَه سَقّاطًا، وقال: ولا يُقَالُ سَقّاط، ولكن يُقَال: صَاحِبُ سَقَطٍ. قلتُ: والصَّحِيحُ ثُبُوتُه، فقد جاءَ في حَدِيثِ ابْنِ عُمَر أَنَّه «كان لا يَمُرُّ بسَقَّاطٍ ولا صَاحِبِ بِيعَةٍ إِلاّ سَلَّمَ عَلَيْه» والبِيعَةُ من البَيْع، كالجِلْسَةِ من الجُلوس، كما فِي الصّحاحِ والعُبَابِ.
ومِن الأَخِير: سَرِيُّ بنُ المُغَلّس السَّقَطِيُّ يُكْنَى أَبا الحَسَنِ، أَخَذَ عن أَبِي مَحْفُوظٍ مَعْرُوفِ بنِ فَيْرُوز الكَرْخِيِّ، وعنه الجُنَيْدُ وغيرُه، تُوُفّيَ سنة 251 ومن الأَوّلِ شيخُنَا المُعَمَّر المُسِنُّ، عليُّ بنُ العَرَبِيّ بن مُحَمّدٍ السَّقّاطُ الفَاسِيُّ، نزيلُ مصرَ، أَخَذَ عن أَبيهِ وغَيْره، تُوُفِّي بمصر سنة 1183.
ومن المَجَاز: السَّقَطُ: الخَطَأُ في الحِسَابِ والقَوْلِ، وكذلِكَ السَّقطُ في الكِتَابِ. وفي الصّحاح: السَّقَطُ: الخَطَأُ في الكِتَابَةِ والحِسَابِ، يقال: أَسْقَطَ في كَلَامِه، وتَكَلَّم بكلامٍ فما سَقَطَ بحَرْفٍ، وما أَسْقَطَ حَرْفًا، عن يَعْقُوبَ، قال: وهو كما تَقُول: دَخَلْتُ به وأَدْخَلْتُه، وخَرَجْتُ به، وأَخْرَجْتُه، وعَلَوْتُ به وأَعْلَيْتُه. انْتَهَى، وزاد في اللِّسَان: وسُؤْتُ به ظَنًّا وأَسَأْتُ به الظَّنَّ، يُثْبِتُونَ الأَلِفَ إِذا جاءَ بالأَلِف والّلام. كالسِّقَاطِ، بالكسْر، نَقَلَه صاحِبُ اللِّسَانِ.
والسُّقَاطَةُ، والسُّقَاطُ، بضَمِّهما: ما سَقَطَ من الشَّيْءِ وتُهُووِنَ به من رذالَةِ الطَّعَامِ والثِّيابِ ونحوها، يقَال أَعْطَانِي سُقَاطَةَ المَتَاعِ، وهو مَجَازٌ. وقال ابنُ دُرَيْدٍ: سُقَاطَةُ كُلِّ شيْءٍ: رُذَالَتُه. وقِيل: السُّقَاطُ جَمْعُ سُقَاطَةٍ.
ومن المجاز: سُقِطَ في يَدِهِ وأَسْقِطَ في يَدِه، مَضْمُومَتَيْن؛ أَي زَلَّ وأَخْطَأَ. وقِيلَ: نَدِمَ، كما في الصّحاح، زاد في العُبَاب: وتَحَيَّرَ، قال الزَّجّاجُ: يُقَال للنّادِم على ما فَعَل الحَسِرِ على ما فَرَط منه: قد سُقِطَ في يَدِه، وأُسْقِط. وقال أَبُو عَمْرٍو: لا يُقَال: أُسْقِط، بالأَلف، على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه. وأَحْمَدُ بن يَحْيَى مثلُه، وجَوَّزَه الأَخْفَشُ، كما في الصّحاحِ، وفي التَّنْزِيلِ العَزِيز: {وَلَمّا} سُقِطَ {فِي أَيْدِيهِمْ}. قال الفَارِسِيُّ: ضَرَبُوا أَكُفَّهُم على أَكُفِّهم من النَّدَمِ، فإِن صَحَّ ذلِك فهو إِذَنْ من السُّقُوط، وقال الفَرَّاءُ: يُقَال: سُقِطَ في يَدِه، وأُسْقِطَ، من النَّدَامَة، وسُقِطَ أَكثَرُ وأَجْوَدُ. وفي العُبَاب: هذا نَظْمٌ لم يُسْمَعْ قبلَ القُرْآنِ ولا عَرَفَتْهُ العَرَبُ، والأَصْلُ فيه نُزُولُ الشَّيْءِ من أَعْلَى إِلى أَسْفلَ ووُقُوعُه على الأَرْضِ، ثمّ اتُّسِعَ فيه، فقِيلَ للخَطَإِ من الكَلامِ: سَقَطٌ؛ لأَنَّهُم شَبَّهُوه بما لا يُحْتَاجُ إِليه فيُسْقَطُ، وذَكَرَ اليَدَ لأَنَّ النَّدَمَ يَحْدُثُ في القَلْبِ وأَثَرُه يَظْهَرُ في اليَدِ، كقَوْلِه تَعَالَى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها} ولأَنَّ اليَدَ هيَ الجَارِحَةُ العُظْمَى فرُبَّمَا يُسْنَدُ إِليها ما لَمْ تُبَاشِرْه، كقَوْلهِ تعَالَى: {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ}.
والسَّقِيطُ: الناقِصُ العَقْلِ، عن الزَّجَاجِيِّ، كالسَّقِيطَةِ، هكذا في سائِرِ أُصُولِ القَامُوسِ، وهُوَ غَلَطٌ، والصَّوابُ كالسّاقِطَةِ، كما في اللِّسَانِ وأَمَّا السَّقِيطَةُ فأُنْثَى السَّقِيطِ، كما هو نَصُّ الزَّجّاجِيِّ في أَمالِيه.
وسَقِيطُ السَّحَابِ: البَرَدُ.
والسَّقِيطُ: الجَلِيدُ، طائِيَةٌ، وكلاهُمَا من السُّقوط.
والسَّقِيطُ: ما سَقَطَ من النَّدَى على الأَرْضِ، قال الرّاجِزُ:
ولَيْلَةٍ يا مَيَّ ذاتِ طَلِّ *** ذاتِ سَقِيطٍ ونَدًى مُخْضَلِّ
طَعْمُ السُّرَى فيها كطَعْمِ الخَلِّ
كما في الصّحاحِ. ولكنَّه اسْتَشْهَدَ به على الجَلِيدِ والثَّلْجِ، وقال أَبو بَكْرِ بنُ اللَّبَانَة:
بَكَتْ عند تَوْدِيعِي فما عَلِمَ الرَّكْبُ *** أَذاكَ سَقِيطُ الظِّلِّ أَمْ لُؤْلُؤٌ رَطْبُ
وقال آخر:
واسْقُطْ عَلَيْنَا كسُقُوطِ النَّدَى *** لَيْلَةَ لا نَاهٍ ولا زاجِرُ
ويُقَال: ما أَسْقط كلمةً وما أَسْقَطَ حَرْفًا، وما أَسْقَطَ فِيها؛ أَي في الكَلِمَةِ؛ أَي ما أَخْطَأَ فِيهَا، وكذلِكَ مَا سَقَط به، وهو مَجَازٌ، وقد تَقَدَّم هذا قريبًا.
وأَسْقَطَه، هكذا في أُصولِ القامُوسِ، وهو غَلَطٌ، والصّوابُ: اسْتَسْقَطَهُ، وذلِك إِذا طَلَب سَقَطَه وعالَجَه على أَن يَسْقُطَ فيُخْطِئَ أَو يَكْذِبَ أَو يَبُوحَ بما عِنْدَه، وهو مَجازٌ، كتَسَقَّطَهُ، وسَيَأْتِي ذلِكَ للمُصَنِّفِ في آخِرِ المادّة.
والسَّوَاقِطُ: الَّذِين يَردُون اليَمَامَةَ لامْتِيَارِ التَّمْرِ، وهو مَجَازٌ، من سَقَطَ إِليه، إِذا أَقْبَلَ عليه.
والسِّقَاطُ ككِتَابٍ: ما يَحْمِلُونَه من التَّمْرِ، وهو مَجَازٌ أَيْضًا، كأَنَّه سُمِّيَ به لكَوْنِه يَسْقُطُ إِليه من الأَقْطارِ.
والسَّاقِطُ: المُتَأَخِّر عن الرِّجَالِ، وهو مَجازٌ.
وسَاقَطَ الشَيْءَ مُساقَطَةً وسِقَاطًا: أَسْقَطَهُ، كما في الصّحاحِ، أَو تَابَعَ إِسْقَاطَه، كما في اللِّسَانِ، وهذا بعَيْنِهِ قد تَقَدَّم في كَلامِ المُصَنِّف، وتَفْسِيرُ الجَوْهَرِيِّ وصاحبِ اللِّسَان وَاحِدٌ، وإِنَّمَا التَّعْبيرُ مختلِفٌ، بل صاحِبُ اللسان جَمَعَ بينَ المَعْنَيَيْنِ فقال: أَسْقَطَه، وتابَعَ إِسْقَاطَه، فهو تَكْرَارٌ محضٌ في كَلامِ المُصَنِّفِ، فتَأَمَّلْ.
ومن المَجَاز: ساقَطَ الفَرَسُ العَدْوَ سِقَاطًا: جاءَ مُسْتَرْخِيًا فيهِ، وفي المَشْيِ، وقِيلَ: السِّقَاطُ في الفَرَس أَن لا يَزَالَ مَنْكُوبًا. ويُقَالُ للفَرَسِ: إِنّه لسَاقِطُ الشَّدِّ، إِذا جاء منه شَيْءٌ بعدَ شيْءٍ، كما فِي الأَسَاسِ. وقال الشاعر:
بِذي مَيْعَةٍ كَأَنَّ أَدْنَى سِقَاطِه *** وتَقْرِيبِه الأَعْلَى ذَآلِيلُ ثَعْلَبِ
ومن المَجَاز: سَاقَطَ فُلانٌ فُلانًا الحديثَ، إِذا سَقَطَ من كُلٍّ على الآخَرِ. وسِقَاطُ الحَدِيثِ بأَنْ يَتَحَدَّثَ الوَاحِدُ ويُنْصِتَ له الآخَرُ، فإِذا سَكَتَ تَحَدَّثَ الساكِتُ، قال الفَرزدقُ:
إِذا هُنَّ ساقَطْنَ الحَدِيثَ كَأَنَّه *** جَنَى النَّحْلِ أَو أَبْكارُ كَرْمٍ تُقَطَّفُ
قلتُ: وأَصْلُ ذلِكَ قولُ ذِي الرُّمَّة:
ونِلْنَا سِقَاطًا من حَدِيثٍ كَأَنَّهُ *** جَنَى النَّحْلِ مَمْزُوجًا بمَاءِ الوَقَائعِ
ومنه أَخَذ الفرزدقُ وكَذلِكَ البُحْتِريُّ حَيْثُ يَقولُ:
ولَمَّا الْتَقَيْنَا والنَّقَا مَوْعِدٌ لَنَا *** تَعَجَّبَ رائِي الدُّرِّ مِنَّا ولَاقِطُهْ
فمِن لُؤْلُؤٍ تَجْلُوه عِنْدَ ابْتِسَامِها *** ومن لُؤْلُؤٍ عند الحَدِيثِ تُسَاقِطُهْ
وقيل: سِقَاطُ الحَدِيثِ هو: أَنْ يُحَدِّثَهم شَيْئًا بعد شَيْءٍ، كما في الأَساسِ. ومن أَحْسَنِ ما رَأَيْتُ في المُسَاقَطَةِ قولُ شَيْخِنا عبدِ الله بن سلام المُؤَذِّنِ يُخَاطِبُ به المَوْلَى عليَّ بنَ تاجِ الدِّينِ القلعيّ، رَحِمَهُما الله تَعَالَى وهو:
أُساقِطُ دُرًّا إِذْ تَمَسُّ أَنامِلِي *** يَرَاعِي وِعقْيَانًا يَرُوقُ وَمرْجانَا
أُحَلِّي بها تاجَ ابنَ تَاجٍ عَلِيَّنَا *** فلا زَالَ، مَوْلَانَا الأجَلَّ ومَرْجانَا
ورَوْضَا النَّدَى والجُودِ قالا لنا اطْلُبُوا *** جَمِيعَ الَّذِي يُرْجَى فكَفّاهُ مَرْجانَا
والسَّقاطُ، كشَدَّادِ وسَحَابٍ، وعَلَى الأَوّلِ اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ والصّاغَانِيُّ وصاحِبُ اللِّسَانِ: السَّيْفُ يَسْقُطُ من وَرَاءِ الضَّرِيبَةِ ويَقْطَعُهَا حتّى يَجُوزَ إِلى الأَرضِ، وفي الصّحاح: يَقْطَعها، وأَنْشَدَ للمُتَنَخِّلِ:
يُتِرُّ العَظْمَ سَقّاطٌ سُرَاطِي
أَو يَقْطَعَ الضَّرِيبَةَ، ويَصِلَ إِلى ما بَعْدَها، وقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: سَيفٌ سَقّاطٌ هو الَّذِي يَقُدُّ حتَّى يَصِلَ إِلى الأَرْضِ بعدَ أَنْ يَقْطَع، وفي شَرْح الدِّيوَانِ: أَيْ يَجُوزُ الضَّرِيبَةَ فيَسْقُطُ، وهو مجاز.
والسِّقَاطُ، ككِتَابٍ: ما سَقَطَ من النَّخْلِ ومن البُسْرِ، يَجُوزُ أَنْ يكونَ مُفْردًا، كما هو ظاهِرُ صَنِيعِه، أَو جَمْعًا لسَاقِطٍ.
ومن المَجَاز: السِّقَاطُ: العَثْرَةُ والزَّلَّةُ، كالسَّقْطَةِ، بالفَتْح، قال سُوَيْدُ بنُ أَبِي كاهِلٍ اليَشْكُرِيُّ:
كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَمَا *** جَلَّلَ الرَّأْسَ مَشِيبٌ وصَلَعْ
وفي العُبَابِ: «لاحَ فِي الرَّأْسِ».
أَو هي جَمْعُ سَقْطَةٍ، يقال: فُلانٌ قليلُ السِّقَاط، كما يُقَال: قليل العِثَارِ، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّيّ ليَزِيدَ بنِ الجَهْمِ الهِلالِيِّ:
رَجَوْتِ سِقَاطِي واعْتِلالِي ونَبْوَتِي *** وَرَاءَكِ عَنِّي طالِقًا وارْحَلِي غَدَا
أَو هُمَا بمَعْنًى وَاحِد، فإِنْ كَانَ مُفْرَدًا فهو مَصْدَرُ سَاقَطَ الرَّجُلُ سِقَاطًا، إِذا لم يَلْحَقْ مَلْحَقَ الكِرَامِ.
ومَسْقَط، كمَقْعَدٍ: د، على ساحِلِ بَحْرِ عُمَانَ، ممّا يَلِي بَرَّ اليَمَنِ. يُقَال: هو مُعَرَّبُ مَشْكَت.
ومَسْقَط: رُسْتاقُ بسَاحِلِ بَحْر الخَزَرِ، كما في العُبَابِ. قلتُ: هي مَدِينَةٌ بالقُرْبِ من بابِ الأَبْواب، بَنَاهَا أَنُوشَرْوانَ بنُ قُبَاذَ بنِ فَيْرُوزَ المَلِكُ.
ومسْقَطُ الرَّمْلِ: وَادٍ بينَ البَصْرَةِ والنِّبَاجِ، وهو في طَرِيق البَصْرَة.
ومن المجَاز: تَسَقَّطَ الخَبَرَ وتَبَقَّطَه: أَخَذَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، رَوَاه أَبُو تُرَابٍ عن أَبِي المِقْدَام السُلَمِيِّ.
ومن المَجَازِ: تَسَقَّطَ فُلَانًا: طَلَبَ سَقَطَه، كما في الصّحاحِ، زاد في اللِّسانِ وعَالَجَهُ على أَنْ يَسْقُطَ، وأَنَشَدَ الجوْهَريُّ لجَرِيرٍ:
ولقد تَسَقَّطَنِي الوُشاةُ فصَادَفُوا *** حَصِرًا بِسِرِّك يا أُمَيْمَ ضَنِينَا
وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
السَّقْطَةُ بالفَتْحِ: الوَقْعَةُ الشَّدِيدَةُ.
وسَقَطَ على ضَالَّتِه: عَثَرَ على مَوْضِعها، ووَقَع عليها، كما يَقَعُ الطّائرُ على وَكْره، وهو مَجازٌ.
ومِنْ أَقْوَالِه صلى الله عليهوسلم للحارِثِ بنِ حَسّان حينَ سَأَلَه عن شَيْءٍ: «علَى الخَبِيرِ سَقَطْتَ» أَي على العارِفِ وَقَعْتَ، وهو مَثَلٌ سائرٌ للعَرَب.
وتَسَاقَطَ على الشَّيْءِ: أَلْقَى نَفْسَه عليه، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
وأَسْقَطَه هو، ويُقَال: تَسَاقَطَ على الرَّجُل يَقِيه نَفْسَه.
وهذا مَسْقِطُ السَّوْطِ: حيثُ يَقَع، ومَسَاقِطُ الغَيْثِ: مَوَاقِعُه. ويُقال: أَنا في مَسْقِطِ النَّجْمِ؛ أَي حَيْثُ سَقَط.
نقلَه الجَوْهريُّ.
ومَسْقِطُ كُلِّ شيْءٍ؛ مُنْقَطَعُه، وأَنْشَد الأَصْمَعِيُّ:
وَمَنْهَلٍ من الفَلَا في أَوْسَطِهْ *** مِنْ ذا وهذاكَ وذَا في مَسْقِطِه.
وسَقَطَ الرَّجُلُ: إِذا وَقَعَ اسْمُه من الدِّيوانِ. وقد أَسْقَطَ الفارِضُ اسْمَه، وهُو مَجاز.
والسَّقِيطُ: الثَّلْجُ، نَقَلَه الجَوْهَريّ، ويُقَال: أَصْبحَت الأَرْضُ مُبْيَضَّةً من السَّقِيطِ، وقيل: هو الجَلِيدُ الَّذِي ذَكَرَه المُصَنّفُ.
ومن أَمْثَالِهِمْ.
سَقَطَ العَشاءُ به عَلَى سِرْحَانِ
يُضْرَب للرَّجُلِ يَبْغِي البُغْيَةَ فيَقَع في أَمْرٍ يُهْلِكُه، وهو مَجَاز.
وأَسْقَاطُ الناسِ أَوْبَاشُهم، عن اللِّحْيَانيّ، وهو مَجاز.
ويُقَال: في الدَّارِ أَسْقَاطٌ [مِن النَّاسِ] وأَلْقَاطٌ. وقال النابِغَةُ الجَعْديّ.
إِذا الوَحْشُ ضَمَّ الوَحْشَ في ظُلُلَاتِهَا *** سَوَاقِطُ من حَرٍّ، وقد كان أَظْهَرَا
من سَقَطَ، إِذا نَزَل ولَزِمَ مَوْضِعَه، ويُقَال: سَقَطَ فلانٌ مَغْشِيًّا عليه.
وأَسْقَطُوا له بالكَلام، إِذا سَبُّوه بسَقَطِ الكَلَامِ ورديئِهِ، وهُوَ مَجَاز.
والسَّقْطَةُ: العَثْرَةُ والزَّلَّة، يُقَال: لا يَخْلُو أَحَدٌ من سَقْطَةٍ، وفلانٌ يَتَتَبَّع السَّقَطَاتِ ويَعُدُّ الفَرَطَات، والكامِلُ من عُدَّت سَقَطاتُه، وهو مَجَازٌ، وكذلِك السَّقَط بغَيْرِ هاءٍ، ومنه قولُ بعضِ الغُزاةِ في أَبْيَاتٍ كَتَبَهَا لسيِّدِنا عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْه:
يُعَقِّلُهُنَّ جَعْدَةُ من سُلَيْمٍ *** مُعِيدًا يَبْتَغِي سَقَطَ العَذَارَى
أَي: عَثرَاتِهَا وزَلاّتِهَا. والعَذَارَى: جمع عَذْراءَ. وقد تَقَدَّم ذِكرٌ لبَقِيَّةِ هذه الأَبْيَاتِ.
وساقَطَ الرَّجُلُ سِقَاطًا، إِذا لم يَلْحَقْ مَلْحَقَ الكِرَامِ، وهو مَجازٌ.
وسَقَطَ في يَدِه، مَبْنِيًّا للفاعلِ، مثل سُقِطَ بالضَّمِّ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عن الأَخْفَشِ، قال: وبه قَرَأَ بعضُهُم ولَمَّا سَقَطَ في أَيدِيهم كما تَقُولُ لمَنْ يَحْصُلُ على شَيْءٍ، وإِن كان مِمّا لا يَكُونُ في اليَدِ: قد حَصَلَ في يَدِه مِنْ هذا مَكْرُوهٌ، فشُبِّه ما يَحْصُلُ في القَلْب وفي النَّفْس بما يَحْصُلُ في اليَدِ، ويُرَى في العَيْن، وهو مَجازٌ أَيْضًا. وقولُ الشّاعرِ أَنْشَدَه ابنُ الأَعْرَابِيِّ:
ويَوْمٌ تَسَاقَطُ لَذَّاتُه *** كنَجْمِ الثُرَيَّا وأَمْطَارِهَا
أَي تَأْتِي لَذّاتُه شَيْئًا بعدَ شَيْءٍ، أَرادَ أَنَّه كَثِيرُ اللَّذَاتِ.
والسّاقِطَةُ: اللَّئِيمُ في حَسَبِه ونَفْسِه، وقَوْمٌ سَقْطَى، بالفَتْحِ، وسُقّاطٌ، كرُمّانٍ، نقله الجَوْهَرِيُّ. ومنه قَوْلُ صَرِيعِ الدِّلاءِ:
قد دُفِعْنَا إِلى زَمانٍ خَسِيسٍ *** بينَ قَوْمٍ أَراذِلٍ سُقَّاطِ
وفي التَّهْذِيبِ: وجمعُه السَّوَاقِطُ، وأَنْشَدَ:
نَحْنُ الصَّمِيمُ وهُمُ السَّوَاقِطُ
ويُقَال للمَرْأَةِ الدَّنِيَّةِ الحمقاءِ: سَقِيطَةٌ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
وسَقَطُ النّاسِ: أَراذِلُهُم وأَدْوَانُهم، ومنه حَدِيثُ النّارِ: «ما لِي لا يَدْخُلُني إِلاّ ضُعفَاءُ النّاسِ وسَقَطُهم».
ويُقَال للفَرَس إِذا سَابَقَ الخَيْلَ: قد سَاقَطَهَا. وهو مَجازٌ، ومنه قَوْلُ الرّاجِزِ:
ساقَطَهَا بنَفَسٍ مُرِيحِ *** عَطْفَ المُعَلَّى صُكَّ بالمَنِيحِ
وهَذَّ تَقْرِيبًا مَعَ التَّجْلِيحِ
وقال العَجّاجُ يَصِفُ الثَّوْرَ:
كَأَنَّه سِبْطٌ من الأَسْبَاطِ *** بَيْنَ حَوَامِي هَيْدَبٍ سُقّاطِ
أَي نَوَاحِي شَجَرٍ مُلْتَفِّ الهَدَبِ، والسُّقّاطُ: جمع السّاقِطِ، وهو المُتَدَلِّي.
وسِقَاطَا اللَّيْلِ، بالكَسْرِ: نَاحِيَتَا ظَلامِه، وهو مَجَازٌ.
وكذلِك سِقْطَاه، وبه فُسِّرَ قولُ الرّاعِي، أَنْشَدَه الجَوْهَرِيُّ:
حَتَّى إِذا ما أَضَاءَ الصُّبْحُ وانْبَعَثَتْ *** عَنْهُ نَعَامَةُ ذِي سِقْطَيْنِ مُعْتَكِرِ
قال: فإِنَّه عَنَى بالنَّعامَةِ سَوَادَ اللَّيْلِ، وسِقْطَاه: أَوَّلُه وآخِرُه، وهو عَلَى الاسْتِعَارَةِ، يَقُولُ: إِنَّ اللَّيْلَ ذا السِّقْطَيْن مَضَى، وصَدَقَ الصُّبْحُ، وقال الأَزْهَرِيُّ: أَرادَ نَعَامَةَ لَيْلٍ ذِي سِقْطَيْنِ.
وفَرَسٌ رَيِّثُ السِّقَاطِ، إِذا كان بَطِيءَ العَدْوِ، قال العَجّاجُ يَصِفُ فرسًا:
جافِي الأَيادِيمِ بلَا اخْتِلاطِ *** وبالدِّهَاسِ رَيِّث السِّقاطِ
والسَّواقِط: صِغَارُ الجِبَالِ المُنْخَفِضَةِ الّلاطِئَةِ بِالأَرْضِ.
وفي حَدِيثِ [سَعْدٍ]: «كَانَ يُسَاقِطُ في ذلِك عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليهوسلم»؛ أَي يَرْوِيه عَنْهُ في خِلالِ كَلامِهِ، كأَنَّهُ يَمْزُجُ حَدِيثَه بالحَدِيث عنْ رَسُولِ الله صلى الله عليهوسلم.
والسَّقِيطُ: الفَخَّارُ، كذَا ذَكَرَه بعضُهم، أَو الصَّوابُ بالشِّينِ المُعْجَمة، كما سيأْتِي.
ويُقَال: رَدَّ الخَيّاطُ السُّقَاطَاتِ.
وفي المَثَل: «لكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ»؛ أَي لكُلِّ كَلِمَةٍ سَقَطَت من فَمِ النّاطِقِ نَفْسٌ تَسْمَعُها فتَلْقُطُها فتُذِيعُها، يُضْرَب في حِفْظِ اللِّسَانِ.
ويُقَال: سَقَطَ فلانٌ من مَنْزِلَتِه، وأَسْقَطَه السُلْطَانُ.
وهو مَسْقُوطٌ في يَدِه، وسَاقِطٌ في يَدِه: نادِمٌ ذَلِيل.
وسَقَط النَّجْمُ والقَمَرُ: غابَا.
والسَّواقِطُ والسُّقَّاط: اللُّؤَماءُ. وسَقَط فلانٌ من عَيْنِي.
وأَتى وهو مِنْ سُقَّاط الجُنْدِ: مِمّن لا يُعْتَدّ به.
وتَسَاقَطَ إِليَّ خَبَرُ فُلانٍ وكُلّ ذلِكَ مَجَازٌ.
وقَوْمٌ سِقَاطٌ، بالكَسْرِ: جَمْعُ سَاقِطٍ كنائمٍ ونِيَامٍ، وسَقِيط وسِقَاط كطَوِيلٍ وطِوَالٍ، وبه يُرْوَى قولُ المتنخّل:
إِذا ما الحَرْجَفُ النَّكْبَاءُ تَرْمِي *** بُيُوتَ الحَيِّ بالوَرَقِ السِّقَاطِ
ويروى: «السُّقَاط، بالضَّمِّ: جمع سُقَاطَةٍ، وقد تَقَدَّم.
وسَاقِطَةُ: مَوضِعٌ.
ويُقَال: هو سَاقِطَةُ النَّعْلِ.
وفي الحَدِيثِ: «مَرٌّ بتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ» قيل: أَراد ساقِطَة، وقِيلَ: على النَّسَبِ؛ أَي ذاتِ سُقوطٍ، ويُمْكن أَنْ يَكُونَ من الإِسْقَاطِ مثل: أَحَمَّه الله فهو مَحْمُومٌ.
والسَّقَطُ، محرّكةً: ما تُهُووِنَ به من الدّابَّةِ بعد ذَبْحِها، كالقَوَائمِ، والكَرِشِ، والكَبِد، وما أَشْبَهَها، والجَمْعُ أَسْقَاطٌ.
وبائعُه: أَسْقَاطِيٌّ، كأَنْصَارِيٍّ وأَنْماطيٌّ. وقد نُسِبَ هكذا شيخُ مشايِخِنا العَلامّةُ المُحَدِّثُ المُقْرِئُ الشِّهَاب أَحْمَد الأَسْقَاطِيّ الحَنَفِيّ.
وسُقَيْط، كزُبَيْرٍ: لَقَبُ الإِمام شِهَاب الدّين أَحمد بن المَشْتُولِيّ، وفيه أُلّفَ غُرَرُ الأَسْفاط في عُرَرِ الأَسْقاط، وهي رسالة صغيرة متضمنّة على نَوَادِرَ وفرائد، وهي عندي.
وسُقَيْطٌ أَيضًا: لَقَبُ الحُطَيْئَةِ الشّاعرِ، وفيه يَقُول مُنْتَصِرًا له بعضُ الشُّعَرَاءِ، ومُجَاوِبًا مَنْ سَمّاه سُقَيْطا فإِنَّه كان قَصِيرًا جِدًّا:
ومِا سُقَيْطٌ وإِنْ يَمْسَسْكَ وَاصِبُه *** إِلاّ سُقَيْطٌ على الأَزْبَابِ والفُرُجِ
وهو أَيْضًا: لَقَبُ أَحْمَدَ بنِ عَمْرو، مَمْدُوحِ أَبِي عَبْدِ الله بن حَجَّاجٍ الشّاعِر، وكان لا بُدَّ في كُلِّ قَصِيدَةٍ أَنْ يَذْكُرَ لَقَبَه فمن ذلِكَ أَبْيَاتٌ:
فاسْتَمِعْ يا سُقَيْطُ أَشْهَى وأَحْلَى *** مِنْ سَماعِ الأَرْمالِ والأَهْزاجِ
وقوله:
مَدَحْتُ سُقَيْطًا بمِثْلِ العَرُوسِ *** مُوَشَّحَةً بالمَعَانِي المِلَاحِ
والسَّقِيط، كأَمِيرٍ: الجَرْوُ.
ومن أَقْوَالهم: مَن ضَارَعَ أَطْوَلَ رَوْقٍ منه سَقَطَ الشَّغْزَبِيَّة.
وسَقَطَ الرَّجُلُ: ماتَ، وهو مَجَازٌ.
ومن أَقْوَالهم: إِذا صَحَّت المَوَدَّةُ سَقَطَ شَرْطُ الأَدَبِ والتَّكْلِيف.
والسَّقِيطُ: الدُّرُّ المُتَنَاثِرُ، ومنه قولُ الشّاعِر:
كَلَّمَتْنِي فقُلْتُ دُرًّا سَقِيطًا *** فتأَمَّلْتُ عِقْدَها هل تَنَاثَرْ
فازْدَهَاهَا تَبَسُّمٌ فأَرَتْنِي *** عِقْدَ دُرٍّ من التَّبَسُّمِ آخَرْ
والسُّقّاطَةُ، كرُمّانَةٍ: ما يُوضَع على أَعْلَى البابِ تَسْقُط عليه فيَنْقَفِل.
وأَبو عَمْرٍو عُثْمَانُ بن محمَّد بن بِشْر بن سَنَقَةَ السَّقَطِيّ، عن إِبراهِيم الحَرْبِيّ وغيرِهِ، مات سنة 356.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
80-تاج العروس (ربع)
[ربع]: الرَّبْعُ: الدّارُ بعَيْنِهَا حَيْثُ كانَتْ، كما في الصّحاح. وأَنشد الصّاغَانِيّ لزُهَيْرِ بنِ أَبِي سُلْمَى:فلَمّا عَرَفْتُ الدّارَ قُلْتُ لرَبْعِها *** أَلَا انْعَمْ صَباحًا أَيُّهَا الرِّبْعُ واسْلَم
قال الجَوْهَرِيّ: ج: رِباعٌ بالكَسْرِ، ورُبُوعٌ، بالضَّمِّ، وأَرْبَعُ، كأَفْلُسٍ، وأَرْبَاعُ، كزَنْدٍ وأَزْنَادٍ. شاهد الرِّبُوع قَوْلُ الشِّمَاخِ:
تُصِيبُهُمُ وتُخْطِئُنِي المَنَايَا *** وِأَخْلُفُ فِي رُبُوعٍ عَنْ رُبُوعِ
وشاهِدُ الأَرْبُعِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّة:
أَلِلأَرْبُعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّها *** بَقِيَّةُ وَحْيٍ في بُطُونِ الصَّحَائِفِ
وِالرِّبْعُ: المَحَلَّة. يُقالُ: ما أَوْسَع رُبْعَ فُلانٍ. نقله الجَوْهَرِيّ.
وِالرِّبْعُ: المَنْزِلُ والوَطنُ، مَتى كان، وبِأَىِّ مَكانٍ كان، كُلُّ ذلِك مُشتَقٌّ من رَبَعَ بالمَكَانِ يَرْبَع رَبْعًا، إِذا اطمَأَنَّ، والجَمْعُ كالجَمْعِ، ومِنْهُ الحَدِيثُ: «وهَلْ تَرَك لَنا عَقِيلٌ مِنْ رَبْع» ويُرْوَى: مِنْ رِبَاعٍ، أَرادَ به المَنْزِلَ ودَارَ الإِقامَةِ. وفي حَدِيثِ عائِشةَ رضي الله عنها: «أَنَّها أَرادَتْ بَيْعَ رِبَاعِها» أَي مَنازِلها.
وِالرِّبْعُ: النَّعْشُ، يُقَالُ: حَمَلْتُ رَبْعَهُ، أَيْ نَعْشهُ. ويُقَالُ أَيْضًا: رَبَعَهُ الله، إِذا نَعَشهُ. ورَجُلٌ مَرْبُوعٌ، أَىْ مَعْنُوشٌ.
مُنَفَّسٌ عَنه. وهو مَجَازٌ.
وِالرِّبْعُ: جَمَاعَةُ النّاسِ. وقال شِمرٌ: الرُّبُوعُ: أَهْلُ المَنَازِلِ. وبه فُسِّرَ قوْلُ الشَّمّاخ المُتقدَّم.
وِأَخْلُفُ في رُبُوعٍ عنْ رُبُوعٍ
أَيْ في قَوْمٍ بَعْدَ قَوْمٍ. وقال الأَصْمَعِيّ: يُرِيدُ في رَبْعٍ من أَهْلِي، أَىْ في مَسْكَنِهم.
وقال أَبو مالِكٍ: الرَّبْعُ، مِثْلُ السَّكَنِ، وهُمَا أَهْلُ البَيْتِ، وأَنْشَد:
فإِنْ يَكُ رَبْعُ مِنْ رِجالِي أَصابَهُمْ *** مِن الله والحَتْمِ المُطِلَّ شعُوبُ
وقال شَمْرٌ: الرِّبْعُ: يَكُونُ المَنْزِلَ، ويَكُونُ أَهْلَ المَنْزِلِ.
قالَ ابنُ بَرِّيّ: والرِّبْعُ أَيْضًا: العَدَدُ الكَثِيرُ.
وِالرِّبْعُ: المَوْضِعُ يَرْتَبِعُونَ فيه في الرَّبِيعِ خاصَّةً، كالمَرْبَع كمَقْعَدٍ، وهو مَنْزِلُ القَوْمِ في الرَّبِيعِ خاصَّةً.
تَقُولُ: هذِه مَرَابِعُنا ومَصَايِفُنَا، أَيْ حَيْثُ نَرْتَبعُ ونَصِيفُ، كما في الصحّاح.
وِالرِّبْعُ: الرَّجُلُ المُتَوَسِّطُ القامَةِ بَيْنَ الطُّولِ والقِصَرِ، كالمَرْبُوعِ والرَّبْعَة، بالفَتْح ويُحَرَّكُ، والمِرْبَاعِ كمِحْرابِ، ما رَأَيْتُه في أُمِّهاتِ اللُّغَةِ إِلّا صاحِب المُحِيط، ذَكَرَ «حَبْلُ مِرْبَاعٌ بمَعْنَى مَرْبُوعٍ» فَأَخَذَه المُصَنِّفُ وعَمَّ به، والمُرْتَبِعِ مَبْنِيَّا للفاعِلِ وللمَفْعُولِ، وبِهِمَا رُوِيَ قَوْلُ العَجّاج:
رَباعِيًا مُرْتَبعًا أَو شَوْقَبَا
وقد ارْتَبَعَ الرَّجُلُ، إِذا صَارَ مَرْبُوعَ الخِلْقَةِ. وفي الحَدِيثِ: كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَطْوَلَ من المَرْبُوعِ، وأَقْصَرَ مِنَ المُشَذَّبِ» وفي حَدِيثِ أُمَّ مَعْبَدٍ رضي الله عنها: «كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وآل وسلم رَبْعَةً، لا يَأْسَ مِنْ طُولٍ، ولا تَقْتَحِمُه عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ» أَيْ لَمْ يَكُنْ في حَدِّ الرَّبْعَة غَيْرَ مُتَجَاوِزٍ لَهُ، فجَعَلَ ذلِكَ القَدْرَ مِنْ تَجَاوُز حَدَّ الرَّبْعَة عَدَمَ يَأْسٍ مِنْ بَعْضِ الطُّولِ، وفي تَنْكِيرِ الطُّولِ دَلِيْلٌ على مَعْنَى البَعْضِيَّةِ، وهِيَ رَبْعَةٌ أَيضًا بالفَتح والتَّحْرِيكِ، كالمُذَكَّر وجَمْعُهُمَا جَمِيعًا رَبْعاتُ بسُكُونِ الباءِ، حكاهُ ثَعْلَبُ عَنِ ابن الأَعْرَابِيّ، ورَبَعَاتٌ، مُحَرَّكَةً، وهو شاذٌّ، لأَنَّ فَعْلَةً إِذا كانَتْ صِفَةً لا تُحَرَّكُ عَيْنُهَا في الجَمْع وإِنَّمَا تُحَرَّكُ إِذا كانَت اسْمًا، ولم تَكُنِ العَيْنِ، أَىْ مَوْضِعُ العَيْنِ وَاوًا أَو يَاءَ، كما في العُبَاب والصّحاح.
وفي اللِّسَآن: وإِنَّمَا حَرَّكوا رَبعَاتٍ، وإِنْ كانَ صِفَةً، لأَنَّ أَصْلَ رَبْعَة اسْمٌ مُؤَنَّثٌ وَقَعَ عَلَى المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، فوُصِفَ به.
وقال الفَرّاءُ: إِنَّمَا حُرِّكَ رَبَعَاتٌ لِأَنه جاءَ نَعْتًا للْمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، فكأَنَّهُ اسْمُ نُعِتَ بِهِ.
وقالَ الأَزْهَرِىّ: خُولِفَ به طَرِيقُ ضَمْخمَةٍ وضَخْماتٍ، لِاسْتِواءِ نَعْتِ الرَّجُلِ والمَرْأَةِ في قَوْلِهِ: رَجُلٌ رَبْعَةٌ وامْرَأَةٌ رَبْعَةٌ، فصارَ كالاسْمِ، والأَصلُ في باب فَعْلَة من الأَسْمَاءِ ـ مِثْلِ: تَمْرَةٍ وجَفْنَةٍ ـ أَنْ يُجْمَعَ على فَعَلاتٍ، مِثْل تَمَرَاتٍ وجَفَنَاتٍ، وما كانَ مِنَ النُّعُوتِ عَلَى فَعْلِهِ، مَثْلُ شاةٍ لَجْبَةٍ، وامْرَأَةٍ عَبْلَةٍ، أَنْ يُجْمَعَ على فَعْلاتٍ بسُكُونِ العَيْنِ، وإِنَّمَا جُمِعَ رِبْعَةٌ على رَبَعَاتٍ ـ وهُوَ نَعْتُ ـ لأَنَّهُ أَشْبَه الأَسْمَاءَ لاسْتِواءِ لَفْظِ المُذَكَّرِ والمُؤنَّثِ في وَاحِدِهِ. قالَ وقال الفَرَّاءُ: مِن العَرَبِ مَنْ يَقُولُ: امْرَأَةٌ رَبْعَةٌ، ونِسْوَهٌ رَبْعَاتُ، وكَذلِكَ رَجُلُ رَبْعَةُ ورِجَالُ رَبْعُون، فَيْجْعَلُه كسَائرِ النُّعُوتِ.
وِقال ابن السِّكّيت: رَبَعَ الرَّجُلُ يَرْفَعُ، كمَنَعَ: وَقَفَ وانْتَظَرَ وتَحَبَّس، ولَيْسَ في نَصِّ ابنِ السِّكِّيت: انْتَظَرَ، على ما نَقَلَهُ الجَوْهَرِى والصّاغَانِيّ وصاحِبُ اللِّسَانِ ومِنْهُ قَوْلُهُمْ: ارْبَعْ عَلَيْكَ، أَو ارْبَعْ عَلَى نَفْسِكَ، او ارْبَعْ عَلَى ظُلْعِكَ، أَيْ ارْفُق بِنَفْسِكَ، وكُفَّ، كما في الصّحاح، وقِيلَ: مَعْنَاهُ انْتَظِرْ. قال الأَحْوَصُ:
ما ضَرَّ جِيرانَنَا إِذا انْتَجَعُوا *** لَوْ أَنَّهُمْ قَبْلَ بَيْنِهِمْ رَبَعُوا
وفي المُفَرداتِ: وقَوْلُهُم: ارْبَعَ عَلَى ظَلْعِكَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الإِقَامَةِ، أَيْ أَقِمْ عَلَى ظَلْعِكَ، و [يجوز] أَنْ يَكُونَ مِنْ رَبَعَ الحَجَرَ. أَي تَنَاوَلْهُ عَلَى ظَلْعِك انتهى.
وفي حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّة «ارْبَعِي بِنَفْسِك» ويُرْوَى: عَلَى نَفْسِكَ. ولَهُ تَأوِيلانِ.
أَحَدِهما: بمَعْنَى تَوَقَّفِي وانْتَظِري تَمَامَ عِدَّةِ الوَفَاةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُول: عِدَّتُها أَبْعَدُ الأَجَلَيْنِ. وهُوَ مَذْهَبُ عَلِىُّ وابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم.
والثّانِي، أَنْ يَكُون مِن رَبَعَ الرَّجُلُ، إِذا أَخْصَبَ، والمَعْنَى: نَفَّسِي عَنْ نَفْسِكِ وأَخْرَجِيهَا عَنْ بُؤْسِ العِدَّةِ وسُوءِ الحالِ، وهذا على مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ عِدَّتَهَا أَدْنَى الأَجَلَيْنِ، ولهذا قالَ عُمَرُ: إِذا وَلَدَتْ وزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِه ـ يَعْنِي لَمْ يُدْفَنْ ـ جازَ أَنْ تَتَزَوَّجَ.
وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «فإِنَّهُ لا يَرْبَعُ عَلَى ظَلْعِكَ مَنْ لا يَحْزُنُهُ أَمْرُكَ» أَيْ لا يَحْتَبِسُ عَلَيْكِ ويَصْبِر إِلَّا مَنْ يُهِمُّهُ أَمْرُكَ.
وفي المَثَلِ: «حَدَّثْ حَدِيثَيْنِ امْرَأَةً، فإِنْ أَبَتْ فَارْبَعْ» أَيْ كُفَّ. ويُرْوَى بِقَطْعِ الهَمْزَةِ، ويُرْوَى أَيْضًا: «فأَرْبَعَة» أَي زِدْ، لأَنَّهَا أَضْعَفُ فَهْمًا، فإِنْ لَمْ تَفْهَمْ فاجْعَلْها أَرْبَعَة، وأَرادَ بالحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا وَاحِدًا تَكَرَّرُهُ مَرَّتَيْنِ، فكَأَنَّكَ حَدَّثْتَها بِحَدِيثَيْنِ. قال أَبو سَعِيدٍ: فإِنْ لَمْ تَفْهَمْ بَعْدَ الأَرْبَعَةِ فالمِرْبَعَة، يَعْنِي العَصَا. يُضْرَبُ فِي سُوءِ السَّمْع والإِجابَةِ.
وِرَبَعَ يَرْبَعُ رَبْعًا: رَفَعَ الحَجَرَ باليَدِ وشالَهُ: وقِيلَ: حَمَلَهُ امْتِحَانًا للْقُوَّةِ، قالَ الأَزْهَرِيّ: يُقَالُ ذلِكَ في الحَجَرِ خاصَّةً.
ومِنْهُ الحَدِيثُ: «أَنَّهُ مَرَّ بقَوْمٍ يَرْبَعُونَ حَجَرًا فقالَ: ما هذا؟ فقالُوا: هذا [حَجَرُ] الأشِدّاءِ. فقالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَشَدِّكُمْ؟ مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ». وفي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ قالَ: عُمّالُ اللهِ أَقْوَى مِنْ هؤلاءِ».
وِرَبَعَ الحَبْلَ وكَذلِكَ الوَتَرَ: فَتَلَهُ مِنْ أَرْبَع قُوًى؛ أَي طَاقَاتٍ يُقَالُ: حَبْلٌ مَرْبُوعٌ ومِرْبَاعٌ، الأَخِيرَةُ عن ابْنِ عَبّادٍ.
ووَتْرٌ مَرْبُوعٌ، ومِنْهُ قَوْلُ لَبيدٍ:
رَابِطُ الجَأْشِ عَلَى فَرْجِهِمُ *** أَعْطِفُ الجَوْنَ بمَرْبُوعٍ مِتَلّ
قِيلَ: أَيْ بِعِنانٍ شَدِيدٍ مِنْ أَرْبَعِ قُوًى، وقِيلَ: أَرادَ رُمْحًا، وسَيَأْتِي. وأَنْشَدَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي لَيْلَى:
أَتْرَعَهَا تَبَوُّعًا وَمتَّا *** بالمَسَدِ المَرْبُوعِ حَتَّى ارْفَتّا
التَّبَوُّعُ: مَدُّ الباعِ. وارْفَتَّ: انْقَطَعَ.
وِرَبَعَتِ الإِبِلُ تَرْبَعُ رَبْعًا: وَرَدَت الرَّبْعَ، بالكَسْرِ، بِأَنْ حُبِسَتْ عَنِ الماءِ ثَلاثَةَ أَيّامٍ، أَوْ أَرْبَعَةً، أَو ثَلاثُ لَيال، وَوَرَدَتْ في اليَوْمِ الرّابعِ.
وِالرَّبْعُ: ظِمْءٌ مِنْ أَظْمَاءِ الإِبِلِ، وقد اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: هو أَنْ تُحْبَسَ عَنِ الماءِ أَرْبَعًا، ثُمَّ تَرِد الخامِسَ، وقِيلَ: هو أَنْ تَرِدَ الماءَ يَوْمًا وتَدَعَهُ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ تَرِد اليَوْمَ الرّابِع، وقِيل: هو لِثَلاثِ لَيَالٍ وأَرْبَعَةِ أَيّامٍ. وقَدْ أَشَارَ إِلَى ذلِكَ المُصَنَّفُ في سِيَاقِ عِبَارَتِهِ مَعَ تَأَمُّلٍ فِيهِ.
وِهِيَ إِبِلٌ رَوابِعُ، وكَذلِكَ إِلَى العِشْرِ. واسْتَعَارَهُ العَجّاج لِوِرْدِ القطَا، فقال:
وِبَلْدَةٍ يُمْسِي قَطاها نُسَّسَا *** رَوابِعًا وقدْرَ رِبْعِ خُمَّسَا
وِرَبَعَ فُلانٌ يَرْبَعُ رَبْعًا: أَخْصَبَ، مِن الرَّبِيعِ. وبه فَسَّرَ بَعْضٌ حَدِيثُ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ، كما تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
وِعَلَيْه الحُمَّى: جاءَتْهُ رِبْعًا، بالكَسْرِ، وقَدْ رُبِعَ، * كعُنِيَ، وأُرْبَعَ بالضَّمَّ، فهو مَرْبُوعٌ ومُرْبَعٌ وهى أَى الرَّبْعُ من الحُمَى أَنْ تَأْخُذَ يَوْمًا وتَدَعَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ تَجِيءَ فِي اليَوْمِ الرّابعِ قالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
لَثِقًا تُجَفْجِفُهُ الصبا وكَأَنَّهُ *** شاكٍ تَنَكّرَ وِرْدُهُ مَرْبوعُ
وِأَرْبَعَتْ عَلَيْهِ الحُمَّى: لُغَةٌ في رَبَعَت، كَما أَنَّ أَرْبَعَ لُغَةٌ في رُبْعَ. قال أُسَامَةُ الهُذَليّ.
إِذا بَلَغُوا مِصْرَهُمْ عُوجِلُوا *** مِنَ المَوْت بالهِمْيَغِ الذّاعِطِ
مِنَ المُرْبِعِينَ ومِنْ آزِلٍ *** إذا جَنَّهُ اللَّيْلُ كالنّاحِطِ
ويُقَالُ: أَرْبَعَتْ عَلَيْهِ: أَخَذَتْه رِبْعًا. وأَغَبَّتْهُ: أَخَذَتْهُ غِبَّا.
ورَجُلٌ مُرْبعٌ ومُغِبُّ، بِكَسْرِ الباءِ. قالَ الأَزْهَرِيُّ: فقيلَ لَهُ: لِمَ قُلْتَ: أَرْبَعَتِ الحُمَّى زَيْدًا، ثُمَّ قُلْتَ: مِنَ المُرْبِعِين، فجَعَلْتَه مَرَّةً مَفْعُولًا وَمَرَّةً فاعِلًا؟ فقالَ: يُقَالُ: أَرْبَعَ الرَّجلُ أَيْضًا. قالَ الأَزْهَرِيّ: كَلامُ العَرَبِ أَرْبَعَتْ عَلَيْهِ الحُمَّى، والرَّجُلُ مُرْبَعٌ، بِفَتْحِ الباءِ. وقالَ ابنُ الأَعْرَابِيّ: أَرْبَعَتْهُ الحُمَّى، ولا يُقَالُ: رَبَعَتْهُ.
وِرَبَعَ الحِمْلَ يَرْبَعُهُ رَبْعًا، إذا أَدْخَلَ المِرْبَعَةَ تَحْتَهُ، وأَخَذَ بطَرَفِها، وأَخَذَ آخَرُ بطَرَفِها الآخَرِ، ثُمَّ رَفَعاهُ عَلَى الدَّابَّة. قالَ الجَوْهَرِيّ: فإِنْ لم تَكُنْ مِرْبَعَةٌ أَخَذَ أَحَدُهما بيَدِ صاحِبِهِ، أَيْ تَحْتَ الحِمْلِ حَتَّى يَرْفَعاهُ عَلَى البَعِيرِ، وهي المُرَابَعَةُ. وأَنْشَدَ ابنُ الأَعْرَابِيّ:
يا لَيْتَ أُمَّ العَمْرِ كَانَتْ صاحِبِي *** مَكَانَ مَنْ أَنْشَا عَلَى الرَّكَائِبِ
وِرابَعَتْنِي تَحْتَ لَيْلٍ ضارِبِ *** بِسَاعِدٍ فَعْمٍ وكَفَّ خاضِبِ
أَنْشَا: أَصْلُهُ أَنْشَأَ، فلَيَّنَ الهَمْزَةَ للضَّرُورَةِ. وقالَ أَبو عُمَرَ الزَّاهِدُ في «اليَواقِيتِ»: أَنْشَا: أَي أَقْبَلَ.
وِرَبَعَ القَوْمَ يَرْبَعُهُمْ رَبْعًا: أَخَذَ رُبْعَ أَمْوَالِهِم، مِثْل عَشَرَهُمْ عَشْرًا.
وِرَبَعَ الثَلاثَةَ: جَعَلَهُمْ بِنَفْسِهِ أَرْبَعَةً و: صارَ رابِعَهُمْ يَرْبُعُ ويَرْبِعُ ويَرْبَعُ، بالتَّثْلِيثِ فِيهِما، أَيْ في كُلَّ مِنْ رَبَعَ القَوْمَ، والثَّلاثَةَ.
وِرَبَعَ الجَيْشَ، إذا أَخَذَ مِنْهُم رُبْعَ الغَنِيمَةِ، ومُضَارِعُه يَرْبعُ ـ من حَدَّ ضَرَبَ ـ فَقَطْ، كما هو مُقْتَضَى سِيَاقِهِ، وفيه مُخَالَفَةٌ لِنَقْلِ الصّاغَانِيّ، فإنَّهُ قال: رَبَعْتُ القَوْمَ أَرْبُعُهُمْ وأَربِعُهُمْ وأَرْبَعُهُمْ، إذا صِرْتَ رابِعَهمْ، أَوْ أَخَذْتَ رُبْعَ الغَنِيمَةِ، قالَ ذلِكَ يُونُسُ في كتاب «اللُّغَاتِ» واقْتَصَرَ الجَوْهَريّ عَلَى الفَتْحِ، ثُمَّ إنَّ مَصْدَرَ رَبَعَ الجَيْشَ رَبْعٌ ورَبَاعَةٌ. صَرَّحَ به في اللَّسَانِ. وفي الحَدِيثِ: «أَلَمْ أَجْعَلْكَ تَرْبَعُ وتَدْسَعُ» أَي تَأَخُذُ المِرْباعَ، وقَدْ مَرَّ الحَدِيثُ في «د س ع» وقِيل في التَّفْسِير: أَيْ تَأْخُذ رُبْعَ الغَنِيمَةِ؟والمَعْنَى: أَلَمْ أَجْعَلْك رَئِيسًا مُطاعًا؟ كانَ يُفْعَل ذلِكَ، أَيْ أَخْذُ رُبْع ما غَنِمَ الجَيْشُ في الجاهِلِيَّة، فرَدَّهُ الإِسْلامُ خُمُسًا، فقالَ تَعالَى جَلَّ شَأْنُه: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}.
وِرَبَعَ عَلَيْهِ رَبْعًا: عَطَفَ، وقيلَ: رَفَقَ.
وِرَبَعَ عَنْه رَبْعًا: كَفَّ وأَقْصَرَ.
وِرَبَعَت الإِبِلُ تَرْبَعُ رَبْعًا: سَرَحَتْ في المَرْعَى، وأَكَلَتْ كَيْفَ شَاءَتْ وشَرِبَتْ، وكذلِكَ رَبَعَ الرَّجُلُ بالمَكَانِ، إذا نَزَلَ حَيْثُ شاءَ في خِصْبٍ ومَرْعًى.
وِرَبَعَ الرَّجُلُ في الماءِ: تَحَكَّمَ كَيْفَ شاءَ.
وِرَبَعَ القَوْمَ: تَمَّمَهُمْ بنَفْسِهِ أَرْبَعَةً، أَو أَرْبَعِينَ، أَوْ أَرْبَعَةً وأَرْبَعِينَ، فعَلَى الأَوّل: كانُوا ثَلاثَةً فكَمَّلَهُمْ أَرْبَعَةً، وعَلَى الثَّانِي: كانُوا تِسْعَةً وثلاثِينَ فكَمَّلَهُمْ أَرْبَعِينَ، وعَلَى الثَّالِثِ: كانُوا ثَلاثَةً وأَرْبَعِينَ فكَمَّلَهُمْ أَرْبَعَةً وأَرْبَعِينَ.
وِرَبَعَ بالمَكَانِ: اطْمَأَنَّ وأَقامَ قالَ الأَصْبَهَانِيّ في «المُفْرَدات» وأصْلُ رَبَعَ: أَقامَ في الرَّبِيع، ثم تُجُوَّزَ به في كُلِّ إِقَامَةٍ، وكُلَّ وَقْتٍ، حَتَّى سُمِّيَ كُلُّ مَنْزِلٍ رَبْعًا، وإنْ كان ذلِكَ في الأَصْل مُخْتَصًا بالرَّبِيع.
وِرُبِعُوا، بالضَّمِّ: مُطِرُوا بالرَّبِيع، أَيْ أَصابَهُم مَطَرُ الرَّبِيعِ. ومِنْهُ قَوْلُ أَبِي وَجْزَةَ:
حَتَّى إذا ما إيالاتٌ جَرَتْ بُرُحًا *** وِقَدْ رَبَعْنَ الشَّوَى مِنْ ماطِرٍ مَاجِ
أَي أَمْطَرْن، ومن ماطِرٍ: أَي عَرَقٍ مَأْج؛ أَي مِلْح.
يقول: أَمْطَرْنَ قَوَائِمَهنَّ مِنْ عَرَقِهِنّ.
وِالمِرْبَعُ والمِرْبَعَةُ، بكَسْرِهِمَا، الأُولَى عَن ابْنِ عَبّادٍ وصاحِبِ المُفْرَداتِ: العَصَا الَّتِي تُحْمَلُ بها الأَحْمَالُ. وفي الصّحاح: عُصَيَّةٌ يأْخُذُ رَجُلانِ بطَرَفَيْها ليَحْمِلَا الحِمْلَ ويَضَعاه على ظَهْرِ الدَّابَّةِ.
وفي المُفْرداتِ: المِرْبَعُ: خَشَبٌ يُرْبَعُ به، أَيْ يُؤْخَذ الشَّيءُ به. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ومِنْهُ قَوْلُ الراجِزِ:
أَيْنَ الشِّظاظانِ وأَيْنَ المِرْبَعَهْ *** وِأَيْنَ وَسْقُ النّاقَةِ الجَلَنْفَعَهْ
وِمَرْبَعٌ، كمَقْعَدٍ: موضع، قِيلَ هو جَبَلٌ قُرْبَ مَكَّةَ. قال الأَبَحُّ ابنُ مُرَّة أَخو أَبِي خِراش:
عَلَيْكَ بَنِى مُعَاوِيَةَ بنِ صَخْرٍ *** فأَنْتَ بمَرْبَعٍ وهُمُ بِضِيمِ
والرِّوايَة الصَّحِيحَة: «فأَنْتَ بعَرْعَرٍ».
وِمِرْبَعٌ، كمِنْبَرٍ ابنُ قَيْظِيّ بنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيّ الحارِثيّ، وإِلَيْه نُسِبَ المالُ الَّذِي بالمَدِينَةِ في بَنِي حَارِثَةَ، له ذِكْرٌ في الحَدِيثِ، وهو وَالِدُ عَبْدِ الله، شَهِدَ أُحُدًا، وقُتِلَ يَوْمَ الجِسْرِ، وعَبْدِ الرَّحْمن شَهِدَ أُحُدًا وما بَعْدَها، وقُتِلَ مع أَخِيهِ يَوْمَ الجِسْرِ، وزَيْدٍ نَقَلَه الحافِظُ في التَّبْصِير. وقال يَزِيدُ بنُ شَيْبَانَ: «أَتانا ابنُ مِرْبَعٍ ونَحْنُ بعَرَفَةَ» يَعْنِي هذا، ومُرَارَةَ، ذَكَرَهُ ابنُ فَهْدٍ والذَّهَبِيّ الصَّحابِيِّينَ، وكَانَ أَبُوهُمْ مِرْبَعٌ أَعْمَى مُنافقًا، رَضِيَ الله عَنْ بَنِيهِ.
وِمِرْبَعٌ: لَقَبُ وَعْوَعَةَ بنِ سَعِيد بنِ قُرْطِ بنِ كَعْبِ بنِ عَبْدِ بنِ أَبِي بَكْرِ بنِ كِلابٍ رَاوِيَةِ جَرِيرٍ الشاعِرِ، وفِيهِ يَقُولُ جَرِيرٌ:
زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أَنْ سَيَقْتُلُ مِرْبَعًا *** أَبْشِر بِطُولِ سَلامَةٍ يا مِرْبَعُ
وِأرْضٌ مَرْبَعَةٌ، كمَجْمَعَةٍ: ذاتُ يَرَابِيعَ نَقَلَهُ الجَوْهَرِي.
وِذُو المَرْبَعِيّ قَيْلٌ: مَنْ الأَقْيَالِ.
وِالمِرْبَاع، بالكَسْرِ: المَكَانُ يَنْبُتُ نَبْتُه في أَوَّل الرَّبِيعٍ.
قال ذُو الرُّمَّةِ:
بِأَوَّلِ ما هَاجَتْ لَكَ الشَّوْقَ دِمْنَةٌ *** بأَجْرَع مِرْباعٍ مَرَبٍّ مُحَلَّلِ
ويُقَالُ: رُبِعَتِ الأَرْضُ فهي مَرْبُوعَةٌ، إذا أَصابَها مَطَرُ الرَّبِيعِ. ومُرْبِعَةٌ ومِرْباعٌ: كَثِيرَةُ الرَّبِيعِ.
وِالمِرْباعُ: رُبُعُ الغَنِيمَة الَّذِي كانَ يَأْخُذُهُ الرَّئيسُ في الجَاهِلِيَّة، مَأْخُوذٌ من قَوْلهم: رَبَعْتُ القَوم؛ أَي كانَ القَوْمُ يَغْزُونَ بَعْضَهم في الجاهِليَّةِ، فيَغْنَمُون، فيَأْخُذُ الرَّئِيسُ رُبُعَ الغَنِيمَةِ دُونَ أَصْحابِهِ خَالِصًا، وذلِكَ الرُّبُعُ، يُسَمَّى المِرْبَاعَ.
ونَقَلَ الجَوْهَرِيّ عن قُطْرُب: المِرْباعُ: الرُّبُعُ، والمِعْشَارُ: العُشْرُ، قالَ: ولَمْ يُسْمَعْ في غَيْرِهما. قالَ عَبْدُ الله بنُ عَنَمَةَ الضَّبِّيّ:
لَكَ المِرْباعُ مِنْهَا والصَّفايَا *** وِحُكْمُكَ والنَّشِيطَةُ والفُضُولُ
وِفي الحَدِيثِ قالَ لِعَدِيّ بن حاتِمٍ ـ قَبْلَ إِسْلامِه ـ: «إِنَّكَ لَتَأْكُلُ المِرْبَاعَ وهو لا يَحِلُّ لَك في دِينِكَ».
وِالمِرْبَاعُ: النَّاقَةُ المُعْتَادَةُ بأَنْ تُنْتَجَ في الرَّبِيع. ونَصُّ الجَوْهَرِيّ: ناقَةٌ مُرْبعٌ: تُنْتَجُ في الرَّبِيعِ، فإِنْ كانَ ذلِكَ عادَتَها فهي مِرْبَاعٌ، أَو هي الَّتِي تَلِدُ في أَوَّلِ النِّتَاجِ، وهو قَوْلُ الأَصْمَعِيّ. وبه فُسِّرَ حَدِيثُ هِشَامِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ في وَصْفِ ناقَةِ: «إِنَّهَا لَهِلْوَاعٌ مِرْبَاعٌ، مِقْراعٌ مِسْياعٌ، حَلْبانَةٌ رَكْبَانَةٌ»، وقِيلَ: المِرْباعُ: هي الَّتِي وَلَدُهَا مَعَهَا، وهوَ رِبْعٌ، وقِيل: هي الَّتِي تُبَكِّرُ في الحَمْلِ.
وِالأَرْبَعَةُ فِي عَدَدِ المُذَكَّرِ، والأَرْبَعُ فِي عَدَدِ المُؤَنَّثِ، والأَرْبَعُونَ في العَدَدِ بَعْدَ الثّلاثِينَ. قال الله تَعالَى: {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} وقالَ: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
وِالأَرْبِعَاءُ من الأَيّام: رابِعُ الأَيّام مِن الأَحَدِ، كَذَا في المُفْرَدَات، وفي اللِّسَان: منَ الأُسْبُوع، لِأَنَّ أَوَّلَ الأَيَّامِ عِنْدَهم يَوْمُ الأَحَدِ، بدَلِيلٍ هذِهِ التَّسْمِيَة، ثم الاثْنَانِ، ثم الثلاثاءُ، ثُمَّ الأَرْبَعَاءُ، ولكِنَّهُمْ اخْتَصُّوهُ بهذا البِناءِ، كما اخْتَصُّوا الدَّبَرانَ والسِّماكَ؛ لِمَا ذَهَبُوا إلَيْه من الفَرْق مُثَلَّثَةَ الباءِ مَمْدُودَةً. أَمّا فَتْحُ الباءِ فقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَسَدٍ، كما نَقَلَهُ الجَوْهَرِيّ، وهكذا ضَبَطَهُ أَبو الحَسَن مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ الزُّبَيْدِيّ فيما اسْتَدْرَكَه علَى سِيبَوَيْهِ في الأَبْنِيَة، وقَالَ: هو أَفْعَلاءُ، بفَتْحِ العَيْن.
وقَالَ الأَصْمَعِيّ: يَوْمُ الأَرْبُعَاء، بِالضَّمِّ، لُغَةٌ في الفَتْح والكَسْرِ.
وقال الأَزْهَرِيّ: ومَنْ قالَ: أَرْبِعاء حَمَلَهُ عَلى أَسْعِداء، وهُمَا أَرْبِعاءانِ، ج: أَرْبِعاءَاتٌ. حُمِلَ على قِياسِ قَصْباءِ وما أَشْبَهَهَا.
وقال الفَرّاءُ عن أَبِي جَخَادِبَ: تَثْنِيَةُ الأَرْبَعَاءِ أَرْبَعاءان، والجَمْعُ أَرْبَعاءات، ذَهَبَ إِلى تَذْكِير الاسْمِ.
وقَال اللِّحْيَانِيّ: كان أَبُو زِيَاد يقول: مَضَى الأَرْبَعَاءُ بما فيه، فيُفْرِدُهُ ويُذَكِّره. وكانَ أَبو الجَرَّاح يقولُ: مَضَتِ الأَربعاءُ بما فِيهِنَّ، فيُؤَنِّثُ ويَجْمَع، يُخْرِجُه مَخْرَج العَدَدِ.
وقال القُتَيْبِيّ: لَمْ يَأْتِ أَفْعِلاءُ إِلّا في الجَمْعِ، نحو أَصْدِقَاءَ وأَنْصِبَاءَ، إِلَّا حَرْفٌ وَاحِدٌ لا يُعْرَفُ غَيْرُه، وهو الأَرْبِعاءُ. وقال أَبو زَيْدٍ: وقد جاءَ أَرْمِدَاء، كما في العُبَاب.
قال شَيْخُنا: وأَفْصَحُ هذِه اللُّغَاتِ الكَسْرُ، قالَ: وحَكَى ابْنُ هِشَامٍ كَسْرَ الهَمْزَةِ مع الباءِ أَيْضًا، وكَسْرَ الهَمْزَةِ وفَتْحَ الباءِ. ففي كَلام المُصَنِّفِ قُصُورٌ ظاهرٌ. انتهى.
وِقالَ اللِّحْيَانيّ: قَعَدَ فُلانٌ الأُرْبُعاءَ والأُرْبُعاوَى، بِضَمِّ الهَمْزَةِ والباءِ مِنْهُمَا، أَيّ مُتَرَبِّعًا. وقالَ غَيْرُه: «جَلَس الأُرْبَعَاء، بضَمِّ الهَمْزَةِ وفَتْحِ الباءِ والقَصْر، وهي ضَرْبٌ من الجِلَسِ، يَعْنِي جَمْعَ جِلْسَة.
وحَكَى كُرَاعِ: جَلَسَ الأُرْبَعَاوَى؛ أَي مُتَرَبِّعًا، قالَ: ولا نَظِيرَ لهُ.
وِقالَ القُتَيْبيّ: لَمْ يَأْتِ على أُفْعُلاءَ إِلَّا حَرْفٌ وَاحِدٌ، قالُوا: الأُرْبُعاءُ. وهو أَيْضًا: عَمُودٌ مِنْ: عُمُدِ البِنَاءِ.
قال أَبُو زَيْدٍ: ويُقَالُ: بَيْتٌ أُرْبُعاواءُ، عَلَى أُفْعُلاواءَ، بالضَّمِّ والمَدِّ، أَيْ عَلَى عَمُودَيْنِ وثَلَاثةٍ وأَرْبَعَةٍ ووَاحِدَةٍ، قالَ: والبُيُوتُ على طَرِيقَتَيْنِ وثَلَاثٍ وأَرْبَعٍ، وطَرِيقَةٍ وَاحِدَة، فَما كان عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فهو خِبَاءٌ، وما زادَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فهو بَيْتٌ، والطَّرِيقَةُ: العَمُودُ الوَاحِدُ، وكُلُّ عَمُودٍ طَرِيقَةٌ، وما كانَ بَيْنَ عَمُودَيْنِ فهو مَتْنٌ، وحَكَى ثَعْلَبٌ: بَنَى بَيْتَه عَلَى الأَرْبُعَاءِ وعَلَى الأَرْبُعَاوَى ـ ولَمْ يَأْتِ عَلَى هذا المِثَال غَيْرُه ـ: إِذا بَنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَعْمِدَةٍ.
وِالرَّبِيعُ: جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ السَّنَةِ، وهو عِنْدَ العَرَبِ رَبِيعَانِ: رَبِيعُ الشُّهُورِ، ورَبِيعُ الأَزْمِنَةِ: فرَبِيعُ الشُّهُورِ: شَهْرَانِ بَعْدَ صَفَر سُمِّيَا بذلك لأَنَّهُمَا حُدَّا فِي هذا الزَّمَن، فلَزِمَهُمَا في غَيْرِه، ولا يُقَالُ فيهما إِلَّا شَهْرُ رَبِيعٍ الأَوّل، وشَهْرُ رَبِيعٍ الآخِر.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ: العَرَبُ تَذْكُر الشُّهُورَ كُلَّهَا مُجَرَّدَةً، إِلّا شَهْرَيْ رَبِيعٍ، وشَهْرَ رَمَضَان.
وِأَمّا رَبِيعُ الأَزْمِنَةِ فرَبِيعانِ: الرَّبِيعُ الأَوَّلُ وهو الفَصْلُ الَّذِي يَأْتِي فِيهِ النَّوْر والكَمْأَةُ، وهو رَبِيعُ الكَلإِ.
وِالرَّبِيعُ الثَّانِي، وهو الفَصْلُ الَّذِي تُدْرَكُ فيه الثِّمَار، أَوْ هو أَي، ومِنَ العَرَب مَنْ يُسَمِّي الفَصْلَ الَّذِي تُدُرِكُ فيه الثِّمَارُ، وهو الخَرِيف الرَّبِيع الأَوّل، ويُسَمِّي الفَصْلَ الَّذِي يَتْلُو الشِّتَاءَ ويَأْتِي فِيه الكَمْأَةُ والنَّوْرُ الرَّبِيعَ الثّانِي، وكُلُّهُم مُجْمِعُون علَى أَنَّ الخَرِيفَ هو الرَّبِيعُ.
وقال أَبو حَنِيفَةَ: يُسَمَّى قِسْمَا الشِّتَاءِ رَبِيعَيْنِ: الأَوّلُ مِنْهُمَا: رَبِيعُ الماءِ والأَمْطَارِ، والثَّانِي: رَبِيعُ النَّبَاتِ لِأَنَّ فِيهِ يَنْتَهِي النَّبَاتُ مُنْتَهَاهُ. قالَ: والشِّتاءُ كُلُّهُ رَبِيعٌ عِنْدَ العَرَبِ لِأَجْل النَّدَى. وقالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيّ يَصِفُ ظَبْيَةً:
بِهِ أَبَلَتْ شَهْرَيْ رَبِيعٍ كِلَيْهِما *** فقَدْ مَارَ فِيها نَسْؤُهَا واقْتِرارُهَا
«به» أَيْ بِهذَا المَكَانِ، أَبَلَتْ: جَزَأَتْ.
أَو السَّنَةُ عِنْدَ العَرَبِ سِتَّةُ أَزْمِنَةٍ: شَهْرَانِ منها الرَّبِيعُ الأَوَّلُ، وشَهْرَانِ صَيْفٌ، وشَهْرَانِ قَيْظٌ، وشَهْرَانِ الرَّبِيعُ الثّانِي، وشَهْرَانِ خَرِيفٌ، وشَهْرَان شِتَاءٌ، هكذا نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عن أَبي الغَوْثِ. وأَنْشَدَ لِسَعْدِ بنِ مالك بنِ ضُبَيْعَةَ:
إِنَّ بَنِيَّ صِبْيَةٌ صَيْفِيُّونْ *** أَفْلَحَ مَنْ كانَ لَهُ رِبْعِيُّونْ
قالَ: فجَعَلَ الصَّيْفَ بَعْدَ الرَّبِيع الأَوّل.
وحَكَى الأَزْهَرِيّ عن أَبِي يَحْيَى بنِ كُنَاسَةَ في صِفَةِ أَزْمِنَةِ السَّنَةِ وفُصُولها ـ وكانَ عَلَّامَةً بِهَا ـ: أَنَّ السَّنَةَ أَرْبَعَةُ أَزْمِنَةٍ: الرَّبِيعُ الأَوَّلُ، وهو عِنْدَ العامَّةِ الخَرِيف، ثُمَّ الشِّتِاءُ، ثم الصَّيْفُ، وهو الرَّبِيعُ الآخِرُ، ثُمَّ القَيْظُ. وهذا كُلُه قَوْلُ العَرَبِ في البادِيَة، قالَ: والرَّبِيعُ [الأَول] الذي هو الخَرِيف عِنْدَ الفُرْس يَدْخُل لِثَلاثَةِ أَيّامٍ مِنْ أَيْلُولَ. قالَ: ويَدْخُلُ الشِّتاءُ لِثَلَاثَةِ أَيّامٍ مِنْ كَانُونَ الأَوّلِ، ويَدْخُل الصَّيْفُ الَّذِي هُوَ ـ الرَّبِيعُ عِنْدَ الفُرْسِ ـ لِخَمْسَةِ أَيّامٍ تَخْلُو مِن آذار. ويَدْخُلُ القَيْظُ ـ الَّذِي هو الصَّيْفُ عِنْدَ الفُرُسِ ـ لِأَرْبَعَةِ أَيّامٍ تَخْلُو مِن حَزِيرَانَ.
قال أَبو يَحْيَى: ورَبِيعُ أَهْلِ العِرَاق مُوافِقٌ لِرَبِيعِ الفُرْسِ، وهُوَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الشِّتَاءِ، وهو زَمانُ الوَرْدِ، وهو أَعدَلُ الأَزْمِنَةِ. قال: وأَهْلُ العِرَاقِ يُمْطَرُونَ في الشِّتَاءِ كُلِّهِ، ويخْصِبُونَ في الرَّبِيعِ الَّذِي يَتْلُو الشِّتَاءِ. وأَمّا أَهْلُ اليَمَنِ فإِنَّهُمْ يُمْطَرُونَ في القَيْظِ ويُخْصِبُون فِي الخَرِيفِ الَّذِي تُسَمِّيهِ العَرَبُ الرَّبِيعَ الأَوَّل.
قالَ الأَزْهَرِيّ: وإِنَّمَا سُمِّيَ فَصْلُ الخَرِيفِ خَرِيفًا، لأَنَّ الثِّمَارَ تُخْتَرَفُ فِيهِ، وسَمَّتْهُ العَرَبُ رَبِيعًا، لوقُوعِ أَوَّل المَطَرِ فيه.
وِقالَ ابنُ السِّكِّيت: رَبِيعٌ رَابِعٌ، أَيْ مُخْصِبٌ، النِّسْبَةُ رَبْعِيٌّ، بالكَسْرِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، ومِنْهُ قَوْلُ سَعْدِ بنِ مالِكٍ الَّذِي تَقَدَّمَ:
أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ رِبْعِيُّون
وِرِبْعِيُّ بنُ أَبِي رِبْعِيٍّ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: اسْمُ أَبِي رِبْعِيّ رَافِعُ بنُ الحَارِثِ بنِ زَيْدٍ بنِ حارِثَةَ البَلَوِيّ، حَلِيفُ الأَنْصَارِ، شَهِدَ بَدْرًا. ورِبْعِيُّ بنُ رَافِعٍ هو الَّذِي تَقَدَّم ذِكْرُهُ ورِبْعِيُّ بنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِيّ بَدْرِيٌّ، ورِبْعِيٌّ الأَنْصَارِيّ الزُّرَقِيُّ، الصَّوابُ فِيه رَبِيعٌ: صَحَابِيُّون، رضي الله عنهم ورِبْعِيُّ بنُ حِرَاش: تابِعِيٌّ يُقَالُ: أَدْرَكَ الجَاهِلِيَّةَ، وأَكْثَرَ الصَّحَابَة، تَقَدَّمَ ذِكْرُه فِي «ح ر ش» وكَذا ذِكْرُ أَخَوَيْهِ مَسْعُود والرَّبِيع. رَوَى مَسْعُودٌ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ، وأَخُوه رَبِيعٌ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بَعْدَ المَوْتِ، فكانَ الأَوْلَى ذِكْرَهُ عندَ أَخِيهِ، والتَّنْوِيهَ بشَأْنِهِ لأَجْلِ هذِه النُّكْتَةِ، وهو أَوْلَى مِن ذِكْرِ مِرْبَع بأَنَّه كانَ أَعْمَى مْنَافِقًا. فتَأَمَّلْ.
وِرِبْعِيَّةُ القَوْم: مِيرَتُهم أَوَّلَ الشِّتَاءِ، وقِيلَ: الرِّبْعِيَّة: مِيرَةُ الرَّبِيع، وهي أَوَّلُ المِيرِ، ثمّ الصَّيْفِيّةُ، ثمّ الدّفَئِيَّة، ثم الرَّمَضِيَّةُ.
وِجَمْعُ الرَّبَيعِ: أَرْبِعاءُ، وأَرْبِعَةٌ مِثْلُ: نَصِيبٍ، وأَنْصِبَاءَ، وأَنْصِبَةٍ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ ويُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى رِبَاعٍ، عَن أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ جَمْعُ رَبِيعِ الكَلإِ أَرْبِعَةٌ، وجَمْعُ رَبِيعِ الجَدَاوِلِ جَمْع جَدْولٍ، وهو النَّهْرُ الصَّغِيرُ، كما سَيَاتِي للمُصَنِّفِ أَرْبِعاءُ وهذا قَوْلُ ابن السِّكِّيت، كَما نَقَلَه الجَوْهَرِيّ، ومنهالحَدِيث: «أَنَّهُمْ كانُوا يُكْرُون الأَرْضَ بِما يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعاءِ، فنُهِيَ عن ذلِكَ»؛ أَي كانوا يَشْتَرِطُونَ على مُكْتَرِيها ما يَنْبُتُ عَلَى الأَنْهَارِ والسَّوَاقِي. أَمّا إكْرَاؤُهَا بدَرَاهِم أَو طَعَامٍ مُسَمًّى، فَلا بَأْسَ بِذلِكَ. وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَنَّ أَحَدَهُمْ كَان يَشْتَرِطُ ثَلاثَةَ جَدَاوِلَ، والقُصارَةَ، وما سَقَى الرَّبِيع، فنُهُوا عَنْ ذلِكَ». وفي حَدِيثِ سَهْل بنِ سَعْدٍ: «كانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تأْخُذ من أُصُولِ سِلْقٍ كُنَّا نَغْرِسُه عَلَى أَرْبِعائِنا».
وِيَوْمُ الرَّبِيعِ: من أَيّام الأَوْسِ والخَزْرَج، نُسِبَ إِلَى مَوْضِع بالمَدِينَة من نَوَاحيها. قال قَيْسُ بنُ الخَطِيمِ:
وِنَحْنُ الفَوارِسُ يومَ الرَّبِي *** عِ قد عَلِمْوا كيف فُرْسانُها
وِأَبو الرَّبِيعِ: كُنْيَةُ الهُدْهُدِ، لأَنَّهُ يَظْهَرُ بظُهُورِهِ، وكُنْيَةُ جَمَاعَةٍ من التّابِعِين والمُحَدِّثين، بَلْ وفي الصَّحَابَةِ رَجُلٌ اسْمُه أَبُو الرَّبِيعِ، وهو الَّذِي اشْتَكَى فعادَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأَعْطَاهُ خَمِيصَةً. أَخْرَجَ حَدِيثَهُ النَّسَائِي.
ومن التّابِعِينَ: أَبُو الرَّبِيعِ المَدَنِيّ، حَدِيثُهُ في الكُوفيِّينَ، رَوَى عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، وعَنْه عَلْقَمَةُ بنُ مَرْثَدٍ.
ومِن المُحَدِّثِينَ: أَبُو الرَّبِيعِ المَهْرِيُّ الرِّشْدِينيّ، هو سُلَيْمَانُ بنُ دَاوودَ بنِ حَمّادِ بنِ عَبْدِ الله بن وَهْبٍ، رَوَى عَنْهُ أَبو دَاوودَ.
وأَبو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيّ، اسْمُه سُلَيْمَانُ بنُ داوودَ، عَنْ حَمّادِ بنِ زَيْدٍ، وعَنْهُ البُخَارِيّ ومُسْلِمٌ.
وأَبو الرَّبِيعِ السَّمَّان، اسْمُه أَشْعَثُ بنُ سَعِيد، رَوَى عَنْ عاصِمِ بنِ عُبَيْدٍ، وعَنْهُ وَكِيعٌ. ضَعَّفُوه.
وِالرَّبِيعُ، كَأَمِيرٍ: سَبْعَةٌ صَحابِيُّون، وهم: الرَّبِيعُ بنُ عَدِيِّ بنِ مالِكٍ الأَنْصَارِيّ، شَهِدَ أُحُدًا، قالَهُ ابنُ سَعْدٍ، والرَّبِيعُ ابنُ قارِبٍ العَبْسِيّ، لَهُ وِفَادَةٌ، ذَكَرَهُ الغَسّانِيّ، والرَّبِيعُ بنُ مُطَرِّفٍ التَّمِيمِيّ الشاعر، شَهِدَ فَتْحَ دِمَشقَ، والرَّبِيع بنُ النُّعْمَان بنِ يساف، قالَهُ العديّ، والرَّبِيع بن النُعْمانِ، أَنْصَارِيّ أُحُدِيٌّ، ذكره الأَشيريّ، والرَّبِيع بن سَهْل بن الحارِث الأَوْسِيّ الظَّفَرِىَّ، شَهد أُحُدًا، والرَّبِيع بن ضَبُعٍ الفَزَارِيّ، قالَهُ ابن الجَوْزِيّ، عاشَ ثلاثمِائةٍ وسِتَّينَ سَنَةً، منها سِتُّونَ في الإِسْلام، فهؤلاءِ السَّبْعَة الذين أَشار إِليهم.
وأَما الرَّبِيع بن مَحْمُود المَاردِينِيّ فإِنّه كَذّابٌ، ظَهَرَ في حُدُودِ سنة تِسْعٍ وتِسْعِين وخَمْسِمائة، وادَّعَى الصُّحْبَةَ، فَلْيُحْذَرْ منه.
وِالرَّبِيعُ: جَمَاعَةٌ مُحَدِّثون، منهم: الرَّبِيع بن حَبِيبٍ، عن الحَسَنِ، والرَّبِيع بنُ خَلَفٍ، عن شُعْبَةَ، والرَّبِيع بن مالِكٍ، شَيْخٌ لحَجّاجِ بنِ أَرْطاةَ، والرَّبِيعُ بنُ بَرَّةَ، عن الحَسَنِ، والرَّبِيعُ بنُ صُبَيْحٍ البَصْرِيّ والرَّبِيعُ بنُ خَطّافٍ الأَحْدَبُ، عن الحَسَنِ، والرّبِيعُ بنُ مُطَرِّف، والرَّبِيعُ بنُ إِسماعِيلَ، عن الجَعْدِيّ، والرَّبِيعُ بنِ خيظان عن الحَسَنِ، وغَيْر هؤلاءِ. والرَّبِيعُ بنُ سُلَيْمَانَ المُرَادِيّ: مُؤذِّنُ المَسْجِدِ الجَامِعِ بِالْفُسْطَاطِ، رَوَى عَنْ عَبْدِ الله بن يُوسُفَ التِّنِّيسِيّ، وأَبِي يَعْقُوبَ البُوَيْطِيّ، وعِنْهُ مُحْمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ السُّلَمِيّ، ومُحَمَّد بن هارُونَ الرويانيّ، والإِمامُ أَبو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيّ، وُلِدَ هو وإِسْمَاعِيلُ بنُ يَحْيَى في سَنَةِ مَائَةٍ وأَرْبعةٍ وسَبْعِينَ، وكانَ المُزَنِيُّ أَسَنَّ مِن الرَّبِيع بسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وماتَ سَنَةَ مَائَتَيْنِ وسَبْعِينَ، وصَلَّى عَلَيْه الأَمِيرُ خُمَارَوَيْه بنُ أَحْمَدَ [بنِ طُولُونَ]، كَذَا في حاشِيَةِ الإِكْمَال.
وِالرَّبِيعُ بنُ سُلَيْمَانَ أَبو مُحَمَّدٍ الجِيزِيُّ، رَوَى عَنْ أَصْبَغَ بنِ الفَرَجِ، وعَبْدِ الله بنِ الزُّبَيْرِ الحُميديّ، وعَنْهُ عَليُّ بن سِرَاجٍ المصْرِيّ، وأَبو الفَوَارِس أَحْمَدُ بنُ الحُسَيْنِ الشُّرُوطِيُّ: وأَبُو بَكْر الباغَنْديّ. قالَ ابنُ يُونُس: كانَ ثِقَةً، تُوَفِّيَ سنة مِائتَيْن وسِتَّةٍ وخَمْسِينَ: صَاحِبَا سَيِّدنا الإِمام الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه.
قال أَبو عُمَرَ الكِنْدِيّ: الرَّبِيعُ بنُ سُلَيْمَانَ كانَ فَقِيهًا دَيِّنًا، رَأَى ابنَ وَهْبٍ، ولَمْ يُتْقِنِ السَّمَاعَ مِنْه، كَذا في ذَيْلِ الدِّيوان للذَّهَبِيّ.
قُلْتُ: وقَدْ حَدَّث وَلَدُهُ مُحَمَّد، وحَفِيدُهُ الرَّبِيعُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الرَّبِيعِ، وماتَ سَنَةَ ثِلاثِمَائَة واثْنَتَيْنِ وأَرْبَعِينَ، وقَدْ مَر ذِكْرُهم في «ج ي ز». والرَّبِيعُ: عَلَمٌ.
وِالرَّبِيعُ: المَطَرُ في الرَّبِيعِ، تَقُولُ مِنْهُ: رُبِعَتِ الأَرْضُ فهي مَرْبُوعَةٌ، كَما في الصّحاح. وقِيلَ: الرَّبِيعُ: المَطَرُ يَكُونُ بَعْدَ الوَسْمِيِّ، وبَعْدَه الصَّيِّف، ثُمَّ الحَمِيمُ.
وقال أَبو حَنِيفَة: والمَطَر عِنْدَهُمْ رَبِيعٌ مَتَى جاءَ، والجَمْعُ أَرْبِعَةٌ، ورِبَاعٌ.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ: وسَمِعْتُ العَرَب يَقُولون ـ لأَوَّلِ مَطَرٍ يَقَعُ بالأَرْض أَيَّام الخَرِيفِ ـ: رَبِيعٌ، ويَقُولُون: إِذا وَقَعَ رَبِيعٌ بالأَرْضِ بَعَثْنَا الرُّوَّادَ، وانْتَجَعْنَا مَساقِطَ الغَيْثِ.
وِقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: الرَّبِيعُ: الحَظُّ من الماءِ للأَرضِ ما كانَ، وقِيلَ: هو الحَظُّ منه رُبْعَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، ولَيْسَ بالقَوِيِّ.
يُقَالُ: لِفُلانٍ مِنْ وفي بَعْضِ النُّسَخ: فِي هذا الماءِ رَبِيعٌ أَيْ حَظٌّ.
وِالرَّبِيعُ: الجَدْوَلُ، وهو النَّهْرُ الصَّغِيرُ، وهو السَّعِيدُ أَيْضًا، وفي الحَدِيثِ: «فَعَدَلَ إِلَى الرَّبِيعِ، فَتَطَهَّرَ». وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «بِما يَنْبُتُ عَلَى رَبِيعِ السَّاقِي» هذا من إِضافَةِ المَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، أَيْ النَّهْر الَّذِي يَسْقِي الزَّرْعَ، وأَنْشَدَ الأَصْمَعِيُّ قَوْلَ الشّاعِر:
فُوهُ رَبِيعٍ وكَفُّهُ قَدَحٌ *** وِبَطْنُهُ حِينَ يَتَّكِي شَرَبَهْ
يَسَّاقَطُ النّاسُ حَوْلَهُ مَرَضًا *** وِهْوَ صَحِيحٌ ما إِنْ بِهِ قَلَبَهْ
أَرادَ بِقَوْلهِ: فوهُ رَبِيعٌ، أَيْ نَهْرٌ، لكَثْرَة شُرْبِه، والجَمْع أَرْبِعاءُ.
وِالرَّبِيعَة، بهاءٍ: حَجَرٌ تُمْتَحَنُ بإِشالَتِهِ ويُجَرِّبُون به القُوَى، وقيلَ: الرَّبَيعَة: الحَجَرُ المَرْفوع، وقِيلَ: الَّذِي يُشالُ. قالَ الأَزْهَرِيّ: يُقَال ذلِكَ في الحَجَرِ خاصَّةً.
وِالرَّبِيعَةُ: بَيْضَةُ الحَدِيدِ، وأَنْشَدَ اللَّيْثُ:
رَبِيعَتُه تَلُوحُ لَدَى الهِياجِ
وِقالَ ابن الأَعْرَابِيّ: الرَّبِيعَة: الرَّوْضَة.
وِالرَّبِيعَةُ: المَزَادَة.
وِالرَّبِيعَة: العَتِيدَة.
وِالرَّبِيعَة: قرية، كَبِيرَةٌ بالصَّعِيدِ في أَقْصاه، لِبَنِي رَبِيعَةَ، سُمِّيَتْ بهم.
وِرَبِيعَة الفَرَسِ: هو ابن نِزارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عَدْنَانَ، أَبُو قبيلَةٍ، وإِنّما قِيلَ لَهُ: رَبِيعَة الفَرَسِ، لأَنَّه أُعْطِيَ مِن مِيراثِ أَبيهِ الخَيْلَ، وأُعْطَيَ أَخْوهُ مُضَرُ الذَّهَبَ، فسُمِّيَ مُضَرَ الحَمْراءِ، وأُعْطِيَ أَنْمَارٌ أَخوهُما الغَنَمَ، فسُمِّيَ أَنْمَارَ الشَّاةِ، وقد ذُكِر في «ح معروف ر» والنِّسْبَة إِلَى رَبِيعَةَ رَبَعِيُّ، مُحَرَّكَةً.
والمَنْسُوبِ هكَذَا عِدَّةٌ، قالَ الحافظُ: ومنهم: أَبُو بَكْرٍ الرَّبَعِيُّ، له جُزْءٌ سمِعْنَاه عاليًا.
وِفي عُقَيْلٍ رَبِيعَتان: رَبِيعَةُ بنُ عُقَيْلٍ، وهو أَبْو الخُلَعَاءِ الَّذِينَ تَقَدَّم دِكْرُهم قَرِيبًا في «خ ل ع» ورَبِيعَةُ بن عامِرِ بنِ عُقَيْلٍ، وهو أَبُو الأَبْرَصِ، وقُحافَةَ، وعَرْعَرَةَ، وقُرَّة، وهُمَا يُنْسَبان إِلى الرَّبِيعَتَيْن، كما في الصّحاح والعُبَاب.
قال الجَوْهَرِيّ: وفي تمِيمٍ رَبِيعَتانِ: الكبْرَى، وهِي، كَذا نَصُّ العُبَابِ، ونَصُّ الصّحاح: وهو رَبِيعَةُ بن مالِكِ بنِ زَيْدِ مَنَاةَ بن تَمِيمٍ، وتُدْعَى، ونَصّ الصّحاح والعُبَاب: ويُلَقَّبُ رَبِيعَةَ الجُوعِ، والصُّغْرَى وهِيَ، كَذا نَصُّ العُبَاب، ونَصُّ الصّحاح: ورَبِيعَةُ الوُسْطى، وهي رَبِيعَةُ بنُ حَنْظَلَةَ بنِ مالِكِ بنِ زَيْدِ مَنَاةَ بنِ تَمِيمٍ.
وَرَبِيعَة: أَبُو حَيٍّ مِن هَوازِنَ، وهو رَبِيعَةُ بنُ عامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ، قال الجَوْهَرِيّ: وهُمْ بَنو مَجْدَ، ومَجْدُ اسْم أُمّهم فنُسِبُوا إِلَيْهَا.
قُلْت: هي مَجْدُ بِنْتُ تَيْم بنِ غالِبِ بنِ فِهْرٍ، كما في مَعَارِفِ ابنِ قُتَيْبَةَ، نَقَلَهُ شَيْخَنَا.
وِرَبِيعَةُ: ثَلاثونَ صَحَابِيَّا رضي الله عنهم، وهُمْ: رَبِيعَة بن أَكْثم، ورَبِيعَة بن الحارِث الأَوسِيّ، ورَبِيعَة بن الحارِثِ الأَسْلَمِيّ، ورَبِيعَة بن الحارِثِ بن عَبْدِ المُطَّلِب، ورَبِيعَة ابن حُبَيْشٍ، ورَبِيعَة خادِم رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ورَبِيعَة بن خِراش، ورَبِيعَةُ بن أَبِي خَرَشَةَ، ورَبِيعَةُ بن خُوَيْلد، وَرَبِيعَةُ بن رُفَيْعِ بن أَهْبَانِ، ورَبِيعَةُ بن رواء العَنْسِيّ، ورَبِيعَةُ بن رُفَيْعٍ يأْتِي ذكره في «ر ف ع» ورَبِيعَة بن رَوْحٍ، ورَبِيعَةُ بن زُرْعَةَ، ورَبِيعَةُ بن زِيادٍ، ورَبِيعَةُ بن سَعْدٍ، ورَبِيعَةُ بن السكّينِ ورَبِيعَة بن يَسارٍ، ورَبِيعَةُ بن شُرَحْبِيلَ، ورَبِيعَةُ بن عامِرٍ، ورَبِيعَةُ بن عِبَادٍ ورَبِيعَةُ بن عَبْدِ الله، ورَبِيعَةُ بن عُثْمَانَ، ورَبِيعَةُ ابن عَمْرٍو الثَّقَفِيُّ، ورَبِيعَةُ بن عَمْرٍو الجُهَنِيُّ، ورَبِيعَةُ ابن عَيْدانَ، ورَبِيعَةُ بن الفِرَاسِ، ورَبِيعَةُ بن الفَضْلِ، ورَبِيعَةُ بن قَيْسٍ، ورَبِيعَةُ بن كَعْبٍ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
81-تاج العروس (فزع)
[فزع]: الفَزْعُ، بالتَّسْكِينِ: اسمٌ، قالَ ابنُ حَبِيب: هُوَ ابنُ عَبْدِ الله بنِ رَبِيعَةَ بنِ جَنْدَل بنِ ثَوْرِ بنِ عَامِرِ بنِ أُحَيْمِر بنِ بَهْدَلَةَ بنِ عَوْفٍ.قال: والفَزْعُ: رَجُلٌ آخَرُ فِي بَنِي كَلْبٍ.
وِرَجُلٌ آخَرُ في خُزَاعَةَ، خَفِيفَانِ.
وِقال غيْرُه: ابنُ الفَزْعِ، بالفَتْح، كما في العُبَابِ والتبْصِير يُكْسَرُ ولم أَرَ من ضَبَطَه هكَذَا: الَّذِي صَلبَهُ المَنْصُورُ العَبَاسِيُّ، وكان خَرَجَ مع إِبْرَاهِيمَ الغَمْرِ بنِ عَبْدِ الله المَحْضِ بنِ حَسَنَ بنِ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ، رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ، وإِبْرَاهِيمُ هذا هو المَعْرُوفُ بقَتِيلِ باخَمْرَى.
وِالفِزْعُ بالكَسْرِ، ابنُ المُجَشِّرِ، من بَنِي عَادَاةَ، هكَذَا في العبَاب.
وِالفَزَعُ بالتَّحْرِيك: الذُّعْرُ والفَرَقُ، وربَّمَا قالُوا في ج: أَفْزاعٌ، مع كَوْنِهِ مَصْدَرًا، هذا نَصُّ العُبَابِ وفي اللِّسَانِ: الفَزَعُ: الفَرَقُ والذُّعْرُ من الشَّيْءِ، وهو فِي الأَصْلِ مَصْدَرُ فَزِعَ منه. وقالَ شيخُنَا: الفَرَقُ والذُّعْر بمَعْنًى، فأَحَدُهما كان كافِيًا، والفِعْلُ فَزِعَ، كفَرِحَ، ومَنَعَ، فَزْعًا، بالفَتْحِ، ويُكْسَرُ، ويُحَرَّكُ فيه لَفٌّ ونَشْرٌ غيرُ مُرَتَّب، فإِنَّ المُحَرَّكَ مصدرُ فَزِعَ، كَفَرِحَ خاصَّةً.
وقال المبَرِّدُ في الكامِلِ: أَصْلُ الفَزَعِ: الخَوْفُ، ثمّ كُنِيَ بهِ عن خُرُوجِ النّاسِ بسُرْعَةٍ، لدَفْعِ عَدُوٍّ ونَحْوِه إِذا جاءَهُم بَغْتَةً، وصارَ حَقِيقَةً فيه. ونَسَبَهُ شيخُنا إِلى الرّاغِبِ، وليس لَهُ، وإِنَّمَا نَصُّ الرّاغِبِ: الفَزَعُ: انْقِبَاضٌ ونِفَارٌ يَعْتَرِي الإِنْسَانَ من الشَّيْءِ المُخِيفِ، وهو من جِنْسِ الجَزَع، ولا يُقَال: فَزِعْتُ من الله، كما يُقَالُ: خِفْتُ منه.
وِالفَزَعُ: الاسْتِغَاثَة، ومِنْهُ الحَدِيثُ: «إِنَّ أَهْلَ المَدِينَةِ فَزِعُوا ليْلًا، فرَكِبَ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لأَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللهُ عنه، فسَبَقَ النَّاسَ، ورَجَعَ، وقال: لَنْ تُرَاعُوا، لَنْ تُرَاعُوا، ما رَأَيْنَا من شَيْءٍ، وإِنْ وَجَدْناهُ لبَحْرًا» أَي استَغَاثُوا واسْتَعْرَضُوا، وظَنُّوا أَنَّ عَدُوًّا أَحاطَ بهِم، فلمّا قالَ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَنْ تُرَاعُوا» سَكَن ما بِهِم من الفَزَعِ.
وِالفَزَعُ أَيضًا: الإِغَاثَةُ، ومنهقَوْلُه صلى الله عليه وسلم للأَنْصَارِ: «إِنَّكُمْ لَتَكْثُرُونَ عندَ الفَزَعِ، وتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَعِ» أَي تَكْثَرُونَ عندَ الإِغَاثَةِ، وقَدْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ أَيْضًا: «عند فَزَعِ النّاسِ إِليْكُم لتُغِيثُوهُم» ضِدٌّ، ومن الأَوّلِ قولُ سَلَامَةَ بنِ جَنْدَلٍ السَّعْدِيِّ:
كُنَّا إِذا ما أَتانَا صارِخٌ فَزِعٌ *** كانَتْ إِجابَتُنَا قَرْعَ الظَّنابِيبِ
ويُرْوَى: «كَانَ الصُّرَاخُ له» أَي: مُسْتَغِيثٌ، كذا فَسَّرَه الصّاغَانِيُّ، وقالَ الرّاغِبُ: أَي صَارِخٌ أَصابَهُ فَزَعٌ، قال: ومَنْ فَسَّرَه بالمُسْتَغِيثِ فإِنَّ ذلِكَ تَفْسِيرٌ للمَقْصُودِ من الكَلامِ، لا لِلَفْظِ الفَزِعِ، ومن الثّانِي قَوْلُ الكَلْحَبَةِ:
وِقُلْتُ لِكَأْسٍ: أَلْجِمِيها فإِنَّنَا *** نَزَلْنَا الكَثِيبَ من زَرُودَ لِنَفْزَعَا
أَي لِنُغِيثَ ونُصَرِخَ مَن اسْتَغَاثَ بِنَا. قلتُ: ومِثْلُه للرّاعِي:
إِذَا مَا فَزِعْنَا أَوْ دُعِينَا لِنَجْدَةٍ *** لبِسْنَا عَليْهِنَّ الحدِيدَ المُسَرَّدَا
وقَالَ الشَمّاخُ:
إِذَا دَعَتْ غَوْثَهَا ضَرَّاتُهَا فَزِعَتْ *** أَطبَاقُ نَيٍّ على الأَثْبَاجِ مَنْضُودِ
يَقُول: إِذا قَلَّ لبَنُ ضَرَّاتِها، نَصَرَتْهَا الشُّحُومُ الَّتِي على ظُهُورِهَا، وأَغَاثَتْهَا، فأَمَدَّتْهَا باللَّبَنِ. فَزِعَ إِلَيْه، وفَزِعَ مِنْهُ، كفَرِحَ، ولا تَقُل: فَزَعَهُ؛ أَي كمَنَعَه، قالَ الأَزْهَرِيُّ: والعَرَبُ تَجْعَلُ الفَزَعَ فَرَقًا، وتَجْعَلُه إِغاثَةً للفَزِعِ المُرَوَّعِ، وتَجْعَلُه اسْتِغاثَةً.
أَو فَزِعَ إِليْهِم، كفَرِحَ: اسْتَغَاثَهُم، وفَزَعَهُم، كمَنَع وفَرِحَ: أَغاثَهُمْ ونَصَرَهُمْ، كأَفْزَعَهُم، ففِيه ثَلاثُ لُغَاتٍ: فَزَعْتَ القَوْمَ، وفَزِعْتُهُم، وأَفْزَعْتُهُم، كُلُّ ذلِكَ بمَعْنَى أَغْثْتُهُم.
قالَ ابنُ بَرِّيّ: ممّا يُسْأَلُ عنه، يُقَال: كيفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فَزِعْتُه بمَعْنَى أَغثْتُه مُتَعَدِّيًا، واسمُ الفاعِلِ منه فَزِعٌ، وهذَا إِنّمَا جاءَ في نَحْوِ قَوْلِهم: حَذِرْتُه فأَنَا حَذِرُه، واسْتَشْهَدَ سِيبَوَيْهٌ عليه بقَوْلِه:
«حَذِرٌ أُمُورًا...
ورَدُّوهُ عَلِيهِ، وقالُوا: البَيْتُ مَصْنُوعٌ. وقال الجَرْمِيُّ: أَصلُهُ حَذِرْتُ مِنْهُ، فعُدِّيَ بإِسْقَاطِ «منه» قال: وهذا لا يَصِحُّ في فَزِعْتُه ـ بمَعْنَى أَغَثْتُه ـ أَنْ يَكُونَ على تَقْدِيرِ مِنْ، وقد يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَزِعٌ مَعْدُولًا عن فَازِعٍ، كما كانَ حَذِرٌ مَعْدُولًا عن حَاذِرٍ، فيَكُون مِثْلَ: سَمِعٍ مَعْدُولًا عن سامِعٍ، فيَتَعَدَّى بما تَعَدَّى سامِعٌ، قالَ: والصَّوابُ في هذَا أَنَّ فَزِعْتُه ـ بمَعْنَى أَغَثْتُه ـ بمَعْنَى فَزِعْتُ له، ثمّ أُسْقِطَتِ الَّلامُ: لأَنَّهُ يُقَال: فَزِعْتُه، وفَزِعْتُ له: قالَ: وهذا هو الصَّحِيحُ المُعَوَّلُ عليه.
أَو فَزِعَ كَفَرِحَ: انْتَصَرَ، وأَفْزَعَه هو: نَصَرَهُ.
وِفَزِعَ إِلَيْهِ: لَجَأَ، ومنهالحَدِيثُ: «كُنَّا إِذا دَهَمَنا أَمْرٌ فَزِعْنَا: إِليْهِ» أَي لَجَأْنَا إِليْه، واسْتَغَثْنَا به.
وفي حَدِيثِ الكُسُوفِ: «فَافْزَعُوا إِلى الصَّلاةِ» أَي الجَأوا إِليْهَا، واسْتَغِيثُوا بِهَا.
وِفي الحَدِيثِ: «أَنَّه فَزِعَ من نَوْمِهِ مُحْمَرًّا وَجْهُه» أَي: هَبَّ وانْتبَه، يُقَالُ: فَزِعَ مِنْ نَوْمِهِ وأَفْزَعْتُهُ أَنا؛ أَي نَبَّهْتُه، وكأَنَّه من الفَزَع بمَعْنَى الخَوْفِ، لأَنَّ الَّذِي يَتَنَبَّهُ لا يَخْلُو من فَزَعٍ ما، وفي الحَدِيثِ: «أَلَا أَفْزَعْتُمُوني؟» أَي: أَنْبَهْتُمُونِي.
وِالمَفْزَعُ، والمَفْزَعَةُ كمَقْعَدٍ، ومَرْحَلَةٍ: المَلْجَأُ عند نُزُولِ الخَطْبِ، وكِلاهُمَا للوَاحِدِ والجَمْعِ، والمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، أَو كمَقْعَدٍ: هو المُسْتَغَاثُ به، وكَمَرْحَلَةٍ: مَنْ يُفْزَعُ مِنْهُ، أَو مِنْ أَجْلِه، فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، كما في العَيْنِ.
وِالفَزَّاعَةُ، مشَّدَّدَةً: الرَّجُلُ يُفَزِّعُ النّاسَ تَفْزِيعًا كَثِيرًا.
وِالفُزَعَةُ، كهُمَزَةٍ: من يَفْزَعُ مِنْهُم كَثِيرًا.
وِبالضَّمِّ: من يُفْزَعُ منه ويُفْزَعُ بِهِ.
وِفُزَيْعٌ، وفَزّاعٌ كزُبَيْرٍ، وشَدّادٍ: اسْمان.
وِأَفْزَعَهُ إِفْزاعًا: أَخافَهُ ورَوَّعَه، ففَزعَ هو، كفَزَّعَه تَفْزِيعًا.
وِأَفْزَعَه: أَغاثَهُ ونَصَرَهُ.
وِفي مَعْنَاهُ: أَفْزَعَ عَنْهُ؛ أَي كَشَفَ الفَزَعَ؛ أَي الخَوْف، هكَذَا مُقْتَضَى سِيَاقِ عِبَارَتِه، والَّذِي في العُبَابِ وغيْرِه: فَزَّعَ عَنْه: أَزالَ فَزَعَهُ.
وِالمُفَزَّعُ، كمُعَظَّمٍ يَكُونُ الشُّجاع، ويَكُونُ الجَبَان.
نَقَلَه الفَرّاءُ، قالَ: فَمَنْ جَعَلَه شُجَاعًا مَفْعُولًا به قالَ: بمِثْلِه تُنْزَلُ الأَفْزَاعُ، ومن جَعَلَه جَبَانًا جَعَلَه يَفْزَعُ مِنْ كلِّ شَيْءٍ، قالَ: وهذا مِثْلُ قَوْلِهِم للرَّجُلِ: إِنَّهُ لَمُغَلَّبٌ، وهو غالِبٌ، ومُغَلَّبٌ وهو مَغْلُوبٌ، فهو ضِدٌّ.
وفِي الصّحاح: والتَّفْزِيعُ من الأَضْدادِ، يُقَال: فَزَّعَهُ؛ أَي أَخافَهُ، وفُزِّعَ عنه، بالضَّمِّ، تَفْزِيعًا؛ أَي كُشِفَ عنه الفَزَع؛ أَي الخَوْفُ، قالَ: ومنه قَوْلُه تَعَالَى: {حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أَي كُشِفَ عَنْهَا الفَزَعُ. قلتُ: وهي قِرَاءَةُ العامَّةِ، ويُقْرَأَ: حَتَّى إِذا فَزَّعَ أَي فَزَّعَ الله؛ أَي كَشَفَ الفَزَعَ عن قُلُوبِهِم؛ لأَنَّ المَلائِكَةَ كانُوا لطُولِ العَهْدِ بالوَحْيِ خافُوا من نُزُولِ جِبْرِيلَ ومَنْ مَعَهُ من المَلائِكَةِ عَليْهِمُ السَّلامُ بالوَحْيِ؛ لأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّه نَزَلَ لِقِيَامِ السّاعَةِ، فلما تَقَرَّرَ عِنْدَهُم أَنَّه لِغيْرِ ذلِكَ، كُشِفَ الفَزَعُ عن قُلُوبِهِم.
وفي كِتَابِ الشَّواذِّ لابْنِ جِنِّي: قَرَأَ الحَسَنُ بخِلافِه: فُرِغَ عن قُلُوبهِم بالرّاءِ خَفِيفَةً وبالغيْنِ. قالَ: مرفوعُه حَرْفُ الجَرِّ وما جَرَّه، كقَوْلنا: سِر عن البَلَدِ، وانْصُرِف عن كذَا إِلى كذا، قال: وكذلِكَ فُزِّعَ، بتشديد الزَّاي.
وِالمُفَازعُ: الفَزِعُ، وبه فُسِّرَ قولُ الفَرَزْدَقِ:
هَوَى الخَطَفَى لَمَّا اخْتَطَفْتُ دِمَاغَهُ *** كما اخْتَطَفَ البَازِي الخَشَاشَ المُفَازِعَا
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
الفَزِعُ، ككَتِفٍ: القَلِقُ ولا يُكَسَّرُ لِقلَّةِ فَعِلٍ في الصِّفَةِ، وإِنَّمَا جَمْعُه بالوَاوِ والنُّونِ، وبه قُرِئَ قولُه تَعالَى: فأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسَى فازِعًا أَي: قَلِقًا، يَكَادُ يَخْرُجُ من غِلافِه فيَنْكَشِفُ، وهي قِرَاءَةُ فَضالَةَ بنِ عَبْدِ الله، والحَسَنِ، وأَبِي الهُذيْلِ، وابْنِ قُطَيْبٍ، كما في الشَّواذِّ لابْنِ جِنِّيِّ.
وِالفَزِعُ: المُغِيثُ والمُسْتَغِيثُ، ضِدٌّ، ورَجُلٌ فَازِعٌ ـ وجَمْعُه: فَزَعَةٌ ـ ومَفْزُوعٌ: مُرَوَّعٌ.
وِفَزّاعَةٌ: كثيرُ الفَزَعِ.
وِفَازَعَهُ فَفَزَعَهُ: صارَ أَشدَّ فَزَعًا منه.
ويُقَال: فَزِعْتُ بِمَجِيءِ فُلانٍ: إِذَا تَأَهَّبْتَ له، مُتَحَوِّلًا مِن حالٍ إِلى حالٍ، كما يَنْتَقِلُ النّائِمُ من النَّوْمِ إِلى اليَقَظَةِ.
وقَالَ ابنُ فارِسٍ: المَفْزَعَةُ: المَكَانُ يَلْتَجِئُ إِليه الفَزِعُ.
وِالفَزَعُ مُحَرَّكةً: هو ابنُ شَهْرَان بنِ عِفْرِسٍ، أَبُو بَطْنٍ مِن خَثْعَمَ، قالَهُ ابنُ حَبِيب، ومن وَلَده جَمَاعَةٌ.
وِالفَزَعُ بنُ عُقَيْقٍ المَازِنِيُّ: تَابِعِيٌّ، رَوَى عن ابْنِ عُمَرَ، وعَنْهُ يُونُسُ بنُ عُبَيْدٍ.
وِالفَزَع: تابِعِيٌّ آخَرُ، رَوى عن المُنْقَع رضِيَ الله عنهُ، وعنه سَيْفُ بنُ هرُونَ، كذا في التَّبْصِيرِ.
وقولُ عَمْرِو بنِ مَعْدِيكَرِبَ رضِيَ الله عَنْهُ ـ حِينَ قَال له الأَشْعَثُ: لَوْ دَنَوْتَ لأُضَرِّطَنَّكَ ـ: «كَلّا والله، إِنَّهَا لَعَزُومٌ مُفَزَّعَةٌ» من فَزَّعَ عنه، إِذَا أَزالَ فَزَعَه، بحَذْفِ الجارِّ وإِيصالِ الفِعْلِ؛ أَي هي آمِنَةٌ، لا تَرْهَقُها الأَفْزَاعُ، وهي صَبُورٌ صَحِيحَةُ العَقْدِ، والاسْتُ تُكْنَى أُمّ عَزْمٍ، يريدُ أَنَّهَا ذاتُ عَزْمٍ وقُوَّةٍ وليْسَت بوَاهِيَةٍ فَتَضْرَطَ.
وِفَزَعاتُ الرَّوْعِ، مُحَرَّكةً: جَمْعُ فَزَعَةٍ، بالتَّحْرِيكِ أَيْضًا.
ومن كَلامِ العامَّةِ: فَزَعَ عَليْه، إِذا تَحَامَلَ عليهِ مُشِيرًا للضَّرْبِ، وله في العَرَبِيَّةِ وَجْهٌ صَحِيحٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
82-تاج العروس (عسق)
[عسق]: عَسِق به، كَفرِح عَسَقًا: لَصِق به ولَزِمَه.ويقال: أُولِع به، كما في الصِّحاح.
ويُقال: عَسِقَ عليه جُعَلُ فُلانٍ: إِذا أَلَحَّ عليه فِيمَا يَطْلُبه به، وفي اللِّسانِ: فيما يُطالِبُه كتَعسَّقَ بِهِ في الكُلِّ.
قال رُؤْبةُ:
إِلْفًا وحُبًّا طَالَما تَعسَّقَا
وعَسِقت النَّاقةُ على الفَحْلِ ونصُّ الخليلِ فيما نقلَه الجوهريُّ «بالفَحْل»: إِذا أَرَبَّتْ عليه، وكذلِكَ الحِمارُ بالأَتان. قالَ رُؤْبَةُ:
فعَفَّ عن أَسْرارِها بَعْدَ العَسَقْ
ولم يُضِعْها بين فِرْكٍ وعَشَقْ
والعَسَق محركة: الالْتِواءُ وعُسْر الخُلُق وضِيقُه. يُقالُ: في خُلُقِهِ عَسَقٌ: أَي الْتِواءٌ، هذا إِذا وُصِف بسُوءِ الخُلُق وضِيقِ المُعامَلَة.
والعَسَقُ: الظُّلْمَة مثل الغَسَق عن ثَعْلبٍ، وأَنْشَدَ:
إِنا لَنَسْمو للعَدُوِّ حَنَقًا *** بالخيل أَكْداسًا تُثِير عَسَقَا
كَنَى بالعَسَق عن ظُلْمةِ الغُبارِ.
والعَسَق: العُرجُون الرَّدِيء قالَه اللَّيثُ، وهي لُغةُ بَنِي أَسَد.
وقالَ ابنُ الأَعرابيِّ: العُسُق بضَمَّتَيْن: عَراجِينُ النَّخّلِ.
قالَ: والعُسُق: المُتَشَدِّدُون على غُرَمَائِهم في التَّقَاضِي.
قال: والعُسُق: اللَّقَّاحُونَ.
وقالَ أَبو حَنِيفة العَسِيقَة، كسَفِينة: شَرابٌ رَدِيءٌ كَثِيرُ المَاءِ.
وفي المُحْكَم: فأَمَّا قَولُ سُحَيْم:
فلو كُنتُ وَرْدًا لَوْنُهُ لعَسِقْنَنِي *** ولكنَّ رَبِّي شانَنِي بسَوادِيَا
فليسَ بشَيْءٍ، إِنَّما قَلَب الشينَ سِينًا لسَوادِه، وضعْفِ عبارَتِه عن الشِّينِ، ولَيْس ذلِك بلُغَة، إِنَّما هو كاللَّثغ.
قال صاحِبُ اللّسانِ: هذا قَولُ ابن سِيدَه، والعَجَب منه كَونُه لم يَعْتَذِر عن سائِر كَلِماتِه بالشِّين، وعن شانَنِي في البَيْتِ نَفْسِه، أَو يَجْعَلْها من عَسِقَ به، أَي: لَزِمَه. قالَ: ومن المُمْكِن أَن يَكُونَ ـ رحمه الله ـ تَركَ الاعْتِذارَ عن كَلِماتِه بالشِّينِ عن لَفْظَةِ شانَنِي في البَيْتِ؛ لأَنَّها لا مَعْنى لها، واعتَذَرَ عن لَفْظَة عَسِقْتَنِي لإِلْمامِها بِمَعْنى لَزِق ولَزِم.
فأَرادَ أَن يُعْلِمَ أَنه لم يَقْصِدْ هذا المَعْنَى، وإِنَّما هو قَصَدَ العِشْقَ لا غَيْر، وإِنما عُجْمَتُه وسَوادُه أَنْطَقَاه بالسِّين في مَوْضِعِ الشِّين، والله أَعْلَم.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
83-تاج العروس (خبل)
[خبل] الخَبْلُ: بالفتحِ فَسادُ الأَعْضاءِ، كما في المُحْكَمِ، زَادَ الأَزْهَرِيُّ: حتى لا يَدْرِي كيفَ يمْشِي، قالَ الصَّاغانيُّ: ومنه الحدِيثُ: «أَنَّ الأَنْصارَ شَكَتْ إلى رَسُولِ الله، صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَجلًا صاحِبُ خَبْلٍ يأْتي إلى نَخْلِهم فيُفْسِدُ»، أَرادُوا بالخَبلٍ الفَسادَ في الأَعْضاءِ. وفي حديثٍ آخَر: «مَنْ أُصِيبَ بدَمٍ أَو خَبْل فهو بَيْن إحْدَى ثلاثٍ بَيْن أَنْ يَعْفو أَو يَقْتَص أَو يَأْخُذَ الدِّيَةَ، فإنْ فَعَل شيئًا من ذلِكَ ثم عَدا بعْد فإنَّ له النارَ خالِدًا فيها مخلَّدًا».والخَبْلُ: الفالِجُ، يقالُ: أَصَابَه خَبْلٌ أي فالِجٌ وفَسادُ أَعْضاءٍ، ويُحَرَّكُ فيهما، ويقالُ بَنُو فلانٍ يُطَالبُونَ بدماءٍ وخَبْل أي قَطْعُ الأَيْدِي والأَرْجُلِ، نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ وابنُ سِيْدَهَ الجمع: خُبولٌ هو جَمْعُ الخَبَلِ بالفتحِ.
ومن المجازِ: الخَبْلُ: ذَهابُ السِّينِ والفاءِ كذا في النسخِ، وفي المُحْكَمِ: والتاء وكأنَّه غلطٌ، والصوابُ ماهُنا، من مُسْتَفْعِلُنْ في عَرُوضِ البَسيطِ والرَّجزِ، مُشْتَقُّ من الخَبْل الذي هو قَطْعُ اليَدِ.
قالَ أَبُو إسْحق: لأَنَّ السَّاكِنَ كأَنَّه يَدُ السَّبَبِ فإذا ذهَبَ السَّاكِنَان فكأَنَّه قُطِعَتْ يَداهُ فبقِي مُضْطرِبًا، وقد خَبَل الجزءَ وخَبَّله.
وفي العُبَابِ: من أَسماءِ الفاصِلَةِ الكُبْرى الخَبْل. وهو الجَمْعُ بَيْن الجبن والطي. وبمَا عَرَفْت فقَولُ شيْخِنا عِبَارَته ليْسَتْ في كلامِهم لأَنَّهم يُعَبِّرُونَ عنه بحذْفِ الثاني والسَّابعِ غَيْر وَجِيهٍ، ولعلَّه الرَّابعِ، ثم قالَ: وهو من أَنْواعِ الزحَّافِ المزْدَوجِ.
والخَبْلُ الحَبْسُ، يقالُ: خَبَلَه خَبْلًا إذا حَبَسه وعَقَله.
وما خَبَلَك عَنَّا خَبْلًا أي ما حَبَسَك.
واللهُ تعالىَ خابِلُ الرِّياحِ وإذا اشاءَ أَرْسَلَها.
والخَبْل: المَنْعُ، يقالُ: خَبَلَه عن كذا أي مَنَعه، يَخْبلُه خَبْلًا.
والخَبْلُ في كلِّ شيءٍ: القَرْضُ والاسْتِعارةُ، ومنه: اسْتخْبَله فأَخْبَلَه كما سَيَأْتي.
والخَبْلُ: ما زِدْتَه على شَرْطِكَ الذي يَشْتَرطُهُ الجَمِّالُ، وفي المُحْكَمِ: الذي يَشْتَرِطُهُ لك الجَمَّالُ.
والخَبَلُ: بالتَّحْريكِ الجِنُّ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ والفرَّاءِ كالخابِلِ وأَنْشَدَ الأَزْهَرِيُّ:
يَكُرُّ عليه الدَّهْرُ حتى يَرُدَّهُ *** دَوىً شَنَّجَتْه جِنُّ دَهْرٍ وخابِلُه
وقيلَ الخابِلُ الجِنُّ، والخَبَلُ اسمٌ للجَمْعِ كالقَعَدِ والرَّوَح اسْمَان لجَمْعِ قاعِدٍ ورَائِحٍ، وقيلَ: هو جَمْعٌ.
والخَبَلُ: فَسادٌ في القَوائِمِ. وأَيْضًا الجُنُونُ، زَادَ الأَزْهَرِيُّ: أو شَبَهَهُ في القَلْبِ، ويُضَمُّ ويُفْتَحُ كما في المُحْكَمِ: وقالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْخَبْلِ الفَسادُ الذي يَلْحَقُ الحَيَوانَ فيوُرثُه اضْطِرابًا كالجُنونِ بالمَرَضِ المُؤَثِّرِ في العَقْل والفِكْرِ كالخَبَالِ والخَبْلِ.
وأَيْضًا طائِرٌ يَصِيحُ اللّيلَ كلَّه صَوتًا واحِدًا يَحْكي ماتَتْ خَبَلْ كذا في المُحْكَمِ.
وقالَ الفرَّاءُ الخَبْلُ: المَزادةُ قالَ وأَيْضًا القِرْبَةُ المَلْأَى.
وفي المُحْكَمِ: الخابِلُ المُفْسِدُ والشيطانُ.
والخَبَالُ: كسحابٍ النُّقْصانُ وهو الأَصْلُ ثم يُسَمىَّ الهَلاكُ خَبَالًا، كما في المُحْكَمِ: والذي في العُبَابِ والمُفْرَدات أَنَّ أَصْلَ الخَبَالِ الفَسَاد ثم اسْتُعْمِل في النُّقْصانِ والهَلاكِ.
والخَبَالُ: العَناءُ، يقالُ: فلانٌ خَبَالٌ على أَهْلِه أي عَنَاءٌ كما في المُحْكَمِ.
وقيلَ: الخَبَالُ: الكَلُّ. وقيلَ: العِيالُ، يقالُ: فلانٌ خَبَال عليه أي عِيالٌ في العُبَابِ.
والخَبَالُ: السَّمُّ القاتِلُ عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.
والخَبَالُ: صَديدُ أَهْلِ النارِ، وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ عُصارةُ أَهْلِ النارِ، ومنه الحدِيثُ: «مَنْ أَكَلَ الرَّبا أَطْعَمَه اللهُ من طِينَةِ الخَبَالِ يومَ القِيامَةِ». وهو ما سَالَ من جلُودِ النارِ يُرْوَى عن حَسَّانِ بنِ عَطِيَّة: «مَنْ قَفَا مُؤْمنًا بمَا ليَس فيه وقَفَه اللهُ تعالىَ في رَدْغَةِ الخَبَالِ حتى يَجِيءَ بالمَخْرَجِ منه»، قَفَا أي قَذَفَ. ومن المجازِ: الخَبَالُ: أَنْ تكونَ البِئْرُ مُتَلَجِّفَة فَرُبمَّا دَخَلَتِ الدَّلْوُ في تَلْجِيفِها فَتَتَخَرَّقُ قالَهُ الفرَّاءُ وأَنْشَدَ:
أَخُذِمَتْ أَمْ وُذِمَتْ أَم مالَها؟ *** أَم صادَفَتْ في قَعْرها خَبَالَها؟
ومَرَّ بالجيمِ أَيْضًا، أي ما أَفْسَدَها وخَرَّقَها.
وأَمَّا اسمُ فَرَسِ لَبيدٍ الشاعِر المَذْكورُ في قَوْلِه:
تَكاثَرَ قُرْزُلٌ والجَوْنُ فيها *** وعَجْلَى والنَّعامَةُ والخَيالُ
فبالمُثَنَّاةِ التحتيةِ لا بالموحَّدَةِ ووَهِمَ الجوهريُّ كما وَهِمَ في عَجْلَى وجَعَلَها تَحْجَلُ وقد سَبَقَ الكَلامُ عليه في «ح الجمع: ل» وذَكَرْنا أَنَّ بَيْت لَبيدٍ هكذا رُوِيَ كما ذَهَبَ إليه الجوهريُّ، وفي بعضِ نسخِهِ كما عنْدَ المصنِّفِ، وهو مَرْويُّ بالوَجْهَيْنِ أي تَحْجَلُ وعَجْلَى وقُرْزُلٌ والجَوْلُ والنَّعامَةُ والخَيالُ كُلُّها أَفْراسٌ يَأْتي ذِكْرُهنَّ في مَواضِعِها.
وخَبَلَه الحُزْنُ وخَبَّلَه خَبْلًا وتَخْبيلًا واخْتَبَلَهُ جَنَّنَه، وكذلِكَ الحبُّ والدَّهْر والسّلْطانُ والدَّاءُ، كما في التهْذِيبِ، وأَيْضًا أَفْسَدَ عُضْوَه وخَبَلَه الحبُّ: أَفْسَدَ عَقْلَه فهو خابِلٌ وذاكَ مَخْبولٌ.
وخَبَلَه عنه يَخْبِلُه خَبْلًا مَنَعَه وقد تقدَّمَ.
وخَبِلَ عن فِعْلِ أَبيهِ إذا قَصَّرَ كما في المُحِيطِ.
وخَبِلَ كفَرِحَ خَبلًا وخَبالًا فهو أَخْبَلُ وخَبِلٌ، ككَتِفٍ. جُنَّ وفسد عَقْله.
وخَبِلَتْ يَدُهُ أي شُلَّتْ، وقيلَ: قُطِعَتْ، قالَ أَوْسُ بنُ حجرٍ:
أَبَني لُبَيْنَى لَسْتم بِيَدٍ *** إِلَّا يَدًا مَخْبُولة العَضُدِ
قالَ الصَّاغانيُّ: هكذا أَنْشَدَه الزَّمَخْشَرِيّ في الفائِقِ، والرِّوايَةُ:
إلَّا يدًا ليْسَتْ لها عَضُدُ
وليسَ فيه شاهِدٌ. وأَنْشَدَه في المفَصِّلِ على الصِّحَةِ إلَّا أَنَّه نَسَبَه إلى طرفَةَ وهَو لأَوْسٍ.
ومن المجازِ: دَهْرٌ خَبِلٌ، ككَتِفٍ، مُلْتَوٍ على أَهْلِه، زَادَ الأَزْهَرِيُّ: لا يَرُونَ فيه سرُورًا قالَ الأَعْشَى:
أأنْ رأتْ رجُلًا أعْشَى أضرّ به *** رَيبُ الزمانِ ودهرٌ مفِندُ خَبِلُ
واخْتَبَلَتِ الدَّابَّةُ لم تَثْبُتْ في مَوْطِنِها، عن ابنِ سِيْدَه، ونَقَلَه اللَّيْثُ وبه فَسّر قَوْلَ لَبيدٍ في صِفَةِ الفَرَسِ:
ولقد أَغْدُو وما يَعْدَمُنِي *** صاحِبٌ غَيْرُ طَوِيلِ المُخْتَبَلْ
وقالَ الصَّاغانيُّ: يُرْوَى بالحاءِ وقَدْ ذُكِرَ في «ح ب ل».
ومن المجازِ: اسْتَخْبَلَنِي ناقةً فأَخْبَلْتُها أي اسْتَعارَنيها فأَعَرْتُها ليَرْكَبَها، أو أَعَرْتُها ليَنْتَفِعَ بلبَنِها ووَبَرِها ثم يَرُدَها، أو أَعَرْتُه فَرَسًا لِيَغْزُوَ عليهِ وهو مِثْلُ الإِكْفَاءِ.
وفي العُبَابِ: الاسْتِخْبَالُ اسْتِعارَةٌ المالِ في الجَدْبِ لِينْتَفِعَ به إلى زَمَنِ الخِصْبِ.
وفي المُحْكَمِ: اسْتَخْبَلَ الرجُلُ إبِلًا وغَنَمًا فأَخْبَلَه: اسْتَعارَهُ فأَعَارَهُ قالَ زُهَيْرُ:
هُنالِكَ إن يُسْتَخْبَلُو المالَ يُخْبِلُوا *** وإن يُسْأَلوا يُعْطُوا وإنْ يَيْسِروا يُغْلوا
والمُخَبَّلُ: كمُعَظَّمٍ شُعَراءُ ثُمِالِيُّ من بنِي ثُمالَة، وقُرَيْعِيُّ وهو رَبيعُ بنُ رَبيعَةَ بنِ قبال، وسَعْدِيُّ وهو ابنُ شرحبيل، وكذا كَعْبٌ المُخَبَّلُ.
والمُخَبِّلُ: كمُحَدِّثٍ اسمٌ للدَّهْرِ، وقد خَبَلَه الدَّهْرُ تَخْبِيلًا إذا جَنَّنَه وأَفْسَدَ عَقْلَه.
ووَقَعَ ذلِكَ في خَبْلِي بالفتحِ والضمِ أي في نَفْسي وخَلَدي، كما في المُحيْطِ، وهو بمعنى سُقِطَ في يَدي.
قالَ ابنُ عَبَّادٍ: والاخْبالُ أَنْ تَجْعَلَ إِبِلَكَ نِصْفين تُنْتَجُ كُلَّ عامٍ نِصْفًا كفِعْلِكَ بالارضِ للزِّراعَةِ، ونصُّ المُحِيطِ: والزِّراعَةِ، وفي العُبَابِ: التَّرْكيب يدلُّ على الفَسَادِ وقد شَذَّ عنه الإِخْبالُ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
الخَبَالُ الفَسَادُ في الأفْعالِ والأَبْدانِ والعُقُولِ.
وقالَ الزَّجَّاج: الخَبَالُ: ذَهابُ الشيءِ.
والخُبُّلُ كسُكَّر الجِّنُ جَمْعُ خابِلٍ، قالَ أَوْسُ يَذْكُرُ مَنْزلًا:
تَبَدّلا حالًا بعد حالٍ عَهِدْتُهُ *** تَنَاوَحَ جِنّانُ بِهِنّ وَخُبَّلُ
والخَبَلُ: بالفتحِ الفتْنَةُ والهَرَجُ، وقَوْلُه تعالىَ: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا} أي لا يُقَصِّرُون في إفْسادِ أُمُورِكم. وكذلِكَ قَوْلهُ تعالىَ: {ما زادُوكُمْ إِلّا خَبالًا}. وقالَ ابنُ الأَعْرَابيّ والفرَّاءُ: الخَبَلُ بالتَّحْرِيكِ يَقَعُ على الجِنِّ والإِنْسِ، وقالَ غيرُهما هو جودَةُ الحُمقِ بِلا جُنُونٍ.
والمُخَبَّلُ: كمُعَظَّمٍ المَجْنُونُ كالمُخْتَبَل، والذي كأَنَّه قُطِعَتْ أَطْرَافُه.
والاخْتِبالُ: الحَبْسُ، وأَيْضًا الإِعَارَةُ وبه فُسِّرَ أَيْضًا قَوْلُ زُهَيْرٍ السَّابقِ: غَيْرُ طَويلِ المُخْتَبَلْ، أي غَيْرُ طَويلِ مُدَّةِ الإِعَارَةِ.
وقالوا: خَبْلٌ خابِلٌ يَذْهَبُون إلى المُبالَغَةِ، قالَ مَعْقِلُ بنُ خُويْلِدٍ:
نُدَافِع قومًا مُغْضَبِينَ عليكمُ *** فَعَلْتم بهم خَبْلًا من الشَّرِّ خابِلا
والخَبَلُ: محرَّكةً الجِراحَةُ وبه فُسِّرَ قَوْلُهم: بَنَو فلانٍ يُطَالِبُونَنَا بخَبَلٍ.
والخُبْلةُ بالضمِ الفَسَادُ من جِرَاحَةٍ أو كَلِمَةٍ.
واسْتَخْبَلَ مالَ فلانٍ طَلَبَ إفْسَادَ شيءٍ من إِبلِه، قالَهُ الرَّاغِبُ وبه فُسِّرَ قَوْلُ زُهَيْرٍ السَّابق.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
84-تاج العروس (مثل)
[مثل]: المِثْلُ بالكسْرِ والتَّحْريكِ وكأَميرٍ: الشِّبْهُ؛ يقالُ هذا مِثْلُه ومَثَلُه، كما يقالُ شِبْهُه وشَبَهُه.قالَ ابنُ بَرِّي: الفَرْقُ بينَ المُمَاثَلَةِ والمُساوَاة أَنَّ المُساوَاةَ تكُونُ بينَ المُخْتَلِفَيْنِ في الجنْسِ والمُتَّفِقَيْن، لأنَّ التَّساوِي هو التَّكافؤُ في المِقْدارِ لا يزيدُ ولا ينقصُ، وأَمَّا المُمَاثَلَة فلا تكونُ إلَّا في المُتَّفِقَيْن، تقولُ: نحوُه كنحوه وفقهُه كفقهِه ولونُه كلوْنِه وطعمُه كطعمِه فإذا قيلَ: هو مِثْلُه على الإطْلاق فمعْناه أَنَّه يسدُّ مسدَّه وإذا قيلَ: هو مِثْلُه في كذا فهو مُساوٍ له في جهةٍ دُوْن جهةٍ، انتهى.
وقَرَأْت في الرِّسالةِ البَغْدادِيَّة للحاكِمِ أَبي عبدِ اللهِ النَّيْسابورِي وهي عنْدِي ما نَصّه: أَنَّ ممَّا يلْزمُ الحديثيِّ مِن الضَّبْط والاتْقانِ إذا ذَكَر حدِيثًا وساقَ المَتْن، ثم أَعْقبه بإسْنادٍ آخَر يفرقَ بينَ أَنْ يقولَ: مِثْلُه أَو نحوُه، فإنَّه لا يحلّ له أَنْ يقولَ: مِثْلُه إلَّا بعْد أَن يقفَ على المَتْنَيْن والحدِيْث جَمِيعًا فيَعْلم أَنَّهما على لَفْظٍ واحِدٍ، فإذا لم يميِّز ذلِكَ حلَّ له أَنْ يقولَ: نحوُه فإنَّه إذا قالَ: نحوُه فقد بيَّن أَنَّه مثل مَعَانِيه، وقَوْلُه تعالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ} العَليمِ أَرَادَ ليسَ مِثْلَه لا يكون إلَّا ذلِكَ، لأنَّه إن لم يَقُلْ هذا أَثْبَتَ له مِثْلًا، تعالَى اللْهُ عن ذلِكَ؛ ونَظِيرُه ما أَنْشَدَه سِيْبَوَيْه:
لَواحِقُ الأَقْرابِ فيها كالمَقَقْ
الجمع: أَمثالٌ. وقوْلُهُم: فلانٌ مُسْتَرادٌ لِمِثْلِهِ، وفلانَةٌ مُسْتَرادَةٌ لِمِثْلِها أَي مِثلهُ يُطْلَبُ ويُشَحُّ عليه؛ وقيلَ: معْناه مُسْتَراد مِثْله أَو مِثْلها، واللَّامُ زائِدَةٌ.
والمَثَلُ محرَّكةً: الحجَّةُ؛ وأَيْضًا الحَديثُ نفْسُه؛ وقوْلُه، عزّ وجلّ: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى} جاءَ في التفْسِيرِ: أَنَّه قَوْلُ لا إله إلَّا اللهُ، وتأْويلُه أَنَّ اللهَ أَمَرَ بالتَّوحيدِ ونَفَى كلَّ إلهٍ سِواهُ، وهي الأَمْثالُ. وقد مَثَّلَ به تَمْثيلًا وامْتَثَلَه وتَمَثَّلَهُ وتَمَثَّلَ به، قالَ جريرُ:
والتَّغْلَبيُّ إذا تَنَحْنَح للِقِرى *** حَكَّ اسْتَهُ وتَمَثَّلَ الأَمْثالا
على أَنَّ هذا قد يجوزُ أَن يُريدَ به تمثَّلَ بالأَمْثالِ ثمَّ حَذَف وأَوْصَل.
والمَثَلُ أَيْضًا: الصِّفَةُ، كما في الصِّحاحِ.
قالَ ابنُ سِيْدَه: ومنه قوْلُه تعالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي {وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وقالَ اللَّيْثُ: مَثَلُها هو الخبرُ عنها.
وقالَ أَبو إسحْق: معْنَاه صِفَة الجَنَّة.
قالَ عُمَرُ بنُ أَبي خليفَةَ: سَمِعْت مُقاتِلًا صاحِبَ التفْسِير يسأَلُ أَبا عَمْرو بن العَلاءِ عن هذه الآيةِ فقالَ: ما مَثَلُها؟ فقالَ فيها: {فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ} قالَ: ما مَثَلُها؟ فسكَتَ أَبو عَمْرو، قالَ: فسأَلْتُ يونس عنها فقالَ: مَثَلُها صِفَتُها.
قالَ محمدُ بنُ سلام: ومَثَل ذلِكَ قوْلُه: {ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} أَي صِفَتُهم.
قال الأَزْهرِيُّ: ونحوُ ذلِك رُوِي عن ابنِ عَبَّاسٍ، وأَمَّا جَوابُ أَبي عَمْرو لمُقاتِل حينَ سأَلَه: ما مَثَلُها فقالَ؛ {فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ}، ثم تكْرِيرُه السُّؤالَ: ما مَثَلُها وسكُوت أَبي عَمْرو عنه، فإنَّ أَبا عَمْرو أَجابَهُ جَوابًا مُقْنِعًا، ولمَّا رَأَى نَبْوةَ فَهْمِ مُقاتِل سَكَتَ عنه لما وَقَفَ مِن غلَظِ فَهْمِه، وذلِكَ أَنَّ قوْلَه تعالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} تفْسِيرٌ لقوْلِه تعالَى: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} وَصَفَ تلْكَ الجنَّاتِ فقالَ: مَثَلُ الجنَّة التي وصفْتُها، وذلِكَ مِثْل قوْلِه: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ}؛ أَي ذلِكَ صِفَةُ محمدٍ، صلَّى اللهُ تعالَى عليه وسلَّم، وأَصْحابه في التَّورَاة؛ ثم أَعْلَمهم أَنَّ صفَتَهم في الإِنْجِيلِ (كَزَرْعٍ).
وقالَ الأزْهَرِيُّ: وللنَّحويِّين في قوْلِه تعالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} قولٌ آخَرَ قالَهُ محمدُ بنُ يَزِيد المبرِّدُ في كتابِ المقُتَضب، قالَ: التَّقديرُ فيما يُتْلَى عليكم: مَثَلُ الجنَّة ثم فيها وفيها، قالَ ومَنْ قالَ إنَّ معْناه صِفَةُ الجنَّةِ فقد أَخْطأَ لأَنَّ مَثَل لا يُوضَعُ في مَوْضعِ صِفَةٍ، إنَّما يقالُ: صِفَةُ زَيْدٍ إنَّه ظَرِيفٌ وإنَّه عاقِلٌ. ويقالُ: مَثَلُ: زيدٍ مَثَلُ فلانٍ، إنَّما المَثَلَ مأْخوذٌ مِن المِثَالِ والحَذْوِ، والصِّفةُ تحْلية ونَعْتٌ انتَهَى.
قلْتُ: ومثْلُ ذلِكَ لأبي عليِّ الفارِسِيِّ فإنَّه قالَ: تفْسِيرُ المَثَلِ بالصِّفَةِ غيرُ مَعْروفٍ في كَلَامِ العَرَبِ، إنَّما معْناه التَّمْثِيل.
قالَ شيْخُنا: ويمكنُ أَنْ يكونَ إطْلاقه عليها مِن قَبيلِ المجازِ لعَلاقَةِ الغَرَابَةِ.
وامْتَثَلَ عندَهُم مَثَلًا حَسَنًا؛ وكذا امْتَثَلَهم مَثَلًا حَسَنًا وتَمَثَّلَ أَي أَنْشَدَ بَيْتًا، ثم آخَرَ، ثم آخَرَ، وهي الأُمْثُولَةُ بالضمِ.
وتَمَثَّلَ بالشَّيءِ: ضَرَبَهُ مَثَلًا؛ يقالُ: هذا البَيْتُ مَثَل يَتَمَثَّله ويَتَمَثَّل به.
والمِثَالُ، بالكسرِ: المِقدارُ وهو مِن الشِّبْه، والمِثْل: ما جُعِلَ مثالًا، أي مقدارًا لغَيْرِه، يُحْذَى عليه، والجَمْعُ أَمْثِلَةٌ ومُثُلٌ، ومنه أَمْثِلةُ الأفْعالِ والأسْماءِ في بابِ التَّصْرِيفِ.
وقالَ أَبو زَيْدٍ: المِثالُ القِصَاصُ وهو اسمٌ مِن أَمْثَلَه إِمْثالًا، كالقِصَاص اسمٌ مِن أَقصَّه إِقْصاصًا.
والمِثالُ: صِفَةُ الشَّيءِ، وأَيْضًا: الفِرَاشُ، ومنه حدِيّث عبْد اللهِ بن أَبي نهيك: أَنّه دَخَلَ على سعْدٍ، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه، وعنْدَه مِثالٌ رَثَّ أَي فِراشٌ خَلَقَ، وفي حدِيْثٍ آخَر: «فاشْتَرَى لكلِّ واحِدٍ منهم مِثالَيْن»، قالَ جريرُ: قلْتُ للمُغِيرْة: ما مِثَالان؟ قالَ: نَمَطان، والنَّمَطُ ما يُفْترشُ مِن مَفارِش الصُّوف الملوَّنَةِ؛ قالَ الأَعْشَى:
بكلِّ طُوَالِ السَّاعِدَيْنِ كأَنَّما *** يَرَى بِسُرَى الليلِ المِثالَ المُمَهَّدا
الجمع: أَمْثِلَةٌ ومُثُلٌ، بضمَّتَيْن، وإِن شئْت خَفَّفْت.
وتَماثَلَ العليلُ: قارَبَ البُرْءَ فصَارَ أَشْبَهَ بالصَّحيحِ مِن العَليلِ المَنْهوكِ، وقيلَ: هو مِن المُثولِ وهو الانْتِصابُ كأَنَّه هَمَّ بالنُهوضِ والانْتِصابِ.
وفي الصِّحاحِ تَماثَلَ مِن عِلَّتِه أَي أَقْبَلَ.
والأَمْثَلُ: الأَفْضَلُ؛ يقالُ هو أَمْثل قوْمِه أَي أَفْضَلهم.
وقالَ أَبو إِسْحق: الأَمْثَلُ ذو العَقْلِ الذي يَسْتحقُّ أَنْ يقالَ: هو أَمْثَلُ بَنِي فلانٍ. وفي الحدِيْث: «أَشَدُّ الناسِ بَلاءً الأَنْبِياءُ ثم الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ» أَي الأَشْرَفُ فالأَشْرفُ والأَعْلَى فالأَعْلَى في الرُّتبةِ والمَنْزلةِ. وفي حدِيْث التَّراوِيح: «لكانَ أَمْثلَ» أَي أَوْلى وأَصْوب؛ الجمع: أَماثِلُ.
وقالَ الجوْهَرِيُّ: فلانٌ أَمْثَلُ بَنِي فلانٍ أَي أَدْناهُم للخَيْر، وهؤلاء أَماثِلُ القَوْمِ أَي خيارُهم.
والمثَالَةُ: الفَضْلُ، وقد مَثُلَ، ككَرُمَ، مَثالَةَ أَي صَارَ فاضلًا؛ ويقالُ: هو مِن ذَوِي مَثَالَتِهم.
والمُثْلَى تأْنِيثُ الأَمْثَل كالقُصْوَى تأْنِيثُ الأَقْصَى، قالَهُ الاخْفَشُ، وقوْلُه تعالَى: {وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى} أَي بجَمَاعِتكم الأَفْضَلِين.
وقيلَ: الطَّريقةُ المُثْلَى التي هي الأَشْبَهُ بالحقِّ؛ وقوْلُه تعالَى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ} طَرِيقَةً، معْناهُ أَعْدَلُهُم وأَشْبَهُهم بالحق * أَو أَعْلَمُهُم عندَ نَفْسِه بما يقولُ، قالَهُ الزَّجَّاجُ.
والمَثِيلُ، كأَميرٍ: الفاضِلُ، وإِذا قيلَ: مَنْ أَمْثَلُكُم؟ قلْتُ: كُلُّنا مَثِيلٌ حَكَاه ثَعْلَب، وإِذا قيلَ: مَنْ أَفْضَلُكُم؟ قلْت: فاضِلٌ أَي أَنَّك لا تقولُ كلُّنا فَضِيل كما تقولُ كُلُّنا مَثِيل.
والتَّمْثالُ، بالفتحِ التَّمْثيلُ، وهو مَصْدر مَثّلْت تَمْثيلًا وتَمْثالًا؛ وذِكْرُ الفَتْح مُسْتدركٌ إِذ قَوْله فيمَا بَعْد. وبالكسْرِ: الصورةُ يغني عنه وهي الشيءُ المَصْنوعُ مشبَّهًا بِخَلْقٍ مِن خَلْقِ اللهِ، عزّ وجلّ، وأَصْلُه مِن مَثَّلْت الشيءَ بالشيءِ إِذا قدَّرْته على قدْرِه، والجَمْعُ التَّماثِيلُ؛ ومنه قوْلُه تعالَى: {ما هذِهِ التَّماثِيلُ} أَي الأَصْنامُ؛ وقوْلُه تعالَى: {مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ}، هي صُورُ الأَنْبِياء، عليهمالسلام، وكان التّمْثِيْل مُباحًا في ذلِكَ الوَقْت.
والتِّمْثالُ: سيفُ الأَشْعَثِ بن قيسٍ الكِنْدِيِّ، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه، وهو القائِلُ فيه:
قَتلْتُ وتري معًا وسنجالْ *** فَقَد تَوَافَتْ حممٌ وآجالْ
وفي يميني مشرفي قصالْ *** أَسماؤه الملك اليماني تمثالْ
ومَثَّلَهُ له تَمْثيلًا: صَوَّرَهُ له بكِتابَةٍ أَو غَيْرها، حتى كأَنَّه يَنْظُرُ إِليه.
وامْتَلَثُه هو أَي تَصَوَّرَهُ فهو مُطاوعٌ له، قالَ اللهُ تعالَى: {فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا}؛ أَي تَصَوّر.
ويقالُ: امْتَثَلَ مِثالَ فلانٍ: إِذا احْتَذَى حَذْوَة وسَلَكَ طَرِيقَته.
وامْتَثَلَ طَريقَتَه: تَبِعَها فلم يَعْدُها. وفي الصِّحاحِ: امْتَثَلَ أَمْرَه: أَي احْتَذَاه.
وامْتَثَلَ منه: اقْتَصَّ، قالَ:
إِنْ قَدَرْنا يومًا على عامِرٍ *** نَمْتَثِلْ منه أَو نَدَعْهُ لكمْ
وفي حَدِيْث سُويد بنِ مُقْرِنٍ: «امْتَثِل منه» فعَفَا أَي اقتْصَّ منه، كتَمَثَّلَ منه، في كذا في المُحْكَمِ.
ومَثَلَ الرجُلُ بينَ يَدَيْه يَمْثُل مُثولًا: قامَ مُنْتَصِبًا؛ ومنه الحدِيْث: «فمَثَلَ قائِمًا»؛ كمَثُلَ بالضَّمِّ؛ أَي مِن حَدِّ كَرُمَ، مُثولًا، بالضمِ؛ فهو ماثِلٌ.
ومَثَلَ أَي لَطَأَ بالأَرْضِ، وهو ضِدَّ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ وأَنْشَدَ لزُهَيْر:
تَحَمَّلَ منها أَهْلُها وخَلَتْ لها *** رُسومٌ فمنها مُسْتَبِينٌ وماثِلُ
وقالَ زُهَيْر أَيْضًا في المَاثِل بمعْنَى المُنْتَصِبِ:
يَظَلُّ بها الحِرْباءُ للشمس ماثِلًا *** على الجِذْل إِلَّا أَنه لا يُكَبِّرُ
ومَثَلَ: زَالَ عن مَوْضِعِه؛ قالَ أَبو عَمْرو: كانَ فلانٌ عنْدَنا ثم مَثَلَ؛ أَي ذَهَبَ.
ويقالُ: مثل فلانًا فلانًا ومَثَّلَه به شَبَّهَه به وسَوَّاه به.
ومثلَ فلانٌ فلانًا: صَارَ مِثْلَهُ أَي يسدُّ مَسَدَّه.
ومَثَلَ بفلانٍ مَثْلًا ومُثْلَةً، بالضَّمِ، وهذه عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، نَكَّلَ تَنْكِيلًا بقَطْعِ أَطْرافِه والتَّشْوِيه به.
ومَثَلَ بالقَتِيلِ: جَدَعَ أَنْفَه وأُذُنَه أَو مَذَاكِيْرَه أَو شَيئًا مِن أَطْرافِه. وفي الحدِيْث: «مَن مَثَلَ بالشَّعَر فليسَ له عنْدَ اللهِ خَلاقٌ يومَ القِيامَةِ»؛ أَي حَلْقُه مِن الخُدُودِ، أَو نَتْفُه أَو غَيَّرَه بالسَّوادِ؛ ورُوِي عن طاوس أَنَّه قالَ: جَعَلَه اللهُ طُهْرةً فجَعَلَه نَكالًا.
وفي حدِيثٍ آخَر: أَنَّه نَهَى عن المُثْلةِ؛ كمَثَّلَ تَمْثيلًا، التَّشْديدُ للمُبالَغَةِ.
وفي الحدِيث: نَهَى أَن يُمَثَّل بالدوابِّ وأَن تُؤْكَلَ المَمْثُول بها، وهو أَن تُنْصَبَ فتُرْمَى أَو تُقَطَّع أَطرافُها وهي حَيَّة؛ وهي المَثْلَةُ، بضمِ الثّاءِ وسكونِها، هكذا في سائِرِ النسخِ؛ أَي مع فتحِ الميمِ، وفي الصِّحاحِ: المَثُلَة بفتحِ الميمِ وضمِ الثاءِ: العُقوبَةُ؛ وزَادَ الصّاغانيُّ: والمُثُلة بضمَّتَيْن، والمُثْلَةُ، بالضمِ، فهي ثلاثُ لُغاتٍ، اقْتَصَرَ الجوْهَرِيُّ منها على الأَوْلَى، ولم أَرَ أَحدًا ضَبَطَها بسكونِ الثاءِ مع الفتحِ كما هو مُقْتَضى عِبارَته، فتأَمَّلْ ذلِكَ.
وقوْلُه: الجمع: مُثولاتٌ ومَثُلاتٌ، هكذا في النسخِ، وهو غَلَطٌ، والصَّحيحُ أَنَّ مَثُلات بضمِ الثاءِ جَمْع مَثُلة، ومَنْ قالَ: مُثُلة بضمَّتين قالَ في جَمْعِه مُثُلات بضمَّتَيْن أَيْضًا؛ ومَنْ قالَ مُثْلة، بالضمِ، قالَ في جَمْعِه مُثْلات بالضمِ أَيْضًا، وأَيْضًا مُثُلات بضمَّتَيْن وأَيْضًا مَثَلات بالتَّحْريك، وأَمَّا مُثولاتُ الذي ذَكَرَه المصنِّفُ فلم أَرَه في كتابٍ فاعْرف ذلك.
وقالَ الزَّجاجُ: الضمُّ في المَثُلات عِوَض عن الحَذْف، وردَّ ذلِكَ أَبو عليٍّ وقالَ: هو من بابِ شاةٌ لَجِبَة وشِياةٌ لَجِبات. قالوا في تِفْسيرِ قوْلِه {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} أَي وقد عَلِموا ما نَزلَ من عُقوبَتِنا بالأُمَمِ الخالِيَةِ فلم يَعْتبروا بهم. وقالَ بعضُهم: أَي وقد تقدَّم مِن العذابِ ما فيه مُثْلة ونَكالٌ لهم لو اتَّعظُوا، وكأَنَّ المَثْل مأْخوذٌ مِن المَثَل لأَنَّه إِذا شَنَّعَ في عُقوبَتِه جَعَلَه مَثَلًا وعَلَمًا.
ونَقَلَ الصَّاغانيُّ عن ابنِ اليَزِيديّ أَنَّ المرادَ بالمَثُلات هنا الامْثال والأَشْباه.
وفي كتابِ المحْتَسب لابنِ جنيِّ قِراءَة عيسَى الثَّقَفي وطَلْحَة بن سُلَيْمان المثلات، وقَرَأَ المثلات يَحْيَى بنُ وَثَّاب، وقِراءَة الناسِ: {الْمَثُلاتُ} روينا عن أَبي حاتِمٍ قالَ: رَوَى زائِدَةُ عن الأَعْمش عن يَحْيَى المَثْلات، بالفتحِ والإِسْكانِ؛ قالَ: وقالَ زائِدَةُ: رُبَّما ثَقَّلَ سُلَيمن، يعْنِي الأعْمش، يقولُ المثلات، وأَصْل هذا كُلّه {الْمَثُلاتُ}، بفتحِ الميمِ وضمِ الثاءِ؛ فأَمَّا مَن قَرَأَ {الْمَثُلاتُ} فعَلَى أَصْله كالسَّمُرات جَمْع سَمُرة؛ ومَنْ قالَ: المُثْلات بضمِ الميمِ وسكونِ الثاءِ إِمَّا أَنَّه أَرادَ المثلات ثم آثَرَ إِسْكانَ الثاءِ اسْتِثْقالًا للضَّمَّة ففَعَل ذلِكَ، إِلَّا أَنَّه نَقَل الضَّمَّة إِلى المِيم فقالَ: المُثلات، أَو أَنَّه خَفَّف في الواحِدِ فصارَتْ مثلة إِلى مثلة ثم جَمَعَ على ذلِكَ فقالَ: المُثلات، ثم قالَ بعدْ تَوجِيه كَلامٍ: ورَوَيْنا عن قُطرب أَنَّ بعضَهم قَرَأَ المُثُلات بضمَّتَيْن، فهذا إِمَّا عامل الحاضر معه فنقل عليه، وإِمَّا فيها لُغَةٌ أُخْرَى وهي مُثْلة كغُرْفة؛ وأَمَّا مَنْ قالَ: المَثْلات بفتحِ الميمِ وسكونِ الثاءِ فإِنَّه أَسكَنَ عن المثلات اسْتِثْقالًا لها فأَقَرَّ الميمَ مَفْتوحَةً، وإِن شِئْت قلْت أَسكن عن الواحِدَةِ فقالَ: مثلة ثم جَمَع وأَقَرّ السّكون بحالِهِ ولم يفْتَح الثاءَ كما يقالُ في جَفْنة وتَمْرة جَفَنات وتَمَرات لأَنَّها ليْسَتْ في الأَصْل فعلة وإِنَّما هي مُسَكَّنة من فَعْلة، ففَصلَ بذلِكَ بينَ فعلة مُرْتَجَلة وفعلة مَصْنوعَة مَنْقولَة من فعلة كما تَرَى، وإِن شِئْت قلْت قد أَسْكَن الثاء تَخْفِيفًا فلم يَرَ مُرَاجَعَة تَحْرِيكِها إِلَّا بحَرَكَتِها الأَصْلية لها؛ وقد يُمكنُ أَيْضًا أَنْ يكونَ مَنْ قالَ المثلات ممَّنَ يَرَى إِسْكان الواحِدِ تَخْفِيفًا، فلمَّا صَارَ إِلى الجَمْع وآثَرَ التَّحْريك في الثاءِ عاوَدَ الضَّمَّة لأَنَّها هي الأَصْل لها ولم يَرْتَجِل لها فَتْحة أَجْنَبيَّة عنها، كلُّ ذلِكَ جائِزٌ انتَهَى.
وأَمْثَلَةُ من صاحِبِه إمْثالًا: قَتَلَهُ بقَوَدٍ؛ يقولُ الرجُلُ للحاكِمِ: أَمْثِلْني من فلانٍ وأَقِصَّني وأَقِدْني بمعْنىً واحِدٍ، والاسمُ المِثالُ والقِصاصُ والقودُ.
وقالُوا: مِثْلٌ ماثِلٌ أَي جَهْدٌ جاهِدٌ، عن ابنِ الأعْرَابيِّ وأَنْشَدَ:
مَن لا يَضَعْ بالرَّمْلةِ المَعاوِلا *** يَلْقَ مِنَ القامةِ مِثْلًا ماثِلا
وإنْ تشكَّى الأَيْنَ والتَّلاتِلا
والماثولُ: موضع بالمدينةِ من نَواحِيها، على ساكِنِها أَفْضَل الصَّلاة والسَّلام.
والماثِلَةُ: مَنارَةُ المِسْرَجَةِ، هكذا هو بكسْرِ الميمِ مِن المَسْرجَةِ في نسخِ الصِّحاحِ بخطِّ الجوْهَرِيّ، والصَّوابُ بفَتْحِها، نَبَّه عليه المحشون.
وفي العُبَابِ: الماثِلَةُ: المسْرَجَةُ لانْتِصَابِها.
والماثِلُ من الرُّسوم: ما ذَهَبَ أَثَرُه ودَرَسَ، وشاهِدُه قَوْلُ جَرِيرٍ السابِق: فمنها مُسْتَبِينٌ ودَارِسُ.
قالَ الجوْهَرِيُّ: المُسْتَبِين: الأَطْلالُ، والماثِلُ: الرُّسومُ؛ وهو بعَيْنِه بمعْنَى اللَّاطِئِ بالأَرْضِ، فإنَّها إذا ذَهَبَ أَثَرُها فقد لَطِئَت بالأَرْضِ، فتأمَّل ذلِكَ.
وبالكسْرِ: المِثْلُ بنُ عِجْلِ بنِ لُجَيْمِ بنِ صعبِ بنِ بكْرِ بنِ وائِلٍ مَلِكُ اليمنِ، وصَحَّفَ عبدُ المَلِكِ بنُ مَرْوانَ فقالَ لقومٍ من اليمنِ: ما الميلُ منكم؟ فقالُوا: يا أَمير المؤمنينَ كان مَلِكٌ لنا يقالُ له المِثْلُ؛ فَخَجِلَ عبدُ المَلِكِ وعَرَفَ أَنَّه وَقَعَ في التَّصْحيفِ، وهذا مِن حسنِ الأَدَبِ في الجَوَابِ.
وبَنُو المِثْلِ بن معاوِيَةَ قَبيلةٌ مِن العَرَبِ، منهم: أَبو الشَّعْثاءِ يزيدُ بنُ زِيادٍ الكِنْدِيُّ.
وقالَ أَبو عَمْرو: هو مِن بَنِي أَسَدٍ.
والمُثْلُ، بالضَّمِّ: موضع بِفَلْجٍ؛ ويقالُ له: رَحَى المُثْلِ أَيْضًا؛ قالَ مالِكُ بنُ الرَّيْب:
فيا ليْتَ شِعْري هل تَغَيَّرَتِ الرَّحَى *** رَحَى المِثْل أَو أَمْسَتْ بفَلْجٍ كما هِيَا؟
والأَمْثالُ: أَرَضونَ مُتَشابِهَةٌ أَي يُشْبِهُ بعضُها بعضًا، ولذلِكَ سُمِّيَت أَمْثالًا، ذاتُ جِبالٍ قرْبَ البَصْرَةِ على لَيْلَتيْن، نَقَلَه ياقوتُ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
قالَ أَبو حَنيفَةَ: المِثالُ قالَبُ يُدْخَل عَيْنَ النَصْل في خَرْق في وسَطِه ثم يُطْرق غِرارَاهُ حتى يَنْبَسِطا، والجَمْع أَمْثِلةٌ.
وامْتَثَلَهُ غَرَضًا: نَصَبَه هَدَفًا لسِهامِ المَلامِ، وهو مجازٌ.
ويقالُ: المريضُ اليومَ أَمْثَلُ أَي أَحْسَن مُثولًا وانْتِصابًا ثم جُعِلَ صِفَه للإقْبالِ.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ: معْناه أَحْسَن حالًا مِن حالَةٍ كانت قَبْلها، وهو مِن قوْلِهم: هو أَمْثَلُ مِن قوْمِهِ.
وقالَ ابنُ بَرِّي: المَثالَةُ حسْنُ الحالِ؛ ومنه قوْلُهم: كُلَّما ازْدَدْتَ مَثالَةً زادَكَ اللهُ رَعالَةً، والرَّعالَةُ: الحمقُ.
وقالَ أَبو الهَيْثَم: قوْلُهم إنَّ قوْمِي مُثُلٌ، بضمَّتَيْن؛ أَي سَادَات ليسَ فَوْقهم أَحَدٌ، وكأنَّه جَمْعُ الأمْثَل.
وفي الحدِيْث: أَنَّه قالَ بعْدَ وَقْعةِ بَدْرٍ: لو كان أَبو طالِبٍ حَيًّا لَرَأَى سُيوفَنَا قد بَسَأْتْ بالمَياثِلِ.
قالَ الزَّمَخْشرِيُّ: معْناه اعْتادَتْ واسْتَأْنَسَت بالأَماثِلِ.
وماثَلَه: شابَهَه.
وفي الحدِيْث: قامَ مُمَثِّلًا، ضُبِطَ كمُحَدِّثٍ ومُعَظَّمٍ؛ أَي مُنْتَصِبًا قائِمًا.
قالَ ابنُ الأثيرِ: هكذا شُرِحَ، قالَ: وفيه نَظَرٌ مِن جهةِ التَّصْريفِ، ويُجْمَعُ ماثِلٌ على مَثَلٍ كَخادِمٍ وخَدَمٍ، ومنه قوْلُ لَبيدٍ:
ثم أَصْدَرْناهُما في وارِدٍ *** صادِرٍ وَهْمٍ صُوَاه كالمَثَلْ
ويقالُ: المَثَلُ بمعْنَى المَاثِلِ.
والمُثولُ: الزَّوالُ عن المَوْضِعِ، قالَ أَبو خِرَاش الهُذَليُّ:
يقرِّبه النَّهْضُ النَّجِيْحُ لِمَا يَرى *** فمنه بُدُوٌّ تارَةً ومُثُولُ
وأَمْثَلَه: جَعَلَه مُثْلةً.
وأَمْثَلَ السُّلطانُ فلانًا: أَرَادَه.
وتَمَثلَ بينَ يَدَيْه: قامَ مُنْتَصِبًا.
والعَرَبُ تقولُ: هو مُثَيْلُ هذا ومُثَيْلُ هاتِيا وهم أُمَيْثالُهم، يُرِيدُون أَنَّ المشبَّه به حَقيرٌ كما أَنَّ هذا حَقِير، كما في الصِّحاحِ.
ومَثَوْلِي، بفتحِ الميمِ والثاءِ وكسْرِ اللامِ: مدِينَةٌ بالهِنْدِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
85-تاج العروس (بين)
[بين]: البَنينُ في كَلامِ العَرَبِ جاءَ على وَجْهَيْن: يكونُ فُرْقَةً، ويكونُ وَصْلًا، بانَ يَبِينُ بَيْنًا وبَيْنُونَةً، وهو مِن الأَضْدادِ؛ وشاهِدُ البَيْنِ بمعْنَى الوَصْلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:لقد فَرَّقَ الواشِينَ بَيْني وبينَها *** فقَرَّتْ بِذاكَ الوَصْلِ عَيْني وعينُها
وقالَ قيسُ بنُ ذَريح:
لَعَمْرُكَ لو لا البَيْنُ لانْقَطَعَ الهَوَى *** ولو لا الهَوَى ما حَنَّ للبَيْنِ آلِفُ
فالبَيْنُ هنا الوَصْلُ؛ وأَنْشَدَ صاحِبُ الاقْتِطافِ، وقد جَمَعَ بينَ المَعْنَيَيْن:
وكنَّا على بَيْنٍ ففَرَّقَ شَمْلَنا *** فأَعْقَبَه البَيْن الذي شَتَّتَ الشَّمْلا
فيا عجبًا ضِدَّان واللّفْظ واحِد *** فللهِ لَفْظ ما أَمَرّ وما أَحلى
وقالَ الرَّاغبُ: لا يُسْتَعْمل إلَّا فيمَا كانَ له مَسافَة نَحْو بَيْن البُلْدان؛ أَوله عَدَدٌ مَّا اثْنانِ فصاعِدًا نَحْو بَيْن الرَّجُلَيْنِ وبَيْن القَوْمِ، ولا يُضَافُ إلى ما يَقْتَضِي معْنَى الوحِدَةِ إلَّا إذا كُرِّرَ نَحْو: {وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ}.
وقالَ ابنُ سِيْدَه: ويكونُ البَيْنُ اسْمًا وظَرْفًا مُتَمَكِّنًا.
وفي التَّنْزيلِ العَزيزِ: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}؛ قُرِئَ بَيْنَكُمْ بالرَّفْعِ والنَّصْبِ، فالرَّفْع على الفِعْل أَي تقَطَّع وَصْلُكم، والنَّصبُ على الحَذْفِ، يريدُ ما بَيْنكم، وهي قَراءَةُ نافِعٍ وحفص عن عاصِمٍ والكِسائي، والأَولى قِراءَةُ ابنِ كثيرٍ وابنِ عامِرٍ وحَمْزَةَ.
ومَنْ قَرَأَ بالنَّصْبِ فإنَّ أَبا العبَّاس رَوَى عن ابنِ الأَعْرابيِّ أنَّه قالَ: مَعْناهُ تقَطَّع الذي كانَ بَيْنَكم.
وقالَ الزَّجَّاجُ: لقد تقَطَّع ما كُنْتم فيه مِن الشَّركةِ بَيْنَكم؛ ورُوِيَ عن ابنِ مَسْعودٍ أنَّه قَرَأَ لقد تقَطَّع ما بَيْنَكم، واعْتَمَدَ الفرَّاءُ وغيرُهُ مِن النَّحويينِ قِراءَةَ ابنِ مَسْعودٍ، وكانَ أَبو حاتِمٍ يُنْكِرُ هذه القِراءَةَ ويقولُ: لا يَجوزُ حَذْفُ المَوْصولِ وبَقَاء الصِّلَة.
وقد أَجابَ عنه الأَزْهرِيُّ بما هو مَذْكُورٌ في تَهْذِيبِه.
وقالَ ابنُ سِيدَه: مَنْ قَرَأَ بالنَّصْبِ احْتَمَل أَمْرَيْن: أَحَدُهما أَنْ يكونَ الفاعِلُ مُضْمَرًا أَي تقَطَّع الأَمرُ أو الودُّ أَو العَقْدُ بَيْنَكم، والآخَرُ ما كانَ يَراهُ الأَخْفَشُ مِن أَنْ يكونَ بَيْنَكم، وإن كانَ مَنْصوبَ اللفْظِ مَرْفوعَ الموْضِعِ بفِعْلِه، غيرَ أنَّه أُقِرَّتْ نَصْبةُ الظَّرْفِ، وإن كانَ مَرْفوعَ الموْضِعِ لاطِّرادِ اسْتِعْمالِهم إيَّاه ظَرْفًا، إلا أنَّ اسْتِعْمالَ الجُملةِ التي هي صفَةٌ للمُبْتدأِ مَكانَه أَسْهلُ مِن اسْتِعمالِها فاعِلةٌ، لأنَّه ليسَ يَلْزِمُ أَنْ يكونَ المُبْتدأُ اسْمًا مَحْضًا كلزومِ ذلكَ الفاعِل، أَلا تَرَى إلى قوْلِهِم: تسمعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ مِن أَنْ تَراهُ؛ أي سماعُك به خيرٌ مِن رُؤْيَتِك إيَّاهُ.
والبَيْنُ: البُعْدُ كالبُونِ. يقالُ: بَيْنَهما بُونٌ بَعيدٌ وبَيْنٌ بَعِيدٌ، والواوُ أَفْصَحُ، كما في الصِّحاحِ.
والبِينُ، بالكسْرِ: النَّاحِيَةُ؛ عن أَبي عَمْرو.
وأَيْضًا: الفَصْلُ بينَ الأَرْضَينِ وهي التّخومُ؛ قالَ ابنُ مُقْبِل يُخاطِبُ الخيالَ:
بِسَرْوِ حِمْيَر أَبْوالُ البِغالِ به *** أَنَّى تَسَدَّيْتَ وَهْنًا ذلكَ البِينا
والجَمْعُ بُيونٌ.
وأَيْضًا: ارتِفاعٌ في غِلَظٍ.
وأَيْضًا: القطْعَةُ مِن الأَرضِ قَدرُ مَدِّ البَصَرِ مِن الطَّريقِ.
والبِينُ: موضع قُرْبَ نَجرانَ.
وأَيْضًا: موضع قُربَ الحِيرةِ.
وأَيْضًا: موضع قُرْبَ المَدينَةِ، جاءَ ذِكْرُها في حدِيثِ إسلامِ سلَمَةَ بنِ جيش، ويقالُ فيه بالتاءِ أَيْضًا.
وأَيْضًا: قرية بفَيْرُوز آبادِ فارِسَ.
وأَيْضًا: موضع آخَرُ. وأَيْضًا: نَهْرٌ بين بَغْدادَ ودَفاعِ، وفي نسخةٍ: دَماغ، وقيلَ: رَماغ بالرَّاءِ، والصَّوابُ في سِياقِ العِبارَةِ ونَهْرُ بِينَ ببَغْدادَ، فإنَّ ياقوتًا نَقَلَ في معجمِهِ أنَّه طسوج مِن سَوادِ بَغْدادَ مُتَّصِل بنَهْر بوق. ويقالُ فيه باللامِ أَيْضًا؛ وقد يُنْسَبُ إليه أَبو العبَّاس أَحمدُ بنُ محمدِ بنِ أَحمدَ النَّهْرُبينيُّ سَمِعَ الطيوريَّ، وسَكَنَ الحديثَةَ من قُرَى الغُوطَةِ وبهاماتَ، وأَخُوه أبو عبدِ اللهِ الحُسَيْنُ بنُ محمدٍ النَّهْرُبينيُّ المُقْرِئُ سَكَنَ دِمَشْقَ مدَّةً.
ويقالُ: جَلَسَ بين القَوْمِ: وَسْطَهُمْ بالتخْفيفِ.
قالَ الرَّاغبُ: بين مَوْضوعٌ للخَلَلِ بينَ الشَّيْئَيْن ووَسْطَهما؛ قالَ اللهُ تعالى: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا}.
قالَ الجوْهرِيُّ: وهو ظَرْفٌ، وإن جَعَلْتَه اسْمًا أَعْرَبْتَه، تقولُ: لقد تَقَطَّع بَيْنُكم برَفْعِ النونِ، كما قالَ الهُذَليُّ:
فلاقَتْه ببَلْقَعةٍ بَراحٍ *** فصادَفَ بينَ عَيْنَيْه الجَبُوبا
ويقالُ: لَقِيَهُ بُعَيْداتِ بَيْنٍ: إذا لَقِيَهُ بَعْدَ حِينٍ ثم أَمْسَكَ عنه ثم أَتَاهُ؛ كما في الصِّحاحِ.
وقد بانُوا بَيْنًا وبَيْنونةً: إذا فارَقُوا؛ وأَنْشَدَ ثَعْلَب:
فهَاجَ جَوًى بالقَلْب ضَمَّنه الهَوَى *** ببَيْنُونةٍ يَنْأَى بها مَنْ يُوادِعُ
وقالَ الطرمَّاحُ:
أَآذَنَ الثَّاوِي ببَيْنُونةٍ
وبانَ الشَّيءُ بَيْنًا وبُيونًا وبَيْنُونَةً: انْقَطَعَ؛ وأَبانَهُ غيرُه إبانَةً: قَطَعَهُ.
وبانَتِ المرْأَةُ عن الرَّجُلِ فهي بائِنٌ: انْفَصَلَتْ عنه بطَلاقٍ.
وتَطْليقَةٌ بائِنَةٌ، بالهاءِ لا غَيْر، فاعِلَةٌ بمعْنَى مَفْعولَةٍ: أَي تَطْليقَةٌ ذات بَيْنُونَةٍ، ومثْلُه عِيشَةٌ راضِيَةٌ أَي ذات رِضًا.
والطّلاقُ البائِنُ: الذي لا يملكُ الرَّجُلُ فيه اسْتِرجاعَ المرْأَةِ إلَّا بعَقْدٍ جَديدٍ وله أَحْكامٌ تَفْصِيلُها في أَحْكامِ الفُروعِ مِن الفقْهِ.
وبانَ بَيانًا: اتَّضَحَ، فهو بَيِّنٌ، كسَيِّدٍ، الجمع: أَبْيِناءُ، كهَيِّنٍ وأَهْيِناء، كما في الصِّحاحِ.
قالَ ابنُ بَرِّيْ: صَوابُه مثْلُ هَيِّن وأَهْوِناء لأنَّه مِن الهوانِ.
وبِنْتُه، بالكسْرِ، وبَيَّنْتُه وتَبَيَّنْتُه وأَبَنْتُه واسْتَبَنْتُه: أَوْضَحْتُه وعَرَّفْتُه فبانَ وبَيَّنَ وتَبَيَّنَ وأَبانَ واسْتَبَانَ، كُلُّها لازِمَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، وهي خَمْسَةُ أَوْزانٍ، اقْتَصَرَ الجوْهرِيُّ منها على ثلاثَةٍ وهي: أَبانَ الشيء اتَّضَحَ، وأَبَنْتُه: أَوْضَحْتُه، واسْتَبَانَ الشيءُ: ظَهَرَ، واسْتَبَنْتُه: عَرفْتُه، وتَبَيَّنَ الشيءُ: ظَهَرَ، وتبَيَّنْتُه أَنا، ولكلِّ مِن هَؤلاء شَواهِدُ.
أَمَّا بانَ وبانَهُ، فقد حَكَاه الفارِسِيُّ عن أَبي زيْدٍ وأَنْشَدَ:
كأنّ عَيْنَيَّ وقد بانُوني *** غَرْبانِ فَوْقَ جَدْوَلٍ مَجْنونِ
وأَمَّا أَبانَ اللَّازِمَ فهو مُبِينٌ؛ وأَنْشَدَ الجوْهرِيُّ لعُمَر بنِ أَبي ربيعَةَ:
لو دَبَّ ذَرَّ فوقَ ضاحِي جلْدِها *** لأَبانَ مِن آثارِهِنَّ حُدورُ
قالَ الجَوْهرِيُّ: والتَّبْيينُ: الإيضاحُ، وأَيْضًا: الوُضوحُ. وفي المَثَل:
قد بَيَّنَ الصبحُ لذي عَيْنَينِ
أَي تَبَيَّنَ.
وقالَ النابِغَةُ:
إلَّا الأَوارِيّ لَأْيًا ما أُبَيِّنُها *** والنُّؤْيُ كالحَوْضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ
أَي أَتَبيَّنُها.
وقوْلُه تعالَى: {آياتٍ مُبَيِّناتٍ}، بكسْرِ الياءِ وتَشْديدِها بمعْنَى مُتَبَيِّناتٍ؛ ومَن قَرَأَ بفتحِ الياءِ فالمَعنَى أَنَّ اللهَ بَيَّنَها.
وقالَ تعالَى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، وقولُه تعالَى: {إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}؛ أَي ظاهِرَةٍ مُتَبَيِّنة؛ وقالَ ذُو الرُّمّة:
تُبَيِّنُ نِسْبةَ المَرَئِيّ لُؤْمًا *** كما بَيَّنْتَ في الأَدَم العَوارا
أَي تُبَيِّنُها، ورَوَاهُ عليُّ بنُ حَمْزَةَ: تُبيِّن نِسبةُ، بالرَّفْع، على قوْلِه:
قد بَيَّنَ الصبْحُ لذي عَيْنَيْن
وقوْلُه تعالى: {وَالْكِتابِ الْمُبِينِ}، قيلَ: مَعْناه المُبِين الذي أَبانَ طُرُقَ الهُدَى مِن طُرُقِ الضّلالِ وأَبانَ كلَّ ما تَحْتاجُ إليه الأُمَّةُ.
وقالَ الأزْهرِيُّ: الاسْتِبانَةُ قد يكونُ واقِعًا. يقالُ: اسْتَبَنْتُ الشيءَ إذا تَأَملْتَه حتى يَتَبيَّنَ لكَ؛ ومنه قوْلُه تعالى: ولِتَسْتَبين سبيلَ المُجْرِمين، المَعْنى لِتَستبينَ أَنْتَ يا محمدُ؛ أَي لتَزْدادَ إجابَةً.
وأَكْثَرُ القرَّاءِ قَرأُوا {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}، والاسْتِبانَةُ حينَئِذٍ غَيْر واقِعٍ.
والتِّبْيانُ، بالكسْرِ ويُفْتَحُ مَصْدَرُ بَيَّنتْ الشَّيءَ تَبْيِينًا وتِبْيانًا وهو شاذٌّ.
وعِبارَةُ الجوْهرِيِّ، رحِمَه اللهُ تعالى، أوْفى بالمُرادِ مِن عِبارَتِه فإنَّه قالَ: والتِّبْيانُ مَصْدَرٌ وهو شادٌّ، لأنَّ المَصادِرَ إنَّما تَجِيءُ على التَّفْعال بفتْحِ التاءِ نَحْو التَّذْكار والتَّكْرار والتَّوْكاف، ولم يَجِيءْ بالكسْرِ إلَّا حَرْفان وهُما التِّبْيان والتِّلْقاء، ا ه.
وأَيْضًا حِكَايَةُ الفتْحِ غَيْرُ مَعْروفَةٍ إلّا على رأْي مَنْ يُجِيزُ القِياسَ مع السماع وهو رأْيٌ مَرْجوحٌ.
قالَ شيْخُنا، رحِمَه اللهُ تعالى: وما ذَكَرَه من انْحِصار تِفْعال في هذَين اللَّفْظَيْن به جَزَمَ الجَماهِير مِن الأَئِمَّة، وزَعَمَ بعضُهم أنَّه سَمِعَ التِّمْثال مَصْدَر مَثلْتُ الشيءَ تَمْثِيلًا وتِمْثالًا.
وزادَ الحَرِيري في الدرَّةِ على الأَوَّلَيْن تِنْضالًا مَصْدَر الناضلة.
وزادَ الشّهابُ في شرْحِ الدرَّة: شَربَ الخَمْر تِشْرابًا، وزَعَمَ أَنَّه سَمِعَ فيه الفَتْحَ على القِياسِ، والكَسْرَ على غيرِ القِياسِ، وأَنْكَر بعضُهم مَجِيءَ تِفْعال، بالكسْرِ، مَصْدرًا بالكُلِيَّة؛ وقالَ: إنَّ كلَّ ما نَقَلوا من ذلكَ على صحَّتِه إنَّما هو مِن اسْتِعمالِ الاسمِ مَوْضِعَ المَصْدرِ كما وَقَعَ الطَّعامُ، وهو المَأْكُولُ، مَوْقِعَ المَصْدَرِ وهو الإطْعامُ كما في التَّهْذِيبِ.
وقوْلُه تعالى: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}؛ أَي بُيِّنَ لكَ فيه كلُّ ما تَحْتاجُ إليه أَنْتَ وأُمَّتُك مِن أَمْرِ الدِّيْن، وهذا مِن اللَّفْظِ العامِّ الذي أُرِيد به الخاصُّ، والعَرَبُ تقولُ: بَيَّنْتُ الشيءَ تَبْيِينًا وتِبْيانًا، بكسْرِ التاءِ، وتِفْعالٌ، بالكسْرِ يكونُ اسْمًا، فأَمَّا المَصْدَرُ فإنَّه يَجِيءُ على تَفْعالٍ بالفتْحِ، مثْلُ التّكْذاب والتَّصْداق وما أَشْبَهه، وفي المَصادِرِ حَرْفان نادِرَان. وهُما تِلْقاء الشيء والتِّبْيان، ولا يقاسُ عليهما.
وقالَ سِيْبَوَيْه في قوْلِه تعالَى: {وَالْكِتابِ الْمُبِينِ}، قالَ: هو التِّبْيانُ، وليسَ على الفِعْل إنَّما هو بناءٌ على حِدةٍ، ولو كانَ مَصْدَرًا لفُتِحتْ كالتَّقْتال، فإنَّما هو من بَيَّنْتُ كالغارَةِ من أَغَرْتُ.
وقالَ كراعٌ: التِّبْيانُ مَصْدرٌ ولا نَظِيرَ له إلَّا التِّلْقاء.
وضَرَبَهُ فأَبانَ رأْسَه مِن جَسَدِه وفَصَلَه فهو مُبِينٌ.
وقوْلُه: مُبْيِنٌ، كمُحْسِنٍ، غَلَطٌ وإنَّما غَرَّهُ سِياقُ الجوْهرِيِّ ونَصّه فتقول: ضَرَبَه فأَبانَ رأْسَه مِن جَسَدِه فهو مُبِينٌ. ومُبْيِنٌ أَيْضًا: اسمُ ماءٍ، ولو تأَمَّل آخِرَ السِّياقِ لم يَقَعْ في هذا المَحْذورِ. ولم أَرَ أَحدًا مِن الأَئِمةِ قالَ فيه مُبْيِنٌ كمُحْسِنٍ، ولو جازَ ذلكَ لوَجَبَ الإشارَة له في ذِكْرِ فِعْله كأنْ يقولَ: فأَبانَ رأْسَه وأَبْيَنَه، فتأَمَّلْ.
وبايَنَه مُبايَنَةً: هاجَرَه وفارَقَه.
وتَبايَنا: تَهاجَرا؛ أَي بانَ كلُّ واحِدٍ منهما عن صاحِبِه، وكذلِكَ إذا انْفَصَلا في الشّركةِ.
والبائِنُ: مَنْ يأْتي الحَلوبَةَ مِن قِبَلِ شِمالِها، والمُعَلِّي الذي يأْتي مِن قِبَلِ يَمِينِها، كذا نَصّ الجوْهرِيّ، والمُسْتعْلي من يعلى العلبة في الضّرْعِ.
والذي في التَّهْذِيبِ للأزْهرِيّ يُخالِفُ ما نَقَلَه الجوْهرِيُّ فإنَّه قالَ: البائِنُ الذي يقومُ على يَمينِ الناقَةِ إذا حَلَبَها والجَمْعُ البُيَّنُ، وقيلَ: البائِنُ والمُسْتَعْلي هُما الحالِبَانِ اللذانِ يَحْلُبان الناقَةَ أَحدُهما حالِبٌ، والآخَرُ مُحْلِب، والمُعينُ هو المُحْلِبُ، والبائِنُ عن يَمينِ الناقَةِ يُمْسِكُ العُلْيةَ، والمُسْتَعْلي الذي عن شِمالِها، وهو الحالِبُ يَرْفعُ البائِنُ العُلْبةَ إليه؛ قالَ الكُمَيْت:
يُبَشِّرُ مُسْتَعْلِيًا بائِنٌ *** من الحالبَيْنِ بأن لا غِرارا
والبائِنُ: كلُّ قَوْسٍ بانَتْ عَن وَتَرِها كثيرًا؛ عن ابنِ سِيدَه؛ كالبائِنَةِ عن الجوْهرِيّ، قالَ: وأَمَّا التي قرُبَتْ من وَتَرِها حتى كادَتْ تلْصَقُ به فهي البانِيةُ، بتقْدِيمِ النونِ، وكِلاهُما عَيْبٌ.
والبائِنُ كما هو مُقْتَضى سِياقِه؛ وفي الصِّحاح، البائِنَة البئْرُ البَعيدَةُ القَعْرِ الواسِعَةُ كالبَيُونِ، كصَبُورٍ، لأنَّ الأشْطانَ تَبِينُ عن جرابِها كثيرًا.
وقيلَ: بِئْرٌ بَيُونٌ واسِعَةُ الجالَيْنِ.
وقالَ أبو مالِكٍ: هي التي لا يُصيبُها رِشاؤُها، وذلكَ لأنَّ جِرابَ البِئْرِ مُسْتَقيمٌ.
وقيلَ: هي البِئْرُ الواسِعَةُ الرأْسِ الضَّيِّقَةُ الأسْفَل؛ وأَنشَد أبو عليِّ الفارِسِيّ:
إِنَّك لو دَعَوْتَني ودُوني *** زَوْراءُ ذاتُ مَنْزعٍ بَيُونِ
لقُلْتُ لَبَّيْه لمَنْ يَدْعوني
والجَمْعُ البَوائِنُ؛ وأَنْشَدَ الجوْهرِيُّ للفَرَزْدقِ يَصِفُ خَيْلًا:
يَصْهِلْنَ للشبحِ البَعِيدِ كأنَّما *** إرْنانُها ببَوائنِ الأشْطانِ
أَرادَ: أنَّ في صَهِيلِها خُشُونَةً وغِلَظًا كأنَّها تَصْهَل في بئْرٍ دَحُول، وذلكَ أَغْلَظُ لِصَهِيلِها.
وغُرابُ البَيْنِ: هو الأبْقَعُ؛ قالَ عَنْترةُ:
ظَعَنَ الذين فِراقَهم أَتَوَقَّعُ *** وجَرَى ببَيْنِهمُ الغُرابُ الأبْقَعُ
حَرِقُ الجَناحِ كأنَّ لَحْيَيْ رأْسِه *** جَلَمَانِ بالأخْبارِ هَشٌّ مُولَعُ
أَو هو الأحمَرُ المِنْقارِ والرِّجْلَيْنِ، وأَمَّا الأسْوَدُ، فإنَّه الحاتِمُ لأنَّه يَحْتِمُ بالفِراقِ، نَقَلَه الجوْهرِيُّ عن أَبي الغَوْثِ.
وهذا الشَّيءُ بَيْنَ بَيْنَ أي بينَ الجيِّد والرَّدِيءِ، وهما اسْمانِ جُعِلا واحِدًا وبُنِيا على الفتح؛ والهمزَةُ المُخَفَّفَةُ تُسَمَّى هَمْزَةَ بَيْنَ بَيْنَ أي هَمْزَةٌ بَيْنَ الهَمْزَةِ وحَرْف اللّين، وهو الحَرْفُ الذي منه حَرَكَتُها إنْ كانت مَفْتوحَة، فهي بَيْنَ الهَمْزَةِ والألِفِ مِثْل سَألَ، وإِن كانتْ مَكْسورَةٌ فهي بَيْنَ الهَمْزَةِ والياءِ مِثْل سَئِم، وإن كانتْ مَضْمومَةً فهي بَيْنَ الهَمْزَةِ والواوِ مِثْل لَؤُمَ، وهي لا تَقَعُ أَوَّلًا أَبدًا لقرْبِها بالضِّعْفِ مِن السَّاكِنِ، إلَّا أَنَّها وإن كانتْ قد قَرُبَتْ مِن السّاكِن ولم يكنْ لها تَمكّن الهَمْزَةِ المُحَقَّقَة فهي مُتَحرِّكَة في الحَقيقَةِ، وسُمِّيَت بَيْنَ بَيْنَ لضَعْفِها؛ كما قالَ عَبيد بنُ الأبْرص:
نَحْمي حَقيقَتَنا وبع *** ضُ القَوْمِ يَسْقُط بَيْنَ بَيْنَا
أي يَتَساقَطُ ضَعِيفًا غَيْر معتدٍّ به، كذا في الصِّحاحِ.
وقالَ ابنُ بَرِّي: قالَ السِّيرافي: كأنَّه قالَ بَيْنَ هؤلاء وهؤلاء، كأنَّه رجلٌ يدْخلُ بينَ الفَرِيقَيْنِ في أَمرٍ مِنَ الأُمورِ فيسْقُط ولا يُذْكَر فيه.
قالَ الشيْخ: ويجوزُ عنْدِي أن يُريدَ بينَ الدّخولِ في الحرْبِ والتّأخر عنها، كما يقالُ: فلانٌ يُقدِّمُ رِجْلًا ويُؤخِّرُ أُخْرَى.
وقوْلُهم: بَينا نَحْنُ كذا إذا حَدَثَ كذا: هي بينَ، وفي الصِّحاحِ: فعلى، أُشْبِعَتْ فَتْحَتُها فحَدَثَتِ الألِفُ؛ وفي الصِّحاحِ: فصارَتْ أَلِفًا.
قالَ عبدُ القادِرِ البَغْدادِيُّ، رحِمَه اللهُ تعالى: ومَن زَعَمَ أنَّ بَيْنا مَحْذُوفَة مِن بَيْنما احْتَاجَ إلى وحي يصدقه؛ وأَنْشَدَ سِيْبَوَيْه:
فبَيْنا نحن نَرْقُبُه أَتانا *** مُعَلّقُ وَفْضةٍ وزِنادُ راعِي
أَرادَ بَيْنَ نحنُ نَرْقُبُه أَتانا، فإن قِيلَ: لِمَ أَضافَ الظَّرْفَ الذي هو بَيْن، وقد علِمْنا أنَّ هذا الظَّرْفَ لا يُضافُ مِنَ الأسْماءِ إلَّا لمَا يدلُّ على أكْثَر مِنَ الواحِدِ أَو ما عُطِف عليه غيرُه بالواوِ دُونَ سائِرِ حُروف العَطْف، وقولُه نحنُ نَرْقُبُه جمْلَةٌ، والجمْلَةُ لا يُذْهَب لها بَعْدَ هذا الظَّرْفِ؟
فالجَوابُ: أنَّ ههنا واسِطَةٌ مَحْذُوفةٌ وتقْديرُ الكَلامِ بَيْنَ أَوْقاتٍ نحنُ نَرْقُبُه أَتانا، أي أَتَانا بَيْنَ أَوقاتِ رَقْبَتِنا إيَّاه، والجُمَلُ ممَّا يُضافُ إليها أَسْماءُ الزَّمانِ كقوْلِكَ: أَتَيْتك زَمَنَ الحجاجُ أَميرٌ، وأَوانَ الخَلِيفةُ عبدُ الملِكِ، ثم إنَّه حذف المضافُ الذي هو أَوْقاتٌ ووَليَ اللَّفْظ الذي كانَ مُضافًا إلى المَحْذوفِ الجُمْلة التي أُقِيمت مُقامَ المُضاف إليها كقوْلِه تعالَى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}؛ أي أَهْلَ القَرْيةِ، وبَينا وبَيْنما من حُروفِ الابْتِداءِ وليْسَتِ الألفُ بصلةٍ، وبَيْنما أَصْله بَيْنَ زِيْدَتْ عليه ما والمَعْنى واحِدٌ.
قالَ شيْخُنا، رحِمَه اللهُ تعالى: وقوْلُه: مِن حُروفِ الابْتِداءِ، إن أَرادَ بالحُروفِ الكَلِماتَ كما هو مِن إطْلاقات الحُرُوف، فظاهِرٌ، وأَمَّا إن أرادَ أَنَّهما صارا حَرْفَيْن في مُقابلةِ الاسْم والفِعْلِ فلا قائِل به، بل هما باقِيانِ على ظَرْفِيَّتِهما والإشْباعِ وهما لا يُخْرِجانِ بَيْنَ عن الاسْميَّةِ، وإنَّما يقْطَعانه عن الإضافَةِ كما عُرِف في العربيَّة؛ ا ه.
وقالَ غيرُهُ: هما ظَرْفا زَمانٍ بمعْنَى المُفاجَأة، ويُضافَان إلى جُمْلةٍ مِن فِعْل وفاعِلٍ ومُبْتدأ وخَبَر فيَحْتاجَانِ إلى جَوابٍ يتمُّ به المعْنَى.
قالَ الجوْهرِيُّ: وكانَ الأصْمَعيُّ يَخْفِضُ بعدَ بَيْنا إذا صَلُحَ في موْضِعِه بَيْنَ كقَوْلِه، أي أَبي ذُؤَيْب الهُذَليّ كان ينْشدُه هكذا بالكَسْر:
بَيْنا تَعَنَّفِه الكُماةَ ورَوْغِه *** يومًا أُتِيحَ له جَرِيءٌ سَلْفَعُ
كذا في الصِّحاحِ تَعَنُّفه بالفاءِ، والذي في نسخِ الدِّيوان تَعَنُّقه بالقافِ؛ أرادَ بينَ تَعَنُّقه فزادَ الألِفَ إشْباعًا؛ نَقَلَه عبدُ القادِرِ البَغْدادِيُّ.
وقالَ السّكَّريُّ، رحِمَه اللهُ تعالى: كانَ الأصْمعيُّ يقولُ بَيْنا الألِف زائِدَة إنَّما أَرادَ بينَ تَعَنُّقه وبينَ رَوَغَانِه أي بَيْنا يقتلُ ويُراوغُ إذ يختل. وغيرُه يَرْفَعُ ما بَعْدَها على الابْتِداءِ والخَبَرِ؛ نَقَلَه السُّكَّريُّ.
قالَ ابنُ بَرِّي: ومثْلُه في جوازِ الرَّفْع والخفْضِ قوْلُ الرّاجزِ:
كُنْ كيفَ شِئْتَ فقَصْرُك الموتُ *** لا مَزْحَلٌ عنه ولا فَوْتُ
بَيْنا غِنَى بيتٍ وبَهْجَتِه *** زالَ الغِنَى وتَقَوَّضَ البيتُ
قالَ: وقد تأْتي إذْ في جوابِ بَيْنا؛ قالَ حُمَيْد الأرْقط:
بَيْنا الفَتَى يَخْبِطُ في غَيْساتِه *** إذِ انْتَمَى الدَّهْرُ إلى عِقْراتِه
قالَ: وهو دَليلٌ على فَسَادِ قوْلِ مَنْ قالَ إنَّ إذْ لا تكونُ إلَّا في جوابِ بَيْنما بزِيادَةِ ما، وممَّا يدلُّ على فَسادِ هذا القَوْل أَنَّه جاءَ بَيْنما وليسَ في جوابِها إذ كقوْلِ ابنِ هَرْمة:
بَيْنما نحنُ بالبَلاكِثِ فالْقا *** عِ سِراعًا والعِيسُ تَهْوي هُوِيَّا
خطَرَتْ خطْرةٌ على القلبِ مِن ذِك *** راكِ وَهْنًا فما استَطَعتُ مُضِيَّا
والبَيانُ: الإفْصاحُ مع ذَكاءٍ.
وفي الصِّحاحِ: هو الفَصاحَةُ واللَّسَن.
وفي النهايةِ: هو إظْهارُ المَقْصودِ بأبْلَغ لَفْظٍ وهو مِن الفَهْم وذَكاء القَلْب مع اللّسَن وأَصْلُه الكَشْف والظّهور.
وفي الكشاف: هو المَنْطقُ الفَصِيحُ المُعْربُ عمَّا في الضَّميرِ.
وفي شرْحِ جَمْع الجوامِعِ: البَيانُ إخْراجُ الشيءِ من حيِّزِ الأشْكالِ إلى حيِّزِ التَّجَلِّي.
وفي المَحْصول: البَيانُ إظْهارُ المعْنَى للنَّفْسِ حتى يتبيَّنَ من غيرِهِ ويَنْفصِلَ عمَّا يلتبسُ به.
وفي المُفْردات للرَّاغب، رحِمَه اللهُ تعالى: البَيانُ أَعَمُّ مِن النُّطْقِ لأنَّ النُّطقَ مُخْتصٌّ باللِّسانِ ويُسمَّى ما يُبَيّنُ به بيانًا وهو ضَرْبان: أَحَدُهما بالحالِ وهي الأشْياءُ الدَّالَّةُ على حالٍ مِنَ الأحْوالِ مِن آثارِ صفَةٍ؛ والثاني بالإخْبارِ وذلك إمَّا أنْ يكونَ نُطْقًا أَو كِتابَةً، فما هو بالحالِ كقولِهِ تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، وما هو بالإخْبارِ كقوْلِهِ تعالى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ}؛ قالَ: ويُسمَّى الكَلام بيانًا لكَشْفِه عن المعْنَى المَقْصودِ وإظْهارِهِ نحو {هذا بَيانٌ لِلنّاسِ}؛ ويُسمَّى ما يُشْرَحُ به المُجْمَلُ والمُبْهَم مِن الكَلامِ بيانًا نحوَ قوْلِه تعالَى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ}.
وفي شَرْحِ المَقامَاتِ للشَّرِيشي، رحِمَه اللهُ تعالى: الفَرْقُ بَيْنَ البَيانِ والتِّبيان أنَّ البَيانَ وُضوحُ المعْنَى وظُهورُه، والتِّبْيان تَفْهِيم المعْنَى وتَبْيِينه، والبَيانُ منْك لغيرِكَ، والتِّبْيان منْك لنَفْسِك مثْلُ التَّبْيِين، وقد يَقَعُ التَّبْيينُ في معْنَى البَيانِ، وقد يَقَعُ البَيانُ بكثْرةِ الكَلامِ ويُعَدُّ ذلكَ مِن النِّفاقِ، ومنه حدِيثُ التّرمذيّ: «البذاءُ والبَيانُ شُعْبتان مِنَ النِّفاقِ»، ا ه.
* قلْتُ: إنّما أَرادَ منه ذَمَّ التَّعَمّقِ في المنْطِقِ والتَّفاصُحَ وإظْهارَ التَّقدُّمِ فيه على النَّاسِ، وكأنَّه نوعٌ من العُجْبِ والكِبْرِ؛ ورَاوِي الحَدِيْثِ أبو أُمامَةَ الباهِلِيُّ، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه؛ وجاءَ في رِوَايَةٍ أُخْرى: «البَذاءُ وبعضُ البَيانِ»، لأنَّه ليسَ كلُّ البَيانِ مَذْمومًا.
وأَمَّا حَدِيْث: «إنَّ مِن البَيانِ لسِحْرًا»، فرَاجِع النِّهايَة.
والبَيِّنُ مِن الرِّجالِ: الفَصيحُ؛ زادَ ابنُ شُمَيْل: السَّمْحُ اللِّسانِ الظَّريفُ العالِي الكَلام القَلِيل الرَّتَج؛ وأَنْشَدَ شَمِرٌ:
قد يَنْطِقُ الشِّعْرَ الغَبيُّ ويَلْتَئي *** على البَيِّنِ السَّفَّاكِ وهو خَطيبُ
الجمع: أَبْيِناءُ، صحَّتِ الباءُ لسكونِ ما قَبْلها.
وحَكَى اللَّحْيانيُّ في جَمْعِه: أَبْيانٌ وبُيَناءُ، فأمَّا أَبْيانُ فكمَيِّتٍ وأَمْواتٍ، قالَ سِيْبَوَيْه: شَبَّهوا فَيْعِلًا بفاعِلٍ حينَ قالوا شَاهِد وأَشْهاد، مِثْل، قَيِّلٍ وأَقْيالٍ؛ وأمَّا بُيَناءُ فنادِرٌ، والأقْيَس في ذلِكَ جَمْعُه بالواوِ، وهو قَوْلُ سِيْبَوَيْه.
وقالَ الأزْهرِيُّ في أَثْناءِ هذه التَّرْجَمةِ: رُوِي عن أَبي الهَّيْثم أَنَّه قالَ: الكَواكِبُ البَيانِيَّاتُ هي التي لا تَنْزِلُ الشَّمسُ بها ولا القمرُ إنَّما يُهْتَدَى بها في البرِّ والبَحْرِ، وهي شآمِيةٌ، ومَهَبُّ الشّمالِ منها، أَوَّلُها القُطْبُ وهو كوكبٌ لا يَزُولُ، والجدْيُ والفَرْقَدان، وهو بَينَ القُطْب، وفيه بَناتُ نعْشٍ الصُّغْرى.
هكذا النَّقْل في هذه التَّرْجَمة صَحِيحٌ غَيْر أنَّ الأزْهرِيَّ استدلَّ به على قَوْلِهم: بَيْنَ بمعْنَى وَسْط، وذلِكَ قَوْله: وهو عَيْنُ القُطْب، أي وَسْطُه.
وأَمَّا الذي استدلَّ به المصنِّفُ، رَحِمَه اللهُ تعالَى، مِن كوْنِ تلْكَ الكَواكِبِ تسمَّى بَيانِيَّاتٍ فتَصْحِيفٌ مَحْضٌ لا يَتَنبَّه له إلَّا مَنْ عانَى مُطالَعَةَ الأُصولِ الصَّحِيحةِ ورَاجَعَها بالذِّهْن الصَّحِيحِ المُسْتَقِيم. والصَّوابُ فيه البيانيات، بموحَّدَتَيْن، ويقالُ فيه أَيْضًا البابانيات، هكذا رَأَيْته مُصحَّحًا عليه، والدَّليلُ في ذلِكَ أنَّ صاحِبَ اللِّسانِ ذَكَرَ هذا القَوْلَ بعَيْنِه في تَرْكِيبِ ب ب ن، كما مَرَّ آنِفًا فتَفَهَّم ذلِكَ.
وبَيَّنَ بنْتَه: زَوَّجَها، كأبانَها تَبْيِينًا وإبانَةً، وهو مِن البَيْنِ بمعْنَى البُعْدِ، كأنَّه أَبْعَدها عن بيتِ أَبِيها.
ومِن المجازِ: بَيَّنَ الشَّجرُ: إذا بَدا ورَقُه وظَهَرَ أَوَّلَ ما يَنْبُتُ.
وبَيَّنَ القَرْنُ: نَجَمَ، أي طَلَعَ.
وأبو عليِّ بنُ بَيَّانٍ العاقُوليُّ، كشَدَّادٍ: زاهِدٌ ذو كَراماتٍ، وقَبْرُهُ يُزارُ؛ قالَهُ ابنُ ماكُولا.
وبَيَّانَةُ، كجبَّانَةٍ: قرية بالمغْربِ، والأولى في الأنْدَلُس في عَمَلِ قرطبَةَ، ثم إنَّ التَّشْديدَ الذي ذَكَرَه صَرَّح به الحافِظُ الذهبيُّ وابنُ السّمعانيّ والحافِظُ، وشَذِّ شيْخُنا، رَحِمَه اللهُ تعالَى فقالَ: هو بالتَّخْفِيفِ مِثْل سَحابَةٍ، وهو خِلافُ ما عليه الأئِمَّةِ؛ منها أبو محمدٍ قاسِمُ بنُ أَصْبَغِ بنِ محمدِ بنِ يوسف بنِ ناسجِ بنِ عطاءٍ مَوْلى أَمير المُؤْمِنِينَ الوَلِيد بنِ عبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ البَيَّانيُّ الحافِظُ المُسْنِدُ بالأنْدَلُس، سَمِعَ مِن قرطبَةَ مِن بقيّ بنِ مَخْلدٍ ومحمدِ بنِ وَضَّاح، ورَحَلَ إلى مكَّةَ، شرَّفَها اللهُ تعالَى، والعِرَاق ومِصْر، وسَمِعَ مِن ابنِ أَبي الدُّنيا والكِبار، وكان بَصِيرًا بالفقْهِ والحَدِيْثِ، نَبِيلًا في النَّحْوِ والغَريبِ والشِّعْرِ، وصنَّفَ على كتابِ أبي دُاوَد، وكان يُشاوَرُ في الأحْكامِ، وتُوفي سَنَة 144 عن ثلاث وتسْعِيْن سَنَة، وحَفِيدُه قاسِمُ بنُ محمدِ بنِ قاسِم الأنْدَلُسيُّ البَيَّانيُّ رَوَى عنه ابْنُه أبو عَمْرٍو وأَحْمد، وأَحْمدُ هذا مِن شيوخِ ابنِ حَزْم، وقاسِمُ بنُ محمدِ بنِ قاسِمِ بنِ سَيَّار البَيَّانيُّ أَنْدلُسِيُّ له تَصانِيف صَحِبَ المُزَنيّ وغيرَه، وكانَ يميلُ إلى مَذْهَبِ الإمامِ الشافِعِيّ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه، ماتَ سَنَة 228، وابْنُه أَحْمدُ بنُ محمدِ بنِ قاسِمٍ رَوَى عن أَبيهِ.
وبَلَدِيُّهُ محمدُ بنُ سُليمانَ بنِ أَحْمد المراكشيُّ الصنهاجيُّ المُقْرئُ.
* قُلْت: الصَّوابُ في نِسْبَتِه البَياتيُّ، بالتاءِ الفوْقيَّةِ بدلُ النُّونِ، كما ضَبَطَه الحافِظُ وصَحَّحَه، فقَوْله بَلَديُّه غَلَطٌ، ومحلُّ ذِكْرِه في ب ي ت، وهو مِن شيوخِ الإسْكَنْدريَّة، سَمِعَ مِن ابنِ رواح ومظفر اللُّغَويّ، وعنه الوَانِي وجماعَةٌ.
وبَيانٌ، كسَحابٍ: موضع بَبَطْلَيُوسَ مِن كُورِ الأنْدلُس.
ويوسفُ بنُ المُبارَكِ بنِ البِينِي، بالكسْرِ، وضَبَطَه الحافِظُ بالفتْحِ، مُحَدِّثٌ هو وأَخُوهُ مهنا ووالدُهُما، سَمِعَ الثلاثَةُ عن أَبي القاسِمِ الرَّبَعيِّ، سَمِعَ منهم أبو القاسِمِ بنُ عَساكِرِ.
وقالَ عُمَرُ بنُ عليِّ القُرَشِيُّ: سَمِعْتُ مِن يوسف، وماتَ سَنَة 561.
وبيْنونُ: حِصْنٌ باليمنِ يُذْكَرُ مع سَلْحَيْنَ، خرَّبَهما أَرياطُ عامِلُ النَّجاشِيّ، يقالُ: إنَّهما مِن بِناءِ سُلَيْمان، عليهالسلامُ، لم يَرَ الناسُ مثلُه، ويقالُ: إنَّه بَناهُ بَبنونُ بنُ مَنافِ بنِ شرحبيلِ بنِ ينكف بنِ عبْدِ شمسِ بنِ وائِلٍ بنِ غوث؛ قالَ ذو وجدن الحِمْيريُّ:
أَبْعَدَ بَينُونَ لا عينٌ ولا أَثَرٌ *** وبَعْدَ سَلْحينَ بيني الناسُ أبياتا
وبَيْنونَةٌ، بهاءٍ، قرية بالبَحْرَيْنِ؛ وفي التهْذِيبِ: بينَ عُمَان والبَحْرَيْن؛ وفي مُعْجمِ نَصْر: أَرْضٌ فَوْق عُمَان تتَّصِلُ بالشَّحْرِ؛ قالَ:
يا رِيحَ بَيْنونَةَ لا تَذْمِينا *** جئْتِ بأرْواحِ المُصَفَّرِينا
وهُما بَيْنونَتان، بَيْنُونَةُ الدُّنْيَا، وبَيْنُونَةُ القُصْوَى، وكِلْتاهُما قَرْيتَانِ في شِقِّ بني سَعْدٍ بَيْنَ عُمانَ ويَبْرِين.
وبَيْنَةُ: موضع بوادِي الرُّوَيْثَةِ بَيْنَ الحَرَمَيْن، ويقالُ بكسْرِ الباءِ أَيْضًا، كما في مُعْجَمِ نَصْر، وثَنَّاها كُثَيِّرٌ عزَّة؛ فقالَ:
أَلا شَوْقَ لَمَّا هَيَّجَتْكَ المنازِلُ *** بحَيْثُ الْتَقَتْ مِن بَيْنَتَيْنِ العَياطِلُ
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الطَّويلُ البائِنُ: أي المُفْرِطُ طُولًا الذي بَعُدَ عن قَدِّ الرِّجالِ الطِّوال.
وحَكَى الفارسِيُّ عن أَبي زيْدٍ: طَلَبَ إلى أَبَوَيْه البائِنَةَ، وذلِكَ إذا طَلَبَ إليهما أنْ يُبِينَاهُ بمالٍ فيكونَ له على حِدَةٍ، ولا تكونُ البائِنَةُ إلَّا مِن الأبَوَيْن أَو أَحدِهما، ولا تكونُ مِن غيرهما، وقد أَبانَه أبواهُ إبانَةً حتى بانَ هو بذلِكَ يَبينُ بُيُونًا.
وبانَتْ يَدُ الناقَةِ عن جَنْبِها تَبِينُ بُيُونًا.
وقالَ ابنُ شُمَيْلٍ: يقالُ للجارِيَةِ إذا تزوَّجَتْ: قد بانَتْ، وهنَّ قد بِنَّ إذا تزوَّجْنَ كأنَّهنَّ قد بَعَدْنَ عن بَيْتِ أَبِيهنَّ؛ ومنه الحدِيْثُ: «مَنْ عالَ ثلاثَ بَناتٍ حتى يَبِنَّ أَو يَمُتْنَ».
وبَيَوانُ، محرَّكةً: مَوْضِعٌ في بحيرَةِ تنيس، قد ذُكِرَ في «ب ون».
وأَبانَ الدَّلْوَ عن طَيِّ البئْرِ: حادَ بها عنه لئَلَّا يُصيبَها فتَنْخرِق؛ قالَ:
دَلْوُ عِراكٍ لجَّ بي مَنينُها *** لم يَرَ قبْلي مائِحًا يُبينُها
والتَّبْيينُ: التَّثبُّتُ في الأمْرِ والتَّأني فيه؛ عن الكِسائي.
وهو أَبْيَنُ مِن فلانٍ: أي أَفْصَح منه وأَوْضَح كَلامًا.
وأَبانَ عليه: أَعْرَبَ وشَهِدَ.
ونَخْلَةٌ بائِنَةٌ: فاتَتْ كبائِسُها الكوافرَ وامتدَّتْ عَراجِينُها وطالَتْ؛ عن أَبي حَنيفَةَ؛ وأَنْشَدَ:
مِن كل بائنةٍ تَبينُ عُذوقَها *** عنها وحاضنةٍ لها مِيقارِ
والباناةُ مَقْلوبَةٌ عن البانِيَةِ، وهي النَّبْلُ الصِّغارُ؛ حَكَاه السُّكَّريُّ عن أَبي الخطَّاب.
والبائِنُ: الذي يُمْسِكُ العُلْبة للحالِبِ.
ومِن أَمْثالِهم: اسْتُ البائِنِ أَعْرَفُ، أي مَنْ وَلِيَ أَمْرًا ومارَسَه فهو أَعْلَم به ممَّن لم يُمارِسْه.
ومُبِينٌ، بالضمِّ: مَوْضِعٌ.
وفي الصِّحاحِ: اسْمُ ماءٍ؛ وأَنْشَدَ:
يا رِيَّها اليومَ على مُبِينِ *** على مبينٍ جَرَدِ القَصِيمِ
جَمَعَ بَيْنَ المِيمِ والنُّونِ، وهو الإكْفاءُ.
وأَبْيَنُ، كأحْمَدَ: اسْمُ رجُلٍ نُسِبَتْ إليه عَدَنُ مَدينَةٌ على ساحِلِ بَحْرِ اليمنِ؛ ويقالُ يبين بالياءِ.
والبَيِّنَةُ: دَلالَةٌ واضِحَةٌ عَقْليَّة كانَتْ أَو مَحْسوسَة، وسُمِّيَت شَهادَةُ الشاهِدَيْن بَيِّنَة لقَوْلِه، عليهالسلام: البَيِّنَةُ على المُدَّعِي واليمينُ على مَنْ أَنْكر؛ والجَمْعُ بَيِّناتٌ.
وفي المَحْصُولِ: البَيِّنَةُ: الحجَّةُ الوَاضِحَةُ.
والبِينَةُ، بالكسْرِ: مَنْزلٌ على طرِيقِ حاجِّ اليَمامَةِ بينَ الشِّيح والشُّقَيْرَاءَ.
وذاتُ البَيْنِ، بالفتْحِ، مَوْضِعٌ حِجازيٌّ عن نَصْر.
وبَيانُ، كسَحابٍ: صُقْعٌ مِن سَوادِ البَصْرَةِ شَرْقيّ دجْلَةَ عليه الطَّريقُ إلى حِصْنِ مَهْدِي.
والبينى: نوعٌ من الذُّرَةِ أَبْيَض بيانية.
ومحمدُ بنُ عَبْدِ الخالِقِ البَيانيُّ مِن شيوخِ الحافِظِ الذهبيِّ، رَحِمَهم اللهُ تعالَى، مَنْسوبٌ إلى طَريقَةِ الشيْخ أَبي البَيان تباين محمد بن محفوظ القُرَشِيّ عُرِفَ بابنِ الحورانيّ المُتَوفّى بدِمَشْق سَنَة 551، رَحِمَه اللهُ تعالَى، لَبِسَ الخرقَةَ عن النبيِّ صَلّى الله عليه وسلَّم عِيانًا يقْظَة، وكان الملبوس معه معاينًا للخلقِ كما هو مَشْهورٌ.
وقالَ الحافِظُ أَبو الفُتوحِ الطاووسيُّ، رَحِمَه اللهُ تعالَى: إنَّه مُتواتِرٌ.
وبايانُ: سكَّةٌ بنَسَفَ، منها أَبو يَعْلى محمدُ بنُ أَحْمَدَ ابنِ نَصْر الإمامُ الأدِيبُ، تُوفي سَنَة 337، رَحِمَه اللهُ تعالَى.
ومباينُ الحقِّ: مواضِحُه.
ودِينارُ بنُ بَيَّان، كشَدَّادٍ، وداودُ بنُ بَيَّان، وقيلَ: بنون ثقيلة، مُحَدِّثان.
وعُمَرُ بنُ بَيانٍ الثَّقَفيُّ، كسَحابٍ: مُحَدِّثٌ.
وبَيانٌ أَيْضًا: لَقَبُ محمدِ بنِ إمامِ بنِ سراجٍ الكِرْمانيِّ الفارِسِيّ الكازرونيِّ مُحَدِّث وحَفِيدُه محمدُ.
ويُلَقَّبُ ببَيان أَيْضًا ابنُ محمدٍ، ويُلَقَّبُ بعباد ابن محمدٍ، ماتَ سَنَة 857. ووَلَدُه عليّ وَرَدَ إلى مِصْرَ في أَيَّام السُّلْطان قايتباي، فأكْرَمَه كَثيرًا، وله تَأْليفٌ صَغيرٌ رَأَيْته.
والبيانيَّةُ: طائِفَةٌ مِن الخَوارِجِ نُسِبُوا إلى بَيان بنِ سمعان التَّمِيميّ.
ومُبِينٌ، بالضمِّ: ماءٌ لبَني نُمَيْرٍ ورَاءَ القَرْيَتَينْ بنصفِ مَرْحَلة بمُلْتَقى الرَّمْل والجلْد؛ وقيلَ لبَني أَسَدٍ وبَني حَبَّة بَيْنَ القَرْيَتَيْن أَو فيه؛ قالَهُ نَصْر.
ومَبْيَنٌ، كمَقْعَدٍ: حِصْنٌ باليمنِ من غَرْبي صَنْعاء في البِلادِ الحجية؛ واللهُ أَعْلَم بالصَّواب.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
86-تاج العروس (أتي)
[أتي]: ي أَتَيْتُه أَتْيًا وإِتْيانًا وإِتْيانَةً، بكسرِهِما، ومَأْتاةً وأُتِيًّا، بالضَّمِّ كعُتِيِّ ويُكْسَرُ؛ اقْتَصَر الجَوْهرِيُّ على الأُولى والثَّانِيَةِ والرَّابِعَةِ، وما عَداهُنَّ عنِ ابنِ سِيدَه؛ جِئْتُه.وقالَ الرَّاغِبُ: حَقيقَةُ الإِتْيانِ المَجِيءُ بسُهُولةٍ.
قالَ السَّمين: الإِتْيانُ يقالُ للمَجِيءِ، بالذَّاتِ وبالأَمْرِ والتَّدْبيرِ، وفي الخَيْرِ والشَّرِّ ومن الأوَّل قَوْله:
أَتَيْت المُرُوءَة من بابِها
وقَوْلُه تعالَى: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلّا وَهُمْ كُسالى}؛ أَي لا يَتَعاطُونَ.
قالَ شَيْخُنا: أَتَى يَتَعدَّى بنَفْسِه؛ وقَوْلُهم: أَتَى عليه، كأَنَّهم ضَمَّنُوه معْنَى نَزَلَ، كما أَشارَ إِليه الجلالُ في عقودِ الزبرجدِ. وقالَ قوْمٌ: إنَّه يُسْتَعْملُ لازِمًا ومُتَعدِّيًا، انتَهَى.
وشاهِدُ الأَتْي قَوْلُ الشاعِرِ أَنْشَدَه الجَوْهرِيُّ:
فاحْتَلْ لنَفْسِكَ قَبْل أَتْيِ العَسْكَرِ
* قُلْتُ: ومِثْلُه قَوْلُ الآخر:
إِنِّي وأَتْيَ ابنِ علَّاقٍ ليَقْرِيَني *** كعائِطِ الكَلْبِ يَبْغي الطِّرْقَ في الذَّنَبِ
وقالَ اللَّيْثُ: يقالُ أَتاني فلانٌ أَتْيًا وأَتْيةً واحِدَةً وإِتْيانًا؛ فلا تقولُ إِتْيانَةً واحِدَةً إلَّا في اضْطِرارِ شِعْرٍ قَبيحٍ.
وقالَ ابنُ جنِّي: حُكِي أَنَّ بعضَ العَرَبِ يقولُ في الأَمْرِ مِنْ أَتى: تِ، فيَحْذفُ الهَمْزةَ تَخْفيفًا كما حُذِفَتْ من خُذْ وكُلْ ومُرْ، ومنه قَوْلُ الشاعِرِ:
تِ لي آلَ زيْدٍ فابْدُهم لي جماعَةً *** وسَلْ آلَ زيدٍ أَيُّ شيءٍ يَضِيرُها
وقُرِئَ: يومَ تَأْتِ، بحذْفِ الياءِ كما قالوا لا أَدْرِ، وهي لُغَةُ هُذيْل؛ وأَمَّا قَوْلُ قَيْسِ بنِ زُهَيْر العَبْسيّ:
أَلَمْ يَأْتِيكَ والأَنْباءُ تَنْمِي *** بما لاقَتْ لَبُون بني زِيادِ؟
فإنَّما أَثْبَتَ الباءَ ولم يحذِفْها للجَزْمِ ضَرُورَةً، ورَدَّه إلى أَصْلِه.
قالَ المازِنيُّ: ويَجوزُ في الشِّعْرِ أَنْ تقولَ: زيْدٌ يرْمِيُكَ. برَفْعِ الياءِ، ويَغْزُوُك، برَفْعِ الواوِ، وهذا قاضِيٌ، بالتَّنْوينِ، فيجْري الحَرْف المُعْتَلّ مُجْرى الحَرْف الصَّحِيح في جَميعِ الوُجُوهِ في الأَسْماءِ والأَفْعَالِ جَمِيعًا لأنَّه الأَصْلُ، كذا في الصِّحاح.
وآتَى إليه الشَّيءَ، بالمدِّ، إِيتاءً: ساقَهُ وجَعَلَه يَأْتِي إليه وآتى فلانًا شيئًا إيتاءً: أَعْطاهُ إِيَّاهُ؛ ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}: أَرادَ، واللهُ أَعْلَم، أُوتِيْتَ مِن كلِّ شيءٍ شيئًا. وقَوْلُه تعالَى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ}.
وفي الصِّحاح: آتاهُ أَتَى به؛ ومنه قَوْلُه تعالى: {آتِنا غَداءَنا}؛ أَي ائْتِنا به.
* قُلْتُ: فهو بالمدِّ يُسْتَعْملُ في الإِعْطاءِ وفي الإِتْيانِ بالشيءِ.
وفي الكشافِ: اشْتَهَرَ الإِيتاءُ في مَعْنى الإِعْطاءِ وأَصْلُه الإِحْضارُ. وقالَ شيْخُنا: وذَكَرَ الرّاغبُ أَنَّ الإِيتاءَ مَخْصوصٌ بدَفْعِ الصَّدقَةِ؛ قالَ: وليسَ كَذَلِكَ فقد وَرَدَ في غيرِهِ: كـ {آتَيْناهُ الْحُكْمَ}، وآتَيْناهُ الكِتابَ، إلَّا أَنْ يكونَ قَصَد المَصْدَر فقط.
* قُلْتُ: وهذا غَيْرُ سَديدٍ، ونَصُّ عِبارَتهِ: إِلَّا أَنَّ الإِيتاءَ خُصَّ بدَفْعِ الصَّدَقَةِ في القُرْآنِ دُونَ الإِعْطاءِ قالَ تعالَى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ}. و {آتُوا الزَّكاةَ}؛ ووَافَقَه على ذلِكَ السَّمين في عمدَةِ الحفَّاظِ، وهو ظاهِرٌ لا غُبَارَ عليه، فتأَمَّل.
ثم بَعْدَ مدَّةٍ كَتَبَ إليَّ مِن بلدِ الخليلِ صاحِبُنا العلَّامَة الشَّهاب أَحْمَدُ بنُ عبْدِ الغنيّ التَّمِيميّ إمامُ مَسْجده ما نَصّه: قالَ ابنُ عبْدِ الحقِّ السّنباطيّ في شرْحِ نظمِ النقاية في علْمِ التَّفْسِيرِ منه ما نَصّه: قالَ الخويي: والإِعْطاءُ والإِيتاءُ لا يَكادُ اللُّغويُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنهما، وظَهَرَ لي بَيْنهما فَرْقٌ يُنْبئُ عن بلاغَةِ كِتابِ اللهِ، وهو أَنَّ الإِيتاءَ أَقْوَى مِنَ الإِعْطاءِ في إثْباتِ مفْعولِه، لأنَّ الإِعْطاءَ له مُطاوعٌ بخِلافِ الإِيْتاءِ، تقولُ: أَعْطاني فعطوت، ولا يقالُ آتَاني فأتيت، وإنَّما يقالُ آتَاني فأَخَذْتُ، والفِعْلُ الذي له مُطاوعٌ أَضْعَفُ في إثْباتِ مَفْعولِه ممَّا لا مُطاوِعَ له، لأنَّك تقولُ قَطَعْته فانْقَطَعَ، فيدلُّ على أَنَّ فِعْلَ الفاعِلِ كانَ مَوْقوفًا على قُبولِ المَحلِّ، لولاه ما ثَبَتَ المَفْعُولُ، ولهذا لا يصحُّ قَطَعْته فما انْقَطَعَ، ولا يصحُّ فيمَا لا مُطاوعَ له ذلكَ؛ قالَ: وقد تَفَكَّرْت في مَواضِع مِنَ القُرْآنِ فوَجَدْت ذلِكَ مُراعىً، قالَ تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ}، لأنَّ المُلْكَ شيءٌ عَظيمٌ لا يُعْطاهُ إلَّا مَنْ له قُوَّةٌ؛ وقالَ: {إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ}، لأنَّه مورود في المَوْقفِ مُرْتَحِل عنه إلى الجنَّة، انتَهَى نَصُّه.
* قُلْتُ: وفي سِياقِه هذا عندَ التأَمُّل نَظَرٌ والقاعِدَةُ التي ذَكَرَها في المُطاوَعَةِ لا يَكادُ ينسحبُ حُكْمُها على كلِّ الأَفْعالِ، بل الذي يُظْهِرُ خِلافَ ما قالَهُ فإنَّ الإعْطاءَ أَقْوَى مِنَ الإيتاءِ، ولذا خَصَّ في دفْعِ الصَّدَقاتِ الإيتاءَ ليكونَ ذلِكَ بسُهولَةٍ من غَيْرِ تَطَلّعٍ إلى ما يَدْفَعه، وتَأَمَّل سائِرَ ما وَرَدَ في القُرْآنِ تَجِدُ مَعْنَى ذلِكَ فيه، والكَوْثَرُ لمَّا كانَ عَظِيمًا شَأْنَهُ غَيْر داخِلٍ في حِيطَةِ قدْرَةٍ بَشَريَّةٍ اسْتُعْمِل الإعْطاءُ فيه. وكَلامُ الأَئمَّة وسِياقُهم في الإيتاءِ لا يُخالِفُ ما ذَكَرْنا، فتأَمَّل والله أَعْلَم.
وآتَى فلانًا: جازَاهُ؛ وقد قُرِئَ قَوْلُه تعالى: {وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها}، بالقَصْر والمدِّ، فعلى القَصْرِ جئْنا، وعلى المدِّ أَعْطَينا، وقيلَ: جازَيْنا، فإنْ كانَ آتيْنا أَعْطَيْنا فهو أَفْعَلْنا، وإن كانَ جازَيْنا فهو فاعَلْنا.
وقَوْلُه تعالى: وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى، قالوا في مَعْناه: أَي حيثُ كانَ، وقيلَ: مَعْناه حيثُ كانَ الساحِرُ يجبُ أَنْ يُقْتَلَ، وكَذلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ الفِقْه في السَّحَرةِ.
وطريقٌ مِئْتاةٌ، بالكسْرِ؛ كذا في النسخِ والصَّوابُ مِئْتاءٌ؛ عامِرٌ واضِحٌ؛ هكذا رَوَاهُ ثَعْلَب بالهَمْزِ قالَ: وهو مِفْعالٌ مِن أَتَيْت؛ أَي يَأْتِيه الناسُ؛ ومنه الحدِيثُ: «لو لا أنَّه وَعْدٌ حَقُّ وقولٌ صِدْقٌ وطريقٌ مِئْتاةٌ لحَزَنَّا عليكَ يا إبراهيمَ»؛ أَرادَ أَنَّ المْوتَ طَريقٌ مَسْلوكٌ، يَسْلُكُهُ كلُّ أَحدٍ.
قالَ السَّمين: وما أَحْسَن هذه الاسْتِعارَة وأَرْشَق هذه الإشارَة.
ورَوَاهُ أَبو عبيدٍ في المُصَنَّفِ: طريقٌ مِيتَاء بغيرِ هَمْزٍ، جَعلَه فِيعالًا.
قالَ ابنُ سِيدَه: فِيعالٌ مِن أَبْنيةِ المَصادِرِ، ومِيتاءُ ليسَ مَصْدرًا إنَّما هو صفَةٌ، فالصَّحِيحُ فيه ما رَوَاهُ ثَعْلَب وفَسَّره قالَ: وكان لنا أَنْ نَقولَ إنَّ أَبا عبيدٍ أَرادَ الهَمْزَ فتَرَكَه إلَّا أَنَّه عَقَدَ البابَ بِفِعْلاءَ ففَضَحَ ذاتَه وأَبانَ هِنَاتِه. وهو مُجْتَمَعُ الطَّريقِ أَيْضًا، كالمِيدَاءَ.
وقالَ شَمِرٌ مَحجَّتُه، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي لحميدٍ الأَرْقَط:
إذا انْضَزَّ مِئْتاءُ الطَّريقِ عليهما *** مَضَتْ قُدُمًا برح الحزامِ زَهُوقُ
والمِيتاءُ: بمعْنَى التِّلْقاءِ. يقالُ: دارِي بمِيتاء دارِ فُلانٍ ومِيداءِ دارِ فُلانٍ؛ أَي تِلْقاءَ دارِهِ.
وبَنى القَوْمُ دارَهُم على مِيتاءٍ واحِدٍ ومِيداءٍ واحِدٍ.
ومَأْتَى الأَمْرِ ومَأْتاتُهُ: جِهَتُه ووَجْهُه الذي يُؤْتَى منه.
يقالُ: أَتَى الأَمْرَ من مَأْتاتِهِ؛ أَي مَأْتاهُ، كما تقولُ: ما أَحْسَنَ مَعْناةُ هذا الكَلامِ، تُريدُ مَعْناهُ؛ نَقَلَهُ الجوْهرِيُّ،، وأَنشَدَ للرَّاجزِ:
وحاجةٍ كنتُ على صُمِاتِها *** أَتَيْتُها وحْدِي على مَأْتاتِها
والإِتَى، كرِضًا؛ وضَبَطَه بعضٌ كعَدِيِّ، والأَتاءُ، كسَماءٍ، وضَبَطَه بعضٌ ككِساءٍ: ما يَقَعُ فِي النَّهْرِ من خَشَبٍ أَو وَرَقٍ، الجمع: آتاءُ، بالمدِّ.
وأُتِيٌّ، كَعُتِيّ، وكلُّ ذَلِكَ مِن الإتْيانِ. ومنه: سَيْلٌ أَتِيٌّ وأَتاوِيٌّ إذا كانَ لا يُدْرَى مِن أَيْنَ أَتى، وقد ذُكِرَ قَرِيبًا، فهي واوِيَّةٌ يائِيَّةٌ.
وأَتِيَّةُ الجُرْحِ، كعَلِيَّةٍ، وإئِتِّيَّتُه، بكسْرٍ فتَشْديدِ تاءٍ مكْسُورَةٍ وفي بعضِ النسخِ آتِيَتُه بالمدِّ؛ مادَّتُه وما يَأْتِي منه؛ عن أَبي عليِّ، لأنَّها تَأْتِيهِ مِن مَصَبِّها.
وأَتَى الأَمْرَ والذَّنْبَ: فَعَلَهُ.
ومِن المجازِ: أَتَى عليه الدَّهْرُ؛ أَي أَهْلَكَهُ؛ ومنه الأَتُو للمَوْتِ وقد تقدَّمَ.
واسْتَأَتَتِ النَّاقَةُ اسْتِئْتاءً: ضَبِعَتْ وأَرادَتِ الفَحْلَ.
وفي الأساسِ: اغْتَلَمَتْ أَن تُؤْتَى.
واسْتَأَتَّ زيْدٌ فلانًا: اسْتَبْطَأَهُ وسَأَلَهُ الإتْيانَ. يقالُ: ما أَتَيْناكَ حتى اسْتَأَتَيْناكَ إذا اسْتَبْطَؤُوهُ؛ كما في الأساسِ؛ وهو عن ابنِ خَالَوَيْه.
ورجُلٌ مِيتاءٌ: مُجازٍ مِعْطاءٌ، مِن آتاهُ جازَاهُ وأَعْطَاهُ، فعلى الأوَّل فاعَلَهُ، وعلى الثاني: أَفْعَلَهُ، كما تقدَّمَ.
وتَأَتَّى له: تَرَفَّقَ وأَتَاهُ مِن وَجْهِه؛ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ، وهو قَوْلُ الأصْمَعيِّ.
وتَأَتَّى له الأَمْرُ: تَهَيَّأَ وتَسَهَّلَتْ طَرِيقُه، قالَ:
تَأَتَّى له الخَيْرُ حتى انْجَبَرْ
وقيلَ: التَّأَتِّي: التَّهَيؤُ للقِيامِ؛ ومنه قَوْلُ الأَعْشى:
إذا هي تَأَتَّى قَريب القِيام *** تَهادَى كما قد رأَيْتَ البَهِيرا
وأَتَيْتُ الماءَ وللماءِ تَأْتِيَةً، على تَفْعِلَةٍ، وتَأَتِّيًا، بالتَّشْديدِ: سَهَّلْتُ سَبِيلَه ووَّجَّهْتُ له مَجْرىً حتى جَرَى إلى مَقارِّهِ. ومنه حدِيثُ ظُبْيان في صفَةِ دِيارِ ثَمُود: «وأَتَّوْا جَداوِلَها»؛ أَي سَهَّلُوا طُرُقَ المِياهِ إليها.
وفي حدِيثٍ آخَر: رأَى رَجُلًا يُؤَتِّي الماءَ إلى الأرضِ؛ أَي يُطَرِّق كأَنَّه جعَلَه يَأَتي إليها، وأَنْشَدَ ابنُ الأعرابيِّ لأبي محمدٍ الفَقْعَسِيّ:
تَقْذِفهُ في مثلِ غِيطان النِّيهْ *** في كلِّ تِيهٍ جَدْول تُؤَتِّيهْ
وأُتِيَ فلانٌ، كعُنِيَ: أَشْرَفَ عليه العَدُوُّ ودَنا منه.
ويقالُ: أُتِيتَ يا فُلان إذا أُنْذِرَ عَدُوًّا أَشْرَفَ عليه، نَقَلَهُ الصَّاغانيُّ. وأَتَّى بمعْنَى حتَّى لُغَةٌ فيه.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الأَتيْهُ: المرَّةُ الواحِدَةُ مِن الإِتيانِ.
والمِيتاءُ، كالمِيداءِ، مَمْدُودَانِ: آخِرُ الغايَةِ حيثُ يَنْتهِي إليه جَرْيُ الخَيلِ؛ نَقَلَهُ الجوْهرِيُّ.
ووَعْدٌ مَأْتِيٌّ: أَي آتٍ؛ كحجابٍ مَسْتُورٍ أَي ساتِرٍ، لأَنَّ ما أَتَيْته فقد أَتَاكَ.
قَالَ الجَوْهرِيُّ: وقد يكونُ مَفْعولًا لأنَّ ما أَتاكَ مِن أَمْرِ اللهِ فقد أَتَيْتَه أَنْتَ، وإِنَّما شُدِّدَ لأنَّ واوَ مَفْعولٍ انْقَلَبَتْ ياءً، لكَسْرةِ ما قَبْلها فأُدغِمَتْ في الياءِ التي هي لامُ الفِعْلِ.
وأتى الفَاحِشَةَ: تلَبَّسَ بها، ويُكَنَّى بالإتْيانِ عن الوَطْءِ؛ ومنه قَوْلُهُ تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ}، وهو مِن أَحْسَنِ الكِنايَاتِ.
ورجُلٌ مَأْتِيُّ: أَتى فيه، ومنه قَوْلُ بعضِ المُولّدين:
يَأْتي ويُؤْتَى ليسَ ينكرُ ذا ولا *** هذا كَذلِكَ إبْرة الخيَّاط
وقَوْلُه تعالى: {أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا}. قالَ أَبو إسْحاق: مَعْناهُ يُرْجِعُكُم إلى نَفْسِه.
وقَوْلُه، عزّ وجلّ: {أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}؛ أَي قَرُبَ ودَنا إِتْيانُه.
ومِن أَمْثالِهم: مَأْتِيٌّ أَنْتَ أَيُّها السَّوادُ، أَي، لا بُدَّ لَكَ مِن هذا الأَمْرِ.
وأُتِيَ على يدِ فُلانٍ: إِذا هَلَك له مالٌ، قالَ الحُطيْئة:
أَخُو المَرْء يُؤْتَى دونه ثم يُتَّقَى *** بِزُبِّ الْلِّحَى جز الخُصى كالجَمامِحِ
قَوْلُه: أَخُو المَرْءِ؛ أَي أَخُو المَقْتُول الذي يَرْضَى مِن دِيَّةِ أَخيهِ بِتُيوسٍ طَوِيلَة اللِّحَى، يعْنِي لا خَيْر فيمَا دونه؛ أَي يُقْتَل ثم يُتَّقَى بِتُيوسٍ، ويقالُ: يُؤْتَى دونه أَي يُذْهَبُ به ويُغْلَبُ عليه؛ وقالَ آخَرُ:
أَتَى دون حُلْوِ العَيْشِ حتى أَمرَّه *** نُكُوبٌ على آثارِهنَّ نُكُوبُ
أَي ذَهَبَ بحُلْوِ العَيْشِ.
وقَوْلُه تعالى: {فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ}؛ أَي قَلَعَ بُنْيانَهم من قَواعِدِه وأَساسِه فهَدَمَه عليهم حتى أَهْلَكَهُم.
وقالَ السَّمين نَقْلًا عن ابنِ الأَنْبارِي في تَفْسيرِ هذه الآية: فأَتَى اللهُ مَكْرَهُم مِن أَجْله؛ أَي عَادَ ضَرَر المَكْر عليهم، وهل هذا مَجازٌ أَو حَقيقَةٌ؛ والمُرادُ به نمْرُوذ، أَو صَرْحه خَلافٌ، قالَ: ويُعَبَّرُ بالإِتْيانِ عن الهَلاكِ، كقَوْلهِ تعالى: {فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}.
ويقالُ: أَتى فلان من مَأْمَنِه: أَي جاءَهُ الهَلاكُ مِن جهَةِ أَمْنه.
وأُتِيَ الرَّجُل، كعُنِيَ: وهي وتغَيَّر عليه حِسُّه فتَوَهَّم ما ليسَ بصَحِيحٍ صَحيحًا.
وفَرَسٌ أَتيٌّ ومُسْتَأْتٍ ومُؤَتَّى ومُسْتَأْتَى، بغيْرِ هاءٍ: إِذا أَوْ دَقَتْ.
وآتِ: مَعْناه هَاتِ، دَخَلَتِ الهاءُ على الألِفِ.
وما أَحْسَنَ أَتْيَ يَدَي هذه الناقَة: أَي رَجْع يدَيْها في سَيْرِها.
وهو كرِيمُ المُؤَاتاةِ جَميلُ المُوَاسَاةِ: أَي حَسَن المُطَاوَعَةِ. وآتيْتُه على ذلِكَ الأَمْرِ: إِذا وَافَقْته وطاوَعْته. والعامَّةُ تقولُ: وأَتَيْتُه؛ كما في الصِّحاحِ.
وقيلَ: هي لُغَةٌ لأهْلِ اليَمَنِ، جَعَلُوها واوًا على تَخْفيفِ الهَمْزةِ.
ومنه الحدِيثُ: «خَيْرُ النِّساءِ المُواتِيَةُ لزَوْجِها».
وتَأَتَّى لمَعْرُوفِه: تَعَرَّضَ له، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ.
وتَأَتى له بِسَهْمٍ حتى أَصَابَهُ: إِذا تَقَصَّدَه؛ نَقَلَهُ الزَّمَخْشرِيُّ.
وأَتَّى اللهُ لفلانٍ أَمْرَه تَأْتِيَةً هَيَّأَهُ.
ورجُلٌ أَتِيٌّ: نافِذٌ يتَأَتَّى للأُمورِ.
وآتَتِ النَّخْلةُ إِيتاءً: لُغَةٌ في أَتَتْ.
والآتي: النهيرُ الذي دونَ السّرى؛ عن ابنِ بَرِّي.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
87-تاج العروس (بغي)
[بغي]: ي بَغَيْتُهُ؛ أَي الشَّيءَ ما كانَ خَيرًا أَو شرًّا، أَبْغيهِ بُغاءً، بالضَّمِّ مَمْدودًا، وبُغىً، مَقْصورًا، وبُغْيَةً، بضَمِّهنَّ، وبِغْيَةً، بالكسْرِ، الثَّانِيَةُ عن اللّحْيانيِّ: بَغَى الرَّجُلُ الخَيْرَ والشَّرَّ وكُلَّ ما يَطْلبُه بُغاءً فإنَّه جَعَلَهما مَصْدَرَيْن فقالَ: بَغَى الخَيْرَ بُغْيَةً وبِغْيَةً، وجَعَلَهُما غَيْرُه اسْمَيْنِ كما يَأْتي.وقالَ اللّحْيانيُّ: بَغَى الرَّجُلُ الخَيْرَ والشَّرَّ وكُلَّ ما يَطْلبُه بُغاءً وبِغْيَةً وبغًى، مَقْصورًا وقالَ بعضُهم: بُغْيَةً وبُغًى؛ طَلَبْتُهُ.
وقالَ الرّاغِبُ: البَغْي: طَلَبُ تَجاوُزِ الاقْتِصادِ فيمَا يُتحرَّى؛ تَجَاوَزَه، أَم لم يَتَجاوَزْه، فتارَةً يُعْتَبَر في القَدرِ الذي هو الكَميَّةِ وتارَةً في الوَصْفِ الذي هو الكَيْفِيَّة؛ انتَهَى.
وشاهِدُ البُغى، مَقْصورًا، قَوْلُ الشاعِرِ:
فلا أَحْبِسَنْكُم عن بُغَى الخَيْر إنني *** سَقَطْتُ على ضِرْغامةٍ وهو آكلِي
وشاهِدُ المَمْدودِ قَوْلُ الآخر:
لا يَمْنَعَنَّك من بُغا *** ءِ الخَيْرِ تَعْقادُ التَّمائم
كابْتَغَيْتُهُ وتَبَغَّيْتُهُ واسْتَبْغَيْتُهُ؛ وأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ لساعِدَةَ ابنِ جُؤَيَّة:
ولكنَّما أَهْلي بوادٍ أَنيسُهُ *** سِباعٌ تَبَغَّى الناسَ مَثْنى ومَوْحَدًا
وقالَ آخَرُ:
ألا مَنْ بَيَّنَ الأَخَوَيْ *** نِ أُمُّهما هي الثَّكْلَى
تُسائلُ من رَأَى ابْنَيْها *** وتَسْتَبِغي فما تُبْغَى
وبَيَّنَ بمعْنَى تَبَيَّنَ.
وشاهِدُ الابْتِغاءِ قَوْلُه تعالى: {فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ}.
وقالَ الرَّاغبُ: الابْتِغاءُ خصَّ بالاجْتِهادِ في الطَلَبِ، فمَتى كانَ الطَّلَبُ لشيءٍ مَحْمود فالابْتِغاءُ فيه مَحمودٌ نَحْو {ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها}.
وقَوْلُه تعالى: {إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى}.
والبَغِيَّةُ، كرَضِيَّةٍ: ما ابْتُغِيَ كالبُغْيَةِ، بالكسْرِ والضَّمِّ.
يقالُ: بَغِيَّتي عنْدَكَ وبِغْيَتي عنْدَكَ.
ويقالُ: ارْتَدَّتْ على فلانٍ بُغْيَتُه؛ أَي طَلِبَتُه، وذلِكَ إذا لم يَجِدْ ما طَلَبَ.
وفي الصِّحاحِ: البُغْيَةُ: الحاجَةُ. يقالُ: لي في بَني فلانٍ بَغْيَةٌ وبُغْيَةٌ؛ أَي حاجَةٌ، فالبِغْيَةُ مثْلِ الجِلْسَةِ الحاجَةُ التي تَبْغِيها والبُغْيَةُ الحاجَةُ نَفْسُها؛ عن الأَصْمعيّ.
والبَغِيَّةُ: الضَّالَّةُ المَبْغِيَّةُ.
وأَبْغاهُ الشيءَ: طَلَبَه له. يقالُ: أبْغِني كذا وابْغِ لي كذا؛ كَبَغاهُ إيَّاهُ، كرَمَاهُ؛ وأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ:
وكم آمِلٍ من ذي غِنىً وقَرابةٍ *** ليَبْغِيَه خيرًا وليسَ بفاعِل
وبهما رُوِي
الحدِيثُ: «أبْغِني أَحْجارًا لأَسْتَطِيب بها»، بهَمْزَةِ القَطْعِ والوَصْلِ.
أَو أبْغاهُ خَيْرًا: أَعَانَهُ على طَلَبِهِ.
ومعْنَى قَوْلِهم: أَبغِني كذا؛ أَي أعِنِّي على بُغائهِ. وقالَ الكِسائيُّ: أَبْغَيْتُك الشيءَ إذا أَرَدْتَ أنكَ أَعَنْته على طَلَبِه، فإذا أَرَدْتَ أنَّك فَعَلْتَ ذلِكَ له قُلْتَ له: قد بَغَيْتُكَ، وكَذلِكَ أَعْكَمْتُك أَو أَحْمَلْتُك.
وعَكَمْتُكَ العِكْم: أَي فَعَلْته لكَ.
وقالَ اللَّحْيانيُّ: اسْتَبْغَى القَوْمَ فبَغَوْهُ وبَغَوْا له أَي: طَلَبُوا له.
والباغِي: الطَّالِبُ.
وفي حَدِيثِ أَبي بكْرٍ، رَضِيَ اللهُ تعالى عنه، في الهِجْرةِ: «لقِيهما رجُلٌ بكُراعِ الغَمِيمِ فقالَ: مَنْ أَنْتم؟
فقالَ أَبو بكْرَ: باغٍ وهادٍ»؛ عَرَّضَ بِبُغاءِ الإِبِلِ وهِدَايَة الطَّريقِ، وهو يُريدُ طلبَ الدِّينِ والهِدايَةِ من الضّلالَةَ؛ وقالَ ابنُ أَحْمر:
أَو باغِيانِ لبُعْرانٍ لنا رَفَضَتْ *** كي لا يُحِسُّون من بُعْرانِنا أَثَرَا
قالوا: أَرادَ كيفَ لا يُحِسُّون.
الجمع: بُغاةٌ، كقاضٍ وقُضاةٍ، وبُغيانٌ، كرَاعٍ ورُعاةٍ ورُعْيان؛ ومنه حدِيثُ سُراقَة والهِجْرةِ: «انْطَلِقُوا بُغيانًا»؛ أَي ناشِدِينَ وطالِبِينَ.
وفي الصِّحاحِ: يقالُ: فَرِّقُوا لهذه الإِبِلِ بُغيانًا يُضِبُّون لها أَي يَتَفَرَّقون في طَلَبِها.
فقولُ شيخِنا: وأَمَّا بُغيان ففيه نَظَرٌ مَرْدودٌ.
وانْبَغَى الشَّيءُ: تَيَسَّرَ وتَسَهَّلَ.
وقالَ الزجَّاجُ: انْبَغَى لفلانٍ أَنْ يَفْعَل؛ أَي صَلَحَ له أَنْ يَفْعَل كذا، وكأنَّه قالَ طَلَبَ فِعْلَ كذا فانْطَلَبَ له أَي طاوَعَهُ، ولكنَّهم اجتزوا بقَوْلِهم انْبَغَى.
وقالَ الشَّريفُ أَبو عبدِ اللهِ الغرْناطيُّ في شرْحِ مَقْصُورَةِ حازم: قد كانَ بعضُ الشيوخ يَذْهَبُ إلى أَنَّ العَرَبَ لا تقولُ انْبَغَى بلَفْظِ الماضي، وأنَّها إنَّما اسْتَعْمَلَتْ هذا الفَعْلَ في صيغَةِ المُضارِعِ لا غَيْر، قالَ: وهذا يردّه نَقْل أَهْل اللغَةِ؛ فقد حَكَى أَبو زيْدٍ: العَرَبُ تقولُ: انْبَغَى له الشيء يَنْبَغي انْبِغاءً، قالَ: والصَّحيحُ أنَّ اسْتَعْمالَه بلَفْظِ الماضي قَليلٌ، والأَكْثَر مِن العَرَبِ لا يقوله، فهو نظِيرُ يدعِ وودع إذ كان ودع لا يُسْتَعْمل إلّا في القَليلِ، وقد اسْتَعْمَل سِيْبَوَيْه انْبَغَى في عِبارَتهِ في بابِ منصرف رويد.
قالَ شيْخُنا: وقد ذَكَرَ انْبَغَى غير أبي زيدٍ نَقَلَهُ الخطابيُّ عَنْ الكسائي والواحِديُّ عن الزجَّاجِ وهو في الصِّحاحِ وغيره واسْتَعَمْلَهُ الشافعي كثيرًا وردُّوه عليه وانتصر له البَيْهَقيّ في الانْتِصارِ بمثْلِ ما هنا؛ وعلى كلِّ حالٍ هو قَليلٌ جدًّا وإن وَرَد، انتَهَى.
* قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُ الزجَّاجِ فقد قَدَّمْناهُ، وأَمَّا نَصُّ الصِّحاحِ فقالَ: وقَوْلُهم: يَنْبَغي لكَ أَنْ تَفْعَلَ كذا، هو مِن أَفْعالِ المُطاوَعَةِ. يقالُ: بَغَيْتُه فانْبَغَى كما تَقولُ كَسَرْتُه فانْكَسَرَ.
وإنَّه لَذُو بُغايَةٍ، بالضَّمِّ: أَي كَسوبٌ.
وفي المُحْكَمِ: ذُو بُغايَةٍ للكَسْبِ إذا كانَ يَبْغي ذلِكَ.
وقالَ الأصْمَعيُّ: بَغَى الرجلُ حاجَتَه أَو ضَالَّتَه يَبْغِيها بُغاءً وبُغْيَةً وبُغايةً، إذا طَلَبَها؛ قالَ أَبو ذُؤَيْب:
بُغايةً إنَّما يبغِي الصحاب من ال *** فتيانِ في مثْلِه الشُّمُ الأناجِيحُ
وبَغَتِ المرأَةُ تَبْغي بَغْيًا، وعليه اقْتَصَر ابنُ سِيدَه.
وفي الصِّحاحِ: بَغَتِ المرأَةُ بغاءً، بالكسْرِ والمدِّ؛ وباغَتْ مُباغاةً وبِغَاءً.
قالَ شَيْخُنا: ظاهِرُه أنَّ المَصْدرَ مَن الثّلاثي البغي وأنَّه يقالُ باغَتْ بغاءً، والأوَّل صَحِيحٌ، وأَمَّا باغَتْ فَغَيْرُ مَعْروفٍ وإن ورد سافر ونَحْوه لأصْل الفِعْل بل صَرَّح الجَماهِير بأنَّ البغاءَ مَصْدَرٌ لبَغَتْ الثلاثي لا يُعْرفُ غَيْرُه، والمُفاعَلَة وإن صحَّ، ففيه بُعْدٌ ولم يَحْمل أَحدٌ من الأئِمَّةِ الآيَةَ على المُفاعَلَة بل حَمَلُوها على أَصْلِ الفِعْل؛ انتَهَى.* قُلْتُ: وهذا الذي ذَكَرَه كُلّه صَحِيح، إلَّا أنَّ قَوْلَه: وأَمَّا باغَتْ فغَيْرُ مَعْروفٍ ففيه نَظَرٌ. فقالَ ابنُ خَالَوَيْه: البِغاءُ مصْدَرُ بَغَتِ المرأَةُ وباغَتْ؛ وفي الصِّحَاحِ: خَرَجَتِ الأَمَةُ تُباغِي أَي تُزانِي؛ فهذا يَشْهَدُ أَنَّ باغَتْ مَعْروفٌ، وجَعَلُوا البِغاءَ، على زِنَةِ العُيوبِ كالحِرانِ والشِّرادِ لأنَّ الزِّنا عَيْبٌ.
وقوْلُه تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ}؛ أَي الفُجُور فهي بَغِيٌّ؛ ولا يقالُ ذلِكَ للرَّجُل، قالَهُ اللّحْيانيُّ.
ولا يقالُ للمرأَةِ بَغِيَّةٌ.
وفي الحدِيثِ: «امْرأَةٌ بَغِيٌّ دَخَلَتِ الجَنَّةَ في كَلْبٍ»؛ أَي فاجِرَةٌ، ويقالُ للأَمَةِ بَغِيٌّ وإن لم يُرَدْ به الذَّم، وإن كانَ في الأصْلِ ذمًّا.
وقالَ شيْخُنا: يَجوزُ حَمْلُه على فَعِيلٍ، كغَنِيِّ؛ وأَمَّا في آيَةِ السيِّدَةِ مَرْيَم فالذي جَزَمَ به الشيخُ ابنُ هشامِ وغيرُهُ أنَّ الوَصْفَ هناك على فَعول وأَصْلُه بغوي، ثم تَصَرَّفُوا فيه، ولذلِكَ لم تَلْحقْه الهاءُ.
ويقالُ أَيْضًا: امْرأَةٌ بَغُوٌ، كما في المُحْكَم. وكأنَّه جِيءَ به على الأَصْلِ.
قالَ شيْخُنا: وأَمَّا قَوْلُه بَغُوُّ بالواو فلا يظْهرُ له وَجْهٌ، لأنَّ اللامَ ليسَتْ واوًا اتِّفاقًا، ولا هناك سماعٌ صَحِيحٌ يَعْضدُه، مع أَنَّ القِياسَ يَأْباهُ، انتَهَى.
* قُلْتُ: إذا كانَ بَغِيًّا أَصْلُه فعول كما قَرَّرَه ابنُ هِشام، فقُلِبَتِ الياءُ واوًا ثُم أُدْغِمَتْ، فالقِياسُ لا يَأْباهُ، وأَمَّا السماعُ الصَّحيحُ فناهِيك بابنِ سِيدَه ذَكَرَه في المُحْكَم وكَفَى به قدْوَة، فتأَمَّل.
عَهَرَتْ؛ أَي زَنَتْ، وذلِكَ لتَجاوزِها إلى ما ليسَ لها.
والبَغِيُّ: الأَمَةُ، فاجِرَةً كانت أَو غَيْر فاجِرَةٍ؛ أَو الحُرَّةُ الفاجِرَةُ، صَوابُه: أَو الفاجِرَةُ حُرَّة كانت أَو أَمَة.
وقَوْلُه تعالى: {وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}؛ أَي ما كانتْ فاجِرَةً، مثْلُ قَوْلِهم مِلْحَفَة جَدِيدٌ؛ عن الأخْفَش، كما في الصِّحاحِ؛ وأُمُّ مَرْيَم حُرَّةٌ لا مَحَالَةَ. ولذاك عَمَّ ثعلبٌ بالبِغاءِ فقالَ: بَغَتِ المرأَةُ، فلم يَخُصَّ أَمَةٌ ولا حُرَّةً، والجَمْعُ البَغايَا؛ وأَنْشَدَ الجوْهرِيُّ للأَعْشى:
يَهَبُ الجِلَّةَ الجَراجِرَ كالبُسْ *** تانِ تَحْنو لدَرْدَقٍ أَطْفالِ
والبَغايا يَرْكُضْنَ أَكْسِيَة الإضْ *** رِيجِ والشَّرْعَبيَّ ذا الأَذْيالِ
أَرادَ: ويَهَبُ البَغايَا لأنَّ الحرَّةَ لا تُوهَب، ثمَ كَثُر في كَلامِهم حتى عَمُّوا به الفَواجِر، إماءً كنَّ أَو حَرائِرَ، وبَغَى عليه يَبْغِي بَغْيًا: عَلَا وظَلَم.
وأَيْضًا: عدا عن الحَقِّ واسْتَطالَ.
وقالَ الفرَّاءُ في قوْلِه تعالى: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ} {الْحَقِّ}: إنَّ البَغْيَ الإسْتِطالَةُ على النَّاسِ.
وقالَ الأزْهرِيُّ: مَعْناه الكبرُ؛ وقيلَ: هو الظُّلْمُ والفَسادُ.
وقالَ الرَّاغبُ: البَغْيُ على ضَرْبَيْن: أَحدُهما مَحْمودٌ وهو تَجاوزُ العَدْلِ إلى الإحْسانِ والفَرْضِ إلى التَّطوّعِ؛ والثاني: مَذْمومٌ وهو تَجاوزُ الحقِّ إلى الباطِلِ، أو تَجاوزُه إلى الشّبَهِ، ولذلِكَ قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، فخصَّ العُقوبَةَ بمَنْ يَبْغِيه بغيرِ الحقِّ، قالَ: والبَغْيُ في أَكْثَر المَواضِع مَذْمومٌ.
قالَ الأزْهرِيُّ: وأَمَّا قَوْلُه تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} فقيلَ: غَيْر باغٍ أَكْلَها تَلذُّذًا، وقيلَ: غَيْر طالِبٍ مُجاوَزَة قدْرِ حاجَتِهِ، وقيلَ: غَيْر باغٍ على الإِمام. وقالَ الرَّاغبُ: أَي غَيْر طالِبٍ ما ليسَ له طَلَبَه.
قالَ الأزْهرِيُّ: ومعْنَى البَغْي قَصْدُ الفَسادِ.
وفلانٌ يَبْغي على النَّاسِ: إذا ظَلَمَهُم وطَلَبَ أَذَاهُم.
وقالَ الجوْهرِيُّ: كلُّ مجاوزَةٍ وإفْراطٍ على المقْدارِ، الذي هو حَدُّ الشيءِ، بَغْيٌ.
وقالَ شيْخُنا: قالوا إنَّ بَغْيَ من المشترك وتفرقته بالمَصادرِ بغى الشيءَ إذا طَلَبَه وأَحَبَّه بغيةً وبغيةً وبَغَى إذا ظَلَم بَغْيًا، بالفتْحِ، وهو الوَارِدُ في القُرْآنِ. وبَغَتِ الأَمَةُ زَنَتْ بِغاءً، بالكسْرِ والمدِّ كما في القُرآنِ، وجَعَلَ المصنِّفُ البِغاءَ مِن باغَتْ غَيْر مُوافِقٍ عليه، انتَهَى.
* قُلْتُ: في سِياقِه قُصُورٌ مِن جهاتٍ: الأولى: أنَّ بَغَى بمْعنَى طَلَبَ مَصدَرهُ البُغاء، بالضمِّ والمدِّ على الفَصيحِ.
ويقالُ: بِغى وبُغى، بالكسْرِ والضمِّ مَقْصورانِ، وأَمَّا البُغْيَة والبِغْيَة فهُما اسْمانِ إلّا على قَوْل ثَعْلَب كما تقدَّمَ.
والثانية: أنَّه أهمل مَصْدَر بَغَى الضالَّةَ بُغايَةً، بالضمِّ، عن الأصْمعيّ؛ وبُغاءً، كغُرابٍ عن غيرِهِ، والثالِثَةُ: أنَّ بِغَاء بالكسْرِ والمدِّ مَصْدَرٌ لبَغَتْ وباغَتْ، كما صرَّحَ به ابنُ خَالَويه.
وبَغَى يَبْغِي بَغْيًا: كَذَبَ؛ وبه فُسِّر قَوْلُه تعالى: {يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا}؛ أَي ما نَكْذِبُ وما نَظْلِم فما على هذا جَحْد، ويَجوزُ أَنْ يكونَ ما نَطْلُبُ، فما على هذا اسْتِفْهام.
وبَغَى في مِشْيَتِهِ بَغْيًا: اخْتَالَ وأَسْرَعَ.
وفي الصِّحاحِ: البَغْيُ اخْتِيالٌ ومَرَحٌ في الفَرَسِ؛ قالَ الخَليلُ: ولا يقالُ فَرَسٌ باغٍ، انتَهَى.
وقالَ غيرُهُ: البَغْيُ في عَدْوِ الفَرَسِ: اخْتِيالٌ ومَرَحٌ.
بَغَى يَبْغي بَغْيًا: مَرَحَ واخْتالَ، وإنَّه ليَبغِي في عَدْوِهِ.
وبغى الشَّيء بَغْيًا: نظر إليه كيف هو وكذلك بَغَا بَغْوًا يائيةٌ وواوية عن كراع.
وبَغَاهُ بَغْيًا: رَقَبَهُ وانْتَظَرَهُ عن كُراعٍ أيضًا.
وبَغَتِ السَّماءُ بَغْيًا: اشْتَدَّ مَطَرُها؛ حَكَاها أَبو عبيدٍ كما في الصِّحاحِ.
وقالَ الرَّاغبُ: بَغَتِ السَّماءُ: تَجاوَزَتْ في المَطَرِ حَدّ المْحتاجِ إليه.
والبَغْيُ: الكثيرُ من البَطَرِ، هكذا في النسخِ والصَّواب: مِن المَطَرِ.
قالَ اللحْيانيُّ: دَفَعْنا بَغْيَ السَّماءِ عَنَّا أَي شِدَّتَها ومُعْظَم مَطَرِها.
وفي التّهذِيبِ: دَفَعْنا بَغْيَ السَّماءِ خَلفَنا؛ ومثْلُه في الصِّحاحِ عن الأَصْمعيّ.
وجَمَلٌ باغٍ: لا يُلْقِحُ؛ عن كُراعٍ.
وحَكَى اللَّحْيانيُّ: ما انْبَغَى لَكَ أنْ تَفْعَلَ هذا، وما ابْتَغَى؛ أَي ما يَنْبَغِي هذا نَصّه. ويقالُ: ما يُنْبَغَى لَكَ أنْ تَفْعَل، بفتْحِ الغَيْن وما يَنْبَغِي بكسْرِها: أَي لا نَوْءلُكَ، كما في اللِّسانِ.
قالَ الشَّهابُ في أَوَّلِ البَقَرةِ: هو مُطاوعُ بَغاهُ يَبْغِيه إذا طَلَبَه، ويكونُ بمعْنَى لا يَصحّ ولا يَجوزُ وبمعْنَى لا يُحْسِن، قالَ: وهو بهذا المعْنَى غَيْر مُتَصَرِّف لم يُسْمَع مِن العَرَبِ إلَّا مُضارِعُه، كما في قَوْلِه تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}.
وقالَ الرَّاغِبُ في قَوْلِه تعالى: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ}؛ أَي لا يَتَسَخَّر ولا يَتَسَهَّل له، أَلا تَرَى أَنَّ لِسانَه لم يكنْ يَجْرِي به، فالانْبِغاء هنا للتَّسْخِير في الفِعْلِ، ومنه قَوْلُهم: النارُ يَنْبَغِي أَن تحرقَ الثَّوْبَ، انتَهَى.
وقالَ ابنُ الأَعْرابيِّ: ما يَنْبَغِي له أَي ما يَصْلُحُ له؛ وقد تقدَّمَ ما في ذلِكَ قَرِيبًا. وفِئَةٌ باغِيَةٌ: خارجَةٌ عن طاعةِ الإِمامِ العادِلِ؛ ومنه الحدِيثُ: «وَيْحَ ابنِ سُمَيَّة تَقْتلهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ»؛ ومنه قَوْلُه تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ}.
والبَغايا: الطِّلائِعُ التي تكونُ قبلَ وُرودِ الجَيْشِ؛ وأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ للطُّفَيْل:
فَأَلْوَتْ بَغاياهُمْ بنا وتباشَرَتْ *** إلى عُرْضِ جَيْشِ غَيرَ أنْ لم يُكَتَّبِ
قالَ: أَلْوَتْ أَي أَشَارَتْ. يقولُ: ظنت أنَّا عِيرٌ فتَباشَرُوا بنا فلم يَشْعُروا إلَّا بالغارَةِ؛ قالَ: وهو على الإماءِ أَدَلُّ منه على الطَّلائِعِ؛ وقالَ النابِغَةُ في الطَّلائِعِ:
على إثْرِ الأَدِلَّةِ والبَغايا *** وخَفْقِ الناجِياتِ من الشآم
واحِدُها بَغِيَّةٌ. يقالُ: جاءَتْ بَغِيَّةُ القوْمِ وشَيِّفَتُهم أَي طَلِيعَتُهم.
والمُبْتَغِي: الأَسَدُ؛ سُمِّي بذلِكَ لأنَّه يَطْلُبُ الفَرِيسَةَ دائِمًا؛ وهو في التّكْمِلَة المُبْتَغِي.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
يقالُ: بَغَيْتُ الخَيْرَ مِن مَبْغاتِهِ كما تقولُ: أَتَيْتُ الأَمْرَ مِن مَأْتاتِهِ، تريدُ المَأْتَى والمَبْغَى؛ نَقَلَه الجَوْهرِي وقَوْلُه تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}؛ أَي يَبْغُونَ لكُم. وقَوْلُه تعالى: {يَبْغُونَها عِوَجًا}؛ أَي يَبْغُونَ للسَّبيلِ عِوَجًا، فالمَفْعولُ الأَوَّلُ مَنْصوبٌ بنَزْعِ الخافِضِ.
وأَبْغَيْتُكَ فَرَسًا: أَجْنَبْتُكَ إِيَّاهُ.
والبِغْيَةُ في الولدِ؛ نَقِيضُ الرَّشْدَةِ.
يقالُ: هو ابنُ بِغْيَةٍ؛ وأَنْشَدَ اللّيْثُ:
لذي رِشْدَةٍ من أُمِّه أَو لبَغِيَّةٍ *** فيَغْلِبُها فَحْلٌ على النَّسْل مُنْجِب
قالَ الأَزْهرِيُّ: وكَلامُ العَرَبِ هو ابنُ غَيَّة وابنُ زَنَية وابنُ رَشْدَةٍ؛ وقد قيلَ: زِنْيةٍ ورِشْدةٍ، والفتْحُ أَفْصَحُ اللُّغَتَيْن، وأَمَّا غَيَّة فلا يَجوزُ فيه إلَّا الفتْح.
قالَ: وأَمَّا ابنُ بِغْيَةٍ فلم أَجِدْه لغَيْرِ اللّيْثِ ولا أُبْعِدُه مِن الصَّوابِ.
وبَغَى يَبْغِي: تَكَبَّرَ وذلِكَ لتَجاوُزِهِ مَنْزِلَتَهُ إلى ما ليسَ له.
وحَكَى اللَّحْيانيُّ عن الكِسائي: ما لي وللبَغِ بعضُكُم على بعضٍ؛ أَرادَ وللبَغْي ولم يُعَلِّله.
قالَ ابنُ سِيدَه: وعنْدِي أنَّه اسْتَثْقَل كَسْرةَ الإِعْرابِ على الياءِ فحذَفَها وأَلْقَى حَرَكَتَها على الساكِنِ قَبْلَها.
وقومٌ بُغاءُ، بالضمِّ مَمْدود، وتَباغَوْا: بَغَى بعضُهم على بعضٍ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ؛ وهو قَوْلُ ثَعْلَب.
وقالَ اللَّحْيانيُّ: بَغَى على أَخيهِ بَغْيًا: حَسَدَهُ.
قالَ: والبَغْيُ أَصْلُه الحَسَد، ثم سُمِّي الظُّلْم بَغْيًا لأنَّ الحاسِدَ يَظْلمُ المَحْسودَ جُهْدَه إراغَةَ زَوالِ نعْمةِ اللهِ عليه منه.
ومِن أَمْثَالِهم: البَغْيُ عقالُ النَّصْر.
وبَغَى الجُرحُ يَبْغِي بَغْيًا: فَسَدَ وأَمَدَّ ووَرِمَ وتَرامَى إلى فَسَادٍ.
وبرأ جُرْحُهُ على بَغْيٍ: وهو أَنْ يَبْرأَ وفيه شيءٌ من نَغَلٍ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.
ومنه حدِيثُ أَبي سَلَمَة: «أَقامَ شَهْرًا يُداوِي جُرْحَه فَدَمَلَ على بَغْيٍ ولا يَدْرِي به» أَي على فَسَادٍ.
وبَغَى الوادِي: ظَلَمَ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ. وحَكَى اللَّحْيانيُّ: يقالُ للمَرْأَةِ الجَمِيلةِ: إنَّك لجميلَةٌ ولا تُباغَيْ؛ أَي لا تُصَابي بالعَيْن؛ وقد مَرَّ ذلِكَ في بوغ مُفْصّلًا.
وما بُغِيَ له، كعُنِيَ: أَي ما خِيرَ له.
وبَغْيَان: مَوْلى أَبي خرقاء السّلَميّ، من ولدِه أَبو زَكريَّا يَحْيَى بن محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ العَنْبِر بنَ عطاء بنِ صالِح ابنِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ محمدِ بن بغيان النَّيْسابُورِيُّ، ويقالُ له العَنْبريُّ والبغيانيُّ، مِن شيوخِ الحاكِمِ أَبي عبدِ اللهِ، تُوفِي سَنَةَ 344.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
88-تاج العروس (زو زوو زوزو)
[زوو]: وزَواهُ يَزْوِيه زَيًّا وزُوِيًّا، كعُتِيِّ: نَحَّاهُ، فانْزَوَى: تَنَحَّى.وزَوَى سِرَّهُ عنه: إذا طَواهُ.
وزَوَى الشَّيءَ يَزْوِيه زَيًّا: جَمَعَهُ وقبَضَهُ.
وفي الحدِيثِ: «زُوِيَتْ لي الأَرْضُ فأُرِيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها».
ومنه زَوَى ما بينَ عَيْنَيْه: أَي جَمَعَهُ؛ قالَ الأعْشى:
يَزيدُ يغُضُّ الطَّرْفَ عنِّي كأنَّما *** زَوَى بينَ عَيْنَيْه عليَّ المَحاجِمُ
والزَّاوِيَةُ من البَيْتِ: رُكْنُه، فاعِلَةٌ من زَوَى يَزْوِي إذا جمع لأنَّها جَمَعَتْ قطرًا منه، الجمع: زَوايا. يقولون: كم في الزَّوايا مِن خَبَايا.
وتَزَوَّى الرَّجُلُ، وزَوَّى تَزْوِيةً، وانْزَوَى: إذا صارَ فيها.
والزَّاوِيَةُ: موضع بالبَصْرَةِ كانتْ به الوَقْعَةُ بينَ الحجَّاجِ بنِ يُوسُفَ وبينَ عبدِ الرحمنِ بنِ الأشْعَثِ بنِ قَيْسٍ الكِنْدِيّ، اسْتَوْفاها البَلاذُرِيّ في كتابِهِ.
وأَيْضًا: قرية بواسِطَ.
وأَيْضًا: موضع قُرْبَ المدينةِ، على ساكِنِها أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلام؛ به قَصْرُ أَنَسِ بنِ مالِكٍ، رضي الله عنه.
وأَيْضًا: موضع بالأَنْدَلُسِ.
وأَيْضًا: قرية بالمَوْصِلِ؛ والنِّسْبَةُ إلى الكُلِّ زَوَاوِيٌّ.
وزَوْزَى يُزَوْزِي زَوْزاةً: نَصَبَ ظَهْرَهُ وقارَبَ الخَطْوَ في سُرْعةٍ، عن أَبي عبيدٍ كما في الصِّحاحِ، وهذا قد سبقَ له في حَرْفِ الزَّاي؛ قالَ:
مُزَوْزِيًا إذا رآها زَوْزَتِ
أَي إذا رَآها أَسْرَعَتْ أَسْرَعَ معها.
وزَوْزَى بفلانٍ: طَرَدَهُ؛ عن أَبي عبيدةٍ.
وفي التَّهْذيبِ: زَوْزَيْته طَرَدْته. وقِدْرٌ زُؤَزِيَةٌ وزُؤَازِيَةٌ كعُلَبِطَةٍ وعُلَا بِطَةٍ: عَظِيمَةٌ تضمُّ الجَزُورَ؛ هو بالهَمْزِ*، ووَهِمَ الجوهرِيُّ في ذِكْرِه هنا مع أنَّ الجوهرِيَّ ذَكَرَه في زوز أَيْضًا وهنا جعلَ الزَّاي الثانِيَة زائِدَةً؛ ونقلَهُ عن الأصْمعيِّ وكأنَّه أَشارَ إلى القَوْلَيْن فلأوهم حينَئِذٍ.
والزَّايُ: حَرْفٌ يُمَدُّ ويُقْصَرُ ولا يُكْتَبُ إلَّا بالياءِ بَعْدَ الألفِ، تقولُ: هي زايٌ فزَيِّها.
قالَ زيدُ بنُ ثابتٍ في قوْلِه تعالى: {كَيْفَ نُنْشِزُها}: هي زايٌ فزَيِّها؛ أَي اقْرَأْه بالزاي؛ هذا نَصُّ الجَوْهرِيّ.
وقالَ المصنِّفُ: إذا مُدَّ كُتِبَ بهمزةٍ بعدَ الألِفِ؛ هذا الكَلامُ أَوْرَدَه الصَّاغانيُّ في التكْمِلَةِ بعدَ أنْ ذَكَرَ كَلامَ الجوهريّ، وقالَ: وليسَ كَذلِكَ، فإنَّه إذا مُدَّ لا بدَّ وأن يُكْتَبَ بهمْزةٍ بعدَ الألِفِ لأنَّها مِن نتائِجِ المَدِّ ولوَازِمِه، انتَهَى.
ووَهِمَ الجوهريُّ؛ أَي في قوْلِه يُمَدُّ ويُقْصَرُ ولا يُكْتَب إلَّا بياءٍ بعدَ الألِفِ.
قالَ شيْخُنا: وأَقَرَّه المقدسيُّ في حَواشِيه، وقد يقالُ: إنَّ قَوْلَهُ: ولا يُكْتَبُ راجِعٌ للقَصْرِ، والمُرادُ به زاي فلا وهمَ إذًا لقَصْرِ خِلافِ المَدِّ كما للمصنِّفِ، وإن كانَ المَقْصورُ عنْدَ النُّحاةِ الاسمَ الذي آخِرَه أَلِف لازِمَه فتأَمَّل.
قالَ الصَّاغانيُّ: قالَ ابنُ الأنْبارِي: وفيه لُغاتٌ خَمْسة: الأُوْلى: الزايُ بتَصْرِيحِ الياءِ وهي المَشْهورَةُ.
والثَّانِيَة: الزَّاءُ بالمَدِّ، قالَ اللَّيْثُ: أَلِفُهما في التَّصْرِيفِ ترجِعُ إلى الياءِ؛ وقالَ ابنُ جنِّي: الزَّاي حَرْفُ هِجاءٍ مَنْ لَفَظَ بها ثُلاثِيَّة فأَلفُها يَنْبغِي كَوْنها مُنْقَلِبَة عن واوٍ ولامُه ياءٌ، فهو من لَفْظِ زَوَيْت إلَّا أنَّ عَيْنَه اعتلَّت وسَلِمَتْ لامُه، فلحقَ ببابِ غايٍ وطايٍ ورايٍ وثايٍ في الشّذوذِ لاعْتِلالِ عَيْنه وصحَّةِ لامه، واعْتِلالُها أَنَّها متَى أُعْرِبَت فقيلَ هذه زايٌ حَسَنَةٌ، وكتَبْت زايًا صغيرَةً أَو نَحْو ذلكَ فإنَّها بعْدَ ذلكَ مُلْحَقَةٌ في الإعْلالِ ببابِ رايٍ وغايٍ، لأنَّه ما دامَ حرفَ هِجاءٍ فأَلِفه غَيْر مُنْقَلِبَة، فلهذا كانَ عنْدِي قوْلُهم في التَّهَجِّي زايٌ أَحْسَن من غايٍ وطايٍ، لأنَّه ما دامَ حرفًا فهو غيرُ مُنْصَرفٍ، وأَلِفُه غَيْرُ مَقْضِيٍّ عليها بالانْقِلابِ، وغايٌ وبابُه يَنْصرفُ بالانْقِلابِ، وإِعلالُ العَيْن وتصْحِيحُ اللامِ جارٍ عليه ومَعْروفٌ فيه، انتَهَى.
والثَّالثة: الزَّيُّ، كالطَّيِّ.
والرَّابعَةُ: زَيْ، ككَيْ.
والخامِسَةُ: زًا، مُنَوَّنَةً، مجراة.
وقد ذَكَرَ كُراعٌ هذه اللّغات الخَمْسة إلَّا أنَّه قالَ: زايٌ وزاءٌ وزَيْ، ككَيْ، وزًا مجراة، وزَا غَيْر مجراة.
وقالَ سِيْبَوَبْه: منهم مَنْ يقولُ زَيْ ككَيْ، ومنهم زاي فيَجْعلُها بزِنَةِ واو، فهي على هذا مِن زَوَى. وقالَ ابنُ جنِّي: مَنْ قالَ زَي وأَجْراها مُجْرى كَيْ فإنَّه لو اشتقَّ منها فَعَلْ كمَّلَها اسْمًا فزادَ على الياءِ ياءً أُخْرى، كما أنَّه إذا سمَّى رجُلًا بكَيْ ثَقَّل الياءَ فقالَ هذا كَيٌّ، فكذا يقولُ هذا زَي، ثم يقولُ زَيَّيْت كما يقولُ من حَيْت حَيَّيْت؛ فإنْ قُلْت: فإذا كانتِ الياءُ مِن زَيْ في مَوْضِع العَيْن فهَلَّا زَعَمْت أنَّ الألِفَ مِن زاي ياءٌ لوُجُودك العَيْن مِن زَيْ ياءً؛ فالجوابُ أنَّ ارْتِكابَ هذا خَطَأٌ مِن قِبَل أنَّك لو ذَهَبْت إلى هذا لحكَمْتَ بأنَّ زَيْ محْذوفَةٌ من زايٍ، والحذْفُ ضَرْبٌ مِن التَّصَرُّفِ، وهذه الحُروفُ جَوامِد لا تصرُّفَ في شيءٍ منها، وأَيْضًا فلو كانتِ الأَلفُ من زاي هي الياءُ في زَيْ لكانتْ مُنْقَلِبَة، والانْقِلابُ في الحُروفِ مَفْقودٌ غَيْر مَوْجودٍ.
ثم قالَ: ولو اشْتَقَقْت منها فعَّلْت لقُلْت زَوَّيْت، هذا مَذْهَبُ أَبي عليِّ، ومَنْ أَمالَها قالَ زَيَّيْت؛ والجمع: على أَفْعالٍ: أَزْواءٌ، وعلى قَوْلِ غيرِه: أَزْياءٌ، إن صحَّتْ إمالَتُها؛ وإن كَسَرْتها على أَفْعُلٍ قُلْتَ: أَزْوٍ وأَزْيٍ على المَذْهَبَيْن.
والزَّوُّ، كالبَوِّ: القَرينانِ من السُّفُنِ وغيرِها.
وجاءا زَوًّا: جاءَ هو وصاحِبُه.
وقيلَ: كُلُّ زَوْجٍ زَوٌّ، والواحِدُ تَوٌّ، كانَ الأَوْلى أَنْ يقولَ والفَرْدُ تَوٌّ.
والزَّوُّ: سفِينَةٌ عَمِلَها المُتَوَكِّلُ العباسيُّ نادَمَ فيها البُحْتري. لا اسمُ جَبَلٍ بالعِراقِ. ووَهِمَ الجوهريُّ وإنَّما غَرَّهُ قولُ البُحْتُرِي الشَّاعِر:
ولم أَرَ كالقَاطُولِ يَحْمل ماؤُه *** تَدَفّق بَحْرٍ بالسَّماحَةِ طامِ
ولا جَبَلًا كالزَّوِّ يُوقَفُ تارَةً *** ويَنْقادُ امَّا قُدْتَهُ بِزِمامِ
ونقلَ شيْخُنا عن المقدسيّ: ولا جَبَلٌ بالعِراقِ.
* قُلْتُ: وفي عِبارَتِه إجْحافٌ مُضرُّ كما سَتَعْرفُه. وقد سَبَقَ المصنِّفَ بهذه التَّخْطِئة الإمامُ أبو زكريَّا التَّبْرِيزِي، فإنَّه وجدَ بخطِّه على هامِشِ الصِّحاحِ ما نَصّه: ليسَ بالعِراقِ جَبَلٌ اسْمُه زَوٌّ، ولعلَّه سَمِعَ في شِعْرِ البُحْتُري:
ولا جَبَلًا كالزَّوِّ، فظنَّ أنَّ الزَّوَّ جَبَلٌ؛ هذا نَصّه وهو غَيْرُ وارِدٍ على الجوهرِيّ إذ لم يَثْبَت عن الجوهرِيّ أنَّ هذا الحرْفَ أَخَذَه مِن شِعْر البُحْتُري، ولو سلَّمنا أنَّه وجد في كَلامِه فهو مَسْبوقٌ بذلِكَ، وهذا مع تقدُّمِ البُحْتُري وحفْظِه وصِيانَتِه فيمَا يَنْقلُه مِنَ الألْفاظِ، فتأَمَّل ذلكَ وأَنْصِف.
وزَواوَةُ: بلد بالمَغْربِ.
قال شيْخُنا: هذا أَشَدُّ غَلَطًا مِن الجوهرِيِّ في أنَّ زَوًّا جَبَلٌ، فإنَّ زَواوَةَ لا يُعْرَفُ أنَّها بَقْلَدٌ، وليسَ في بِلادِ المَغْربِ بَلَدٌ يقالُ له زَواوَةُ، بل هي قَبيلَةٌ مِن قَبائِلِ البَرْبَرِ مَشْهورَةٌ، تقالُ بفتْحِ الزَّاي كما دَلَّ عليه إطْلاقُه، وبكَسْرِها أَيْضًا كما ضَبَطَه غيرُ واحِدٍ، ونقلَهُ في كفايَةِ المُحْتاج للحَضْرمي، ووَسَّع عليه الكَلامَ ابنُ خَلْدون في تارِيخِه الكَبيرِ، ففي كَلامِه غَلَطٌ مِن وَجْهَيْن، انتَهَى.
* قُلْتُ: أمَّا كون زَواوَةَ قَبيلَة مِنَ البَرْبَرِ فمَعْروفٌ لا كَلامَ فيه، ذَكَرَه ياقوتُ في كتابِهِ عنْدَ عدِّه قَبائِل بَرْبَر، وذَكَرَ السَّخاوِي في تارِيخِه في تَرْجَمَةِ المشدالي الزَّوَاوي ما نَصّه: ومشدالَةُ قَبِيلَةٌ مِن زَواوَة، وزَواوَةُ قَبيلَةٌ مِن البَرْبَرِ، فلذا يقالُ له: المشدالي والزَّواوِي، وهو مِن أَهْل بجايَةَ. ومِثْلُه في حاشِيَةِ الكعبية لعبْدِ القادِرِ أفَنْدي البَغْدادِي في تَرْجمةِ ابن معطى الزَّواوِي الحَنَفي صاحِبِ الألْفِيَّة في النَّحْو أنَّه مَنْسوبٌ إلى زَواوَةَ قَبِيلَة مِن البَرْبرِ في أَطْرافِ بجايَةَ، إلَّا أنَّ ياقوتًا ذَكَرَ أنَّه يَنْسبُ كلّ مَوْضِع إلى القَبِيلَةِ التي نَزَلَتْه، وقد مَرَّ ذلكَ كثيرًا مِثْل نفوسة وضريسة ومِكْناسَة وكزولة ومزانة ومطماتة، فكلُّ هؤلاء قَبائِلُ مِن البَرْبَرِ إلَّا أنّها سُمِّيتِ الأماكِنُ بهم، فقال في نفوسة جِبالٌ بالمَغْربِ، وفيمَا عَدَاها بَلَدٌ بالمَغْربِ، فإذا عرفْتَ ذلك ظَهَرَ لكَ تَوْجِيه كَلام المصنِّفِ وأنَّه لا غَلَطَ فيه، وأَمَّا كَسْر الزاي مِن زواوَةَ فمِنْ غَرائِبِ المُؤَرِّخين، والمَعْروفُ الفَتْح. ثم رَأَيْتُ الصَّاغاني ذَكَرَ في التكْمِلَةِ ما نَصّه: وزَواوَةُ بُلَيْدَةٌ بينَ أفْريقِيَةَ والمَغْربِ.
والزُّوَيَّةٌ، كسُمَيَّة: موضع ببِلادِ عَبْسٍ؛ نقلَهُ الصَّاغانيُّ.
ويقالُ: هو بالرَّاءِ وقد تقدَّمَ.
وأَزْوَى الرَّجُل: إذا جاءَ ومَعَهُ آخَرُ؛ نقلَهُ الأزهرِيُّ والصَّاغانيُّ عن ابنِ الأعرابيِّ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
انْزَوتِ الجلْدَةُ في النَّارِ: أَي اجْتَمَعَتْ وتَقَبَّضَتْ.
وانْزَوَى ما بينَ عَيْنَيْه: اجْتَمَعَ وتَقَبَّضَ؛ قالَ الأعْشى:
فلا يَنْبَسِطُ ما بينَ عَيْنَيْك ما انْزَوَى *** ولا تَلْقَني إلَّا وأَنْفُك راغِمُ
وانْزَوَى القَوْمُ بعضُهم إلى بعضٍ: تدَانَوْا وتَضَامّوا.
وزَوَى عنه كذا: أَي صَرَفَهُ عنه وعَدَلَه؛ ومَصْدَرُهُ الزُّوِيُّ، كعُتِيٍّ.
والزُّوَى، كهُدَى: الطّيورُ؛ عن الليْثِ.
قالَ الأزْهرِيُّ: كأنَّها جَمْعُ زَوٍّ، وهو طَيْرُ الماءِ وزَوَّرَ الكَلامَ وزَوَاهُ: هَيَّأَهُ في نَفْسِه.
ورجُلٌ زُوازِيَة، كعُلانِيَةٍ: قصيرٌ غلِيظٌ.
وقالَ أبو الهَيْثم: كلُّ شيءٍ تمام فهو مربَّعٌ كالبَيْتِ والدَّارِ والأرضِ والبِساطِ له حُدودٌ أَرْبَعَة، فإذا نَقَصَتْ منها ناحِيَةٌ فهو أزْوَرُ مُزَوّىً.
ونقلَ الجوهرِيُّ عن الأَصْمعيّ: زَوُّ المَنِيَّة ما يحدثُ مِن هَلاكِ المَنِيَّة.
وفي المُحْكَم: الزَّوُّ: الهَلاكُ.
وزَوُّ المنيَّةِ أَحْداثُها؛ عن ثَعْلَب.
قال ابنُ سِيدَه: هكذا عَبَّر بالواحِدِ عن الجَمْع.
قالَ الجوهرِيُّ: ويقالُ الزَّوُّ القَدَرُ، يقالُ: قُضِي علينا وقُدِّرَ وحُمَّ وزُيَّ؛ قالَ الشاعِرُ الإيادِيُّ:
من ابنِ مامَةَ كعبٍ ثم عيَّ به *** زَوُّ المَنيَّةِ إلَّا حَرَّةٌ وقَدا
وفي التهْذِيبِ: ويُرْوَى زَوُّ الحوادِثِ، قالَ: ورَواهُ الأَصْمعيّ: زَوْء بالهَمْزةِ.
* قُلْتُ: وقد تقدَّمَ ذلك للمصنِّفِ في الهَمْزةِ.
وقالَ أَبو عَمْروٍ: زاءَ الدَّهْرُ بفلانٍ انْقَلَبَ به.
قالَ أَبو عَمْرو: فرحت بهذه الكَلِمَةِ.
قالَ الأزْهرِيُّ: زَاءَ فِعْلٌ مِن الزَّوِّ، كما يقالُ مِن الرَّوْع راعَ.
والمُسَمَّى بالزَّاوِيَةِ عدَّةُ قُرىً بمِصْرَ: كزَاويَةِ رزين، وزَاوِيَةُ البقلى، وزَاوِيَةُ غازى، وزَاوِيَةُ المَصْلوب وغيرُهُنَّ، والنِّسْبَةُ إلى الكُلِّ زَواوِيٌّ، وقد يقالُ: الزَّاوِيُّ وهو قليلٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
89-تاج العروس (هثي)
[هثي]: ي الهَثَيانُ، محرَّكةً: أَهْملَهُ الجَوْهرِي.وقال كُراعٌ: هو الحَشْوُ؛ هكذا هو في النسخ بالشِّينِ مُعْجمة، والصَّوابُ الحَثْوُ، بالمُثَلَّثَةِ.
وقد ذَكَرَ الأزْهري في ترْكِيبه قعبث: هِثْتُ له هَيْثًا إذا حَثَوْتَ له.
وقال ابنُ القطَّاع: هاثَ له مِن المالِ هَيْثًا وهَيَثانًا: حَثَاله.
فالظاهِرُ مِن سِياقِ عِبارَتهِ أَنَّ الهَثَيانَ مَقْلوبُ الهَيَثانِ، فتأمَّل ذلكَ.
وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
هَاثاهُ: إذا مازَحَهُ ومايَلَهُ؛ عن ابنِ الأعرابي.
وهَثَى: إذا احْمَرَّ وَجْهُه؛ نقلَهُ؛ الأزْهري.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
90-لسان العرب (عسق)
عسق: عَسِقَ بِهِ يَعْسَقُ عَسَقًا: لَزِقَ بِهِ وَلَزِمَهُ وأُولِعَ بِهِ، وَكَذَلِكَ تَعَسَّق؛ قَالَ رُؤْبَةُ:وَلَا تَرَى الدَّهْرَ عَنِيفًا أَرْفَقا ***مِنْهُ بِهَا فِي غَيْرِهِ وأَلْبَقا،
إِلْفًا وحُبًّا طَالَمَا تَعَسَّقا وعَسِقَ بِهِ وعَسِكَ بِهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: "عَسِقَ بِي جُعَل فلانٍ إِذا أَلحّ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ يُطَالِبُهُ وعَسِقَت الناقةُ بِالْفَحْلِ: أَرَبَّتْ، وَكَذَلِكَ الْحِمَارُ بالأَتان؛ قَالَ رُؤْبَةُ:
فَعَفَّ عَنْ أَسْرارِها بَعْدَ العَسَقْ، ***وَلَمْ يُضِعْها بَيْنَ فِرْكٍ وعَشَقْ
وَفِي خُلُقه عَسَقٌ أَي الْتِوَاءٌ وَضِيقٌ.
والعَسَقُ: الْعُرْجُونُ الرَّدِيءُ، أَسَدِيَّةٌ.
وَفِي التَّهْذِيبِ: العُسُقُ عَرَاجِينُ النَّخْلِ، وَاحِدُهَا عَسَقٌ.
والعَسَقُ: الظُّلْمَةُ كالغَسَقِ؛ عَنْ ثَعْلَبٍ؛ وأَنشد:
إِنَّا لنَسْمو، للعَدُوِّ حَنَقا، ***بِالْخَيْلِ أَكْداسًا تُثِيرُ عَسَقا
كَنَّى بالعَسَقِ عَنْ ظُلْمَةِ الْغُبَارِ.
والعَسَقُ: الشَّرَابُ الرَّدِيءُ الْكَثِيرُ الْمَاءِ؛ حَكَاهُ أَبو حَنِيفَةَ.
والعُسُق: الْمُتَشَدِّدُونَ عَلَى غُرَمَائِهِمْ فِي التَّقَاضِي.
والعُسُق: اللقَّاحون؛ فأَما قَوْلُ سُحَيْم:
فَلَوْ كُنْتُ وَرْدًا لوْنَه لَعَسِقْنَني، ***ولكنَّ رَبي شَانَني بسَوادِيا
فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنما قَلَبَ الشِّينَ سِينًا لِسَوَادِهِ وَضِعْفِ عِبَارَتِهِ عَنِ الشِّينِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلُغَةٍ إِنما هُوَ كاللَّثَغِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُكَرَّمِ: هَذَا قَوْلُ ابْنِ سِيدَهْ وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَوْنُهُ لَمْ يَعْتَذِرْ عَنْ سَائِرِ كَلِمَاتِهِ بِالشِّينِ، وَعَنْ شَانَني فِي الْبَيْتِ نَفْسِهِ، أَو يَجْعَلْهَا مِنْ عَسِقَ بِهِ أَي لَزِمَهُ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِهِ فِي تَرْجَمَةِ خَبَتْ، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ ببيتِ شِعْرٍ للخَيْبَريّ الْيَهُودِيِّ:
يَنْفَعُ الطيّبُ القليلُ مِنَ الرِّزْقِ، ***وَلَا يَنْفَعُ الكثيرُ الخَبِيتُ
فَذَكَرَ فِيهِ مَا صُورَتُهُ: سأَل الخليلُ الأَصمعيَّ عَنِ الخَبِيتِ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَقَالَ له: أَراد الخَبِيتَ وَهِيَ لُغَةُ خَيْبَر، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيلُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ لغتَهم لَقَالَ الكَتِير، بِالتَّاءِ أَيضًا، وإِنما كَانَ يَنْبَغِي لَكَ أَن تَقُولَ إِنهم يَقْلِبُونَ الثَّاءَ تَاءً فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ، وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَن يَكُونَ ابْنُ سِيدَهْ، رَحِمَهُ اللَّهُ، تَرَكَ الِاعْتِذَارَ عَنْ كَلِمَاتِهِ بِالشِّينِ وَعَنْ لَفْظِهِ شانَني فِي الْبَيْتِ لأَنها لَا مَعْنَى لَهَا، وَاعْتَذَرَ عَنْ لَفْظَةٍ عَسِقْنَني لإِلْمامِها بِمَعْنَى لَزِقَ ولَزمَ، فأَراد أَن يُعْلِمَ أَنه لَمْ يَقْصد هَذَا الْمَعْنَى وإِنما هُوَ قَصَدَ العِشْقَ لَا غَيْرَ، وإِنما عُجْمته وَسَوَادُهُ أَنطقاه بِالسِّينِ فِي مَوْضِعِ الشِّينِ، وَاللَّهُ أَعلم.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
