نتائج البحث عن (فَبُعِثَ)
1-العربية المعاصرة (بحث)
بحَثَ/بحَثَ عن/بحَثَ في يَبحَث، بحْثًا، فهو باحِث، والمفعول مَبْحوث.* بحَث الأرضَ/بحَث في الأرض: حَفَرها، نقّبها، فتّش في التُّراب {فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [قرآن].
* بحَث الأمرَ/بحَث في الأمر: تناوله بالدرس، سعى لمعرفة حقيقته (بحَث ظاهرة الزواج العرفي- بحث المفكِّرون في سُبل النهوض والتقدم- بحث في الشكوى).
* بحَث عن الأمر وغيره: سأل وفتّش عنه، طَلَبه واستقصاه (كان الاجتماع يَبحث عن حلّ للقضيّة الفلسطينيّة- بحَث عن المتَّهم في القضية- بحَث عن الحقيقة/وظيفة/المعلومات- بحَث عن البترول والآثار- بحث عن كلمة في المعجم).
باحثَ يباحث، مُباحَثةً، فهو مُباحِث، والمفعول مُباحَث.
* باحثه في الأمر: تفاوض معه فيه، حاوره وناقشه (باحثه في القضيّة- باحث المندوبون الوفدَ المفاوض في أمور كثيرة).
تباحثَ يتباحث، تباحثًا، فهو مُتباحِث.
* تباحث المجتمعون: تحادثوا وتبادلوا الآراء (تباحث العلماءُ في الأضرار الناتجة عن ثقب الأوزون- تباحثوا في السّياسة).
باحِث [مفرد]: جمعه باحثون وبُحَّاث:
1 - اسم فاعل من بحَثَ/بحَثَ عن/بحَثَ في (*) كان كالباحث عن ظِلِّه: مثَل يُضرب لمن يُهدر وقته سُدًى في البحث عن أمرٍ مستحيل، أو في غير موضعه.
2 - مُحَقِّق منقِّب في قضايا الفكر والمعرفة (يقضي الباحِث وقته بين الكتب والتجارب).
بَحْث [مفرد]: جمعه أَبْحَاث (لغير المصدر) وبُحُوث (لغير المصدر):
1 - مصدر بحَثَ/بحَثَ عن/بحَثَ في.
2 - بذْلُ الجُهْد في موضوع ما (قام الرئيسان ببحث النقاط المشتركة بين البلدين) (*) على بساط البحث: معروض للمناقشة والتفكير، جارٍ نقاشه- على طاولة البحث: قابل للنِّقاش.
3 - ثمرة الجُهدِ المبذول ونتيجتُه (تمّ عرض بَحْث تقارير اللِّجان الفرعيّة على المجلس).
4 - رسالة، دِراسة، مَقال يُعالِج موضوعًا علميًّا أو أدبيًّا أو نحوهما (نشر بحثه/أبحاثه/بحوثه في المجلة العلميّة- هذا أمر خارج عن موضوع البحث- تشجيع البحث العلميّ- طرح مسألة على بساط البحث) (*) أبحاث تاريخيَّة: دراسات علميّة، مكتوبة ومنشورة- إدارة البحوث/مركز البحوث: مؤسسة تعنى بالبحوث- بَحْثٌ سطحيّ: يكتفي بظاهر الأمر دون التعمق فيه- تحت البحث/قيد البحث/محل البحث: موضع دراسة لم يُتَّخذ بشأنه قرار نهائيّ- قُتِل الموضوعُ بحثًا: دُرس الأمرُ من كلّ جوانبه.
5 - نشاط علميّ أو ثقافيّ هدفه التعمق في فرع من فروع المعرفة (*) بَحْثٌ علميّ/بَحْثٌ أدبيّ: مادة درس أو مناقشة- حَلْقة بحث/حَلَقة بحث: مجموعة صغيرة من الطَّلبة الخرِّيجين من جامعة أو مدرسة منخرطة في البحث العلميّ أو الدراسة المكثَّفة تحت إشراف أستاذ معيَّن.
6 - [في الفلسفة والتصوُّف] إثبات النسبة الإيجابيّة أو السلبيّة بين الشيئين بطريق الاستدلال.
* مناهج البحث: [في الفلسفة والتصوُّف] فرع من المنطق يَنْصَبّ على دراسة المنهج بوجه عام وعلى دراسة مناهج العلوم المختلفة بوجه خاص.
بحَّاث [مفرد]: صيغة مبالغة من بحَثَ/بحَثَ عن/بحَثَ في: كثير الدرس والاستقصاء.
بَحَّاثة [مفرد]:
1 - مؤنَّث بحَّاث.
2 - بَحّاث، كثير الدرس والاستقصاء، وأُضيفت التاء للمبالغة (كان ابنُ خلدون بحّاثةً طويل الباع).
مَباحِثُ [جمع]: مفرده مَبْحث: جهاز شرطة سرِّيَّة للبحث عن الجرائم والكشف عن بواعثها وأسرارها (المباحثُ العامَّة- رجال/قسم المباحث) (*) دائرة المباحث: شرطة سرِّيَّة.
مُباحَثة [مفرد]: جمعه مباحثات:
1 - مصدر باحثَ.
2 - مُداولة، تفاوض وتبادل رأي (تناولتْ المباحَثات تبادل التعاون الاقتصادي- أجرى مباحثاتٍ هامَّة) (*) مباحثات جانبيّة: تُجرى على الهامش.
مَبْحَث [مفرد]: جمعه مَباحِثُ: مسألة موضع بحث، بحث مقاليّ (هذا الكتابُ متعدِّد المَبَاحث- مسألة من مباحث اللغة).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-العربية المعاصرة (بعث)
بعَثَ/بعَثَ ب/بعَثَ في يبعَث، بَعْثًا وبِعْثةً وبَعْثةً، فهو باعِث، والمفعول مَبْعوث.* بعَث اللهُ الخلقَ: أحياهم بعد موتهم {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [قرآن] - {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} [قرآن] (*) بعثَه من النَّوم: أيقظه- يُبعث من جديد: ينهض من العدم.
* بعَث الشُّعورَ ونحوه: أثاره وأيقظه وهيّجه (بعَث الشّعرُ في النفوس حماسةً- يبعث الرّعب في النفوس- {فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [قرآن]) - بعَث الأملَ: أحياه وولّده.
* بعَث الشَّخصَ: أرسله (بعث الرئيسُ وزير الخارجيّة للتَّفاوض- {فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [قرآن]) - مبعوث فوق العادة: مندوب سياسيّ له مطلق الصَّلاحية في دولة أجنبيّة.
* بعَث رسالةً/بعَث إليه رسالةً/بعَث له رسالةً/بعَث برسالةٍ/بعَث إليه برسالة: أرسلها، وجّهها.
* بعَث الشَّخصَ على النَّجاح: حمله عليه، أجبره، أغراه به وشجَّعه عليه (بعثه الحزنُ على البكاء- جوٌّ يبعث على المذاكرة- {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [قرآن]: سلَّطْنا).
* بعَث في طلب كذا: أرسل (بعَث في طلب الطّبيب).
ابتعثَ يبتعث، ابتِعاثًا، فهو مُبتعِث، والمفعول مُبتعَث.
* ابتعثَ الشَّخصَ:
1 - بعَثه، أرسله (كان من المُبتَعَثين للدِّراسة).
2 - بعثَه، أيقظه من نومه (أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَابْتَعَثَانِي) [حديث].
انبعثَ/انبعثَ عن/انبعثَ في/انبعثَ من ينبعث، انبَعاثًا، فهو مُنبعِث، والمفعول مُنبعَث عنه.
* انبعث الشَّخصُ/انبعث الشَّخصُ في السَّير: مُطاوع بعَثَ/بعَثَ ب/بعَثَ في: انْدَفع، أوغل، انطلق وأسْرَع وهبَّ مندفعًا (انبعث الماءُ- {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [قرآن] - {وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ} [قرآن]: خروجَهم للقتال).
* انبعث الدُّخانُ عنه/انبعث الدُّخان منه: صَدَرَ، تصاعد، خرج، تحرّك (انبعثتِ الأضواءُ من الدّاخل- انبعثت منه/عنه رائحةٌ: فاحت وانتشرت- شعاع مُنْبعث: منتشر، منطلق) (*) انبعثت صداقة قديمة: عادت للظهور بعد أن زالت- انبعث حيًّا من رماده: بدأ حياة جديدة.
ابتِعاث [مفرد]:
1 - مصدر ابتعثَ.
2 - [في الطبيعة والفيزياء] إطلاق شيء ما مثل الحرارة من جسم ساخن، أو الضّوء من مصدر إشعاع.
انبعاث [مفرد]:
1 - مصدر انبعثَ/انبعثَ عن/انبعثَ في/انبعثَ من.
2 - [في الطبيعة والفيزياء] ما يخرج من مصدر ما مثل انبعاث أشعَّة ألفا أو بيتا من العناصر ذات النشاط الإشعاعيّ.
3 - نهضة بعد ركُود (كان انبعاث الأمة العربية في القرن الماضي بداية نهوض وتحرّر) (*) عصر الانبعاث: عصر النَّهضة، نهضة بعد انحطاط.
باعِث [مفرد]: جمعه باعثون وبَواعِثُ (لغير العاقل)، والمؤنث باعثة، والجمع المؤنث باعثات وبَواعِثُ (لغير العاقل):
1 - اسم فاعل من بعَثَ/بعَثَ ب/بعَثَ في: (من بواعِث النهضة توافر التقنية الحديثة- ما الباعث على التمرّد؟) (*) باعث النَّهضة: أوّل الدعاة إليها- باعثة الأشباح: آلة السينما المرسِلةُ الصورَ على الشَّاشة البيضاء.
2 - دافِع، سبب، داعٍ.
3 - [في الفلسفة والتصوُّف] عامِل نفسيّ، وهو فكرة تنزع إلى إحداث عمل إراديّ.
* الباعِث: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: باعث الخلق يوم القيامة للحساب، وباعث الرّسل إلى الخلق لهدايتهم.
بَعْث [مفرد]: جمعه بُعوث (لغير المصدر):
1 - مصدر بعَثَ/بعَثَ ب/بعَثَ في (*) يَوْمُ البَعْث: يوم القيامة.
2 - مَنْ يُرْسَل في مهمَّة، واحدًا كان أو جماعة (ما زالت البعوث تقصد إفريقيا).
3 - جيش (كنت في بعْث فلان: في جيشه الذي بُعث معه).
بَعْثة [مفرد]: جمعه بَعَثات (لغير المصدر) وبَعْثات (لغير المصدر):
1 - مصدر بعَثَ/بعَثَ ب/بعَثَ في.
2 - اسم مرَّة من بعَثَ/بعَثَ ب/بعَثَ في: (البَعْثة المحمَّديّة).
3 - هيئة تُرْسَل للقيام بمُهمّة معيّنة لوقتٍ مُحدَّد كالبَعْثات العلميّة والأثريّة والعسكريّة والدّبلوماسيّة (بَعْثة دراسيّة) (*) طالب بَعْثَة: صاحب زمالة أو منحة للدراسة في بلد آخر- مديرية البعثات/إدارة البعثات: إدارة تُعنى بشئون البعثات الدراسيّة.
بِعْثَة [مفرد]: جمعه بِعْثَات (لغير المصدر):
1 - مصدر بعَثَ/بعَثَ ب/بعَثَ في.
2 - اسم هيئة من بعَثَ/بعَثَ ب/بعَثَ في.
3 - بَعْثة؛ هيئة تُرْسَل للقيام بمُهمّة معيّنة لوقتٍ مُحدَّد كالبعثات العلميّة والأثريّة والعسكريَّة والدبلوماسيّة.
مَبْعَث [مفرد]: جمعه مَباعِثُ:
1 - مصدر ميميّ من بعَثَ/بعَثَ ب/بعَثَ في: (كان سنّ الرسول صلى الله عليه وسلم عند مَبْعَثه أربعين عامًا).
2 - عامِل، سبَب (مَبْعَث التفوّق) (*) مبعث سخريّة: ما يحمل على فعل شيء.
مبعوث [مفرد]:
1 - اسم مفعول من بعَثَ/بعَثَ ب/بعَثَ في.
2 - مَنْ يُرسَل للدِّراسة أو لمهمَّة خاصَّة (مبعوث رسميّ) (*) مبعوث سياسيّ: دبلوماسيّ تُوكل إليه مهمَّة رسميَّة في بلد آخر.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
3-العربية المعاصرة (عزى)
عُزَّى [مفرد].* العُزَّى: صَنَمٌ كان لكنانة وقريش، أو هي شجرة من السَّمُر كانت لبني غطفان بَنَوا عليها بيتًا وجعلوا يعبدونها، فبعث إليها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلَّم خالدَ بن الوليد فهدمَ البيتَ وأحرق السَّمُرة {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} [قرآن].
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
4-العربية المعاصرة (غرب)
غرَبَ/غرَبَ عن يَغرُب، غُرُوبًا، فهو غارِب، والمفعول مغروب عنه.* غرَبتِ الشَّمسُ: اختفت في مغربها، أي في مكان غروبها (غرَب النجمُ: غاب- حظر التَّجوّل من غروب الشمس إلى طلوعها- {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [قرآن] - {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [قرآن] - {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [قرآن]) (*) غرَبت شمسُه: اندثر، تلاشى، اختفى.
* غرَب فلانٌ/غرَب الشَّيءُ: غاب واختفى، بعُد وتنحَّى (اغرُب عن وجهي: ابتعد عنِّي).
* غرَب عنه الأمرُ: فاته، لم يلاحظْه (لا يصحّ أن يَغرُب عن باله).
غرَبَ يَغرُب، غُرْبةً وغَرْبًا، فهو غرِيب.
* غرَب الشّخصُ: بَعُد عن وطنه (قضى حياته في الغُربة- الفقر في الأوطان غُربَة- الغريب مَن لم يكن له حبيب- *وكلُّ غريبٍ للغريب حبيب*).
غرُبَ/غرُبَ عن يغرُب، غَرَابةً وغُربةً، فهو غريب، والمفعول مغروب عنه.
* غرُب الشّخصُ: غرَب2؛ ابتعد عن وطنه (غرُب لحضور ندوة دوليّة).
* غرُب عن باله موعد المقابلة: فاته وغاب عنه ذلك.
غرُبَ يَغرُب، غَرَابةً، فهو غرِيب.
* غرُب الكلامُ/غرُب الأمرُ: غمَض وخفِي، بعُد عن الفَهْم (قدّم للفنّ أزياء فيها طرافة وغرابة- تكلَّم بكلام غرُب عليَّ ولم أفهمه).
* غرُب الشّيءُ: كان غيرَ مألوف ولا مأنوس (وجه غريب- مادّة غريبة).
أغربَ يُغرب، إغرابًا، فهو مُغرِب.
* أغرب الشَّخصُ:
1 - أتى أو ذهب ناحية الغرب (أغرب حيث يقع منزله).
2 - جاء بالشّيء الغريب (أغرب محدِّثي) (*) أغرب في الضَّحك: بالغ فيه وجاوز الحدّ.
استغربَ يستغرب، استغرابًا، فهو مُستغرِب، والمفعول مُستغرَب.
* استغرب تصرُّفَ صديقه: وجده أو عدَّّه غريبًا، أي غامضًا أو غير مألوف (أثار ذلك استغرابَه: سبّب له الدهشةَ، لعدم توقّعه لذلك- الزئير من الأسد لا يُستغرَب- استغرب السَّامعون كلامَه) (*) استغرب في الضَّحِك: بالغ فيه.
اغتربَ يغترب، اغترابًا، فهو مغترِب.
* اغترب الشَّخصُ:
1 - بَعُد، نزَح عن وطنه (اغترب بحثًا عن لقمة العيش- تعمل مشرفةً في بيت المغتربات).
2 - تزوَّج من غير أقاربه (من اغترب بزواجه كان أدنى إلى السَّلامة).
* اغترب داخلَ بلادِه: أحسَّ بالغُربة فيها.
تغرَّبَ يتغرَّب، تغرُّبًا، فهو مُتغرِّب.
* تغرَّب الشَّخصُ: مُطاوع غرَّبَ: اغترب، نزَح عن الوطن (تغرَّب سعيًا وراء الرِّزق- فإن تغرّبَ هذا عَزَّ مطلبُه.. وإن تغرّبَ ذاك عَزَّ كالذهبِ).
غرَّبَ يغرِّب، تغريبًا، فهو مُغرِّب، والمفعول مُغرَّب (للمتعدِّي).
* غرَّب الشّخصُ: ذهب ناحية المغرب (شرّق وغرَّب فما وجد أروع من بلده- سارت مُغرِّبةً وسِرْت مشرِّقًا.. شتّان بين مُشرِّقٍ ومُغرِّبِ) (*) شرَّق وغرَّب: سار في كلّ اتِّجاه- غرَّب فلانٌ في الأرض: أمعن فيها وسافر بعيدًا.
* غرَّب شخصًا عن بلاده: أبعده، جعله غريبًا، نحّاه، نفاه (أدّى به طلبُ الثَّأرِ إلى تغريبه عن وطنه) - غرَّب الدَّهرُ فلانًا/غرَّب الدَّهرُ عليه: تركه بعيدًا- غرَّب العادات والأخلاق: جعلها شاذَّة غريبة.
إِغْراب [مفرد]: مصدر أغربَ.
* الإِغْرَاب: [في البلاغة] الإتيان بالغريب غير المأنوس من القول.
استغراب [مفرد]:
1 - مصدر استغربَ.
2 - [في علوم الاجتماع] فقدان الاتّصال أو قيام العداء بين الأقارب أو الزُّملاء بسبب عدم الاتّفاق أو عدم الاستلطاف.
استغرابيَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى استغراب: (كانت كتابات طه حسين من طليعة الكتابات الاستغرابيّة).
* نزعة استغرابيّة: نزعة تميل لتفضيل الغرب على الشّرق (ظهرت لدى بعض الكتَّاب نزعة استغرابيّة تنظر للغرب على أنه منبع الحضارة).
اغتراب [مفرد]:
1 - مصدر اغتربَ.
2 - فَقْد الإنسان ذاته وشخصيّته ممّا قد يدفعه إلى الثورة لكي يستعيد كيانَه.
* الاغتراب الذِّهنيّ: [في علوم النفس] مرض نفسيّ يحول دون سلوك المريض سلوكًا سويًّا وكأنّه غريب عن مجتمعه، ولذا يلجأ إلى العزلة عنه.
اغترابيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى اغتراب.
* ملحق اغترابيّ: [في السياسة] أحد أفراد البعثة الدبلوماسيّة تكون مهمته القيام على شئون ومصالح المغتربين المهاجرين إلى البلد المعيّن بها.
اغترابيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى اغتراب: (وفود/شخصيات اغترابيّة- طالب المجتمعون بإتاحة الفرصة للخبرات الاغترابية لبلورة أفكارهم).
2 - مصدر صناعيّ من اغتراب: حالة من الإحساس بالاضطراب الذهنيّ تجعل الفرد يشعر بالغُربة عن نفسه أو مجتمعه (يعيش حالة من الاغترابيّة بين أهله).
تغريب [مفرد]:
1 - مصدر غرَّبَ.
2 - [في القانون] نفيُ الشّخصِ من البلاد من غير تحديد لمحلِّ إقامته.
تغريبيَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى تغريب: (دعوات/نزعات/اتجاهات/مخطّطات تغريبيَّة علمانيَّة).
* نزعة تغريبيّة: نزعة تميل إلى تفضيل كل ما هو غربيّ.
غارِب [مفرد]: جمعه غاربون وغواربُ (لغير العاقل):
1 - اسم فاعل من غرَبَ/غرَبَ عن.
2 - أعلى كُلِّ شيء (*) غواربُ الماء: أعالي أمواجه.
3 - كاهِل، ما بين الظهر والعنُق (تقع المسئوليّة على غاربك- بحرٌ ذو غواربُ).
4 - ما بين سنام البعير وعنقه، وهو الذي يُلقى عليه خِطام البعير إذا أُرسل ليرعى حيث يشاء (*) ألقى حبلَه على غاربه: تركه يتصرّف على هواه.
غَرائِبُ [جمع]: مفرده غريبة: عجائِبُ (غرائبُ الدَّهر كثيرة- الشرق أرض الغرائب والعجائب) (*) غرائبُ الأزياء: ما يتحدّى العادات والأذواق السائدة.
غُراب [مفرد]: جمعه أغرُب وأغرِبة وغِربان، جج غرابينُ: [في الحيوان] جنس طير من فصيلة الغرابيّات ورتبة الجواثم، له أنواع كثيرة أشهرها الغراب الأسود، له جناحان عريضان ومنقار طويل وقويّ، يتغذّى على الحشرات والديدان والجِيَف والبذور، والعرب يتشاءمون به إذا نعَق قبل الرّحيل، ويضرب به المثل في السّواد والبكور والحذر والبعد (من كان دليله الغراب كان مأواه الخراب- عيش غراب- أشأم من غراب- {فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [قرآن]) (*) أبطأ من غراب نوح [مثل]: يُضْرَب في التأخُّر والإهمال- أَرْض لا يطير غرابها: خصبة- أغربة العرب: سودانهم، شبِّهوا بالأغربة في لونهم، منهم في الجاهليّة عنترة- بكَّر بكور الغراب- خُبْز الغراب: فِطْر يُخرج أقراصًا كالخبز- دون هذا شيب الغراب: مستحيل الحدوث؛ لأنَّ الغراب يظل أسود- طار غرابُه: شابَ- عين الغراب: يُضرب بها المثل في الصفاء وحِدّة البصر- غراب البَيْن: مَنْ يُتَشاءم به لأنّه نذير الفرقة، مَنْ يُنذر بسوء أو بمصيبة في كلِّ مناسبة- فلان أحذر من الغراب.
* الغُرابُ من كلِّ شيء: أوّله وحدُّه (غراب السَّيف- غُراب الفأس: حدُّه).
* غُراب القَيْظ: [في الحيوان] طائر من الفصيلة الغرابيّة، متوسِّط الجثّة، من القواطع، كبير الجناحين.
* غُراب اللَّيل: [في الحيوان] واق الشّجر، من فصيلة البلشونيّات، ثوبه متباين الألوان.
* غُراب الزَّرع: [في الحيوان] طائر من فصيلة الغرابيّات يعيش أسرابًا ويألف البيوتَ الخَرِبة والمواقعَ الصَّخريّة.
غَرابة [مفرد]: مصدر غرُبَ/غرُبَ عن وغرُبَ (*) غرابة ذهن: ما يحيد عن المفهوم العام أو عمّا هو معتبر معقول- غرابة ذوق: ما يجعل الشّيء غريبًا مختلفًا عن غيره وخارجًا عن المألوف- غرابة سلوك: طريقة تصرُّف خارجة عن العادات المألوفة أو بعيدة عن الطريقة التي يتبعها عامّة الناس- في كلامه غرابة: غموض- يا للغرابة.
غَرْب [مفرد]:
1 - مصدر غرَبَ.
2 - جهة غروب الشمس، يقابله: شرق (هبَّت الرِّيحُ من الغرب).
* الغَرْب: البلدان الغربيَّة، ويُقصد بها أوربا الغربيَّة والبلدان الأميركيّة، يقابله الشَّرق (العلاقات متصلة بين الشرْق والغرب من قديم الزمان).
غَرَب [جمع]: [في النبات] جنس شجر من الفصيلة الصفصافيَّة يُزرع حول الجداول، تسوَّى من خشبه السّهام، يُسمَّى في الشام: الحور، وفي مصر: شعر البنت أو أمّ الشعور (تكثر زراعة الغَرَب حول المياه).
غُرْبة [مفرد]: مصدر غرُبَ/غرُبَ عن وغرَبَ (*) غُربة روحيَّة- فقد الأحبّة غُرْبة: من فقد أحبّتَه صار كالغريب بين الناس، وإن لم يفارق وطنَه.
غَربيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى غَرْب: (برنامج غربيّ- رياح غربيّة- {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [قرآن]).
* الجنوب الغربيّ: الاتِّجاه الواقع بين الجنوب والغرب، أو رأس بوصلة ملاحيّة في اتِّجاه 135 درجة غربيّ الشَّمال.
غُروب [مفرد]: مصدر غرَبَ/غرَبَ عن.
غَريب [مفرد]: جمعه أَغْراب وغُرَباءُ، والمؤنث غريبة، والجمع المؤنث غريبات وغرائِبُ:
1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من غرُبَ/غرُبَ عن وغرَبَ وغرُبَ2: بعيد عن وطنه.
2 - غير معروف، عجيب غير مألوف (*) بينهما شبه غريب: غير معقول- رَجُل غريب الأطوار: مُتَّسِم بما هو خارج عن المفهوم العامّ، ذو طَبْع يصعُب فهمُه- هذا وجه غريب عليك: غير معروف منك- يأتيك بكلّ عجيب غريب: بكلّ مدهش لا يُصدَّق.
* حديث غريب: [في الحديث] ما تفرَّد بروايته شخص واحد.
* ورم غريب: [في الطب] ورم مُؤلَّف من مزيج من الأنسجة، ناتج من نموّ خلايا جُرثوميَّة مستقلّة.
غُريِّبة [مفرد]: كعْك مصنوع من الدَّقيق والسّكّر والكثير من الزبدة أو أي دُهون أخرى.
مَغرِب [مفرد]: جمعه مَغارِبُ:
1 - اسم مكان من غرَبَ/غرَبَ عن: مقابل مَشْرِق (نظَر إلى المغرِب- {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [قرآن] - {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [قرآن]) (*) بلاد المغرِب: البلاد الواقعة في شمال إفريقيا في غربيّ مصر وهي ليبيا وتونس والجزائر ومراكش- في مشارق الأرض ومغاربها: في كلّ أنحاء الأرض.
2 - زمان غروب الشَّمس (زارنا قبل المغرِب) (*) صلاة المغرِب: الصَّلاة التي تُؤدَّى وقت المغرب- لقيته مغرِب الشَّمس: وقت غروبها.
* المغرِبان: المغرِب والمشرِق (على التَّغليب).
مُغرِب [مفرد]:
1 - اسم فاعل من أغربَ.
2 - كلّ ما واراك وسترك.
* عنقاءُ مُغرِب: [في الحيوان] طائر عظيم يبعد في طيرانه، وقيل إنّه طائر وهميّ يُضرَب به المثل في طلب المُحال الذي لا يُنال.
مَغرِبيّ [مفرد]: جمعه مغارِبة:
1 - اسم منسوب إلى مَغرِب: خاصّ، متعلِّق بالمغرب (بلد مغربيّ- أكلنا موزًا مغربيًّا).
2 - أحد سُكَّان المغرب، أو من بلاد المغرب (جماعة من المغاربة- يُحسن المغاربة الترجمة عن الفرنسيّة).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
5-العربية المعاصرة (ورى)
ورَى يرِي، رِ/رِهْ، وَرْيًا، فهو وارٍ.* ورَت النَّارُ: اتَّقدت.
* ورَى الزَّنْدُ: خرَجت نارُه (*) إنَّه لواري الزَّنْد [مثل]: أي إذا رامَ أمرًا أنجَحَ فيه وأدركَ ما طلب.
أورى يُوري، أوْرِ، إيراءً، فهو مُورٍ، والمفعول مُورًى.
* أورى النَّارَ: أوقدها، أشعلها {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [قرآن].
توارى/توارى ب/توارى عن/توارى في يتوارى، تَوارَ، تواريًا، فهو مُتَوارٍ، والمفعول مُتوارًى به.
* توارى الشَّخْصُ/توارى بالشَّيء/توارى عن الشَّيء/توارى في الشَّيء: استتر واختفى (توارى عن الأنظار- توارى اللِّصُّ في البيت- توارى عن أصدقاء السُّوء- {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [قرآن] - {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [قرآن]).
وارى يواري، وارِ، مُواراةً، فهو مُوارٍ، والمفعول مُوارًى.
* وارى الحقيبةَ وغيرَها: أخفاها، سترها {يَابَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [قرآن].
* وارى الميِّتَ: دفَنه (واراه التُّرابُ/الثّرى- {فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [قرآن]).
ورَّى/ورَّى عن يورِّي، وَرِّ، تورِيةً، فهو مُورٍّ، والمفعول مُوَرًّى.
* ورَّى النَّارَ: استخرجها.
* ورَّى الزَّنْدَ: أخرجَ نارَه.
* ورَّى الشَّيءَ: أخفاه وستره وأظهر غيره.
* ورَّى عن الشَّيءِ: أراده وأظهر غيرَه (في كلامه تورية).
إيراء [مفرد]: مصدر أورى.
تَوْرية [مفرد]:
1 - مصدر ورَّى/ورَّى عن.
2 - [في البلاغة] أن يكون للفظ معنيان، أحدهما قريب، ظاهر الكلام يدلُّ عليه، والآخر بعيد، وهو الذي يقصده القائل (أنت الحسين ولكنْ.. جَفاك فينا يَزيدُ: فكلمة (يزيد) تعني الخليفة، وتعني الفعل يزيد وهو المقصود).
مُوريات [جمع]: مفرده مُورية.
* المُوريات: خيلٌ تقدح النَّار باحتكاك حوافرها بالحجارة أثناء القتال {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [قرآن].
وَراء [مفرد]: كلُّ ما استتر عنك سواء أكان خلفًا أم قدّامًا {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [قرآن] - {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [قرآن] - {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [قرآن]: أمامهم) (*) خُطْوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء: يتأخّر أكثر ممّا يتقدّم- ما عليه وراء: ليس عليه شيء يواريه- ما وراء البحار: المستعمرات الإنجليزيّة والفرنسيّة سابقًا- ما وراء الطبيعة: عالم الغيب، الميتافيزيقا- ما وراء النّهر: ما بعد نهر الأردن، ما بعد نهر جيحون- ما وراءك؟: ما عندك من أخبار؟ - مِنْ وراء كذا: نتيجة له- هو وراء أفكاره: محرّكها وباعثها- وراء السِّتار: غير واضح- وراء القضبان: السّجن، المعتقل- وراء الكواليس: في الخفاء، سِرًّا.
وراءكَ [كلمة وظيفيَّة]: اسم فعل أمر بمعنى تأخَّرْ منقول عن الظرف (وراء) وكاف الخطاب التي تتصرَّف بحسب أحوال المخاطب (وراءك أيّها الرجل- وراءكم أيّها الجنود).
وَرًى [جمع].
* الوَرَى: الخَلْقُ من البَشَر (محمد صلّى الله عليه وسلّم خير الوَرَى- طِباع الوَرَى فيها النِّفاقُ فأقْصِهِمْ.. وحيدًا ولا تصحبْ خليلًا تُنافِقُه).
وَرْي [مفرد]: مصدر ورَى.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
6-المعجم الوسيط (العُزَّى)
[العُزَّى]: صَنمٌ كان لبني كِنانة وقريش، أَو شجرةٌ من السَّمُر كانت لغَطَفَانَ بنَوْا عليها بيتًا وجعلوا يعبُدونها، فبعث إِليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليد فهدم البيتَ وأَحرق السَّمُرة.المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
7-المعجم الوسيط (بَحَثَ)
[بَحَثَ] الأرضَ وفيها -َ بَحْاثًا: حَفَرها وطلب الشيء فيها.وفي التنزيل العزيز: {فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ في الأرضِ} [المائدة: 31] و- الشيءَ وعنه: طلبه في التراب ونحوه، وفتش عنه.
و- الأمرَ وفيه: اجتهد فيه، وتعرفَ حقيقته.
و- عنه: سأل واستقصى، فهو باحث، وبَحَّاث، وبَحَّاثة.
وفي المثل: "كباحثة عن حتفها بظِلْفها": يُضرب في طلب الشيء ويؤدِّي بصاحبه إلى التَّلَف.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
8-شمس العلوم (حَسَّ يَحُسُّ)
الكلمة: حَسَّ يَحُسُّ. الجذر: حسس. الوزن: فَعَلَ/يَفْعُلُ.[حَسَ] البردُ النباتَ: إِذا أحرقه.
والحسُ: القتل الذريع، قال الله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}.
وحَسّ اللحمَ: إِذا جعله على النار.
وفي الحديث: قال حسان بن أنس: «كنت عند ابن أخت عائشة فَبُعِثَ إِليه بجرادٍ محسوس فأكله».
وحَسَ الغبارَ عن الدابة: إِذا نفضه.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
9-شمس العلوم (الخَلَدَة)
الكلمة: الخَلَدَة. الجذر: خلد. الوزن: فَعَلَة.[الخَلَدَة]: القُرْطُ.
ذو الخلصة: موضع بالحجاز، كانت به أصنام في الجاهلية لدوس وخثعم وبجيلة.
ويقال: إِنه كان يسمى: الكعبة اليمانية فبعث النبي عليه السلام جرير بن عبد الله فحرَّقها.
وفي الحديث عن النبي عليه السلام «تكون ردة شديدة قبل يوم القيامة حتى يرجع ناس من أمتي من العرب كفارًا يعبدون الأصنام بذي الخَلَصة» ويروى في حديث آخر: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخَلَصة».
أي: يرجعون كفارًا يطوفون بذي الخلصة فتضطرب ألياتهم.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
10-شمس العلوم (العادياء)
الكلمة: العادياء. الجذر: عدي. الوزن: فَاعِلَاء.[العادياء]: عادياء: من أسماء الرجال.
وعادياء: أبو السموءل بن عادياء الغساني الذي يضرب به المثل في الوفاء؛ وذلك أن امرأ القيس بن حُجْر الكندي أودعه سلاحًا له ومتاعًا فانتهى ذلك إلى الحارث بن أبي شمَّر الملك الغساني فبعث إلى السموءل جيشًا لأخذ ما عنده لامرئ القيس، فظفروا بابن السموءل خارجًا من الحصن، فخيروا السموءل بين قتل ولده أو تسليم وديعته، فقال: لا أسلّم وديعتي، فقتلوا ابنه.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
11-شمس العلوم (القادسيّة)
الكلمة: القادسيّة. الجذر: قدس. الوزن: فَاعِلَة.[القادسيّة]: موضع بالعراق كانت فيه وقعة للعرب على الفُرْس أيام عمر بن الخطاب: أمَّر على العرب سعد بن أبي وقاص، فكتب إليه سعد أن يمده، فبعث عمر إليه عمرو بن مَعْدِيْكَرِب في جماعة من زُبَيْد، وكتب إليه: إني قد بعثتُ إليك ألف فارس، وهو عمرو بن مَعْدِيْكَرِب الزبيدي يقوم مقامها، فادفع إليه أعنَّة الخيل، وشاورْه في أمور الحرب، فإنه شجاع مجرِّب ولا تولِّه شيئا من أحكام المسلمين، فإنه حديث عهدٍ بالجاهلية.
فلما وصل عمرو إلى سعد سُرَّ به وسائر المسلمين سرورا عظيما، فقتل عمرو بهرام، قائد يزدجر ملك الفرس.
وجماعةً من الأساورة، وفُتحت القادسية، وكان أول من دخلها عمرو بن مَعْدِيْكَرِب، ويقال: إنه قام في ركابي فرسه، ثم ضرب بيده في أعلى بابها فبقي أثر يده من دماء القتلى في الباب، فقال كلٌّ من العرب: نحن أول من دخلها، فقال عمرو: أنا أحكم بأن أول من دخلها صاحب أثر اليد التي في الباب، فليقم كل فارسٍ منكم في ركابي فرسه، وليضرب بيده على الأثر، فمن وافقه منكم فهو أول من دخلها ففعلوا فلم يبلغ أحدٌ منهم الأثر ففعل عمرو ما أمرهم به فوقعت يده على الأثر؛ ويقال: إن سعدا وجد عليه في ذلك.
قال عمرو:
أكرُّ بباب القادسية مُعْلَما *** وسعد بن وقاص عليَّ أميرُ
تذكَّر، هداك الله وَقْع جيادنا *** بباب قديس والمكرُّ عسير
عشية ودَّ القوم لو أن بعضهم *** يُعار جناحي طائر فيطيرُ
وكان الفُرْسُ قد أعدوا صفارات تُنَفِّرُ خيل العرب وأكثروا الجرح بالنشاب، فأمر عمرو أن تسدَّ آذان الخيل بقطن، وأن تبلَّ الخفاتين بماء فلا يقطع فيها النشاب، ففعل المسلمون ذلك ففتح الله القادسية على يدي عمرو.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
12-معجم ما استعجم (ذات السلاسل)
ذات السّلاسل: بفتح أوّله على لفظ جمع سلسلة: رمل بالبادية، قال الأخطل:«كأنّها قارب أفرى حلائله *** ذات السّلاسل حتّى أيبس العود»
وفى كتاب البخارىّ: قال ابن إسحاق عن يزيد بن عروة: ذات السلاسل:
فى بلاد عذرة وبلى وبنى القين. وقال إسماعيل بن أبى خالد: غزوة ذات السلاسل هى غزوة لخم وجذام. وبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاصى على جيشها. قال ابن إسحاق: بعثه ليستنفر العرب بالشام. وذلك أنّ أمّ العاصى ابن وائل كانت امرأة من بلىّ قال ابن إسحاق: سار عمرو حتّى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له سلسل، وبه سمّيت الغزوة غزوة السلاسل، خاف،
فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمدّه، فأمدّه بأمى عبيدة بن الجرّاح فى جيش.
والسّلاسل فى غير هذه الرواية ماء لجذام، وبه سمّيت تلك الغزوة ذات السلاسل.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
13-معجم ما استعجم (النبيت)
النّبيت: بفتح أوّله، وكسر ثانيه، بعده الياء أخت الواو، ثم التاء المعجمة باثنتين من فوقها: جبل بصدر قناة، على بريد من المدينة، قال عمر ابن أبى ربيعة.«بفرع النّبيت فالشّرى خفّ أهله *** وبدّل أرواحا جنوبا وأشملا»
وكان أبو سفيان لمّا انصرف من بدر ن؟ ر ألّا يمسّ رأسه ماء حتّى يغزو محمّدا، فخرج فى مئتى راكب، ليبرّ يمينه، فسلك النّجديّة، حتّى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له النّبيت، فبعث رجالا إلى المدينة، فأتوا ناحية يقال لها العريض، فحرّقوا فى أصوار نخل بها، وقتلوا رجلا من الأنصار وحليفا له فى حرث لهما، فنذر بهم الناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طلبهم، حتّى بلغ قرقرة الكدر، وقد فاته أبو سفيان، فهى غزوة السّويق.
وروى أبو داود، عن محمّد بن إسحاق، عن محمد بن أبى أمامة بن سهل بن
حنيف، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه: أنّه كان إذا إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحّم لأسعد بن زرارة. قال: فقلت له: مالك إذا سمعت النداء ترّحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: لأنّه أوّل من جمع بنا فى هزم النّبيت من حرّة بنى بياضة؛ فى نقيع يقال له نقيع الخضمات، فقلت:
كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
14-جمهرة اللغة (جفو جوف فجو فوج وجف وفج)
والجَفْوُ من قولهم: جَفاه يجفوه جَفْوًا، واشتقاقه من تجافَى الشيءُ عن الشيء إذا ارتفع.وجَوف كل شيء: قَعْرُه وداخله.
والجوف: موضع باليمن.
وقولهم: كأنه جَوف حمارٍ، يصفون به الموضع الخَرِب الوَحْش.
وحمار بن مُوَيْلِك بن مالك بن نصر بن الأزد، وكان جبّارًا، كان له واد يُعرف بِالجوف فبعث الله عليه نارًا فأحرقت الوادي بما فيه فصار مثلًا، وله حديث.
فأمّا قول امرئ القيس:
«ووادٍ كجَوْفِ الغيْرِ قَفْرٍ قطعتُه*** به الذئبُ يَعْوي كالخَليع المُعَيّلِ»
فإنه أراد كجَوْف حمار فلم يستقم له الشعر.
وكل شيء له جَوْفٌ فهو أجْوَفُ والأنثى جَوْفاءُ والجمع جُوف.
ومنه اشتقاق قولهم: طعنة جائفة، إذا وصلت إلى الجَوف.
وهذه الياء أصلها الواو، وكذلك الجِيفة أيضًا، أصل الياء واو.
والجُوفِيّ: ضرب من حيتان البحر، عربي معروف.
قال الراجز:
«إذا تعشَّوا بَصَلًا وخَـلاّ*** وجُوفِيًا مُحَسَّفًا قد صَـلاّ»
«باتوا يَسُلُّون الفُساءَ سَـلاّ*** سَلَّ النبيطِ القَصَبَ المُبْتَلاّ»
المحسَّف: الخائس المسترخي، من قولهم: تحسّف التمرُ وانحسف، إذا فسد لطول مدّته.
والفَجوة والفَجواء: الموضع المُتَسِع من الأرض يُفْضَىٍ إليه من ضِيق.
ويقال: بين دُور آل فلان فجوة، أي مُتَّسَع.
وقالوا: فجوة الدار: ساحتها، والجمع فَجَوات.
وفي التنزيل: {وهُم في فَجْوَةٍ منه}.
قال أبو عُبيدة: مُتَّسَع، والله أعلم.
والفَوْج: من الناس: الجماعة، والجمع أفواج.
قال:
«فهم رَجاجٌ وعلى رَجـاجِ*** يمشون أفواجًا إلى أفواجِ»
«مَشْيَ الفَراريج مع الدَّجاجِ»
رَجاج: المهازيل من كل ما رَعَى من المال.
وجمع أفواج أفاوِج وأفاويج.
ووَجَفَ البعيرُ يَجِفُ وَجْفًا.
ووجيفًا، وهو ضرب من سير الإبل، وربما اسُتعمل في الخيل.
وأوجفتُ البعيرَ، إذا حملته على الوجيف.
وفي التنزيل: {فما أَوجَفْتُم عليه مِن خَيْلٍ ولا رِكاب}، أي ما حملتموها في الوِجاف.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
15-جمهرة اللغة (حذل حلذ ذحل ذلح لحذ لذح)
الحَذَل: حُمرة وانسلاق في أجفان العين ومآقيها، حَذِلَت عينُه تحذَل حَذَلًا، إذا أصابها ذلك.قال مُعَقِّر بن حمار البارقي:
«فأخْلَفْنا مُوَدَّتَها فقـاظـت*** ومَأُقِي عينها حَذِلٌ نطوفُ»
والعين حَذلاء كما ترى، وربما قيل: رجل أَحْذَلُ وامرأة حَذْلاءُ.
وأنشد للعجّاج:
«ما بال جاري دمعكِ المهلَّلِ *** والشوق شاجٍ للعيون الحُذَّلِ»
وقال البغداديون: الخُذَّل بالخاء.
قال أبو حاتم: لا أدري أيُّ شيطان فسّر لهم البيت، قالوا: إذا بكى أصحابه خذلهم فلم يبك معهم.
وحُذَيلاء: موضع.
والحُذالةُ: مثل الحُثالة، وهي حُطام التِّبن ونحوه.
والحَذَل: ضرب من حَبّ الشجر يُختبز ويؤكل في الجَدْب.
قال الراجز:
«إنَّ بَواءَ زادهم لمّا أُكِلْ *** أن يَحْذِلوا فيكثروا من الحَذَلْ»
وحُذُول المرأة: حاشية إزارها أو ذيل قميصها.
والحُذَل: استدارة ذيل القميص.
قال عُمر بن الخطّاب رحمه اللهّ لابنة عمرو بن حُمَمَة لمّا زوَّجها من عثمان فبعث إليها صَداقها أربعة آلاف درهم فقال لها: هَلُمّي حُذَلَك، أي ذيلك، فصبّ فيه المال فقسمتْه في قومها وتجهّزت من مالها، وهي أمّ عمرو بن عثمان بن عفّان.
والذَّحْل: مثل الثأر سواء، والجمع أذحال وذُحول، وهو الوَغْم.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
16-جمهرة اللغة (دمه دهم مده مهد هدم همد)
دَمَهَتْه الشمسُ، إذا صمحته، فهو مدموه.ويوم دَمِهٌ، إذا كان شديد الحرّ؛ دَمِهَ يومُنا دَمَهًا، ورجل مدموه.
وإذا التهبت الرَّمضاء من شدّة الحرّ قيل: دَمِهَتْ دَمَهًا.
والدَّهْم: العدد الكثير؛ عدد دَهْم، أي كثير.
ودَهِمَهم الأمر يدهَمهم، إذا غشيهم.
وفرس أدْهَمُ حسن الدُّهْمَة، أسود، وادهامَّ الفرسُ ادهيمامًا، إذا اشتدّ سواده.
وقال أبو عبيدة في قوله جلّ وعزّ: {مُدْهامَّتانِ}، أي سوداوان من شدّة الخضرة.
وكان أبو حاتم يقول إن السواد سُمّي سَوادًا لكثرة الخضرة فيه؛ والسواد عند العرب خُضرة.
قال الشمّاخ:
«سَرَيْتُ بها من ذي المَجاز فنازعتْ***زُبالةَ سربالًا من الليل أخضـرا»
أي أسود.
ومنه قول اللَّهَبي:
«وأنا الأخضرُ من يعرفـنـي***أخضرُ الجِلدة من بيت العربْ»
أراد الأُدمة لأنها أغلب الألوان على العرب.
وقد سمّت العرب دُهْمان ودُهَيْمًا ودُهامًا.
والدُّهيم: اسم من أسماء الداهية، وأصل ذلك أن ناقة كانت تسمّى الدُّهيم فحُمل عليها رؤوس قوم فقالوا: "أثقل من حِمْلِ الدُّهيم"، فذهبت مثلًا، ولها حديث.
وجاء فلان بالدُّهيم، وهي الداهية، وأصلها الناقة.
ودَهْماء الناس: جماعتهم.
والمَدْه مثل المَدْح سواء؛ مدهتُه بمعنى مدحتُه، قُلبت الحاء هاءً، وهم يفعلون ذلك كثيرًا.
قال رؤبة:
«لله درُّ الغانياتِ المُدَّهِ»
يريد المُدَّحِ، ومن روى المُزَّهِ أراد المُزَّحِ.
وقال النعمان لرجل ذكر عنده رجلًا: أردتَ كيما تَذيمه فمدهتَه؛ تذيمه: تعيبه؛ من الذَّيْم.
والمَهْد: معروف؛ مهَّدت الفراشَ تمهيدًا، والفراش المِهاد، وكل شيء وطّأته فقد مهّدته.
ومَهْدَد: اسم امرأة، وللنحويين فيه كلام ليس هذا موضعه.
والهَدْم: مصدر هدمتُ الشيء أهدِمه هَدْمًا.
والهَدَم: ما وقع من الشيء المهدوم من طين أو غيره، والشيء مهدوم وهديم.
والهِدْم: الكساء الخَلَق، وجمعه أهدام وهُدوم.
وهُدِمَ الرجلُ، إذا أصابه الدُّوار في البحر، والاسم الهُدام.
وذو مَهْدَم: قَيْلٌ من أقيال حمير، ومن ولده شُعيب بن ذي مَهْدَم النبي ليس شُعيب موسى الذي بعثه الله الى قومه فقتلوه فبعث الله عليهم بُخْتَ نصَّر فقتلهم قتلًا ذريعًا؛ هكذا يقول ابن الكلبي، وأنزل الله فيهم: {فلمّا أحسّوا بأسَنا إذا هم منها يركضون} الآيات.
وهَدِمَت الناقةُ تهدَم هَدَمًا، إذا أرادت الفحل، وتهدّمت تهدّمًا.
وشيخ هِدْم مثل هِمّ سواء، تشبيهًا بالكساء الخَلَق.
وقال قوم من أهل اللغة: الهِدْم: الكساء المرقَّع الذي قد ضوعفت رقاعه بعضها على بعض.
الهَمْد من قولهم: هَمَدَت النارُ همودًا، إذا طَفِئت، والجمر هامد، إذا طَفِئ.
وهَمْدان: أبو قبيلة، واشتقاقه من هَمَدتِ النارُ، إذا سكن اشتعالُها.
وذُكر عن بعض من لا يوثق به أنه سئل عن اشتقاق هَمْدان واسمه أوْسَلَة فقال: أُخبر بخبرٍ غمّه فقال: هَمٌّ دانٍ، وليس هذا مما يُلتفت إليه.
والهَمْدة: الموت، زعموا.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
17-جمهرة اللغة (سفل سلف فسل فلس لسف لفس)
السِّفْل: ضدّ العِلْو، والسُّفْل: ضدّ العُلْو.ورجل سَفِلَة: خسيس من الناس، وأكثر ما يقال: رجل خسيس من سَفِلَة الناس، أي من رُذالهم، ولا يقال: رجل سَفِلَة، وإن كانت العامّة قد أولعت به، وكذلك قوم من سَفِلَة الناس.
وفلان يهبط في سَفال، إذا كان يرجع الى خُسْران.
وقعدتُ بسُفالة الريح وبعُلاوتها، فالعُلاوة: من حيث تهبّ، والسُّفالة: ما كان بإزاء ذلك.
وسَلِفُ الرجل: المتزوّج بأخت امرأته؛ والقوم متسالفون، إذا كانوا كذلك.
والسَّلْف: أديم لم يُحكم دبغُه، وقالوا: بل جراب واسع على هيئة الجُوالق، والجمع سُلوف.
والسِّلْفَة: ما تدّخره المرأة لتُتحف به من زارها؛ قال أبو زيد: يقال: سلِّفوا ضيفكم ولهِّنوه، أي أطعِموه اللُّهْنَة والسِّلْفَة، وهو ما يُتحف به الضيفُ قبل القِرى.
وسُلافة الخمر: أول ما يخرج من عصيرها.
ولفلان سَلَفٌ كريم، إذا تقدّم له كرمُ آباء، والجمع أسلاف وسُلوف.
وسُلاّف القوم: متقدّموهم في حرب أو سفر.
والسِّلْفان: ضرب من الطير، الواحد سُلَف.
قال أبو حاتم: السُّلَف والسُّلَك واحد، وهو فراخ القَبْج، فيما ذكره.
والفَلْس: عربي معروف، وأصل الفَلْس من قولهم: أفلسَ الرجلُ إفلاسًا، إذا قلّ مالُه فهو مُفْلِس، وهي كلمة عربية وإن كانت مبتذَلة.
قال الشاعر:
«وقد ضَمُرَت حتى بَدَتْ من هُزالها***كُلاها وحتى استامَها كلُّ مُفْلِـسِ»
وهذا شعر قديم.
والفِلْس: صنم كان لطيّئ في الجاهلية فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم علي بن أبي طالب عليه السلام حتى هدمه وأخذ السيفين اللذين كان الحارث بن أبي شَمِر أهداهما إليه، وهما مِخْذَم ورَسوب اللذان ذكرهما علقمة بن عَبَدَة في قصيدته فقال:
«مُظاهرُ سِرْبالَي حديدٍ عليهما***عَقيلا سُيوفٍ مِخْذَمٌ ورَسوبُ»
ورجل فَسْل وفَسِل، إذا كان ضعيفًا عاجزًا بيّن الفَسالة والفُسولة.
وفَسيل النخل: معروف، الواحدة فَسيلة.
قال الراجز:
«وإنما النّخلُ من الفسيلِ *** كذلك القَرْمُ من الأفيلِ»
الأفيل: صغار الإبل، والجمع إفال وأفائل؛ والقَرْم: الفحل من الإبل.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
18-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (جحي الخنابشة)
جحي الخنابشةوهو قرية للخنابشة الآتي ذرو من أخبارهم في آخر قيدون؛ منهم الآن: الشّيخ عبد الله بن سعيد بن سالم الخنبشيّ، مضياف، وله مروءة.
وفيها ناس من السّادة آل مقيبل، منهم: السّيّد الغريب الحال، الطّاهر البال: عبد الله بن أبي بكر الملقّب بالنوّام، لكثرة نومه، حتّى أنّه لينام على حماره ويسقط ولا يشعر.
وله أحوال شريفة؛ منها: أنّه تذوكر إشراق النّور عند تلاوة القرآن والصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.. فقال: هل ينكر ذلك أحد؟! فقال الحاضرون: هل تقدر أن ترينا ذلك؟ قال: نعم، فتوضّأ وصلّى ركعتين، ثمّ أمرهم بإطفاء السّرج ـ وكان الوقت ليلا مظلما ـ وشرع يقرأ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) فأشرق المنزل بمثل ضياء الشّمس، فبهت الحاضرون، ولمّا انتهى الخبر إلى العلّامة السّيّد عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار.. قال لآل مقيبل: لا تلوموا صاحبكم على شرب الدّخان؛ وإلّا.. أوشك أن يطير عنكم.
وله مراء صادقة؛ منها: أنّه انتبه مرّة منزعجا يقول: قتلوه، قتلوه.. فجاء الخبر بمقتل سليم بن عيبان بالقوينص السّابق ذكر خبره في الكسر في تلك السّاعة.
ومن آل مقيبل بالجحي الآن: السّيّد حسين بن علويّ مقيبل.
ومنها: الشّيخ سعيد باحفظ الله السّابق ذكره في الرّشيد، وكان يحبّ الخير، وهو الّذي بنى جامع الجحي، وله في القراءات إتقان بديع، ومعرفة جيّدة، وهو صاحب التّاريخ الّذي أخذه باصرّة ولم يردّه، توفّي بعد الثّلاث مئة وألف.
ومنها: صاحبنا الفاضل، الشّيخ عبد الله بن سعيد باجنيد، طلب العلم بمكّة، وولي قضاء دوعن والمكلّا عدّة مرّات، ودرّس مدّة طويلة بمسيلة آل شيخ، وكان في سنة (1325 ه) بحوطة آل أحمد بن زين الحبشيّ يدرّس بها، وله باع في الفقه، وبضاعته مزجاة في النّحو، ومع ذلك فقد درّس فيه بالحوطة، وكان ليّن العريكة، سهل الجانب، عذب الرّوح، دمث الأخلاق، واسع الصّدر، توفّي بالجحي سنة (1359 ه)، وله ولد اسمه محمّد، تولّى القضاء بالمكلّا، وكان طلب العلم بمصر، ثمّ فصل عن قضاء المكلّا وجعل من أعضاء الاستئناف بها.
وآل باجنيد منتشرون في رحاب وهدون والجحي والمكلّا وعدن والحجاز، ومثراهم بالخريبة، حتّى لقد روي عن الحبيب حامد بن أحمد المحضار أنّه قال: دخلت الخريبة.. فإذا عالمها: باجنيد، وقاضيها: باجنيد، وتاجرها: باجنيد، ودلّالها: باجنيد، وقصّابها: باجنيد، ونجّارها: باجنيد، وسائر أعمالها بأيدي آل باجنيد.
وكانت الخريبة أولى بأخبارهم، ولكنّها تدحرجت علينا إلى هنا، ومنهم اليوم بعدن الشّابّ الغيور عبد الله بن سعيد بن بو بكر بن عبد الباسط، له دين متين، واهتمام بأمر المسلمين، وأخوه المكرّم محمّد، وابن عمّهم الشّيخ عبد القادر، والشّيخ جنيد بن محمّد، وكلّهم طيّبون مشكورون.
ومنهم: العلّامة الجليل الشّيخ عمر بن أبي بكر باجنيد، الغني باسمه عن كلّ تعريف وهو أحد أكابر علماء مكّة المشرّفة، بل إليه انتهت رئاسة الشّافعيّة بها بعد شيخه العلّامة الشّيخ محمّد سعيد بابصيل ـ وقد أخذنا عن الاثنين ـ توفّي الشّيخ عمر بمكّة المكرّمة سنة (1354 ه)، وقد سبق في الخريبة عن الحبيب أحمد بن محمّد المحضار ما يصرّح برجوع نسبهم إلى مضر.
ومن النّوادر: أنّ الشّيخ سعيد بن بو بكر باجنيد عمل للفاضل السّيّد حسين بن حامد المحضار ضيافة بداره في الخريبة سنة (1337 ه)، وما كاد يستقرّ به المجلس
حتّى قال له: خبّرونا عن نسبكم إلى من يرجع يا آل باجنيد، إلى الحبوش أو السّواحليّة؟ فلم يزد الشّيخ سعيد على أن قال له: هذا جزاؤنا لمّا زوّجناك وضيّفناك.
هكذا أخبرني الشّيخ عمر بن أحمد باسودان ـ وكان حاضرا ـ ولو أنّ الشّيخ سعيد بن أبي بكر حفظ شعر الحبيب أحمد المحضار السّابق في الخريبة.. لرماه بحجره.
ثمّ يأتي من قرى الوادي الأيسر عرض باقار. ثمّ عرض باهيثم. ثمّ الجديدة. ثمّ جريف، وهي قرى صغيرة كما يعرف من الإحصاء الآتي.
ومن جريف: السّيّد محمّد بن شيخ وولده علويّ، فاضلان جليلان.
ثمّ صبيخ، وهي قرية واسعة ـ كما يعرف من الكشف ـ وفيها السّيّد الجليل جعفر بن محمّد العطّاس، أحد تلاميذ العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس وزوج إحدى بناته، وقد سبق ذكر ولده محمّد بن جعفر بغيل باوزير.
وكانت صبيخ مهد علم ومغرس معارف حتّى لقد اجتمع فيها أربعون عذراء يحفظن «إرشاد ابن المقري».
وأكثر سكّانها من آل العموديّ، ومنهم الشّيخ الوقور محمّد بن أحمد المخشّب، له مساع مشكورة في إصلاح ذات البين، وقد تزعّم حركة الإصلاح في وادي الأيسر لمّا اشتدّ عليهم الجور من أيّام الوزارة المحضاريّة، وكان الشّيخ سالم عبود بلّعمش يساعده، وهو لسانه وقلمه، وصلا معا إلى سيئون وأقاما بها نحوا من (18) يوما للمفاوضة مع المستشار.
وكانت صبيخ تحت سلطة ابن خالد العموديّ، وكان مضرب المثل في الجور والظّلم حسبما في «الأصل»، وفي ذلك يقول شاعرهم:
«يا نوب زنحي عامد الحيد البرق *** عامد في الغرفه وهي محميّه »
«لا شي عسل منّه ولا هو ذي فرق *** يرعى علوب الناس بالغصبيّه »
فأجابه بادحدح بقوله:
«الدّبر والعثّة يجيبه بالمدى *** والطير لخضر بايجيبه بالدوام »
«لا عذر ما تمسي جبوحه خاليه *** البطل ما له تاليه هو والحرام »
و (الدبر): معروف. و (العثّة) و (الطير الأخضر): آفات النّوب.
ثمّ قرى صغيرة.
ثمّ تولبة، وهي قرية متوسّطة، بينها وبين ضريح الشّيخ عمر نحو ساعة.
وفي رأس الوادي قرية على قلّة جبل مقطوع الرّأس من الجهات كلّها، لا طريق له إلّا من الجهة الغربيّة في غاية الوعورة، تتراءى ديارها الغبراء القليلة كما تتراءى طيور القطا، يقال لها: حيد الجزيل، مشهورة بزيادة حسن عسلها وهي على مقربة من ضريح الشّيخ عمر مولى خضمّ ابن الشّيخ محمّد بن سعيد العموديّ، الّذي ينسب إليه وادي الأيسر كلّه، فيقال: وادي عمر، يعنونه.
وأوّل ما يكون على يسار الدّاخل إلى وادي الأيسر: حصن الخنابشة.
ثمّ الدّوفة، وفيها السّادة آل مقيبل، يرأسهم الآن: السّيّد محمّد بن بو بكر وأخوه عبد الله.
وفيها آل العموديّ، ومنهم: الشّيخ عبد الله بن عثمان، كان الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد كثير الثّناء عليه، ويقول: ما نحن مستأمنين بأهل الوديان إلّا على السّيّد حسين بن عمر العطّاس، والشّيخ عبد الله بن عثمان صاحب الدّوفة. وهو من مشايخ السّيّد عليّ بن حسن العطّاس صاحب المشهد.
ومنهم: العلّامة الشّيخ أحمد بن عبد الرّحيم العموديّ.
وفي حدود سنة (1362 ه) كان النّزاع قائما بين آل العموديّ آل باظفاريّ والخنابشة على جريب من الأرض، ملكه لآل باظفاريّ، ونشره للخنابشة، فخرج آل العموديّ لحرثه فمنعهم أحد الخنابشة، فلم يبالوا به، فأقبل ثلاثة نفر من الخنابشة.. لاقاهم اثنان من آل العموديّ، فاجتلدوا بالعصيّ ساعة، ثمّ لم يشعر النّاس إلّا بواحد يمكّن خنجره من خاصرة عبود بن محمّد بن العسكر العموديّ، فكانت القاضية.
واختلفت الرّواية، فقيل: إنّ عبودا هذا من المشتركين في المخاصمة على الجريب. وقيل: إنّما كان من النّظارة فقط.
وقد طلّ دمه؛ إذ لم يتعيّن القاتل بالحجّة الشّرعيّة، والتّهمة تحوم حول الخنابشة واللّوث الشّرعيّ ظاهر، ولكنّهم إمّا لا يعرفون القسامة، وإمّا لأنّهم لا يرون الأخذ بها تشفيا، وإمّا لأنّهم لا يرون لها منفذا.
ثمّ انحطّت التّهمة على سعيد بن سالم الخضر.. فأودع السّجن ثلاثة أعوام، ثمّ أطلق سراحه، ولكن! بعدما تغيّر مزاجه، وانحرفت صحّته، فلم يعش بعد تخلية سبيله إلّا مدّة يسيرة.
وكما اختلفت الرّواية في مقتل عبود.. اختلفت في مبدئه، فقيل: إنّه كمثل أخيه عثمان، على رأي الإرشاديّين، وإنّ لذلك مدخلا في قتله.
وقيل: إنّه إنّما كان يجامل أخاه بالتّظاهر بالإرشاد؛ لأنّه وليّ نعمته، وليس بالجادّ فيه.
ثمّ خيله، وهي حصون قليلة لآل بقشان، ومنهم: أحمد وعبد الله ابني سعيد بن سليمان بقشان، من الحالكة، لهم أشغال مهمّة بالحجاز، واتّصال أكيد بحكومة الملك الجليل ابن السّعود، وعليهم يعتمد في كثير من الأمور ـ وهم عرضة ذلك أمانة وكفاية ـ وهم لا يقصّرون في حمل الكلّ وإعانة المنقطع، ومساعدة المحتاج.
ثمّ حصن باخطيب.
ثمّ ضري ـ زنة (جري)، وهو مصدر (جرى) ـ وهي من أكبر بلاد الوادي الأيسر، وفيها آل علويّ بن ناصر، سادة من آل شيخان.
وفيها ناس من آل باوزير وآل بالبيد وآل باسلم، وناس من السّوقة.
وقد بتنا بها ليلة في سنة (1360 ه) بمنزل المكرّم الشّهم محمّد بن عوض اليافعيّ، في دار جميلة، مؤثّثة بالأثاث الطّيّب، في دار قوراء، جديدة العمارة على أحسن طراز.
ثمّ حوفة، فيها جماعة من ذرّيّة السّيّد عبد الله بن عبد الرّحمن الجفريّ.
قال شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة» [2 / 428]: (ومنهم الآن ـ يعني سنة (1307 ه) ـ: أحمد بن محمّد بن أحمد، شريف متواضع)، وهو جدّ السّيّد أحمد بن محمّد الجفريّ الّذي يعمل الآن في بير امبارك بسيئون للمكرّم سالم باحبيشيّ، وهو سيّد لطيف نشيط متواضع، مطرب الحداء، جميل الصّوت، يحفظ كثيرا من القصائد النّبويّة والصّوفيّة.
ومنهم: السّيّد صافي بن عبد الرّحمن بن صالح بن أحمد بن محمّد بن صالح بن عبد الله بن عبد الرّحمن مولى العرشة، ذكره في «شمس الظّهيرة» وقال: (إنّه ذو جاه وحشمة وثروة) اه
وقد نجع من حوفة إلى المدينة المشرّفة، ولم يكن له عمل إلّا الإنشاد على ضرب الطّار، حتّى ضمّه حفل مع شيخ السّادة بها، وهو السّيّد الجليل عبد الرّحيم بن سالم ـ الآتي ذكره في اللّسك ـ فلم يرقه أن يكون علويّ قوّالا، فأخذه إلى بيته وعاتبه.. فاعتذر بالحاجة، فقال له: الزم بيتي وأنا أكفيك المؤنة، ففعل وخدم بنشاط، فأحبّه وزوّجه من بنته آمنة، ولم يزل معه في حال طيّب حتّى جاء الأمر من السّلطان عبد المجيد باستقدام شيخ السّادة هذا، أو السّيّد المجمع على صلاحه وولايته: عمر بن عبد الله الجفريّ، للتبرّك بأحدهما والصّلاة خلفه، فلم يرغب في ذلك، ولم يكن بدّ من إجابة الطّلب.. فبعث شيخ السّادة بختنه السّيّد صافي، فكان له هناك جاه واسع حتّى إنّ السّلطان أطلق يده في تحف القصر، فكان في جملة ما أخذ: ستّة صحون من الذّهب مرصّعة بالجواهر، قوّمت في تركته باثني عشر ألف جنيه.
وبإثر رجوعه إلى المدينة.. أمر السلطان عبد المجيد بزيادته المعروفة في الحرم الشّريف، فكانت النّفقة على يد السّيّد صافي، فابتنى له عدّة قصور شاهقة، وتأثّل أموالا طائلة كان بها أغنى أهل المدينة، إلّا أنّ الأيّام تذكّره بما كان فيه أوّلا، فلم تنبسط يده في معروف، ثمّ لم يحمد المآل بينه وبين وليّ نعمته السّيّد عبد الرّحيم، فأبعده السّلطان عبد المجيد عن المدينة، ثمّ لم يقدر على الرّجوع إلّا بعد انحلال دولة السّلطان عبد المجيد بعد أن خرّف وذهب أكثر شعوره، وبها مات عن مئة وعشرين عاما.
وفيها جماعة من أعقاب السّيّد عقيل ابن سيّدنا عبد الرّحمن السّقّاف، منهم: عقيل بن أبي بكر.
ومن حوفة: آل باحبيشي، نجعوا إلى أسمرة، ومن ذرّيّتهم بها الآن أحمد وعمر وسعيد وسالم بنو عبيد باحبيشي، لهم تجارة واسعة، وثروة طائلة، ومآثر كريمة، منها: مكتبة بنوها إلى جانب جامع أسمرة، جمعوا لها نفائس الكتب وأعزّ دواوين الإسلام، ومن محاسنهم إجراء عين ماء إلى حوفة... إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق وجلائل الأعمال، ولكبيرهم أحمد شجاعة وصرامة وشهامة، وبعد عن الذّلّ واحتمال الضّيم، ولسالم تعلّق بالصّحف والأخبار إلى تواضع عند الجميع.
وفي حوفة جماعة من آل باضريس، يتّفقون بالنّسب مع أهل الغرفة؛ منهم الشّيخ أحمد بن عمر بن عبد الله بن عليّ باضريس، كريم الخيم، نقيّ الأديم، طاهر السّيرة، أبيض السّريرة، نجع إلى مكّة المشرّفة من نحو سبع وأربعين عاما، يحترف بالتّجارة، ومع ذلك.. فقلّما فاتته فريضة في المسجد الحرام، وعليه كان نزولي في سنة (1354 ه)، فبالغ في راحتي، وسهر على خدمتي حتّى كأنّني في أهلي، فأسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يجازيه عنّي بأفضل الجزاء وأن يتقبّل ذلك منه بفضله وجوده.
وفي حوفة كثير من آل باعيسى العموديّين، وهي مقرّ آل بلّحمر، ومنهم: المقدّم الحاليّ سعيد بن عمر بلّحمر، صاحب الرّئاسة العامّة على جميع سيبان، وقد فصّلنا
أخباره في «الأصل» ويأتي شيء منها في قيدون.
وقد سبق في دوعن أن أحلنا على ما هنا في تسمية دوعن بهذا الاسم، قال الطّيّب بامخرمة: (ودوعان مركّب؛ ف (دو) بكلام فارس: عدد اثنين، و (عان) المعدّ المرتفع من الأودية، وهذان العانان أحدهما يمنة والآخر يسرة، فالأيمن مدينة الخريبة ـ وقد تقدّم ذكرها في حرف الخاء ـ والأيسر مدينة الدّوفة، وسيأتي ذكرها في هذا الحرف) اه
وأهل وادي ليسر ينبزون مع مأثور شجاعتهم بشيء من اللّيونة في الكلام كآل دمّون الواقعة بأسفل حضرموت، قال أحد شعراء الأيسر:
«يا الله على روس ليسر من قنيف انبطح *** تسمع رعوده كما ضفع البقر طح طح »
وقد أغفلنا كثيرا من القرى الصّغيرة في الواديين؛ لقلّة الأهميّة، ولكنّني كلّفت الولد الفاضل محمّد بن سالم بن حفيظ بن عبد الله ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم مع زيارته الأخيرة إلى دوعن أن يسأل أهل الخبرة ويكتب لي ما يتلقّاه منهم، ففعل كما تراه في الكشف الّذي يلي:
اسم البلد /عدد السّكان بالتّقريب /القبائل السّاكنة من سادة ومشايخ وغيرهم
كوكه /30/قبائل من الحالكة، يقال لهم: البلاغيث
خديش /500/سادة آل بروم، وآل العموديّ، وقبائل من الحالكة، وسوقة وغيرهم.
بلاد الماء /700/آل بروم، وآل خرد، وآل العموديّ، والحالكة، والسّوقة
بضه /3000/آل العطّاس، وآل خرد، وآل الجفريّ، وآل العموديّ، والسّوقة
حصن باعبد الصّمد /150/آل خرد، وآل العموديّ، وسوقة
الجبيل وقرن باجندوح /500/آل الشّيخ بو بكر، وآل باقيس، وقثم، ونوّح، وسوقة
مطروح /600/آل باجمّال، وقثم، ونوّح
عرض باسويد /100/نوّح
ظاهر /200/نوّح
حزم آل خالد /20/آل العموديّ
حويبة /20/أخدام آل المحضار
حلبون /500/آل باقيس، وآل باجبع، وسوقة، وعبيد
القويرة /900/آل المحضار، وآل باحسين، وآل باجبع، وسوقة
الرّشيد /1000/آل الحبشيّ، وآل باناجة، وآل بازرعة، والخامعة
باشعيب /15/الخامعة
حصن باعوم /7/آل باعوم
ذي بحور /100/مشايخ يقال لهم: آل محسن
الخريبة /3800/آل البار، وآل العطّاس، وآل الجفريّ، وآل باهارون، وآل العيدروس، وآل الجيلانيّ، وآل باسودان، وآل باراس، وآل حنشل، وآل باحويرث، وآل باجنيد، وسوقة
عرض آل منصّر /60/آل العموديّ، وسوقة
حصن خشامر /1/ليس فيه إلّا امرأة واحدة من آل العموديّ
قرن باحكيم /800/آل باحكيم، وآل باحشوان، ودار من آل العطّاس، وسوقة.
الحسوسة /40/آل باشحبل، وآل بامعلّم، وسوقة
حصن تنسبه /0/فارغ
قرحة آل باحميش /200/آل باحميش، وسوقة
غيل باحكوم /60/آل باحكوم
قرن ماجد /170/آل العموديّ، وسوقة
غيل بلخير /200/آل بلخير، وآل باطرفيّ
قارة الخزب /50/آل بافنع
خسوفر /170/آل بغلف، وسوقة
حصن الجبوب /30/قثم
هدون /600/آل باشيخ، وآل باخشوين من سيبان، وسوقة
رحاب /1100/آل الجفريّ، وآل الحبشيّ، وآل باعبد الله، وآل شماخ، وسوقة
القرين /1700/آل البار، وآل بلفقيه، وآل بامشموس، وسوقة
عورة /600/آل باصرّة، وآل باشنفر، وسوقة
الشّقّ الشّرقيّ /70/الخامعة من سيبان
باجاس /5/من سيبان
شويطة /50/من سيبان
شرق وحصن باقعر /350/آل باسودان وذيابنة، وآل بامقر، وآل بن زيد
حصن باحكيم /0/فارغ
حصن المكعمة /1/جنديّ واحد فقط
حصن باصمّ /200/آل باصم من نوّح
منوه /40/سوقة
رباط باعشن /2500/آل العطّاس، وآل الحامد، وآل الصّافي، وآل باعشن، وآل باسندوة، وسوقة
ليسر العرسمة /700/آل باشميل، والحالكة، وسوقة
جحي الخنابشة /450/آل مقيبل سادة، وآل باجنيد، والخنابشة من سيبان
عرض باقار /60/آل باقار من قبائل بني حسن
عرض باهيثم /100/آل باهيثم
الجديدة /220/الخنابشة
جريف /... /سادة من آل باصرّة، وآل باهبريّ، وسوقة
صبيخ /1000/آل العطّاس، وآل العموديّ، والحالكة، والخنابشة، وسوقة
حصن بقشان /70/آل بقشان من الحالكة
المشقعة /150/آل باوزير
حصن بعسر /40/آل بعسر من سيبان
حصن ابن العمر /50/آل باسعد من الحالكة
تولبة /500/آل باعقيل، وآل العموديّ، وسوقة
حيد الجزيل /150/آل العموديّ
حصن الخنابشة /60/الخنابشة من سيبان
الدّوفة /900/آل مقيبل، وآل جمل اللّيل، وآل العموديّ، والخنابشة، وحالكة، وسوقة
خيله /150/الحالكة من سيبان
ضري /700/آل علويّ بن ناصر، وآل باوزير، وغيرهم
حوفة وعرض الحمران /1500/آل الجفريّ، وآل السّقّاف، وآل المحضار، وآل باصرّة، وآل العطّاس، وآل العموديّ، وحالكة من سيبان، وسوقة
خليف آل باعبود /50/آل العموديّ
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
19-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (قارة الحبوظي وقارة العر)
قارة الحبوظيّ وقارة العرّـ أمّا قارة الحبوظيّ: ففي سفح الجبل الشّماليّ، غربيّ صليلة، وشرقيّ حصون آل الصّقير. وفيها آثار عمارات قديمة، وبئر في أعلاها.
والحبوظيّ هو: صاحب ظفار، وقد استولى على حضرموت بأسرها في سنة (673 ه)، وله بها آثار ومنازل كثيرة للضّيفان، وصدقات جمّة تكرّر ذكرها في أعالي حضرموت، وأمّا في أسفلها.. فذكرها قليل إذا استثنينا: مسجد الحبوظيّ بتريم، وهذه القارة، ومكانا آخر بين العجز وتريم.
وما قلّة ذكر صدقات الحبوظيّ بأسفل حضرموت ـ فيما أراه ـ إلّا لكثرة خيانة النّظّار به أكثر ممّا بأعلاها.
وبنو حارثة ينقسمون إلى فرقتين:
الأولى: بنو حارثة الحبوظيّ، وسكناهم بهذه القارة وما يليها من الدّيار، ولا تزال لأعقابهم من آل خليفة أموال بصليلة وما حواليها؛ لأنّهم من بني حارثة الحبوظيّ.
والفرقة الأخرى: بنو حارثة العرّ؛ لأنّهم كانوا يسكنون القارة الّتي بسفح الجبل الجنوبيّ الّذي على يمين الذّاهب من الجهة الغربيّة إلى الحسيّسة وتاربه وما وراءهما.
وقد جاء في أخبار سنة (619 ه) أنّ عمر بن مهديّ أحد أمراء الرّسوليّين باليمن أعاد بناء قارة العرّ، ولن يعيده إلّا عن سابق بناء وانهدام.
وكان الشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف متزوّجا بها على امرأة من بني حارثة العرّ، وهي أمّ بنته عائشة، وله بها مسجد لا يزال موجودا إلى اليوم.
وصهر إليهم أيضا الشّيخ عمر المحضار، فمنهم أمّ بنته مريم.
وإليها ينسب السّيّد عبد الرّحمن بن عليّ بن الشّيخ محمّد بن حسن جمل اللّيل، فيقال: عبد الرّحمن قارة العرّ، وبها يسكن السّيّد علويّ بن عقيل.
وقد أشرنا في سيئون إلى قصّته مع الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة، وهي ما جاء في الحكاية (148) من «أنس السّالكين» للسّيّد باهارون: (أنّ السّيّد الشّريف علويّ بن عقيل بن أحمد بن أبي بكر السّكران بن عبد الرّحمن السّقّاف أقبل من العرّ إلى بور، فألفى السّلطان عبد الله بن جعفر والفقيه عمر بن عبد الله بامخرمة جلوسا على عصبيّ الجامع، فقال بامخرمة بصوت خافت، لا يمكن للسّيّد أن يسمعه: إنّك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا.
فدخل السّيّد علويّ إلى المسجد وصلّى ركعتين، ثمّ خرج إلى العصبيّ وضرب بامخرمة بنعاله، وقال لعبد الله بن جعفر: نحترمك، ولكن إذا لم ترسل لي بحمل برّ وحمل ذرة إلى بلاد العرّ بلاد سلطانة.. ترى ما يحدث عليك. فبعث له بذلك، وقال للشّيخ عمر بامخرمة: ما لك حاجة مع هؤلاء؛ فإنّهم مجبّرين) اه
وكان هذا السّيّد من أهل الأحوال المجاذيب. والله أعلم.
وجاء في حوادث سنة (918 ه) أنّ ولد عبد الله بن جعفر حصر العرّ، ثمّ أخذها قهرا، وأخرب ديارها ولم يبق إلّا المصنعة فقط.
وفي حوادث تلك السّنة هجم أولاد الفقير من بني حارثة على ديار أصحابهم بالعرّ، وأخذوا الحصن، ونهبوا بيوت أصحابهم وأحرقوها، وأخربوها ما عدا المصنعة، وكان أصحابهم يومئذ بالكسر غائبين عن العرّ. وهذا دليل على أنّ التّخريب الّذي كان من ولد عبد الله بن جعفر لم يستأصل ديار العرّ، وإلّا.. لما كان هذا.
والفقير في عرف السّابقين من مشايخ حضرموت من ترك السّلاح وتحكّم لأحد مشايخ التّصوّف إذ ذاك؛ كباعبّاد، وباقشير، والفقيه المقدّم محمّد بن عليّ باعلويّ، والشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ.
وللعرّ ـ وهو جبل على مقربة من أرض البيضاء كما يفهم من رحلة الشّيخ عمر صالح بن هرهرة ـ ذكر كثير في الحروب الّتي جرت بين الإمام ويافع في سنة (1104 ه). وفي الحيمة من أرض اليمن مكان يقال له: (العر) أيضا.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
20-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (المسنده وما وراءها إلى عينات)
المسنّده وما وراءها إلى عيناتإذا خرج الخارج من تريم وذهب شرقا.. فأوّل ما يكون عن يمينه: المسنده، وإليها تنسب الحرب التّميميّة الكثيريّة، فيقال: (حرب المسنّدة)، ومن حديثها بالاختصار:
أنّه لمّا استقرّ عبود بن سالم في تريم.. طمع في مثاوي آل تميم، وكان يتوهّم سهولة إخضاعهم؛ لما كان يسمع به من غطرسة عبد الله عوض غرامة عليهم واحتمالهم إيّاها، ولمّا قرع النّبع بالنّبع.. أبت عيدانه أن تكسر، ودامت الحرب بينهم سبع سنين ـ وقد سبق في سيئون أنّ السّلطان غالب بن محسن قدم من الهند إلى تاربه غرّة جمادى الثّانية من سنة (1272 ه)، وبقيت تلك الفتنة إلى سنة (1274 ه)، حيث انعقد الصّلح لمدّة سبع سنين على شروط؛ منها: أن يدفع السّلطان غالب بن محسن عشرة آلاف ريال فرانصة غرامة الحرب للمقدّم أحمد بن عبد الله بن يمانيّ قائد رئاسة آل تميم.
وحدّدت بينهم يومئذ الحدود، ومن ذلك اليوم تحرّر آل تميم، وامتدّ سلطان المقدّم من شرقيّ تريم إلى ما وراء قبر نبيّ الله هود عليه السّلام، وتمرّن آل تميم على الحرب والضّرب، ونجّذهم عليها اختلاطهم بيافع؛ فكثيرا ما يهزّ آل كثير بالحملة في تلك الفتنة على آل تميم فينهزمون، ولكن متى حضر عندهم آل الظّبي من سيئون فهزّوا عليهم بالحملة سمعوا صليل سيوف آل الظّبي عند سلّها.. أحجموا وقالوا: إنّ في المكان غير أهله.
ولبس التّميميّون من بعد ذلك جلود النّمور، وعادوا أبطالا لا يهابون الموت، ولا تتخاذل أرجلهم عند الصّوت، وصار أكثر أهل تريم تحت رحمة آل تميم؛ لأنّ أكثر أموالهم تحت سيطرتهم، وكانوا يأخذون منها الشّيء الكثير، حتّى تواضعوا هم وإيّاهم بواسطة السّيّد حسين بن حامد المحضار وزير القعيطيّ على الخمس، وكتبت بينهم الوثائق بذلك.
ولمّا انبسط نفوذ آل عبد الله بواسطة الحكومة الإنكليزيّة وساعدهم القعيطيّ.. منعوا آل تميم من ذلك الرّسم، وحرّرت في ذلك فتوى من الشّيخ فضل بن عبد الله عرفان، وصادق عليها الجمّاء الغفير، وكنت ممّن صادق عليها عن غير تروّ ولا يزال ذلك مشكلا عليّ؛ لأنّني إذا رأيت ما جاء في غير موضع من «مجموع الأجداد»: (أنّ رجلا بيده نخل يقاسم آخر في ثمرته سنين، ثمّ امتنع بالآخرة وقال: لا أعطيك شيئا من ثمرته إذ لا حقّ لك فيها ولا في النّخل، فأقام المدّعي بيّنة بأنّه يقاسمه سنينا عديدة على الرّبع مثلا.. كان القول قول صاحب النّخل بيمينه، وإقامة البيّنة من المدّعي بمجرّد المقاسمة غير مسموعة، فلا يحكم له بشيء من النّخل ولا من ثمرته) اه بمعناه.
ويؤيّده ما في فقه السّادة الزّيديّة من أنّ الحقّ لا يثبت بالبيّنة باليد كما في (ص 135 ج 4) من «شرح الأزهار»، ويزيده قوّة قول جدّي علّامة وادي الأحقاف علويّ بن سقّاف: (وليس لشارح ولا لحرّاث ولا لمفخّط يد).
إذا رأيت مثل هذا.. سكن خاطري، ولكن يختلجني الشّكّ إذا رأيت قول «التّحفة» في (زكاة النّبات) [3 / 243]: (وصرّح أئمّتنا بأنّ النّواحي الّتي يؤخذ الخراج من أراضيها ولا يعلم أصله.. يحكم بجواز أخذه؛ لأنّ الظّاهر أنّه بحقّ). ونحوه في (البيع). ونحوه قولها في مبحث (أحكام الذّمّة): (والأراضي الّتي عليها خراج لا يعرف أصله.. يحكم بحلّ أخذه؛ لاحتمال أنّه وضع بحقّ).
وما جاء في «النّهاية» و «فتاوى ابن حجر» من قولهما: (إنّه لا يجوز لمالك جدار هدمه وفيه كوّة ينزل منها الضّوء إلى دار جاره؛ لاحتمال أنّ فتحها كان له بحقّ) اه.. فإنّها كالصّريح في خلاف الأوّل، لا سيّما وقد رأيت في بعض الوثائق القديمة أنّها مشتراة من باب السّلطنة، فدلّ ذلك على أنّه خراج سلطانيّ يباع ويشترى.
وفي «بستان العجائب» للسّيّد محمّد بن سقّاف ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم أنّه:
(كان لآل بن يحيى مال بالعجز، ساوم فيه الحبيب شيخ بن أحمد، فقالت له الشّريفة علويّة بنت الشّيخ عليّ بن أحمد: يا عمّ شيخ، لا تشتر مال الدّيوان لآل أحمد بن عليّ.
قال: إنّه مال واسع رخيص الثّمن. قالت له: لا تطفىء نورنا بنار الدّيوان. فترك ذلك ولم يشتره) اه
وفيه قيام الشّبهة مع اطّراد العادة ببيعه وشرائه.
فإن قيل: هلّا يكون ما اشتهر من انبناء اليد على الشّراحة كافيا في عدم اعتبار ترتّب اليد؟ قلت: غاية ما يمكن من ذلك الاشتهار بالتّرك أن يكون بمثابة الخبر الصّحيح، وقد صرّح ابن حجر بأنّه لا يرفع اليد الّتي لا يعرف أصلها ما لم يكن معه إقرار أو بيّنة، وقد بسطت القول على هذا في المسألتين (1418) و (1474) من «صوب الرّكام».
ثمّ رأيت الكبسيّ نقل في «تاريخه» عن كلّ من الخزرجيّ والجنديّ: أنّ طغتكين بن أيوب لمّا استولى على اليمن.. دعته نفسه إلى شراء أرضهم بأسرها، وأمر المثمّنين أن يثمّنوها لتكون الأرض كلّها للحكومة بعد دفع ثمنها، ومن أراد حرث شيء منها.. فليصل إلى الدّيوان، وليستأجر من وكلاء الحكومة، ولكن عاجلته المنيّة دون تنفيذ ذلك باليمن، ومعلوم أنّه وصل إلى حضرموت.
وأنّ موته لم يكن إلّا بعد رجوعه عنها، فلعلّه قد نفّذ فيها هذه الفكرة؛ لأنّ أهلها عبيد من غلبهم من غيرهم، فلن يمتنعوا من شيء، تصداق قول مروان بن أبي حفصة يخاطب معنا [في «ديوانه» 75 من الطّويل]:
«وطئت خدود الحضرميّين وطأة *** بها ما بنو من عزّة قد تضعضعا»
«فأقعوا على الأستاه إقعاء معشر *** يرون اتّباع الذّلّ أولى وأنفعا»
«فلو مدّت الأيدي إلى الحرب كلّها *** لكفّوا وما مدّوا إلى الحرب إصبعا»
وأخرى: وهي أنّ النّجير وخبايه وأعمالهما فتحتا عنوة، فيأتي فيهما ما يأتي في سواد العراق.
ومن وراء المسنّده إلى الشّرق: خبايه
وفيها كانت رياض القطا، بشهادة قول ياقوت [3 / 109]: (والرّياض علم لأرض باليمن، كانت بها واقعة للبيد بن زياد البياضيّ بردّة كندة أيّام أبي بكر رضي الله عنه).
وقال الشّاعر [من المتقارب]:
«فما روضة من رياض القطا *** ألمّ بها عارض ممطر»
ومع هذا فقد تشكّك في [3 / 93 ـ 94] في موضع روض القطا، وذكر قول الأخطل [في «ديوانه» 230 من الطّويل]:
«وبالمعرسانيّات حلّ وأرزمت *** بروض القطا منه مطافيل حفّل »
ولعلّه متعدّد في جهات كثيرة.
وفي خبايه جماعة من آل قصير، ومن أخبارهم: أنّ اثنين من آل قصير وآل الجحيل ـ وهما ابنا مسعد بن عوض ـ وآخر من آل دحدح أهل خبايه ساروا إلى دمّون في طلب صلح من آل سلمه، وأخذوا معهم ولدا صغيرا جدّا من سوق تريم، ولمّا انتهوا إلى دمّون.. طلبوا منهم الصّلح في قتيل عندهم لآل سلمه طفل، فقال آل سلمه: سنتشاور، فقال لهم أحد آل قصير: باتشاورون نساكم. فغضبوا وقتلوا آل قصير، فبعث آل مرساف إلى حيمد سعيّد دلّال تريم: هل يلزمهم عار من وجود طفلهم مع آل قصير. فلم يكن إلّا إرسال ثلاث سود لهم، فحطّوا على آل سلمه ودخلوا الفجير، فأحاط بهم آل سلمه، فركبوا اللّيل وأخذوا على آل عبد الشّيخ بالمسيله، وأقاموا بها سبع سنين والحرب قائمة بينهم وبين آل سلمه، وقتل فيها نحو من أربعين ما بين قبائل ومساكين.
ومن المشهور: أنّ السّيول لا تفيض عنها وإن كثرت، ومن أمثال العامّة: (ماء خباية فيها ولا يكفيها)، وبعضهم يحمله على القلّة، وآخرون يقولون: إنّ بها أرصادا تمنع ذلك، وليس بأغرب ممّا ذكرناه في مواضعه عن سدبه والقارة واللّسك.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
21-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (عينات)
عيناتمن أشهر قرى حضرموت، على نحو ثلث مرحلة من تريم. وأوّل من اختطّها آل كثير في سنة (629 ه).
وفي سنة (787 ه) هجم آل الصّبرات على عينات وأخربوها، وقتلوا سبعة من آل كثير حواليها، وساعدهم راصع على ذلك.
وفي سنة (817 ه) بنى آل كثير عينات، ثمّ أخربها آل أحمد في تلك السّنة نفسها، وقتلوا ثمانية: اثنين من آل كثير وخمسة عبيد ورام، وكثيرا ما تقلّبت بها الأحوال، وأضرّت بها الحروب الواقعة بين آل كثير وآل يمانيّ والصّبرات والغزّ، حسبما فصّل بعضه في «الأصل»، وقد اندثرت ولم يبق إلّا آثارها البالية، هذه هي عينات القديمة.
وأمّا الجديدة: فأوّل من بنى بها ركن الإسلام، وعلم الأعلام، الشّيخ أبو بكر بن سالم بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن عبد الرّحمن السّقّاف، المتوفّى بها سنة (992 ه)، وقد ترجمه الشّلّيّ في «المشرع» [2 / 58] و «السّنا الباهر» [حوادث 992 ه]، وأفرد مناقبه العلّامة ابن سراج وغيره بالتّأليف، وهو بالحقيقة في غنى ـ بشهرته الّتي تغني ـ عن التّعريف.
«تجاوز قدر المدح حتّى كأنّه *** بأكبر ما يثنى عليه يعاب »
وفي «الرّياض المؤنقة» للعلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس: (أنّ سيّدنا الشّيخ أبا بكر بن سالم ابتلي بعلّة البرص، وأنّ تلميذه أحمد بن سهل بن إسحاق انتقده.. فأصابه الكثير من ذلك حتّى صار يقال له: هرّ اليمن) اه
ومن خطّ سيّدي عبد الرّحمن بن عليّ بن الأستاذ الحدّاد: (أنّ المتعلّق بالشّيخ مع البعد أحسن من الحاضر عنده؛ لغلبة رؤية البشريّة على الحاضر، وقد قال الشّيخ أبو بكر بن سالم: لو سألت الله ـ أو قال ـ لو تشفّعت في أحد من الكفّار ولعيالي وأخدامي.. لرجوت الإجابة لأولئك الكفّار؛ لأنّ المخامرة تذهب الاحترام) اه مختصرا
ولمّا مات.. وقع رداؤه على ابنه عمر المحضار.
ومن كلامه: (ما ابتلي أهل حضرموت إلّا بقدحهم في الشّيخ أبي بكر بن سالم، وما شكّوا في ولايته إلّا لسوء حظّهم، ولكنّه كفي شرّهم بالعطاء وبغيره، وكلّ من شكّ في الشّيخ أبي بكر.. فهو اليوم يبغضني ويراني خصمه، بل زادوا وطعنوا في العرض، ولكنّنا نرثي لهم، وندعو لهم) اه
وفيه فوائد؛ منها: أنّ الاتّفاق لم ينعقد على فضل الشّيخ أبي بكر إلّا في الزّمان المتأخّر، وإلّا.. فالنّاس كالنّاس، ولا يزالون مختلفين.
توفّي بعينات سنة (997 ه)، وله أعقاب منتشرون بمرخة وبيحان، وروضة بني إسرائيل، وحبّان وخمور والهند، وجاوة ودوعن وغيرها.
ومنهم: السّيّد حسين بن محمّد بن عليّ بن عمر المحضار، وصل إلى مسورة أرض الرّصاص فاقترن بابنة السّلطان، فأقطعه مكانا بمرخة يسمّى الهجر، لا يزال إلى يومنا هذا، والمحاضير فيه على استقلالهم.
وقد سبق في بالحاف وبير عليّ أنّ منصبهم في سنة (1349 ه) أمضى على الوثيقة الّتي وقّع عليها أعيان تلك الجهات وسلاطينها بالسّمع والطّاعة لي وكفاني الله شرّ الفتن برأي مولانا الإمام يحيى حسبما تقدّم.
ومنهم آل درعان: السّيّد أحمد المحضار، وأولاده: مساعد وسالم، لهم أخبار في النّجدة والشّجاعة تنفخ الأدمغة، وتملأ الأفئدة.
ولهم خيل عتيقة؛ منها: الكويخه، لها خبر وعلم.
وللسّيّد أحمد بن درعان هذا وفادة إلى حضرموت، ونزل بالقويرة على نسيبه الإمام أحمد بن محمّد المحضار، وطال ثواؤه حتّى ملّ، وسبب ذلك أنّه لا يمكن انصرافه إلّا بجائزة، وفي عيش الإمام المحضار يبس إذ ذاك، فلم يجد حيلة إلّا أن قال له: نريد إكرامك، لكن ما لدينا شيء إلّا ثمانيه ريال عند غريم مماطل، قال له: أعطني تحويلا عليه وسأخرجها من عينه، فأحاله على صديق لا يزال عنده بالقويرة صباح مساء من آل بروم، فلمّا أقبل على داره وهو بظهر الكويخة.. سرّ وظنّ معه خيرا، ولمّا عرف باطن الأمر.. قال: لا شيء عندي للحبيب أحمد، قال له: ما كان ليكذب، وقد أخبرني بمطلك، ولئن لم تدفعها.. لأوجرنّك سنان هذا الرّمح، فخرج ليهرب، ولكنّ ابن درعان قد أغلق السّدّة وأخذ المفتاح، فصعد إلى سطح داره يصيح، حتّى اجتمع الجيران، فأشرف عليهم ابن درعان وقال: لا أخرج إلّا بالثمانية الريال بعد الغداء، فعملوا له غداء ونقدوه المبلغ، فتوجّه إلى عينات، ثمّ عاد إلى القويرة، ومنها ركب إلى مرخة.
ثمّ إنّ الشّيخ عمر المحضار عزم على حمل السّلاح لصدّ عوادي الظّلمة، فلم يوافقه إخوانه، فنزل برضى منهم بأن يخلفه أخوه الحسين.
«أعزّ وأتقى ابني نزار بن يعرب *** وأوثقهم عقدا بقول لسان »
«وأوفاهم عهدا وأطولهم يدا *** وأعلاهم فعلا بكلّ مكان »
ترجمه الشّلّيّ في «المشرع» [3 / 210 ـ 212] ووهم في قوله: (إنّه ولي الأمر بعد أبيه)؛ لأنّه لم يله كما قدّمنا إلّا بعد أخيه.
وبعد أن تربّع على كرسيّ المنصبة.. حصل عليه أذى من آل كثير، فسار إلى مكّة وأقام بها سبع سنين قدم في أثناءها رؤساء يافع إلى مكّة وكان حصل عليهم تعب من الزّيديّة، فتأكّدت بينه وبينهم الألفة، وتأطّدت قواعد الحلف، ووعدوه إن نصرهم الله أن يأخذوا بيده، وقد سبق القول بأنّهم وصلوا في أيّامه إلى حضرموت.
توفّي بعينات سنة (1044 ه). ووقعت عمامته على ولده أحمد، وقام بمقام أبيه أحسن قيام إلى أن توفّي، فاجتمع رأي السّادة على تقديم ابنه سالم السّابق ذكره في الغيضة، وكثرت الخيرات في أيّامه، واتّسع جاهه، وأكثره من أرض الظّاهر وجبل يافع، وحصلت له أموال طائلة.
ثمّ إنّ الزّيديّة استولت على يافع فانقطع المدد منها، ولمّا انتهى إليه عزم الزّيديّة على غزو حضرموت.. ارتحل إلى الحجاز، فحجّ ثمّ استقرّ بالغيضة وسار معه بأهله، وبعد أن أقام بالغيضة أحد عشر شهرا.. اجتوتها زوجته فاطمة بنت محمّد بن شيخ بن أحمد فأذن لها في الرّجوع إلى عينات مع ابنه عليّ بن سالم، وتنازل له عن ولاية عينات، وأباح له أمواله بحضرموت، وكان يرسل له فوق ذلك بما يكفيه، لكلف المنصبة.
وكانت له أراض واسعة من عينات إلى العرّ ترعى بها مواشيه ونعمه، وكان يشرك السّادة آل الشّيخ أبي بكر فيما يصل إليه من الفتوح.
وبإثر انصراف الزّيديّة عن حضرموت.. أراده النّاس على الرّجوع إليها، فلم يرض.
وبعضهم يزعم أنّ الشّيخ عمر بامخرمة لحظه بطرف الغيب، إذ يقول:
«سلّم الأمر يا سالم وخلّ الحراره *** خلّ ذا الكون يا بن احمد على الله مداره »
«عاد ربّ السّما يعطف علينا بغاره *** يوم قالوا لنا الزّيدي تولّى (شهاره) »
لأنّ شهارة حافّة معروفة بسيئون، والأمر محتمل؛ فإنّ للشّيخ عمر فراسات كثيرة صادقة، ولكنّ شهارة من ثغور اليمن في غربيّ صنعاء استولى عليها إمام الزّيديّة في أيّام الشّيخ عمر بامخرمة. توفّي الحبيب سالم بن أحمد بالغيضة سنة (1077 ه).
وبإثر موته أحضر ولده عليّ سائر إخوانه وكتب للغائبين منهم، وقال لهم: إنّني لا أقدر على القيام بأعباء المنصبة إلّا بأموال والدي، وقد صارت لكم، فخذوها وأقيموا من تحبّون. فقالوا له: بل أبحناها لك كما كان أباحها لك أبونا، ولا تزد عمّا كنت تنفقه علينا في أيّامه.
وقد أدرك الحبيب عليّ بن سالم عاما من حياة جدّ أبيه الحسين، وفي أيّامه عاد الظّاهر وجبل يافع لأهله بواسطة السّلطان معوضة بن سيف بن عفيف والسّلطان صالح بن أحمد بن هرهرة فدرّت الأموال عليه، وقال لإخوانه: اقتسموا ما تركه أبوكم؛ فقد أغنانا الله عنه. وأبقى ما كان يجريه عليهم. توفّي سنة (1096 ه) عن إحدى وخمسين سنة، وكانت إقامته بالمنصبة ثمانية عشر عاما.
وخلفه ولده أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين، فقام بالمنصبة وسنّه نحو العشرين، وأعانه عليها السّيّد شيخ بن أحمد بن الحسين. توفّي أحمد هذا سنة (1111 ه)، بعد أن مكث في المنصبة خمسة عشر عاما.
وخلفه عليها ولده عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم، واتّسع جاهه بسبب اتّساع نفوذ يافع في أيّامه، حتّى لقد كان الشّعيب المشهور بحسن ماء ورده إقطاعا له.
وكان شديد الورع والتّواضع، وساء التّفاهم بينه وبين القطب الحدّاد بسبب واش من الطّغام قال له: إنّ الحدّاد يحاول منصبا مثل منصب جدّك الشّيخ أبي بكر بن سالم، ويزعم أنّه أفضل منه.
فلم يكن من القطب الحدّاد إلّا أن ورده للترضية إلى عينات، وبعد الإيناس قال له: إنّي سائلك: هل خزائن الله ملأى أم لا؟ فقال: بل ملأى.
قال له: وهل ينقصه أن يعطي أحدا مثل ما أعطى الشّيخ أبا بكر؟ فقال له: لا. فقال الحدّاد: إنّ الّذي أعطى الشّيخ أبا بكر يعطينا من الهداية، ويعطيك ويعطي غيرنا مثل ما أعطاه.
فاعتبر السّيّد أحمد وجعل يلطّخ الحدّاد بزباد من وعاء كبير حتّى نفد وهو ذاهب عن شعوره. ثمّ كان يزور الحدّاد في كلّ أسبوع أو في كلّ شهر مع كثرة أشغاله وعظم منصبه، ويستغرق سحابة اليوم في قراءة الكتب النّافعة عليه، وفي أوّل قدمة قدمها على الحدّاد قال ـ أعني الحدّاد ـ [من الوافر]:
«جزاك الله عن ذا السّعي خيرا *** ولكن جئت في الزّمن الأخير»
وإليه الإشارة بقوله من الأخرى [في «ديوانه» 177 من الرّمل]:
«زارني بعد الجفا ظبي النّجود ***...»
وفي كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط ما يفيد أنّ صاحب القصّة مع القطب الحدّاد هو السّيّد محسن بن حسين ابن الشّيخ أبي بكر، ولعلّ الكاتب وهم في ذلك؛ لأنّ الصّواب هو ما ذكرناه.
والحبيب أحمد بن عليّ هذا هو الّذي كتب للسّلطان عمر صالح بن أحمد ابن الشّيخ عليّ هرهرة ليخرج إلى حضرموت لمّا كثرت بها المظالم والفوضويّة، كذا في «بستان العجائب» [ص 31] للسّيّد محمّد بن سقّاف.
والّذي ب «الأصل» عن الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم ابن قاضي في ترجمته للسّيّد شيخ بن أحمد ما يصرّح بأنّه هو الّذي تولّى الأمر بعد أبيه، وأنّه هو الّذي كتب ليافع مساعدة لبدر بن محمّد المردوف على عمر بن جعفر، وأنّه توفّي سنة (1119 ه) وأنّ أخاه عليّا إنّما تولّى بعده، وهذا هو الأثبت.
ثمّ إنّي اطّلعت بعد هذا على «رحلة عمر بن صالح»، وفيها ما حاصله: (كان نهوضنا إلى حضرموت في أوّل شهر القعدة سنة (1117 ه)، كتب إلينا مولانا وسيّدنا وصاحب أمرنا قطب الحقيقة والطّريقة، الشّيخ الحبيب: عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين بن الشّيخ أبي بكر بن سالم أن نخرج إلى حضرموت؛ لأنّ السّلطان عمر بن جعفر طغى وبغى، وعظّم شعائر الزّيديّة، واستولى على الشّحر، وهرب السّلطان عيسى بن بدر إلى عينات، فهجم عليه بها هو ومن معه من الزّيديّة، وأخذه منها قهرا، واستولى على حضرموت كلّها، وأرسل بعيسى بن بدر إلى عند الإمام، ثمّ انكفأ على آل همّام ويافع الّذين بالشّحر وحضرموت، فأخرجهم من القلاع، وسلّمها للزّيديّة، واستهان بالسّادة، فعند ذلك عزمنا)... ثمّ استاق (الرّحلة) إلى آخرها.
توفّي الحبيب عليّ بن أحمد بعينات سنة (1142 ه).
وخلفه على المنصبة ابنه أحمد بن عليّ بن أحمد، وكان مضيافا يذبح كلّ يوم ستّا من الأغنام، سوى ما يذبحه للواردين، وله ولوع شديد بالقنص، وكان كريما شفيقا، حتّى لقد غضبت عليه زوجته أمّ أكبر أولاده بنت آل يحيى من زواجه بغيرها، وأبت أن تعود إلّا بمئة دينار، ولمّا حصّلها.. آذنهم فعملوا ضيافة عامّة دعوا إليها أهل عينات أجمعين، فبينا هو ذاهب إليهم.. سمع امرأة تقول من حيث لا تراه: نحن جائعون عارون ولا عيد لي ولا لأيتامي، وأحمد بن عليّ بايدفع لبنت آل يحيى مئة دينار! !
فظهر عليها ورماها بالصّرّة، وقال لها: حلال لك حرام على بنت آل يحيى.
فامتنعت من قبولها لعلمها بالمهمّة، فلم يأخذها منها، وبعث لآل يحيى بالاعتذار، فعظم الأمر عليهم وأخبروا بنتهم، فقالت: إنّي لأعلم أنّه لا يخلف وعدا، ولا يبيت على جنابة، ولا يأكل إلّا مع ضيف، ولن يتأخّر إلّا لمهمّ. وبحثت عن الواقع حتّى عرفته، فذهبت هي وأولادها إليه، فكاد يجنّ جنونه من الفرح؛ لأنّه بها مغرم، وشكرته على صنيعه، وقالت له: إن لم تزر.. زرناك.
وقد ترجمه الجنيد في «النّور المزهر» توفّي سنة (1177 ه)، وفي «شمس الظّهيرة» أنّ وفاته كانت في السّجود وهو يصلّي الظّهر.
وفي كلام سيّدي الأستاذ الّذي جمعه والدي: (أنّ سبب وفاته أنّ سبخة لسعته في جبهته وهو يصلّي الظّهر فمات).
وفيه أيضا: (أنّ العلّامة الشّيخ عبد الرّحمن بن أحمد باوزير كان يتحرّج عن طعامه حتّى جاء الحبيب طاهر بن محمّد بن هاشم فأخبره بما في نفسه، فقال له: إنّه صاحب الوقت، له الحقّ في أموال المسلمين) اه
وخلفه ولده سالم بن أحمد بن عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين، وكان أبيض السّريرة، لا يعرف شيئا من أمر الدّنيا، وهو الّذي وصلت مواساة صاحب المغرب لسادات حضرموت في أيّامه، واختلفت الرّواية:
فالّذي قاله السّيّد محمّد بن سقّاف أنّه رضي بأكياس الدّراهم الحريريّة المزركشة بالفضة قياضا عمّا له ولأسرته منها.
والّذي قال غيره: أنّه أراد الاستئثار بجميعها، فما زالوا به حتّى اقتنع بالأكياس زيادة عن نصيبه مثل النّاس.
وفي أيّامه طلبت يافع بتريم مواساة من أهلها فثقلت عليهم، فذهب أحد آل شاميّ بهديّة تافهة إلّا أنّها ملوّنة، فعزم على يافع أن لا يأخذوا شيئا فانتهوا، وكذلك الحال كان في العام الّذي بعده. توفّي سنة (1211 ه).
وخلفه ابنه أحمد بن سالم، وكان كثير الخيرات والمبرّات، وفي أيّامه كان وصول الوهّابيّة إلى حضرموت بطلب من بعض السّادة وآل كثير، ولم يكن لهم عسكر كثير، وإنّما كانوا ينشرون دعوتهم فيستجيب لهم النّاس، وكان ممّن استجاب لهم: آل عليّ جابر بخشامر غربيّ شبام، وبعض السّادة، وبعض آل كثير، وعبد الله عوض غرامة بتريم. فتمكّنوا بذلك من هدم القباب وتسوية القبور.
ولمّا علم الحبيب أحمد بن سالم بوصولهم إلى تريم.. استدعى منصب آل الحامد السّيّد سالم بن أحمد بن عيدروس، واتّفقوا على الدّفاع عن عينات. واستدعى الحبيب أحمد من أطاعه من يافع وآل تميم، والحبيب سالم من أطاعه من الصّيعر والمناهيل.
ولمّا علمت الوهّابيّة وغرامة بذلك.. كتب الأخير كتابا للمنصبين يقول لهم فيه: (إنّ ابن قملا وصل بقوم ـ ما تعقل ـ من القبلة، وقصدهم دخول عينات، وإن دخلوا.. بايخربون قباب مشايخنا ومناصبنا، والأولى أن تصلون أنتم ويكون الاتّفاق، واحتملوا المشقّة في الوصول، وهذه منّا نصيحة ومحبّة وشفقة، وما يشقّ عليكم يشقّ علينا..) في كلام طويل.
وكانوا يعرفون محبّته وموالاته لهم فاطمأنّوا بكتابه، فوصلوا إلى تريم، وألقوا عليهم القبض، وألقوهم تحت المراقبة، وأرسلوا العسكر إلى عينات، وقالوا لأهل عينات: إن أحدثتم أدنى أمر.. بعثنا لكم برؤوس المناصب. فتركوهم يفعلون ما شاؤوا، وخافوا منهم خوفا شديدا، وكلّفوهم غرامة شديدة دفعوا فيها حليّ نسائهم.
ثمّ إنّ آل قملا تصادقوا هم والمقدّم عبد الله بن أحمد بن عبد الله ففتح لهم الطّريق إلى شعب نبيّ الله هود عليه السّلام.. فهدموا قبّته.
وبإثر رجوع آل قملا من الجهة الحدريّة.. أطلق غرامة سراح المناصب.
ولا يشكل نسبة كبر الأمر إلى عبد الله عوض غرامة، مع أنّ ذلك كان في أيّام عمّه؛ لاحتمال أنّه غلبه على رأيه أو استماله إليه، وبقي عنده فيه شكّ أو مجاملة فألقى عهدته على عبد الله عوض.
وبإثر وصول الحبيب أحمد بن سالم إلى عينات.. أرسل ولده أبا بكر إلى جبل يافع، وأتى بأقوام، وأذكى نار الحرب على غرامة، وضيّق عليه الخناق.
هذا ما يقوله السّيّد محمّد بن سقّاف، وفيه خلاف أو تفصيل لما في شرح بيت آل تميم من «الأصل»؛ إذ الّذي فيه: أنّ السّيّد أبا بكر بن أحمد إنّما ينهض إلى يافع ليأتي بقوم يحارب بهم السّيّد سالم بن أحمد الحامد، وأنّهم لمّا وصلوا تريم بعد اللّتيّا واللّتي في أوّل رمضان من سنة (1237 ه).. أرضوهم بخمس مئة ريال فرّقوها على سيئون وتريم وعينات، ولم يكن حرب، والله أعلم أيّ ذلك كان. مع أنّه لا يبعد أنّ الحبيب أرسل ابنه أبا بكر إلى يافع مرّتين؛ أوّلا: لحرب غرامة، وثانيا: لحرب السّيّد سالم، ولم يكن بالآخرة قتال.
وفي «الأصل» عن الجنيد: أنّه انتقد على الحبيب أحمد بن سالم هذا كثرة حروبه مع قوّته في العبادة وصيامه للأشهر الحرم، وأنّ الحبيب طاهر بن حسين أجابه بما يزيل سوء ظنّه به، فليكشف منه.
ومن هذا المنصب كانت تولية القضاء لجدّنا محسن بن علويّ بسيئون وأعمالها بوثيقة محرّرة في ذلك بتاريخ محرّم سنة (1236 ه)، وفي ذلك ما يدلّ على نفوذ أمره، واتّساع سلطانه، ودخول يافع تحت طاعته.
وقد حجّ الحبيب أحمد بن سالم، وأكرم شريف مكّة وفادته، وأهداه كسوة فاخرة، وفرسا عربيّة محلّاة، وألفا وخمس مئة من الرّيالات الفرانصة. وكانت له نفقات جليلة، وصدقات جزيلة. توفّي سنة (1242 ه).
ووقع رداؤه على ابنه أبي بكر، وكانت له عبادة ومحاسن وإيثار للسّلم، فاصطلح هو وابن يمانيّ والمناهيل وأهدروا الدّماء الّتي طلّت بينهم، ولكنّ يافعا أساءت عليه الأدب، ونهبوا في عينات، ووصل إلى سيئون ليصلح بينهم.. فلم يقبلوا له كلاما. توفّي سنة (1261 ه).
وقام في مقامه ابنه سقّاف بن أبي بكر بن أحمد بن سالم وفي أيّامه انتشر الجهل، فحرص الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر على كشف غمراته، فبعث بالحبيب عمر بن عبد الله بن يحيى فلم يحسن سياستهم، فردّوه مكسور الخاطر، ثمّ إنّ جدّي المحسن زار شعب المهاجر فلاقى به بعض أبناء الحبيب عبد الله بن حسين، فزيّن له زيارة أبيه، فتوجّهوا معا إلى المسيله، فكلف عليه الحبيب عبد الله أن يذهب إلى عينات ليذكر آل الشّيخ، فاعتذر أوّلا بأنّ معه صغار أولاده، فلم يقبل له عذرا، فذهب وأقام لديهم أربعين يوما، وحصل به نفع عظيم لا يحصل مثله في أعداد من السّنين؛ لأنّ قلوبهم سليمة، وأذهانهم نقيّة.
وفي أيّامه وصل السّيّد عمر بن عليّ بو علامة ـ السّابق ذكره في المكلّا ـ إلى عينات، وسار هو وإيّاه إلى دوعن.
ثمّ حجّ في سنة (1280 ه)، وتوفّي سنة (1283 ه)، وابنه سالم في بندر المكلّا، فنادوا به مع غيابه منصبا ساعة دفن أبيه، وكتبوا له وللنّقيب صلاح بن محمّد الكساديّ وأولاد عمر بن عوض القعيطيّ وهم مجتمعون بالمكلّا، وعندهم يافع من الجبل ومن حضرموت، وناس من الأعجام المسلمين، يقال لهم: الرّويلة، من كابل، يريدون بذلك إخراج غالب بن محسن الكثيريّ من الشّحر، فتمّ لهم ما يريدون.
وكان الحبيب سالم هذا أدّى نسكه مع أبيه، ثمّ توفّي سنة (1295 ه).
ونادوا بابنه أحمد منصبا مع أنّ سنّه لم يكن يومئذ إلّا تسعا، فكان كما قال مروان بن أبي حفصة [في «ديوانه» 75 من الطّويل]:
«فبانت خصال الخير فيه وأكملت *** وما بلغت خمسا سنوه وأربعا»
وكان عمّه الفاضل السّيّد محمّد بن سقّاف غائبا بجاوة، فترك كلّ شيء وخفّ إلى حضرموت اهتماما بتعليمه.
وفي حدود سنة (1306 ه) اتّصل ـ بواسطة عمّه محمّد والسّيّد بو بكر منصب الآتي ذكره ـ بسيّدي الأستاذ الأبرّ اتّصالا أكيدا، ولبس منه، وأخذ عنه، وتحكّم له، وعهدي به وهو ماثل بين يدي الأستاذ في مصلّى والدي بعلم بدر من أرباض سيئون مع أنّه من عشيّة اللّيلة الّتي مثل في صباحها بين يدي سيّدي الأبرّ كان يمشي إلى حفل المولد العامّ، وشيوخ العلويّين ـ ومنهم الأستاذ ـ يمشون وراءه كما يقول الوالد مصطفى المحضار عن مشاهدة، وهو المقدّم عليهم في القعود والقيام.
وفي ذلك العهد كان وصول الفاضل الجليل المنصب أبي بكر بن عبد الرّحمن بن أبي بكر، من ذرّيّة الحبيب عبد الله بن شيخان ابن الشّيخ أبي بكر صاحب لامو إلى حضرة الأستاذ، وهو رجل شهم، ذو أيد وقوّة، فلقد شهدت سيّدي الأستاذ الأبرّ تحت نخلة من بستاننا ظليلة بعد الظّهر إذ سقط عذق والنّاس ملتفّون، وكاد يقع على عمامة سيّدي الأستاذ، فنهض المنصب بو بكر نصف نهضة وتلقّاه بيد واحدة كأنّه كرة، مع أنّه لا ينقص وزنه عن أربعين رطلا.
وله اطّلاع على أسرار الأسماء والحروف، ومعرفة بالأوفاق، وله خطّ جميل.. وكتب «رسالة» ـ أظنّها تتعلّق برحلته واتّصاله بالأستاذ ـ ذكر فيها أخذ الحبيب أحمد بن سالم عن الأستاذ، وفرقان ما بين حاله قبل أخذه وبعده، وأطنب في ذلك بصورة مشوّقة لم يبق بذهني منها إلّا اليسير، ولا لوم؛ فقد كنت يومئذ حوالي السّابعة من عمري، ولو لا أنّ خطّه كان بديعا حسنا، وأنّ الرّسالة كانت مزيّنة بالألوان والنّقوش.. لم يبق لها أثر عندي البتّة، لكنّ وجودها بالصّفة الّتي تستلفت أنظار الصّبيان هو الّذي حمّلني منها ما لا تزال بقاياه بالذّاكرة على بعد العهد وصغر السّنّ، مع أنّي لم أنظرها إلّا وقت وجوده بحضرموت، وهو عام (1306 ه) كما تقدّم.
توفّي الحبيب أحمد بن سالم فجأة سنة (1324 ه)، ووقع رداؤه على ولده عليّ، وكان شابّا نشيطا، مضيافا كثير الإصلاح بين الجنود، وكان السّيّد حسين بن حامد يكرهه ويحسده؛ لامتداد نفوذه وجاهه، وله معه مواقف لم يلن فيها جانبه، ولم يزلّ نعله، ولم يعط المقادة، ولم يسلس الزّمام.
حجّ في سنة (1345 ه)، وأكرم وفادته الملك ابن سعود، وأعطاه خنجرا ومئة جنيه من الذّهب، وتوفّي سنة (1349 ه).
وخلفه ولده المبارك أحمد بن عليّ، وقد اعتنى بتربيته الشّابّ العفيف شيخ بن أحمد بن سالم عمّ أبيه، وأحضره على العلماء، ودبّر أمور دنياه، حتّى لقد مات أبوه مدينا باثني عشر ألف ريال (12000)، ولم يكن ضيفه ولا خرجه بأقلّ من خرج أبيه، ومع ذلك فقد قضى جميع ديون والده، ومرّت الأزمة وفناؤه رحب، وضيفه كرم، وخاطره رخو، وكاهله خفيف بفضل تدبير السّيّد شيخ، فجزاه الله خيرا.
وله فوق ذلك من المحاسن، ولين النّحيزة، وكرم الطّبيعة، واستواء السّرّ والعلانية، والخبرة بأحوال الزّمان، والتّمرّن على سياسة أهله.. ما لا يساهمه أحد فيه.
وللسّادة آل الحامد بن الشّيخ أبي بكر منصب بعينات، وجاه ضخم لدى الصّيعر والمناهيل وغيرهم.
وفي «شمس الظّهيرة» [1 / 288]: أنّ القائم بمنصب جدّه بعد أبيه هو: السّيّد عيدروس بن سالم، ذو السّيرة الحميدة، توفّي بعينات سنة (1170 ه)، وعقبه هناك
ومنهم: ولده المنصب الجليل سالم بن محسن، وخلفه ولده المنوّر البارّ عبد القادر، توفّي وخلفه ولده صالح.
ومنهم: الفاضل العالم الواعظ السّيّد حسن بن إسماعيل، تخرّج برباط تريم على الفاضل العلّامة السّيّد عبد الله بن عمر الشّاطريّ، ثمّ عاد إلى عينات وابتنى بها رباطا، هو مقيم به على نشر العلم، وقد انتفع به خلق كثير من أهل تلك النّواحي.
وفي عينات جماعة من آل باوزير؛ منهم: العلّامة الشّيخ عبد الرّحمن بن أحمد باوزير.
وجماعة من آل بافضل؛ منهم: العلّامة الشّيخ رضوان بن أحمد بافضل، من أعيان أهل العلم والصّلاح، وحسبك أنّ سيّدي عبد الله بن حسين بلفقيه على تحرّيه يشهد له بذلك، توفّي سنة (1265 ه).
وأوّل من نقل منهم من تريم إلى عينات: الشّيخ محمّد بن أحمد بن عبد الرّحمن بن أحمد بارضوان، المتوفّى سنة (1188 ه).
وفي عينات جماعة من آل بايعقوب، أظنّهم من أعقاب قاضي تريم في عصر السّقّاف الشّيخ بو بكر بن محمّد بن أحمد بايعقوب، وناس من آل باحنان وآل باعبده وغيرهم.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
22-التوقيف على مهمات التعاريف (البحث)
البحث: لغة الفحص والكشف والتفتيش، وعرفا إثبات النسبة الإيجابية أو السلبية بين شيئين بطريق الاستدلال، ذكره ابن الكمال. وقال الراغب: البحث الكشف والطلب. وبحث عن الأمر استقصى، في الأرض حفرها. ومنه {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} الآية وفي السراج: البحث المناظرة والمحاورة ومعناه إثبات نسبة إيجابية أو سلبية بطريق الاستدلال وقد يراد به الاستشكال والإنكار.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
23-التوقيف على مهمات التعاريف (البعث)
البعث: أصله إثارة الشيء وتوجيهه ويختلف بحسب اختلاف ما علق به، فبعثت البعير أثرته وسيرته، وقوله تعالى: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّه} أي يخرجهم ويسيرهم إلى القيامة. فالبعث ضربان: أحدهما إيجاد الأعيان والأجناس والأنواع عن ليس، ويختص به الباري سبحانه وتعالى. والثاني إحياء الموتى وقد خص الله به بعض أصفيائه كعيسى عليه الصلاة والسلام ومنه {هَذَا يَوْمُ الْبَعْث} أي يوم الحشر وقوله {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا} أي قيضه، وقوله {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} أي توجههم ومضيهم.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
24-التوقيف على مهمات التعاريف (الغرابية)
الغرابية: قوم قالوا محمد المصطفى أشبه بعلي من الغراب، بالغراب فبعث الله جبريل إلى علي فغلط.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
25-العباب الزاخر (فلس)
فلسالفَلْسُ: يُجْمَع في القِلَّةِ على أفْلُسٍ؛ وفي الكَثْرَة على فُلُوس.
وفُلُوسُ السمك: ما على ظهرِهِ شبيهٌ بالفُلٌوس.
والفَلاّس: بائع الفَلْس.
والفَلْس -أيضًا-: خاتَم الجِزْيَة في الحَلْق.
وقال ابن دريد: الفِلْس -بالكسر-: صَنَمٌ كانَ لِطَيِّئٍ في الجاهِلِيَّة، فَبَعَثَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلّم- عَلِيَّ بن أبي طالِب -رضي الله عنه- حتّى هَدَمَه وأخَذَ السّيفَينِ الذين كان الحارِث بن أبي شَمِرٍ أهداهما إليه، وهُما مِخْذَمٌ ورَسُوبٌ اللَّذان ذَكَرَهُما عَلْقَمَة بن عَبَدَة في قصيدَتِهِ:
«مُظاهِرُ سِرْبالَيْ حَدِيْدٍ عليهما *** عَقِيْلا سُيُوْفٍ مِخْذَمٌ ورَسُوْبُ»
وزاد ابن الكَلْبيّ: فَتَقَلَّدَ النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- أحَدَهُما، ثمَّ دَفَعَ إلى عَلِيّ -رضي الله عنه- سَيْفَه الذي كان يَتَقَلَّدُه.
والفَلَس -بالتحريك-: من قولِهِم في حُبِّها فَلَسَ: أي لا نَيْلَ مَعَه؛ قالَه أبو عمرو، قال المُعَطَّل الهُذَليّ؛ ويروى لأبي قلابَة أيضًا:
«يا حُبَّ ما حُبُّ القَتُوْلِ وحُبُّها *** فَلَسٌ فلا يُنْصِبْكَ حُبٌّ مُفْلِسُ»
أي ليسَ في يديك منه شيء، من أفلَسَ الرجل: إذا لم يَبْقَ له مالٌ كأنَّما صارَت دراهِمُه فلوسًا وزُيُوفًا، كما يقال: أخْبَثَ الرَّجُلُ إذا صارَ أصحابُه خُبَثاء، وأقْطَفَ إذا صارَت دابَّتُهُ قَطُوْفًا. ويجوز أن يُراد به أنَّه صار إلى حالٍ يقال فيها: ليس مَعَهُ فَلْسٌ، كما يقال أقْهَرَ الرَّجُل: إذا صارَ إلى حالٍ يُقْهَرُ عليها، وأذَلَّ: إذا صارَ على حالٍ يُذَلُّ فيها.
وأفْلَسْتُ فلانًا: إذا طَلَبْتَه فأخْطأتَ مَوْضِعَه، فذلك الفَلَسُ، ومعنى البيت: أنَّه لا يكون في يَدَيْكَ منها إلاّ ما في يَدَيِ المُفْلِسِ.
ومَفالِيْس: بلدة باليَمَن. قال الصغاني مؤلف هذا الكتاب: قد وَرَدْتُها.
ويقال: فَلَّسُه القاضي تَفْليسا: إذا حَكَمَ بإِفْلاسِه ونادى عليه أنَّه أفْلَسَ.
وتَفْلِيس: بلد مشهور افْتَتَحَهُ المسلمون في خِلافة عُثمان -رضي الله عنه-، وبعضهم يكسر تاءها، فيكون على وزن فِعْلِيْل نحو بِرْطِيْل، وتُجعَل التاء حينَئِذٍ أصْلِيَّة، لأنَّ الكَلِمَة جُرْجِيَّة وإنْ وافَقَتْ وزانَ العربيَّة، ومَنْ فَتَحَ التاء جعلَ الكلمة عربيّة كالتَّنْعيم لِمَوْضِع بمكّة حرسها الله.
وشيءٌ مُفَلَّسُ اللَّوْن: إذا كانَ على جِلْدِهِ لُمَعٌ كالفُلُوْسِ.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
26-القاموس المحيط (عز)
عَزَّ يَعِزُّ عِزًّا وعِزَّةً، بكسرهما،وعَزازَةً: صارَ عَزيزًا،
كتَعَزَّزَ، وقَوِيَ بعدَ ذِلَّةٍ. وأعَزَّهُ وعَزَّزَهُ،
وـ الشيءُ: قَلَّ، فلا يَكادُ يُوجَدُ، فهو عَزيزٌ
ج: عِزازٌ وأعِزَّةٌ وأعِزَّاءُ،
وـ الماءُ: سالَ،
وـ القَرْحةُ: سالَ ما فيها،
وـ عَلَيَّ أن تَفْعَلَ كذا: حَقَّ، واشْتَدَّ، يَعِزُّ، كَيَقِلُّ، ويَمَلُّ.
وعَزَزْتُ عليه أعِزُّ: كَرُمْتُ.
وأُعْزِزْتُ بما أصابَكَ، بالضم، أي: عَظُمَ عَلَيَّ.
والعَزُوزُ: الناقَةُ الضَّيِّقَةُ الإِحليلِ
ج: عُزُزٌ، وقد عَزَّتْ، كمَدَّ، عُزُوزًا وعِزازًا، بالكسر، وعَزُزَتْ، ككَرُمَتْ، وأعَزَّتْ وتَعَزَّزَت.
وعَزَّهُ، كمَدَّهُ: غَلَبَهُ في المُعازَّةِ، والاسمُ: العِزَّةُ، بالكسر،
كعَزْعَزَهُ،
وـ في الخِطَابِ: غالَبَه،
كَعازَّهُ.
والعَزَّةُ: بنْتُ الظَّبْيَةِ، وبها سُمِّيَتْ عَزَّةُ.
والعَزازُ: الأرضُ الصُّلْبَةُ.
وأعَزَّ: وقَعَ فيها،
وـ فُلانًا: أحَبَّهُ،
وـ الشاةُ: اسْتَبانَ حَمْلُهَا، وعَظُمَ ضَرْعُهَا،
وـ البَقَرَةُ: عَسُرَ حَمْلُها.
وعَزازٌ. ع باليمن،
ود قُرْبَ حَلَبَ، إذا تُرِكَ تُرابُها على عَقْرَبٍ، قَتَلَها.
والعَزَّاءُ: السَّنَةُ الشديدةُ.
وهو مِعْزازُ المَرَضِ: شديدُهُ.
والعُزَّى: العَزيزَةُ،
وتأنِيثُ الأَعَزِّ، وصَنَمٌ، أو سَمُرَةٌ عَبَدَتْهَا غَطفَانُ، أولُ منِ اتَّخَذَهَا ظَالِمُ بنُ أسْعَدَ، فَوْقَ ذاتِ عِرْقٍ إلى البُسْتَانِ بِتِسْعَةِ أميالٍ، بنَى عليها بَيْتًا، وسَمَّاهُ بُسًّا. وكانوا يَسْمَعونَ فيها الصَّوْتَ، فَبَعَثَ إليها رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، خالِدَ بنَ الوَليدِ، فَهَدَمَ البيتَ، وأحْرَقَ السَّمُرَةَ.
والعُزَيْزَى، ويُمَدُّ: طَرَفُ وَرِكِ الفَرَسِ، أو ما بينَ العَكْوَةِ والجاعِرَةِ. وسَمَّتْ: عِزَّانَ، بالكسر، وأعَزَّ وعَزازَةَ، بالفتح، وعَزُّونَ وعَزيزًا وعُزَيْزًا. وأعَزُّ بنُ عُمَرَ بنِ محمدٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ، وابنُ عليٍّ الظُّهَيْرِيُّ، وابنُ العُلَّيْقِ، وأبو الأَعَزِّ قَرَاتَكِينُ: محدِّثُونَ.
وعَزَّانُ، بالفتحِ: حِصْنٌ على الفُرَاتِ.
وعَزَّانُ خَبْتٍ،
وعَزَانُ ذَخِرٍ: من حُصونِ اليمنِ.
وتَعِزُّ، كتَقِلُّ: قاعِدَةُ اليمنِ.
وعَزْعَزَ بالعَنْزِ فلم تَتَعَزْعَزْ: زَجَرَهَا فلم تَتَنَحَّ.
وعَزْعَزْ: زَجْرٌ لها.
واعْتَزَّ بِفلانٍ: عَدَّ نَفْسَه عَزيزًا به.
واسْتَعَزَّ عليه المَرَضُ: اشْتَدَّ عليه وغَلَبَهُ،
وـ اللهُ به: أماتَهُ،
وـ الرَّمْلُ: تَماسَكَ فلم يَنْهَلْ.
وعَزَّزَ المَطَرُ الأرضَ،
وـ منها تَعْزيزًا: لَبَّدَهَا.
وعَزُوزَى: ع بينَ الحَرَمَيْنِ الشَّريفَيْنِ.
والمَعَزَّةُ: فَرَسُ الخَمْخامِ بنِ حَمَلَةَ.
وعِزُّ: قَلْعَةٌ برُسْتاقِ بَرْذَعَةَ.
والعِزُّ أيضًا: المَطَرُ الشديدُ.
والأَعَزُّ: العَزِيزُ.
والمَعْزوزَةُ: الشديدةُ، والأرضُ المَمْطورَةُ، ومحمدُ بنُ عُزيزٍ السِّجِسْتانِيُّ: مُؤَلِّفُ غَرِيبِ القُرآنِ، والبَغادِدَةُ يقولونَ: بالراءِ، وهو تَصْحِيفٌ، وبعضُهم صَنَّفَ فيه، وجَمَعَ كلامَ الناسِ، وقد ضَرَبَ في حَديدٍ بارِدٍ.
وعُزَيْزٌ، أيضًا: كُحْلٌ م.
وحَفْرُ عِزَّى: ناحِيَةٌ بالمَوْصِلِ.
وتَعَزَّزَ لَحْمُه: اشْتَدَّ، وصَلُبَ.
والعزيزَةُ في قولِ أبي كَبيرٍ الهُذَلِيِّ:
«حتى انْتَهَيْتُ إلى فِراشِ عَزيزَةٍ *** سَوْداءَ رَوْثَةُ أنْفِها كالمِخْصَفِ»
العُقابُ. ويُرْوَى: عَزيبَةٍ.
ويقولونَ: تُحِبُّنِي، فيقولُ: لَعَزَّ ما، أي: لَشَدَّ ما.
وجِئْ به عَزًّا بَزًّا، أي: لا مَحَالَةَ.
وإذا عَزَّ أخُوكَ فَهُن، أي: إذا غَلَبَكَ ولم تُقاوِمْهُ، فَلِنْ له.
ومَنْ عَزَّ بَزَّ، أي: مَنْ غَلَبَ سَلَبَ.
والعزيزُ: المَلِكُ، لِغَلَبَتِهِ على أهْلِ مَمْلَكَتِهِ، ولَقَبُ مَنْ مَلَكَ مِصْرَ مع الإِسْكَنْدَرِيَّةِ.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
27-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (أرس)
(أرس) - في حديث هِرقْل "إن تولَّيتَ فإنَّ عليك إثمَ الأرِيسيِّين"قال أبو عُبَيد: هم الخَدَم والخَول: أي بِصَدِّه إيَّاهم عن الدِّين كما قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} الآية، وكقَولِ سَحَرَة فِرعَون: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ}: أي عَلَيكَ مِثْل إثْمِهم، وكقولِه تَعالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}: أي مِثل نِصفِه.
قال أبو عُبَيْد في كِتابِ الأَموالِ: أَصحابُ الحديثِ يَقولُون: الِإرّيِسِيِّينَ، والصَّحِيحُ الأرِيسِيِّين.
قال الطَّحاوى: وهو عِندنَا على خِلاف ما قاله أبو عُبَيْد، بل هو على نِسبَتِهِم إيَّاهم إلى رئيسٍ لهم يقال له: أَرِيس، فيقال في نَصْبه وجرّه: الأرِيسِيِّين، وفي رفعه الأرِيسيُّون، كالنِّسبة إلى يَعْقوب: يَعقُوبِيُّون، فأَمَّا إذا أردت الجَمْع للأَعْداد قلت: الأَرِيسون كاليَعْقُوبِين وذكر بَعضُ أهلِ المعرفة بِهَذه المَعانى، أنَّ في رَهْطِ هِرَقْل فِرقةً تُعرَف: بالأرُوسِيّة، تُوحِّد اللهَ تَعالَى، وتَعتَرف بعُبُودِيَّةِ المَسِيحِ، ولا تَقول فيه شيئًا مِمَّا يقَولُه النصارى، فإذا كان كذلك جاز أن يُقالَ لهم: الأريسِيّون، وجاز أن يكون هِرقلُ على مِثْل ما هِىَ عليه، فِلهذَا قال: "يُؤتك اللهُ أجرَك مَرَّتين".
كما قال في حَديثِ أبى مُوسَى: فِيَمن لهم أجرُهم مَرَّتَيْن "رجل آمَنَ بنَبِيِّه، ثم آمَنَ بمُحَمِّد - صلى الله عليه وسلم -، وهذَا في النَّصارى خاصَّة مَنْ بَقِى منهم على دِينِ عيسى، عليه الصلاة والسلام، لم يُبدِّل، دُونَ اليَهُود، فإنّ دِينَهم نُسِخَ بعِيسى عليه الصلاة والسلام.
وقال غَيرُه: إنهم أتباعُ عبدِ الله بنِ أُريس: رجل كان في الزَّمَن الأَوَّل فبَعَثَ الله تَعالَى إليهم نَبِيًّا فَقَتَله هذا الرَّجلُ وأشياعُه، وكأنه قال: عَليكَ إِثمُ الذين خالَفُوا نبِيَّهم.
وقيل: الِإرِّيسُون: المُلوكُ، واحِدُهم إِرِّيسٌ على فِعِّيل، وهو الأَجيِر أيضا، من الأَضْداد، والمُؤرَّس: مَن استعمَله الِإرِّيس.
وفي رواية اللَّيث، في حَدِيث قال اللَّيثُ: الأريسِيُّون: العَشَّارون
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
28-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (تبع)
(تبع) - في الحَدِيثِ: "أوّلُ خَبَرٍ قَدِم المَدِينَة - يعَنِى مِنَ النَّبِى - صلى الله عليه وسلم - وهِجْرَتِه إلى المَدِينة - امرأَةٌ كان لها تَابِعٌ من الجِنّ".التَّابع هَا هُنَا: جِنّىٌّ يَتْبَع المَرأةَ يُحِبُّها، والتَّابِعة: جِنَّيَّة تتبَع الرَّجلَ.
- في الحَدِيث: "لا تَسُبُّوا تُبَّعًا، فإنَّه أولُ مَنْ كَسَا الكَعبَة".
تُبَّع: مَلِك في الزَّمان الأَوَّل، غَزَا بأهلِ اليَمَن، قِيل: اسْمُه أَسعَد أَبو كَرِب، وقد اخْتَلفَتِ الأَحادِيث فيه.
رُوِى عن النَّبِى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا أَدرِى أَسلمَ تُبَّع أَم لَا".
ورُوِى في حَديثٍ آخرَ أنَّه قال: "لا تَسُبُّوا تُبَّعًا فإنه قد أَسلَم".
فأَمَّا قَومُه فكانوا كُفَّارا بِظاهِرِ القُرآنِ، وله قِصَّة في التَّفَاسيِر.
والتَّبَابِعَة: مُلوكُ اليَمَن، واحِدُهم تُبَّع؛ لأن بَعضَهم يَتْبَع مَنْ قَبلَه في مُلكِه وسِيرَتِه.
وقيل: كَانَ لا يُسَمَّى تُبَّعًا حتى يَملِك حَضْرمَوْت، وسَبَأ وحِمْير.
- في حَديثِ الصَّدَقة: "في ثَلاثِين من البَقَر تَبِيعٌ".
وهو الذي دَخَل في السَّنَة الثَّانِيَة، سُمِّى به؛ لأنه يَتبَع أُمَّه.
وقيل: يَتْبع قَرنُه أُذُنَه لِتَساوِيهِما.
- في حَديثِ ابنِ عَبَّاس، رَضِى اللهُ عنهما: "بَيْنَا أَنَا أَقرأ آيةً في سِكَّةٍ من سِكَك المَدِينة إذْ سَمِعت صَوتًا من خَلْفِى: أَتْبِع يَا ابنَ عَبَّاس فالتفَتُّ فإذا عُمَر [بنُ الخَطَّاب] فقلت: أُتبِعُك على أُبَيّ بنِ كَعب، فبعَثَ إلى أُبَىّ [بن كعب]
قوله: أَتبِع: أي أسْنِد قِراءَتَك مِمَّن أخذتَها وأَحِلْ على مَنْ سَمِعْتَها منه.
- من الحَدِيثِ الآَخرَ "إذا أُتبِع أحدكُم على مَلىءٍ فَلْيَتْبَع"
في الدُّعاءِ: "تابعْ بينَنَا وبَيْنَهم".
: أي اجْعَلْنا نَتَّبِعُهم على ما هم عليه. من قَولِهم: "شَاةٌ مُتْبِع": يَتبَعُها أَولَادُها.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
29-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (ذهب)
(ذهب) - في الحديث: "فبعث عَلِىٌّ بذُهَيْبَة".هي تَصْغِير ذَهَبة، أَدخَل الهاءَ فيها على نِيَّة القِطْعَة منها. وقد يُؤَنَّثُ الذَّهَب، فعَلَى هذا تَكُون تَصْغِير ذَهَبَ. كما يُقالُ: في تَصْغِير قِدْر وطَسْت: قُدَيْرَة وطُسَيْسَة.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
30-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بحث)
(بحث): {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31]البَحُوث من الإبل: التي إذا سارت بحثت التراب بأخفافها أُخُرًا، أي ترمي بالتراب إلى خلفها. والبَحْث - بالفتح: المَعْدِن يُبْحَث فيه عن الذهب والفضة، والحيةُ العظيمة لأنها تبحث التراب. وفي تفسير مَثَل كباحثة عن حَتفها بِظِلْفها "قالوا: إن "شاة بحثت عن سكين في التراب بظلفها، ثم ذُبِحت به ".
° المعنى المحوري
فحص التراب المتراكم ونحوه وإخراجه نثرًا متفرقًا: كبحث التراب في ما سبق. ومنه {يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31] في آية الرأس.
ويلزم من بحث التراب - أي كشفه - أن يظهر ما تحته؛ ومن هنا استُعمل التركيب في التفتيش الحسي، ثم المعنوي، عن شيء أو خبر. قال [في ق]: "الفتش والتفتيش: طلَبٌ في بحث ". هذا، ويُلحظ تقييدهم تسمية الحية بَحْثًا بأنها
عظيمة. فكأنهم ميزوها بأنّ أثر زحفها في الرمل ونحوه يكون عظيمًا، كأن أحدًا سحا منه التراب، أي بحثه، في حين أن غيرها يكون أثره خفيًّا لدقته وخفته.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
31-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بعث)
(بعث): {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]بعثه من نومه فانبعث: أيقظه وأهَبَّه. وبَعَثَ البعيرَ فانبعث: حلَّ عقاله فأرسله، أو كان باركًا فهاجه وأثاره. وانْبَعث في السير: أسرع.
° المعنى المحوري
هو: إثارة (الحيّ) من مكان يلزمه بقوة فيندفع ناهضًا أو
مبتعدًا: كبعث النائم والبعير. ومن ذلك: (أ) بَعْثُ الموتى من القبور: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]. وهو في كل القرآن بهذا المعنى - عدا ما في الفقرات التالية:
(ب) إنهاض رسول أو نبيّ، أو ملك، أو حَكَم، أو نقيب {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ} [البقرة: 246]، {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] , {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]، {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الأعراف: 103] , {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19]، ومنه ما في [البقرة 129، 246، آل عمران 164، النساء 35، المائدة 12, 31، التوبة 46، يونس 74، 75: النحل 36، 84، 89، الإسراء 15، 94، الفرقان 41، 51، الشعراء 36، القصص 59، غافر 40، الجمعة 2].
(ج) والبَعْثُ: الإثارة والدفع نحو عمل شيء ما {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31]، {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء: 5] , {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12].
(د) بعث إنهاض بعد موت مؤقت أو نوم أو نحوه [البقرة 56، 259، الأنعام 60, الكهف 12, 19].
والبعث في آية الرأس هو إقامة ربنا - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المقام العظيم، يوم القيامة للشفاعة العظمى، أو شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأمته خاصة، أو أنه - صلى الله عليه وسلم - أول مَدْعُوّ، أو عامٌّ في كل مقام حميد. والأول أقوى. وهناك خاص أتفق مع الرافضين له [ينظر بحر 6/ 70 - 71].
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
32-المعجم الاشتقاقي المؤصل (غرب)
(غرب): {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]الغرب -بالفتح: الدلو العظيمة من مَسْك ثَوْر (: أي جلد ثور/) الدلو الكبير الذي يُسْتَقَى به على السانية (: آلة لرفع الماء)؛ الغارب من (ذي) الخف: الكاهلُ، وهو ما بين السنام والعنق. والغاربان: مقدَّم الظهر ومؤخَّره. وغَواربُ الماءِ: أعلى مَوْجه. والغُرابان: طرفا الوركين الأسفلان اللذان يليان أعالي الفخذين، والغُرَاب: قذال الرأس (= قفاها)، وغُراب الفأس: حَدّها/ طَرَفها. وغَرْبُ السيف: حَدّه. و كُنُس الوحش: مغاربها لاستتارها فيها "والغراب: الجليد والثلج ".
° المعنى المحوري
الانصباب (= الانحدار) إلى مقر أو مَغار عَبْرَ مسافة ما بِثقَلٍ أو قُوَّةٍ: كما تنصبّ الدلو الموصوفة في بئر السانية بقوة لعِظَمها أو كما ينصب الماء فيها بقوة لعظمها أيضًا، وكما تنحدر غوارب الإبل، ورأس الموج، وكانحدار غُرَابَيْ الوَرِكين وقَذَال الرأس، ونفاذِ حد الفأس والسيف في ما يُضرَب بها، ودخول الغِزْلان في كُنُسها. وتجمدُ الماء من باب التداخل الشديد
تصورًا كأن أثناءه تغلغلَ بعضُها في بعض بقوة، فتماسكتْ معًا. وهذا التغلغل من باب الانصباب لقوته.
ومن ذلك: "غروب الشمس "بانصبابها من الأفق وغيابها في أدناه: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86]، وكل فعل (غَرَبَ) ومضارعه ومصدره الغروب فهي للشمس، و (المغرب) جهة الغروب، {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115]، {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40 وكذا ما في الأعراف: 137] هناك أثر عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما يمثل تصور العرب أن للشمس مشرقا ومغربا لكل يوم، وفي التثنية يراد أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال، وأقصرُ يوم في الأيام القصار [ينظر قر 15/ 63 - 64]، وكذا الأمر في الغروب. ولا مجمل على الإسلام كلام أمية عن جلد الشمس ولا التعليق على هذا، المسند لابن عباس مبدوءًا بقسم [نفسه]. {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44] أي الجبل الغربي [قر: 13/ 291] أي الذي في جهة الغرب. والغرب من الشجر ما أصابته الشمس بحرها عند (اتجاهها) للأفول: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] -أي هي شرقية وغربية معًا، فالنفي للانفراد؛ إذ هي في صحراء لا يواريها عن الشمس شيء، وهو أجود لزيتها. وقيل غير منكشفة من أي الجهتين... [قر 12/ 258].
ومن مادى الأصل: "فرسٌ غَرْبٌ -بالفتح: مُتَرامٍ بنفسه مُتتابعٌ في حُضْرِه لا يَنْزع حتى يَبعُد بفارسه (كأنما ينحدر بانصباب وقوة خى يغضب وراء الأفق). وسهم غَرْب: لا يُعْرَفُ راميه (لا يُلْحظ إلا اندفاعه من بعيد وإصابته مَن
أصابه). وأغرب في الضحك والجري إلخ، واستغرب: لجّ فيه (اندفع واسترسل لا يتوقف). والغَرْب -بالفتح: عِرْق في مجرى الدمع يَسْقِى ولا ينقطع، وغَرْبُ الفم: كثرة ريقة. والغَرَب -بالتحريك: الماء السائل بين البئر والحوض " (كل ذلك انصباب).
ومن معنوى الحدة المتمثلة في نفاذ حَدّ السيف والفأس في الضريبة قاطعًا: "لسانٌ غَرْبٌ، وفي خُلُقه غَرْب -بالفتح أي حِدّة ".
ومن الأصل: "الغُربة، والغُرب -بالضم والفتح: النَوَى والبُعْد/ النزوح عن الوطن (ابتعادٌ، وطول المسافة يقابل قوة الاندفاع، ثم اختفاءٌ كالغئور) والاختفاء لازم للغئور كما في "كُنُس الوحش: مغاربها ""وكل ما واراك وستك فهو مَغْرِب ".
ثم قالوا: "أَغْرَبَ: أتى بأمر غَريب - (ليس معروفًا أو مألوفًا هنا كأنه جاء من مكان بعيد). وإغراب الدابة: أن يشتد بياضه حتى تبيض محاجره وأرفاغه " (إما من الغرابة وإما من اغتراق البياض إياه).
أما "الغَرْب -بالفتح: شَجَر تُسَوَّى منه الأقداح البيض "فأراه من شدة صلاته وهذا تداخل وشدة بحيث يعمل منه الأقداح - تأمل معنى التداخل في "الغُراب: الجليد والثلج ".
وأما الغُرَاب فسمي لسواده التام كأنه غارق في السواد. والعامة تقول أسود غطيس. وقد ضربوا المثل بسواده فقالوا: "أسود من حلك الغراب ". وميزوا غير الأسود منها بأسماء كالأبقع. وقد سمَّوْا "الخمر السوداء غِرْبانًا كجمع غراب ". وغُراب البَرير عنقوده الأسود. والشيء الغِربيب: الشديد السواد ج: غرابيب:
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا} [المائدة: 31]، {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] أي سود شديدة السواد "والمغارب: السودان ".
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
33-المعجم الجغرافي للسعودية (الفلس)
الفلس: ـ قال في «معجم البلدان» ـ: وهو نصّ ما في كتاب نصر، سوى ذكر السدنة ـ بضم الفاء وسكون اللام، وقيل بكسر الفاء ـ صنم طيّء، بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليّا سنة تسع لهدمه ومعه خمسون ومائة من الأنصار، فهدمه وأصاب فيه السيوف الثلاثة مخذم ورسوب واليمانيّ، وسبى بنت حاتم الطائي وقيل: هو أنف أحمر في وسط أجا، وأجا أسود.ثم نقل ياقوت عن كتاب «الأصنام» لابن الكلبى ما نصّه: وكان سدنته بنو بولان من طيّء، كان الفلس أنفا أحمر في وسط جبلهم الذي يقال له أجأ. كأنه تمثال إنسان، وكانوا يعبدونه ويهدون إليه ويعترون عنده عتائرهم، ولا يأتيه خائف إلا أمن، ولا يطرد أحد طريدة فيلجأ بها إليه إلا تركت، ولم تخفر حويّته، وكان سدنته بني بولان، وبولان هو الذي بدأ بعبادته، فكان آخر من سدنه منهم رجل يقال له صيفيّ، فاطرد ناقة خليّة لامرأة من كلب من بني عليم، كانت جارة لمالك بن كلثوم الشّمخيّ، وكان شريفا فانطلق بها حتى أوقفها بفناء الفلس، وخرجت جارة مالك وأخبرته بذهاب ناقتها، فركب فرسا عريا، وأخذ رمحا وخرج في أثره، فأدركه وهو عند الفلس، والناقة موقوفة عند الفلس، فقال: خلّ سبيل ناقة جارتي! فقال: إنها لربك، قال: خلّ سبيلها، قال: أتخفر إلهك؟ فنوله الرمح وحلّ عقالها وانصرف بها مالك، وأقبل السادن إلى الفلس ونظر إلى مالك ورفع يده وهو يشير بيده إليه ويقول:
«يا ربّ إن مالك بن كلثوم ***أخفرك اليوم بناب علكوم »
وكنت قبل اليوم غير مغشوم
يحرضه عليه، وعديّ بن حاتم يومئذ قد عتر عنده، وجلس هو ونفر يتحدثون بما صنع مالك، وفزع من ذلك عديّ بن حاتم وقال: انظروا ما يصيبه في يومه، فمضت له أيام لم يصبه شيء فرفض عديّ عبادته وعبادة الأصنام وتنصّر، ولم يزل متنصرا حتى جاء الله بالإسلام فأسلم، فكان مالك أول من أخفره، فكان السادن بعد ذلك إذا طرد طريدة أخذت منه، فلم يزل الفلس يعبد حتى ظهرت دعوة النبى صلىاللهعليهوسلم، فبعث إليه عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فهدمه، وأخذ سيفين كان الحارث بن أبي شمر الغسانيّ ملك غسّان قلّده إياهما يقال لهما مخذم ورسوب، وهما اللذان ذكرهما علقمة ابن عبدة فقدم بها إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم، فتقلد أحدهما، ثم دفعه إلى على بن أبي طالب فهو سيفه الذي كان يتقلّده.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
34-المعجم الجغرافي للسعودية (الهمج)
الهمج: ـ بفتح الهاء وإسكان الميم، بعدها جيم ـ في اللغة: الماء المرّ، ويطلق الاسم على عدد من المناهل في عصرنا، لم أر لها ذكرا أما بفتح الميم فله معنى آخر.قال في «معجم البلدان»: الهمج ـ بالتحريك ـ: ماء وعيون، عليه نخل من المدينة، من جهة وادي القرى، انتهى.
وهذا في الحرة حرة خيبر، كما يفهم من كلام ياقوت المتقدم في (أخثال) وإن كان يفهم من قوله (من المدينة) قربه منها، ولكنهم كثيرا ما يعدّون منها ما يتبعها من حيث الولاية والسمهوديّ: لما ذكره حذف كلمة (من المدينة) واكتفى بقول همج ـ محركة ـ ماء عيون عليه نخل، من ناحية وادي القرى انتهى. أما الفيروزآباديّ الذي ينقل عن ياقوت فقال: همج ـ بالتحريك وهو في اللغة البعوض ويقال لأراذل الناس همج ـ: والهمج ماء وعيون عليه نخل من عمل المدينة، من ناحية وادي القرى ـ انتهى والأص ل في كل ما تقدم كلام ياقوت، وأوضح منه قول ابن سعد في «الطبقات»: الهمج ماء بين خيبر وفدك، وبين فدك والمدينة ست ليال قاله في سياق خبر سريّة على بن أبي طالب إلى بني سعد بفدك سنة ست من الهجرة حين بلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنهم يريدون أن يمدّوا يهود خيبر، فبعث إليهم عليّا في مئة رجل، فسار الليل، وكمن النهار، حتى انتهى إلى الهمج ـ وذكر ما تقدم ـ فوجدوا به رجلا فسألوه عن القوم فدلّهم، فأغاروا عليهم، فأخذوا خمس مئة بعير، وألفى شاة، وهربت بنو سعد بالظّعن ـ انتهى ملخصا.
وأورد الواقديّ في المغازي خبر هذه السرية، ومما جاء في سياقه ـ عن بعض رواته: ـ إنّي لبوادي الهمج إلى يديع، ما شعرت إلا ببني سعد يحملون الظّعن وهم هاربون، فلقيت رأسهم وبربن عليم فقال: سارت إلينا جموع محمد قبل أن نأخذ للحرب أهبتها وقد أخذوا رسولا لنا، بعثناه إلى خيبر، فأخبرهم خبرنا. فقلت له: إنّي أرى أمر محمد قد غلظ، وهو سائر إلى خيبر. فقال وبر: لا تخش ذلك، إنّ بها رجالا وحصونا منيعة، وماء واتنا لادنا منهم محمد أبدا وما أحراهم أن يغزوه في عقر داره. انتهى ملخصا.
فهذا نص على أن الهمج واد، وأنه بقرب يديع. وإذن فهو فى جنوب الحرة، بقرب الحويّط، ولا صلة له بوادي القرى.
وهذا الوادي لا يزال معروفا، إنه أعلى وادي الرّقم (الرقب) يفيض في موقع قرية الرقم القديمة (العميرة).
ويحسن التنبيه إلى أن صاحب «الطبقات» ذكر أنّ هذه السرية لغزو بني سعد بن بكر، وسعد بن بكر ـ عند الاطلاق ـ ينصرف إلى أظآر النبي صلىاللهعليهوسلم ـ الذين أرضعوه ـ وهؤلاء بلادهم بقرب مكة والطائف، فأية صلة لهم بفدك؟ أو بيهود خيبر. لا شك أن كلمة (بن بكر) خطأ، وأن المقصود سعد بن ريث بن غطفان، فاؤلئك هم أهل تلك البلاد، وغطفان هم حلفاء اليهود وجيرانهم في خيبر. والواقدي ـ وهو شيخ ابن سعد صاحب «الطبقات» لم يذكر في «المعازي» عند سياق القصة (بن بكر) ولكن محقق الكتاب أخطأ أيضا فذكر في الفهرس (سعد بن بكر).
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
35-المعجم العربي لأسماء الملابس (الإحرام)
الإحرام: نوع من الثياب القطنية أو الصوفية التى تغطى الرأس والظهر، وجمعها: أحاريم، وعند ابن بطوطة: الإحرام يعنى نوعًا من أغطية الرأس يشبه المئزر، كان يستعمله عرب الأندلس والمغرب؛ ويحدثنا ابن بطوطة أنه لما وصل إلى قسنطينة بالجزائر تلقاه حاكم المدينة، فنظر إلى ثيابه وقد لوثها المطر، فأمر بغسلها في داره، وكان الإحرام منها خلقًا، فبعث مكانه إحرامًا بعلبكيًا".وقد كانت مدينة بعلبك مشهورة بصنع هذا النوع من الثياب المتخذة من القطن الأبيض الجيد، وفى ذلك يقول ابن بطوطة: "ويصنع ببعلبك الثياب المنسوبة إليها، من الإحرام وغيره". وقد جمع لفظ الإحرام عند ابن بطوطة على الأحاريم؛ وذلك في قوله عن أهل جزائر ذيبة المهل (المالديف حاليًا): "ويجعلون على ظهورهم ثياب الوِلْيان، وهى شبه الأحاريم".
والإحرام عند ابن جبير يعنى: طيلسان شرب أسود، وذلك في قوله عن خطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة: "ويأتى للخطبة لابسًا السواد على رسم العباسية، وصفة لباسه بردة سوداء عليها طيلسان شرب "حرير" أسودت وهو الذى يسمى بالمغرب الإحرام".
ولقد كان الإحرام نوعًا من أغطية الرأس شبيه بالمئزر يستعمله عرب الأندلس وشمال أفريقيا.
المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م
36-المعجم العربي لأسماء الملابس (المرجل)
المِرْجَل: المِرْجَل بالكسر كمنبر والجمع مراجل: ضرب من برود اليمن؛ وأنشد الليث:«وأبصرْتُ سلمى بين بُرْدَىْ مَراجلٍ *** وأخياشِ عصْبٍ من مُهَلْهَلةِ اليَمَنْ»
وأنشد برى لشاعر:
«يُسَائِلْنَ مَن هذا الصريعُ الذي نَرى *** وينْظرنَ خَلْسًا من خِلالِ المَراجلِ»
وثوب مُمَرْجَل: على صنعة المراجل من البرود، وفى الحديث: "وعليها ثياب مراجل" يروى بالجيم والحاء، فالجيم معناه أن عليها نقوشًا تمثال الرجال، والحاء معناه أن عليها صور الرحال وهي الإبل بأكوارها، ومنه: ثوب مُرحَّل. والروايتان معًا من باب الراء، والميم فيهما زائدة.
وفى الحديث: "فبعث معهما ببرد مراجل، هو ضرب من برود اليمن، وهذا التفسير يشبه أن تكون الميم أصلية. والممرجل: ضرب من ثياب الوشى، قال العجاج:
بشِيِة كشِيِة المُمَرْجَلِ.
قال سيبويه: مراجل ميمها من نفس الحرف -أصلية-، وهي ثياب الوشى.
المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م
37-المعجم العربي لأسماء الملابس (المستقة)
المُسْتُقَة: المُسْتُقَة بضم فسكون فضم: كلمة فارسية معربة، وأصلها في الفارسية: مُشْتَهْ؛ ومعناها في الفارسية: أداة يضعها النساجون والحلاجون والندافون في أيديهم عند العمل، معرب: مستق، أو أصلها في الفارسية: مِشْتِى ومعناها: نوع من الحرير الرقيق.والمُسْتُقَة في العربية تعنى: فراء طوال الأكمام، رُوى عن عمر رضي اللَّه عنه أنه كان يصلى ويداه في مُسْتُقة، وفى رواية: صلَّى بالناس ويداه في مُسْتُقَة: قال أبو عبيد:
المساتق فراء طوال الأكمام، واحدتها مُسْتُقَة.
وروى عن أنس أن ملك الروم أهدى إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مستقة من سندس فلبسها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكأنى أنظر إلى يديها تُذْبَذَبان، فبعث بها إلى جعفر وقال: ابعث بها إلى أخيك النجاشى؛ هي بضم التاء وفتحها فرو طويل الكمين، وقوله: من سندس يشبه أنها كانت مكفوفة بالسندس،
وهو الرفيع من الحرير والديباج، لأن نفس الفرو لا يكون سندسًا، وجمعها: مساتق، وفى الحديث: أنه كان يلبس البرانس والمساتق ويصلِّى فيها؛ وأنشد شمر:
«إذا لبستْ مساتقَها غنيٌّ *** فياويحَ المساتِق ما لقينا»
قال ابن الأعرابى: هو فرو طويل الكم، وكذلك قال الأصمعى وابن شميل هي الجبة الواسعة.
المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م
38-معجم الأفعال المتعدية بحرف (بحث)
(بحث) عن الأمر يبحث بحثا أستقصى وبحث في الأرض حفرها وفي التنزيل) فبعث الله غرابا يبحث في الأرض (ومنه المثل (كالباحث عن حتفه بظلفه) وبحث عنه فتش سأل كأبتحثه وتبحثه واستبحثه.معجم الأفعال المتعدية بحرف-موسى بن الحاج محمد بن الملياني الأحمدي الدراجي المسيلي الجزائري (الملقب نويوات)-صدر:1398هـ/1977م
39-معجم البلدان (أرم)
أُرْمُ:بالضم ثم السكون: صقع بأذربيجان، اجتمع فيه خلق من الأرمن وغيرهم لقتال سعيد بن العاصي لما غزاها، فبعث إليهم سعيد جرير بن عبد الله البجلي، فهزمهم وصلب زعيمهم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
40-معجم البلدان (أقر)
أُقُرٌ:بضم الهمزة والقاف، وراء: اسم واد لبني مرّة، عن أبي عبيدة، وأنشد للنابغة:
«لقد نهيت بني ذبيان عن أقر، *** وعن تربّعهم في كلّ أصفار»
وفي كتاب العزيزي تأليف أبي الحسن المهلّبي: بين الأخاديد وبين أقر ثلاثون ميلا، وهي بين البصرة والكوفة بالبادية، وبينها وبين سلمان عشرون فرسخا، وقال ابن السكيت: أقر جبل، وذو أقر: واد لبني مرّة إلى جنب أقر، وهو واد نجل أي واسع مملوء حمضا كان النعمان بن الحارث الأصغر الغسّاني قد حماه فاحتماه الناس، فتربّعته بنو ذبيان فنهاهم النابغة عن ذلك وحذّرهم غارة الملك النعمان، فعيّروه خوفه من النعمان وأبوا وتربّعوه، فبعث النعمان بن الحارث إليهم جيشا وعليه ابن الجلاح الكلبي، فأغار عليهم بذي أقر فقتل وسبى ستين أسيرا وأهداهم إلى قيصر الروم، فقال النابغة عند ذلك:
«إني نهيت بني ذبيان عن أقر، *** وعن تربّعهم من بعد أصفار»
«وقلت: يا قوم إن اللّيث منقبض *** على براثنه، لعدوة الضاري»
وقال نصر: أقر: ماء في ديار غطفان قريب من أرض الشّربّة، وقيل: جبل، وقيل: هو من عدنة، وقيل: جبال أعلاها لبني مرة بن كعب وأسفلها لفزارة، وقال أبو نصر: أقر: جبل، وأنشد لابن مقبل:
«منّا خناذيذ، فرسان وألوية، *** وكلّ سائمة من سارح عكر»
«وثروة من رجال، لو رأيتهم *** لقلت: إحدى حراج الجرّ من أقر»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
41-معجم البلدان (باب الأبواب)
بابُ الأَبْواب:ويقال له الباب، غير مضاف، والباب والأبواب: وهو الدّربند دربند شروان، قال الإصطخري: وأما باب الأبواب فإنها مدينة ربما أصاب ماء البحر حائطها، وفي وسطها مرسى السّفن، وهذا المرسى من البحر قد بني على حافتي البحر سدّين، وجعل المدخل ملتويا، وعلى هذا الفم سلسلة ممدودة فلا مخرج للمركب ولا مدخل إلا بإذن، وهذان السّدّان من صخر ورصاص، وباب الأبواب على بحر طبرستان، وهو بحر الخزر، وهي مدينة تكون أكبر من أردبيل نحو ميلين في ميلين، ولهم زروع كثيرة وثمار قليلة إلا ما يحمل إليهم من النواحي، وعلى المدينة سور من الحجارة ممتدّ من الجبل طولا في غير ذي عرض، لا مسلك على جبلها إلى بلاد المسلمين لدروس الطرق وصعوبة المسالك من بلاد الكفر إلى بلاد المسلمين، ومع طول السور فقد مدّ قطعة من السور في البحر شبه أنف طولانيّ ليمنع من تقارب السّفن من السور، وهي محكمة البناء موثّقة الأساس من بناء أنوشروان، وهي أحد الثغور الجليلة العظيمة لأنها كثيرة الأعداء الذين حفّوا بها من أمم شتّى وألسنة مختلفة وعدد كثير، وإلى جنبها جبل عظيم يعرف بالذئب، يجمع في رأسه في كلّ عام حطب كثير ليشعلوا فيه النار، إن احتاجوا إليه، ينذرون أهل أذربيجان وأرّان وأرمينية بالعدوّ إن دهمهم، وقيل: إن في أعلى جبلها الممتدّ المتصل بباب الأبواب نيفا وسبعين أمة لكلّ أمة لغة لا يعرفها مجاورهم، وكانت الأكاسرة كثيرة الاهتمام بهذا الثغر لا يفترون عن النظر في مصالحه لعظم خطره وشدة خوفه، وأقيمت لهذا المكان حفظة من ناقلة البلدان وأهل الثقة عندهم لحفظه، وأطلق لهم عمارة ما قدروا عليه بلا كلفة للسلطان ولا مؤامرة فيه ولا مراجعة حرصا على صيانته من أصناف الترك والكفر والأعداء، فممن رتبوا هناك من الحفظة أمة يقال لهم طبرسران، وأمة إلى جنبهم تعرف بفيلان، وأمة يعرفون باللكز كثير عددهم عظيمة شوكتهم، والليران وشروان وغيرهم، وجعل لكل صنف من هؤلاء مركز يحفظه، وهم أولو عدد وشدّة رجالة وفرسان، وباب الأبواب فرضة لذلك البحر، يجتمع إليه الخزر والسرير وشنذان وخيزان وكرج ورقلان وزريكران وغميك، هذه من جهة شماليها، ويجتمع إليه أيضا من جرجان وطبرستان والدّيلم والجبل، وقد يقع بها شغل ثياب كتّان، وليس بأرّان وأرمينية وأذربيجان كتّان إلا بها وبرساتيقها، وبها زعفران، ويقع بها من الرقيق من كل نوع، وبجنبها مما يلي بلاد الإسلام رستاق يقال له مسقط، ويليه بلد اللكز،
وهم أمم كثيرة ذوو خلق وأجسام وضياع عامرة وكور مأهولة فيها أحرار يعرفون بالخماشرة، وفوقهم الملوك ودونهم المشاق، وبينهم وبين باب الأبواب بلد طبرستان شاه، وهم بهذه الصفة من البأس والشدة والعمارة الكثيرة، إلا أن اللكز أكثر عددا وأوسع بلدا وفوق ذلك فيلان ول
بيّتّ عسكري البارحة! فبعث إليه أنوشروان: لم تؤت من قبلنا فابحث وانظر، ففعل فلم يقف على شيء، ثم أمهله أياما وعاد لمثلها حتى فعل ثلاث مرات وفي كلها يعتذر ويسأله البحث، فيبحث فلا يقف على شيء، فلما أثقل ذلك على خاقان دعا قائدا من قوّاده وأمره بمثل ما أمر به أنوشروان، فلما فعل أرسل إليه أنوشروان. ما هذا؟ استبيح عسكري الليلة وفعل بي وصنع! فأرسل إليه خاقان: ما أسرع ما ضجرت! قد فعل هذا بعسكري ثلاث مرات وإنما فعل بك أنت مرّة واحدة. فبعث إليه أنوشروان: هذا عمل قوم يريدون أن يفسدوا فيما بيننا، وعندي رأي لو قبلته رأيت ما تحبّ، قال: وما هو؟ قال: تدعني أن أبني حائطا بيني وبينك وأجعل عليه بابا فلا يدخل بلدك إلا من تحبّ ولا يدخل بلدي إلا من أحبّ، فأجابه إلى ذلك، وانصرف خاقان إلى مملكته، وأقام أنوشروان يبني الحائط بالصخر والرصاص، وجعل عرضه ثلاثمائة ذراع وعلّاه حتى ألحقه برؤوس الجبال ثم قاده في البحر، فيقال: إنه نفخ الزقاق وبنى عليها فأقبلت تنزل والبناء يصعد حتى استقرت الزقاق على الأرض، ثم رفع البناء حتى استوى مع الذي على الأرض في عرضه وارتفاعه، وجعل عليه بابا من حديد، ووكّل به مائة رجل يحرسونه بعد أن كان يحتاج إلى مائة ألف رجل، ثم نصب سريره على الفند الذي صنعه على البحر وسجد سرورا بما هيأه الله على
يده، ثم استلقى على ظهره وقال: الآن حين استرحت، قال: ووصف بعضهم هذا السّدّ الذي بناه أنوشروان فقال: إنه جعل طرفا منه في البحر فأحكمه إلى حيث لا يتهيأ سلوكه، وهو مبني بالحجارة المنقورة المربعة المهندمة لا يقلّ أصغرها خمسون رجلا، وقد أحكمت بالمسامير والرص
«وإن لنا قبرين: قبر بلنجر، *** وقبر بصين استان يا لك من قبر»
«فهذا الذي بالصين عمّت فتوحه، *** وهذا الذي يسقى به سبل القطر»
يريد أن الترك أو الخزر لما قتلوا سلمان بن ربيعة وأصحابه، كانوا يبصرون في كل ليلة نورا عظيما على موضع مصارعهم، فيقال إنهم دفنوهم وأخذوا سلمان بن ربيعة وجعلوه في تابوت وسيروه إلى بيت عبادتهم، فإذا أجدبوا أو أقحطوا أخرجوا التابوت وكشفوا عنه فيسقون. ووجدت في موضع آخر أن أبا موسى الأشعري لما فرغ من غزو أصبهان في أيام عمر ابن الخطاب في سنة 19 أنفذ سراقة بن عمرو وكان يدعى ذا النون إلى الباب، وجعل في مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، وكان أيضا يدعى ذا النون، وسار في عسكره إلى الباب ففتحه بعد حروب جرت، فقال سراقة بن عمرو في ذلك:
«ومن يك سائلا عنّي، فإني *** بأرض لا يؤاتيها القرار»
«بباب الترك ذي الأبواب دار، *** لها في كلّ ناحية مغار»
«نذود جموعهم عما حوينا، *** ونقتلهم إذا باح السّرار»
«سددنا كل فرج كان فيها *** مكابرة، إذا سطع الغبار»
«وألحمنا الجبال جبال قبج، *** وجاور دورهم منا ديار»
«وبادرنا العدوّ بكل فجّ *** نناهبهم، وقد طار الشرار»
«على خيل تعادى، كل يوم، *** عتادا ليس يتبعها المهار»
وقال نصيب يذكر الباب، ولا أدري أيّ باب أراد:
«ذكرت مقامي، ليلة الباب، قابضا *** على كفّ حوراء المدامع كالبدر»
«وكدت، ولم املك إليك صبابة، *** أطير وفاض الدمع مني على نحري»
«ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** كليلتنا، حتى أرى وضح الفجر! »
«أجود عليها بالحديث، وتارة *** تجود علينا بالرّضاب من الثّغر»
«فليت إلهي قد قضى ذاك مرّة، *** فيعلم ربي عند ذلك ما شكري»
وينسب إلى باب الأبواب جماعة، منهم: زهير بن نعيم البابي، وإبراهيم بن جعفر البابي، قال عبد الغني ابن سعيد: كان يفيد بمصر وقد أدركته وأظنّهما، يعني زهيرا وإبراهيم، ينسبان إلى باب الأبواب، وهي مدينة دربند، والحسن بن إبراهيم البابي، حدّث عن حميد الطويل عن أنس عن النبي، صلى الله عليه وسلم: تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر، روى عنه عيسى بن محمد بن محمد البغدادي، وهلال بن العلاء البابي، روى عنه أبو نعيم الحافظ. وفي الفيصل:
زهير بن محمد البابي، ومحمد بن هشام بن الوليد بن عبد الحميد أبو الحسن المعروف بابن أبي عمران البابي، روى عن أبي سعيد عبد الله بن سعيد الأشجّ الكندي، روى عنه مسعر بن عليّ البرذعي، وحبيب بن فهد ابن عبد العزيز أبو الحسن البابي، حدث عن محمد بن دوستي عن سليمان الأصبهاني عن بختويه عن عاصم بن إسماعيل عن عاصم الأحول، حدث عنه أبو بكر الإسماعيلي، وذكر أنه سمع قبل السبعين ومائتين على باب محمد بن أبي عمران المقابري، ومحمد بن أبي عمران البابي الثقفي، واسم أبي عمران هشام، أصله من باب الأبواب، نزل ببرذعة، روى عن إبراهيم بن مسلم الخوارزمي.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
42-معجم البلدان (بزاخة)
بُزَاخَةُ:بالضم، والخاء معجمة، قال الأصمعي:
بزاخة ماء لطيّء بأرض نجد، وقال أبو عمرو الشيباني: ماء لبني أسد كانت فيه وقعة عظيمة في أيام أبي بكر الصديق مع طليحة بن خويلد الأسدي، وكان قد تنبأ بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، واجتمع اليه أسد وغطفان فقوي أمره، فبعث اليه أبو بكر خالد بن الوليد فقدّم خالد أمامه عكّاشة بن محصن الأسدي حليف الأنصار، فلقيه ببزاخة ماء لبني أسد فقتل عكاشة، وكان عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة، وجاء خالد على الأثر فلما رأى عيينة أن سيوف المسلمين قد استلحمت المشركين قال لطليحة: أما ترى ما يصنع جيش أبي الفضل، يعني خالد بن الوليد، فهل جاءك ذو النون بشيء؟ قال: نعم قد جاءني وقال لي إن لك يوما ستلقاه ليس لك أوله ولكن لك آخره، ورحى كرحاه وحديثا لا تنساه، فقال: أرى والله أن لك حديثا لا تنساه. يا بني فزارة هذا كذاب! وولى عن عسكره فانهزم الناس وظهر المسلمون، وأسر عيينة ابن حصن وقدم به المدينة فحقن أبو بكر دمه وخلى سبيله، وهرب طليحة فدخل جبّا له فاغتسل وخرج فركب فرسه وأهلّ بعمرة ومضى إلى مكة وأتى مسلما، وقيل: بل أتى الشام فأخذه غزاة المسلمين وبعثوا به إلى المدينة فأسلم وأبلى بعده في فتوح العراق، وقيل: بل هو قدم على عمر بعد وفاة أبي بكر مسلما فقبله وقال له عمر: أقتلت الرجل الصالح عكاشة بن محصن؟ فقال: إن عكاشة سعد بي وأنا شقيت به وأنا أستغفر الله، فقال له عمر: أنت الكاذب على الله حين زعمت أنه أنزل عليك، إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئا، فاذكروا الله قيّاما فإن الرّغوة فوق الصريح، فقال: يا أمير المؤمنين، ذلك من فتن الكفر الذي هدمه الإسلام كله فلا تعنيف عليّ ببعضه، فأسكت عمر، وقال القعقاع ابن عمرو يذكر يوم بزاخة:
«وأفلتهنّ المسحلان، وقد رأى *** بعينيه نقعا ساطعا قد تكوثرا»
«ويوما على ماء البزاخة، خالد *** أثار بها في هبوة الموت عثيرا»
«ومثّل في حافاتها كلّ مثلة، *** كفعل كلاب هارشت، ثم شمّرا»
وقال ربيعة بن مقروم الضبيّ:
«وقومي، فان أنت كذّبتني *** بقولي، فاسأل بقومي عليما»
«بنو الحرب يوما، إذا استلأموا *** حسبتهم في الحديد القروما»
«فدى ببزاخة أهلي لهم، *** إذا ملؤوا بالجموع الحريما»
وقال جحدر بن معاوية المحرزي اللص:
«يا دار بين بزاخة فكثيبها *** فلوى غبير سهلها، أو لوبها»
«سقت الصّبا أطلال ربعك مغدقا، *** ينهلّ عارضها بلبس جيوبها»
«أيام أرعى العين، في زهر الصّبا، *** وثمار جنات النساء وطيبها»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
43-معجم البلدان (بساق)
بُساقٌ:بالضم، وآخره قاف، ويقال بصاق، بالصاد:
جبل بعرفات، وقيل واد بين المدينة والجار، وكان لأمية بن حرثان بن الأسكر ابن اسمه كلاب اكتتب نفسه في الجند الغازي مع أبي موسى الأشعري في خلافة عمر، فاشتاقه أبوه وكان قد أضرّ فأخذ بيد قائده ودخل على عمر وهو في المسجد فأنشده:
«أعاذل قد عذلت بغير قدري، *** ولا تدرين عاذل ما ألاقي»
«فإما كنت عاذلتي فردّي *** كلابا، إذ توجّه للعراق»
«فتى الفتيان في عسر ويسر، *** شديد الرّكن في يوم التلاقي»
«فلا وأبيك! ما باليت وجدي *** ولا شغفي عليك ولا اشتياقي»
«وإيقادي عليك، إذا شتونا، *** وضمّك تحت نحري واعتناقي»
«فلو فلق الفؤاد شديد وجد، *** لهمّ سواد قلبي بانفلاق»
«سأستعدي على الفاروق ربّا، *** له عمد الحجيج إلى بساق»
«وأدعو الله، محتسبا عليه، *** ببطن الأخشبين إلى دفاق»
«إن الفاروق لم يردد كلابا *** على شيخين، هامهما زواق»
فبكى عمر وكتب إلى أبي موسى الأشعري في ردّ كلاب إلى المدينة، فلما قدم دخل عليه فقال له عمر:
ما بلغ من برّك بأبيك؟ فقال: كنت أوثره وأكفيه أمره، وكنت أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبنا إلى أغزر ناقة في إبله فأسمّنها وأريحها وأتركها حتى تستقرّ، ثم أغسل أخلافها حتى تبرد ثم أحتلب له فأسقيه. فبعث عمر إلى أبيه فجاءه، فدخل عليه وهو يتهادى وقد انحنى، فقال له: كيف أنت يا أبا كلاب؟ فقال: كما ترى يا أمير المؤمنين.
فقال: هل لك من حاجة؟ قال: نعم، كنت أشتهي أن أرى كلابا فأشمه شمة وأضمه ضمة قبل أن أموت.
فبكى عمر وقال: ستبلغ في هذا ما تحب إن شاء الله تعالى. ثم أمر كلابا أن يحتلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث بلبنها إليه، ففعل، وناوله عمر الإناء وقال:
اشرب هذا يا أبا كلاب! فأخذه فلما أدناه من فمه قال:
والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب! فبكى عمر وقال: هذا كلاب عندك حاضر وقد جئناك به. فوثب إلى ابنه وضمه إليه وقبله، فجعل عمر والحاضرون يبكون وقالوا لكلاب: الزم أبويك، فلم يزل مقيما عندهما إلى أن مات. وهذا الخبر وإن كان لا تعلّق له بالبلدان فإني كتبته استحسانا له وتبعا لشعره.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
44-معجم البلدان (البصرة)
البَصْرَةُ:وهما بصرتان: العظمى بالعراق وأخرى بالمغرب، وأنا أبدأ أولا بالعظمى التي بالعراق، وأما البصرتان: فالكوفة والبصرة، قال المنجمون:
البصرة طولها أربع وسبعون درجة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة، وهي في الإقليم الثالث، قال ابن الأنباري: البصرة في كلام العرب الأرض الغليظة، وقال قطرب: البصرة الأرض الغليظة التي فيها حجارة تقلع وتقطع حوافر الدوابّ، قال:
ويقال بصرة للأرض الغليظة، وقال غيره: البصرة حجارة رخوة فيها بياض، وقال ابن الأعرابي:
البصرة حجارة صلاب، قال: وإنما سميت بصرة لغلظها وشدّتها، كما تقول: ثوب ذو بصر وسقاء ذو بصر إذا كان شديدا جيّدا، قال: ورأيت في تلك الحجارة في أعلى المربد بيضا صلابا، وذكر الشرقي بن القطامي أن المسلمين حين وافوا مكان البصرة للنزول بها نظروا إليها من بعيد وأبصروا الحصى عليها فقالوا: إن هذه أرض بصرة، يعنون حصبة، فسميت بذلك، وذكر بعض المغاربة أن البصرة الطين العلك، وقيل: الأرض الطيبة الحمراء، وذكر أحمد بن محمد الهمداني حكاية عن محمد بن شرحبيل بن حسنة أنه قال: إنما سميت البصرة لأن فيها حجارة سوداء صلبة، وهي البصرة، وأنشد لخفاف بن ندبة:
«إن تك جلمود بصر لا أؤبّسه *** أوقد عليه فأحميه فينصدع»
وقال الطّرمّاح بن حكيم:
«مؤلّفة تهوي جميعا كما هوى، *** من النّيق فوق البصرة، المتطحطح»
وهذان البيتان يدلان على الصلابة لا الرخاوة، وقال حمزة بن الحسن الأصبهاني: سمعت موبذ بن اسوهشت يقول: البصرة تعريب بس راه، لأنها كانت ذات طرق كثيرة انشعبت منها إلى أماكن مختلفة، وقال قوم: البصر والبصر الكذّان، وهي الحجارة التي ليست بصلبة، سمّيت بها البصرة، كانت ببقعتها عند اختطاطها، واحده بصرة وبصرة، وقال الأزهري: البصر الحجارة إلى البياض، بالكسر، فإذا جاءوا بالهاء قالوا: بصرة، وأنشد بيت خفاف:
«إن كنت جلمود بصر»، وأما النسب إليها فقال بعض أهل اللغة: إنما قيل في النسب إليها بصريّ، بكسر الباء لإسقاط الهاء، فوجوب كسر الباء في البصري مما غيّر في النسب، كما قيل في النسب إلى اليمن يمان وإلى تهامة تهام وإلى الرّيّ رازيّ وما أشبه ذلك من المغيّر، وأما فتحها وتمصيرها فقد روى أهل الأثر عن نافع بن الحارث بن كلدة الثّقفي وغيره أن عمر بن الخطاب أراد أن يتخذ للمسلمين مصرا، وكان المسلمون قد غزوا من قبل البحرين توّج ونوبندجان وطاسان، فلما فتحوها كتبوا إليه:
إنا وجدنا بطاسان مكانا لا بأس به. فكتب إليهم:
إن بيني وبينكم دجلة، لا حاجة في شيء بيني وبينه دجلة أن تتخذوه مصرا. ثم قدم عليه رجل من بني سدوس يقال له ثابت، فقال: يا أمير المؤمنين إني مررت بمكان دون دجلة فيه قصر وفيه مسالح للعجم يقال له الخريبة ويسمى أيضا البصيرة، بينه وبين دجلة أربعة فراسخ، له خليج بحريّ فيه الماء إلى أجمة قصب، فأعجب ذلك عمر، وكانت قد جاءته أخبار الفتوح من ناحية الحيرة، وكان سويد ابن قطبة الذّهلي، وبعضهم يقول قطبة بن قتادة، يغير في ناحية الخريبة من البصرة على العجم، كما كان
المثنّى بن حارثة يغير بناحية الحيرة، فلما قدم خالد ابن الوليد البصرة من اليمامة والبحرين مجتازا إلى الكوفة بالحيرة، سنة اثنتي عشرة، أعانه على حرب من هنالك وخلّف سويدا، ويقال: إن خالدا لم يرحل من البصرة حتى فتح الخريبة، وكانت مسلحة للأعاجم، وقتل وسبى، و
فأتاها عتبة وانضمّ إليه سويد بن قطبة فيمن معه من بكر بن وائل وتميم.
قال نافع بن الحارث: فلما أبصرتنا الديادبة خرجوا هرّابا وجئنا القصر فنزلناه، فقال عتبة: ارتادوا لنا شيئا نأكله. قال: فدخلنا الأجمة فإذا زنبيلان في أحدهما تمر وفي الآخر أرزّ بقشره، فجذبناهما حتى أدنيناهما من القصر وأخرجنا ما فيهما، فقال عتبة: هذا سمّ أعدّه لكم العدوّ، يعني الأرز، فلا تقربنّه، فأخرجنا التمر وجعلنا نأكل منه، فإننا لكذلك إذا بفرس قد قطع قياده وأتى ذلك الأرز يأكل منه، فلقد رأينا أن نسعى بشفارنا نريد ذبحه قبل أن يموت، فقال صاحبه: أمسكوا عنه، أحرسه الليلة فإن أحسست بموته ذبحته. فلما أصبحنا إذا الفرس يروث لا بأس عليه، فقالت أختي: يا أخي إني سمعت أبي يقول: إن السمّ لا يضرّ إذا نضج، فأخذت من الأرز توقد تحته ثم نادت: الا انه يتفصّى من حبيبة حمراء، ثم قالت: قد جعلت تكون بيضاء، فما زالت تطبخه حتى أنماط قشره فألقيناه في الجفنة، فقال عتبة: اذكروا اسم الله عليه وكلوه، فأكلوا منه فإذا هو طيب، قال: فجعلنا بعد نميط عنه قشره ونطبخه، فلقد رأيتني بعد ذلك وأنا أعدّه لولدي، ثم قال: إنا التأمنا فبلغنا ستمائة رجل وست نسوة إحداهنّ أختي. وأمدّ عمر عتبة بهرثمة بن عرفجة، وكان بالبحرين فشهد بعض هذه الحروب ثم سار إلى الموصل، قال: وبنى المسلمون بالبصرة سبع دساكر: اثنتان بالخريبة واثنتان بالزابوقة وثلاث في موضع دار الأزد اليوم، وفي غير هذه الرواية أنهم بنوها بلبن: في الخريبة اثنتان وفي الأزد اثنتان وفي الزابوقة واحدة وفي بني تميم اثنتان، ففرّق أصحابه فيها ونزل هو الخريبة. قال نافع: ولما بلغنا ستمائة قلنا: ألا نسير إلى الأبلّة فإنها مدينة حصينة، فسرنا إليها ومعنا العنز، وهي جمع عنزة وهي أطول من العصا وأقصر من الرمح وفي رأسها زجّ، وسيوفنا، وجعلنا للنساء رايات على قصب وأمرناهن أن يثرن التراب وراءنا حين يرون أنا قد دنونا من المدينة، فلما دنونا منها صففنا أصحابنا، قال:
وفيها ديادبتهم وقد أعدّوا السّفن في دجلة، فخرجوا إلينا في الحديد مسوّمين لا نرى منهم إلا الحدق، قال: فو الله ما خرج أحدهم حتى رجع بعضهم إلى
بعض قتلا، وكان الأكثر قد قتل بعضهم بعضا، ونزلوا السّفن وعبروا إلى الجانب الآخر وانتهى إلينا النساء، وقد فتح الله علينا ودخلنا المدينة وحوينا متاعهم وأموالهم وسألناهم: ما الذي هزمكم من غير قتال؟ فقالوا: عرّفتنا الديادبة أن كمينا لكم قد ظهر وعلا رهجه، ير
ما نرى سمنا، وقال عوانة بن الحكم: كانت مع عتبة بن غزوان لما قدم البصرة زوجته أزدة بنت الحارث بن كلدة ونافع وأبو بكرة وزياد، فلما قاتل عتبة أهل مدينة الفرات جعلت امرأته أزدة تحرّض المؤمنين على القتال، وهي تقول: إن يهزموكم يولجوا فينا الغلف، ففتح الله على المسلمين تلك المدينة وأصابوا غنائم كثيرة ولم يكن فيهم أحد يحسب ويكتب إلا زياد فولّاه قسم ذلك الغنم وجعل له في كل يوم درهمين، وهو غلام في رأسه ذؤابة، ثم إن عتبة كتب إلى عمر يستأذنه في تمصير البصرة وقال:
إنه لا بدّ للمسلمين من منزل إذا أشتى شتوا فيه وإذا رجعوا من غزوهم لجأوا إليه، فكتب إليه عمر أن ارتد لهم منزلا قريبا من المراعي والماء واكتب إليّ بصفته، فكتب إلى عمر: إني قد وجدت أرضا كثيرة القضّة في طرف البرّ إلى الريف ودونها مناقع فيها ماء وفيها قصباء. والقضّة من المضاعف: الحجارة المجتمعة المتشقّقة، وقيل: ارض قضّة ذات حصّى، وأما القضة، بالكسر والتخفيف: ففي كتاب العين أنها أرض منخفضة ترابها رمل، وقال الأزهري:
الأرض التي ترابها رمل يقال لها قضّة، بكسر القاف وتشديد الضاد، وأما القضة، بالتخفيف:، فهو شجر من شجر الحمض، ويجمع على قضين، وليس من المضاعف، وقد يجمع على القضى مثل البرى، وقال أبو نصر الجوهري: القضّة، بكسر القاف والتشديد، الحصى الصغار، والقضة أيضا أرض ذات حصّى، قال: ولما وصلت الرسالة إلى عمر قال: هذه أرض بصرة قريبة من المشارب والمرعى والمحتطب، فكتب إليه أن أنزلها، فنزلها وبنى مسجدها من قصب وبنى دار إمارتها دون المسجد في الرحبة التي يقال لها رحبة بني هاشم، وكانت تسمّى الدهناء، وفيها السّجن والديوان وحمّام الأمراء بعد ذلك لقربها من الماء، فكانوا إذا غزوا نزعوا ذلك القصب ثم حزموه ووضعوه حتى يعودوا من الغزو فيعيدوا بناءه كما كان. وقال الأصمعي: لما نزل عتبة بن غزوان الخريبة ولد بها عبد الرحمن بن أبي بكرة، وهو أول مولود ولد بالبصرة، فنحر أبوه جزورا أشبع منها أهل البصرة، وكان تمصير البصرة في سنة أربع عشرة قبل الكوفة بستّة أشهر، وكان أبو بكرة أول من غرس النخل بالبصرة وقال: هذه أرض نخل، ثم غرس الناس بعده، وقال أبو المنذر:
أول دار بنيت بالبصرة دار نافع بن الحارث ثم دار معقل بن يسار المزني، وقد روي من غير هذا الوجه أنّ الله عزّ وجل، لما أظفر سعد بن أبي وقّاص بأرض الحيرة وما قاربها كتب إليه عمر بن الخطاب أن ابعث عتبة بن غزوان إلى أرض الهند، فإن له من الإسلام مكانا وقد شهد بدرا، وكانت الأبلّة يومئذ تسمّى أرض الهند، فلينزلها ويجعلها قيروانا للمسلمين ولا يجعل بيني وبينهم بحرا، فخرج عتبة من الحيرة في ثمانمائة رجل حتى نزل موضع البصرة، فلما افتتح الأبلّة ضرب قيروانه وضرب للمسلمين أخبيتهم، وكانت خيمة عتبة من أكسية، ورماه عمر بالرجال
فلما كثروا بنى رهط منهم فيها سبع دساكر من لبن، منها في الخريبة اثنتان وفي الزابوقة واحدة وفي بني تميم اثنتان، وكان سعد بن أبي وقاص يكاتب عتبة بأمره ونهيه، فأنف عتبة من ذلك واستأذن عمر في الشخوص إليه، فأذن له، فاستخلف مجاشع بن مسعود السّلمي على جنده، وك
فلقد جرّبناهم فوجدنا له الفضل عليهم، قال: وشكا عتبة إلى عمر تسلّط سعد عليه، فقال له: وما عليك إذا أقررت بالإمارة لرجل من قريش له صحبة وشرف؟ فامتنع من الرجوع فأبى عمر إلّا ردّه، فسقط عن راحلته في الطريق فمات، وذلك في سنة ست عشرة، قال: ولما سار عتبة عن البصرة بلغ المغيرة أنّ دهقان ميسان كفر ورجع عن الإسلام وأقبل نحو البصرة، وكان عتبة قد غزاها وفتحها، فسار إليه المغيرة فلقيه بالمنعرج فهزمه وقتله، وكتب المغيرة إلى عمر بالفتح منه، فدعا عمر عتبة وقال له: ألم تعلمني أنك استخلفت مجاشعا؟ قال.
نعم، قال: فإنّ المغيرة كتب إليّ بكذا، فقال:
إن مجاشعا كان غائبا فأمرت المغيرة بالصلاة إلى أن يرجع مجاشع، فقال عمر: لعمري إن أهل المدر لأولى أن يستعملوا من أهل الوبر، يعني بأهل المدر المغيرة لأنه من أهل الطائف، وهي مدينة، وبأهل الوبر مجاشعا لأنه من أهل البادية، وأقرّ المغيرة على البصرة، فلما كان مع أمّ جميلة وشهد القوم عليه بالزنا كما ذكرناه في كتاب المبدأ والمآل من جمعنا، استعمل عمر على البصرة أبا موسى الأشعري، أرسله إليها وأمره بإنفاذ المغيرة إليه، وقيل: كان أبو موسى بالبصرة فكاتبه عمر بولايتها، وذلك في سنة ست عشرة وقيل في سنة سبع عشرة، وولي أبو موسى والجامع بحاله وحيطانه قصب فبناه أبو موسى باللبن، وكذلك دار الإمارة، وكان المنبر في وسطه، وكان الإمام إذا جاء للصلاة بالناس تخطّى رقابهم إلى القبلة، فخرج عبد الله بن عامر بن كريز، وهو أمير لعثمان على البصرة، ذات يوم من دار الإمارة يريد القبلة وعليه جبّة خزّ دكناء، فجعل الأعراب يقولون: على الأمير جلد دبّ، فلما استعمل معاوية زيادا على البصرة قال زياد: لا ينبغي للأمير أن يتخطى رقاب الناس، فحوّل دار الإمارة من الدهناء إلى قبل المسجد وحوّل المنبر إلى صدره، فكان الإمام يخرج من الدار من الباب الذي في حائط القبلة إلى القبلة ولا يتخطى أحدا، وزاد في حائط المسجد زيادات كثيرة وبنى دار الإمارة باللبن وبنى المسجد بالجص وسقفه بالساج، فلما فرغ من بنائه جعل يطوف فيه وينظر إليه ومعه وجوه البصرة فلم يعب فيه إلّا دقة الأساطين، قال: ولم يؤت منها قط صدع ولا ميل ولا عيب، وفيه يقول حارثة ابن بدر الغداني:
«بنى زياد، لذكر الله، مصنعه *** بالصخر والجصّ لم يخلط من الطين»
«لولا تعاون أيدي الرافعين له، *** إذا ظنناه أعمال الشياطين»
وجاء بسواريه من الأهواز، وكان قد ولى بناءه الحجاج بن عتيك الثّقفي فظهرت له أموال وحال لم تكن قبل، ففيه قيل:
«يا حبّذا الإماره *** ولو على الحجاره»
وقيل: إن أرض المسجد كانت تربة فكانوا إذا فرغوا من الصلاة نفضوا أيديهم من التراب، فلما رأى زياد ذلك قال: لا آمن أن يظنّ الناس على طول الأيام أن نفض اليد في الصلاة سنّة، فأمر بجمع الحصى وإلقائه في المسجد الجامع، ووظّف ذلك على الناس، فاشتد الموكّلون بذلك
«يا حبذا الإماره *** ولو على الحجاره»
فذهبت مثلا، وكان جانب الجامع الشمالي منزويا لأنه كان دارا لنافع بن الحارث أخي زياد فأبى أن يبيعها، فلم يزل على تلك الحال حتى ولّى معاوية عبيد الله بن زياد على البصرة، فقال عبيد الله بن زياد:
إذا شخص عبد الله بن نافع إلى أقصى ضيعة فاعلمني.
فشخص إلى قصر الأبيض، فبعث فهدم الدار وأخذ في بناء الحائط الذي يستوي به تربيع المسجد، وقدم عبد الله بن نافع فضجّ، فقال له: إني أثمن لك وأعطيك مكان كل ذراع خمسة أذرع وأدع لك خوخة في حائطك إلى المسجد وأخرى في غرفتك، فرضي فلم تزل الخوختان في حائطه حتى زاد المهدي فيه ما زاد فدخلت الدار كلّها في المسجد، ثم دخلت دار الإمارة كلها في المسجد، وقد أمر بذلك الرشيد، ولما قدم الحجّاج خبّر أن زيادا بنى دار الإمارة فأراد أن يذهب ذكر زياد منها فقال: أريد أن أبنيها بالآجرّ، فهدمها، فقيل له: إنما غرضك أن تذهب ذكر زياد منها، فما حاجتك أن تعظم النفقة وليس يزول ذكره عنها، فتركها مهدومة، فلم يكن للأمراء دار ينزلونها حتى قام سليمان بن عبد الملك فاستعمل صالح بن عبد الرحمن على خراج العراقين، فقال له صالح إنه ليس بالبصرة دار إمارة وخبّره خبر الحجاج، فقال له سليمان: أعدها، فأعادها بالجصّ والآجرّ على أساسها الذي كان ورفع سمكها، فلما أعاد أبوابها عليها قصرت، فلما مات سليمان وقام عمر بن عبد العزيز استعمل عدي بن أرطاة على البصرة، فبنى فوقها غرفا فبلغ ذلك عمر، فكتب إليه:
هبلتك أمك يا ابن عمّ عدي! أتعجز عنك مساكن وسعت زيادا وابنه؟ فأمسك عدي عن بنائها، فلما قدم سليمان بن علي البصرة عاملا للسفّاح أنشأ فوق البناء الذي كان لعديّ بناء بالطين ثمّ تحوّل إلى المربد، فلما ولي الرشيد هدمها وأدخلها في قبلة مسجد الجامع فلم يبق للأمراء بالبصرة دار إمارة، وقال يزيد الرّشك: قست البصرة في ولاية خالد بن عبد الله القسري فوجدت طولها فرسخين وعرضها فرسخين إلّا دانقا، وعن الوليد بن هشام أخبرني أبي عن أبيه وكان يوسف بن عمر قد ولاه ديوان جند البصرة قال:
نظرت في جماعة مقاتلة العرب بالبصرة أيام زياد فوجدتهم ثمانين ألفا ووجدت عيالاتهم مائة ألف وعشرين ألف عيّل ووجدت مقاتلة الكوفة ستين ألفا وعيالاتهم ثمانين ألفا.
ذكر خطط البصرة وقراها
وقد ذكرت بعض ذلك في أبوابه وذكرت بعضه هاهنا، قال أحمد بن يحيى بن جابر: كان حمران ابن أبان للمسيّب بن نجبة الفزاري أصابه بعين التمر فابتاعه منه عثمان بن عفّان وعلمه الكتابة واتخذه كاتبا، ثم وجد عليه لأنه كان وجّهه للمسألة عما رفع على الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فارتشى منه وكذّب ما قيل فيه، ثم تيقّن عثمان صحة ذلك فوجد عليه
وقال: لا تساكنّي أبدا، وخيّره بلدا يسكنه غير المدينة، فاختار البصرة وسأله أن يقطعه بها دارا وذكر ذرعا كثيرا استكثره عثمان وقال لابن عامر:
أعطه دارا مثل بعض دورك، فأقطعه دار حمران التي بالبصرة في سكة بني سمرة بالبصرة، كان صاحبها عتبة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب ابن عبد شمس بن عبد مناف، قال المدايني: قال أبو بكرة لابنه: يا بنيّ والله ما تلي عملا قط وما أراك تقصر عن إخوتك في النفقة، فقال: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: فإني أغتلّ من حمّامي هذا في كلّ يوم ألف درهم وطعاما كثيرا. ثم إنّ مسلما مرض فأوصى إلى أخيه عبد الرحمن بن أبي بكرة وأخبره بغلة حمّامه، فأفشى ذلك واستأذن السلطان في بناء حمّام، وكانت الحمامات لا تبنى بالبصرة إلّا بإذن الولاة، فأذن له واستأذن غيره فأذن له وكثرت الحمامات، فأفاق مسلم بن أبي بكرة من مرضه وقد فسد عليه حمّامه فجعل يلعن عبد الرحمن ويقول: ما له قطع الله رحمه! وكان لزياد مولى يقال له فيل، وكان حاجبه، فكان يضرب المثل بحمّامه بالبصرة، وقد ذكرته في حمام فيل. نهر عمرو: ينسب إلى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان. نهر ابن عمير: منسوب إلى عبد الله بن عمير بن عمرو بن مالك اللّيثي، كان عبد الله بن عامر بن كريز أقطعه ثمانية آلاف جريب فحفر عليها هذا النهر، ومن اصطلاح أهل البصرة أن يزيدوا في اسم الرجل الذي تنسب إليه القرية ألفا ونونا، نحو قولهم طلحتان:
نهر ينسب إلى طلحة بن أبي رافع مولى طلحة بن عبيد الله. خيرتان: منسوب إلى خيرة بنت ضمرة القشيرية امرأة المهلّب بن أبي صفرة. مهلّبان:
منسوب إلى المهلّب بن أبي صفرة، ويقال بل كان لزوجته خيرة فغلب عليه اسم المهلب، وهي أمّ أبي عيينة ابنه. وجبيران: قرية لجبير بن حيّة.
وخلفان: قطيعة لعبد الله بن خلف الخزاعي والد طلحة الطلحات. طليقان: لولد خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين الخزاعي، وكان خالد ولي قضاء البصرة. روّادان: لروّاد بن ابي بكرة.
شط عثمان: ينسب إلى عثمان بن أبي العاصي الثقفي، وقد ذكرته، فأقطع عثمان أخاه حفصا حفصان وأخاه أميّة أميّان وأخاه الحكم حكمان وأخاه المغيرة مغيرتان. أزرقان: ينسب إلى الأزرق بن مسلم مولى بني حنيفة. محمّدان: منسوب إلى محمد ابن علي بن عثمان الحنفي. زيادان: منسوب إلى زياد مولى بني الهجيم جدّ مونس بن عمران بن جميع بن يسار بن زياد وجد عيسى بن عمر النحوي لأمّهما.
عميران: منسوب إلى عبد الله بن عمير الليثي. نهر مقاتل بن حارثة بن قدامة السعدي. وحصينان:
لحصين بن أبي الحرّ العنبري. عبد الليان: لعبد الله بن أبي بكرة. عبيدان: لعبيد بن كعب النّميري. منقذان: لمنقذ بن علاج السّلمي. عبد الرحمانان: لعبد الرحمن بن زياد. نافعان: لنافع ابن الحارث الثقفي. أسلمان: لأسلم بن زرعة الكلابي. حمرانان: لحمران بن أبان مولى عثمان بن عفّان. قتيبتان: لقتيبة بن مسلم. خشخشان:
لآل الخشخاش العنبري. نهر البنات: لبنات زياد، أقطع كلّ بنت ستين جريبا، وكذلك كان يقطع العامة. سعيدان: لآل سعيد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. سليمانان: قطيعة لعبيد بن نشيط صاحب الطرف أيام الحجاج، فرابط به رجل من الزهاد يقال له سليمان بن جابر فنسب إليه. عمران:
لعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي. فيلان: لفيل
مولى زياد. خالدان: لخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة. المسماريّة: قطيعة مسمار مولى زياد بن أبيه، وله بالكوفة ضيعة.
سويدان: كانت لعبيد الله بن أبي بكرة قطيعة مبلغها أربعمائة جريب فوهبها لسويد بن منجوف السّدوسي، وذلك أن سويدا مرض فعاده عبيد الله بن أبي بكرة فقال له: كيف تجدك؟ فقال: صالحا إن شئت، فقال: قد شئت، وما ذلك؟ قال: إن أعطيتني مثل الذي أعطيت ابن معمر فليس عليّ بأس، فأعطاه سويدان فنسب إليه. جبيران: لآل كلثوم بن جبير. نهر أبي برذعة بن عبيد الله بن أبي بكرة.
كثيران: لكثير بن سيّار. بلالان: لبلال بن أبي بردة، كانت قطيعة لعبّاد بن زياد فاشتراه. شبلان:
لشبل بن عميرة بن تيري الضّبيّ.
ذكر ما جاءَ في ذم البصرة
لما قدم أمير المؤمنين البصرة بعد وقعة الجمل ارتقى منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل البصرة يا بقايا ثمود يا أتباع البهيمة يا جند المرأة، رغا فاتبعتم وعقر فانهزمتم، أما إني ما أقول ما أقول رغبة ولا رهبة منكم غير أني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: تفتح أرض يقال لها البصرة، أقوم أرض الله قبلة، قارئها أقرأ الناس وعابدها أعبد الناس وعالمها أعلم الناس ومتصدقها أعظم الناس صدقة، منها إلى قرية يقال لها الأبلّة أربعة فراسخ يستشهد عند مسجد جامعها وموضع عشورها ثمانون ألف شهيد، الشهيد يومئذ كالشهيد يوم بدر معي، وهذا الخبر بالمدح أشبه، وفي رواية أخرى أنه رقي المنبر فقال:
يا أهل البصرة ويا بقايا ثمود يا أتباع البهيمة ويا جند المرأة، رغا فاتبعتم وعقر فانهزمتم، دينكم نفاق وأحلامكم دقاق وماؤكم زعاق، يا أهل البصرة والبصيرة والسّبخة والخريبة أرضكم أبعد أرض الله من السماء وأقربها من الماء وأسرعها خرابا وغرقا، ألا إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: أما علمت أن جبريل حمل جميع الأرض على منكبه الأيمن فأتاني بها؟ ألا إني وجدت البصرة أبعد بلاد الله من السماء وأقربها من الماء وأخبثها ترابا وأسرعها خرابا، ليأتينّ عليها يوم لا يرى منها إلا شرفات جامعها كجؤجؤ السفينة في لجة البحر، ثم قال: ويحك يا بصرة ويلك من جيش لا غبار له! فقيل: يا أمير المؤمنين ما الويح وما الويل؟ فقال: الويح والويل بابان، فالويح رحمة والويل عذاب، وفي رواية أن عليّا، رضي الله عنه، لما فرغ من وقعة الجمل دخل البصرة فأتى مسجدها الجامع فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أما بعد، فان الله ذو رحمة واسعة فما ظنكم يا أهل البصرة يا أهل السبخة يا أهل المؤتفكة ائتفكت بأهلها ثلاثا وعلى الله الرابعة يا جند المرأة، ثم ذكر الذي قبله ثم قال: انصرفوا إلى منازلكم وأطيعوا الله وسلطانكم، وخرج حتى صار إلى المربد والتفت وقال: الحمد لله الذي أخرجني من شرّ البقاع ترابا وأسرعها خرابا. ودخل فتى من أهل المدينة البصرة فلما انصرف قال له أصحابه: كيف رأيت البصرة؟ قال: خير بلاد الله للجائع والغريب والمفلس، أما الجائع فيأكل خبز الأرز والصحناءة فلا ينفق في شهر إلّا درهمين، وأما الغريب فيتزوّج بشقّ درهم، وأما المحتاج فلا عليه غائلة ما بقيت له استه يخرأ ويبيع، وقال الجاحظ: من عيوب البصرة اختلاف هوائها في يوم واحد لأنهم يلبسون القمص مرة والمبطّنات مرة لاختلاف جواهر
الساعات، ولذلك سمّيت الرّعناء، قال الفرزدق:
«لولا أبو مالك المرجوّ نائله *** ما كانت البصرة الرّعناء لي وطنا»
وقد وصف هذه الحال ابن لنكك فقال:
«نحن بالبصرة في لو *** ن من العيش ظريف»
«نحن، ما هبّت شمال، *** بين جنّات وريف»
«فإذا هبّت جنوب، *** فكأنّا في كنيف»
وللحشوش بالبصرة أثمان وافرة، ولها فيما زعموا تجار يجمعونها فإذا كثرت جمع عليها أصحاب البساتين ووقفهم تحت الريح لتحمل إليهم نتنها فإنه كلما كانت أنتن كان ثمنها أكثر، ثم ينادى عليها فيتزايد الناس فيها، وقد قصّ هذه القصة صريع الدّلاء البصري في شعر له ولم يحضرني الآن، وقد ذمّتها الشعراء، فقال محمد بن حازم الباهلي:
«ترى البصريّ ليس به خفاء، *** لمنخره من البثر انتشار»
«ربا بين الحشوش وشبّ فيها، *** فمن ريح الحشوش به اصفرار»
«يعتّق سلحة، كيما يغالي *** به عند المبايعة التجار»
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي:
«لهف نفسي على المقام ببغدا *** د، وشربي من ماء كوز بثلج»
«نحن بالبصرة الذميمة نسقي، *** شرّ سقيا، من مائها الأترنجي»
«أصفر منكر ثقيل غليظ *** خاثر مثل حقنة القولنج»
«كيف نرضى بمائها، وبخير *** منه في كنف أرضنا نستنجي»
وقال أيضا:
«ليس يغنيك في الطهارة بال *** بصرة، إن حانت الصلاة، اجتهاد»
«إن تطهّرت فالمياه سلاح، *** أو تيمّمت فالصعيد سماد»
وقال شاعر آخر يصف أهل البصرة بالبخل وكذب عليهم:
«أبغضت بالبصرة أهل الغنى، *** إني لأمثالهم باغض»
«قد دثّروا في الشمس أعذاقها، *** كأنّ حمّى بخلهم نافض»
ذكر ما جاء في مدح البصرة
كان ابن أبي ليلى يقول: ما رأيت بلدا أبكر إلى ذكر الله من أهل البصرة، وقال شعيب بن صخر:
تذاكروا عند زياد البصرة والكوفة فقال زياد: لو ضلّت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلّني عليها، وقال ابن سيرين: كان الرجل من أهل البصرة يقول لصاحبه إذا بالغ في الدعاء عليه: غضب الله عليك كما غضب على المغيرة وعزله عن البصرة وولاه الكوفة، وقال ابن أبي عيينة المهلبي يصف البصرة:
«يا جنّة فاقت الجنان، فما *** يعدلها قيمة ولا ثمن»
«ألفتها فاتخذتها وطنا، *** إنّ فؤادي لمثلها وطن»
«زوّج حيتانها الضّباب بها، *** فهذه كنّة وذا ختن»
«فانظر وفكّر لما نطقت به، *** إنّ الأديب المفكّر الفطن»
«من سفن كالنّعام مقبلة، *** ومن نعام كأنها سفن»
وقال المدائني: وفد خالد بن صفوان على عبد الملك ابن مروان فوافق عنده وفود جميع الأمصار وقد اتخذ مسلمة مصانع له، فسأل عبد الملك أن يأذن للوفود في الخروج معه إلى تلك المصانع، فأذن لهم، فلما نظر إليها مسلمة أعجب بها فأقبل على وفد أهل مكة فقال: يا أهل مكة هل فيكم مثل هذه المصانع؟
فقالوا: لا الا أن فينا بيت الله المستقبل، ثم أقبل على وفد أهل المدينة فقال: يا أهل المدينة هل فيكم مثل هذه؟ فقالوا: لا إلّا أن فينا قبر نبي الله المرسل، ثم أقبل على وفد أهل الكوفة فقال: يا أهل الكوفة هل فيكم مثل هذه المصانع؟ فقالوا: لا إلّا أن فينا تلاوة كتاب الله المرسل، ثم أقبل على وفد أهل البصرة فقال: يا أهل البصرة هل فيكم مثل هذه المصانع؟
فتكلم خالد بن صفوان وقال: أصلح الله الأمير! إن هؤلاء أقرّوا على بلادهم ولو أن عندك من له ببلادهم خبرة لأجاب عنهم، قال: أفعندك في بلادك غير ما قالوا في بلادهم؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! أصف لك بلادنا؟ فقال: هات، قال: يغدو قانصانا فيجيء هذا بالشّبوط والشّيم ويجيء هذا بالظبي والظليم، ونحن أكثر الناس عاجا وساجا وخزّا وديباجا وبرذونا هملاجا وخريدة مغناجا، بيوتنا الذهب ونهرنا العجب أوله الرّطب وأوسطه العنب وآخره القصب، فأما الرطب عندنا فمن النخل في مباركه كالزّيتون عندكم في منابته، هذا على أفنانه كذاك على أغصانه، هذا في زمانه كذاك في إبّانه، من الراسخات في الوحل المطعمات في المحل الملقحات بالفحل يخرجن أسفاطا عظاما وأقساطا ضخاما، وفي رواية: يخرجن أسفاطا وأقساطا كأنما ملئت رياطا، ثم ينفلقن عن قضبان الفضة منظومة باللؤلؤ الأبيض ثم تتبدّل قضبان الذهب منظومة بالزبرجد الأخضر ثم تصير ياقوتا أحمر وأصفر ثم تصير عسلا في شنّة من سحاء ليست بقربة ولا إناء حولها المذابّ ودونها الجراب لا يقربها الذباب مرفوعة عن التراب ثم تصير ذهبا في كيسة الرجال يستعان به على العيال، وأما نهرنا العجب فإنّ الماء يقبل عنقا فيفيض مندفقا فيغسل غثّها ويبدي مبثّها، يأتينا في أوان عطشنا ويذهب في زمان ريّنا فنأخذ منه حاجتنا ونحن نيام على فرشنا فيقبل الماء وله ازدياد وعباب ولا يحجبنا عنه حجاب ولا تغلق دونه الأبواب ولا يتنافس فيه من قلّة ولا يحبس عنّا من علّة، وأما بيوتنا الذهب فإنّ لنا عليهم خرجا في السنين والشهور نأخذه في أوقاته ويسلمه الله تعالى من آفاته وننفقه في مرضاته، فقال له مسلمة: أنّى لكم هذه يا ابن صفوان ولم تغلبوا عليها ولم تسبقوا إليها؟ فقال: ورثناها عن الآباء ونعمّرها للأبناء ويدفع لنا عنها ربّ السماء ومثلنا فيها كما قال معن بن أوس:
«إذا ما بحر خندف جاش يوما *** يغطمط موجه المتعرّضينا»
«فمهما كان من خير، فإنّا *** ورثناها أوائل أوّلينا»
«وإنّا مورثون، كما ورثنا *** عن الآباء إن متنا، بنينا»
وقال الأصمعي: سمعت الرشيد يقول: نظرنا فإذا كلّ ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة. وقال أبو حاتم: ومن العجائب، وهو مما أكرم الله به الإسلام، أنّ النخل لا يوجد إلّا في بلاد الإسلام البتة مع أن بلاد الهند والحبش والنوبة بلاد حارة خليقة بوجود النخل فيها، وقال ابن أبي عيينة يتشوّق البصرة:
«فإن أشك من ليلي بجرجان طوله، *** فقد كنت أشكو منه بالبصرة القصر»
«فيا نفس قد بدّلت بؤسا بنعمة، *** ويا عين قد بدّلت من قرّة عبر»
«ويا حبذاك السائلي فيم فكرتي *** وهمّي، ألا في البصرة الهمّ والفكر»
«فيا حبّذا ظهر الحزيز وبطنه، *** ويا حسن واديه، إذا ماؤه زخر»
«ويا حبذا نهر الأبلّة منظرا، *** إذا مدّ في إبّانه الماء أو جزر»
«ويا حسن تلك الجاريات، إذا غدت *** مع الماء تجري مصعدات وتنحدر»
«فيا ندمي إذ ليس تغني ندامتي! *** ويا حذري إذ ليس ينفعني الحذر! »
«وقائلة: ماذا نبا بك عنهم؟ *** فقلت لها: لا علم لي، فاسألي القدر»
وقال الجاحظ: بالبصرة ثلاث أعجوبات ليست في غيرها من البلدان، منها: أنّ عدد المدّ والجزر في جميع الدهر شيء واحد فيقبل عند حاجتهم إليه ويرتدّ عند استغنائهم عنه، ثم لا يبطئ عنها إلّا بقدر هضمها واستمرائها وجمامها واستراحتها، لا يقتلها غطسا ولا غرقا ولا يغبّها ظمأ ولا عطشا، يجيء على حساب معلوم وتدبير منظوم وحدود ثابتة وعادة قائمة، يزيدها القمر في امتلائه كما يزيدها في نقصانه فلا يخفى على أهل الغلّات متى يتخلفون ومتى يذهبون ويرجعون بعد أن يعرفوا موضع القمر وكم مضى من الشهر، فهي آية وأعجوبة ومفخر وأحدوثة، لا يخافون المحل ولا يخشون الحطمة، قلت أنا: كلام الجاحظ هذا لا يفهمه إلّا من شاهد الجزر والمد، وقد شاهدته في ثماني سفرات لي إلى البصرة ثم إلى كيش ذاهبا وراجعا، ويحتاج إلى بيان يعرفه من لم يشاهده، وهو أن دجلة والفرات يختلطان قرب البصرة ويصيران نهرا عظيما يجري من ناحية الشمال إلى ناحية الجنوب فهذا يسمونه جزرا، ثم يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمونه مدّا، يفعل ذلك في كل يوم وليلة مرّتين، فإذا جزر نقص نقصانا كثيرا بيّنا بحيث لو قيس لكان الذي نقص مقدار ما يبقى وأكثر، وليست زيادته متناسبة بل يزيد في أول كل شهر، ووسطه أكثر من سائره، وذاك أنه إذا انتهى في أول الشهر إلى غايته في الزيادة وسقى المواضع العالية والأراضي القاصية أخذ يمدّ كل يوم وليلة أنقص من اليوم الذي قبله، وينتهي غاية نقص زيادته في آخر يوم من الأسبوع الأول من الشهر، ثم يمدّ في كل يوم أكثر من مدّه في اليوم الذي قبله حتى ينتهي غاية زيادة مدّه في نصف الشهر، ثم يأخذ في النقص إلى آخر الأسبوع ثم في الزيادة في آخر الشهر هكذا أبدا لا يختلف ولا يخل بهذا القانون ولا يتغير عن هذا الاستمرار، قال الجاحظ: والأعجوبة الثانية ادّعاء أهل أنطاكية وأهل حمص وجميع بلاد الفراعنة
الطلسمات، وهي بدون ما لأهل البصرة، وذاك أن لو التمست في جميع بيادرها وربطها المعوّذة وغيرها على نخلها في جميع معاصر دبسها أن تصيب ذبابة واحدة لما وجدتها إلا في الفرط، ولو أن معصرة دون الغيط أو تمرة منبوذة دون المسنّاة لما استبقيتها من كثرة الذّبّان، والأعجوبة الثالثة أن الغربان القواطع في الخريف يجيء منها ما يسوّد جميع نخل البصرة وأشجارها حتى لا يرى غصن واحد إلا وقد تأطّر بكثرة ما عليه منها ولا كربة غليظة إلا وقد كادت أن تندقّ لكثرة ما ركبها منها، ثم لم يوجد في جميع الدهر غراب واحد ساقط إلا على نخلة مصرومة ولم يبق منها عذق واحد، ومناقير الغربان معاول وتمر الأعذاق في ذلك الإبّان غير متماسكة، فلو خلاها الله تعالى ولم يمسكها بلطفه لاكتفى كل عذق منها بنقرة واحدة حتى لم يبق عليها إلا اليسير، ثم هي في ذلك تنتظر أن تصرم فإذا أتى الصرام على آخرها عذقا رأيتها سوداء ثم تخللت أصول الكرب فلا تدع حشفة إلا استخرجتها، فسبحان من قدّر لهم ذلك وأراهم هذه الأعجوبة، وبين البصرة والمدينة نحو عشرين مرحلة ويلتقي مع طريق الكوفة قرب معدن النّقرة، وأخبار البصرة كثيرة والمنسوبون إليها من أهل العلم لا يحصون، وقد صنف عمر بن شبّة وأبو يحيى زكرياء الساجي وغيرهما في فضائلها كتابا في مجلدات، والذي ذكرناه كاف.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
45-معجم البلدان (البيداء)
البَيْداءُ:اسم لأرض ملساء بين مكة والمدينة، وهي إلى مكة أقرب، تعدّ من الشّرف أمام ذي الحليفة، وفي قول بعضهم: إنّ قوما كانوا يغزون البيت فنزلوا بالبيداء فبعث الله عز وجل جبرائيل فقال: يا بيداء أبيديهم، وكلّ مفازة لا شيء بها فهي بيداء، وحكى الأصمعي عن بعض العرب قال: كانت امرأة تأتينا ومعها ولدان لها كالفهدين فدخلت بعض المقابر فرأيتها جالسة بين قبرين، فسألتها عن ولديها فقالت: قضيا نحبهما وهناك والله قبراهما! ثم أنشأت تقول:
«فلله جاراي اللذان أراهما *** قريبين، مني والمزار بعيد»
«مقيمين بالبيداء لا يبرحانها، *** ولا يسألان الركب أين تريد»
«أمرّ فأستقري القبور، فلا أرى *** سوى رمس أحجار عليه لبود»
«كواتم أسرار تضمنّ أعظما *** بلين رفاتا، حبّهنّ جديد»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
46-معجم البلدان (تل محرى)
تَلّ مَحْرَى:بفتح الميم، وسكون الحاء المهملة، والراء، والقصر، وهو تل بحرى، بالباء الموحدة، وتل البليخ: وهي بليدة بين حصن مسلمة بن عبد الملك والرّقّة في وسطها حصن، وكان فيها سوق وحوانيت وذكر أحمد بن محمد الهمذاني عن خالد ابن عمير بن عبد الحباب السّلمي قال: كنا مع مسلمة بن عبد الملك في غزوة القسطنطينية، فخرج إلينا في بعض الأيام رجل من الروم يدعو إلى المبارزة، فخرجت إليه فلم أر فارسا مثله، فتجاولنا عامة يومنا فلم يظفر واحد منا بصاحبه، ثم تداعينا إلى المصارعة، فصارعت منه أشدّ البأس فصرعني وجلس على صدري ليذبحني، وكان رسن دابته مشدودا في عاتقه، فبقيت أعالجه دفعا عن روحي وهو يعالجني ليذبحني، فبينما هو كذلك إذ جاضت دابته جيضة جذبته عني ووقع من على صدري، فبادرت وجلست على صدره ثم نفست به عن القتل وأخذته أسيرا وجئت به إلى مسلمة، فسأله فلم يجبه بحرف، وكان أجسم الناس وأعظمهم، وأراد مسلمة أن يبعث به إلى هشام وهو يومئذ بحرّان فقلت: وأين الوفادة؟
فقال: إنك لأحقّ الناس بذلك، فبعث به معي، فأقبلت أكلّمه وهو لا يكلمني حتى انتهيت إلى موضع من ديار مضر يعرف بالجريش وتلّ بحرى، فقال لي: ماذا يقال لهذا المكان؟ فقلت: هذا الجريش، وهذا تلّ بحرى، فأنشأ يقول:
«ثوى، بين الجريش وتلّ بحرى، *** فوارس من نمارة غير ميل»
«فلا جزعون إن ضرّاء نابت، *** ولا فرحون بالخير القليل»
فإذا هو أفصح الناس، ثم سكت فكلّمناه فلم يجبنا،
فلما صرنا إلى الرّها قال: دعوني أصلّي في بيعتها، قلنا: افعل، فصلّى، فلمّا صرنا إلى حرّان قال: أما إنها لأوّل مدينة بنيت بعد بابل! ثم قال: دعوني أستحمّ في حمّامها وأصلّي، فتركناه فخرج إلينا كأنه برطيل فضّة بياضا وعظما، فأدخلته إلى هشام وأخبرته جميع قصته
فقال: أنا رجل من إياد ثم أحد بني حذافة، فقال له:
أراك غريبا، لك جمال وفصاحة، فأسلم نحقن دمك، فقال: إن لي ببلاد الروم أولادا، قال: ونفكّ أولادك ونحسن عطاءك، قال: ما كنت لأرجع عن ديني، فأقبل به وأدبر وهو يأبى، فقال لي:
اضرب عنقه، فضربت عنقه وينسب إلى تلّ محرى أيوب بن سليمان الأسدي السلمي، سأل عطاء بن أبي رباح عن رجل ذكرت له امرأة فقال: يوم أتزوّجها هي طالقة البتّة، فقال: لا طلاق لمن لا يملك عقدته ولا عتق لمن لا يملك رقبته. روى عنه أحمد بن عبد الملك بن وافد الحرّاني.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
47-معجم البلدان (جلولاء)
جَلُولاء:بالمدّ: طسوج من طساسيج السواد في طريق خراسان، بينها وبين خانقين سبعة فراسخ، وهو نهر عظيم يمتد إلى بعقوبا ويجري بين منازل أهل بعقوبا ويحمل السفن إلى باجسرا، وبها كانت الوقعة المشهورة على الفرس للمسلمين سنة 16، فاستباحهم المسلمون، فسمّيت جلولاء الوقيعة لما أوقع بهم المسلمون وقال سيف: قتل الله، عز وجل، من الفرس يوم جلولاء مائة ألف فجلّلت القتلى المجال ما بين يديه وما خلفه، فسميت جلولاء لما جلّلها من قتلاهم، فهي جلولاء الوقيعة قال القعقاع بن عمرو فقصرها مرّة ومدها أخرى:
«ونحن قتلنا في جلولا أثابرا *** ومهران، إذ عزّت عليه المذاهب»
«ويوم جلولاء الوقيعة أفنيت *** بنو فارس، لمّا حوتها الكتائب»
والشعر في ذكرها كثير. وجلولاء أيضا: مدينة مشهورة بإفريقية، بينها وبين القيروان أربعة وعشرون ميلا، وبها آثار وأبراج من أبنية الأول، وهي مدينة قديمة أزلية مبنية بالصخر، وبها عين ثرّة في وسطها، وهي كثيرة الأنهار والثمار، وأكثر رياحينها الياسمين، وبطيب عسلها يضرب المثل لكثرة ياسمينها، وبها يربّب أهل القيروان السمسم بالياسمين لدهن الزّنبق، وكان يحمل من فواكهها إلى القيروان في كل وقت ما لا يحصى وكان فتحها على يدي عبد الملك بن مروان، وكان مع معاوية بن حديج في جيشه فبعث إلى جلولاء ألف رجل لحصارها، فلم يصنعوا شيئا، فعادوا فلم يسيروا إلا قليلا حتى رأى ساقة الناس غبارا شديدا فظنوا أن العدوّ قد تبع الناس، فكرّ جماعة من المسلمين إلى الغبار، فإذا مدينة جلولاء قد تهدم سورها، فدخلها المسلمون، فانصرف عبد الملك بن مروان إلى معاوية بن حديج بالخبر، فأجلب الناس الغنيمة، فكان لكل رجل من المسلمين مائتا درهم، وحظ الفارس أربعمائة درهم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
48-معجم البلدان (الجنينة)
الجُنَينَةُ:تصغير جنة، وهي الحديقة والبستان، يقال:
إنها روضة نجدية بين ضرية وحزن بني يربوع وفي شعر مليح الهذلي:
«أقيموا بنا الأنضاء، إن مقيلكم *** أن اسرعن غمر بالجنينة ملجف»
قال ابن السكري: ملجف أي ذو دحل، والجنينة:
أرض. والجنينة أيضا، قال الحفصي: صحراء باليمامة.
والجنينة: ثني من التّسرير، وهو واد من ضرية وأسفله حيث انتهت سيوله يسمّى السرّ وأعلى التسرير ذو بحار، عن أبي زياد، وروي عن الأصمعي أنه قال: بلغني أن رجلا من أهل نجد قدم على الوليد ابن عبد الملك فأرسل فرسا له أعرابية فسبق عليها الناس بدمشق، فقال له الوليد: أعطنيها، فقال:
إن لها حقّا وإنها لقديمة الصحبة ولكني أحملك على مهر لها سبق الناس عام أول وهو رابض، فعجب الناس من قوله وسألوه معنى كلامه فقال: إن جزمة، وهو اسم فرسه، سبقت الخيل عام أول وهو في بطنها ابن عشرة أشهر قال: ومرض الأعرابي عند الوليد فجاءه الأطباء فقالوا له: ما تشتهي؟ فأنشأ يقول:
«قال الأطبّاء: ما يشفيك؟ قلت لهم: *** دخان رمث من التسرير يشفيني»
«مما يجرّ إلى عمران حاطبه، *** من الجنينة، جزلا غير معنون»
قال: فبعث إليه أهله سليخة من رمث أي لم يؤخذ منها شيء، وقال الجوهري: سليخة الرمث التي ليس فيها مرعى إنما هي خشب. والرمث: شجر، وجزل أي غليظ، فألفوه قد مات. والجنينة: قرب وادي القرى، قرأت بخط العبدري أبي عامر: سار أبو عبيدة من المدينة حتى أتى وادي القرى ثم أخذ عليهم الأقرع والجنينة وتبوك وسروع ثم دخل الشام. والجنينة أيضا: من منازل عقيق المدينة قال خفاف بن ندبة:
«فأبدى ببشر الحجّ منها معاصما *** ونحرا متى يحلل به الطيب يشرق»
«وغرّ الثنايا خنف الظّلم بينها *** وسنّة ريم بالجنينة موثق»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
49-معجم البلدان (الحارث)
الحارِثُ:والحرث جمع المال وكسبه، والحارث الكاسب، ومنه الحديث: أصدق أسمائكم الحارث، ومنه سمي الأسد أبا الحارث، والحرث قذف الحب في الأرض للزرع، والحرث النكاح، والحارث:
قرية من قرى حوران من نواحي دمشق يقال لها حارث الجولان، وقال الجوهري: الجولان جبل بالشام، وحارث قلّة من قلله في قول النابغة حيث قال:
«بكى حارث الجولان من فقد ربّه، *** وحوران منه موحش متضائل»
وقال الراعي:
«روين ببحر من أميّة، دونه *** دمشق وأنهار لهنّ عجيج»
«أنحن بحوّارين في مشمخرّة *** نبيت، ضباب فوقها وثلوج»
«كذا حارث الجولان يبرق دونه *** دساكر، في أطرافهن بروج»
والحارث والحويرث: جبلان بأرمينية فوقهما قبول ملوك أرمينية ومعهم ذخائرهم، وقيل: إن بليناس الحكيم طلسم عليها لئلا يظفر بها أحد فما يقدر إنسان يصعد الجبل، وقال المدائني: جبلا الحارث والحويرث اللذان بدبيل سميا بالحويرث بن عقبة والحارث بن عمرو الغنويّين وكانا مع سلمان بن ربيعة بأرمينية، وهما أول من دخل هذين الجبلين فسميا بهما، وروى ابن الفقيه أنه كان على نهر الرسّ بأرمينية ألف مدينة فبعث الله إليهم نبيّا يقال له موسى وليس بموسى بن عمران، فدعاهم إلى الله والإيمان فكذبوه وجحدوه وعصوا أمره، فدعا عليهم، فحول الله الحارث والحويرث من الطائف فأرسلهما عليهم، فيقال: إن أهل الرسّ تحت هذين الجبلين.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
50-معجم البلدان (خوز)
خُوزُ:بضم أوله، وتسكين ثانيه، وآخره زاي:
بلاد خوزستان يقال لها الخوز، وأهل تلك البلاد يقال لهم الخوز وينسب إليه، ومنهم: سليمان بن الخوزي، روى عن خالد الحذّاء وأبي هاشم الرّماني، حدث عنه عبد الله بن موسى، وعمرو بن سعيد الخوزي، حدث عنه عباد بن صهيب. والخوز أيضا، شعب الخوز: بمكة، قال الفاكهي محمد بن إسحاق: إنما سمّي شعب الخوز لأن نافع بن الخوزي مولى عبد الرحمن بن نافع بن عبد الحارث الخزاعي نزله وكان أول من بنى فيه، ويقال شعب المصطلق، وعنده صلّي على أبي جعفر المنصور، ينسب إليه أبو إسماعيل إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي مولى عمر ابن عبد العزيز، حدّث عن عمرو بن دينار وأبي الزبير وغيرهما بمناكير كثيرة وكان ضعيفا، روى عنه المعتمر بن سليمان والمعافى بن عمران الموصلي، وقال التّوزّي: الأهواز تسمّى بالفارسية هرمشير وإنما كان اسمها الأخواز فعرّبها الناس فقالوا الأهواز، وأنشد لأعرابي:
«لا ترجعنّ إلى الأخواز ثانية، *** فعيقعان الذي في جانب السوق»
«ونهر بطّ الذي أمسى يؤرّقني *** فيه البعوض بلسب غير تشفيق»
والخوز الأمّ الناس وأسقطهم نفسا، قال ابن الفقيه قال الأصمعي: الخوز هم الفعلة وهم الذين بنوا الصّرح واسمهم مشتقّ من الخنزير، ذهب أن اسمه بالفارسية خوه فجعله العرب خوز، زادوه زايا كما زادوها في رازي ومروزي وتوزي، وقال قوم: معنى قولهم خوزيّ أي زيّهم زيّ الخنزير، وهذا كالأول، وروي أن كسرى كتب إلى بعض عمّاله: ابعث إليّ بشرّ طعام على شرّ الدوابّ مع شرّ الناس، فبعث إليه برأس سمكة مالحة على حمار مع خوزيّ، وروى أبو خيرة عن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: ليس في ولد آدم شرّ من الخوز ولم يكن منهم نجيب، والخوز: هم أهل خوزستان ونواحي الأهواز بين فارس والبصرة وواسط وجبال اللور المجاورة لأصبهان.
والخوزيّون: محلّة بأصبهان نزلها قوم من الخوز فنسبت إليهم فيقال لها درخوزيان، نسب إليها أبو العباس أحمد بن الحسن بن أحمد الخوزي يعرف بابن نجوكه، سمع أبا نعيم الحافظ، وقيل إنه آخر من حدّث عنه السمعاني منه إجازة، ومات في سنة 517 أو 518، وأحمد بن محمد بن أبي القاسم بن فليزة أبو نصر الأمين الخوزي الأصبهاني، سكن سكة الخوزيين، بها سمع أبا عمرو بن مندة وأبا العلاء سليمان بن عبد الرحيم الحسناباذي، مات يوم الأربعاء ثالث عشر شوّال سنة 531، ذكره في التحبير.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
51-معجم البلدان (دبا)
دَبا:بفتح أوله، والقصر، والدّبا: الجراد قبل أن يطير، قال الأصمعي: سوق من أسواق العرب بعمان وهي غير دما، ودما أيضا من أسواق العرب، كلاهما عن الأصمعي، وبعمان مدينة قديمة مشهورة لها ذكر في أيام العرب وأخبارها وأشعارها، وكانت قديما قصبة عمان، ولعلّ هذه السوق المذكورة فتحها المسلمون في أيام أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، عنوة سنة 11 وأميرهم حذيفة بن محصن فقتل وسبى، قال الواقدي: قدم وفد الأزد من دبا مقرّين بالإسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبعث عليهم مصدقا منهم يقال له حذيفة بن محصن البارقي ثم الأزدي من أهل دبا، فكان يأخذ صدقات أغنيائهم ويردها إلى فقرائهم، وبعث إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، بفرائض لم يجد لها موضعا، فلما مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ارتدّوا فدعاهم إلى النزوع فأبوا وأسمعوه شتما لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، فكتب حذيفة بذلك إلى أبي بكر، رضي الله عنه، فكتب أبو بكر إلى
عكرمة بن أبي جهل وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، استعمله على صدقات عامر، فلما مات النبي، صلى الله عليه وسلم، انحاز عكرمة إلى تبالة أن سر فيمن قبلك من المسلمين، وكان رئيس أهل الردّة لقيط بن مالك الأزدي، فجهز لقيط إليهم جيشا فالتقوا فهزمهم الله وقتل منهم
اخرجوا من مدينتكم عزلا لا سلاح معكم، فدخل المسلمون حصنهم، فقال: إني قد حكمت فيكم أن أقتل أشرافكم وأسبي ذراريكم، فقتل من أشرافهم مائة رجل وسبى ذراريهم وقدم بسبيهم المدينة فاختلف المسلمون فيهم، وكان فيهم أبو صفرة أبو المهلّب غلام لم يبلغ، فأراد أبو بكر، رضي الله عنه، قتل من بقي من المقاتلة، فقال عمر، رضي الله عنه:
يا خليفة رسول الله هم مسلمون إنما شحّوا بأموالهم والقوم يقولون ما رجعنا عن الإسلام، فلم يزالوا موقوفين حتى توفي أبو بكر فأطلقهم عمر، رضي الله عنه، فرجع بعضهم إلى بلاده وخرج أبو المهلّب حتى نزل البصرة وأقام عكرمة بدبا عاملا لأبي بكر، رضي الله عنه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
52-معجم البلدان (دير عبد المسيح)
دَيْرُ عَبْدِ المَسيح:بن عمرو بن بقيلة الغساني، وسمّي بقيلة لأنه خرج على قومه في حلّتين خضراوين فقالوا: ما هذا إلّا بقيلة، وكان أحد المعمرين، يقال إنه عمّر ثلاثمائة وخمسين سنة: وهذا الدير بظاهر الحيرة بموضع يقال له الجرعة، وعبد المسيح هو الذي لقي خالد بن الوليد، رضي الله عنه، لما غزا الحيرة وقاتل الفرس فرموه من حصونهم الثلاثة حصون آل بقيلة بالخزف المدوّر، وكان يخرج قدّام الخيل فتنفر منه فقال له ضرار بن الأزور:
هذا من كيدهم، فبعث خالد رجلا يستدعي رجلا منهم عاقلا، فجاءه عبد المسيح بن عمرو وجرى له معه ما هو مذكور مشهور، قال: وبقي عبد المسيح في ذلك الدير بعد ما صالح المسلمين على مائة ألف حتى في ذلك الدير بعد ما صالح المسلمين على مائة ألف حتى مات وخرب الدير بعد مدّة فظهر فيه أزج معقود من حجارة فظنوه كنزا ففتحوه فإذا فيه سرير رخام عليه رجل ميت وعند رأسه لوح فيه مكتوب: أنا عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة:
«حلبت الدهر أشطره حياتي، *** ونلت من المنى فوق المزيد»
«فكافحت الأمور وكافحتني، *** فلم أخضع لمعضلة كؤود»
«وكدت أنال في الشرف الثّريّا، *** ولكن لا سبيل إلى الخلود»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
53-معجم البلدان (الرس)
الرَّسّ:بفتح أوّله، والتشديد: البئر، والرّس:
المعدن، والرس: إصلاح ما بين القوم، قال أبو منصور: قال أبو إسحاق الرس في القرآن بئر يروى أنّهم قوم كذبوا نبيهم ورسّوه في بئر أي دسّوه فيها، قال: ويروى أن الرس قرية باليمامة يقال لها فلج، وروي أن الرس ديار لطائفة من ثمود، وكلّ بئر رسّ، ومنه قول الشاعر:
تنابيله يحفرون الرساسا
وقال ابن دريد: الرّس والرّسيس بوزن تصغير الرس واديان بنجد أو موضعان، وبعض هذه أرادت ابنة مالك بن بدر ترثي أباها إذ قتلته بنو عبس بمالك ابن زهير فقالت:
«ولله عينا من رأى مثل مالك *** عقيرة قوم، إن جرى فرسان»
«فليتهما لم يشربا قطّ شربة، *** وليتهما لم يرسلا لرهان»
«أحلّ به أمس جنيدب نذره، *** فأيّ قتيل كان في غطفان»
«إذا سجعت بالرّقمتين حمامة، *** أو الرّسّ، تبكي فارس الكتفان»
وقال الزمخشري: قال عليّ الرّس من أودية القبلية، وقال غيره: الرسّ ماء لبني منقذ بن أعياء من بني أسد، قال زهير:
«لمن طلل كالوحي عاف منازله، *** عفا الرّسّ منه فالرّسيس فعاقله»
وقال أيضا:
«بكرن بكورا واستحرن بسحرة، *** فهنّ لوادي الرّسّ كاليد للفم»
وقال الأصمعي: الرس والرسيس، فالرس لبني أعياء رهط حمّاس، والرسيس لبني كاهل، وقال آخرون في قوله عزّ وجل: وأصحاب الرسّ وقرونا بين ذلك كثيرا، قال: الرس وادي أذربيجان وحد أذربيجان ما وراء الرّسّ، ويقال إنّه كان بأرّان على الرّس ألف مدينة فبعث الله إليهم نبيّا يقال له موسى، وليس بموسى بن عمران، فدعاهم إلى الله والإيمان به فكذّبوه وجحدوه وعصوا أمره فدعا عليهم فحوّل الله الحارث والحويرث من الطائف فأرسلهما عليهم فيقال أهل الرس تحت هذين الجبلين، ومخرج الرس من قاليقلا ويمرّ بأرّان ثمّ يمرّ بورثان ثمّ يمرّ بالمجمع فيجتمع هو والكرّ وبينهما مدينة البيلقان ويمرّ الكر والرسّ جميعا فيصبّان في بحر جرجان، والرس هذا واد عجيب فيه من السمك أصناف كثيرة، وزعموا أنّه يأتيه في كلّ شهر جنس من السمك لم يكن من قبل، وفيه سمك يقال له الشورماهي لا يكون إلّا فيه، ويجيء إليه في كلّ سنة في وقت معلوم صنف منه، وقال مسعر بن المهلهل وقد ذكر بذّ بابك ثمّ قال: وإلى جانبه نهر الرس وعليه رمان عجيب لم أر في بلد من البلدان مثله، وبها تين عجيب، وزبيبها يجفّف في التنانير لأنّه لا شمس عندهم لكثرة الضباب ولم تصح السماء عندهم قطّ، ونهر الرس يخرج إلى صحراء البلاسجان، وهي إلى شاطئ البحر في الطول من برزند إلى برذعة، ومنها ورثان والبيلقان، وفي هذه الصحراء خمسة آلاف قرية، وأكثرها خراب إلّا أن حيطانها وأبنيتها باقية لم تتغير لجودة التربة وصحتها، ويقال إن تلك القرى كانت لأصحاب الرس الذين ذكرهم الله في القرآن المجيد، ويقال إنّهم رهط جالوت قتلهم داود وسليمان، عليهما السلام، لما منعوا الخراج، وقتل جالوت بأرمية.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
54-معجم البلدان (سمرقند)
سَمَرْقَنْدُ:بفتح أوّله وثانيه، ويقال لها بالعربيّة سمران: بلد معروف مشهور، قيل: إنّه من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر، وهو قصبة الصّغد مبنيّة
على جنوبي وادي الصغد مرتفعة عليه، قال أبو عون:
سمرقند في الإقليم الرابع، طولها تسع وثمانون درجة ونصف، وعرضها ست وثلاثون درجة ونصف، وقال الأزهري: بناها شمر أبو كرب فسميت شمر كنت فأعربت فقيل سمرقند، هكذا تلفظ به العرب في كلامها وأشعارها، وقال يزيد بن مفرّغ يمدح سعيد بن عثمان وكان قد فتحها:
«لهفي على الأمر الذي *** كانت عواقبه النّدامه»
«تركي سعيدا ذا النّدى، *** والبيت ترفعه الدّعامه»
«فتحت سمرقند له، *** وبنى بعرصتها خيامه»
«وتبعت عبد بني علا *** ج، تلك أشراط القيامه»
وبالبطيحة من أرض كسكر قرية تسمى سمرقند أيضا، ذكره المفجّع في كتاب المنقذ من الإيمان في أخبار ملوك اليمن قال: لما مات ناشر ينعم الملك قام بالملك من بعده شمر بن افريقيس بن أبرهة فجمع جنوده وسار في خمسمائة ألف رجل حتى ورد العراق فأعطاه يشتاسف الطاعة وعلم أن لا طاقة له به لكثرة جنوده وشدّة صولته، فسار من العراق لا يصدّه صادّ إلى بلاد الصين فلمّا صار بالصّغد اجتمع أهل تلك البلاد وتحصّنوا منه بمدينة سمرقند فأحاط بمن فيها من كلّ وجه حتى استنزلهم بغير أمان فقتل منهم مقتلة عظيمة وأمر بالمدينة فهدمت فسميت شمركند، أي شمر هدمها، فعرّبتها العرب فقالت سمرقند، وقد ذكر ذلك دعبل الخزاعي في قصيدته التي يفتخر فيها ويردّ بها على الكميت ويذكر التبابعة:
«وهم كتبوا الكتاب بباب مرو، *** وباب الصّين كانوا الكاتبينا»
«وهم سمّوا قديما سمرقندا، *** وهم غرسوا هناك التّبّتينا»
فسار شمر وهو يريد الصين فمات هو وأصحابه عطشا ولم يرجع منهم مخبّر، فبقيت سمرقند خرابا إلى أن ملك تبّع الأقرن بن أبي مالك بن ناشر ينعم فلم تكن له همّة إلّا الطلب بثأر جدّه شمر الذي هلك بأرض الصين فتجهّز واستعدّ وسار في جنوده نحو العراق فخرج إليه بهمن بن إسفنديار وأعطاه الطاعة وحمل إليه الخراج حتى وصل إلى سمرقند فوجدها خرابا، فأمر بعمارتها وأقام عليها حتى ردّها إلى أفضل ما كانت عليه، وسار حتى أتى بلادا واسعة فبنى التّبّت كما ذكرنا، ثمّ قصد الصين فقتل وسبى وأحرق وعاد إلى اليمن في قصة طويلة، وقيل: إن سمرقند من بناء الإسكندر، واستدارة حائطها اثنا عشر فرسخا، وفيها بساتين ومزارع وأرحاء، ولها اثنا عشر بابا، من الباب إلى الباب فرسخ، وعلى أعلى السور آزاج وأبرجة للحرب، والأبواب الاثنا عشر من حديد، وبين كلّ بابين منزل للنوّاب، فإذا جزت المزارع صرت إلى الربض وفيه أبنية وأسواق، وفي ربضها من المزارع عشرة آلاف جريب، ولهذه المدينة، أعني الداخلة، أربعة أبواب، وساحتها ألفان وخمسمائة جريب، وفيها المسجد الجامع والقهندز وفيه مسكن السلطان، وفي هذه المدينة الداخلة نهر يجري في رصاص، وهو نهر قد بني عليه مسنّاة عالية من حجر يجري عليه الماء إلى أن يدخل المدينة من باب كسّ، ووجه هذا النهر رصاص كلّه، وقد عمل في خندق المدينة مسنّاة وأجري عليها، وهو نهر يجري في وسط السوق بموضع يعرف بباب الطاق،
وكان أعمر موضع بسمرقند، وعلى حافات هذا النهر غلّات موقوفة على من بات في هذا النهر وحفظة من المجوس عليهم حفظ هذا النهر شتاء وصيفا مستفرض ذلك عليهم، وفي المدينة مياه من هذا النهر عليها بساتين، وليس من سكة ولا دار إلّا وبها ماء جار إلّا القليل، وقلّما تخل
ثبت فيها ملك العرب، وأخذ رهانهم وانصرف، فلمّا كانت سنة 87 عبر قتيبة بن مسلم النهر وغزا بخارى والشاش ونزل على سمرقند، وهي غزوته الأولى، ثمّ غزا ما وراء النهر عدّة غزوات في سنين سبع وصالح أهلها على أن له ما في بيوت النيران وحلية الأصنام، فأخرجت إليه الأصنام فسلب حليها وأمر بتحريقها، فقال سدنتها: إن فيها أصناما من أحرقها هلك! فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، وأخذ شعلة نار وأضرمها فاضطرمت فوجد بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب خمسين ألف مثقال، وبسمرقند عدّة مدن مذكورة في مواضعها، منها: كرمانية ودبوسية وأشروسنة والشاش ونخشب وبناكث، وقالوا: ليس في الأرض مدينة أنزه ولا أطيب ولا أحسن مستشرفا من سمرقند، وقد شبهها حضين بن المنذر الرقاشي فقال:
كأنّها السماء للخضرة وقصورها الكواكب للإشراق ونهرها المجرّة للاعتراض وسورها الشمس للإطباق، ووجد بخط بعض ظرفاء العراق مكتوبا على حائط سمرقند:
«وليس اختياري سمرقند محلّة *** ودار مقام لاختيار ولا رضا»
«ولكنّ قلبي حلّ فيها فعاقني *** وأقعدني بالصغر عن فسحة الفضا»
«وإنّي لممّن يرقب الدّهر راجيا *** ليوم سرور غير مغرى بما مضى»
وقال أحمد بن واضح في صفة سمرقند:
«علت سمرقند أن يقال لها *** زين خراسان جنّة الكور»
«أليس أبراجها معلّقة *** بحيث لا تستبين للنّظر»
«ودون أبراجها خنادقها *** عميقة ما ترام من ثغر»
«كأنّها وهي وسط حائطها *** محفوفة بالظّلال والشّجر»
«بدر وأنهارها المجرّة وال *** آطام مثل الكواكب الزّهر»
وقال البستي:
«للنّاس في أخراهم جنّة، *** وجنّة الدنيا سمرقند»
«يا من يسوّي أرض بلخ بها، *** هل يستوي الحنظل والقند؟»
قال الأصمعي: مكتوب على باب سمرقند بالحميرية:
بين هذه المدينة وبين صنعاء ألف فرسخ، وبين بغداد وبين إفريقية ألف فرسخ، وبين سجستان وبين البحر مائتا فرسخ، ومن سمرقند إلى زامين سبعة عشر
فرسخا، وقال الشيخ أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد الله ابن المظفّر الكسّي بسمرقند أنبأنا أبو الحسن عليّ بن عثمان بن إسماعيل الخرّاط إملاء أنبأنا عبد الجبار بن أحمد الخطيب أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله الخطيب
يا أبا حمزة ما حفظها؟ فقال: أخبرني حبيبي رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أن مدينة بخراسان خلف النهر تدعى المحفوظة، لها أبواب على كلّ باب منها خمسة آلاف ملك يحفظونها يسبّحون ويهلّلون، وفوق المدينة خمسة آلاف ملك يبسطون أجنحتهم على أن يحفظوا أهلها، ومن فوقهم ملك له ألف رأس وألف فم وألف لسان ينادي يا دائم يا دائم يا الله يا صمد احفظ هذه المدينة، وخلف المدينة روضة من رياض الجنة، وخارج المدينة ماء حلو عذب من شرب منه شرب من ماء الجنّة ومن اغتسل فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وخارج المدينة على ثلاثة فراسخ ملائكة يطوفون يحرسون رساتيقها ويدعون الله بالذكر لهم، وخلف هؤلاء الملائكة واد فيه حيّات وحيّة تخرج على صفة الآدميّين تنادي يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ارحم هذه المدينة المحفوظة، ومن تعبّد فيها ليلة تقبّل الله منه عبادة سبعين سنة، ومن صام فيها يوما فكأنّما صام الدهر، ومن أطعم فيها مسكينا لا يدخل منزله فقر أبدا، ومن مات في هذه المدينة فكأنّما مات في السماء السابعة ويحشر يوم القيامة مع الملائكة في الجنة، وزاد حذيفة بن اليمان في رواية: ومن خلفها قرية يقال لها قطوان يبعث منها سبعون ألف شهيد يشفع كلّ شهيد منهم في سبعين من أهل بيته، وقال حذيفة: وددت أن يوافقني هذا الزمان وكان أحبّ إليّ من أن أوافق ليلة القدر، وهذا الحديث في كتاب الأفانين للسمعاني، وينسب إلى سمرقند جماعة كثيرة، منهم: محمد بن عدي بن الفضل أبو صالح السمرقندي نزيل مصر، سمع بدمشق أبا الحسين الميداني، وبمصر أبا مسلم الكاتب وأبا الحسن عليّ بن محمد بن إسحاق الحلبي وأبا الحسين أحمد بن محمد الأزهر التنيسي المعروف بابن السمناوي ومحمد ابن سراقة العامري وأحمد بن محمد الجمّازي وأبا القاسم الميمون بن حمزة الحسيني وأبا الحسن محمد بن أحمد بن العباس الإخميمي وأبا الحسن علي بن محمد ابن سنان، روى عنه أبو الربيع سليمان بن داود بن أبي حفص الجبلي وأبو عبد الله بن الخطّاب وسهل بن بشر وأبو الحسن عليّ بن أحمد بن ثابت العثماني الديباجي وأبو محمد هيّاج بن عبيد الحطّيني، ومات سنة 444 وأحمد بن عمر بن الأشعث أبو بكر السمرقندي، سكن دمشق مدة وكان يكتب بها المصاحف ويقرأ ويقرئ القرآن، وسمع بدمشق أبا علي بن أبي نصر وأبا عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، روى عنه أبو الفضل كمّاد بن ناصر بن نصر المراغي الحدّادي، حدث عنه ابنه أبو القاسم، قال ابن عساكر:
سمعت الحسن بن قيس يذكر أن أبا بكر السمرقندي كان يكتب المصاحف من حفظه وكان لجماعة من أهل دمشق فيه رأي حسن فسمعت الحسن بن قيس يذكر أنّه خرج مع جماعة إلى ظاهر البلد في فرجة فقدّموه يصلي بهم وكان مزّاحا، فلمّا سجد بهم تركهم في
الصلاة وصعد إلى شجرة، فلمّا طال عليهم انتظاره رفعوا رؤوسهم فلم يجدوه فإذا هو في الشجرة يصيح صياح السنانير فسقط من أعينهم، فخرج إلى بغداد وترك أولاده بدمشق واتصل ببغداد بعفيف الخادم القائمي فكان يكرمه وأنزله في موضع من داره، فكان إذا جاءه الفرّاش بالطعا
سله عن سبب بكائه، فسأله فقال: إن لي بدمشق أولادا في ضيق فإذا جاءني الطعام تذكّرتهم، فأخبره الفرّاش بذلك، فقال: سله أين يسكنون وبمن يعرفون، فسأله فأخبره، فبعث عفيف إليهم من حملهم من دمشق إلى بغداد، فما أحسّ بهم أبو بكر حتى قدم عليه ابنه أبو محمد وقد خلّف أمّه وأخويه عبد الواحد وإسماعيل بالرحبة ثمّ قدموا بعد ذلك فلم يزالوا في ضيافة عفيف حتى مات، وسألت ابنه أبا القاسم عن وفاته فقال في رمضان سنة 489.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
55-معجم البلدان (السواد)
السَّوَادُ:موضعان: أحدهما نواحي قرب البلقاء سميت بذلك لسواد حجارتها فيما أحسب، والثاني يراد به رستاق العراق وضياعها التي افتتحها المسلمون على عهد عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، سمي بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار لأنّه حيث تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر كانوا إذا خرجوا من أرضهم ظهرت لهم خضرة الزروع والأشجار فيسمونه سوادا كما إذا رأيت شيئا من بعد قلت ما ذلك السواد، وهم يسمون الأخضر سوادا والسواد أخضر، كما قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب وكان أسود فقال:
«وأنا الأخضر من يعرفني؟ *** أخضر الجلدة من نسل العرب»
فسموه سوادا لخضرته بالزروع والأشجار، وحدّ السواد من حديثة الموصل طولا إلى عبّادان ومن العذيب بالقادسيّة إلى حلوان عرضا فيكون طوله مائة وستين فرسخا، وأما العراق في العرف فطوله يقصر عن طول السواد وعرضه مستوعب لعرض السواد لأنّ أوّل العراق في شرقي دجلة العلث على حدّ طسوج بزرجسابور، وهي قرية تناوح حربى موقوفة على العلوية، وفي غربي دجلة حربى ثمّ تمتد إلى آخر أعمال البصرة من جزيرة عبّادان، وكانت تعرف بميان روذان معناه بين الأنهر، وهي من كورة بهمن أردشير، فيكون طوله مائة وخمسة وعشرين فرسخا، يقصر عن طول السواد بخمسة وثلاثين فرسخا، وعرضه كالسواد ثمانون فرسخا، قال قدامة: يكون ذلك منكسرا عشرة آلاف فرسخ وطول الفرسخ اثنا عشر ألف ذراع بالذراع المرسلة ويكون بذراع المسافة وهي الذراع الهاشمية تسعة آلاف ذراع، فيكون الفرسخ إذا ضرب في مثله اثنين وعشرين ألفا وخمسمائة جريب، فإذا ضربت في عشرة آلاف بلغت مائتي ألف ألف وعشرين ألف جريب يسقط منها بالتخمين آكامها وآجامها وسباخها ومجاري أنهارها ومواضع مدنها وقراها ومدى ما بين طرقها الثلث فيبقى مائة ألف ألف وخمسون ألف ألف جريب، يراح منها النصف على ما فيها من الكرم والنخل والشجر والعمارة الدائمة المتصلة مع التخمين بالتقريب على كلّ جريب قيمة ما يلزمه للخراج درهمان وذلك أقلّ من العشر على أن
يضرب بعض ما يؤخذ منها من أصناف الغلّات ببعض فيبلغ ذلك مائة ألف ألف وخمسين ألف ألف درهم مثاقيل، هذا سوى خراج أهل الذمّة وسوى الصدقة، فإن ذلك لا مدخل له في الخراج، وكانت غلّات السواد تجري على المقاسمة في أيّام ملوك فارس إلى ملك قباذ بن فيروز فإنّه مسحه و
وإنّما شبهوه بذلك لأن الآراء تشعّبت عن أهله بصحة الفكر والرويّة كما تتشعّب عن القلب بدقائق العلوم ولطائف الآداب والأحكام، فأمّا من حولها فأهلها يستعملون أطرافهم بمباشرة العلاج، وخصب بلاد إيرانشهر بسهولة لا عوائق فيها ولا شواهق تشينها ولا مفاوز موحشة ولا براري منقطعة عن تواصل العمارة والأنهار المطردة من رساتيقها وبين قراها مع قلّة جبالها وآكامها وتكاثف عمارتها وكثرة أنواع غلّاتها وثمارها والتفاف أشجارها وعذوبة مائها وصفاء هوائها وطيب تربتها مع اعتدال طينتها وتوسط مزاجها وكثرة أجناس الطير والصيد في ظلال شجرها من طائر بجناح وماش على ظلف وسابح في بحر، قد أمنت ممّا تخافه البلدان من غارات الأعداء وبواثق المخالفين مع ما خصّت به من الرافدين دجلة والفرات إذ قد اكتنفاها لا ينقطعان شتاء ولا صيفا على بعد منافعهما في غيرها فإنّه لا ينتفع منهما بكثر فائدة حتى يدخلاها فتسيح مياههما في جنباتها وتنبطح في رساتيقها فيأخذون صفوه هنيئا ويرسلون كدره وأجنه إلى البحر لأنّهما يشتغلان عن جميع الأراضي التي يمرّان بها ولا ينتفع بهما في غير السواد إلّا بالدوالي والدواليب بمشقة وعناء، وكانت غلات السواد تجري على المقاسمة في أيّام ملوك الفرس والأكاسرة وغيرهم إلى أن ملك قباذ بن فيروز فإنّه مسحه وجعل على أهله الخراج، وكان السبب في ذلك أنّه خرج يوما متصيّدا فانفرد عن أصحابه بصيد طرده حتى وغل في شجر ملتفّ وغاب الصيد الذي اتبعه عن بصره فقصد رابية يتشوّفه فإذا تحت الرابية قرية كبيرة، ونظر إلى بستان قريب منه فيه نخل ورمّان
وغير ذلك من أصناف الشجر وإذا امرأة واقفة على تنّور تخبز ومعها صبيّ لها كلّما غفلت عنه مضى الصبي إلى شجرة رمّان مثمرة ليتناول من رمّانها فتعدو خلفه وتمنعه من ذلك ولا تمكّنه من أخذ شيء منه، فلم تزل كذلك حتى فرغت من خبزها والملك يشاهد ذلك كلّه، فلمّا لحق
فقال بعض وزرائه: نعم، يأمر الملك بالمساحة عليهم ويأمر أن يلزم كلّ جريب من كل صنف بقدر ما يحصّ الملك من الغلّة فيؤدّى ذلك إليه وتطلق أيديهم في غلاتهم ويكون ذلك على قرب مخارج المير وبعدها من الممتارين، فأمر قباذ بمساحة السواد وإلزام الرعية الخراج بعد حطيطة النفقة والمؤونة على العمارة والنفقة على كري الأنهار وسقاية الماء وإصلاح البريدات وجعل جميع ذلك على بيت المال فبلغ خراج السواد في السنة مائة ألف ألف وخمسين ألف ألف درهم مثاقيل، فحسنت أحوال الناس ودعوا للملك بطول البقاء لما نالهم من العدل والرفاهية، وقد ذكرنا المشهور من كور السواد في المواضع التي قضى بها الترتيب حسب وضع الكتاب، وقد وقع اختلاف مفرط بين مساحة قباذ ومساحة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ذكرته كما وجدته من غير أن أحقّق العلة في هذا التفاوت الكبير: أمر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بمسح السواد الذي تقدّم حدّه لم يختلف صاحب هذه الرواية فيه فكان بعد أن أخرج عنه الجبال والأودية والأنهار ومواضع المدن والقرى ستة وثلاثين ألف ألف جريب فوضع على جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الكرم والشجر ستة دراهم وحتم الجزية على ستمائة ألف إنسان وجعلها طبقات، الطبقة العالية ثمانية وأربعون درهما والوسطى أربعة وعشرون درهما والسّفلى اثنا عشر درهما، فجبى السواد مائة ألف ألف وثمانية وعشرين ألف ألف درهم، وقال عمر بن عبد العزيز: لعن الله الحجّاج! فإنّه ما كان يصلح للدنيا ولا للآخرة، فإن عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، جبى العراق بالعدل والنصفة مائة ألف ألف وثمانية وعشرين ألف ألف درهم، وجباه زياد مائة ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف درهم، وجباه ابنه عبيد الله أكثر منه بعشرة آلاف ألف درهم، ثمّ جباه الحجاج مع عسفه وظلمه وجبروته ثمانية عشر ألف ألف درهم فقط وأسلف الفلاحين للعمارة ألفي ألف فحصل له ستة عشر ألف ألف، قال عمر بن عبد العزيز: وها أنا قد رجع إليّ على خرابه فجبيته مائة ألف ألف وأربعة وعشرين ألف ألف درهم بالعدل والنصفة وإن عشت له لأزيدنّ على جباية عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، وكان أهل السواد قد شكوا إلى الحجاج خراب بلدهم فمنعهم من ذبح البقر لتكثر العمارة، فقال شاعر:
«شكونا إليه خراب السّواد، *** فحرّم جهلا لحوم البقر»
وقال عبد الرحمن بن جعفر بن سليمان: مال السواد ألف ألف ألف درهم، فما نقص ممّا في يد السلطان منه فهو في يد الرعية، وما نقص من يد الرعية فهو في بيت مال السلطان، قالوا: وليس لأهل السواد عهد إلّا الحيرة وأليس وبانقيا فلذلك يقال لا يصحّ بيع أرض السواد دون ال
دعهم يكونوا مادّة للمسلمين، فبعث عثمان بن حنيف الأنصاري فمسح الأرض ووضع الخراج ووضع على رؤوسهم ما بين ثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين درهما واثني عشر درهما، وشرط عليهم ضيافة المسلمين وشيئا من برّ وعسل، ووجد السواد ستة وثلاثين ألف ألف جريب فوضع على كل جريب درهما وقفيزا، قال أبو عبيد: بلغني أن ذلك القفيز كان مكوّكا لهم يدعى السابرقان، وقال يحيى بن آدم: وهو المحتوم الحجاجيّ، وقال محمد ابن عبد الله الثقفي: وضع عمر، رضي الله عنه، على كلّ جريب من السواد، عامرا كان أو غامرا يبلغه الماء، درهما وقفيزا وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم وخمسة أقفزة وعلى جريب الكرم عشرة دراهم وعشرة أقفزة، ولم يذكر النخل، وعلى رؤوس الرجال ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر درهما، وحتم عثمان بن حنيف على رقاب خمسمائة ألف وخمسين ألف علج بأخذ الجزية، وبلغ الخراج في ولايته مائة ألف ألف درهم، ومسح حذيفة بن اليمان سقي الفرات، ومات بالمدائن، والقناطر المعروفة بقناطر حذيفة منسوبة إليه، وذلك لأنّه نزل عندها، وكان ذراعه وذراع ابن حنيف ذراع اليد وقبضة وإبهاما ممدودة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
56-معجم البلدان (العزى)
العُزَّى:بضم أوله في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى 53: 19، اللّات: صنم كان لثقيف، والعزّى:
سمرة كانت لغطفان يعبدونها وكانوا بنوا عليها بيتا وأقاموا لها سدنة، فبعث النبي، صلّى الله عليه وسلّم، خالد بن الوليد إليها فهدم البيت وأحرق السّمرة، والعزّى تأنيث الأعزّ مثل الكبرى تأنيث الأكبر، والأعزّ بمعنى العزيز والعزى بمعنى العزيزة، وقال ابن حبيب: العزى شجرة كانت بنخلة عندها وثن تعبده غطفان وسدنتها من بني صرمة بن مرّة، قال أبو منذر بعد ذكر مناة واللّات: ثم اتخذوا العزّى وهي أحدث من اللات ومناة، وذلك أني سمعت العرب سمّت بها عبد العزّى فوجدت تميم بن مرّ سمّى ابنه زيد مناة بن تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة وعبد مناة بن أدّ، وباسم اللّات سمّى ثعلبة بن عكابة ابنه تيم اللات وتيم اللات بن رفيدة بن ثور وزيد اللات بن رفيدة بن ثور بن وبرة بن مرّ بن أدّ ابن طابخة وتيم اللات بن النمر بن قاسط وعبد العزّى ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهي أحدث من الأولين، وعبد العزّى بن كعب من أقدم ما سمّت به العرب، وكان الذي اتخذ العزّى ظالم بن أسعد، وكانت بواد من نخلة الشامية يقال له حراض بازاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة، وذلك فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، فبني عليها بسّا، يريد بيتا، وكانوا يسمعون فيه الصوت، وكانت العرب وقريش تسمّي بها عبد العزّى، وكانت أعظم الأصنام عند قريش، وكانوا يزورونها ويهدون لها ويتقرّبون عندها بالذبائح، قال أبو المنذر: وقد بلغنا أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، ذكرها يوما فقال: لقد اهتديت للعزّى شاة عفراء وأنا على دين قومي، وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول: واللّات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى فانهنّ الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى، وكانوا يقولون بنات الله، عز وجل، وهنّ يشفعن إليه، فلما بعث رسوله، صلّى الله عليه وسلّم، أنزل عليه:
أفرأيتم اللّات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، وكانت قريش قد حمت لها شعبا من وادي حراض يقال له سقام يضاهئون به حرم الكعبة، وقد ذكر سقام في موضعه من هذا الكتاب، وللعزّى يقول درهم بن زيد الأوسي:
«إني وربّ العزّى السعيدة والل *** هـ الذي دون بيته سرف»
وكان لها منحر ينحرون فيه هداياهم يقال له الغبغب، وقد ذكر في موضعه أيضا، وكانت قريش تخصها بالإعظام فلذلك يقول زيد بن عمرو بن نفيل، وكان قد تألّه في الجاهلية وترك عبادتها وعبادة غيرها من الأصنام:
«تركت اللّات والعزّى جميعا، *** كذلك يفعل الجلد الصّبور»
«فلا العزّى أدين ولا ابنتيها، *** ولا صنمي بني عمرو أزور»
«ولا هبلا أزور وكان ربّا *** لنا في الدهر، إذ حلمي صغير»
وكانت سدنة العزّى بني شيبان بن جابر بن مرّة بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن عتبة بن سليم بن منصور، وكانوا حلفاء بني الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وكان آخر من سدنها منهم دبيّة بن حرمي السلمي، وله يقول أبو خراش الهذلي وكان قدم عليه فحذاه نعلين ج
«حذاني بعد ما خذمت نعالي *** دبيّة، إنه نعم الخليل»
«مقابلتين من صلوي مشبّ *** من الثيران وصلهما جميل»
«فنعم معرّس الأضياف تدحى *** رحالهم شآمية بليل»
«يقابل جوعهم بمكلّلات *** من القربى يرعّبها الحميل»
فلم تزل العزى كذلك حتى بعث الله نبيّه، صلّى الله عليه وسلّم، فعابها وغيرها من الأصنام ونهاهم عن عبادتها ونزل القرآن فيها فاشتدّ ذلك على قريش ومرض أبو أحيحة سعيد بن العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه أبو لهب يعوده فوجده يبكي فقال له: ما يبكيك يا أبا أحيحة، أمن الموت تبكي ولا بدّ منه؟ فقال:
لا ولكني أخاف ألا تعبدوا العزّى بعدي، فقال له أبو لهب: ما عبدت في حياتك لأجلك ولا تترك عبادتها بعدك لموتك، فقال أبو أحيحة: الآن علمت أن لي خليفة، وأعجبه شدّة نصبه في عبادتها، قال أبو المنذر: وكان سعيد بن العاصي أبو أحيحة يعتمّ بمكة فإذا اعتم لم يعتمّ أحد بلون عمامته، قال أبو المنذر: حدّثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما افتتح النبي، صلّى الله عليه وسلّم، مكة بعث خالد بن الوليد فقال له: ائت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى، فأتاها فعضدها، فلما عاد إليه قال: هل رأيت شيئا؟
قال: لا، قال: فاعضد الثانية، فأتاها فعضدها، فلما عاد إليه قال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال:
فاعضد الثالثة، فأتاها فإذا هو بخنّاسة نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها وخلفها دبيّة ابن حرمي السلمي ثم الشيباني وكان سادنها، فلما نظر إلى خالد قال:
«أعزّيّ شدّي شدّة لا تكذّبي، *** على خالد ألقي الخمار وشمّري»
«فإنك إلا تقتلي اليوم خالدا، *** فبوئي بذلّ عاجل وتنصّري»
فقال خالد:
«يا عزّ كفرانك لا سبحانك، *** إني رأيت الله قد أهانك»
ثم ضربها ففلّق رأسها فإذا هي حممة ثم عضد الشجر وقتل دبيّة السادن، وفيه يقول أبو خراش الهذلي يرثيه:
«ما لدبيّة منذ اليوم لم أره *** وسط الشروب ولم يلمم ولم يطف»
«لو كان حيّا لغاداهم بمترعة *** من الرواويق من شيزى بني الهطف»
«ضخم الرّماد عظيم القدر جفنته *** حين الشتاء كحوض المنهل اللّقف»
قال هشام: يطف من الطّوفان أو من طاف يطيف، والهطف: بطن من عمرو بن أسد، واللقف: الحوض المنكسر الذي يغلب أصله الماء فيتثلم، يقال: قد
لقف الحوض، ثم أتى النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره قال: تلك العزى ولا عزّى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد بعد اليوم! قال: ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئا من الأصنام إعظامهم العزّى ثم اللات ثم مناة، فأما العزى فكانت قريش تخصها دون غيرها بالهدية والزيارة وذلك فيما أظن لقربها منهم، وكانت ثقيف تخص اللات كخاصة قريش العزّى، وكانت الأوس والخزرج تخص مناة كخاصة هؤلاء الآخرين، وكلهم كان معظما لها ولم يكونوا يرون في الخمسة الأصنام التي دفعها عمرو بن لحيّ، وهي التي ذكرها الله تعالى في القرآن المجيد حيث قال: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا 71: 23، كرأيهم في هذه ولا قريبا من ذلك فظننت أن ذلك كان لبعدها منهم، وكانت قريش تعظمها وكانت غنيّ وباهلة يعبدونها معهم، فبعث النبي، صلّى الله عليه وسلّم، خالد ابن الوليد فقطع الشجر وهدم البيت وكسر الوثن.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
57-معجم البلدان (الفسطاط)
الفُسْطَاطُ:وفيه لغات وله تفسير واشتقاق وسبب يذكر عند ذكر عمارته، وأنا أبدأ بحديث فتح مصر ثم أذكر اشتقاقه والسبب في استحداث بنائه، حدث الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي
حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر وعيّاش بن عبّاس القتباني وبعضهم يزيد على بعض في الحديث: وهو أن عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، لما قدم الجابية خلا به عمرو بن العاص وذلك في سنة 18 من التاريخ فقال: يا أمير المؤمنين ائذن لي في المسير إلى مصر فإنك إن فتحتها كانت
قد أمددتك باثني عشر ألفا وما يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة، وكان فيهم أربعة آلاف عليهم أربعة من الصحابة الكبار: الزّبير بن العوّام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلّد، رضي الله عنهم، وقيل إن الرابع خارجة بن حذافة دون مسلمة، ثم أحاط المسلمون بالحصن وأمير الحصن يومئذ المندفور الذي يقال له الأعيرج من قبل المقوقس بن قرقب اليوناني، وكان المقوقس ينزل الإسكندرية وهو في سلطان هرقل غير أنه حاصر الحصن حين حاصره المسلمون، ونصب عمرو فسطاطه في موضع الدار المعروفة بإسرائيل على باب زقاق الزّهري وأقام المسلمون على باب الحصن محاصري الروم سبعة أشهر ورأى الزّبير بن العوّام خللا مما يلي دار أبي صالح الحرّاني الملاصقة لحمّام أبي نصر السّرّاج عند سوق الحمّام فنصب سلّما وأسنده إلى الحصن وقال: إني أهب نفسي لله عز وجل فمن شاء أن يتبعني فليفعل، فتبعه جماعة حتى أوفى على الحصن فكبّر وكبّروا ونصب شرحبيل بن حجيّة المرادي سلّما آخر مما يلي زقاق الزمامرة، ويقال إن السلّم الذي صعد عليه الزبير كان موجودا في داره التي بسوق وردان إلى أن وقع حريق في هذه الدار فاحترق بعضه ثم أحرق ما بقي منه في ولاية عبد العزيز بن محمد بن النعمان، أخزاه الله، لقضاء الإسماعيلية وذلك بعد سنة 390، فلما رأى المقوقس أن العرب قد ظفروا بالحصن جلس في سفينة هو وأهل
القوة وكانت ملصقة بباب الحصن الغربي ولحقوا بالجزيرة وقطعوا الجسر وتحصنوا هناك والنيل حينئذ في مده، وقيل: إن الأعيرج خرج معهم، وقيل:
أقام بالحصن، وسأله المقوقس في الصلح فبعث إليه عمرو عبادة بن الصامت وكان رجلا أسود طوله عشرة أشبار فصالحه المقوقس عن القبط والروم على أن للروم الخيار في الصلح إلى أن يوافي كتاب ملكهم فإن رضي تمّ ذلك وإن سخط انتقض ما بينه وبين الروم وأما القبط فبغير خيار، وكان الذي انعقد عليه الصلح أن فرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران على كل نفس في السنة من البالغين شريفهم ووضيعهم دون الشيوخ والأطفال والنساء وعلى أن للمسلمين عليهم النزول حيث نزلوا ثلاثة أيام وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يعترضون في شيء منها، وكان عدد القبط يومئذ أكثر من ستة آلاف ألف نفس والمسلمون خمسة عشر ألفا، فمن قال إن مصر فتحت صلحا تعلّق بهذا الصلح، وقال: إن الأمر لم يتم إلا بما جرى بين عبادة بن الصامت والمقوقس وعلى ذلك أكثر علماء مصر، منهم عقبة بن عامر وابن أبي حبيب والليث بن سعد وغيرهم، وذهب الذين قالوا إنها فتحت عنوة إلى أن الحصن فتح عنوة فكان حكم جميع الأرض كذلك، وبه قال عبد الله بن وهب ومالك بن أنس وغيرهما، وذهب بعضهم إلى أن بعضها فتح عنوة وبعضها فتح صلحا، منهم: ابن شهاب وابن لهيعة، وكان فتحها يوم الجمعة مستهل المحرم سنة 20 للهجرة، وذكر يزيد بن أبي حبيب أن عدد الجيش الذين شهدوا فتح الحصن خمسة عشر ألفا وخمسمائة، وقال عبد الرحمن بن سعيد بن مقلاص: إن الذين جرت سهامهم في الحصن من المسلمين اثنا عشر ألفا وثلاثمائة بعد من أصيب منهم في الحصار بالقتل والموت وكان قد أصابهم طاعون، ويقال إن الذين قتلوا من المسلمين دفنوا في أصل الحصن، فلما حاز عمرو ومن معه ما كان في الحصن أجمع على المسير إلى الإسكندرية فسار إليها في ربيع الأول سنة 20 وأمر عمرو بفسطاطه أن يقوّض فإذا بيمامة قد باضت في أعلاه فقال: لقد تحرّمت بجوارنا، أقرّوا الفسطاط حتى تنقف وتطير فراخها، فأقرّ فسطاطه ووكّل به من يحفظه أن لا تهاج ومضى إلى الإسكندرية وأقام عليها ستة أشهر حتى فتحها الله عليه فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في سكناها فكتب إليه: لا تنزل بالمسلمين منزلا يحول بيني وبينهم فيه نهر ولا بحر، فقال عمرو لأصحابه: أين ننزل؟
فقالوا: نرجع أيها الأمير إلى فسطاطك فنكون على ماء وصحراء، فقال للناس: نرجع إلى موضع الفسطاط، فرجعوا وجعلوا يقولون: نزلت عن يمين الفسطاط وعن شماله، فسميت البقعة بالفسطاط لذلك، وتنافس الناس في المواضع فولى عمرو بن العاص على الخطط معاوية بن حديج وشريك بن سميّ وعمرو ابن قحزم وجبريل بن ناشرة المعافري فكانوا هم الذين نزّلوا القبائل وفصلوا بينهم، وللعرب ست لغات في الفسطاط، يقال: فسطاط بضم أوله وفسطاط بكسره وفسّاط بضم أوله وإسقاط الطاء الأولى وفسّاط بإسقاطها وكسر أوله وفستاط وفستاط بدل الطاء تاء ويضمون ويفتحون، ويجمع فساطيط، وقال الفراء في نوادره: ينبغي أن يجمع فساتيط ولم أسمعها فساسيط، وأما معناه فإنّ الفسطاط الذي كان لعمرو ابن العاص هو بيت من أدم أو شعر، وقال صاحب العين: الفسطاط ضرب من الأبنية، قال: والفسطاط أيضا مجتمع أهل الكورة حوالي مسجد جماعتهم، يقال: هؤلاء أهل الفسطاط، وفي الحديث: عليكم
بالجماعة فإن يد الله على الفسطاط، يريد المدينة التي يجتمع فيها الناس، وكل مدينة فسطاط، قال: ومنه قيل لمدينة مصر التي بناها عمرو بن العاص الفسطاط، روي عن الشعبي أنه قال: في العبد الآبق إذا أخذ في الفسطاط ففيه عشرة دراهم وإذا أخذ خارج الفسطاط ففيه أربعون
سألت شيخا من القدماء عن فتح مصر فقال: هاجرنا إلى المدينة أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وأنا محتلم وشهدت فتح مصر، وقلت: إن ناسا يذكرون أنه لم يكن لهم عهد، فقال: لا يبالي أن لا يصلي من قال إنه ليس لهم عهد، فقلت: هل كان لهم كتاب؟ قال: نعم كتب ثلاثة: كتاب عند طلما صاحب إخنى وكتاب عند قرمان صاحب رشيد وكتاب عند يحنّس صاحب البرلّس، قلت: فكيف كان صلحهم؟ قال: ديناران على كل إنسان جزية وأرزاق المسلمين، قلت: أفتعلم ما كان من الشروط؟
قال: نعم ستة شروط: لا يخرجون من ديارهم ولا تنتزع نساؤهم ولا كنوزهم ولا أراضيهم ولا يزاد عليهم، وقال عقبة بن عامر: كانت شروطهم ستة:
أن لا يؤخذ من أرضهم شيء ولا يزاد عليهم ولا يكلفوا غير طاقتهم ولا تؤخذ ذراريهم وأن يقاتل عنهم عدوهم من ورائهم، وعن يحيى بن ميمون الحضرمي قال: لما فتح عمرو بن العاص مصر صولح جميع من فيها من الرجال من القبط ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم صبيّ ولا امرأة ولا شيخ على دينارين دينارين فأحصوا لذلك فبلغت عدتهم ثلاثمائة ألف ألف، وذكر آخرون أن مصر فتحت عنوة، روى ابن وهب عن داود بن عبد الله الحضرمي أن أبا قنّان حدثه عن أبيه أنه سمع عمرو بن العاص يقول: قعدت في مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر عليّ عهد ولا عقد إلا لأهل انطابلس فإن لهم عهدا نوفي لهم به إن شئت قتلت وإن شئت خمست وإن شئت بعت، وروى ابن وهب عن عياض بن عبد الله الفهري عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عمرو بن العاص فتح مصر بغير عقد ولا عهد وأن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حبس درّها وصرّها أن يخرج منها شيء نظرا للإمام وأهله، والله الموفق.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
58-معجم البلدان (الفلس)
الفُلُسُ:بضم أوله، ويجوز أن يكون جمع فلس قياسا مثل سقف وسقف إلا أنه لم يسمع: فهو علم مرتجل لاسم صنم، هكذا وجدناه مضبوطا في الجمهرة عن ابن الكلبي فيما رواه السّكّري عن ابن حبيب عنه، ووجدناه في كتاب الأصنام بخط ابن الجواليقي الذي نقله من خط ابن الفرات وأسنده إلى الكلبي فلس، بفتح الفاء وسكون اللام، قال ابن حبيب: الفلس اسم صنم كان بنجد تعبده طيّء وكان قريبا من فيد وكان سدنته بني بولان، وقيل:
الفلس أنف أحمر في وسط أجإ وأجأ أسود، قال ابن دريد: الفلس صنم كان لطيّء بعث إليه رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، عليّا، رضي الله عنه، ليهدمه سنة تسع ومعه مائة وخمسون من الأنصار فهدمه وأصاب فيه السيوف الثلاثة مخذم ورسوب واليماني وسبى بنت حاتم، وقرأت بخط أبي منصور الجواليقي في كتاب الأصنام وذكر أنه من خط أبي الحسن محمد بن العباس بن الفرات مسندا إلى الكلبي أبي المنذر هشام بن محمد أخبرنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبّار بن أحمد الصّيرفي أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلم أخبرنا أبو عبد الله المرزباني أنبأنا الحسن بن عليل العنزي أنبأنا أبو الحسن عليّ بن الصبّاح بن الفرات الكاتب قال: قرأت على هشام بن محمد الكلبي في سنة 201، قال: أنبأنا أبو باسل الطائي عن عمّه عنترة بن الأخرس قال:
كان لطيّء صنم يقال له الفلس، هكذا ضبطه بفتح الفاء وسكون اللام، بلفظ الفلس الذي هو واحد الفلوس الذي يتعامل به، وقد ضبطناه عمن قدّمنا ذكره بالضم، قال عنترة: وكان الفلس أنفا أحمر في وسط جبلهم الذي يقال له أجأ كأنه تمثال إنسان وكانوا يعبدونه ويهدون إليه ويعترون عنده عتائرهم ولا يأتيه خائف إلا أمن ولا يطرد أحد طريدة فيلجأ بها إليه إلا تركت ولم تخفر حويّته، وكان سدنته بني بولان، وبولان هو الذي بدأ بعبادته، فكان آخر من سدنه منهم رجل يقال له صيفيّ فاطّرد ناقة خليّة لامرأة من كلب من بني عليم كانت جارة لمالك ابن كلثوم الشّمخي وكان شريفا فانطلق بها حتى أوقفها بفناء الفلس وخرجت جارة مالك وأخبرته بذهاب ناقتها فركب فرسا عريا وأخذ رمحا وخرج في أثره فأدركه وهو عند الفلس والناقة موقوفة عند الفلس، فقال: خلّ سبيل ناقة جارتي، فقال: إنها لربّك، قال: خلّ سبيلها، قال: أتخفر إلهك؟
فنوّله الرمح وحلّ عقالها وانصرف بها مالك وأقبل السادن إلى الفلس ونظر إلى مالك ورفع يده وهو يشير بيده إليه ويقول:
«يا ربّ إن يك مالك بن كلثوم *** أخفرك اليوم بناب علكوم»
وكنت قبل اليوم غير مغشوم
يحرّضه عليه، وعدي بن حاتم يومئذ قد عتر عنده وجلس هو ونفر يتحدثون بما صنع مالك وفزع من ذلك عدي بن حاتم وقال: انظروا ما يصيبه في يومه، فمضت له أيام لم يصبه شيء فرفض عديّ عبادته وعبادة الأصنام وتنصّر ولم يزل متنصرا حتى جاء الله بالإسلام فأسلم فكان مالك أول من أخفره فكان السادن بعد ذلك إذا طرد طريدة أخذت منه،
فلم يزل الفلس يعبد حتى ظهرت دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم، فبعث إليه عليّ بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، فهدمه وأخذ سيفين كان الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان قلده إياهما يقال لهما مخذم ورسوب، وهما اللذان ذكرهما علقمة بن عبدة، فقدم بهما إلى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فتقلد أحدهما ثم دفعه إلى علي بن أبي طالب فهو سيفه الذي كان يتقلّده.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
59-معجم البلدان (القادسية)
القادِسِيَّةُ:قال أبو عمرو: القادس السفينة العظيمة، قال المنجمون: طول القادسية تسع وستون درجة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة وثلثا درجة، ساعات النهار بها أربع عشرة ساعة وثلثان، وبينها وبين الكوفة خمسة عشر فرسخا، وبينها وبين العذيب أربعة أميال، قيل:
سميت القادسية بقادس هراة، وقال المدايني: كانت القادسية تسمى قديسا، وروى ابن عيينة قال: مرّ إبراهيم بالقادسية فرأى زهرتها ووجد هناك عجوزا فغسلت رأسه فقال: قدّست من أرض، فسميت القادسية، وبهذا الموضع كان يوم القادسية بين سعد ابن ابي وقّاص والمسلمين والفرس في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في سنة 16 من الهجرة، وقاتل المسلمون يومئذ وسعد في القصر ينظر إليهم فنسب إلى الجبن، فقال رجل من المسلمين:
«ألم تر أن الله أنزل نصره *** وسعد بباب القادسية معصم»
«فأبنا وقد آمت نساء كثيرة *** ونسوة سعد ليس فيهنّ أيّم»
وقال بشر بن ربيعة في ذلك اليوم:
«ألمّ خيال من أميمة موهنا *** وقد جعلت أولى النجوم تغور»
«ونحن بصحراء العذيب ودوننا *** حجازية، إن المحلّ شطير»
«فزارت غريبا نازحا جلّ ماله *** جواد ومفتوق الغرار طرير»
«وحلّت بباب القادسية ناقتي *** وسعد بن وقاص عليّ أمير»
«تذكّر، هداك الله، وقع سيوفنا *** بباب قديس والمكرّ ضرير»
«عشيّة ودّ القوم لو أن بعضهم *** يعار جناحي طائر فيطير»
«إذا برزت منهم إلينا كتيبة *** أتونا بأخرى كالجبال تمور»
«فضاربتهم حتى تفرّق جمعهم، *** وطاعنت، إني بالطّعان مهير»
«وعمرو أبو ثور شهيد وهاشم *** وقيس ونعمان الفتى وجرير»
والأشعار في هذا اليوم كثير لأنها كانت من أعظم وقائع المسلمين وأكثرها بركة، وكتب عمر، رضي الله عنه، إلى سعد بن أبي وقاص يأمره بوصف منزله من القادسية فكتب إليه سعد: إن القادسية فيما بين الخندق والعتيق وإنما عن يسار القادسية بحر أخضر في جوف لاح إلى الحيرة بين طريقين فأما إحداهما فعلى الظهر وأما الأخرى فعلى شاطئ نهر يسمى الحضوض يطلع بمن يسلكه على ما بين الخورنق والحيرة، وإنما عن يمين القادسية فيض من فيوض مياههم، وإن جميع من صالح المسلمين قبلي ألّب لأهل فارس قد خفّوا لهم واستعدّوا لنا، وذكر أصحاب الفتوح أن القادسية كانت أربعة أيام: فسموا الأول يوم أرماث واليوم الثاني يوم أغواث واليوم الثالث يوم عماس وليلة اليوم الرابع ليلة الهرير واليوم الرابع سموه يوم القادسية، وكان الفتح للمسلمين وقتل رستم جازويه ولم يقم للفرس بعده قائمة، وقال ابن الكلبي فيما حكاه هشام قال: إنما سميت القادسية لأن ثمانية آلاف من ترك الخزر كانوا قد ضيّقوا على كسرى بن هرمز، وكتب قادس هراة إلى كسرى: إن كفيتك مؤونة هؤلاء الترك تعطيني ما أحتكم عليك؟ قال: نعم، فبعث النريمان إلى أهل القرى: اني سأنزل عليكم الترك فاصنعوا ما آمركم، وبعث النريمان إلى الأتراك وقال لهم: تشتّوا في أرضي العام، ففعلوا وأقبل منها ثمانية آلاف في منازل أصحابه بهراة فبعث النريمان إلى أهل الدّور وقال: ليذبح كل رجل منكم نزيله الذي نزل عليه ثم يغدو إليّ بسبلته، ففعلوا ذلك وذبحوهم عن آخرهم وغدوا إليه بسبلاتهم فنظمها في خيط وبعثها إلى كسرى وقال: قد وفيت لك فأوف لي بما شرطت عليك، فبعث إليه كسرى أن اقدم عليّ، فقدم عليه النريمان فقال له كسرى: احتكم، فقال له النريمان: تضع لي سريرا مثل سريرك وتعقد على رأسي تاجا مثل تاجك وتنادمني من غدوة إلى الليل، ففعل ذلك به ثم قال: أوفيت؟ قال: نعم، فقال له كسرى: لا والله لا ترى هراة أبدا فتجلس بين قومك وتحدث بما جرى، وأنزله موضع القادسية ليكون ردءا له من العرب فسمي الموضع القادسية بقادس هراة، وكان قدم عليه النريمان ومعه أربعة آلاف فكانوا بالقادسية، فلما كان يوم القادسية قرن أصحاب النريمان بن النريمان أنفسهم بالسلاسل كيلا يفروا فقتلوا كلهم ورجعت ابنة النريمان إلى مرو وأم النريمان ابن النريمان كبشة بنت النعمان بن المنذر، قال هشام:
فالشاه بن الشاه من ولد نريمان وهو الشاه بن الشاه بن لان بن نريمان بن نريمان، قال: ويقال إنما سميت القادسية بقديس وكان قصرا بالعذيب، وقد نسب إلى القادسية عدة قوم من الرواة، منهم: علي بن أحمد القادسي القطان، روى عن عبد الحميد بن صالح، يروي عنه جعفر الخلدي. والقادسية أيضا: قرية كبيرة من نواحي دجيل بين حربى وسامرّا يعمل بها الزجاج، وقد نسب إليها قوم من الرواة، وإليها ينسب الشيخ أحمد المقري الضرير وولده محمد بن أحمد القادسي الكتبي، وفي هذه القادسية يقول جحظة:
«إلى شاطئ القاطول بالجانب الذي *** به القصر بين القادسية والنخل»
في قصيدة ذكرت في القاطول.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
60-معجم البلدان (قار)
قارٌ:القار والقير لغتان في هذا الأسود الذي تطلى به السفن، والقار: شجر مر، قال بشر:
«يسومون الصلاح بذات كهف *** وما فيها لهم سلع وقار»
وذو قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها وبين واسط، وحنو ذي قار: على ليلة منه وفيه كانت الوقعة المشهورة بين بكر بن وائل والفرس، وكان من حديث ذي قار: أن كسرى لما غضب على النعمان بن المنذر بسبب عدي بن زيد وزيد ابنه، في قصة فيها طول، أتى النعمان طيّئا فأبوا أن يدخلوه جبلهم، وكانت عند النعمان ابنة سعد بن حارثة بن لأم، فأتاهم للصهر فلما أبوا دخوله مرّ في العرب ببني عبس فعرضت عليه بنو رواحة النّصرة فقال لهم: لا أيدي لكم بكسرى، وشكر ذلك لهم ثم وضع وضائع له عند أحياء العرب واستودع ودائع فوضع أهله وسلاحه عند هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود أحد بني ربيعة بن ذهل بن شيبان وتجمعت العربان مثل بني عبس وشيبان وغيرهم وأرادوا الخروج على كسرى فأتى رسول كسرى بالأمان على الملك النعمان وخرج
النعمان معه حتى أتى المدائن فأمر به كسرى فحبس بساباط، فقيل: إنه مات بالطاعون، وقيل: طرحه بين أرجل الفيلة فداسته حتى مات، ثم قيل لكسرى:
إن ماله وبيته قد وضعه عند هانئ بن قبيصة بن هانئ ابن مسعود الشيباني، فبعث إليه كسرى: إن أموال عبدي النعمان عندك فابعث بها إليّ، فبعث إليه:
أن ليس عندي مال، فعاوده فقال: أمانة عندي ولست مسلمها إليك أبدا، فبعث كسرى إليه الهامرز، وهو مرزبانه الكبير، في ألف فارس من العجم وخناير في ألف فارس وإياس بن قبيصة، وكان قد جعله في موضع النعمان ملك الحيرة، في كتيبتين شهباوين ودوسر وخالد بن يزيد البهراني في بهراء وإياد والنعمان ابن زرعة التغلبي في تغلب والنمر بن قاسط، قال:
وإن العربان المجتمعة عند هانئ بن قبيصة أشاروا عليه أن يفرق دروع النعمان على قومه وعلى العربان، فقال: هي أمانة، فقيل له: إن ظفر بك العجم أخذوها هي وغيرها وإن ظفرت أنت بهم رددتها على عادتها، ففرقها على قومه وغيرهم وكانت سبعة آلاف درع وعبّى بنو شيبان تعبية الفرس ونزلوا أرض ذي قار بين الجلهتين ووقعت بينهم الحرب ونادى منادي العرب: إن القوم يغرقونكم بالنّشّاب فاحملوا عليهم حملة رجل واحد، وبرز الهامرز فبرز إليه يزيد بن حرثة اليشكري فقتله وأخذ ديباجه وقرطيه وأسورته، وكان الاستظهار في ذلك اليوم الأول للفرس ثم كان ثاني يوم وقع بينهم القتال فجزعت الفرس من العطش فصارت إلى الجبابات فتبعتهم بكر وباقي العربان إلى الجبابات يوما فعطش الأعاجم فمالوا إلى بطحاء ذي قار وبها اشتدت الحرب وانهزمت الفرس وكانت وقعة ذي قار المشهورة في التاريخ أنها يوم ولادة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وكسرت الفرس كسرة هائلة وقتل أكثرهم، وقيل: كانت وقعة ذي قار عند منصرف النبي، صلّى الله عليه وسلّم، من وقعة بدر الكبرى، وكان أول يوم انتصف فيه العرب من العجم وبرسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، انتصفوا، وهي من مفاخر بكر بن وائل، قال أبو تمام يمدح أبا دلف العجلي:
«إذا افتخرت يوما تميم بقوسها *** وزادت على ما وطّدت من مناقب»
«فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم *** عروش الذين استرهنوا قوس حاجب»
وذكر أبو تمام ذلك مرارا فقال يمدح خالد بن يزيد ابن مزيد الشيباني:
«ألاك بنو الأفضال لولا فعالهم *** درجن فلم يوجد لمكرمة عقب»
«لهم يوم ذي قار مضى وهو مفرد *** وحيد من الأشباه ليس له صحب»
«به علمت صهب الأعاجم أنه *** به أعربت عن ذات أنفسها العرب»
«هو المشهد الفرد الذي ما نجا به *** لكسرى بن كسرى لا سنام ولا صلب»
وقال جرير يذكر ذا قار:
«فلما التقى الحيّان ألقيت العصا، *** ومات الهوى لما أصيبت مقاتله»
«أبيت بذي قار أقول لصحبتي: *** لعلّ لهذا الليل نحبا نطاوله»
«فهيهات هيهات العقيق ومن به، *** وهيهات خلّ بالعقيق نواصله»
«عشيّة بعنا الحلم بالجهل وانتحت *** بنا أريحيّات الصّبا ومجاهله»
وقار أيضا: قرية بالريّ، قال أبو الفتح نصر: منها أبو بكر صالح بن شعيب القاري أحد أصحاب العربية المتقدمين، قدم بغداد أيام ثعلب وحكي أنه قال:
كنت إذا جاريت أبا العباس في اللغة غلبته وإذا جاريته في النحو غلبني.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
61-معجم البلدان (قلعة الروم)
قلعة الروم:قلعة حصينة في غربي الفرات مقابل البيرة بينها وبين سميساط، بها مقام بطرك الأرمن خليفة المسيح عندهم ويسمونه بالأرمنية كتاغيكوس، وهذه القلعة في وسط بلاد المسلمين، وما أظن بقاءها في يد الأرمن مع أخذ جميع ما حولها من البلاد إلا لقلة جدواها فإنه لا دخل لها وأخرى لأجل مقام رب
الملة عندهم كأنهم يتركونها كما يتركون البيع والكنائس في بلاد الإسلام، ولم يزل كتاغيكوس الذي يلي البطركة من قديم الزمان من ولد داود، عليه السلام، وعلامته عندهم طول يديه وأنهما تتجاوزان ركبتيه إذا قام ومدهما ويلفى ذلك في ولده، فلما كانت قرابة سنة 610 اعتمد ليون بن ليون ملك الأرمن الذي بالبقعة الشامية في بلاد المصيصة وطرسوس وأذنة ما كرهه الأرمن وهو أنه كان إذا نزل بقرية أو بلدة استدعى إحدى بنات الأرمن فيفترشها في ليلته ثم يطلقها إلى أهلها إذا أراد الرحيل عنهم، فشكا الأرمن ذلك إلى كتاغيكوس فأرسل إليه يقول: هذا الذي اعتمدته لا يقتضيه دين النصرانية فإن كنت ملتزما للنصرانية فارجع عنه وإن كنت لست ملتزما للنصرانية فافعل ما شئت، فقال: أنا ملتزم للنصرانية وسأرجع عما كرهه البطرك، ثم عاد إلى أمره وأشد فأعادوا شكواه فبعث إليه مرة أخرى وقال: إن رجعت عما تعتمده وإلا حرمتك، فلم يلتفت إليه، وشكي مرة أخرى فحرمه كتاغيكوس وبلغه ذلك فكشف رأسه ولم يظهر التوبة عما صنع فامتنع عسكره ورعيته من أكل طعامه وحضور مجلسه واعتزلته زوجته وقالوا: هو الدين لا بد من التزام واجبه ونحن معك إن دهمك عدو أو طرقك أمر وأما حضورنا عندك فلا وأكل طعامك كذلك، فبقي وحده وإذا ركب ركب في شرذمة يسيرة، فضجر وأظهر التوبة وأرسل إلى كتاغيكوس يسأل أن يحضر لتكون توبته بمحضره وعند حضور الناس يحلله، واغتر كتاغيكوس وحضر عنده وأشهد على نفسه بتحليله وشهد عليه الجموع، فلما انفضّ المجلس أخذ ليون بيده وصعد القلعة وكان آخر العهد به وأحضر رجلا من أهل بيته أظنه ابن خالته أو شيئا من ذلك وكان مترهبا فأنفذه إلى القلعة وجعله كتاغيكوس فهو إلى هذه الغاية هناك، وانقرضت الكتاغيكوسية عن آل داود، وبلغني أنه لم يبق منهم في تلك النواحي أحد يقوم مقامهم وإن كان في نواحي أخلاط منهم طائفة، والله أعلم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
62-معجم البلدان (كبا)
كَبّا:قال ابن الكلبي: كان بالمدينة مخنّث يقال له النّغاشيّ، ويقال نغاش، فقيل لمروان: إنه لا يقرأ من القرآن شيئا، فبعث إليه وهو يومئذ على المدينة فاستقرأه أم الكتاب فقال: والله أنا ما أعرف أقرأ بناتها فكيف الأمّ؟ فقال مروان: أتهزأ بالقرآن لا أمّ لك! فأمر به فقتل في موضع يقال له كبّا في بطحان.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
63-معجم البلدان (اللات)
اللاتُ:يجوز أن يكون من لاته يليته إذا صرفه عن الشيء كأنهم يريدون أنه يصرف عنهم الشرّ، ويجوز أن يكون من لات يليت وألت في معنى النقص، ويقال: ريث أليت الحقّ أي أحيله، وقيل:
وزن اللات على اللفظ فعه والأصل فعله لويه حذفت الياء فبقيت لوه وفتحت لمجاورة الهاء وانقلبت الفاء وهي مشتقة من لويت الشيء إذا أقمت عليه، وقيل:
أصلها لوهة فعلة من لاه السراب يلوه إذا لمع وبرق وقلبت الواو ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها وحذفوا الهاء لكثرة الاستعمال واستثقال الجمع بين هاءين: وهو اسم صنم كانت تعبده ثقيف وتعطف عليه العزّى، قالوا: وهو صخرة كان يجلس عليها رجل كان يبيع السمن واللبن للحجّاج في الزمن الأول، وقيل: عمرو بن لحيّ الخزاعي حين غلبت خزاعة على البيت ونفت عنه جرهم جعلت العرب عمرو بن لحيّ ربّا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة، حتى إن اللّات كان يلتّ له السويق للحجّ على صخرة معروفة تسمى صخرة اللات، وكان اللات رجلا من ثقيف، فلما مات قال لهم عمرو بن لحيّ: لم يمت ولكن دخل في الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها وأن يبنوا عليها بنيانا يسمّى اللات، ودام أمر عمرو وولده بمكة نحو ثلاثمائة سنة، فلما مات استمروا على عبادتها وخففوا التاء، ثم قام عمرو بن لحيّ فقال لهم: إن ربكم كان قد دخل في هذا الحجر، يعني تلك الصخرة، ونصبها لهم صنما يعبدونها، وكان فيه وفي العزّى شيطانان يكلمان الناس، فاتخذتها ثقيف طاغوتا وبنت لها بيتا وجعلت لها سدنة وعظمته وطافت به، وقيل: كانت صخرة بيضاء مربعة بنت عليها ثقيف بنية وأمرهم النبي، صلى الله عليه وسلم، بهدمها عند إسلام ثقيف، فهي اليوم تحت مسجد الطائف، وكان أبو سفيان بن حرب أحد من وكل إليه فهدمه، وقال ابن حبيب: وكانت اللات لثقيف بالطائف على صخرة وكانوا يسيرون إلى ذلك البيت ويضاهئون به الكعبة وله حجبة وكسوة وكانوا يحرّمون واديه فبعث رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فهدماه، وكان سدنته آل أبي العاص بن أبي يسار ابن مالك من ثقيف، وقال أبو المنذر بعد ذكر مناة: ثم اتخذوا اللات، واللات بالطائف وهي أحدث من مناة، وكانت صخرة مربعة وكان يهوديّ يلتّ عندها السويق وكانت سدنتها من ثقيف بنو عتّاب بن مالك وكانوا قد بنوا عليها بناء وكانت قريش وجميع العرب يعظمونها وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم، وهي التي ذكرها الله تعالى في القرآن فقال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، 53: 19 الآية، ولها يقول عمرو بن الجعيد:
فإني وتركي وصل كأس لكالذي *** تبرّأ من لات وكان يدينها
ولها يقول المتلمس في هجائه عمرو بن المنذر:
أطردتني حذر الهجاء ولا *** واللات والأنصاب لا تئل
فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف فبعث رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار، وفي ذلك يقول شداد بن عارض الجشمي حين هدمت وحرقت ينهى ثقيفا من العود إليها والغضب لها:
لا تنصروا اللات إن الله يهلكها، *** وكيف نصركم من ليس ينتصر؟
إن التي حرّقت بالنار واشتعلت *** ولم يقاتل لدى أحجارها هدر
إنّ الرسول متى ينزل بساحتكم *** يظعن وليس لها من أهلها بشر
وقال أوس بن حجر يحلف باللّات:
وباللات والعزّى ومن دان دينها، *** وبالله، إن الله منهنّ أكبر
وكان زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح ابن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب يذكر اللات والعزّى وغيرهما من الأصنام التي ترك عبادتها قبل مبعث النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وأنشد:
أربّا واحدا أم ألف ربّ *** أدين إذا تقسّمت الأمور
عزلت اللات والعزّى جميعا، *** كذلك يفعل الجلد الصّبور
فلا عزّى أدين ولا ابنتيها، *** ولا صنمي بني عمرو أزور
ولا غنما أدين وكان ربّا *** لنا في الدهر إذ حلمي يسير
عجبت، وفي الليالي معجزات *** وفي الأيام يعرفها البصير
وبينا المرء يفتر ثاب يوما *** كما يتروّح الغصن المطير
وأبقى آخرين ببرّ قوم *** فيربل منهم الطفل الصغير
فتقوى الله ربكم احفظوها، *** متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم جنان، *** وللكفّار حامية سعير
وخزي في الحياة، وإن يموتوا *** يلاقوا ما تضيق به الصدور
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
64-معجم البلدان (مثقب)
مُثَقَّبٌ:هو مفعّل، بتشديد القاف وبفتحها: وهو في أربعة مواضع أحدها صقع باليمامة، عن الحازمي، وقال: هو بفتح الميم. والمثقّب: حصن على ساحل البحر قرب المصيصة، سمي المثقّب لأنه في جبال كلها مثقبة فيه كوى كبار، كان أول من بنى حصن المثقب هشام بن عبد الملك على يد حسّان بن ماهويه الأنطاكي ووجد في خندقه حين حفر عظم ساق مفرط الطول فبعث به إلى هشام. والمثقّب: ماء بين تكريت والموصل. والمثقب: ماء بين رأس عين والرّقة معروف، ولا أدري أأحد هذه أراد طرفة أم موضعا آخر بقوله:
«ظللت بذي الأرطى فويق مثقب *** ببينة سوء هالكا في الهوالك»
«تكفّ إليّ الريح ثوبي قاعدا *** على صدفيّ كالحنيّة بارك»
صدفيّ منسوب إلى الصّدف: هو حيّ من همدان.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
65-معجم البلدان (مسكن)
مَسْكِنُ:بالفتح ثم السكون، وكسر الكاف، ونون، قال أبو منصور: يقال للموضع الذي يسكنه الإنسان مسكن ومسكن، فهذا الموضع منقول من اللغة الثانية وهو شاذ في القياس لأنه من سكن يسكن فالقياس مسكن، بفتح الكاف، وإنما جاء هذا شاذّا في أحرف، منها: المسجد والمنسك والمنبت والمجزر والمطلع والمشرق والمغرب والمسقط والمفرق والمرفق لا يعرف النحويون غير هذه لأن كل ما كان على فعل يفعل أو فعل يفعل فاسم المكان منه مفعل بفتح العين قياسا مطّردا: وهو موضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق به كانت الوقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير في سنة 72 فقتل مصعب وقبره هناك معروف، وقال عبيد الله بن قيس الرّقيّات يرثيه:
«إنّ الرّزيّة يوم مس *** كن والمصيبة والفجيعة»
«يا ابن الحواريّ الذي *** لم يعده يوم الوقيعة»
«غدرت به مضر العرا *** ق فأمكنت منه ربيعه»
«وأصبت وترك يا ربي *** ع وكنت سامعة مطيعة»
«يا لهف لو كانت لها *** بالدير يوم الدير شيعه! »
«أولم يخونوا عهده *** أهل العراق بنو اللكيعه»
«لوجدتموه حين يغ *** دو لا يعرّس بالمضيعه»
قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان وقتل معه إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي وقدّم مصعب أمامه ابنه عيسى فقتل بعد أن قال له وقد رأى الغدر من أصحابه:
يا بنيّ انج بنفسك فلعن الله أهل العراق أهل الشقاق والنفاق! فقال: لا خير في الحياة بعدك يا أباه! ثم قاتل حتى قتل، وكان مصعب قد قتل نائي بن زياد بن ظبيان أخا عبيد الله بن زياد بن ظبيان بن الجعد بن قيس ابن عمرو بن مالك بن عائش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة بن عكابة فنذر عبيد الله ليقتلنّ به مائة من قريش فقتل ثمانين ثم قتل مصعبا وجاء برأسه حتى وضعه بين يدي عبد الملك بن مروان فلما نظر إليه عبد الملك سجد فهمّ عبيد الله أن يفتك به أيضا فارتدّ عنه وقال:
«هممت ولم أفعل وكدت وليتني *** فعلت وولّيت البكاء حلائله»
هكذا أكثر ما يروى، والصحيح أن عبيد الله لم يقتله وإنما وجده قد ارتثّ بكثرة الجراحات فاحتزّ رأسه، وقد قال عبيد الله:
«يرى مصعب أني تناسيت نائيا، *** وبئس، لعمر الله، ما ظنّ مصعب! »
«وو الله لا أنساه ما ذرّ شارق، *** وما لاح في داج من الليل كوكب»
«وثبت عليه ظالما فقتلته، *** فقهرك مني شرّ يوم عصبصب»
«قتلت به من حيّ فهر بن مالك *** ثمانين منهم ناشئون وأشيب»
«وكفّي لهم رهن بعشرين أو يرى *** عليّ من الإصباح نوح مسلّب»
«أأرفع رأسي وسط بكر بن وائل *** ولم أر سيفي من دم يتصبّب؟»
ثم ضاقت به البصرة فهرب إلى عمان فاستجار بسليمان ابن سعيد بن الصقر بن الجلندى، فلما أخبر بفتكه خشيه وتذمّم أن يقتله علانية فبعث إليه بنصف بطيخة قد سمّها وكان يعجبه البطيخ وقال: هذا أول شيء رأيناه من البطيخ وقد أكلت نصفها وأهديت لك نصفها، فلما أكلها أحس بالموت فدخل عليه سليمان يعوده فقال له: أيها الأمير ادن مني أسرّ إليك قولا، فقال له: قل ما بدا لك فما بعمان عليك من أذن واعية، ولم يستجر أن يدنو منه فمات بها، وقال عبيد الله بن الحرّ يخاطب المختار:
«لقد زعم الكذّاب أني وصحبتي *** بمسكن قد أعيت عليّ مذاهبي»
«فكيف وتحتي أعوجيّ وصحبتي *** على كل صهميم الثميلة شارب»
«إذا ما خشينا بلدة قرّبت بنا *** طوال متون مشرفات الحواجب»
وقد ذكر الحازمي أن مسكن أيضا بدجيل الأهواز حيث كانت وقعة الحجاج بابن الأشعث، وهو غلط منه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
66-معجم البلدان (مطلوب)
مَطْلُوبٌ:اسم بئر بين المدينة والشام بعيدة القعر يستقى منها بدلاء، قال:
وأشطان مطلوب وقيل: جبل، وقال أبو زياد الكلابي: من مياه بني أبي بكر بن كلاب مطلوب، وفيه يقول القائل:
«ولا يجيء الدّلو من مطلوب *** إلا بنزع كرسيم الذيب»
ومطلوب: اسم موضع بوادي بيشة عمّر في أيام هشام بن عبد الملك بن مروان وسمي المعمل، وذكر في المعمل، وقال رجل من بني هلال يقال له رياح:
«يا أثلتي بطن مطلوب هويتكما *** لو كانت النفس تدنى من أمانيها»
«واليكما نذر بالناس لا رحم *** تدنيه منهم ولا نعمى يجازيها»
«محفوفتين بظل الموت أشرفتا *** في رأس رابية صعب تراقيها»
«كلتاهما قضب الريحان بينهما، *** فاعتمّ بالناشق الرّيّان ضاحيها»
«تندى ظلالكما، والشمس طالعة، *** حتى يواريها في الغور راعيها»
«من يعطه الله في الدنيا ظلالكما *** يبني له درجات عاليا فيها»
قال الأصمعي: ومن مياه نخلى مطلوب، وأنشد:
«ولا يجيء الدّلو من مطلوب *** إلا بشقّ النفس واللّغوب»
قال: وقال اليمامي لصاحب مطلوب وهو عمرو بن سمعان القريظي:
«عمرو بن سمعان على مطلوب *** نعم الفتى وموضع التحقيب»
يعني ما تخلّف من أمتعته، قال محمد بن سلّام:
حدّثني أبو العرّاف قال: كان العجير السلولي دلّ عبد الملك بن مروان على ماء يقال له مطلوب كان لناس من خثعم وأنشأ يقول:
«لا نوم إلّا غرار العين ساهرة *** إن لم أروّع بغيظ أهل مطلوب»
«إن تشتموني فقد بدّلت أيكتكم *** زرق الدجاج وتجفاف اليعاقيب»
«قد كنت أخبرتكم أن سوف يعمرها *** بنو أميّة، وعدا غير مكذوب»
فبعث عبد الملك فاتخذ ذلك الماء ضيعة فهو من خيار ضياع بني أميّة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
67-معجم البلدان (معونة)
مَعُونَةُ:بئر معونة: بين أرض عامر وحرّة بني سليم، ذكرت في الآبار، وهي بفتح الميم، وضم العين، وواو ساكنة، ونون بعدها هاء، والمعونة مفعولة في قياس من جعلها من العون، وقال آخرون: المعونة فعولة من الماعون، وقيل: هو مفعلة من العون مثل مغوثة من الغوث والمضوفة من أضاف إذا أشفق والمشورة من أشار يشير، قال حسّان يرثي من قتل بها من أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وكان أبو براء عامر بن مالك قدم على رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، المدينة وقال له: لو أنفذت من أصحابك إلى نجد من يدعو أهله إلى ملّتك لرجوت أن يسلموا وما كنت أخاف عليهم العدوّ، فقال: هم في جواري، فبعث معه أربعين رجلا فلما حصلوا بئر معونة استنفر عليهم عامر بن الطفيل بني سليم وغيرهم فقتلوهم، فقال حسان بن ثابت يرثيهم:
«على قتلى معونة فاستهلّي *** بدمع العين سحّا غير نزر»
«على خيل الرسول غداة لاقوا *** ولاقتهم مناياهم بقدر»
في أبيات...
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
68-معجم البلدان (المقام)
المَقَامُ:بالفتح، ومقامات الناس، بالفتح، مجالسهم، الواحد مقام ومقامة، وقيل: المقام موضع قدم القائم، والمقام، بالضم: مصدر أقمت بالمكان مقاما وإقامة، والمقام في المسجد الحرام: هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم، عليه السّلام، حين رفع بناء البيت، وقيل: هو الحجر الذي وقف عليه حين غسلت زوج ابنه إسماعيل رأسه، وقيل: بل كان راكبا فوضعت له حجرا من ذات اليمين فوقفت عليه حتى غسلت شقّ رأسه الأيمن ثم صرفته إلى الشقّ الأيسر فرسخت قدماه فيه في حال وقوفه عليه، وقيل:
هو الحجر الذي وقف عليه حتى أذّن في الناس بالحجّ فتطاول له وعلا على الجبل حتى أشرف على ما تحته فلما فرغ وضعه قبلة، وقد جاء في بعض الآثار أنه كان ياقوته من الجنة، وقيل في قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا من مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى 2: 125، المراد به هذا الحجر، وقيل بل هي مناسك الحجّ كلها، وقيل عرفة، وقيل مزدلفة، وقيل الحرم كله، وذرع المقام ذراع، وهو مربع سعة أعلاه أربع عشرة إصبعا في مثلها وفي أسفله مثلها وفي طرفيه طوق من الذهب وما بين الطرفين بارز لا ذهب عليه، طوله من نواحيه كلها تسع أصابع، وعرضه عشر أصابع، وعرضه من نواحيه إحدى وعشرون إصبعا، ووسطه مربّع، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع وحولهما مجوّف، وبين القدمين من الحجر إصبعان ووسطه قد استدقّ من التّمسّح به، والمقام في حوض مربّع حوله رصاص، وعلى الحوض صفائح من رصاص، ومن المقام في الحوض إصبعان وعليه صندوق ساج وفي طرفه سلسلتان تدخلان في أسفل الصندوق ويقفل عليه قفلان، وقال عبد الله بن شعيب بن شيبة: ذهبنا نرفع المقام في خلافة المهدي فانثلم وهو حجر رخو فخشينا أن
يتفتّت فكتبنا في ذلك إلى المهدي فبعث إلينا ألف دينار فصببناها في أسفله وفي أعلاه وهو هذا الذهب الذي عليه اليوم، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص:
الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب، وقال البشّاري: المقام بإزاء وسط البيت الذي فيه الباب وهو أقرب إلى البيت من زمزم يدخل في الطواف في أيام الموسم ويكبّ عليه صندوق حديد عظيم راسخ في الأرض طوله أكثر من قامة وله كسوة، ويرفع المقام في كل موسم إلى البيت فإذا رفع جعل عليه صندوق خشب له باب يفتح في أوقات الصلاة فإذا سلّم الإمام استلمه ثم أغلق الباب، وفيه أثر قدم إبراهيم، عليه السّلام، مخالفة، وهو أسود وأكبر من الحجر الأسود.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
69-معجم البلدان (مولتان)
مُولْتَان:بضم أوله، وسكون ثانيه واللام يلتقي فيه ساكنان، وتاء مثناة من فوق، وآخره نون، وأكثر ما يسمع فيه ملتان، بغير واو، وأكثر ما يكتب كما ههنا: بلد في بلاد الهند على سمت غزنة، قال الإصطخري: وأما المولتان فهي مدينة نحو نصف المنصورة ويسمى فرج بيت الذهب وبها صنم تعظمه الهند وتحج إليه من أقصى بلدانها ويتقرب إلى الصنم في كل عام بمال عظيم ينفق على بيت الصنم والمعتكفين عليه منهم، وسمي المولتان بهذا الصنم، وبيت هذا الصنم قصر مبنيّ في أعمر موضع بسوق المولتان بين سوق العاجيّين وصفّ الصّفّارين، وفي وسط هذا القصر قبّة فيها الصنم وحوالي القبة بيوت يسكنها خدم هذا الصنم ومن يعتكف عليه، وليس أهل المولتان من الهند والسند يعبدون الصنم وليس يعبده إلا الذين هم في القصر، والصنم على صورة إنسان جالس متربع على كرسي من جصّ وآجرّ وقد ألبس جميع بدنه جلدا يشبه السّختيان الأحمر لا يبين من جثته شيء إلا عيناه، فمنهم من يزعم أن بدنه خشب ومنهم من يزعم غير ذلك إلا أن بدنه لا يترك أن ينكشف البتة، وعيناه جوهرتان وعلى رأسه إكليل ذهب وهو متربع على ذلك السرير وقد مدّ ذراعيه على ركبتيه وجعل كلتا يديه كما يعقد في الحساب أربعة قد لفّ البنصر والوسطى وبسط الخنصر والسبّابة، وعامة ما يحمل إلى هذا الصنم من المال فإنما يأخذه أمير المولتان وينفق على السدنة منه ويرفع الباقي لنفسه، وإذا قصدهم الهند بحرب أو انتزاع البلد أخرجوا الصنم وأظهروا كسره وإحراقه فيرجعون عنهم ولولا ذلك لخرّبوا المولتان، وعلى المولتان حصن منيع، وهي خصبة إلا أن المنصورة أخصب منها وأعمر، وإنما سمي المولتان فرج بيت الذهب لأنها فتحت في أول الإسلام وكان بالمولتان ضيق وقحط فوجدوا فيها ذهبا كثيرا فاتّسعوا به، قال: وخارج المولتان على نصف فرسخ أبنية كثيرة تسمى جندراون وهي معسكر الأمير لا يدخل الأمير منها إلى المولتان إلا يوم الجمعة فإنه يركب الفيل ويدخل المدينة لصلاة الجمعة، وأميرهم قرشيّ من نسل سامة بن لؤيّ وقد تغلب عليها ولا يطيع صاحب المنصورة ولا غيره إنما يخطب للخليفة، وذكر أهل السير أن الكرك وهم
شراة كفّار تلك الناحية سبوا نسوة من المسلمين فصاحت امرأة منهم: يا حجّاجاه! فبلغه ذلك فأرسل إلى داهر ملك الدّيبل وأمره على الغزو لهؤلاء الذين سبوا النسوة فحلف أنه لا طاعة له على الذين أخذوهنّ، فاستأذن عبد الملك في غزوه فلم يأذن له، فلما ولي الوليد استأذنه فأذن له فبعث لذلك محمد بن القاسم بن أبي عقيل ابن عمّه فقتل داهر وفتح مولتان من بلاد الهند، ومات الوليد وولي سليمان فبعث إلى محمد وضربه بالسياط وألبسه المسوح لعداوة كانت بينهما، وكان أنفق في الغزوة خمسين ألف ألف درهم حتى فتح الهند فاسترجع النفقة وزيادة مثلها، فالهند من فتوح الوليد بن عبد الملك، وهذه البلاد منذ ذلك الوقت بيد المسلمين إلى الآن.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
70-معجم البلدان (مهزور)
مَهْزُورٌ:بفتح أوله، وسكون ثانيه ثم زاي، وواو ساكنة، وراء، قال أبو زيد: يقال هزره يهزره هزرا وهو الضرب بالعصا على الظهر والجنب، وهو مهزور وهزير، والهزير: المتقحّم في البيع والإغلاء، وقد هزرت له في البيع أي أغليت، مهزور ومذينب:
واديان يسيلان بماء المطر خاصّة، وقال أبو عبيد:
مهزور وادي قريظة، قالوا: لما قدمت اليهود إلى المدينة نزلوا السافلة فاستوبؤوها فبعثوا رائدا لهم حتى أتى العالية بطحان ومهزورا وهما واديان يهبطان من حرّة تنصبّ منها مياه عذبة فرجع إليهم فقال: قد وجدت لكم بلدا نزها طيبا وأودية تنصبّ إلى حرّة عذبة ومياها طيبة في متأخر الحرة، فتحوّلوا إليها فنزل بنو النضير ومن معهم بطحان ونزلت قريظة وهدل على مهزور فكانت لهم تلاع وماء يسقي سمرات، وفي مهزور اختصم إلى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، في حديث أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى، وكانت المدينة أشرفت على الغرق في خلافة عثمان، رضي الله عنه، من سيل مهزور حتى اتخذ عثمان له ردما، وجاء أيضا بماء عظيم مخوف في سنة 156 فبعث إليه عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو الأمير يومئذ عبيد الله بن أبي سلمة العمري فخرج وخرج الناس بعد صلاة العصر وقد ملأ السيل صدقات رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فدلتهم عجوز من أهل العالية على موضع كانت تسمع الناس يذكرونه فحضروه فوجدوا للماء مسيلا ففتحوه فغاض الماء منه إلى وادي بطحان، قال أحمد بن جابر:
ومن مهزور إلى مذينب شعبة تصب فيها.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
71-معجم البلدان (ناشروذ وشرواذ)
ناشِرُوذ وشَرْوَاذ:ناحيتان بسجستان لهما ذكر في الفتوح، أرسل عبد الله بن عامر بن كريز الربيع ابن زياد الحارثي في سنة 30 إلى سجستان فافتتح ناشروذ وشرواذ وأصاب سبيا كثيرا كان منهم أبو صالح بن عبد الرحمن وجدّ بسّام فبعث به إلى ابن عامر.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
72-معجم البلدان (نجران)
نَجْرَانُ:بالفتح ثم السكون، وآخره نون، والنجران في كلامهم: خشبة يدور عليها رتاج الباب، وأنشدوا:
«وصيت الباب في النجران حتى *** تركت الباب ليس له صرير»
وقال ابن الأعرابي: يقال لأنف الباب الرتاج ولد رونده النّجاف والنجران ولمترسه المفتاح، قال ابن دريد: نجران الباب الخشبة التي يدور عليها، ونجران في عدة مواضع، منها: نجران في مخاليف اليمن من ناحية مكة، قالوا: سمي بنجران بن زيدان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان لأنه كان أول من عمرها ونزلها وهو المرعف وإنما صار إلى نجران لأنه رأى رؤيا فهالته فخرج رائدا حتى انتهى إلى واد فنزل به فسمي نجران به، كذا ذكره في كتاب الكلبي بخط صحيح زيدان بن سبإ، وفي كتاب غيره زيد، روى ذلك الزيادي عن الشرقي، وأما سبب دخول أهلها في دين النصرانية قال ابن إسحاق: حدثني المغيرة بن لبيد مولى الأخنس عن وهب بن منبه اليماني أنه حدثهم أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلا من بقايا أهل دين عيسى يقال له فيميون، بالفاء ويروى بالقاف، وكان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة مجاب الدعوة وكان سائحا ينزل بالقرى فإذا عرف بقرية خرج منها إلى أخرى، وكان لا يأكل إلّا من كسب يديه، وكان بنّاء يعمل في الطين، وكان يعظّم الأحد فلا يعمل فيه شيئا فيخرج إلى فلاة من الأرض فيصلي بها حتى يمسي، ففطن لشأنه رجل من أهل قرية بالشام كان يعمل فيها فيميون عمله، وكان ذلك الرجل اسمه صالح فأحبه صالح حبّا شديدا فكان يتبعه حيث ذهب ولا يفطن له فيميون حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع وقد اتبعه صالح فجلس منه منظر العين مستخفيا منه، فقام فيميون يصلي فإذا قد أقبل نحوه تنّين، وهو الحية العظيمة، فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت ورآها صالح ولم يدر ما أصابها فخاف عليه فصرخ: يا فيميون التنين قد أقبل نحوك! فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى فرغ منها فخرج إليه صالح وقال: يا فيميون يعلم الله أنني ما أحببت شيئا قط مثل حبك وقد أحببت صحبتك والكينونة معك حيث كنت، فقال: ما شئت، أمري كما ترى فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم، فلزمه صالح، وقد كان أهل القرية يفطنون لشأنه، وكان إذا جاءه العبد وبه ضرّ دعا له فشفي، وكان إذا دعي لمنزل أحد لم يأته، وكان لرجل من أهل تلك القرية ولد ضرير فقال لفيميون: إن لي عملا فانطلق معي إلى منزلي، فانطلق معه فلما حصل في بيته رفع الرجل الثوب عن الصبيّ وقال له: يا فيميون عبد من عباد الله أصابه ما ترى فادع الله له! فدعا الله فقام الصبيّ ليس به بأس، فعرف فيميون أنه عرف فخرج من القرية واتبعه صالح حتى وطئا بعض أراضي العرب فعدوا عليهما فاختطفهما سيّارة من العرب فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران، وكان أهل نجران يومئذ على دين العرب يعبدون نخلة لهم عظيمة بين أظهرهم لها عيد في كل سنة فإذا كان ذلك العيد علّقوا عليها كلّ ثوب حسن وجدوه وحليّ النساء، فخرجوا إليها يوما وعكفوا عليها يوما، فابتاع فيميون رجل من أشرافهم وابتاع صالحا آخر، فكان فيميون إذا قام بالليل في بيت له أسكنه إياه سيّده استسرج له البيت نورا حتى يصبح
من غير مصباح، فأعجب سيّده ما رأى منه فسأله عن دينه فأخبره به وقال له فيميون: إنما أنتم على باطل وهذه الشجرة لا تضرّ ولا تنفع ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده لأهلكها وهو الله وحده لا شريك له، فقال له سيّده: افعل فإنك إن فعلت هذا دخلنا في دينك وتركنا ما ن
قال ابن إسحاق: فهذا حديث وهب بن منبّه عن أهل نجران، قال: وحدّثني يزيد بن زياد عن محمد ابن كعب القرظي وحدثني أيضا بعض أهل نجران أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأصنام وكان في قرية من قراها قريبا من نجران، ونجران القرية العظيمة التي إليها إجماع تلك البلاد، كان عندهم ساحر يعلّم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فيميون ولم يسموه لي باسمه الذي سماه به ابن منبه إنما قالوا رجل نزلها وابتنى خيمة بين نجران وبين القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون أولادهم إلى ذلك الساحر يعلّمهم السحر فبعث الثامر ابنه عبد الله مع غلمان أهل نجران فكان ابن الثامر إذا مر بتلك الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم وعبد الله تعالى وحده وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى فقه فيه فسأله عن الاسم الأعظم فكتمه إياه وقال: إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه، والثامر أبو عبد الله لا يظنّ إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضنّ به عنه عمد إلى قداح فجمعها ثم لم يبق لله تعالى اسما يعلمه إلا كتب كل واحد في قدح فلما أحصاها أوقد نارا وجعل يقذفها فيها قدحا قدحا حتى مرّ بالاسم الأعظم فقذفه فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها ولم تضرّه النار شيئا، فأتى صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم وهو كذا، فقال: كيف علمته؟ فأخبره بما صنع، فقال: يا ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظنّ أن تفعل، وجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضرّ إلا قال له: يا عبد الله أتوحّد الله وتدخل في ديني فأدعو الله فيعافيك؟
فيقول: نعم، فيدعو الله فيشفى حتى لم يبق بنجران أحد به ضرّ إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي، فرفع أمره إلى ملك نجران فأحضره وقال له:
أفسدت عليّ أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثّلنّ بك! فقال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح من رأسه فيقع على الأرض ويقوم وليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر، لا تقدر على قتلي حتى توحّد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك إن فعلت ذلك سلّطت عليّ فتقتلني، قال: فوحّد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا كانت في يده فشجّه شجّة غير كبيرة فقتله، قال عبيد الله الفقير إليه: فاختلفوا ههنا، ففي حديث رواه الترمذي من طريق ابن أبي ليلى عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، على غير هذا السياق وإن قاربه في المعنى، فقال: إن الملك لما رمى الغلام في رأسه وضع الغلام يده على صدغه ثم مات، فقال أهل نجران: لقد علم هذا الغلام علما ما علمه
أحد فإنّا نؤمن بربّ هذا الغلام، قال: فقيل الملك أجزعت أن خالفك ثلاثة؟ فهذا العالم كلهم قد خالفوك! قال: فخدّ أخدودا ثم ألقى فيه الحطب والنار ثم جمع الناس وقال: من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في ذلك الأخدود، فذلك قوله
العزيز الحميد، وأما الغلام فإنه دفن وذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل، روى هذا الحديث الترمذي عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق ابن معمر، ورواه مسلم عن هدّاب بن خالد عن حماد بن سلمة ثم اتفقا، عن سالم عن ابن أبي ليلى عن صهيب عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وفي حديث ابن إسحاق: إن الملك لما قتل الغلام هلك مكانه واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر وهو النصرانية وكان على ما جاء به عيسى، عليه السّلام، من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك أصل النصرانية بنجران، قال: فسار إليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيّرهم بين ذلك والقتل فاختاروا القتل، فخدّ لهم الأخدود فحرق من حرق في النار وقتل من قتل بالسيف ومثّل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا، ففي ذي نواس وجنوده أنزل الله تعالى: قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود، إلى آخر الآية، قال عبيد الله الفقير إليه: خبر الترمذي ومسلم أعجب إليّ من خبر ابن إسحاق لأن في خبر ابن إسحاق أن الذي قتل النصارى ذو نواس وكان يهوديّا صحيح الدين اتبع اليهودية بآيات رآها، كما ذكرناه في امام من هذا الكتاب، من الحبرين اللذين صحباه من المدينة ودين عيسى إنما جاء مؤيدا ومسددا للعمل بالتوراة فيكون القاتل والمقتول من أهل التوحيد والله قد ذمّ المحرق والقاتل لأصحاب الأخدود فبعد إذا ما ذكره ابن إسحاق وليس لقائل أن يقول إن ذا نواس بدّل أو غيّر دين موسى، عليه السلام، لأن الأخبار غير شاهدة بصحة ذلك، وأما خبر الترمذي أن الملك كان كافرا وأصحاب الأخدود مؤمنين فصحّ إذا، والله أعلم، وفتح نجران في زمن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، في سنة عشر صلحا على الفيء وعلى أن يقاسموا العشر ونصف العشر، وفيها يقول الأعشى:
«وكعبة نجران حتم علي *** ك حتى تناخي بأبوابها»
«نزور يزيدا وعبد المسيح *** وقيسا هم خير أربابها»
«وشاهدنا الورد والياسمي *** ن والمسمعات بقصّابها»
«وبربطنا دائم معمل، *** فأيّ الثلاثة أزرى بها؟»
وكعبة نجران هذه يقال بيعة بناها بنو عبد المدان بن الدّيّان الحارثي على بناء الكعبة وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة نجران وكان فيها أساقفة معتمّون وهم الذين جاءوا إلى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، ودعاهم إلى المباهلة، وذكر هشام بن الكلبي أنها كانت قبّة من أدم من ثلاثمائة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن أو طالب حاجة قضيت أو مسترفد أرفد، وكان لعظمها عندهم يسمّونها كعبة نجران، وكانت على نهر بنجران، وكانت لعبد المسيح بن دارس بن عدي بن معقل، وكان يستغلّ
من ذلك النهر عشرة آلاف دينار وكانت القبّة تستغرقها، ثم كان أول من سكن نجران من بني الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد ابن كهلان يزيد بن عبد المدان، وذلك أن عبد المسيح زوّجه ابنته دهيمة فولدت له عبد الله بن
فأخرجهم عمر، رضي الله عنه، قال: وإنما أجاز عمر إخراج أهل نجران وهم أهل صلح بحديث روي عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فيهم خاصة عن أبي عبيدة بن الجرّاح، رضي الله عنه، عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أنه كان آخر ما تكلم به أنه قال: أخرجوا اليهود من الحجاز وأخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب، وعن سالم بن أبي الجعد قال: جاء أهل نجران إلى عليّ، رضي الله عنه، فقالوا:
شفاعتك بلسانك وكتابتك بيدك، أخرجنا عمر من أرضنا فردّها إلينا صنيعة، فقال: يا ويلكم إن كان عمر رشيد الأمر فلا أغيّر شيئا صنعه! فكان الأعمش يقول: لو كان في نفسه عليه شيء لاغتنم هذا.
ونجران أيضا: موضع على يومين من الكوفة فيما بينها وبين واسط على الطريق، يقال إن نصارى نجران لما أخرجوا سكنوا هذا الموضع وسمّي باسم بلدهم، وقال عبيد الله بن موسى بن جار بن الهذيل الحارثي يرثي عليّ بن أبي طالب ويذكر أنه حمل نعشه في هذا الموضع فقال:
«بكيت عليّا جهد عيني فلم أجد *** على الجهد بعد الجهد ما أستزيدها»
«فما أمسكت مكنون دمعي وما شفت *** حزينا ولا تسلى فيرجى رقودها»
«وقد حمل النّعش ابن قيس ورهطه *** بنجران والأعيان تبكي شهودها»
«على خير من يبكى ويفجع فقده، *** ويضربن بالأيدي عليه خدودها»
ووفد على النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وفد نجران وفيهم السيّد واسمه وهب والعاقب واسمه عبد المسيح والأسقف وهو أبو حارثة، وأراد رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، مباهلتهم فامتنعوا وصالحوا النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فكتب لهم كتابا، فلما ولي أبو بكر، رضي الله عنه، أنفذ ذلك لهم، فلما ولي عمر، رضي الله عنه، أجلاهم واشترى منهم أموالهم، فقال أبو حسّان الزيادي: انتقل أهل نجران إلى قرية تدعى نهر ابان من أرض الهجر المنقطع من كورة البهقباذ من طساسيج الكوفة وكانت هذه القرية من الضواحي وكان كسرى أقطعها امرأة يقال لها ابان وكان زوجها من أوراد المملكة يقال له باني وكان قد احتفر نهر الضيعة لزوجته وسماه نهر ابان ثم ظهر عليها الإسلام وكان أولادها يعملون في تلك الأرض، فلما أجلى عمر، رضي الله عنه، أهل نجران نزلوا
قرية من حمراء ديلم يرتادون موضعا فاجتاز بهم رجل من المجوس يقال له فيروز فرغب في النصرانية فتنصر ثم أتى بهم حتى غلبوا على القرية وأخرجوا أهلها عنها وابتنوا كنيسة دعوها الأكيراح، فشخصوا إلى عمر فتظلّموا منهم فكتب إلى المغيرة في أمرهم فرجع الجواب وقد مات
ونجران أيضا: موضع بالبحرين فيما قيل. ونجران أيضا: موضع بحوران من نواحي دمشق وهي بيعة عظيمة عامرة حسنة مبنية على العمد الرخام منمّقة بالفسيفساء وهو موضع مبارك ينذر له المسلمون والنصارى، ولنذور هذا الموضع قوم يدورون في البلدان ينادون من نذر نذر نجران المبارك، وهم ركاب الخيل، وللسلطان عليهم قطيعة وافرة يؤدّونها إليه في كل عام، وقيل: هي قرية أصحاب الأخدود باليمن، ينسب إليها يزيد بن عبد الله بن أبي يزيد النجراني يكنى أبا عبد الله من أهل دمشق من نجران التي بحوران، روى عن الحسين بن ذكوان والقاسم بن أبي عبد الرحمن ومسحر السكسكي، روى عنه يحيى بن حمزة وسويد ابن عبد العزيز وصدقة بن عبد الله وأيوب بن حسّان وهشام بن الغاز، وقال أبو الفضل المقدسي النجراني:
والنجراني الأول منسوب إلى نجران هجر وفيهم كثرة، قال عبيد الله الفقير إليه: هذا قول فيه نظر فإن نجران هجر مجهول والمنسوب إليه معدوم، وقال أبو الفضل: والثاني نجران اليمن، منهم: عبيد الله ابن العباس بن الربيع النجراني، حدث عن محمد بن إبراهيم البيلماني، روى عنه محمد بن بكر بن خالد النيسابوري ونسبه إلى نجران اليمن وقال: سمعت منه بعرفات، وقال الحازمي: وممن ينسب إلى نجران بشر بن رافع النجراني أبو الأسباط اليماني، حدث عنه حاتم بن إسماعيل وعبد الرزاق، وينسب إلى نجران اليمن أيضا أبو عبد الملك محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري يقال له النجراني لأنه ولد بها في حياة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، سنة عشر وولّاه الأنصار أمرهم يوم الحرّة فقتل بها سنة 63، روى عنه ابنه أبو بكر، وقد أكثرت الشعراء من ذكر نجران في أشعارها، قال اعرابيّ:
«إن تكونوا قد غبتم وحضرنا، *** ونزلنا أرضا بها الأسواق»
«واضعا في سراة نجران رحلي، *** ناعما غير أنني مشتاق»
وقال عطارد بن قرّان أحد اللصوص وكان قد أخذ وحبس بنجران:
«يطول عليّ الليل حتى أملّه *** فأجلس والنهديّ عندي جالس»
«كلانا به كبلان يرسف فيهما، *** ومستحكم الأقفال أسمر يابس»
«له حلقات فيه سمر يحبها ال *** عناة كما حبّ الظماء الخوامس»
«إذا ما ابن صبّاح أرنّت كبوله *** لهنّ على ساقيّ وهنا وساوس»
«تذكّرت هل لي من حميم يهمّه *** بنجران كبلاي اللذان أمارس»
«فأما بنو عبد المدان فإنهم *** وإني من خير الحصين ليائس»
«روى نمر من أهل نجران أنكم *** عبيد العصا لو صبّحتكم فوارس»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
73-معجم البلدان (نهروان)
نَهْرَوانُ:وأكثر ما يجري على الألسنة بكسر النون، وهي ثلاثة نهروانات: الأعلى والأوسط والأسفل،
وهي كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي حدّها الأعلى متصل ببغداد وفيها عدة بلاد متوسطة، منها: إسكاف وجرجرايا والصافية ودير قنّى وغير ذلك، وكان بها وقعة لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، مع الخوارج مشهورة، وقد خرج منها جماعة من أهل
وفارس حفرت النهروان وكان اسمه نهروانا أي إن قلّ ماؤه عطش أهله وإن كثر غرقوا، وقال حمزة الأصبهاني: ويقبل من نواحي أذربيجان إلى جانب العراق واد جرّار فيسقي قرى كثيرة ثم ينصبّ ما بقي منه في دجلة أسفل المدائن، ولهذا النهر اسمان أحدهما فارسي والآخر سرياني، فالفارسي جوروان والسرياني تامرّا، فعرّب الاسم الفارسي فقيل نهروان والعامة يقولون نهروان، بكسر النون، على خطإ، وقرأت في كتاب ابن الكلبي في أنساب البلدان قال:
تامرّا ونهروان ابنا جوخي حفرا النهرين فنسبا إليهما، وقد ذكر أبو علي التنوخي في نشوراه خبرا في اشتقاق هذه اللفظة لا أرى يوافق لفظ ما ذكره أنه مشتق منه إلا أني ذكرت الخبر بطوله، قال أبو علي:
حدثني أبو الحسين بن أبي قيراط قال: سمعت علي بن عيسى الوزير يحدث دفعات أنه سمع أباه يحدّث عن جده عن مشايخ أهل العلم بأخبار الفرس وأيامهم، قالوا: معنى قولهم النهروان ثواب العمل، قالوا:
وإنما سمي النهروان بذلك لأن بعض الملوك الأكاسرة قد غلب عليه بعض حاشيته حتى دبر أكثر أمره وترقّت منزلته عنده وكان قبل ذلك من قبل صاحب المائدة مرسوما بإصلاح الألبان والكواميخ، وكان صاحب المائدة يتحسر كيف علت منزلة هذا وقد كان تابعا له وكان قد غلب على الملك، وكان مع ذلك الرجل يهوديّ ساحر حاذق فقال له اليهودي: ما لي أراك مهموما فحدّثني بأمرك لعلّ فرجك عندي، فحدثّه بأمره، فقال له اليهودي: إن رددتك إلى منزلتك ما لي عندك؟ فقال: أشاطرك حالي ونعمتي وجميع مالي، فتعاهدا على ذلك، فقال: أظهر وحشة بيننا وأنك قد صرفتني ظاهرا، ففعل ذلك به فسار اليهودي إلى الرجل الغالب على الملك فحدّثه وتقرّب إليه بما جرى عليه من الرجل الأول ولم يزل يحدثه مدة طويلة حتى أنس به ذلك الرجل فلقيه في بعض الأيام ومع غلامه غضارة من ذهب فيها شيراز في غاية الطيب يريد أن يقدمه إلى الملك، فقال له: أرني هذا الشيراز، فقال الرجل لغلامه: أره إياه، فأراه إياه فخاتل الرجل والغلام وأخذ بأعينهما بسحره وطرح في الشيراز قرطاسا كان فيه سمّ ساعة وغطا الغلام الغضارة ومضى ليقدّمها إذا قدّمت المائدة، فبادر اليهودي إلى صاحب المائدة الأول وقال: قد فرغت من القصة، وعرّفه ما عمل ووصف له الغضارة وقال له: امض الساعة إلى الملك وأخبره، فبادر الرجل ووجد المائدة تريد أن
تقدّم فقال: أيها الملك إن هذا يريد أن يسمّك في هذه الغضارة فإنه قد جعل فيها سمّ ساعة فلا تأكلها وجرّبها ليصحّ لك قولي، فقال الرجل: هذا إليّ وما بنا إلى تجربتها حاجة على حيوان، أنا آكل منه، فبادر فأكل منها لقمة فتلف في الحال لأنه لا يعلم بالقصة، فقال صا
وكيف صرت أصل نعمته؟ فاستكتمه ما يحدثه به فضمن له ذلك فحدّثه بحديث الشيراز والسمّ، فلما سمع الملك ذلك قامت قيامته وأحضر الموبذ من غد وحدّثه بالحديث وشاوره فيما يعمل مما يزيل ذلك عنه إثم ذلك الفعل في معاده فأمره بقتل اليهودي وصاحب المائدة والإحسان إلى عقب الذي كان قتل نفسه ثم قال: ولا يزيل عنك إثم هذا إلا أن تطوف في عملك حتى تنتهي إلى بقعة خراب فتستحدث لها عمارة ونهرا وشربا فيعيش الناس بذلك في باقي الدهر فتكون كمن أحيا شيئا عوضا عمّن أماته فيتمحّص عنك الإثم، فقتل الملك الرجلين وطاف عمله حتى بلغ موضع النهروان وهو صحراء خراب فأجمع رأيه على حفر نهر فيه وأحدث قرى عليه وسماه ثواب العمل لأجل هذه القصة، قلت أنا: وقد سألت جماعة من الفرس إذ لم أثق بما أعرفه منها هل بين هذا اللفظ ومسماه توافق فلم يعرفوا ذلك ولعلّه باللغة الفهلوية، قال ابن الجرّاح في تاريخه في سنة 326 في ذي القعدة أصعد بجكم التركي إلى بغداد ليدفع عنها محمد بن رائق مولى محمد الخليفة فبعث أحمد بن عليّ بن سعيد الكوفي من يبثق نهر النهروان إلى درب ديالى، فلما أشرف عليه بجكم قال: يا قوم لقد أحسنوا إلينا، وأمر بسفينتين فنصبتا عليه جسرا فعبر هنيئا مريئا ولو ركبه ما كان يصعب ركوبه، قال: فحدّثني أحمد الكاتب بن محمد بن سهل وكان على ديوان فارس في ديوان الخراج وقد تجاذبنا خبر خطاب السواد ومنه النهروانان وعليهما يومئذ للسلطان ألف ألف ومائتا ألف دينار فأخرجها الكوفي، قال: حضرت مجلس الكوفي وقت ولي بجكم وقد كتب إلى عامله عليها جواب كتابه في أمر أعجزه: ويلك ولو في قلبك يعني ماء النهروان إلى درب ديالى، ففعل وعظم أمره المستحفل وبقي البلد خرابا مدة أربع عشرة سنة حتى فني أهله بالغربة والموت إلى أن قبض الله معزّ الدولة أبا الحسين أحمد بن بويه الديلمي فسدّه بعد أن سدّ مرارا فانقلع ووقع الناس منه في شدة، فلما قضى الله سدّه عاش اليسير فمن بقي من أهله تراجعوا إليه، ثم ذكر ابن الجرّاح أيضا: في سنة 31 لما ورد ناصر الدولة الحسن بن حمدان إلى بغداد مستوليا على تدبير الأمور بها أطلق عشرين ألف دينار للنفقة على بثق النهروان بالسهلية، قال: وكنا في هذا الموضع بحضرة ناصر الدولة وجرى ذكر هذا البثق بمحضر من يواخي وكان عبيد الله بن محمد الكلواذاني صاحب الديوان حاضرا وخاضوا فيه وفيما يرتفع بإصلاحه من نواحيه وهي النهروانات الثلاثة وجاذر
والمدينة العتيقة وشرقي كلواذى والأهواز.، فقال الكلواذاني وهو في الديوان منذ أربعين سنة: هذه بلدان يرتفع منها للسلطان ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، فقلت: يا هذا ما تفعل؟ ووقع لي أن الحال يصلح والأيام بناصر الدولة تستمر وتدوم ويطالب بهذا المال عند تمام
يا أبا الفرج المعافي بن زكرياء النهرواني! فقلت: لم يبق شك في مناداته إياي إذ ذكر اسمي وكنيتي واسم أبي وما أنسب إليه، فقلت له: ها أنا ذا ما تريد؟ فقال: ومن أنت؟ فقلت: أبو الفرج المعافى ابن زكرياء النهرواني، قال: فلعلك من نهروان الشرق؟ قلت: نعم، قال: نحن نريد نهروان الغرب، فعجبت من اتفاق الاسم والكنية واسم الأب وما أنسب إليه وعلمت أن بالمغرب موضعا يعرف بالنهروان غير نهروان العراق، وأبو حكيم إبراهيم ابن دينار بن أحمد بن الحسين بن حامد بن إبراهيم النهرواني البغدادي الفقيه الحنبلي، شيخ صالح نزل باب الأزج وله هناك مدرسة منسوبة إليه، تفقه على أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلواذاني، وكان حسن المعرفة بالفقه والمناظرة، تخرج به جماعة وانتفعوا به لخيره وصلاحه، سمع أبا الحسن عليّ بن محمد العلّاف وأبا القاسم عليّ بن محمد بن بيان وغيرهما، وحدّث ودرّس وأفتى، وروى عنه أبو الفرج ابن الجوزي وقال: مات في جمادى الآخرة سنة 556، ومولده سنة 480.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
74-معجم البلدان (ود)
وَدٌّ:بالفتح، لغة في الوتد، ويجوز أن يكون منقولا عن الفعل الماضي ودّ يودّ، قيل: هو جبل في قول امرئ القيس:
«وتري الودّ إذا ما أشجذت، *** وتواريه إذا ما تعتكر»
وقيل: هو جبل قرب جفاف الثعلبية، وأما الصنم قال ابن جني: همزة أد عندنا بدل من واو ودّ لإيثارهم معنى الود المودة كما سموا محبّا محبوبا وحبابا
وحبيبا، والإدّ: الشيء المنكر لأنهم قالوا: عبد ود، وقالوا: وددت الرجل أودّه ودّا وودادا وودادة، فأكثر القراء وهم أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم ويعقوب الحضرمي فإنهم قرأوا ودّا بالفتح وتفرّد نافع بالضم: وهو صنم كان لقوم نوح، عليه السّل
«حيّاك ودّ وإنّا لا يحلّ له *** لهو النساء وإن الدين قد عزما»
قال أبو المنذر هشام بن محمد: كان ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر أصنام قوم نوح وقوم إدريس، عليهما السلام، وانتقلت إلى عمرو بن لحيّ، كما نذكره هنا، قال: أخبرني أبي عن أول عبادة الأصنام أن آدم، عليه السّلام، لما مات جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه بأرض الهند ويقال للجبل نوذ وهو أخصب جبل في الأرض، يقال: أمرع من نوذ وأجدب من برهوت، وبرهوت: واد بحضرموت، قال: فكان بنو شيث يأتون جسد آدم في المغارة ويعظمونه ويرحّمون عليه، فقال رجل من بني قابيل بن آدم: يا بني قابيل إن لبني شيث دوارا يدورون حوله ويعظمونه وليس لكم شيء، فنحت لهم صنما فكان أول من عمله، وكان ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر قوما صالحين ماتوا في شهر فجزع عليهم أقاربهم فقال رجل من بني قابيل:
يا قوم هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم غير أني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحا؟ قالوا: نعم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم فنصبها لهم فكان الرجل يأتي أخاه وعمه وابن عمه فيعظمه ويسعى حوله حتى ذهب ذلك القرن الأول وكانت عملت على عهد يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوس بن شيث بن آدم، ثم جاء قرن آخر يعظمونهم أشدّ تعظيما من القرن الأول، ثم جاء من بعدهم القرن الثالث فقالوا: ما عظّم أوّلونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فعبدوهم وعظم أمرهم واشتدّ كفرهم، فبعث الله إليهم إدريس، عليه السّلام، وهو أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان نبيّا فنهاهم عن عبادتها ودعاهم إلى عبادة الله تعالى، فكذّبوه، فرفعه الله مكانا عليّا ولم يزل أمرهم يشتدّ فيها، قال ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: حتى أدرك نوح بن لمك بن متوشلخ ابن أخنوخ فبعثه الله نبيّا وهو يومئذ ابن أربعمائة سنة وثمانين سنة فدعاهم إلى الله تعالى في نبوّته مائة وعشرين سنة فعصوه وكذبوه، فأمره الله تعالى أن يصنع الفلك ففرغ منها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ومكث بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة فعلا الطوفان وطبّق الأرض كلها وكان بين آدم ونوح ألفا سنة ومائتا سنة فأهبط ماء الطوفان هذه الأصنام من جبل نوذ إلى الأرض وجعل الماء بشدة جريه وعبابه ينقلها من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدّة ثم نضب الماء وبقيت على شطّ جدّة:
فسفت الريح عليها التراب حتى وارتها، قال هشام:
إذا كان الصنم معمولا من خشب أو فضة أو ذهب على صورة إنسان فهو صنم وإن كان من حجارة فهو وثن، قال هشام: وكان عمرو بن لحيّ وهو ربيعة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد وهو أخو خزاعة وأمّه فهيرة بنت الحارث بن مضاض الجرهمي كان قد غلب على مكة وأخرج منها جرهما وتولى سدانتها وكان كاهنا وكان له مولى من الجنّ يكنى أبا ثمامة فقال: عجّل المسير
والظعن من تهامة بالسعد والسلامة، قال: خبّر ولا إقامة، قال: ائت ضفّ جدة تجد فيها أصناما معدّة فأوردها تهامة ولا تهب وادع العرب إلى عبادتها تجب، فأتى شطّ جدّة فاستثارها ثم حملها حتى ورد تهامة وحضر الحجّ فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة فأجابه عوف بن عذرة بن
فأشربه، قال: ثم رأيت خالد بن الوليد كسره جذاذا وكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، بعث خالدا من غزوة تبوك لهدمه فحال بينه وبين هدمه بنو عبد ودّ وبنو عامر الأجدار فقاتلهم حتّى قتلهم وهدمه وكسره وكان فيمن قتل يومئذ رجل من بني عبد ودّ يقال له قطن بن شريح، فأقبلت أمه فرأته مقتولا فأشارت تقول:
«ألا تلك المودّة لا تدوم، *** ولا يبقى على الدهر النعيم»
«ولا يبقى على الحدثان غفر *** له أمّ بشاهقة رؤوم»
ثم قالت:
«يا جامعا جامع الأحشاء والكبد، *** يا ليت أمك لم تولد ولم تلد»
ثم أكبّت عليه فشهقت شهقة فماتت، وقتل أيضا حسّان بن مصاد ابن عمّ الأكيدر صاحب دومة الجندل ثم هدمه خالد، رضي الله عنه، قال ابن الكلبي: فقلت لمالك بن حارثة: صف لي ودّا حتى كأني أنظر إليه، قال: تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال قد دثّر عليه، أي نقش عليه، حلّتان متّزر بحلّة ومرتد بأخرى عليه سيف قد تنكّب قوسا وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة أي جعبة فيها نبل، فهذا حديث ودّ، وروي عن ابن عباس، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: رفعت إلى النار فرأيت عمرو بن لحيّ رجلا أحمر أزرق قصيرا يجرّ قصبه في النار، قلت: من هذا؟ فقيل: عمرو بن لحيّ أوّل من بحر البحيرة ووصل الوصيلة وسيّب السائبة وحمى الحامي وغيّر دين إبراهيم، عليه السّلام، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، فقال: أشبه بنيه به قطن بن عبد العزّى، فوثب قطن وقال: يا رسول الله أيضرني شبهه شيئا؟ قال، عليه الصلاة والسلام:
لا، أنت مسلم وهو كافر، هذا كله عن ابن الكلبي، وههنا انتقاد وذلك أنهم قالوا: إن أول من دعا العرب إلى عبادة الأوثان عمرو بن لحيّ، وقد ذكر فيما تقدّم أنّ ودّا سلمه إلى عوف بن عذرة بن زيد اللات وقد ذكرنا في اللات عنه أن زيد اللات سمي باللات التي كانوا يعبدونها، فهو أقدم من ودّ، والله أعلم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
75-معجم البلدان (يتيب)
يَتِيبُ:بالفتح ثم الكسر ثم ياء، وباء موحدة، في مغازي أبي عقبة بخط ابن نعيم: خرج أبو سفيان في ثلاثين فارسا أو أكثر حتى نزل بجبل من جبال المدينة يقال له يتيب فبعث رجلا أو رجلين من أصحابه فأمرهما أن يحرقا أدنى نخل يأتيانه من نخل المدينة فوجدا صورا من صيران نخل العريض، فأحرقا فيها.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
76-معجم البلدان (ينصوب)
يَنصُوبُ:مكان في قول عدي بن زيد العبادي وكانت لأبيه إبل فبعث بها عدي إلى الحمى فغضب عليه أبوه فردّها فلقيها خيل فأخذتها وسار عديّ فاستنقذها وقال:
«للشرف العود وأكنافه *** ما بين جمران فينصوب»
«خير لها ان خشيت حجرة *** من ربّها زيد بن أيوب»
«متّكئا تصرف أبوابه، *** يسعى عليه العبد بالكوب»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
77-موسوعة الفقه الكويتية (أذان 2)
أَذَانٌ -2الْأَذَانُ لِلْفَوَائِتِ:
43- سَبَقَ أَنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ الْأَذَانِ لِلْفَوَائِتِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّ الْفَائِتَةَ الْوَاحِدَةَ يُؤَذَّنُ لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ قَالَ: «فَمَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الطَّرِيقِ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ.قَالَ: فَقُمْنَا فَزِعِينَ.ثُمَّ قَالَ: ارْكَبُوا فَرَكِبْنَا، فَسِرْنَا، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ نَزَلَ.ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ.قَالَ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ.قَالَ: وَبَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ.ثُمَّ قَالَ لِأَبِي قَتَادَةَ: احْفَظْ عَلَيْنَا مِيضَأَتَكَ، فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ، فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ».
44- أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَتِ الْفَوَائِتُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَوْلَى أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلْأُولَى فَقَطْ وَيُقِيمَ لِمَا بَعْدَهَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا.وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِلَالًا، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى، ثُمَّ أَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَهَا، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ.وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأُمِّ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَوَرَدَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ إِنْ أَمَّلَ اجْتِمَاعَ النَّاسِ أَذَّنَ وَأَقَامَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّلْ أَقَامَ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ يُرَادُ لِجَمْعِ النَّاسِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَمَّلِ الْجَمْعُ لَمْ يَكُنْ لِلْأَذَانِ وَجْهٌ.
الْأَذَانُ لِلصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ:
45- إِذَا جُمِعَتْ صَلَاتَانِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، كَجَمْعِ الْعَصْرِ مَعَ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ، وَكَجَمْعِ الْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلْأُولَى فَقَطْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ».وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْأَشْهَرَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهُمَا.
الْأَذَانُ فِي مَسْجِدٍ صُلِّيَتْ فِيهِ الْجَمَاعَةُ:
46- لَوْ أُقِيمَتْ جَمَاعَةٌ فِي مَسْجِدٍ فَحَضَرَ قَوْمٌ لَمْ يُصَلُّوا فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُمُ الْأَذَانُ دُونَ رَفْعِ الصَّوْتِ لِخَوْفِ اللَّبْسِ- سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْجِدُ مَطْرُوقًا أَمْ غَيْرَ مَطْرُوقٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَسْتَوِي الْأَمْرُ، إِنْ أَرَادُوا أَذَّنُوا وَأَقَامُوا، وَإِلاَّ صَلَّوْا بِغَيْرِ أَذَانٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَسْجِدًا قَدْ صَلَّوْا فِيهِ فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى بِهِمْ فِي جَمَاعَةٍ.
وَيُفَصِّلُ الْحَنَفِيَّةُ فَيَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ وَصَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لَا يُكْرَهُ لِأَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ إِذَا صَلَّوْا، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ أَوْ بَعْضُ أَهْلِهِ يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ وَلِلْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ إِذَا صَلَّوْا، وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ بِأَنْ كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ لَا يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِيهِ.
وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَتَى بَعْدَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ صَلَّى بِغَيْرِ أَذَانٍ.
تَعَدُّدُ الْمُؤَذِّنِينَ:
47- يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّدَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الَّذِي حُفِظَ عَنِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ بِلَالٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا فَيَجُوزُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ مُؤَذِّنِينَ وَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مَشْرُوعًا.
وَكَيْفِيَّةُ أَذَانِهِمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَاحِدُ يُسْمِعُ النَّاسَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، لِأَنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ أَحَدُهُمَا يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْآخَرِ وَإِذَا كَانَ الْإِعْلَامُ لَا يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ أَذَّنُوا بِحَسَبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، إِمَّا أَنْ يُؤَذِّنَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَنَارَةٍ أَوْ نَاحِيَةٍ أَوْ أَذَّنُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ خَافُوا مِنْ تَأْذِينٍ وَاحِدٍ بَعْدَ الْآخَرِ فَوَاتَ أَوَّلِ الْوَقْتِ أَذَّنُوا جَمِيعًا دَفْعَةً وَاحِدَةً.
مَا يُعْلَنُ بِهِ عَنِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ يُشْرَعْ لَهَا الْأَذَانُ:
48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلَا يُؤَذَّنُ لِصَلَاةٍ غَيْرِهَا كَالْجِنَازَةِ وَالْوِتْرِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالْمَكْتُوبَاتُ هِيَ الْمُخَصَّصَةُ بِأَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَالنَّوَافِلُ تَابِعَةٌ لِلْفَرَائِضِ، فَجَعَلَ أَذَانَ الْأَصْلِ أَذَانًا لِلتَّبَعِ تَقْدِيرًا، أَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَلَيْسَتْ بِصَلَاةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِذْ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا وَلَا رُكُوعَ وَلَا سُجُودَ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ».
49- أَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّدَاءِ لِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَا أَذَانَ لَهَا فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ إِذَا صُلِّيَتْ جَمَاعَةً- وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ- فَإِنَّهُ يُنَادَى لَهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَاسْتَحْسَنَ عِيَاضٌ مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَنْ يُنَادَى لِكُلِّ صَلَاةٍ لَا يُؤَذَّنُ لَهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ.
وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ».
إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ وَالدُّعَاءُ بَعْدَ الْإِجَابَةِ:
50- يُسَنُّ لِمَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ مُتَابَعَتُهُ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ، لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ» وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ.فَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ.قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ.ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ.ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، مِنْ قَلْبِهِ- دَخَلَ الْجَنَّةَ».
وَلِأَنَّ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ خِطَابٌ فَإِعَادَتُهُ عَبَثٌ.وَفِي التَّثْوِيبِ وَهُوَ قَوْلُ «الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ» فِي أَذَانِ الْفَجْرِ يَقُولُ: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ- بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى- ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ»، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَ الْأَذَانِ بِمَا شَاءَ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ» «، وَيَقُولُ عِنْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ: اللَّهُمَّ هَذَا إِقْبَالُ لَيْلِكَ وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ فَاغْفِرْ لِي.
وَلَوْ سَمِعَ مُؤَذِّنًا ثَانِيًا أَوْ ثَالِثًا اسْتُحِبَّ لَهُ الْمُتَابَعَةُ أَيْضًا.وَمَا سَبَقَ هُوَ بِاتِّفَاقٍ إِلاَّ أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَحْكِيَ السَّامِعُ لآِخِرِ الشَّهَادَتَيْنِ فَقَطْ، وَلَا يَحْكِي التَّرْجِيعَ، وَلَا يَحْكِي الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ وَلَا يُبَدِّلُهَا بِصَدَقْتَ وَبَرِرْتَ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ يَحْكِي لآِخِرِ الْأَذَانِ.
الْأَذَانُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ:
51- شُرِعَ الْأَذَانُ أَصْلًا لِلْإِعْلَامِ بِالصَّلَاةِ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ يُسَنُّ الْأَذَانُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ تَبَرُّكًا وَاسْتِئْنَاسًا أَوْ إِزَالَةً لِهَمٍّ طَارِئٍ Bوَالَّذِينَ تَوَسَّعُوا فِي ذِكْرِ ذَلِكَ هُمْ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالُوا: يُسَنُّ الْأَذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ حِينَ يُولَدُ، وَفِي أُذُنِ الْمَهْمُومِ فَإِنَّهُ يُزِيلُ الْهَمَّ، وَخَلْفَ الْمُسَافِرِ، وَوَقْتَ الْحَرِيقِ، وَعِنْدَ مُزْدَحِمِ الْجَيْشِ، وَعِنْدَ تَغَوُّلِ الْغِيلَانِ وَعِنْدَ الضَّلَالِ فِي السَّفَرِ، وَلِلْمَصْرُوعِ، وَالْغَضْبَانِ، وَمَنْ سَاءَ خُلُقُهُ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ بَهِيمَةٍ، وَعِنْدَ إِنْزَالِ الْمَيِّتِ الْقَبْرَ قِيَاسًا عَلَى أَوَّلِ خُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَدْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ» كَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَذَّنَ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى وَأَقَامَ فِي الْيُسْرَى لَمْ تَضُرَّهُ أُمُّ الصِّبْيَانِ».وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ»..» إِلَخْ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ مَسْأَلَةَ الْأَذَانِ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ فَقَطْ وَنَقَلَ الْحَنَفِيَّةُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَلَمْ يَسْتَبْعِدُوهُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِأَنَّ مَا صَحَّ فِيهِ الْخَبَرُ بِلَا مُعَارِضٍ مَذْهَبٌ لِلْمُجْتَهِدِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، وَكَرِهَ الْإِمَامُ مَالِكٌ هَذِهِ الْأُمُورَ وَاعْتَبَرَهَا بِدْعَةً، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ نَقَلَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ ثُمَّ قَالُوا: لَا بَأْسَ بِالْعَمَلِ بِهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
78-موسوعة الفقه الكويتية (إرجاف)
إِرْجَافٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْإِرْجَافُ فِي اللُّغَةِ: الِاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى: الْخَوْضِ فِي الْأَخْبَارِ السَّيِّئَةِ وَذِكْرِ الْفِتَنِ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ اضْطِرَابٌ بَيْنَ النَّاسِ.وَالْإِرْجَافُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ: الْتِمَاسُ الْفِتْنَةِ، وَإِشَاعَةُ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ لِلِاغْتِمَامِ بِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّخْذِيلُ:
2- التَّخْذِيلُ هُوَ: تَثْبِيطُ النَّاسِ عَنِ الْغَزْوِ، وَتَزْهِيدُهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: الْوَقْتُ حَرٌّ شَدِيدٌ، الْمَشَقَّةُ شَدِيدَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ فِي التَّخْذِيلِ مَنْعَ النَّاسِ مِنَ النُّهُوضِ لِلْقِتَالِ، وَالْإِرْجَافُ نَشْرُ الِاضْطِرَابِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.فَالْإِرْجَافُ أَعَمُّ مِنَ التَّخْذِيلِ.
ب- الْإِشَاعَةُ:
3- الْإِشَاعَةُ: لُغَةً الْإِظْهَارُ، وَاصْطِلَاحًا: نَشْرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَنْبَغِي سَتْرُهَا، لِشَيْنِ النَّاسِ.وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ عَوْرَةً لِيَشِينَهُ بِهَا».
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4- الْإِرْجَافُ حَرَامٌ، وَتَرْكُهُ وَاجِبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَفَاعِلُهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ.
قَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: لأُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ فَتَسْتَأْصِلُهُمْ بِالْقَتْلِ.
«وَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُحَرِّقُوا عَلَيْهِمُ الْبَيْتَ، فَفَعَلَ طَلْحَةُ ذَلِكَ».
5- وَلَا يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ إِلَى الْجِهَادِ مُرْجِفًا، وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ هُوَ أَحَدَ الْمُرْجِفِينَ لَمْ يُسْتَحَبَّ الْخُرُوجُ مَعَهُ لِلْجِهَادِ لقوله تعالى {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا وَلأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}.
وَلَوْ خَرَجَ مُرْجِفٌ مَعَ الْجَيْشِ لَا يُسْهَمُ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَا يُرْضَخُ لَهُ مِنْهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْإِرْجَافِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَفِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
79-موسوعة الفقه الكويتية (إرسال 1)
إِرْسَالٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْإِرْسَالُ لُغَةً: مَصْدَرُ (أَرْسَلَ) يُقَالُ: أَرْسَلَ الشَّيْءَ: أَطْلَقَهُ وَأَهْمَلَهُ، وَيُقَالُ: أَرْسَلَ الْكَلَامَ أَيْ أَطْلَقَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَأَرْسَلَ الرَّسُولَ: بَعَثَهُ بِرِسَالَةٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا: سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}.
وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ الْإِرْسَالِ بِإِطْلَاقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي:
الْإِرْخَاءُ، كَإِرْسَالِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِرْسَالِ طَرَفِ الْعِمَامَةِ، وَإِرْسَالِ الشَّعْرِ بِعَدَمِ رَبْطِهِ.وَالتَّوْجِيهُ، كَإِرْسَالِ شَخْصٍ إِلَى آخَرَ بِمَالٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.وَالتَّخْلِيَةُ، وَذَلِكَ كَإِرْسَالِ الْمُحْرِمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ صَيْدٍ.وَالْإِهْمَالُ، كَإِرْسَالِ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْحَيَوَانِ.وَالتَّسْلِيطُ، كَإِرْسَالِ الْحَيَوَانِ أَوِ السَّهْمِ عَلَى الصَّيْدِ.
وَبِمَعْنَى عَدَمِ الْإِضَافَةِ وَعَدَمِ الْإِطْلَاقِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِيمَا إِذَا جَرَى الْخُلْعُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ فَإِلَيْهَا الْقَبُولُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَدَلُ مُرْسَلًا أَمْ مُطْلَقًا، أَمْ مُضَافًا إِلَى الْمَرْأَةِ أَوِ الْأَجْنَبِيِّ إِضَافَةَ مِلْكٍ أَوْ ضَمَانٍ.وَمَتَى جَرَى الْخُلْعُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مُرْسَلًا (أَيْ مُعَيَّنًا بِغَيْرِ الْإِضَافَةِ) فَالْقَبُولُ إِلَيْهَا كَقَوْلِهَا: اخْلَعْنِي عَلَى هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى تَسْلِيمِهَا سَلَّمَتْهَا، وَإِلاَّ فَالْمِثْلُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ، وَالْقِيمَةُ فِي الْقِيَمِيِّ، وَتَتِمَّةُ هَذَا فِي الْخُلْعِ.وَالْمُطْلَقُ كَقَوْلِهَا: خَالَعَنِي عَلَى ثَوْبٍ.وَالْمُضَافُ كَقَوْلِهَا: خَالَعَنِي عَلَى دَارِي.
وَيَسْتَعْمِلُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ الْإِرْسَالَ فِي الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ؛ لِأَنَّهَا كُلُّ مَصْلَحَةٍ أَطْلَقَهَا الشَّارِعُ فَلَمْ يَعْتَبِرْهَا وَلَمْ يُلْغِهَا.
وَالْإِرْسَالُ فِي الْحَدِيثِ لَهُ إِطْلَاقٌ خَاصٌّ سَيَأْتِي فِيمَا يَلِي:
الْإِرْسَالُ فِي الْحَدِيثِ:
2- يُطْلَقُ لَفْظُ الْإِرْسَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى تَرْكِ التَّابِعِيِّ الْوَاسِطَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنْ رَفَعَ التَّابِعِيُّ الْحَدِيثَ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- سَوَاءٌ أَكَانَ كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا، بِأَنْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَذَا، أَوْ فَعَلَ كَذَا، أَوْ فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ كَذَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِرَفْعِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَجَالَسَهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَمْثَالِهِمَا.
أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الْإِسْنَادُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى التَّابِعِيِّ، بِأَنْ كَانَ فِيهِ رَاوٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْمَذْكُورِينَ فَوْقَهُ، فَلَيْسَ بِمُرْسَلٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، بَلْ يُسَمَّى مُنْقَطِعًا، إِنْ كَانَ السَّاقِطُ وَاحِدًا فَحَسْبُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ سُمِّيَ مُعْضَلًا، وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فَكُلُّ ذَلِكَ يُسَمَّى مُرْسَلًا.وَذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْخَطِيبُ وَقَطَعَ بِهِ.وَجَاءَ فِي مُسْلِمِ الثُّبُوتِ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مَا رَوَاهُ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ لِيَشْمَلَ الْمُنْقَطِعَ.وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَالْمُرْسَلُ قَوْلُ التَّابِعِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ كَذَا، وَالْمُعْضَلُ مَا سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ اثْنَانِ مِنَ الرُّوَاةِ، وَالْمُنْقَطِعُ مَا سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْهَا، وَالْمُعَلَّقُ مَا رَوَاهُ مَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ، وَالْكُلُّ دَاخِلٌ فِي الْمُرْسَلِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِكَثِيرِ الِاصْطِلَاحِ وَالْأَسَامِي فَائِدَةٌ.
أَقْسَامُ وَحُكْمُ الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ:
3- يَنْقَسِمُ الْمُرْسَلُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ هِيَ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ: حُكْمُهُ أَنَّهُ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: إِرْسَالُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَيِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْعُلَمَاءِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، إِذْ أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَشْهَرِ رِوَايَتَيِ الْحَنَابِلَةِ، إِذَا كَانَ الْمُرْسِلُ عَدْلًا.
أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَا يَعْتَبِرُهُ حُجَّةً إِلاَّ إِذَا تَأَيَّدَ بِآيَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ مَشْهُورَةٍ، أَوْ مُوَافَقَةِ قِيَاسٍ صَحِيحٍ، أَوْ قَوْلِ صَحَابِيٍّ، أَوْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، أَوِ اشْتَرَكَ فِي إِرْسَالِهِ عَدْلَانِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ شَيْخَاهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ بِوَجْهٍ آخَرَ، بِأَنْ أَسْنَدَهُ غَيْرُ مُرْسِلِهِ، أَوْ أَسْنَدَهُ مُرْسِلُهُ مُرَّةً أُخْرَى.
وَلِثُبُوتِ الِاتِّصَالِ بِوَجْهٍ آخَرَ قُبِلَتْ مَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ؛ لِأَنَّهَا بِالتَّتَبُّعِ وُجِدَتْ مُسْنَدَةً (أَيْ مُتَّصِلَةً مَرْفُوعَةً إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَكْثَرُهَا مِمَّا سَمِعَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي احْتِجَاجِهِ بِالْمُرْسَلِ أَوْ عَدَمِهِ.
وَأَمَّا رَأْيُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَيَتَّضِحُ بِمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ شَرْحِ رَوْضَةِ النَّاظِرِ، وَمُفَادُهُ أَنَّ لِلْإِمَامِ رِوَايَتَيْنِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ حُجَّةٌ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا أَرْسَلَهُ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ: وَيُعْتَبَرُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ حُجَّةً عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ إِرْسَالَ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي كُلِّ عَصْرٍ، إِذْ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تُوجِبُ قَبُولَ مَرَاسِيلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ، تَشْمَلُ سَائِرَ الْقُرُونِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا أُرْسِلَ مِنْ وَجْهٍ وَاتَّصَلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ سَاكِتٌ عَنْ حَالِ الرَّاوِي، وَالْمُسْنِدُ نَاطِقٌ، وَالسَّاكِتُ لَا يُعَارِضُ النَّاطِقَ، مِثْلَ حَدِيثِ: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ» رَوَاهُ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ مُرْسَلًا.وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُقْبَلُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الرَّاوِي عَنْ ذِكْرِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَرْحِ فِيهِ، وَإِسْنَادُ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْدِيلِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْجُرْحُ وَالتَّعْدِيلُ يُعْمَلُ بِالْجَرْحِ.
أَوَّلًا: الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى الْإِرْخَاءِ
كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ:
4- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ السُّنَّةُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
أ- مَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ.قَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ».
ب- مَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ».
ج- مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَرَّ بِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا وَاضِعٌ يَدِي الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَأَخَذَ بِيَدِي الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى الْيُسْرَى».
الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الْإِرْسَالِ وَكَرَاهِيَةُ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ، وَالْجَوَازُ فِي النَّفْلِ، قِيلَ: مُطْلَقًا، وَقِيلَ: إِنْ طَوَّلَ.وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُ مَتْنِهِ كَالدَّرْدِيرِ وَالدُّسُوقِيِّ، وَعُلِّلَتِ الْكَرَاهَةُ فِي الْفَرْضِ بِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْيَدَيْنِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِنَادَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الدَّرْدِيرُ: فَلَوْ فَعَلَهُ لَا لِلِاعْتِمَادِ بَلِ اسْتِنَانًا لَمْ يُكْرَهْ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ فِي النَّفْلِ مُطْلَقًا، بِجَوَازِ الِاعْتِمَادِ فِيهِ بِلَا ضَرُورَةٍ.
الثَّالِثُ: إِبَاحَةُ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ.
وَذَكَرَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ ابْنِ فَرْحُونَ: وَأَمَّا إِرْسَالُهُمَا «أَيِ الْيَدَيْنِ» بَعْدَ رَفْعِهِمَا فَقَالَ سَنَدٌ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا حَالَ التَّكْبِيرِ، لِيَكُونَ مُقَارِنًا لِلْحَرَكَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا بِرِفْقٍ.
هَذَا، وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ مَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ مَا نَصُّهُ: «وَالْقَصْدُ مِنَ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ- يَعْنِي قَبْضَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ- تَسْكِينُ الْيَدَيْنِ فَإِنْ أَرْسَلَهُمَا وَلَمْ يَعْبَثْ فَلَا بَأْسَ»
الرَّابِعُ: مَنْعُ الْقَبْضِ فِيهِمَا، حَكَاهُ الْبَاجِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَلَكِنْ قَالَ الْمِسْنَاوِيُّ: هَذَا مِنَ الشُّذُوذِ.
إِرْسَالُ الْعَذَبَةِ مِنَ الْعِمَامَةِ وَالتَّحْنِيكُ بِهَا:
5- أَوْرَدَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ الْمَدْخَلِ لِابْنِ الْحَاجِّ أَنَّ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ عَذَبَةٍ وَلَا تَحْنِيكٍ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، فَإِنْ فَعَلَهُمَا فَهُوَ الْأَكْمَلُ، وَإِنْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ خَرَجَ بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَبْدِ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَسُنَّةُ الْعِمَامَةِ بَعْدَ فِعْلِهَا أَنْ يُرْخِيَ طَرَفَهَا وَيَتَحَنَّكَ، فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ طَرَفٍ وَلَا تَحْنِيكٍ فَيُكْرَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
أَمَّا النَّوَوِيُّ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا كَرَاهَةَ فِي إِرْسَالِ الْعَذَبَةِ وَلَا عَدَمِ إِرْسَالِهَا، إِلاَّ أَنَّ الشَّيْخَ الْكَمَالَ ابْنَ أَبِي شَرِيفٍ قَدْ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: بِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّهُ مِنَ الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْإِرْسَالُ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُهُ خِلَافُ الْأَوْلَى. وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَنَفِيَّةِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُنْدَبُ إِرْسَالُ ذَنَبِ الْعِمَامَةِ بِسِنِّ الْكَتِفَيْنِ إِلَى وَسَطِ الظَّهْرِ، وَقِيلَ لِمَوْضِعِ الْجُلُوسِ، وَقِيلَ شِبْرًا.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ الْعِمَامَةِ الْمُحَنَّكَةِ وَكَرَاهَةِ الصَّمَّاءِ، قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: يَحْسُنُ أَنْ يُرْخِيَ الذُّؤَابَةَ خَلْفَهُ وَلَوْ شِبْرًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ.
وَقَدْ ذَكَرَ السَّخَاوِيُّ عَنْ مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى خَيْبَرَ فَعَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا مِنْ وَرَائِهِ أَوْ قَالَ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ»، وَتَرَدَّدَ رَاوِيهِ فِيهِ، وَرُبَّمَا جَزَمَ بِالثَّانِي.
ثَانِيًا: الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى بَعْثِ الرَّسُولِ
الْإِرْسَالُ فِي النِّكَاحِ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِرْسَالِ فِي النِّكَاحِ وَتَرَتُّبِ آثَارِهِ، وَهُنَاكَ تَفْرِيعَاتٌ فِي الْمَذَاهِبِ مِنْهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَةٍ رَسُولًا، أَوْ كَتَبَ إِلَيْهَا كِتَابًا قَالَ فِيهِ: تَزَوَّجْتُكِ، فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ، سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ، لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ هُوَ كَلَامُ الْمُرْسَلِ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَتَهُ، وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ، فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ أَوْ كَلَامِ الْكَاتِبِ مَعْنًى.وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ.بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهَا: زَوَّجْتُ نَفْسِي شَطْرُ الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالشَّهَادَةُ فِي شَطْرَيِ الْعَقْدِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالشَّطْرَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ فَلَمْ يُوجَدْ شَطْرُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَقْدِ.وَقَوْلُ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ.هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا فِي قَوْلِهِمَا هَذَا.
الْإِرْسَالُ لِنَظَرِ الْمَخْطُوبَةِ:
7- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ فَلَهُ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَثِقُ بِهَا مِنَ النِّسَاءِ لِتَنْظُرَ لَهُ الْمَخْطُوبَةَ، ثُمَّ تَصِفَهَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ رُوِيَ «أَنَّهُ بَعَثَ أُمَّ سُلَيْمٍ إِلَى امْرَأَةٍ وَقَالَ: اُنْظُرِي عُرْقُوبَيْهَا وَشُمِّي مَعَاطِفَهَا».رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.هَذَا، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّبْرَامَلِّسِيِّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ تَعْلِيقًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ.قَوْلُهُ: لَوْ أَمْكَنَهُ إِرْسَالُ امْرَأَةٍ تَنْظُرُهَا لَهُ وَتَصِفُهَا لَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ، إِذْ أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْعِيَانِ، فَقَدْ يُدْرِكُ النَّاظِرُ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ مَا تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ. الْإِرْسَالُ فِي الطَّلَاقِ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرْسَلَ إِلَى زَوْجَتِهِ كِتَابًا ضَمَّنَهُ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَالْحُكْمُ أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ وَصَلَ إِلَيْهَا الْكِتَابُ أَمْ لَمْ يَصِلْ، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ عِدَّتِهَا مِنْ حِينِ كِتَابَتِهِ الْكِتَابَ.
أَمَّا إِذَا كَتَبَ إِلَيْهَا مَا مُفَادُهُ: إِذَا وَصَلَكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَتَاهَا الْكِتَابُ طَلُقَتْ مِنْ تَارِيخِ الْوُصُولِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ هُوَ وُصُولُ الْكِتَابِ إِلَيْهَا.
الْإِرْسَالُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ:
الْإِرْسَالُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ:
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ شَخْصٌ إِلَى غَيْرِهِ رَسُولًا أَوْ كِتَابًا يَطْلُبُ مِنْهُ فِيهِ أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا مَا، وَقَبِلَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ خِلَالَ الْمَجْلِسِ الَّذِي تُلِيَ فِيهِ الْكِتَابُ الْمُرْسَلُ، أَوْ سَمَاعُ أَقْوَالِ الرَّسُولِ فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَنْ كَلَامِ الْمُرْسِلِ، نَاقِلٌ كَلَامَهُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ، فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ، وَقَبِلَ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ يَسْرِي عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَالْمُكَاتَبَةِ إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُفَرِّقُونَ فِي حُكْمِ الْإِرْسَالِ بِالشِّرَاءِ تَبَعًا لِلَفْظِ الرَّسُولِ، فَإِذَا أَسْنَدَ الرَّسُولُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ طُولِبَ بِالثَّمَنِ، لَكِنْ إِذَا أَقَرَّ الْمُرْسِلُ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ غَرِيمَانِ، فَيَتْبَعُ أَيَّهُمَا شَاءَ، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ الْمُرْسِلُ أَنَّهُ دَفَعَ الثَّمَنَ لِلرَّسُولِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ، وَيَتْبَعُ الرَّسُولَ، أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ الشِّرَاءَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِالثَّمَنِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُطَالَبُ بِهِ الْمُرْسِلُ.
هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا قَالَ: بَعَثَنِي فُلَانٌ لِتَبِيعَهُ كَذَا بِمِائَةٍ، أَوْ لِيَشْتَرِيَ مِنْكَ كَذَا بِمِائَةٍ مَثَلًا، فَرَضِيَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ، لَا يُطَالَبُ الرَّسُولُ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ أَنْكَرَ فُلَانٌ هَذَا أَنَّهُ أَرْسَلَهُ فَالثَّمَنُ عَلَى الرَّسُولِ.أَمَّا إِذَا قَالَ: بَعَثَنِي فُلَانٌ لِأَشْتَرِيَ لَهُ مِنْكَ، فَيُطَالَبُ الرَّسُولُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى أَسْنَدَ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ، وَفِي الْحَالِ الْأَخِيرَةِ أَسْنَدَ الشِّرَاءَ إِلَى نَفْسِهِ.
كَمَا أَجْمَعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ إِبْطَالَ الْخِيَارِ، وَلَا تَكُونُ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْمُرْسِلِ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُرْسِلِ إِذَا لَمْ يَرَهُ.وَقَدْ عَقَّبَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ الرَّسُولِ وَقَبْضَهُ لَا يَلْزَمُ الْمُرْسِلَ الْمَتَاعُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِيَتِمَّ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَبَضَهُ لَهُ.
مِلْكِيَّةُ الشَّيْءِ الْمُرْسَلِ:
10- قَرَّرَ الْأَئِمَّةُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْسَلَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ، حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ، وَمَا دَامَ لَمْ يَقْبِضْهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ، وَقَدْ عَيَّنَهُ لِإِنْسَانٍ فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ مُطْلَقًا.
الضَّمَانُ فِي الْإِرْسَالِ:
11- ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ أَنَّهُ إِنْ زَعَمَ شَخْصٌ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ زَيْدٍ لِاسْتِعَارَةِ حُلِيٍّ لَهُ مِنْ بَكْرٍ، فَدَفَعَ لَهُ بَكْرٌ مَا طَلَبَ، وَزَعَمَ الرَّسُولُ أَنَّهُ تَلِفَ مِنْهُ، ضَمِنَهُ زَيْدٌ (الْمُرْسِلُ) إِنْ صَدَّقَهُ فِي الْإِرْسَالِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْهُ وَبَرِئَ، ثُمَّ حَلَفَ الرَّسُولُ: لَقَدْ أَرْسَلَنِي وَأَنَّهُ تَلِفَ لَا تَفْرِيطَ مِنِّي وَبَرِئَ أَيْضًا، وَضَاعَ الْحُلِيُّ هَدَرًا.
لَكِنِ الرَّاجِحُ أَنَّ الرَّسُولَ يَضْمَنُ- وَلَا يَبْرَأُ بِالْحَلِفِ- إِلاَّ لِبَيِّنَةٍ بِالْإِرْسَالِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُرْسِلِ.
أَمَّا قَاضِيخَانْ فَقَدْ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ: رَجُلٌ بَعَثَ رَسُولًا إِلَى بَزَّازٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِثَوْبِ كَذَا وَكَذَا بِثَمَنِ كَذَا وَكَذَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُولِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، فَضَاعَ الثَّوْبُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْآمِرِ، وَتَصَادَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَقَرُّوا بِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّسُولِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ بَعَثَ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ رَسُولَهُ قَبَضَ الثَّوْبَ عَلَى الْمُسَاوَمَةِ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَهُ.فَإِذَا وَصَلَ الثَّوْبُ إِلَى الْآمِرِ يَكُونُ ضَامِنًا.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ أَرْسَلَ رَجُلٌ رَسُولًا إِلَى رَجُلٍ آخَرَ وَقَالَ لَهُ: ابْعَثْ إِلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا فَقَالَ: نَعَمْ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُولِهِ، كَانَ الْآمِرُ ضَامِنًا لَهَا، إِذَا أَقَرَّ أَنَّ رَسُولَهُ قَبَضَهَا.
وَلَوْ بَعَثَ رَجُلًا لِيَسْتَقْرِضَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقْرَضَهُ فَضَاعَ فِي يَدِهِ، إِنْ قَالَ الرَّسُولُ أَقْرِضْ فُلَانًا الْمُرْسَلَ.فَهِيَ لِلْمُرْسِلِ وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ: أَقْرِضْنِي لِفُلَانٍ الْمُرْسِلِ فَأَقْرَضَهُ، وَضَاعَ فِي يَدِهِ، فَعَلَى الرَّسُولِ الضَّمَانُ.فَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَاضِ يَجُوزُ، وَبِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَجُوزُ، وَالرِّسَالَةُ بِالِاسْتِقْرَاضِ لِلْآمِرِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ أَخْرَجَ الْوَكِيلُ بِالِاسْتِقْرَاضِ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ يَقَعُ الْقَرْضُ لِلْآمِرِ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَكَالَةِ بِأَنْ أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ يَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ مَا اسْتَقْرَضَ مِنَ الدَّرَاهِمِ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْمُوَكِّلِ.
وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّسُولَ إِنْ كَانَ رَسُولَ رَبِّ الْمَالِ فَالْوَدِيعُ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَى الرَّسُولِ وَلَوْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ، وَيَرْجِعُ الْكَلَامُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَوَرَثَةِ الرَّسُولِ، فَإِنْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ كَانَ الضَّمَانُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُولِ فَلَا رُجُوعَ، حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ أَوْصَلَهُ لِرَبِّ الْمَالِ.
وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ رَسُولَ الْوَدِيعِ فَلَا يَبْرَأُ إِلاَّ بِوُصُولِهِ لِرَبِّ الْمَالِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، فَإِنْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ رَجَعَ الْوَدِيعُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُولِ فَلَا رُجُوعَ وَهِيَ مُصِيبَةٌ عَلَى الْوَدِيعِ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْوَكِيلَ وَالْمُودَعَ وَالرَّسُولَ مُؤْتَمَنُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْمُودِعِ وَالْمُرْسِلِ، فَإِذَا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ رَدُّوا مَا دُفِعَ إِلَيْهِمْ إِلَى أَرْبَابِهِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ قَدِ ائْتَمَنُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا فِيمَا بَيْنَهُمْ.
كَمَا لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى رَجُلٍ وَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا، فَقَالَ: نَعَمْ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ، فَالْآمِرُ ضَامِنٌ لَهَا إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ رَسُولَهُ قَدْ قَبَضَهَا، وَإِنْ بَعَثَ بِهَا مَعَ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهِ.وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَبَعَثَ إِلَى الْمَدْيُونِ رَسُولًا أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِالدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ، فَإِنْ بَعَثَ بِهِ مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ.
أَمَّا لَوْ بَعَثَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ بِكِتَابٍ مَعَ رَسُولٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ ثَوْبَ كَذَا بِثَمَنِ كَذَا، فَفَعَلَ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ الَّذِي أَتَاهُ بِالْكِتَابِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِ الْآمِرِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا إِنَّمَا الرَّسُولُ رَسُولٌ بِالْكِتَابِ.
وَإِذَا أَرْسَلَ الْمُودَعُ (بِفَتْحِ الدَّالِ) الْوَدِيعَةَ لِلْمُودِعِ (بِكَسْرِ الدَّالِ) بِإِذْنِهِ صَحَّ هَذَا الْإِرْسَالُ، أَمَّا إِنْ أَرْسَلَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَتَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ مِنَ الرَّسُولِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ فِيمَا إِذَا عَرَضَتْ لِلْمُودَعِ إِقَامَةٌ طَوِيلَةٌ فِي الطَّرِيقِ، كَالسَّنَةِ مَثَلًا فَالْحَقُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَبْعَثَهَا مَعَ غَيْرِهِ- وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا تَلِفَتْ أَوْ أَخَذَهَا اللِّصُّ، بَلْ بَعْثُهَا إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبٌ وَيَضْمَنُ إِنْ حَبَسَهَا، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ قَصِيرَةً كَالْأَيَّامِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِبْقَاؤُهَا مَعَهُ، فَإِنْ بَعَثَهَا- بِغَيْرِ إِذْنٍ- ضَمِنَهَا إِنْ تَلِفَتْ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ مُتَوَسِّطَةً، كَالشَّهْرَيْنِ مَثَلًا خُيِّرَ فِي إِرْسَالِهَا وَفِي إِبْقَائِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ أَرْسَلَهَا وَتَلِفَتْ، أَوْ حَبَسَهَا أَيْ وَتَلِفَتْ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَصِيِّ رَبِّ الْمَالِ، إِذَا أَرْسَلَ الْمَالَ لِلْوَرَثَةِ، أَوْ سَافَرَ هُوَ بِهِ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَالَ إِذَا ضَاعَ أَوْ تَلِفَ.وَكَذَا الْقَاضِي إِذَا بَعَثَ الْمَالَ لِمُسْتَحِقِّهِ مِنْ وَرَثَةٍ أَوْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَضَاعَ أَوْ تَلِفَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، خِلَافًا لِقَوْلِ أَصْبَغَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ.وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلَهُ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا يَقْبِضُهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَعَ الرَّسُولِ دِينَارًا، فَضَاعَ مِنَ الرَّسُولِ، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْبَاعِثِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُصَارَفَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَاعِثِ لِأَنَّهُ دَفَعَ إِلَى الرَّسُولِ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُرْسِلُ.فَإِنَّ الْمُرْسِلَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِقَبْضِ مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ، وَلَمْ يَدْفَعْهَا، وَإِنَّمَا دَفَعَ دِينَارًا عِوَضًا عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا صَرْفٌ يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَإِذْنِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ، فَصَارَ الرَّسُولُ وَكِيلًا لِلْبَاعِثِ فِي تَأْدِيَتِهِ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَمُصَارَفَتِهِ بِهِ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِ وَكِيلِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُولُ الْغَرِيمَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِ الدِّينَارِ عَنِ الدَّرَاهِمِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ ضَمَانِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَأَخَذَ الدِّينَارَ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْمُرْسِلِ.وَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أُمِرَ بِقَبْضِهَا فَضَاعَتْ مِنَ الرَّسُولِ فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْ يَدِ وَكِيلِهِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- رضي الله عنه- قَوْلُهُ فِي رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ آخَرَ دَنَانِيرُ وَثِيَابٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا وَقَالَ: خُذْ دِينَارًا وَثَوْبًا، فَأَخَذَ دِينَارَيْنِ وَثَوْبَيْنِ، فَضَاعَتْ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَاعِثِ، يَعْنِي الَّذِي أَعْطَاهُ الدِّينَارَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّسُولِ، يَعْنِي عَلَيْهِ ضَمَانُ الدِّينَارِ وَالثَّوْبِ الزَّائِدَيْنِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ لِأَنَّهُ دَفَعَهُمَا إِلَى مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِمَا إِلَيْهِ، وَيَرْجِعُ بِهِمَا عَلَى الرَّسُولِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَجَعَلَ التَّلَفَ فِي يَدِهِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلِلْمُوَكِّلِ تَضْمِينُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِقَبْضِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَبْضِهِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِهِ فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
أَثَرُ الْإِرْسَالِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ أَوْ عَلَيْهِ:
12- يَتَبَيَّنُ أَثَرُ الْإِرْسَالِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ، أَوْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَالِ مَا ذُكِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَقْوَالٍ، فَالْإِمَامُ الْكَاسَانِيُّ يُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى امْرَأَةٍ يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْهَا فَكَتَبَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ كِتَابًا، فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ، لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ.وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنَ الْكَاتِبِ، فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ وَكَلَامَ الْكَاتِبِ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، بَيْنَمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إِذَا قَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ، إِذْ أَنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَهُ وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ.فَيَتَّضِحُ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا مَأْخُوذٌ بِهَا عِنْدَ السَّمَاعِ لِكَلَامِ الْمُرْسِلِ.هَذَا وَقَدْ أَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ الْكَاسَانِيَّ فِي اعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ، إِذْ ذَكَرَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْمُودَعَ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ إِنْ دَفَعَهَا لِلرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَفَعَ لِغَيْرِ الْيَدِ الَّتِي ائْتَمَنَتْهُ كَانَ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ، فَلَمَّا تَرَكَهُ صَارَ مُفَرِّطًا، وَأَمَّا إِنْ دَفَعَ لَهُ بِإِشْهَادٍ فَقَدْ بَرِئَ، وَيَرْجِعُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ عَلَى الرَّسُولِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ.
ثَالِثًا: الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى الْإِهْمَالِ
حُكْمُ ضَمَانِ مَا أَتْلَفَتْهُ الْحَيَوَانَاتُ وَالْمَوَاشِي الْمُرْسَلَةُ:
13- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مَعْرِضِ بَيَانِهِمْ لِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى التَّفْرِيقِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ بَيْنَ الدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُ أَمْوَالَ الْغَيْرِ وَمَعَهَا رَاكِبٌ، وَالدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُهَا مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا التَّفْرِيقِ فَقَدْ قَالُوا: إِذَا أَتْلَفَتِ الدَّابَّةُ مَالًا أَوْ نَفْسًا، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَكَانَ مَعَهَا رَاكِبُهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، وَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَهَا كَانَ فِعْلُهَا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ.
وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ مَعَ رَاكِبٍ فَهَلْ يَخْتَصُّ الضَّمَانُ بِالرَّاكِبِ أَوْ يَجِبُ أَثْلَاثًا؟ وَجْهَانِ: أَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا رَاكِبَانِ فَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَوْ يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ، دُونَ الرَّدِيفِ؟ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا.
أَمَّا إِذَا أَتْلَفَتِ الدَّابَّةُ أَمْوَالَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَهُنَا يُنْظَرُ إِلَى الزَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْإِتْلَافُ، فَإِنْ كَانَ نَهَارًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِنْ كَانَ لَيْلًا ضَمِنَ، لِتَقْصِيرِهِ بِإِرْسَالِهَا لَيْلًا، بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ نَهَارًا، لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ فِي حِفْظِ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ نَهَارًا وَالدَّابَّةِ لَيْلًا، وَلَوْ تَعَوَّدَ أَهْلُ الْبَلَدِ إِرْسَالَ الدَّوَابِّ وَحِفْظَ الزَّرْعِ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ انْعَكَسَ الْحُكْمُ، فَيَضْمَنُ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ، اتِّبَاعًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْعَادَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مَا بَحَثَهُ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ لَوْ جَرَتْ عَادَةٌ بِحِفْظِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ضَمِنَ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ مُطْلَقًا.
هَذَا، وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي يَلْزَمُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِهَا الْحَمَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الطُّيُورِ وَالنَّحْلَ، إِذْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ بِإِتْلَافِهَا مُطْلَقًا، وَهَذَا الْحُكْمُ حَكَاهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنِ ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْعَادَةَ إِرْسَالُهَا.
هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي أَنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ فِي إِتْلَافِ الدَّوَابِّ إِنْ كَانَ لَيْلًا، أَمَّا إِنْ كَانَ نَهَارًا فَلَا ضَمَانَ فِيهِ.بَيْنَمَا لِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ بَعْدَ قَلِيلٍ بِإِذْنِ اللَّهِ.
هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي قَوْلِهِمْ بِتَضْمِينِ رَاكِبِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا.
أَمَّا حُكْمُ مَا أَتْلَفَهُ الْحَمَامُ وَالنَّحْلُ وَالدَّجَاجُ فَجَاءَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
الْأُولَى: تُوَافِقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ حُكْمَهَا كَالْمَاشِيَةِ فِي الْإِتْلَافِ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَرَفَةَ قَدْ قَالَ بِصَوَابِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى.أَمَّا الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْمَوَاضِعِ ضَرْبٌ تَنْفَرِدُ فِيهِ الْمَزَارِعُ وَالْحَوَائِطُ، لَيْسَ بِمَكَانِ سَرْحٍ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ إِرْسَالُ الْمَوَاشِي فِيهِ، وَمَا أَفْسَدَتْ فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَعَلَى أَرْبَابِهَا الضَّمَانُ.وَضَرْبٌ آخَرُ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِإِرْسَالِ مَوَاشِيهِمْ فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَأَحْدَثَ رَجُلٌ فِيهِ زَرْعًا فَأَتْلَفَتْهُ الْمَوَاشِي، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي، سَوَاءٌ وَقَعَ الْإِتْلَافُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا.
وَمِنَ الْمُفِيدِ جِدًّا أَنْ نُشِيرَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ مُؤَلِّفُ التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ إِذْ قَالَ: بِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرْسَلَ فِي أَرْضِهِ نَارًا أَوْ مَاءً فَوَصَلَ إِلَى أَرْضِ جَارِهِ فَأَتْلَفَ زَرْعَهَا، يُنْظَرُ فِي الْأَمْرِ عَلَى ضَوْءِ قُرْبِ الْأَرْضِ وَبُعْدِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ قَرِيبَةً فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً إِلاَّ أَنَّ النَّارَ وَصَلَتْهَا بِسَبَبِ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ. وَهَذَا الرَّأْيُ قَدْ قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا إِلاَّ أَنَّ لَهُمْ رَأْيًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِرْسَالِ الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ أَرَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ هُنَا، وَمُفَادُ هَذَا الرَّأْيِ هُوَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ، حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا أَرْسَلَ الْكَلْبَ وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ فَلَا ضَمَانَ فِيمَا يُتْلِفُهُ، وَإِنْ أَصَابَ الْمُتْلَفَ مِنْ فَوْرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ، إِذْ لَا يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ، وَالْمُتَسَبِّبُ لَا يَضْمَنُ إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى، بَيْنَمَا إِذَا أَرْسَلَ الدَّابَّةَ فَأَتْلَفَتْ أَمْوَالَ الْغَيْرِ عَلَى الْفَوْرِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِإِرْسَالِهَا فِي الطَّرِيقِ مَعَ إِمْكَانِ اتِّبَاعِهَا، إِلاَّ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا يُوسُفَ لَمْ يُفَرِّقْ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ بَيْنَ مَا يُتْلِفُهُ الْكَلْبُ بِإِرْسَالِهِ وَمَا تُتْلِفُهُ الدَّابَّةُ بِإِرْسَالِهَا.
هَذَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرْسَلَ طَيْرًا سَاقَهُ (أَيْ سَارَ خَلْفَهُ) أَوْ لَا، أَوْ أَرْسَلَ دَابَّةً أَوْ كَلْبًا وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ، أَوِ انْفَلَتَتْ دَابَّةٌ بِنَفْسِهَا فَأَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا نَهَارًا أَوْ لَيْلًا فَلَا ضَمَانَ فِي الْكُلِّ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» أَيِ الْمُنْفَلِتَةُ هَدَرٌ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
80-موسوعة الفقه الكويتية (إسلام 1)
إِسْلَامٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْإِسْلَامِ فِي اللُّغَةِ: الْإِذْعَانُ وَالِانْقِيَادُ، وَالدُّخُولُ فِي السِّلْمِ، أَوْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ.وَالْإِسْلَامُ يَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى: الْإِسْلَافُ، أَيْ عَقْدُ السَّلَمِ يُقَالُ: أَسْلَمْتُ إِلَى فُلَانٍ فِي عِشْرِينَ صَاعًا مَثَلًا، أَيِ اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ مُؤَجَّلَةً بِثَمَنٍ حَالٍّ.
أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ تَبَعًا لِوُرُودِهِ مُنْفَرِدًا، أَوْ مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ.
فَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا: الدُّخُولُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ نَفْسُهُ.وَالدُّخُولُ فِي الدِّينِ هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الشَّهَادَةِ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ.
وَمَعْنَاهُ إِذَا وَرَدَ مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ هُوَ: أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةُ، مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ.
وَإِذَا انْفَرَدَ الْإِيمَانُ يَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى: الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مَعَ الِانْقِيَادِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِيمَانُ:
2- سَبَقَ تَعْرِيفُ الْإِسْلَامِ مُنْفَرِدًا وَمُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ.وَهَذَا يَتَأَتَّى فِي تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ أَيْضًا.فَالْإِيمَانُ مُنْفَرِدًا: هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-.وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ بِهِ.أَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ يَقْتَصِرُ عَلَى تَصْدِيقِ الْقَلْبِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ وَنَصُّهُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.قَالَ: صَدَقْتَ.قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ».الْحَدِيثَ.
إِطْلَاقُ الْإِسْلَامِ عَلَى مِلَلِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ:
3- اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ، فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يُطْلَقُ عَلَى الْمِلَلِ السَّابِقَةِ.وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الْآيَةَ، وَآيَاتٍ أُخْرَى.
وَيَرَى آخَرُونَ: أَنَّهُ لَمْ تُوصَفْ بِهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَقَطْ، وَشُرِّفَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِأَنْ وُصِفَتْ بِمَا وُصِفَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا.
وَوَجْهُ اخْتِصَاصِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ «الْإِسْلَامِ» هُوَ: أَنَّ الْإِسْلَامَ اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَالْجِهَادِ، وَنَحْوِهَا.وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ كَثِيرٍ غَيْرِهِ خَاصٍّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَإِنَّمَا كُتِبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ.
وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى- وَهُوَ اخْتِصَاصُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ- قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}.فَالضَّمِيرُ (هُوَ) يَرْجِعُ لِإِبْرَاهِيمَ- عليه السلام-، كَمَا يَرَاهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ لِسَابِقِيَّةِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}.فَدَعَا بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ، ثُمَّ دَعَا لِأُمَّةٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَهِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَالَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} الْآيَةَ وَهُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَبَعَثَ مُحَمَّدًا إِلَيْهِمْ، وَسَمَّاهُمْ مُسْلِمِينَ.
فَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أُمَّةً بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِأُمَّةٍ ذُكِرَتْ بِهِ غَيْرُهَا.
4- وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ لَا؟ فَالْإِسْلَامُ الْحَاضِرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- الْمُتَضَمِّنُ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ، لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا، فَإِنَّهُ إِسْلَامُ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ يُمْكِنُ أَنْ تُفْهَمَ كُلُّ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي تَعَرَّضَ فِيهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مُسْتَعْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمَمِ الْأُخْرَى، إِمَّا عَلَى أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِمَادَّةِ أَسْلَمَ، أَوْ أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ كُلِّهَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
أَثَرُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فِي التَّصَرُّفَاتِ السَّابِقَةِ:
5- الْأَصْلُ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ صَحِيحَةٌ إِلاَّ مَا جَاءَ الْإِسْلَامُ بِإِبْطَالِهِ، كَمَا يُعْلَمُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ.
وَإِذَا كَانَ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مُتَزَوِّجًا بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، أَوْ بِمَنْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ، كَأُخْتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ، أَوْ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ.وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْقَرَافِيُّ «بِقَوْلِ النَّبِيِّ- عليه الصلاة والسلام- لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ».وَهَلْ يَلْزَمُهُ فِرَاقُ مَنْ عَدَا الْأَرْبَعِ الَّتِي تَزَوَّجَهُنَّ أَوَّلًا، أَوْ مَنْ شَاءَ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَابِهِ.وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ فِرَاقِ أَيِّ الْأُخْتَيْنِ شَاءَ.
وَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ الْكَافِرَانِ مَعًا، قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
إِذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ أَسْلَمَا مَعًا، فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، لِأَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ، فَاسْتِدَامَتُهُ أَوْلَى، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِإِجَازَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ.
وَأَمَّا إِنْ أَسْلَمَتِ الْكِتَابِيَّةُ قَبْلَهُ وَقَبْلَ الدُّخُولِ،
تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، إِذْ لَا يَجُوزُ لِكَافِرٍ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا فُرْقَةَ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَيَأْبَى.
وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي:
6- وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ، أَوْ كِتَابِيٌّ مُتَزَوِّجٌ بِوَثَنِيَّةٍ، أَوْ مَجُوسِيَّةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حِينِ إِسْلَامِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لَا طَلَاقًا.وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ، بَلْ إِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ أَبَى وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَمَرَّتِ الزَّوْجِيَّةُ، وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَفَ ذَلِكَ عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ، أَوْ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَيْسَتْ عِدَّةً، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمِ الْآخَرُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ.وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ.
أَمَّا إِنْ كَانَ إِسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ أَوْ زَوْجَةِ الْكِتَابِيِّ، بَعْدَ الدُّخُولِ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:
الْأَوَّلُ: يَقِفُ الْأَمْرُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَسْلَمَ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ.وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الثَّانِي.تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ.وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ الْحَسَنِ وطَاوُسٍ.
الثَّالِثُ: يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ إِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، كَقَوْلِهِ فِي إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَانْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ أَوْ ثَلَاثَةُ حِيَضٍ، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْنَا مُهَاجِرَةً، فَتَمَّتِ الْحِيَضُ هُنَا، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ.
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ مِنَ التَّكَالِيفِ السَّابِقَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ:
7- قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّ أَحْوَالَ الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ، وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ، وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ، وَلَا الْغَصْبُ وَالنَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا.وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا، لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ.وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ، فَلَا تَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَا ظِهَارٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَلَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَلَا الزَّكَوَاتِ، وَلَا شَيْءٍ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ» وَضَابِطُ الْفَرْقِ: أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا رَضِيَ بِهِ حَالَةَ كُفْرِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، هَذَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إِلْزَامَهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ.وَمَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ.وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَالْعِبَادَاتُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، Bوَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، لِحُصُولِ الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.
وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَلْ لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَاسَبَ أَلاَّ يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ.
(وَثَانِيهِمَا) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ، تُنَاسِبُ رَحْمَتَهُ الْمُسَامَحَةُ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا، وَإِنْ رَضِيَ بِهَا، كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ.وَلَا يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِلاَّ مَا تَقَدَّمَ الرِّضَى بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ.
الْآثَارُ اللاَّحِقَةُ لِدُخُولِ الْإِسْلَامِ:
8- إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَصْبَحَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.
فَتَلْزَمُهُ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ، كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ.إِلَخْ.وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، كَإِبَاحَةِ تَوَلِّي الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ كَالْإِمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْوِلَايَاتِ الْخَاصَّةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ...إِلَخْ
الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهَا:
9- الْكَافِرُ فِي حَالِ كُفْرِهِ هَلْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَمُكَلَّفٌ بِهَا أَمْ لَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لِيَزْدَادَ عَذَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَيَسْتَوْفِي الْمَسْأَلَةَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي مَبَاحِثِ التَّكْلِيفِ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا.
فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَعْصِمُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ؛ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» فَتَثْبُتُ هَذِهِ الْعِصْمَةُ لِلنَّفْسِ مُبَاشَرَةً، وَلِلْمَالِ تَبَعًا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ مَمْنُوعَةً عَنْهُ بِالْكُفْرِ.وَيَحْصُلُ التَّوَارُثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَرِثُهُمْ إِنْ مَاتُوا، وَيَرِثُونَهُ كَذَلِكَ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» Bوَلِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ.كَمَا أَنَّهُ يُحْرَمُ مِنْ إِرْثِ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ، وَيَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمَةِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَزَوُّجُ الْمُشْرِكَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيِ الْوَثَنِيَّةِ.
وَتَبْطُلُ- فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ- مَالِيَّةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَعْدَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَتَلْزَمُهُ جَمِيعُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِي مُقَدِّمَتِهَا أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، أُصُولًا وَفُرُوعًا، بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ.
وَكَذَلِكَ يُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، بَعْدَمَا كَانَ غَيْرَ مُطَالَبٍ بِهِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» وَتَحِلُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ، وَغُسْلُهُ وَكَفَنُهُ وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْ أَحْكَامٍ تَعَرَّضَتْ لَهَا كُتُبُ الْفِقْهِ فِي كُلِّ الْمَذَاهِبِ.
10- إِذَا بَاعَ ذِمِّيٌّ لآِخَرَ خَمْرًا وَخِنْزِيرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، يُفْسَخُ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، فَيَحْرُمُ الْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ أَيْضًا، أَخْذًا مِنْ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَوْ أَسْلَمُوا لأَحْرَزُوا بِإِسْلَامِهِمْ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}.كَمَا يَجِبُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمَ أَنْ يَهْجُرَ بَلَدَ الْكُفْرِ وَبَلَدَ الْحَرْبِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَقَدْ وَجَبَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِبَلَدِ الْكُفْرِ أَنْ يَهْجُرَهُ، وَيَلْحَقَ بِدَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَسْكُنَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَيُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ دِينِهِ، أَوْ يُجْبَرُ عَلَى أَحْكَامِ الْكُفْرِ.وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هِجْرَة).
مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْإِسْلَامُ:
11- مِمَّا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ لِصِحَّتِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:
(1) الْعَقْدُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ.
(2) وِلَايَةُ عَقْدِ نِكَاحِهَا.
(3) الشَّهَادَةُ عَلَى عَقْدِ نِكَاحِهَا.
(4) شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَسَاوَى الشُّرَكَاءُ فِي الْمَالِ وَالدَّيْنِ وَالتَّصَرُّفِ.وَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ.
(5) الْوَصِيَّةُ بِمُصْحَفٍ أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ مُسْلِمًا.
(6) النَّذْرُ، فَيُشْتَرَطُ إِسْلَامُ النَّاذِرِ، لِأَنَّ النَّذْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً، وَفِعْلُ الْكَافِرِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ Bقُرْبَةً.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.وَيَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.قَالَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَيَصِحُّ النَّذْرُ مِنْ كَافِرٍ وَلَوْ بِعِبَادَةٍ، لِحَدِيثِ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَوْفِ بِنَذْرِكَ».
(7) الْقَضَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
(8) الْوِلَايَاتُ الْعَامَّةُ كُلُّهَا، وَهِيَ الْخِلَافَةُ، وَمَا تَفَرَّعَ مِنْهَا، مِنَ الْوِلَايَةِ وَإِمَارَةِ الْجُيُوشِ، وَالْوَزَارَةِ وَالشُّرْطَةِ، وَالدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ، وَالْحِسْبَةِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
(9) الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ حَالِ ضَرُورَةِ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أَيْ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: أَجَازَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْحَاجَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}.ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضَرُورَةٌ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَلَوْ قِيلَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ عُدِمَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَيَكُونُ بَدَلًا مُطْلَقًا.
ب- الدِّينُ، أَوِ الْمِلَّةُ:
12- مِنْ مَعَانِي الدِّينِ لُغَةً: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ وَالْحِسَابُ وَالطَّاعَةُ وَالْمِلَّةُ.
وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
التَّوْحِيدُ: كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.
الْحِسَابُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}.
الْحُكْمُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}.
الْمِلَّةُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} يَعْنِي الْمِلَّةَ الْمُسْتَقِيمَةَ.
وَاصْطِلَاحًا: يُطْلَقُ الدِّينُ عَلَى الشَّرْعِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مِلَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ.وَقَدْ يُخَصُّ بِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.
13- وَعَلَى ضَوْءِ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَعَلَى ضَوْءِ التَّوْجِيهِ الْقُرْآنِيِّ الَّذِي سَلَكَ فِي اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ Bبِالْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، أَوْ بِغَيْرِهَا الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، لَا نَكَادُ نَلْمِسُ فَرْقًا جَوْهَرِيًّا بَيْنَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَمُسَمَّى الدِّينِ، مَا عَدَا الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ.
مَا يُخْرِجُ الْمَرْءَ عَنِ الْإِسْلَامِ:
14- كُلُّ مَا يَصِيرُ الْكَافِرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ مُسْلِمًا يَكْفُرُ الْمُسْلِمُ بِإِنْكَارِهِ.وَكَذَا كُلُّ مَا يَقْطَعُ الْإِسْلَامَ مِنْ نِيَّةِ كُفْرٍ، أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ، أَوْ فِعْلِ كُفْرٍ، سَوَاءٌ اسْتِهْزَاءً أَمِ اعْتِقَادًا أَمْ عِنَادًا.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ خَصَائِصِ الْكُفَّارِ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ، أَوْ تَرَكَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الْمُسْلِمِينَ يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الدِّينِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِهَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ لَا بِالْفِعْلَيْنِ.
وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَا يُخْرِجُ الرَّجُلَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلاَّ جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، ثُمَّ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ رِدَّةٌ يُحْكَمُ بِهَا، وَمَا يُشَكُّ أَنَّهُ رِدَّةٌ لَا يُحْكَمُ بِهِ، إِذِ الْإِسْلَامُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، مَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا، إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يُمَانِعُهُ فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِإِرَادَةِ مُوجِبِ الْكُفْرِ فَلَا يَنْفَعُ التَّأْوِيلُ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (رِدَّة). مَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا:
15- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ هُنَاكَ طُرُقًا ثَلَاثَةً يُحْكَمُ بِهَا عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ مُسْلِمًا وَهِيَ: النَّصُّ- وَالتَّبَعِيَّةُ- وَالدَّلَالَةُ.
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ صَرِيحًا.وَأَمَّا التَّبَعِيَّةُ فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَ التَّابِعُ حُكْمَ الْمَتْبُوعِ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا يَتَّبِعُ ابْنُ الْكَافِرِ الصَّغِيرِ أَبَاهُ إِذَا أَسْلَمَ مَثَلًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى.
وَأَمَّا طَرِيقُ الدَّلَالَةِ فَهِيَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْفِعْلِ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
أَوَّلًا: الْإِسْلَامُ النَّصُّ:
وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ، وَالْبُرْءُ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ.
16- يَكْفِي كُلَّ الْكِفَايَةِ التَّصْرِيحُ بِالشَّهَادَةِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ، مُدَعَّمًا بِالتَّصْدِيقِ الْبَاطِنِيِّ وَالِاعْتِقَادِ الْقَلْبِيِّ الْجَازِمِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ تَعَالَى، وَالتَّصْرِيحُ كَذَلِكَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ، فَلَيْسَ هُنَاكَ عُنْوَانٌ فِي قُوَّتِهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى التَّحَقُّقِ مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْكَامِلَةِ أَصْرَحُ مِنَ النُّطْقِ بِصِيغَتَيِ الشَّهَادَتَيْنِ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ».
فَالْكَافِرُ الَّذِي أَنَارَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ وَأَشْرَقَتْ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ الْيَقِينِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَعْتَنِقَ الْإِسْلَامَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْقَادِرِ كَالْأَخْرَسِ، وَمِنْ غَيْرِ Bالْمُتَمَكِّنِ كَالْخَائِفِ وَالشَّرِقِ وَمَنْ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ، وَكُلِّ مَنْ قَامَ بِهِ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ النُّطْقَ، فَنُصَدِّقُ عُذْرَهُ إِنْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ.وَلَا لُزُومَ لِأَنْ تَكُونَ صِيغَتُهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ حَتَّى بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا.
وَأَمَّا مَنْ يَرَى اخْتِصَاصَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- بِالْعَرَبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ بِعُمُومِ رِسَالَتِهِ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ أَصَالَةً، أَيْ مَنْ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِوَالِدَيْهِ، وَمَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ طِوَالَ عُمُرِهِ.وَأَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَلَوْ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ.
17- وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ كَافٍ فِي صِحَّةِ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ.
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِكُفْرٍ إِلاَّ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ.إِذَنْ فَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا لِتُقَامَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أُمِّي أَوْصَتْ أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَعِنْدِي جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ نُوبِيَّةٌ أَفَأَعْتِقُهَا؟ قَالَ: اُدْعُهَا، فَدَعَوْتُهَا فَجَاءَتْ فَقَالَ: مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتِ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ».
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا يَكُونُ إِلاَّ مَنِ اعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ دِينَ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا جَازِمًا خَالِيًا مِنَ الشُّكُوكِ وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
18- فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِحْدَاهُمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِلاَّ إِذَا عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ لِخَلَلٍ فِي لِسَانِهِ، أَوْ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لِمُعَاجَلَةِ الْمَنِيَّةِ لَهُ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا، أَمَّا إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَلَا يُشْتَرَطُ مَعَهُمَا أَنْ يَقُولَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ اخْتِصَاصَ رِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- لِلْعَرَبِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إِلاَّ بِأَنْ يُسْتَبْرَأَ.أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَمْ يَقُلْ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ Bوَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالَ: يَكُونُ مُسْلِمًا، وَيُطَالَبُ بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ أَبَى جُعِلَ مُرْتَدًّا، وَيُحْتَجُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».
وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ عَلَى قَوْلِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَاسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى لِارْتِبَاطِهِمَا وَشُهْرَتِهِمَا.
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: سُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنِ الرَّجُلِ كَيْفَ يُسْلِمُ، فَقَالَ: يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِرُّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ الدِّينِ الَّذِي انْتَحَلَهُ.وَفِيهِ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَكَذَا الْيَهُودِيَّةُ وَغَيْرُهَا.
وَأَمَّا مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: دَخَلْتُ دِينَ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَخَلْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ دَلِيلُ إِسْلَامِهِ، فَكَيْفَ إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَأَمَّا تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ فَهُوَ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَنْ يَتَبَرَّأَ مِمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهِ.
أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ
أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ خَمْسَةٌ:
19- جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْكَرِيمَةُ مُجْمَلَةً بِالْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ فِيمَا يَخُصُّ هَذِهِ الْأَرْكَانَ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَأَيْضًا الْحَدِيثُ السَّابِقُ الْمَشْهُورُ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ.
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ:
20- هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَدْخُلُ بِهِ الْمَرْءُ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ تَصْدِيقًا وَاعْتِقَادًا وَنُطْقًا.
وَأَئِمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ الشَّهَادَتَانِ.وَقَدْ كَانَتْ رِسَالَاتُ كُلِّ الرُّسُلِ تَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَالْإِقْرَارُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} فَكَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُ بِهِ Bالْمَرْءُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَتْ آخِرَ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الدُّنْيَا دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»..وَالْإِيمَانُ أَيْضًا بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- هُوَ إِيمَانٌ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا تَتَضَمَّنُهُ رِسَالَتُهُ، وَإِيمَانٌ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَتَصْدِيقٌ بِرِسَالَاتِهِمْ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي هَذَا الرُّكْنِ الرَّكِينِ الَّذِي يَسْبِقُ كُلَّ الْأَرْكَانِ تَتَحَقَّقُ بِهِ بَاقِي الْأَرْكَانِ.
الرُّكْنُ الثَّانِي: إِقَامُ الصَّلَاةِ.
21- الصَّلَاةُ لُغَةً بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَقَدْ أَضَافَ الشَّرْعُ إِلَى الدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَسُمِّيَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الصَّلَاةَ، أَوْ هِيَ مَنْقُولَةٌ مِنَ الصِّلَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَهِيَ بِذَلِكَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَفُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ.
وَوُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
فَمَنْ جَحَدَهَا كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ.
أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا، فَقِيلَ: فَاسِقٌ يُقْتَلُ حَدًّا إِنْ تَمَادَى عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَقِيلَ: مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ مُفَرِّطًا فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ كُفْرًا.وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ، مِنْهَا قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ.
أَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فَمِنْهَا «سُئِلَ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِمَوَاقِيتِهَا» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.ر: (صَلَاةٌ).
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: إِيتَاءُ الزَّكَاةِ.
22- الزَّكَاةُ لُغَةً: النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ.يُقَالُ: زَكَا الشَّيْءُ إِذَا نَمَا وَكَثُرَ، إِمَّا حِسًّا كَالنَّبَاتِ وَالْمَالِ، أَوْ مَعْنًى كَنُمُوِّ الْإِنْسَانِ بِالْفَضَائِلِ وَالصَّلَاحِ.
وَشَرْعًا: إِخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ مَالٍ مَخْصُوصٍ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ، وَسُمِّيَتْ صَدَقَةُ الْمَالِ زَكَاةً، لِأَنَّهَا تَعُودُ بِالْبَرَكَةِ فِي الْمَالِ الَّذِي أُخْرِجَتْ مِنْهُ وَتُنَمِّيهِ.وَرُكْنِيَّتُهَا وَوُجُوبُهَا ثَابِتَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.فَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا مُرْتَدٌّ، لِإِنْكَارِهِ مَا قَامَ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً.
وَمَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا أُخِذَتْ مِنْهُ كَرْهًا، بِأَنْ يُقَاتَلَ وَيُؤَدَّبَ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَنْ أَدَائِهَا.وَقُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي اثْنَيْنِ Bوَثَمَانِينَ آيَةً.وَفُرِضَتْ فِي مَكَّةَ مُطْلَقَةً أَوَّلًا، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ حُدِّدَتِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، وَمِقْدَارُ النِّصَابِ فِي كُلٍّ ر: (زَكَاة).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
81-موسوعة الفقه الكويتية (إقامة)
إقَامَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْإِقَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ: أَقَامَ، وَأَقَامَ بِالْمَكَانِ: ثَبَتَ بِهِ، وَأَقَامَ الشَّيْءَ: ثَبَّتَهُ أَوْ عَدَّلَهُ، وَأَقَامَ الرَّجُلُ الشَّرْعَ: أَظْهَرَهُ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ: أَدَامَ فِعْلَهَا، وَأَقَامَ لِلصَّلَاةِ إقَامَةً: نَادَى لَهَا.
وَتُطْلَقُ الْإِقَامَةُ فِي الشَّرْعِ بِمَعْنَيَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الثُّبُوتُ فِي الْمَكَانِ، فَيَكُونُ ضِدَّ السَّفَرِ.
الثَّانِي: إعْلَامُ الْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لِلصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ إلَيْهَا، بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.
أَوَّلًا: أَحْكَامُ الْإِقَامَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الثُّبُوتِ فِي الْمَكَانِ
أ- إقَامَةُ الْمُسَافِرِ:
2- يُصْبِحُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا إذَا دَخَلَ وَطَنَهُ، أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَكَانٍ مَا بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، وَيَنْقَطِعُ بِذَلِكَ عَنْهُ حُكْمُ السَّفَرِ، وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُقِيمِ، كَامْتِنَاعِ الْقَصْرِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ.وَإِقَامَةُ الْآفَاقِيِّ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ- تُعْطِيهِ حُكْمَ الْمُقِيمِ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ أَوْ دَاخِلَ الْحَرَمِ مِنْ حَيْثُ الْإِحْرَامُ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ، وَالْقُدُومُ، وَالْقِرَانُ، وَالتَّمَتُّعُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلَاتُ ذَلِكَ فِي (قِرَان- تَمَتُّع- حَجّ- إحْرَام).
ب- إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
3- إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقْدَحُ فِي إسْلَامِهِ، إلاَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى دِينِهِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ إظْهَارَهُ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وَهَذَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ، لِمَرَضٍ أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ.
أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ مَعَ إِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعُونَتِهِمْ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ.وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ: (ر: جِهَاد- دَارُ الْحَرْبِ- دَارُ الْإِسْلَامِ- هِجْرَة).
ثَانِيًا: الْإِقَامَةُ لِلصَّلَاةِ
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ:
4- هُنَاكَ أَلْفَاظٌ لَهَا صِلَةٌ بِالْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ، مِنْهَا:
أ- الْأَذَانُ: يُعَرَّفُ الْأَذَانُ بِأَنَّهُ: إعْلَامٌ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الْإِعْلَامُ،.
فَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِعْلَامٌ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِعْلَامَ فِي الْإِقَامَةِ هُوَ لِلْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَالْأَذَانُ لِلْغَائِبِينَ لِيَتَأَهَّبُوا لِلصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَذَانِ قَدْ تَنْقُصُ أَوْ تَزِيدُ عَنِ الْإِقَامَةِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
ب- التَّثْوِيبُ:
التَّثْوِيبُ عَوْدٌ إِلَى الْإِعْلَامِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ.وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، زِيَادَةُ « الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ».
حُكْمُ الْإِقَامَةِ التَّكْلِيفِيُّ:
5- فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ التَّكْلِيفِيِّ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِقَامَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْآخَرِينَ، وَإِذَا تُرِكَ أَثِمُوا جَمِيعًا.
قَالَ بِهَذَا الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلِبَعْضٍ آخَرَ لِلْجُمُعَةِ فَقَطْ.وَهُوَ رَأْيُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُ إِنْ نَسِيَ الْإِقَامَةَ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ نَسِيَ الْإِقَامَةَ فِي السَّفَرِ أَعَادَ، وَلَعَلَّهُ لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى إِظْهَارِ الشَّعَائِرِ.
وَاسْتُدِلَّ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ بِكَوْنِهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي تَرْكِهَا تَهَاوُنٌ، فَكَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ مِثْلَ الْجِهَادِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْإِقَامَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ بِالْوُجُوبِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ هُنَا السُّنَنُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، فَلَا يَسَعُ الْمُسْلِمِينَ تَرْكُهَا، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ، لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَفَسَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ السُّنِّيَّةَ بِالْوُجُوبِ، حَيْثُ قَالَ فِي التَّارِكِينَ: أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا، وَالْإِثْمُ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ.وَاحْتَجُّوا لِلسُّنِّيَّةِ « بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا ».وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَذَانَ وَلَا الْإِقَامَةَ مَعَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَأَرْكَانَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا.
تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْإِقَامَةِ وَحِكْمَتُهَا:
6- تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْإِقَامَةِ هُوَ تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْأَذَانِ (ر: أَذَان).
أَمَّا حِكْمَتُهَا: فَهِيَ إِعْلَاءُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَإِقْرَارٌ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، لِتَرْكِيزِ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْمُسْلِمِ، وَإِظْهَارٌ لِشَعِيرَةٍ مِنْ أَفْضَلِ الشَّعَائِرِ.
كَيْفِيَّةُ الْإِقَامَةِ:
7- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الْإِقَامَةِ هِيَ نَفْسُ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ فِي الْجُمْلَةِ بِزِيَادَةِ: « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ » بَعْدَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».
وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ أَلْفَاظِهَا هُوَ نَفْسُ تَرْتِيبِ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْرَارِ وَإِفْرَادِ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:
اللَّهُ أَكْبَرُ.
تُقَالُ فِي بَدْءِ الْإِقَامَةِ « مَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَأَرْبَعَ مَرَّاتٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ.
تُقَالُ: « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.
تُقَالُ: « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.
تُقَالُ « مَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ « وَمَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
اللَّهُ أَكْبَرُ.
تُقَالُ « مَرَّتَيْنِ » عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ الثَّلَاثَةَ تَخْتَلِفُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ بِإِفْرَادِ أَكْثَرِ أَلْفَاظِ الْإِقَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: « أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ ».وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: « إِنَّمَا كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً ».
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَجْعَلُونَ الْإِقَامَةَ مِثْلَ الْأَذَانِ بِزِيَادَةِ « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ » مَرَّتَيْنِ بَعْدَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ « عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا قَامَ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، فَقَامَ عَلَى حَائِطٍ فَأَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى، وَأَقَامَ مَثْنَى مَثْنَى » وَلِمَا رُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ « فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، يَعْنِي الْمَلَكَ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.اللَّهُ أَكْبَرُ..إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ.قَالَ: ثُمَّ أَمْهَلَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا، إِلَا أَنَّهُ قَالَ: زَادَ بَعْدَمَا قَالَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ »: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ ».
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَخْتَلِفُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي تَثْنِيَةِ « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ »، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تُقَالُ مَرَّةً
وَاحِدَةً.لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: « أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ ».
حَدْرُ الْإِقَامَةِ:
8- الْحَدْرُ هُوَ الْإِسْرَاعُ وَقَطْعُ التَّطْوِيلِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْحَدْرِ فِي الْإِقَامَةِ وَالتَّرَسُّلِ فِي الْأَذَانِ، لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ »، وَلِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذِمْ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَأَصْلُ الْحَذْمِ- بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ- فِي الْمَشْيِ إِنَّمَا هُوَ الْإِسْرَاعُ.
وَقْتُ الْإِقَامَةِ:
9- شُرِعَتِ الْإِقَامَةُ أُهْبَةً لِلصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْهَا، تَفْخِيمًا لَهَا كَغُسْلِ الْإِحْرَامِ، وَغُسْلِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ لِإِعْلَامِ النَّفْسِ بِالتَّأَهُّبِ وَالْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ، وَإِعْلَامِ الِافْتِتَاحِ.وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، بَلْ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَيُشْتَرَطُ لَهَا شَرْطَانِ، الْأَوَّلُ: دُخُولُ الْوَقْتِ، وَالثَّانِي: إِرَادَةُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ.
فَإِنْ أَقَامَ قُبَيْلَ الْوَقْتِ بِجُزْءٍ يَسِيرٍ بِحَيْثُ دَخَلَ الْوَقْتُ عَقِبَ الْإِقَامَةِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ تَحْصُلِ الْإِقَامَةُ، وَإِنْ أَقَامَ فِي الْوَقْتِ وَأَخَّرَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ إِقَامَتُهُ إِنْ طَالَ الْفَصْلُ، لِأَنَّهَا تُرَادُ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ إِطَالَةُ الْفَصْلِ.
مَا يُشْتَرَطُ لِإِجْزَاءِ الْإِقَامَةِ:
10- يُشْتَرَطُ فِي الْإِقَامَةِ مَا يَأْتِي:
دُخُولُ الْوَقْتِ، وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَالْأَدَاءُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْخُلُوُّ مِنَ اللَّحْنِ الْمُغَيِّرِ لِلْمَعْنَى، وَرَفْعُ الصَّوْتِ.وَلَكِنْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِقَامَةِ يَكُونُ أَخَفَّ مِنْ رَفْعِهِ بِالْأَذَانِ، لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَذَانِ: إِعْلَامُ الْغَائِبِينَ بِالصَّلَاةِ، أَمَّا الْإِقَامَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا طَلَبُ قِيَامِ الْحَاضِرِينَ فِعْلًا لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْإِقَامَةِ.وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ، وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْإِقَامَةِ.
وَفِي هَذِهِ الشُّرُوطِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ « أَذَان ». شَرَائِطُ الْمُقِيمِ:
11- تَشْتَرِكُ الْإِقَامَةُ مَعَ الْأَذَانِ فِي هَذِهِ الشَّرَائِطِ وَنَذْكُرُهَا إِجْمَالًا، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ تَفْصِيلٍ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُصْطَلَحِ (أَذَان)، وَأَوَّلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ.
أ- الْإِسْلَامُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُقِيمِ، فَلَا تَصِحُّ الْإِقَامَةُ مِنَ الْكَافِرِ وَلَا الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا.
ب- الذُّكُورَةُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَذَانِ الْمَرْأَةِ وَإِقَامَتِهَا لِجَمَاعَةِ الرِّجَالِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِعْلَامِ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا ذَلِكَ، وَالْأَذَانُ يُشْرَعُ لَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمَنْ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْأَذَانُ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْإِقَامَةُ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً أَوْ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَفِيهِ اتِّجَاهَاتٌ.
الْأَوَّلُ: الِاسْتِحْبَابُ.وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْإِبَاحَةُ.وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.
ج- الْعَقْلُ:
نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى بُطْلَانِ أَذَانِ وَإِقَامَةِ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ، وَقَالُوا: يَجِبُ إِعَادَةُ أَذَانِهِمْ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلاَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي السَّكْرَانِ، حَيْثُ قَالُوا بِكَرَاهَةِ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ وَاسْتِحْبَابِ إِعَادَتِهِمَا.
د- الْبُلُوغُ: لِلْعُلَمَاءِ فِي إِقَامَةِ الصَّبِيِّ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:
الْأَوَّلُ: لَا تَصِحُّ إِقَامَةُ الصَّبِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ مُمَيِّزًا أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: تَصِحُّ إِقَامَتُهُ إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا عَاقِلًا، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ فِي تِلْكَ الْمَذَاهِبِ.
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ.
هـ- الْعَدَالَةُ:
فِي إِقَامَةِ الْفَاسِقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
الْأَوَّلُ: لَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْكَرَاهَةُ: وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ.
الثَّالِثُ: يَصِحُّ وَيُسْتَحَبُّ إِعَادَتُهُ.وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي (الْأَذَان).
و- الطَّهَارَةُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِقَامَةِ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ وَصْلُ الْإِقَامَةِ بِالشُّرُوعِ بِالصَّلَاةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى سُنِّيَّةِ الْإِعَادَةِ مَا عَدَا الْحَنَفِيَّةَ.وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ إِقَامَةَ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ جَائِزَةٌ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ.
أَمَّا مِنَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى كَرَاهَةِ إِقَامَةِ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ.
الثَّانِي: الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: بُطْلَانُ الْأَذَانِ مَعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ.
مَا يُسْتَحَبُّ فِي الْإِقَامَةِ:
12- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْحَدْرِ فِي الْإِقَامَةِ وَالتَّرَسُّلِ فِي الْأَذَانِ كَمَا مَرَّ (ف).وَفِي الْوَقْفِ عَلَى آخِرِ كُلِّ جُمْلَةٍ فِي الْإِقَامَةِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، الْإِقَامَةُ مُعْرَبَةٌ إِنْ وَصَلَ كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ.فَإِنْ وَقَفَ الْمُقِيمُ وَقَفَ عَلَيْهَا بِالسُّكُونِ.
الثَّانِي: قَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: الْإِقَامَةُ عَلَى الْجَزْمِ مِثْلُ الْأَذَانِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.أَنَّهُ قَالَ: « الْأَذَانُ جَزْمٌ، وَالْإِقَامَةُ جَزْمٌ، وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ ».
وَفِي التَّكْبِيرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَقْوَالٌ، فَالتَّكْبِيرَةُ الْأُولَى فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ، لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا الْوَقْفُ بِالسُّكُونِ، وَالْفَتْحُ، وَالضَّمُّ.
الثَّانِي، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا السُّكُونُ، أَوِ الضَّمُّ.
أَمَّا التَّكْبِيرَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ: الْجَزْمُ لَا غَيْرُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ « الْإِقَامَةَ جَزْمٌ ».
الثَّانِي: الْإِعْرَابُ وَهُوَ: الضَّمُّ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْجَمِيعُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي الْأَفْضَلِ وَالْمُسْتَحَبِّ.
13- وَمِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الِالْتِفَاتَ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ « حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».وَفِي الِالْتِفَاتِ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي الْإِقَامَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ.
الْأَوَّلُ: يُسْتَحَبُّ الِالْتِفَاتُ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ
الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ مُتَّسَعًا، وَلَا يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ ضَيِّقًا، أَوِ الْجَمَاعَةُ قَلِيلَةً.
وَهَذَانِ الرَّأْيَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
الثَّالِثُ: لَا يُسْتَحَبُّ أَصْلًا لِأَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي الْأَذَانِ كَانَ لِإِعْلَامِ الْغَائِبِينَ، وَالْإِقَامَةُ لِإِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ الْمُنْتَظِرِينَ لِلصَّلَاةِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الْوَجْهِ، وَهَذَا الرَّأْيُ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ الِالْتِفَاتِ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ.وَفِي رَأْيٍ آخَرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الِابْتِدَاءِ.
14- وَيُسْتَحَبُّ فِيمَنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ: أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا، عَالِمًا بِالسُّنَّةِ، وَعَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَحَسَنَ الصَّوْتِ، مُرْتَفِعَهُ مِنْ غَيْرِ تَطْرِيبٍ وَلَا غِنَاءٍ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْأَذَانِ.
15- وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمُقِيمِ الصَّلَاةِ أَنْ يُقِيمَ وَاقِفًا.وَتُكْرَهُ الْإِقَامَةُ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَلَا بَأْسَ.قَالَ الْحَسَنُ الْعَبْدِيُّ: « رَأَيْتُ أَبَا زَيْدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَتْ رِجْلُهُ أُصِيبَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُؤَذِّنُ قَاعِدًا وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ « الصَّحَابَةَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَسِيرٍ فَانْتَهَوْا إِلَى مَضِيقٍ، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَل فِيهِمْ، فَأَذَّنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَقَامَ، فَتَقَدَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ يُومِئُ إِيمَاءً، يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ ».كَمَا تُكْرَهُ إِقَامَةُ الْمَاشِي وَالرَّاكِبِ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا- رضي الله عنه- » أَذَّنَ وَهُوَ رَاكِبٌ، ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ عَلَى الْأَرْضِ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ لَوَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِالنُّزُولِ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلِأَنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَهَيِّئٍ لَهَا.وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ إِقَامَةَ الرَّاكِبِ فِي السَّفَرِ بِدُونِ عُذْرٍ جَائِزَةٌ بِدُونِ كَرَاهَةٍ.
مَا يُكْرَهُ فِي الْإِقَامَةِ
16- يُكْرَهُ فِي الْإِقَامَةِ: تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِهَا الَّتِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، وَمِمَّا يُكْرَهُ أَيْضًا: الْكَلَامُ فِي الْإِقَامَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، أَمَّا إِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْإِقَامَةِ لِضَرُورَةٍ مِثْلَ مَا لَوْ رَأَى أَعْمَى يَخَافُ وُقُوعَهُ فِي بِئْرٍ، أَوْ حَيَّةً تَدِبُّ إِلَى غَافِلٍ، أَوْ سَيَّارَةً تُوشِكُ أَنْ تَدْهَمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِنْذَارَهُ وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ.
أَمَّا الْكَلَامُ الْقَلِيلُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: لَا يُكْرَهُ بَلْ يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ.قَالَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَكَلَّمَ فِي الْخُطْبَةِ، » فَالْأَذَانُ أَوْلَى أَلاَّ يَبْطُلَ، وَكَذَلِكَ الْإِقَامَةُ، وَلِأَنَّهُمَا يَصِحَّانِ مَعَ الْحَدَثِ، وَقَاعِدًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّخْفِيفِ.
الثَّانِي: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ حَدْرٌ، وَهَذَا يُخَالِفُ الْوَارِدَ، وَيَقْطَعُ بَيْنَ كَلِمَاتِهَا.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّمْطِيطَ وَالتَّغَنِّيَ وَالتَّطْرِيبَ بِزِيَادَةِ حَرَكَةٍ أَوْ حَرْفٍ أَوْ مَدٍّ أَوْ غَيْرِهَا فِي الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ مَكْرُوهٌ، لِمُنَافَاةِ الْخُشُوعِ وَالْوَقَارِ.
أَمَّا إِذَا تَفَاحَشَ التَّغَنِّي وَالتَّطْرِيبُ بِحَيْثُ يُخِلُّ بِالْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِدُونِ خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنِّي لأَُحِبُّكَ فِي اللَّهِ.قَالَ: وَأَنَا أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ، إِنَّكَ تَتَغَنَّى فِي أَذَانِكَ.قَالَ حَمَّادٌ: يَعْنِي التَّطْرِيبَ.
إِقَامَةُ غَيْرِ الْمُؤَذِّنِ:
17- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى الْإِقَامَةَ مَنْ تَوَلَّى الْأَذَانَ.وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: « بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِلَالًا إِلَى حَاجَةٍ لَهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ فَأَذَّنْتُ، فَجَاءَ بِلَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ أَخَا صِدَاءٍ هُوَ الَّذِي أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ » وَلِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مِنَ الذِّكْرِ يَتَقَدَّمَانِ الصَّلَاةَ، فَيُسَنُّ أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا وَاحِدٌ كَالْخُطْبَتَيْنِ، وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ أَذَى الْمُسْلِمِ مَكْرُوهٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَجُلٌ وَيُقِيمَ غَيْرُهُ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى الْأَذَانَ فِي الْمَنَامِ فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: « أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ، فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، فَأَذَّنَ بِلَالٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَا رَأَيْتُهُ وَأَنَا كُنْتُ أُرِيدُهُ قَالَ: أَقِمْ أَنْتَ »
وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَلاَّهُمَا مَعًا، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ لَا يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ.
إِعَادَةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ:
18- لَوْ صُلِّيَ فِي مَسْجِدٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يُؤَذَّنَ وَيُقَامَ فِيهِ ثَانِيًا؟ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:
الْأَوَّلُ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِذَا صُلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ كُرِهَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ، وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَذَّنَ وَصَلَّى أَوَّلًا هُمْ أَهْلَ الْمَسْجِدِ « أَيْ أَهْلَ حَيِّهِ » فَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَأَذَانُ الْجَمَاعَةِ وَإِقَامَتُهُمْ لَهُمْ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ.
الثَّانِي فِي الرَّأْيِ الرَّاجِحِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِلْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ مَا يَسْمَعُونَ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ، أَوْ صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِأَهْلِهِ أَنْ يُؤَذِّنُوا وَيُقِيمُوا.
الثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ: الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَيُخْفِيَ أَذَانَهُ وَإِقَامَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ.
مَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
19- يُقَامُ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَةِ فِي حَالِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالِانْفِرَادِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الْإِقَامَةِ لِكُلٍّ مِنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، لِأَنَّ « الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ »..وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ، وَتُصَلَّى كُلُّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِقَامَةٌ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الْإِقَامَةِ لِلصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « أَنَّهُ حِينَ شَغَلَهُمُ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، حَتَّى قَالُوا: أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ ».وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِقَامَةِ لِلْمُنْفَرِدِ، سَوَاءٌ صَلَّى فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَسْجِدِ، لِخَبَرِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: « سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ الشَّظِيَّةِ لِلْجَبَلِ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ »
وَلَكِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى أَذَانِ الْحَيِّ وَإِقَامَتِهِ أَجْزَأَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَقَالَ: يَكْفِينَا أَذَانُ الْحَيِّ وَإِقَامَتُهُمْ.
الْإِقَامَةُ لِصَلَاةِ الْمُسَافِرِ:
20- الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِلْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ مَشْرُوعَانِ فِي السَّفَرِ كَمَا فِي الْحَضَرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّفَرُ سَفَرَ قَصْرٍ أَوْ دُونَهُ. الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ:
21- فِي الْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ فِي وَقْتِهَا لِلْفَسَادِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ: تُعَادُ الصَّلَاةُ الْفَاسِدَةُ فِي الْوَقْتِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، وَأَمَّا إِنْ قَضَوْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَوْهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ.
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ: يُقَامُ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ لِلْبُطْلَانِ أَوِ الْفَسَادِ، وَلَمْ يُعْثَرْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى تَصْرِيحٍ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوَاعِدَهُمْ لَا تَأْبَاهُ.
مَا لَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْإِقَامَةُ لِغَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ.فَلَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا لِلْوَتْرِ وَلَا لِلنَّوَافِلِ وَلَا لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ.لِمَا رُوِيَ عَنْ « جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ».
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: « خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ».
إِجَابَةُ السَّامِعِ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ:
23- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِيغَةِ الْإِجَابَةِ بِاللِّسَانِ فَقَالُوا: يَقُولُ السَّامِعُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُقِيمُ، إِلاَّ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ « حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَحَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ » فَإِنَّهُ يُحَوْقِلُ « لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ ».
وَيَزِيدُ عِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ « أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا »، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا ».وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْأَذَانِ الَّذِي رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ » وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ أَذَانٍ.
وَحُكْمُ الْإِجَابَةِ بِاللِّسَانِ أَنَّهَا سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ عِنْدَهُمْ تَكُونُ فِي الْأَذَانِ دُونَ الْإِقَامَةِ. الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ:
24- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِاسْتِحْبَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ بِصَلَاةٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ وَقْتٍ يَسَعُ حُضُورَ الْمُصَلِّينَ فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ، مَعَ مُلَاحَظَةِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِلصَّلَاةِ.
وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الْإِقَامَةُ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الْأَذَانِ مُبَاشَرَةً بِدُونِ هَذَا الْفَصْلِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ: اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا حَتَّى يَقْضِيَ الْمُتَوَضِّئُ حَاجَتَهُ فِي مَهْلٍ، وَحَتَّى يَفْرُغَ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِ طَعَامِهِ فِي مَهْلٍ »
وَفِي رِوَايَةٍ: « لِيَكُنْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارُ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ ».
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَذَانِ إِعْلَامُ النَّاسِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ لِيَتَهَيَّئُوا لِلصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ فَيَحْضُرُوا الْمَسْجِدَ، وَبِالْوَصْلِ يَنْتَفِي هَذَا الْمَقْصُودُ، وَتَفُوتُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِقْدَارَ الْفَصْلِ فِي الْفَجْرِ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ عِشْرِينَ آيَةً، وَفِي الظُّهْرِ قَدْرُ مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَفِي الْعَصْرِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ.
أَمَّا فِي الْمَغْرِبِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَعْجِيلِ الْإِقَامَةِ فِيهَا لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ إِلاَّ الْمَغْرِبَ » لِأَنَّ مَبْنَى الْمَغْرِبِ عَلَى التَّعْجِيلِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « لَنْ تَزَالَ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ » وَعَلَى هَذَا يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا يَسِيرًا.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مِقْدَارِ هَذَا الْفَصْلِ الْيَسِيرِ أَقْوَالٌ:
أ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ: يَفْصِلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ قَائِمًا بِمِقْدَارِ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَلَا يَفْصِلُ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْفَصْلَ بِالصَّلَاةِ تَأْخِيرٌ، كَمَا لَا يَفْصِلُ الْمُقِيمُ بِالْجُلُوسِ، لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ لِلْمَغْرِبِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بِالصَّلَاةِ فَبِغَيْرِهَا أَوْلَى.
ب- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَفْصِلُ بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كَالْجَلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْفَصْلَ مَسْنُونٌ وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّلَاةِ، فَيَفْصِلُ بِالْجَلْسَةِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ.
ج- وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْفَصْلَ بِرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ، أَيْ أَنَّهُمَا لَا يُكْرَهَانِ وَلَا يُسْتَحَبَّانِ.
الْأُجْرَةُ عَلَى الْإِقَامَةِ مَعَ الْأَذَانِ:
25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ مَنْ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ مُحْتَسِبًا- مِمَّنْ تَتَحَقَّقُ فِيهِ شَرَائِطُ الْمُؤَذِّنِ- فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ لِلْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمُتَطَوِّعُ أَوْ وُجِدَ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الشُّرُوطُ فَهَلْ يُسْتَأْجَرُ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ؟
فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:
الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ عَلَى الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ « آخِرَ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعُثْمَانَ بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنه- أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَأَنْ يَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا »
وَهَذَا الرَّأْيُ لِمُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْجَوَازُ لِأَنَّهُ كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةً إِلَيْهِ، وَقَدْ لَا يُوجَدُ مُتَطَوِّعٌ.وَلِأَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ لَهُ قَدْ لَا يَجِدُ مَا يُقِيتُ بِهِ عِيَالَهُ.
الثَّالِثُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دُونَ آحَادِ النَّاسِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ.وَيَجُوزُ لَهُ الْإِعْطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْإِقَامَةِ فَقَطْ بِدُونِ الْأَذَانِ لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَان، وَإِجَارَة).
الْإِقَامَةُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ:
26- يُسْتَحَبُّ الْأَذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى وَالْإِقَامَةُ فِي الْيُسْرَى، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: « رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلَاةِ ».
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَذَان) فِقْرَةُ 51 (ج 2 ص 372).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
82-موسوعة الفقه الكويتية (تثبت)
تَثَبُّتٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّثَبُّتُ لُغَةً: هُوَ التَّأَنِّي فِي الْأَمْرِ وَالرَّأْيِ.
وَاصْطِلَاحًا: تَفْرِيغُ الْوُسْعِ وَالْجَهْدِ لِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْحَالِ الْمُرَادِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحَرِّي:
2- التَّحَرِّي لُغَةً: الْقَصْدُ وَالطَّلَبُ.وَاصْطِلَاحًا: طَلَبُ الشَّيْءِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
لِلتَّثَبُّتِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
أ- التَّثَبُّتُ مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:
3- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِالْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (أَيْ جِهَتَهُ) وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحْوَالٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِاسْتِقْبَالُ، كَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَالْمَصْلُوبِ، وَالْغَرِيقِ، وَنَفْلِ السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهَا. (ر: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ).
ب- التَّثَبُّتُ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ:
4- يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَذَلِكَ بِالسُّؤَالِ عَنْهُمْ سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِعَدَالَتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالتَّفَحُّصِ عَنِ الْعَدَالَةِ. (ر: تَزْكِيَةٌ).
ج- التَّثَبُّتُ مِنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ:
5- يُسْتَحَبُّ التَّثَبُّتُ مِنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ لِتَحْدِيدِ بَدْئِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: رُؤْيَةُ هِلَالِهِ، إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ خَالِيَةً مِمَّا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ مِنْ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ وَنَحْوِهِمَا.
الثَّانِي: إِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ غَيْرَ خَالِيَةٍ مِمَّا ذُكِرَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» وَبِهَذَا أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي حَالِ الْغَيْمِ، فَأَوْجَبُوا اعْتِبَارَ شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَأَوْجَبُوا صِيَامَ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ رَمَضَانَ، عَمَلًا بِلَفْظٍ آخَرَ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَهُوَ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»
أَيِ: احْتَاطُوا لَهُ بِالصَّوْمِ. (ر: أَهِلَّةٌ).
د- التَّثَبُّتُ مِنْ كَلَامِ الْفُسَّاقِ:
6- يَجِبُ التَّثَبُّتُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ الْفُسَّاقُ مِنْ أَنْبَاءٍ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وَقَدْ قُرِئَ فَتَثَبَّتُوا بَدَلًا مِنْ تَبَيَّنُوا وَالْمُرَادُ بِالتَّبَيُّنِ: التَّثَبُّتُ، قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَدِّقًا إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ، فَهَابَهُمْ، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَلَا يَعْجَلَ.فَانْطَلَقَ خَالِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا، فَبَعَثَ عُيُونَهُ فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَمِعُوا أَذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَتَاهُمْ خَالِدٌ وَرَأَى صِحَّةَ مَا ذَكَرَ عُيُونُهُ، فَعَادَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ»، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ»..
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
83-موسوعة الفقه الكويتية (تزين)
تَزَيُّنٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّزَيُّنُ هُوَ: اتِّخَاذُ الزِّينَةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ شَيْءٍ يُتَزَيَّنُ بِهِ، مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ.
وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} مَعْنَاهُ لَا يُبْدِينَ الزِّينَةَ الْبَاطِنَةَ كَالْقِلَادَةِ وَالْخَلْخَالِ وَالدُّمْلُجِ وَالسِّوَارِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ الثِّيَابُ وَزِينَةُ الْوَجْهِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحَسُّنُ، وَالتَّحَلِّي:
2- التَّحَسُّنُ مِنَ الْحُسْنِ، نَقِيضُ الْقُبْحِ.وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: التَّزَيُّنُ.يُقَالُ: حَسَّنَ الشَّيْءَ تَحْسِينًا زَيَّنَهُ، قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْحُسْنُ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي تَعَارُفِ الْعَامَّةِ فِي الْمُسْتَحْسَنِ بِالْبَصَرِ، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي الْمُسْتَحْسَنِ مِنْ جِهَةِ الْبَصِيرَةِ.
3- وَالتَّحْلِيَةُ فِي اللُّغَةِ: لُبْسُ الْحُلِيِّ، يُقَالُ: تَحَلَّتِ الْمَرْأَةُ: لَبِسَتِ الْحُلِيَّ أَوِ اتَّخَذَتْهُ، وَحَلَّيْتَهَا- بِالتَّشْدِيدِ- أَلْبَسْتَهَا الْحُلِيَّ أَوِ اتَّخَذْتَهُ لَهَا لِتَلْبَسَهُ.
4- وَالتَّزَيُّنُ وَالتَّجَمُّلُ وَالتَّحَسُّنُ تَكَادُ تَكُونُ مُتَقَارِبَةَ الْمَعَانِي، وَكُلُّهَا أَعَمُّ مِنَ التَّحْلِيَةِ لِتَنَاوُلِهَا مَا لَيْسَ حِلْيَةً، كَالِاكْتِحَالِ وَتَسْرِيحِ الشَّعْرِ وَالِاخْتِضَابِ وَنَحْوِهَا.
وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ التَّحَسُّنِ وَالتَّجَمُّلِ، بِأَنَّ التَّحَسُّنَ مِنَ الْحُسْنِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الصُّورَةُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ.
وَالتَّجَمُّلُ مِنَ الْجَمَالِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ لِلْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الصُّوَرِ.
أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ التَّحَسُّنِ وَالتَّجَمُّلِ، وَبَيْنَ التَّزَيُّنِ، فَقِيلَ: إِنَّ التَّزَيُّنَ يَكُونُ بِالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنِ الْأَصْلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ}.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ مَا تُحَاوِلُ الْمَرْأَةُ أَنْ تُحَسِّنَ نَفْسَهَا بِهِ، كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ وَمِنْهُ قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
أَمَّا كُلٌّ مِنَ التَّحَسُّنِ وَالتَّجَمُّلِ فَيَكُونُ بِزِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْأَصْلِ أَوْ نُقْصَانٍ فِيهِ، كَمَا تُفِيدُهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- الْأَصْلُ فِي التَّزَيُّنِ: الِاسْتِحْبَابُ؛ لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ».
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الرَّفِيعِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالتَّجَمُّلِ بِهَا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَعِنْدَ لِقَاءِ النَّاسِ وَزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ.قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا تَزَاوَرُوا تَجَمَّلُوا.
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَهُ عَلَى الْبَابِ، فَخَرَجَ يُرِيدُهُمْ، وَفِي الدَّارِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ وَيُسَوِّي لِحْيَتَهُ وَشَعْرَهُ.فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.وَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى إِخْوَانِهِ فَلْيُهَيِّئْ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّزَيُّنِ وَتَحْسِينِ الْهَيْئَةِ.
6- وَيَنْبَغِي أَلاَّ يُقْصَدَ بِالتَّزَيُّنِ التَّكَبُّرُ وَلَا الْخُيَلَاءُ؛ لِأَنَّ قَصْدَ ذَلِكَ حَرَامٌ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ مَا نَصُّهُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ قَصْدِ الْجَمَالِ وَقَصْدِ الزِّينَةِ، فَالْقَصْدُ الْأَوَّلُ: لِدَفْعِ الشَّيْنِ وَإِقَامَةِ مَا بِهِ الْوَقَارُ وَإِظْهَارُ النِّعْمَةِ، شُكْرًا لَا فَخْرًا، وَهُوَ أَثَرُ أَدَبِ النَّفْسِ وَشَهَامَتِهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ قَصْدُ الزِّينَةِ أَثَرُ ضَعْفِهَا، وَقَالُوا بِالْخِضَابِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ وَلَمْ يَكُنْ لِقَصْدِ الزِّينَةِ.ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ حَصَلَتْ زِينَةٌ فَقَدْ حَصَلَتْ فِي ضِمْنِ قَصْدٍ مَطْلُوبٍ فَلَا يَضُرُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ.وَلِهَذَا قَالَ فِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ: لُبْسُ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ مُبَاحٌ إِذَا كَانَ لَا يَتَكَبَّرُ؛ لِأَنَّ التَّكَبُّرَ حَرَامٌ، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كَمَا كَانَ قَبْلَهَا.
7- هَذَا، وَقَدْ تَعْرِضُ لِلتَّزَيُّنِ أَحْكَامٌ تَكْلِيفِيَّةٌ أُخْرَى، فَمِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَمَا هُوَ حَرَامٌ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ وَاجِبٌ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَتَزَيُّنُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا مَتَى طَلَبَ مِنْهَا ذَلِكَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ: تَزَيُّنُ الرَّجُلِ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَخِضَابُ الشَّيْبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. (ر: اخْتِضَابٌ).
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ: لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ لِلرِّجَالِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ حَرَامٌ: تَشَبُّهُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْعَكْسُ فِي التَّزَيُّنِ وَتَزَيُّنُ الرَّجُلِ بِالذَّهَبِ وَلُبْسُهُ الْحَرِيرَ إِلاَّ لِعَارِضٍ.وَتَزَيُّنُ مُعْتَدَّةِ الْوَفَاةِ.وَتَزَيُّنُ الْمُحْرِمِ بِمَا أُمِرَ بِاجْتِنَابِهِ كَالطِّيبِ.وَتَزَيُّنُ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَتَفْصِيلُهَا فِي مَوَاضِعِهَا.
مَا يَكُونُ بِهِ التَّزَيُّنُ:
8- لِكُلِّ شَخْصٍ زِينَتُهُ الَّتِي يَتَزَيَّنُ بِهَا، فَمَثَلًا زِينَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا فِي مَلْبَسِهَا وَحُلِيِّهَا وَطِيبِهَا، وَزِينَةُ الرَّجُلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ أَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَيُفَضَّلُ الْبَيَاضُ مِنْهَا، وَيَتَطَيَّبُ.
9- وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ التَّزَيُّنُ بِالْحَرِيرِ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ فِي يَمِينِهِ قِطْعَةَ حَرِيرٍ وَفِي شِمَالِهِ قِطْعَةَ ذَهَبٍ، وَقَالَ: هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي»
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ»
وَلِمَا فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ مِنْ مَعْنَى الْخُيَلَاءِ وَالرَّفَاهِيَةِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِالرِّجَالِ، وَهَذَا مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما-: «رَأَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهُمَا» وَيَحْرُمُ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ الْمُزَعْفَرُ دُونَ الْمُعَصْفَرِ.وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: عِنْدَهُمْ يَحْرُمُ الْمُعَصْفَرُ كَذَلِكَ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: يُكْرَهُ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ إِلْبَاسُهُ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ، وَأَجَازُوا إِلْبَاسَهُ الْفِضَّةَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ.وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَرِيرُ وَالذَّهَبُ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَحِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ».
وَجَازَ لِلْمَرْأَةِ التَّزَيُّنُ بِالْمَلْبُوسِ، ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ مُحَلًّى بِهِمَا أَوْ حَرِيرًا، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى اللِّبَاسِ مِنْ زِرٍّ وَفُرُشٍ وَمَسَانِدَ، وَلَوْ نَعْلًا وَقَبْقَابًا، وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ: (أَلْبِسَةٌ).
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِالنِّسَاءِ فِي الْحَرَكَاتِ وَلِينِ الْكَلَامِ وَالزِّينَةِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ بِهِنَّ عَادَةً أَوْ طَبْعًا.وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ أَيْضًا أَنْ يَتَشَبَّهْنَ بِالرِّجَالِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» وَضَبَطَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مَا يَحْرُمُ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِيهِ: بِأَنَّهُ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِهِنَّ فِي جِنْسِهِ وَهَيْئَتِهِ أَوْ غَالِبًا فِي زِيِّهِنَّ، وَكَذَا يُقَالُ عَكْسُهُ.
(ر: تَشَبُّهٌ).
التَّزَيُّنُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ:
11- يُسْتَحَبُّ التَّزَيُّنُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِلْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَعِنْدَ لِقَاءِ النَّاسِ وَتَزَاوُرِ الْإِخْوَانِ.وَذَلِكَ بِلُبْسِ أَحْسَنِ الثِّيَابِ وَالتَّطَيُّبِ، وَكَذَلِكَ التَّنْظِيفُ بِحَلْقِ الشَّعْرِ وَقَلْمِ الظُّفْرِ وَالسِّوَاكِ وَالِاغْتِسَالِ أَيَّامَ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى» وَرُوِيَ أَيْضًا «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَاغْتَسِلُوا، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ» وَرَوَى جَابِرٌ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَمُّ، وَيَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ».
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَهُ عَلَى الْبَابِ فَخَرَجَ يُرِيدُهُمْ وَفِي الدَّارِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ وَيُسَوِّي لِحْيَتَهُ وَشَعْرَهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى إِخْوَانِهِ فَلْيُهَيِّئْ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» (ر: تَحْسِينٌ ف 7- 10).
وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ، وَالْإِمَامُ بِذَلِكَ أَحَقُّ لِأَنَّهُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ.وَالتَّفْصِيلُ يُنْظَرُ فِي بَحْثَيْ: (جُمُعَةٌ وَعِيدٌ).
التَّزَيُّنُ لِلصَّلَاةِ:
12- يُسْتَحَبُّ التَّزَيُّنُ لِلصَّلَاةِ خُشُوعًا لِلَّهِ وَاسْتِحْضَارًا لِعَظَمَتِهِ، لَا تَكَبُّرًا وَخُيَلَاءَ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ.وَالْمُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ وَاحِدًا يَتَوَشَّحُ بِهِ جَازَ؛ لِحَدِيثِ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ»
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي بَيَانِ الْفَضِيلَةِ فِي لِبَاسِ الصَّلَاةِ: وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّهُ إِذًا أَبْلَغُ فِي السَّتْرِ، يُرْوَى عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، وَصَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَبُرْدٍ، أَوْ فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ.فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ.وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ قَالَ عُمَرُ: «إِذَا كَانَ لِأَحَدِكُمْ ثَوْبَانِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَلْيَتَّزِرْ بِهِ، وَلَا يَشْتَمِلِ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ».
قَالَ التَّمِيمِيُّ: الثَّوْبُ الْوَاحِدُ يُجْزِئُ، وَالثَّوْبَانِ أَحْسَنُ، وَالْأَرْبَعُ أَكْمَلُ: قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ وَعِمَامَةٌ وَإِزَارٌ.وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ رَأَى نَافِعًا يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، قَالَ: أَلَمْ تَكْتَسِ ثَوْبَيْنِ: قُلْتُ: بَلَى.قَالَ: فَلَوْ أُرْسِلْتَ فِي الدَّارِ، أَكُنْتَ تَذْهَبُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ قُلْتُ: لَا.قَالَ: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُزَّيَّنَ لَهُ أَوِ النَّاسُ؟ قُلْتُ: بَلِ اللَّهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: ذَلِكَ فِي الْإِمَامِ آكَدُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُومِينَ، وَتَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُمْ بِصَلَاتِهِ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَالْقَمِيصُ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فِي السَّتْرِ، فَإِنَّهُ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْجَسَدِ إِلاَّ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ، ثُمَّ الرِّدَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَلِيهِ فِي السَّتْرِ، ثُمَّ الْمِئْزَرُ، ثُمَّ السَّرَاوِيلُ.وَلَا يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلاَّ مَا سَتَرَ الْعَوْرَةَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَنْ نَفْسِهِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي بَحْثِ (أَلْبِسَةٌ).
التَّزَيُّنُ فِي الْإِحْرَامِ:
13- يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ أَنْ تَلْبَسَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ، إِلاَّ أَنَّ فِي لُبْسِهَا الْقُفَّازَيْنِ وَالْخَلْخَالَ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.فَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.وَمَنَعَهُ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لَلشَّافِعِيِّ.وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ كَلَامَ أَحْمَدَ فِي مَنْعِ الْخَلْخَالِ عَلَى الْكَرَاهَةِ.
وَيَحْرُمُ لُبْسُ الْمَخِيطِ اتِّفَاقًا لِلرِّجَالِ.
وَلَا يَجُوزُ التَّزَيُّنُ بِالتَّطَيُّبِ وَالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَحْوِهَا أَثْنَاءَ الْإِحْرَامِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُحْرِمُ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً.
وَيُسَنُّ التَّطَيُّبُ فِي الْبَدَنِ اسْتِعْدَادًا لِلْإِحْرَامِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا التَّطَيُّبُ فِي الثَّوْبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ، وَتَحْلِيَةٌ).
التَّزَيُّنُ فِي الِاعْتِكَافِ:
14- يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ التَّزَيُّنُ بِالتَّطَيُّبِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَأَخْذِ الظُّفْرِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِ، لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ قَلْمِ الْأَظْفَارِ وَقَصِّ الشَّارِبِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ، كَمَا قَالُوا بِكَرَاهَةِ حَلْقِ رَأْسِهِ مُطْلَقًا إِلاَّ أَنْ يَتَضَرَّرَ.وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَتْرُكَ الْمُعْتَكِفُ لُبْسَ رَفِيعِ الثِّيَابِ، وَالتَّلَذُّذَ بِمَا يُبَاحُ لَهُ قَبْلَ الِاعْتِكَافِ.وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ، لَكِنْ لَا بَأْسَ بِأَخْذِ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ عِنْدَهُمْ. (ر: اعْتِكَافٌ).
تَزَيُّنُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ:
15- يُسْتَحَبُّ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَتَزَيَّنَ لِلْآخَرِ؛ لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ حَقٌّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَتَزَيَّنَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، فَكَمَا يُحِبُّ الزَّوْجُ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ زَوْجَتُهُ، كَذَلِكَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لَهَا تُحِبُّ أَنْ يَتَزَيَّنَ لَهَا.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: تَتَّقُونَ اللَّهَ فِيهِنَّ، كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيكُمْ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: إِنِّي لأَُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ، كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وَحَقُّ الزَّوْجِ عَلَيْهَا أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ حَقِّهَا؛ لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}.
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَلْبَسُ الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّ لِي نِسَاءً وَجِوَارِيَ، فَأُزَيِّنُ نَفْسِي كَيْ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِي.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي امْرَأَتِي، كَمَا يُعْجِبُهَا أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا.
وَمِنَ الزِّينَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّهُ إِنْ نَبَتَ شَعْرٌ غَلِيظٌ لِلْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا، كَشَعْرِ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا نَتْفُهُ لِئَلاَّ تَتَشَبَّهَ بِالرِّجَالِ، فَقَدْ رَوَتِ امْرَأَةُ ابْنِ أَبِي الصَّقْرِ- وَهِيَ الْعَالِيَةُ بِنْتُ أَيْفَعَ- رضي الله عنها-، أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي وَجْهِي شَعَرَاتٍ أَفَأَنْتِفُهُنَّ: أَتَزَيَّنُ بِذَلِكَ لِزَوْجِي؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمِيطِي عَنْكِ الْأَذَى، وَتَصَنَّعِي لِزَوْجِكِ كَمَا تَصْنَعِينَ لِلزِّيَارَةِ، وَإِنْ أَمَرَكِ فَأَطِيعِيهِ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْكِ فَأَبِرِّيهِ، وَلَا تَأْذَنِي فِي بَيْتِهِ لِمَنْ يَكْرَهُ.
وَإِنْ نَبَتَ فِي غَيْرِ أَمَاكِنِهِ فِي وَجْهِ الرَّجُلِ فَلَهُ إِزَالَتُهُ، حَتَّى أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلرَّجُلِ الْأَخْذَ مِنَ الْحَاجِبَيْنِ إِذَا فَحُشَا. فَإِذَا أَمَرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِالتَّزَيُّنِ لَهُ كَانَ التَّزَيُّنُ وَاجِبًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ؛ وَلِأَنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ فِي الْمَعْرُوفِ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ.
تَأْدِيبُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ لِتَرْكِ الزِّينَةِ:
16- مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ بِالْمَلْبَسِ وَالطِّيبِ، وَأَنْ تُحَسِّنَ هَيْئَتَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ، مِمَّا يُرَغِّبُهُ فِيهَا وَيَدْعُوهُ إِلَيْهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» فَإِنْ أَمَرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِالتَّزَيُّنِ فَلَمْ تَتَزَيَّنْ لَهُ كَانَ لَهُ حَقُّ تَأْدِيبِهَا؛ لِأَنَّ الزِّينَةَ حَقُّهُ.قَالَ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}.
تَزَيُّنُ الْمُعْتَدَّةِ:
17- الْمُعْتَدَّةُ لِلْوَفَاةِ لَا يَجُوزُ لَهَا التَّزَيُّنُ اتِّفَاقًا لِوُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا».
وَكَذَلِكَ الْمُعْتَدَّةُ لِلطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ لَهَا التَّزَيُّنُ، حِدَادًا وَأَسَفًا عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةِ مُؤْنَتِهَا؛ وَلِحُرْمَةِ خِطْبَتِهَا، وَعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْعَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ لَهَا الْحِدَادُ وَتَرْكُ الزِّينَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُبَاحُ لَهَا الزِّينَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ فَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ؛ لِأَنَّهَا حَلَالٌ لِلزَّوْجِ لِقِيَامِ نِكَاحِهَا، وَالرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالتَّزَيُّنُ حَامِلٌ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مَشْرُوعًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ رَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ (أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا الْإِحْدَادُ، وَحَيْثُ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّزَيُّنُ.وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ تَتَزَيَّنَ مِمَّا يَدْعُو الزَّوْجَ إِلَى رَجْعَتِهَا.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْدَادٌ، عِدَّةٌ).
الْجِرَاحَةُ لِأَجْلِ التَّزَيُّنِ:
أَوَّلًا- تَثْقِيبُ الْأُذُنِ:
18- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَثْقِيبَ أُذُنِ الصَّغِيرَةِ لِتَعْلِيقِ الْقُرْطِ جَائِزٌ، فَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ- وَمَعَهُ بِلَالٌ- فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي قُرْطَهَا».
وَنَقَلَ عُمَيْرَةُ عَنِ الْغَزَالِيِّ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّهُ جُرْحٌ لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا ذَلِكَ.قَالَ عُمَيْرَةُ: وَاعْتُرِضَ بِحَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ الَّذِي فِيهِ: «وَأَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ» لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُِمِّ زَرْعٍ».
وَاتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ فِي الصَّبِيِّ.
ثَانِيًا- الْوَشْمُ وَالْوَشْرُ:
19- وَمِنْ أَنْوَاعِ الْجِرَاحَةِ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ التَّزَيُّنِ: مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْوَشْمِ وَالْوَشْرِ الْوَارِدَيْنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «نَهَى عَنِ الْوَاشِرَةِ».
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْأُمُورُ مُحَرَّمَةٌ، نَصَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى لَعْنِ فَاعِلِهَا؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّدْلِيسِ، وَقِيلَ: مِنْ بَابِ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَفِي الْآيَةِ: {وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: النَّهْيُ عَنِ النَّمْصِ أَيْ نَتْفِ الشَّعْرِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا فَعَلَتْهُ لِتَتَزَيَّنَ لِلْأَجَانِبِ، وَإِلاَّ فَلَوْ كَانَ فِي وَجْهِهَا شَعْرٌ يَنْفِرُ زَوْجُهَا بِسَبَبِهِ، فَفِي تَحْرِيمِ إِزَالَتِهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ الزِّينَةَ لِلنِّسَاءِ مَطْلُوبَةٌ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ أَوْ شَوَارِبُ فَلَا تَحْرُمُ إِزَالَتُهُ، بَلْ تُسْتَحَبُّ.وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ الْحَاجِبَيْنِ وَشَعْرِ وَجْهِهِ مَا لَمْ يُشْبِهِ الْمُخَنَّثَ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِزَالَةِ شَعْرِ الْجَسَدِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيَجِبُ عَلَيْهِنَّ إِزَالَةُ مَا فِي إِزَالَتِهِ جَمَالٌ لَهَا- وَلَوْ شَعْرَ اللِّحْيَةِ إِنْ لَهَا لِحْيَةٌ- وَإِبْقَاءُ مَا فِي بَقَائِهِ جَمَالٌ.وَالْوُجُوبُ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا إِذَا أَمَرَهَا الزَّوْجُ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا حَفُّ الْوَجْهِ فَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْحَفِّ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ لِلنِّسَاءِ، وَأَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: تَحْسِينٌ).
ثَالِثًا- قَطْعُ الْأَعْضَاءِ الزَّائِدَةِ:
20- يَجُوزُ قَطْعُ أُصْبُعٍ زَائِدَةٍ، أَوْ شَيْءٍ آخَرَ كَسِنٍّ زَائِدَةٍ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلَاكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عِيَاضٍ: أَنَّ مَنْ خُلِقَ بِإِصْبَعٍ زَائِدَةٍ أَوْ عُضْوٍ زَائِدٍ لَا يَجُوزُ لَهُ قَطْعُهُ وَلَا نَزْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ نَقْلًا عَنِ الطَّبَرِيِّ: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْ خِلْقَتِهَا الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ عَلَيْهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ الْتِمَاسَ الْحُسْنِ، لَا لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ، كَمَنْ تَكُونُ مَقْرُونَةَ الْحَاجِبَيْنِ، فَتُزِيلُ مَا بَيْنَهُمَا تُوهِمُ الْبُلُجَ أَوْ عَكْسَهُ، وَمَنْ تَكُونُ لَهَا سِنٌّ زَائِدَةٌ فَتَقْلَعُهَا، أَوْ طَوِيلَةٌ فَتَقْطَعُ مِنْهَا، أَوْ لِحْيَةٌ أَوْ شَارِبٌ أَوْ عَنْفَقَةٌ فَتُزِيلُهَا بِالنَّتْفِ، وَمَنْ يَكُونُ شَعْرُهَا قَصِيرًا أَوْ حَقِيرًا فَتُطَوِّلُهُ أَوْ تُغْزِرُهُ بِشَعْرِ غَيْرِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ وَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ وَالْأَذِيَّةُ، كَمَنْ يَكُونُ لَهَا سِنٌّ زَائِدَةٌ أَوْ طَوِيلَةٌ تُعِيقُهَا عَنِ الْأَكْلِ، أَوْ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ تُؤْذِيهَا أَوْ تُؤْلِمُهَا، فَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَالرَّجُلُ فِي هَذَا الْأَخِيرِ كَالْمَرْأَةِ.
تَزْيِينُ الْبُيُوتِ وَالْأَفْنِيَةِ
21- تَزْيِينُ الْبُيُوتِ وَالْأَفْنِيَةِ- بِتَنْظِيفِهَا وَتَرْتِيبِهَا- مَطْلُوبٌ شَرْعًا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ»
وَيَجُوزُ تَزْيِينُ الْبُيُوتِ بِالدِّيبَاجِ، وَتَجْمِيلُهَا بِأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِلَا تَفَاخُرٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.كَمَا أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَزْوِيقَ حِيطَانِ الْبُيُوتِ وَسُقُفِهَا وَخَشَبِهَا وَسَاتِرِهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ، فَقَالُوا: يَحِلُّ الْإِنَاءُ الْمُمَوَّهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكَالْإِنَاءِ السُّقُوفُ وَالْجُدْرَانُ وَلَوْ لِلْكَعْبَةِ وَالْمُصْحَفُ وَالْكُرْسِيُّ وَالصُّنْدُوقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَإِنْ كَثُرَ الْمُمَوَّهُ بِهِ بِأَنْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ حَرُمَ.وَمَحَلُّ الْحِلِّ الِاسْتِدَامَةُ، أَمَّا الْفِعْلُ فَحَرَامٌ مُطْلَقًا.
وَصَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ تَزْيِينِ الْبُيُوتِ لِلرِّجَالِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى مَشَاهِدِ الصُّلَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ بِالثِّيَابِ، وَحُرْمَةِ تَزْيِينِهَا بِالْحَرِيرِ وَالصُّوَرِ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ.
وَيُكْرَهُ تَزْوِيقُ الْبُيُوتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِالسُّتُورِ مَا لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ، وَيَحْرُمُ عِنْدَهُمْ تَزْيِينُهَا بِالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمُمَوَّهِ بِهَا- قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا- وَبِصُوَرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ مُزَيَّنَةً بِالنُّقُوشِ وَصُوَرِ شَجَرٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَانْظُرْ: (تَصْوِيرٌ).
تَزْيِينُ الْمَسَاجِدِ
22- يَحْرُمُ تَزْيِينُ الْمَسَاجِدِ بِنَقْشِهَا وَتَزْوِيقِهَا بِمَالِ الْوَقْفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ ضَمَانِ الْوَقْفِ الَّذِي صُرِفَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ.وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ مَنْعُ صَرْفِ مَالِ الْوَقْفِ فِي ذَلِكَ.وَلَوْ وَقَفَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا- النَّقْشِ وَالتَّزْوِيقِ- لَمْ يَصِحَّ فِي الْقَوْلِ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، أَمَّا إِذَا كَانَ النَّقْشُ وَالتَّزْوِيقُ مِنْ مَالِ النَّاقِشِ فَيُكْرَهُ اتِّفَاقًا فِي الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَ يُلْهِي الْمُصَلِّيَ، كَمَا إِذَا كَانَ فِي الْمِحْرَابِ وَجِدَارِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ».
وَفِيمَا عَدَا جِدَارَ الْكَعْبَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ: (مَسْجِدٌ).
تَزْيِينُ الْأَضْرِحَةِ
23- يُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقُبُورِ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا اتِّفَاقًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِ جَابِرٍ- رضي الله عنه-: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاهَاةِ وَزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَتِلْكَ مَنَازِلُ الْآخِرَةِ، وَلَيْسَتْ بِمَوْضِعٍ لِلْمُبَاهَاةِ.
وَكَذَا يُكْرَهُ تَطْيِينُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُهُ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ: (قَبْرٌ).
حُكْمُ بَيْعِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ
24- يَجُوزُ بَيْعُ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا مِنْ طِيبٍ وَحِنَّاءٍ وَخِضَابٍ وَكُحْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُبِيحَ اسْتِعْمَالُهُ مِمَّا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ شِرَاؤُهُ لَهَا مِنْ مَالِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ هَيَّأَهُ لَهَا، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرِيدُ لِذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فِيمَا عَدَا الطِّيبَ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الطِّيبِ مَا تَقْطَعُ بِهِ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ لَا غَيْرُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: يُفْرَضُ لَهَا ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ إِنْ تَضَرَّرَتْ بِتَرْكِهِ وَكَانَ مُعْتَادًا لَهَا.
الِاسْتِئْجَارُ لِلتَّزَيُّنِ:
25- الْأَصْلُ إِبَاحَةُ إِجَارَةِ كُلِّ عَيْنٍ يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مَعَ بَقَائِهَا، وَلِهَذَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِجَوَازِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ لِلتَّزَيُّنِ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ بِهِمَا مُبَاحَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا، وَالزِّينَةُ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمَشْرُوعَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}.
وَجَوَازُ إِجَارَةِ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَهُمْ، وَتَرَدَّدَ أَحْمَدُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ مِنْ جِنْسِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُهُ مُطْلَقًا. أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِفَسَادِ إِجَارَةِ مِثْلِ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي لِلتَّزَيُّنِ حَيْثُ قَالُوا: لَوِ اسْتَأْجَرَ ثِيَابًا أَوْ أَوَانِيَ لِيَتَجَمَّلَ بِهَا أَوْ دَابَّةً لِيَجْنِيَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ دَارًا لَا لِيَسْكُنَهَا...فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ فِي الْكُلِّ وَلَا أَجْرَ لَهُ، لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنَ الْعَيْنِ.وَيَجُوزُ إِجَارَةُ الْأَلْبِسَةِ لِلُّبْسِ، وَالْأَسْلِحَةِ لِلْجِهَادِ، وَالْخِيَامِ لِلسَّكَنِ وَأَمْثَالِهَا إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مُقَابِلَ بَدَلٍ مَعْلُومٍ، وَالْحُلِيُّ كَاللِّبَاسِ عِنْدَهُمْ.
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ إِجَارَةَ الْحُلِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ، وَقَالُوا: الْأَوْلَى إِعَارَتُهُ لِأَنَّهَا مِنَ الْمَعْرُوفِ.
هَذَا، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْمَاشِطَةِ لِتُزَيِّنَ الْعَرُوسَ وَغَيْرَهَا إِنْ ذُكِرَ الْعَمَلُ أَوِ الْمُدَّةُ، وَالْجَوَازُ مَفْهُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ التَّزَيُّنِ مَشْرُوعٌ، وَالْإِجَارَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمَشْرُوعَةِ صَحِيحَةٌ.
حُكْمُ إِعَارَةِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ:
26- يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِعَارَةُ كُلِّ عَيْنٍ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً- مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الدَّوَامِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ بِالتَّجَمُّلِ وَالتَّزَيُّنِ- كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحُلِيِّ وَمِنْهُ الْقَلَائِدُ وَغَيْرُهَا.فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «هَلَكَتْ قِلَادَةٌ لِأَسْمَاءَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي طَلَبِهَا رِجَالًا، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسُوا عَلَى وُضُوءٍ، وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً فَصَلَّوْا وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ».
زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ» يَعْنِي أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنها- الْقِلَادَةَ الْمَذْكُورَةَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
84-موسوعة الفقه الكويتية (تعويذ)
تَعْوِيذٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّعْوِيذُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَوَّذَ، مِنْ عَاذَ يَعُوذُ عَوْذًا: بِمَعْنَى الْتَجَأَ.قَالَ اللَّيْثُ يُقَالُ: فُلَانٌ عَوْذٌ لَكَ: أَيْ مَلْجَأٌ وَيُقَالُ: عُذْتُ بِفُلَانٍ: اسْتَعَذْتُ بِهِ: أَيْ لَجَأْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ عِيَاذِي: أَيْ مَلْجَئِي.وَالْعُوذَةُ: مَا يُعَاذُ بِهِ مِنَ الشَّيْءِ، وَالْعُوذَةُ وَالتَّعْوِيذَةُ وَالْمَعَاذَةُ كُلُّهُ بِمَعْنَى: الرُّقْيَةُ الَّتِي يُرْقَى بِهَا الْإِنْسَانُ مِنْ فَزَعٍ أَوْ جُنُونٍ.وَالْجَمْعُ: عُوَذٌ وَتَعَاوِيذُ، وَمُعَاذَاتٌ
وَالتَّعْوِيذُ فِي الِاصْطِلَاحِ يَشْمَلُ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَنَحْوَهَا مِمَّا هُوَ مَشْرُوعٌ أَوْ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الرُّقْيَةُ:
2- الرُّقْيَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ رَقَاهُ يَرْقِيهِ رُقْيَةً بِمَعْنَى: الْعُوذَةِ وَالتَّعْوِيذِ.قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الرُّقْيَةُ: الْعُوذَةُ الَّتِي يُرْقَى بِهَا صَاحِبُ الْآفَةِ، كَالْحُمَّى وَالصَّرَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآفَاتِ، لِأَنَّهُ يُعَاذُ بِهَا.وَمِنْهُ ((: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أَيْ مَنْ يَرْقِيهِ؟ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا رَاقِيَ يَرْقِيهِ، فَيَحْمِيهِ.
وَعَرَّفَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: بِأَنَّهَا مَا يُرْقَى بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ لِطَلَبِ الشِّفَاءِ.
فَالرُّقْيَةُ أَخَصُّ مِنَ التَّعْوِيذِ، لِأَنَّ التَّعْوِيذَ يَشْمَلُ الرُّقْيَةَ وَغَيْرَهَا، فَكُلُّ رُقْيَةٍ تَعْوِيذٌ وَلَا عَكْسَ ب- التَّمِيمَةُ:
3- التَّمِيمَةُ فِي اللُّغَةِ: خَيْطٌ أَوْ خَرَزَاتٌ كَانَ الْعَرَبُ يُعَلِّقُونَهَا عَلَى أَوْلَادِهِمْ، يَمْنَعُونَ بِهَا الْعَيْنَ فِي زَعْمِهِمْ، فَأَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ.قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: التَّمِيمَةُ قِلَادَةٌ فِيهَا عُوَذٌ.
وَمَعْنَاهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَا عُلِّقَ فِي الْأَعْنَاقِ مِنَ الْقَلَائِدِ خَشْيَةَ الْعَيْنِ أَوْ غَيْرِهَا.وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ» أَيْ: فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ صِحَّتَهُ وَعَافِيَتَهُ.
وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْعُوذَةُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَى الْمَرِيضِ وَالصِّبْيَانِ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا الْقُرْآنُ وَذِكْرُ اللَّهِ إِذَا خُرِزَ عَلَيْهَا جِلْدٌ.
فَالتَّمِيمَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا: نَوْعٌ مِنَ التَّعْوِيذِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرُّقْيَةِ: أَنَّ الْأُولَى هِيَ تَعْوِيذٌ يُعَلَّقُ عَلَى الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ، وَالثَّانِيَةُ تَعْوِيذٌ يُقْرَأُ عَلَيْهِ ج- الْوَدَعَةُ:
4- الْوَدَعَةُ: شَيْءٌ أَبْيَضُ يُجْلَبُ مِنَ الْبَحْرِ يُعَلَّقُ فِي أَعْنَاقِ الصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ.وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ» أَيْ فَلَا بَارَكَ اللَّهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّقُونَهَا مَخَافَةَ الْعَيْنِ فَالْوَدَعَةُ مِثْلُ التَّمِيمَةِ فِي الْمَعْنَى.
د- التُّوَلَةُ:
5- التُّوَلَةُ فِي اللُّغَةِ: بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ: السِّحْرُ، وَخَرَزٌ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يُحَبِّبُ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا، وَيُقَالُ فِيهَا أَيْضًا: التُّوَلَةُ كَعِنَبَةٍ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَحْبِيبُ الْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا.
كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- رَاوِي الْحَدِيثِ.قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَذِهِ التَّمَائِمُ وَالرُّقَى قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا التُّوَلَةُ؟ قَالَ: شَيْءٌ يَصْنَعُهُ النِّسَاءُ يَتَحَبَّبْنَ بِهِ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ.
فَالتُّوَلَةُ أَيْضًا ضَرْبٌ مِنَ التَّعْوِيذِ.
هـ- (التَّفْلُ، النَّفْثُ، النَّفْخُ):
6- التَّفْلُ: النَّفْخُ مَعَهُ رِيقٌ.وَالنَّفْثُ: نَفْخٌ لَيْسَ مَعَهُ رِيقٌ.فَالتَّفْلُ شَبِيهٌ بِالْبَزْقِ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْهُ، أَوَّلُهُ الْبَزْقُ، ثُمَّ التَّفْلُ، ثُمَّ النَّفْثُ، ثُمَّ النَّفْخُ.فَكُلٌّ مِنَ التَّفْلِ، وَالنَّفْثِ، وَالنَّفْخِ قَدْ يَكُونُ مِنْ مُلَابَسَاتِ التَّعَاوِيذِ.
و- النُّشْرَةُ:
7- النُّشْرَةُ فِي اللُّغَةِ: كَالتَّعْوِيذِ وَالرُّقْيَةِ.يُعَالَجُ بِهَا الْمَجْنُونُ وَالْمَرِيضُ وَحَلُّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ وَفِي الْحَدِيثِ «فَلَعَلَّ طِبًّا أَصَابَهُ، يَعْنِي سِحْرًا، ثُمَّ نَشَرَهُ ب قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» أَيْ رَقَاهُ.وَالتَّنْشِيرُ: الرُّقْيَةُ أَوْ كِتَابَةُ النُّشْرَةُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يُمْسَحُ بِهِ الْمَرِيضُ أَوْ يُسْقَاهُ.أَوْ يُكْتَبُ قُرْآنٌ وَذِكْرٌ بِإِنَاءٍ لِحَامِلٍ لِعُسْرِ الْوِلَادَةِ، وَلِمَرِيضٍ يُسْقَيَانِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ز- الرَّتِيمَةُ:
8- الرَّتِيمَةُ وَالرَّتْمَةُ: خَيْطٌ يُرْبَطُ بِأُصْبُعٍ أَوْ خَاتَمٍ لِتُسْتَذْكَرَ بِهِ الْحَاجَةُ، وَيُقَالُ: أَرْتَمَهُ: إِذَا شَدَّ فِي أُصْبُعِهِ الرَّتِيمَةَ وَقِيلَ: هِيَ خَيْطٌ كَانَ يُرْبَطُ فِي الْعُنُقِ أَوْ فِي الْيَدِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى زَعْمِهِمْ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّعْوِيذِ:
9- يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّعَاوِيذِ بِاخْتِلَافِ مَا تُتَّخَذُ مِنْهُ التَّعَاوِيذُ.وَتَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:
10- مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ:
وَمِنْهُ مَا كَانَ يُرْقَى بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: أَنَّهُ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ بِلَا خِلَافٍ.لِمَا صَحَّ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَفِي عُنُقِهَا شَيْءٌ تَتَعَوَّذُ بِهِ، فَجَبَذَهُ، فَقَطَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أَصْبَحَ آلُ عَبْدِ اللَّهِ أَغْنِيَاءَ عَنْ أَنْ يُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا.ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ، قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذِهِ الرُّقَى وَالتَّمَائِمُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا التُّوَلَةُ، قَالَ: شَيْءٌ يَصْنَعُهُ النِّسَاءُ يَتَحَبَّبْنَ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ».
فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْوَعِيدِ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيقِ خَرَزَةٍ يُسَمُّونَهَا تَمِيمَةً أَوْ نَحْوَهَا، يَرَوْنَ أَنَّهَا تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْآفَاتِ.وَلَا شَكَّ أَنَّ اعْتِمَادَ هَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ، وَأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ شِرْكًا فَهُوَ يُؤَدِّي إِلَيْهِ، إِذْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَمْنَعُ وَلَا يَدْفَعُ إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذُ مَحْمُولَةٌ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ، أَوْ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَا يُدْرَى مَا هِيَ، وَلَعَلَّهُ يَدْخُلُهَا سِحْرٌ أَوْ كُفْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ حَرَامٌ، صَرَّحَ بِهِ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: لَا يُرْقَى بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ يُعْرَفْ مَعْنَاهَا، قَالَ مَالِكٌ: مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهَا كُفْرٌ؟.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ النَّفْثِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذِ، فَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهِ، وَاسْتَحَبَّهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنْفُثُ فِي الرُّقْيَةِ» وَلَفْظُهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ يَدِي» وَأَيْضًا بِمَا رُوِيَ «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّ يَدَهُ احْتَرَقَتْ، فَأَتَتْ بِهِ أُمُّهُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ يَنْفُثُ عَلَيْهَا، وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْهُ».وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ: ذُهِبَ بِي إِلَى عَائِشَةَ- رضي الله عنها- وَفِي عَيْنَيَّ سُوءٌ فَرَقَتْنِي وَنَفَثَتْ.
وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُونَ: وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَكَمُ بِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَى الضَّحَّاكِ وَهُوَ وَجِعٌ، فَقُلْتُ: أَلَا أَعَوِّذُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَا تَنْفُثْ، فَعَوَّذْتُهُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ.وَبِمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ لِعَطَاءٍ: الْقُرْآنُ يَنْفُخُ أَوْ يَنْفُثُ.قَالَ: لَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا حُكْمُ النُّشْرَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَدَا ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَائِشَةَ- رضي الله عنها-، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَالطَّبَرِيِّ وَكَانَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- تَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ تَأْمُرُ أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْمَرِيضِ.
وَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ حَرَامٌ، وَمَنَعَهَا أَيْضًا الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ.وَكَذَلِكَ مُجَاهِدٌ لَمْ يَرَ أَنْ تُكْتَبَ آيَاتُ الْقُرْآنِ، ثُمَّ تُغْسَلَ، ثُمَّ يُسْقَاهُ صَاحِبُ الْفَزَعِ.وَقَالَ النَّخَعِيُّ: أَخَافُ أَنْ يُصِيبَهُ بَلَاءٌ.لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ النُّشْرَةَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ».
وَقِيلَ: الْمَنْعُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ خَارِجَةً عَمَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَعَنِ الْمُدَاوَاةِ الْمَعْرُوفَةِ.وَالنُّشْرَةُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ، فَهِيَ غُسَالَةُ شَيْءٍ لَهُ فَضْلٌ كَوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَأَمَّا الرَّتِيمَةُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهَا:
فَحُكْمُ الرَّتِيمَةِ- بِمَعْنَى: أَنَّهَا خَيْطٌ يُرْبَطُ بِأُصْبُعٍ أَوْ خَاتَمٍ لِتُسْتَذْكَرَ بِهِ الْحَاجَةُ- فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ، لِأَنَّهَا تُفْعَلُ لِحَاجَةٍ فَلَيْسَ بِعَبَثٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ التَّذَكُّرُ عِنْدَ النِّسْيَانِ.وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ وَفِي الْمِنَحِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ عَبَثٍ.وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: الدُّمْلُجُ، وَهُوَ مَا يَصْنَعُهُ بَعْضُ الرِّجَالِ فِي الْعَضُدِ وَأَمَّا حُكْمُ الرَّتِيمَةِ- بِمَعْنَى أَنَّهَا خَيْطٌ كَانَ يُرْبَطُ فِي الْعُنُقِ أَوْ فِي الْيَدِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِزَعْمِهِمْ- فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ التَّمَائِمِ الْمُحَرَّمَةِ، وَذُكِرَ فِي حُدُودِ الْإِيمَانِ أَنَّهُ كُفْرٌ
الْقِسْمُ الثَّانِي:
11- مَا كَانَ تَعْوِيذًا بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الِاسْتِرْقَاءَ بِذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: إِنَّ الْجَوَازَ مُقَيَّدٌ بِاجْتِمَاعِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ:
أ- أَنْ يَكُونَ بِكَلَامِ اللَّهِ أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
ب- أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَبِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ.
ج- أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ التَّعْوِيذَ وَالرُّقْيَةَ لَا تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا، بَلْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مَأْثُورًا فَيُسْتَحَبُّ.وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ الْمَعْنَى، وَكَانَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ.وَأَنَّ الرُّقْيَةَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هُوَ مَا يَكُونُ بِقَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَبِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى.وَمَا نُهِيَ عَنْهُ هُوَ رُقْيَةُ الْعَزَّامِينَ، وَمَنْ يَدَّعِي تَسْخِيرَ الْجِنِّ وَبِالْجَوَازِ قَالَ أَيْضًا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَآخَرُونَ.
12- وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: - مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ كَانَ يُعَوِّذُ نَفْسَهُ».وَرَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَأْسَ، وَاشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا».
- وَرَوَى جَابِرٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، قَالَ: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ».
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ آخَرُونَ: تُكْرَهُ الرُّقَى، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ اعْتِصَامًا بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَثِقَةً بِهِ وَانْقِطَاعًا إِلَيْهِ.وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ «رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنَّهُ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَمَّا سُئِلَ مَا صِفَتُهُمْ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
13- مَا كَانَ بِأَسْمَاءِ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ أَوْ مِنْ مُعَظَّمٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْعَرْشِ.فَصَرَّحَ الشَّوْكَانِيُّ: بِأَنَّهُ يُكْرَهُ مِنَ الرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ خَاصَّةً، لِيَكُونَ بَرِيئًا مِنْ شَوْبِ الشِّرْكِ قَالَ: وَعَلَى كَرَاهَةِ الرُّقَى بِغَيْرِ الْقُرْآنِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ.وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا لَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ اجْتِنَابُهُ وَلَا مِنَ الْمَشْرُوعِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الِالْتِجَاءَ إِلَى اللَّهِ وَالتَّبَرُّكَ بِأَسْمَائِهِ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى، إِلاَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَعْظِيمَ الْمَرْقِيِّ بِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ كَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ.
الْغَرَضُ مِنَ اتِّخَاذِ التَّعَاوِيذِ:
أَوَّلًا: الِاسْتِشْفَاءُ:
أ- الِاسْتِشْفَاءُ بِالْقُرْآنِ:
14- الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قوله تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا}
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ شِفَاءً عَلَى قَوْلَيْنِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الِاسْتِشْفَاءُ بِهِ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، بَلْ هُوَ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ، بِزَوَالِ الْجَهْلِ عَنْهَا وَإِزَالَةِ الرَّيْبِ، وَلِكَشْفِ غِطَاءِ الْقَلْبِ مِنْ مَرَضِ الْجَهْلِ لِفَهْمِ الْمُعْجِزَاتِ، وَالْأُمُورِ الدَّالَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ شِفَاءٌ أَيْضًا مِنَ الْأَمْرَاضِ بِالرُّقْيَةِ وَالتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَجَوَّزُوا الِاسْتِشْفَاءَ بِالْقُرْآنِ: بِأَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْمَرِيضِ، أَوِ الْمَلْدُوغِ الْفَاتِحَةُ، وَيَتَحَرَّى مَا يُنَاسِبُ، وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِفَاءً عَلَى أَنَّ {مِنْ} فِيقوله تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ} لِلْبَيَانِ.وَفِي الْخَبَرِ «مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بِالْقُرْآنِ فَلَا شَفَاهُ اللَّهُ».
وَلِمَا رَوَى الْأَئِمَّةُ، وَاللَّفْظُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَرِيَّةٍ ثَلَاثِينَ رَاكِبًا، قَالَ فَنَزَلْنَا عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يُضَيِّفُونَا، فَأَبَوْا، فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ.فَأَتَوْا فَقَالُوا: فِيكُمْ أَحَدٌ يَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ؟ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ قَتَّةَ: إِنَّ الْمَلِكَ يَمُوتُ.قَالَ: قُلْتُ أَنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا أَفْعَلُ حَتَّى تُعْطُونَا.فَقَالُوا: فَإِنَّا نُعْطِيكُمْ ثَلَاثِينَ شَاةً، قَالَ: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سَبْعَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ» وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «فَأَفَاقَ وَبَرَأَ.فَبَعَثَ إِلَيْنَا بِالنُّزُلِ، وَبَعَثَ إِلَيْنَا بِالشَّاءِ، فَأَكَلْنَا الطَّعَامَ أَنَا وَأَصْحَابِي، وَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الْغَنَمِ، حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.شَيْءٌ أُلْقِيَ فِي رَوْعِي، قَالَ: كُلُوا وَأَطْعِمُونَا مِنَ الْغَنَمِ».
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَكْرَهُ عَشْرَ خِصَالٍ، فَذَكَرَ فِيهَا الرُّقَى إِلاَّ بِالْمُعَوِّذَاتِ» وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِهَذَا الْخَبَرِ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالْإِذْنِ فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَأَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْفَاتِحَةِ مَعْنَى الِاسْتِعَاذَةِ، وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَاتُ، فَأَخَذَ بِهَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهَا».
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ ثُبُوتِ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا اجْتَزَأَ بِهِمَا لِمَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنْ جَوَامِعِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَئِذٍ: لَا يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّقَى بِالْمُعَوِّذَاتِ أَنْ يُشْرَعَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُعَوِّذَاتِ سِرٌّ لَيْسَ فِي غَيْرِهَا.وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- تَرَكَ مَا عَدَا الْمُعَوِّذَاتِ، لَكِنْ ثَبَتَتِ الرُّقْيَةُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا اخْتِصَاصَ لِلْمُعَوِّذَاتِ، وَفِي الْفَاتِحَةِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاَللَّهِ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ، فَمَهْمَا كَانَ فِيهِ اسْتِعَاذَةٌ أَوِ اسْتِعَانَةٌ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ- أَوْ مَا يُعْطِي مَعْنَى ذَلِكَ- فَالِاسْتِرْقَاءُ بِهِ مَشْرُوعٌ.وَيُجَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّهُ تَرَكَ مَا كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ غَيْرَ الْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَبْوِيبِ الْبُخَارِيِّ بِعِنْوَانِ (الرُّقَى بِالْقُرْآنِ) بَعْضَهُ، فَإِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ عَلَى بَعْضِهِ، وَالْمُرَادُ مَا كَانَ فِيهِ الْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُعَوِّذَاتُ.وَقَدْ ثَبَتَتِ الِاسْتِعَاذَةُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ كَمَا مَضَى.قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْمُعَوِّذَاتِ جَوَامِعُ مِنَ الدُّعَاءِ تَعُمُّ أَكْثَرَ الْمَكْرُوهَاتِ مِنَ السِّحْرِ وَالْحَسَدِ وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَكْتَفِي بِهَا.
ب-
الِاسْتِشْفَاءُ بِالْأَدْعِيَةِ الْمُنَاسِبَةِ وَالْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ:
15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي جَوَازِ الِاسْتِشْفَاءِ بِالْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُعَوِّذُ أَهْلَ بَيْتِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَأْسَ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ «- رضي الله عنه- أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» ثَانِيًا: اسْتِمَالَةُ الزَّوْجِ:
16- مَا يُسْتَخْدَمُ لِتَحْبِيبِ الزَّوْجَةِ أَوِ الزَّوْجِ يُسَمَّى «تُوَلَةً» كَمَا سَبَقَ (ف- 5).
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ وَعَلَّلَ ابْنُ وَهْبَانَ بِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ السِّحْرِ، وَالسِّحْرُ حَرَامٌ.وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ كِتَابَةِ آيَاتٍ، بَلْ فِيهِ شَيْءٌ زَائِدٌ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ».وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: امْرَأَةٌ أَرَادَتْ أَنْ تَضَعَ تَعْوِيذًا لِيُحِبَّهَا زَوْجُهَا، أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ.
وَأَمَّا مَا تَتَحَبَّبُ بِهِ الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا مِنْ كَلَامٍ مُبَاحٍ أَوْ مَا تَلْبَسُهُ لِلزِّينَةِ، أَوْ تُطْعِمُهُ مِنْ عَقَارٍ مُبَاحٍ أَكْلُهُ، أَوْ أَجْزَاءِ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ مِمَّا يُعْتَقَدُ أَنَّهُ سَبَبٌ إِلَى مَحَبَّةِ زَوْجِهَا، لِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ الْخَوَاصِّ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، لَا أَنَّهُ يَفْعَلُ بِذَاتِهِ.فَقَالَ ابْنُ رَسْلَانَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ، لَا أَعْرِفُ الْآنَ مَا يَمْنَعُهُ فِي الشَّرْعِ.
ثَالِثًا: دَفْعُ ضَرَرِ الْعَيْنِ:
الْكَلَامُ هُنَا فِي مَوَاضِعَ:
أ- الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ:
17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ ثَابِتَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَلَهَا تَأْثِيرٌ فِي النُّفُوسِ، وَتُصِيبُ الْمَالَ، وَالْآدَمِيَّ، وَالْحَيَوَانَ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- رَفَعَهُ «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا».
وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ.وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ».
وَأَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنَ الطَّبَائِعِيِّينَ وَطَوَائِفُ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ الْعَيْنَ لِغَيْرِ مَعْنًى، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ إِلاَّ مَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ وَمَا عَدَاهَا فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ.وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُ أَمْرٌ مُمْكِنٌ، وَالشَّرْعُ أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ. ب- الْوِقَايَةُ مِنَ الْعَيْنِ:
ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْعَيْنِ الطُّرُقَ الْآتِيَةَ:
أ- قِرَاءَةُ بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ مِنْ قِبَلِ الْعَائِنِ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ تَدْفَعُ ضَرَرَ الْعَيْنِ، كَمَا رَوَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ- رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَخِيهِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ، فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ»،، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ لَا تَضُرُّ، وَلَا تَعْدُو إِذَا بَرَّكَ الْعَائِنُ، فَالْمَشْرُوعُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ أَنْ يُبَرِّكَ، فَإِنَّهُ إِذَا دَعَا بِالْبَرَكَةِ صَرَفَ الْمَحْذُورَ لَا مَحَالَةَ، وَالتَّبَرُّكُ أَنْ يَقُولَ: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ.وَقَالَ النَّوَوِيُّ يُسْتَحَبُّ لِلْعَائِنِ أَنْ يَدْعُوَ لِمُعَيَّنٍ بِالْبَرَكَةِ، فَيُقَالُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ وَلَا تَضُرَّهُ.
وَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ.
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- رَفَعَهُ: «مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ، فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ لَمْ يَضُرُّهُ».
ب- الِاسْتِرْقَاءُ مِنَ الْعَيْنِ:
19- رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ «أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ تَسْرُعُ إِلَيْهِمُ الْعَيْنُ، أَوَنَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ» الْحَدِيثَ.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِأَسْمَاءِ: «مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً؟ أَتُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنَّ الْعَيْنَ تَسْرُعُ إِلَيْهِمْ، قَالَ ارْقِيهِمْ، قَالَتْ: فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ارْقِيهِمْ».
ج- الِاسْتِشْفَاءُ مِنْ إِصَابَةِ الْعَيْنِ:
20- صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِوُجُوبِ الِاغْتِسَالِ لِلِاسْتِشْفَاءِ مِنْ إِصَابَةِ الْعَيْنِ، فَيُؤْمَرُ الْعَائِنُ بِالِاغْتِسَالِ، وَيُجْبَرُ إِنْ أَبَى، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمُعْيَنُ».وَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ لِلْوُجُوبِ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَخَاهُ مِمَّا يَنْتَقِعُ بِهِ، وَلَا يَضُرُّهُ هُوَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ هُوَ الْجَانِي عَلَيْهِ.
د- الْمَعْرُوفُ بِالْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ وَمَا عَلَيْهِ:
21- نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّهُ يَنْبَغِي إِذَا عُرِفَ وَاحِدٌ بِالْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ يُجْتَنَبَ وَيُحْتَرَزَ مِنْهُ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مَنْعُهُ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ، وَيُلْزِمَهُ بَيْتَهُ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَكْفِيهِ، فَضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ ضَرَرِ آكِلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ الَّذِي مَنَعَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِئَلاَّ يُؤْذِيَ النَّاسَ، وَمِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ الَّذِي مَنَعَهُ عُمَرُ- رضي الله عنه-.وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ مُتَعَيَّنٌ، لَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ تَصْرِيحٌ بِخِلَافِهِ
رَابِعًا: دَفْعُ الْبَلَاءِ:
22- كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَلِّقُونَ التَّمَائِمَ وَالْقَلَائِدَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا تَقِيهِمْ وَتَصْرِفُ عَنْهُمُ الْبَلَاءَ، فَأَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ وَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَمَّا كَانُوا يَصْنَعُونَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ بِقَوْلِهِ: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ» وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصْرِفُهُ إِلاَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُعَافِي وَالْمُبْتَلِي.
أ- تَعْلِيقُ التَّعْوِيذَاتِ عَلَى الْإِنْسَانِ:
23- إِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ خَرَزًا أَوْ خُيُوطًا أَوْ عِظَامًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَذَلِكَ حَرَامٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إِلَيْهِ».وَلِحَدِيثِ: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَبْصَرَ عَلَى عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً- أَرَاهُ قَالَ مِنْ صُفْرٍ- فَقَالَ: وَيْحَكَ مَا هَذِهِ؟ قَالَ: مِنَ الْوَاهِنَةِ.قَالَ أَمَّا إِنَّهَا لَا تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا، انْبِذْهَا عَنْكَ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا».
وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ شَيْئًا مِمَّا كُتِبَ فِيهِ الرُّقَى الْمَجْهُولَةُ وَالتَّعَوُّذَاتُ الْمَمْنُوعَةُ فَذَلِكَ حَرَامٌ أَيْضًا. لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ».
وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ شَيْئًا كُتِبَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يَجُوزُ الِاسْتِرْقَاءُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ:
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ.وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنه-، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- وَبِهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.وَحَمَلُوا حَدِيثَ النَّهْيِ عَنِ التَّمَائِمِ عَلَى مَا فِيهِ شِرْكٌ وَنَحْوُهُ مِنَ الرُّقَى الْمَمْنُوعَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ حُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَابْنِ حَكِيمٍ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ.قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا- يَعْنِي أَصْحَابَ ابْنِ مَسْعُودٍ- يَكْرَهُونَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا، مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ.وَكَرِهَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ التَّمَائِمِ، وَلِسَدِّ الذَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَهُ يُفْضِي إِلَى تَعْلِيقِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا عُلِّقَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْتَهِنَهُ الْمُعَلِّقُ، بِحَمْلِهِ مَعَهُ فِي حَالِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالِاسْتِنْجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ التَّعْوِيذِ اشْتَرَطُوا مَا يَلِي:
(1) أَنْ يَكُونَ فِي قَصَبَةٍ أَوْ رُقْعَةٍ يُخْرَزُ فِيهَا.
(2) أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ قُرْآنًا، أَوْ أَدْعِيَةً مَأْثُورَةً.
(3) أَنْ يَتْرُكَ حَمْلَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ أَوِ الْغَائِطِ.
(4) أَلاَّ يَكُونَ لِدَفْعِ الْبَلَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَلَا لِدَفْعِ الْعَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُصَابَ، قَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: مَا تَعَلَّقَ بَعْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ فَلَيْسَ مِنَ التَّمَائِمِ.
ب- تَعْلِيقُ التَّعْوِيذَاتِ عَلَى الْحَيَوَانِ:
24- وَأَمَّا تَعْلِيقُ التَّعْوِيذِ عَلَى الْحَيَوَانِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ طَاهِرًا، فَيُكْرَهُ لِأَنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَأْثُورٍ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الِامْتِهَانِ وَمُلَابَسَةِ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ فَلَهُمْ مَنْ يَصُونُهُمْ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ نَجِسًا كَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ فَلَا إِشْكَالَ فِي التَّحْرِيمِ
تَعْلِيقُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ التَّعَاوِيذَ:
25- ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ تَعْلِيقِ التَّعَاوِيذِ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَعْلِيقِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ التَّعَاوِيذَ أَوْ بِشَدِّهَا عَلَى الْعَضُدِ إِذَا كَانَتْ مَلْفُوفَةً، أَوْ خُرِزَ عَلَيْهَا أَدِيمٌ.
رُقْيَةُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ وَعَكْسُهُ:
أ- رُقْيَةُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ.
26- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رُقْيَةِ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى: جَوَازِ رُقْيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لِلْمُسْلِمِ إِذَا رَقَى بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِذِكْرِ اللَّهِ.لِمَا رُوِيَ فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ- رضي الله عنها- وَهِيَ تَشْتَكِي، وَيَهُودِيَّةٌ تَرْقِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ.قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ «بِكِتَابِ اللَّهِ» أَيْ «بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» أَوْ رُقْيَةً مُوَافِقَةً لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَيُعْلَمُ صِحَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ تُظْهِرَ رُقْيَتَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِكِتَابِ اللَّهِ أَمَرَ بِهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ رُقَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا أُحِبُّهُ، لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ هَلْ يَرْقُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ، أَوْ بِالْمَكْرُوهِ الَّذِي يُضَاهِي السِّحْرَ.
ب- رُقْيَةُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ:
27- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي جَوَازِ رُقْيَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ (ف- 14) وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْحَيَّ- الَّذِي نَزَلُوا عَلَيْهِمْ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ- كَانُوا كُفَّارًا، وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ عَلَيْهِ.
أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعَاوِيذِ وَالرُّقَى:
28- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعَاوِيذِ وَالرُّقَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ (ف- 14) وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ لِلْجَوَازِ وَقَالَ: يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى الرُّقَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَرْقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.وَكَرِهَ الزُّهْرِيُّ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ لِلتَّعْلِيمِ أَوْ لِلرُّقْيَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
85-موسوعة الفقه الكويتية (تيمم 1)
تَيَمُّمٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- التَّيَمُّمُ لُغَةً: الْقَصْدُ وَالتَّوَخِّي وَالتَّعَمُّدُ.
يُقَالُ: تَيَمَّمَهُ بِالرُّمْحِ تَقَصَّدَهُ وَتَوَخَّاهُ وَتَعَمَّدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ وَمِثْلُهُ: تَأَمَّمَهُ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ عَنْ صَعِيدٍ مُطَهَّرٍ، وَالْقَصْدُ شَرْطٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ النِّيَّةُ، فَهُوَ قَصْدُ صَعِيدٍ مُطَهِّرٍ وَاسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ.
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ طَهَارَةٌ تُرَابِيَّةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِنِيَّةٍ.
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِيصَالُ التُّرَابِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ، أَوْ بَدَلًا عَنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِمَا بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِتُرَابٍ طَهُورٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
مَشْرُوعِيَّةُ التَّيَمُّمِ:
2- يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ بِشَرْطِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.فَمِنَ الْكِتَابِ: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}.
وقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» أَيْ: لَهُ- صلى الله عليه وسلم- وَلِأُمَّتِهِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ مَشْرُوعٌ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ.
3- وَسَبَبُ نُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ هُوَ «مَا وَقَعَ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَالْمُسَمَّاةِ غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ لَمَّا أَضَلَّتْ عِقْدَهَا.فَبَعَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي طَلَبِهِ فَحَانَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مَاءٌ، فَأَغْلَظَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- عَلَى عَائِشَةَ وَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْن حُضَيْرٍ- رضي الله عنه- فَجَعَلَ يَقُولُ: مَا أَكْثَر بَرَكَتَكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ».
اخْتِصَاصُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالتَّيَمُّمِ:
4- التَّيَمُّمُ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي اخْتَصَّ اللَّهُ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي.نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ فِي قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً».
وَهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ مِصْدَاقُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}.
التَّيَمُّمُ رُخْصَةٌ:
5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ رُخْصَةٌ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ عَزِيمَةٌ.وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ لِلْمُسَافِرِ، فَظَاهِرُ قَوْلِ الرِّسَالَةِ: إِنَّهُ عَزِيمَةٌ، وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ جَمَاعَةَ: إِنَّهُ رُخْصَةٌ، وَقَالَ التَّادَلِيُّ: وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّهُ عَزِيمَةٌ فِي حَقِّ الْعَادِمِ لِلْمَاءِ، رُخْصَةٌ فِي حَقِّ الْوَاجِدِ الْعَاجِزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ.
ثُمَّ إِنَّ وَجْهَ التَّرْخِيصِ هُوَ فِي أَدَاةِ التَّطْهِيرِ إِذِ اكْتَفَى بِالصَّعِيدِ الَّذِي هُوَ مُلَوَّثٌ، وَهُوَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ التَّطْهِيرِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى شَطْرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
وَمِنْ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ: مَا لَوْ تَيَمَّمَ فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَإِنْ قُلْنَا رُخْصَةٌ وَجَبَ الْقَضَاءُ وَإِلاَّ لَمْ يَجِبْ.
شُرُوطُ وُجُوبِ التَّيَمُّمِ:
6- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ مَا يَلِي:
أ- الْبُلُوغُ: فَلَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.
ب- الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ.
ج- وُجُودُ الْحَدَثِ النَّاقِضِ.أَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ بِالْمَاءِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ.
أَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْبَعْضِ لَا لِأَصْلِ الْوُجُوبِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ إِلاَّ إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ عِنْدَهُمْ.فَيَكُونُ الْوُجُوبُ مُوَسَّعًا فِي أَوَّلِهِ وَمُضَيَّقًا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ.
هَذَا وَلِلتَّيَمُّمِ شُرُوطُ وُجُوبٍ وَصِحَّةٍ مَعًا وَهِيَ:
أ- الْإِسْلَامُ: فَلَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْكَافِرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلنِّيَّةِ.
ب- انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
ج- الْعَقْلُ.
د- وُجُودُ الصَّعِيدِ الطَّهُورِ.
فَإِنَّ فَاقِدَ الصَّعِيدِ الطَّهُورِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ بِغَيْرِهِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ طَاهِرًا فَقَطْ، كَالْأَرْضِ الَّتِي أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ ثُمَّ جَفَّتْ، فَإِنَّهَا تَكُونُ طَاهِرَةً تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، وَلَا تَكُونُ مُطَهَّرَةً فَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهَا.
ثُمَّ إِنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ وَوُجُودَ الْحَدَثِ النَّاقِضِ لِلطَّهَارَةِ، وَانْقِطَاعَ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، شُرُوطٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ (وُضُوءٌ، وَغُسْلٌ) لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْهُمَا.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ.
أَرْكَانُ التَّيَمُّمِ:
7- لِلتَّيَمُّمِ أَرْكَانٌ أَوْ فَرَائِضُ، وَالرُّكْنُ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ، وَكَانَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا قَالُوا: لِلتَّيَمُّمِ رُكْنَانِ هُمَا: الضَّرْبَتَانِ، وَاسْتِيعَابُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِالْمَسْحِ فَقَطْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي النِّيَّةِ هَلْ هِيَ رُكْنٌ أَمْ شَرْطٌ؟
أ- النِّيَّةُ:
8- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ مَسْحِ الْوَجْهِ فَرْضٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ.
مَا يَنْوِيهِ بِالتَّيَمُّمِ:
9- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ نِيَّةِ التَّيَمُّمِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ أَنْ يَنْوِيَ أَحَدَ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا نِيَّةَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ، أَوْ نِيَّةَ عِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ لَا تَصِحُّ بِدُونِ طَهَارَةٍ كَالصَّلَاةِ، أَوْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، أَوْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ.
وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِهِ إِذَا خَافَ فَوْتَهَا فَإِنَّمَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَةٍ أُخْرَى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ.فَإِنْ نَوَى التَّيَمُّمَ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ رَفْعِ الْحَدَثِ الْقَائِمِ بِهِ، لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ بِهَذَا التَّيَمُّمِ، كَمَا إِذَا نَوَى مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ أَصْلًا كَدُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، أَوْ نَوَى عِبَادَةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا، كَالْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، أَوْ نَوَى عِبَادَةً مَقْصُودَةً تَصِحُّ بِدُونِ طَهَارَةٍ كَالتَّيَمُّمِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ لِلسَّلَامِ، أَوْ رَدِّهِ مِنَ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَر، فَإِنْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ صَحَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا تَعْيِينُ الْحَدَثِ أَوِ الْجَنَابَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ، وَيَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ، وَيَصِحُّ أَيْضًا بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ رَافِعٌ لَهُ كَالْوُضُوءِ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ لِصِحَّةِ النِّيَّةِ: الْإِسْلَامُ، وَالتَّمْيِيزُ، وَالْعِلْمُ بِمَا يَنْوِيهِ؛ لِيَعْرِفَ حَقِيقَةَ الْمَنْوِيِّ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَنْوِي بِالتَّيَمُّمِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَوْ فَرْضَ التَّيَمُّمِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ، مُلَاحَظَةُ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ مِنَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، فَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْهُ بِأَنْ نَسِيَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ تَيَمُّمَهُ، هَذَا إِذَا لَمْ يَنْوِ فَرْضَ التَّيَمُّمِ، أَمَّا إِذَا نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ فَيُجْزِيهِ عَنِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ وَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْ، وَلَا يُصَلَّى فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِتَيَمُّمٍ نَوَاهُ لِغَيْرِهِ.
قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَلَا صَلَاةَ بِتَيَمُّمٍ نَوَاهُ لِغَيْرِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَفْتَقِرُ اسْتِبَاحَتُهُ إِلَى طَهَارَةٍ.كَطَوَافٍ، وَحَمْلِ مُصْحَفٍ، وَسُجُودِ تِلَاوَةٍ، وَلَوْ تَيَمَّمَ بِنِيَّةِ الِاسْتِبَاحَةِ ظَانًّا أَنَّ حَدَثَهُ أَصْغَرُ فَبَانَ أَكْبَرُ أَوْ عَكْسَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُمَا وَاحِدٌ، وَإِنْ تَعَمَّدَ لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَصَحِّ لِتَلَاعُبِهِ.فَلَوْ أَجْنَبَ فِي سَفَرِهِ وَنَسِيَ، وَكَانَ يَتَيَمَّمُ وَقْتًا، وَيَتَوَضَّأُ وَقْتًا، أَعَادَ صَلَاةَ الْوُضُوءِ فَقَطْ.
وَلَا تَكْفِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، أَوِ الْأَكْبَرِ، أَوِ الطَّهَارَةِ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُهُ لِبُطْلَانِهِ بِزَوَالِ مُقْتَضِيهِ؛ «وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَدْ تَيَمَّمَ عَنِ الْجَنَابَةِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ: يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ»؟.
قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَشَمِلَ كَلَامَهُ (النَّوَوِيَّ) مَا لَوْ كَانَ مَعَ التَّيَمُّمِ غَسْلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَرْفَعُهُ حِينَئِذٍ.
وَلَوْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ، أَوْ فَرْضَ الطُّهْرِ، أَوِ التَّيَمُّمَ الْمَفْرُوضَ، أَوِ الطَّهَارَةَ عَنِ الْحَدَثِ أَوِ الْجَنَابَةِ لَمْ يَكْفِ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ عَنْ ضَرُورَةٍ، Bفَلَا يُجْعَلُ مَقْصُودًا، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: يَكْفِي كَالْوُضُوءِ.
وَيَجِبُ قَرْنُ النِّيَّةِ بِنَقْلِ الصَّعِيدِ الْحَاصِلِ بِالضَّرْبِ إِلَى الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْأَرْكَانِ، وَكَذَا يَجِبُ اسْتِدَامَتُهَا إِلَى مَسْحِ شَيْءٍ مِنَ الْوَجْهِ عَلَى الصَّحِيحِ.فَلَوْ زَالَتِ النِّيَّةُ قَبْلَ الْمَسْحِ لَمْ يَكْفِ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ وَإِنْ كَانَ رُكْنًا فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ.
وَيَنْوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اسْتِبَاحَةَ مَا لَا يُبَاحُ إِلاَّ بِالتَّيَمُّمِ، وَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِمَا تَيَمَّمَ لَهُ كَصَلَاةٍ، أَوْ طَوَافٍ، أَوْ مَسِّ مُصْحَفٍ مِنْ حَدَثٍ أَصْغَر أَوْ أَكْبَر أَوْ نَجَاسَةٍ عَلَى بَدَنِهِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَإِنَّمَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ تَقْوِيَةً لِضَعْفِهِ.
وَصِفَةُ التَّعْيِينِ: أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا مِنَ الْجَنَابَةِ إِنْ كَانَ جُنُبًا، أَوْ مِنَ الْحَدَثِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا، أَوْ مِنْهُمَا إِنْ كَانَ جُنُبًا مُحْدِثًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَإِنْ تَيَمَّمَ لِجَنَابَةٍ لَمْ يُجِزْهُ عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ؛ لِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ فَلَمْ تُؤَدَّ إِحْدَاهُمَا بِنِيَّةِ الْأُخْرَى.وَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِنِيَّةِ رَفْعِ حَدَثٍ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك».
نِيَّةُ التَّيَمُّمِ لِصَلَاةِ النَّفْلِ وَغَيْرِهِ:
10- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا صَلَّى بِهِ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، وَإِنْ نَوَى فَرْضًا وَلَمْ يُعَيِّنْ فَيَأْتِي بِأَيِّ فَرْضٍ شَاءَ، وَإِنْ عَيَّنَ فَرْضًا جَازَ لَهُ فِعْلُ فَرْضٍ وَاحِدٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ نَوَى الْفَرْضَ اسْتَبَاحَ مِثْلَهُ وَمَا دُونَهُ مِنَ النَّوَافِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفَلَ أَخَفُّ، وَنِيَّةُ الْفَرْضِ تَتَضَمَّنُهُ.
أَمَّا إِذَا نَوَى نَفْلًا أَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ كَأَنْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِلَا تَعْيِينِ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ لَمْ يُصَلِّ إِلاَّ نَفْلًا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَصْلٌ وَالنَّفَلُ تَابِعٌ فَلَا يُجْعَلُ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا، وَكَمَا إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَنْعَقِدُ نَفْلًا.
وَالْمَالِكِيَّةُ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِوُجُوبِ نِيَّةِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَالَ نِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْهُ بِأَنْ نَسِيَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ أَبَدًا.
وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ نِيَّةُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ إِذَا نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ مَا مَنَعَهُ الْحَدَثُ، لَكِنْ لَوْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ فَلَا تُنْدَبُ نِيَّةُ الْأَصْغَرِ وَلَا الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ تُجْزِئُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ.
وَإِذَا تَيَمَّمَ لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ سَوَاءٌ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ الْفَرْضَ أَوِ النَّفَلَ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عَنِ الْمَاءِ، وَهُوَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ أَيْضًا عِنْدَهُمْ.
ب- مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ فَرْضٌ، وَمَسْحَ الْيَدَيْنِ فَرْضٌ آخَرُ.لَكِنْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ الْأَوَّلَ هُوَ الضَّرْبَةُ الْأُولَى، وَالْفَرْضَ الثَّانِيَ هُوَ تَعْمِيمُ مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْيَدَيْنِ هُوَ مَسْحُهُمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيعَابِ كَالْوُضُوءِ.لِقِيَامِ التَّيَمُّمِ مَقَامَ الْوُضُوءِ فَيُحْمَلُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْوُضُوءِ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ مَسْحُ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَمِنَ الْكُوعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ سُنَّةٌ؛ لِحَدِيثِ «عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ».
فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ.فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا، فَضَرَبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ».
ثُمَّ إِنَّ الْمَفْرُوضَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّرْبَةَ الْأُولَى فَرْضٌ، وَالثَّانِيَةُ سُنَّةٌ.وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا هُوَ أَنَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ مُجْمَلَةٌ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ مُتَعَارِضَةٌ، فَحَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ تُصَرِّحُ بِالضَّرْبَتَيْنِ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ».وَرَوَى أَبُو دَاوُد: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- تَيَمَّمَ Bبِضَرْبَتَيْنِ مَسَحَ بِإِحْدَاهُمَا وَجْهَهُ وَبِالْأُخْرَى ذِرَاعَيْهِ».
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِزَالَةِ الْحَائِلِ عَنْ وُصُولِ التُّرَابِ إِلَى الْعُضْوِ الْمَمْسُوحِ كَنَزْعِ خَاتَمٍ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ التُّرَابَ كَثِيفٌ لَيْسَ لَهُ سَرَيَانُ الْمَاءِ وَسَيَلَانُهُ.وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ وَيُسْتَحَبُّ فِي الْأُولَى، وَيَجِبُ النَّزْعُ عِنْدَ الْمَسْحِ لَا عِنْدَ نَقْلِ التُّرَابِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ أَوِ الْأَصَابِعِ كَيْ يَتِمَّ الْمَسْحُ.
وَالتَّخْلِيلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَنْدُوبٌ احْتِيَاطًا.وَأَمَّا إِيصَالُ التُّرَابِ إِلَى مَنَابِتِ الشَّعْرِ الْخَفِيفِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ.
ج- التَّرْتِيبُ:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي التَّيَمُّمِ بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ الْأَصْلِيَّ الْمَسْحُ، وَإِيصَالُ التُّرَابِ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ فَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْمَسْحُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فَرْضٌ كَالْوُضُوءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فَرْضٌ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ حَدَثٍ أَكْبَر، أَمَّا التَّيَمُّمُ لِحَدَثٍ أَكْبَر وَنَجَاسَةٍ بِبَدَنٍ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَرْتِيبٌ.
د- الْمُوَالَاةُ:
13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي التَّيَمُّمِ سُنَّةٌ كَمَا فِي الْوُضُوءِ، وَكَذَا تُسَنُّ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي التَّيَمُّمِ عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَرْضٌ، وَأَمَّا عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ فَهِيَ فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دُونَ الْحَنَابِلَةِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ مَا يُفْعَلُ لَهُ مِنْ صَلَاةٍ وَنَحْوِهَا.
الْأَعْذَارُ الَّتِي يُشْرَعُ بِسَبَبِهَا التَّيَمُّمُ:
14- الْمُبِيحُ لِلتَّيَمُّمِ فِي الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ.وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَالْعَجْزُ، إِمَّا لِفَقْدِ الْمَاءِ وَإِمَّا لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ مَعَ وُجُودِهِ:
أَوَّلًا: فَقْدُ الْمَاءِ:
أ- فَقْدُ الْمَاءِ لِلْمُسَافِرِ:
15- إِذَا فَقَدَ الْمُسَافِرُ الْمَاءَ بِأَنْ لَمْ يَجِدْهُ أَصْلًا، أَوْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِي لِلطَّهَارَةِ حِسًّا جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، لَكِنْ يَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْهُ فِي بَعْضِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ عَنِ الْبَاقِي لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَيَكُونُ فَقْدُ الْمَاءِ شَرْعًا لِلْمُسَافِرِ بِأَنْ خَافَ الطَّرِيقَ إِلَى الْمَاءِ، أَوْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ فَلَا يُكَلَّفُ الْمُسَافِرُ حِينَئِذٍ بِطَلَبِهِ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِمَنْ ظَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ أَوْ شَكَّ فِي وُجُودِهِ (وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَارٌّ تَوَهَّمَ وُجُودَهُ) أَنْ يَطْلُبَهُ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ لَا فِيمَا بَعُدَ.
حَدُّ الْبُعْدِ عَنِ الْمَاءِ:
16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْبُعْدِ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مِيلٌ وَهُوَ يُسَاوِي أَرْبَعَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ.
وَحَدَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمِيلَيْنِ، وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَرْبَعِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَهُوَ حَدُّ الْغَوْثِ وَهُوَ مِقْدَارُ غَلْوَةٍ (رَمْيَةُ سَهْمٍ)، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ تَوَهُّمِهِ لِلْمَاءِ أَوْ ظَنِّهِ أَوْ شَكِّهِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَأَوْجَبُوا طَلَبَ الْمَاءِ إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ خُطْوَةٍ إِنْ ظَنَّ قُرْبَهُ مِنَ الْمَاءِ مَعَ الْأَمْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَيَقَّنَ فَقْدَ الْمَاءِ حَوْلَهُ تَيَمَّمَ بِلَا طَلَبٍ، أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ حَوْلَهُ طَلَبَهُ فِي حَدِّ الْقُرْبِ (وَهُوَ سِتَّةُ آلَافِ خُطْوَةٍ) وَلَا يَطْلُبُ الْمَاءَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سَوَاءٌ فِي حَدِّ الْقُرْبِ أَوِ الْغَوْثِ إِلاَّ إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنِ الرُّفْقَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا تَيَقَّنَ أَوْ ظَنَّ الْمَاءَ طَلَبَهُ لِأَقَلَّ مِنْ مِيلَيْنِ، وَيَطْلُبُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ عَادَةً.
هَذَا فِيمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، أَمَّا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ عِنْدَ غَيْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فِي رَحْلِهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ أَوْ قَبُولُ هِبَتِهِ؟
الشِّرَاءُ:
17- يَجِبُ عَلَى وَاجِدِ الْمَاءِ عِنْدَ غَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِذَا وَجَدَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، وَكَانَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ إِلاَّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ثَمَنُ الْمَاءِ تَيَمَّمَ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ إِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ أَوْ يَرْجُو الْوَفَاءَ بِبَيْعِ شَيْءٍ، أَوِ اقْتِضَاءِ دَيْنٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالُوا أَيْضًا بِوُجُوبِ اقْتِرَاضِ الْمَاءِ أَوْ ثَمَنِهِ إِذَا كَانَ يَرْجُو وَفَاءَهُ.
الْهِبَةُ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ لَهُ مَاءُ أَوْ أُعِيرَ دَلْوًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، أَمَّا لَوْ وُهِبَ ثَمَنَهُ فَلَا يَجِبُ قَبُولُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِعِظَمِ الْمِنَّةِ.
ب- فَقْدُ الْمَاءِ لِلْمُقِيمِ:
19- إِذَا فَقَدَ الْمُقِيمُ الْمَاءَ وَتَيَمَّمَ فَهَلْ يُعِيدُ صَلَاتَهُ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ عَدَمُ الْمَاءِ فَأَيْنَمَا تَحَقَّقَ جَازَ التَّيَمُّمُ.
وَيُعِيدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْمُقَصِّرُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ نَدْبًا فِي الْوَقْتِ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ إِنْ لَمْ يُعِدْ، كَوَاجِدِ الْمَاءِ الَّذِي طَلَبَهُ طَلَبًا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ بِقُرْبِهِ بَعْدَ صَلَاتِهِ لِتَقْصِيرِهِ، أَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ بَعْدَ طَلَبِهِ.أَمَّا خَارِجَ الْوَقْتِ فَلَا يُعِيدُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَيَمُّمِ الصَّحِيحِ الْحَاضِرِ الْفَاقِدِ لِلْمَاءِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِذَا خَشِيَ فَوَاتَهَا بِطَلَبِ الْمَاءِ، فَفِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ لَا يَتَيَمَّمُ لَهَا فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ، وَخِلَافُ الْمَشْهُورِ يَتَيَمَّمُ لَهَا وَلَا يَدَعُهَا وَهُوَ أَظْهَر مَدْرَكًا مِنَ الْمَشْهُورِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فَرْضُ التَّيَمُّمِ لِعَدَمِ الْمَاءِ بِالْمَرَّةِ فَيُصَلِّيهَا بِالتَّيَمُّمِ وَلَا يَدَعُهَا، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ يُونُسَ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَتَيَمَّمُ الْحَاضِرُ الصَّحِيحُ الْفَاقِدُ لِلْمَاءِ لِجِنَازَةٍ إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ مِنْ مُتَوَضِّئٍ أَوْ مَرِيضٍ أَوْ مُسَافِرٍ.
وَلَا يَتَيَمَّمُ لِنَفْلٍ اسْتِقْلَالًا، وَلَا وِتْرًا إِلاَّ تَبَعًا لِفَرْضٍ بِشَرْطِ أَنْ يَتَّصِلَ النَّفَلُ بِالْفَرْضِ حَقِيقَةً أَوْ Bحُكْمًا، فَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَادِمِ الْمَاءِ التَّيَمُّمُ إِلاَّ بَعْدَ طَلَبِهِ.ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ وَبَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ.وَقَالَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ: إِنْ تَحَقَّقَ عَدَمَ الْمَاءِ حَوَالَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَبُ، وَبِهَذَا قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا إِذْ اخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَيْنِ: قَالَ الرَّافِعِيُّ: أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الطَّلَبُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: إِنْ تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ أَوِ الْمُقِيمُ فَقْدَ الْمَاءِ تَيَمَّمَ بِلَا طَلَبٍ؛ لِأَنَّ طَلَبَ مَا عُلِمَ عَدَمُهُ عَبَثٌ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنَ الطَّلَبِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَجِدْ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَوَهَّمَهُ أَيْ جَوَّزَهُ تَجَوُّزًا رَاجِحًا وَهُوَ الظَّنُّ، أَوْ مَرْجُوحًا وَهُوَ الْوَهْمُ، أَوْ مُسْتَوِيًا وَهُوَ الشَّكُّ، طَلَبَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وُجُوبًا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ الْإِمْكَانِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَهُ الْقَلْيُوبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ.
نِسْيَانُ الْمَاءِ:
20- لَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى فَإِنْ تَذَكَّرَهُ قَطَعَ صَلَاتَهُ وَأَعَادَهَا إِجْمَاعًا، أَمَّا إِذَا أَتَمَّ صَلَاتَهُ ثُمَّ تَذَكَّرَ الْمَاءَ فَإِنَّهُ يَقْضِي صَلَاتَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةِ سَوَاءٌ فِي الْوَقْتِ أَوْ خَارِجِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَ فِي الْوَقْتِ أَعَادَ صَلَاتَهُ، أَوْ خَارِجَ الْوَقْتِ فَلَا يَقْضِي.وَسَبَبُ الْقَضَاءِ تَقْصِيرُهُ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْمَاءِ الْمَوْجُودِ عِنْدَهُ، فَكَانَ كَمَا لَوْ تَرَكَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَصَلَّى عُرْيَانًا، وَكَانَ فِي رَحْلِهِ ثَوْبٌ نَسِيَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ قَدْ تَحَقَّقَ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ وَالنِّسْيَانِ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ كَمَا لَوْ حَصَلَ الْعَجْزُ بِسَبَبِ الْبُعْدِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ عَدَمِ الدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعِيدُ إِذَا كَانَ هُوَ الْوَاضِعُ لِلْمَاءِ فِي الرَّحْلِ أَوْ غَيْرِهِ بِعِلْمِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْوَاضِعُ لِلْمَاءِ غَيْرَهُ وَبِلَا عِلْمِهِ فَلَا إِعَادَةَ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَضَلَّ رَحْلَهُ فِي رِحَالٍ وَطَلَبَهُ بِإِمْعَانٍ فَلَمْ يَجِدْهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي الطَّلَبِ قَضَى لِتَقْصِيرِهِ.
ثَانِيًا: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:
21- يَجِبُ عَلَى مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي عِبَادَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَا تَصِحُّ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى التَّيَمُّمِ إِلاَّ إِذَا عُدِمَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْمَرَضِ، أَوْ خَوْفِ الْمَرَضِ مِنَ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ.
أ- الْمَرَضُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ إِذَا تَيَقَّنَ التَّلَفَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إِذَا خَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوِهِ هَلَاكَهُ، أَوْ زِيَادَةَ مَرَضِهِ، أَوْ تَأَخُّرَ بُرْئِهِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ، وَاكْتَفَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا أَيْ غَيْرَ ظَاهِرِ الْفِسْقِ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ- وَالْحَنَابِلَةُ زِيَادَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ- خَوْفَ حُدُوثِ الشَّيْنِ الْفَاحِشِ.
وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا يَكُونُ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّهُ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ وَيَدُومُ ضَرَرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمِهْنَةِ غَالِبًا كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ يَتَيَمَّمُ كَعَادِمِ الْمَاءِ وَلَا يُعِيدُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُوَضِّئُهُ وَلَوْ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَعِنْدَهُ مَالٌ لَا يَتَيَمَّمُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.
ب- خَوْفُ الْمَرَضِ مِنَ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ:
22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ (خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْحَضَرِ) لِمَنْ خَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ هَلَاكًا، أَوْ حُدُوثَ مَرَضٍ، أَوْ زِيَادَتَهُ، أَوْ بُطْءَ بُرْءٍ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ، أَوْ لَمْ يَجِدْ أُجْرَةَ الْحَمَّامِ، أَوْ مَا يُدْفِئُهُ، سَوَاءٌ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ أَوِ الْأَصْغَرِ؛ لِإِقْرَارِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ- رضي الله عنه- عَلَى تَيَمُّمِهِ خَوْفَ الْبَرْدِ وَصَلَاتِهِ بِالنَّاسِ إِمَامًا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْبَرْدِ خَاصٌّ بِالْجُنُبِ؛ لِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِلْبَرْدِ فِي الصَّحِيحِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَ الضَّرَرُ مِنَ الْوُضُوءِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ حِينَئِذٍ.وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لِلْبَرْدِ- عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ- لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعِيدُ صَلَاتَهُ فِي الْأَظْهَرِ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَالثَّانِي: لَا يُعِيدُ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنه-، أَمَّا إِذَا تَيَمَّمَ الْمُقِيمُ لِلْبَرْدِ فَالْمَشْهُورُ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ الْقَطْعُ Bبِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ جُمْهُورَ الشَّافِعِيَّةِ قَطَعُوا بِهِ.
ج- الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:
23- يَتَيَمَّمُ الْعَاجِزُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَلَا يُعِيدُ كَالْمُكْرَهِ، وَالْمَحْبُوسِ، وَالْمَرْبُوطِ بِقُرْبِ الْمَاءِ، وَالْخَائِفِ مِنْ حَيَوَانٍ، أَوِ إِنْسَانٍ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ؛ لِأَنَّهُ عَادِمٌ لِلْمَاءِ حُكْمًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ».وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِمَّا تَقَدَّمَ الْمُكْرَهَ عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُعِيدُ صَلَاتَهُ.
د- الْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ:
24- يَتَيَمَّمُ وَلَا يُعِيدُ مَنِ اعْتَقَدَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَحْتَاجُ الْمَاءَ الَّذِي مَعَهُ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِنَحْوِ عَطَشِ إِنْسَانٍ مَعْصُومِ الدَّمِ، أَوْ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ شَرْعًا- وَلَوْ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ حِرَاسَةٍ- عَطَشًا مُؤَدِّيًا إِلَى الْهَلَاكِ أَوْ شِدَّةِ الْأَذَى، وَذَلِكَ صَوْنًا لِلرُّوحِ عَنِ التَّلَفِ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ، وَالْكَلْبِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ بَلْ يَتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ الَّذِي مَعَهُ لِعَدَمِ حُرْمَةِ هَؤُلَاءِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْحَاجَةُ لِلْمَاءِ لِلشُّرْبِ، أَمِ الْعَجْنِ، أَمِ الطَّبْخِ.
وَمِنْ قَبِيلِ الِاحْتِيَاجِ لِلْمَاءِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ غَيْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى الْبَدَنِ أَمِ الثَّوْبِ، وَخَصَّهَا الشَّافِعِيَّةُ بِالْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الثَّوْبِ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ وَصَلَّى عُرْيَانًا إِنْ لَمْ يَجِدْ سَاتِرًا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ.
التَّيَمُّمُ لِلنَّجَاسَةِ:
25- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَعَجَزَ عَنْ غَسْلِهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ لَهَا وَصَلَّى، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ».
وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَعَجَزَ عَنْ غَسْلِهَا يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ بِلَا تَيَمُّمٍ وَلَا يُعِيدُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
86-موسوعة الفقه الكويتية (جزية 3)
جِزْيَةٌ -336- وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ أَمْ يَكْفِي عَقْدُ أَبِيهِ
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ إلَى أَنَّهُ يَكْفِي عَقْدُ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ يَتَنَاوَلُ الْبَالِغِينَ وَمَنْ سَيَبْلُغُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَلَمْ يُفْرِدُوا كُلَّ مَنْ بَلَغَ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْعَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ يُرَدَّ إِلَى مَأْمَنِهِ، فَإِنِ اخْتَارَ الذِّمَّةَ عُقِدَتْ لَهُ، وَإِنِ اخْتَارَ اللَّحَاقَ لِمَأْمَنِهِ أُجِيبَ إِلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ الْبُلُوغُ فِي أَوَّلِ حَوْلِ قَوْمِهِ وَأَهْلِهِ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فِي آخِرِهِ مَعَهُمْ، وَإِذَا كَانَتْ فِي أَثْنَائِهِ أُخِذَ مِنْهُ فِي آخِرِهِ بِقِسْطِهِ.
ثَانِيًا: الْعَقْلُ:
37- نَقَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ مَجَانِينِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا إجْمَاعٌ، لَكِنَّ ابْنَ رُشْدٍ ذَكَرَ خِلَافًا فِي الْمَجْنُونِ، وَذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ نَقْلًا عَنِ الْبَيَانِ وَجْهًا ضَعِيفًا لِلشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُ كَالْمَرِيضِ وَالْهَرِمِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
ثَالِثًا: الذُّكُورَةُ:
38- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُضْرَبُ عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ.
رَابِعًا: الْحُرِّيَّةُ:
39- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مَمْلُوكًا لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ.وَقَدْ نَقَلَ هَذَا الِاتِّفَاقَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ رُشْدٍ.
لِأَنَّ الْجِزْيَةَ شُرِعَتْ بَدَلًا عَنِ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ، وَعَنِ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا، وَالْعَبْدُ مَحْقُونُ الدَّمِ بِدُونِ دَفْعِ الْجِزْيَةِ.وَالْعَبْدُ أَيْضًا لَا تَلْزَمُهُ النُّصْرَةُ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهَا، فَإِذَا امْتَنَعَ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ امْتَنَعَ الْبَدَلُ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا لِسَيِّدٍ كَافِرٍ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ سَيِّدِهِ الْكَافِرِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَا تَشْتَرُوا رَقِيقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ خَرَاجٍ يَبِيعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُقِرَّنَّ أَحَدُكُمْ بِالصَّغَارِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: أَرَادَ أَنْ يُوَفِّرَ الْجِزْيَةَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا اشْتَرَاهُ سَقَطَ عَنْهُ أَدَاءُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَالذِّمِّيُّ يُؤَدِّي عَنْهُ وَعَنْ مَمْلُوكِهِ خَرَاجَ جَمَاجِمِهِمْ.
وَلِأَنَّ الْعَبْدَ ذَكَرٌ مُكَلَّفٌ قَوِيٌّ مُكْتَسِبٌ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ كَالْحُرِّ.
خَامِسًا: الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ:
40- اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِوُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْعَاجِزِ عَنِ الْعَمَلِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ.وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ لَهُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًاإلاَّ وُسْعَهَا} وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنِ الْكَسْبِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَدْفَعَ الْجِزْيَةَ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يُكَلَّفُ بِهَا.وَقَدْ وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُكْتَسِبِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا.
فَقَدْ فَرَضَهَا عُمَرُ- رضي الله عنه- عَلَى طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ أَدْنَاهَا الْفَقِيرُ الْمُعْتَمِلُ، فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ.وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ ((، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَهُوَ إِجْمَاعٌ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْجِزْيَةَ مَالٌ يَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ، فَلَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنِ الْكَسْبِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ.
وَأَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْأَدَاءِ مَعْذُورٌ شَرْعًا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْعِبَادِ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةُ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فَفِي الْجِزْيَةِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ، كَمَا تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، إِلاَّ أَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَمِلِ تَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ، فَإِذَا أَيْسَرَ طُولِبَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَةٍ.وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَعُمُومِ حَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ: «أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا».
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلٌ عَنِ الْقَتْلِ، وَالسُّكْنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُفَارِقِ الْمَعْذُورُ فِيهَا غَيْرَهُ، فَتُؤْخَذُ مِنَ الْفَقِيرِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيِّ.
سَادِسًا: أَلَا يَكُونَ مِنَ الرُّهْبَانِ الْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فِي الصَّوَامِعِ:
41- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرُّهْبَانَ الْمُخَالِطِينَ لِلنَّاسِ، وَالْمُشَارِكِينَ لَهُمْ فِي الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ وَالْمَكَايِدِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَهُمْ أَوْلَى بِهَا مِنْ عَوَامِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ رُءُوسُ الْكُفْرِ، وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ عُلَمَائِهِمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ انْقَطَعُوا لِلْعِبَادَةِ فِي الصَّوَامِعِ، وَلَمْ يُخَالِطُوا النَّاسَ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُفْرَضُ عَلَيْهِمْ.وَسَوَاءٌ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ أَمْ غَيْرَ قَادِرِينَ؛ لِأَنَّ الرُّهْبَانَ لَا يُقْتَلُونَ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ، لِمَا جَاءَ فِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ وَجَّهَهُ إِلَى الشَّامِ: لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا وَلَا امْرَأَةً وَسَتَمُرُّونَ عَلَى أَقْوَامٍ فِي الصَّوَامِعِ احْتَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، فَدَعْهُمْ حَتَّى يُمِيتَهُمُ اللَّهُ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ.
فَإِذَا كَانَ الرَّاهِبُ لَا يُقْتَلُ فَهُوَ مَحْقُونُ الدَّمِ بِدُونِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَالْجِزْيَةُ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، كَمَا لَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ؛ وَلِأَنَّ الرَّاهِبَ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تُرِكَ لَهُ مِنَ الْمَالِ الْيَسِيرُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ نَقَلَهَا عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ إِذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ.قَالَ أَبُو يُوسُفَ: «الْمُتَرَهِّبُونَ الَّذِينَ فِي الدِّيَارَاتِ إِذَا كَانَ لَهُمْ يَسَارٌ أُخِذَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا هُمْ مَسَاكِينُ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْيَسَارِ مِنْهُمْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الصَّوَامِعِ إِنْ كَانَ لَهُمْ غِنًى وَيَسَارٌ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ صَيَّرُوا مَا كَانَ لَهُمْ لِمَنْ يُنْفِقُهُ عَلَى الدِّيَارَاتِ وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْمُتَرَهِّبِينَ وَالْقُوَّامِ أُخِذَتِ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ».
وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَيَّدَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنَ الرُّهْبَانِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ- أَنَّ الْمُعْتَمِلَ إِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، فَكَذَلِكَ الرَّاهِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ الصَّالِحَةَ لِلزِّرَاعَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا الْخَرَاجُ بِتَعْطِيلِ الْمَالِكِ لَهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ، فَكَذَلِكَ الرَّاهِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ إِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ.
هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ عَلَى عَدَمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الرَّاهِبِ، فَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا أَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَحَمَلُوهَا عَلَى الرَّاهِبِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ الَّذِي يَعِيشُ عَلَى صَدَقَاتِ الْمُوسِرِينَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْمَعْمُولِ بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ لِلْعِبَادَةِ فِي الْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ، سَوَاءٌ أَكَانُوا مُوسِرِينَ أَوْ غَيْرَ مُوسِرِينَ، قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ أَمْ غَيْرَ قَادِرِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَهُوَ يَشْمَلُ الرُّهْبَانَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ وَغَيْرَ الْقَادِرِينَ، الْمُوسِرِينَ وَغَيْرَ الْمُوسِرِينَ.وَبِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ بَالِغٍ كَحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ: «أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا».وَحَدِيثِ عُمَرَ السَّابِقِ: «وَلَا يَضْرِبُوهَا إِلاَّ عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى»، وَبِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: «أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ عَلَى كُلِّ رَاهِبٍ دِينَارَيْنِ».
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَالرَّاهِبُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لِحَقْنِ الدَّمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالرَّاهِبُ كَغَيْرِهِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالدَّارِ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ.سَابِعًا: السَّلَامَةُ مِنَ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ:
42- إِذَا أُصِيبَ الْمُطَالَبُ بِالْجِزْيَةِ بِعَاهَةٍ مُزْمِنَةٍ، كَالْمَرَضِ، أَوِ الْعَمَى، أَوِ الْكِبَرِ الْمُقْعِدِ عَنِ الْعَمَلِ وَالْقِتَالِ، فَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَمْ لَا؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَوْ كَانُوا مُوسِرِينَ.وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
فَفَحْوَى الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، إِذِ الْقِتَالُ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَمَنْ يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ مِنَ الْمُحْتَرِفِينَ، وَلِذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ: كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمَفْلُوجِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الْفَانِي: سَوَاءٌ أَكَانَ مُوسِرًا أَمْ غَيْرَ مُوسِرٍ؛ وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِمَّنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ، وَهَؤُلَاءِ لَا يُقْتَلُونَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ وَالشُّيُوخِ الْكِبَارِ إِذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُصَابِينَ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ أَهْلٌ لِلْقِتَالِ، إِذْ إِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إِذَا كَانُوا ذَوِي رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، كَمَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، وَوُجُودُ الْمَالِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُصَابِينَ أَكْثَرُ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِمِ الْجِزْيَةُ إِذَا كَانُوا مُوسِرِينَ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا مُعْسِرِينَ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ- رضي الله عنه- وَأَهْلِ الْحِيرَةِ: «وَجَعَلْتُ لَهُمْ أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ، أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنَ الْآفَاتِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ وَصَارَ أَهْلُ دَيْنِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ، وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ خَرَجُوا إِلَى غَيْرِ دَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِهِمْ.
وَمَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الْمُصَابِينَ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُوسِرِينَ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَهُوَ يَشْمَلُ الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانَ وَالشُّيُوخَ الْكِبَارَ.
وَبِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ، كَحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ.الَّذِي أَمَرَهُ فِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ السَّابِقِ: «وَلَا يَضْرِبُوهَا إِلاَّ عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى»، وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَهَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِحَقْنِ الدَّمِ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُمُ الْجِزْيَةُ بِتِلْكَ الْإِصَابَاتِ، وَأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالدَّارِ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُمُ الْجِزْيَةُ، كَمَا أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ.
ضَبْطُ أَسْمَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَصِفَاتِهِمْ فِي دِيوَانٍ:
43- يَسْتَوْفِي الْعَامِلُ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَفْقَ دِيوَانٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَسْمَائِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.قَالَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ: » وَيُثْبِتُ الْإِمَامُ عَدَدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَسْمَاءَهُمْ، وَيُحَلِّيهِمْ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَيَّامِ فَيَقُولُ: طَوِيلٌ، أَوْ قَصِيرٌ، أَوْ رَبْعَةٌ، وَأَبْيَضُ، أَوْ أَسْوَدُ، أَوْ أَسْمَرُ، أَوْ أَشْقَرُ، وَأَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ، أَوْ مَقْرُونُ الْحَاجِبَيْنِ، أَوْ أَقْنَى الْأَنْفِ.
وَيَكْتُبُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَجْعَلُ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ عَرِيفًا، لِيَجْمَعَهُمْ عِنْدَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَيَكْتُبُ مَنْ يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ بِالْبُلُوغِ، وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْهُمْ بِالْمَوْتِ.
مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ:
44- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ، وَجِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا فَتَحَ بِلَادَهُمْ عَنْوَةً.
فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ بَلْ تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَقَادِيرِ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ مِنْ مَجْمُوعَةٍ إِلَى مَجْمُوعَةٍ أُخْرَى.
فَقَدْ «صَالَحَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ، وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ».
«وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَعَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ».
وَصَالَحَ عُمَرُ- رضي الله عنه- بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا ضِعْفَ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ.رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ- أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمَّا صَالَحَهُمْ- يَعْنِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ- عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ قَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ، وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ- يَعْنُونَ الصَّدَقَةَ- فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: لَا، هَذِهِ فَرْضُ الْمُسْلِمِينَ.قَالُوا: فَزِدْ مَا شِئْتَ بِهَذَا الِاسْمِ، لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ، فَفَعَلَ فَتَرَاضَى هُوَ وَهُمْ عَلَى أَنْ تُضَعَّفَ عَلَيْهِمِ الصَّدَقَةُ.وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: «سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ».
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ وَهِيَ مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَضَعَ فِي الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: «وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ عُمَرَ اعْتَمَدَ السَّمَاعَ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخَذْنَا بِهِ» وَقَدْ فَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْجِزْيَةِ عَلَى خَرَاجِ الْأَرْضِ، فَقَدْ جَعَلَ الْخَرَاجَ عَلَى مِقْدَارِ الطَّاقَةِ، وَاخْتَلَفَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَرْضِ وَطَاقَتِهَا الْإِنْتَاجِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَالْإِمْكَانِ، فَتَخْتَلِفُ بِحَسَبِ طَاقَةِ الشَّخْصِ وَإِمْكَانَاتِهِ الْمَالِيَّةِ.
وَبِأَنَّ الْجِزْيَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ عِوَضًا عَنِ النُّصْرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالنُّصْرَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَتَفَاوَتُ، فَالْفَقِيرُ يَنْصُرُ دَارَ الْإِسْلَامِ رَاجِلًا، وَمُتَوَسِّطُ الْحَالِ يَنْصُرُهَا رَاجِلًا وَرَاكِبًا، وَالْمُوسِرُ يَنْصُرُهَا بِالرُّكُوبِ بِنَفْسِهِ وَإِرْكَابِ غَيْرِهِ.فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ الشَّخْصِ وَإِمْكَانَاتِهِ الْمَالِيَّةِ.
45- وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَهُوَ فَقِيرٌ.وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُوَ مِنَ الْأَوَاسِطِ.وَمَنْ مَلَكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، فَهُوَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُمَا قَالَا: أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ كَنْزٌ.
وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ: مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا فَهُوَ فَقِيرٌ، وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إِلَى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنَ الْأَوْسَاطِ، وَمَنْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ.
وَالثَّالِثُ: مَا قَالَهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ: مَنْ كَانَ يَمْلِكُ قُوتَهُ وَقُوتَ عِيَالِهِ وَزِيَادَةً فَهُوَ مُوسِرٌ، وَإِنْ مَلَكَ بِلَا فَضْلٍ فَهُوَ الْوَسَطُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرُ الْكِفَايَةِ فَهُوَ الْفَقِيرُ الْمُعْتَمِلُ أَوِ الْمُكْتَسِبُ.
وَالرَّابِعُ: مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: «الْمُوسِرُ»: مِثْلُ الصَّيْرَفِيِّ، وَالْبَزَّازِ، وَصَاحِبِ الضَّيْعَةِ، وَالتَّاجِرِ، وَالْمُعَالِجِ، وَالطَّبِيبِ، وَكُلِّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِيَدِهِ صِنَاعَةٌ وَتِجَارَةٌ يَحْتَرِفُ بِهَا فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ عَلَى قَدْرِ صِنَاعَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْمُوسِرِ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْوَسَطِ، مَنِ احْتَمَلَتْ صِنَاعَتُهُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَمَنِ احْتَمَلَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا أُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَاثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا عَلَى الْعَامِلِ بِيَدِهِ: مِثْلِ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالْإِسْكَافِ وَالْخَرَّازِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ.
وَالْخَامِسُ: مَا قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ فِي ذَلِكَ، فَصَاحِبُ خَمْسِينَ أَلْفًا بِبَلْخٍ يُعَدُّ مِنَ الْمُكْثِرِينَ، وَفِي الْبَصْرَةِ لَا يُعَدُّ مُكْثِرًا.فَهُوَ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ عُرْفُهَا، فَمَنْ عَدَّهُ النَّاسُ فِي بَلَدِهِمْ فَقِيرًا، أَوْ وَسَطًا، أَوْ غَنِيًّا فَهُوَ كَذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ الْمَوْصِلِيُّ: «وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُنْظَرَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَى حَالِ أَهْلِهِ، وَمَا يَعْتَبِرُونَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ عَادَةَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ».
46- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ ضَرْبَانِ: صُلْحِيَّةٌ، وَعَنْوِيَّةٌ:
فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ: وَهِيَ الَّتِي عُقِدَتْ مَعَ الَّذِينَ مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَبِلَادَهُمْ مِنْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بِالْقِتَالِ، وَهِيَ تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ.وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّهَا وَلَا أَكْثَرِهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ الصُّلْحِيَّ إِنْ بَذَلَ الْقَدْرَ الَّذِي عَلَى الْعَنْوِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْإِمَامَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقَاتِلَهُ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةِ الْحَنَفِيَّةِ السَّابِقَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ: وَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً، وَتُقَدَّرُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ، وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْفِضَّةِ، بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.وَنَحْوُ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا أَنَّهَا عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَا عَشَرَ، وَهَذِهِ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَيُرْجَعُ إِلَى الْعُرْفِ مِنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَمَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ، وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.قَالَ الْبَاجِيُّ الْمُرَادُ بِأَرْزَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَقْوَاتُ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُرَادُ بِالضِّيَافَةِ ضِيَافَةُ الْمُجْتَازِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِهَذَا الْمِقْدَارِ وَذَلِكَ لِمَا رَآهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاحْتِمَالِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ.وَأَمَّا أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ وَالضِّيَافَةُ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: «أَرَى أَنْ تُوضَعَ عَنْهُمُ الْيَوْمَ الضِّيَافَةُ وَالْأَرْزَاقُ، لِمَا حَدَثَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَوْرِ»، وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَنَقَلَ الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْبَاجِيِّ وَأَقَرَّهُ أَنَّهُ إِنِ انْتَفَى الظُّلْمُ فَلَا تَسْقُطُ.
47- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةُ يَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ ذَهَبِيٌّ خَالِصٌ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ التَّرَاضِي مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ فِي حَالَةِ الْقُوَّةِ، وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينَارِ، بَلْ تُسْتَحَبُّ الْمُمَاكَسَةُ فِي الزِّيَادَةِ: بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ إِنْ ظَنَّ إِجَابَتَهُمْ إِلَيْهَا، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ إِلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلْمُمَاكَسَةِ.وَفِي حَالَةِ الضَّعْفِ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ التَّرَاضِي مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنَ الدِّينَارِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ: «أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ».
فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ الْجِزْيَةِ بِالدِّينَارِ مِنَ الذَّهَبِ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ، وَظَاهِرُ إِطْلَاقِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ غَنِيًّا أَمْ مُتَوَسِّطًا أَمْ فَقِيرًا.
وَقَدْ أَخَذَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ «أَيْلَةَ»، حَيْثُ «قَدِمَ يُوحَنَّا بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَبُوكَ، وَصَالَحَهُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ بِأَرْضِهِ فِي السَّنَةِ دِينَارًا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ قِرَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ».
وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ أَلْفَيْ حُلَّةٍ نِصْفُهَا فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يَذْكُرُ أَنَّ قِيمَةَ مَا أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ دِينَارٌ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- ضَرَبَ عَلَى نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ، يُقَالُ لَهُ مَوْهَبٌ دِينَارًا كُلَّ سَنَةٍ» وَاسْتَدَلُّوا لِجَوَازِ عَقْدِهَا مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ فِي حَالَةِ الضَّعْفِ بِأَنَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا: «أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ» فَإِذَا كَانَ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
48- وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- نَقَلَهَا عَنْهُ الْأَثْرَمُ-: أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْجِزْيَةِ إِلَى الْإِمَامِ، فَلَهُ أَنْ يُزِيدَ وَيُنْقِصَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعَلَى مَا يَرَاهُ.وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي الْإِنْصَافِ، وَقَالَ الْخَلاَّلُ: الْعَمَلُ فِي قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ وَيُنْقِصَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ، فَاسْتَقَرَّ قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.فَلَفْظُ الْجِزْيَةِ فِي الْآيَةِ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا كَانَ وَلِيَّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَقْدًا عَلَى الْجِزْيَةِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَصَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَاقِي فِي رَجَبٍ».
وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَصَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى ضِعْفِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الزَّكَاةِ.
فَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْتَلِفَ.وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ أَجَلِ الْيَسَارِ.
وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى الْأَمَانِ ضَرْبَانِ: هُدْنَةٌ وَجِزْيَةٌ، فَلَمَّا كَانَ الْمَأْخُوذُ هُدْنَةً إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ جِزْيَةً.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ، فَلَمْ تَتَقَدَّرْ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ كَالْأُجْرَةِ.
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ:
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ:
49- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ وَلَا تَتَكَرَّرُ.وَالسَّنَةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُرَادَةُ شَرْعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، أَمَّا إِذَا عَيَّنَ الْإِمَامُ كَوْنَهَا شَمْسِيَّةً أَوْ قَمَرِيَّةً فَيَجِبُ اتِّبَاعُ مَا عَيَّنَهُ.
وَقْتُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ:
50- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الِالْتِزَامِ بِالْجِزْيَةِ عَقِبَ عَقْدِ الذِّمَّةِ مُبَاشَرَةً، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: تَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ وَتَسْتَقِرُّ بِانْقِضَاءِ الزَّمَنِ كَالْأُجْرَةِ، فَكَلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنَ الْحَوْلِ اسْتَقَرَّ قِسْطُهَا مِنْ جِزْيَةِ الْحَوْلِ، حَتَّى تَسْتَقِرَّ جِزْيَةُ الْحَوْلِ كُلِّهِ بِانْقِضَائِهِ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ مَنْفَعَةِ حَقْنِ الدَّمِ، فَتَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَتَسْتَقِرُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ شَيْئًا فَشَيْئًا كَالْأُجْرَةِ.
51- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ آخِرُ الْحَوْلِ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْجِزْيَةِ، فَقَدْ ضَرَبَهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمَجُوسِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِأَدَائِهَا فِي الْحَالِ، بَلْ كَانَ يَبْعَثُ رُسُلَهُ وَسُعَاتَهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِجِبَايَتِهَا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ».
وَتَدُلُّ سِيرَةُ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْعَثُونَ الْجُبَاةَ فِي آخِرِ الْعَامِ لِجِبَايَةِ الْجِزْيَةِ.فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَقَدِمَ بِمَالٍ كَثِيرٍ.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ، فَوَجَبَ بِآخِرِهِ كَالزَّكَاةِ.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ جَزَاءً عَلَى تَأْمِينِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَلَا تَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَتَحَقَّقَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي طُولِ السَّنَةِ.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، فَتَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا كَالصَّلَاةِ، وَلِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
فَجَعَلَ إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِرَفْعِ الْقِتَالِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ غَايَةَ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَقَدْ حَظَرَ إِبَاحَةَ قُرْبِهِنَّ إِلاَّ بَعْدَ وُجُودِ طُهْرِهِنَّ، وَكَذَلِكَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تُعْطِ زَيْدًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ، مَنْعُ الْإِعْطَاءِ إِلاَّ بَعْدَ دُخُولِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ مُوجِبَةٌ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُزِيلَةٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ.
وَلِقَوْلِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ: «أَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا- صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ» فَوَقْتُ وُجُوبِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَقِبَ الْعَقْدِ مُبَاشَرَةً.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنِ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ، فَتَجِبُ فِي الْحَالِ كَالْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.وَلِأَنَّ الْمُعَوَّضَ قَدْ سُلِّمَ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ الْعِوَضُ عَلَيْهِمْ كَالثَّمَنِ.وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا مِنَ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا، وَهِيَ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْمَاضِي، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ نُصْرَةَ الْمَاضِي يُسْتَغْنَى عَنْهَا بِانْقِضَائِهِ.فَإِذَا تَعَذَّرَ إِيجَابُ الْجِزْيَةِ بَعْدَ الْحَوْلِ تَجِبُ فِي أَوَّلِهِ.
تَعْجِيلُ الْجِزْيَةِ:
52- الْمَقْصُودُ بِتَعْجِيلِ الْجِزْيَةِ: اسْتِيفَاؤُهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهَا بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعْجِلَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ أَوْ يَسْتَسْلِفَهَا؟
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ، إِلَى جَوَازِ تَعْجِيلِهَا لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِرِضَا أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ تَعْجِيلِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَالْخَرَاجِ، وَلِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ فَأَشْبَهَتِ الْأُجْرَةَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اشْتِرَاطِ تَعْجِيلِهَا، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا بِرِضَا أَهْلِ الذِّمَّةِ.وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْجِزْيَةِ عَلَى الزَّكَاةِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ الزَّكَاةَ إِلاَّ بِرِضَا رَبِّ الْمَالِ، بَلِ الْجِزْيَةُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهَا تَتَعَرَّضُ لِلسُّقُوطِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَهُ، فَتَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ أَثْنَاءَ السَّنَةِ وَتَتَدَاخَلُ بِالِاجْتِمَاعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
تَأْخِيرُ الْجِزْيَةِ:
53- إِذَا تَأَخَّرَ الذِّمِّيُّ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فِي وَقْتِهَا الْمُحَدَّدِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا.
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَمَطَلَ بِهَا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا عُقُوبَتُهُمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا مَعَ التَّمَكُّنِ فَجَائِزٌ، فَأَمَّا مَعَ تَبَيُّنِ عَجْزِهِمْ فَلَا تَحِلُّ عُقُوبَتُهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْجِزْيَةِ سَقَطَتْ عَنْهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
87-موسوعة الفقه الكويتية (حائط)
حَائِطٌالتَّعْرِيفُ
1- الْحَائِطُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَارُ، وَالْبُسْتَانُ، وَجَمْعُهُ حِيطَانٌ وَحَوَائِطُ.وَالْفُقَهَاءُ أَيْضًا يُطْلِقُونَ: «الْحَائِطَ» بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَائِطِ:
أَوَّلًا- الْحَائِطُ بِمَعْنَى الْجِدَارِ:
2- الْجِدَارُ قِسْمَانِ: خَاصٌّ وَمُشْتَرَكٌ.
أَمَّا الْجِدَارُ الْخَاصُّ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ (وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ) وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْجَارِ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، وَلَا يُجْبَرُ الْمَالِكُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُنْدَبُ لَهُ لِخَبَرِ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ ((: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِهِ».
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ».
وَإِذَا انْهَدَمَ الْجِدَارُ الْخَاصُّ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ مَالِكُهُ عَلَى بِنَائِهِ، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ شِئْتَ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي بَابِ الصُّلْحِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.
وَأَمَّا الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:
الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: الِانْتِفَاعُ بِهِ:
3- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يُمْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِمَّا يُغَيِّرُ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ كَغَرْزِ وَتَدٍ، وَفَتْحِ كَوَّةٍ، أَوْ وَضْعِ خَشَبَةٍ لَا يَتَحَمَّلُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ، وَتَصَرُّفٌ فِيهِ بِمَا يَضُرُّ بِهِ، فَلَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالِانْتِفَاعِ.
وَأَمَّا الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ وَإِسْنَادُ شَيْءٍ إِلَيْهِ لَا يَضُرُّهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ.وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى مَوَاطِنِهِ فِي أَبْوَابِ الصُّلْحِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قِسْمَةُ الْجِدَارِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِلَا ضَرَرٍ فَأَرَادَ الشُّرَكَاءُ قِسْمَتَهُ جَازَ.وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْقِسْمَةَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ وَأَبَاهَا الْآخَرُ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ وَآرَاءٍ يُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ).
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: الْعِمَارَة:
5- إِذَا تَهَدَّمَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ فَطَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ تَعْمِيرَهُ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُجْبَرُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي عِمَارَتِهِ إِذَا تَعَذَّرَ قِسْمَةُ أَسَاسِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ يَحْتَمِلُ أَسَاسُهُ الْقِسْمَةَ بِأَنْ كَانَ عَرِيضًا جَازَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْقَدِيمُ لَدَى الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ إِضْرَارًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءُ حَائِطٍ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ كَالِابْتِدَاءِ.
التَّلَفُ بِسُقُوطِ الْحَائِطِ:
6- إِذَا مَالَ الْحَائِطُ إِلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطُولِبَ صَاحِبُهُ بِنَقْضِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ فِيهَا حَتَّى سَقَطَ ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَالَ إِلَى الطَّرِيقِ فَقَدِ اشْتَغَلَ هَوَاءُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِمِلْكِهِ، وَدَفْعُهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا تُقُدِّمَ إِلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ صَارَ مُتَعَدِّيًا.بِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا ثُمَّ مَالَ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُخْتَصًّا كَهَوَاءِ جَارِهِ، أَوْ مُشْتَرَكًا كَالطَّرِيقِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى أَتْلَفَ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ وَطُولِبَ بِهِ؛ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ بِفِعْلِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيَلَانٍ.وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيلُ فِي أَبْوَابِ الضَّمَانِ وَالدِّيَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ أَحْكَامِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ.
تَنْقِيشُ حَائِطِ الْقِبْلَةِ:
7- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَةَ النُّقُوشِ عَلَى الْمِحْرَابِ وَحَائِطِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي، كَمَا أَنَّهُ إِخْرَاجٌ لِلْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ.
وَقِيلَ: لَا بَأْسَ بِتَنْقِيشِ الْمَسْجِدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ.هَذَا إِذَا فَعَلَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَمَّا تَنْقِيشُ الْمَسْجِدِ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ فَغَيْرُ جَائِزٍ، وَيَغْرَمُ الَّذِي يُخْرِجُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ نَاظِرًا أَمْ غَيْرَهُ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: مَسْجِدٌ).
كِتَابَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْحَائِطِ:
8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ نَقْشِ الْحِيطَانِ بِالْقُرْآنِ مَخَافَةَ السُّقُوطِ تَحْتَ أَقْدَامِ النَّاسِ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ حُرْمَةَ نَقْشِ الْقُرْآنِ وَاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحِيطَانِ لِتَأْدِيَتِهِ إِلَى الِامْتِهَانِ.وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: قُرْآنٌ).
إِجَارَةُ الْحَائِطِ:
9- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) جَوَازَ إِجَارَةِ حَائِطٍ لِحَمْلِ خَشَبٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَفْعًا مُبَاحًا، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي قَوْلٍ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ إِجَارَةِ الْحَائِطِ أَنْ تَكُونَ لِحَمْلِ خَشَبٍ مَعْلُومٍ وَلِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ فَلَا يَشْتَرِطُونَ فِيهَا بَيَانَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى دَوَامِهِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَالنِّكَاحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجَارَةِ الْحَائِطِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الْمُسْتَأْجِرُ بِنَاءً أَوْ يَضَعَ عَلَيْهِ خَشَبًا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْجِذْعِ وَبِنَاءَ السُّتْرَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ وَالضَّرَرُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْعَقْدِ دَلَالَةً.وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْمُضِرِّ حَدٌّ مَعْلُومٌ فَيَصِيرُ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ كَانَ لَهُ وَضْعُ خَشَبَةٍ عَلَى جِدَارِ غَيْرِهِ لَمْ يَمْلِكْ إِعَارَتَهُ وَلَا إِجَارَتَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ الْمَاسَّةِ إِلَى وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى وَضْعِ خَشَبِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا الْمُصَالَحَةَ عَنْهُ لِلْمَالِكِ وَلَا لِغَيْرِهِ.
وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ إِعَارَةَ الْحَائِطِ أَوْ إِجَارَتَهُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى مَنْعِ ذِي الْحَقِّ مِنْ حَقِّهِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ كَمَنْعِهِ.
وَمَنْ مَلَكَ وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ فَزَالَ بِسُقُوطِهِ أَوْ قَلْعِهِ أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ، ثُمَّ أُعِيدَ فَلَهُ إِعَادَةُ خَشَبِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُجَوِّزَ لِوَضْعِهِ مُسْتَمِرٌّ فَاسْتَمَرَّ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ.وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ مِثْلُ أَنْ يَخْشَى عَلَى الْحَائِطِ مِنْ وَضْعِهِ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتَغْنَى عَنْ وَضْعِهِ لَمْ تَجُزْ إِعَادَتُهُ لِزَوَالِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ.
الدَّعْوَى فِي الْحَائِطِ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَدَاعَيَا حَائِطًا بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا وَتَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا اتِّصَالًا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْحَائِطِ، مِثْلُ اتِّصَالِ الْبِنَاءِ بِالطِّينِ، أَوْ تَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مَحْلُولًا مِنْ بِنَائِهِمَا، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا.وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَهُوَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا خَشَبٌ مَوْضُوعٌ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا تُرَجَّحُ دَعْوَاهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَسْمَحُ بِهِ الْجَارُ، وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمَنْعِ مِنْهُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا أَنَّهُ لَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِالْجِذْعِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لَهُ، وَيُرَجَّحُ بِالْجِذْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى بِهِمَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُرَجَّحُ بِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ بِوَضْعِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَانِيَ عَلَيْهِ، وَالزَّارِعَ فِي الْأَرْضِ.
وَكَذَا لَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِكَوْنِ الدَّوَاخِلِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا بِكَوْنِ الْآجُرِّ الصَّحِيحِ مِمَّا يَلِي مِلْكَ أَحَدِهِمَا، وَإِقْطَاعُ الْآجُرِّ إِلَى مِلْكِ الْآخَرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ بِهِ لِمَنْ إِلَيْهِ وَجْهُ الْحَائِطِ وَمَعَاقِدُ الْقُمُطِ؛ لِمَا رَوَى نِمْرَانُ بْنُ جَارِيَةَ التَّمِيمِيُّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ «قَوْمًا اخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي خُصٍّ فَبَعَثَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَحَكَمَ بِهِ لِمَنْ تَلِيهِ مَعَاقِدُ الْقُمُطِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ» وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.وَلِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا جَعَلَ وَجْهَ الْحَائِطِ إِلَيْهِ.
هَدْمُ الْحَائِطِ:
11- مَتَى هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا: فَإِنْ خِيفَ سُقُوطُهُ وَوَجَبَ هَدْمُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى هَادِمِهِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوِ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَأَزَالَ الضَّرَرَ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ بِسُقُوطِهِ.وَإِنْ هَدَمَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ سَوَاءٌ هَدَمَهُ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.وَسَوَاءٌ الْتَزَمَ إِعَادَتَهُ أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ فَلَزِمَ إِعَادَتُهُ.وَمَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ ضَمِنَ نُقْصَانَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْبِنَاءِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ.وَاسْتَثْنَى بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَائِطَ الْمَسْجِدِ.
بِنَاءُ الْحَائِطِ الْجَدِيدِ:
12- إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مِلْكَيِ الشَّرِيكَيْنِ حَائِطٌ قَدِيمٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ مُبَانَاتَهُ حَائِطًا يَحْجِزُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا فَامْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْبِنَاءَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ إِلاَّ فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ جَارِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ مَا لَهُ فِيهِ رَسْمٌ، وَهَذَا لَا رَسْمَ لَهُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
وَضْعُ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ:
13- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْقَافِهِ وَلَوْ دَفَعَ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، لَكِنَّهُ تُرِكَ فِي حَقِّ الْجَارِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِي غَيْرِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ فِي مِلْكِ الْجَارِ مَعَ أَنَّ حَقَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ، فَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ أَوْلَى.
الْإِحْيَاءُ بِتَحْوِيطِ الْأَرْضِ:
14- يُعْتَبَرُ تَحْوِيطُ الْحَائِطِ عَلَى الْأَرْضِ، مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَيُمْلَكُ بِذَلِكَ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 24 ص 248 ج 2)
ثَانِيًا- الْحَائِطُ (الْبُسْتَانُ):
مَعْلُومِيَّةُ الْحَائِطِ فِي الْمُسَاقَاةِ:
15- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ فِي الْحَائِطِ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهَا- أَنْ يَكُونَ شَجَرُ الْحَائِطِ مَعْلُومًا إِمَّا بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالْوَصْفِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى بُسْتَانٍ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ، أَوْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لَمْ تَصِحَّ الْمُسَاقَاةُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ فَلَمْ تَجُزْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ.بِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ مَنْ يَرَى جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ وُرُودُهَا عَلَى مُعَيَّنٍ مَرْئِيٍّ لِلْمَالِكِ وَالْعَامِلِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى مُبْهَمٍ لَمْ يَصِحَّ أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمَرْئِيِّ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ.وَالْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: مُسَاقَاةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
88-موسوعة الفقه الكويتية (حجر 2)
حَجْرٌ -2الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ:
13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ إِلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُكْمٍ حَاكِمٍ، كَمَا أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُكْمِ حَاكِمٍ أَيْضًا، لِأَنَّ الْحَجْرَ إِذَا كَانَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَا يَزُولُ إِلاَّ بِهِ، وَلِأَنَّ الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَاجْتِهَادٍ فِي مَعْرِفَتِهِ وَزَوَالِ تَبْذِيرِهِ فَكَانَ كَابْتِدَاءِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ السَّفِيهَ لَا يَحْتَاجُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّ فَسَادَهُ فِي مَالِهِ يَحْجُرُهُ وَصَلَاحُهُ فِيهِ يُطْلِقُهُ.وَإِنَّ عِلَّةَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ السَّفَهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي الْحَالِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، كَالصِّبَا وَالْجُنُونِ.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ بَاعَ السَّفِيهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ.
تَصَرُّفَاتُ السَّفِيهِ:
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَ السَّفِيهِ فِي مَالِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّصَرُّفَاتِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (سَفَهٌ، وَوِلَايَةٌ).
الْحَجْرُ عَلَى ذِي الْغَفْلَةِ:
15- ذُو الْغَفْلَةِ هُوَ مَنْ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ وَلَا يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرُّفَاتِ الرَّابِحَةِ.
وَيَخْتَلِفُ عَنِ السَّفِيهِ بِأَنَّ السَّفِيهَ مُفْسِدٌ لِمَالِهِ وَمُتَابِعٌ لِهَوَاهُ، أَمَّا ذُو الْغَفْلَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ لِمَالِهِ وَلَا يَقْصِدُ الْفَسَادَ.
وَلَمْ نَجِدْ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَا الْغَفْلَةِ يُحْجَرُ عَلَيْهِ سِوَى الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ أَدْرَجَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْوَصْفَ فِي السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ.
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَجْرَ يَثْبُتُ عَلَى ذِي الْغَفْلَةِ كَالسَّفِيهِ أَيْ: مِنْ حِينِ قَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمِنْ حِينِ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الْغَفْلَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَزُولُ الْحَجْرُ عَنْهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَبِزَوَالِ الْغَفْلَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ،
وَقَدْ شُرِعَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ صِيَانَةً لِمَالِهِ وَنَظَرًا لَهُ، فَقَدْ «طَلَبَ أَهْلُ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، فَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ»، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا عَلَى ذِي الْغَفْلَةِ لأَنْكَرَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- طَلَبَهُمْ.وَذَلِكَ فِيمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ «أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، فَأَتَى أَهْلُهُ نَبِيَّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: احْجُرْ عَلَى فُلَانٍ، فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَنَهَاهُ عَنِ الْبَيْعِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَصْبِرُ عَنِ الْبَيْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِنْ كُنْت غَيْرَ تَارِكٍ الْبَيْعَ فَقُلْ: هَاءَ وَهَاءَ وَلَا خِلَابَةَ»
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَى الْغَافِلِ بِسَبَبِ غَفْلَتِهِ، وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى طَلَبِهِمْ وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ: قُلْ: لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ.وَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا لأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ.
الْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ:
16- سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ إِفْلَاسٍ الْكَلَامُ عَنِ الْحَجْرِ عَلَى الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ وَلَوْ كَانَ غَائِبًا- فِي الْجُمْلَةِ- مَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، ابْتِدَاءً مِنَ الْفِقْرَةِ (7) وَمَا بَعْدَهَا.وَالْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ هُوَ حَجْرٌ لَهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِفْلَاسٌ) (وَغَيْبَةٌ).
الْحَجْرُ عَلَى الْفَاسِقِ:
17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَفِيهًا مُبَذِّرًا لِمَالِهِ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْفِسْقِ فَقَطْ لَا يُوجِبُ الْحَجْرَ، لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَحْجُرُوا عَلَى الْفَسَقَةِ، وَلِأَنَّ الْفِسْقَ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ إِتْلَافُ الْمَالِ وَلَا عَدَمُ إِتْلَافِهِ (أَيْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْفِسْقِ وَإِتْلَافِ الْمَالِ).
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالِاسْتِدَامَةِ بِأَنْ بَلَغَ فَاسِقًا.
وَالْفَاسِقُ مَنْ يَفْعَلُ مُحَرَّمًا يُبْطِلُ الْعَدَالَةَ مِنْ كَبِيرَةٍ أَوْ إِصْرَارٍ عَلَى صَغِيرَةٍ، وَلَمْ تَغْلِبْ طَاعَاتُهُ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَاحْتُرِزَ بِالْمُحَرَّمِ عَمَّا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ لِإِخْلَالِهِ بِالْمُرُوءَةِ، كَالْأَكْلِ فِي السُّوقِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرُّشْدَ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْمُرُوءَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.
الْحَجْرُ عَلَى تَبَرُّعَاتِ الزَّوْجَةِ:
18- الْمَرْأَةُ لَهَا ذِمَّةٌ مَالِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَهَا أَنْ تَتَبَرَّعَ مِنْ مَالِهَا مَتَى شَاءَتْ مَا دَامَتْ رَشِيدَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُمْ (ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا) وَإِطْلَاقِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيّكُنَّ» وَأَنَّهُنَّ تَصَدَّقْنَ فَقَبِلَ صَدَقَتَهُنَّ وَلَمْ يَسْأَلْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، «وَأَتَتْهُ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى اسْمُهَا زَيْنَبُ فَسَأَلَتْهُ عَنِ الصَّدَقَةِ هَلْ يَجْزِيهِنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَأَيْتَامٍ لَهُنَّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ» وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُنَّ هَذَا الشَّرْطَ، وَلِأَنَّ مَنْ وَجَبَ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ لِرُشْدٍ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ كَالْغُلَامِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ وَلَا حَقَّ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا فَلَمْ يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ كَأُخْتِهَا.
19- وَذَهَبَ مَالِكٌ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ- إِلَى أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الرَّشِيدَةِ لِصَالِحِ زَوْجِهَا فِي تَبَرُّعٍ زَادَ عَلَى ثُلُثِ مَالِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا الْبَالِغِ الرَّشِيدِ أَوْ وَلِيِّهِ إذَا كَانَ سَفِيهًا.
فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي امْرَأَةٍ حَلَفَتْ أَنْ تُعْتِقَ جَارِيَةً لَيْسَ لَهَا غَيْرُهَا فَحَنِثَتْ وَلَهَا زَوْجٌ فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا.أَنَّهُ قَالَ: لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا وَلَيْسَ لَهَا عِتْقٌ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ «امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بِحُلِيٍّ لَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِهَذَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ زَوْجُهَا.فَهَلِ اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ.فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى كَعْبٍ فَقَالَ: هَلْ أَذِنْتَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا» وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهَا.فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا» وَالْعَادَةُ أَنَّ الزَّوْجَ يَزِيدُ فِي مَهْرِهَا مِنْ أَجْلِ مَالِهَا وَيَتَبَسَّطُ فِيهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ.فَإِذَا أُعْسِرَ بِالنَّفَقَةِ أَنْظَرَتْهُ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى حُقُوقِ الْوَرَثَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ مَالِهَا التَّجَمُّلُ لِلزَّوْجِ.وَالرَّجْعِيَّةُ كَالزَّوْجَةِ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ بَاقٍ فِيمَنْ طُلِّقَتْ طَلَاقًا رَجْعِيًّا.
وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ لِأَبِيهَا وَنَحْوِهِ، إِذِ الْحَجْرُ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ.وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ إِعْطَاؤُهَا الْمَالَ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا مِنْ نَفَقَةِ أَبَوَيْهَا، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَتْ بِالثُّلُثِ فَأَقَلَّ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَفِي جَوَازِ إِقْرَاضِهَا مَالًا زَائِدًا عَنِ الثُّلُثِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا قَوْلَانِ:
وَجْهُ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ أَنَّهَا تَأْخُذُ عِوَضَهُ وَهُوَ رَدُّ السَّلَفِ، فَكَانَ كَبَيْعِهَا.وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ أَنَّ الْقَرْضَ يُشْبِهُ الْهِبَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْرُوفِ، وَلِأَنَّهَا تَخْرُجُ لِمُطَالَبَتِهَا بِمَا أَقْرَضَتْهُ، وَهُوَ ضَرَرٌ عَلَى الزَّوْجِ.
وَأَمَّا دَفْعُهَا الْمَالَ قِرَاضًا لِعَامِلٍ فَلَيْسَ فِيهِ الْقَوْلَانِ لِأَنَّهُ مِنَ التِّجَارَةِ.
هَذَا وَإِنَّ تَبَرُّعَهَا بِزَائِدٍ عَلَى ثُلُثِهَا جَائِزٌ حَتَّى يَرُدَّ الزَّوْجُ جَمِيعَهُ أَوْ مَا شَاءَ مِنْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقِيلَ: مَرْدُودٌ حَتَّى يُجِيزَهُ الزَّوْجُ.
وَلِلزَّوْجِ رَدُّ الْجَمِيعِ إِنْ تَبَرَّعَتْ بِزَائِدٍ عَنِ الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ الزَّائِدُ يَسِيرًا، مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا، أَوْ لِأَنَّهَا كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حَلَالٍ وَحَرَامٍ.
وَلِلزَّوْجِ إِمْضَاءُ الْجَمِيعِ، وَلَهُ رَدُّ الزَّائِدِ فَقَطْ.وَإِذَا تَبَرَّعَتِ الزَّوْجَةُ بِثُلُثِ مَالِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَبَرَّعَ مَرَّةً أُخْرَى بِثُلُثٍ آخَرَ، إِلاَّ أَنْ يَبْعُدَ مَا بَيْنَهُمَا بِعَامٍ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سَهْلٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، قِيلَ: وَهُوَ الرَّاجِحُ، أَوْ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عَلَى قَوْلِ أَصْبَغَ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ عَرَفَةَ.
الْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ:
20- مَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ الْمَوْتُ فِي الْأَكْثَرِ الَّذِي يُعْجِزُ الْمَرِيضَ عَنْ رُؤْيَةِ مَصَالِحِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذُّكُورِ، وَيُعْجِزُهُ عَنْ رُؤْيَةِ الْمَصَالِحِ الدَّاخِلَةِ فِي دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْإِنَاثِ، وَيَمُوتُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ قَبْلَ مُرُورِ سَنَةٍ صَاحِبَ فِرَاشٍ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ، وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ الطِّبُّ بِكَثْرَةِ الْمَوْتِ بِهِ أَيْ بِسَبَبِهِ أَوْ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَغْلِبْ، فَالْمَدَارُ عَلَى كَثْرَةِ الْمَوْتِ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَوْتُ مِنْهُ شَهِيرًا لَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَوْتِ مِنْهُ غَلَبَةُ الْمَوْتِ بِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ تُحْجَرُ عَلَيْهِ تَبَرُّعَاتُهُ فِيمَا زَادَ عَنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ وَذَلِكَ حَيْثُ لَا دَيْنَ، وَإِذَا تَبَرَّعَ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ إِذَا مَاتَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يُمْنَعُ مِمَّا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْكِسْوَةِ وَالتَّدَاوِي.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَالْمُقَاتِلِ فِي الصَّفِّ وَالْمَحْبُوسِ لِلْقَتْلِ وَنَحْوِهِمَا. وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (مَرَضٌ، مَوْتٌ، وَصِيَّةٌ).
الْحَجْرُ عَلَى الرَّاهِنِ:
21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الرَّاهِنَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ بَعْدَ لُزُومِ الرَّهْنِ ضَمَانًا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ).
الْحَجْرُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ:
22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَرْضِ الْحَجْرِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَهُمُ: الْمُفْتِي الْمَاجِنُ، وَالطَّبِيبُ الْجَاهِلُ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ.
أ- الْمُفْتِي الْمَاجِنُ: هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَلَ الْبَاطِلَةَ، كَتَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ الرِّدَّةَ لِتَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ تَعْلِيمِ الْحِيَلِ بِقَصْدِ إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، وَمِثْلُهُ الَّذِي يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ.
ب- الطَّبِيبُ الْجَاهِلُ: هُوَ الَّذِي يَسْقِي الْمَرْضَى دَوَاءً مُهْلِكًا، وَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِمُ الْمَرَضُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ ضَرَرِهِ.ج- الْمُكَارِي الْمُفْلِسُ: هُوَ الَّذِي يُكْرِي إِبِلًا وَلَيْسَ لَهُ إِبِلٌ وَلَا مَالٌ لِيَشْتَرِيَهَا بِهِ، وَإِذَا جَاءَ أَوَانُ الْخُرُوجِ يُخْفِي نَفْسَهُ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَجْرِ عَلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ حَقِيقَةُ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ، لِأَنَّ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى بَعْدَ الْحَجْرِ وَأَصَابَ جَازَ، وَكَذَا الطَّبِيبُ لَوْ بَاعَ الْأَدْوِيَةَ نَفَذَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَنْعُ الْحِسِّيُّ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُفْسِدٌ لِلْأَدْيَانِ، وَالثَّانِيَ مُفْسِدٌ لَلْأَبَدَانِ، وَالثَّالِثَ مُفْسِدٌ لِلْأَمْوَالِ.فَمَنْعُ هَؤُلَاءِ الْمُفْسِدِينَ دَفْعُ ضَرَرٍ لَاحِقٍ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَهُوَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
الْحَجْرُ عَلَى الْمُرْتَدِّ:
23- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ تَرِكَتَهُ فَيْءٌ فَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِئَلاَّ يُفَوِّتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ ف 43).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
89-موسوعة الفقه الكويتية (حرابة)
حِرَابَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْحِرَابَةُ مِنَ الْحَرْبِ الَّتِي هِيَ نَقِيضُ السِّلْمِ: يُقَالُ: حَارَبَهُ مُحَارَبَةً، وَحِرَابًا، أَوْ مِنَ الْحَرَبِ.
بِفَتْحِ الرَّاءِ: وَهُوَ السَّلْبُ.
يُقَالُ: حَرَبَ فُلَانًا مَالَهُ أَيْ سَلَبَهُ فَهُوَ مَحْرُوبٌ وَحَرِيبٌ.
وَالْحِرَابَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ وَتُسَمَّى قَطْعَ الطَّرِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ هِيَ الْبُرُوزُ لِأَخْذِ مَالٍ، أَوْ لِقَتْلٍ، أَوْ لِإِرْعَابٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً، اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ مُحَاوَلَةَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْعِرْضِ مُغَالَبَةً.
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ كَابَرَ رَجُلًا عَلَى مَالِهِ بِسِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي زُقَاقٍ أَوْ دَخَلَ عَلَى حَرِيمِهِ فِي الْمِصْرِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْحِرَابَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبَغْيُ:
2- الْبَغْيُ فِي اللُّغَةِ: الْجَوْرُ، وَالظُّلْمُ، وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ: هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ إِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ بِتَأْوِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعِ الْفَسَادِ.
وَفَرَّقَ الْإِمَامُ مَالِكٌ بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَالْبَغْيِ بِقَوْلِهِ: الْبَغْيُ يَكُونُ بِالْخُرُوجِ عَلَى تَأْوِيلٍ- غَيْرِ قَطْعِيِّ الْفَسَادِ- وَالْمُحَارِبُونَ خَرَجُوا فِسْقًا وَخُلُوعًا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلٍ
ب- السَّرِقَةُ:
3- السَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ خُفْيَةً.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: أَخْذُهُ خُفْيَةً ظُلْمًا فِي حِرْزِ مِثْلِهِ، بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ فِي بَابِهَا.
فَالْفَرْقُ أَنَّ الْحِرَابَةَ فِيهَا مُجَاهَرَةٌ وَمُكَابَرَةٌ وَسِلَاحٌ.
ج- النَّهْبُ، وَالِاخْتِلَاسُ:
4- النَّهْبُ لُغَةً: الْغَلَبَةُ عَلَى الْمَالِ.وَاصْطِلَاحًا: أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَانِيَةً دُونَ رِضًا.
وَالِاخْتِلَاسُ: خَطْفُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ، مَعَ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْهَرَبِ.
فَالنَّهْبُ وَالِاخْتِلَاسُ كِلَاهُمَا أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَانِيَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ: سُرْعَةُ الْأَخْذِ فِي الِاخْتِلَاسِ بِخِلَافِ النَّهْبِ فَإِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ.
أَمَّا الْحِرَابَةُ فَهِيَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ.
د- الْغَصْبُ:
5- الْغَصْبُ أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا مَعَ الْمُجَاهَرَةِ.
وَشَرْعًا: الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقِيلَ: هُوَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ.فَالْغَصْبُ قَدْ يَكُونُ بِسِلَاحٍ أَوْ بِغَيْرِ سِلَاحٍ مَعَ إِمْكَانِ الْغَوْثِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- الْحِرَابَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهِيَ مِنَ الْحُدُودِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَسَمَّى الْقُرْآنُ مُرْتَكِبِيهَا: مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَسَاعِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَغَلَّظَ عُقُوبَتَهَا أَشَدَّ التَّغْلِيظِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِفَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} إِلَخْ.
وَنَفَى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- انْتِسَابَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا».
الْأَصْلُ فِي جَزَاءِ الْحِرَابَةِ:
7- الْأَصْلُ فِي بَيَانِ جَزَاءِ الْحِرَابَةِ قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْض} إِلَخْ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَدِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ كَمَا سَيَأْتِي.وَحَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَانُوا فِي الصُّفَّةِ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْغِنَا رِسْلًا، فَقَالَ مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَأَتَوْهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَّلَهُمْ وَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا.وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ».
مَنْ يُعْتَبَرُ مُحَارِبًا:
8- الْمُحَارِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: هُوَ كُلُّ مُلْتَزِمٍ مُكَلَّفٍ أَخَذَ الْمَالَ بِقُوَّةٍ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَعْرِيفَاتٌ أُخْرَى لَا تَخْرُجُ فِي مَفْهُومِهَا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَلَا بُدَّ مِنْ تَوَافُرِ شُرُوطٍ فِي الْمُحَارِبِينَ حَتَّى يُحَدُّوا حَدَّ الْحِرَابَةِ.وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ:
أ- الِالْتِزَامُ.
ب- التَّكْلِيفُ.
ج- وُجُودُ السِّلَاحِ مَعَهُمُ.
د- الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ.
هـ- الذُّكُورَةُ.
و- الْمُجَاهَرَةُ.
وَلَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ كُلِّهَا، بَلْ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ بَيَانُهُ كَمَا يَلِي:
أ- الِالْتِزَامُ:
9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ: أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا، فَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ، وَلَا الْمُعَاهَدُ، وَلَا الْمُسْتَأْمَنُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وَهَؤُلَاءِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، وَبَعْدَهَا، لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَلِخَبَرِ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ».وَلَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ فَقَدِ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ فَلَهُ مَا لَنَا، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا.
وَظَاهِرُ عِبَارَةِ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمُسْلِمِ فِي أَحْكَامِ الْحِرَابَةِ.وَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ يَكُونُ مُحَارِبًا أَوْ لَا.
ب- التَّكْلِيفُ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ شَرْطَانِ فِي عُقُوبَةِ الْحِرَابَةِ لِأَنَّهُمَا شَرْطَا التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ مَنْ اشْتَرَكَ مَعَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ.وَقَالُوا: لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ اخْتُصَّ بِهَا وَاحِدٌ فَلَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنِ الْبَاقِينَ.كَمَا لَوِ اشْتَرَكُوا فِي الزِّنَى بِامْرَأَةٍ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَحَصَرُوا مُسْقِطَاتِ الْحَدِّ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ فِي تَوْبَتِهِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا مُسْقِطًا آخَرَ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ رَجُلٌ هَارِبًا وَقَتَلَهُ صَبِيٌّ يُقْتَلُ الْمُمْسِكُ عِنْدَهُمْ.وَمُقْتَضَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ يُحَدُّ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ فِي الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِ الْمَارَّةِ فَلَا حَدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَاشَرَ الْعُقَلَاءُ الْفِعْلَ أَمْ لَمْ يُبَاشِرُوا، وَقَالُوا: لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِالْكُلِّ، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِعْلُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، كَانَ فِعْلُ الْبَاقِينَ بَعْضُ الْعِلَّةِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْحُكْمُ.وَقَالَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِذَا بَاشَرَ الْعُقَلَاءُ الْفِعْلَ يُحَدُّونَ.
ج- الذُّكُورَةُ:
11- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الذُّكُورَةُ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ نِسْوَةٌ لَهُنَّ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ فَهُنَّ قَاطِعَاتُ طَرِيقٍ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْأُنُوثَةِ عَلَى الْحِرَابَةِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالتَّدْبِيرِ مَا لِلرَّجُلِ فَيَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أَحْكَامِ الْحِرَابَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الذُّكُورَةُ: فَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ وَإِنْ وَلِيَتِ الْقِتَالَ وَأَخْذَ الْمَالِ، لِأَنَّ رُكْنَ الْحِرَابَةِ هُوَ: الْخُرُوجُ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ عَادَةً لِرِقَّةِ قُلُوبِهِنَّ وَضَعْفِ بِنْيَتِهِنَّ، فَلَا يَكُنَّ مِنْ أَهْلِ الْحِرَابَةِ.
وَلِهَذَا لَا يُقْتَلْنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يُحَدُّ كَذَلِكَ مَنْ يُشَارِكُهُنَّ فِي الْقَطْعِ مِنَ الرِّجَالِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.سَوَاءٌ بَاشَرُوا الْجَرِيمَةَ أَمْ لَمْ يُبَاشِرُوا.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا بَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ الْقِتَالَ وَأَخْذَ الْمَالِ، يُحَدُّ الرِّجَالُ الَّذِينَ يُشَارِكُونَهَا، لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، بَلْ لِعَدَمِ الْمُحَارَبَةِ عَادَةً، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الرِّجَالِ الَّذِينَ يُشَارِكُونَهَا، فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ.
د- السِّلَاحُ:
12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ السِّلَاحِ فِي الْمُحَارِبِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُحَارِبِ سِلَاحٌ، وَالْحِجَارَةُ وَالْعِصِيُّ سِلَاحٌ «هُنَا» فَإِنْ تَعَرَّضُوا لِلنَّاسِ بِالْعِصِيِّ وَالْأَحْجَارِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْمِلُوا شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ.
وَلَا يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ حَمْلَ السِّلَاحِ بَلْ يَكْفِي عِنْدَهُمُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ وَأَخْذُ الْمَالِ وَلَوْ بِاللَّكْزِ وَالضَّرْبِ بِجَمْعِ الْكَفِّ.
هـ- الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ:
13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فَقْدُ الْغَوْثِ.
وَلِفَقْدِ الْغَوْثِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، وَلَا يَنْحَصِرُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ.
فَقَدْ يَكُونُ لِلْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ أَوِ السُّلْطَانِ.
وَقَدْ يَكُونُ لِضَعْفِ أَهْلِ الْعُمْرَانِ، أَوْ لِضَعْفِ السُّلْطَانِ.
فَإِنْ دَخَلَ قَوْمٌ بَيْتًا وَشَهَرُوا السِّلَاحَ وَمَنَعُوا أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الِاسْتِغَاثَةِ فَهُمْ قُطَّاعُ طُرُقٍ فِي حَقِّهِمْ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ آيَةِ الْمُحَارَبَةِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا وُجِدَ فِي الْعُمْرَانِ وَالْأَمْصَارِ وَالْقُرَى كَانَ أَعْظَمَ خَوْفًا وَأَكْثَرَ ضَرَرًا، فَكَانَ أَوْلَى بِحَدِّ الْحِرَابَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ.فَإِنْ حَصَلَ مِنْهُمُ الْإِرْعَابُ وَأَخْذُ الْمَالِ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ، وَقَالُوا: لِأَنَّ الْوَاجِبَ يُسَمَّى حَدَّ قُطَّاعِ الطُّرُقِ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَلِأَنَّ مَنْ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ غَالِبًا فَتَذْهَبُ شَوْكَةُ الْمُعْتَدِينَ، وَيَكُونُونَ مُخْتَلِسِينَ وَهُوَ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.
و- الْمُجَاهَرَةُ:
14- الْمُجَاهَرَةُ أَنْ يَأْخُذَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ الْمَالَ جَهْرًا فَإِنْ أَخَذُوهُ مُخْتَفِينَ فَهُمْ سُرَّاقٌ، وَإِنِ اخْتَطَفُوا وَهَرَبُوا فَهُمْ مُنْتَهِبُونَ وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ إِنْ خَرَجَ الْوَاحِدُ، وَالِاثْنَانِ عَلَى آخِرِ قَافِلَةٍ، فَاسْتَلَبُوا مِنْهَا شَيْئًا، فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ.وَإِنْ تَعَرَّضُوا لِعَدَدٍ يَسِيرٍ فَقَهَرُوهُمْ، فَهُمْ قُطَّاعُ طُرُقٍ.
حُكْمُ الرِّدْءِ:
15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرِّدْءِ أَيْ الْمُعِينِ لِلْقَاطِعِ بِجَاهِهِ أَوْ بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ أَوْ بِتَقْدِيمِ أَيِّ عَوْنٍ لَهُمْ وَلَمْ يُبَاشِرْ الْقَطْعَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ، لِأَنَّهُمْ مُتَمَالِئُونَ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِالْكُلِّ، وَلِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْقُطَّاعِ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَعْضُ، وَيَدْفَعَ عَنْهُمُ الْبَعْضُ الْآخَرُ، فَلَوْ لَمْ يُلْحَقِ الرِّدْءُ بِالْمُبَاشِرِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى انْفِتَاحِ بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُحَدُّ الرِّدْءُ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ كَسَائِرِ الْجَرَائِمِ الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا.
عُقُوبَةُ الْمُحَارِبِينَ:
16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عُقُوبَةَ الْمُحَارِبِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ وَلَا الْعَفْوَ مَا لَمْ يَتُوبُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
17- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ: أَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ أَمْ عَلَى التَّنْوِيعِ.فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ «أَوْ» فِي الْآيَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ، وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا فِي الْجِنَايَاتِ: فَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ وَصُلِبَ.وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى.
وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَقْتُلْ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا نُفِيَ مِنَ الْأَرْضِ.
وَالنَّفْيُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَعْزِيرٌ وَلَيْسَ حَدًّا، فَيَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِغَيْرِهِ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ إِنْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالُوا: بِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْآيَةَ فَقَالَ: الْمَعْنَى: أَنْ يُقَتَّلُوا إِنْ قَتَلُوا.أَوْ يُصَلَّبُوا مَعَ الْقَتْلِ إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ.أَوْ تُقَطَّعُ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، إِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالِ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، إِنْ أَرْعَبُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَحَمَلُوا كَلِمَةَ «أَوْ» عَلَى التَّنْوِيعِ لَا التَّخْيِيرِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} أَيْ قَالَتْ الْيَهُودُ: كُونُوا هُودًا وَقَالَتِ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى وَلَمْ يَقَعْ تَخْيِيرُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّة.
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ فِي مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ لِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ، يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فَالتَّخْيِيرُ فِي جَزَاءِ الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِمَا يَشْمَلُ جَزَاءَ الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ بِمَا يَشْمَلُ جَزَاءَ الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ خِلَافُ الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ.
يَزِيدُ هَذَا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ قُطَّاعَ الطُّرُقِ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، لَا يَكُونُ جَزَاؤُهُمُ الْمَعْقُولُ النَّفْيَ وَحْدَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّخْيِيرَ الْوَارِدَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ إِذَا كَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ السَّبَبُ مُخْتَلِفًا، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ التَّخْيِيرَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَيَكُونُ الْغَرَضُ بَيَانَ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ.
وَقَطْعُ الطَّرِيقِ مُتَنَوِّعٌ، وَبَيْنَ أَنْوَاعِهِ تَفَاوُتٌ فِي الْجَرِيمَةِ، فَقَدْ يَكُونُ بِأَخْذِ الْمَالِ فَقَطْ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّخْوِيفِ فَحَسْبُ، فَكَانَ سَبَبُ الْعِقَابِ مُخْتَلِفًا.فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ فَيُقَتَّلُونَ وَيُصَلَّبُونَ إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، وَتُقَطَّعُ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إِنْ أَخَذُوا الْمَالَ لَا غَيْرُ، وَيُنْفَوْنَ مِنَ الْأَرْضِ، إِنْ أَخَافُوا الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا نَفْسًا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا.وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: بَدَأَ بِالْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ وَالْمَعْهُودُ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ التَّخْيِيرُ، الْبُدَاءَةُ بِالْأَخَفِّ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ التَّرْتِيبُ يَبْدَأُ فِيهِ بِالْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَخَذَ قَبْلَ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ حُبِسَ بَعْدَ التَّعْزِيرِ حَتَّى يَتُوبَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ أَخَذَ مَالًا مَعْصُومًا بِمِقْدَارِ النِّصَابِ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ قَتَلَ مَعْصُومًا وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قُتِلَ.أَمَّا إِنْ قَتَلَ النَّفْسَ وَأَخَذَ الْمَالَ، وَهُوَ الْمُحَارِبُ الْخَاصُّ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ قَتَلَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ فَقَطْ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلْبِ هُنَا طَعْنُهُ وَتَرْكُهُ حَتَّى يَمُوتَ وَلَا يُتْرَكُ أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إِفْرَادُ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنِ انْضِمَامِ الْقَتْلِ أَوِ الصَّلْبِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَتْلٌ وَأَخْذُ مَالٍ، وَالْقَتْلُ وَحْدَهُ فِيهِ الْقَتْلُ، وَأَخْذُ الْمَالِ وَحْدَهُ فِيهِ الْقَطْعُ، فَفِيهِمَا مَعَ الْإِخَافَةِ لَا يُعْقَلُ الْقَطْعُ وَحْدَهُ.وَقَالَ: صَاحِبَاهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: يُصْلَبُونَ وَيُقْتَلُونَ وَلَا يُقْطَعُونَ.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْجَزَاءَاتِ الْأَرْبَعَةِ.
فَإِذَا خَرَجُوا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَدَرَ عَلَيْهِمُ الْإِمَامُ، خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إِنْ رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
وَهُوَ إِنْ قَتَلَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ، إِلاَّ إِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنَّ فِي إِبْقَائِهِ مَصْلَحَةً أَعْظَمَ مِنْ قَتْلِهِ.
وَلَيْسَ لَهُ تَخْيِيرٌ فِي قَطْعِهِ، وَلَا نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ.وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ لَا تَخْيِيرَ فِي نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ، أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَافَ السَّبِيلَ فَقَطْ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ، أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ، بِاعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ.هَذَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تُصْلَبُ، وَلَا تُنْفَى، وَإِنَّمَا حَدُّهَا: الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ، أَوِ الْقَتْلُ الْمُجَرَّدُ وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِكَلِمَةِ «أَوْ» وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّخْيِيرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ «أَوْ» فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ.
كَيْفِيَّةُ تَنْفِيذِ الْعُقُوبَةِ:
أ- (النَّفْيُ):
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ نَفْسًا فَعُقُوبَتُهُ النَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى النَّفْيِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: نَفْيُهُ حَبْسُهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ إِبْعَادُهُ عَنْ بَلَدِهِ إِلَى مَسَافَةِ الْبُعْدِ وَحَبْسُهُ فِيهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْحَبْسُ أَوْ غَيْرُهُ كَالتَّغْرِيبِ كَمَا فِي الزِّنَى.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: نَفْيُهُمْ: أَنْ يُشَرَّدُوا فَلَا يُتْرَكُوا يَسْتَقِرُّونَ فِي بَلَدٍ.
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ كَنَفْيِ الزَّانِي.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تُغَرَّبُ وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ النَّصِّ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}.
وَاشْتَرَطُوا لِتَغْرِيبِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا مَحْرَمُهَا فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا مَحْرَمُهَا فَعِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهَا تُغَرَّبُ إِلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لِتَقْرَبَ مِنْ أَهْلِهَا فَيَحْفَظُوهَا.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُؤَخَّرُ التَّغْرِيبُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَغْرِيبَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَا صَلْبَ.
ب- الْقَتْلُ:
19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُغَلَّبُ فِي قَتْلِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، إِذَا قَتَلَ فَقَطْ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يُغَلَّبُ الْحَدُّ، فَيُقْتَلُ وَإِنْ قَتَلَ بِمُثَقَّلٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، فَيَقْتُلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، كَمَا لَا عِبْرَةَ بِعَفْوِ مُسْتَحِقِّ الْقَوَدِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِأَحْمَدَ: يُغَلَّبُ جَانِبُ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُضَايَقَةِ فَيُقْتَلُ قِصَاصًا أَوَّلًا، فَإِذَا عَفَا مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ عَنْهُ يُقْتَلُ حَدًّا، وَيُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، لِخَبَرِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» وَعَلَى هَذَا إِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، أَوِ الْحُرُّ غَيْرَ حُرٍّ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا، لَمْ يَقْتُلْ قِصَاصًا، وَيَغْرَمُ دِيَةَ الذِّمِّيِّ، وَقِيمَةَ الرَّقِيقِ.
ج- الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ:
20- يُرَاعَى فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ مَا يُرَاعَى فِي قَطْعِ السَّارِقِ.وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (سَرِقَةٌ).
د- الصَّلْبُ:
21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ الصَّلْبِ، وَمُدَّتِهِ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُصْلَبُ حَيًّا، وَيُقْتَلُ مَصْلُوبًا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُحَدَّدُ مُدَّةُ الصُّلْبِ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا لِلتَّشْهِيرِ بِهِ ثُمَّ يُنْزَلُ فَيُقْتَلُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ: يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْقَتْلَ عَلَى الصَّلْبِ لَفْظًا.فَيَجِبُ تَقْدِيمُ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا فِي الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}.وَلِأَنَّ فِي صَلْبِهِ حَيًّا تَعْذِيبًا لَهُ.وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ».
وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ: يُقْتَلُ، ثُمَّ يُغَسَّلُ، وَيُكَفَّنُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصْلَبُ، وَيُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِالصَّلْبِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَصْلِيبٌ).
ضَمَانُ الْمَالِ وَالْجِرَاحَاتِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ:
22- إِذَا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى الْمُحَارِبِ، فَهَلْ يُضْمَنُ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْمَالِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ لِلْجِرَاحَاتِ؟ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ:
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ مَالًا وَأُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ ضَمِنُوا الْمَالَ مُطْلَقًا.
ثُمَّ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآخِذِ فَقَطْ، لَا عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ وَلَمْ يُبَاشِرِ الْأَخْذَ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالُوا: لِأَنَّ وُجُودَ الضَّمَانِ لَيْسَ بِحَدٍّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْمُبَاشِرِ لَهُ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنًا لِلْمَالِ الْمَأْخُوذِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُمْ كَالْحُمَلَاءِ (الْكُفَلَاءِ) فَكُلُّ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أُخِذَ بِجَمِيعِ مَا أَخَذَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِتَقَوِّي بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَمَنْ دَفَعَ أَكْثَر مِمَّا أَخَذَ يَرْجِعُ عَلَى أَصْحَابِهِ.
أَمَّا الْجِرَاحَاتُ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا جَرَحَ جَرْحًا فِيهِ قَوَدٌ فَانْدَمَلَ لَمْ يَتَحَتَّمْ بِهِ قِصَاصٌ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بَلْ يُتَخَيَّرُ الْمَجْرُوحُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّ التَّحَتُّمَ تَغْلِيظٌ لِحَقِّ اللَّهِ، فَاخْتُصَّ بِالنَّفْسِ كَالْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَرْعِ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْمُحَارِبِ بِالْجِرَاحِ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِأَحْمَدَ: يَتَحَتَّمُ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالنَّفْسِ لِأَنَّ الْجِرَاحَ تَابِعَةٌ لِلْقَتْلِ فَيَثْبُتُ فِيهَا مِثْلُ حُكْمِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَتَحَتَّمُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَسْتَحِقَّانِ فِي الْمُحَارَبَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا.
أَمَّا إِذَا سَرَى الْجُرْحُ إِلَى النَّفْسِ فَمَاتَ الْمَجْرُوحُ يَتَحَتَّمُ الْقَتْلُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ مَالًا وَأُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا رَدُّوهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا لَا يَضْمَنُونَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْحَدِّ وَالضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ سَوَاءٌ كَانَتْ خَطَأً أَمْ عَمْدًا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ خَطَأً، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ مَعَ إِقَامَةِ الْحَدِّ فَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ.
مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحِرَابَةُ:
23- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ جَرِيمَةَ الْحِرَابَةِ تَثْبُتُ قَضَاءً بِالْإِقْرَارِ، أَوْ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ.وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الرُّفْقَةِ فِي الْحِرَابَةِ، فَإِذَا شَهِدَ عَلَى الْمُحَارِبِ اثْنَانِ مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ لِغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِأَنْفُسِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِمَا مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ بَحَثَ لَمْ يَلْزَمْهُمُ الْإِجَابَةُ، أَمَّا إِذَا تَعَرَّضُوا لِأَنْفُسِهِمَا بِأَنْ يَقُولَا: قَطَعُوا عَلَيْنَا الطَّرِيقَ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَنَا لَمْ يُقْبَلَا، لَا فِي حَقِّهِمَا وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لِلْعَدَاوَةِ.وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَتُقْبَلُ عِنْدَهُ فِي الْحِرَابَةِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ.حَتَّى لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ اشْتُهِرَ بِالْحِرَابَةِ أَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَهِرُ بِالْحِرَابَةِ تَثْبُتُ الْحِرَابَةُ بِشَهَادَتِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُعَايِنَاهُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (شَهَادَةٌ وَإِقْرَارٌ).
سُقُوطُ عُقُوبَةِ الْحِرَابَةِ:
24- يَسْقُطُ حَدُّ الْحِرَابَةِ عَنِ الْمُحَارِبِينَ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي شَأْنِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَقًّا لِلَّهِ، وَهُوَ تَحَتُّمُ الْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ، وَالْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ، وَالنَّفْيِ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.فَيَغْرَمُونَ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْمَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا، وَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ إِذَا قَتَلُوا عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، وَلَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِعَفْوِ مُسْتَحِقِّ الْحَقِّ فِي مَالٍ أَوْ قِصَاصٍ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
90-موسوعة الفقه الكويتية (دفن)
دَفْنٌالتَّعْرِيفُ:
1- الدَّفْنُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْمُوَارَاةِ وَالسَّتْرِ.يُقَالُ: دَفَنَ الْمَيِّتَ وَارَاهُ، وَدَفَنَ سِرَّهُ: أَيْ كَتَمَهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مُوَارَاةُ الْمَيِّتِ فِي التُّرَابِ
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- دَفْنُ الْمُسْلِمِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِجْمَاعًا إِنْ أَمْكَنَ.وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ: تَوَارُثُ النَّاسِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ- عليه السلام- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مَعَ النَّكِيرِ عَلَى تَارِكِهِ.
وَأَوَّلُ مَنْ قَامَ بِالدَّفْنِ هُوَ قَابِيلُ الَّذِي أَرْشَدَهُ اللَّهُ إِلَى دَفْنِ أَخِيهِ هَابِيلَ لِمَا جَاءَ فِي (({فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعْجَزْتُ أَنْأَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِفَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِيفَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}.
وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ: كَمَا لَوْ مَاتَ فِي سَفِينَةٍ، غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنَ الْبَرِّ.وَتَقْدِيرُ الْقُرْبِ: بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَرِّ مُدَّةٌ لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْمَيِّتُ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُثَقَّلُ بِشَيْءٍ لِيَرْسُبَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُثَقَّلُ إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِلاَّ يُرْبَطُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ لِيَحْمِلَهُ الْبَحْرُ إِلَى السَّاحِلِ، فَرُبَّمَا وَقَعَ إِلَى قَوْمٍ يَدْفِنُونَهُ.
أَفْضَلُ مَكَانٍ لِلدَّفْنِ:
3- الْمَقْبَرَةُ أَفْضَلُ مَكَانٍ لِلدَّفْنِ، وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ، وَلِنَيْلِ دُعَاءِ الطَّارِقِينَ، وَفِي أَفْضَلِ مَقْبَرَةٍ بِالْبَلَدِ أَوْلَى.وَإِنَّمَا دُفِنَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ.
وَيُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الدَّارِ وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ صَغِيرًا.وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَلِكَ الدَّفْنُ فِي مَدْفَنٍ خَاصٍّ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَبْنِي مَدْرَسَةً وَنَحْوَهَا وَيَبْنِي لَهُ بِقُرْبِهِ مَدْفَنًا.
وَأَمَّا الدَّفْنُ فِي الْمَسَاجِدِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ دَفْنُ الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَحْرُمُ دَفْنُهُ فِي مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ كَمَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ؛ لِتَعْيِينِ الْوَاقِفِ الْجِهَةَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَيُنْبَشُ عِنْدَهُمْ مَنْ دُفِنَ بِمَسْجِدٍ تَدَارُكًا لِلْعَمَلِ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ.كَمَا يَحْرُمُ دَفْنُهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنِ رَبِّهِ لِلْعُدْوَانِ، وَلِلْمَالِكِ إِلْزَامُ دَافِنِهِ بِإِخْرَاجِهِ وَنَقْلِهِ؛ لِيَفْرُغَ لَهُ مِلْكُهُ عَمَّا شَغَلَهُ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.وَالْأَوْلَى لَهُ تَرْكُهُ حَتَّى يَبْلَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ.
نَقْلُ الْمَيِّتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ:
4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمَيِّتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بَعْدَ الدَّفْنِ مُطْلَقًا.وَأَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِجَوَازِهِ إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ رَدَّهُ فَقَالَ نَقْلًا عَنِ الْفَتْحِ: اتِّفَاقُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي امْرَأَةٍ دُفِنَ ابْنُهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا فَلَمْ تَصْبِرْ، وَأَرَادَتْ نَقْلَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسَعُهَا ذَلِكَ، فَتَجْوِيزُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا نَقْلُ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ- عليهما السلام- مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ؛ لِيَكُونَا مَعَ آبَائِهِمَا الْكِرَامِ فَهُوَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَتَوَفَّرْ فِيهِ شُرُوطُ كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا.
وَأَمَّا قَبْلَ دَفْنِهِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِنَقْلِهِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ إِلَى مَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَقَيَّدَهُ مُحَمَّدٌ بِقَدْرِ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمَيِّتِ قَبْلَ الدَّفْنِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ إِلاَّ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ.وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْحَبَشَةِ، فَحُمِلَ إِلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَتَتْ قَبْرَهُ، ثُمَّ قَالَتْ: «وَاللَّهِ لَوْ حَضَرْتُكَ مَا دُفِنْتَ إِلاَّ حَيْثُ مِتَّ، وَلَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ».
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ لِمُؤْنَتِهِ، وَأَسْلَمُ لَهُ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ جَازَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: لَا أُحِبُّهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ مَكَّةَ، أَوِ الْمَدِينَةِ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.فَيُخْتَارُ أَنْ يُنْقَلَ إِلَيْهَا لِفَضْلِ الدَّفْنِ فِيهَا، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُكْرَهُ نَقْلُهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَآخَرُونَ: يَحْرُمُ نَقْلُهُ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ نَقْلُ الْمَيِّتِ قَبْلَ الدَّفْنِ وَكَذَا بَعْدَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بِشُرُوطٍ هِيَ:
- أَنْ لَا يَنْفَجِرَ حَالَ نَقْلِهِ
- أَنْ لَا تُنْتَهَكَ حُرْمَتُهُ
- وَأَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ: كَأَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ الْبَحْرُ، أَوْ تُرْجَى بَرَكَةُ الْمَوْضِعِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ، أَوْ لِيُدْفَنَ بَيْنَ أَهْلِهِ، أَوْ لِأَجْلِ قُرْبِ زِيَارَةِ أَهْلِهِ، أَوْ دَفْنِ مَنْ أَسْلَمَ بِمَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ، فَيُتَدَارَكُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهَا، وَدَفْنِهِ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ.فَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ كَانَ النَّقْلُ حَرَامًا.
وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ يُسْتَحَبُّ دَفْنُهُ حَيْثُ قُتِلَ.لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَصَارِعِهِمْ».وَأَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْحَدِيدُ وَالسِّلَاحُ، وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ خُفَّاهُ، وَقَلَنْسُوَتُهُ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ».وَدَفْنُ الشَّهِيدِ بِثِيَابِهِ حَتْمٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ، وَيُكَفِّنَهُ بِغَيْرِهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهِيد) (وَتَكْفِين).
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْكَافِرَ إِنْ مَاتَ فِي الْحِجَازِ، وَشَقَّ نَقْلُهُ مِنْهُ لِتَقَطُّعِهِ، أَوْ بُعْدِ الْمَسَافَةِ مِنْ غَيْرِ الْحِجَازِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ دُفِنَ ثَمَّ، أَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَا يَجِبُ دَفْنُهُ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ دُفِنَ فَيُتْرَكُ.
وَأَمَّا فِي حَرَمِ مَكَّةَ فَيُنْقَلُ مِنْهُ وَلَوْ دُفِنَ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ غَيْرُ قَابِلٍ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنٍ مِنَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ لَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ.وَلِأَنَّ بَقَاءَ جِيفَتِهِ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ دُخُولِهِ حَيًّا إِلاَّ إِذَا تَهَرَّى وَتَقَطَّعَ بَعْدَ دَفْنِهِ تُرِكَ.وَلَيْسَ حَرَمُ الْمَدِينَةِ كَحَرَمِ مَكَّةَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِاخْتِصَاصِ حَرَمِ مَكَّةَ بِالنُّسُكِ.
دَفْنُ الْأَقَارِبِ فِي مَقْبَرَةٍ وَاحِدَةٍ:
5- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُ الْأَقَارِبِ فِي الدَّفْنِ فِي مَقْبَرَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ: «أَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي».وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ لِزِيَارَتِهِمْ وَأَكْثَرُ لِلتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ، وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ الْأَبِ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِ فِي السِّنِّ وَالْفَضِيلَةِ إِنْ أَمْكَنَ.
الْأَحَقُّ بِالدَّفْنِ:
6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِدَفْنِ الْمَرْأَةِ مَحَارِمُهَا الرِّجَالُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ يَحِلُّ لَهُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا وَلَهَا السَّفَرُ مَعَهُمْ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَامَ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ- رضي الله عنها-، فَقَالَ: أَلَا إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى النِّسْوَةِ مَنْ يُدْخِلُهَا قَبْرَهَا، فَأَرْسَلْنَ: مَنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا، فَرَأَيْتُ أَنْ قَدْ صَدَقْنَ.
وَلِأَنَّ امْرَأَةَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- لَمَّا تُوُفِّيَتْ قَالَ لِأَهْلِهَا: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا.وَلِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِوِلَايَتِهَا حَالَ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ زَوْجُهَا؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِمَحْرَمِهَا مِنَ النَّسَبِ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ فَلَا بَأْسَ لِلْأَجَانِبِ وَضْعُهَا فِي قَبْرِهَا، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى إِحْضَارِ النِّسَاءِ لِلدَّفْنِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ مَاتَتِ ابْنَتُهُ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ، فَنَزَلَ فِي قَبْرِ ابْنَتِهِ».وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَارِمَهَا كُنَّ هُنَاكَ، كَأُخْتِهَا فَاطِمَةَ وَلِأَنَّ تَوَلِّيَ النِّسَاءِ لِذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَفُعِلَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَصْرِ خُلَفَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ.ثُمَّ يُقَدَّمُ خَصِيٌّ، ثُمَّ شَيْخٌ، ثُمَّ أَفْضَلُ دِينًا وَمَعْرِفَةً.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُدْخِلَهَا النِّسَاءُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَهُنَّ أَحَقُّ بِغُسْلِهَا، الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى كَالرِّجَالِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ الزَّوْجَ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَنْظُورَهُ أَكْثَرُ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَيَضَعُهُ فِي قَبْرِهِ الرِّجَالُ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَيَتَوَلَّى ذَلِكَ زَوْجُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَمَحَارِمُهَا مِنْ أَعْلَاهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَصَالِحُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ وُجِدَ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْأَجَانِبِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْأَوْلَى بِدَفْنِ الرِّجَالِ أَوْلَاهُمْ بِغُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْزِلُ الْقَبْرَ إِلاَّ الرِّجَالُ مَتَى وُجِدُوا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَحَدَهُ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَأُسَامَةُ- رضي الله عنهم-، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا تَوَلَّوْا غُسْلَهُ وَلِأَنَّ الْمُقَدَّمَ بِغُسْلِهِ أَقْرَبُ إِلَى سَتْرِ أَحْوَالِهِ، وَقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ، ثُمَّ ذَوُو أَرْحَامِهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، ثُمَّ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ، ثُمَّ مِنْ مَحَارِمِهِ مِنَ النِّسَاءِ، ثُمَّ الْأَجْنَبِيَّاتُ لِلْحَاجَةِ إِلَى دَفْنِهِ وَعَدَمِ غَيْرِهِنَّ.
أَمَّا دَفْنُ الْقَاتِلِ لِلْمَقْتُولِ: فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي دَفْنِهِ لِمُبَالَغَتِهِ فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ.
دَفْنُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ
7- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفِنَ كَافِرًا وَلَوْ قَرِيبًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُوَارِيهِ غَيْرَهُ فَيُوَارِيهِ وُجُوبًا.لِأَنَّهُ «- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أُخْبِرَ بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه-: اذْهَبْ فَوَارِهِ» وَكَذَلِكَ قَتْلَى بَدْرٍ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِهِ وَيَتَغَيَّرُ بِبَقَائِهِ.وَلَا يُسْتَقْبَلُ بِهِ قِبْلَتَنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا قِبْلَتَهُمْ؛ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا، فَلَا يُقْصَدُ جِهَةٌ مَخْصُوصَةٌ، بَلْ يَكُونُ دَفْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ السُّنَّةِ.
وَكَذَلِكَ لَا يُتْرَكُ مَيِّتٌ مُسْلِمٌ لِوَلِيِّهِ الْكَافِرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ، إِذْ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ دَفْنِهِ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَاسْتِقْبَالِهِ قِبْلَتَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
كَيْفِيَّةُ الدَّفْنِ:
8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ بِأَنْ يُوضَعَ مِنْ جِهَتِهَا، ثُمَّ يُحْمَلَ فَيُلْحَدَ، فَيَكُونَ الْآخِذُ لَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَالَ الْأَخْذِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.وَقَالَ النَّخَعِيُّ: حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يُدْخِلُونَ مَوْتَاهُمْ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَأَنَّ السَّلَّ شَيْءٌ أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ كَانَ وَالْقِبْلَةُ أَوْلَى.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّلُّ، بِأَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ عِنْدَ آخِرِ الْقَبْرِ ثُمَّ يُسَلُّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ مُنْحَدِرًا.وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا»
وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ هُنَا خِلَافٌ فِي الْأَوْلَى، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ الْأَسْهَلُ عَلَيْهِمْ أَخْذَهُ مِنَ الْقِبْلَةِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْقَبْرِ فَلَا حَرَجَ؛ لِأَنَّ اسْتِحْبَابَ أَخْذِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْقَبْرِ إِنَّمَا كَانَ طَلَبًا لِلسُّهُولَةِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْأَسْهَلُ غَيْرَهُ كَانَ مُسْتَحَبًّا، قَالَ أَحْمَدُ- رحمه الله-: كُلٌّ لَا بَأْسَ بِهِ.
ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَقُولُ وَاضِعُهُ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَدْخَلَ الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ، قَالَ مَرَّةً: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ.وَقَالَ مَرَّةً: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».
وَمَعْنَى بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ: بِسْمِ اللَّهِ وَضَعْنَاكَ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ سَلَّمْنَاكَ.
وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: هَذَا لَيْسَ دُعَاءً لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ عَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَدَّلَ حَالُهُ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُبَدَّلْ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، فَيَشْهَدُونَ بِوَفَاةِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمِلَّةِ، وَعَلَى هَذَا جَرَتِ السُّنَّةُ. وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخْرَى ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
ثُمَّ تُحَلُّ عُقَدُ الْكَفَنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ، وَتُسَدُّ الْفُرَجُ بِالْمَدَرِ وَالْقَصَبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَيْ لَا يَنْزِلَ التُّرَابُ مِنْهَا عَلَى الْمَيِّتِ، وَيُكْرَهُ وَضْعُ الْآجُرِّ الْمَطْبُوخِ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ رَخْوَةً؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلزِّينَةِ، وَلَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ.قَالَ مَشَايِخُ بُخَارَى: لَا يُكْرَهُ الْآجُرُّ فِي بِلَادِنَا لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِضَعْفِ الْأَرَاضِي، وَكَذَلِكَ الْخَشَبُ.
وَيُسْتَحَبُّ حَثْيُهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا: لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا».وَيَقُولُ فِي الْحَثْيَةِ الْأُولَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ}، وَفِي الثَّانِيَةِ: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}، وَفِي الثَّالِثَةِ: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}.
وَقِيلَ: يَقُولُ فِي الْأُولَى: اللَّهُمَّ جَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ أَبْوَابَ السَّمَاءِ لِرُوحِهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ: اللَّهُمَّ زَوِّجْهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَلِلْمَرْأَةِ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهَا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِكَ. ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ عَلَيْهِ، وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ.
وَيَحْرُمُ أَنْ يُوضَعَ تَحْتَ الْمَيِّتِ عِنْدَ الدَّفْنِ مِخَدَّةٌ أَوْ حَصِيرٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِتْلَافُ مَالٍ بِلَا ضَرُورَةٍ، بَلِ الْمَطْلُوبُ كَشْفُ خَدِّهِ، وَالْإِفْضَاءُ إِلَى التُّرَابِ اسْتِكَانَةً وَتَوَاضُعًا، وَرَجَاءً لِرَحْمَةِ اللَّهِ.وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ «جُعِلَ فِي قَبْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- قَطِيفَةٌ» قِيلَ: لِأَنَّ الْمَدِينَةَ سَبِخَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَبَّاسَ وَعَلِيًّا- رضي الله عنهما- تَنَازَعَا فَبَسَطَهَا شَقْرَانُ تَحْتَهُ؛ لِقَطْعِ التَّنَازُعِ.وَقِيلَ: كَانَ- عليه الصلاة والسلام- يَلْبَسُهَا وَيَفْتَرِشُهَا، فَقَالَ شَقْرَانُ: وَاللَّهِ لَا يَلْبَسُكِ أَحَدٌ بَعْدَهُ أَبَدًا فَأَلْقَاهَا فِي الْقَبْرِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ لِيَكُونَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ، بَلْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَرِهَ أَنْ يُلْقَى تَحْتَ الْمَيِّتِ شَيْءٌ عِنْدَ الدَّفْنِ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: (لَا تَجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْئًا). وَلَا تَعْيِينَ فِي عَدَدِ مَنْ يَدْخُلُ الْقَبْرَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَدَدُهُمْ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمَيِّتِ، وَحَاجَتِهِ، وَمَا هُوَ أَسْهَلُ فِي أَمْرِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَلْحَدَهُ ثَلَاثَةٌ.
وَلَوْ مَاتَ أَقَارِبُ الشَّخْصِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَأَمْكَنَهُ دَفْنُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي قَبْرٍ، بَدَأَ بِمَنْ يُخْشَى تَغَيُّرُهُ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فِي التَّغْيِيرِ، فَإِنْ لَمْ يُخْشَ تَغَيُّرٌ بَدَأَ بِأَبِيهِ، ثُمَّ أُمِّهِ، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، فَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ فَأَكْبَرُهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا زَوْجَتَيْنِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا.
أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي الدَّفْنِ
9- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ فِي الدَّفْنِ حُفْرَةٌ تَكْتُمُ رَائِحَةَ الْمَيِّتِ، وَتَحْرُسُهُ عَنِ السِّبَاعِ؛ لِعُسْرِ نَبْشِ مِثْلِهَا غَالِبًا، وَقُدِّرَ الْأَقَلُّ بِنِصْفِ الْقَامَةِ، وَالْأَكْثَرُ بِالْقَامَةِ، وَيُنْدَبُ عَدَمُ تَعْمِيقِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ وَإِنْ كَانَ النَّدْبُ عَدَمَ عُمْقِهِ.
وَيَجُوزُ الدَّفْنُ فِي الشَّقِّ وَاللَّحْدِ، فَاللَّحْدُ: أَنْ يُحْفَرَ حَائِطُ الْقَبْرِ مَائِلًا عَنِ اسْتِوَائِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ قَدْرَ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ.وَالشَّقُّ: أَنْ يُحْفَرَ وَسَطُهُ كَالنَّهْرِ، وَيُسَقَّفَ.فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ صُلْبَةً فَاللَّحْدُ أَفْضَلُ، وَإِلاَّ فَالشَّقُّ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: «قَبْر».
تَغْطِيَةُ الْقَبْرِ حِينَ الدَّفْنِ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَغْطِيَةُ قَبْرِ الْمَرْأَةِ حِينَ الدَّفْنِ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَرَاهُ الْحَاضِرُونَ، وَبِنَاءُ أَمْرِهَا عَلَى السِّتْرِ، وَالْخُنْثَى فِي ذَلِكَ كَالْأُنْثَى احْتِيَاطًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْطِيَةِ قَبْرِ الرَّجُلِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَغْطِيَةُ قَبْرِ الرَّجُلِ إِلاَّ لِعُذْرٍ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ وَقَدْ دَفَنُوا مَيِّتًا، وَقَدْ بَسَطُوا عَلَى قَبْرِهِ الثَّوْبَ، فَجَذَبَهُ وَقَالَ: إِنَّمَا يُصْنَعُ هَذَا بِالنِّسَاءِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنِ اتِّبَاعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَالْمَرْأَةُ آكَدُ.لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَنْكَشِفُ عِنْدَ الِاضْطِجَاعِ وَحَلِّ الشِّدَادِ، فَيَظْهَرُ مَا يُسْتَحَبُّ إِخْفَاؤُهُ.
اتِّخَاذُ التَّابُوتِ:
11- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي التَّابُوتِ إِلاَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَرَخَاوَةِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَرْضُ أَنْشَفُ لِفَضَلَاتِهِ.وَلِأَنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ الْمَالِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِاتِّخَاذِ التَّابُوتِ لَهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى السِّتْرِ، وَالتَّحَرُّزِ عَنْ مَسِّهَا عِنْدَ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ.
الدَّفْنُ لَيْلًا وَفِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الدَّفْنُ لَيْلًا؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- دُفِنَ لَيْلًا، وَعَلِيٌّ دَفَنَ فَاطِمَةَ- رضي الله عنها- لَيْلًا، وَمِمَّنْ دُفِنَ لَيْلًا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهما-.وَرَخَّصَ فِيهِ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَلَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ نَهَارًا إِنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عَلَى مُتَّبِعِي الْجِنَازَةِ، وَأَكْثَرُ لِلْمُصَلِّينَ عَلَيْهَا، وَأَمْكَنُ لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي دَفْنِهِ.
وَكَرِهَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْحَسَنُ؛ لِمَا وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ، وَقُبِرَ لَيْلًا، فَزَجَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِيهِ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ إِلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ».
أَمَّا الدَّفْنُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الدَّفْنُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَعِنْدَ قِيَامِهَا لِقَوْلِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الدَّفْنُ فِي غَيْرِهَا أَفْضَلَ.
الدَّفْنُ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَبِلَا كَفَنٍ:
13- إِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ يُنْبَشُ وَيُغَسَّلُ، إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَفَسَّخَ، فَيُتْرَكُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ لَا يُنْبَشُ لِأَنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نَبْش).
أَمَّا إِنْ دُفِنَ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهَا الْقَاضِي أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ وَلَا يُنْبَشُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى قَبْرِ الْمِسْكِينَةِ.وَلَمْ يَنْبُشْهَا»، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُنْبَشُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دُفِنَ قَبْلَ وَاجِبٍ فَيُنْبَشُ، كَمَا لَوْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، أَمَّا إِنْ تَغَيَّرَ فَلَا يُنْبَشُ بِحَالٍ.
وَإِنْ دُفِنَ بِغَيْرِ كَفَنٍ، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يُتْرَكُ اكْتِفَاءً بِسِتْرِ الْقَبْرِ، وَحِفْظًا؛ لِحُرْمَتِهِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْكَفَنِ السَّتْرُ وَقَدْ حَصَلَ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُنْبَشُ، ثُمَّ يُكَفَّنُ، ثُمَّ يُدْفَنُ لِأَنَّ التَّكْفِينَ وَاجِبٌ فَأَشْبَهَ الْغُسْلَ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (كَفَن).
دَفْنُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ:
14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ كَضِيقِ مَكَانٍ، أَوْ تَعَذُّرِ حَافِرٍ، أَوْ تُرْبَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَدْفِنُ كُلَّ مَيِّتٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ» وَعَلَى هَذَا فِعْلُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
فَإِذَا دُفِنَ جَمَاعَةٌ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ: قُدِّمَ الْأَفْضَلُ مِنْهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فِي الْفَضِيلَةِ عَلَى حَسَبِ تَقْدِيمِهِمْ إِلَى الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ لِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْحَفْرُ عَلَيْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ شَدِيدٌ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: احْفِرُوا وَأَعْمِقُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، قَالُوا: فَمَنْ نُقَدِّمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا».
ثُمَّ إِنْ شَاءَ سَوَّى بَيْنَ رُءُوسِهِمْ، إِنْ شَاءَ حَفَرَ قَبْرًا طَوِيلًا، وَجَعَلَ رَأْسَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْتَى عِنْدَ رِجْلِ الْآخَرِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ أَحْمَدُ.
وَيُجْعَلُ بَيْنَ مَيِّتٍ وَآخَرَ حَاجِزٌ مِنْ تُرَابٍ وَيُقَدَّمُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ، إِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، وَكَذَا تُقَدَّمُ الْأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ.
وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ إِلاَّ عِنْدَ تَأَكُّدِ الضَّرُورَةِ، وَيُقَدَّمُ الرَّجُلُ وَإِنْ كَانَ ابْنًا.
فَإِنِ اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَخُنْثَى وَصَبِيٌّ، قُدِّمَ الرَّجُلُ، ثُمَّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ الْخُنْثَى، ثُمَّ الْمَرْأَةُ.
وَلِذَلِكَ فَيُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الْفَسَاقِي، وَهِيَ كَبَيْتٍ مَعْقُودٍ بِالْبِنَاءِ يَسَعُ لِجَمَاعَةٍ قِيَامًا لِمُخَالَفَتِهَا السُّنَّةَ، وَالْكَرَاهَةُ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ وَهِيَ:
عَدَمُ اللَّحْدِ، وَدَفْنُ الْجَمَاعَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَاخْتِلَاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ بِلَا حَاجِزٍ، وَتَجْصِيصُهَا وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا، وَخُصُوصًا إِذَا كَانَ فِيهَا مَيِّتٌ لَمْ يُبْلَ، وَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْحَفَّارِينَ مِنْ نَبْشِ الْقُبُورِ الَّتِي لَمْ تُبْلَ أَرْبَابُهَا، وَإِدْخَالُ أَجَانِبَ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ مِنَ الْمُنْكَرِ الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ مِنَ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ لِدَفْنِ مَيِّتَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا صَارَ الْمَيِّتُ تُرَابًا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ.
دَفْنُ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ:
15- إِذَا وُجِدَتْ أَطْرَافُ مَيِّتٍ، أَوْ بَعْضُ بَدَنِهِ لَمْ يُغَسَّلْ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بَلْ يُدْفَنُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ عُضْوُ مُسْلِمٍ عُلِمَ مَوْتُهُ يَجِبُ مُوَارَاتُهُ بِخِرْقَةٍ وَدَفْنُهُ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ مَوْتُ صَاحِبِ الْعُضْوِ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، لَكِنْ يُنْدَبُ دَفْنُهُ، وَيَجِبُ فِي دَفْنِ الْجُزْءِ مَا يَجِبُ فِي دَفْنِ الْجُمْلَةِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ وُجِدَ جُزْءُ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ غُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْقَبْرِ، أَوْ نُبِشَ بَعْضُ الْقَبْرِ وَدُفِنَ فِيهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى كَشْفِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ نَبْشِ الْمَيِّتِ وَكَشْفِهِ أَعْظَمُ مِنَ الضَّرَرِ بِتَفْرِقَةِ أَجْزَائِهِ.
دَفْنُ الْمُسْلِمِ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ وَعَكْسُهُ:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ دَفْنُ مُسْلِمٍ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَعَكْسُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.أَمَّا لَوْ جُعِلَتْ مَقْبَرَةُ الْكُفَّارِ الْمُنْدَرِسَةُ مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نَقْلِ عِظَامِهَا إِنْ كَانَتْ جَازَ، كَجَعْلِهَا مَسْجِدًا؛ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِمْ.وَالدَّفْنُ فِي غَيْرِ مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ الْمُنْدَرِسَةِ أَوْلَى إِنْ أَمْكَنَ، تَبَاعُدًا عَنْ مَوَاضِعِ الْعَذَابِ.وَلَا يَجُوزُ الْعَكْسُ، بِأَنْ تُجْعَلَ مَقْبَرَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْدَرِسَةُ مَقْبَرَةً لِلْكُفَّارِ، وَلَا نَقْلُ عِظَامِ الْمُسْلِمِينَ لِتُدْفَنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لِاحْتِرَامِهَا.
أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَقَدْ ذَكَرَ الْإِسْنَوِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِخُرُوجِهِ بِالرِّدَّةِ عَنْهُمْ، وَلَا فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا مَنْ قُتِلَ حَدًّا فَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ تَارِكُ الصَّلَاةِ.
دَفْنُ كَافِرَةٍ حَامِلٍ مِنْ مُسْلِمٍ:
17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دَفْنِ كَافِرَةٍ حَامِلٍ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْأَحْوَطَ دَفْنُهَا عَلَى حِدَةٍ، وَيُجْعَلُ ظَهْرُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الْوَلَدِ لِظَهْرِهَا.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ لِذَلِكَ بِأَنَّهَا كَافِرَةٌ، فَلَا تُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَذَّوْا بِعَذَابِهَا، وَلَا فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا مُسْلِمٌ، فَيَتَأَذَّى بِعَذَابِهِمْ، وَتُدْفَنُ مُنْفَرِدَةً، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ صُنْدُوقِ الْوَلَدِ، وَقِيلَ: فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ رَابِعٌ قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» بِأَنَّهَا تُدْفَنُ عَلَى طَرَفِ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى أَهْلِ دِينِهَا؛ لِيَتَوَلَّوْا غُسْلَهَا وَدَفْنَهَا.
وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِنَا تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا مَا دَامَ فِي بَطْنِهَا، وَقَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ: يُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهُوَ مَا أَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ الْأَحْوَطُ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْحِلْيَةِ.وَالظَّاهِرُ كَمَا أَفْصَحَ بِهِ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِيمَا إِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ وَإِلاَّ دُفِنَتْ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ.
الْجُلُوسُ بَعْدَ الدَّفْنِ:
18- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ الْمُشَيِّعُونَ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ لِدُعَاءٍ وَقِرَاءَةٍ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ الْجَزُورُ، وَيُفَرَّقُ لَحْمُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ».وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتَهَا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ- رضي الله عنه- لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: اجْلِسُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقَسَّمُ، فَإِنِّي أَسْتَأْنِسُ بِكُمْ. أُجْرَةُ الدَّفْنِ:
19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ، وَلَكِنِ الْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ مَجَّانًا، وَتُدْفَعُ مِنْ مَجْمُوعِ التَّرِكَةِ، وَتُقَدَّمُ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ دَيْنٍ.وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِالْأَجْرِ.
دَفْنُ السِّقْطِ:
20- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ السِّقْطَ إِذَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ يَجِبُ أَنْ يُدْرَجَ فِي خِرْقَةٍ وَيُدْفَنَ.
دَفْنُ الشَّعْرِ وَالْأَظَافِرِ وَالدَّمِ:
21- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْفَنَ مَا يُزِيلُهُ الشَّخْصُ مِنْ ظُفْرٍ وَشَعْرٍ وَدَمٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مِيلَ بِنْتِ مِشْرَحٍ الْأَشْعَرِيَّةِ، قَالَتْ: «رَأَيْتُ أَبِي يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ، وَيَدْفِنُهُ وَيَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُ ذَلِكَ» وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كَانَ يُعْجِبُهُ دَفْنُ الدَّمِ».
وَقَالَ أَحْمَدُ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.وَكَذَلِكَ تُدْفَنُ الْعَلَقَةُ وَالْمُضْغَةُ الَّتِي تُلْقِيهَا الْمَرْأَةُ.
دَفْنُ الْمُصْحَفِ:
22- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُصْحَفَ إِذَا صَارَ بِحَالٍ لَا يُقْرَأُ فِيهِ، يُدْفَنُ كَالْمُسْلِمِ، فَيُجْعَلُ فِي خِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ، وَيُدْفَنُ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مُمْتَهَنٍ لَا يُوطَأُ، وَفِي الذَّخِيرَةِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَدَ لَهُ وَلَا يُشَقَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى إِهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ نَوْعُ تَحْقِيرٍ إِلاَّ إِذَا جُعِلَ فَوْقَهُ سَقْفًا بِحَيْثُ لَا يَصِلُ التُّرَابُ إِلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ أَيْضًا.ذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّ أَبَا الْجَوْزَاءِ بَلِيَ لَهُ مُصْحَفٌ، فَحَفَرَ لَهُ فِي مَسْجِدِهِ، فَدَفَنَهُ.وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَفَنَ الْمَصَاحِفَ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ.أَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ فَالْأَحْسَنُ كَذَلِكَ أَنْ تُدْفَنَ.
الْقَتْلُ بِالدَّفْنِ:
23- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ مَنْ دُفِنَ حَيًّا فَمَاتَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ.وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
91-موسوعة الفقه الكويتية (زكاة 9)
زَكَاة -9مَا يَنْبَغِي لِمُخْرِجِ الزَّكَاةِ مُرَاعَاتُهُ فِي الْإِخْرَاجِ:
133- أ- يُسْتَحَبُّ لِلْمُزَكِّي إِخْرَاجُ الْجَيِّدِ مِنْ مَالِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّهِ الْوَسَطُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَاتَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} وَقَوْلِهِ: {لَنْتَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}.
134- ب- إِظْهَارُ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَإِعْلَانُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُلُ عَلَانِيَتَهَا، يُقَالُ: بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتَهَا أَفْضَلَ مِنْ سِرِّهَا، يُقَالُ: بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، قَالَ: وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ إِظْهَارَ الْوَاجِبِ أَفْضَلُ.ا هـ.وَأَمَّا قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُواالصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فَهُوَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، نَظِيرُهَا الصَّلَاةُ، تَطَوُّعُهَا فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ، وَفَرِيضَتُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ.
135- ج- الْحَذَرُ مِنَ الْمَنِّ وَالرِّيَاءِ وَالْأَذَى، وَهَذِهِ الْأُمُورُ مُحَرَّمَةٌ فِي كُلِّ مَا يُخْرَجُ مِنَ الْمَالِ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُحْبِطُ الْأَجْرَ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُواصَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}.وَمِنْ هُنَا اسْتَحَبَّ الْمَالِكِيَّةُ لِلْمُزَكِّي أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يُخْرِجُهَا خَوْفَ قَصْدِ الْمَحْمَدَةِ.
ج- اخْتِيَارُ الْمُزَكِّي مَنْ يُعْطِيهِ الزَّكَاةَ:
136- إِعْطَاءُ الْمُسْتَحِقِّينَ الزَّكَاةَ لَيْسَ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْفَضْلِ، بَلْ يَتَمَايَزُ.
فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُزَكِّي إِيثَارُ الْمُضْطَرِّ أَيِ الْمُحْتَاجِ، عَلَى غَيْرِهِ، بِأَنْ يُزَادَ فِي إِعْطَائِهِ مِنْهَا دُونَ عُمُومِ الْأَصْنَافِ.
د- أَنْ لَا يُخْبِرَ الْمُزَكِّي الْفَقِيرَ أَنَّهَا زَكَاةٌ:
137- قِيلَ لِأَحْمَدَ: يَدْفَعُ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ إِلَى الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: هَذَا مِنَ الزَّكَاةِ، أَوْ يَسْكُتُ؟ قَالَ: وَلِمَ يُبَكِّتْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ يُعْطِيهِ وَيَسْكُتُ، مَا حَاجَتُهُ إِلَى أَنْ يُقَرِّعَهُ؟ وَهَذَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ وَبِهِ صَرَّحَ اللَّقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ: لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ الْفَقِيرِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ شَيْئًا، كَالْهِبَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ.قَالَ: وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ إِذَا دَفَعَهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّ وَلَمْ يَقُلْ هِيَ زَكَاةٌ، وَلَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ أَصْلًا فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ وَتَقَعُ زَكَاةً.لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَعْطَاهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ فَبَانَ الْآخِذُ غَنِيًّا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ.
التَّوْكِيلُ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ:
138- يَجُوزُ لِلْمُزَكِّي أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي أَدَاءِ زَكَاتِهِ، سَوَاءٌ فِي إِيصَالِهَا لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، أَوْ فِي أَدَائِهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّ، سَوَاءٌ عَيَّنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحِقَّ أَوْ فَوَّضَ تَعْيِينَهُ إِلَى الْوَكِيلِ.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْمُزَكِّي الزَّكَاةَ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنَ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْثَقُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: التَّوْكِيلُ أَفْضَلُ خَشْيَةَ قَصْدِ الْمَحْمَدَةِ، وَيَجِبُ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ الْقَصْدَ، أَوْ يَجْهَلُ الْمُسْتَحِقِّينَ.قَالُوا: وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ صَرْفُهَا لِقَرِيبِ الْمُزَكِّي الَّذِي تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَتُهُ كُرِهَ.
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْوَكِيلُ بَالِغًا عَاقِلًا، جَازَ التَّفْوِيضُ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ سَفِيهًا لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ، إِلاَّ إِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ وَعَيَّنَ لَهُ مَنْ يُعْطِيهِ الْمَالَ.
تَلَفُ الْمَالِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ:
139- مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يُخْرِجْهَا ثُمَّ ضَاعَ الْمَالُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ، أَوْ تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِ الْمُزَكِّي فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَلِفَ الْمَالُ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنَ النِّصَابِ فَيَسْقُطُ بِهَلَاكِ مَحَلِّهِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ هَلَاكُهُ بَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي فَقِيلَ: يَضْمَنُ، وَقِيلَ: لَا يَضْمَنُ.
قَالُوا: وَإِذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ يَسْقُطُ مِنَ الزَّكَاةِ بِقَدْرِهِ أَيْ بِنِسْبَةِ مَا هَلَكَ.
وَقَالُوا: إِنْ تَلِفَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ مَا كَانَ بِهِ الْبَاقِي أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ بِلَا تَفْرِيطٍ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْأَدَاءُ وَفَرَّطَ ضَمِنَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ ضَيَاعُهُ بِتَفْرِيطِهِ فِي حِفْظِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ كُلِّ الْمَالِ، وَكَذَا إِنْ فَرَّطَ فِي الْإِخْرَاجِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ، بِأَنْ وَجَدَ الْمُسْتَحِقَّ، سَوَاءٌ طَلَبَ الزَّكَاةَ أَمْ لَمْ يَطْلُبْهَا، لِتَقْصِيرِهِ بِحَبْسِ الْحَقِّ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ.ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فَرَّطَ زَكَّى الْبَاقِيَ فَقَطْ بِقِسْطِهِ، وَلَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ، فَلَوْ مَلَكَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فَتَلِفَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ فَفِي الْبَاقِي 5/ 4 شَاةٍ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ كُلِّ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ ضَاعَ كُلُّهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَالزَّكَاةُ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَسْقُطُ إِلاَّ بِالْأَدَاءِ، لِأَنَّهَا حَقٌّ لِلْفُقَرَاءِ وَمَنْ مَعَهُمْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.
تَلَفُ الزَّكَاةِ بَعْدَ عَزْلِهَا:
140- لَوْ عَزَلَ الزَّكَاةَ وَنَوَى أَنَّهَا زَكَاةُ مَالِهِ فَتَلِفَتْ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ صُورَةَ مَا لَوْ عَزَلَ الزَّكَاةَ فَتَلِفَ الْمَالُ وَبَقِيَتِ الزَّكَاةُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا وَلَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: جَمْعُ الْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ لِلزَّكَاةِ:
141- لِلْإِمَامِ حَقُّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ (عَلَى خِلَافٍ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ يَأْتِي بَيَانُهُ).وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْخَلِيفَتَانِ بَعْدَهُ يَأْخُذُونَ الزَّكَاةَ مِنْ كُلِّ الْأَمْوَالِ، إِلَى أَنْ فَوَّضَ عُثْمَانُ- رضي الله عنه- فِي خِلَافَتِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ إِلَى مُلاَّكِهَا، كَمَا يَأْتِي.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ قوله تعالى لِنَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه-: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ.
وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ بَعْثُ السُّعَاةِ لِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا يَبْعَثُونَ السُّعَاةَ، وَلِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ الْمَالَ وَلَا يَعْرِفُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْخَلُ.وَالْوُجُوبُ هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}.
وَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا لِلْإِمَامِ فِي عَدَمِ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، إِنَّمَا هُوَ إِذَا عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُمْ أَخْرَجُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، أَمَّا لَوْ عَلِمَ أَنَّ إِنْسَانًا مِنَ النَّاسِ أَوْ جَمَاعَةً مِنْهُمْ لَا يُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَخْذُهَا مِنْهُمْ وَلَوْ قَهْرًا، كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ هَدْمٌ لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ.
حُكْمُ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ:
142- الْمُرَادُ بِالْإِمَامِ الْعَادِلِ هُنَا مَنْ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ بِحَقِّهَا، وَيُعْطِيهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، وَلَوْ كَانَ جَائِرًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ.
وَمَنْ دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ جَازَ، وَأَجْزَأَتْ عَنْهُ اتِّفَاقًا.
وَلَوْ كَانَ بِإِمْكَانِهِ دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ وَتَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَهُوَ الْقَدِيمُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ الزُّرُوعُ، وَالْمَوَاشِي، وَالْمَعَادِنِ، وَنَحْوِهَا، وَبَيْنَ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالتِّجَارَاتُ.
فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَيَجِبُ دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ طَالَبَهُمْ بِالزَّكَاةِ وَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهَا، وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا، فَلَيْسَ لِلْمُزَكِّي إِخْرَاجُهَا بِنَفْسِهِ، حَتَّى لَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا كَذَلِكَ لَمْ تُجْزِئْهُ.
وَلِأَنَّ مَا لِلْإِمَامِ قَبْضُهُ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إِلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ.
وَأَمَّا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلْإِمَامِ طَلَبُهَا، وَحَقُّهُ ثَابِتٌ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِلْآيَةِ.وَمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ- رضي الله عنه- أَنَّهُ فَوَّضَ إِلَى الْمُلاَّكِ زَكَاةَ الْمَالِ الْبَاطِنِ، فَهُمْ نُوَّابُهُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ طَلَبَ الْإِمَامِ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاتَهُمْ طَالَبَهُمْ بِهَا.فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَطْلُبْهَا لَمْ يَجِبِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: زَكَاةُ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مُفَوَّضَةٌ لِأَرْبَابِهَا، فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُوصِلَهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ وَسَائِرِ الْمُسْتَحِقِّينَ بِنَفْسِهِ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْجَدِيدُ الْمُعْتَمَدُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّ الدَّفْعَ إِلَى الْإِمَامِ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عَلَى السَّوَاءِ، فَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ صَرْفُهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ مُبَاشَرَةً، قِيَاسًا لِلظَّاهِرَةِ عَلَى الْبَاطِنَةِ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِيصَالَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ الْجَائِزِ تَصَرُّفُهُ، فَيُجْزِئُهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَ الدَّيْنَ إِلَى غَرِيمِهِ مُبَاشَرَةً، وَأَخْذُ الْإِمَامِ لَهَا إِنَّمَا هُوَ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنْ مُسْتَحِقِّهَا، فَإِذَا دَفَعَهَا إِلَيْهِمْ جَازَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ رُشْدٍ.
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ: الصَّرْفُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْمُسْتَحِقِّينَ، وَأَقْدَرُ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ، وَبِهِ يَبْرَأُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
ثُمَّ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَفْرِقَتُهَا بِنَفْسِهِ، أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ إِيصَالٌ لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَيَسْلَمُ عَنْ خَطَرِ الْخِيَانَةِ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ عُمَّالِهِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ مُبَاشَرَةَ تَفْرِيجِ كُرْبَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَفِيهِ تَوْفِيرٌ لِأَجْرِ الْعِمَالَةِ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ إِعْطَاءِ مَحَاوِيجِ أَقْرِبَائِهِ، وَذَوِي رَحِمِهِ، وَصِلَتِهِمْ بِهَا، إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَثِقْ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ دَفْعُهَا إِلَى السَّاعِي، لِئَلاَّ يَمْنَعَهُ الشُّحُّ مِنْ إِخْرَاجِهَا.
أَمَّا لَوْ طَلَبَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ الزَّكَاةَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا، وَالْخِلَافُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ جَمْعَ زَكَاةِ الْمَالِ الْبَاطِنِ لَا يُبِيحُ مَعْصِيَتَهُ فِي ذَلِكَ إِنْ طَلَبَهُ، لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَأَمْرُ الْإِمَامِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ كَحُكْمِ الْقَاضِي، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْإِمَامَ الْعَدْلَ إِنْ طَلَبَهَا فَادَّعَى الْمَالِكُ إِخْرَاجَهَا لَمْ يُصَدَّقْ.
دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى الْأَئِمَّةِ الْجَائِرِينَ، وَإِلَى الْبُغَاةِ:
143- إِنْ أَخَذَ الْإِمَامُ الْجَائِرُ الزَّكَاةَ قَهْرًا أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا.
وَكَذَا إِنْ أَكْرَهَ الْإِمَامُ الْمُزَكِّيَ فَخَافَ الضَّرَرَ إِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ، أَوْ عَلَى إِخْفَاءِ مَالِهِ، أَوْ إِنْكَارِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ حِينَئِذٍ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ عَنْ دَافِعِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَخَذَ الْخَوَارِجُ وَالسَّلَاطِينُ الْجَائِرُونَ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ كَزَكَاةِ السَّوَائِمِ وَالزُّرُوعِ وَمَا يَأْخُذُهُ الْعَاشِرُ، فَإِنْ صَرَفُوهُ فِي مَصَارِفِهِ الْمَشْرُوعَةِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَى الْمُزَكِّي، وَإِلاَّ فَعَلَى الْمُزَكِّي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِعَادَةُ إِخْرَاجِهَا.وَفِي حَالَةِ كَوْنِ الْآخِذِ لَهَا الْبُغَاةَ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطَالِبَ أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْمِهِمْ مِنَ الْبُغَاةِ، وَالْجِبَايَةُ بِالْحِمَايَةِ، وَيُفْتَى الْبُغَاةُ بِأَنْ يُعِيدُوا مَا أَخَذُوهُ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْبَاطِنَةُ فَلَا يَصِحُّ دَفْعُهَا إِلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ دَفَعَهَا إِلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ اخْتِيَارًا، فَدَفَعَهَا السُّلْطَانُ لِمُسْتَحِقِّهَا أَجْزَأَتْ عَنْهُ، وَإِلاَّ لَمْ تُجْزِئْهُ.فَإِنْ طَلَبَهَا الْجَائِرُ فَعَلَى رَبِّهَا جَحْدُهَا وَالْهَرَبُ بِهَا مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ أَكْرَهَهُ جَازَ.
وَهَذَا إِنْ كَانَ جَائِرًا فِي أَخْذِهَا أَوْ صَرْفِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الْبَاطِنَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ عَادِلًا فِيهَا وَجَائِرًا فِي غَيْرِهَا، فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَلَبَ الْإِمَامُ الْجَائِرُ زَكَاةَ الْمَالِ الْبَاطِنِ، فَصَرْفُهَا إِلَيْهِ أَفْضَلُ، وَكَذَا زَكَاةُ الْمَالِ الظَّاهِرِ سَوَاءٌ لَمْ يَطْلُبْهَا أَوْ طَلَبَهَا، وَفِي التُّحْفَةِ إِنْ طَلَبَهَا وَجَبَ الدَّفْعُ إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ وَالْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ إِذَا غَلَبُوا عَلَى الْبَلَدِ جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الْبَاطِنَةِ.
وَيَبْرَأُ الْمُزَكِّي بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ، سَوَاءٌ صَرَفَهَا الْإِمَامُ فِي مَصَارِفِهَا أَوْ لَا.وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ.
إِرْسَالُ الْجُبَاةِ وَالسُّعَاةِ لِجَمْعِ الزَّكَاةِ وَصَرْفِهَا:
144- يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُرْسِلَ السُّعَاةَ لِقَبْضِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا، وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُوَلِّي الْعُمَّالَ ذَلِكَ وَيَبْعَثُهُمْ إِلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ، فَقَدِ اسْتَعْمَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَلَيْهَا»، وَوَرَدَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يُرْسِلُونَ سُعَاتِهِمْ لِقَبْضِهَا.
وَيُشْتَرَطُ فِي السَّاعِي مَا يَلِي:
1- أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَلَا يَسْتَعْمِلْ عَلَيْهَا كَافِرًا لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ، وَفِيهَا تَعْظِيمٌ لِلْوَالِي.
2- وَأَنْ يَكُونَ عَدْلًا، أَيْ ثِقَةً مَأْمُونًا، لَا يَخُونُ وَلَا يَجُورُ فِي الْجَمْعِ، وَلَا يُحَابِي فِي الْقِسْمَةِ.
3- وَأَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي أُمُورِ الزَّكَاةِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُؤْخَذُ وَمَا لَا يُؤْخَذُ، وَمُحْتَاجٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ وَقَائِعِ الزَّكَاةِ.
4- وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ الْكِفَايَةُ، وَهِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْقِيَامِ بِالْعَمَلِ وَضَبْطِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ.
5- وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ آلِ الْبَيْتِ، وَفِي هَذَا الشَّرْطِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَمَعْنَى اشْتِرَاطِهِ هُنَا عَدَمُ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْأَخْذِ مِنْهَا مُقَابِلَ عَمَلِهِ فِيهَا، فَلَوْ عَمِلَ بِلَا أَجْرٍ أَوْ أُعْطِيَ أَجْرَهُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ، وَ (ر: آل، جِبَايَة).
وَالسُّعَاةُ عَلَى الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ فَمِنْهُمُ الْجَابِي: وَهُوَ الْقَابِضُ لِلزَّكَاةِ، وَالْمُفَرِّقُ: وَهُوَ الْقَاسِمُ، وَالْحَاشِرُ: وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ لِتُؤْخَذَ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ، وَالْكَاتِبُ لَهَا.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِمَامٌ، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يُرْسِلُ السُّعَاةَ لِجَبْيِ الزَّكَاةِ فَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ إِخْرَاجُهَا وَتَفْرِيقُهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ فِيهَا وَالْإِمَامُ نَائِبٌ.
مَوْعِدُ إِرْسَالِ السُّعَاةِ:
145- الْأَمْوَالُ قِسْمَانِ: فَمَا كَانَ مِنْهَا لَا يُشْتَرَطُ لِزَكَاتِهِ الْحَوْلُ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْمَعَادِنِ، فَهَذَا يُرْسِلُ الْإِمَامُ سُعَاتَهُ وَقْتَ وُجُوبِهَا، فَفِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عِنْدَ إِدْرَاكِهَا بِحَيْثُ يَصِلُهُمْ وَقْتَ الْجُذَاذِ وَالْحَصَادِ.
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْخَرْصِ، أَمَّا الْخَارِصُ فَيُرْسَلُ عِنْدَ بَدْءِ ظُهُورِ الصَّلَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: خَرْص).
وَمَا كَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَوْلُ كَالْمَوَاشِي: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ شَهْرًا مُعَيَّنًا مِنَ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ فِيهِ السَّاعِيَ كُلَّ عَامٍ.
حُقُوقُ الْعَامِلِينَ عَلَى الزَّكَاةِ:
146- الْعَامِلُ عَلَى الزَّكَاةِ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ حَقَّهُ مِنَ الزَّكَاةِ نَفْسِهَا بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي السَّاعِي.
وَيَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، كَأَنْ يَكُونَ مِنْ آلِ الْبَيْتِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، أَوْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ غَالِبًا كَالرَّاعِي وَالْحَارِسِ وَالسَّائِقِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُعْطَى الرَّاعِي وَالْحَارِسُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الزَّكَاةِ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَامِلِينَ.
وَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا غَيْرَ الْأَجْرِ الَّذِي يُعْطِيهِ إِيَّاهُ الْإِمَامُ، لِمَا فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى يَقُولُ: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ الْأَمْوَالِ بِاسْمِ الْهَدِيَّةِ بِسَبَبِ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَكْتُمَهُ وَيَسْتَأْثِرَ بِهِ، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي.قَالَ: فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ- أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ- ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ- اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، ثَلَاثًا».
دُعَاءُ السَّاعِي لِلْمُزَكِّي:
147- إِذَا أَخَذَ السَّاعِي الزَّكَاةَ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمَالِكِ، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَاوَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى».وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ ذَلِكَ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ.وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ.وَإِنْ شَاءَ دَعَا بِغَيْرِ ذَلِكَ.وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لَا يَدْعُو بِالصَّلَاةِ عَلَى آلِ الْمُزَكِّي، بَلْ يَدْعُو بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ خَاصَّةٌ بِالْأَنْبِيَاءِ.
مَا يَصْنَعُ السَّاعِي بِالْمُمْتَنِعِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ:
148- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ السَّاعِي جَائِرًا فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ أَوْ صَرْفِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعْزِيرُ مَنِ امْتَنَعَ أَوْ أَخْفَى مَالَهُ أَوْ غَلَبَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ أَوِ الْمُخْفِيَ يَكُونُ بِذَلِكَ مَعْذُورًا.أَمَّا إِنْ كَانَ السَّاعِي عَادِلًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَوِ الْمُخْفِي، وَيُعَزِّرُهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيمَا فَعَلَهُ شُبْهَةٌ مُعْتَبَرَةٌ.
وَلَوْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ قَوْمٌ فَلَمْ يَقْدِرِ السَّاعِي عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ حَتَّى مَضَتْ أَعْوَامٌ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِمْ، يُؤْخَذُونَ بِزَكَاةِ مَا وُجِدَ مَعَهُمْ حَالَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ لِمَاضِي الْأَعْوَامِ وَلِعَامِ الْقُدْرَةِ، وَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهَا يُصَدَّقُونَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ لِمَنْعِهَا لَا يُصَدَّقُونَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ.
مَا يَصْنَعُ السَّاعِي عِنْدَ اخْتِلَافِ الْحَوْلِ عَلَى الْمُلاَّكِ:
149- قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا وَصَلَ السَّاعِي إِلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ كَانَ حَوْلُ صَاحِبِ الْمَالِ قَدْ تَمَّ أَخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَإِنْ كَانَ حَوْلُ بَعْضِهِمْ لَمْ يَتِمَّ سَأَلَهُ السَّاعِي تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَالِكِ إِجَابَتُهُ، فَإِنْ عَجَّلَهَا بِرِضَاهُ أَخَذَهَا مِنْهُ، وَإِلاَّ لَمْ يَجْبُرْهُ، ثُمَّ إِنْ رَأَى السَّاعِي الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَأْخُذُهَا عِنْدَ حُلُولِهَا وَيُفَرِّقُهَا عَلَى أَهْلِهَا فَعَلَ.وَإِنْ رَأَى أَنْ يُؤَخِّرَهَا لِيَأْخُذَهَا مِنْهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَعَلَ، وَيَكْتُبُهَا كَيْ لَا يَنْسَاهَا أَوْ يَمُوتَ فَلَا يَعْلَمَهَا السَّاعِي الَّذِي بَعْدَهُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَرْجِعَ فِي وَقْتِ حُلُولِهَا لِيَأْخُذَهَا فَعَلَ، وَإِنْ وَثِقَ بِصَاحِبِ الْمَالِ جَازَ أَنْ يُفَوِّضَ إِلَيْهِ تَفْرِيقَهَا.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ وُصُولَ السَّاعِي شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ سَاعٍ، فَهُوَ يُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا يَمْلِكُونَهُ يَوْمَ وُصُولِهِ إِلَيْهِمْ.
حِفْظُ الزَّكَاةِ:
150- عَلَى السَّاعِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَالِ الزَّكَاةِ.وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ حَتَّى يُوصِلَهُ إِلَى مُسْتَحَقِّيهِ، أَوْ يُوصِلَهُ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَهُ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ أَنْ يَتَّخِذَ حَارِسًا أَوْ رَاعِيًا وَنَحْوَهُمَا.
وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ وَسَائِلِ الْحِفْظِ وَسْمُ بَهَائِمِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهَا؛ وَلِئَلاَّ تَضِيعَ، وَيَسِمُهَا بِالنَّارِ بِعَلَامَةٍ خَاصَّةٍ، كَأَنْ تَكُونَ عَلَامَةُ الْوَسْمِ (لِلَّهِ) لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «وَافَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَبِيَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ» وَلآِثَارٍ وَرَدَتْ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ ( (.
بَيْتُ مَالِ الزَّكَاةِ:
151- عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَّخِذَ بَيْتًا لِأَمْوَالِ الزَّكَاةِ تُحْفَظُ فِيهِ وَتُضْبَطُ إِلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ صَرْفِهَا لِأَهْلِهَا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: «بَيْتُ الْمَالِ».
تَصَرُّفَاتُ السَّاعِي فِي الزَّكَاةِ:
152- إِذَا قَبَضَ السَّاعِي الزَّكَاةَ يُفَرِّقُهَا عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّتِي جَمَعَهَا فِيهَا إِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَذِنَ لَهُ فِي تَفْرِيقِهَا، فَلَا يَنْقُلُهَا إِلَى أَبْعَدَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا فُقَرَاءُ الْبَلَدِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ مُعَاذًا- رضي الله عنه- إِلَى الْيَمَنِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ جَابِيًا وَلَا آخِذَ جِزْيَةٍ وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَأْخُذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ فَتَرُدَّ فِي فُقَرَائِهِمْ.فَقَالَ مُعَاذٌ: أَنَا مَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ وَأَنَا أَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهُ مِنِّي.فَلَوْ نَقَلَهَا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ فَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي.
وَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ لِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ أَحَدُ أَصْنَافِ أَهْلِ الزَّكَاةِ، كَمَا لَوْ كَانَ غَارِمًا أَوْ فَقِيرًا.وَلَا يَأْخُذُ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ الْإِمَامُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَقْسِمُ فَلَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ.
153- وَإِذَا تَلِفَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ شَيْءٌ فِي يَدِ الْإِمَامِ أَوِ السَّاعِي ضَمِنَهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ بِأَنْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهِ، وَكَذَا لَوْ عَرَفَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَأَمْكَنَهُ التَّفْرِيقُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى تَلِفَتْ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ وَلَمْ يُفَرِّطْ لَمْ يَضْمَنْ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ وَالسَّاعِي وَكُلِّ مَنْ يُفَوَّضُ إِلَيْهِ أَمْرُ تَفْرِيقِ الصَّدَقَاتِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِضَبْطِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَمَعْرِفَةِ أَعْدَادِهِمْ، وَأَقْدَارِ حَاجَاتِهِمْ، بِحَيْثُ يَقَعُ الْفَرَاغُ مِنْ جَمْعِ الصَّدَقَاتِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ أَوْ مَعَهَا، لِيُعَجِّلَ حُقُوقَهُمْ، وَلِيَأْمَنَ هَلَاكَ الْمَالِ عِنْدَهُ.
وَتُصْرَفُ الزَّكَاةُ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلاَّ لِمَنْ جَمَعَ شُرُوطَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ.
154- وَإِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ أَوِ السَّاعِي الزَّكَاةَ فَاحْتَاجَ إِلَى بَيْعِهَا لِمَصْلَحَةٍ، مِنْ كُلْفَةٍ فِي نَقْلِهَا، أَوْ مَرَضِ الْبَهِيمَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ جَازَ، أَمَّا إِذَا بَاعَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ إِنْ تَلِفَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الزَّكَاةِ أَهْلُ رُشْدٍ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَالِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ.
وَفِي احْتِمَالٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ، لِمَا وَرَدَ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقَالَ الْمُصَدِّقُ: إِنِّي ارْتَجَعْتُهَا بِإِبِلٍ، فَسَكَتَ» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الرَّجْعَةُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا مِثْلَهَا أَوْ غَيْرَهَا.
نَصْبُ الْعَشَّارِينَ:
155- يَنْصِبُ الْإِمَامُ عَلَى الْمَعَابِرِ فِي طُرُقِ الْأَسْفَارِ عَشَّارِينَ لِلْجِبَايَةِ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا أَتَوْا بِأَمْوَالِهِمْ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَيَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَكَاةٍ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ.وَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فَيْءٌ حُكْمُهُ حُكْمُ الْجِزْيَةِ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُشْر).
أَمَّا مَا يَأْخُذُهُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ زَكَاةٌ يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ مَالًا بَاطِنًا لَكِنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَ صَاحِبُهُ بِهِ فِي الْبِلَادِ أَصْبَحَ فِي حُكْمِ الْمَالِ الظَّاهِرِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَابِدِينَ، وَلِذَا كَانَتْ وِلَايَةُ قَبْضِ زَكَاتِهِ إِلَى الْإِمَامِ، كَالسَّوَائِمِ وَالزُّرُوعِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَحْلِيفِ مَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ إِنْ أَنْكَرَ تَمَامَ الْحَوْلِ عَلَى مَا بِيَدِهِ، أَوِ ادَّعَى أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ، فَإِنْ حَلَفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَكَذَا إِنْ قَالَ أَدَّيْتُهَا إِلَى عَاشِرٍ آخَرَ وَأَخْرَجَ بَرَاءَةً (إيصَالًا رَسْمِيًّا بِهَا)، وَكَذَا إِنْ قَالَ أَدَّيْتُهَا بِنَفْسِي إِلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا مَعَهُ نِصَابًا فَأَكْثَرَ حَتَّى يَجِبَ الْأَخْذُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ وَلَهُ فِي الْمِصْرِ مَا يَكْمُلُ بِهِ النِّصَابُ فَلَا وِلَايَةَ لِلْعَاشِرِ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَطْ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الْعَاشِرِ مَا يُشْتَرَطُ فِي السَّاعِي كَمَا تَقَدَّمَ وَأَنْ يَأْمَنَ الْمُسَافِرُونَ بِحِمَايَتِهِ مِنَ اللُّصُوصِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
92-موسوعة الفقه الكويتية (زكاة 12)
زَكَاة -12دَفْعُ الزَّوْجِ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى زَوْجَتِهِ وَعَكْسُهُ:
178- لَا يُجْزِئُ الرَّجُلَ إِعْطَاءُ زَكَاةِ مَالِهِ إِلَى زَوْجَتِهِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هُوَ إِجْمَاعٌ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مُشْتَرَكَةٌ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ، فَيَكُونُ كَالدَّافِعِ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَحَلُّ الْمَنْعِ إِعْطَاؤُهَا الزَّكَاةَ لِتُنْفِقَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَأَمَّا لَوْ أَعْطَاهَا مَا تَدْفَعُهُ فِي دَيْنِهَا، أَوْ لِتُنْفِقَهُ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَلَا بَأْسَ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمَمْنُوعَ إِعْطَاؤُهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ، أَمَّا مِنْ سَهْمٍ آخَرَ هِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لَهُ فَلَا بَأْسَ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
وَأَمَّا إِعْطَاءُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا زَكَاةَ مَالِهَا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِحَدِيثِ «زَيْنَبَ زَوْجَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهما-، وَفِيهِ أَنَّهَا هِيَ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى سَأَلَتَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: هَلْ تُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حِجْرِهِمَا؟ فَقَالَ: لَهُمَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ».
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِأَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَةُ الزَّوْجِ، وَلِعُمُومِ آيَةِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، إِذْ لَيْسَ فِي الزَّوْجِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ يَمْنَعُ إِعْطَاءَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: لَا يُجْزِئُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُعْطِيَ زَوْجَهَا زَكَاتَهَا وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقِهِ الْبَائِنِ وَلَوْ بِثَلَاثِ طَلَقَاتٍ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ مُشْتَرَكَةٌ، فَهِيَ تَنْتَفِعُ بِتِلْكَ الزَّكَاةِ الَّتِي تُعْطِيهَا لِزَوْجِهَا؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ امْرَأَتِهِ، وَلَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ لَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُعْطِي الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا زَكَاةَ مَالِهَا.وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَى كَلَامِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّ مُرَادَهُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بِإِجْزَائِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
6- الْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ:
179- ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ: «تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى كَافِرٍ» أَنَّ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلْعَاصِي خِلَافًا، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُعْطَى لِأَهْلِ الْمَعَاصِي إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُعْطِي أَنَّهُمْ يَصْرِفُونَهَا فِي الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ أَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُجْزِئْهُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَفِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ تَجُوزُ، وَتُجْزِئُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَرَّى بِزَكَاتِهِ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الْمُتَّبِعِينَ لِلشَّرِيعَةِ، فَمَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالْهَجْرِ وَغَيْرِهِ وَالِاسْتِتَابَةَ فَكَيْفَ يُعَانُ عَلَى ذَلِكَ؟، وَقَالَ: مَنْ كَانَ لَا يُصَلِّي يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُصَلِّي، أُعْطِيَ، وَإِلاَّ لَمْ يُعْطَ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ يُعْطَى مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا بِالنِّفَاقِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِلْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ إِنْ كَانُوا مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، مَا لَمْ تَكُنْ بِدْعَتُهُمْ مُكَفِّرَةً مُخْرِجَةً لَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ.عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَقْدِيمُ أَهْلِ الدِّينِ الْمُسْتَقِيمِينَ عَلَيْهِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْعَمَلِ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ مِنَ الزَّكَاةِ، لِحَدِيثِ: «لَا تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ».
7- الْمَيِّتُ:
180- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (عَلَى الْمَذْهَبِ) وَالنَّخَعِيُّ: إِلَى أَنَّهُ لَا تُعْطَى الزَّكَاةُ فِي تَجْهِيزِ مَيِّتٍ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ رُكْنَ الزَّكَاةِ تَمْلِيكُهَا لِمَصْرِفِهَا، فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الزَّكَاةِ التَّمْلِيكُ، قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى بِهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً؛ لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِهَا لَا يَقْتَضِي تَمْلِيكَهُ إِيَّاهَا، قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُقْضَى مِنَ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْمَيِّتِ، وَيُقْضَى مِنْهَا دَيْنُ الْحَيِّ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَنَقَلَهُ فِي الْفُرُوعِ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَعَنِ اخْتِيَارِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَأَنَّ فِي ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُقْضَى مِنَ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً إِنْ تَمَّتْ فِيهِ شُرُوطُ الْغَارِمِ، قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ دَيْنِ الْحَيِّ فِي أَخْذِهِ مِنَ الزَّكَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى قَضَاؤُهُ بِخِلَافِ الْحَيِّ، وَاحْتَجَّ النَّوَوِيُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِعُمُومِ الْغَارِمِينَ فِي آيَةِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، وَبِأَنَّهُ يَصِحُّ التَّبَرُّعُ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ كَدَيْنِ الْحَيِّ.
8- جِهَاتُ الْخَيْرِ مِنْ غَيْرِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ:
181- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ فِي جِهَاتِ الْخَيْرِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَلَا تُنْشَأُ بِهَا طَرِيقٌ، وَلَا يُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ وَلَا قَنْطَرَةٌ، وَلَا تُشَقُّ بِهَا تُرْعَةٌ، وَلَا يُعْمَلُ بِهَا سِقَايَةٌ، وَلَا يُوَسَّعُ بِهَا عَلَى الْأَصْنَافِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَقْلُ خِلَافٍ عَنْ مُعَيَّنٍ يُعْتَدُّ بِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّمْلِيِّ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا تَمْلِيكَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ وَنَحْوَهُ لَا يُمْلَكُ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي الزَّكَاةِ التَّمْلِيكَ.
وَالثَّانِي:
الْحَصْرُ الَّذِي فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ وَنَحْوَهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي فِيهِ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الزَّكَاةَ ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ».
وَلَا يَثْبُتُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ سِيرِينَ خِلَافُ ذَلِكَ.
مَا يُرَاعَى فِي قِسْمَةِ الزَّكَاةِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ:
أ- تَعْمِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْأَصْنَافِ:
182- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ) إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَعْمِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْأَصْنَافِ، سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي يُؤَدِّيهَا إِلَيْهَا رَبَّ الْمَالِ أَوِ السَّاعِيَ أَوِ الْإِمَامَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى لِصِنْفٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى لِشَخْصٍ وَاحِدٍ إِنْ لَمْ تَزِدْ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي أَيِّ صِنْفٍ وَضَعْتَهُ أَجْزَأَكَ.
183- وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» قَالُوا: وَالْفُقَرَاءُ صِنْفٌ وَاحِدٌ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ الزَّكَاةِ الثَّمَانِيَةِ، وَبِوَقَائِعَ أَعْطَى فِيهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الزَّكَاةَ لِفَرْدٍ وَاحِدٍ أَوْ أَفْرَادٍ، مِنْهَا: «أَنَّهُ أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْبَيَاضِيَّ صَدَقَةَ قَوْمِهِ».وَقَالَ لِقَبِيصَةَ: «أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا».قَالُوا: وَاللاَّمُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ بِمَعْنَى «أَوْ»، أَوْ هِيَ لِبَيَانِ الْمَصَارِفِ، أَوْ هِيَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ عَدَمُ خُرُوجِهَا عَنْهُمْ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ التَّعْمِيمَ لَا يُنْدَبُ إِلاَّ أَنْ يُقْصَدَ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ، وَكَذَا اسْتَحَبَّ الْحَنَابِلَةُ التَّعْمِيمَ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ، إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ، وَإِعْطَاءُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمُ الثُّمُنَ مِنَ الزَّكَاةِ الْمُتَجَمِّعَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِآيَةِ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِمْ فَاللاَّمُ لِلتَّمْلِيكِ، وَأَشْرَكَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ قُسِمَتْ بَيْنَهُمْ وَوَجَبَتِ التَّسْوِيَةُ، فَكَذَا هَذَا، وَلَوْ أَوْصَى لَهُمْ وَجَبَ التَّعْمِيمُ وَالتَّسْوِيَةُ.
وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الْقَسْمِ إِنْ قَسَمَ الْإِمَامُ وَهُنَاكَ عَامِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامِلٌ بِأَنْ قَسَمَ الْمَالِكُ، أَوْ حَمَلَ أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ زَكَاتَهُمْ إِلَى الْإِمَامِ، فَالْقِسْمَةُ عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُهُمْ فَعَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ، وَيَسْتَوْعِبُ الْإِمَامُ مِنَ الزَّكَوَاتِ الْمُجْتَمِعَةِ عِنْدَهُ آحَادَ كُلِّ صِنْفٍ وُجُوبًا، إِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ، وَوَفَى بِهِمُ الْمَالُ.وَإِلاَّ فَيَجِبُ إِعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتِ الْأَصْنَافَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
قَالُوا: وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَوِ السَّاعِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِضَبْطِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَمَعْرِفَةِ أَعْدَادِهِمْ، وَقَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ، بِحَيْثُ يَقَعُ الْفَرَاغُ مِنْ جَمْعِ الزَّكَوَاتِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَوْ مَعَهُ لِيَتَعَجَّلَ وُصُولَ حَقِّهِمْ إِلَيْهِمْ.
قَالُوا: وَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ، وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةُ بَعْضِهِمْ أَشَدَّ، وَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ إِنْ قَسَمَ الْمَالِكُ، بَلْ يَجُوزُ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، أَمَّا إِنْ قَسَمَ الْإِمَامُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْضِيلُ مَعَ تَسَاوِي الْحَاجَاتِ، فَإِنْ فَقَدَ بَعْضَ الْأَصْنَافِ أَعْطَى سَهْمَهُ لِلْأَصْنَافِ الْبَاقِيَةِ، وَكَذَا إِنِ اكْتَفَى بَعْضُ الْأَصْنَافِ وَفَضَلَ شَيْءٌ، فَإِنِ اكْتَفَى جَمِيعُ أَفْرَادِ الْأَصْنَافِ جَمِيعًا بِالْبَلَدِ، جَازَ النَّقْلُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ قَلِيلَةً جَازَ صَرْفُهَا إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَإِلاَّ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ، وَقَالَا أَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ: إِنْ أَخْرَجَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا الْمَالِكُ جَازَ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ.
التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَصَارِفِ:
184- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْعَامِلَ عَلَى الزَّكَاةِ يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ غَيْرِهِ فِي الْإِعْطَاءِ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ عَنْ عَمَلِهِ، وَغَيْرُهُ يَأْخُذُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَإِنْ كَانَ سَهْمُ الْعَامِلِينَ وَهُوَ ثُمُنُ الزَّكَاةِ قَدْرَ حَقِّهِ أَخَذَهُ، وَإِنْ زَادَ عَنْ حَقِّهِ رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَى سَائِرِ السِّهَامِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ تُمِّمَ لَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَقِيلَ: مِنْ بَاقِي السِّهَامِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْعَامِلَ يُقَدَّمُ بِأُجْرَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ، أَيْ مِنْ مَجْمُوعِ الزَّكَاةِ.
أَمَّا مَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُقْسَمُ بَيْنَ بَاقِي الْأَصْنَافِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَنَظَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْحَاجَةِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُقَدَّمُ الْمَدِينُ عَلَى الْفَقِيرِ لِأَنَّ حَاجَةَ الْمَدِينِ أَشَدُّ، وَرَاعَى الْحَنَفِيَّةُ أُمُورًا أُخْرَى تَأْتِي فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ إِيثَارُ الْمُضْطَرِّ عَلَى غَيْرِهِ بِأَنْ يُزَادَ فِي إِعْطَائِهِ مِنْهَا.
وَنَظَرَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ فَقَالُوا: يُقَدَّمُ الْأَحْوَجُ فَالْأَحْوَجُ اسْتِحْبَابًا، فَإِنْ تَسَاوَوْا قُدِّمَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ فِي الْجِوَارِ وَأَكْثَرَ دِينًا، وَكَيْفَ فَرَّقَهَا جَازَ، بَعْدَ أَنْ يَضَعَهَا فِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
نَقْلُ الزَّكَاةِ:
185- إِذَا فَاضَتِ الزَّكَاةُ فِي بَلَدٍ عَنْ حَاجَةِ أَهْلِهَا جَازَ نَقْلُهَا اتِّفَاقًا، بَلْ يَجِبُ، وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا نَقْلُ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَإِنَّمَا تُفَرَّقُ صَدَقَةُ كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ فِيهِمْ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ».وَلِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ حَقِّ الْجِوَارِ، وَالْمُعْتَبَرُ بَلَدُ الْمَالِ، لَا بَلَدُ الْمُزَكِّي.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَنْقُلَهَا الْمُزَكِّي إِلَى قَرَابَتِهِ، لِمَا فِي إيصَالِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ.قَالُوا: وَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ.
وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَكَذَا لِأَصْلَحَ، أَوْ أَوْرَعَ، أَوْ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ إِلَى طَالِبِ عِلْمٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الزَّكَاةِ إِلَى مَا يَزِيدُ عَنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاذٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: لَمْ أَبْعَثْكَ جَابِيًا وَلَا آخِذَ جِزْيَةٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَأْخُذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ فَتَرُدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَقَالَ مُعَاذٌ: مَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ وَأَنَا أَجِدُ مَنْ يَأْخُذُهُ مِنِّي.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أُتِيَ بِزَكَاةٍ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الشَّامِ فَرَدَّهَا إِلَى خُرَاسَانَ.
قَالُوا: وَالْمُعْتَبَرُ بَلَدُ الْمَالِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: الْمُعْتَبَرُ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ، وَفِي النَّقْدِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ الْمَالِكُ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يُوجَدَ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِمَّنْ هُوَ فِي الْبَلَدِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ النَّقْلُ مِنْهَا وَلَوْ نُقِلَ أَكْثَرُهَا.
186- ثُمَّ إِنْ نُقِلَتِ الزَّكَاةُ حَيْثُ لَا مُسَوِّغَ لِنَقْلِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَقَلَهَا لِمِثْلِ مَنْ فِي بَلَدِهِ فِي الْحَاجَةِ فَتُجْزِئُهُ مَعَ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ نَقَلَهَا لِأَدْوَنَ مِنْهُمْ فِي الْحَاجَةِ لَمْ تُجْزِئْهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ خَلِيلٌ وَالدَّرْدِيرُ، وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: نَقَلَ الْمَوَّاقُ أَنَّ الْمَذْهَبَ الْإِجْزَاءُ بِكُلِّ حَالٍ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: لَا تُجْزِئُهُ بِكُلِّ حَالٍ.
وَحَيْثُ نُقِلَتِ الزَّكَاةُ فَأُجْرَةُ النَّقْلِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَا مِنَ الزَّكَاةِ نَفْسِهَا.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَكُونُ عَلَى الْمُزَكِّي.
حُكْمُ مَنْ أُعْطِيَ مِنَ الزَّكَاةِ لِوَصْفٍ فَزَالَ الْوَصْفُ وَهِيَ فِي يَدِهِ:
187- مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ مَنْ يَأْخُذُ أَخْذًا مُسْتَقِرًّا فَلَا يُسْتَرَدُّ مِنْهُ شَيْءٌ إِنْ كَانَ فِيهِ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِشُرُوطِهِ عِنْدَ الْأَخْذِ، وَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: الْمِسْكِينُ، وَالْفَقِيرُ، وَالْعَامِلُ، وَالْمُؤَلَّفُ قَلْبُهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ أَخْذًا مُرَاعًى، فَيُسْتَرَدُّ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُنْفِقْهُ فِي وَجْهِهِ، أَوْ تَأَدَّى الْغَرَضُ مِنْ بَابٍ آخَرَ، أَوْ زَالَ الْوَصْفُ وَالزَّكَاةُ فِي يَدِهِ، وَهُمْ أَيْضًا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ، عَلَى خِلَافٍ فِي بَعْضِهَا:
1- الْمُكَاتَبُ، فَيُسْتَرَدُّ مِنَ الْمُعْطَى مَا أَخَذَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ، أَوْ عَجَزَ عَنِ الْوَفَاءِ فَلَمْ يَعْتِقْ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَكُونُ مَا أَخَذَهُ لِسَيِّدِهِ وَيَحِلُّ لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يُسْتَرَدُّ، وَلَا يَكُونُ لِسَيِّدِهِ، بَلْ يُنْفِقُ فِي الْمُكَاتَبِينَ.
وَلَا تَرِدُ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ صَرْفَ الزَّكَاةِ لِلْمُكَاتَبِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.
2- الْغَارِمُ: فَإِنِ اسْتَغْنَى الْمَدِينُ الَّذِي أَخَذَ الزَّكَاةَ قَبْلَ دَفْعِهَا فِي دَيْنِهِ تُنْزَعُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ أُبْرِئَ مِنَ الدَّيْنِ، أَوْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، أَوْ قَضَاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ.وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا.
3- الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ: وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَ الزَّكَاةَ لِلْغَزْوِ ثُمَّ جَلَسَ فَلَمْ يَخْرُجْ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: لَوْ خَرَجَ لِلْغَزْوِ وَعَادَ دُونَ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ قُرْبِ الْعَدُوِّ تُؤْخَذُ مِنْهُ كَذَلِكَ.
وَحَيْثُ وَجَبَ الرَّدُّ تُنْزَعُ مِنْهُ إِنْ كَانَ بَاقِيهِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَنْفَقَهَا أُتْبِعَ بِهَا، أَيْ طُولِبَ بِبَدَلِهَا إِنْ كَانَ غَنِيًّا؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.
4- ابْنُ السَّبِيلِ: وَيُسْتَرَدُّ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ إِنْ لَمْ يَخْرُجْ، مَا لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا بِبَلَدِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَفِي قَوْلٍ: تَمَامُ السَّنَةِ.قَالُوا: وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ لَوْ سَافَرَ ثُمَّ عَادَ وَلَمْ يَصْرِفْ مَا أَخَذَهُ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّمَا تُنْزَعُ مِنْهُ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، فَإِنْ كَانَ أَنْفَقَهَا لَمْ يُطَالَبْ بِبَدَلِهَا.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُلْزَمُ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِمَا فَضَلَ فِي يَدِهِ.
حُكْمُ مَنْ أَخَذَ الزَّكَاةَ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا:
188- لَا يَحِلُّ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ أَخْذُهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا زَكَاةٌ، إِجْمَاعًا.فَإِنْ أَخَذَهَا فَلَمْ تُسْتَرَدَّ مِنْهُ فَلَا تَطِيبُ لَهُ، بَلْ يَرُدُّهَا أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَعَلَى دَافِعِ الزَّكَاةِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعَرُّفِ مُسْتَحَقِّي الزَّكَاةِ، فَإِنْ دَفَعَهَا بِغَيْرِ اجْتِهَادِهِ، أَوْ كَانَ اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا وَأَعْطَاهُ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ، إِنْ تَبَيَّنَ الْآخِذُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَالْمُرَادُ بِالِاجْتِهَادِ النَّظَرُ فِي أَمَارَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَوْ شَكَّ فِي كَوْنِ الْآخِذِ فَقِيرًا فَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ كَذَلِكَ.
189- أَمَّا إِنِ اجْتَهَدَ فَدَفَعَ لِمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَتَبَيَّنَ عَدَمُ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُجْزِئُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تُجْزِئُهُ، عَلَى تَفْصِيلٍ يَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ.
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: إِنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ كَافِرٌ، أَوْ دَفَعَ فِي ظُلْمَةٍ، فَبَانَ أَنَّ الْآخِذَ أَبُوهُ، أَوِ ابْنُهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: «كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ».
وَلِأَنَّا لَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِعَادَةِ أَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَكَرَّرَ خَطَؤُهُ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا أَنْ يَتَبَيَّنَ الْآخِذُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلتَّمْلِيكِ أَصْلًا، نَحْوُ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْآخِذَ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ، فَلَا تُجْزِئُ فِي هَذَا الْحَالِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُجْزِئُهُ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْآخِذَ لَيْسَ مِنَ الْمَصَارِفِ، لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ مَعَ إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي ثِيَابٍ فَبَانَ أَنَّهُ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ.
وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ حَالَيْنِ:
الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ الْإِمَامَ أَوْ مُقَدَّمَ الْقَاضِي أَوِ الْوَصِيَّ، فَيَجِبُ اسْتِرْدَادُهَا، لَكِنْ إِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا، أَجْزَأَتْ، لِأَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ حُكْمٌ لَا يَتَعَقَّبُ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ رَبَّ الْمَالِ فَلَا تُجْزِئُهُ، فَإِنِ اسْتَرَدَّهَا وَأَعْطَاهَا فِي وَجْهِهَا، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ اسْتِرْدَادَهَا إِنْ فَوَّتَهَا الْآخِذُ بِفِعْلِهِ، بِأَنْ أَكَلَهَا، أَوْ بَاعَهَا، أَوْ وَهَبَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
أَمَّا إِنْ فَاتَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ بِأَنْ تَلِفَتْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ، فَإِنْ كَانَ غَرَّ الدَّافِعَ بِأَنْ أَظْهَرَ لَهُ الْفَقْرَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا أَيْضًا، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَّهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ الِاسْتِرْدَادُ، وَعَلَى الْآخِذِ الرَّدُّ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهَا زَكَاةٌ أَمْ لَا، فَإِنِ اسْتُرِدَّتْ صُرِفَتْ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الِاسْتِرْدَادُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي دَفَعَهَا الْإِمَامُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي دَفَعَهَا الْمَالِكُ ضَمِنَ، وَهَذَا هُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُمْ، وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُمْ أَقْوَالٌ أُخْرَى.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ بَانَ الْآخِذُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ هَاشِمِيًّا، أَوْ قَرَابَةً لِلْمُعْطِي مِمَّنْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، فَلَا تُجْزِئُ الزَّكَاةُ عَنْ دَافِعِهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ، وَلَا تَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا، فَلَمْ يَجْزِهِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.
أَمَّا إِنْ كَانَ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةٍ، وَالْأُخْرَى يُجْزِئُهُ، لِحَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ الْمُتَقَدِّمِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ....الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، لَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ».وَلِأَنَّ حَالَهُ تَخْفَى غَالِبًا.
مَنْ لَهُ حَقُّ طَلَبِ الزَّكَاةِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا:
190- فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مُسْتَحَقِّي الزَّكَاةِ مِنَ الْفُقَرَاءِ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ طَلَبِهِمُ الزَّكَاةَ بِالرَّغْمِ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ طَلَبُ الزَّكَاةِ هُوَ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ لِيَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ فَيَحْتَاجُ لِلسُّؤَالِ لِقُوتِهِ، أَوْ مَا يُوَارِي بَدَنَهُ، وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِهِمُ الْمُسَمَّى مِسْكِينًا، وَكَذَا لَا يَحِلُّ السُّؤَالُ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ قُوتَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ لَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ، أَمَّا الْفَقِيرُ وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ مَنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ لِيَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ سُؤَالُ الصَّدَقَةِ، وَإِنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِخَمْسِينَ دِرْهَمًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ: مَنْ أُبِيحَ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ أُبِيحَ لَهُ طَلَبُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْرُمُ طَلَبُهَا عَلَى مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُ مَنْ يَسْأَلُهُ كُلَّ يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْأَلَ أَكْثَرَ مِنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُعْطِيهِ أُبِيحَ لَهُ السُّؤَالُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
93-موسوعة الفقه الكويتية (صدقة 1)
صَدَقَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الصَّدَقَةُ بِفَتْحِ الدَّالِ لُغَةً: مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى وَجْهِ الْمَكْرُمَةِ.
وَيَشْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الشَّامِلِ، فَيُقَالُ لِلزَّكَاةِ: صَدَقَةٌ، كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ.
وَيُقَالُ لِلتَّطَوُّعِ: صَدَقَةٌ كَمَا وَرَدَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَتَحِلُّ لِغَنِيٍّ، أَيْ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ
يَقُولُ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: الصَّدَقَةُ: مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ.لَكِنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْأَصْلِ تُقَالُ: لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ تُقَالُ: لِلْوَاجِبِ
وَالْغَالِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ خَاصَّةً.
يَقُولُ الشِّرْبِينِيُّ: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ هِيَ الْمُرَادَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَالِبًا وَيُفْهَمُ هَذَا مِنْ كَلَامِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا، يَقُولُ الْحَطَّابُ: الْهِبَةُ إِنْ تَمَحَّضَتْ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ فَهِيَ الصَّدَقَةُ وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْبَعْلِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي الْمُطْلِعِ عَلَى أَبْوَابِ الْمُقْنِعِ.
وَفِي وَجْهِ تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً يَقُولُ الْقَلْيُوبِيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِشْعَارِهَا بِصِدْقِ نِيَّةِ بَاذِلِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرُ أَيْ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَحْثِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
2- وَقَدْ تُطْلَقُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْوَقْفِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ: أَنَّ «عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ثَمْغٌ...فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ».
3- وَقَدْ تُطْلَقُ الصَّدَقَةُ: عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ».
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْهِبَةُ، الْهَدِيَّةُ، الْعَطِيَّةُ:
4- الْهِبَةُ، وَالْهَدِيَّةُ، وَالْعَطِيَّةُ، كُلٌّ مِنْهَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا التَّمْلِيكُ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ فَصَدَقَةٌ، وَإِذَا كَانَ لِلْمُوَاصَلَةِ وَالْوِدَادِ فَهِبَةٌ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ الْإِكْرَامُ فَهَدِيَّةٌ.فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَسِيمٌ لِلْآخَرِ.وَالْعَطِيَّةُ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ.
ب- الْعَارِيَّةُ:
5- الْعَارِيَّةُ: إِبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ عَيْنٍ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ لِصَاحِبِهَا بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْعَارِيَّةِ تَبَرُّعٌ لَكِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَالْعَارِيَّةَ إِبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَالصَّدَقَةُ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِيهَا.كَمَا سَيَأْتِي.وَالْعَارِيَّةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ رَدِّ الْعَيْنِ لِمَالِكِهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (إِعَارَةٌ).
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّدَقَةِ وَفَضْلِهَا:
6- إِنَّ أَدَاءَ الصَّدَقَةِ مِنْ بَابِ إِعَانَةِ الضَّعِيفِ، وَإِغَاثَةِ اللَّهِيفِ، وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ، وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَاتِ.
وَالصَّدَقَةُ شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَهِيَ دَلِيلٌ لِصِحَّةِ إِيمَانِ مُؤَدِّيهَا وَتَصْدِيقِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ صَدَقَةً.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّدَقَةِ أَحَادِيثُ مِنْهَا:
1- مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ...» فَذَكَرَ مِنْهُمْ: «رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ».
2- مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً تَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ».
أَقْسَامُ الصَّدَقَةِ:
7- الصَّدَقَةُ أَنْوَاعٌ:
أ- صَدَقَةٌ مَفْرُوضَةٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَهِيَ زَكَاةُ الْمَالِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ).
ب- صَدَقَةٌ عَلَى الْأَبْدَانِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةُ الْفِطْرِ).
ج- صَدَقَةٌ يَفْرِضُهَا الشَّخْصُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ بِالنَّذْرِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي (نَذْرٌ).
د- الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالْفِدْيَةِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (فِدْيَةٌ وَكَفَّارَةٌ).
هـ- صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَنُبَيِّنُ أَحْكَامَهَا فِيمَا يَلِي: الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
8- الصَّدَقَةُ مَسْنُونَةٌ، وَرَدَ النَّدْبُ إِلَيْهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ.
أَمَّا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
يَقُولُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَعْرِضِ النَّدْبِ وَالتَّحْضِيضِ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ.وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}.
وَأَمَّا مِنَ الْأَحَادِيثِ فَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ أَبَا الدَّحْدَاحِ لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَا أَرَى رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا، وَلِي أَرْضَانِ: أَرْضٌ بِالْعَالِيَةِ وَأَرْضٌ بِالسَّافِلَةِ، وَقَدْ جَعَلْتُ خَيْرَهُمَا صَدَقَةً.فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: كَمْ عِذْقٍ مُذَلَّلٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ» وَمِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّدَقَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ آكَدُ، وَكَذَا عِنْدَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَعِنْدَ الْكُسُوفِ، وَعِنْدَ الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ، وَبِمَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَفِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ، وَالْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، كَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامِ الْعِيدِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّدَقَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
9- الْكَلَامُ عَنِ الصَّدَقَةِ يَسْتَوْجِبُ التَّطَرُّقَ لِلْأُمُورِ التَّالِيَةِ:
(1) - الْمُتَصَدِّقُ: وَهُوَ، مَنْ يَدْفَعُ الصَّدَقَةَ وَيُخْرِجُهَا مِنْ مَالِهِ
(2) - الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ.وَهُوَ مَنْ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنَ الْغَيْرِ.
(3) - الْمُتَصَدَّقُ بِهِ: وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي يُتَطَوَّعُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ.
(4) - النِّيَّةُ: وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلًا: الْمُتَصَدِّقُ:
10- صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ: تَبَرُّعٌ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا:
أ- أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، أَيْ: عَاقِلًا بَالِغًا رَشِيدًا، ذَا وِلَايَةٍ فِي التَّصَرُّفِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مِنَ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ، أَمَّا الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ أَصْلًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ.
وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ: فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْهُ تُعْتَبَرُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةَ ضَرَرًا دُنْيَوِيًّا، وَالَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، كَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَقْفِ، وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ لَا تَصِحُّ، بَلْ تَقَعُ بَاطِلَةً، حَتَّى لَوْ أَذِنَ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ إِجَازَتَهُمَا فِي التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ لَاغِيَةٌ، وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الَّذِي يَعْقِلُ الْوَصِيَّةَ.
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِمْ لِلسَّفَهِ، أَوِ الْإِفْلَاسِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُمُ الصَّدَقَةُ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَجْرٌ)
وَكَمَا لَا تَصِحُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مِنَ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ قِبَلِ أَوْلِيَائِهِمْ نِيَابَةً عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ
ب- أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَالِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ، أَوْ وَكِيلًا عَنْهُ، فَلَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وَكَالَةٍ.وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَضْمَنُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ مَالَ الْغَيْرِ عَلَى صَاحِبِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، يَقُولُ التُّمُرْتَاشِيُّ: شَرَائِطُ صِحَّةِ الْهِبَةِ فِي الْوَاهِبِ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْمِلْكُ.ثُمَّ قَالَ: وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ بِجَامِعِ التَّبَرُّعِ
وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْقُرُبَاتِ فَتُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِيمَا إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ دُونَ إِذْنِهِ.
صَدَقَةُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا لِلسَّائِلِ وَغَيْرِهِ بِمَا أَذِنَ الزَّوْجُ صَرِيحًا.كَمَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ).
وَيَسْتَدِلُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْجَوَازِ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا» وَلَمْ يَذْكُرْ إِذْنًا.
وَعَنْ «أَسْمَاءَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكَ».
وَلِأَنَّ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ.
قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ مَنْزِلِ زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَصْكَفِيُّ
وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ: الْإِذْنُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِذْنُ الصَّرِيحُ فِي النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالثَّانِي: الْإِذْنُ الْمَفْهُومُ مِنَ اطِّرَادِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَإِعْطَاءِ السَّائِلِ كَعُمْرَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، وَاطَّرَدَ الْعُرْفُ فِيهِ، وَعُلِمَ بِالْعُرْفِ رِضَا الزَّوْجِ وَالْمَالِكِ بِهِ، فَإِذْنُهُ فِي ذَلِكَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ.
وَمِثْلُهُ مَا حَرَّرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْعَادَةِ.وَأَنَّهَا إِذَا عَلِمَتْ مِنْهُ، أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ الْعَطَاءَ وَالصَّدَقَةَ فَعَلَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُجْحِفْ، وَعَلَى ذَلِكَ عَادَةُ النَّاسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «غَيْرَ مُفْسِدَةٍ»
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: الْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ الْحَقِيقِيِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: افْعَلِي هَذَا
وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَلَا الطَّعَامَ؟ قَالَ: ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوَّلُ- أَيِ الْجَوَازُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ- أَصَحُّ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ فِيهَا خَاصَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ.
أَمَّا إِذَا مَنَعَهَا مِنَ الصَّدَقَةِ مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْعُرْفُ جَارِيًا بِذَلِكَ، أَوِ اضْطَرَبَ الْعُرْفُ، أَوْ شَكَّتْ فِي رِضَاهُ، أَوْ كَانَ شَخْصًا يَشُحُّ بِذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِصَرِيحِ إِذْنِهِ، كَمَا حَقَّقَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.
12- وَمَا ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ تَصَدُّقِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا يُطَبَّقُ عَلَى تَصَدُّقِ الْخَازِنِ مِنْ مَالِ الْمَالِكِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ: «وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ» أَيْ: مِنَ الْأَجْرِ أَيْ: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَثُوبَةِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ أَجْرٌ كَامِلٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، أَوْ مَعْنَاهُ الْمُشَارَكَةُ فِي الْأَجْرِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْمُشَارِكَ فِي الطَّاعَةِ مُشَارِكٌ فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا حَقَّقَهُ النَّوَوِيُّ.
تَصَدُّقُ الزَّوْجَةِ مِنْ مَالِهَا بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ:
13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ الرَّشِيدَةَ لَهَا حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا، بِالتَّبَرُّعِ، أَوِ الْمُعَاوَضَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، أَمْ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ.وَعَلَى ذَلِكَ فَالزَّوْجَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ زَوْجِهَا فِي التَّصَدُّقِ مِنْ مَالِهَا وَلَوْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِلنِّسَاءِ: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ» وَلَمْ يَسْأَلْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، فَلَوْ كَانَ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُنَّ بِغَيْرِ إِذْنِ أَزْوَاجِهِنَّ لَمَا أَمَرَهُنَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالصَّدَقَةِ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِنَّ مَنْ لَهَا زَوْجٌ وَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، كَمَا حَرَّرَهُ السُّبْكِيُّ.
وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، وَلَا حَقَّ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا، فَلَمْ يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ، كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُحْجَرُ عَلَى الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ الرَّشِيدَةِ لِزَوْجِهَا الْبَالِغِ الرَّشِيدِ فِي تَبَرُّعٍ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ «أَنَّ امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بِحُلِيٍّ لَهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ زَوْجُهَا، فَهَلِ اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى كَعْبٍ، فَقَالَ: هَلْ أَذِنْتَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مَالِهَا التَّجَمُّلُ بِهِ لِزَوْجِهَا، وَالْمَالُ مَقْصُودٌ فِي زَوَاجِهَا، حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا»
وَالْعَادَةُ أَنَّ الزَّوْجَ يَزِيدُ فِي مَهْرِهَا مِنْ أَجْلِ مَالِهَا وَيَتَبَسَّطُ فِيهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ، فَتَعَلَّقَ حَقُّ الزَّوْجِ فِي مَالِهَا وَمَحَلُّ الْحَجْرِ عَلَيْهَا فِي تَبَرُّعِهَا بِزَائِدٍ عَنِ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهَا إِذَا كَانَ التَّبَرُّعُ لِغَيْرِ زَوْجِهَا.وَأَمَّا لَهُ فَلَهَا أَنْ تَهَبَ جَمِيعَ مَالِهَا لَهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ.
هَذَا، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (ر: مَرَضُ الْمَوْتِ).
ثَانِيًا: الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ:
14- لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَدِّقِ، مِنَ الْعَقْلِ، وَالْبُلُوغِ، وَالرُّشْدِ، وَأَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ، فَيَصِحُّ التَّصَدُّقُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، أَوْ إِفْلَاسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُمْ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْأَوْلِيَاءِ.
وَحَيْثُ إِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَهُنَاكَ أَشْخَاصٌ لَا تَصِحُّ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، وَآخَرُونَ تَصِحُّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَوْضُوعَ كَالتَّالِي:
أ- الصَّدَقَةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:
15- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى حُرْمَتِهَا، وَذَلِكَ صِيَانَةً لِمَنْصِبِهِ الشَّرِيفِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ فَأَكَلَ مَعَهُمْ».
وَعَلَى ذَلِكَ: فَالصَّدَقَةُ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَدْ أَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَا الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ الْمَبْنِيِّ عَلَى عِزِّ الْآخِذِ، وَذُلِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ.
ب- الصَّدَقَةُ عَلَى آلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لآِلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ».
أَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهَا عَلَيْهِمْ.وَالْبَعْضُ يَقُولُونَ: بِعَدَمِ الْجَوَازِ وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آلٌ 4 وَ 10)
ج- التَّصَدُّقُ عَلَى ذَوِي الْقَرَابَةِ وَالْأَزْوَاجِ:
17- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي جَوَازِ التَّصَدُّقِ عَلَى الْأَقْرِبَاءِ، وَالْأَزْوَاجِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ يُسَنُّ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ أَخْذُهَا، وَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ».
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: دَفْعُ الصَّدَقَةِ لِقَرِيبِ أَقْرَبَ فَأَقْرَبَ رَحِمًا وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا لِغَيْرِ الْقَرِيبِ، وَلِلْقَرِيبِ غَيْرِ الْأَقْرَبِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَيَتَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتَا لِبِلَالٍ: سَلْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هَلْ يُجْزِئُ أَنْ نَتَصَدَّقَ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَيَتَامَى فِي حُجُورِنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ».
هَذَا وَقَدْ رَتَّبَ الشَّافِعِيَّةُ مَنْ يُفَضَّلُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ فَقَالُوا: هِيَ فِي الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَفِي الْأَشَدِّ مِنْهُمْ عَدَاوَةً أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِيُتَأَلَّفَ قَلْبُهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مُجَانَبَةِ الرِّيَاءِ وَكَسْرِ النَّفْسِ، وَأُلْحِقَ بِهِمُ الْأَزْوَاجُ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، ثُمَّ الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ، كَأَوْلَادِ الْعَمِّ وَالْخَالِ.ثُمَّ فِي الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ رَضَاعًا، ثُمَّ مُصَاهَرَةً، ثُمَّ وَلَاءً، ثُمَّ جِوَارًا، وَقُدِّمَ الْجَارُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى قَرِيبٍ بَعِيدٍ عَنْ دَارِ الْمُتَصَدِّقِ، بِحَيْثُ لَا تُنْقَلُ إِلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ.وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
د- التَّصَدُّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ:
18- الْأَصْلُ أَنَّ الصَّدَقَةَ تُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ.وَذَلِكَ لقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ كَالْهِبَةِ فَتَصِحُّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.قَالَ السَّرَخْسِيُّ: ثُمَّ التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ يَكُونُ قُرْبَةً يُسْتَحَقُّ بِهَا الثَّوَابُ، فَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا يَمْلِكُ النِّصَابَ، وَلَهُ عِيَالٌ كَثِيرَةٌ، وَالنَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ.لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْغَنِيِّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا، وَيُكْرَهُ لَهُ التَّعَرُّضُ لِأَخْذِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنِ السُّؤَالِ مَعَ وُجُودِ حَاجَتِهِمْ، فَقَالَ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} وَيُكْرَهُ لَهُ أَخْذُهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا.وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا إِنْ أَظْهَرَ الْفَاقَةَ، كَمَا يَحْرُمُ أَنْ يَسْأَلَ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْغَنِيُّ بِالْمَالِ، وَالْغَنِيُّ بِالْكَسْبِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أَيْ: يُعَذَّبُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
لَكِنْ نَقَلَ الرَّمْلِيُّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: جَوَازُ طَلَبِهَا لِلْغَنِيِّ، وَيُحْمَلُ الذَّمُّ الْوَارِدُ فِي الْأَخْبَارِ عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ.
هـ- الصَّدَقَةُ عَلَى الْكَافِرِ:
19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْكَافِرِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ لِأَجْلِ الثَّوَابِ، وَهَلْ يُثَابُ الشَّخْصُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْكُفَّارِ؟.
فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إِنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِلْكُفَّارِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَمْ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ؟ مُسْتَأْمَنِينَ أَمْ غَيْرَ مُسْتَأْمَنِينَ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَمْ يَكُنِ الْأَسِيرُ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ كَافِرًا وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ «أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما- قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ» وَلِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحْمُودَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ، وَالْإِهْدَاءُ إِلَى الْغَيْرِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
وَفَرَّقَ الْحَصْكَفِيُّ فِي الدُّرِّ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: وَجَازَ دَفْعُ غَيْرِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ إِلَى الذِّمِّيِّ- وَلَوْ وَاجِبًا- كَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ وَفِطْرَةٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ وَلَوْ مُسْتَأْمَنًا فَجَمِيعُ الصَّدَقَاتِ لَا تَجُوزُ لَهُ.
وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: قَضِيَّةُ إِطْلَاقِ حِلِّ الصَّدَقَةِ لِلْكَافِرِ.أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا فِي الْبَيَانِ عَنِ الصَّيْمَرِيِّ وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ مِنْ أَنَّ: هَذَا فِيمَنْ لَهُ عَهْدٌ، أَوْ ذِمَّةٌ أَوْ قَرَابَةٌ أَوْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ، أَوْ كَانَ بِأَيْدِينَا بِأَسْرٍ وَنَحْوِهِ.فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلَا.
ثَالِثًا: الْمُتَصَدَّقُ بِهِ:
20- الْمُتَصَدَّقُ بِهِ هُوَ: الْمَالُ الَّذِي يُعْطَى لِلْفَقِيرِ وَذِي الْحَاجَةِ، وَحَيْثُ إِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ لِأَجْلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَيَنْبَغِي فِي الْمَالِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَلَا يَكُونَ مِنَ الْحَرَامِ أَوْ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ مَالًا جَيِّدًا، لَا رَدِيئًا، حَتَّى يَحْصُلَ عَلَى خَيْرِ الْبِرِّ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ.
وَقَدْ بَحَثَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ، وَحُكْمُ التَّصَدُّقِ مِنَ الْأَمْوَالِ الرَّدِيئَةِ وَالْحَرَامِ كَالتَّالِي:
التَّصَدُّقُ بِالْمَالِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمَالِ الْمُشْتَبَهِ فِيهِ:
21- لَقَدْ حَثَّ الْإِسْلَامُ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ وَالطَّيِّبِ، وَأَنْ تَكُونَ مِمَّا يُحِبُّهُ الْمُتَصَدِّقُ.فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلَوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ» وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ هُنَا الْحَلَالُ، كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَمَبَانِي الْأَحْكَامِ...وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنْ غَيْرِهِ.وَفِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ وَالْمَأْكُولَ وَالْمَلْبُوسَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَلَالًا خَالِصًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
وَحَذَّرَ الْحُسَيْنِيُّ فِي كِفَايَةِ الْأَخْيَارِ مِنْ أَخْذِ مَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ لِلتَّصَدُّقِ بِهِ، وَنَقَلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ: لأَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ حَرَامٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى بَلَغَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ.
وَعَلَى هَذَا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتَارَ الرَّجُلُ أَحَلَّ مَالِهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، كَمَا حَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ.
وَإِذَا كَانَ فِي عُهْدَةِ الْمُكَلَّفِ مَالٌ حَرَامٌ، فَإِنْ عَلِمَ أَصْحَابُهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَصْحَابُهُ يَتَصَدَّقْ بِهِ.
أَمَّا الْآخِذُ أَيْ: الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَرَفَ أَنَّ الْمَالَ الْمُتَصَدَّقَ بِهِ مِنَ النَّجِسِ أَوِ الْحَرَامِ كَالْغَصْبِ، أَوِ السَّرِقَةِ، أَوِ الْغَدْرِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَهُ وَلَا يَأْكُلَ مِنْهُ.وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَخْذَهُ لَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَمَظَالِمُ لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا، وَأَيِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ، فَعَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِقَدْرِهَا مِنْ مَالِهِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَتْ جَمِيعَ مَالِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي حَصَلَتْ بِالْغَدْرِ، كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ.
قَالَ الْجَمَلُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ تَصَدَّقَ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَوْصَى بِالنَّجِسِ صَحَّ عَلَى مَعْنَى نَقْلِ الْيَدِ، لَا التَّمْلِيكِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ نَحْوُ غُصُوبٍ، أَوْ رُهُونٍ، أَوْ أَمَانَاتٍ، لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا، وَأَيِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ، فَلَهُ الصَّدَقَةُ بِهَا مِنْهُمْ- أَيْ: مِنْ قِبَلِهِمْ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الدُّيُونِ الَّتِي جُهِلَ أَرْبَابُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْأَمْوَالُ الَّتِي فِيهَا شُبْهَةٌ فَالْأَوْلَى الِابْتِعَادُ عَنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّصَدُّقِ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ.
قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ».
التَّصَدُّقُ بِالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ:
22- يُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ أَيِ: الْمَالُ الْمُعْطَى مِنْ أَجْوَدِ مَالِ الْمُتَصَدِّقِ وَأَحَبِّهِ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَعْنَى لَنْ تَكُونُوا أَبْرَارًا حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، أَيْ: نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ وَكَرَائِمِهَا، وَكَانَ السَّلَفُ- رضي الله عنهم- إِذَا أَحَبُّوا شَيْئًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى.فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ رَاوِي الْحَدِيثِ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ».
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَشْتَرِي أَعْدَالًا مِنْ سُكَّرٍ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: هَلاَّ تَصَدَّقْتَ بِقِيمَتِهَا؟ قَالَ: لِأَنَّ السُّكَّرَ أَحَبُّ إِلَيَّ فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَ مِمَّا أُحِبُّ.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ حُصُولُ كَثْرَةِ الثَّوَابِ بِالتَّصَدُّقِ مِمَّا يُحِبُّهُ.وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ كَثِيرًا، وَيُسْتَحَبُّ التَّصَدُّقُ وَلَوْ بِشَيْءٍ نَزْرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».
وَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ التَّصَدُّقِ بِالرَّدِيءِ مِنَ الْمَالِ.قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أَيْ: لَا تَتَصَدَّقُوا بِالصَّدَقَةِ مِنَ الْمَالِ الْخَبِيثِ، وَلَا تَفْعَلُوا مَعَ اللَّهِ مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ.
وَرَجَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ الْآيَةَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ كَانَتْ فِي الْفَرِيضَةِ لَمَا قَالَ: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} لِأَنَّ الرَّدِيءَ وَالْخَبِيثَ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الْفَرْضِ بِحَالٍ، لَا مَعَ تَقْدِيرِ الْإِغْمَاضِ وَلَا مَعَ عَدَمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مَعَ عَدَمِ الْإِغْمَاضِ فِي النَّفْلِ
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ بَرَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، أَنَّ الْآيَةَ فِي التَّطَوُّعِ، نُدِبُوا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّعُوا إِلاَّ بِمُمْتَازٍ جَيِّدٍ وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي رَجُلٍ عَلَّقَ قِنْوَ حَشَفٍ فِي الْمَسْجِدِ: لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا» وَقَالَ: «إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
94-موسوعة الفقه الكويتية (عشرة)
عِشْرَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْعِشْرَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ وَالتَّعَاشُرِ، وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ.وَالْعَشِيرُ: الْقَرِيبُ، وَالصَّدِيقُ.
وَعَشِيرُ الْمَرْأَةِ: زَوْجُهَا؛ لِأَنَّهُ يُعَاشِرُهَا وَتُعَاشِرُهُ وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، فَقِيلَ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ».
وَالْعِشْرَةُ اصْطِلَاحًا: هِيَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْأُلْفَةِ وَالِانْضِمَامِ
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النُّشُوزُ:
2- أَصْلُ النُّشُوزِ فِي اللُّغَةِ الِارْتِفَاعُ، وَمِنْ مَعَانِيهِ: عِصْيَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، وَتَرْكُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ.
وَفِي اصْطِلَاحِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ-: هُوَ خُرُوجُ الزَّوْجَةِ عَنْ طَاعَةِ زَوْجِهَا.
حُكْمُ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ:
3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعِشْرَةَ بِالْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَنْدُوبَةٌ وَمُسْتَحَبَّةٌ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ..وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبِهَا هِيَ مَنْدُوبَةٌ إِلَى الْمُعَاشَرَةِ الْجَمِيلَةِ مَعَ زَوْجِهَا.
وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَيُسَنُّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا تَحْسِينُ الْخُلُقِ لِصَاحِبِهِ، وَالرِّفْقُ بِهِ، وَاحْتِمَالُ أَذَاهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: وُجُوبِ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ دِيَانَةً لَا قَضَاءً.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا- أَيِ الْعِشْرَةُ بِالْمَعْرُوفِ- وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ إِلاَّ أَنْ يَجْرِيَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى سُوءِ عَادَتِهِمْ، فَيَشْتَرِطُونَهُ وَيَرْبِطُونَهُ بِيَمِينٍ.
الْحَثُّ عَلَى الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ:
4- حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يَتَّقُونَ اللَّهَ فِيهِنَّ كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيهِمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِذَا أَطَعْنَ اللَّهَ وَأَطَعْنَ أَزْوَاجَهُنَّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ صُحْبَتَهَا، وَيَكُفَّ عَنْهَا أَذَاهُ، وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ سَعَتِهِ وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ»
مَعْنَى الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ:
5- مَعْنَى الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْأَزْوَاجَ فِي قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} هُوَ: أَدَاءُ الْحُقُوقِ كَامِلَةً لِلْمَرْأَةِ مَعَ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي الْمُصَاحَبَةِ.
وَقَالَ الْجَصَّاصُ: وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ، وَتَرْكِ أَذَاهَا بِالْكَلَامِ الْغَلِيظِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَالْمَيْلِ إِلَى غَيْرِهَا، وَتَرْكِ الْعَبُوسِ وَالْقُطُوبِ فِي وَجْهِهَا بِغَيْرِ ذَنْبٍ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}: التَّمَاثُلُ هَاهُنَا فِي تَأْدِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ، وَلَا يَمْطُلُهُ بِهِ، وَلَا يُظْهِرُ الْكَرَاهَةَ، بَلْ بِبِشْرٍ وَطَلَاقَةٍ، وَلَا يُتْبِعُهُ أَذًى وَلَا مِنَّةً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَهَذَا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ صَاحِبِهِ وَالرِّفْقُ بِهِ وَاحْتِمَالُ أَذَاهُ.
تَحَقُّقُ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
6- سَبَقَ أَنَّ مَعْنَى الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ أَدَاءُ الْحُقُوقِ كَامِلَةً مَعَ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي الْمُصَاحَبَةِ وَهَذِهِ الْحُقُوقُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
حُقُوقُ الزَّوْجِ:
7- حَقُّ الزَّوْجِ: عَلَى الزَّوْجَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْحُقُوقِ، بَلْ إِنَّ حَقَّهُ عَلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}
قَالَ الْجَصَّاصُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا، وَأَنَّ الزَّوْجَ مُخْتَصٌّ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهَا لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ مُفَضَّلٌ عَلَيْهَا مُقَدَّمٌ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ فَوْقَهَا.
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا».
وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ:
أ- تَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا:
8- إِذَا اسْتَوْفَى عَقْدُ النِّكَاحِ شُرُوطَهُ وَوَقَعَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا إِلَى الزَّوْجِ وَتَمْكِينُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الزَّوْجُ تَسْلِيمَ الْعِوَضِ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا كَمَا تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ الْعِوَضَ وَهُوَ الْمَهْرُ.
وَلِلْمَرْأَةِ إِنْ طَلَبَهَا الزَّوْجُ أَنْ تَسْأَلَ الْإِنْظَارَ مُدَّةً جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ تُصْلِحَ أَمْرَهَا فِيهَا كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ جَرَتِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ.
قَالَ الْخَرَشِيُّ: الزَّوْجَةُ تُمْهَلُ زَمَنًا بِقَدْرِ مَا يَتَجَهَّزُ فِيهِ مِثْلُهَا بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ مِنْ غِنًى وَفَقْرٍ، وَيُمْنَعُ الزَّوْجُ مِنَ الدُّخُولِ قَبْلَ مُضِيِّ ذَلِكَ الزَّمَنِ الْمُقَدَّرِ بِالْعَادَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ اسْتُمْهِلَتْ لِتَنْظِيفٍ وَنَحْوِهِ أُمْهِلَتْ مَا يَرَاهُ قَاضٍ كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَلَا يُجَاوِزُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهَذَا الْإِمْهَالُ وَاجِبٌ، وَقِيلَ مُسْتَحَبٌّ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا لَا تُمْهَلُ لِعَمَلِ جِهَازٍ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَفِي الْغُنْيَةِ إِنِ اسْتَمْهَلَتْ هِيَ أَوْ أَهْلُهَا اسْتُحِبَّ لَهُ إِجَابَتُهُمْ
ب- مَوَانِعُ التَّسْلِيمِ
يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا فِي الْحَالَاتِ الْآتِيَةِ:
1) عَدَمُ اسْتِيفَائِهَا لِلْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ:
9- لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهَا الزَّوْجُ صَدَاقَهَا الْمُعَجَّلَ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَسْلِيمٌ ف 19) وَمُصْطَلَحُ: (مَهْرٌ).
2) الصِّغَرُ:
10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ التَّسْلِيمِ الصِّغَرُ، فَلَا تُسَلَّمُ صَغِيرَةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ إِلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَكْبَرَ وَيَزُولَ هَذَا الْمَانِعُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُهُ فَرْطُ الشَّهْوَةِ عَلَى الْجِمَاعِ فَتَتَضَرَّرُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى زَوَالِ مَانِعِ الصِّغَرِ بِتَحَمُّلِهَا لِلْوَطْءِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: سَلِّمُوهَا لِي وَلَا أَطَؤُهَا حَتَّى تَحْتَمِلَهُ، فَإِنَّهُ لَا تُسَلَّمُ لَهُ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً، إِذْ لَا يُؤْمَنُ مِنْ هَيَجَانِ الشَّهْوَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا بَلَغَتِ الصَّغِيرَةُ تِسْعَ سِنِينَ دُفِعَتْ إِلَى الزَّوْجِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْبِسُوهَا بَعْدَ التِّسْعِ وَلَوْ كَانَتْ مَهْزُولَةَ الْجِسْمِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بَنَى بِعَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ» لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ هَذَا عِنْدِي عَلَى طَرِيقَةِ التَّحْدِيدِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ ابْنَةَ تِسْعٍ يُتَمَكَّنُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا.
وَإِذَا سُلِّمَتْ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ إِلَيْهِ وَخَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا الْإِفْضَاءَ مِنْ عِظَمِهِ فَلَهَا مَنْعُهُ مِنْ جِمَاعِهَا وَيَسْتَمْتِعُ بِهَا كَمَا يَسْتَمْتِعُ مِنَ الْحَائِضِ
3) الْمَرَضُ:
11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ تَسْلِيمِ الْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا الْمَرَضَ، وَالْمَقْصُودُ بِالْمَرَضِ هُنَا الْمَرَضُ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الْجِمَاعِ، وَحِينَئِذٍ تُمْهَلُ الْمَرْأَةُ إِلَى زَوَالِ مَرَضِهَا، وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالْمَرِيضَةِ مَنْ بِهَا هُزَالٌ تَتَضَرَّرُ بِالْوَطْءِ مَعَهُ.
- الطَّاعَةُ:
12- يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ طَاعَةُ زَوْجِهَا، فَعَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ رَجُلًا انْطَلَقَ غَازِيًا وَأَوْصَى امْرَأَتَهُ أَنْ لَا تَنْزِلَ مِنْ فَوْقِ الْبَيْتِ، وَكَانَ وَالِدُهَا فِي أَسْفَلِ الْبَيْتِ، فَاشْتَكَى أَبُوهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تُخْبِرُهُ وَتَسْتَأْمِرُهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا: اتَّقِي اللَّهَ وَأَطِيعِي زَوْجَكِ، ثُمَّ إِنَّ وَالِدَهَا تُوُفِّيَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تَسْتَأْمِرُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكِ بِطَوَاعِيَتِكِ لِزَوْجِكِ».
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ مَرِيضَةٌ، طَاعَةُ زَوْجِهَا أَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ أُمِّهَا إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا.
وَقَدْ رَتَّبَ الشَّارِعُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عَلَى طَاعَةِ الزَّوْجِ، كَمَا رَتَّبَ الْإِثْمَ الْعَظِيمَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الزَّوْجِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ تَأْتِهِ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ».
ثُمَّ إِنَّ وُجُوبَ طَاعَةِ الزَّوْجِ مُقَيَّدٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُطِيعَهُ فِيمَا لَا يَحِلُّ مِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهَا الْوَطْءَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ أَوْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَرْثِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.
ج- الِاسْتِمْتَاعُ بِالزَّوْجَةِ:
13- مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، إِذْ عَقْدُ النِّكَاحِ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ زَوْجَتِهِ حَتَّى إِلَى فَرْجِهَا.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ حِلُّ النَّظَرِ وَالْمَسِّ مِنْ رَأْسِهَا إِلَى قَدَمَيْهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فَوْقَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ، فَكَانَ إِحْلَالُهُ إِحْلَالًا لِلْمَسِّ وَالنَّظَرِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: سَأَلَ أَبُو يُوسُفَ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ فَرْجَ امْرَأَتِهِ وَهِيَ تَمَسُّ فَرْجَهُ لِيَتَحَرَّكَ عَلَيْهَا هَلْ تَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا؟ قَالَ: لَا، وَأَرْجُو أَنْ يَعْظُمَ الْأَجْرُ. كَمَا ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ الِاسْتِمْتَاعَ بِزَوْجَتِهِ كُلَّ وَقْتٍ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ إِذَا كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ فِي الْقُبُلِ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ فِي الْقُبُلِ مِنْ جِهَةِ عَجِيزَتِهَا لقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}.
مَنْعُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ مِنْ كُلِّ مَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ أَوْ كَمَالِهِ:
14- لَمَّا كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ عَقْدِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ هُوَ اسْتِمْتَاعُ الزَّوْجِ بِزَوْجَتِهِ، كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ كُلِّ مَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ أَوْ كَمَالِهِ.
وَمِنْ ثَمَّ فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ إِجْبَارَ زَوْجَتِهِ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لَهُ، فَمَلَكَ إِجْبَارَهَا عَلَى إِزَالَةِ مَا يَمْنَعُ حَقَّهُ.
وَصَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ كُلِّ مَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ، قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَكْلِ مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ، وَمِنَ الْغَزْلِ.
وَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ التَّزَيُّنِ بِمَا يَتَأَذَّى بِرِيحِهِ، كَأَنْ يَتَأَذَّى بِرَائِحَةِ الْحِنَّاءِ الْمُخْضَرِّ وَنَحْوِهِ، وَلَهُ ضَرْبُهَا بِتَرْكِ الزِّينَةِ إِذَا كَانَ يُرِيدُهَا.
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَلَهُ جَبْرُهَا عَلَى التَّطْيِيبِ وَالِاسْتِحْدَادِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُجْبِرَ زَوْجَتَهُ عَلَى غَسْلِ مَا تَنَجَّسَ مِنْ أَعْضَائِهَا لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ لُبْسِ مَا كَانَ نَجِسًا، وَلُبْسِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَلَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى التَّنْظِيفِ بِالِاسْتِحْدَادِ وَقَلْمِ الْأَظَافِرِ وَإِزَالَةِ شَعْرِ الْإِبِطِ وَالْأَوْسَاخِ سَوَاءٌ تَفَاحَشَ أَوْ لَمْ يَتَفَاحَشْ، وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ أَكْلِ مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ كَبَصَلٍ وَثُومٍ وَمِنْ أَكْلِ مَا يَخَافُ مِنْهُ حُدُوثَ مَرَضٍ.
د- التَّأْدِيبُ عِنْدَ النُّشُوزِ:
15- مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ تَأْدِيبُهَا عِنْدَ النُّشُوزِ وَالْخُرُوجِ عَلَى طَاعَتِهِ، لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَأْدِيب ف 8) مُصْطَلَحِ: (نُشُوز).
هـ- عَدَمُ الْإِذْنِ لِمَنْ يَكْرَهُ الزَّوْجُ دُخُولَهُ:
16- مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَلاَّ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ لِأَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ».
وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ النَّوَوِيِّ قَوْلَهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفْتَاتُ عَلَى الزَّوْجِ بِالْإِذْنِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا تَعْلَمُ رِضَا الزَّوْجِ بِهِ، أَمَّا لَوْ عَلِمَتْ رِضَا الزَّوْجِ بِذَلِكَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا، كَمَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِإِدْخَالِ الضِّيفَانِ مَوْضِعًا مُعَدًّا لَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَمْ غَائِبًا فَلَا يَفْتَقِرُ إِدْخَالُهُمْ إِلَى إِذْنٍ خَاصٍّ لِذَلِكَ..وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ إِذْنِهِ تَفْصِيلًا أَوْ إِجْمَالًا.
و- عَدَمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ:
17- مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَلاَّ تَخْرُجَ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ؟ فَقَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهَا أَلاَّ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَتْهَا مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ حَتَّى تَرْجِعَ».
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زَوْج ف 5، 6).
ز- الْخِدْمَةُ:
18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ خِدْمَةِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ خِدْمَةُ زَوْجِهَا، وَالْأَوْلَى لَهَا فِعْلُ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ خِدْمَةِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا دِيَانَةً لَا قَضَاءً
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ خِدْمَةُ زَوْجِهَا فِي الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِقِيَامِ الزَّوْجَةِ بِمِثْلِهَا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْخِدْمَةُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا فَقِيرَ الْحَالِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِدْمَة ف 18).
ح- السَّفَرُ بِالزَّوْجَةِ:
19- مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ السَّفَرُ وَالِانْتِقَالُ بِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ بِنِسَائِهِمْ».
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِلسَّفَرِ بِالزَّوْجَةِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَأْمُونًا عَلَيْهَا
حُقُوقُ الزَّوْجَةِ:
أ- الْمَهْرُ:
20- مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْمَهْرُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قَالَ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: وَالنِّحْلَةُ هَاهُنَا الْفَرِيضَةُ، وَهُوَ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَقِبَ ذِكْرِ الْمَوَارِيثِ: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}.
كَمَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَهْرِ زَوْجَتِهِ شَيْئًا إِلاَّ بِرِضَاهَا وَطِيبِ نَفْسِهَا.لقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْر).
ب- النَّفَقَةُ:
21- مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا النَّفَقَةُ.لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ...، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ».قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الرَّجُلِ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَالْأَبِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَة)
ج- إِعْفَافُ الزَّوْجَةِ:
22- مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَنْ يَقُومَ بِإِعْفَافِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَطَأَهَا.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوَطْءِ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَطْء).
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِلَ عَنْ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ بِلَا إِذْنِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ عَزْلِ الْحُرَّةِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا»؛ وَلِأَنَّ لَهَا فِي الْوَلَدِ حَقًّا وَعَلَيْهَا فِي الْعَزْلِ ضَرَرًا فَلَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِإِذْنِهَا.لَكِنْ أَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْعَزْلَ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجَةِ إِنْ خَافَ الزَّوْجُ مِنَ الْوَلَدِ السُّوءَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَزْل) (وَوَطْء).
د- الْبَيَاتُ عِنْدَ الزَّوْجَةِ:
23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ بَيَاتِ الزَّوْجِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ تَقْدِيرِهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْبَيَاتُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِذَا تَشَاغَلَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ بِالْعِبَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مِقْدَارٌ بَلْ يُؤْمَرُ أَنْ يَبِيتَ مَعَهَا وَيَصْحَبَهَا أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَاخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ لَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ وَبَاقِيهَا لَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا فِي الثَّلَاثِ بِتَزَوُّجِ ثَلَاثِ حَرَائِرَ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً فَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مِنْ كُلِّ سَبْعٍ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَبِيتَ فِي مَضْجَعِ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ لَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ، لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ سَوَّارٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا قَطُّ أَفْضَلَ مِنْ زَوْجِي، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَبِيتُ لَيْلَهُ قَائِمًا وَيَظَلُّ نَهَارَهُ صَائِمًا، فَاسْتَغْفَرَ لَهَا وَأَثْنَى عَلَيْهَا، وَاسْتَحْيَتِ الْمَرْأَةُ وَقَامَتْ رَاجِعَةً، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلاَّ أَعْدَيْتَ الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا؟ فَقَالَ: مَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهَا جَاءَتْ تَشْكُوهُ إِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ فِي الْعِبَادَةِ مَتَى يَتَفَرَّغُ لَهَا؟ فَبَعَثَ عُمَرُ إِلَى زَوْجِهَا وَقَالَ لِكَعْبٍ اقْضِ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّكَ فَهِمْتَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا لَمْ أَفْهَمْهُ، قَالَ: فَإِنِّي أَرَى أَنَّهَا امْرَأَةٌ عَلَيْهَا ثَلَاثُ نِسْوَةٍ وَهِيَ رَابِعَتُهُنَّ فَاقْضِ لَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ يَتَعَبَّدُ فِيهِنَّ وَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ وَلَمْ تُنْكَرْ فَكَانَتْ كَالْإِجْمَاعِ، يُؤَيِّدُهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنْ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنْ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».
وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: يَلْزَمُهُ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ مَا يَزُولُ مَعَهُ ضَرُّ الْوَحْشَةِ، وَيَحْصُلُ مِنْهُ الْأُنْسُ الْمَقْصُودُ بِالزَّوْجِيَّةِ بِلَا تَوْقِيتٍ فَيَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ، وَصَوَّبَ الْمِرْدَاوِيُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ إِذَا طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا فَلَا يَجِبُ بِدُونِ الطَّلَبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْبَيَاتُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّمَا يُسَنُّ لَهُ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ السُّنَّةِ فِي الْبَيَاتِ لَيْلَةٌ فِي كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ، اعْتِبَارًا بِمَنْ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وُجُوبَ الْبَيَاتِ عِنْدَهَا، أَوْ يُحْضِرَ لَهَا مُؤْنِسَةً؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا وَحْدَهَا ضَرَرٌ بِهَا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْفَسَادُ وَالْخَوْفُ مِنَ اللُّصُوصِ
هـ- إِخْدَامُ الزَّوْجَةِ:
24- مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِخْدَامُهَا؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ،؛ وَلِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ.
وَفِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خِدْمَةٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا).
و- الْقَسْمُ:
25- مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْقَسْمُ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُتَزَوِّجًا بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ.
فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ»
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَسْم).
الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
أ- الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ:
26- الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُعَاشِرَ صَاحِبَهُ بِالْمَعْرُوفِ.وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ: (ف 3)
ب- الِاسْتِمْتَاعُ:
27- مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ اسْتِمْتَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَهَذَا الْحَقُّ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا لَكِنَّهُ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ أَقْوَى مِنْهُ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ.وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ: (ف 13).
ج- الْإِرْثُ:
28- مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْإِرْثُ، فَيَرِثُ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ عِنْدَ وَفَاتِهَا، كَمَا تَرِثُ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا عِنْدَ وَفَاتِهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 36، 37، 38)
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
95-موسوعة الفقه الكويتية (فقد الطهورين)
فَقْدُ الطَّهُورَيْنِالتَّعْرِيفُ:
1- الْفَقْدُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ فَقَدَ الشَّيْءَ يَفْقِدُهُ فَقْدًا وَفِقْدَانًا وَفُقُودًا؛ أَيْ عَدِمَهُ، وَالطَّهُورُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَاءٍ نَظِيفٍ، قَالَ ثَعْلَبٌ: الطَّهُورُ هُوَ الطَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الطَّهُورُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الطَّهُورُ الْبَلِيغُ فِي الطَّهَارَةِ.
وَالْمَاءُ الطَّهُورُ بِالْفَتْحِ: هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَيُزِيلُ النَّجَسَ.
وَالطَّهُورَانِ فِي الِاصْطِلَاحِ: الْمَاءُ وَالتُّرَابُ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ فَقَدَ الطَّهُورَيْنِ: الْمَاءَ وَالتُّرَابَ، فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَالْمَحْبُوسِ فِي مَكَانٍ قَذِرٍ لَا يَجِدُ صَعِيدًا طَيِّبًا وَلَا مَاءً يَتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مَنْ يُيَمِّمُهُ أَوْ يُوَضِّئُهُ، وَالْمَصْلُوبِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ فَقَطْ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، لِأَنَّ الْعَجْزَ فِي الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ تَرْكَ الْمَشْرُوطِ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَوِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ.
وَلَا يُصَلِّي النَّافِلَةَ حِينَئِذٍ، إِذْ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْفَرْضُ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهَذِهِ الصَّلَاةُ تُوصَفُ بِالصِّحَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهِمَا، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِذَا كَانَ يَرْجُو أَحَدَ الطَّهُورَيْنِ حَتَّى يَضِيقَ الْوَقْتُ، كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ.
وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا وَجَدَ أَحَدَ الطَّهُورَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا الْعُذْرَ نَادِرٌ وَلَا دَوَامَ لَهُ.
وَمَا سَبَقَ هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَمُقَابِلُهُ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: تَجِبُ الصَّلَاةُ بِلَا إِعَادَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَدَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ.
ثَانِيهَا: يُنْدَبُ لَهُ الْفِعْلُ وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ.
ثَالِثُهَا: يُنْدَبُ لَهُ الْفِعْلُ وَلَا إِعَادَةَ.
رَابِعُهَا: يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَضَلَّتْهَا، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رِجَالًا فِي طَلَبِهَا فَوَجَدُوهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَشَكَوْا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ»، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَسَقَطَ عِنْدَ الْعَجْزِ كَسَائِرِ شُرُوطِهَا، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ فَاقِدَ الطَّهُورَيْنِ الَّذِي بِهِ حَدَثٌ أَكْبَرُ لَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَا يَقْرَأُ مَنْ بِهِ حَدَثٌ أَكْبَرُ فِي الصَّلَاةِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ عِنْدَ النَّوَوِيِّ، وَيُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهَا عِنْدَ الرَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قِرَاءَةٍ وَغَيْرِهَا، فَلَا يَقْرَأُ زَائِدًا عَلَى
الْفَاتِحَةِ، وَلَا يُسَبِّحُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُجْزِئُ فِي طُمَأْنِينَةِ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ جُلُوسٍ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِالْمُصَلِّينَ احْتِرَامًا لِلْوَقْتِ، فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ إِنْ وَجَدَ مَكَانًا يَابِسًا، وَإِلاَّ فَيُومِئُ قَائِمًا، وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يَقْرَأُ، سَوَاءٌ كَانَ حَدَثُهُ أَصْغَرَ أَمْ أَكْبَرَ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَنْوِي أَيْضًا، لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْمُصَلِّي وَلَيْسَ بِصَلَاةٍ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّاحِبَيْنِ، قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: بِهِ يُفْتَى وَإِلَيْهِ صَحَّ رُجُوعُهُ.
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَرْجُوعُ عَنْهُ أَنَّهُ يُؤَخِّرُهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنْ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ، وَلَا قَضَاؤُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ أَوِ التُّرَابَ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ أَدَائِهَا، وَقَدْ عُدِمَ، وَشَرْطُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ تَعَلُّقُ الْأَدَاءِ بِالْقَاضِي، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ أَصْبَغُ: يَقْضِي وَلَا يُؤَدِّي، وَقَالَ أَشْهَبُ: يَجِبُ الْأَدَاءُ فَقَطْ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجِبُ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ احْتِيَاطًا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
96-موسوعة الفقه الكويتية (قرض 1)
قَرْض -1التَّعْرِيفُ:
1- الْقَرْضُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ قَرَضَ الشَّيْءَ يَقْرِضُهُ: إِذَا قَطَعَهُ.
وَالْقَرْضُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِقْرَاضِ.يُقَالُ: قَرَضْتُ الشَّيْءَ بِالْمِقْرَاضِ، وَالْقَرْضُ: مَا تُعْطِيهِ الْإِنْسَانَ مِنْ مَالِكَ لِتُقْضَاهُ، وَكَأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ قَطَعْتَهُ مِنْ مَالِكَ، وَيُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَتَقَارَضَانِ الثَّنَاءَ، إِذَا أَثْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَأَنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ ثَنَاءً، كَقَرْضِ الْمَالِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: دَفْعُ مَالٍ إِرْفَاقًا لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَرُدُّ بَدَلَهُ.
قَالُوا: وَيُسَمَّى نَفْسُ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ قَرْضًا، وَالدَّافِعُ لِلْمَالِ مُقْرِضًا، وَالْآخِذُ: مُقْتَرِضًا وَمُسْتَقْرِضًا وَيُسَمَّى الْمَالُ الَّذِي يَرُدُّهُ الْمُقْتَرِضُ إِلَى الْمُقْرِضِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ: بَدَلَ الْقَرْضِ، وَأَخْذُ الْمَالِ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ: اقْتِرَاضًا.
وَالْقَرْضُ بِهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْقَرْضُ الْحَقِيقِيُّ، وَقَدْ تَفَرَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فَجَعَلُوا لَهُ قَسِيمًا سَمَّوْهُ: الْقَرْضَ الْحُكْمِيَّ، وَوَضَعُوا لَهُ أَحْكَامًا تَخُصُّهُ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى اللَّقِيطِ الْمُحْتَاجِ، وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ، وَكِسْوَةِ الْعَارِي، إِذَا لَمْ يَكُونَا فُقَرَاءَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ، وَبِمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِإِعْطَاءِ مَالٍ لِغَرَضِ الْآمِرِ.
كَإِعْطَاءِ شَاعِرٍ أَوْ ظَالِمٍ، أَوْ إِطْعَامِ فَقِيرٍ أَوْ فِدَاءِ أَسِيرٍ، وَكَبِعْ هَذَا وَأَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- السَّلَفُ:
2- مِنْ مَعَانِي السَّلَفِ الْقَرْضُ.يُقَالُ تَسَلَّفَ وَاسْتَسْلَفَ: أَيِ اسْتَقْرَضَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَسْلَفْتُهُ: أَيْ أَقْرَضْتُهُ، وَيَأْتِي السَّلَفُ أَيْضًا بِمَعْنَى السَّلَمِ.يُقَالُ: سَلَّفَ وَأَسْلَفَ بِمَعْنَى سَلَّمَ وَأَسْلَمَ.
وَالسَّلَفُ أَعَمُّ مِنَ الْقَرْضِ.
ب- الْقِرَاضُ:
3- وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ نَقْدًا لِيَتَّجِرَ بِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا يَتَشَارَطَانِهِ.قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: » وَأَصْلُ الْقِرَاضِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَرْضِ، وَهُوَ الْقَطْعُ، وَذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ قَطَعَ لِلْعَامِلِ فِيهِ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ، وَقَطَعَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ فِيهِ شَيْئًا مَعْلُومًا..وَخُصَّتْ شَرِكَةُ الْمُضَارَبَةِ بِالْقِرَاضِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرِّبْحِ شَيْئًا مَقْرُوضًا، أَيْ مَقْطُوعًا لَا يَتَعَدَّاهُ.
(ر: مُضَارَبَة).
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعَ الْمَالِ إِلَى الْغَيْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ وَفِي الْقِرَاضِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرْضِ:
4- ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرْضِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ، فَبِالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الْإِقْرَاضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهَا أَنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ شَبَّهَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْمَالِ الْمُقْرَضِ، وَشَبَّهَ الْجَزَاءَ الْمُضَاعَفَ عَلَى ذَلِكَ بِبَدَلِ الْقَرْضِ، وَسَمَّى أَعْمَالَ الْبِرِّ قَرْضًا؛ لِأَنَّ الْمُحْسِنَ بَذَلَهَا لِيَأْخُذَ عِوَضَهَا، فَأَشْبَهَ مَنْ أَقْرَضَ شَيْئًا لِيَأْخُذَ عِوَضَهُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَفِعْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- حَيْثُ رَوَى أَبُو رَافِعٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رُبَاعِيًّا، فَقَالَ: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً».
ثُمَّ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، كَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلاَّ كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً».
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْقَرْضِ:
5- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَرْضِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ أَنَّهُ قُرْبَةٌ مِنَ الْقُرَبِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِيصَالِ النَّفْعِ لِلْمُقْتَرِضِ، وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ، وَأَنَّ حُكْمَهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ النَّدْبُ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» لَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ أَوِ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْحُرْمَةُ أَوِ الْإِبَاحَةُ، بِحَسَبِ مَا يُلَابِسُهُ أَوْ يُفْضِي إِلَيْهِ، إِذْ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ الْمُقْتَرِضُ مُضْطَرًّا وَالْمُقْرِضُ مَلِيئًا كَانَ إِقْرَاضُهُ وَاجِبًا، وَإِنْ عَلِمَ الْمُقْرِضُ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَصْرِفُهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ مَكْرُوهٍ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا بِحَسَبِ الْحَالِ، وَلَوِ اقْتَرَضَ تَاجِرٌ لَا لِحَاجَةٍ، بَلْ لِيَزِيدَ فِي تِجَارَتِهِ طَمَعًا فِي الرِّبْحِ الْحَاصِلِ مِنْهُ، كَانَ إِقْرَاضُهُ مُبَاحًا، حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى تَنْفِيسِ كُرْبَةٍ، لِيَكُونَ مَطْلُوبًا شَرْعًا.
6- أَمَّا فِي حَقِّ الْمُقْتَرِضِ، فَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَذَلِكَ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْوَفَاءَ، بِأَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مُرْتَجًى، وَعَزَمَ عَلَى الْوَفَاءِ مِنْهُ، وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ، مَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا- فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ فِي حَقِّهِ لِدَفْعِ الضُّرِّ عَنْ نَفْسِهِ- أَوْ كَانَ الْمُقْرِضُ عَالِمًا بِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ وَأَعْطَاهُ، فَلَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِ، وَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِإِعْطَائِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِفَقِيرٍ إِظْهَارُ الْغِنَى عِنْدَ الِاقْتِرَاضِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا لِلْمُقْرِضِ وَقَالَ أَيْضًا: وَمِنْ ثَمَّ لَوْ عَلِمَ الْمُقْتَرِضُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقْرِضُهُ لِنَحْوِ صَلَاحِهِ، وَهُوَ بَاطِنًا بِخِلَافِ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ الِاقْتِرَاضُ أَيْضًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
تَوْثِيقُ الْقَرْضِ:
7- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ كِتَابَةَ الدَّيْنِ وَالْإِشْهَادَ عَلَيْهِ مَنْدُوبَانِ وَلَيْسَا وَاجِبَيْنِ مُطْلَقًا، وَالْأَمْرُ بِهِمَا فِي الْآيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى الْأَوْثَقِ وَالْأَحْوَطِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ الْوُجُوبُ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا أَمَرَ إِذَا لَمْ يَجِدُوا كَاتِبًا بِالرَّهْنِ، ثُمَّ أَبَاحَ تَرْكَ الرَّهْنِ وَقَالَ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَظِّ، لَا فَرْضٌ فِيهِ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْثِيق ف 7).
أَرْكَانُ الْقَرْضِ:
8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ عَقْدِ الْقَرْضِ ثَلَاثَةٌ:
1- الصِّيغَةُ (وَهِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ).
2- الْعَاقِدَانِ (وَهُمَا الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ).
3- الْمَحَلُّ (وَهُوَ الْمَالُ الْمُقْرَضُ).
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْقَرْضِ هُوَ الصِّيغَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ الدَّالَّيْنِ عَلَى اتِّفَاقِ الْإِرَادَتَيْنِ وَتَوَافُقِهِمَا عَلَى إِنْشَاءِ هَذَا الْعَقْدِ.
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الصِّيغَةُ (الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ):
9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الْإِيجَابِ بِلَفْظِ الْقَرْضِ وَالسَّلَفِ وَبِكُلِّ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا، كَأَقْرَضْتُكَ وَأَسْلَفْتُكَ وَأَعْطَيْتُكَ قَرْضًا أَوْ سَلَفًا، وَمَلَّكْتُكَ هَذَا عَلَى أَنْ تَرُدَّ لِي بَدَلَهُ، وَخُذْ هَذَا فَاصْرِفْهُ فِي حَوَائِجِكَ وَرُدَّ لِي بَدَلَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ..أَوْ تُوجَدُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى إِرَادَةِ الْقَرْضِ، كَأَنْ سَأَلَهُ قَرْضًا فَأَعْطَاهُ..وَكَذَا صِحَّةُ الْقَبُولِ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِمَا أَوْجَبَهُ الْأَوَّلُ، مِثْلُ: اسْتَقْرَضْتُ أَوْ قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى قَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ: وَظَاهِرٌ أَنَّ الِالْتِمَاسَ مِنَ الْمُقْرِضِ، كَاقْتَرِضْ مِنِّي، يَقُومُ مَقَامَ الْإِيجَابِ، وَمِنَ الْمُقْتَرِضِ، كَأَقْرِضْنِي، يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُولِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَطَعَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِيجَابُ وَلَا الْقَبُولُ، بَلْ إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: أَقْرِضْنِي كَذَا، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَالَ، صَحَّ الْقَرْضُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ ثَبَتَ الْقَرْضُ.
وَالشَّافِعِيَّةُ مَعَ قَوْلِهِمْ- فِي الْأَصَحِّ- بِاشْتِرَاطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لِصِحَّةِ الْقَرْضِ، كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، اسْتَثْنَوْا مِنْهُ مَا سَمَّوْهُ بِـ «الْقَرْضِ الْحُكْمِيِّ»، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِ الصِّيغَةَ أَصْلًا قَالَ الرَّمْلِيُّ: أَمَّا الْقَرْضُ الْحُكْمِيُّ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ صِيغَةٌ، كَإِطْعَامِ جَائِعٍ، وَكِسْوَةِ عَارٍ، وَإِنْفَاقٍ عَلَى لَقِيطٍ، وَمِنْهُ أَمْرُ غَيْرِهِ بِإِعْطَاءِ مَا لَهُ غَرَضٌ فِيهِ، كَإِعْطَاءِ شَاعِرٍ أَوْ ظَالِمٍ، أَوْ إِطْعَامِ فَقِيرٍ، وَكَبِعْ هَذَا وَأَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ.
وَاتَّفَقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى أَنَّ رُكْنَ الْقَرْضِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، لَكِنْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الْإِيجَابُ فَقَطْ، وَأَمَّا الْقَبُولُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يُقْرِضُ فُلَانًا فَأَقْرَضَهُ، وَلَمْ يَقْبَلْ، لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: يَحْنَثُ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الْإِقْرَاضَ إِعَارَةٌ وَالْقَبُولَ لَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الْإِعَارَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ الْمُسْتَقْرِضِ، فَلِهَذَا اخْتَصَّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، فَكَانَ الْقَبُولُ رُكْنًا فِيهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.
وَفَرَّعَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لِانْعِقَادِ الْقَرْضِ، مَا لَوْ قَالَ الْمُقْرِضُ لِلْمُسْتَقْرِضِ: أَقْرَضْتُكَ أَلْفًا، وَقَبِلَ، وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ الْأَلْفَ، أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ جَازَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَصَدَ الْإِيجَابَ، وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُعِيدَ لَفْظَ الْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَى الْعَقْدِ مَعَ طُولِ الْفَصْلِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (عَقْد ف 5- 27). الرُّكْنُ الثَّانِي:
الْعَاقِدَانِ (الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ):
(أ) مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَرْضِ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْرِضِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، أَيْ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا رَشِيدًا قَالَ الْبُهُوتِيُّ: لِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلاَّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ، كَالصَّدَقَةِ وَقَدْ أَكَّدَ الْكَاسَانِيُّ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الْقَرْضَ لِلْمَالِ تَبَرُّعٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ، فَكَانَ تَبَرُّعًا لِلْحَالِ، فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ مِمَّنْ يَجُوزُ مِنْهُ التَّبَرُّعُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْقَرْضِ شَائِبَةَ تَبَرُّعٍ، لَا أَنَّهُ مِنْ عُقُودِ الْإِرْفَاقِ وَالتَّبَرُّعِ، فَقَالَ صَاحِبُ «أَسْنَى الْمَطَالِبِ» «لِأَنَّ الْقَرْضَ فِيهِ شَائِبَةُ التَّبَرُّعِ، وَلَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً مَحْضَةً لَجَازَ لِلْوَلِيِّ- غَيْرِ الْقَاضِي قَرْضُ مَالِ مُوَلِّيهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَاشْتُرِطَ فِي قَرْضِ الرِّبَوِيِّ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَجَازَ فِي غَيْرِهِ شَرْطُ الْأَجَلِ، وَاللَّوَازِمُ بَاطِلَةٌ».
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمُقْرِضِ لِلتَّبَرُّعِ تَسْتَلْزِمُ اخْتِيَارَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ إِقْرَاضٌ مِنْ مُكْرَهٍ، قَالُوا: وَمَحَلُّهُ إِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَمَّا إِذَا أُكْرِهَ بِحَقٍّ، بِأَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِقْرَاضُ لِنَحْوِ اضْطِرَارٍ فَإِنَّ إِقْرَاضَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ يَكُونُ صَحِيحًا.
وَفَرَّعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ فِي الْمُقْرَضِ عَدَمَ صِحَّةِ إِقْرَاضِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ لِمَالِ الصَّغِيرِ وَفَرَّعَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ صِحَّةِ قَرْضِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ لِمَالَيْهِمَا أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ إِقْرَاضُ الْوَلِيِّ مَالَ مُوَلِّيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَاكِمُ، أَمَّا الْحَاكِمُ فَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَهُمْ إِقْرَاضُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ- خِلَافًا لِلسُّبْكِيِّ- بِشَرْطِ يَسَارِ الْمُقْتَرِضِ وَأَمَانَتِهِ وَعَدَمِ الشُّبْهَةِ فِي مَالِهِ إِنْ سَلَّمَ مِنْهَا مَالَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَيَأْخُذُ رَهْنًا إِنْ رَأَى ذَلِكَ.
(ب) مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْتَرِضِ:
11- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْتَرِضِ أَهْلِيَّةُ الْمُعَامَلَةِ دُونَ اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُقْتَرِضِ تَمَتُّعُهُ بِالذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ فِي الذِّمَمِ، ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ عَدَمَ صِحَّةِ الِاقْتِرَاضِ لِمَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ ذِمَمٍ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ عِنْدَهُمْ أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى شُرُوطٍ خَاصَّةٍ لِلْمُقْتَرِضِ، وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ فُرُوعِهِمُ الْفِقْهِيَّةِ اشْتِرَاطُهُمْ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا، وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا: إِذَا اسْتَقْرَضَ صَبِيٌّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، فَإِنْ تَلِفَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ بَاقِيَةً فَلِلْمُقْرِضِ اسْتِرْدَادُهَا وَهَذَا الْحُكْمُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ اقْتِرَاضِ الْمَحْجُورِ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ، وَجَاءَ فِي جَامِعِ أَحْكَامِ الصِّغَارِ لِلْأُسْرُوشَنِيِّ: اسْتِقْرَاضُ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ، وَكَذَا اسْتِقْرَاضُ الْوَصِيِّ لِلصَّغِيرِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي رَهْنِ «الْهِدَايَةِ»: وَلَوِ اسْتَدَانَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي كِسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ وَرَهَنَ بِهِ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ جَازَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ، وَالرَّهْنُ يَقَعُ إِيفَاءً لِلْحَقِّ، فَيَجُوزُ.
الِاقْتِرَاضُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَالْوَقْفِ:
12- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الِاسْتِقْرَاضُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَقْتَ الْأَزَمَاتِ وَعِنْدَ النَّوَائِبِ وَالْمُلِمَّاتِ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُونَ مِنِ اسْتِسْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَاتِ وَاسْتِعْجَالِهِ الزَّكَوَاتِ، فَلَسْتُ أُنْكِرُ جَوَازَ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أُجَوِّزُ الِاسْتِقْرَاضَ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الْحَالِ وَانْقِطَاعِ الْأَمْوَالِ، وَمَصِيرُ الْأَمْرِ إِلَى مُنْتَهًى يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهِ اسْتِيعَابُ الْحَوَادِثِ لِمَا يَتَجَدَّدُ فِي الِاسْتِقْبَالِ.
غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
(أَحَدُهَا) أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إِيرَادٌ مُرْتَجًى لِبَيْتِ الْمَالِ لِيُوَفَّى مِنْهُ الْقَرْضُ، قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَالِاسْتِقْرَاضُ فِي الْأَزَمَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يُرْجَى لِبَيْتِ الْمَالِ دَخْلٌ يُنْتَظَرُ أَوْ يُرْتَجَى.
(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ الِاسْتِقْرَاضُ مِنْ أَجْلِ الْوَفَاءِ بِالْتِزَامٍ ثَابِتٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ مَا يَصِيرُ بِتَأْخِيرِهِ دَيْنًا لَازِمًا عَلَيْهِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لَا يُسْتَقْرَضُ لَهُ، قَالَ أَبُو يَعْلَى: لَوِ اجْتَمَعَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ حَقَّانِ ضَاقَ عَنْهُمَا وَاتَّسَعَ لِأَحَدِهِمَا، صُرِفَ فِيمَا يَصِيرُ مِنْهُمَا دَيْنًا فِيهِ، وَلَوْ ضَاقَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَانَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ إِذَا خَافَ الضَّرَرَ وَالْفَسَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ مَا يَصْرِفُهُ فِي الدُّيُونِ دُونَ الْإِرْفَاقِ وَكَانَ مَنْ حَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْوُلَاةِ مَأْخُوذًا بِقَضَائِهِ إِذَا اتَّسَعَ لَهُ بَيْتُ الْمَالِ.
(وَالثَّالِثُ) أَنْ يُعِيدَ الْإِمَامُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ مَا اقْتَطَعَهُ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَذَوِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا وَضَعُوهُ فِي حَرَامٍ، وَتَبْقَى الْحَاجَةُ إِلَى الِاسْتِقْرَاضِ قَائِمَةً، قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: لَمَّا عَزَمَ السُّلْطَانُ قُطُزُ عَلَى الْمَسِيرِ مِنْ مِصْرَ لِمُحَارَبَةِ التَّتَارِ، وَقَدْ دَهَمُوا الْبِلَادَ، جَمَعَ الْعَسَاكِرَ، فَضَاقَتْ يَدُهُ عَنْ نَفَقَاتِهِمْ، فَاسْتَفْتَى الْإِمَامَ الْعِزَّ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْ أَمْوَالِ التُّجَّارِ، فَقَالَ لَهُ الْعِزُّ: إِذَا أَحْضَرْتَ مَا عِنْدَكَ وَعِنْدَ حَرِيمِكَ، وَأَحْضَرَ الْأُمَرَاءُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُلِيِّ الْحَرَامِ اتِّخَاذُهُ، وَضَرَبْتَهُ سِكَّةً وَنَقْدًا، وَفَرَّقْتَهُ فِي الْجَيْشِ وَلَمْ يَقُمْ بِكِفَايَتِهِمْ، ذَلِكَ الْوَقْتَ اطْلُبِ الْقَرْضَ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا.
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاسْتِقْرَاضِ الْإِمَامِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، أَمَّا اسْتِقْرَاضُهُ عَلَيْهِ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي بَابِ اللَّقِيطِ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُ نَفَقَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ- بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ أَوْ كَانَ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ- اقْتَرَضَ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ مِقْدَارَ نَفَقَتِهِ.
13- أَمَّا الِاسْتِقْرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ، فَهُوَ جَائِزٌ لِدَاعِي الْمَصْلَحَةِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدَّيْنَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ وَبِهَذِهِ الْجِهَاتِ، كَتَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي، فَلَا يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ الْوَفَاءُ مِنْ مَالِهِ، بَلْ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ وَمَا يَحْدُثُ لِبَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يُقَالُ: لَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ رَأْسًا أَيْ بِذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ.
غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِ الِاقْتِرَاضِ عَلَى الْوَقْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ الْوَاقِفِ، إِلاَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ- كَتَعْمِيرٍ وَشِرَاءِ بَذْرٍ وَلَيْسَ لِلْوَقْفِ غَلَّةٌ قَائِمَةٌ بِيَدِ الْمُتَوَلِّي- فَيَجُوزُ عِنْدَ ذَلِكَ بِشَرْطَيْنِ:
الْأَوَّلُ: إِذْنُ الْقَاضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنْهُ، وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ أَعَمُّ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ فَيَسْتَدِينُ النَّاظِرُ بِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَتَيَسَّرَ إِجَارَةُ الْعَيْنِ وَالصَّرْفِ مِنْ أُجْرَتِهَا.
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ الِاقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ بِلَا إِذْنِ حَاكِمٍ لِمَصْلَحَةٍ- كَمَا إِذَا قَامَتْ حَاجَةٌ لِتَعْمِيرِهِ، وَلَا يُوجَدُ غَلَّةٌ لِلْوَقْفِ يُمْكِنُ الصَّرْفُ مِنْهَا عَلَى عِمَارَتِهِ- لِأَنَّ النَّاظِرَ مُؤْتَمَنٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ، فَالْإِذْنُ وَالِائْتِمَانُ ثَابِتَانِ لَهُ.
(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ الِاقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِنْ شَرَطَهُ لَهُ الْوَاقِفُ أَوْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ الْحَاكِمُ، قَالُوا: فَلَوِ اقْتَرَضَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي وَلَا شَرْطٍ مِنَ الْوَاقِفِ لَمْ يَجُزْ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَقْفِ بِمَا صَرَفَهُ لِتَعَدِّيهِ فِيهِ.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَحَلُّ (الْمَالُ الْمُقْرَضُ):
لِلْمَالِ الْمُقْرَضِ شُرُوطٌ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ عَلَى مَا يَلِي:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ:
14- وَالْمِثْلِيَّاتُ: هِيَ الْأَمْوَالُ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا تَفَاوُتًا تَخْتَلِفُ بِهِ قِيمَتُهَا، كَالنُّقُودِ وَسَائِرِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّمَا يَصِحُّ قَرْضُ الْمِثْلِيَّاتِ وَحْدَهَا، أَمَّا الْقِيَمِيَّاتُ الَّتِي تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا تَفَاوُتًا تَخْتَلِفُ بِهِ قِيمَتُهَا، كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ إِقْرَاضُهَا.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِيجَابِ رَدِّ الْعَيْنِ، وَلَا إِلَى إِيجَابِ رَدِّ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ بِاخْتِلَافِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِيهِ رَدَّ الْمِثْلِ، فَيَخْتَصَّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا يَصِحُّ الْقَرْضُ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ إِعَارَةٌ ابْتِدَاءً حَتَّى تَصِحَّ بِلَفْظِهَا، مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ، فَيَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى جَوَازِ قَرْضِ الْمِثْلِيَّاتِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ وَسَّعُوا دَائِرَةَ مَا يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ، فَقَالُوا: يَصِحُّ إِقْرَاضُ كُلِّ مَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ- حَيَوَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ- وَهُوَ كُلُّ مَا يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَلِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ بَكْرًا وَقِيسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، أَمَّا مَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَهُوَ مَا لَا يُضْبَطُ بِالْوَصْفِ- كَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا- فَلَا يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ.
ثُمَّ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ قَرْضِ مَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ جَوَازَ قَرْضِ الْخُبْزِ وَزْنًا لِلْحَاجَةِ وَالْمُسَامَحَةِ.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ قَرْضِ كُلِّ عَيْنٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِثْلِيَّةً أَمْ قِيَمِيَّةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ أَمْ لَا.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا:
15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِقْرَاضُ الْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي مُسْتَنَدِ الْمَنْعِ وَمَنْشَئِهِ.
فَأَسَاسُ مَنْعِ إِقْرَاضِ الْمَنَافِعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى دَفْعِ مَالٍ مِثْلِيٍّ لآِخَرَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ وَالْمَنَافِعُ لَا تُعْتَبَرُ أَمْوَالًا فِي مَذْهَبِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عِنْدَهُمْ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ طَبْعُ الْإِنْسَانِ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْإِحْرَازِ وَالِادِّخَارِ، إِذْ هِيَ أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَآنًا فَآنًا، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا غَيْرُ الَّذِي يَنْتَهِي، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ جَعْلُ الْمَنَافِعِ مَحَلًّا لِعَقْدِ الْقَرْضِ.
وَأَمَّا مُسْتَنَدُ مَنْعِ إِقْرَاضِ الْمَنَافِعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ أَيْ فِي الْعُرْفِ وَعَادَةِ النَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَيَجُوزُ قَرْضُ الْمَنَافِعِ، مِثْلُ أَنْ يَحْصُدَ مَعَهُ يَوْمًا، وَيَحْصُدَ مَعَهُ الْآخَرُ يَوْمًا، أَوْ يُسْكِنَهُ دَارًا لِيُسْكِنَهُ الْآخَرُ بَدَلَهَا، لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمَنَافِعِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْأُخْرَى الْقِيمَةُ، وَيَتَوَجَّهُ فِي الْمُتَقَوِّمِ أَنَّهُ يَجُوزُ رَدُّ الْمِثْلِ بِتَرَاضِيهِمَا.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي بَابِ الْقَرْضِ كَوْنَ مَحَلِّ الْقَرْضِ عَيْنًا، وَلَكِنَّهُمْ أَقَامُوا ضَابِطًا لِمَا يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ السَّلَمُ فِيهِ صَحَّ إِقْرَاضُهُ، وَفِي بَابِ السَّلَمِ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمَنَافِعِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْأَعْيَانِ وَعَلَى ذَلِكَ يَصِحُّ إِقْرَاضُ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِمْ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:
16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ مَعْلُومِيَّةِ مَحَلِّ الْقَرْضِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ الْمُقْتَرِضُ مِنْ رَدِّ الْبَدَلِ الْمُمَاثِلِ لِلْمُقْرِضِ، وَهَذِهِ الْمَعْلُومِيَّةُ تَتَنَاوَلُ أَمْرَيْنِ: مَعْرِفَةَ الْقَدْرِ، وَمَعْرِفَةَ الْوَصْفِ جَاءَ فِي «أَسْنَى الْمَطَالِبِ»: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَاضِ الْعِلْمُ بِالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لِيَتَأَتَّى أَدَاؤُهُ، فَلَوْ أَقْرَضَهُ كَفًّا مِنْ دَرَاهِمَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ أَقْرَضَهُ عَلَى أَنْ يُسْتَبَانَ مِقْدَارُهُ وَيَرُدَّ مِثْلَهُ صَحَّ.
وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عِلَّةَ هَذَا الِاشْتِرَاطِ، فَقَالَ: «وَإِذَا اقْتَرَضَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ غَيْرَ مَعْرُوفَةِ الْوَزْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ فِيهَا يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْمِثْلُ لَمْ يُمْكِنِ الْقَضَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوِ اقْتَرَضَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا جُزَافًا لَمْ يَجُزْ لِذَلِكَ، وَلَوْ قَدَّرَهُ بِمِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ أَوْ صَنْجَةٍ بِعَيْنِهَا غَيْرِ مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ تَلَفَ ذَلِكَ، فَيَتَعَذَّرُ رَدُّ الْمِثْلِ، فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ».
وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ مَحَلِّ الْقَرْضِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مَا سَمَّوْهُ بِالْقَرْضِ الْحُكْمِيِّ كَقَوْلِهِ: «عَمِّرْ دَارِي» وَنَحْوِهِ، فَلَمْ يُوجِبُوا مَعْرِفَتَهُ لِصِحَّةِ الْقَرْضِ.
أَحْكَامُ الْقَرْضِ:
أ- (مِنْ حَيْثُ أَثَرُهُ):
17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرَتُّبِ أَثَرِ الْقَرْضِ، وَهُوَ نَقْلُ مِلْكِيَّةِ مَحَلِّهِ مِنَ الْمُقْرِضِ إِلَى الْمُقْتَرِضِ، هَلْ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ، أَمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ، أَمْ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِتَصَرُّفِ الْمُقْتَرِضِ فِيهِ أَوِ اسْتِهْلَاكِهِ.؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ بِالْقَبْضِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: غَيْرَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْقَرْضِ غَيْرُ تَامٍّ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
أ- بِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، فَدَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ بِنَفْسِ التَّسْلِيمِ.
ب- وَبِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِ الْقَبْضِ صَارَ بِسَبِيلٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْقَرْضِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمُقْرِضِ بَيْعًا وَهِبَةً وَصَدَقَةً وَسَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْقَرْضِ، وَتِلْكَ أَمَارَاتُ الْمِلْكِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَمَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ.
ج- وَبِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِيهِ جَانِبُ الْمُعَاوَضَةِ وَجَانِبُ التَّبَرُّعِ، أَمَّا الْمُعَاوَضَةُ: فَلِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ عِوَضًا عَمَّا اسْتَقْرَضَهُ، وَأَمَّا التَّبَرُّعُ: فَلِأَنَّهُ يَنْطَوِي عَلَى تَبَرُّعٍ مِنَ الْمُقْرِضِ لِلْمُسْتَقْرِضِ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَالِ الْمُقْرَضِ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، غَيْرَ أَنَّ جَانِبَ التَّبَرُّعِ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ وَثَمَرَتَهُ إِنَّمَا هِيَ بَذْلُ مَنَافِعِ الْمَالِ الْمُقْرَضِ لِلْمُقْتَرِضِ مَجَّانًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي الْحَالِ، وَلَا يَمْلِكُهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَلِهَذَا كَانَ حُكْمُهُ كَبَاقِي التَّبَرُّعَاتِ مِنْ هِبَاتٍ وَصَدَقَاتٍ، فَتَنْتَقِلُ الْمِلْكِيَّةُ فِيهِ بِالْقَبْضِ لَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلَا بِالتَّصَرُّفِ، وَلَا بِالِاسْتِهْلَاكِ.
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُ الْقَرْضَ مِلْكًا تَامًّا بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَيَصِيرُ مَالًا مِنْ أَمْوَالِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِهِ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّوْكَانِيُّ وَرَجَّحَهُ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ التَّرَاضِيَ هُوَ الْمَنَاطُ فِي نَقْلِ مِلْكِيَّةِ الْأَمْوَالِ مِنْ بَعْضِ الْعِبَادِ إِلَى بَعْضٍ.
(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْأَصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ بِالتَّصَرُّفِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ تَبَيَّنَ ثُبُوتُ مِلْكِهِ قِبَلَهُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّصَرُّفِ: كُلُّ عَمَلٍ يُزِيلُ الْمِلْكَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْإِتْلَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ مَحْضٍ، إِذْ يَجِبُ فِيهِ الْبَدَلُ، وَلَيْسَ عَلَى حَقَائِقِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَمَلُّكُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ بَدَلِهِ.
(وَالرَّابِعُ) لِأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ مَا لَمْ يُسْتَهْلَكْ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْإِقْرَاضَ إِعَارَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْأَجَلُ، إِذْ لَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً لَلَزِمَ فِيهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ، وَهَؤُلَاءِ يَمْلِكُونَ الْمُعَاوَضَاتِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ إِعَارَةٌ، فَتَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا الْمُقْتَرِضُ.
ب- مِنْ حَيْثُ مُوجِبُهُ:
18- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ تَنْشَغِلُ ذِمَّتُهُ بِبَذْلِ الْقَرْضِ لِلْمُقْرِضِ بِمُجَرَّدِ تَمَلُّكِهِ لِمَحَلِّ الْقَرْضِ، وَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا بِرَدِّ الْبَدَلِ إِلَيْهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
97-موسوعة الفقه الكويتية (قسامة 1)
قَسَامَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْقَسَامَةِ فِي اللُّغَةِ: الْأَيْمَانُ تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ إِذَا ادَّعَوُا الدَّمَ.
وَمِنْ مَعَانِيهَا الْهُدْنَةُ: تَكُونُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ مَعَانِيهَا: الْحُسْنُ.
وَالْقَسَامَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ أَنْ يَقُولَ خَمْسُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِيهَا: بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ- إِنَّ الْقَسَامَةَ هِيَ حَلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ جُزْءًا مِنْهَا عَلَى إِثْبَاتِ الدَّمِ.
وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اسْمٌ لِلْأَيْمَانِ الَّتِي تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هِيَ الْأَيْمَانُ الْمُكَرَّرَةُ فِي دَعْوَى الْقَتِيلِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْيَمِينُ:
2- مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ لُغَةً: الْقُوَّةُ، وَالْقَسَمُ، وَالْبَرَكَةُ.
وَاصْطِلَاحًا: تَوْكِيدُ حُكْمٍ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ: أَنَّ الْيَمِينَ أَعَمُّ.
ب- اللَّوْثُ:
3- اللَّوْثُ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقَ الْمُدَّعِي.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّوْثِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ أَنَّ اللَّوْثَ شَرْطٌ فِي الْقَسَامَةِ.
حُكْمُ الْقَسَامَةِ:
4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنِ الدَّعْوَى بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، وَوُجِدَ اللَّوْثُ.
وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا: «مَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ- يُرِيدُ السِّنّ- فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ».
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْأَنْصَارِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ».
وَذَهَبَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، إِلَى عَدَمِ الْأَخْذِ بِالْقَسَامَةِ، وَعَدَمِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهَا.
وَمِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ: أَنْ لَا يَحْلِفَ أَحَدٌ إِلاَّ عَلَى مَا عَلِمَ قَطْعًا أَوْ شَاهَدَ حِسًّا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُقْسِمُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا الْقَاتِلَ، بَلْ قَدْ يَكُونُونَ فِي بَلَدٍ وَالْقَاتِلُ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-، أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْقَسَامَةِ:
5- شُرِعَتِ الْقَسَامَةُ لِصِيَانَةِ الدِّمَاءِ وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا، حَتَّى لَا يُهْدَرَ دَمٌ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ يُطَلَّ، وَكَيْ لَا يَفْلِتَ مُجْرِمٌ مِنَ الْعِقَابِ، قَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ- رضي الله عنهما- فِيمَنْ مَاتَ مِنْ زِحَامٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِنْ عَلِمْتَ قَاتِلَهُ، وَإِلاَّ فَأَعْطِهِ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
فَالشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَحْرِصُ أَشَدَّ الْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ الدِّمَاءِ وَصِيَانَتِهَا وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ يَكْثُرُ بَيْنَمَا تَقِلُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ يَتَحَرَّى بِالْقَتْلِ مَوَاضِعَ الْخَلَوَاتِ، جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ.
شُرُوطُ الْقَسَامَةِ:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ لَوْثٌ:
6- سَبَقَ تَعْرِيفُ اللَّوْثِ فِي الْأَلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (لَوْث).
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُكَلَّفًا:
7- يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ مُكَلَّفًا حَتَّى تَصِحَّ الدَّعْوَى بِالْقَسَامَةِ حَيْثُ لَا قَسَامَةَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا غَيْرُهُمْ فَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا:
8- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، بَلْ يَدَّعِي لَهُمَا الْوَلِيُّ أَوْ يُوقَفُ إِلَى كَمَالِهِمَا، وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا وَقْتَ الْقَتْلِ كَامِلًا مُكَلَّفًا عِنْدَ الدَّعْوَى سُمِعَتْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ الْحَالُ بِالتَّسَامُعِ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا عَرَفَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْجَانِي، أَوْ بِسَمَاعٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعَيَّنًا:
9- قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى أَهْلِ مَدِينَةٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أَوْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ فَإِنِ ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ، إِذَا ذَكَرَهُمْ لِلْقَاضِي وَطَلَبَ إِحْضَارَهُمْ أَجَابَهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ لَا يُبَالِي بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُ دَعْوَى مُحَالٍ.وَلَوْ قَالَ: قَتَلَ أَبِي أَحَدُ هَذَيْنِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةِ، وَطَلَبَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ، وَيُحَلِّفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهَلْ يُجِيبُهُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا، وَلَوْ قَالَ فِي دَعْوَاهُ عَلَى حَاضِرِينَ قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ، أَوْ قَتَلَهُ هَذَا أَوْ هَذَا، وَطَلَبَ تَحْلِيفَهُمْ لَمْ يُحَلِّفْهُمُ الْقَاضِي عَلَى الْأَصَحِّ، لِإِبْهَامِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى وَذَلِكَ مِثْلُ لَوِ ادَّعَى وَدِيعَةً، أَوْ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرِّجَالِ، لَمْ يُسْمَعْ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ تَعْيِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يُشْرَطُ لِلْقَسَامَةِ، بَلْ إِنَّهُ إِذَا عَيَّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لَا تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ ابْتِدَاءً عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، فَتَعْيِينُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا يُنَافِي مَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ، فَتَثْبُتُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ: أَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَيُكَلَّفُ الْوَلِيُّ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِلاَّ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدًا.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلاَّ تَتَنَاقَضَ دَعْوَى الْمُدَّعِي:
10- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ أَلاَّ تَتَنَاقَضَ دَعْوَى الْمُدَّعِينَ، فَإِنْ قَالَ الْقَتِيلُ قَبْلَ مَوْتِهِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ عَمْدًا، وَقَالُوا: بَلْ قَتَلَهُ خَطَأً أَوِ الْعَكْسَ، فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ لَهُمْ وَبَطَلَ حَقُّهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى قَوْلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يُجَابُونَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ انْفِرَادَهُ بِالْقَتْلِ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ شَرِيكُهُ، أَوْ أَنَّهُ الْقَاتِلُ مُنْفَرِدًا لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ لِمُنَاقَضَتِهَا الدَّعْوَى الْأُولَى وَتَكْذِيبِهَا، وَلَوِ ادَّعَى عَمْدًا وَوَصَفَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ أَوْ عَكْسُهُ بَطَلَ الْوَصْفُ، وَلَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ دَعْوَى الْقَتْلِ فِي الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ عَمْدًا، أَوْ عَكْسُهُ فَيَعْتَمِدُ تَفْسِيرَهُ.
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ:
11- عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْلِ عَمْدًا، فَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَحْلِفُ الْأَيْمَانَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا مُكَلَّفًا، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْلِ خَطَأً، فَإِنَّ الَّذِي يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ هُوَ مَنْ يَرِثُ الْمَقْتُولَ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ كَانَ لِلْقَتِيلِ وَرَثَةٌ وُزِّعَتِ الْأَيْمَانُ بِحَسَبِ الْإِرْثِ، وَجُبِرَ الْمُنْكَسِرُ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ، وَلَا يَقْدَحُ غَيْبَةُ بَعْضِهِمْ أَوْ نُكُولُهُ، فَلِلذَّكَرِ الْحَاضِرِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْلِفَ بِقِسْطِهِ وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ قَدِمَ مِنَ الْخَارِجِ، أَوْ كُلِّفَ أَنْ يَحْلِفَ بِقِسْطِ نَصِيبِهِ وَيَأْخُذَ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَدَلِيلُهُمْ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ»؛ وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا قَتْلُ الْعَمْدِ، فَلَا تُسْمَعُ مِنَ النِّسَاءِ كَالشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْمُدَّعَاةَ الَّتِي تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا هِيَ الْقَتْلُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِي إِثْبَاتِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَالُ ضِمْنًا، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَجُلٍ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا لِيَرِثَهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَا بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهَا الْمَالَ.
الشَّرْطُ السَّابِعُ: وَصْفُ الْقَتْلِ فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ:
12- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَى الْقَسَامَةِ مُفَصَّلَةً.
الشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ بِالْقَتِيلِ أَثَرُ قَتْلٍ:
13- اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَتِيلِ أَثَرُ قَتْلٍ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِذَا وُجِدَ وَالدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ أَوْ أَنْفِهِ أَوْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً بِدُونِ الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا بِسَبَبِ الْقَيْءِ أَوِ الرُّعَافِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ قَتِيلًا.
وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِهِ، أَوْ أُذُنِهِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً فَكَانَ خُرُوجُهُ بِسَبَبِ الْقَتْلِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ اللَّوْثَ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ تُوجَدَ الْجُثَّةُ فِي مَحَلَّةٍ وَبِهَا أَثَرُ الْقَتْلِ، وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُودَ أَثَرِ الْقَتْلِ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ اللَّوْثِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْمَذْهَبُ- إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ ظُهُورُ دَمٍ وَلَا جُرْحٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْأَلِ الْأَنْصَارَ هَلْ بِقَتِيلِهِمْ أَثَرٌ أَمْ لَا؟ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ يَحْصُلُ بِالْخَنْقِ وَعَصْرِ الْبَيْضَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ قَامَ مَقَامَ الدَّمِ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ أَثَرٌ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَإِنْ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: إِنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْصُوصَ وَقَوْلَ الْجُمْهُورِ بِثُبُوتِ الْقَسَامَةِ.
الشَّرْطُ التَّاسِعُ: أَنْ يُوجَدَ الْقَتِيلُ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ:
14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ، وَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَكَانِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ اللاَّزِمِ.
وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنَ الْأَمْصَارِ وَلَا مِنْ قَرْيَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْمَعُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَقْتُولِ فِي قَرْيَةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ إِذَا كَانَ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا لَا يُعْتَبَرُ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ قَرْيَتَهُمْ سِوَاهُمْ، وَوُجِدَ قَتِيلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، كَمَا فِي قَضِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ- رضي الله عنه-، فَإِنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- جَعَلَ فِيهِ الْقَسَامَةَ لِابْنَيْ عَمِّهِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لِأَنَّ خَيْبَرَ مَا كَانَ يُخَالِطُ الْيَهُودَ فِيهَا غَيْرُهُمْ.
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَلاَّ يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ الْقَتِيلُ غَيْرُ الْعَدُوِّ.لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْأَلِ الْأَنْصَارَ هَلْ كَانَ فِي خَيْبَرَ غَيْرُ الْيَهُودِ أَمْ لَا؟ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُ غَيْرِهِمْ فِيهَا.
الشَّرْطُ الْعَاشِرُ: إِنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
15- ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ، قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَجَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ، فَيَنْفِي وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُنْكِرِ.
الشَّرْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الْإِسْلَامُ:
16- وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَقْتُولِ فَلَا تَصِحُّ الْقَسَامَةُ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا، فَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيلِ الْكَافِرِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَتَلَهُ بِشَاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ دِيَتَهُ فِي الْعَمْدِ مِنْ مَالِهِ، وَمَعَ الْعَاقِلَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ شَاهِدٌ، فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَأْخُذُ دِيَتَهُ، وَيُضْرَبُ الْجَانِي مِائَةً فِي الْعَمْدِ وَيُحْبَسُ سَنَةً.
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ أَثْبَتُوا الْقَسَامَةَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَا نُصَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ دَمَ الذِّمِّيِّ مَصُونٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِذِمَّتِهِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
كَيْفِيَّةُ الْقَسَامَةِ:
17- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَسَامَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو الزِّنَادِ فَقَالُوا: إِنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إِلَى الْمُدَّعِينَ، فَيُكَلَّفُونَ حَلِفَهَا لِيَثْبُتَ مُدَّعَاهُمْ وَيُحْكَمَ لَهُمْ بِهِ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا وُجِّهَتِ الْأَيْمَانُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَيَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَظْهِرَ الْحَالِفُ أَلْفَاظَ الْيَمِينِ حَتَّى تَكُونَ الْيَمِينُ مُؤَكَّدَةً فَيَقُولُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ..
وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ بَاتَّةً قَاطِعَةً فِي ارْتِكَابِ الْمُتَّهَمِ الْجَرِيمَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالِاشْتِرَاكِ مَعَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ مَا إِذَا كَانَ الْجَانِي قَدْ تَعَمَّدَ الْقَتْلَ أَمْ لَا فَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ فُلَانًا ابْنَ فُلَانٍ قَتَلَ فُلَانًا مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ مَا شَرِكَهُ غَيْرُهُ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ تَكُونَ الْأَيْمَانُ مُتَوَالِيَةً، فَلَا تُفَرَّقُ عَلَى أَيَّامٍ أَوْ أَوْقَاتٍ؛ لِأَنَّ لِلْمُوَالَاةِ أَثَرًا فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةِ مُوَالَاتُهَا؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَجِ، وَالْحُجَجُ يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا كَمَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنْ حَلَفُوا ثَبَتَ مُدَّعَاهُمْ، وَحُكِمَ لَهُمْ إِمَّا بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُوجِبِ الْقَسَامَةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَا شَارَكْتُ فِي قَتْلِهِ وَلَا تَسَبَّبْتُ فِي مَوْتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِئَ الْمُتَّهَمُونَ، وَكَانَتْ دِيَةُ الْقَتِيلِ فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمُدَّعِينَ فَإِنْ حَلَفُوا عُوقِبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا لَا شَيْءَ لَهُمْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ نَكَلَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَمُوتَ فِي السِّجْنِ، وَقِيلَ: يُجْلَدُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا، وَلَا يُحْبَسُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ لِمَذْهَبِهِمْ هَذَا بِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ «أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ- وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ أَخُو الْمَقْتُولِ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ يَتَكَلَّمُ- وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا لَا، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ، قَالُوا لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ قَالَ سَهْلٌ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ».
فَقَدْ وَجَّهَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْيَمِينَ أَوَّلًا إِلَى الْمُدَّعِينَ حِينَمَا سَأَلَهُمْ قَائِلًا: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِمُ ابْتِدَاءً مَا وَجَّهَهَا الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، فَقَدْ قَالُوا بِتَوْجِيهِ تِلْكَ الْأَيْمَانِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً، فَإِنْ حَلَفُوا لَزِمَ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ الدِّيَةُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ زَعَمَ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلًا، فَقَالَ: الْكُبْرَ الْكُبْرَ، فَقَالَ لَهُمْ تَأْتُونِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَالَ: فَيَحْلِفُونَ، قَالُوا لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُطَلَّ دَمُهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ».
دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُطْلَبُ فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى هُوَ الْبَيِّنَةُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ بَيِّنَةٌ لِلْمُدَّعِي وُجِّهَتِ الْأَيْمَانُ الْخَمْسُونَ الْخَاصَّةُ بِدَعْوَى الْقَسَامَةِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، كَمَا نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ حَلَفُوا بَرِئُوا وَانْتَهَتِ الْخُصُومَةُ، وَلَكِنَّ الْأَنْصَارَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ لَمْ يَقْبَلُوا أَنْ يَحْلِفَ لَهُمُ الْيَهُودُ لِكُفْرِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دِيَتَهُ لِأَهْلِهِ مِنْ عِنْدِهِ كَيْ لَا يُهْدَرَ دَمُ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا نَكَلَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، وَكَذَا إِنْ نَكَلَ جَمِيعُ الْمُحَلَّفِينَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَيْسَتْ وَسِيلَةً لِتَحْصِيلِ غَيْرِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدِّيَةِ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُحَلَّفُونَ لَمْ تَسْقُطِ الدِّيَةُ عَنْهُمْ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الْأَمْوَالِ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْمَالِ بَرِئَ وَسَقَطَ الْمَالُ الَّذِي أَرَادَهُ الْمُدَّعِي، لِهَذَا فَإِنَّ مَنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.
وَالْحَبْسُ عِنْدَ النُّكُولِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ، أَمَّا فِي الْخَطَأِ فَيُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ وَلَا يُحْبَسُونَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمَالُ فَيُقْضَى بِهِ عِنْدَ النُّكُولِ.
وَدَلِيلُهُمْ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْأَزْمَعِ أَنَّهُ قَالَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ- رضي الله عنه-: أَنَبْذُلُ أَيْمَانَنَا وَأَمْوَالَنَا؟ فَقَالَ نَعَمْ.
مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْقَسَامَةُ:
18- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إِلَى الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ مِنْ عَشِيرَةِ الْمَقْتُولِ الْوَارِثِينَ لَهُ، كَمَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ تَوَجُّهِهَا إِلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي تَوْجِيهِهَا إِلَى النِّسَاءِ أَوْ غَيْرِ الْوَارِثِينَ مِنَ الْعَصَبَةِ.
وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْلِ عَمْدًا، وَبَيْنَ كَوْنِهِ خَطَأً، وَاشْتَرَطُوا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الذُّكُورَةَ وَالْعُصُوبَةَ وَالْعَدَدَ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَحْلِفَ وَرَثَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا طَلَبُوا الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ، وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى الْعَصَبَةِ، وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ لِعَدَمِ شَهَادَتِهِنَّ فِيهِ فَإِنِ انْفَرَدْنَ عَنْ رَجُلَيْنِ صَارَ الْمَقْتُولُ كَمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَتُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَيَحْلِفُ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً بِخِلَافِ الْعَمْدِ، لِانْفِرَادِ الرِّجَالِ بِهِ، وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْخَطَأِ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهَا تُحَلَّفُ الْأَيْمَانَ كُلَّهَا وَتَأْخُذُ حَظَّهَا مِنَ الدِّيَةِ، وَيَسْقُطُ مَا عَلَى الْجَانِي مِنَ الدِّيَةِ لِتَعَذُّرِ الْحَلِفِ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَالِ.
وَإِذَا كُسِرَتِ الْيَمِينُ يُكْمَلُ عَلَى ذِي الْأَكْثَرِ مِنَ الْكُسُورِ وَلَوْ أَقَلَّهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِهِ، كَابْنٍ وَبِنْتٍ عَلَى الِابْنِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ يَمِينًا وَثُلُثٌ وَعَلَى الْبِنْتِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيُجْبَرُ كَسْرُ الْيَمِينِ عَلَى الْبِنْتِ لِأَنَّ كَسْرَ يَمِينِهَا أَكْثَرُ مِنْ كَسْرِ يَمِينِ الِابْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبِنْتُ أَقَلَّ نَصِيبًا فَتَحْلِفُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا فَإِنْ تَسَاوَتِ الْكُسُورُ جَبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ كَسْرَهُ، كَثَلَاثَةِ بَنِينَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَتَكْمُلُ عَلَى كُلٍّ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا.
جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: وَإِنَّمَا يَحْلِفُ وُلَاةُ الدَّمِ فِي الْخَطَأِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنَ الْمَيِّتِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهَلْ يُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَهَلْ يُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْلِفُ كُلُّ وَارِثٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ بِالْقَتْلِ، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ عِنْدَهُمْ يَمِينٌ فِي الدَّعْوَى، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيلِ وَارِثَانِ فَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْقَسَامَةِ لَمْ يُمْنَعْ ذَلِكَ الْآخَرُ مِنْ أَنْ يُقْسِمَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ بِلَا وَارِثٍ سَقَطَتِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، إِلاَّ إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ الْقَتْلَ عَلَى مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْصِبَهُ لِلْحَلِفِ فِي الْقَسَامَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَسْتَحِقَّ بَيْتُ الْمَالِ الدِّيَةَ، وَإِنْ نَكَلَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَجْهٌ يُسْقِطُ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ يُوجِبُ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي الْأَوْلِيَاءِ نِسَاءٌ وَرِجَالٌ أَقْسَمَ الرِّجَالُ وَسَقَطَ حُكْمُ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَرِجَالٌ بَالِغُونَ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ حَاضِرُونَ وَغَائِبُونَ لَا تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، وَكَذَا لَا تَثْبُتُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ كَامِلَةٍ، وَالْبَيِّنَةُ أَيْمَانُ الْأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَالْأَيْمَانُ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ إِذَا كَانَ عَمْدًا لَا يَحْلِفُ الْكَبِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ، وَلَا الْحَاضِرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَمِنْ شَرْطِهِ عِنْدَهُمْ مُطَالَبَةُ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ بِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ عَمْدٍ، فَأَجَازَ قَسَامَةَ الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ دُونَ اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَحُضُورِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ بِقَسَامَتِهِمْ هُوَ الدِّيَةُ، فَيَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمْ قِسْطَهُ مِنْهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ يَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ- وَهُمْ وَرَثَتُهُ- وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ كَسِهَامِ التَّرِكَةِ، وَيُبْدَأُ بِالذُّكُورِ، وَتُرَدُّ الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ إِلاَّ النِّسَاءُ، وَكَذَا إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ وَلَمْ يَرْضَوْا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ قُتِلَ فِي زِحَامٍ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ كَقَتِيلٍ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي جُمُعَةٍ.
وَالْحَنَفِيَّةُ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يَخْتَارُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ وَيُحَلِّفُهُمْ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الصَّالِحِينَ أَوِ الْفَسَقَةَ، كَمَا يَحِقُّ لَهُ اخْتِيَارُ الشُّبَّانِ وَالشُّيُوخِ، وَيَكُونُ الِاخْتِيَارُ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، أَيْ عَوَاقِلِ كُلِّ مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
98-موسوعة الفقه الكويتية (قسامة 2)
قَسَامَةٌ -2وَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ خَصَّ الْوَلِيُّ قَاتِلًا مُعَيَّنًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يُوجِبُ الْقَسَامَةَ عَلَى خَمْسِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ تُدِينُ الْقَاتِلَ الْمُخَصَّصَ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَإِنِ ادَّعَى أَهْلُ الْقَتِيلِ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَقَالُوا: قَتَلَهُ فُلَانٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، لَمْ يُبْطِلْ هَذَا حَقَّهُ، وَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا كَانَ مَعْلُومًا لَنَا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاتِلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَلَكِنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ حَقِيقَةً.
الْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، لِأَنَّ دَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، يَكُونُ إِبْرَاءً لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَنِ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيلِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَإِذَا زَعَمَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ يُعْرَفُ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، صَارَ مُبْرِئًا لَهُمْ عَنِ الْقَسَامَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْوَلِيُّ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقَدْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ بِالْحُجَّةِ، فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ، وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ خُصُومٌ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مَا بَقِيَتِ الْقَسَامَةُ.
وَتَسْقُطُ الْقَسَامَةُ عَنِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ إِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ، لِلتَّنَاقُضِ بَيْنَ الْإِبْرَاءِ وَالِاتِّهَامِ، وَإِذَا اتَّهَمَتِ الْمَحَلَّةُ قَاتِلًا مُعَيَّنًا فِيهَا أَوْ فِي غَيْرِهَا كُلِّفَتْ بِإِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أَحْضَرَتِ الْبَيِّنَةَ وَوَافَقَ الْوَلِيُّ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَلَوِ ادَّعَى أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ تَصِحُّ دَعْوَاهُمْ، فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ إِنْ وَافَقَهُمُ الْأَوْلِيَاءُ فِي الدَّعْوَى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ قَدْ أَبْرَءُوهُ حَيْثُ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْقَتْلِ مِنْهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَيْضًا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَحَلَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ.
وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا مُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ ذِمِّيٌّ، فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَدْبِيرَ الْمِلْكِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُزَاحِمُهُمُ الذِّمِّيُّ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النِّسَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ فِي قَرْيَةٍ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَدْ وَجَبَتِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْ تَدْبِيرِ مِلْكِهِمْ.
أَمَّا إِذَا كَانَ هَذَا الْحَادِثُ فِي زَمَانِنَا هَذَا فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ الَّتِي اشْتَرَكَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالذِّمِّيُّونَ، فَتَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسَاوِي، إِلاَّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَحَمَّلُ عَوَاقِلُهُمُ الدِّيَةَ، وَالذِّمِّيَّ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ السَّرَخْسِيُّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ بِقِصَّةِ الرَّجُلِ الْمَقْتُولِ مِنْ قِبَلِ الْيَهُودِ فِي خَيْبَرَ، إِذْ إِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: إِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةٍ أَصْلُهَا لِقَوْمٍ شَتَّى، فِيهِمُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ وَالْكَافِرُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ (خَيْبَرَ) وَكَانُوا مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ، فَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ، وَمَا أَصَابَ أَهْلَ الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِلُ فَعَلَيْهِمْ وَإِلاَّ فَفِي أَمْوَالِهِمْ وَتَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ النُّصْرَةِ، أَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا قَسَامَةَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَقَوْلُ الْمَجْنُونِ لَيْسَ صَحِيحًا، فَلَا قَسَامَةَ عَلَيْهِمَا، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَا تَشْتَرِكُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ إِذَا كَانَ الْقَتِيلُ فِي غَيْرِ مِلْكِهَا، وَعَلَيْهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ فِي مِلْكِهَا، وَهَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهَا مَسْئُولَةٌ عَنْ تَدْبِيرِ مِلْكِهَا، لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْمَالِكِ هُوَ الْمِلْكُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الْقَسَامَةِ، وَقَدْ وُجِدَا فِي حَقِّهَا، أَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لَهَا، وَأَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ وَأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُسْتَحْلَفُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَعْنَى النُّصْرَةِ يُرَاعَى وُجُودُهُ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ كَالْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ: فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ الَّذِي يَرَى أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى الْحَاضِرِ فَقَطْ دُونَ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَسْئُولًا عَنْ تَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ أَثْنَاءَ غِيَابِهِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْقَسَامَةِ:
19- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُجِّيَّةِ الْقَسَامَةِ، وَوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى عَوَاقِلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَجِبُ بِهَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ الْمُدَّعَى بِهِ عَمْدًا
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وُجُوبَ الدِّيَةِ وَعَدَمَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمْ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ وَذَكَرُوا الْحَدِيثَ وَفِيهِ: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا».
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَسَامَةُ الدَّمِ، فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ فَإِضَافَةُ قَسَامَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى الدَّمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُحْكَمُ بِهَا بِالْقِصَاصِ.
وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: «أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ- يُرِيدُ السِّنَّ- فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ».
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رضي الله عنه- أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ قَالُوا: نَقُولُ الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَ بِهَا الْخُلَفَاءُ قَالَ لِي: مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلَابَةَ، وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَكَ رُءُوسُ الْأَجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى وَلَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصٍ أَنَّهُ سَرَقَ أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ فِي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: رَجُلٍ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، أَوْ رَجُلٍ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٍ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ..إِلَخْ.الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ، فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: اجْمَعْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إِلاَّ هَذَا؟ فَقَالَ: بَلْ لَكَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ»، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ- وَهُمْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ- مَعَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَاصَ فِي الْحَدِيثِ، بَلْ قَصَرَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى دَفْعِ مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ.
وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ الْقَتِيلُ بِهَا بِالْقَتَلَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ حِفْظُ مَحَلَّتِهِمْ وَصِيَانَتُهَا مِنَ النَّوَائِبِ وَالْقَتْلِ، فَكَانَ وُقُوعُ الْقَتْلِ بِمَحَلَّتِهِمْ تَقْصِيرًا مِنْهُمْ عَنْ هَذِهِ الصِّيَانَةِ وَحِفْظِهَا.
مُبْطِلَاتُ الْقَسَامَةِ:
20- تَبْطُلُ الْقَسَامَةُ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- بِالْإِبْرَاءِ صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً.
أَمَّا الْإِبْرَاءُ الصَّرِيحُ: فَهُوَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَقَوْلِهِ: أَبْرَأْتُ، أَوْ أَسْقَطْتُ، أَوْ عَفَوْتُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.لِأَنَّ رُكْنَ الْإِبْرَاءِ صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِبْرَاءِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْبَرَاءَةِ، فَيَصِحُّ.
وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ الضِّمْنِيُّ «دَلَالَةً» فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ قَتَلَ الْقَتِيلَ، فَيَبْرَأُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ مِنَ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْقَتِيلِ فِي الْمَحَلَّةِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَاتِلٌ، فَإِقْدَامُ الْوَلِيِّ عَلَى الدَّعْوَى عَلَيْهِ يَكُونُ نَفْيًا لِلْقَتْلِ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَيَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُمْ عَنِ الْقَسَامَةِ.
كَمَا تَبْطُلُ الْقَسَامَةُ بِإِقْرَارِ رَجُلٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ الْقَاتِلُ، فَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا قَتَلَهُ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَلْ أَنَا قَتَلْتُهُ، فَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ، لَمْ تَبْطُلْ دَعْوَاهُ، وَلَهُ الْقَسَامَةُ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الدِّيَةِ إِنْ كَانَ قَبَضَهَا، وَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلِيُّ أَوْ طَالَبَهُ بِمُوجِبِ الْقَتْلِ لَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، وَبَطَلَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ مُطَالَبَةُ الْمُقِرِّ قَوْلَانِ.
وَكَذَلِكَ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُ هَذَا، كَأَنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُولِ لَا يُمْكِنُ مَجِيئُهُ مِنْهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ تَبْطُلُ دَعْوَى الْقَسَامَةِ، وَإِنْ قَالَتِ الْبَيِّنَةُ: نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَقْتُلْهُ لَمْ تُقْبَلِ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهَا نَفْيٌ مُجَرَّدٌ، وَإِنْ قَالَا: مَا قَتَلَهُ فُلَانٌ، بَلْ فُلَانٌ، سُمِعَتْ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةُ إِثْبَاتٍ يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ. وَإِذَا بَطَلَتِ الْقَسَامَةُ لِأَحَدِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا أَخَذَهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
99-موسوعة الفقه الكويتية (قيافة)
قِيَافَةالتَّعْرِيفُ:
1- الْقِيَافَةُ مَصْدَرُ قَافَ بِمَعْنَى تَتَبَّعَ أَثَرَهُ لِيَعْرِفَهُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَقُوفُ الْأَثَرَ وَيَقْتَافُهُ قِيَافَةً.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْقَائِفَ هُوَ: الَّذِي يَتَتَبَّعُ الْآثَارَ وَيَعْرِفُهَا، وَيُعْرَفُ شَبَهَ الرَّجُلِ بِأَخِيهِ وَأَبِيهِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلْقِيَافَةِ وَمُشْتَقَّاتِهَا عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمُتَعَلِّقِ بِتَتَبُّعِ الْأَثَرِ وَمَعْرِفَةِ الشَّبَهِ.
فَفِي التَّعْرِيفَاتِ لِلْجُرْجَانِيِّ وَفِي دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَائِفَ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ النَّسَبَ بِفِرَاسَتِهِ وَنَظَرِهِ إِلَى أَعْضَاءِ الْمَوْلُودِ وَيُعَرِّفُهُ ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ حَجَرٍ وَالصَّنْعَانِيُّ بِمَا لَا يَبْعُدُ عَنْ ذَلِكَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعِيَافَةُ:
2- تَأْتِي هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي اللُّغَةِ وَيُرَادُ بِهَا الْكَرَاهَةُ، كَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الضَّبِّ الْمَشْوِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْهُ: «لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ».
كَمَا يُرَادُ بِهَا التَّرَدُّدُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ وَالْحَوْمُ عَلَيْهِ، فَعَافَتِ الطَّيْرُ أَيْ: تَحُومُ عَلَى الْمَاءِ، وَعَافَتْ عَلَى الْجِيَفِ أَيْ: تَطِيرُ حَوْلَهَا تُرِيدُ الْوُقُوعَ عَلَيْهَا.
وَتُطْلَقُ عَلَى زَجْرِ الطُّيُورِ وَالسَّوَانِحِ، وَالِاعْتِبَارُ بِأَسْمَائِهَا وَمَسَاقِطِهَا وَمَمَرِّهَا وَأَصْوَاتِهَا.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعِيَافَةُ زَجْرُ الطَّيْرِ، وَهُوَ أَنْ يَرَى طَائِرًا أَوْ غُرَابًا فَيَتَطَيَّرَ وَإِنْ لَمْ يَرَ شَيْئًا، فَقَالَ بِالْحَدْسِ كَانَ عِيَافَةً أَيْضًا وَهَذَا هُوَ الَّذِي شُهِرَ بِهِ بَنُو لَهَبٍ وَبَنُو أَسَدٍ.
وَكَانَ الْعَائِفُ هُوَ الْكَاهِنَ الَّذِي يَعْمِدُ إِلَى التَّضْلِيلِ، وَيَدَّعِي الِاتِّصَالَ بِعَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُنَاكَ شَوَاهِدُ عَدِيدَةٌ عَلَى ارْتِبَاطِ الْعِيَافَةِ بِالْكَهَانَةِ، وَهِيَ بِهَذَا تَخْتَلِفُ عَنِ الْقِيَافَةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْكَهَانَةِ، وَتَقُومُ عَلَى النَّظَرِ الْمَنْطِقِيِّ التَّجْرِيبِيِّ حَسْبَمَا يَتَّضِحُ مِنْ شُرُوطِ الْعَمَلِ بِهَا
ب- الْفِرَاسَةُ:
3- الْفِرَاسَةُ: اسْمٌ فِعْلُهُ تَفَرَّسَ كَتَوَسَّمَ وَزْنًا وَمَعْنًى، أَمَّا الْفِرَاسَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ فَمَصْدَرُ الْفِعْلِ فَرَسَ يَفْرُسُ، وَمَعْنَاهَا: الْعِلْمُ بِرُكُوبِ الْخَيْلِ وَرَكْضِهَا مِنَ الْفُرُوسِيَّةِ، وَالْفَارِسُ: الْحَاذِقُ بِمَا يُمَارِسُ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَبِهَا سُمِّيَ الرَّجُلُ فَارِسًا.
وَتُطْلَقُ الْفِرَاسَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَوَّلِهِمَا: نَوْعٌ يُتَعَلَّمُ بِالدَّلَائِلِ وَالتَّجَارِبِ وَالْخُلُقِ وَالْأَخْلَاقِ فَتُعْرَفُ بِهِ أَحْوَالُ النَّاسِ وَيُسْتَفَادُ إِطْلَاقُ الْفِرَاسَةِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعَلَامَاتِ عِنْدَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَفْسِيرِهِ لِلتَّوَسُّمِ بِأَنَّهُ الْعَلَامَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبِ غَيْرِهَا، وَهِيَ الْفِرَاسَةُ..وَذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ بِالْعَلَامَةِ، وَمِنَ الْعَلَامَاتِ مَا يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ بِأَوَّلِ نَظَرٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَفِيٌّ لَا يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يُدْرَكُ بِبَادِئِ النَّظَرِ.
وَالثَّانِي: مَا يُوقِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَحْوَالَ بَعْضِ النَّاسِ بِنَوْعٍ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَإِصَابَةِ الظَّنِّ وَالْحَدْسِ وَلَا يُكْتَسَبُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفِرَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ طِبْقًا لِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ الْخَاطِرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ..وَتَفْرِيغِ الْقَلْبِ مِنْ حَشْوِ الدُّنْيَا، وَتَطْهِيرِهِ مِنْ أَدْنَاسِ الْمَعَاصِي، وَكُدُورَةِ الْأَخْلَاقِ وَفُضُولِ الدُّنْيَا.
وَتَتَمَيَّزُ الْقِيَافَةُ عَنِ الْفِرَاسَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِفَ يَقُومُ بِجَمْعِ الْأَدِلَّةِ وَيَكْشِفُ عَنْهَا، مَعَ النَّظَرِ فِيهَا وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَهَا بِنَوْعِ خِبْرَةٍ لَا تُتَاحُ إِلاَّ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّمَرُّسِ وَمُدَاوَمَةِ النَّظَرِ وَالدِّرَاسَةِ، أَمَّا التَّفَرُّسُ فَيُخْتَصُّ بِإِعْمَالِ الذَّكَاءِ الشَّخْصِيِّ وَالْقُدْرَةِ الذِّهْنِيَّةِ الْخَاصَّةِ لِوَزْنِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ وَتَقْدِيرِهَا.
وَيُلْحِقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْفِرَاسَةَ بِالْإِلْهَامِ وَالْكَرَامَةِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِالْفِرَاسَةِ عِنْدَهُمْ لِهَذَا.
ج- الْقَرِينَةُ:
4- الْقَرِينَةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُقَارَنَةِ، وَهِيَ الْمُصَاحَبَةُ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَرِينٌ لِفُلَانٍ أَيْ مُصَاحِبٌ لَهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ عَلَى شَيْءٍ مَطْلُوبٍ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِيَافَةِ وَبَيْنَ الْقَرِينَةِ أَنَّ الْقِيَافَةَ نَوْعٌ مِنَ الْقَرَائِنِ.
نَوْعَا الْقِيَافَةِ:
5- يَقْسِمُ صَاحِبُ كَشْفِ الظُّنُونِ الْقِيَافَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَوَّلِهِمَا: قِيَافَةُ الْأَثَرِ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْعِيَافَةُ كَذَلِكَ، وَيُعْرَفُ هَذَا النَّوْعُ بِأَنَّهُ: عِلْمٌ بَاحِثٌ عَنْ تَتَبُّعِ آثَارِ الْأَقْدَامِ وَالْأَخْفَافِ وَالْحَوَافِرِ فِي الطُّرُقِ الْقَابِلَةِ لِلْأَثَرِ.
أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ قِيَافَةُ الْبَشَرِ الَّذِي يُعَرِّفُهُ بِأَنَّهُ: عِلْمٌ بَاحِثٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَيْئَاتِ أَعْضَاءِ الشَّخْصَيْنِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ وَالِاتِّحَادِ فِي النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمَا.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقِيَافَةِ:
أ- إِثْبَاتُ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ:
6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ إِلَى رَأْيَيْنِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى إِثْبَاتِ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ، وَأَجَازُوا الِاعْتِمَادَ عَلَيْهَا فِي إِثْبَاتِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَعَدَمِ الدَّلِيلِ الْأَقْوَى مِنْهَا، أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الْأَقْوَى مِنْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْدَحُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ؛ لِأَنَّهُ «كَانَ أَسْوَدَ شَدِيدَ السَّوَادِ مِثْلَ الْقَارِ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ مِثْلَ الْقُطْنِ».
وَالْحُجَّةُ فِيهِ: أَنَّ سُرُورَهُ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِ الْقَائِفِ إِقْرَارٌ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم- بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ الْأَنْصَارِيَّةَ- رضي الله عنها-، وَهِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ: تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا».
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ: أَنَّ إِخْبَارَهُ- صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ (أَيِ الشَّبَهَ) مَنَاطٌ شَرْعِيٌّ، وَإِلاَّ لَمَا كَانَ لِلْإِخْبَارِ فَائِدَةٌ يُعْتَدُّ بِهَا.
وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- كَانَ يَلِيطُ- أَيْ: يُلْحِقُ- أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فِي حُضُورِ الصَّحَابَةِ دُونَ إِنْكَارٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ يَدْعُو الْقَافَةَ وَيَعْمَلُ بِقَوْلِهِمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ.
وَكَذَلِكَ فَإِنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدَهُ وَالْقِيَاسَ الصَّحِيحَ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الشَّبَهِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ، وَالشَّارِعُ مُتَشَوِّفٌ إِلَى اتِّصَالِ الْأَنْسَابِ وَعَدَمِ انْقِطَاعِهَا، وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي ثُبُوتِهَا بِأَدْنَى الْأَسْبَابِ مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ وَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَظَاهِرِ الْفِرَاشِ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ الشَّبَهُ الْخَالِي عَنْ سَبَبٍ مُقَاوِمٍ لَهُ كَافِيًا فِي ثُبُوتِهِ
7- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ الْقِيَافَةَ يَثْبُتُ بِهَا نَسَبُ الْوَلَدِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوِ الْأَمَةِ.
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَالْقَرَافِيُّ وَالْمَوَّاقُ أَنَّ الْقَافَةَ إِنَّمَا يُقْضَى بِهَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَقَطْ لَا فِي النِّكَاحِ يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: وَإِنَّمَا يُجِيزُهُ مَالِكٌ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ يَطَؤُهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَتَأْتِي بِوَلَدٍ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ قَبُولِهِ فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ.
كَمَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأَةً وَطْئًا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ أَوْ فِي زَوَاجٍ فَاسِدٍ وَكَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَإِنَّهَا إِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةً وَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الزَّوَاجِ وَقَبْلَ انْتِهَاءِ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْلِ، كَانَ الْقَائِفُ هُوَ الَّذِي يُلْحِقُهُ بِأَيٍّ مِنَ الرَّجُلَيْنِ.
كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَازَعَ شَخْصَانِ أَوْ أَكْثَرُ بُنُوَّةَ أَحَدٍ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلُ أَيٍّ مِنْهُمَا بِبَيِّنَةٍ، فَلَوِ ادَّعَيَا جَمِيعًا صَبِيًّا وَاحِدًا..يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَذَا ابْنِي..الْوَاجِبُ فِي هَذَا عِنْدِي عَلَى أُصُولِهِمْ أَنْ تُدْعَى لَهُ الْقَافَةُ أَيْضًا وَمِنْ جِنْسِهِ مَا أَوْرَدَهُ الْمَوَّاقُ عَنْ أَشْهَبَ فِيمَنْ نَزَلَ عَلَى رَجُلٍ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ حَامِلٌ، فَوَلَدَتْ هِيَ وَوَلَدَتِ امْرَأَةُ الضَّيْفِ فِي لَيْلَةٍ صَبِيَّيْنِ فَلَمْ تَعْرِفْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدَهَا، دَعِي لَهُمَا الْقَافَةُ وَكَذَا لَوْ وُضِعَ وَلِيدُهَا فِي مَكَانٍ فَاخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي تَرْكِهَا لَهُ، كَأَنْ قَصَدَتْ نَبْذَهُ وَالْخَلَاصَ مِنْهُ، فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَلَا يُدْعَى لَهَا الْقَافَةُ.
وَيُتَصَوَّرُ الْحُكْمُ بِالْقَافَةِ فِي اللَّقِيطِ إِذَا تَنَازَعَ بُنُوَّتَهُ رَجُلَانِ أَوْ أَكْثَرُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، لَا لِأَنَّ الْقِيَافَةَ كَالْكَهَانَةِ فِي الذَّمِّ وَالْحُرْمَةِ، أَوْ أَنَّ الشَّبَهَ لَا يَثْبُتُ بِهَا، وَإِنَّمَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَصَرَ دَلِيلَ النَّسَبِ فِي الْفِرَاشِ، وَغَايَةُ الْقِيَافَةِ إِثْبَاتُ الْمَخْلُوقِيَّةِ مِنَ الْمَاءِ لَا إِثْبَاتُ الْفِرَاشِ، فَلَا تَكُونُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ.وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ حُكْمَ اللِّعَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ نَفْيِ النَّسَبِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِفِ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً لأَمَرَ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.
؛ وَلِأَنَّ مُجَرَّدَ الشَّبَهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَقَدْ يُشْبِهُ الْوَلَدُ أَبَاهُ الْأَدْنَى، وَقَدْ يُشْبِهُ الْأَبَ الْأَعْلَى الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إِلَى الْأَجَانِبِ فِي الْحَالِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ «أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: فَأَنَّى هُوَ؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ لَهُ» فَبَيَّنَ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلشَّبَهِ وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ».أَيِ الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ..وَالْمُرَادُ مِنَ الْفِرَاشِ هُوَ الْمَرْأَةُ.
وَفِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أَنَّهَا نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ:
أَحَدِهَا: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْقِسْمَةِ، فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَالْحَجَرَ لِلزَّانِي، فَاقْتَضَى أَلاَّ يَكُونَ الْوَلَدُ لِمَنْ لَا فِرَاشَ لَهُ، كَمَا لَا يَكُونُ الْحَجَرُ لِمَنْ لَا زِنَا مِنْهُ، إِذِ الْقِسْمَةُ تَنْفِي الشَّرِكَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- جَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَنَفَاهُ عَنِ الزَّانِي بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ.
وَالثَّالِثِ: أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، فَلَوْ ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدٍ لِمَنْ لَيْسَ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، فَعَلَى هَذَا إِذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَادَّعَاهُ الزَّانِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ لِانْعِدَامِ الْفِرَاشِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي جَانِبِهَا يَتْبَعُ الْوِلَادَةَ.
وَمُفَادُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ لِلرَّجُلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ أَوْ مِلْكُ الْيَمِينِ، وَلَا يَرْجِعُ عَمَلُ الْقَائِفِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّخَلُّقِ مِنَ الْمَاءِ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَّا مِنْ هَذَا التَّخَلُّقِ وَلَا فِرَاشَ، فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ.
شُرُوطُ الْقَائِفِ:
8- يُشْتَرَطُ فِي الْقَائِفِ مَا يَلِي:
أ- الْخِبْرَةُ وَالتَّجْرِبَةُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُوثَقُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ إِلاَّ بِتَجْرِبَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ النَّسَبِ عَمَلِيًّا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ فِيهِنَّ أُمُّهُ، فَإِنْ أَصَابَ فِي الْمَرَّاتِ جَمِيعًا اعْتُمِدَ قَوْلُهُ..وَالْأَبُ مَعَ الرِّجَالِ كَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ فِي رِجَالٍ كَذَلِكَ.
وَإِذَا حَصَلَتِ التَّجْرِبَةُ وَتَوَلَّدَتِ الثِّقَةُ بِخِبْرَتِهِ فَلَا حَاجَةَ لِتَكْرَارِ هَذَا الِاخْتِبَارِ عِنْدَ كُلِّ إِلْحَاقٍ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ مَعَ عَشَرَةٍ مِنَ الرِّجَالِ غَيْرِ مَنْ يَدَّعِيهِ وَيَرَى إِيَّاهُمْ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ سَقَطَ قَوْلُهُ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا خَطَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يُلْحِقْهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرَيْنَاهُ إِيَّاهُ مَعَ عِشْرِينَ فِيهِمْ مُدَّعِيهِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِ لَحِقَ، وَلَوِ اعْتُبِرَ بِأَنْ يُرَى صَبِيًّا مَعْرُوفَ النَّسَبِ مَعَ قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِقَرِيبِهِ عُلِمَتْ إِصَابَتُهُ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ سَقَطَ قَوْلُهُ جَازَ وَهَذِهِ التَّجْرِبَةُ عِنْدَ عَرْضِهِ عَلَى الْقَائِفِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي مَعْرِفَةِ إِصَابَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجَرَّبْ فِي الْحَالِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالْإِصَابَةِ وَصِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ فِي مَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ جَازَ.
ب- الْعَدَالَةُ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ عَدَالَةِ الْقَائِفِ لِلْعَمَلِ بِقَوْلِهِ، فَرِوَايَةُ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي (الْقَائِفِ) الْوَاحِدِ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ الِاجْتِزَاءَ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْعَدَالَةَ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَشْتَرِطُونَ الْعَدَالَةَ لِلْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ.
ج- التَّعَدُّدُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّعَدُّدُ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ، وَيُكْتَفَى بِقَوْلِ قَائِفٍ وَاحِدٍ كَالْقَاضِي وَالْمُخْبِرِ، لَكِنْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ رَأْيٌ آخَرُ يَقْضِي بِاشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ، جَاءَ فِي «التَّبْصِرَةِ» حِكَايَةُ الْخِلَافِ عَنْ مَالِكٍ فِي الِاجْتِزَاءِ بِقَائِفٍ وَاحِدٍ كَالْأَخْبَارِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ قَائِفَيْنِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَهُ ابْنُ دِينَارٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ كَالشَّهَادَةِ، قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ وَالْقِيَاسُ عَلَى أُصُولِهِمْ أَنْ يُحْكَمَ بِقَوْلِ الْقَائِفِ الْوَاحِدِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ كَمَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِلاَّ قَوْلُ اثْنَيْنِ..فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ..وَقَالَ الْقَاضِي: يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ، وَيُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ قَوْلُ وَاحِدٍ، وَحَمَلَ كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى مَا إِذَا تَعَارَضَ قَوْلُ الْقَائِفَيْنِ وَالرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ قَائِفٍ وَاحِدٍ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ، وَهُوَ كَحَاكِمٍ، فَيَكْفِي مُجَرَّدُ خَبَرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ مَا يَقُولُهُ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ.
وَمَبْنَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ هُوَ التَّرَدُّدُ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْقَائِفِ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ رَجَّحَ الْقَرَافِيُّ إِلْحَاقَ قَوْلِ الْقَائِفِ بِالشَّهَادَةِ لِلْقَضَاءِ بِهِ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ وَاحْتِمَالِ وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ أَوِ التُّهْمَةِ لِذَلِكَ، وَلَا يَقْدَحُ انْتِصَابُهُ لِهَذَا الْعَمَلِ عَلَى الْعُمُومِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ الشَّاهِدِ أَمَّا السُّيُوطِيُّ فَيُرَجِّحُ إِلْحَاقَ قَوْلِ الْقَائِفِ بِالرِّوَايَةِ، يَقُولُ: وَالْأَصَحُّ الِاكْتِفَاءُ بِالْوَاحِدِ تَغْلِيبًا لِشَبَهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَصِبٌ انْتِصَابًا عَامًّا لِإِلْحَاقِ النَّسَبِ.
د- الْإِسْلَامُ: نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي هَذَا الْمَذْهَبِ، وَهِيَ الْقَاضِيَةُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ، وَلَا يُسَلِّمُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ بِوُجُوبِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ لِلْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي مَذْهَبِهِمْ.
هـ- الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ: الْأَصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اشْتِرَاطُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَرْجُوحُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ.
و- الْبَصَرُ وَالسَّمْعُ، وَانْتِفَاءُ مَظِنَّةِ التُّهْمَةِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ عَدُوًّا لِمَنْ يَنْفِي نَسَبَهُ، وَلَا أَصْلاً أَوْ فَرْعًا لِمَنْ يُثْبِتُ نَسَبَهُ، نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ.
وَيَتَخَرَّجُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الشُّرُوطِ كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ أَلْحَقُوا الْقَائِفَ بِالشَّاهِدِ أَوِ الْقَاضِي أَوِ الْمُفْتِي فَيُشْتَرَطُ فِي الْقَائِفِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ.
شُرُوطُ الْقِيَافَةِ:
9- يُشْتَرَطُ فِي الْقِيَافَةِ لِإِلْحَاقِ النَّسَبِ بِهَا مَا يَلِي:
أ- عَدَمُ قِيَامِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِالشَّبَهِ، فَلَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ، فَإِنَّهُ يُلَاعِنُهَا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِثْبَاتِ الشَّبَهِ بِقَوْلِ الْقَافَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ إِجْرَاءَ اللِّعَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ نَفْيِ النَّسَبِ، وَإِلْغَاءُ الشَّبَهِ بِاللِّعَانِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ عَلَى أَضْعَفِهِمَا.
وَلَا يُعْتَبَرُ الشَّبَهُ كَذَلِكَ إِذَا تَعَارَضَ مَعَ الْفِرَاشِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيُوَضِّحُهُ قَضِيَّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبِضُهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي ابْنُ أَمَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ..وَاحْتَجِبِي عَنْهُ يَا سَوْدَةُ» فَقَدْ أَلْغَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الشَّبَهَ وَأَلْحَقَ النَّسَبَ بِزَمْعَةَ صَاحِبِ الْفِرَاشِ.
ب- وُقُوعُ التَّنَازُعِ فِي الْوَلَدِ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا وَعَدَمُ وُجُودِ دَلِيلٍ يَقْطَعُ هَذَا التَّنَازُعَ، كَمَا إِذَا ادَّعَاهُ رَجُلَانِ أَوِ امْرَأَتَانِ، وَكَمَا إِذَا وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ التَّرْجِيحَ يَكُونُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ.أَمَّا إِذَا ادَّعَاهُ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ، وَلَا يَقُومُ التَّنَازُعُ حَقِيقَةً فِيمَا بَيْنَهُمَا إِذَا تَعَيَّنَ الْوَلَدُ لِأَحَدِهِمَا، فَلَوِ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلَانِ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ ابْنِي، وَقَالَ الْآخَرُ: بِنْتِي، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ ابْنًا فَهُوَ لِمُدَّعِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا فَهِيَ لِمُدَّعِيهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ مَا ادَّعَاهُ.
ج- إِمْضَاءُ الْقَاضِي قَوْلَ الْقَائِفِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَلَا يَلْزَمُ قَوْلُهُ عَلَى هَذَا إِلاَّ بِإِمْضَاءِ الْقَاضِي لَهُ، جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَلِ: وَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُ الْقَائِفِ حَتَّى يَأْمُرَ الْقَاضِي، وَإِذَا أَلْحَقَهُ اشْتَرَطَ تَنْفِيذَ الْقَاضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَكَمَ بِأَنَّهُ قَائِفٌ وَرَأَى الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْقَائِفَ إِنْ أَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا فَإِنْ رَضِيَا بِذَلِكَ بَعْدَ الْإِلْحَاقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي اسْتَخْلَفَهُ وَجَعَلَهُ حَاكِمًا بَيْنَهُمَا جَازَ، وَنَفَذَ حُكْمُهُ بِمَا رَآهُ، وَإِلاَّ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ وَإِلْحَاقِهِ حَتَّى يَحْكُمَ الْحَاكِمُ.
د- حَيَاةُ مَنْ يُرَادُ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْقِيَافَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: أَنَّهَا إِنْ وَضَعَتْهُ تَمَامًا مَيِّتًا لَا قَافَةَ فِي الْأَمْوَاتِ، وَنَقَلَ الصَّقَلِّيُّ عَنْ سَحْنُونٍ: إِنْ مَاتَ بَعْدَ وَضْعِهِ حَيًّا دُعِيَ لَهُ الْقَافَةُ، قَالَ الْحَطَّابُ: وَيُحْتَمَلُ رَدُّهُمَا إِلَى وِفَاقٍ؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ (أَيْ لِابْنِ الْقَاسِمِ) فِيمَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، وَقَوْلَ سَحْنُونَ فِيمَا وُلِدَ حَيًّا.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ حَيَاةَ الْمَقُوفِ، فَإِذَا كَانَ مَيِّتًا جَازَ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْقَافَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَوْ يُدْفَنْ.
هـ- حَيَاةُ مَنْ يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ: اشْتَرَطَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَيَاةَ الْمُلْحَقِ بِهِ، فَعَنْ سَحْنُونَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ لَا تُلْحِقُ الْقَافَةُ الْوَلَدَ إِلاَّ بِأَبٍ حَيٍّ، فَإِنْ مَاتَ فَلَا قَوْلَ لِلْقَافَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ قَرَابَتِهِ إِذْ لَا تَعْتَمِدُ عَلَى شَبَهِ غَيْرِ الْأَبِ وَيَجُوزُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَرْضُ الْأَبِ عَلَى الْقَافَةِ إِنْ مَاتَ وَلَمْ يُدْفَنْ، جَاءَ فِي التَّبْصِرَةِ: وَلَا تَعْتَمِدُ الْقَافَةُ إِلاَّ عَلَى أَبٍ مَوْجُودٍ بِالْحَيَاةِ.قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُدْفَنْ، قِيلَ: وَيَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَبَةِ.
وَلَا يَشْتَرِطُ هَذَا الشَّرْطَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
اخْتِلَافُ الْقَافَةِ:
10- إِذَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْقَافَةِ جُمِعَ بَيْنَهَا إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَلْحَقَ أَحَدُ الْقَائِفِينَ نَسَبَ اللَّقِيطِ بِرَجُلٍ، وَأَلْحَقَهُ الْآخَرُ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ الرَّاجِحَ هُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِ.
وَتَفْرِيعًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ قَائِفَيْنِ اثْنَيْنِ خَالَفَهُمَا قَائِفٌ ثَالِثٌ، كَبَيْطَارَيْنِ خَالَفَهُمَا بَيْطَارٌ فِي عَيْبٍ وَكَطَبِيبَيْنِ خَالَفَهُمَا طَبِيبٌ فِي عَيْبٍ، قَالَهُ فِي الْمُنْتَخَبِ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا شَاهِدَانِ فَقَوْلُهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ لَا يَتَرَجَّحُ قَوْلُ ثَلَاثَةِ قَافَةٍ عَلَى قَوْلِ قَائِفَيْنِ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ قُدَامَةَ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ وَلَا التَّرْجِيحُ، كَأَنْ يُلْحِقَ الْقَائِفُ الْمَقُوفَ بِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَيُلْحِقَهُ الْآخَرُ بِغَيْرِهِ، فَفِيهِ خِلَافُ الْفُقَهَاءِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ الْوَلَدُ إِلاَّ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَيُؤَخَّرُ الْوَلَدُ إِذْ قَضَى الْقَافَةُ بِاشْتِرَاكِ رَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِيهِ إِلَى حِينِ بُلُوغِهِ، فَيُخَيَّرُ فِي الِالْتِحَاقِ بِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ، بِنَاءً عَلَى مَا يَنْعَقِدُ مِنْ مَيْلٍ فِطْرِيٍّ بَيْنَ الْوَلَدِ وَأَصْلِهِ قَدْ يُعِينُهُ عَلَى التَّعَرُّفِ عَلَيْهِ، جَاءَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: الْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا قَضَى الْقَافَةُ بِالِاشْتِرَاكِ أَنْ يُؤَخَّرَ الصَّبِيُّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيُقَالَ لَهُ: وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ، وَلَا يُلْحَقُ وَاحِدٌ بِاثْنَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: لَوْ عَدِمَ الْقَائِفُ بِدُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْحَالُ بِأَنْ تَحَيَّرَ، أَوْ أَلْحَقَهُ بِهِمَا، أَوْ نَفَاهُ عَنْهُمَا، وُقِفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ عَاقِلاً وَيَخْتَارَ الِانْتِسَابَ إِلَى أَحَدِهِمَا بِحَسَبِ الْمَيْلِ الَّذِي يَجِدُهُ، وَيُحْبَسُ لِيَخْتَارَ إِنِ امْتَنَعَ مِنَ الِانْتِسَابِ، إِلاَّ إِنْ لَمْ يَجِدْ مَيْلاً إِلَى أَحَدِهِمَا فَيُوقَفُ الْأَمْرُ.
وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُ قَائِفٍ إِلاَّ قَبْلَ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّهِ لِسُقُوطِ الثِّقَةِ بِقَوْلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَكَذَا لَا يُصَدَّقُ لِغَيْرِ الْآخَرِ إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّ إِمْكَانِ تَعَلُّمِهِ مَعَ امْتِحَانٍ لَهُ بِذَلِكَ.
وَلَوِ اسْتَلْحَقَ مَجْهُولاً نَسَبَهُ وَلَهُ زَوْجَةٌ فَأَنْكَرَتْهُ زَوْجَتُهُ لَحِقَهُ عَمَلاً بِإِقْرَارِهِ دُونَهَا، لِجَوَازِ كَوْنِهِ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زَوْجَةٍ أُخْرَى، وَإِنِ ادَّعَتْهُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، امْرَأَةٌ أُخْرَى وَأَنْكَرَهُ زَوْجُهَا، وَأَقَامَ زَوْجُ الْمُنْكِرَةِ بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا فَيَسْقُطَانِ، وَيُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهَا لَحِقَهَا، وَكَذَا زَوْجُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي، أَوْ بِالرَّجُلِ لَحِقَهُ وَزَوْجَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، فَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ وَلَدًا لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ قَائِفٍ بِقَوْلِ قَائِفٍ آخَرَ، وَلَوْ أَلْحَقَهُ قَائِفٌ بِالْأَشْبَاهِ الظَّاهِرَةِ، وَآخَرُ بِالْأَشْبَاهِ الْخَفِيَّةِ كَالْخُلُقِ وَتَشَاكُلِ الْأَعْضَاءِ، فَالثَّانِي أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ حِذْقٍ وَبَصِيرَةٍ، وَلَوْ أَلْحَقَ الْقَائِفُ التَّوْأَمَيْنِ بِاثْنَيْنِ، بِأَنْ أَلْحَقَ أَحَدَهُمَا بِأَحَدِهِمَا، وَالْآخَرَ بِالْآخَرِ بَطَلَ قَوْلُهُ حَتَّى يُمْتَحَنَ وَيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فَيُعْمَلُ بِقَوْلِهِ، كَمَا لَوْ أَلْحَقَ الْوَاحِدَ بِاثْنَيْنِ، وَيَبْطُلُ أَيْضًا قَوْلُ قَائِفَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الْإِلْحَاقِ حَتَّى يُمْتَحَنَا وَيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُمَا.
وَيَلْغُو انْتِسَابُ بَالِغٍ أَوْ تَوْأَمَيْنِ إِلَى اثْنَيْنِ، فَإِنْ رَجَعَ، أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ إِلَى الْآخَرِ قُبِلَ، وَيُؤْمَرُ الْبَالِغُ بِالِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَمَتَى أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ وَإِنْ أَنْكَرَهُ الْآخَرُ أَوْ أَنْكَرَاهُ؛ لِأَنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا فِي النَّسَبِ فَلَا يَثْبُتُ بِالْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِهِ وَيُنْفِقَانِ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْقَائِفِ أَوْ يَنْتَسِبَ، وَيَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ مَنْ لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ عَلَى مَنْ لَحِقَهُ إِنْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَلَمْ يَدَّعِ الْوَلَدَ، وَيَقْبَلَانِ لَهُ الْوَصِيَّةَ الَّتِي أُوصِيَ لَهُ بِهَا فِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَبُوهُ، وَنَفَقَةُ الْحَامِلِ عَلَى الْمُطَلِّقِ فَيُعْطِيهَا لَهَا وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْآخَرِ إِنْ أُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالْآخَرِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْعَرْضِ عَلَى الْقَائِفِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَيِّتًا، لَا إِنْ تَغَيَّرَ أَوْ دُفِنَ، وَإِنْ مَاتَ مُدَّعِيهِ عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ مَعَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ وَنَحْوِهِ مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَةِ.
وَرَجَّحَ الْحَنَابِلَةُ إِطْلَاقَ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ لَحِقَ بِهِ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِاثْنَيْنِ لَحِقَ بِهِمَا، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِأَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ الْتُحِقَ بِهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُلْحِقَ بِالِاثْنَيْنِ مَوْجُودٌ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَدَلِيلُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فِي رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا وَلَدًا كِلَاهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَدَعَا عُمَرُ لَهُمَا بِالْقَافَةِ فَنَظَرُوا وَقَالُوا نَرَاهُ يُشْبِهُهُمَا فَأَلْحَقَهُ عُمَرُ- رضي الله عنه- بِهِمَا وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ.
وَإِنِ ادَّعَتِ امْرَأَتَانِ نَسَبَ وَلَدٍ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ قَوْلِ إِحْدَاهُمَا بِبَيِّنَةٍ، فَفِيهِ الِاخْتِلَافُ السَّابِقُ.
الْإِثْبَاتُ بِقِيَافَةِ الْأَثَرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ:
11- ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ جَوَازَ اعْتِمَادِ الْقَاضِي عَلَى الْقِيَافَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْأَمْوَالِ، يَقُولُ: وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُحْكَمَ بِالْقِيَافَةِ فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا، كَمَا حَكَمْنَا بِذَلِكَ فِي الْجِذْعِ الْمَقْلُوعِ إِذَا كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ فِي الدَّارِ، وَكَمَا حَكَمْنَا فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْيَدِ الْعُرْفِيَّةِ، فَأَعْطَيْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي الْعَادَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّانِعَيْنِ مَا يُنَاسِبُهُ، وَكَمَا حَكَمْنَا بِالْوَصْفِ فِي اللُّقَطَةِ إِذَا تَدَاعَاهَا اثْنَانِ، وَهَذَا نَوْعُ قِيَافَةٍ أَوْ شَبِيهٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَا غِرَاسًا أَوْ تَمْرًا فِي أَيْدِيهِمَا، فَشَهِدَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْبُسْتَانِ، وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ حَيْثُ يَسْتَوِي الْمُتَدَاعِيَانِ، كَمَا رُجِعَ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِالنَّسَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ لِبَاسًا مِنْ لِبَاسِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، أَوْ تَنَازَعَا دَابَّةً تَذْهَبُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى إِصْطَبْلِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، أَوْ تَنَازَعَا زَوْجَ خُفٍّ أَوْ مِصْرَاعَ بَابٍ مَعَ الْآخَرِ شَكْلُهُ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ لِأَحَدِهِمَا كَالزُّرْبُولِ الَّتِي لِلْجُنْدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ فِي يَدِ ثَالِثٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ تَدَاعَيَا بَهِيمَةً أَوْ فَصِيلاً فَشَهِدَ الْقَائِفُ أَنَّ دَابَّةَ هَذَا أَنْتَجَتْهَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَتُقَدَّمُ عَلَى الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ وَقَدْ «حَكَمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْأَثَرِ فِي السَّيْفِ فِي قَضِيَّةِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ».
فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِهِمَا «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سَأَلَهُمَا: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ».
الْإِثْبَاتُ بِقِيَافَةِ الْأَثَرِ فِي الْجِنَايَاتِ:
12- يُرْجَعُ إِلَى قَائِفِ الْأَثَرِ لِلْقَبْضِ عَلَى الْمُتَّهَمِينَ وَإِحْضَارِهِمْ مَجْلِسَ الْقَاضِي، كَمَا حَدَثَ فِي قَضِيَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، فَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي طَلَبِهِمْ قَافَةً فَأُتِيَ بِهِمْ».
وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ كَذَلِكَ فِي جَمْعِ الْأَدِلَّةِ وَالْكَشْفِ عَنْ كَيْفِيَّةِ ارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ.
وَيُعَدُّ رَأْيُ الْقَائِفِ شَهَادَةً تَثْبُتُ بِهَا الْحُقُوقُ وَالدَّعَاوَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، مِثَالُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ أَنَّهُ ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ، وَيَثْبُتَ ذَلِكَ، فَيَقْتَصُّ الْقَائِفُ أَثَرَ الْوَطْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، فَشَهَادَةُ الْقَائِفِ أَنَّ الْمَالَ دَخَلَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ تُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْحُكْمُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ لِلْمُدَّعِي، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَمَارَاتِ تُرَجِّحُ جَانِبَ الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ فِي أَقْوَى الْجَانِبَيْنِ وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْأَثَرِ فِي السَّيْفِ كَمَا يَذْكُرُ ابْنُ فَرْحُونَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَأَصْحَابِهِ- رضي الله عنهم- «لَمَّا دَخَلُوا الْحِصْنَ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ لِيَقْتُلُوهُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلاً، فَوَقَعُوا فِيهِ بِالسُّيُوفِ، وَوَضَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ وَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى نَبَعَ ظَهْرُهُ، فَلَمَّا رَجَعُوا وَقَدْ قَتَلُوهُ نَظَرَ- عليه الصلاة والسلام- إِلَى سُيُوفِهِمْ فَقَالَ: هَذَا قَتَلَهُ» لِأَنَّهُ رَأَى عَلَى السَّيْفِ أَثَرَ الطِّعَانِ.
وَقَدِ اسْتَنَدَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْأَثَرِ حِينَ اخْتَصَمَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ فِي قَطِيفَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا حَمْرَاءُ وَالْأُخْرَى خَضْرَاءُ، وَأَحَدُهُمَا يَدَّعِي الَّتِي بِيَدِ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ تَرَكَ قَطِيفَتَهُ لِيَغْتَسِلَ، فَأَخَذَهَا الْآخَرُ وَتَرَكَ قَطِيفَتَهُ هُوَ فِي مَحَلِّهَا، وَلَمْ تُوجَدْ بَيِّنَةٌ، فَطَلَبَ إِيَاسٌ أَنْ يُؤْتَى بِمُشْطٍ، فَسَرَّحَ رَأْسَ هَذَا وَرَأْسَ هَذَا، فَخَرَجَ مِنْ رَأْسِ أَحَدِهِمَا صُوفٌ أَحْمَرُ، وَمِنْ رَأْسِ الْآخَرِ صُوفٌ أَخْضَرُ، فَقَضَى بِالْحَمْرَاءِ لِلَّذِي خَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ الصُّوفُ الْأَحْمَرُ وَبِالْخَضْرَاءِ لِلَّذِي خَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ الصُّوفُ الْأَخْضَرُ.
وَفِي إِحْدَى الْقَضَايَا هَرَبَ الْقَاتِلُ وَانْدَسَّ بَيْنَ النَّاسِ فَلَمْ يُعْرَفْ، فَمَرَّ الْمُعْتَضِدُ عَلَى النَّاسِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَيَجِدُهُ سَاكِنًا، حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فُؤَادِ ذَلِكَ الْغُلَامِ، فَإِذَا بِهِ يَخْفِقُ خَفْقًا شَدِيدًا، فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ، وَاسْتَقَرَّهُ فَأَقَرَّ فَقَتَلَهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الِاسْتِنَادَ إِلَى الْأَثَرِ لَيْسَ قَرِينَةً قَطْعِيَّةً عَلَى ارْتِكَابِ الْجَرِيمَةِ، تُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَضِيَّةُ الْقَصَّابِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى خَرِبَةٍ لِلتَّبَوُّلِ وَمَعَهُ سِكِّينُهُ، فَإِذَا بِهِ أَمَامَ مَقْتُولٍ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، وَمَا أَفَاقَ مِنْ ذُهُولِهِ حَتَّى وَجَدَ الْعَسَسَ يَقْبِضُونَ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَجَزَ الرَّجُلُ عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَدِلَّةَ جَمِيعَهَا ضِدُّهُ، وَلَمْ يُنْقِذْهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمَحْتُومَةِ- وَهِيَ الْقَتْلُ- إِلاَّ إِقْرَارُ الْقَاتِلِ الْحَقِيقِيِّ بِالْجَرِيمَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
100-موسوعة الفقه الكويتية (كذب)
كَذِبالتَّعْرِيفُ:
1- الْكَذِبُ لُغَةً: الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ، سَوَاءٌ فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ.
وَلَا يَخْرُجُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّزْوِيرُ:
2- التَّزْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: تَزْيِينُ الْكَذِبِ، وَزَوَّرْتُ الْكَلَامَ فِي نَفْسِي: هَيَّأْتُهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَحْسِينُ الشَّيْءِ وَوَصْفُهُ بِخِلَافِ صِفَتِهِ حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَى مَنْ سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ أَنَّهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ تَمْوِيهُ الْبَاطِلِ بِمَا يُوهِمُ أَنَّهُ حَقٌّ.
وَبَيْنَ الْكَذِبِ وَالتَّزْوِيرِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، فَالتَّزْوِيرُ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْكَذِبُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْقَوْلِ.
(ر: تَزْوِيرٌ ف 1).
وَالْكَذِبُ قَدْ يَكُونُ مُزَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُزَيَّنٍ، وَالتَّزْوِيرُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْكَذِبِ الْمُمَوَّهِ.
ب- الِافْتِرَاءُ:
3- الِافْتِرَاءُ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ: الْكَذِبُ وَالِاخْتِلَاقُ، قَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أَيِ اخْتَلَقَهُ وَكَذَبَ بِهِ عَلَى اللَّهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَإِنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْسَادِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْلَاحِ، كَالْكَذِبِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، أَمَّا الِافْتِرَاءُ فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْإِفْسَادِ (ر: افْتِرَاءٌ ف 1).
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- الْأَصْلُ فِي الْكَذِبِ أَنَّهُ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ الذُّنُوبِ وَفَوَاحِشِ الْعُيُوبِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}.
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا».
وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ».
وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَعَ النُّصُوصِ الْمُتَظَاهِرَةِ عَلَى ذَلِكَ.
5- وَقَدْ يَكُونُ الْكَذِبُ مُبَاحًا أَوْ وَاجِبًا، فَالْكَلَامُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْمَقَاصِدِ، وَكُلُّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِغَيْرِ الْكَذِبِ يَحْرُمُ الْكَذِبُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ إِلاَّ بِالْكَذِبِ جَازَ الْكَذِبُ فِيهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْقَصْدِ مُبَاحًا كَانَ الْكَذِبُ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَانَ الْكَذِبُ وَاجِبًا، كَمَا أَنَّ عِصْمَةَ دَمِ الْمُسْلِمِ وَاجِبَةٌ، فَإِذَا كَانَ فِي الصِّدْقِ سَفْكُ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قَدِ اخْتَفَى مِنْ ظَالِمٍ فَالْكَذِبُ فِيهِ وَاجِبٌ، وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ مَا لَمْ يَخْشَ التَّبَيُّنَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ شَدِيدٌ لَا يُحْتَمَلُ.
وَإِذَا كَانَ لَا يَتِمُّ مَقْصُودُ الْحَرْبِ أَوْ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَوِ اسْتِمَالَةُ قَلْبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلاَّ بِكَذِبٍ فَالْكَذِبُ فِيهِ مُبَاحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا فَتَحَ بَابَ الْكَذِبِ عَلَى نَفْسِهِ فَيُخْشَى أَنْ يَتَدَاعَى إِلَى مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَإِلَى مَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ، فَيَكُونُ الْكَذِبُ حَرَامًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ- رضي الله عنها-: أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا»، وَوَرَدَ عَنْهَا: «لَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا»، فَهَذِهِ الثَّلَاثُ وَرَدَ فِيهَا صَرِيحُ الِاسْتِثْنَاءِ وَفِي مَعْنَاهَا مَا عَدَاهَا إِذَا ارْتَبَطَ بِهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ.
فَأَمَّا مَا هُوَ صَحِيحٌ لَهُ فَمِثْلُ أَنْ يَأْخُذَهُ ظَالِمٌ وَيَسْأَلَهُ عَنْ مَالِهِ فَلَهُ أَنْ يُنْكِرَهُ، أَوْ يَأْخُذَهُ سُلْطَانٌ فَيَسْأَلَهُ عَنْ فَاحِشَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ارْتَكَبَهَا فَلَهُ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ، فَيَقُولَ: مَا زَنَيْتُ، مَا سَرَقْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، وَذَلِكَ أَنَّ إِظْهَارَ الْفَاحِشَةِ فَاحِشَةٌ أُخْرَى، فَلِلرَّجُلِ أَنْ يَحْفَظَ دَمَهُ وَمَالَهُ الَّذِي يُؤْخَذُ ظُلْمًا وَعِرْضَهُ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا.
وَأَمَّا عِرْضُ غَيْرِهِ فَبِأَنْ يُسْأَلَ عَنْ سِرِّ أَخِيهِ فَلَهُ أَنْ يُنْكِرَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْحَدَّ فِيهِ أَنَّ الْكَذِبَ مَحْذُورٌ، وَلَوْ صَدَقَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ تَوَلَّدَ مِنْهُ مَحْذُورٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَابَلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَيَزِنَ بِالْمِيزَانِ الْقِسْطِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَحْذُورَ الَّذِي يَحْصُلُ بِالصِّدْقِ أَشَدُّ وَقْعًا فِي الشَّرْعِ مِنَ الْكَذِبِ فَلَهُ أَنْ يَكْذِبَ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَهْوَنَ مِنْ مَقْصُودِ الصِّدْقِ فَيَجِبُ الصِّدْقُ، وَقَدْ يَتَقَابَلُ الْأَمْرَانِ بِحَيْثُ يَتَرَدَّدُ فِيهِمَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَيْلُ إِلَى الصِّدْقِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ يُبَاحُ لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ مُهِمَّةٍ، فَإِنْ شَكَّ فِي كَوْنِ الْحَاجَةِ مُهِمَّةً، فَالْأَصْلُ التَّحْرِيمُ، فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ.
وَلِأَجْلِ غُمُوضِ إِدْرَاكِ مَرَاتِبِ الْمَقَاصِدِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْكَذِبِ مَا أَمْكَنَهُ، وَكَذَلِكَ مَهْمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ لَهُ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ أَغْرَاضَهُ وَيَهْجُرَ الْكَذِبَ، فَأَمَّا إِذَا تَعَلَّقَ الْغَرَضُ بِغَيْرِهِ فَلَا تَجُوزُ الْمُسَامَحَةُ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَالْإِضْرَارُ بِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ الْكَذِبُ فِي شَيْءٍ مُطْلَقًا، وَحَمَلُوا الْكَذِبَ الْمُرَادَ فِي حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ عَلَى التَّوْرِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ، كَمَنْ يَقُولُ لِلظَّالِمِ: دَعَوْتُ لَكَ أَمْسِ، وَهُوَ يُرِيدُ قَوْلَهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَعِدُ امْرَأَتَهُ بِعَطِيَّةِ شَيْءٍ، وَيُرِيدُ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَذِبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَسْقُطُ حَقًّا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا أَوْ أَخْذُ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ لَهَا.
تَغْلِيطُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم-:
6- الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي لَا يُقَاوِمُهَا شَيْءٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَدُّ هَذَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، بَلْ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كُفْرٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تَحْلِيلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ كُفْرٌ مَحْضٌ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَمَا يَحْرُمُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ يَحْرُمُ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ عَلَى مَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَضْعُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَالَ رُوَاتِهِ وَوَضْعَهُ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ مُنْدَرِجٌ فِي جُمْلَةِ الْكَذَّابِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ».
وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ أَوْ ذِكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا أَوْ حَسَنًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَذَا، أَوْ فَعَلَهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَزْمِ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَلَا يَقُلْ: قَالَ أَوْ فَعَلَ أَوْ أَمَرَ أَوْ نَهَى وَشَبَهَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَزْمِ، بَلْ يَقُولُ: رُوِيَ عَنْهُ كَذَا أَوْ جَاءَ عَنْهُ كَذَا أَوْ يُرْوَى أَوْ يُذْكَرُ أَوْ يُحْكَى أَوْ يُقَالُ أَوْ بَلَغَنَا وَمَا أَشْبَهَهُ.وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ:
7- الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ وَتُسَمَّى الْغَمُوسَ وَهِيَ الَّتِي يَحْلِفُهَا الْإِنْسَانُ عَامِدًا عَالِمًا أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لِيُحِقَّ بِهَا بَاطِلًا أَوْ يُبْطِلَ حَقًّا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف 102- 114).
شَهَادَةُ الزُّورِ:
8- شَهَادَةُ الزُّورِ: هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْكَذِبِ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الْبَاطِلِ مِنْ إِتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَةُ الزُّورِ ف 1- 2).
الْكَذِبُ فِي الْمُزَاحِ:
9- الْكَذِبُ فِي الْمُزَاحِ حَرَامٌ كَالْكَذِبِ فِي غَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ مِنَ الْمُزَاحَةِ، وَيَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا»، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي لأَمْزَحُ وَلَا أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا».
الْكَذِبُ فِي مُلَاعَبَةِ الصِّبْيَانِ:
10- يَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنَ الْكَذِبِ فِي مُلَاعَبَةِ الصِّبْيَانِ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ حَذَّرَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: وَمَا أَرَدْتَ أَنْ تُعْطِيَهُ؟ قَالَتْ: أُعْطِيَهُ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَمَّا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكَ كِذْبَةٌ»، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ تَعَالَ هَاكَ ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ فَهِيَ كِذْبَةٌ». الْكَذِبُ فِي الرُّؤْيَا:
11- حَذَّرَ الشَّارِعُ مِنَ الْكَذِبِ فِي الرُّؤْيَا وَنَهَى عَنْهُ، فَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يُدْعَى الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ، أَوْ يَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَا لَمْ يَقُلْ»، وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ تَحَلَّمَ كَاذِبًا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعْرَتَيْنِ وَلَنْ يَعْقِدَ بَيْنَهُمَا»
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا اشْتَدَّ فِيهِ الْوَعِيدُ مَعَ أَنَّ الْكَذِبَ فِي الْيَقِظَةِ قَدْ يَكُونُ أَشَدَّ مَفْسَدَةً مِنْهُ؛ إِذْ قَدْ تَكُونُ شَهَادَةً فِي قَتْلٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ أَخْذِ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ فِي الْمَنَامِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ أَرَاهُ مَا لَمْ يَرَهُ، وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ أَشَدُّ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ لقوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وَإِنَّمَا كَانَ الْكَذِبُ فِي الْمَنَامِ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ لِحَدِيثِ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»، وَمَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فَهُوَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنْ قِيلَ مَنْ كَذَبَ فِي رُؤْيَاهُ فَفَسَّرَهَا الْعَابِرُ لَهُ أَيَلْزَمُهُ حُكْمُهَا؟ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي يُوسُفَ- عليه السلام- عِنْدَمَا قَالَ لِلسَّاقِي: إِنَّكَ تُرَدُّ عَلَى عَمَلِكَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ مِنْ سَقْيِ الْمَلِكِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ لِلْآخَرِ وَكَانَ خَبَّازًا: وَأَمَّا أَنْتَ فَتُدْعَى إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَتُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِكَ، قَالَ الْخَبَّازُ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، قَالَ: رَأَيْتَ أَوْ لَمْ تَرَ {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}.
لِأَنَّهُ نَبِيٌّ وَتَعْبِيرُ النَّبِيِّ حُكْمٌ، وَقَدْ قَالَ: إِنَّهُ يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَأَوْجَدَ اللَّهُ مَا أَخْبَرَ كَمَا قَالَ تَحْقِيقًا لِنُبُوَّتِهِ.
مَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ:
12- إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا الشَّارِعُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ وَتَغْيِيرِ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْتَسِبَ الْمَرْءُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يَدَّعِيَ ابْنًا لَيْسَ ابْنَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا ادَّعَاهُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ»، وَالْكُفْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ لَهُ تَأْوِيلَانِ ذَكَرَهُمَا النَّوَوِيُّ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِلِّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كُفْرُ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ أَبِيهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُفْرُ الَّذِي يُخْرِجُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لِمَنْ يَنْفِي نَسَبَ ابْنِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ كَذِبَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ، اسْتِلْحَاقٌ ف 2). الْكَذِبُ فِي الْبَيْعِ وَالْغِشُّ فِيهِ:
13- مِنَ الْمُنْكَرَاتِ الْمُعْتَادَةِ فِي الْأَسْوَاقِ الْكَذِبُ فِي الْمُرَابَحَةِ وَإِخْفَاءُ الْعَيْبِ فَمَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِعَشَرَةٍ وَأَرْبَحُ فِيهَا كَذَا، وَكَانَ كَاذِبًا فَهُوَ فَاسِقٌ، وَعَلَى مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْتَرِيَ بِكَذِبِهِ، فَإِنْ سَكَتَ مُرَاعَاةً لِقَلْبِ الْبَائِعِ كَانَ شَرِيكًا لَهُ فِي الْإِثْمِ وَعَصَى بِسُكُوتِهِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غِشٌّ ف 5).
غِشُّ الْوَالِي رَعِيَّتَهُ وَكَذِبُهُ عَلَيْهِمْ:
14- غِشُّ الْوَالِي رَعِيَّتَهُ وَكَذِبُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَمَنْ قَلَّدَهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَرْعَاهُ عَلَيْهِمْ وَنَصَبَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَحَ لَهُمْ وَأَلاَّ يَغُشَّهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ صَادِقًا مَعَهُمْ، وَإِلاَّ اسْتَحَقَّ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ»، وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَسْتَرْعِي اللَّهُ عَبْدًا رَعِيَّةً يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ». وَعَنْهُ- رضي الله عنه- سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلاَّ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ»، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِذَا خَانَ الْأَمِيرُ فِيمَا أُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْصَحْ فِيمَا قَلَّدَهُ إِمَّا بِتَضْيِيعِهِ تَعْرِيفَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ دِينِهِمْ، وَأَخْذِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا بِالْقِيَامِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ شَرَائِعِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهَا لِكُلِّ مُتَصَدٍّ بِإِدْخَالِ دَاخِلَةٍ فِيهَا، أَوْ تَحْرِيفٍ لِمَعَانِيهَا أَوْ إِهْمَالِ حُدُودِهِمْ، أَوْ تَضْيِيعِ حُقُوقِهِمْ، أَوْ تَرْكِ حِمَايَةِ حَوْزَتِهِمْ وَمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِمْ أَوْ تَرْكِ سِيرَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ فَقَدْ غَشَّهُمْ، وَقَدْ نَبَّهَ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوبِقَةِ الْمُبْعِدَةِ عَنِ الْجَنَّةِ.وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
التَّحَدُّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ:
15- نَهَى الشَّارِعُ أَنْ يُحَدِّثَ الْمَرْءُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَفِي هَذَا الزَّجْرُ عَنِ التَّحَدُّثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ الْإِنْسَانُ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِي الْعَادَةِ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لِإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْكَذِبَ: الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّدُ، لَكِنَّ التَّعَمُّدَ شَرْطٌ فِي كَوْنِهِ إِثْمًا.
الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الْكَذِبِ بِالْمَعَارِيضِ:
16- نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: أَنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ، قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: أَمَا فِي الْمَعَارِيضِ مَا يَكْفِي الرَّجُلَ عَنِ الْكَذِبِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ إِذَا اضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إِلَى الْكَذِبِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ وَضَرُورَةٌ فَلَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ وَلَا التَّصْرِيحُ جَمِيعًا، وَلَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَهْوَنُ.
وَمِثَالُ التَّعْرِيضِ: مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ- رضي الله عنه- كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ- رضي الله عنه- فَلَمَّا رَجَعَ قَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا جِئْتَ بِهِ مِمَّا أَتَى بِهِ الْعُمَّالُ إِلَى أَهْلِهِمْ؟ وَمَا كَانَ قَدْ أَتَاهَا بِشَيْءٍ، فَقَالَ: كَانَ عِنْدِي ضَاغِطٌ، قَالَتْ: كُنْتَ أَمِينًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه-، فَبَعَثَ عُمَرُ مَعَكَ ضَاغِطًا.وَقَامَتْ بِذَلِكَ بَيْنَ نِسَائِهَا، وَاشْتَكَتْ عُمَرَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ دَعَا مُعَاذًا وَقَالَ: بَعَثْتُ مَعَكَ ضَاغِطًا؟ قَالَ: لَمْ أَجِدْ مَا أَعْتَذِرُ بِهِ إِلَيْهَا إِلاَّ ذَلِكَ، فَضَحِكَ عُمَرُ- رضي الله عنه- وَأَعْطَاهُ شَيْئًا، فَقَالَ: أَرْضِهَا بِهِ،
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (ضَاغِطًا) يَعْنِي رَقِيبًا، وَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَكَانَ النَّخَعِيُّ لَا يَقُولُ لِابْنَتِهِ: أَشْتَرِي لَكِ سُكَّرًا، بَلْ يَقُولُ: أَرَأَيْتِ لَوِ اشْتَرَيْتُ لَكِ سُكَّرًا؟ فَإِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَتَّفِقُ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا طَلَبَهُ مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الدَّارِ قَالَ لِلْجَارِيَةِ: قَوْلِي لَهُ: اطْلُبْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا تَقُولِي: لَيْسَ هُنَا كَيْ لَا يَكُونَ كَذِبًا.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فَلَا؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْهِيمٌ لِلْكَذِبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ كَذِبًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، كَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رحمه الله- (، فَخَرَجْتُ وَعَلَيَّ ثَوْبٌ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا كَسَاكَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَكُنْتُ أَقُولُ: جَزَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا، فَقَالَ لِي أَبِي: يَا بُنَيَّ اتَّقِ الْكَذِبَ وَمَا أَشْبَهَهُ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى ظَنٍّ كَاذِبٍ لِأَجْلِ غَرَضِ الْمُفَاخَرَةِ، وَهَذَا غَرَضٌ بَاطِلٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
وَتُبَاحُ الْمَعَارِيضُ لِغَرَضٍ خَفِيفٍ كَتَطْيِيبِ قَلْبِ الْغَيْرِ بِالْمُزَاحِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: «أَتَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهَا- صلى الله عليه وسلم-: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، فَبَكَتْ فَقَالَ: إِنَّكِ لَسْتِ بِعَجُوزٍ يَوْمِئِذٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} » وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: «إِنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ أَيْمَنَ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجِي يَدْعُوكَ، قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ أَهُوَ الَّذِي بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ، فَقَالَ: بَلَى، إِنَّ بِعَيْنِهِ بَيَاضًا، فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: مَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَبِعَيْنِهِ بَيَاضٌ» وَأَرَادَ بِهِ الْبَيَاضَ الْمُحِيطَ بِالْحَدَقَةِ.
وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ رَجُلًا اسْتَحْمَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلاَّ النُّوقُ؟ وَكَانَ يَمْزَحُ بِهِ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
101-موسوعة الفقه الكويتية (لوث)
لَوْثٌالتَّعْرِيفُ:
1- اللَّوْثُ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ فِي اللُّغَةِ: الْقُوَّةُ وَالشَّرُّ، وَاللَّوْثُ: الضَّعْفُ.
وَاللَّوْثُ: شِبْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى حَدَثٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ، وَلَا يَكُونُ بَيِّنَةً تَامَّةً يُقَالُ: لَمْ يَقُمْ عَلَى اتِّهَامِ فُلَانٍ بِالْجِنَايَةِ إِلاَّ لَوْثٌ.
وَاللَّوْثُ: الْجِرَاحَاتُ وَالْمُطَالَبَاتُ بِالْأَحْقَادِ، وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: أَمْرٌ يَنْشَأُ عَنْهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِصَدْقِ الْمُدَّعِي.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التُّهْمَةُ:
2- التُّهْمَةُ فِي اللُّغَةِ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا: الشَّكُّ وَالرِّيبَةُ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مِنَ الْوَهْمِ.
وَالتُّهْمَةُ هِيَ الْخَصْلَةُ مِنَ الْمَكْرُوهِ تُظَنُّ بِالْإِنْسَانِ أَوْ تُقَالُ فِيهِ، يُقَالُ: وَقَعَتْ عَلَى فُلَانٍ تُهْمَةٌ: إِذَا ذُكِرَ بِخَصْلَةٍ مَكْرُوهَةٍ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ اللَّوْثَ مِنْ شُرُوطِ الْقَسَامَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ- رضي الله عنه- فِي قِصَّةِ قَتْلِ يَهُودِ خَيْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ- رضي الله عنه-، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ (يُرِيدُ السِّنَّ) فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ».
4- وَلَكِنَّ اللَّوْثَ لَهُ صُوَرٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِهَا:
فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: اللَّوْثُ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صَدْقَ الْمُدَّعِي وَلَهُ طُرُقٌ مِنْهَا.
الْأَوَّلُ: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ أَوْ بَعْضُهُ الَّذِي يُحَقِّقُ مَوْتَهُ كَرَأْسِهِ فِي قَبِيلَةٍ أَوْ فِي حِصْنٍ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ، أَوْ فِي مَحَلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنِ الْبَلَدِ الْكَبِيرِ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ أَوْ قَبِيلَةِ الْقَتِيلِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ تَبْعَثُ عَلَى الِانْتِقَامِ بِالْقَتْلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعْرَفَ لَهُ قَاتِلٌ وَلَا بَيِّنَةٌ بِقَتْلِهِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَقِيلَ: وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْقَرْيَةُ بِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ يَطْرُقُهَا التُّجَّارُ وَالْمُجْتَازُونَ وَغَيْرُهُمْ فَلَا لَوْثَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْغَيْرَ قَتَلَهُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ لَا تُعْلَمُ صَدَاقَتُهُ لِلْقَتِيلِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَتِيلِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَكِنِ الْمُصَنِّفُ- أَيِ النَّوَوِيُّ- فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ حَكَى الْأَوَّلَ- أَيِ اشْتِرَاطَ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ- عَنِ الشَّافِعِيِّ وَصَوَّبَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ.
الثَّانِي: أَنْ تَتَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ فِي دَارٍ دَخَلَهَا عَلَيْهِمْ ضَيْفًا أَوْ دَخَلَ مَعَهُمْ لِحَاجَةٍ أَوْ فِي مَسْجِدٍ أَوْ بُسْتَانٍ أَوْ طَرِيقٍ أَوْ صَحْرَاءَ، وَكَذَا لَوِ ازْدَحَمَ قَوْمٌ عَلَى بِئْرٍ، أَوْ بَابِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي مَضِيقٍ ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَنْ قَتِيلٍ، لِقُوَّةِ الظَّنِّ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ بِحَيْثُ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتِيلِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَابَلَ صَفَّانِ لِقِتَالٍ فَيَقْتَتِلَا فَيَنْكَشِفُوا عَنْ قَتِيلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا طَرِيٍّ- كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ- فَإِنِ الْتَحَمَ قِتَالٌ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ أَوْ وَصَلَ سِلَاحُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ رَمْيًا أَوْ طَعْنًا أَوْ ضَرْبًا، وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَى الْآخَرِ، فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الصَّفِّ الْآخَرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ أَهْلَ صَفِّهِ لَا يَقْتُلُونَهُ سَوَاءٌ أَوُجِدَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ أَمْ فِي صَفِّ نَفْسِهِ، أَمْ فِي صَفِّ خَصْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَحِمْ قِتَالٌ بَيْنَهُمَا وَلَا وَصَلَ سِلَاحُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ أَهْلِ صَفِّهِ أَيِ الْقَتِيلِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ فِي صَحْرَاءَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مَعَهُ سِلَاحٌ مُتَلَطِّخٌ بِدَمٍ أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَثَرُ دَمٍ، مَا لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ تُعَارِضُهُ كَأَنْ وُجِدَ بِقُرْبِ الْقَتِيلِ سَبُعٌ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ مُوَلٍّ ظَهْرَهُ أَوْ وُجِدَ أَثَرُ قَدَمٍ أَوْ تَرْشِيشُ دَمٍ فِي غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا صَاحِبُ السِّلَاحِ فَلَيْسَ بِلَوْثٍ فِي حَقِّهِ، أَيْ صَاحِبِ السِّلَاحِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَوْ رَأَيْنَا مِنْ بُعْدٍ رَجُلًا يُحَرِّكُ يَدَهُ كَمَا يَفْعَلُ مِنْ يَضْرِبُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ ثُمَّ وَجَدْنَا فِي الْمَوْضِعِ قَتِيلًا فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّ ذَلِكَ الرَّجُلِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ عَدْلٌ بِأَنَّ زَيْدًا قَتَلَ فُلَانًا فَهُوَ لَوْثٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الدَّعْوَى أَوْ تَأَخَّرَتْ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِصَدْقِهِ.
قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: إِنَّمَا تَكُونُ شَهَادَةُ الْعَدْلِ لَوْثًا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ فَإِنْ كَانَ فِي خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ لَمْ يَكُنْ لَوْثًا، بَلْ يَحْلِفُ مَعَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا لَا يُوجِبُ قِصَاصًا كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيِّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ قَتْلِ الْخَطَأِ فِي أَصْلِ الْمَالِ لَا فِي صِفَتِهِ وَلَوْ شَهِدَ جَمَاعَةٌ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ كَنِسَاءٍ فَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فَلَوْثٌ وَكَذَا لَوْ جَاءُوا دَفْعَةً عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِي وَجْهٍ لَيْسَ بِلَوْثٍ وَفِي التَّهْذِيبِ: أَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ كَشَهَادَةِ الْجَمْعِ.
وَفِي الْوَجِيزِ: أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْثٌ.
وَأَمَّا فِيمَنْ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ كَصِبْيَانٍ أَوْ فَسَقَةٍ أَوْ ذِمِّيِّينَ فَأَوْجُهٌ أَصَحُّهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ لَوْثٌ.
وَالثَّانِي: لَيْسَ بِلَوْثٍ، وَالثَّالِثُ: لَوْثٌ مِنْ غَيْرِ الْكُفَّارِ.
وَلَوْ قَالَ الْمَجْرُوحُ: جَرَحَنِي فُلَانٌ أَوْ قَتَلَنِي أَوْ دَمِيَ عِنْدَهُ فَلَيْسَ بِلُوثٍ، لِأَنَّهُ مُدَّعٍ.
السَّادِسُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوْ وَقَعَ فِي أَلْسِنَةِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَلَهَجِهِمْ: أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا فَهُوَ لَوْثٌ فِي حَقِّهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَحَلَّةٍ وَبِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ وَلَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ اسْتَحْلَفَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ يَتَخَيَّرُهُمُ الْوَلِيُّ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: بِاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا وَلَا يَشْتَرِطُونَ لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لِمُدَّعِي الْقَتْلِ مِنْ عَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلٍ أَوْ جَمَاعَةٍ غَيْرِ عُدُولٍ أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ قَتَلُوهُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ سَبَبَ الْقَسَامَةِ هُوَ قَتْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ بِلَوْثٍ، وَذَكَرُوا خَمْسَةَ أَمْثِلَةٍ لِلَّوْثِ: -
أَوَّلُهَا: أَنْ يَقُولَ الْبَالِغُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الذَّكَرُ أَوِ الْأُنْثَى: قَتَلَنِي فُلَانٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ مَسْخُوطًا وَادَّعَى عَلَى عَدْلٍ وَلَوْ أَعْدَلَ وَأَوْرَعَ أَهْلِ زَمَانِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ.
أَوْ تَدَّعِي زَوْجَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَتَلَهَا أَوْ وَلَدٌ يَدَّعِي أَنَّ أَبَاهُ ذَبَحَهُ أَوْ شَقَّ جَوْفَهُ فَيَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْعَمْدِ وَيَسْتَحِقُّونَ الْقِصَاصَ، وَفِي الْخَطَأِ يَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ وَيَكُونُ لَوْثًا بِشَرْطِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِذَلِكَ عَدْلَانِ فَأَكْثَرَ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْمَقْتُولُ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَكَانَ بِهِ جُرْحٌ أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ أَوْ سُمٍّ.
ثَانِيهَا: شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ عَلَى مُعَايَنَةِ الضَّرْبِ أَوِ الْجُرْحِ أَوْ أَثَرِ الضَّرْبِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً فَيَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ وَيَسْتَحِقُّونَ الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ.
ثَالِثُهَا: شَهَادَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ عَلَى مُعَايَنَةِ الْجُرْحِ أَوِ الضَّرْبِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً، وَحَلَفَ الْوُلَاةُ مَعَ الشَّاهِدِ الْمَذْكُورِ يَمِينًا وَاحِدَةً لَقَدْ ضَرَبَهُ وَهَذِهِ الْيَمِينُ مُكَمِّلَةٌ لِلنِّصَابِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَوْثًا وَتُقْسِمُ الْوُلَاةُ مَعَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ الْقَوَدَ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ إِنْ ثَبَتَ الْمَوْتُ فِي جَمِيعِ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ.
رَابِعُهَا: شَهَادَةُ عَدْلٍ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارِ الْمَقْتُولِ فَإِنَّهَا تَكُونُ لَوْثًا وَشَهَادَةُ غَيْرِ الْعَدْلِ لَا تَكُونُ لَوْثًا، وَالْمَرْأَتَانِ كَالْعَدْلِ فِي هَذَا وَفِي سَائِرِ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ فِيهِ لَوْثًا.
خَامِسُهَا: إِنَّ الْعَدْلَ إِذَا رَأَى الْمَقْتُولَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ وَالشَّخْصُ الْمُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ قَرِيبٌ مِنْ مَكَانِ الْمَقْتُولِ وَعَلَى الْمُتَّهَمِ آثَارُ الْقَتْلِ بِأَنْ كَانَتِ الْآلَةُ بِيَدِهِ وَهِيَ مُلَطَّخَةٌ بِالدَّمِ أَوْ خَارِجًا مِنْ مَكَانِ الْمَقْتُولِ وَلَا يُوجَدُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَشَهِدَ الْعَدْلُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا يَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ مَعَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ الْقَوَدَ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ.
وَلَيْسَ مِنَ اللَّوْثِ وُجُودُ الْمَقْتُولِ بَقَرِيَّةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ، لِأَنَّهُ لَوْ أُخِذَ بِذَلِكَ لَمْ يَشَأْ رَجُلٌ أَنْ يُلَطِّخَ قَوْمًا بِذَلِكَ إِلاَّ فَعَلَ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ قَتَلَهُ لَا يَدَعُهُ فِي مَكَانٍ يُتَّهَمُ هُوَ بِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي اللَّوْثِ الْمُشْتَرَطِ فِي الْقَسَامَةِ وَرُوِيَتْ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ.
وَالرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ- وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ- أَنَّ اللَّوْثَ هُوَ الْعَدَاوَةُ الظَّاهِرَةُ كَنَحْوِ مَا كَانَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَأَهْلِ خَيْبَرَ، وَكَمَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ الَّتِي يَطْلُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِثَأْرٍ، وَمَا بَيْنَ الشُّرَطِ وَاللُّصُوصِ، وَكُلِّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ ضَغَنٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ قَتْلُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ اللَّوْثَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الْعَدَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ.
الثَّانِي: أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ لَا يُوجَدُ بِقُرْبِهِ إِلاَّ رَجُلٌ مَعَهُ سَيْفٌ أَوْ سِكِّينٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ فَيَفْتَرِقُونَ عَنْ قَتِيلٍ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَاللَّوْثُ عَلَى الْأُخْرَى.
الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ جَمَاعَةٌ بِالْقَتْلِ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَتِهِمْ.وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ أَحْمَدَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ وَابْنُ رَزِينٍ وَتَقِيُّ الدِّينِ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَاوَةِ الظَّاهِرَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ الْقَتْلُ غَيْرُ الْعَدُوِّ، وَلَا أَنْ يَكُونَ بِالْقَتِيلِ أَثَرُ الْقَتْلِ كَدَمٍ فِي أُذُنِهِ أَوْ أَنْفِهِ، وَقَوْلُ الْقَتِيلِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ لَيْسَ بِلَوْثٍ عِنْدَهُمْ.
مُسْقِطَاتُ اللَّوْثِ
5- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَالَ الْبَالِغُ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ الذَّكَرُ أَوِ الْأُنْثَى: قَتَلَنِي فُلَانٌ ثُمَّ قَالَ بَلْ فُلَانٌ بَطَلَ الدَّمُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ هَذَا الْبَالِغُ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ: قَتَلَنِي فُلَانٌ لَا يُقْبَلُ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِيهِ جُرْجٌ أَوْ أَثَرُ الضَّرْبِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ إِذَا خَالَفُوا قَوْلَهُ، بِأَنْ قَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ عَمْدًا فَقَالُوا: بَلْ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ لَهُمْ وَبَطَلَ حَقُّهُمْ.
وَلَوِ اخْتَلَفَ الْأَوْلِيَاءُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَتَلَهُ عَمْدًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَعْلَمُ هَلْ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، أَوْ قَالُوا كُلُّهُمْ: قَتَلَهُ عَمْدًا وَنَكَلُوا عَنِ الْقَسَامَةِ فَإِنَّ الدَّمَ يَبْطُلُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَكُونُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ كَبِنْتٍ وَعَصَبَةٍ، بِأَنِ ادَّعَى الْعَصَبَةُ الْعَمْدَ وَالْبِنْتُ الْخَطَأَ فَهُوَ هَدَرٌ وَلَا قَسَامَةَ وَلَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: قَدْ يُعَارِضُ الْقَرِينَةَ مَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا لَوْثًا، وَقَدْ يُعَارِضُ اللَّوْثَ مَا يُسْقِطُ أَثَرَهُ وَيُبْطِلُ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِهِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يُتَعَذَّرَ إِثْبَاتُ اللَّوْثِ فَإِذَا ظَهَرَ لَوْثٌ فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُعَيِّنَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ وَيَدَّعِي عَلَيْهِ وَيُقْسِمُ، فَلَوْ قَالَ: الْقَاتِلُ أَحَدُهُمْ وَلَا أَعْرِفُهُ فَلَا قَسَامَةَ، وَلَهُ تَحْلِيفُهُمْ فَإِنْ حَلَفُوا إِلاَّ وَاحِدًا فَنُكُولُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ الْقَاتِلُ وَيَكُونُ لَوْثًا فِي حَقِّهِ، فَإِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ مُكِّنَ مِنْهُ، وَلَوْ نَكَلَ الْجَمِيعُ ثُمَّ عَيَّنَ الْوَلِيُّ أَحَدَهُمْ وَقَالَ: قَدْ بَانَ لِي أَنَّهُ الْقَاتِلُ، وَأَرَادَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ مُكِّنَ مِنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ.
الثَّانِي: قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا ظَهَرَ لَوْثٌ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ دُونَ كَوْنِهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَهَلْ يَتَمَكَّنُ الْوَلِيُّ مِنَ الْقَسَامَةِ عَلَى أَصْلِ الْقَتْلِ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا.
قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأً وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَوْثًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِفَةَ الْقَتْلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مُوجِبَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يُنْكِرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اللَّوْثَ فِي حَقِّهِ كَأَنْ يَقُولَ: لَمْ أَكُنْ مَعَ الْقَوْمِ الْمُتَفَرِّقِينَ عَنِ الْقَتِيلِ، أَوْ لَسْتُ أَنَا الَّذِي رُئِيَ مَعَهُ السِّكِّينُ الْمُتَلَطِّخُ بِالدَّمِ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ لَسْتُ أَنَا الْمَرْئِيِّ مِنْ بَعِيدٍ، فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ عَلَى الْأَمَارَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى نَفْيِهَا وَسَقَطَ اللَّوْثُ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الدَّعْوَى.
وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ غَائِبًا يَوْمَ الْقَتْلِ أَوِ ادَّعَى عَلَى جَمْعٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: كُنْتُ غَائِبًا يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنَ الْقَتْلِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى حُضُورِهِ يَوْمَئِذٍ أَوْ إِقْرَارُهُ بِالْحُضُورِ يَوْمَئِذٍ، وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِغَيْبَتِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَفِي الْوَسِيطِ تَتَسَاقَطَانِ وَفِي التَّهْذِيبِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْغَيْبَةِ، لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، هَذَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ أَقَسَمَ الْمُدَّعِي وَحَكَمَ الْقَاضِي بِمُوجَبِ الْقَسَامَةِ، ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى غَيْبَتِهِ يَوْمَ الْقَتْلِ أَوْ أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعِي نُقِضَ الْحُكْمُ وَاسْتَرَدَّ الْمَالَ كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُ.
الرَّابِعُ: تَكْذِيبُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بَعْضَهُمْ، فَإِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ ابْنَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَ زَيْدٌ أَبَانَا وَقَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ اللَّوْثُ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَقْتُلْهُ زَيْدٌ بَلْ كَانَ غَائِبًا يَوْمَ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ فُلَانٌ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الْقَتْلِ عَنْ زَيْدٍ، أَوْ قَالَ: بَرَأَ أَبِي مِنَ الْجِرَاحَةِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بَطَلَ اللَّوْثُ، فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُكَذِّبُ عَدْلًا أَمْ فَاسِقًا فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ عَدْلٌ أَوْ عَدْلَانِ أَنَّ زَيْدًا قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْقَتِيلَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَلَا يَكُونُ هَذَا لَوْثًا، وَلَوْ شَهِدَ أَوْ شَهِدَا أَنَّ زَيْدًا قَتَلَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ ثَبَتَ اللَّوْثُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا عَيَّنَ الْوَلِيُّ أَحَدَهُمَا وَادَّعَى عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُقْسِمَ، وَقِيلَ: لَا لَوْثَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَذَّبَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بَعْضًا فَقَالَ أَحَدُهُمْ: قَتَلَهُ هَذَا وَقَالَ آخَرُ: لَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا، أَوْ بَلْ قَتَلَهُ هَذَا لَمْ تَثْبُتِ الْقَسَامَةُ، عَدْلًا كَانَ الْمُكَذِّبُ أَوْ فَاسِقًا لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، فَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَمْ يُوَافِقْهُ فِي الدَّعْوَى، مِثْلُ: إِنْ قَالَ أَحَدُهُمْ: قَتَلَهُ هَذَا، وَقَالَ الْآخَرُ: لَا نَعْلَمُ قَاتِلَهُ لَمْ تَثْبُتِ الْقَسَامَةُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ غَائِبًا فَادَّعَى الْحَاضِرُ دُونَ الْغَائِبِ، أَوِ ادَّعَيَا جَمِيعًا عَلَى وَاحِدٍ وَنَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْأَيْمَانِ لَمْ يَثْبُتِ الْقَتْلُ. وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُولِ لَا يُمْكِنُهُ مَجِيئُهُ إِلَيْهِ بَطَلَتِ الدَّعْوَى.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
102-موسوعة الفقه الكويتية (مرسل)
مُرْسَلٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمُرْسَلُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَرْسَلَ، وَمُجَرَّدُهُ رَسْلٌ، وَالرَّسَلُ- بِفَتْحَتَيْنِ- الْقَطِيعُ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْجَمْعُ أَرْسَالٌ.وَأَرْسَلْتُ رَسُولًا: بَعَثْتُهُ بِرِسَالَةٍ يُؤَدِّيهَا، وَأَرْسَلْتُ الطَّائِرَ مِنْ يَدِي: أَطْلَقْتُهُ، وَتَرَاسَلَ الْقَوْمُ: أَرْسَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ رَسُولًا أَوْ رِسَالَةً.
وَالْمُرْسَلُ: يَقْتَضِي إِطْلَاقَ غَيْرِهِ لَهُ، وَالرَّسُولُ: يَقْتَضِي إِطْلَاقَ لِسَانِهِ بِالرِّسَالَةِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْمُرْسَلُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا جَاءَ فِي مُسَلَّمِ الثَّبُوتِ هُوَ قَوْلُ الْعَدْلِ: قَالَ- عليه السلام- كَذَا، وَقَالَ صَاحِبُ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ: هَذَا اصْطِلَاحُ الْأُصُولِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مَا رَوَاهُ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ لِيَشْمَلَ الْمُنْقَطِعَ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَالْمُرْسَلُ قَوْلُ التَّابِعِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ كَذَا.وَالْمُعْضَلُ مَا سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ اثْنَانِ مِنَ الرُّوَاةِ.وَالْمُنْقَطِعُ مَا سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْهَا.وَالْمُعَلَّقُ مَا رَوَاهُ مِنْ دُونِ التَّابِعِيِّ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ.وَالْكُلُّ دَاخِلٌ فِي الْمُرْسَلِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْمُرْسَلِ وَيُرَادُ بِهِ: الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْوَكِيلُ
2- مِنْ مَعَانِي الْوَكِيلِ فِي اللُّغَةِ: الَّذِي يَقُومُ بِالْأَمْرِ، يُقَالُ: وَكِيلُ الرَّجُلِ الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِهِ، سُمِّيَ وَكِيلًا لِأَنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ وَكَّلَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ وَالْوَكِيلُ عَلَى هَذَا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.
وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَيْ حَافِظٌ، وَمِنْهُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَالْوَكِيلُ اصْطِلَاحًا: الْقَائِمُ بِمَا فُوِّضَ إِلَيْهِ فِيمَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُرْسَلِ أَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ يَكُونُ أَعَمَّ مِنَ الْمُرْسَلِ.وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُرْسَلِ فَقَالَ: قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَفِي الْمِعْرَاجِ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْوَكِيلِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُضِيفُ الْعَقْدَ إِلَى الْمُوَكِّلِ، وَالرَّسُولُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُرْسِلِ.
وَفِي الْفَوَائِدِ: صُورَةُ التَّوْكِيلِ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِغَيْرِهِ: كُنْ وَكِيلًا فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ، أَوْ وَكَّلْتُكَ بِقَبْضِهِ، وَصُورَةُ الرَّسُولِ: أَنْ يَقُولَ: كُنْ رَسُولًا عَنِّي فِي قَبْضِهِ أَوْ أَرْسَلْتُكَ لِتَقْبِضَهُ، أَوْ قُلْ لِفُلَانٍ: أَنْ يَدْفَعَ الْمَبِيعَ إِلَيْكَ، وَقِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْوَكِيلِ فِي فَصْلِ الْأَمْرِ بِأَنْ قَالَ: اقْبِضِ الْمَبِيعَ فَلَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الرَّسُولَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إِضَافَةِ الْعَقْدِ إِلَى مُرْسِلِهِ لِأَنَّهُ مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ لَا يُضِيفُ الْعَقْدَ إِلَى الْمُوَكِّلِ إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ.
وَجَاءَ فِي الْمَبْسُوطِ: الرَّسُولُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، فَأَمَّا إِتْمَامُ مَا أُرْسِلَ بِهِ لَيْسَ إِلَيْهِ كَالرَّسُولِ بِالْعَقْدِ لَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ شَيْءٌ.وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْمُرْسَلِ وَالْوَكِيلِ الْمَخْصُوصِ، وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُرْسَلِ وَالْوَكِيلِ الْمُفَوَّضِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُرْسَلِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلًا: الْمُرْسَلُ مُرَادًا بِهِ الرَّسُولُ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمُرْسَلِ بِهَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الْأَحْكَامِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ- انْعِقَادُ التَّصَرُّفَاتِ:
3- لَوْ أَرْسَلَ شَخْصٌ رَسُولًا إِلَى رَجُلٍ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: إِنِّي بِعْتُ دَابَّتِي هَذِهِ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِكَذَا.
فَاذْهَبْ إِلَيْهِ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ، وَقَالَ لِي: قُلْ لَهُ: إِنِّي قَدْ بِعْتُ دَابَّتِي هَذِهِ مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا، فَذَهَبَ الرَّسُولُ وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: قَبِلْتُ، انْعَقَدَ الْبَيْعُ، لِأَنَّ الرَّسُولَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَنْ كَلَامِ الْمُرْسِلِ، نَاقِلٌ كَلَامَهُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ وَقَبِلَ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ فَانْعَقَدَ الْبَيْعُ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النِّهَايَةِ أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي أَيْضًا فِي الْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالْكِتَابَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِرْسَالٌ ف9، بَيْعٌ ف 25).
ب- الضَّمَانُ
4- قَالَ الدَّرْدِيرُ: الرَّسُولُ إِنْ كَانَ رَسُولَ رَبِّ الْمَالِ فَالدَّافِعُ لَهُ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْوُصُولِ، وَيَرْجِعُ الْكَلَامُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَوَرَثَةِ الرَّسُولِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْوُصُولِ رَجَعَ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ فَلَا رُجُوعَ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَوْصَلَهُ لِرَبِّهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ رَسُولَ مَنْ عِنْدَهُ الْمَالُ فَلَا يَبْرَأُ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلاَّ بِوُصُولِهِ لِرَبِّهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْوُصُولِ رَجَعَ مُرْسِلُهُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُولِ فَلَا رُجُوعَ وَهِيَ مُصِيبَةٌ عَلَى الْمُرْسِلِ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: أَمَّا إِذَا لَمْ يَمُتِ الْمُرْسِلُ وَادَّعَى أَنَّهُ أَوْصَلَهَا لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، وَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، لَمْ يُصَدَّقِ الرَّسُولُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا يَقْبِضُهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَعَ الرَّسُولِ دِينَارًا فَضَاعَ الدِّينَارُ مَعَ الرَّسُولِ، فَالدِّينَارُ مِنْ مَالِ الْبَاعِثِ، وَهُوَ الْمَدِينُ فَيَضِيعُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يَأْمُرْهُ الْمُرْسِلُ بِمُصَارَفَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُولُ الْغَرِيمَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِ الدِّينَارِ عَنِ الدَّرَاهِمِ، فَيَكُونُ الدِّينَارُ مِنْ ضَمَانِ الرَّسُولِ لِتَغْرِيرِهِ الْغَرِيمَ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْسَالٌ ف 11، وَدِيعَةٌ).
ثَانِيًا: الْمُرْسَلُ مُرَادًا بِهِ الْمُهْمَلُ وَالْمُسَيَّبُ
5- إِذَا كَانَ الْمُرْسَلُ غَيْرَ إِنْسَانٍ، بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ صَيْدًا أَطْلَقَهُ صَاحِبُهُ وَسَيَّبَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَالِ مِلْكِ صَاحِبِهِ عَنْهُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَائِبَةٌ ف 4- 5).
ثَالِثًا: الْمُرْسَلُ مِنَ الْحَدِيثِ
6- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُولِ الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ وَالْعَمَلِ بِهِ عَلَى أَقْوَالٍ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِرْسَالٌ ف 3).
رَابِعًا: الْمُرْسَلُ مُرَادًا بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ
7- ذَهَبَ الْأُصُولِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ فِي الْقِيَاسِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ عُلِمَ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ لَهُ، وَقِسْمٌ عُلِمَ إِلْغَاؤُهُ لَهُ، وَقِسْمٌ لَا يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ أَوْ إِلْغَاؤُهُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ مَا جُهِلَ حَالُهُ أَيْ: سَكَتَ الشَّارِعُ عَنِ اعْتِبَارِهِ وَإِهْدَارِهِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَيُلَقَّبُ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ مُرْسَلَةً أَيْ: لَمْ تُعْتَبَرْ وَلَمْ تَلْغُ، وَأَطْلَقَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَيْهِ اسْمَ الِاسْتِدْلَالِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْخُوَارِزْمِيُّ بِالِاسْتِصْلَاحِ، وَفِيهِ مَذَاهِبُ.
أ- مَنْعُ التَّمَسُّكِ بِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ:
ب- الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَحْكِيُّ مِنْ مَالِكٍ.
ج- إِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ مُلَائِمَةً لِأَصْلٍ كُلِّيٍّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ أَوْ لِأَصْلٍ جُزْئِيٍّ جَازَ بِنَاءُ الْأَحْكَامِ، وَإِلاَّ فَلَا، وَنُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ.
د- اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ تَخْصِيصُ الِاعْتِبَارِ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً، فَإِنْ فَاتَ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يُعْتَبَرْ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
خَامِسًا: الْمُرْسَلُ مُرَادًا بِهِ الْوَاحِدُ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ تَعَالَى
8- الْمُرْسَلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُطْلَقُ عَلَى الْبَشَرِ الْمُرْسَلِينَ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِلَى الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.
وَيَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى تَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رَسُولٌ ف 1، 2 وَمَا بَعْدَهَا).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
103-موسوعة الفقه الكويتية (مستأمن 1)
مُسْتَأْمِنٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْمُسْتَأْمِنُ فِي اللُّغَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ اسْمُ فَاعِلٍ أَيْ: الطَّالِبُ لِلْأَمَانِ، وَيَصِحُّ بِالْفَتْحِ اسْمَ مَفْعُولٍ وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلصَّيْرُورَةِ، أَيْ صَارَ مُؤَامَنًا يُقَالُ: اسْتَأْمَنَهُ: طَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ: دَخَلَ فِي أَمَانِهِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمُسْتَأْمِنُ: مَنْ يَدْخُلُ إِقْلِيمَ غَيْرِهِ بِأَمَانٍ مُسْلِمًا كَانَ أَمْ حَرْبِيًّا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الذِّمِّيُّ:
2- الذِّمِّيُّ فِي اللُّغَةِ: الْمُعَاهَدُ الَّذِي أُعْطِيَ عَهْدًا يَأْمَنُ بِهِ عَلَى مَالِهِ وَعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَالذِّمِّيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الذِّمَّةِ، بِمَعْنَى الْعَهْدِ.
وَالذِّمِّيُّ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ الْمُعَاهَدُ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ أُومِنَ عَلَى مَالِهِ وَدَمِهِ وَدِينِهِ بِالْجِزْيَةِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْمِنِ وَالذِّمِّيِّ: أَنَّ الْأَمَانَ لِلْمُسْتَأْمِنِ مُؤَقَّتٌ وَلِلذِّمِّيِّ مُؤَبَّدٌ.
ب- الْحَرْبِيُّ:
3- الْحَرْبِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَرْبِ، وَهِيَ الْمُقَاتَلَةُ وَالْمُنَازَلَةُ، وَدَارُ الْحَرْبِ: بِلَادُ الْأَعْدَاءِ، وَأَهْلُهَا: حَرْبِيٌّ وَحَرْبِيُّونَ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا التَّبَايُنُ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَأْمِنِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَأْمِنِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَمَانُ الْمُسْتَأْمِنِ
1- مَشْرُوعِيَّةُ الْأَمَانِ وَالْحِكْمَةُ فِيهَا:
4- الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ أَمَانِ الْمُسْتَأْمِنِ قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ».
وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهَا النَّوَوِيُّ: قَدْ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ الْأَمَانَ لِاسْتِمَالَةِ الْكَافِرِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ إِرَاحَةِ الْجَيْشِ، أَوْ تَرْتِيبِ أَمْرِهِمْ، أَوْ لِلْحَاجَةِ إِلَى دُخُولِ الْكُفَّارِ، أَوْ لِمَكِيدَةٍ وَغَيْرِهَا.
ب- حُكْمُ طَلَبِ الْأَمَانِ أَوْ إِعْطَائِهِ لِلْمُسْتَأْمِنِ
5- إِعْطَاءُ الْأَمَانِ لِلْمُسْتَأْمِنِ أَوْ طَلَبِهِ لِلْأَمَانِ مُبَاحٌ وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا.
وَبِالْأَمَانِ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْمِنِ الْأَمْنُ عَنِ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَغُنْمِ الْمَالِ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُ رِجَالِهِمْ وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاغْتِنَامُ أَمْوَالِهِمْ.
ج- مَنْ يَحِقُّ لَهُ إِعْطَاءُ الْأَمَانِ لِلْمُسْتَأْمَنِ
الْأَمَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَوْ مِنَ الْأَمِيرِ، أَوْ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.
أَوْلاً- أَمَانُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ:
6- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْكُفَّارَ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْهُ تَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لَا لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ.
ثَانِيًا- أَمَانُ الْأَمِيرِ:
7- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ الْأَمِيرِ لِأَهْلِ بَلْدَةٍ جُعِلَ بِإِزَائِهِمْ، أَيْ: وَلِيَ قِتَالَهُمْ؛ لِأَنَّ لَهُ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِمْ فَقَطْ، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَهُوَ كَآحَادِ الرَّعِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
ثَالِثًا- أَمَانُ آحَادِ الرَّعِيَّةِ
8- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الرَّعِيَّةِ بِشُرُوطِهِ، لِوَاحِدٍ وَعَشَرَةٍ، وَقَافِلَةٍ وَحِصْنٍ صَغِيرَيْنِ عُرْفًا كَمِائَةٍ فَأَقَلَّ: لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَجَازَ أَمَانَ الْعَبْدِ لِأَهْلِ الْحِصْنِ، وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ أَحَدِ الرَّعِيَّةِ لِأَهْلِ بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ، وَلَا رُسْتَاقٍ، وَلَا جَمْعٍ كَبِيرٍ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، وَالِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَمَّنَ غَيْرُ الْإِمَامِ إِقْلِيمًا أَيْ عَدَدًا غَيْرَ مَحْصُورٍ، أَوْ أَمَّنَ عَدَدًا مَحْصُورًا بَعْدَ فَتْحِ الْبَلَدِ، نَظَرَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا أَبْقَاهُ وَإِلاَّ رَدَّهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَضَابِطُهُ: أَنَّ لَا يَنْسَدَّ بَابُ الْجِهَادِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَإِذَا تَأَتَّى الْجِهَادُ بِغَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَنْ أُمِّنَ، نَفَذَ الْأَمَانُ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ شِعَارُ الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَكَاسِبِ الْمُسْلِمِينَ.وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ أَمَانُ وَاحِدٍ لِأَهْلِ قَرْيَةٍ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُ مَنْ فِيهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْأَمَانُ مِنَ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ أَمَّنَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً، أَوْ أَهْلَ مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَعِبَارَةُ فَتْحِ الْقَدِيرِ: أَوْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ.
د- مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِعْطَاءِ الْأَمَانِ
9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْأَمَانُ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِشُرُوطِهِ، وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا الْوَفَاءُ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، وَلَا أَسْرُهُمْ، وَلَا أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِمْ، وَلَا التَّعَرُّضُ لَهُمْ، لِعِصْمَتِهِمْ، وَلَا أَذِيَّتُهُمْ بِغَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ.
وَأَمَّا سِرَايَةُ حُكْمِ الْأَمَانِ إِلَى غَيْرِ الْمُؤَمَّنِ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ: فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُمِّنَ مَنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ سَرَى الْأَمَانُ إِلَى مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلٍ، وَمَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ مُؤَمِّنُهُ: أَمَّنْتُكَ وَحْدَكَ وَنَحْوَهُ، مِمَّا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْأَمَانِ، فَيَخْتَصُّ بِهِ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِهِ وَمَالِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَسْرِي إِلَيْهِ الْأَمَانُ جَزْمًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْرِي الْأَمَانُ إِلَى مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلٍ وَمَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ إِلاَّ بِالشَّرْطِ، لِقُصُورِ اللَّفْظِ عَنِ الْعُمُومِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِمَا مَعَهُ مِنْ مَالِهِ غَيْرُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مُدَّةَ أَمَانِهِ، أَمَّا الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيَدْخُلُ وَلَوْ بِلَا شَرْطٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي حِرْفَتِهِ مِنَ الْآلَاتِ، وَمَرْكُوبِهِ إِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْهُ، هَذَا إِذَا أَمَّنَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ، فَإِنْ أَمَّنَهُ الْإِمَامُ دَخَلَ مَا مَعَهُ بِلَا شَرْطٍ، وَلَا يَدْخُلُ مَا خَلَّفَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ إِلاَّ بِشَرْطٍ مِنَ الْإِمَامِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْأَمَانُ لِلْحَرْبِيِّ بِدَارِهِمْ: فَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِدَارِهِمْ دَخَلَا وَلَوْ بِلَا شَرْطٍ إِنْ أَمَّنَهُ الْإِمَامُ، وَإِنْ أَمَّنَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَدْخُلْ أَهْلُهُ وَلَا مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِشَرْطٍ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَالِ غَيْرِهِ.
هـ- مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْأَمَانُ
10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْأَمَانَ يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفِيدُ الْغَرَضَ، وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْأَمَانِ نَحْوُ قَوْلِ الْمُقَاتِلِ مَثَلاً: آمَنْتُكُمْ، أَوْ أَنْتُمْ آمِنُونَ، أَوْ أَعْطَيْتُكُمُ الْأَمَانَ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى.
وَزَادَ الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ لَا يَعْرِفُونَهُ، بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمُسْلِمِينَ كَوْنَ ذَلِكَ اللَّفْظِ أَمَانًا بِشَرْطِ سَمَاعِ الْكُفَّارِ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا أَمَانَ لَوْ كَانَ بِالْبُعْدِ مِنْهُمْ.كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْأَمَانُ بِأَيِّ لُغَةٍ كَانَ، بِالصَّرِيحِ مِنَ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: أَجَرْتُكَ، أَوْ آمَنْتُكَ، أَوْ أَنْتَ آمِنٌ وَبِالْكِنَايَةِ: كَقَوْلِهِ: أَنْتَ عَلَى مَا تُحِبُّ، أَوْ كُنْ كَيْفَ شِئْتَ وَنَحْوَهُ.
وَزَادَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالرَّمْلِيِّ وَالشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيبِ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ فِي الْكِنَايَةِ.
وَيَجُوزُ الْأَمَانُ بِالْكِتَابَةِ لِأَثَرٍ فِيهِ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه-، وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ.
كَمَا يَجُوزُ بِالرِّسَالَةِ: لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنَ الْكِتَابَةِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: سَوَاءٌ كَانَ الرَّسُولُ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي حَقْنِ الدَّمِ، وَكَذَلِكَ بِإِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ وَلَوْ مِنْ نَاطِقٍ: لِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى السَّمَاءِ إِلَى مُشْرِكٍ، فَنَزَلَ بِأَمَانِهِ فَقَتَلَهُ، لَقَتَلْتُهُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِمْ عَدُمُ فَهْمِ كَلَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا الْعَكْسُ.
فَلَوْ أَشَارَ مُسْلِمٌ لِكَافِرٍ فَظَنَّ أَنَّهُ أَمَّنَهُ، فَأَنْكَرَ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ أَمَّنَهُ بِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ Cبِمُرَادِهِ، وَلَكِنْ لَا يُغْتَالُ بَلْ يَلْحَقُ بِمَأْمَنِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُشِيرُ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ الْحَالَ فَلَا أَمَانَ، وَلَا اغْتِيَالَ فَيَبْلُغُ الْمَأْمَنَ.
وَيَصِحُّ إِيجَابُ الْأَمَانِ مُنَجَّزًا كَقَوْلِهِ: أَنْتَ آمِنٌ، وَمُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، كَقَوْلِهِ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ آمِنٌ لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ».
وَأَمَّا الْقَبُولُ فَلَا يُشْتَرَطُ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: إِنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَعْتَبِرِ الْقَبُولَ وَقَالَ: وَهُوَ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ لِأَنَّ بِنَاءَ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، فَيَكْفِي السُّكُوتُ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ مَعَ السُّكُوتِ مَا يُشْعِرُ بِالْقَبُولِ، وَهُوَ الْكَفُّ عَنِ الْقِتَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَتَكْفِي إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ لِلْقَبُولِ وَلَوْ مِنْ نَاطِقٍ.
قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي اعْتِبَارِ الْقَبُولِ: إِذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ اسْتِيجَابٌ، فَإِنْ سَبَقَ مِنْهُ لَمْ يُحْتَجْ لِلْقَبُولِ جَزْمًا.
و- شَرْطُ إِعْطَاءِ الْأَمَانِ لِلْمُسْتَأْمِنِ
11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الْأَمَانِ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ، وَلَوْ لَمْ تَظْهَرِ الْمَصْلَحَةُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْأَمَانِ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (أَمَانٌ ف 6).
ز- شُرُوطُ الْمُؤَمِّنِ
لِلْمُؤَمِّنِ شُرُوطٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ:
12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْأَمَانُ مِنْ مُسْلِمٍ فَلَا يَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ، وَزَادَ الْكَاسَانِيُّ: وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تُؤْمَنُ خِيَانَتُهُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا فَلَا يَدْرِي أَنَّهُ بَنَى أَمَانَهُ عَلَى مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّفَرُّقِ عَنْ حَالِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ أَمْ لَا، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الصِّحَّةِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمَانُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا Cأَدْنَاهُمْ»،، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ الذِّمَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا تَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ كُفْرَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى سُوءِ الظَّنِّ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ، وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلاَّ إِذَا أَمَرَهُ بِهِ مُسْلِمٌ- سَوَاءٌ كَانَ الْآمِرُ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ أَوْ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ- بِأَنْ قَالَ الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ: آمِنْهُمْ، فَقَالَ الذِّمِّيُّ: قَدْ آمَنْتُكُمْ، لِأَنَّ أَمَانَ الذِّمِّيِّ إِنَّمَا لَا يَصِحُّ لِتُهْمَةِ مَيْلِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَزُولُ التُّهْمَةُ إِذَا أَمَرَهُ بِهِ مُسْلِمٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ الذِّمِّيُّ: إِنَّ فُلَانًا الْمُسْلِمَ قَدْ آمَنَكُمْ، لِأَنَّهُ صَارَ مَالِكًا لِلْأَمَانِ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَيَكُونُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مُسْلِمٍ آخَرَ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْلُ:
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمَانُ الْمَجْنُونِ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَلِأَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْبُلُوغُ:
14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَمَانُ الطِّفْلِ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ إِذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ قِيَاسًا عَلَى الْمَجْنُونِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَنِ الْقِتَالِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْأَمَانِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، وَبِالْكُفْرِ قُوَّةٌ، وَهَذِهِ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ مِنَ الصَّبِيِّ، وَلِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعُقُودَ، وَالْأَمَانُ عَقْدٌ، وَمَنْ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَعْقِدَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَفِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَطَلَاقِهِ وَعِتَاقِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ وَمُحَمَّدٌ: يَصِحُّ، لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْأَمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْإِيمَانِ، وَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ كَالْبَالِغِ.
وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا فِي الْقِتَالِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ خِلَافٌ، قِيلَ: يَجُوزُ وَيَمْضِي وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً، وَيُخَيَّرُ فِيهِ الْإِمَامُ إِنْ وَقَعَ: إِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَصِحُّ أَمَانُ الصَّبِيِّ وَفِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَجْهٌ كَتَدْبِيرِهِ.
وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِنَوْمٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ إِغْمَاءٍ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْمَصْلَحَةَ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الِاخْتِيَارُ
15- نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْأَمَانُ مِنْ مُكْرَهٍ لِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْإِقْرَارِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: عَدَمُ الْخَوْفِ مِنَ الْكَفَرَةِ:
16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ الْأَسِيرِ إِذَا عَقَدَهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ، لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْأَسِيرِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَكَذَلِكَ يَصِحُّ أَمَانُ الْأَجِيرِ، وَالتَّاجِرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عَدَمَ جِوَازِ أَمَانِ الْأَسِيرِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْأَسِيرِ الْمُقَيَّدِ وَالْمَحْبُوسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا؛ لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ بِأَيْدِيهِمْ لَا يَعْرِفُ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ، وَلِأَنَّ وَضْعَ الْأَمَانِ أَنْ يَأْمَنَ الْمُؤَمَّنُ، وَلَيْسَ الْأَسِيرُ آمِنًا، وَأَمَّا أَسِيرُ الدَّارِ، وَهُوَ الْمُطْلَقُ بِدَارِ الْكُفْرِ الْمَمْنُوعُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا فَيَصِحُّ أَمَانُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمَانُ مَنْ كَانَ مَقْهُورًا عِنْدَ الْكُفَّارِ كَالْأَسِيرِ وَالتَّاجِرِ فِيهِمْ، وَمَنْ أَسْلَمَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَقْهُورُونَ عِنْدَهُمْ، فَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ، وَلَا يَخَافُهُمُ الْكُفَّارُ، وَالْأَمَانُ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْخَوْفِ، وَلِأَنَّهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ، فَيُعْرَى الْأَمَانُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ انْفَتَحَ هَذَا الْبَابُ لَانْسَدَّ بَابُ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، لَا يُخَلُّونَ عَنْ أَسِيرٍ أَوْ تَاجِرٍ فَيَتَخَلَّصُونَ بِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: نُقِلَ فِي الْبَحْرِ عَنِ الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَمَانُ الْأَسِيرِ فِي حَقِّ بَاقِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى كَانَ لَهُمْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، أَمَّا Cفِي حَقِّهِ هُوَ فَصَحِيحٌ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّاجِرَ الْمُسْتَأْمِنَ كَذَلِكَ.
ح- أَمَانُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَرِيضِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَمَانِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَرِيضِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:
أَوْلاً- الْعَبْدُ:
17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ» وَفَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ بِالْعَبْدِ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: «الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ «يَجُوزُ أَمَانُهُ»، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ.
وَزَادَ النَّوَوِيُّ: يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ كَافِرًا.
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ ابْتِدَاءً وَإِذَا أُمِّنَ فَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَرَدِّهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ: لَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنِ الْقِتَالِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ فَلَمْ يُلَاقِ الْأَمَانُ مَحَلَّهُ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنْهُ مُتَحَقِّقٌ، وَلِأَنَّهُ مَجْلُوبٌ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنَّ يَنْظُرَ لَهُمْ تَقْدِيمَ مَصْلَحَتِهِمْ.
ثَانِيًا- الْمَرْأَةُ:
18- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الذُّكُورَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْمَرْأَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ، إِنَّمَا يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ» وَلِمَا رُوِيَ: «أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنها- وَزَوْجَةَ أَبِي الْعَاصِ أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ وَأَجَازَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَمَانَهَا» وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَعْجِزُ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى حَالِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.
وَفِي قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمَانُ الْمَرْأَةِ ابْتِدَاءً، فَإِنْ أَمَّنَتْ نَظَرَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ.
وَنَصَّ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ فِي جِوَازِ عَقَدِ الْمَرْأَةِ اسْتِقْلَالاً وَجْهَانِ.
وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: أَرْجَحُهُمَا الْجَوَازُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ.
ثَالِثًا الْمَرِيضُ:
19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ السَّلَامَةُ عَنِ الْعَمَى وَالزَّمَانَةِ وَالْمَرَضِ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَعْمَى وَالزَّمِنُ وَالْمَرِيضُ مَا دَامَ سَلِيمَ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ الْأَمَانِ صُدُورُهُ عَنْ رَأْيٍ وَنَظَرٍ فِي الْأَحْوَالِ الْخَفِيَّةِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ لَا تَقْدَحُ فِيهِ.
ط- الْأَمَانُ عَلَى الشَّرْطِ
20- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ.حِصْنًا فَنَادَاهُمْ رَجُلٌ وَقَالَ: أَمِّنُونِي أُفْتَحْ لَكُمُ الْحِصْنَ، جَازَ أَنَّ يُعْطُوهُ أَمَانًا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ زِيَادَ بْنَ لَبِيَدٍ لَمَّا حَاصَرَ النُّجِيْرَ، قَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: أَعْطُونِي الْأَمَانَ لِعَشَرَةٍ أَفْتَحْ لَكُمْ الْحِصْنَ فَفَعَلُوا، فَإِنْ أَشْكَلَ الَّذِي أُعْطِيَ الْأَمَانُ- وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ- فَإِنْ عَرَفَ صَاحِبُ الْأَمَانِ عَمِلَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبُ الْأَمَانِ الْمُؤَمِّنَ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحْتَمَلُ صِدْقُهُ وَقَدِ اشْتَبَهَ الْمُبَاحُ بِالْمُحَرَّمِ فِيمَا لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ فَحُرِّمَ الْكُلُّ، كَمَا لَوِ اشْتَبَهَتْ مَيِّتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ وَنَحْوِهَا.
وَإِذَا لَمْ يُوَفِّ الشَّرْطَ فَلَهُمْ ضَرْبُ عُنُقِهِ كَمَا إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: كُفَّ عَنِّي حَتَّى أَدُلُّكَ عَلَى كَذَا، فَبُعِثَ مَعَهُ قَوْمٌ لِيَدُلَّهُمْ فَامْتَنَعَ مِنَ الدَّلَالَةِ أَوْ خَانَهُمْ، فَالْإِمَامُ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ إِعْطَاءَ الْأَمَانِ لَهُ كَانَ بِشَرْطٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحَ الدَّمِ، وَعُلِّقَ حُرْمَةُ دَمِهِ بِالدَّلَالَةِ وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ، فَإِنِ انْعَدَمَ الشَّرْطُ، بَقِيَ حِلُّ دَمِهِ عَلَى مَا كَانَ.
ي- مُدَّةُ الْأَمَانِ
21- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِلْمُسْتَأْمِنِ لَا تَبْلُغُ سَنَةً، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ التَّوْقِيتُ مَا دُونَ السَّنَةِ كَشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ الْمُسْتَأْمِنَ ضَرَرٌ وَعُسْرٌ بِتَقْصِيرِ الْمُدَّةِ جِدًّا، خُصُوصًا إِذَا كَانَ لَهُ مُعَامَلَاتٌ يَحْتَاجُ فِي Cاقْتِضَائِهَا إِلَى مُدَّةٍ أَطْوَلَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا تَزِيدَ مُدَّةُ الْأَمَانِ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ أَنْ لَا تَزِيدَ مُدَّةُ الْأَمَانِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا بَطَلَ فِي الزَّائِدِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْلُ الذِّمَّةِ ف 12).
ك- مَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْأَمَانُ
يُنْتَقَضُ الْأَمَانُ بِأُمُورٍ هِيَ:
أَوَّلاً- نَقْضُ الْإِمَامِ:
22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي نَبْذِ الْأَمَانِ وَكَانَ بَقَاؤُهُ شَرًّا لَهُ أَنَّ يَنْقُضَهُ، لِأَنَّ جِوَازَ الْأَمَانِ- مَعَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ- لِلْمُصْلِحَةِ، فَإِذَا صَارَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي النَّقْضِ نَقَضَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِالنَّقْضِ وَإِعَادَتِهِمْ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْأَمَانِ، ثُمَّ يُقَاتِلُهُمْ لِئَلاَّ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَدْرٌ فِي الْعَهْدِ.
ثَانِيًا- رَدُّ الْمُسْتَأْمِنِ لِلْأَمَانِ:
23- إِذَا جَاءَ أَهْلُ الْحِصْنِ بِالْأَمَانِ إِلَى الْإِمَامِ فَنَقَضَهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا فَإِلَى الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَبَوْا رَدَّهُمْ إِلَى مَأْمَنِهِمْ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْمُسْتَأْمِنَ إِذَا نَبَذَ الْعَهْدَ، وَجَبَ تَبْلِيغُهُ الْمَأْمَنَ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لِمَا مَعَهُ بِلَا خِلَافٍ.
ثَالِثًا- مُضِيُّ مُدَّةِ الْأَمَانِ:
24- يَنْقَضِي الْأَمَانُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ إِذَا كَانَ الْأَمَانُ مُؤَقَّتًا إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إِلَى النَّقْضِ.
رَابِعًا- عَوْدَةُ الْمُسْتَأْمِنِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ:
25- نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ أَمَانَ الْمُسْتَأْمِنِ يُنْتَقَضُ فِي نَفْسِهِ دُونَ مَالِهِ بِالْعَوْدَةِ إِلَى الْكُفَّارِ، وَلَوْ إِلَى غَيْرِ دَارِهِ مُسْتَوْطِنًا أَوْ مُحَارِبًا، وَأَمَّا إِنْ عَادَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ لِتِجَارَةٍ، أَوْ مُتَنَزِّهًا أَوْ لِحَاجَةٍ يَقْضِيهَا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى أَمَانِهِ.
خَامِسًا- ارْتِكَابُ الْخِيَانَةِ:
26- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَنْ جَاءَنَا بِأَمَانٍ، فَخَانَنَا، كَانَ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ لِمُنَافَاةِ الْخِيَانَةِ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ.
ل- مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى رُجُوعِ الْمُسْتَأْمِنِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ
27- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ- وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ- إِلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ مُسْتَوْطِنًا، بَقِيَ الْأَمَانُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ بَطَلَ فِي نَفْسِهِ.
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لِأَنَّهُ بِدُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ ثَبَتَ الْأَمَانُ لِمَالِهِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ، فَإِذَا بَطَلَ فِي نَفْسِهِ بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ بَقِيَ فِي مَالِهِ، لِاخْتِصَاصِ الْمُبْطِلِ بِنَفْسِهِ، فَيَخْتَصُّ الْبُطْلَانُ بِهِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْحَدَّادِ: لِلْمُسْتَأْمِنِ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ أَمَانٍ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَالِ، وَالدُّخُولُ لِلْمَالِ يُؤَمِّنُهُ كَالدُّخُولِ لِرِسَالَةٍ، وَسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعَجِّلَ فِي تَحْصِيلِ غَرَضِهِ، وَكَذَا لَا يُكَرِّرُ الْعَوْدَ لِأَخْذِ قِطْعَةٍ مِنَ الْمَالِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فَإِنْ خَالَفَ تَعَرَّضَ لِلْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْحَدَّادِ: لَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَمَانِ فِي الْمَالِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَهُ فِي النَّفْسِ.
28- وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ بُطْلَانِ الْأَمَانِ فِي مَالِهِ أَنَّهُ إِنْ طَلَبَهُ صَاحِبُهُ بُعِثَ إِلَيْهِ.
وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعِ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا صَحَّ تَصَرُّفُهُ.
وَإِنْ مَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ مَعَ بَقَاءِ الْأَمَانِ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ مِنَ الرَّهْنِ وَالشُّفْعَةِ، وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا يَأْتِي.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: يَبْطُلُ الْأَمَانُ فِي الْحَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَيَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ لِوَارِثِهِ، وَلَمْ يَعْقِدْ فِيهِ أَمَانًا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ فِيهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَلِأَنَّ الْأَمَانَ يَثْبُتُ فِي الْمَالِ تَبَعًا.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، صَارَ فَيْئًا كَمَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي بَقَاءِ الْأَمَانِ فِي مَالِهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْأَمَانِ فِي مَالِهِ حَصَلَ الْأَمَانُ فِيهِ تَبَعًا، فَيَبْطُلُ فِيهِ تَبَعًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الْأَمَانِ لَمْ يَبْطُلْ.
29- وَأَمَّا الْأَوْلَادُ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْبَى أَوْلَادُهُ، فَإِذَا بَلَغُوا وَقَبِلُوا الْجِزْيَةَ تُرِكُوا، وَإِلاَّ بَلَغُوا الْمَأْمَنَ.
30- أَمَّا إِنْ أُسِرَ، بِأَنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فَأَسَرَهُ، أَوْ غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، فَأَخَذُوهُ أَوْ قَتَلُوهُ، وَكَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ وَدِيعَةٌ عِنْدَهُمَا، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ دَيْنُهُ؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى الدَّيْنِ بِالْمُطَالَبَةِ، وَقَدْ سَقَطَتْ، وَيَدُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَسْبَقُ إِلَيْهِ مِنْ يَدِ الْعَامَّةِ، فَيَخْتَصُّ بِهِ فَيَسْقُطُ، وَلَا طَرِيقَ لِجَعْلِهِ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يُؤْخَذُ قَهْرًا، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ أَسْلَمَ إِلَى مُسْلِمٍ دَرَاهِمَ عَلَى شَيْءٍ، وَمَا غُصِبَ مِنْهُ، وَأُجْرَةِ عَيْنٍ أَجَّرَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ لِسِبْقِ الْيَدِ.
31- وَأَمَّا وَدِيعَتُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَمَا عِنْدَ شَرِيكِهِ وَمُضَارِبِهِ وَمَا فِي بَيْتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَصِيرُ فَيْئًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ فِي يَدِهِ تَقْدِيرًا، لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِهِ فَيَصِيرُ فَيْئًا تَبَعًا لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَا عِنْدَ شَرِيكِهِ وَمُضَارِبِهِ وَمَا فِي بَيْتِهِ.
32- وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّهْنِ: فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُبَاعُ وَيُسْتَوْفَى دَيْنُهُ، وَالزِّيَادَةُ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَرْجِيحُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ فِي حُكْمِ الْوَدِيعَةِ. 33- وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ بِلَا غَلَبَةٍ عَلَيْهِ، فَمَالُهُ مِنَ الْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَصِرْ مَغْنُومَةً فَكَذَا مَالُهُ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَهَرَبَ فَمَالُهُ لَهُ، وَكَذَا دَيْنُهُ حَالَ حَيَاتِهِ قَبْلَ الْأَسْرِ.
م- مَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْمِنِ حَمْلُهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ
34- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ الْمُسْتَأْمِنُ إِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ سِلَاحًا اشْتَرَاهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ إِعْطَاءُ الْأَمَانِ لَهُ لِيَكْتَسِبَ بِهِ مَا يَكُونُ قُوَّةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالَّذِي دَخَلَ بِهِ.فَإِنْ بَاعَ سَيْفَهُ وَاشْتَرَى بِهِ قَوْسًا أَوْ نُشَّابًا أَوْ رُمْحًا مَثَلاً لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى سَيْفًا أَحَسَنَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ الْأَوَّلِ أَوْ دُونَهُ مُكِّنَ مِنْهُ.
الدُّخُولُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ
يَخْتَلِفُ حُكْمُ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ- ادِّعَاءُ كَوْنِهِ رَسُولاً:
35- مَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَقَالَ: أَنَا رَسُولُ Cالْمَلِكِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، لَمْ يَصَدَّقْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلاَّ إِذَا أَخْرَجَ كِتَابًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كِتَابَ مَلِكِهِمْ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ وَيَرْجِعَ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ آمِنٌ كَمَا جَرَى بِهِ الرَّسْمُ جَاهِلِيَّةً وَإِسْلَامًا، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ أَوِ الصُّلْحَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِالرُّسُلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَمَانِ الرَّسُولِ لِيُتَوَصَّلَ إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ كِتَابًا أَوْ أَخْرَجَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ، فَهُوَ وَمَا مَعَهُ فَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُفْتَعَلُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُصَدَّقُ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ أَمْ لَا، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ لِاحْتِمَالِ مَا يَدَّعِيهِ.
وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ تَفْصِيلاً فِي الرَّسُولِ فَقَالَ: وَمَا اشْتُهِرَ أَنَّ الرَّسُولَ آمِنٌ هُوَ فِي رِسَالَةٍ فِيهَا مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ هُدْنَةٍ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ رَسُولاً فِي وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ، فَلَا أَمَانَ لَهُ، وَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ كَأَسِيرٍ، أَيِ الْقَتْلِ، أَوِ الِاسْتِرْقَاقِ، أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُفَادَاةِ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْأَوَّلُ.
ب- ادِّعَاءُ كَوْنِهِ تَاجِرًا:
36- لَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا وَقَالَ: إِنَّهُ تَاجِرٌ وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّكُمْ لَا تَعْرِضُونَ لِتَاجِرٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ تَاجِرٌ، فَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَيَرُدُّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا أَخَذَ بِأَرْضِهِمْ، أَوْ بَيْنَ أَرْضِ الْعَدُوِّ وَأَرْضِنَا، وَادَّعَى التِّجَارَةَ، أَوْ قَالَ: جِئْتُ أَطْلُبُ الْأَمَانَ، حَيْثُ يُرَدُّ لِمَأْمَنِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: قَصْدُ التِّجَارَةِ لَا يُفِيدُ الْأَمَانَ، وَلَكِنْ لَوْ رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي دُخُولِ التُّجَّارِ، فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ تَاجِرًا فَهُوَ آمِنٌ، جَازَ، وَمِثْلُ هَذَا الْأَمَانُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْآحَادِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّ قَصْدَ التِّجَارَةِ يُفِيدُ الْأَمَانَ فَلَا أَثَرَ لِظَنِّهِ، وَلَوْ سَمِعَ مُسْلِمًا يَقُولُ: مَنْ دَخَلَ تَاجِرًا فَهُوَ آمِنٌ، فَدَخَلَ وَقَالَ: ظَنَنْتُ صِحَّتَهُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا يُغْتَالُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ دَخَلَ وَادَّعَى أَنَّهُ تَاجِرٌ وَكَانَ مَعَهُ مَتَاعٌ يَبِيعُهُ، قُبِلَ مِنْهُ، إِنْ صَدَّقْتَهُ عَادَةً، كَدُخُولِ تِجَارَتِهِمْ إِلَيْنَا وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مُمْكِنٌ، فَيَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقَتْلِ، وَلِأَنَّهُ يُتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، وَلِجَرَيَانِ الْعَادَةِ مَجْرَى الشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، وَانْتَفَتِ الْعَادَةُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَا تَحْصُلُ بِغَيْرِ مَالٍ، وَيَجِبُ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْعِصْمَةِ.
ج- ادِّعَاءُ كَوْنِهِ مُؤَمَّنًا:
37- مَنْ دَخَلَ دَارَنَا وَقَالَ: أَمَّنَنِي مُسْلِمٌ، فَقَدْ Cنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ حِينَ تَمَكَّنُوا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَمَانٍ ظَاهِرٍ لَهُ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي إِبْطَالِ حَقِّهِمْ، وَلَكِنْ إِنْ قَالَ مُسْلِمٌ: أَنَا أَمَّنْتُهُ قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ كَالْحَاكِمِ إِذَا قَالَ: حَكَمْتُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى أَنَّهُ يُصَدَّقُ بِلَا بَيِّنَةٍ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ دَمِهِ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَادِقًا فِيمَا يَدَّعِيهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُطَالَبُ بِبَيِّنَةٍ لِإِمْكَانِهَا غَالِبًا.
نِكَاحُ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْتَأْمِنَةِ
38- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْحَرْبِيَّةَ الْمُسْتَأْمِنَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَقَدْ تَوَطَّنَتْ وَصَارَتْ ذِمِّيَّةً.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (أَهْلِ الذِّمَّةِ ف 13).
مَا يَتَرَتَّبُ لَلْمُسْتَأْمِنَةِ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ حُقُوقٍ
39- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ الْمُسْتَأْمِنَةَ الْكِتَابِيَّةَ كَمُسْلِمَةٍ فِي نَفَقَةٍ وَقَسْمٍ وَطَلَاقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الزَّوْجِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (نِكَاحٌ، وَمَهْرٌ، وَقَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَكُفْرٌ، وَنَفَقَةٌ، وَظِهَارٌ، وَلِعَانٌ، وَعِدَّةٌ، وَحَضَانَةٌ، وَإِحْصَانٌ).
التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُسْتَأْمِنِ وَزَوْجَتِهِ لِاخْتِلَافِ الدَّارِ
40- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا خَرَجَ إِلَيْنَا مُسْتَأْمِنًا، أَوِ الْمُسْلِمَ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ عِبَارَةٌ عَنْ تَبَايُنِ الْوِلَايَاتِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمِنَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ لَا لِلتَّوَطُّنِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي: (اخْتِلَافِ الدَّارِ ف 5).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
104-موسوعة الفقه الكويتية (هدنة 1)
هُدْنَة -1التَّعْرِيف:
1- الْهُدْنَةُ فِي اللُّغَةِ: السُّكُونُ: مَأْخُوذٌ مِنْ هَدَنَ الْأَمْرُ، أَوِ الشَّخْصُ يَهْدِنُ هُدُونًا.سَكَنَ بَعْدَ الْهَيْجِ، وَيُقَالُ: هَادَنَهُ مُهَادَنَةً: صَالَحَهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعَارِيفَ مُتَقَارِبَةٍ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ الصُّلْحُ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِ مَالٍ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي ذَلِكَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هِيَ عَقْدُ الْمُسْلِمِ مَعَ الْحَرْبِيِّ عَلَى الْمُسَالَمَةِ مُدَّةً لَيْسَ هُوَ فِيهَا تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً بَعِوَضٍ أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ، سَوَاءٌ مَنْ يُقَرُّ بِدِينِهِ وَمَنْ لَا يُقَرُّ بِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هِيَ: عَقْدُ إِمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِقَدْرِ الْحَاجَّةِ.
وَتُسَمَّى الْهُدْنَةُ مُوَادَعَةً، وَمُعَاهَدَةً، وَمُسَالَمَةً وَمُصَالَحَةً.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْأَمَانُ:
2- الْأَمَانُ فِي اللُّغَةِ: عَدَمُ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الزَّمَنِ الْآتِي.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: رَفْعُ اسْتِبَاحَةِ دَمِ الْحَرْبِيِّ وَرِقِّهِ وَمَالِهِ حِينَ قِتَالِهِ، أَوِ الْعَزْمُ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ مُدَّةً مَا.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهُدْنَةِ وَالْأَمَانِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَأْمِينَ الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ.
ب- عَقْدُ الذِّمَّةِ:
3- عَقْدُ الذِّمَّةِ هُوَ الْتِزَامُنَا لِلْكُفَّارِ صِيَانَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ نَشْتَرِطُهَا عَلَيْهِمْ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهُدْنَةِ وَعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفِيدُ الْأَمَانَ إِلاَّ أَنَّ الْهُدْنَةَ أَمَانٌ مُؤَقَّتٌ، وَعَقْدَ الذِّمَّةِ أَمَانٌ مُؤَبَّدٌ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْهُدْنَةِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْهُدْنَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ.
فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}.
وَمِنَ السُّنَّةِ: مُهَادَنَتُهُ- صلى الله عليه وسلم- قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ.
أَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدَ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُوَادَعَةِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجُمْلَةِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَقَدْ تَجِبُ لِضَرُورَةٍ كَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهَا إِلْحَاقُ ضَرَرٍ بِالْمُسْلِمِينَ لَا يُتَدَارَكُ.
شُرُوطُ عَقْدِ الْهُدْنَةِ:
يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ شُرُوطٌ وَهِيَ:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ:
5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ لَهُ وِلَايَةُ عَقْدِ الْهُدْنَةِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ لِلْهُدْنَةِ هُوَ الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ.فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَعْقِدَهَا غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- هَادَنَ بَنِي قُرَيْظَةَ بِنَفْسِهِ وَهَادَنَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةِ بِنَفْسِهِ وَأَمَّنَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ عَامَ الْفَتْحِ بِنَفْسِهِ.
وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لِإِشْرَافِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ أَعْرَفُ بِمَصَالِحِهَا مِنْ أَشْتَاتِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ تَجْوِيزَهُ لِغَيْرِهِ يَتَضَمَّنُ تَعْطِيلَ الْجِهَادِ، وَفِيهِ افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ.
وَلِأَنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِصِفَةِ الْإِمَامَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- كَالتَّبْلِيغِ، وَالْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ، وَكُلُّ مَا تَصَرَّفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِصِفَةِ الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْإِمَامِ اقْتِدَاءً بِهِ- صلى الله عليه وسلم-؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِوَصْفِ الْإِمَامَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْرُ الْإِمَامِ بِالْوِلَايَةِ أَنْفَذَ، وَهُوَ عَلَى التَّدْبِيرِ وَالْحِرَاسَةِ أَقْدَرُ، فَإِنِ اسْتَنَابَ فِي عَقْدِهَا مِنْ أَمْرِهِ صَحَّ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ رَأْيِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَامُّ النَّظَرِ، فَلَمْ يَفْرُغْ لِمُبَاشَرَةِ كُلِّ عَمَلٍ، فَإِنِ اسْتَنَابَ فِيهَا مَنْ فَوَّضَ عَقْدَهَا إِلَى رَأْيِهِ جَازَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، وَكَانَ عَقْدُهَا مَنْسُوبًا إِلَى الْمُسْتَنَابِ الْمُبَاشِرِ، وَمِنْ قَبْلِهِ مَنْسُوبًا إِلَى الْمُسْتَنِيبِ الْآمِرِ، وَهُمَا فِي اللُّزُومِ سَوَاءٌ، وَلِخَبَرِ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ» وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَعْقِدُ الْعَهْدَ وَالْهُدْنَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَإِنْ رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا وَهَادَنَهُمْ فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجِيزُوا أَمَانَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَمَّا وُلَاةُ الثُّغُورِ فَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ يَتَضَمَّنُ الْجِهَادَ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْقِدَ هُدْنَةً إِلاَّ قَدْرَ الِاسْتِرَاحَةِ فِي السَّنَةِ: وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سَنَةً؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَفِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَسَنَةٍ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ عَنِ الْجِهَادِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ هُدْنَةٍ فَكَانَ مَعَ الْهُدْنَةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ.
وَإِنْ تَضَمَّنْ تَقْلِيدُ وَالِي الثُّغُورِ الْعَمَلَ بِرَأْيِهِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُوَادَعَةِ جَازَ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا لِدُخُولِهَا فِي وِلَايَتِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْإِمَامَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنِ انْعَقَدَتْ.
هَذَا فِي مُهَادَنَةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا أَوْ أَهْلِ إِقْلِيمٍ كَبِيرٍ، وَيَجُوزُ لِوَالِي الْإِقْلِيمِ الْمُهَادَنَةُ مَعَ أَهْلِ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ فِي إِقْلِيمِهِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَكَأَنَّهُ مَأْذُونٌ.
فِيهِ بِتَفْوِيضِ مَصْلَحَةِ الْإِقْلِيمِ إِلَيْهِ.
الرَّأْيُ الثَّانِي- لِلْحَنَفِيَّةِ-: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إِذْنُ الْإِمَامِ لِلْمُوَادَعَةِ، فَيَجُوزُ عَقْدُ الْمُوَادَعَةِ لِفَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَنَائِبِهِ وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمَصْلَحَةِ فِي عَقْدِهَا؛ فَحَيْثُ وُجِدَتْ جَازَتْ، وَلِأَنَّ مُوَادَعَةَ الْمُسْلِمِينَ أَهْلَ الْحَرْبِ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَإِعْطَاءِ الْأَمَانِ مَثَلًا وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْمُوَادَعَةِ.
وَفَرَّعُوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بَعْضَ الْأَحْكَامِ وَقَالُوا: لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا وَادَعَ أَهْلَ حَرْبٍ سَنَةً عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُ وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوهُمْ، وَإِنْ قَتَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ غَرِمُوا دِيَتَهُ لِأَنَّ مُوَادَعَةَ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ مُوَادِعَتِهِمْ جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْإِمَامُ حَتَّى مَضَتْ سَنَةٌ أَمْضَى مُوَادَعَتَهُ وَأَخَذَ الْمَالَ فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُسْلِمِينَ مُتَعَيِّنَةٌ فِي إِمْضَاءِ الْمُوَادَعَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ خَوْفَ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِهَذَا يَأْخُذُ الْإِمَامُ الْمَالَ مِنَ الْعَاقِدِ فَيَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ مُوَادَعَتَهُ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي إِمْضَاءِ تِلْكَ الْمُوَادَعَةِ أَمْضَاهَا وَأَخَذَ الْمَالَ فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُنْشِئَ الْمُوَادَعَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهَا؛ فَلأَنْ يُمْضِيَهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ أَوْلَى.فَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي إِبْطَالِهَا رَدَّ الْمَالَ إِلَيْهِمْ ثُمَّ نَبَذَ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَقَاتَلَهُمْ؛ لِأَنَّ أَمَانَ الْمُسْلِمِ كَانَ صَحِيحًا وَالتَّحَرُّزَ عَنِ الْغَدْرِ وَاجِبٌ.فَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى نِصْفُ السَّنَةِ فَفِي الْقِيَاسِ: يَرُدُّ نِصْفَ الْمَالِ وَيُمْسِكُ النِّصْفَ الْآخَرَ لِلْمُسْلِمِينَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَقِيَاسًا بِالْمُوَادَعَةِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، وَقِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ.فَهُنَاكَ إِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ سَقَطَ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا بَقَّى وَيَتَقَرَّرُ بِحِسَابِ مَا مَضَى.وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرُدُّ الْمَالَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوا الْمَالَ إِلاَّ بِشَرْطِ أَنْ تُسَلَّمَ الْمُوَادَعَةُ لَهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَالْجَزَاءُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ جُمْلَةً وَلَا يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَائِهِ، وَكَلِمَةُ «عَلَى» لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً، وَالْمُوَادَعَةُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، قَالُوا: فَجَعَلْنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِيهَا عَامِلَةً بِحَقِيقَتِهَا.فَإِذَا لَمْ تُسَلَّمْ لَهُمُ الْمُوَادَعَةُ سَنَةً كَامِلَةً وَجَبَ رَدُّ الْمَالِ كُلِّهِ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَكُونُ خَوْفُهُمْ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ دُونَ بَعْضٍ، قَدْ يَأْمَنُونَ مَثَلًا الشِّتَاءَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَدُوُّ دُونَ الصَّيْفِ وَيَخَافُونَ ذَلِكَ فِي الصَّيْفِ، فَإِذَا نَبَذَ الْعَهْدَ إِلَيْهِمْ فِي وَقْتِ خَوْفِهِمْ وَمَنَعَ مِنْهُمْ بَعْضَ الْمَالِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ مَقْصُودِهِمْ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْغُرُورِ فَيَرُدُّ الْمَالَ كُلَّهُ إِنْ نَبَذَ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ.
وَإِنْ كَانُوا وَادَعُوهُ ثَلَاثَ سِنِينَ كُلَّ سَنَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقُبِضَ الْمَالُ كُلُّهُ، ثُمَّ أَرَادَ الْإِمَامُ نَقْضَ الْمُوَادَعَةِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمُ الثُّلُثَيْنِ لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ كَانَتْ هُنَا بِحَرْفِ «الْبَاءِ» وَهُوَ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَيَكُونُ الْمَالُ عِوَضًا فَيَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْمَصْلَحَةُ:
6- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكْفِي انْتِفَاءُ الْمَفْسَدَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَادَعَتِهِمْ بِلَا مَصْلَحَةٍ وَلَا حَاجَةَ، لقوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}.
وَالْمَصْلَحَةُ الْمُبِيحَةُ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ هِيَ كُلُّ مَا يُحَقِّقُ لِلْمُسْلِمِينَ غَرَضًا مَقْصُودًا شَرْعًا، بِأَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ مِنْ قِلَّةِ عَدَدٍ أَوْ عُدَّةٍ أَوْ مَالٍ، وَالْعَدُوُّ قَوِيٌّ، أَوْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ وَفِي الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةٌ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ: بِأَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ بِاخْتِلَاطِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُطْمَعَ فِي قَبُولِهِمْ بَذْلَ الْجِزْيَةِ، أَوْ يَكُفُّوا عَنْ مَعُونَةِ عَدُوٍّ ذِي شَوْكَةٍ، أَوْ يُعِينُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَى عَقْدِهَا حَاجَةٌ فَلَا يَجُوزُ عَقْدُهَا بِالِاتِّفَاقِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: تَعْيِينُ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِصِحَّةِ الْهُدْنَةِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ مُطْلَقَةً؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَهَا بِلَا تَحْدِيدِ مُدَّتِهَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الْجِهَادِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَا حَدَّ وَاجِبٌ لِمُدَّةِ الْهُدْنَةِ بَلْ هِيَ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ؛ إِذْ شَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ فِي مُدَّةٍ بِعَيْنِهَا لَا عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَا عَلَى الْإِبْهَامِ، ثُمَّ تِلْكَ الْمُدَّةُ لَا حَدَّ لَهَا بَلْ يُعَيِّنُهَا الْإِمَامُ بِاجْتِهَادِهِ.
لَكِنْ يُنْدَبُ أَنْ لَا تَزِيدَ الْمُدَّةُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِاحْتِمَالِ حُصُولِ قُوَّةٍ أَوْ نَحْوِهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا إِذَا اسْتَوَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَغَيْرِهَا وَإِلاَّ تَعَيَّنَ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ، فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِقُوَّةٍ وَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي عَقْدِهَا رَجَاءَ إِسْلَامِهِمْ أَوْ بَذْلِهِمُ الْجِزْيَةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، غَيْرَ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ وَمَا دُونَهَا إِنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- هَادَنَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عَامَ الْفَتْحِ رَجَاءَ إِسْلَامِهِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُوَّةٍ، وَهَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ.
وَقَالُوا: إِنْ زَادَ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَلَى الْعَشْرِ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ عَنْ حَظْرٍ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ مُدَّةُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَمُدَّةُ الْعَشْرِ سِنِينَ، لِمُصَالَحَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَقُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ، وَفِيمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ.فَعَلَيْهِ إِنْ زَادَ الْإِمَامُ الْمُدَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، وَعَلَى الْعَشْرِ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الزَّائِدِ، وَفِي بُطْلَانِهَا عَلَى الْجَائِزِ قَوْلًا: تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي عَقْدِهَا؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، أَظْهَرُهُمَا الْمَنْصُوصُ: يَبْطُلُ بِالزَّائِدِ فَقَطْ، تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: يَبْطُلُ الْعَقْدُ كُلُّهُ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى رَأَى الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ الْمَصْلَحَةَ فِي عَقْدِهَا لِضَعْفٍ فِي الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْقِتَالِ، أَوْ لِمَشَقَّةِ الْغَزْوِ أَوْ لِطَمَعِهِ فِي إِسْلَامِهِمْ، أَوْ فِي أَدَائِهِمُ الْجِزْيَةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ جَازَ لَهُ عَقْدُهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ تَقْدِيرُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ فَوْقَ عَشْرِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهَا تَجُوزُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشْرٍ، فَجَازَتْ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا كَمُدَّةِ الْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ عَقْدُهَا لِلْمَصْلَحَةِ فَحَيْثُ وُجِدَتْ جَازَتْ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ.وَإِنْ هَادَنَهُمْ مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْ بِمُدَّةٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي التَّأْيِيدَ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَنِ الْمُدَّةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَهْلَ الْحَرْبِ أَوْ فَرِيقًا مِنْهُمْ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَكِنْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَقْيِيدِهَا بِرُؤْيَةِ مَصْلَحَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ بِآيَةٍ أُخْرَى هِيَ قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} وَوَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، وَلَا يَقْتَصِرَ جَوَازُ الْمُوَادَعَةِ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لِتَعَدِّي الْمَعْنَى- وَهُوَ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ- أَوْ ثُبُوتِ مَصْلَحَتِهِمْ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْمُوَادَعَةِ تَدُورُ مَعَ الْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ قَدْ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: خُلُوُّ عَقْدِ الْهُدْنَةِ عَنْ شَرْطٍ فَاسِدٍ:
8- لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ عَلَى شُرُوطٍ مَحْظُورَةٍ قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا: كَأَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى خَرَاجٍ يَضْرِبُونَهُ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ الْإِمَامُ إِلَيْهِمْ أَوْ عَلَى رَدِّ مَا غَنِمَ مِنْ سَبِّيِ ذَرَارِيهِمْ؛ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مَغْنُومَةٌ، أَوْ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ أَوِ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ، أَوْ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ أَبَدًا.أَوْ عَلَى أَلاَّ يَسْتَنْقِذَ أَسْرَانَا مِنْهُمْ، فَهَذِهِ وَمَا شَاكَلَهَا شُرُوطٌ مَحْظُورَةٌ قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، فَإِنْ شَرَطَ بَطَلَتِ الشُّرُوطُ وَعَلَى الْإِمَامِ نَقْضُهَا لقوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} وَلِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: تُرَدُّ النَّاسُ مِنَ الْجَهَالَاتِ إِلَى السُّنَّةِ.
9- مِنْ أَمْثِلَةِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ اشْتِرَاطُ رَدِّ مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا مِنَ الْكُفَّارِ.
فَإِنْ شَرَطَ عَدَمَ الرَّدِّ أَوْ أَطْلَقَ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي عِقْدِ الْهُدْنَةِ رَدًّا وَلَا عَدَمَهُ أَوْ خَصَّ بِالنِّسَاءِ فَلَا رَدَّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ خَصَّ الرَّدَّ بِالرِّجَالِ، أَوْ ذَكَرَ الرَّدَّ وَلَمْ يُخَصَّصْ بِنَوْعٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الرَّدِّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ رَدَّ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ بَطَلَ الشَّرْطُ وَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} هُوَ دَلِيلُ النَّسْخِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ أَيْضًا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي ذَلِكَ، بَلْ مَفْسَدَةُ رَدِّ الْمُسْلِمِ إِلَيْهِمْ أَكْبَرُ، وَلَا يَغْرَمُ لِأَزْوَاجِ الْمُسْلِمَاتِ مَا أَنْفَقُوا مِنْ مُهُورِهِنَّ، وَحِينَ شَرَعَ الرَّدَّ كَانَ فِي قَوْمٍ لَا يُبَالِغُونَ فِي تَعْذِيبِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ قَبِيلَةٍ لَا تَتَعَرَّضُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى؛ وَإِنَّمَا تَتَوَلَّى رَدْعَهُ عَشِيرَتُهُ وَهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنَ الْقَيْدِ وَالسَّبِّ وَالْإِهَانَةِ.
وَكَانَ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- جَمَاعَةٌ أَسْلَمُوا مِثْلُ أَبِي جَنْدَلٍ وَأَبِي بَصِيرٍ إِلَى سَبْعِينَ رَجُلًا وَلَمْ يَبْلُغْ فِيهِمُ الْمُشْرِكُونَ النِّكَايَةَ لِعَشِيرَتِهِمْ، وَالْأَمْرُ الْآنَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَطْلُبُهُ- إِلَى أَنَّهُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِالشَّرْطِ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَالَحَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي جَنْدَلٍ: يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّا لَا نَغْدِرُ، وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا».ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَرَدَّهُ.ثُمَّ جَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ فَجَاءَ أَخَوَاهَا فِي طَلَبِهَا: عُمَارَةُ وَوَلِيدٌ ابْنَا عُقْبَةَ وَجَاءَتْ سَعِيدَةُ زَوْجَةُ الصَّيْفِيِّ الرَّاهِبِ الْمُشْرِكِ مَسْلَمَةً فَجَاءَ فِي طَلَبِهَا زَوْجُهَا، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ قَدْ شَرَطْتَ لَنَا رَدَّ النِّسَاءِ وَطِينُ الْكِتَابِ لَمْ يَجِفَّ بَعْدُ فَارْدُدْ عَلَيْنَا نِسَاءَنَا فَتَوَقَّفَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَدِّهِنَّ تَوَقُّعًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِنَّ حَتَّى نَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
فَامْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَئِذٍ مِنْ رَدِّهِنَّ، وَمِنْ رَدِّ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ مَنَعَ الصُّلْحَ بِالنِّسَاءِ».
وَتُفَارِقُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِي ثَلَاثِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَا تَأْمَنُ أَنْ تَتَزَوَّجَ كَافِرًا يَسْتَحِلُّهَا، أَوْ يُكْرِهُهَا مَنْ يَنَالُ مِنْهَا.
الثَّانِي: إِنَّهَا رُبَّمَا فُتِنَتْ عَنْ دِينِهَا؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ قَلْبًا وَأَقَلُّ مَعْرِفَةً مِنَ الرَّجُلِ.
الثَّالِثُ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُمْكِنُهَا عَادَةً الْهَرَبُ وَالتَّخَلُّصُ، وَإِنَّ النِّسَاءَ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ يُحَرَّمْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالْإِسْلَامِ وَلَا يَقْدِرْنَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُمْ، فَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي الرَّدِّ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.فَإِنْ شَرَطَ رَدَّ النِّسَاءِ فِي الْعَقْدِ فَسَدَ الشَّرْطُ قَطْعًا سَوَاءٌ كَانَ لَهَا عَشِيرَةٌ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ أَحَلَّ حَرَامًا.وَكَذَا الْعَقْدُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ الْعَقْدُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ جَوَازَ اشْتِرَاطِ رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنَ الرِّجَالِ مُسْلِمًا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلْ يُعْتَبَرُ بِأَحْوَالِهِمْ عِنْدَ قَوْمِهِمْ وَفِي عَشَائِرِهِمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ أَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى قَهْرِ طَالِبِيهِمْ وَالْهَرَبِ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَذَلِّينَ فِيهِمْ لَيْسَ لَهُمْ عَشِيرَةٌ تَكُفُّ عَنْهُمُ الْأَذَى وَطَلَبُوهُمْ لِيُعَذِّبُوهُمْ وَيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، لَمْ يَجُزْ رَدُّهُمْ إِلَيْهِمْ.وَكَانَ الشَّرْطُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ بِرَدِّهِمْ بَاطِلًا كَمَا بَطَلَ فِي رَدِّ النِّسَاءِ، حَقْنًا لِلدِّمَاءِ وَكَفًّا عَنْ تَعْذِيبِهِمْ وَاسْتِذْلَالِهِمْ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ» وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ فَكُّ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ عَوْنًا عَلَى أَسْرِ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ قَدْ أَمِنَ أَنْ يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ أَوْ يَسْتَذِلَّهُ مُسْتَطِيلٌ عَلَيْهِ فَجَازَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ وَصَحَّتِ الْهُدْنَةُ بِاشْتِرَاطِ رَدِّهِ، فَقَدْ رَدَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى أَبِيهِ، وَرَدَّ أَبَا بَصِيرٍ عَلَى أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَ ذَوِي عَشِيرَةٍ، وَطَلَبَهُمَا أَهْلُوهُمَا إِشْفَاقًا عَلَيْهِمَا فِي زَعْمِهِمْ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الصِّبْيَانَ وَالْمَجَانِينَ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ بِشَرْطِ رَدِّهِمْ وَلَا يُرَدُّونَ لِضَعْفِهِمْ وَلَا غُرْمَ فِي تَرْكِ رَدِّهِمْ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَإِنْ وَصَفَا الْإِسْلَامَ رُدَّا إِنْ كَانَا مُمْتَنِعَيْنِ بِعَشِيرَةٍ وَأَهْلٍ، وَإِنْ كَانَا مُسْتَضْعَفَيْنِ لَمْ يُرَدَّا، وَإِنْ وَصَفَا كُفْرًا لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمَا وَإِمَّا أَنْ يُرَدَّا إِلَى مَأْمَنِهِمَا، وَإِنْ وَصَفَا كُفْرًا يُقَرُّ أَهْلُهُ فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمَا وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَا الْجِزْيَةَ، وَإِمَّا أَنْ يُرَدَّا إِلَى مَأْمَنِهِمَا.
وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ فِي صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ أَسْلَمَ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ يَضْعُفُ عَنِ التَّخَلُّصِ مِنَ الْكُفَّارِ؛ أَمَّا شَرْطُ رَدِّ الطِّفْلِ مِنْهُمْ لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ كَكَوْنِهِ دُونَ التَّمْيِيزِ فَيَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ شَرْعًا وَلَا يَصْحُّ مِنْهُ الْإِسْلَامُ لَوْ أَتَى بِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُ.
دَفْعُ مَهْرِ مَنْ جِئْنَ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ لِأَزْوَاجِهِنَّ:
10- إِذَا شَرَطَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ رَدَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا مِنْهُمْ، أَوْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَذْكُرْ رَدًّا وَلَا عَدَمَهُ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لَمْ يَجِبْ دَفْعُ مَهْرٍ لِزَوْجِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ- قَالُوا: لِأَنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ حَتَّى يَشْمَلَهُ الْأَمَانُ وَلِارْتِفَاعِ نِكَاحِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ بِالْإِسْلَامِ، أَمَّا غُرْمُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْمَهْرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِيعِ فَإِنَّهُ كَانَ قَبْلَ مَنْعِ رَدِّهِنَّ وَدُخُولِهِنَّ فِي عُمُومِ: «مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا مِنْكُمْ رَدَدْنَاهُ».
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ قَدْ شَرَطَ لَهُمْ رَدَّ مَنْ جَاءَتْهُ مُسْلِمَةً ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فَغَرِمَ حِينَئِذٍ لِامْتِنَاعِ رَدِّهَا بَعْدَ الشَّرْطِ بِهِ نَصًّا، أَوْ دُخُولَهُنَّ فِي عُمُوم «مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا».
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ: إِذَا أُمْسِكَتِ الْمُسْلِمَةُ وَلَمْ يَرُدَّهَا رَدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَهُ؛ لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَهْرُ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَقَالُوا: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا أُمْسِكَتِ الزَّوْجَةُ الْمُسْلِمَةُ أَنْ يُرَدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ وَفَاءً بِالْعَهْدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَهْلِهِ بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ أُمِرَ بِرَدِّ الْمَالِ إِلَيْهِ؛ حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَيْهِ خُسْرَانٌ فِي الْوَجْهَيْنِ: الزَّوْجَةِ وَالْمَالِ؛ وَلِأَنَّ الْعَهْدَ قَدْ أَوْجَبَ الْأَمَانَ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَبُضْعُ الزَّوْجَةِ فِي حُكْمِ الْمَالِ لِصِحَّةِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ نِكَاحًا وَخُلْعًا؛ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ وَهُوَ الْمَهْرُ.
شَرْطُ رَدِّ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ مُرْتَدًّا:
11- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَنْ أَتَى إِلَيْهِمْ مُرْتَدًّا لَزِمَهُمُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، عَبْدًا كَانَ أَمْ حُرًّا، ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى، عَمَلًا بِالْتِزَامِهِمْ فَإِنْ أَبَوْا فَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ لِمُخَالَفَتِهِمُ الشَّرْطَ.
وَيَجُوزُ شَرْطُ أَنْ لَا يَرُدُّوا مَنْ جَاءَهُمْ مُرْتَدًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ اشْتَرَطُوا عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: «أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فَقَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا» وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُهُمُ الرَّدُّ، وَكَذَا إِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ فَلَا يَلْزَمُهُمُ الرَّدُّ، وَلَكِنْ يُغَرَّمُونَ مَهْرَ الْمُرْتَدَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ فَوَّتُوا عَلَيْنَا الِاسْتِتَابَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْنَا؛ وَكَذَلِكَ يُغَرَّمُونَ قِيمَةَ الرَّقِيقِ الْمُرْتَدِّ.
عَقْدُ الْهُدْنَةِ بِشَرْطٍ مَحْظُورٍ لِلضَّرُورَةِ:
12- يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَقْدُ الْهُدْنَةِ بِشَرْطٍ مَحْظُورٍ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ بَذْلِ الْمَالِ لِلْكُفَّارِ.
فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ عَلَى مَالٍ يَبْذُلُهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ مَا لَمْ تَدْعُ إِلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ وَأَظْهَرَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا وَجَعَلَ لَهُمُ الْجَنَّةَ قَاتِلِينَ وَمَقْتُولِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} فَلَمْ يَجُزْ مَعَ ثَوَابِ الشَّهَادَةِ وَعِزِّ الْإِسْلَامِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي ذُلِّ الْبَذْلِ وَصَغَارِ الدَّفْعِ، أَمَّا إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ فَيَجُوزُ.
وَمِنْ صُوَرِ الضَّرُورَةِ:
أ- أَنْ يُحَاطَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالٍ أَوْ وَطْءٍ يَخَافُونَ مَعَهُ الِاصْطِلَامَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْذُلُوا فِي الدَّفْعِ عَنِ اصْطِلَامِهِمْ مَالًا يَحْقِنُونَ بِهِ دِمَاءَهُمْ، فَقَدَ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْخَنْدَقِ أَنْ يُصَالِحَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَشَاوَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَقَالَا: إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ بِشَيْءٍ فَامْضِ لِأَمْرِ اللَّهِ، بِأَمْرِ اللَّهِ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ نَقْبَلْهُ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو الْغَطَفَانِيَّ رَئِيسَ غَطَفَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: يَا مُحَمَّدُ، شَاطِرْنَا تَمْرَ الْمَدِينَةِ.فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ، فَبَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَسَعْدِ بْنِ خَيْثَمٍ وَسَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ.فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ الْحَارِثَ سَأَلَكُمْ تُشَاطِرُوهُ تَمْرَ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوهُ عَامَكُمْ هَذَا فِي أَمْرِكُمْ بَعْدُ.فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَحْيٌ مِنَ السَّمَاءِ فَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، أَوْ عَنْ رَأْيِكَ وَهَوَاكَ فَرَأَيْنَا نَتَّبِعُ هَوَاكَ وَرَأْيَكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ الْإِبْقَاءَ عَلَيْنَا فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتَنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، مَا يَنَالُونَ مِنَّا تَمْرَةً إِلاَّ شِرَاءً أَوْ قِرًى.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هُوَ ذَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُونَ» هُوَ- وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِمْ- فَقَدْ نَبَّهَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْأَنْصَارِ عَلَى جَوَازِ إِعْطَائِهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلِأَنَّ مَا يَنَالُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نِكَايَةِ الِاصْطِلَامِ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ ذِلَّةِ الْبَذْلِ، فَافْتَدَى بِهِ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ.
ب- افْتِدَاءُ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَسْرَى إِذَا خِيفَ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَكَانُوا يَسْتَذِلُّونَهُمْ بِعَذَابٍ أَوِ امْتِهَانٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُمُ الْإِمَامُ فِي افْتِكَاكِهِمْ مَالًا لِيَسْتَنْقِذَهُمْ بِهِ مِنَ الذُّلِّ، وَإِنِ افْتَدَاهُمْ بِأَسْرَى كَانَ أَوْلَى.
وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَادَى رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
105-موسوعة الفقه الكويتية (هدنة 2)
هُدْنَة -2أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ عَلَى عَقْدِ الْهُدْنَةِ:
13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِشَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ شُرِطَ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ شَرْطٌ فَاسِدٌ بَطَلَ الشَّرْطُ وَلَا يَجِبِ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا تَبْطُلُ الْهُدْنَةُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْبُيُوعِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي تَبْطُلُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ؛ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ جَهَالَةِ الثَّمَنِ؛ وَلَيْسَتْ بِأَوْكَدَ مِنْ عُقُودِ الْمُنَاكَحَاتِ الَّتِي لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ الْمَهْرِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى فَسَادِ الشَّرْطِ وَالْعَقْدِ مَعًا، أَمَّا فَسَادُ الشَّرْطِ فَلِأَنَّهُ أَحَلَّ حَرَامًا؛ وَأَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ فَلِاقْتِرَانِهِ بِشَرْطٍ مُفْسِدٍ.
صِفَةُ عَقْدِ الْهُدْنَةِ:
14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَهُوَ لَازِمٌ أَمْ جَائِزٌ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَإِنْ وَقَعَ صَحِيحًا فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ الْعَاقِدِ وَلَا لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ نَقَضُهُ، وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، أَوْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ مَا يَقْتَضِي الِانْتِقَاضَ مِنْ قِتَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} فَإِذَا مَاتَ الْإِمَامُ الَّذِي عَقَدَ الْعَهْدَ أَوْ عُزِلَ فَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُ نَقْضُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الْأَوَّلَ عَقَدَهَا بِاجْتِهَادِهِ فَلَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ الْعَقْدُ فَاسِدًا بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ الْجَدِيدِ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي نَقْضُ أَحْكَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ قَبْلَهُ بِاجْتِهَادِهِ.
وَلِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَفِ بِالْعُهُودِ لَمْ يَسْكُنْ إِلَى عُقُودِهِ وَقَدْ نَحْتَاجُ إِلَيْهَا؛ أَمَّا إِنْ بَانَ فَسَادُ عَقْدِ الْهُدْنَةِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ فَيُلْغَى، وَيُعْلَنُ إِلَيْهِمْ بِفَسَادِ الْهُدْنَةِ وَيُبْلَغُونَ مَأْمَنَهُمْ، فَإِنْ دَخَلَ بَعْضُهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِهَذَا الصُّلْحِ كَانَ آمِنًا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مُعْتَقِدًا بِالْأَمَانِ وَيُرَدُّ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يُقَرُّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْهُدْنَةَ لَمْ تَصِحَّ.
15- وَإِنْ شَرَطَ الْإِمَامُ لِنَفْسِهِ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ مَا يَنْفِي لُزُومَهُ فَقَدْ أَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ.
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ تَعْلِيقُ اسْتِدَامَةِ الْهُدْنَةِ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِمَامِ يَنْقُضُهَا مَتَى شَاءَ، فَإِنْ عُلِّقَتْ بِمَشِيئَتِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُقَدَّرَةِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ وَادَعَ يَهُودَ خَيْبَرَ قَالَ: نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» وَيَكُونُ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِيهَا إِذَا أَرَادَ نَقْضَهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ الَّتِي تُمْنَعُ الْجَهَالَةُ فِيهَا؛ وَإِذَا جَازَ إِطْلَاقُهَا بِغَيْرِ مُدَّةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، وَإِنْ قَالَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- لِأَهْلِ خَيْبَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوحِي إِلَى رَسُولِهِ مُرَادَهُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أُقِرُّكُمْ مَا شِئْتُ أَوْ شَاءَ فُلَانٌ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَتِهِ فِيمَا يَرَاهُ صَلَاحًا مِنِ اسْتِدَامَةِ الْهُدْنَةِ أَوْ نَقْضِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى مَشِيئَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُتَحَكِّمِينَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى».
وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى مَشِيئَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ فِي تَدْبِيرِ الدُّنْيَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الْأَمَانَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَإِنْ تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مِنْهُ صَحَّ وُقُوفُ الْهُدْنَةِ عَلَى مَشِيئَتِهِ، وَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ تَصِحَّ الْهُدْنَةُ.وَإِنْ أَطْلَقَ الْإِمَامُ الْهُدْنَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ أَوْ عَلَى غَيْرِ صِفَةٍ، بَلْ قَالَ: هَادَنْتُكُمْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَهَا يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنْ شَرَطَ الْإِمَامُ نَقْضَ الْعَهْدِ لِنَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ.وَكَذَا إِنْ شَرَطَ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى ضِدِّ الْمَقْصُودِ فَلَمْ يَصِحَّ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ غَيْرُ لَازِمٍ مُحْتَمِلٍ لِلنَّقْضِ، فَلِلْإِمَامِ نَبْذُهُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنَّ فِي الْمُوَادَعَةِ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَوَادَعَهُمْ، ثُمَّ نَظَرَ فَوَجَدَ أَنَّهَا شَرٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَبَذَ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ فِي الِانْتِهَاءِ مَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الِابْتِدَاءِ لَمَنَعَ عَقْدَهَا وَاسْتِدَامَتَهَا؛ وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمَّا تَبَدَّلَتْ كَانَ النَّبْذُ جِهَادًا، وَإِبْقَاءُ الْعَهْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَرْكٌ لِلْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ.
فَإِنْ رَأَى نَقْضَهَا فَلَا بُدَّ مِنَ النَّبْذِ تَحَرُّزًا مِنَ الْغَدْرِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْعُمُومَاتِ: نَحْوَ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَرْبَعُ خِلَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» وَقَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: «كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ- رضي الله عنه- وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ فِي بِلَادِهِمْ حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ.فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ، وَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ- رضي الله عنه- فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عَهْدًا وَلَا يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ».
وَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ مُدَّةِ بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَى جَمِيعِهِمْ، وَيَكْتَفِي مِنْ ذَلِكَ مُدَّةً يَتَمَكَّنُ رَئِيسُهُمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّبْذِ مِنْ إِنْفَاذِ الْخَبَرِ إِلَى مَمْلَكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَنْتَفِي الْغَدْرُ.فَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا مِنْ حُصُونِهِمْ أَوْ تَفَرَّقُوا، أَوْ خَرَّبُوا حُصُونَهُمُ اتِّكَالًا عَلَى الْأَمَانِ فَحَتَّى يَعُودُوا كُلُّهُمْ إِلَى مَأْمَنِهِمْ وَيُعَمِّرُوا حُصُونَهُمْ مِثْلَ مَا كَانَتْ تَوَقِّيًا مِنَ الْغَدْرِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّبْذِ إِعْلَانُهُمْ نَقْضَ الْعَهْدِ.وَيَكُونُ النَّبْذُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ الْأَمَانُ، فَإِنْ كَانَ مُنْتَشِرًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّبْذُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَشِرٍ بِأَنْ أَمَّنَهُمْ مُسْلِمٌ وَاحِدٌ سِرًّا يُكْتَفَى بِنَبْذِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ.
آثَارُ الْهُدْنَةِ:
16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا تَمَّ عَقْدُ الْهُدْنَةِ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ أَمِنَ الْمُوَادِعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ- إِذَا مَاتَ أَوْ عُزِلَ- حِمَايَتُهُمْ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَذَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمُقِيمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ أَمَّنَهُمْ مِمَّا هُوَ تَحْتَ حُكْمِهِ وَفِي قَبْضَتِهِ وَفَاءً بِالْعَهْدِ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} فَلَوْ أَتْلَفَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
أَمَّا حِمَايَتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَذَا حِمَايَةُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ فَلَا تَلْزَمُ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْهُدْنَةَ الْتِزَامُ الْكَفِّ عَنْهُمْ فَقَطْ لَا حِفْظُهُمْ، بِخِلَافِ عَقْدِ الذِّمَّةِ حَيْثُ نَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا نَدْفَعُ عَنْ أَنْفُسِنَا.
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنَ الْمُوَادِعِينَ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ، فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، فَهَؤُلَاءِ آمِنُونَ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ لَهُمْ فَلَا يَنْتَقِضُ بِالْخُرُوجِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ كَمَا فِي الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ- وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ- أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِدُخُولِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ دَارِهِمْ بِأَمَانٍ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَهُوَ آمِنٌ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمُوَادِعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَلَوْ عَادَ إِلَى دَارِهِ ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ كَانَ فَيْئًا لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُ وَنَأْسِرَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى دَارِهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّهِ.
فَإِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَهَذَا حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ أَمَانٍ.
وَلَوْ أَسَرَ أَهْلُ دَارٍ أُخْرَى وَاحِدًا مِنَ الْمُوَادِعِينَ فَغَزَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ كَانَ الْمَأْسُورُ فَيْئًا، وَلَوْ دَخَلَ إِلَيْهِمْ تَاجِرٌ فَهُوَ آمِنٌ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ فَقَدِ انْقَطَعَ حُكْمُ دَارِ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّهِ وَإِذَا دَخَلَ تَاجِرًا لَمْ يَنْقَطِعْ.
مَنْ تُعْقَدُ لَهُ الْهُدْنَةُ:
أ- أَهْلُ الْحَرْبِ:
17- يَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ مِنْ نَصَارَى وَيَهُودٍ أَمْ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ.وَالْأَصْلُ فِي هَذَا عُمُومُ قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَفَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَوَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍإِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- هَادَنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَهَادَنَ قُرَيْشًا وَقَبَائِلَ عَرَبِيَّةً أُخْرَى وَكَانَ عَامَّتُهُمْ وَثَنِيِّينَ.
ب- الْمُرْتَدُّونَ:
18- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى جَوَازِ مُوَادَعَةِ الْمُرْتَدِّينَ إِذَا غَلَبُوا عَلَى دَارٍ مِنْ دُورِ الْإِسْلَامِ وَصَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ، وَخِيفَ مِنْهُمْ وَلَمْ تُؤْمَنْ غَائِلَتُهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ دَفْعِ الشَّرِّ لِلْحَالِ، وَرَجَاءَ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَوْبَتِهِمْ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالٌ، لِأَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إِلاَّ مِنْ كَافِرٍ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَسْتَوْلُوا عَلَى بَلْدَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِيَانٌ فَلَا يُعْقَدُ لَهُمْ هُدْنَةٌ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَقْرِيرَ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى الرِّدَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَإِنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ جَمَاعَةٌ بَعْدَ تَقَرُّرِ إِسْلَامِهِمْ وَحَارَبُوا بَعْدَ ارْتِدَادِهِمُ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَدَرْنَا عَلَيْهِمْ فَكَالْمُرْتَدِّينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَصْلِيِّينَ؛ فَيُحْكَمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا بِحُكْمِ الْكُفَّارِ النَّاقِضِينَ لِلْعَهْدِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمُرْتَدِّينَ إِذَا انْحَازُوا إِلَى دَارٍ يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَصِيرُوا فِيهَا مُمْتَنِعِينَ يَجِبُ قِتَالُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ مُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِيضَاحِ دَلَائِلِهِ، وَيَجْرِي عَلَى قِتَالِهِمْ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ حُكْمُ قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ.
ج- الْبُغَاةُ:
19- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُوَادَعَةُ الْبُغَاةِ بِمَالٍ.فَإِنْ وَادَعَهُمُ الْإِمَامُ بِمَالٍ بَطَلَتِ الْمُوَادَعَةُ، وَإِنْ طَلَبُوهَا أُجِيبُوا إِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ مَالٍ وَكَانَ فِي عَقْدِهَا مَصْلَحَةٌ لِأَهْلِ الْجَمَاعَةِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (بُغَاة ف 22).
نَقْضُ الْهُدْنَةِ:
20- عَقْدُ الْهُدْنَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَنِ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يُنْهِي الْعَهْدَ بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إِلَى النَّبْذِ، حَتَّى كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُؤَقَّتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إِلَى النَّاقِضِ.وَإِذَا كَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِالْهُدْنَةِ الْمُؤَقَّتَةِ فَمَضَى الْوَقْتُ وَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَأْمَنِهِ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لَهُ يُوهِمُ الْغَدْرَ وَالتَّغْرِيرَ، فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مَا أَمْكَنَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَقْدُ الْهُدْنَةِ مُطْلَقًا عَنِ الْوَقْتِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ إِطْلَاقَهُ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ أَوْ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ عِنْدَ مَنْ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ وَهُمُ الْجُمْهُورُ، فَالَّذِي يَنْتَقِضُ بِهِ نَوْعَانِ: تَصْرِيحٌ وَدَلَالَةٌ.
فَالتَّصْرِيحُ هُوَ النَّبْذُ صَرِيحًا.
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّبْذِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ النَّقْضِ دَلَالَةً:
أ) خُرُوجُ قَوْمٍ مِنْ دَارِ الْمُوَادَعَةِ بِإِذْنِ مَلِكِهِمْ وَقَطْعُهُمُ الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إِذْنَ مَلِكِهِمْ بِذَلِكَ دَلَالَةُ النَّبْذِ.
ب) قِتَالُهُمُ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شُبْهَةٌ كَأَنْ أَعَانُوا الْبُغَاةَ مُكْرَهِينَ فَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ.
ج) مُكَاتَبَتُهُمْ أَهْلَ الْحَرْبِ بِعَوْرَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ.
د) قَتْلُهُمْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا بِدَارِ الْإِسْلَامِ عَمْدًا إِنْ لَمْ يُنْكِرْ غَيْرُ الْقَاتِلِ عَلَيْهِ بَعْدَ عِلْمِهِ.
ه) إِيوَاؤُهُمْ عَيْنًا لِلْكُفَّارِ.
و) أَخْذُهُمْ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ.
ز) سَبُّهُمُ اللَّهَ أَوِ الْقُرْآنَ أَوْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
ح) فِعْلُ شَيْءٍ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي نَقْضِ عَقْدِ الذِّمَّةِ بِهِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ نَاقِضٌ لِلْهُدْنَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَهْلُ الْهُدْنَةِ أَنَّهُ نَاقِضٌ.
وَبِالنَّظَرِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ نَوَاقِضِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ يُمْكِنُنَا إِرْجَاعُهَا إِلَى الْأَسْبَابِ التَّالِيَةِ:
أ- الْعُدُولُ عَنِ الْمُوَادَعَةِ فِي الظَّاهِرِ.
ب- الْخِيَانَةُ فِي الْبَاطِنِ.
ج- الْعُدُولُ عَنِ الْمُجَامَلَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.
د- النَّبْذُ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ إِذَا رَأَى نَقْضَ الصُّلْحِ أَصْلَحَ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ.
أَوَّلًا: الْعُدُولُ عَنِ الْمُوَادَعَةِ فِي الظَّاهِرِ:
21- مِنْ مُوجِبَاتِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ الْمُوَادَعَةُ فِي الظَّاهِرِ، وَهِيَ الْكَفُّ عَنِ الْقِتَالِ وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، فَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْهُدْنَةِ مِثْلُ مَا يَجِبُ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
فَإِنْ عَدَلَ أَهْلُ الْهُدْنَةِ عَنِ الْمُوَادَعَةِ إِلَى ضِدِّهَا فَقَاتَلُوا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قَتَلُوا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَخَذُوا مَالَ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ انْتَقَضَتْ هُدْنَتُهُمْ بِفِعْلِهِمْ وَلَمْ يُفْتَقَرْ إِلَى حُكْمِ الْإِمَامِ لِنَقْضِهَا، وَجَازَ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ وَيَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ وَيَهْجُمَ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا، وَجَرَى ذَلِكَ فِي نَقْضِ الْهُدْنَةِ مَجْرَى تَصْرِيحِهِمْ بِالْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا الْهُدْنَةَ.
وَقَدْ غَزَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَهْلَ مَكَّةَ بَعْدَ الْهُدْنَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا نَقَضُوا الْعَهْدَ بِمُعَاوَنَتِهِمْ بَنِي كِنَانَةَ عَلَى قِتَالِ خُزَاعَةِ، وَكَانَتْ حُلَفَاءَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَلِذَلِكَ جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَسْأَلُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَجْدِيدَ الْعَهْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فَلَمْ يُجِبْهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى ذَلِكَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى النَّبْذِ إِلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا نَقْضَ الْعَهْدِ بِنَصْبِ الْحَرْبِ لِحُلَفَاءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
ثَانِيًا: الْخِيَانَةُ فِي الْبَاطِنِ:
22- مِنْ مُوجِبَاتِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ تَرْكُ الْخِيَانَةِ بِأَنْ لَا يَسْتَسِرَّ أَهْلُ الْهُدْنَةِ بِفِعْلٍ مَا يَنْقُضُ الْهُدْنَةَ لَوْ أَظْهَرُوهُ، مِثْلَ أَنْ يُمَايِلُوا فِي السِّرِّ عَدُوًّا أَوْ يَقْتُلُوا فِي السِّرِّ مُسْلِمًا، أَوْ يَأْخُذُوا لَهُ مَالًا، أَوْ يَزْنُوا بِمُسْلِمَةٍ، وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُهَادِنَ لَوْ تَجَسَّسَ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمِّيَّةٍ كَرْهًا أَوْ سَرَقَ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ.
وَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْإِمَامُ مِمَّنْ هَادَنَهُ وَظَهَرَتْ أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِيَانَتِهِمْ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ إِلَى أَنَّهُ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ بِأَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنْ لَا عَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} يَعْنِي إِذَا خِفْتَ غَدْرَهُمْ وَخُدْعَتَهُمْ وَإِيقَاعَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَفَعَلُوا ذَلِكَ خَفْيًا وَلَمْ يُظْهِرُوا نَقْضَ الْعَهْدِ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ أَيْ أَلْقِ إِلَيْهِمْ فَسْخَ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْهُدْنَةِ حَتَّى يَسْتَوِيَ الْجَمِيعُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَهُوَ مَعْنَى قوله تعالى: {عَلَى سَوَاءٍ} لِئَلاَّ يَتَوَهَّمُوا أَنَّكَ نَقَضْتَ الْعَهْدَ بِنَصْبِ الْحَرْبِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ نَبْذُ عَهْدِهِمْ وَإِنْذَارُهُمْ، فَإِنْ تَحَقَّقَ خِيَانَتُهُمْ نَبَذَهُ بِلَا إِنْذَارٍ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا ظَهَرَتْ آثَارُ الْخِيَانَةِ وَثَبَتَتْ دَلَائِلُهَا وَجَبَ نَبْذُ الْعَهْدِ لِئَلاَّ يُوقِعَ التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي الْهَلَكَةِ، وَجَازَ إِسْقَاطُ الْيَقِينِ هَهُنَا بِالظَّنِّ لِلضَّرُورَةِ، وَإِذَا كَانَ الْعَهْدُ قَدْ وَقَعَ فَهَذَا الشَّرْطُ عَادَةٌ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لَفْظًا، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَنْتَقِضُ عَهْدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِمُجَرَّدِ خِيَانَتِهِمْ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ الْإِمَامِ لِنَقْضِهَا.
وَحُكِيَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْبِذُ عَقْدَ الْهُدْنَةِ كَمَا لَا يَنْبِذُ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِالتُّهْمَةِ.
ثَالِثًا: الْعُدُولُ عَنِ الْمُجَامَلَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ:
23- مِنْ مُوجِبَاتِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ الْمُجَامَلَةُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَهِيَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ أَغْلَظُ مِنْهَا فِي حُقُوقِ الْكُفَّارِ الْمُهَادِنِينَ، فَيَلْزَمُهُمْ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْقَبِيحِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَيَبْذُلُوا لَهُمُ الْجَمِيلَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَلَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْقَبِيحِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.
وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَبْذُلُوا لَهُمُ الْجَمِيلَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فَإِنْ عَدَلَ الْكُفَّارُ الْمُهَادِنُونَ عَنِ الْجَمِيلِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَكَانُوا يُكْرِمُونَ الْمُسْلِمِينَ فَصَارُوا يَسْتَهِينُونَ بِهِمْ، وَكَانُوا يُضَيِّفُونَ الرُّسُلَ وَيَصِلُونَهُمْ فَصَارُوا يَقْطَعُونَهُمْ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ كِتَابَ الْإِمَامِ فَصَارُوا يَطْرَحُونَهُ، وَكَانُوا يَزِيدُونَهُ فِي الْخِطَابِ فَصَارُوا يَنْقُصُونَهُ، فَهَذِهِ رِيبَةٌ لِوُقُوعِهَا بَيْنَ شَكَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهَا نَقْضَ الْهُدْنَةِ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُرِيدُوا بِهَا نَقْضَهَا، فَيَسْأَلُهُمُ الْإِمَامُ عَنْهَا وَعَنِ السَّبَبِ فِيهَا، فَإِنْ ذَكَرُوا عُذْرًا يَجُوزُ مِثْلُهُ قَبِلَهُ مِنْهُمْ وَكَانُوا عَلَى هُدْنَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا عُذْرًا أَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى عَادَتِهِمْ مِنَ الْمُجَامَلَةِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَإِنْ عَادُوا أَقَامَ عَلَى هُدْنَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعُودُوا نَقَضَهَا بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ بِنَقْضِهَا.
ذِكْرُهُمُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بِسُوءٍ:
24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ هَذَا السَّبِّ عَلَى عَقْدِ الْهُدْنَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ مِمَّا يَنْتَقِضُ بِهِ الْعَهْدُ هُوَ سَبُّهُمُ اللَّهَ تَعَالَى أَوِ الْقُرْآنَ أَوِ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ- عليهم السلام- مُجْمَعًا عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَنَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ انْتِقَاضِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ بِسَبِّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، لِأَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كُفْرٌ مِنَ الْكَافِرِ الْمُهَادِنِ؛ وَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ لِعَقْدِ الْهُدْنَةِ لَا يَمْنَعُ عَقْدَ الْهُدْنَةِ فِي الِابْتِدَاءِ فَالْكُفْرُ الطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ فِي حَالِ الْبَقَاءِ رَوَى عُرْوَةُ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَقَدْ قُلْتُ: عَلَيْكَ».
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا سَبٌّ مِنْهُمْ لَهُ- صلى الله عليه وسلم-، وَلَوْ كَانَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ لَقَتَلَهُمْ لِصَيْرُورَتِهِمْ حَرْبِيِّينَ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ الِانْتِقَاضِ بِمَا إِذَا لَمْ يُعْلِنِ الْمُهَادِنُ السَّبَّ، أَمَّا إِذَا أَعْلَنَ بِالسَّبِّ أَوِ اعْتَادَهُ وَكَانَ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ قُتِلَ وَلَوِ امْرَأَةً، وَبِهِ يُفْتَى.
رَابِعًا: نَبْذُ الْهُدْنَةِ إِذَا رَآهُ الْإِمَامُ أَصْلَحَ:
25- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْمُوَادَعَةَ خَيْرًا فَوَادَعَ أَهْلَ الْحَرْبِ ثُمَّ نَظَرَ فَوَجَدَ مُوَادَعَتَهُمْ شَرًّا لِلْمُسْلِمِينَ نَبَذَ إِلَى مَلِكِهِمُ الْمُوَادَعَةَ وَقَاتَلَهُمْ.
بُلُوغُ الْمُهَادِنِ مَأْمَنَهُ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ:
26- وَعِنْدَ نَبْذِ الْعَهْدِ يَجِبُ إِبْلَاغُ مَنْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْهُدْنَةِ إِلَى مَأْمَنِهِ، لَكِنْ مَنْ عَلَيْهِ حَقُّ آدَمِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ حَدِّ قَذْفٍ أَوْ قِصَاصٍ يُسْتَوْفَى مِنْهُ أَوَّلًا.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي إِبْلَاغِ الْكَافِرِ الْمَأْمَنَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْلِ عَهِدِهِمْ ويُلْحِقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَاكْتَفَى ابْنُ كَجٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِإِلْحَاقِهِ بِأَوَّلِ بِلَادِ الْكُفْرِ وَقَالَ: لَا يَلْزَمُ إِلْحَاقُهُ بِبَلَدِهِ الَّذِي يَسْكُنُهُ فَوْقَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ أَوَّلِ بِلَادِ الْكُفْرِ وَبَلَدِهِ الَّذِي يَسْكُنُهُ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُ إِلَى الْمُرُورِ عَلَيْهِ.
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْبَحْرِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَأْمَنَانِ لَزِمَ الْإِمَامَ إِلْحَاقُهُ بِسَكَنِهِ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ يَسْكُنُ بَلَدَيْنِ فَالِاخْتِيَارُ لِلْإِمَامِ.
أَحْوَالُ نَقْضِ الْهُدْنَةِ مِنْ قِبَلِ الْكُفَّارِ الْمُهَادِنِينَ:
27- نَقْضُ الْهُدْنَةِ مِنْ قِبَلِ الْكُفَّارِ الْمُهَادِنِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَإِنْ كَانَ النَّقْضُ مِنْ جَمِيعِهِمُ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ جَمِيعًا وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمَانٌ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ.
وَإِنْ كَانَ النَّقْضُ مِنْ بَعْضِهِمْ فَإِمَّا أَنْ يُظْهِرَ الْبَعْضُ الْآخَرُ الرِّضَا بِهَذَا النَّقْضِ أَوْ يَسْكُتُوا عَنْهُ أَوْ يُظْهِرُوا الْكَرَاهَةَ لَهُ.
فَإِنْ أَظْهَرَ الْبَعْضُ الْآخَرُ الرِّضَا فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ جَمِيعًا، النَّاقِضُونَ وَالرَّاضُونَ بِهِ، وَيَصِيرُونَ جَمِيعُهُمْ حَرْبًا.
وَكَذَا إِنْ سَكَتَ الْبَعْضُ الْآخَرُ فَلَمْ يُظْهِرُوا رِضًا بِالنَّقْضِ وَلَا كَرَاهَةً لَهُ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ انْتَقَضَ عَهْدُ الْجَمِيعِ، وَيَكُونُ سُكُوتُهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وَكَذَلِكَ كَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي عَاقِرِ نَاقَةِ صَالِحٍ، بَاشَرَ عَقْرَهَا أُحَيْمِرُ وَهُوَ الْقَدَّادُ بْنُ سَالِفٍ، وَأَمْسَكَ قَوْمُهُ عَنْهُ، فَأَخَذَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ بِذَنْبِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا}.
وَقَدْ وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ بِقَتْلِهِ، فَجَعَلَهُ نَقْضًا مِنْهُمْ لِعَهْدِهِ فَغَزَاهُمْ وَأَجْلَاهُمْ.
وَوَادَعَ يَهُودَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَعَانَ بَعْضُهُمْ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْخَنْدَقِ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَعَانَهُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ: حُيَيُّ بْنُ أَخْطُبَ وَأَخُوهُ وَآخَرُ، فَنَقَضَ بِهِ عَهْدَهُمْ وَغَزَاهُمْ حَتَّى قَتَلَ رُمَاتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَهُمْ.
وَهَادَنَ قُرَيْشًا فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ بَنُو بَكْرٍ فِي حِلْفِ قُرَيْشٍ، وَخُزَاعَةُ فِي حِلْفِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَجَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَقْضًا لِعَهْدِ جَمِيعِهِمْ فَسَارَ إِلَيْهِمْ مُحَارِبًا، وَأَخْفَى عَنْهُمْ أَثَرَهُ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ وَفَتَحَ مَكَّةَ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُمْسِكَ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَقْدُ بَعْضِهِمْ لِلْهُدْنَةِ مُوجِبًا لِأَمَانِ جَمِيعِهِمْ وَإِنْ أَمْسَكُوا، كَانَ نَقْضُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا لِحَرْبِ جَمِيعِهِمْ إِذَا أَمْسَكُوا.
وَإِنْ كَانَ النَّقْضُ مِنْ بَعْضِهِمْ وَأَظْهَرَ الْبَعْضُ الْآخَرُ الْكَرَاهَةَ لِلنَّقْضِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ انْتَقَضَ الْعَهْدُ فِي حَقِّ النَّاقِضِينَ فَقَطْ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَقَضَ السُّوقَةُ الْعَهْدَ وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّئِيسُ وَالْأَشْرَافُ بِذَلِكَ، فَفِي انْتِقَاضِ الْعَهْدِ فِي حَقِّ السُّوقَةِ وَجْهَانِ: وَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِعَقْدِهِمْ فَكَذَا بِنَقْضِهِمْ.
وَلَوْ نَقَضَ الرَّئِيسُ وَامْتَنَعَ الْأَتْبَاعُ وَأَنْكَرُوا، فَفِي الِانْتِقَاضِ فِي حَقِّهِمْ قَوْلَانِ.وَجْهُ النَّقْضِ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْمَتْبُوعِ فَكَذَا التَّابِعُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ إِنْ أَنْكَرُوا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بِأَنِ اعْتَزَلُوهُ أَوْ بَعَثُوا إِلَى الْإِمَامِ بِأَنَّا مُقِيمُونَ عَلَى الْعَهْدِ لَمْ يَنْتَقِضْ.
وَإِذَا انْتَقَضَ فِي حَقِّ بَعْضِهِمْ، فَإِنْ تَمَيَّزُوا فَذَاكَ، وَإِلاَّ فَلَا يُبَيِّتُهُمُ الْإِمَامُ وَلَا يُغَارُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ بَعْدَ الْإِنْذَارِ، وَيَبْعَثُ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَنْقُضُوا لِيَتَمَيَّزُوا أَوْ يُسَلِّمُوهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا مَعَ الْقُدْرَةِ صَارُوا نَاقِضِينَ أَيْضًا.
وَمَنْ أُخِذَ مِنْهُمْ وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مِنَ النَّاقِضِينَ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ، وَإِلاَّ فَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ.
هُدْهُدٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَة.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
106-موسوعة الفقه الكويتية (ودي)
وَدْيٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْوَدْيُ وَالْوَدِيُّ لُغَةً يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: بِإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا: الْمَاءُ الثَّخِينُ الْأَبْيَضُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي إِثْرِ الْبَوْلِ أَوْ عِنْدَ حَمْلِ شَيْءٍ ثَقِيلٍ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ: صِغَارُ الْفَسِيلِ، الْوَاحِدَةُ وَدِيَّةٌ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلِ ثُمَّ يُقْطَعُ مِنْهُ فَيُغْرَسُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْمَنِيُّ:
2- الْمَنِيُّ فِي اللُّغَةِ- مُشَدَّدَ الْيَاءِ، وَالتَّخْفِيفُ لُغَةٌ- مَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَجَمْعُهُ مُنْيٌ وَمِنْهُ قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى}.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ الْمَاءُ الْأَبْيَضُ الْغَلِيظُ الدَّافِقُ الَّذِي يَخْرُجُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الشَّهْوَةِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَدْيِ وَالْمَنِيِّ: أَنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ بِشَهْوَةٍ، أَمَّا الْوَدْيُ فَلَا يَخْرُجُ عِنْدَ الشَّهْوَةِ، وَإِنَّمَا عَقِبَ الْبَوْلِ.
ب- الْمَذْيُ:
3- الْمَذْيُ وَالْمَذِيُّ وَالْمَذِيُّ فِي اللُّغَةِ: مَاءٌ رَقِيقٌ يَخْرُجُ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالتَّقْبِيلِ، وَيَضْرِبُ إِلَى الْبَيَاضِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَدْيِ وَالْمَذْيِ: أَنَّ الْمَذْيَ يَخْرُجُ عِنْدَ الشَّهْوَةِ، وَيَكُونُ مَاءً رَقِيقًا، أَمَّا الْوَدْيُ فَلَا يَخْرُجُ عِنْدَ الشَّهْوَةِ، وَإِنَّمَا يَعْقِبُ الْبَوْلَ، وَيَكُونُ ثَخِينًا.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَدْيِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلًا: مَا يَخْتَصُّ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِلْوَدْيِ وَهُوَ: الْمَاءُ الثَّخِينُ الْأَبْيَضُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي إِثْرِ الْبَوْلِ أَوْ عِنْدَ حَمْلِ شَيْءٍ ثَقِيلٍ:
أ- نَجَاسَةُ الْوَدْيِ:
4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ الْوَدْيِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ مُبَاحِ الْأَكْلِ، وَحُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ لِلِاسْتِقْذَارِ وَالِاسْتِحَالَةِ إِلَى فَسَادٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَدْيَ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ نَجِسٌ، وَأَمَّا مِنْ مُبَاحِ الْأَكْلِ فَطَاهِرٌ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ- أَوْ قَالَ مِنْ عُرَيْنَةَ، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ قَالَ مِنْ عُكْلٍ- قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَشَرِبُوا، حَتَّى إِذَا بَرِئُوا قَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- غَدْوَةً، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي إِثْرِهِمْ، فَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ حَتَّى جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهِمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، فَأُلْقُوا بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ».
ب- كَيْفِيَّةُ التَّطَهُّرِ مِنَ الْوَدْيِ:
5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ إِزَالَةِ الْوَدْيِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أَوِ الِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ مِنْهُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ لَا يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَأَشْبَهَ الْمَذْيَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَيْسَ فِيهِ وَفِي بَقِيَّةِ الْخَوَارِجِ إِلاَّ الْوُضُوءُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: الْمَنِيُّ وَالْوَدْيُ وَالْمَذْيُ، أَمَّا الْمَنِيُّ فَفِيهِ الْغُسْلُ.وَأَمَّا الْمَذْيُ وَالْوَدْيُ فَفِيهِمَا إِسْبَاغُ الطَّهُورِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ بِخُرُوجِ الْمَذْيِ وَالْوَدْيِ.
وَقَالَ صَاحِبُ كِفَايَةِ الطَّالِبِ: يَجِبُ مِنْهُ مَا يَجِبُ مِنَ الْبَوْلِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ لِمُعْتَادِهِ وَالِاسْتِبْرَاءُ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِفْرَاغُ مَا فِي الْمَخْرَجِ بِالسَّلْتِ وَالنَّتْرِ الْخَفِيفَيْنِ وَغَسْلُ مَحَلِّهِ أَوِ الِاسْتِجْمَارُ بِالْحَجَرِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ بَوْلٍ كَأَنْ يَخْرُجَ عِنْدَ حَمْلِ شَيْءٍ ثَقِيلٍ.
وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْحَجَرُ فَيَتَعَيَّنُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (اسْتِنْجَاء ف 6، 19، 22) ج- نَقْضُ الْوُضُوءِ بِالْوَدْيِ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْوَدْيِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قِيَاسًا عَلَى الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ، فَهَذَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِجْمَاعًا.
د- الْغَسْلُ مِنْ بَلَلٍ شَكَّ فِي كَوْنِهِ وَدْيًا أَوْ مَنِيًّا:
7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا غَسْلَ عَلَى مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ أَوْ فَخِذِهِ بَلَلًا وَشَكَّ أَنَّهُ مَنِيٌّ أَوْ وَدْيٌ أَوْ غَيْرُهُ وَلَمْ يَتَذَكَّرِ احْتِلَامًا.
قَالَ الدَّرْدِيرُ: لَوْ شَكَّ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ كَمَنِيٍّ وَمَذْيٍ وَوَدْيٍ، لَمْ يَجِبِ الْغُسْلُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، فَيَصِيرُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا وَهْمًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ إِنِ احْتَمَلَ كَوْنَ الْخَارِجِ مَنِيًّا أَوْ غَيْرَهُ كَوَدْيٍ أَوْ مَذْيٍ، تَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، فَإِنْ جَعَلَهُ مَنِيًّا اغْتَسَلَ، أَوْ غَيْرَهُ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ مَا أَصَابَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِمُقْتَضَى أَحَدِهِمَا بَرِئَ مِنْهُ يَقِينًا وَالْأَصْلُ بَرَاءَتُهُ مِنَ الْآخَرِ وَلَا مُعَارِضَ لَهُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (احْتِلَام ف9).
ثَانِيًا: مَا يَخْتَصُّ بِالْمَعْنَى الثَّانِي لِلْوَدْيِ وَهُوَ صِغَارُ الْفَسِيلِ:
الْمُسَاقَاةُ فِي الْوَدْيِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ مُسَاقَاةِ الْوَدْيِ وَصِغَارِ الشَّجَرِ فَتَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَتَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (مُسَاقَاة ف 13، 16).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
107-الأضداد لابن الأنباري (سمل بين القوم فلان)
182 - ومن الحروف الَّتي تشبه الأضداد قول العرب: سَمَل بين القوم فلان، إِذا أَصْلَحَ بينهم، وسَمَلَ فلان عَيْنَ فُلان بحديدةٍ، إِذا فَقَأَها، قال أَوس بن حَجَر في معنى الإِصلاح:«وقَوَارِصٍ بَيْنَ العَشِيرَةِ تُتَّقَى *** يَسَّرْتُها فَسَمَلْتُها بسِمالِ»
وقالَ أَبو ذُؤَيْب يَرْثي بنيه:
«فالعَيْنُ بَعْدَهُمُ كأَنَّ حِداقَهَا *** سُمِلَتْ بِشَوْكٍ فهيَ عُورٌ تَدْمَعُ»
أَراد بسُمِلَت فُقِئَت. وقالَ الشّماخ يذكر أَتانًا قد غارتْ عينها من شدَّة العطش:
«قَدْ وَكَّلَتْ بالهُدَى إِنْسانَ سَاهِمَةٍ *** كَأَنَّهُ من تَمامِ الظِّمءِ مَسْمُولُ»
وفي الحديث: إِنَّ الرَّهط القُرنيِّين لمَّا قدِموا المدينة فاجتوَوْها قال لهم رَسُول الله عليه السَّلام: لو خرجتم إِلى إِبِلنا فأَصبتم من أَلبانها وأَبوالها. ففعلوا فَصحُّوا، ثمَّ مالوا على الرِّعاءِ، فقتلوهم، واسْتاقُوا الإِبِل، وارتدُّوا عن الإِسلام، فبعث رَسُول الله عليه السَّلام في آثارهم، فأُتِيَ بهم، فقطَّع أَيديَهم وأَرجلهم، وسَمَل أَعْيُنَهم، وتُرِكوا بالحَرَّةِ حتَّى ماتوا. ومعنى اجتووْها لم يستعذبوا المقام بها. ويقال: قد اجتوَى فلان المدينة إِذا كره المقام بها؛ وإِن كانت غير ضارَّة له، وقد استوبلها إِذا لم توافقه، وإِن كانَ مُحِبًّا لها.
الأضداد-أبو بكر، محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فَروة بن قَطَن بن دعامة الأنباري-توفي: 328هـ/940م
108-الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي (وإذا كان الوصي خائنا جعل معه أمين)
1166 - قوله: (وإذا كان الوصيُّ خائنًا جُعِل معه أمينٌ)، الخائن: من ائْتُمِنَ فَخان.والمخَانَةُ: مصدرٌ كالخِيَانة، وتَخَوَّنَهم: طلب خِيَانَتهم. قال الله عز وجل: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} وفي حديث حاطبٍ: قد خان اللِّه ورَسولَه والمؤمنين".
و (الأمينُ)، ضِد الخَائِن: وهو مَن أدى الأمانة كما هي، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وفي الحديث: "أدِّ الأمانةَ إِلى مَن ائتمنك ولا تَخُن مَن خانك"، وفي الحديث: "المؤَذِّن مؤْتَمَن"، وقال - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران: "لأَبْعَثَنَ إِليكم رجُلًا أمينًا حقَّ
أمِينٍ، فبعثَ أبا عبيدة، وقال: هذا أمين هذه الأمة"، وفي الحديث: "الخازن الأمين الذي يُؤَدِّي مَا أمِر به كاملًا مُوفَّرًا طيبَة به نفسه أحدُ المتَصدِّقين".
الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي-جمال الدين أبو المحاسن الحنبلي الدمشقي الصالحي المعروف بـ «ابن المبرد»-توفي: 909هـ/1503م
109-الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي (5 تغلب)
5 - تَغْلِب:هو عَلمٌ منقولٌ من "تَغْلِبُ" مضارع "غَلَبَتْ"، لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل وهي تَغْلِب بن وائِل (*)، من العَرَب، من ربيعة بن نِزار وبَنُوه،
وقبيلتهم. انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، فدعاهم عُمَر رضي الله عنه إلى بَذْل الجزية فأبَوْا، وأنِفُوا، وقالُوا: نحن من العَرَب، خذْ مِنا كما يَأخذ بَعْضُكُم من بَعْضٍ باسم الصَدَقة. فقال عمر: لا آخذ من مُشْرِكٍ صَدَقة، فلحق بعضهم بالرُّوم، فقال النُّعمان بن زرْعة: في أمير المؤمنين: إنّ القوم لهم بأْسٌ وشِدَّةٌ، وهم عَرب يأْنَفُون من الجِزْية، فلا تعِنْ عليك عَدُوَّك بهم، وخذْ منهم الجزية باسم الصَدَقة، فبعَث عمر في طلبهم فردَّهم، وأضعف عليهم الصَدَقة".
الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي-جمال الدين أبو المحاسن الحنبلي الدمشقي الصالحي المعروف بـ «ابن المبرد»-توفي: 909هـ/1503م
110-الغريبين في القرآن والحديث (جوف)
(جوف)في الحديث: (أن لا تنسوا الجوف وما وعى) قال أبو عبيد: فيه قولان: يقال: أراد البطن والفرج، كما قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الأجوفان) وهما البطن والفرج، وقيل: أراد بالجوف: القلب: وما وعى وما حفظ من معرفة الله تبارك وتعالى.
وفي حديث ظبيان: (فتوقلت بنا القلاص من أعالي الجوف).
قال القتيبي: الجوف: أرض لمراد كان يسكنها رجل من بقايا قوم عاد.
يقال: حمار، فكفر وبغى فبعث الله عليه نارًا، فأحرقت كل ما كان فيها وهو قول الشاعر:
وواد كجوف العير قفر مضلة.
وقال غيره: الجوف: بطن الوادي، ومنه قول الشاعر:
ومن جوف ماءٍ عرمض الحول فوقه.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
111-الغريبين في القرآن والحديث (حلق)
(حلق)في حديث انس: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر والشمس بيضاء محلقة) قال شمر: لا أرى التحليق إلا الارتفاع يقال: حلق النجم إذا ارتفع، وحلق الطائر في كبد السماء.
[169 ب] وفي حديث آخر: (فحلق ببصره إلى السماء) أي: رفع بصره إلى السماء كما يحلق الطائر.
وفي الحديث: (دب إليكم داء الأمم [قبلكم] البغضاء [وهي] الحالقة) قال خالد بن حنبة: هي قطيعة الرحم والتظالم والقوم يحلق بعضهم بعضًا: أي: يقتل.
وفي الحديث: (وإن لنا إغفال الأرض والحلقة) أراد بالحلقة: السلاح ويقال: هي الدروع خاصة.
وفي الحديث: (فهمت أن اطرح نفسي من حالق) أي: من جبل عال.
وفي الحديث: (أنه قال: لصفية عقري حلقي (قال أبو عبيد: معناه عقرها الله وحلقها أي: أصابها بوجع في حلقها كما يقال: رأسها وقال الأصمعي: يقال: للأمر يعجب منه عقري وحلقي، وأنشد:
«إلا قومي أولوا عقري [و] حلقي *** لما لاقت سلامان ابن غنم»
معناه: قومي أولوا نساء قد عقرن وجوههن يخدشنها ويحلقن شعورهن متسلبات على أزواجهن، وقال الليث: يقال امرأة عقري حلقي أي مشؤمة: مؤذية.
وفي الحديث: (ليس منا من حلق أو صلق (أي: ليس من أهل سنتنا من حلق شعره عند المصائب إذا حلت به، وصلق: أي: رفع صوته.
وفي حديث أبي هريرة: (لما نزل تحريم الخمر كنا نعمد إلى الحلقانة وهي التذنوبة: فنقطع ما ذنب منها) قال: أبو عبيد: يقال: للبسر إذا بدأ الإرطاب فيه من قبل ذنبه: التذنوبة، فإذا بلغ الغرطاب: نصفه فهو مجزع فإذا بلغ ثلثيه، فهو حلقان ومحلقن. [170 أ]
وفي الحديث: (فبعث عائشة إليهم بقميص رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتحب الناس قال: فحلق به أبو بكر إلي وقال: تزود منه وأطوه (أي: رمى به.
وفي الحديث (نهى عن الحلق قبل الصلاة) يعني: صلاة الجمعة، والحلق: جمع حلقة. مثل قصعة، وقصع، وبدرة وبدر.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
112-الغريبين في القرآن والحديث (خجج)
(خجج)في حديث على رضي الله عنه في ذكر بناء الكعبة: (فبعث الله السكينة وهي ريح خجوج فطوفت بالبيت) قال شمر: ريح خجوج أي تخج في كل شق: أي تشق، وقال ابن الأعرابي: ريح خجوجاة طويلة دائمة.
وفي الحديث: (أنه كان في سفينة أصابتها ريح فخجتها) أي صرفتها عن جهتها.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
113-المغرب في ترتيب المعرب (كدر-أكيدر)
(كدر) (أُكَيْدِرُ) بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى لَفْظِ تَصْغِيرِ أَكْدَرَ صَاحِبُ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، كَاتَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ وَأَهْدَى إلَيْهِ حُلَّةً سِيَرَاءَ فَبَعَثَ بِهَا إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (وَالْأَكْدَرِيَّةُ) مِنْ مَسَائِلِ الْجَدِّ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَكَدَّرَ فِيهَا مَذْهَبُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقِيلَ لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَلْقَاهَا عَلَى فَقِيهٍ اسْمُهُ أَوْ لَقَبُهُ أَكْدَرُ وَقِيلَ بِاسْمِ الْمَيِّتِ الْمُنْكَدِرُ فِي (هـ د) .
المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م
114-المغرب في ترتيب المعرب (ودي-الدية)
(ودي) (الدِّيَةُ) مَصْدَرُ وَدَى الْقَاتِلُ الْمَقْتُولَ إذَا أَعْطَى وَلِيَّهُ الْمَالَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ ثُمَّ قِيلَ لِذَلِكَ الْمَالِ (الدِّيَةُ) تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ وَلِذَا جُمِعَتْ وَهِيَ مِثْلُ عِدَةٍ وَزِنَةٍ فِي حَذْفِ الْفَاءِ (وَفِي حَدِيثِ) قَتْلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَبَعَثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فَوَدَى) إلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ أُصِيبَ لَهُمْ حَتَّى وَدَى إلَيْهِمْ مِيلَغَةَ الْكَلْبِ وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِإِلَى عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى أَدَّى وَاسْتُعْمِلَ فِي الْمِيلَغَةِ وَهِيَ إنَاءُ الْوُلُوغِ فِيهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْجَرْي وَالْخُرُوجِ وَمِنْهُ (الْوَادِي) لِأَنَّ الْمَاءَ يَدِي فِيهِ أَيْ يَجْرِي فِيهِ وَيَسِيلُ وَمِنْهُ (وَادِي الْقُرَى) وَهُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مَنْ الْمَدِينَةِ فَتَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَنْوَةً وَعَامَلَ مَنْ فِيهِ مِنْ الْيَهُودِ مُعَامَلَةَ أَهْلِ خَيْبَرَ ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَسَّمَ الْوَادِيَ بَيْنَ الْإِمَارَةِ وَبَيْنَ بَنِي عُذْرَةَ أَيْ مَنْ إلَيْهِ الْإِمَارَةُ وَنِيَابَةُ الْمُسْلِمِينَ (وَقَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ) فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ إذَنْ تَمُوتُ فُصْلَانُهَا حَتَّى تَبْلُغَ (وَادِيَّ) بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَمِنْهُ (الْوَدْيُ) وَهُوَ الْمَاءُ الرَّقِيقُ يُخْرَجُ بَعْدَ الْبَوْلِ (وَقَدْ وَدَى الرَّجُلُ وَأَوْدَى) إذَا خَرَجَ مِنْهُ وَإِنَّمَا طَوَّلْتُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ (الدِّيَةَ) لَيْسَتْ بِمُشْتَقَّةٍ مِنْ الْأَدَاءِ وَتَقُولُ فِي الْأَمْرِ مِنْ يَدِي دِهْ دِيَا دُوا وَفِي الْحَدِيثِ [قُومُوا فَدُوهُ] [وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعِمْرَانَ أَنْ قُمْ فَدِهْ] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - [لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَا عَلِيُّ اُخْرُجْ إلَى هَؤُلَاءِ فَوَدِّ دِمَاءَهُمْ] صَوَابُهُ فَدِ يَرْوِيهِ فِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ حَكِيمُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي فَتْحِ مَكَّةَ (وَأَمَّا الْوَدِيُّ) وَهُوَ الْفَسِيلُ فَلِأَنَّهُ غُصْنٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّخْلِ ثُمَّ يُقْطَعُ مِنْهُ فَيُغْرَسُ (وَقَوْلُهُمْ أَوْدَى) إذَا هَلَكَ مَأْخُوذٌ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ (سَالَ بِهِمْ الْوَادِي) إذَا هَلَكُوا وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَوْدَى) رَبْعُ الْمُغِيرَةِ.
المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م
115-المعجم الغني (بَحَثَ)
بَحَثَ- [بحث]، (فعل: ثلاثي. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، بَحثْتُ، أبْحَثُ، اِبْحَثْ، المصدر: بَحْثٌ.1- "بَحَثَ الأرْضَ": حَفَرَها وَطَلَبَ شَيْئًا فِيهَا. "بَحثَ فِي الأرْضِ" {فَبَعثَ اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ في الأرْضِ} [المائدة: 31]:
2- "بَحثَ عَنْ مَكانِ اخْتِفاءِ صَدِيقِهِ": فَتَّشَ عَنْهُ. "بَحثَ عَنْ أدَواتِهِ المدْرَسِيَّةِ فَلَمْ يَجِدْها".
3- "اِبْحَثْ عَنْ كَلِمَةِ "قانون" فِي الْمَعْجَمِ": فَتِّشَ عَنْها، اِسْتَوْضِحْ مَعْناها.
4- "بَحَثَ مَوْضُوعَهُ بَحْثًا دقِيقًا": رَسَمَهُ وَعَرَفَ رَقائِقَهُ وَحقَائِقَهُ. "هُمْ فِي حَرَكةٍ وَجِهادٍ دائِمَيْنِ، يَبْحَثُونَ وَيُنَقِّبُونَ". (ميخائيل نعيمة) "يَبْحَثُ في عِلْمٍ جَديدٍ".
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
116-الأفعال المتداولة (بَحَثَ يَبْحَثُ بَحْثًا [فيه])
بَحَثَ يَبْحَثُ بَحْثًا [فيه]: {فَبَعَثَ اللهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} (يحفر طالبا مراده)الأفعال المتداولة-محمد الحيدري-صدر: 1423هـ/2002م
117-تعريفات الجرجاني (الغرابية)
الغرابية: قوم قالوا: محمد صلى الله عليه وسلم بعلي، رضي الله عنه، أشبه من الغراب بالغراب، والذباب بالذباب، فبعث الله جبرائيل عليه السلام إلى علي فغلط جبرائيل، فيلعنون صاحب الريش، يعنون به جبرائيل.التعريفات-علي بن محمد الجرجاني-توفي: 816هـ/1413م
118-تاج العروس (ذهب)
[ذهب]: ذَهَبَ كَمَنَعَ يَذْهَبُ ذَهَابًا بالفَتْحِ ويُكْسَرُ مَصْدَرٌ سَمَاعِيٌّ وذُهُوبًا بالضم، قِيَاسِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ ومَذْهَبًا، فهو ذَاهِبٌ وذَهُوبٌ كصَبُورٍ: سَارَ أَو: مَرَّ، وذَهَبَ بِهِ: أَزَالَهُ، كأَذْهَبَهُ غَيْرُهُ وأَذْهَبَه بِهِ قال أَبو إِسحاق، وهو قَلِيلٌ، فأَمَّا قِرَاءَةُ بعضِهِم يكادُ سَنَا بَرْقِهِ يُذْهِبُ بالأَبْصَارِ فنَادِرٌ، ومن المجاز: ذَهَبَ عَلَيَّ كَذَا: نَسِيتُه، وذَهَبَ في الأَرْضِ كناية عن الإِبْداءِ، كذا في الأَساس، قال شيخنا: ذَهَبَتْ طائفةٌ منهم السُّهَيْلِيُّ إِلى أَنَّ التَّعْدِيَةَ بالبَاءِ تُلْزِمُ المُصَاحَبَةَ، وبغَيْرِهَا لا تُلْزِم، فإِذا قلتَ: ذَهَبَ به فمَعْنَاهُ: صَاحَبَه في الذَّهَابِ، وإِذَا قلتَ أَذْهَبَه أَو ذَهَّبَه تَذْهِيبًا فمعناهُ: صَيَّرَه ذاهبًا وحْدَه ولم يُصَاحِبْهُ، وبَقِي على ذلك أَسْرَاهُ وأَسْرَى بِهِ وتَعَقَّبُوهُ بنحو {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} فإِنه لا يُمْكِنُ فيه المُصَاحَبَةُ، لاستِحَالَتِهَا، وقَالَ بعضُ أَئمة اللغةِ والصَّرْفِ: إِنْ عُدِّيَ الذَّهَابُ بالبَاءِ فمَعْنَاهُ الإِذْهَابُ، أَو بعَلَى فمعناه النِّسْيَانُ، أَو بعَنْ فالتَّرْكُ، أَو بإِلَى فالتَّوَجُّه، وقد أَورد أَبو العباس ثعلبٌ: ذَهَبَ وأَذْهَبَ في الفصيح، وصَحَّحَ التَّفْرِقَةَ، انتهى، قلتُ: ويقولونَ: ذَهَب الشَّأْمَ، فَعَدَّوْه بغير حَرْفٍ، وإِن كان الشأْمُ ظَرْفًا مَخْصُوصًا، شَبَّهُوه بالمَكَانِ المُبْهَمِ.ومن المجاز المَذْهَبُ: المُتَوَضَّأُ لأَنَّه يُذْهَبُ إِليه، وفي الحديث أَن النبيّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إِذا أَرَادَ الغَائِطَ أَبْعَدَ في المَذْهَبِ» وهو مَفْعَلٌ مِن الذَّهَابِ، وعن الكسائيّ: يقالُ لِمَوْضِعِ الغَائِطِ: الخَلَاءُ والمَذْهَبُ والمِرْفَقُ، والمِرْحَاضُ، وهو لُغَةُ الحجازيّين. ومن المجاز: المَذْهَبُ: المُعْتَقَد الذي يُذهَب إِليْهِ وذَهَب فلانٌ لِذَهَبِه أَي لِمَذْهَبِه الذي يَذْهَب فيه. والمَذْهَب: الطَّرِيقَةُ يقال: ذَهَبَ فلانٌ مَذْهَبًا حَسَنًا؛ أَي طريقةً حَسَنَةً، والمَذْهَبُ: الأَصْلُ حكى اللحيانيُّ عن الكسائِيّ: مَا يُدْرَى لَهُ أَيْنَ مَذْهَبٌ، وَلَا يُدْرَى لَهُ مذهبه أَي لا يُدْرَى أَيْنَ أَصْلُه.
والمُذْهَبُ بِضَمِّ المِيمِ اسْمُ الكَعْبَةِ زِيدَتْ شَرَفًا.
والمُذْهَبُ مِنَ الخَيْلِ: مَا عَلَتْ حُمْرَتَهُ صُفْرَةٌ، والأُنْثَى: مُذْهَبَةٌ، وإِنّمَا خَصَّ الأُنْثَى بالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَصْفَى لَوْنًا وأَرَقُّ بَشَرَةً، ويقال: كُمَيْتٌ مُذْهَبٌ: لِلَّذِي تَعْلُو حُمْرَتَهُ صُفْرَةٌ، فإِذا اشْتَدَّت حُمْرَتُهُ ولم تَعْلُهُ صُفْرَةٌ فهو المُدَمَّى، والأُنْثَى: مُذْهَبَةٌ، والمُذْهَبُ: فَرَسُ أَبْرَهَةَ بنِ عُمَيْرٍ بنِ كُلْثُومٍ وأَيضًا فَرَسُ غَنِيِّ بنِ أَعْصُرَ أَبِي قَبِيلَةٍ، والمُذْهَبُ: اسْمُ شَيْطَانٍ يقال: هو من وَلَدِ إِبْلَيسَ، يَتَصَوَّرُ لِلْقُرَّاءِ فَيَفْتِنُهُمْ عِنْدَ الوُضُوءِ وغيرِه، قاله الليثُ، وقال ابن دُرَيْد: لا أَحْسَبُه عَرَبِيًّا، وفي الصحاح، وقولُهُمْ: بِه مُذْهَبٌ يَعْنُونَ الوَسْوَسَةَ في المَاءِ وكُثْرِ اسْتِعْمَالِهِ في الوُضُوءِ، انتهى، قال الأَزهريّ: وأَهْلُ بَغْدَادَ يقولون لِلْمُوَسْوِسِ من النَّاسِ: المُذْهِبُ، وعَوَامُّهُمْ يقولون: المُذْهَبُ بفَتحِ الهاءِ وكَسْرُ هَائِهِ الصَّوَابُ قال شيخُنا: عَرَّفَ الجُزْأَيْنِ لإِفَادَةِ الحَصْرِ، يَعْنِي أَنَّ الصَّوَابَ فيه هو الكَسْرُ لا غيرُ وَوَهِمَ الجَوْهَرِيُّ وأَنْتَ خَبِيرٌ بأَنَّ عبارةَ الجوهريّ ليس فيها تَقْيِيدُ فَتْحٍ أَو كَسْرٍ، بل هي مُحْتَمِلَةٌ لهما، اللهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَبْطَ قَلَمٍ، فقد جَزَمَ القُرْطُبِيُّ وطَوَائفُ مِن المُحَدِّثِينَ، ومِمَّنْ أَلَّفَ في الرُّوحَانِيِّينَ أَنه بالفَتْحِ، وأَنْتَ خَبِيرٌ بأَنَّ هذا وأَمْثَالَ ذلك لا يكونُ وَهَمًا، أَشَارَ له شيخنا.
وأَبُو عَلِيٍّ الحَسَنُ بنُ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدِ بنِ المُذْهِبِ: مُحَدِّثٌ، حَدَّثَ عن أَبِي بَكْرٍ القَطِيعيّ وغيرِهِ.
والذَّهَبُ معروفٌ، قاله الجوهريّ وابنُ فارسٍ وابن سيده والزُّبَيْدِيّ والفَيُّوميّ، ويقال: وهو التِّبْرُ قاله غيرُ وَاحِدٍ من أَئمة اللغة، فَصَرِيحُهُ: تَرَادُفُهُمَا، والذي يَظْهَرُ أَن الذهَب: أَعَمُ مِن التِّبْرِ، فإِنَّ التِّبْرَ خَصُّوهُ بما في المَعْدِنِ، أَو بالذي لم يُضْرَبْ ولم يُصْنَعْ، ويُؤَنَّثُ فيقالُ: هي الذَّهَبُ الحَمْرَاءُ، ويقال: إِنَّ التأْنيثَ لُغَةُ أَهْلِ الحِجَازِ، ويقولونُ نَزَلَتْ بِلُغَتِهِمِ. {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ} والضَّمِيرُ للذَّهَبِ فَقَطْ، خَصَّهَا بذلك لِعِزَّتِهَا، وسَائِرُ العَرَبِ يقولونَ: هُوَ الذَّهَبُ، قال الأَزهريّ: الذّهَبُ مُذَكَّرٌ عند العَرَبِ، ولا يجوزُ تَأْنِيثُه، إِلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ جَمْعًا لِذَهَبَةٍ، وقيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلى الفِضَّةِ، لكثرتها، وقيل إِلى الكُنُوزِ، وجائزٌ أَن يكونَ محمولًا على الأَمْوَالِ، كما هُو مُصَرَّح في التفاسير وحَوَاشِيهَا، وقال القُرطُبيّ: الذَّهَبُ مُؤَنَّثٌ، تقولُ العَرَبُ: الذَّهَبُ الحَمْرَاءُ، وقد يُذَكَّرُ، والتأْنيثُ أَشهَرُ. واحدتُهُ بهاءٍ، وفي لسان العرب الذَّهَبُ: التِّبْرُ، والقِطْعَةُ منه ذَهَبَةٌ، وعلى هذا يذكَّرُ ويُؤَنَّثُ على ما ذُكِر في الجَمْعِ الذي لا يفارِقُه واحِدُه إِلا بالهَاءِ وفي حديثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ الله وجهه «فَبَعَثَ مِنَ اليَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ» قال ابن الأَثِير: وهي تصغيرُ ذَهَبٍ وأَدْخَلَ فيهَا الهَاءَ لأَن الذَّهَبَ يُؤَنَّثُ، والمُؤَنَّثُ الثُّلَاثِيُّ إِذَا صُغِّرَ أُلحقَ في تَصْغِيرِه الهَاءُ، نحوُ قُوَيسَةٍ وشُمَيْسَةٍ، وقيلَ: هو تَصْغِيرُ ذَهَبَةٍ، على نِيَّةِ القِطْعَةِ مِنْهَا، فصَغَّرَهَا عَلَى لَفْظِهَا، الجمع: أَذْهَابُ، كسَبَبٍ وأَسْبَابٍ، وذُهُوبٌ بالضَّمِّ، زادَهُ الجوهَرِيّ وذُهْبَانٌ بالضَّمِّ كَحَمَلٍ وحُمْلَانٍ، وقد يُجْمَعُ بالكَسْرِ أَيضًا، وفي حديث عليٍّ كَرّمَ الله وجهه «لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ لَفَعَلَ» هو جمع ذَهَبٍ كَبَرَقٍ وبِرْقَانٍ، كِلَاهُمَا عن النِّهَايَة لابن الأَثير، والضَّمُّ وحْدَه عن المصباح للفَيوميّ، وأَذْهَبَهُ: طَلَاهُ بِهِ أَي الذَّهَب كَذَهَّبَهُ مُشَدَّدًا، والإِذْهَابُ والتَّذْهِيبُ واحِدٌ، وهو التَّمْوِيهُ بالذَّهَبِ فَهُوَ مُذْهَبُ وكُلُّ مُمَوَّهٍ بالذَّهَبِ فَقَدْ أُذْهِبَ، والفاعل مُذْهِبٌ، قال لبيد:
أَوْ مُذْهَبٌ جَدَدٌ على أَلْوَاحِهِ *** النَّاطِقُ المَبْرُوزُ والمَخْتُومُ
وشيءٌ ذَهِيبٌ: مُذْهَبٌ، قال أَبُو منصور: أُرَاهُ عَلَى تَوَهُّمِ حَذْفِ الزِّيَادَةِ قال حُمَيْدُ بن ثَوْرٍ:
مُوَشَّحَة الأَقْرَابِ أَمَّا سَرَاتُهَا *** فَمُلْسٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَذَهِيبُ
والمَذَاهِبُ: سُيُورٌ تُمَوَّهُ بالذَّهَبِ، وقال ابن السكيت في قول قَيْس بنِ الخَطِيمِ:
أَتَعْرِفُ رَسْمًا كاطِّرَادِ المَذَاهِبِ
المَذَاهِبُ: جُلُودٌ كانَتْ تُذْهَبُ، وَاحِدُهَا مُذْهَبٌ، تُجْعَلُ فيه خُطُوطٌ مُذْهَبَةٌ فَتَرَى بَعْضَها في إِثْرِ بَعْضٍ، فكَأَنَّهَا مُتَتَابِعَةٌ، ومنه قول الهُذَلِيّ:
يَنْزِعْنَ جِلْدَ المَرْءِ نَزْ *** عَ القَيْنِ أَخْلَاقَ المَذَاهِبْ
يقول: الضِّبَاعُ يَنْزِعْنَ جلدَ القَتِيلِ كما يَنْزِعُ القَيْنُ جِلْدَ السُّيُوفِ، قال: ويقال: المَذَاهِبُ: البُرُودُ المُوَشَّاةُ، يقال: بُرْدٌ مُذْهَبٌ، ويقال: ذَهَّبْتُ الشيءَ فهو مُذَهَّبٌ إِذا طَلَيْتَه بالذَّهَبِ. وفي حديث جرير [وذِكْرِ الصَّدَقَةِ] «حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم [يتهلَّل] كَأَنَّهُ مُذْهَبَة «قال ابن الأَثير: كذا جاءَ في سنن النَّسائيّ، وبعض طُرُقِ مُسلمِ، هو من الشيءِ المُذْهَبِ أَي المُمَوِّه بالذَّهَبِ قال: والرواية بالدال المهملة والنون.
والذَّهَبِيُّونَ مِنَ المُحَدِّثِينَ جَمَاعَةٌ منهم: أَبُو الحُسَيْنِ عُثْمَانُ بنُ مُحَمَّدٍ، وأَبُو الوَلِيدِ سُلَيْمَانُ بنُ خَلَفٍ البَاجِيّ، وأَبُو طَاهِرٍ محمدُ بنُ عبدِ الرحمن المُخْلص الأَطْرُوشُ، وأَبُو الفَتْحِ عُمَرُ بنُ يعقوبَ بنِ عُثْمَانَ الإِرْبِليّ، وشاهِنْشَاه بنُ عبدِ الرزاق بنِ أَحمدَ العامِرِيّ.
ومن المتأَخرينَ: حافظُ الشأْمِ محمدُ بن عثمانَ قايماز شيخ المصنِّف، وغيرهم، رضي الله عنهم أَجمعين.
وَتَلُّ الذَّهَبِ مِنْ إِقْليمِ بُلْبَيْسَ، وخَلِيجُ الذَّهَبِ في إِقْلِيمِ الأُشْمْونَيْنِ، وجَزِيرَةُ الذَّهَبِ: اثْنَتَانِ: إِحْدَاهُمَا في المزاحمتين.
وَذَهِبَ الرَّجُلُ كَفرِحَ يَذْهَبُ ذهَبًا فهو ذهِبٌ وحكي ابنُ الأَعرابيّ ذِهِبَ بِكَسْرَتَيْنِ قال أَبو منصور: وهذا عِنْدَنَا مُطَّرِدٌ، إِذا كان ثانِيهِ حَرْفًا من حروفِ الحَلْقِ وكانَ الفِعْلُ مكسورَ الثانِي وذلك في لُغَةِ بَنِي تميمٍ، وسَمِعَه ابنُ الأَعْرَابِيّ فَظَنَّه غيرَ مُطَّرِدٍ في لُغَتِهِم فلذلكَ حكاهُ: هَجَمَ فِي المَعْدِنِ على ذَهَبٍ كَثِيرٍ فَرَآهُ فَزَالَ عَقْلُهُ وَبَرِقَ بَصَرُهُ من [كثرة] عِظَمِهِ في عَيْنِه، فلم تَطْرِفْ، مُشْتَقٌّ من الذَّهَبِ قال الراجز:
ذَهِبَ لَمَّا أَنْ رَآهَا تُزْمُرَهْ *** وقَالَ يَا قَوْمِ رَأَيْتُ مُنْكَرَهْ
شَذْرَةَ وَادٍ ورَأَيْتُ الزُّهَرَهْ
والذِّهْبَةُ بالكسر: المَطْرَةُ واحدةُ الذِّهَابِ، وحكى أَبو عُبيد عن أَصحابه الذِّهَابُ: الأَمْطَارُ الضَّعِيفَةُ، أَو الجَوْدُ، الجمع: ذِهَابٌ قال الشاعر:
تَوَضَّحْنَ في قَرْنِ الغَزَالَةِ بَعْد ما *** تَرَشَّفْنَ دِرَّاتِ الذِّهَاب الرَّكَائِكِ
وأَنشد الجوهريّ للبَعِيثِ:
وَذِي أُشُرٍ كَالأُقْحُوَانِ تَشُوفهُ *** ذِهَابُ الصَّبَا والمُعْصِرَاتُ الدَّوَالِحُ
وأَنشد ابنُ فارس في المجمل قولَ ذي الرّمة يصف رَوْضَةً.
حَوَّاءُ قَرْحَاءُ أَشْرَاطِيَّةٌ وكفَتْ *** فِيهَا الذِّهَابُ وحَفَّتْهَا البَرَاعِيمُ
وفي حديث عليٍّ في الاسْتِسْقَاءِ «لَا قَزَعٌ رَبَابُهَا: وَلَا شِفَّانٌ ذِهَابُهَا» الذِّهَابُ: الأَمْطَارُ اللَّيِّنَةُ، وفي الكلامِ مضافٌ محذوفٌ، تقديرُه: ولَا ذَاتُ شِفَّانٍ ذِهَابُهَا.
والذَّهَبُ مُحَرَّكَةً: مُحُّ بالمهملة البَيْضِ ومِكْبَالٌ معروفٌ لأَهْلِ اليمَنِ، ورأَيتُ في هامِشِ نسخة لسان العرب ما صُورَتُه: في نسخة التهذيب الذَّهْب بسُكُونِ الهَاءِ الجمع: ذِهَابٌ وأَذْهَابٌ، وجج أَي جَمْعُ الجَمْعِ أَذَاهِبُ. في حديث عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي أَذَاهِبَ مِنْ بُرٍّ وأَذَاهِبَ مِنْ شَعِيرٍ قال: يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَيُزَكَّى.
وذَهُوبُ كصَبُورٍ: امْرَأَةٌ نقله الصاغانيّ.
وذُهَابٌ كغُرَابٍ: موضع في دِيَارِ بَلْحَارِثِ بنِ كَعْبٍ.
وذَهْبَانُ كسَحْبَانَ: موضع باليَمَنِ بالسَّاحِلِ، وأَبُو بَطْنٍ.
وذَهْبَابَة: قَرْيَةٌ من قُرى حَرَّانَ، بها تُوُفِّيَ أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بنُ عُثْمَانَ بنِ الحَدِيدِ السُّلَمِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، تَرْجَمَهُ المُنْذِرِيُّ في التَّكْملة وكشَدَّادٍ: لَقَبُ عَمْرِو بنِ جَنْدَلِ بنِ مَسْلَمَةَ، كما سَمَّاهُ ابن الكَلْبِيِّ في جَمْهَرَةِ النَّسَبِ، أَو هو لَقَبُ مالِكِ بنِ جنْدَلٍ الشَّاعِر كما سَمَّاهُ ابنُ الكَلْبِيِّ أَيضًا في كتاب «أَلْقَاب الشُّعَرَاء» وقال لُقِّبَ بقوله:
وَمَا سَيْرُهُنَّ إِذْ عَلَوْنَ قُرَاقِرًا *** بِذِي يَمَمٍ وَلَا الذّهَاب ذهَابُ
والذِّهَابُ كَكِتَابٍ: موضعٌ، وقيلَ: هو جَبَلٌ بِعَيْنِهِ قال أَبُو دُوَادٍ:
لِمَنْ طَلَلٌ كعُنْوانِ الكِتَابِ *** بِبَطْنِ لُوَاقَ أَوْ بَطْنِ الذُّهَابِ
ويُضَمُّ فيه أَيضًا، ويُرْوَى أَيضًا كسَحَابٍ وهو بالفَتْحِ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ العَرَبِ، واسْمُ قَبِيلَةٍ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
119-تاج العروس (كثب)
[كثب]: الكَثْبُ: الجَمْعُ من قُرْبٍ، وفي حديثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «كُنْتُ في الصُّفَّةِ، فبَعَثَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم، بتَمْرِ عَجْوَةٍ فكُثِبَ بَيْنَنَا، وقِيلَ: كُلُوهُ، ولا تُوَزِّعُوهُ» أَي: تُركَ بينَ أَيْدينا مجموعًا. ومنهالحديثُ: «جِئتُ عَلِيًّا، وبَيْنَ يَدَيْه قَرَنْفُلٌ مكثُوبٌ»، أَي: مُجْمُوع والكَثْبُ: الاجْتِمَاعُ، يُقالُ: كَثَبَ القَوْمُ، إِذا اجتمَعُوا، فهم كاثِبُونَ: مجتمِعونَ. والكَثْبُ: الصَّبُّ، يُقال: كَثَبَ الشَّيْءَ كَثْبًا: إِذا جَمَعَه من قُرْبٍ، وصَبَّهُ، قالَ الشّاعرُ:على السَّيِّدِ الصَّعْبِ لَوْ أَنَّه *** يَقُومُ على ذِرْوَةِ الصّاقِبِ
لأَصْبَحَ رَتْمًا دُقاقُ الحَصَى *** مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الكاثِبِ
الكاثِبُ: الجَامِعُ لِما نَدَر من الحَصَى، والنَّبِيّ: ما نَبَا منه إِذا دُقَّ، وسيأْتي الكلام عليه. والكَثْبُ: الدُّخُولُ، يُقَال: كَثَبُوا لَكُمْ أَي: دَخَلُوا بينَكُمْ وفيكُمْ، وهو من القُرْبِ يَكْثُبُ بالضَّمّ، ويَكْثِبُ بالكسر، في كُلِّ ما ذُكر.
والكَثْبُ: وادٍ لِطَيِّئٍ القبيلةِ المشهورة.
والكَثَبُ، بالتَّحْرِيكِ: القُرْبُ وهُوَ كَثَبَك: أَي، قُرْبَكَ.
قال سِيبَوَيْه: لا يُستعْمَلُ إِلّا ظَرْفًا. ويُقال: هو يَرْمِي مِنْ كَثَبٍ، أَي: من قُرْب، وتَمَكُّنٍ. أَنشدَ ابْنُ إِسحاقَ:
فهذانِ يَذُودانِ *** وذا مِنْ كَثَبٍ يَرْمِي
والكَثَبُ: موضع بدِيارِ بني طَيِّئٍ. وهو غيرُ الكَثْبِ، بفتحٍ فسكونٍ، المتقدم ذِكْرُهُ وهكذا بالتَّحْرِيك، ضَبَطَهُ صاحبُ المُعْجَمِ والصّاغانيُّ.
وكَثَبَ عَلَيْهِ: إِذَا قَارَبَهُ، حَمَل وكَرَّ.
وكَثَبَ كِنَانَتَهُ ـ بالكسر: الجَعْبَةَ ـ: نَكَثَها هكَذا في النُّسْخَة والصَّوابُ: نَكَبَهَا؛ أَي نَثَرَها، كما سيأْتي.
وعن أَبي حاتِمٍ: احْتَلَبُوا كُثَبًا، أَي: من كُلِّ شاةٍ شيئًا قليلًا.
وقد كَثَبَ لَبَنُها: إِذا قَلَّ، إِمّا عند غَزارَةٍ، وإِمَّا عِنْدَ قِلَّةٍ.
والكَثِيبُ: هو التَّلُّ المُسْتَطِيلُ المُحْدَوْدِبُ من الرَّمْل.
وقيل: الكَثِيبُ من الرَّمْل: القِطْعَةُ تَنقادُ مُحْدَوْدِبَةً. وقيل: هو ما اجتمع واحْدَوْدَبَ الجمع: أَكْثِبَةٌ، وكُثُبٌ بضمَّتَيْن في الثَّاني، وكُثْبَانٌ كعُثْمان، وفي التَّنْزيل العزيز: {وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}. قال الفَراءُ: الكَثِيبُ: الرَّمْل، والمَهِيل: الَّذي يُحَرَّكُ أَسفَلُه فيَنْهالُ عليك من أَعْلَاهُ. وفي الحديثِ: «ثَلَاثَةٌ على كُثُب المِسْكِ»، وفي روايةٍ: على كُثْبَانِ المِسْك. والكَثِيبُ: موضع بساحِلِ بَحْرِ اليَمَنِ، فيه مَسْجِدٌ مُتَبَّركٌ به.
وقَرْيَتانِ بالبَحْرَيْنِ وفي التَّكْمِلة: قَرْيَةٌ بالبَحْرَيْنِ.
قلتُ: والكَثِيبُ أَيضًا جَبَلٌ نَجْدِيّ، وقيل: ماءٌ للضِّباب في قِبْلَةِ طَخْفَةَ قُرْبَ ضَرِيَّةَ. والكَثِيبُ الأَحمَرُ: حيثُ دُفِنَ سيِّدُنا مُوسَى الكَلِيمُ، عليه وعلى نبيّنا أَتَمُّ الصَّلاةِ والتَّسليم.
والكثْبَةُ، بالضَّمِّ: القَليلُ من المَاءِ واللَّبَنِ، أَو هي مِثْلُ الجُرْعَةِ تَبْقَى في الإِناءِ. وقيل: قَدْرُ حَلْبَةٍ، أَو مِلْءُ القَدَحِ من اللّبَن، وهذا قول أَبِي زيد، ومنه قولُ العرب في بعضِ ما يَقَعُ على أَلْسنةِ البَهائمِ، قالتِ الضّائِنَةُ: أُوَلَّدُ رُخَالًا، وأُجَرُّ جُفَالًا، وأُحْلَبُ كُثَبًا ثِقَالًا، ولَمْ تَرَ مِثْلي مالًا. أَو مِلْءُ القَدَحِ مِنْهما أَي: الماءِ واللَّبَنِ. فِي حديثِ ماعَزِ بْنِ مالِكٍ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِرَجْمِهِ، ثمّ قَال: «يَعْمِدُ أَحَدُكُم إِلى المَرْأَةِ المُغِيبَةِ فَيَخْدَعُهَا بالكُثْبَة، لا أُوتَى بأَحَدِ منهم فَعَل ذلك، إِلّا جَعَلْتُهُ نَكَالًا». قال أَبُو عُبَيْدٍ: قال شُعْبَةُ: سأَلْتُ سِمَاكًا عن الكُثْبَةِ فقالَ: القَليلُ من اللَّبَنِ. قال أَبو عُبَيْدٍ: وهو كذلك في غيرِ اللَّبَنِ.
وكُثْبَةُ: موضع، نقله الصّاغانيُّ.
والكُثْبَةُ الطَّائِفَةُ مِنْ طَعَامٍ أَو تَمْرٍ، أَوتُرابٍ، أوغَيْرِهِ، ذلك بعدَ أَن يكونَ قليلًا. وقيلَ: الكُثْبَةُ: كُلًّ مُجْتَمِعٍ من طَعَامٍ أَو غيره، بعدَ أَن يكون قليلا، ومنه سُمِّيَ الكَثِيبُ من الرَّمْلِ، لِأَنَّهُ انْصَبَّ في مَكَانٍ، فاجتمعَ فيه. والجمْعُ الكُثَبُ، قالَ الرّاجزُ:
بَرَّحَ بالعَيْنَيْنِ خَطَّابُ الكُثَبْ *** يَقُولُ: إِنِّي خاطِبٌ، وقد كَذَبْ
وإِنَّمَا يَخْطُبُ عُسًّا مِنْ حَلَبْ
يَعني الرَّجُلَ يَجيءُ بعِلَّةِ الخِطْبَةِ، وإِنما يُرِيدُ القِرَى. قال ابْنُ الأَعْرَابِيّ: يُقَالُ للرَّجُل إِذا جاءَ يَطْلُبُ القِرَى بعِلَّةِ الخِطْبَةِ: إِنَّهُ لَيَخْطُبُ كُثْبَةً؛ وأَنشدَ الأَزْهَرِيُّ لِذي الرُّمَّةِ:
مَيْلَاءَ من مَعْدِنِ الصِّيرانِ قاصِيَةٍ *** أَبْعَارُهُنَّ على أَهْدَافِها كُثَبُ
والكُثْبَةُ: المُطْمَئِنَّةُ المُنْخَفِضَة مِنَ الأَرْضِ بَيْنَ الجِبَالِ.
وأَكْثَبَهُ الرَّجُلُ: سَقَاهُ كُثْبَةً من لَبَن. وأَكْثَبَ فُلانٌ إِلى القَوْمِ: إِذا دَنَا منهم، وأَكْثَبَ إِلى الجَبَل: أَي دَنَا مِنْهُ، عنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ. وفي حَدِيثِ بَدْرٍ: «إِنْ أَكْثَبَكُمُ القومُ، فانْبُلُوهُمْ». وفي روايةٍ: إِذا أَكْثَبُوكُمْ فارْمُوهُمْ بالنَّبْلِ مِنْ كَثَب. وأَكْثَبَ إِذا قَارَبَ. والهمزة في «أَكْثَبَكُمْ» لتَعْدِيةِ كَثَبَ، فلذلك عَدّاها إِلى ضميرهم. وفي حديث عائشةَ تَصِفُ أَباها، رضي الله عنهما: «وظَنَّ رِجَالٌ أَنْ قد أَكْثَبَتْ أَطْمَاعُهُمْ» أَي: قَرُبَتْ، كَأَكْثَبَ لَهُ: دنا منه وأَمْكَنَهُ. وأَكْثَبَ مِنْه.
والكُثَابُ، كغُرَابٍ: الكَثِيرُ ونَعَمٌ كُثابٌ: أَي كثيرٌ. وهو لُغَةٌ في المُوَحَّدَة، وقد تقدّم.
والكُثَابُ: موضع بنَجْدٍ، نقله الصّاغانيُّ.
والكُثَّابُ، كَرُمَّانٍ وشَدَّادٍ، الأَوَّلُ ضَبْط الصّاغانيِّ: السَّهْمُ عامّةً وعن الأَصْمَعِيِّ: الكُثَّاب: سَهْمٌ لا نَصْلَ لَهُ ولا رِيشَ، يَلْعَبُ به الصِّبيانُ؛ وأَنشدَ في صفة الحَيَّةِ:
كَأَنَّ قُرْصًا من طَحِينٍ مُعْتَلِثْ
هَامَتُهُ في مِثْلِ كُثَّابِ العَبِثْ *** تَرْجُفُ لَحْياهُ بِمَوْتٍ مُسْتَحِثّ
تَلَمُّظَ الشَّيْخِ إِذا الشَّيْخُ غَرِثْ
كالكُتَّاب، بالتّاءِ المُثنّاةِ الفوقيّة. وقد تقدَّم الإِيماءُ إِلى أَنّ الفوقيَّةَ لُغَةٌ مرجوجةٌ في المُثَلَّثَة، ولا تَنافِيَ بين كلامِي المُؤَلِّفِ كما زَعَمَهُ شيخُنا.
والكاثِبَةُ من الفرَسِ: المِنْسَجُ. وقيل: هو ما ارتفَعَ من المِنْسَج. وقيل: هو مُقَدَّمُ المِنْسَجِ حيثُ تَقَعُ عليه يَدُ الفارِس. ج؛ أَي الجمعُ: الكَوَاثِبُ. وقيل: هي من أَصْل الْعُنُق إِلى ما بينَ الكَتِفَيْنِ، قالَ النّابغةُ:
لَهُنَّ عليْهِمْ عادَةٌ قد عَرَفْنَها *** إِذا عُرِضَ الخَطِّيُّ فَوْقَ الكَوَاثِبِ
وقد قيل: إِنّ جمعَهُ أَكْثابٌ، قال ابْنُ سِيدَه: ولا أَدري كيفَ ذلك. وفي الحديثِ: «يضَعُونَ رِماحَهُمْ على كَوَاثِبِ خَيْلِهم» وهي من الفَرَس مُجْتمَعُ كَتِفَيْهِ قُدّامَ السَّرْجِ.
والكاثِبُ: موضع، أَو جَبَلٌ؛ قال أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ يَرْثِي فَضَالَةَ بْنَ كَلدَةَ الأَسَدِيّ:
على السَّيِّدِ الصَّعْبِ لو أَنَّه *** يَقُومُ على ذِرْوَةِ الصاقِبِ
لأَصْبَح رَتْمًا دُقاقُ الحَصَى *** مَكَانَ النَّبِيّ من الكاثِبِ
النَّبِيّ: مَوْضِعٌ، وقيل: هو ما نَبا فارتَفعَ، قال ابْنُ بَرّيّ: النَّبِيُّ رَمْلٌ معروفٌ، ويقال: هو جمعُ نابٍ، كغازٍ وغَزِيّ.
يقول: لو علا فَضالةُ هذا على الصّاقب، وهو جَبَلٌ معروف في بلاد بني عامرٍ، لأَصْبَح مدقوقًا مكسورًا، يُعَظّمُ بذلك أَمْرَ فَضالَة وقيل: إِنّ [قوله] يَقومُ بمعنى يُقَاوِمُهُ، كذا في لسان العرب.
والكَثْباءُ، مَمْدودٌ: من أَسْماءِ التُّرَابِ.
والتَّكْثِيبُ: القِلَّة، يُقَالُ: كَثَّبَ لَبَنُ النّاقةِ: إِذا قَلَّ، نقله الصّاغانيُّ. وفي المَثَلِ: كَثَبَكَ الصَّيْدُ، هكذا فِي النُّسَخِ بغَيْر أَلف، والصَّوابُ أَكْثَبَك الصَّيْدُ والرَّمْيُ، وأَكْثَبَ لَكَ فَارْمِهِ.
أَي: دنا منك، أَمْكَنَكَ كما في غير ديوانٍ، وإِنْ كان كَثَبَ وأَكْثَبَ بمعنًى كما تقدَّم، مِنْ كاثِبَتِهِ أَي: من مَنْسِجِه، هكذا في النُّسَخ.
وفي المَثَل: مَا رُمِيَ بِكَثابٍ. المضبوطُ في نسختنا بالكسر، على وزْنِ كِتَابٍ، ونَصُّ المَثَلِ: ما رماه بكُثَّابٍ، أَيْ: شَيْءٍ: سَهْمٍ، وغيرِه. وفي لسان العرب: أَي سهْم. وقيل: هو الصَّغِيرُ من السِّهام هاهُنا.
وكاثَبْتُهُمْ، مُكَاثَبَةً: دَنَوْتُ مِنْهُمْ. فالمُفَاعلَةُ ليست على بابها.
* وممَّا يُستدركُ عليه: قال اللَّيْثُ: كَثَبْتُ التُّرَابَ، فانْكَثَب: إِذا نَثَرْتَ بعضَهُ فوقَ بعضٍ. وعن أَبي زيدٍ: كَثَبْتُ الطَّعَامَ أَكْثُبُهُ كَثْبًا، وَنَثَرْتُه نَثْرًا، وهُمَا واحدٌ. وكُلّ ما انْصَبَّ في شَيْءٍ واجتمعَ، فقد انْكَثَبَ فيه.
وفي المَثَلِ: «إِنّهُ لَيَخْطُبُ كُثْبَةً». وقد تقدَّمَ شَرْحُه.
وجاءَ يَكْثُبُه: أَي يَتْلُوهُ.
وكُثّابَةُ البَكْر والفَصِيلِ، كرُمَّانةٍ: المَكانُ الَّذي كان فيه الفَصِيلُ ببلادِ ثَمُودَ، نقله الصّاغانيُّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
120-تاج العروس (موت)
[موت]: مَاتَ يَمُوتُ مَوْتًا.ومَاتَ يَمَاتُ، وهذه طَائِيّة، قال الراجز:
بُنَيَّتِي سَيِّدَةَ البَنَاتِ *** عِيشِي ولا نَأْمَنُ أَنْ تَمَاتِي
ومَاتَ يَمِيتُ.
قال شيخنا: وظاهِرُه أَنّ التَّثْلِيث في مضارع ماتَ مُطْلَقًا، وليسَ كذلك، فإِنّ الضّمَّ إِنّما هو في الوَاوِيّ كَيقُولُ، من قَالَ قَوْلًا، والكسْرُ إِنّما هو في اليَائِيّ كيَبِيعُ، من بَاعَ، وهي لُغَةٌ مَرْجُوحة، أَنكرها جماعةٌ، والفتح إِنّما هو في المَكْسُورِ الماضِي، كَعَلِم يَعْلَم، ونَظِيره من المُعْتَلّ خَافَ خَوْفًا.
وزاد ابن القطاع ومغيره: مِتَّ، بالكسرِ في الماضي، تَمُوتُ بالضَّم، من شواذِّ هذا البابِ لِما قَرَّرْناه مَرّات: أَنّ فَعِلَ المَكْسور لا يكون ماضيه إِلّا مَفْتُوحًا كعَلِم يَعْلَمُ، وشذّ من الصّحيح نَعِمَ يَنْعُم، وفَضِلَ يَفْضُل، في أَلفاظٍ أُخَرَ، ومن المُعْتَلّ العين مِتّ ـ بالكَسْر ـ تَمُوت، ودِمْتَ تَدُوم.
وجماعةٌ اقتصروا هنا على هذه اللُّغَةِ، وجَعَلُوها ثالِثَةً، ولم يَتَعَرَّضوا لماتَ كَباعَ، لأَنّه أَقَلُّ من هذا، ومنْهِمُ الشِّهابُ الفَيُّومِيّ في المِصْبَاح فإِنَّه قال: مات الإِنْسَانُ يَمُوتُ مَوْتًا، وماتَ يَماتُ ـ من باب خاف ومِتُّ بالكَسْرِ أَمُوت، لُغةٌ ثالثة، وهي من بابِ تَدَاخُلِ اللُّغَتيْنِ، ومثله من المُعْتَلِّ دِمْتَ تَدُومُ، وزاد ابنُ القَطَّاع: كِدْتَ تَكُودُ، وجِدْتَ تَجُودُ، وجاءَ فِيهما تَكَادُ وتَجَاد. انتهى.
قلت: وهو مأْخُوذٌ من كلامِ ابنِ سِيدَه، وقال كُراع: مَاتَ يَمُوتُ، والأَصْلُ فيه مَوِتَ بالكَسْرِ يَمُوت، ونظيرُه دِمْت تَدُوم، إِنما هو دَوِمَ.
فهو مَيْتٌ، بالتَّخْفِيفِ، ومَيِّتٌ، بالتشديد، هكذا في نسختنا، والذي في الصّحاح تَقْدِيمُ المُشَدَّد على المُخَفَّفِ بضَبْطِ القَلَم.
وماتَ ضِدُّ حَيِىَ، قال الأَزْهَريّ عن اللَّيْث: المَوْتُ خَلْقٌ من خَلْقِ اللهِ تَعالَى. وقال غيرُه: المَوْتُ والمَوَتَانُ ضِدّ الحياة.
ومن المَجاز: المَوْتُ: السُّكُون، يقالُ: مات: سَكَنَ، وكل ما سَكَنَ فقد مَاتَ، وهو على المَثَل، ومن ذلك قولُهم: ماتَت الرِّيحُ، إِذا رَكَدتْ وسَكَنَتْ، قال:
إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَمُوتَ الرِّيحُ *** فأَسْكُنُ اليَوْم وأَسْتَريحُ
ومن ذلك قولُهم، ماتَت الخَمْرَة: سَكَن غَلَيَانُها، عن أَبي حنيفةَ.
ومن المَجاز أَيضًا: مات الرَّجُلُ، وهَمَدَ، وهَوَّمَ إِذا نَام، قاله أَبو عَمْرو. ومن المجاز أَيضًا: ماتَت النّارُ مَوْتًا: بَرَدَ رَمادُها، فَلَمْ يَبْقَ من الجَمْر شَيْءٌ.
وماتَ الحَرُّ والبرْدُ: بَاخَ.
وماتَ الماءُ بهذَا المَكَان، إِذا نَشَّفَتْهُ الأَرْضُ.
وماتَ الثَّوْبُ: بَلِيَ، وكلُّ ذلكَ على المَثَل.
وعبارَةُ الأَساس: ومات الثَّوْبُ: أَخْلَقَ، وماتَ الطَّريقُ: انْقَطَع سُلوكُه، وبلدٌ يَمُوت فيه الرِّيحُ، كَما يُقَالُ: تَهْلِكُ فيه أَشْواطُ الرِّياح. ومات فَوْقَ الرَّحْل: اسْتَثْقَلَ في نَوْمِه، كلُّ ذلك على المَثَل.
وفي اللّسان ـ في دعاءِ الانْتباه ـ: «الحَمْدُ للهِ الّذِي أَحيانا بعدَ ما أَماتَنا وإِلَيْه النُّشُورُ» سَمَّى النَّومَ موْتًا، لأَنّه يزولُ معه العَقْلُ والحَركةُ، تمثيلًا وتَشْبيهًا، لا تحْقيقًا.
وقيل: المَوْتُ في كلام العَرَب يُطْلَقُ على السُّكُون.
وقالَ الأَزْهريّ ـ ومِثلُه في المُفْردات لأَبي القَاسم الرَّاغب ـ ما نَصُّه: الموتُ يَقَعُ على أَنْواعٍ بحَسَبِ أَنواعِ الحَياة، فمنها ما هو بإِزاءِ القُوَّةِ النّامِيَةِ الموْجُودَةِ في الحَيَوان والنّباتِ، كقولِه تَعالى: {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} ومنها: زَوالُ القُوَّةِ الحِسِّيَّةِ كقوله تعالى: {يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا}.
ومنها: زَوالُ القُوَّةِ العَاقِلَة، وهي الجَهَالَةُ، كقوله تعالى: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ} {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى}.
ومنها: الحُزْنُ والخَوْفُ المُكَدِّرُ للحَياة، كقولِه تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ}.
ومنها: المَنامُ، كقولِه تَعالى: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها} وقد قِيل: المنامُ: المَوْتُ الخَفيفُ، والمَوْتُ: النَّومُ الثَّقِيلُ.
وقد يُسْتَعارُ الموت للأَحوالِ الشَّاقّةِ، كالفَقْرِ، والذُّلِّ، والسُّؤالِ، والهرم، والمَعْصِيَةِ وغيرِ ذلك، ومنه الحديث: «أَوَّلُ من ماتَ إِبْلِيسُ، لأَنّه أَوّلُ من عَصَى» وفي حَدِيثِ مُوسى عليهالسلام، «قِيلَ له: إِنَّ هامَانَ قد مَاتَ، فلَقِيَه فسَأَلَ ربَّه، فقالَ له: أَما تَعْلَمُ أَن من أَفْقَرْتُه فقَدْ أَمتُّه؟»: وقَولُ عُمرَ رضي الله عنه في الحديث: «اللَّبَنُ لا يمُوت» أَرادَ أَنَّ الصبِيَّ إِذا رَضِعَ امْرأَةً مَيّتةً حرُمَ عليه من وَلدِها وقَرابَتِها ما يَحْرُمُ عليهِ منهم لو كانت حيَّةً وقد رَضِعَها، وقيل: معناه: إِذا فُصِل اللَّبَنُ من الثَّدْي وأُسْقِيَه الصَّبِيُّ فإِنه يَحْرُم به ما يَحْرُم بالرَّضاع، ولا يَبْطُل عملُه بمفَارقَة الثَّدْي، فإِنّ كلَّ ما انْفَصَل من الحَيِّ ميِّت إِلا اللَّبَنَ والشَّعَرَ والصُّوفَ، لِضَرُورةِ الاستعمالِ. انتهى.
أَو المَيْتُ، مُخَفَّفَةً: الذي ماتَ بالفِعْل.
والمَيِّتُ، مشدّدة، والمَائِتُ، على فاعل: الذي لم يَمُتْ بَعْدُ، ولكنه بصَدَدِ أَن يَمُوت.
قال الخليلُ: أَنشَدني أَبو عمرو:
أَيا سَائِلي تَفْسِيرَ مَيْتٍ ومَيِّتٍ *** فَدُونك قد فَسَّرْتُ إِن كُنْتَ تَعْقِلُ
فمَنْ كان ذَا رُوحٍ فذلك مَيِّتٌ *** وما المَيْتُ إِلّا مَن إِلى القَبْرِ يُحْمَلُ
وحكى الجوهريّ عن الفرّاءِ: يُقال لَمِنْ لم يَمُتْ: إِنّه مائِتٌ عن قليلٍ، ومَيِّتٌ، ولا يَقُولون لمن مات: هذا مَائِتٌ.
قيل: وهذا خَطَأٌ، وإِنما مَيِّتٌ يَصْلُح لما قَدْ ماتَ ولما سَيَمُوت، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
قلتُ: ومن هُنا أَخَذَ صاحبُ القَامُوس، ما جَعَله تَحْقِيقًا، وقد تَحامَل عليه شيخُنا في شَرْحه.
وجَمع بين اللُّغَتَين عدِيُّ بنُ الرَّعْلاءِ فقال:
لَيْسَ من ماتَ فاسْتراحَ بِمَيْت *** إِنّما المَيْتُ ميِّتُ الأَحْيَاءِ
إِنَّما المَيْتُ من يَعِيشُ شَقِيًّا *** كاسِفًا بالُه قليلَ الرَّجاءِ
فأُنَاسٌ يُمَصَّصُون ثِمادًا *** وأُناسٌ حُلُوقُهم في الماءِ
فجعلَ المَيْتَ كالمَيِّتِ.
وفي التَّهْذِيبِ: قال أَهلُ التَّصْرِيف: مَيِّتٌ كأَنَّ تَصْحِيحَه مَيْوِتٌ على فَيْعِل، ثم أَدْغَمُوا الواوَ في الياءِ، قال: فَرُدَّ علَيْهِم، وقِيل: إِنْ كان كما قُلْتُم فيَنْبَغِي أَن يكونَ مَيِّتٌ على فَعِّل، فقالوا: قد عَلمنا أَنّ قياسَه هذا، ولكِنّا تَركْنا فيه القياسَ مَخافَةَ الاشتباهِ، فردَدْناه إِلى لَفْظِ فَعِّل، لأَنّ ميِّت على لَفْظِ فَعِّل.
وقال آخرون: إِنّما كان في الأَصْل مَوْيِت مثل سيِّدٍ وسَوْيِدٍ، فأَدْغَمْنا الياءَ في الواو، ونَقَلْناه، فقُلْنا: مَيِّت، [ثم خُفِّف، فقيل: مَيْت].
وقال بعضهم: قيل: مَيْتٌ ولم يَقُولوا: مَيِّتْ، لأَنَّ أَبنيةَ ذَواتِ العِلَّة تُخالِفُ أَبنيةَ السَّالِم.
وقال الزجّاج: المَيْتُ: المَيِّتُ، بالتّشديد، إِلا أَنَّه يُخَفَّف، يقال: مَيْتٌ ومَيِّتٌ، والمعنى واحد، ويَستَوِي فيه المذكَّرُ والمُؤَنَّث، قال تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} ولم يَقُل مَيْتَةً، انتهى.
وقال شَيْخُنا ـ بعد أَن نَقَلَ قولَ الخليلِ عن أَبي عَمْرو ـ ما نصُّه: وعلى هذه التَّفْرِقةِ جماعةٌ من الفُقَهاءِ والأُدباءِ، وعندِي فيه نَظَرٌ، فإِنهم صَرّحوا بأَنّ المَيْتَ مخفَّفَ الياءِ مأْخُوذٌ ومُخَفَّفٌ من المَيِّتِ المُشَدّد، وإِذا كان مأْخُوذًا منه فكيف يُتَصَوَّرُ الفرقُ فيهما في الإِطْلاقِ، حتَّى قال العَلّامة ابن دِحْيَة في كتاب التَّنْوِير في مولِد البَشِير النَّذِيرِ: بأَنَّه خطأٌ في القياسِ ومُخالِفٌ للسّماع، أَما القياسُ: فإِن «مَيْت» المُخَفَّفَ إِنما أَصْلُه ميِّتٌ المُشَدّد، فخُفِّف، وتَخفيفُه لم يُحْدِث فيه مَعْنًى مخالِفًا لمعناه في حالِ التَّشْديدِ، كما يقال: هَيْنٌ وهيِّن ولَيْنٌ ولَيِّن، فكما أَن التَّخْفِيفَ في هيِّن ولَيِّنٍ لم يُحِلْ معناهما، كذلك تخفيفُ مَيِّتٍ. وأَما السَّماع فإِنّا وَجَدْنَا العربَ لم تَجْعَل بينَهُما فَرْقًا في الاستعمالِ، ومن أَبْيَنِ ما جاءَ في ذلك قَوْلُ الشّاعر:
لَيْسَ منْ ماتَ فاسْتَراحَ بِمَيْت *** وإِنّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
وقال آخر:
أَلا يَا لَيْتَنِي والمَرْءُ مَيْتُ *** وما يُغْنِي عن الحَدَثانِ لَيْتُ
ففي البيتِ الأَوّل سَوّى بيْنَهُما، وفي الثّاني جَعلَ المَيْتَ المُخَفَّفَ للحَيِّ الذي لم يَمُتْ، أَلَا تَرى أَنّ معناه: والمرءُ سَيَمُوت، فجَرَى مَجْرَى قولِه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
قال شيْخُنا: رَأَيْتُ في المِصْباح فَرْقًا آخر، وهو أَنّه قال: المَيْتَةُ من الحَيَوانِ جمعها مَيْتات، وأَصلُها مَيِّتَة بالتَّشْدِيد، قيل: والتُزِم التَّشْديدُ في مَيِّتَةِ الأَناسِيّ، لأَنّه الأَصلُ، والْتُزِم التَّخفِيف في غير الأَناسِيِّ فَرْقًا بينَهُما، ولأَن استعمالَ هذه أَكثرُ في الآدِمّيات، وكانتْ أَوْلى بالتَّخْفِيف.
ج: أَمْواتٌ ومَوْتَى، ومَيِّتُونَ ومَيْتُونَ.
قال سيبويهِ: كانَ بابُه الجمعَ بالواوِ والنّون، لأَنّ الهاءَ تدخل في أُنثاه كثيرًا، لكنّ فَيْعَلًا لمّا طابق فاعِلًا، في العِدّة والحَرَكةِ والسّكون، كَسَّروه على ما قَدْ يُكَسَّر عليه فاعِلٌ، كشاهدٍ وأَشهادٍ، والقولُ في مَيْتٍ كالقَوْل في مَيِّتٍ لأَنّه مُخَفَّفٍ منه.
وفي المِصْباح: مَيْتٌ وأَمْواتٌ كبَيْتٍ وأَبْياتٍ.
وهي الأُنْثى مَيِّتَةٌ، بالتشديد، ومَيْتَةٌ، بالتَّخفيف، ومَيِّتٌ، مُشَدّدًا بغير هاءٍ، ويُخَفّف، والجمعُ كالجَمْعِ.
قال سيبويهِ: وافقَ المُذَكَّرَ كما وافَقَه في بعضِ ما مَضَى، قالَ: كأَنّه كُسِّرَ مَيْت، وفي التَّنْزِيلِ: العزيز {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا}.
قال الزَّجّاج: قال: مَيْتًا، لأَنّ [معنى] البَلْدَةَ والبَلَدَ واحدٌ، وقال ـ في محلٍّ آخرَ ـ المَيْتُ: المَيِّتُ، بالتّشْدِيدِ، إِلا أَنّه يُخَفّف، يقالُ: مَيْتٌ ومَيِّتٌ، والمعْنى واحدٌ، ويستوى فيه المُذَكّر والمُؤَنّث.
والمَيْتَةُ: ما لَم تَلْحقْهُ الذَّكاةُ، عن أَبي عَمْرٍو.
والمَيْتة: ما لَمْ تُدْرَكْ تَذْكِيَتُه.
وقال النَوويّ ـ في تَهذيبِ الأَسماءِ واللّغات ـ: قال أَهلُ اللّغَةِ والفقهاءُ: الميْتَةُ: ما فارقَتْه الرُّوحُ بغير ذَكاة، وهي مُحَرَّمةٌ كُلُّها إِلّا السَّمَكَ والجَراد فإِنَّهما حلَالانِ بإِجْماع المُسْلِمينَ.
وفي المصباح: المرادُ بالمَيْتَةِ في عُرْفِ الشَّرْعِ: ما ماتَ حَتْفَ أَنْفِه، أَو قُتِل على هَيْئَةٍ غيرِ مَشْروعة، إِمّا في الفاعِلِ أَو فِي المَفْعُول.
قال شيخُنا: فقوله: في عُرْفِ الشَّرعِ، يُشيرُ إِلى أَنّه ليس لُغَةً مَحْضَةً، ونسبه النَّووِيّ للفُقهاءِ وأَهلِ اللّغةِ إِمّا مُرادَفةً، أَو تَخْصِيصًا، أَو نحو ذلك، مما لا يَخْفى.
والمِيتَةُ، بالكَسْرِ، للنَّوْعِ من الموْت.
وفي اللسان: المِيتَةُ: الحالُ من أَحْوالِ المَوْتِ، كالجِلْسَةِ والرِّكْبَةِ، يقال: ماتَ فلانٌ مِيتَةً حَسَنَةً، وفي حديثِ الفِتَنِ «فَقَدْ ماتَ مِيتَةً جاهِلِيَّةً» هي بالكَسْرِ: حالةُ المَوْتِ؛ أَي كما يَمُوت أَهلُ الجَاهِليّة من الضَّلالِ والفُرْقةِ، وجَمعُها مِيَتٌ.
وقولهم: ما أَمْوَتَه؛ أَي ما أَمْوَتَ قَلْبَه، لأَنَّ كلَّ فِعْل لا يَتَزَيَّدُ لا يُتَعَجَّبُ مِنْه تَبع فيه الجَوْهَرِيَّ وغيرَه، وهو إِشارةٌ إِلى أَنّه يَنْبَغِي أَن يُحْمَلَ على مَوْتِ القَلْبِ، لأَنَّ الموتَ لا يُتَعجَّبُ مِنْه، لأَنَّ شرطَ التَّعَجُّب أَن يكونَ مما يَقْبلُ الزّيادةَ والتّفاضُلَ، وما لا يَقْبَلُ ذلك ـ كالمَوْتِ والفَناءِ والقَتْل ـ لا يجوزُ التَّعجُّبُ منه، كما عُرِف في العَربِيَّة.
والمُواتُ، كغُراب: المَوْتُ مطلقًا، ومنهم من خَصَّه بالموتِ يَقَعُ في الماشِيَةِ كما يأْتي.
ومن المجازِ: أَحيَا اللهُ البلدَ الميِّتَ، وهو يُحْيِي الأَمْواتَ.
والمَوَاتُ هو، كسَحَابٍ: ما لَا رُوح فيهِ.
وأَرضٌ مَواتٌ: لا مَالِكَ لها من الآدَمِيِّينَ، ولا يُنْتَفعُ بِها، وزاد النَّوَويّ: ولا ماءَ بِها، كما يُقَال: أَرْضٌ مَيِّتَةٌ.
والموتَانُ بالتَّحرِيكِ: خلافُ الحَيوانِ، أَو أَرْضٌ لم تُحْيَ بَعْدُ، وهو قول الفرّاءِ، وقالوا: حُرِّك حَمْلًا على ضِدّه وهو الحَيَوان، وكِلاهُما شاذٌّ، لأَن هذا الوَزنَ من خصائصِ المصَادِرِ، فاستعمالُه في الأَسماءِ على خلافِ الأَصْل، كما قُرِّرَ في التَّصْريفِ.
وفي اللِّسانِ: الموَتَانُ من الأَرْضِ: ما لمْ يُسْتَخْرَجُ ولا اعْتُمِر، على المَثَل، وأَرضٌ مَيِّتَةٌ ومَوَاتٌ، من ذلك، وفي الحديث: «مَوَتَانُ الأَرْضِ للهِ ولِرَسُولِه، فما أَحْيَا منها شيئًا فهو لَه» المَوَاتُ من الأَرْضِ مثلُ المَوَتَانِ، يَعني مَواتَها الذي ليسَ مِلْكًا لأَحَد، وفيه لُغتان: سُكونُ الواو، وفَتحُها مع فتحِ الميم.
وفي الحديث: «من أَحْيَا مَوَاتًا فهو أَحقُّ بهِ» المَوَاتُ: الأَرْضُ التي لَمْ تُزْرَعْ ولم تُعْمَرْ، ولا جَرَى عليها مِلْكُ أَحَدٍ، وإِحْياؤُها: مُباشرَةُ عِمارَتِها، وتَأْثِيرُ شَيْءٍ فيها.
ويُقالُ: اشْتَرِ المَوَتَانَ، ولا تَشْتَرِ الحَيَوانَ؛ أَي اشْترِ الأَرَضِينَ والدُّورَ، ولا تَشْتَرِ الرّقيقَ والدَّوابَّ.
ويقال: رَجُلٌ يَبِيعُ المَوَتانَ، وهو الذي يَبِيعُ المَتاعَ، وكلَّ شيْءٍ غيرِ ذي رُوحٍ، وما كان ذا روح فهو الحَيَوانُ.
والمُوتَان والمُوَاتُ، بالضّمّ: مَوْتٌ يَقَعُ في المَاشِيَةِ والمالِ ويُفْتحُ وهذا نَقَلَه أَبو زَيْد في «كتاب خبئة» عن أَبي السَّفَرِ، رَجُلٍ من تميمٍ.
وقالَ الفرّاءُ: وقَعَ في المال مَوْتانٌ ومُوَاتٌ، وهو المَوْتُ، وفي الحديث «يكونُ في النّاس مُوتَانٌ كقُعاص الغَنَمِ»، وهو بوَزْنِ البُطْلان: الموتُ الكثيرُ الوُقوعِ، وزاد ابن التِّلِمْسانِيّ أَنّ الضَّمَّ لُغةُ تميمٍ، والفَتْح لغةُ غيرِهم.
قلتُ: وهو يُخالِف ما نَقَله أَبو زيد عن رَجُل من بني تَميمٍ، كما تقدم.
ومن المَجاز: أَماتَ الرَّجُلُ: ماتَ وَلَدُه، وعبارة الأَساس: وأَماتَ فُلانٌ بَنِينَ: مَاتُوا له، كما يقال: أَشَبَّ [فلان] بَنِينَ: [إِذا] شَبُّوا له، وفي الصّحاح: أَماتَ الرَّجُلُ: إِذا ماتَ له ابنُ أَو بَنُون.
وأَماتَتِ المَرْأَةُ والنَّاقَةُ، إِذا ماتَ وَلَدُها، قالَ الجَوْهَرِي: مَرْأَة مُمِيتٌ ومُمِيتَةٌ: مات وَلَدُها، أَو بَعْلُها، وكذلك النَّاقَةُ إِذا ماتَ وَلَدُها، والجمعُ مَمَاوِيتُ.
ومن المَجازِ: يقال: ضَرَبْتُه فَتَماوَتَ، إِذا أَرَى أَنّه مَيِّتٌ وهو حَيٌّ.
والمُتَماوِتُ: من صفةِ النَّاسِكِ المُرائِي الذي يُظْهِرُ أَنّه كالمَيِّتِ في عِباداتِه رِياءً وسُمْعَةً، قالُوا: هو الذي يُخْفِي صَوْتَه، ويُقِلُّ حَرَكاتِه، كأَنّه ممّن يَتَزَيّا بزِيِّ العُبَّادِ، فكأَنّه يَتَكَلَّفُ في اتّصافِه بما يَقْرُبُ من صِفاتِ الأَمواتِ، ليُتَوَهَّمَ ضَعْفُه من كثرةِ العِبادَةِ.
وفي الأَساس: يقَالُ: فلانٌ مُتَماوِتٌ، إِذا كان يُسَكِّنُ أَطْرَافَه رِيَاءً.
وفي اللّسان: قال نُعَيْمُ بنُ حَمّاد: سَمعْتُ ابن المُبارَكِ يَقُول: المُتَماوِتُون: المُراءُونَ. وفي حديث أَبي سَلَمةَ: «لم يَكُنْ أَصْحابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليهوسلم مُتَحَزّقِينَ ولا مُتَماوِتِينَ» يقال: تَماوَتَ الرَّجُلُ إِذا أَظْهَر من نَفْسِه التَّخَافُتَ والتَّضاعُفَ من العِبادَةِ والزُّهْدِ والصَّوْمِ، ومنهحديثُ عُمرَ رضيَ اللهُ عنه «رأَى رَجُلًا مُطَأْطِئًا رأْسَه فقالَ: ارْفَعْ رأْسَكَ فإِنّ الإِسْلامَ ليْسَ بِمَرِيض» «ورأَى رَجُلًا مُتَماوِتًا فقالَ: لا تُمِتْ عَلَيْنا دِينَنَا أَماتَكَ اللهُ». وفي حديثِ عائشةَ، رضي الله عنها «نَظَرتْ إِلى رَجُلٍ كادَ يَموتُ تَخَافُتًا فقالَتْ: ما لِهذَا؟: قيل: إِنّه من القُرّاءِ، فقالت: كان عُمَرُ سيِّدَ القُرّاءِ، كان إِذا مَشَى أَسْرَعَ [وإِذا قال أَسْمَعَ] وإِذا ضَرَبَ أَوْجَعَ».
ويقال: ضَرَبْتُه فتَمَاوَتَ، إِذا أَرَى أَنّه مَيِّتٌ وهو حَيٌّ.
ومن المَجازِ قولُهم: رَجُلٌ مَوْتانُ الفُؤادِ أَي بَلِيدٌ غيرُ ذَكِيّ ولا فَهِمٍ، كأَنَّ حَرارَةَ فَهْمِهِ بَرَدَتْ فماتَتْ.
وفي الأَساس: رجُلٌ مَوْتانُ الفُؤادِ لم يَكُنْ حَرِكًا حَي القَلْبِ.
وهي بهاءٍ، يقال: امرأَةٌ مَوْتَانَةُ الفُؤاد.
ومن المَجازِ: وبِهِ مُوتَةٌ، المُوتَةُ، بالضَّمِّ: الغَشْيُ وفُتُورٌ في العَقْل، والجُنُونُ، لأَنّه يَحْدُث عنه سُكونٌ كالمَوْتِ.
وفي اللسان: المُوتَةُ: جِنْسٌ من الجُنُونِ والصَّرَع يَعْتَرِي الإِنْسانَ، فإِذا أَفَاقَ عادَ إِلَيْه عَقْلُه، كالنّائمِ والسَّكْرانِ.
وفي الحديث: «أَنّ النبيّ صلى الله عليهوآله كان يَتَعَوَّذُ باللهِ من الشَّيْطانِ وهَمْزِه ونَفْثِه ونَفْخِه، فقيل له: ما هَمْزُه؟ قالَ: المُوتَةُ».
قال أَبُو عُبيدٍ: المُوتَة: الجُنُون، تُسَمَّى هَمْزًا، لأَنّه جَعَلَه من النَّخْسِ والغَمْزِ، وكلُّ شيْءٍ دفَعْتَه فقد هَمَزْتَه.
وقال ابنُ شُمَيْل: المُوتَةُ: الذي يُصْرَعُ من الجُنونِ أَو غَيْرِه، ثم يُفِيقُ.
وقال اللِّحْيانيّ: المُوتَةُ: شِبْهُ الغَشْيَةِ.
ومُؤْتَةُ بالهَمْزَةِ: اسْمُ أَرْض بالشَّام، وقد جاءَ ذِكْرُه في الحَدِيثِ وذُكِر في معروف أَ ت وإِنّما أَعادَه هنا إِشارةً إِلى أَنّه قد رواه غيرُ واحدٍ من أَهل الغَرِيبِ بغير هَمْزٍ، ففي المِصْباح: مُؤْتةُ، بالهَمْزِ، وِزَانُ غُرْفة، ويَجُوز التَّخفيفُ: قَرْيَةٌ من البلْقاءِ بطَرِيقِ الشامِ الذي يخْرُج منه أَهلُه للحِجاز، وهي قَريبَةٌ من الكَرَكِ.
وذُو المُوتَةِ: فَرَسٌ لبَنِي أَسَدٍ، كذا في النُّسخ، ومثله للصّاغانيّ، والصّوابُ: لبَنِي سَلُولَ، كما حقَّقَه ابنُ الكَلْبِيّ، من نَسْلِ الحَرُون، كان يأْخُذُه شِبْهُ الجُنُونِ في الأَوْقات، قال ابنُ الكَلْبيّ: وكانَ إِذا جَاءَ سَابِقًا أَخَذَتْه رِعْدَةٌ فيَرْمِي نَفْسَه طَوِيلًا، ثم يَقُوم فيَنْتَفِضُ ويُحَمْحِمُ، وكان سابق النَّاس، فأَخَذَهُ بِشْرِ بن مَرْوانَ بالكُوفَةِ بأَلْفِ دِينارٍ، فبَعَثَ به إِلى عبدِ المَلِكِ.
ومن المَجاز: المُسْتَمِيتُ: الشُّجاعُ الطَّالِبُ للمَوْتِ، على حدّ ما يجِيءُ عليه بَعْضُ هذا النَّحْوِ.
وفي اللسان: المُسْتَمِيتُ: المُسْتَقْتِلُ الذي لا يُبالِي في الحَرْبِ من المَوتِ، وفي حديث بَدْرٍ: «أَرَى القَوْمَ مُسْتَمِيتِينَ» أَي مُسْتَقْتِلِينَ، وهم الذي يُقاتِلُون على المَوْتِ.
والمُسْتَمِيت: المُسْتَرْسِلُ للأَمرِ، قال رُؤْبَة:
وزَبَدُ البَحْرِ له كَتِيتُ *** واللَّيْلُ فوقَ الماءِ مُسْتَمِيتُ
وفي الأَساس: ـ في المجاز ـ: وهُوَ مُسْتَمِيتٌ إِلى كَذا: مُسْتَهْلِكٌ إِليه يَظُنُّ أَنّه إِن لم يَصِلْ إِليه ماتَ.
وفيه ـ في الحقيقة ـ: وفُلانٌ مُسْتَمِيتٌ: مُسْتَرْسِلٌ للمَوْتِ، كمُسْتَقْتِلٍ.
واسْتَمِيتُوا صَيْدَكُم، ودَابَّتَكُم؛ أَي انْتَظِرُوا حتى تَتَبَيَّنُوا أَنّه ماتَ.
والمُسْتَمِيتُ: غِرْقِىُّ البَيْضِ، قال:
قَامَتْ تريكَ بَشَرًا مَكْنُونَا *** كغرْقِئ البَيْضِ اسْتَماتَ لِينَا
أَي ذَهَبَ في اللِّينِ كُلَّ مَذْهَبٍ، كما سَيَأْتِي.
والقَوْمُ أَماتُوا، إِذا وَقَعَ المَوْتُ في إِبِلِهِمْ.
وأَماتَ اللهُ الشَّيْءَ ومَوَّتَه، بالتَّشْدِيدِ للمُبالَغَة، قال الشاعر:
فَعُرْوَةُ ماتَ مَوْتًا مُسْتَرِيحًا *** فها أَنَذَا أُمَوَّتُ كُلَّ يوْمِ
ومن المَجازِ: أَماتَ اللَّحْمَ ومَوّتَهُ، إِذا بالَغَ في نُضجِهِ وإِغْلائِه.
وأُمِيتَتِ الخَمْرُ: طُبِخَتْ، وسَكَنَ غَلَيانُها، وفي حَدِيثِ البَصَلِ والثُّومِ: « [من أَكلَهما] فَلْيُمِتْهُما طَبْخًا» أَي يُبالغ في نُضْجِهما وطَبْخِهما، لتَذْهَبَ حِدَّتُهما ورائِحَتُهما.
ومن المَجازِ أَيضًا: فلان يُمَاوِتُ قِرْنَه، المُمَاوَتَهُ: المُصَابَرَةُ والمُثَابَتَةُ.
واسْتَماتَ الرَّجُلُ،: ذهَبَ في طَلَبِ الشَّيْءِ كُلَّ مَذْهَبٍ، قال:
وإِذْ لَمْ اعَطِّلْ قَوْسَ وُدِّي ولَمْ أَضِعْ *** سِهَامَ الصِّبَا للمُسْتَمِيتِ العَفَنْجَجِ
يعني الذي اسْتَماتَ في طَلَبِ الصِّبَا واللهْوِ والنِّساءِ، كلّ ذلك عن ابن الأَعْرابيّ.
وقال: اسْتَماتَ الشَّيْءُ في اللِّينِ والصَّلابَةِ: ذَهَبَ مِنْها كُلَّ مَذْهَبٍ.
واسْتَماتَ الرَّجُلُ، إِذا سَمِنَ بعدَ هُزَال، عن ابن الأَعرابيّ والمَصْدَرُ الاسْتِماتُ وأَنشد:
أَرْى إِبِلِي بَعْدَ اسْتِماتٍ ورَتْعَةٍ *** تُصِيتُ بِسَجْعٍ آخِرَ اللَّيْلِ نِيبُها
جاءَ بِه على حَذْفِ الهاءِ مع الإِعْلالِ، كقوله تعالى {وَأَقامَ الصَّلاةَ}.
وفي الأَساسِ: في المجاز: واسْتَماتَ الشَّيْءُ اسْتَرْخَى.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
مَوَّتَتِ الدَّوابُّ: كثرَ فيها المَوْتُ.
وماتَ الرَّجُلُ، إِذا خَضَعَ لِلْحَقِّ.
واسْتَماتَ الرَّجُلُ، إِذا طَابَ نَفْسًا بِالمَوْتِ.
والمُسْتَمِيتُ: الذي يَتَجَانُّ وليسَ بِمَجْنُونٍ.
والمُسْتَمِيتُ: الذي يَتَخَاشَعُ ويَتَواضَعُ لهذا حتّى يُطْعِمَه.
ولهذا حتّى يُطْعِمَه، فإِذا شَبعَ كَفَرَ النِّعْمَةَ.
ويقال: اسْتَمِيتُوا صَيْدَكم؛ أَي انْظُرُوا أَماتَ أَم لا، وذلك إِذا أُصِيبَ فَشُكَّ في مَوْتِه.
وقال ابن المُبارك: المُسْتَميتُ: الذي يُرِي من نَفْسِه الخَيْرَ والسُّكُونَ وليس كذلك.
وشيْءٌ مَوْمُوتٌ: معروف، وقد ذُكِرَ في أَ معروف ت.
ويقال: اسْتَماتَ الثَّوْبُ ونَامَ، إِذا بَلِيَ.
ومن المجازِ: فلانٌ مائِتٌ من الغَمِّ.
ويَمُوتُ من الحَسَدِ.
ومَوْتٌ مائِتٌ: شَديدٌ.
وأَبو بَكْرٍ يَمُوتُ بن المُزَرّع بن يَمُوتَ العَبْدِيّ، مُحَدِّث، واسمه مُحَمّد، ولقبُه يَمُوتُ.
وتَمُوتُ، بالفوقيّة: امرأَةٌ قال فيها أَبُوها أَبو فِرْعَوْنَ:
سَمَّيْتُها إِذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ *** والقَبْرُ صِهْرٌ ضامِنٌ زِمِّيتُ
ليْسَ لمن ضُمِّنَهُ تَرْبِيتُ
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
121-تاج العروس (خج خجج خجخج)
[خجج]: الخَجُوجُ، كصَبور: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ المَرِّ، قاله الأَصمعيّ، وقال ابنُ شُميلٍ: هي الشَّديدةُ الهُبُوبِ الخَوَّارَةُ، لا تَكُون إِلَّا في الصَّيْف، وليستْ بِشديدةِ الحَرِّ، وقيل: رِيحٌ خَجُوجٌ: شَدِيدةُ المُرُورِ في غيرِ اسْتواءٍ، أَو هي المُنْتوِيَةُ في هُبُوبِهَا.خَجَّتِ الرِّيحُ في هُبُوبها تَخُجُّ خُجُوجًا: الْتَوَتْ. ورِيح خَجُوجٌ: تَخُجُّ في هُبُوبِهَا؛ أَي تَلْتَوِي، قال: ولو ضُوعِفَ وقيل: خَجْخَجَت الرِّيحُ كان صَوَابًا، قال ابنُ سِيدَه، وقيل: هي الشّديدةُ من كُلِّ رِيحٍ ما لمْ تُثِرْ عَجَاجًا، وخَجِيجُ الرّيحِ: صَوْتُها، كالخَجَوْجَاةِ، أَهمله الجوهريّ.
قال شَمِرٌ: رِيحٌ خَجُوجٌ وخَجَوْجَاةٌ: تَخُجُّ في كُلِّ شَقٍّ، وقال ابنُ الأَعرابيّ: رِيحٌ خَجَوْجَاةٌ: طَوِيلَةُ دائمةُ الهُبُوب وقال أَبو نَصْرٍ: هي البَعِيدَةُ المَسْلَكِ الدائِمَةُ الهُبُوبِ، وقال ابن أَحْمَرَ يَصِفُ الرِّيحَ:
هَوْجَاءُ رَعْبَلَةُ الرَّوَاحِ خَجَوْ *** جَاةُ الغُدُوِّ رَوَاحُهَا شَهْرُ
قال والأَصلُ خَجُوجٌ، وقد خَجَّتْ تَخُجُّ، وأَنشدَ أَبو عَمْرٍو.
وخَجَّتِ النَّيْرَجَ مِنْ خَرِيقِها
ورَوى الأَزهَرِيُّ بإِسناده عن خالِدِ بنِ عرعرة قال: سَمِعْت عَليًّا، رضي الله عنه، وذكر بناءَ الكعبة فقال «إِن إِبراهِيمَ عَلَيْه السلامُ حين أُمِرَ بِبناءِ البَيْتِ ضَاقَ به ذَرْعًا، قال فَبَعَثَ الله عَلَيْه السَّكِينَةَ، وهي رِيحٌ خَجُوجٌ لهَا رَأْسٌ فتَطَوَّقَتْ بالكَعْبَةِ كَطَوْقِ الحَجَفَةِ ثم استَقَرَّتْ» قال ابن الأَثير: وجاءَ في كِتَاب المُعْجَمِ الأَوْسَط للطَّبَرَانِيّ، عن عليٍّ رضي الله عنه «أَن النّبيّ، صلى الله عليه وسلم قال: السَّكِينَةُ ريحٌ خَجُوجٌ». وفي الحَدِيثِ الآخَرِ «إِذا حَمَلَ فهو خَجُوجٌ».
والخَجُّ: الدَّفْعُ، وفي النوادر: النّاس يَهُجُّونَ هذا الوادِيَ هَجًّا، ويَخُجُّونَه خَجًّا. أَي يَنْحَدِرُون فيه وَيَنْحَدِرُون فيه وَيَطَؤُونَهُ كثيرًا.
وأَصلُ الخَجِّ: الشَّقُّ، وبه سُمِّيَتِ الرِّيحُ الهَبُوبُ خَجُوجًا، لأَنّها تَخُجُّ؛ أَي تَشُقُّ.
والخَجُّ: الالْتِوَاءُ، وقد خَجَّتِ الرِّيحُ إِذا الْتَوَتْ في هُبُوبِها.
والخَجُّ: الجِمَاعُ، وخَجَّ جَارِيَتَه: مَسَحَهَا.
والخَجْخَجَةُ، كِنَايَةٌ عن النِّكاحِ.
والخَجُّ: الرَّمْيُ بِالسَّلْحِ، وخَجَّ بها ضَرَطَ.
والخَجُّ: النَّسْفُ فِي التُّرَابِ، وخَجَّ برِجْلِه: نَسَفَ بها التُّرَابَ في مِشْيَتِه.
والخَجْخَجَةُ: الانْقِباضُ والاستِخْفَاءُ في مَوْضِعٍ خَفِيٍّ، وفي التهذيب: في مَوْضِعٍ يَخْفَى فيه، قال: ويُقال أَيضًا بالحاءِ.
والخَجْخَجَةُ: هُبُوبُ الخَجُوجِ يقال خَجَّت وخَجْخَجَت، وقد تقدّم.
والخَجْخَجَةُ: سُرْعَةُ الإِنَاخَةِ والحُلُولِ، وقال اللّيث: الخَجْخَجَة تُوصَف في سُرعةِ الإِنَاخةِ وحُلولِ القَوْمِ.
والخَجْخَجَة: إِخْفَاءُ ما في النَّفْسِ يقال خَجْخَجَ الرَّجُلُ، إِذا لم يُبْدِ ما في نَفْسِه، مثل جَخْجَخَ، قاله الفرَّاءُ.
والخَجْخَجةُ: الجِمَاعُ، وفي اللسان: هو كِنَايَةٌ عن الجِمَاع، كما تقدَّمَ.
وَرَجُلٌ خَجَّاجَةٌ، هكذا بالتّشديد في النُّسخة، وفي بعضٍ بالتخفيف وخَجْخَاجَةٌ: أَحْمَقُ لا يَعْقِلُ، قاله ابنُ سيده، وقال أَبو منصور: لم أَسْمعْ خَجَّاجَة [في] نَعْتِ الأَحْمَقِ إِلَّا ما قَرَأْتُه في كتاب الليثِ قال: والمسموع من العرب جَخَابَةٌ، قاله ابنُ الأَعرابيّ وغيرُه.
والخَجَوْجَى من الرجال: الطَّوِيلُ الرِّجْلَيْنِ، قاله اللَّيْث.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
ما وَرَدَ في الحديث «الذي بَنَى الكَعْبَةَ لقُرَيْشٍ كان رُومِيًّا في سَفينةٍ أَصَابَتْهَا رِيحٌ فَخَجَّتْهَا» أَي صَرَفْتَها عن جِهَتِهَا ومَقْصِدِهَا بِشِدَّةِ عَصْفِهَا.
والخَجْخَاجُ مِن الرِّجَال: الذي يَهْمِرُ الكلامَ، ليستْ لِكلامِه جِهَةٌ.
وعن النضر: الخَجْخَاجُ من الرِّجال: الذي يُرِي أَنه جَادٌّ في أَمْرِه ولَيْس كَمَا يُرِي.
واخْتَجَّ الجَمَلُ والنَّاشِطُ في سَيْرِه وعَدْوِه، إِذا لم يَسْتَقِمْ، وذلك سُرْعَةٌ مَع الْتِواءٍ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
122-تاج العروس (سقد)
[سقد]: السُّقْدُد، كَقُعْدُد، أَهمله الجوهَريُّ وقال أَبو عَمرو هو: الفَرَسُ المُضَمَّر، كذا في التهذيب في الرُّباعيّ، وكذلك السِّلْقِدُ. وفي غيره: السُّقْدُ، بغير تكرار الدال، وأَسْقَدَه إِسقادًا وسَقَده [يَسْقِده]، سَقْدًا وسَقَّده تَسْقِيدًا وسَلْقَده: ضَمَّرَه.والسُّقْدَة، بالضم، ومنهقَوْلُ عبدِ الله بن مُعَيْزٍ السَّعْدِيّ: خَرَجْتُ سَحَرًا أُسَقِّدُ بفَرَس لي، فمرَرتُ على مَسْجِد بني حَنِيفَةَ فسَمعتُهم يَذكرون مُسَيْلِمةَ الكَذَّابَ، ويَزعمون أَنه نَبِيُّ، فأَتيْت ابنَ مَسعُودٍ فأَخْبَرتُه، فبَعَثَ إِليهم الشُّرَطَ، فجاءُوا بهم فاستتابَهُمْ فتابُوا، فخَلَّى عنهم، وقَدَّمَ ابنَ النَّوَّاحَة فضَرَبَ عُنُقَه.
والباءُ في أُسَقِّد بفرس مثل «في»، قَوْل ذي الرُّمَّة:
وإِنْ تَعْتَذِرْ بالمَحْلِ مِن ذِي ضُرُوعِها *** إِلى الضَّيْفِ يَجْرَحْ في عَراقِيبِها نَصْلِي
والمعنَى: أَفْعَلُ التَّضْمِيرَ بفَرَسِي.
وكَجُهَيْنة: الحُمَّرَةُ، طائرٌ معروفٌ، الجمع: سُقَدٌ، بضم ففتح، أَو بضمتين، كما هو مضبوط بهما في النُّسخ المُصحَّحة. وسُقَيْدات: جمْعُ سُقَيْدة.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
123-تاج العروس (سمر)
[سمر]: السُّمْرَةُ، بالضَّمّ مَنْزِلَةٌ بين البَيَاضِ والسَّوَادِ، تكون في أَلوانِ الناس والإِبِلِ وغيرها، فيما يَقْبَلُ ذلك، إِلّا أَنَّ الأُدْمَةَ في الإِبِل أَكْثَرُ، وحَكَى ابنُ الاعرابيّ السُّمْرَة في الماءِ.وقد سَمِرَ، ككَرُمَ وفَرِحَ، سُمْرَةً، بالضَّمّ فيهما؛ أَي في البابين.
واسْمَارَّ اسْمِيرارًا فهو أَسْمَرُ.
وبَعِيرٌ أَسْمَرُ: أَبيَضَ إِلى الشُّهْبَةِ.
في التَّهْذِيب: السُّمْرَةُ: لونُ الأَسْمَرِ، وهو لَوْنٌ يَضْرِبُ إِلى سَوَادٍ خَفِيّ، وفي صِفَتِه صلى الله عليه وسلم: «كَانَ أَسْمَرَ اللَّوْنِ» وفي روايةٍ «أَبْيَضَ مُشرَبًا حُمْرَةً»، قال ابنُ الأَثِير: ووَجْه الجَمْع بينَهُمَا أَنَّ ما يَبْرُزُ إِلى الشَّمْسِ كان أَسْمَرَ، وما تُوارِيه الثِّيَابُ وتَسْتُرُه فهو أَبْيَضُ. وجعَل شيخُنَا حَقِيقَةَ الأَسْمَر الذي يَغْلِبُ سَوادُه على بَيَاضِه، فاحتاجَ أَن يَجْعَلَه في وَصْفه صلى الله عليه وسلم بمعنى الأَبْيَضِ المُشْرَبِ، جَمْعًا بين القَوْلين، وادَّعَى أَنه من إِطلاقاتهم، وهو تكلُّف ظاهر، كما لا يخفَى، والوجهُ ما قاله ابنُ الأَثير.
وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: السُّمْرَةُ في الناسِ الوُرْقَةُ.
والأَسْمَرُ في قول حُمَيْدِ بنِ ثَوْرٍ:
إِلى مِثْلٍ دُرْجِ العَاج جَادَتْ شِعَابُه *** بأَسْمَرَ يَحْلَوْلِي بها ويَطِيبُ
قيل: عَنَى به اللَّبَن، وقال ابنُ الأَعرابيّ: هو لَبَنُ الظَّبْيَةِ خاصّةً، قال ابنُ سِيده: وأَظنُّه في لونه أَسْمَرَ.
والأَسْمَرَانِ: الماءُ والبُرُّ، قاله أَبو عُبَيْدَة أَو الماءُ، والرُّمْحُ، وكلاهما على التَّغَليب.
والسَّمْراءُ: الحِنْطَةُ: قال ابنُ مَيَّادَة:
يَكْفِيكَ من بَعْضِ ازْدِيَارِ الآفَاقْ *** سَمْرَاءُ ممّا دَرَسَ ابنُ مِخْرَاقْ
دَرَسَ: داس، وسيأْتي في السين تحقيق ذلك.
والسَّمْرَاءُ: الخُشْكَارُ، بالضّم، وهي أَعجمية.
والسَّمْرَاءُ العُلْبَةُ، نقله الصاغانيّ.
والسَّمْرَاءُ فَرسُ صَفْوَانَ بنِ أَبِي صُهْبَانَ.
والسَّمْرَاءُ: ناقَةٌ أَدماءُ، وبه فسَّرَ بعضٌ قولَ ابنِ مَيّادَةَ السابقَ، وجعَلَ دَرَسَ بمعنَى راضَ.
والسَّمْرَاءُ بنتُ نَهِيكٍ الأَسَدِيَّة، أَدْرَكَتْ زَمَنَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وعُمِّرَتْ.
وسَمَرَ يَسْمُرُ سَمْرًا، بالفتح، وسُمُورًا، بالضَّمّ: لم يَنَمْ، وهو سامِرٌ، وهُم السُّمّارُ والسَّامِرَةُ.
وفي الكتاب العزيز {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ} السّامِرُ: اسمُ الجَمْعِ، كالجَامِلِ، وقال الأَزهريّ: وقد جاءَتْ حُرُوفٌ عَلَى لَفْظِ فاعِلٍ وهي جَمْعٌ عن العَرَب، فمنها: الجَامِلُ، والسّامِرُ، والباقِرُ والحاضِرُ. والجامِلُ: الإِبلُ، ويكون فيها الذُّكُورُ والإِناثُ، والسَّامِرُ: الجَمَاعَةُ من الحَيّ يَسْمُرُونَ ليْلًا، والحَاضِرُ: الحَيُّ النُّزُولُ على الماءِ، والباقِرُ: البَقَرُ فيها الفُحُول والإِناثُ. والسَّمَرُ، مُحَرَّكَةً: اللَّيْلُ: قال الشّاعِرُ:
لا تَسْقِنِي إِنْ لَمْ أَزِرْ سَمَرًا *** غَطْفَانَ مَوْكِبَ جَحْفَلٍ فَخْمِ
وقال ابن أَحمرَ:
من دُونِهِمْ إِنْ جِئْتَهُمْ سَمَرًا *** حَيٌّ حِلَالٌ لَمْلَمٌ عَكِرُ
وقال الصّاغانِيّ بَدَلَ المِصْراع الثاني.
عَزْفُ القِيَانِ ومَجْلِسٌ غَمْرُ
أَراد إِن جِئْتَهُم لَيْلًا.
وقال أَبو حَنِيفَة: طُرِقَ القَوْمُ سَمَرًا، إِذا طُرِقُوا عند الصُّبْحِ، قال: والسَّمَرُ: اسمٌ لتلك السّاعَةِ من اللّيْلِ، وإِن لم يُطْرَقُوا فيها.
وقال الفَرّاءُ: في قول العرب: لا أَفْعَلُ ذلكَ السَّمَرَ والقَمَرَ، قال: السَّمَر: كُلُّ لَيْلَةٍ ليس فيها قَمَرٌ، المعنى: ما طَلَعَ القَمَرُ وما لم يَطْلُعُ.
والسَّمَرُ أَيضًا: حَدِيثُه؛ أَي حديثُ اللَّيْلِ خاصَّةً، وفي حَدِيثٍ: «السَّمَرُ بَعْدَ العِشَاءِ»، هكذا رُوِيَ محرَّكَةً من المُسامَرَةِ، وهي الحديثُ باللَّيْلِ، ورواه بعضُهم بسكون الميم، وجعلَه مَصْدَرًا.
والسَّمَرُ: ظِلُّ القَمَرِ، والسُّمْرَةُ مأْخُوذَةٌ من هذا.
قال بعضهم: أَصْلُ السَّمَر: ضَوْءُ القَمَرِ، لأَنَّهُم كانوا يَتَحَدَّثُون فيه.
والسَّمَرُ الدَّهْرُ، عن الفَرّاءِ، كالسَّمِيرِ، كأَمِيرٍ، يقال: فُلانٌ عندَه السَّمَر؛ أَي الدَّهْر.
وقال أَبو بكر: قولهم: حَلَفَ بالسَّمَرِ والقَمَرِ. قال الأَصمَعِيّ: السَّمَرُ عندَهم: الظُّلْمَة والأَصْلُ اجتماعُهُم يَسْمُرُونَ في الظُّلْمَة، ثم كَثُر الاستعمالُ حتى سَمَّوُا الظُّلْمَةَ سَمَرًا.
والسَّامِرُ: مَجْلِسُ السُّمّارِ، كالسَّمَرِ مُحَرَّكةً، قال اللَّيْثُ:
السَّامِرُ: الموضِع الذي يَجْتَمِعُون للسَّمَرِ فيه، وأَنشد:
وسامِرٍ طالَ فيه اللهْوُ والسَّمَرُ
وفي حَديثِ قَيْلَةَ: «إِذَا جاءَ زَوْجُها من السَّامِرِ».
والسَّمِيرُ: المُسَامِرُ، وهو الذي يَتَحَدَّث معَكَ باللَّيْل خاصَّةً، ثم أُطْلِقَ.
والسِّمِّيرُ، كسِكِّيتٍ: صاحبُ السَّمَرِ، وقد سامَرَه.
وذُو سامِرٍ: قَيْلٌ من أَقْيَالِ حِمْيَرَ.
وابْنا سَمِيرٍ، كأَمِيرٍ: الأَجَدَّانِ، هما اللَّيْلُ والنَّهَارُ؛ لأَنّه يُسْمَرُ فيهما، هكذا عَلَّلُوه، والسَّمَرُ في النّهارِ من باب المَجاز.
ويقال: لا أَفْعَلُه، أَو: لا آتِيكَ ما سَمَرَ السَّمِيرُ، وما سَمَرَ ابنُ سَمِيرٍ. وما سَمَرَ ابْنَا سَمِيرٍ، قيل: هو الدَّهْرُ، وابناه: اللّيْلُ والنّهارُ، وقيل: النَّاس يَسْمُرونَ باللَّيْلِ.
وحكى ما أَسْمَرَ، بالهمز، ولم يُفسِّر [أَسْمَرَ] قال ابن سِيدَه: ولعلّهَا لُغَة في سَمَر، ونقلَها الصّاغانيّ عن الزَّجّاج.
قلْت: وقد جاءَ في قَوْل عَبِيدِ بنِ الأَبْرَصِ:
فهُنَّ كِنْبراسِ النَّبِيطِ أَو ال *** فَرْضِ بِكَفِّ اللّاعِبِ المُسْمِرِ
في الكُلِّ ممّا ذكرَ؛ أَي يُقَال: ما أَسْمَرَ السَّمِيرُ وابنُ سَمِيرٍ وابْنا سَمِير؛ أَي ما اخْتَلَفَ اللَّيْلُ والنَّهَارُ، والمعنَى؛ أَي الدَّهْر كلّه، وقال الشّاعر:
وإِنِّي لَمِنْ عَبْسٍ وأَن قالَ قائِلٌ *** عَلَى رَغْمِه: ما أَسْمَرَ ابنُ سَمِيرِ
وسَمَرَ العَيْنَ: مثْل سَمَلَها، وفي حديث العُرَنِيِّينَ: «فَسَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَهُم» أَي أَحْمَى لها مَسامِيرَ الحديدِ، ثم كَحَلَهُم بها. أَو سَمَلَها بمعنَى فَقَأَهَا بشَوْكٍ أَو غيرِه، وقد رُوِيَ أَيضًا.
وسَمَرَ اللَّبَنَ يَسْمُره جَعَلَه سَمَارًا، كسَحَاب أَي المَمْذُوق بالماءِ، وقيل: هو اللَّبَنُ الرَّقِيقُ، وقيل: هو اللَّبَنُ الذي ثُلُثاه ماءٌ، وأَنشد الأَصْمَعِيّ:
وَلَيَأْزِلَنَّ وتَبْكُؤَنَّ لِقَاحُهُ *** ويُعَلِّلَنَّ صَبِيَّهُ بِسَمَارِ
وقيل: أَي كَثِيرٌ المَاءِ، قالَه ثعْلَبٌ، ولم يُعَيِّنْ قَدْرًا، وأَنشد:
سَقَانَا فَلَمْ يَهْجَأْ مِنَ الجُوعِ نَقْرَه *** سَمَارًا كإِبْطِ الذِّئْبِ سُودٌ حَوَاجِرُهْ
واحدتُه سَمَارَةٌ، يذهَب بذلك إِلى الطائفة.
وسَمَر السَّهْمَ. أَرْسَلَهُ، كسَمَّره تَسْمِيرًا، فيهما، أَما تَسْمِيرُ السَّهْمِ فسيأْتِي للمصنِّف في آخِر هذه المادّة، ولو ذَكرهما في مَحَلٍّ واحد كان أَلْيَقَ، مع أَن الأَزْهَرِيَّ وابنَ سِيدَه لم يَذْكُرا في اللَّبَنِ والسَّهْمِ إِلَّا التضعيف فقط.
وسَمَرَت الماشِيَةُ تَسْمُرُ سُمُورًا نَفَشَتْ.
وسَمَرت النَّبَاتَ تَسْمُرُه: رَعَتْهُ.
ويقال: إِن إِبِلَنا تَسْمُر؛ أَي تَرْعَى لَيْلًا.
وسَمَرَ الخَمْرَ: شَرِبَها لَيْلًا، قال القُطامِيّ:
ومُصَرَّعِينَ من الكَلَالِ كأَنَّما *** سَمَرُوا الغَبُوقَ من الطِّلاءِ المُعْرَقِ
وسَمَر الشَّيْءَ يَسْمُرُه، بالضَّمِّ، ويَسْمِرُه، بالكسر سَمْرًا، وسَمَّرَه تَسْمِيرًا، كلاهما: شَدَّه بالمِسْمَارِ، قال الزَّفَيَانُ:
لمَّا رَأَوْا من جَمْعِنَا النَّفِيرَا *** والحَلَقَ المُضَاعَفَ المَسْمُورَا
جَوَارِنًا تَرَى لها قَتِيرَا
والْمِسْمَارُ، بالكسر: ما يُشَدُّ بهِ، وهو واحِدُ مَسامِيرِ الحَدِيدِ.
والمِسْمَارُ: اسمُ كَلْب لمَيْمُونَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، يقال: إِنَّه مَرِضَ فقالَتْ: وارْحَمْتَا لمِسْمَارٍ.
والمِسْمَارُ: فَرَسُ عَمْرٍو الضَّبِّيّ، وله نَسْلٌ إِلى الآنَ موجودٌ.
والمِسْمَارُ: الرَّجُلُ الحَسَنُ القِوَامِ والرِّعْية بالإِبِلِ، نقله الصّاغانيّ.
والمَسْمُورُ: الرَّجُلُ القَلِيلُ اللَّحْمِ الشَّديِدُ أَسْرِ العِظَامِ والعَصَبِ، كذا في النَّوادر.
ومن المَجاز: المَسْمُور: المَخْلُوطُ المَمْذُوقُ من العَيْشِ غير صاف، مأْخوذٌ من سَمَارِ اللَّبَنِ.
والمَسْمُورَةُ، بهاءٍ: الجَارِيَةُ المَعْصُوبَةُ الجَسَدِ، غيرُ رِخْوَةِ اللَّحْمِ نقله الصَّاغانيّ، وهو مَجاز.
والسَّمُرُ، بضَمّ المِيمِ: شَجَرّ، م؛ أَي معروف، صِغَارُ الوَرَقِ قِصَارُ الشَّوْكِ، وله بَرَمَةٌ صَفْرَاءُ يأْكُلُهَا النّاسُ، وليس في العِضَاه شيءٌ أَجْوَد خَشَبًا من السَّمُر، يُنْقَلُ إِلى القُرَى، فتُغَمَّى بهِ البُيُوتُ، واحِدَتُها سَمُرَةٌ. خالفَ هنا قاعدَتَه «وهي بهاءٍ» وسُبْحَان من لا يسهو، وبها سَمَّوْا.
والجمْع سَمُرٌ وسَمُراتٌ، وأَسْمُرٌ في أَدْنَى العَدَدِ، وتَصْغِيرُه أُسَيْمِرٌ، وفي المثل: «أَشبَهَ شَرْجٌ شَرْجًا لو أَنَّ أُسَيْمِرًا».
وإِبِلٌ سَمُرِيَّةٌ، بضمّ الميم: تَأْكُلُهَا؛ أَي السَّمُرَ، عن أَبي حنيفة.
وسَمُرَةُ بنُ جُنَادَةَ بنِ جُنْدَب بنِ حُجَيْر السُّوَائِيّ، والدُ جابِرٍ، ذَكَره البُخَارِيّ.
وسَمُرَةُ بنُ عَمْرِو بنِ جُنْدَبٍ السُّوائِيّ، قيل: هو سَمُرَةُ بنُ جُنَادَةَ الذي تقدم.
وسَمُرَةُ بنُ جُنْدَبِ بنِ هِلَالٍ الفَزارِيّ، أَبو سَعِيد، وقيل: أَبو عَبْدِ الرَّحْمن، وقيل: أَبو عَبْدِ الله، وقيل: أَبُو سُلَيْمَان، حَلِيفُ الأَنصارِ، مات بعدَ أَبِي هُرَيْرَة سنة ثمانٍ وخمسين، قال البُخَارِيّ في التاريخ: مات آخِرَ سنة تسع وخمسين، وقال بعضهم: سنة سِتِّين. وسَمُرَةُ بنُ حَبِيب بنِ عبدِ شَمْسٍ الأُمَوِيّ، والد عبد الرحمن، يقال: إِنّه أَسْلَم، ذَكَرَه ابنُ حَبِيب في الصحابة.
وسَمُرَةُ بنُ رَبِيعَةَ العَدْوَانِيّ، ويقال: العَدَوِيّ، جاءَ يتقاضَى أَبا اليُسْرِ دَيْنًا عليه.
وسَمُرَةُ بنُ عَمْرٍو العَنْبَرِيّ، أَجازَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم له شهادةً لزبيبٍ العَنْبَرِيّ.
وسَمُرَةُ بنُ فَاتِكٍ الأَسَدِيّ، أَسَد خُزَيْمَةَ، حديثه في الشّامِيِّينَ، رَوَى عنه بُسْر بن عُبَيْدِ الله، ذكره البُخَارِيّ في التاريخ.
وسَمُرَةُ بنُ مُعَاوِيَةَ بنِ عَمْرو الكِنْدِيّ، له وِفَادَةٌ، ذَكَرَه أَبو موسى.
وسَمُرَةُ بنُ مِعْيَر بنِ لَوْذَان بن رَبِيعَةَ بن عُريج بن سَعْدِ بنِ جُمَح بنِ عَمْرِو بن هُصَيْصٍ الجُمَحِيّ أَبو مَحْذُورَةَ القُرَشِيّ، مُؤَذّنُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال البُخَارِيّ في التاريخ: سمّاه أَبو عاصِمٍ عن ابن جُرَيْج: سَمُرَةَ بنَ مُعِين؛ أَي بالضمّ، وقال محمدُ بن بَكْر، عن ابنِ جُرَيْج: سَمُرَة بن مَعِينٍ؛ أَي كأَمير، وهذا وَهَمٌ، وقال لنا موسَى: حدَّثَنا حمّاد بنُ سَلَمَةَ، عن علي بن زَيْد، حَدَّثَنِي أَوْسُ بنُ خالِد: مات أَبو هُرَيْرَةَ ثم مَاتَ أَبو مَحْذُورَةَ ثم مَاتَ سَمُرَةُ. صحابِيُّون.
* وفاته:
سَمُرَةُ بن يَحْيَى، وسَمَرَةُ بنُ قُحَيْف، وسَمْرَة بن سِيسَنٍ وسَمُرَةُ بنُ شَهْر، ذَكرهم البُخَارِيُّ في التاريخ، الأَوّل والثّالِثُ تابِعِيّان.
وجُنْدَبُ بنُ مَرْوَانَ السَّمُرِيّ، من وَلَدِ سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ الصّحابيِّ، هكذا في النُّسَخ، والذي في التبْصِير، وغيرِه: من وَلدِ سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ مَرْوانُ بنُ جَعْفَر بنِ سَعْدِ بنِ سَمُرَةَ، شيخٌ لِمُطَيّن، فاشتبه على المُصَنّف، فجعله جُنْدَبَ بنَ مَرْوَان، وهو وَهَمٌ، فتأَمَّل.
ومُحَمَّدُ بنُ مُوسَى السَّمَرِيُّ، مُحَرَّكَةً: مُحَدِّثٌ، حَكَى عن حَمّاد بنِ إِسْحاقَ المَوْصِلِيّ.
وسُمَيْرٌ، كزُبَيْرٍ، أَبُو سُلَيْمَانَ، روَى جريرُ بنُ عُثْمَانَ عن سُلَيْمَانَ عن أَبيهِ سُمَيْر.
وسُمَيْرُ بنُ الحُصَيْن بنِ الحارِث السّاعِدِيُّ الخَزْرَجِيّ، أُحُدِيٌّ. صحابِيّانِ.
* وفاته:
سُمَيْرُ بنُ مُعَاذ، عن عائِشَةَ، وسُمَيْرُ بنُ نَهار، عن أَبي هُرَيْرَةَ، وخالِدُ بنُ سُمَيْر وغيرهم، وسُمَيْرُ بنُ زُهَيْر: أَخُو سَلَمَة، له ذِكْر.
قال الحافظ ـ في التبصير ـ: ويَنْبَغِي استيعابُهُم، وهم: سُمَيْرُ بنُ أَسَدِ بن هَمّام: شاعِر.
وسُمَيْرٌ أَبو عاصمٍ الضَّبِّيّ، شيخُ أَبي الأَحْوَص.
وأَبُو سُمَيْر حَكيمُ بنُ جِذَام، عن الأَعْمَش، ومَعْمَرُ بن سُمَيْر اليَشْكُرِيّ، أَدركَ عثمانَ، وعبّاسُ بنُ سُمَيْر، مصْرِيٌّ، روى عنه المُفَضَّلُ بنُ فَضَالَة، والسُّمَيْطُ بن سُمَيْر السَّدُوسِيّ، عن أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيّ، وعُقَيْل بنُ سُمَيْرٍ، عن أَبي عَمْرٍو، ويَسَارُ بنُ سُمَيْرِ بنِ يَسارٍ العِجْلِيّ، من الزُّهادِ، رَوَى عن أَبي داودَ الطَّيالِسِيّ وغيره، وأَبو نَصْرٍ أَحمدُ بنُ عبدِ الله بن سُمَيْرٍ، عن أَبي بكرِ بنِ أَبي عَلِيّ، وعنه إِسماعيلُ التَّيْمِيّ، وأَبُو السَّلِيل ضُرَيْبُ بنُ نُفَيْرِ بنِ سُمَيْر، مشهورٌ، وجَرْداءُ بنتُ سُمَيْر، رَوَتْ عن زَوْجِهَا هَرْثَمَةَ، عن عليّ، وسُمَيْر بنُ عاتِكَة، في بني حَنِيفَة، وأَبو بكرٍ مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ بنِ حمويهْ بن جابِر بن سُمَيْر الحَدّاد النَّيْسَابُورِيّ، عن محمّد بن أَشْرَسَ وغيرِه.
والسَّمَارُ، كسَحَابٍ: موضع، كذا قاله الجَوْهَرِيّ، وأَنشد لابنِ أَحْمَرَ الباهِلِيِّ:
لَئِنْ وَرَدَ السَّمَارَ لنَقْتُلَنْهُ *** فلَا وأَبِيكَ ما وَرَدَ السَّمَارَا
أَخَافُ بَوَائِقًا تَسْرِي إِلينا *** من الأَشْياعِ سِرًّا أَو جِهَارَا
قال الصَّاغانيّ: والصّوابُ في اسمِ هذا الموضعِ بالضَّمِّ، وكذا في شعرِ ابنِ أَحْمَرَ، والرواية «لا أَرِدُ السُّمارَا».
وسُمَيْرَاءُ، يُمَدّ، ويُقْصَر: موضع من منازِلِ حاجِّ الكُوفَةِ، على مَرْحَلة من فَيْد، ممّا يلِي الحِجَازَ، أَنشد ابنُ دُرَيْد في الممدود:
يا رُبَّ جارٍ لكَ بالحَزِيزِ *** بينَ سُمَيْرَاءَ وبينَ تُوزِ
وأَنشَدَ ثَعْلَبٌ لأَبِي مُحَمَّد الحَذْلَمِيّ:
تَرْعى سُمَيْرَاءَ إِلى أَرْمَامِهَا *** إِلى الطُّرَيْفَاتِ إِلى أَهْضَامِهَا
وسُمَيْراءُ بِنْتُ قَيْسٍ: صحابِيَّةٌ ويقال فيها: السَّمْرَاءُ أَيْضًا، لها ذِكْرٌ.
والسَّمُورُ، كصَبُورٍ: النَّجِيبُ السَّرِيعَةُ من النُّوقِ وأَنشد شَمِرٌ:
فما كانَ إِلّا عَنْ قَلِيلٍ فأَلْحَقَتْ *** بَنَا الحَيَّ شَوْشَاءُ النَّجَاءِ سَمُورُ
والسَّمُّورُ، كتَنُّور: دابَّةٌ مَعْرُوفَةٌ تكون ببلادِ الرُّوسِ، وراءَ بلادِ التُّرْكِ، تُشْبِه النِّمْسَ، ومنها أَسودُ لامعٌ، وأَشْقَرُ، يُتَّخَذُ من جِلْدِهَا فِرَاءٌ مُثْمِنَةٌ؛ أَي غاليةُ الأَثْمَان، وقد ذكرَه أَبو زُبَيْدٍ الطّائِيّ، فقال يذكُرُ الأَسَدَ:
حَتّى إِذَا ما رَأَى الأَبْصَارَ قد غَفَلَتْ *** واجْتَابَ من ظُلْمَةٍ جُوذِيَّ سَمُّورِ
أَرادَا جُبَّةَ سَمُّورٍ، لسَوادِ وَبَرِه، ووَهِمَ من قال في السَّمُّورِ إِنَّهُ اسمُ نَبْت، فليُتَنَبّهْ لذلك.
وسَمُّورَةُ، بزيادة الهاءِ، ويقال: سَمُّرَةُ، بحذف الواو: اسم مَدِينَة الجَلالِقَةِ.
والسَّامِرَةُ، كصاحِبَةٍ: قرية. بين الحَرَمَيْنِ الشّرِيفَيْنِ.
والسَّامِرَةُ والسَّمَرَة: قَوْمٌ من اليَهُودِ من قَبَائِلِ بني إِسرائيلَ يُخَالِفُونَهُم؛ أَي اليهود في بَعْضِ أَحكامِهِمْ، كإِنْكَارِهِمْ نُبُوَّةَ من جَاءَ بعد موسى عليهالسلام، وقولهم: {لا مِساسَ} وزعمهم أَنَّ نابُلُسَ هي بيتُ المَقْدِسِ، وهم صِنْفَانِ: الكُوشانُ والدّوشان وإِليهم نُسِبَ السّامِرِيُّ: الذِي عَبَدَ العِجْلَ الذي سُمِعَ له خُوارٌ، قيل: كانَ عِلْجًا مُنافقًا مِنْ كِرْمَانَ، وقيل: من بَاحَرْضَى أَو عظيمًا من بَنِي إِسْرَائِيلَ، واسمُه موسَى بن ظَفَر، كذا ذكرَه السُّهَيْلِيّ في كتابه الإِعْلام أَثناءَ طه، وأَنشد الزَّمَخْشَرِيُّ في رَجلين اسمُ كلِّ واحدٍ منهما موسى، كانا بمكَّةَ، فسُئِلَ عنهما، فقال:
سُئِلْتُ عن مُوسَى ومُوسَى ما الخَبَرْ *** فقُلْتُ: شَيْخَانِ كقِسْمَيِ القَدَرْ
والفَرْقُ بينَ مُوسَيَيْنِ قد ظَهَرْ *** مُوسَى بن عِمْرَانَ ومُوسَى بن ظَفَرْ
قال: ومُوسَى بنُ ظَفَر هو السّامِرِيّ مَنْسُوبٌ إِلى مَوْضِعٍ لهُمْ أَو إِلى قَبِيلَةٍ من بني إِسرائيلَ يقال لها سامِر.
قال الحافِظُ بن حَجَر في التَّبْصِير: وممن أَسْلَمَ من السّامِرَةِ: شِهَابُ الدِّينِ السّامِرِيّ رئيسُ الأَطباءِ بمصر، أَسْلم على يَدِ المَلِكِ النّاصِر، وكانت فيه فضيلَةٌ، انتهى.
قال الزَّجّاج: وهم إِلى هذه الغايةِ بالشّام.
قلْت: وأَكثرهم في جَبَل نابُلُس، وقد رأَيتُ منهم جماعةً أَيّامَ زِيَارَتِي للبَيْت المُقَدّس، منهم الكاتِبُ الماهر المُنْشِئ البليغ: غَزَالٌ السّامِرِيّ، ذاكَرَنِي في المَقَامَاتِ الحَرِيرِيّة وغيرها، وعَزَمَنِي إِلى بُسْتَان له بثَغْرِ يافَا، وأَسلَم وَلَدُه، وسُمِّيَ مُحَمَّدًا الصادق، وهو حيّ الآنَ، أَنشد شيخُنا في شرحه:
إِذا الطّفْلُ لم يُكْتَبْ نَجِيبًا تَخَلَّفَ اجْ *** تِهَادُ مُرَبِّيهِ وخابَ المُؤَمِّلُ
فمُوسَى الذِي رَبّاهُ جِبْرِيلُ كافِرٌ *** ومُوسَى الذي رَبّاهُ فِرْعُونُ مُرْسَلُ
قال البَغَوِيّ في تفسيره: قيل: لما وَلَدَتْهُ أُمه في السّنَة التي كان يُقْتَلُ فيها البنونَ، وضَعَتْه في كَهْفٍ حَذَرًا عليه، فبعَثَ الله جِبْرِيلَ ليُرَبِّيَه لَمَّا قَضَى الله عليه وبه من الفِتْنَة.
وإِبْرَاهِيمُ بنُ أَبِي العَبّاسِ السَّامَرِيّ، بفتح المِيم، وضَبطَه الحافظُ بكسرها: مُحَدِّثٌ عن محمّدِ بنِ حِمْيَر الحِمْصِيّ، قال الحافظ: وهو من مشايخِ أَحمدَ بنِ حَنْبَل، ورَوَى له النَّسَائِيّ، وكأَنّ أَصلَه كان سامِرِيًّا، أَو جاوَرَهم، وقيل: نُسِبَ إِلى السّامِرِيّة، مَحَلّة ببَغْدَادَ، وليس من سَامَرَّا التي هِيَ سُرّ مَنْ رَأَى، كما يَظُنّه الأَكثرون، وقد تقدّم سامَرّا.
وسُمَيْرَةُ، كجُهَيْنَةَ: امْرَأَةٌ من بَنِي مُعَاوِيَةَ بنِ بَكْرٍ كانَتْ لَهَا سِنٌّ مُشْرِفَةٌ على أَسْنَانِها بالإِفراط.
وسِنّ سُمَيْرَةَ: جَبَلٌ بل عَقَبَة قُرْبَ هَمَذَان شُبِّه بِسنِّهَا، فصارَ اسمًا لها.
والسُّمَيْرَةُ: وادٍ قُرْبَ حُنَيْن، قُتِلَ به دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة.
والسَّمَرْمَرَةُ: الغُولُ، نقله الصَّاغانيّ.
والتَّسْمِيرُ، بالسين، هو التَّشْمِيرُ، بالشين، ومنهقول عُمَرَ رضي الله عنه: «مَا يُقِرُّ رَجُلٌ أَنه كان يَطَأُ جارِيَتَه إِلّا أَلْحَقْتُ به ولدَهَا، فمن شاءَ فليُمْسِكْهَا، ومن شاءَ فليُسَمِّرْها». قال الأَصمعيّ: أَرادَ به التَّشْمِيرَ بالشين، فحوّله إِلى السّين، وهو الإِرْسالُ والتَّخْلِيَةُ، وقال شَمِر: هما لُغَتَان، بالسين والشين، ومعناهما الإِرسال وقال أَبو عُبَيْد: لم تُسْمَع السين المهملة إِلا في هذا الحديث، وما يكونُ إِلّا تَحْوِيلًا، كما قال: سَمَّتَ وشَمَّتَ.
أَو التَّسْمِيرُ: إِرسالُ السَّهْمِ بالعَجَلَةِ. والخَرْقَلَةُ: إِرْسَالُه بالتَّأَنِّي، كما رواه أَبو العَبّاس، عن ابن الأَعرابيّ، يقال للأَوّل: سَمِّرْ فقد أَخْطَبَك الصَّيْدُ، وللآخر: خَرْقِلْ حتَّى يُخْطِبَكَ [الصيد].
* ومما يُستدرك عليه:
عامٌ أَسْمَرُ، إِذا كان جَدْيًا شديدًا لا مَطَرَ فيه، كما قالوا فيه: أَسْوَد، قال أَبو ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيُّ:
وقد عَلِمَتْ أَبناءُ خِنْدِفَ أَنَّه *** فَتاهَا إِذا ما اغْبَرَّ أَسْمَرُ عاصِبُ
وقوم سُمّارٌ، وسُمَّرٌ، كَرُمّان وسُكَّر.
والسَّمْرَةُ: الأُحْدُوثَةُ باللَّيْل.
وأَسْمَرَ الرجلُ: صار له سَمُرٌ، كأَهْزَلَ وأَسْمَنَ.
ولا أَفعلُه سَمِيرَ اللَّيَالي؛ أَي آخِرَها، وقال الشَّنْفَرَى:
هُنَالِكَ لا أَرْجُو حَياةً تَسُرُّنِي *** سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْصَرًا بالجَرَائِرِ
وسامِرُ الإِبِل، ما رَعَى منها باللَّيْل.
والسُّمَيْرِيَّةُ: ضَرْبٌ من السُّفُن.
وسَمَّرَ السفينةَ أَيضًا: أَرْسَلَها،.
وسَمَّرَ الإِبِلَ: أَهْمَلَهَا، تَسْمِيرًا، وسَمَّرَ شَوْلَة: خَلَّاها، وسَمَّرَ إِبلَه وأَسْمَرَها، إِذا كَمَشَها، والأَصل الشين فأَبدلوا مِنها السّين، قال الشاعر:
أَرَى الأَسْمَرَ الحُلْبُوبَ سَمَّرَ شَوْلَنا *** لشَوْلٍ رَآهَا قَدْ شَتَتْ كالمَجَادِلِ
قال: رَأَى إِبِلًا سِمَانًا، فَترَكَ إِبِلَهُ وسَمَّرها؛ أَي سَيَّبَها وخَلّاهَا.
وفي الحَدِيث ذكر أَصحاب السَّمُرَة؛ وهم أَصحابُ بَيْعَةِ الرِّضْوان.
والسُّمَار، كغُرَابٍ: موضعٌ بين حَلْيٍ وجُدَّة، وقد ورَدْتُه.
وسُمَيْر، كزُبَيْر: جَبَلٌ في ديار طَيِّيءٍ. وكأَمِير: اسمُ ثَبِيرٍ الجَبَل الذي بِمَكَّة، كان يُدْعَى بذلك في الجاهلية.
والسَّامِرِيَّةُ: مَحلَّة ببغْدَادَ.
وقال الأَزْهَرِيّ: رأَيتُ لأَبي الهَيْثَمِ بخَطّه:
فإِنْ تَكُ أَشْطَانُ النَّوَى اخْتَلَفَتْ بِنَا *** كما اخْتَلَفَ ابنْا جَالِسٍ وسَمِيرِ
قال: ابنا جَالسٍ: طَرِيقَانِ يُخَالِف كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه.
وحَكَى ابنُ الأَعْرَابيّ: أَعْطَيْتُه سُمَيْرِيَّةً من دَرَاهِمَ، كأَنَّ الدُّخانَ يَخْرُج منها. ولم يُفَسِّرها، قال ابنُ سِيدَه: أَراه عَنَى دَراهِمَ سُمْرًا، وقوله: كأَنَّ الدُّخَانَ، إِلى آخرِه، يعنِي كُدْرَةَ لَوْنِها، أَو طَرَاءَ بَياضِهَا.
وابنُ سَمُرَةَ: من شُعَرائِهِم، وهو عَطِيَّةُ بنُ سَمُرَة اللَّيْثِيّ.
ومحمّدُ بنُ الجَهْمِ السِّمَّرِيّ، بكسر السين وتشديد الميم المفتوحة، إِلى بلدٍ بينَ واسِطَ والبَصْرَةِ: مُحَدِّثٌ مشهور، وابنُه من شيوخ الطَّبَرَانِيّ.
وكذلك عبدُ الله بنُ محمّدٍ السِّمَّرِيّ، عن الحُسَين بن الحَسَن السّلمانيّ.
وخَلَفُ بنُ أَحْمَد بنِ خَلَفٍ أَبو الوليد السِّمَّرِيّ، عن سُوَيْد بن سَعِيد.
وحَمْزَةُ بنُ أَحمَد بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَمْزَةَ السِّمَّرِيّ، عن أَبِيه، وعنه ابنُ المقرئ، كذا في التبصير للحافظ.
وأَبو بكرٍ مِسْمَارُ بنُ العُوَيس النَّيّار، مُحَدّثٌ بَغْدَادِيّ.
وتَلُّ مِسْمَارٍ: من قُرَى مصر.
وذو سَمُرٍ: موضع بالحجاز.
وسِكَّة سَمُرَةَ: بالبَصْرَة.
وسُمَارَةُ بالضمّ: موضع باليَمَن.
وسِمَارَةُ الليلِ، بالكَسْر: سَمَرُه، عن الفرّاءِ، نقله الصّاغانيّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
124-تاج العروس (شنتر)
[شنتر]: الشُّنْتُرَةُ، بالضَّمِّ، على الصواب وفَتْحُهَا ضَعِيفٌ وإِن حَكَاه أَقوامٌ وصَحَّحُوه: الإِصْبَعُ، بالحِمْيَرِيّة، قال حِمْيَرِيّ منهم يَرْثِي امرأَةً أَكَلَهَا الذِّئْبُ:أَيَا جَحْمَتَا بَكِّي عَلَى أُمِّ وَاهِبِ *** أَكِيلَةِ قِلَّوْبٍ ببَعْضَ المَذَانِبِ
فلم يُبْقِ مَنْهَا غَيْرَ شَطْرِ عِجَانِهَا *** وشُنْتُرَةٍ منها وإِحْدَى الذَّوائِبِ
الجمع: شَنَاتِرُ.
والشُّنْتُرَةُ، أَيضًا: ما بَيْن الإِصْبَعَيْنِ، وذَكَرَه الصاغانيّ في: ش ت ر، وقال: هو الشُّتْرَةُ.
وفي التهذيب: الشَّنْتَرَةُ والشِّنْتِيرَةُ: الإِصْبَعُ، بلغِة اليمن، وأَنشد أَبو زيد:
ولم يُبْقِ منها غيرَ شَطْرِ عِجَانِها *** وشِنْتِيرَةٍ منها وإِحْدَى الذَّوَائِبِ
وقولهم: لأَضُمَّنّكَ ضَمَّ الشَّنَاتِرِ، وهي الأَصابِعُ، ويقال: القِرَطَةُ، وهي لغة يَمانِيَّة.
وذو الشَّنَاتِرِ ـ بالفَتْح، على أَنه جمْع شُنْتُرَة، وهو الأَكثَر الأَشهر وفي بعض التّوارِيخِ المَوْضُوعة في الأَذْوَاءِ ضَبَطُوه بضمّ الشِّينِ كعُلَابِط، قال شيخُنَا وما إِخالُه صحيحًا ـ من مُلُوكِ اليَمَنِ وقيل: هو من المَقَاوِلِ، وليس من بَيْتِ المُلُوك، وصَوَّبُوه، اسمُهُ لَخْتِيعَةُ، بفتح اللّامِ وسكون الخَاءِ وكسر التاءِ المثنَّاة، وفتح العين المهملة بعدها هاءُ تأْنيثٍ، وقيل: هو لَخِيعَةُ، كما يأْتِي في لخع، وقيل اسمه يَنُوف، وبه جَزَمَ الشيخُ عبدُ القَادِرِ بنُ عُمَرَ البغدادِيّ في شَرْحِ شَواهدِ الرَّضِىّ، كما قاله شيخُنَا والصاغانيّ في مادة ش ت ر قالوا: كانَ يَنْكِحُ وِلْدَانَ حِمْيَرَ، ويفعل الفاحِشَة فيهم لِئلّا يُمَلَّكُوا لأَنَّهُم لم يَكُونُوا يُمَلِّكُونَ عليهم من نُكِحَ، فسمِعَ بغُلامٍ جميلٍ اسمُه ذو نُوَاسٍ، لذُؤَابَةٍ له كانت تَنُوسُ على كَتِفَيْه، فبعَثَ إِليه ليَفْعَلَ به، فلمّا خَلَا بِه جَبَّ مَذَاكِيرَهُ، وقطعَ رَأْسَه، ووَضَعَه في طاقَةٍ حَصِينَة مُشْرِفَةٍ على عَسْكَرِه، فلمّا خَرَجَ قَالُوا به رَطْبٌ أَمْ يَابِس؟ قال: سَلُوا الرّأْسَ الجَالِس؟ فلمّا تَحَقَّقُوا أَمْرَه قالوا: ما يَسْتَحِقُّ المُلْكَ إِلّا من أَرَاحَنا من هذا الجَبّارِ، فوَلّوْه المُلْكَ، وهو صاحبُ الأُخْدُود المذكور في القُرْآن، لأَنّه تَهَوَّدَ، قالَه في المُضَافِ والمَنْسُوب، قالوا: وكان مُلْكُ ذِي الشَّناتِر سَبْعًا وعِشْرِينَ سنةً، وفي الرَّوضِ الأُنُفِ عن الأَغَانِي: كانَ الغُلامُ إِذَا خَرَجَ من عندِ لَخْتِيعَةَ، وقد لاطَ بِهِ قَطَعُوا مَشَافِرَ ناقَتِه وذَنَبَهَا، وصاحُوا به: أَرَطْبٌ أَم يابِسٌ؟ فلمّا خَرَجَ ذُو نُوَاس، ورَكِبَ ناقَةً له تُسَمّى السَّرَاب، قالوا: ذَا نُوَاس، أَرَطْبٌ أَم يُبَاسٌ؟ قال: سَتَعْلَمُ الأَحْرَاس، اسْت ذِي نُوَاس، اسْتٌ رَطْبَان أَم يُبَاسٌ، كذا في شَرْحِ شيخنا. لُقِّبَ به لإِصْبَعٍ زائِدَةٍ له، وقيل: لعِظَمِ أَصابِعِه، ويقال: معناه ذو القِرَطَة، كما في الصّحاح واللسان.
وَشَنْتَرَ ثَوْبَه: مَزَّقَهُ، قال شيخُنَا: كلامُ المصنّف صَرِيحٌ في أَصَالة نُونِ الشَّنْتَرَةِ، وصَوَّبَ غيرُه أَنّهَا زائدةٌ، وأَلْحَقُوها بسُنْبُلٍ، وهو صَرِيحُ صَنِيعِ الجَوْهَرِيّ؛ لأَنّه ذَكَره في شتر، ولم يَجْعَلْ له ترجمةً خاصّةً كما صنَع المصَنّف، انتَهَى.
والشِّنْتَارُ والشِّنْتِيرُ: العَيّارُ، شامِيَّة.
وشَنْتَرِينُ، من كُوَرِ بَاجَةَ بالأَنْدَلُس منها: أَبو عُثْمَانَ سَعِيدُ بنُ عبدِ الله العَرُوضِيّ الشّاعِر، ذَكَرَه ابنُ حَزْم.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
125-تاج العروس (قر قرر قرقر)
والقَرْقَرَةُ: الضَّحِكُ إِذا اسْتُغْرِبَ فيه ورُجِّعَ، وقال ابنُ القَطّاع: هو حِكَايَةٌ الضّحِك. وقال شَمِرٌ: هو شِبْهُ القَهْقَهَةِ.وفي الحديث: «لا بَأْسَ بالتَّبَسُّم ما لَمْ يُقَرْقِر». والقَرْقَرَة: هَدِيرُ البَعِيرِ، أَو أَحْسَنُه؛ الأَخِيرُ لابْنِ القَطَّاع. وقَرْقَرَ البَعِيرُ قَرْقَرَةً، وذلك إِذا هَدَلَ صَوْتَه ورَجَّعَ؛ والجَمْعُ القَرَاقِرُ، والاسْمُ القَرْقَارُ، بالفَتْح. يقال: بَعِيرٌ قَرْقَارُ الهَدِير: صافِي الصَّوْتِ في هَدِيرِه، قال حُمَيْدٌ:
جاءَ بِهَا الوُرّادُ يَحْجِزُ بَيْنَهَا *** سُدًى بَيْنَ قَرْقَارِ الهَدِيرِ وأَعْجَمَا
والقَرْقَرَةُ: صَوْتُ الحَمَامِ إِذا هَدَرَ، وقَدْ قَرْقَرَتْ قَرْقَرَةً، كالقَرْقَرِيرِ، نادِرٌ، وأَنشد ابنُ القَطَّاع:
إِذا قَرْقَرَتْ هاجَ الهَوَى قَرْقَرِيرُها
وقال ابنُ جِنّي: القَرْقِيرُ [فَعْلِيل] جَعَلَه رباعيًّا. قلتُ: وقرأْتُ في كِتَابِ غَرِيب الحَمَامِ للحَسَنِ بن عبد الله الكاتِبِ الأَصْبَهَانِيّ ما نَصّه: وقَرْقَرَ الحَمَامُ قَرْقَرَةً، وقَرْقارًا؛ والقَرْقارُ الاسْمُ والمَصْدَرُ جميعًا، وكذلك القَرْقَرَة، قال:
فوَ اللهِ ما أَنْساكِ ما هَبَّتِ الصَّبَا *** وما قَرْقَرَ القُمْرِيُّ في ناضِرِ الشَّجَرْ
والقَرْقَرَةُ: أَرضٌ مُطْمَئنَّة لَيِّنةٌ يَنْحَازُ إِليها الماءُ، كالقَرْقَرِ، بلا هاءٍ. وفي حَدِيث الزَّكَاة: «بُطِحَ له بِقاعٍ قَرْقَرٍ»، هو المكانُ المُسْتَوِي. وقِيلَ: القَرْقَرَة: الأَرضُ المَلْسَاءُ ليست بجِدِّ وَاسِعَة، فإِذا اتَّسَعَت غَلَبَ عليها اسمُ التَّذْكِيرِ فقالُوا: قَرْقَرٌ. قال: والقَرَقُ: مثل القَرْقَر سَواءٌ. وقال ابنُ أَحْمَر: القَرْقَرَةُ: وَسَطُ القاعِ، ووَسَطُ الغائطِ المَكَانُ الأَجْرَدُ منه لا شَجَر فيه ولا دَفّ ولا حِجَارَة، إِنّمَا هي طِينٌ لَيْسَت بجَبَل ولا قُفٍّ، وعَرْضُهَا نحوٌ من عَشَرَةِ أَذْرُعٍ أَو أَقلّ، وكذلك طُولها. والقَرْقَرَةُ: لَقَبُ سَعْدٍ هازِلِ النُّعْمَانِ بنِ المُنْذِر مَلِكِ الحِيرَة، كانَ يَضْحَك منه، يُقَالُ له: «سَعْدٌ القَرْقَرَةُ» وسيأْتِي له ذِكر في «س بلد ف».
وفي الحديثِ: «فإِذا قُرِّبَ المُهْلُ منه سَقَطَت قَرْقَرةُ وَجْهِه»، القَرْقَرةُ من الوَجْهِ: ظاهِرُه وما بَدَا منه؛ هكذا فَسَّره الزمخشريّ. قال: ومنه قِيل للصَّحراءِ البارِزَةِ: قَرْقَر. وقيل: القَرْقَرة: جِلْدَةُ الوَجْهِ؛ حكاه ابنُ سِيده عن الغَرِيبَيْن للهروِيّ. ويُرْوَى: «فَرْوةُ وَجْهِه» بالفاءِ. أَو ما بدَا من مَحاسِنه، ورَقْرقَ، فهو تصحيف رقْرقة.
ويقال: شَرِبَ بالقَرْقارِ، القَرْقارُ، بالفَتْح: إِناءٌ من زُجاجٍ، طَوِيلُ العُنُقِ، وهو الذي يُسَمّيه الفُرْسُ بالصُّرَاحِيّ.
وهو في الأَساسِ واللّسَانِ «القَرْقارَةُ» بالهاءِ، وفي الأَخِير: سُمِّيتْ بذلك لقَرْقَرَتِها.
والقَرْقَارةُ بالهاءِ: الشِّقْشِقَةُ؛ أَي شِقْشِقَة الفَحْلِ إِذا هَدَرَ.
والقُرَاقِرُ، كعُلابِطٍ: الحادِي الحسَنُ الصَّوتِ الجيِّدُهُ، كالقُراقِريّ، بالضمّ، وهو من القَرْقَرة. قال الراجز:
أَصْبَح صَوْتُ عامرٍ صَئِيَّا *** مِنْ بَعْدِ ما كانَ قُرَاقِرِيَّا
فمَنْ يُنَادِي بَعْدَكَ المَطِيَّا
والقُرَاقِرُ: فَرسٌ لِعَامِرِ بن قيْسٍ، قال:
وكان حَدّاءً قُرَاقِرِيَّا
والقُرَاقِرُ سَيْفُ ابنِ عامِرٍ هكذا في النُّسخ، وهو غَلطٌ، وصوابه؛ سَيْفُ عامِرِ بن يَزيد بن عامِرِ بن المُلَوَّح الكِنانيّ.
وقُرَاقِرُ: فرَسُ أَشْجَعَ بنِ رَيْثِ بن غَطَفَانَ.
وقُرَاقِر: موضع بْينَ الكُوفَةِ وواسَطٍ ويُقَال: بَيْن الكُوفَة والبَصْرَة قريبٌ من ذِي قارٍ، وهو اسمُ ماءٍ بعَيْنِه. وقال ابنُ بَرِّيّ: هو خَلْفَ البَصْرَة، ودُونَ الكَوفَة، قَرِيبٌ من ذِي قار، ومنه غَزَاةُ قُرَاقِرٍ. قال الأَعْشَى:
فِدًى لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَان ناقتِي *** وراكِبُهَا يومَ اللِّقَاءِ وقَلَّتِ
همُ ضَرَبُوا بالحِنْو حِنْوِ قُرَاقِرٍ *** مُقَدِّمةَ الهَامَرْزِ حَتَّى تَوَلَّتِ
قال ابنُ بَرِّيّ: يَذْكُر فِعْلَ بَنِي ذُهْل يومَ ذي قارٍ، وجعلَ النَّصْرَ لهم خاصَّةً دونَ بني بَكْرِ بنِ وائلٍ. والهَامَرْزُ: رجلٌ من العَجَم من قُوَّاد كِسْرَى. وفي الرَّوضِ الأُنف للسهيليّ: وأَنشد ابنُ هِشَام للأَعشى:
والصَّعْبُ ذُو القَرْنَيْنِ أَصْبَح ثاوِيًا *** بالحِنْوِ في جَدَثٍ أُمَيْمَ مُقِيمِ
قال: قولُه: بالحِنْوِ يريد حِنْوَ قُرَاقِر الّذِي ماتَ فيه ذُو القَرْنَيْن بالعِرَاق.
وقُرَاقِر: موضع بالسَّماوَة في بادِيَة الشامِ لِبَنِي كَلْبٍ تَسِيلُ إِليه أَوْدِيَةُ ما بَيْنَ الجَبَلَيْنِ في حقِّ أَسَدٍ وطَيِّئ.
وقُرَاقِرُ: قاعٌ مُسْتَطِيلٌ بالدَّهْنَاءِ، وقِيلَ: هي مَفازَةٌ في طَريق اليَمامَة قَطَعها خالدُ بنُ الوَليد. وقد جاءَ ذكْرُها في الحَدِيث، وهكذا فَسّرَهُ ابنُ الأَثِير.
والقُرَاقِرَةُ، بهاءٍ: الشِّقْشِقةُ كالقِرْقَارَةِ. ولو ذَكَرَهُمَا في مَحَلٍّ واحد لأَصَابَ.
وقُرَاقِرَاةُ: ماءَةٌ بنجْد.
والقُرَاقِرةُ: المرْأَةُ الكثِيرةُ الكَلامِ، على التَّشْبِيه.
وقُراقِريّ بالضمّ: موضع ذكَرهُ الصاغانيّ.
وقَرَاقِرٌ، بالفتْح: موضِعٌ من أَعْراضِ المدِينَةِ شرَّفها الله تعالى، لآلِ الحسنِ بن علِيٍّ رضي الله عنهما، وليس بتَصْحِيفِ قُرَاقِر ـ بالضّمِّ ـ كما زَعَمَ بعضُهُم، فإِنّ ذلِك بالدَّهناءِ؛ وقد تَقَدَّم.
والقُرْقُورُ، كعُصْفُورٍ: السَّفِينَةُ، أَو الطّويلة، أَو العظِيمةُ، والجمع القَرَاقِير. ومنه قولُ النابِغة:
قَرَاقِيرَ النَّبِيطِ على التِّلالِ
وفي الحَدِيثِ: «فإِذا دخَل أَهْلُ الجنَّةِ الجنَّةَ ركِبَ شُهداءُ البحْرِ في قَرَاقِيرَ من دُرٍّ».
وفي حديثِ مُوسَى عليه وعلى نَبِيّنَا أَفضلُ الصَّلاة والسلام: «ركِبُوا القَرَاقِيرَ حَتَّى أَتَوْا آسِيَةَ امْرأَةَ فِرْعْونَ بِتَابُوتِ مُوسى».
وفي الحَدِيث: «خَرَجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم على صَعْدةٍ، يَتْبعُهَا حُذَاقِيُّ، عليها قَوْصَفٌ، لم يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا قَرْقَرُها» الصَّعْدةُ: الأَتانُ. والحُذاقِيّ: الجَحْشُ. والقَوْصفُ: القَطِيفَة.
والقَرْقَرُ: الظَّهْرُ، كالقِرْقِرَّى، كفِعْفِلَّى، بكسر الفَاءَيْن وتشديد الّلام المفتوحة. وفي بعض النُّسخ بِفتْحِ الفاءَيْن وتَخْفِيف الّلام. قال شَيْخُنَا: ومثلُه في شرح التَّسْهيل لأَبي حيّانَ، ولكنّه فَسّره بأَنّه اسمُ موْضع، وكذلِك الجوهرِيّ.
قلتُ: الَّذِي ذَكَرُوه أَنَّه اسمُ مَوْضِع هو «قَرْقَرَى» بالفَتْح، ووَزَنُوه بفَعلَلَى، ولا إِخالُه إِلّا هذا، وما ذَكَره المُصَنّف غَرِيبٌ. ثم إِنّهُم اقْتَصرُوا على ذكْر المَوْضِع، ولم يُحلّوه.
ووجدتُ أَنا في معجم البِلاد ما نصّه: قَرْقَرى، مقصورًا: بلَدٌ من اليمامة، أَرْبعةُ حُصُونٍ: اثنانِ لثَقِيف، وحِصْنٌ لكِنْدَةَ، وآخَرُ لِنُمير.
والقَرْقَرُ: القَاعُ الأَمْلَسُ، ومنه حديثُ الزَّكَاةِ، وقد تَقَدَّم قريبًا في كِلامِه، فهو تَكْرَارٌ، ويَرْتكِبُ مثلَ هذا كثيرًا.
والقَرْقَرُ: لِباسُ المرْأَةِ، لغةٌ في القَرْقَل؛ قاله الصاغانيّ.
ويُقَال: شُبِّهتْ بَشَرةُ الوَجْهِ به؛ كذا في اللّسَان. ومن المَجَازِ: قَال بَعْضُ العَرب لرجُلٍ: أَمِنْ أُسْطُمَّتِها أَنْتَ أَمْ مِنْ قَرْقَرِهَا؟ القَرْقَرُ من البَلْدةِ: نَواحِيها الظاهِرَة، على التّشبيه بقَرْقَرَةِ الوَجْه؛ هكذا ذكرَهُ الصاغانيّ. وفي الأَساس: يقال: هو ابنُ قَرْقَرِها، كما يُقَالُ: ابن بَجْدَتِها.
والقِرِّيَّة، كجرِّيَّة: الحَوْصَلَةُ والقِرِّيَّةُ: لقَبُ جُمَاعَةَ بنَت جُشَمَ وهي أُمّ أَيُّوبَ بن يَزيدَ البليغِ الشاعر الفَصيح المعْرُوف وهو أَيُّوبُ بنُ يَزيدَ بن قَيْس بن زُرَارة بن سَلمَة بن جُشَم بن مالك بن عَمْرو بن عامِرِ بن زَيْدِ منَاةَ بنِ عَوْفِ بنِ سعْدِ بنِ الخَزْرج بنِ تَيْمِ اللهِ بنِ النَّمِر، وكانَ ابن القِرِّيَّةِ خَرج مع ابنِ الأَشْعثِ، فقَتَلَه الحجّاجُ بنُ يُوسُفَ؛ ذكره ابنُ الكَلْبِيّ.
والقَرَارِيُّ: الخَيّاطُ، قال الأَعشَى:
يَشُقُّ الأُمُورَ ويجْتَابُها *** كشَقِّ القَرَارِيِّ ثَوْبَ الرَّدَنْ
وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: يُقَال للخَيّاطِ: القَرَارِيّ، والفُضُوليّ، وهو البِيَطْرُ. وقِيل: القَرَارِيّ: القَصّابُ، قال الرّاعِي في رِواية غيرِ ابن حَبِيب:
ودَاوِيٍّ سَلخْنا اللَّيْلَ عنه *** كما سَلَخَ القَرارِيُّ الإِهَابَا
والقَرَارِيُّ: الحضَرِيُّ الّذِي لا يَنْتَجِعُ، يكونُ من أَهْلِ الأَمْصَارِ، أَو كلّ صانِعٍ عند العَرب قَرَارِيّ. قلتُ: وقد استعملَتْه العامَّةُ الآن في المُبالَغَة فيَقُولُون إِذا وَصَفُوا صانِعًا: خيّاطٌ قَرَارِيٌّ، ونَجّارٌ قَرَارِيٌّ.
ومن المَجازِ قولُهُمْ: قَرْقَارِ، مبْنِيَةً على الكَسْرِ، وهو معدولٌ، قال الأَزْهَرِيّ: ولم يُسْمع العَدْلُ في الرُّباعي إِلّا في عَرْعَارِ وقَرْقَارِ. قال أَبُو النَّجْمِ العِجْلِيُّ:
حتَّى إِذا كان علَى مُطَارِ *** يُمْنَاهُ واليُسْرَى على الثَّرْثَارِ
قالَتْ لهُ رِيحُ الصَّبَا قَرْقَارِ
أَي اسْتِقرِّي، ويُقَال للرَّجُلِ: قَرْقَارِ؛ أَي قَرَّ واسْكُنْ.
ومعنى البيْتِ: قالتْ له رِيحُ الصَّبا: صُبَّ ما عِنْدكَ من الماءِ مُقْتَرِنًا بصوْتِ الرَّعْدِ، وهو قَرْقَرتُه.
وقال ابنُ الأَعْرابِيّ: المَقَرَّةُ: الحَوْضُ الصَّغِيرُ يُجْمع فيه المَاءُ. قال الصاغَانيّ: وكَوْنُ المقَرَّةِ الجَرَّة الصَّغِيرَة التي هي فَوْقَ الكُوز ودُون الجرَّةِ لُغَةٌ يمانِيَّة، وفِيه تَوَسُّعٌ وتَسامُحٌ.
والقَرَارَةُ: القَصِيرُ، على التَّشْبِيه، والقَرَارَةُ: القَاعُ المُسْتَدِيرُ، قاله ابنُ الأَعْرابيّ. وقد تَقدّم في كَلام المُصَنّف، فهو تَكْرار.
والقَرُورَةُ: الحقِيرُ، نقله الصاغانيّ.
والقَرَوْرَى ـ بفتح القافِ والراءِ الأُولَى. وكَسْرِ الرّاءِ الثانية؛ كذا في النُّسَخ، وهو خطأٌ والصَّوابُ كما ضَبَطه الصاغانيّ بفَتحَات، وقال: هُوَ من صِفَةِ الفَرَس المَدِيد الطَّوِيل القَوَائمِ.
وقال أَيضًا: وقَرَوْرَى؛ أَي بالضَّبْطِ السابِق: موضع بَيْنَ الحاجِر والنُّقرَة.
ومن المَجاز: يُقَال عِنْدَ المُصِيبَة الشَّدِيدَة تُصِيبهُم: «صابَتْ بقُرٍّ». ورُبمَا قالوا: «وَقَعَتْ بقُرٍّ»، بالضَّم؛ أَي صارتْ الشِّدَّةُ في قَرارِهَا أَي إِلى قَرَارِهَا. وقال ثعْلبٌ: وَقَعَتْ في المَوْضِع الذِي يَنْبَغِي. قال عَدِيُّ بنُ زَيْد:
تُرَجِّيهَا وقدْ وَقَعَتْ بقُرٍّ *** كما تَرْجُو أَصاغِرَها عَتِيبُ
وقال الزَّمخشريّ: إِذا وَقَع الأَمْرُ مَوْقِعَه قالُوا: صابَتْ بقُرٍّ. قال طَرَفَةُ:
كُنْت فِيهمْ كالمُغطِّي رَأْسهُ *** فانْجَلَى اليَوْمَ غِطائِي وخُمُرْ
سادِرًا أَحسَبُ غَيِّى رَشَدًا *** فتَناهَيْتُ وقد صابَتْ بقُرّ
وقال أَبو عُبَيْدٍ في بابِ الشِّدَّة: صابَتْ بقُرٍّ، إِذا نَزَلَتْ بهم شِدَّةٌ. قال: وإِنّمَا هو مَثَلٌ. وقال الأَصمعيّ: وَقع الأَمْرُ بِقُرِّهِ؛ أَي بمُسْتَقَرِّه. وقال غيرُه: يُقال للثّائر إِذا صادَفَ ثَأْرَه: وَقَعْتَ بقُرِّكَ؛ أَي صادَفَ فُؤادُكَ ما كان مُتطلِّعًا إِليه.
وقَارَّهُ مُقارَّةً: قَرَّ معه وسَكَنَ، ومنه قَوْلُ ابنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: قَارُّوا الصَّلاةَ، هو من القَرَارِ لا مِنَ الوَقارِ، ومعناهُ السُّكُونُ؛ أَي اسْكُنُوا فيها ولا تَتَحَرَّكُوا ولا تَعْبَثُوا، وهو تَفَاعُلٌ من القَرَارِ.
وأَقَرَّهُ في مَكَانِه فاسْتَقَرَّ، وفي حَدِيث أَبِي مُوسَى: «أُقِرَّت الصَّلاةُ بالبِرِّ والزَّكَاة» أَي اسْتَقَرَّت مَعَهُما وقُرِنَت بِهِمَا.
وقال اللَّيْث: أَقْرَرْتُ الشَّيْءَ في مَقَرِّه لِيَقِرَّ.
وفُلانٌ قارٌّ: ساكِنٌ. وأَقَرَّت الناقَةُ: ثَبَت ـ وفي تهذيب ابنِ القَطّاع: ظَهَر، وقال غيرُه: اسْتَبانَ ـ حَمْلُهَا، فهي مُقِرٌّ، وقد تقدَّم ذلك في كَلامِه، فهو تَكْرَار.
وتَقَارَّ الرَّجُلُ: اسْتَقَرَّ، وفي حديثِ أَبِي ذَرٍّ: فلم أَتَقارَّ أَنْ قُمْتُ» أَي لم أَلْبَثْ، وأَصلُه أَتَقارَر، فأُدْغِمَت الرّاءُ في الرّاءِ.
وقَرُورَاءُ، كجَلُولاءَ: موضع.
وقَرَارٌ، كسَحَابِ: قَبِيلَةٌ قَلِيلَةُ باليَمَن، منهم عليُّ بنُ الهَيْثَم بنِ عُثْمَانَ القَرَارِيُّ، رَوَى عنه ابنُ قَانع؛ وأَبُو الأَسَدِ سَهْلٌ القَرَارِيّ، رَوَى عنه الأَعْمَشُ.
وقَرَارٌ: موضع بالرّومِ، ذكره الصاغانيّ.
وسُمُّوا قُرَّة، بالضَّمّ، وقُرْقُر، كهُدْهُد، وزُبَيْر، وإِمامٍ، وغَمَام. أَمّا المُسَمَّوْنَ بقُرَّةَ فكثيرُون. ومن الثّانِي: أَحمدُ بنُ عُمَرَ بنِ قُرْقُرٍ الحَذَّاءُ، بَغْدادِيٌّ؛ وابنُ أَخِيه عبدُ الوَاحِد بنُ الحُسَيْنِ بنِ عُمَرَ بنِ قُرْقُر، سَمِع، الدّارَقُطْنِيّ. وفاتَهُ قَرْقَر، كجَعْفَر، منهم: عَبْدُ الله بنُ قَرْقَر؛ هكذا ضَبَطَه الصاغَانيّ والحافِظ، حدَّث عن أَبِي عَرُبَةَ الحَرّانِيّ، وعنه ابْنُ جُمَيْع.
وكذا قَرِيرٌ، كأَمِير، منهم عبدُ العَزيز بنُ قَرِيرٍ، عن ابْنِ سِيرِينَ؛ وأَخُوه عبدُ المَلِكِ بنُ قَرِيرٍ، عن طَلْقٍ اليَمَامِيِّ. وقِرَارُ بنُ ثَعْلَبَةَ بنِ مالِكٍ العَنْبَرِيّ، بالكَسْر.
وغالِبُ بنُ قَرَار، بالفَتْح.
ودَهْثَمُ بنُ قُرّانَ ـ بالضَّمّ ـ رَوَى عنه مَرْوَانُ الفَزارِيُّ. وأَبو قُرّانَ طُفَيْلٌ الغَنَوِيّ شاعِرٌ. وغالِبُ بن قُرّانَ، له ذِكْر.
وعُثْمَانُ القُرَيْرِيُّ ـ بالضَّمّ ـ صاحِبُ كَشْف وأَتْبَاعٍ، مات بكَفْرِ بَطْنَا في بِضْع وثمانِينَ وسِتّمائة. والمُقْريءُ شِهَابُ الدِّين بنُ نَمِرٍ القُرَيْرِيُّ الشافعيُّ.
وقُرَارٌ كهُمامٍ: موضع، نقله الصاغانيّ، قلت: وهو في شعر كَعْبٍ الأَشْقَرِيّ.
* وممّا يُسْتَدْرك عليه:
مِنْ أَمْثَالِهِم لِمَنْ يُظْهِرُ خِلافَ ما يُضْمِرُ: «حِرَّةٌ تَحْتَ قِرَّة». ويقال: أَشَدُّ العَطشِ حِرَّةٌ على قِرَّة. ويُقال أَيضًا: ذَهَبَتْ قِرَّتُهَا؛ أَي الوَقْتُ الذِي يَأْتِي فيه المَرَضُ، والهاءُ للعِلَّة.
وقولُهُم: وَلِّ حارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّها، أَيْ شَرَّهَا مَنْ تَوَلَّى خَيْرَهَا؛ قاله شمِرٌ. أَو شَدِيدَتهَا مَنْ توَلَّى هَيِّنَتَهَا. وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: يَوْمٌ قَرٌّ، ولا أَقولُ: قارٌّ، ولا أَقُولُ: يَوْمٌ حَرٌّ.
وقِيل لِرَجُل: ما نَثَرَ أَسْنَانَك؟ فقال: أَكْلُ الحَارِّ، وشُرْبُ القارِّ.
وفي حدِيثِ حُذَيْفَةَ في غزْوَةِ الخَنْدَق: «فلمّا أَخبرتُه خبَرَ القَوْمِ وقَرَرْتُ قَرِرْت» أَي لَمّا سَكَنْتُ وَجَدْتُ مَسَّ البَرْدِ.
والقَرُّ: صَبُّ الماءِ دَفْعَةً واحدةً.
وأَقْرَرْتُ الكَلامَ لِفُلانٍ إِقْرَارًا؛ أَي بَيَّنْتُه حَتَّى عَرَفَه.
وقَرْقَرَتِ الدَّجَاجَةُ قَرْقَرةً: رَدَّدَتْ صَوْتَها.
وقَرُّ الزُّجَاجَةِ: صَوْتُهَا إِذا صُبَّ فيها الماءُ.
والقَرَارُ، بالفتح: الحَضَرُ، وإِليه نُسِب القَرارِيّ، لاسْتِقْرَارِه في المَنَازِلِ، ومنهحديثُ نائلٍ مَوْلَى عُثْمَانَ: قُلْنَا لرَبَاحِ بن المُغْتَرِف: «غَنِّنا غِنَاءَ أَهْلِ القَرَارِ».
{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أَي قَرَارٌ وثُبُوتٌ. و {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} أَي غايَةٌ ونِهَايَةٌ تَرَوْنَه في الدُّنْيَا والآخِرَة.
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها}؛ أَي لِمَكانٍ لا تُجَاوِزُه وَقْتًا ومَحَلًا، وقيل: لأَجَلٍ قُدِّر لها.
وأَما قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} قُرِئَ بالفَتْح، وبالكَسْر. قيل: من الوَقَارِ، وقيل: من القَرار.
وفي حديثِ عُمَرَ: «كُنْتُ زَمِيلَهُ في غَزْوَةِ قَرْقَرَةِ الكُدْرِ».
الكُدْرُ: ماءٌ لِبَنِي سُليْمٍ. والقَرْقَرُ: الأَرْضُ المستويةُ.
وقِيلَ: إِنّ أَصْلَ الكُدْرِ طيْرٌ غُبْرٌ سُمِّيَ المَوْضِعُ أَو الماءُ بها.
وسيأْتِي في الكافِ قَرِيبًا إِنْ شاءَ الله تعالى.
والقَرَارَةُ: مَوضعٌ بمكَّةَ معروفٌ.
ويُقال: صارَ الأَمْرُ إِلى قَرَارِه، ومُسْتَقَرِّه، إِذا تَناهَى وثَبت.
وفي حديثِ عُثْمَانَ: «أَقِرُّوا الأَنْفُسَ حَتَّى تَزْهَقَ» أَي سَكِّنوا الذَّبائحَ حَتَّى تُفَارِقَها أَرْواحُها ولا تُعْجِلُوا سَلْخَهَا ولا تَقْطِيعَها.
وفي حديث البُرَاقِ: «أَنَّه اسْتصْعَبَ ثم ارْفضَّ وأَقرَّ»؛ أَي سَكَنَ وانْقادَ.
وقال ابنُ الأَعرابِيّ: القَوَارِيرُ: شَجرٌ يُشْبِهُ الدُّلْب تُعْمَلُ منه الرِّحال والمَوَائِد. والعَرَبُ تُسمِّي المَرْأَةَ القَارُورَةَ، مَجازًا. ومنهالحديثُ: «رُوَيْدَكَ، رِفْقًا بالقَوَارِيرِ» شَبَّهَهُنَّ بها لضَعفِ عَزَائِمِهِنَّ وقِلَّةِ دَوامِهِنّ على العَهْدِ، والقَوَارِيرُ من الزُّجاج يُسرِعُ إِليهَا الكَسْرُ ولا تَقْبَلُ الجَبْرَ. فأَمَر أَنْجَشَةَ بالكَفِّ عن نَشِيدِه وحُدائه حِذَارَ صَبْوَتِهِنَّ إِلى ما يَسْمَعْنَ فيَقَعُ في قُلوبِهِنّ. وقيلَ: أَرادَ أَنَّ الإِبِلَ إِذا سَمِعَتِ الحُدَاءَ أَسْرَعَتْ في المَشْيِ واشتدَّت، فأَزْعَجَتِ الرّاكِبَ فأَتْعَبَتْه، فنَهاهُ عن ذلك لأَن النِّساءَ يَضْعُفْنَ عن شِدَّة الحَرَكَة. ورُوِيَ عن الحُطَيئة أَنّه قال: «الغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَى» وسَمعَ سُلَيْمَانُ بنُ عبدِ المَلِكِ غِناءَ راكبٍ لَيْلًا، وهو في مِضْرَب له، فبَعَثَ إِلَيْه من يُحْضِرُه، وأَمَرَ أَنْ يُخْصَى، وقال: ما تَسْمَعُ أُنْثَى غِنَاءَه إِلا صَبَتْ إِلَيْه. وقال: ما شَبَّهْتُه إِلّا بالفَحْلِ يُرْسَلُ في الإِبِلِ، يُهَدِّرُ فِيهِنَّ فيَضْبَعُهُنَّ.
ومَقَرُّ الثَّوْبِ: طَيُّ كَسْرِه؛ عن ابنِ الأَعْرَابيّ.
والقَرْقَرَةُ: دُعَاءُ الإِبِل؛ والإِنْقَاضُ: دُعَاءُ الشّاءِ والحَمِير.
قال شِظَاظٌ:
رُبَّ عَجُوزٍ من نُمَيْرٍ شَهْبَرَهْ *** عَلَّمْتُها الإِنْقاضَ بَعْدَ القَرْقَرَةْ
أَي سَبَيْتُها فَحَوَّلْتُهَا إِلى ما لَمْ تعْرفْه.
وجَعَلُوا حِكَايَةَ صَوْت الرِّيحِ قَرْقَارًا.
والقَرْقَرِيرُ: شِقْشِقَةُ الفَحْلِ إِذا هَدَرَ.
ورَجُلٌ قُرَاقِرِيٌّ، بالضَّمّ: جَهِيرُ الصَّوْتِ. قال:
قَدْ كانَ هَدّرًا قُرَاقِرِيَّا
وقَرْقَرَ الشَّرَابُ في حَلْقَهِ: صَوَّتَ. وقَرْقَرَ بَطْنُه: صَوَّتَ من جُوعٍ أَو غَيْرِه. قال ابنُ القَطّاع في كِتَاب الأَبْنِيَة له: وكانَ أَبو خِرَاشِ الهُذَلِيّ من رِجَالِ قَوْمِه، فخرَج في سَفَرٍ له. فمَرَّ بامرأَة من العَرَب، ولم يُصِبْ قبلَ ذلك طَعامًا بثَلاث أَو أَرْبَع. فقال: يا رَبَّةَ البَيْتِ، هَلْ عِنْدَكِ من طَعَامٍ؟
قالت: نَعَمْ. وأَتَتْهُ بعُمْرُوس فذَبَحَهُ وسَلَخَه، ثم حَنَّذَتْه وأَقْبَلَتْ به إِليه. فلما وَجَد رِيحَ الشِّوَاءِ قَرْقَرَ بَطْنُه، فقال: وإِنَّك لتُقَرْقِرُ مِنْ رائِحَةِ الطَّعَامِ، يا رَبَّةَ البَيت، هَلْ عِنْدَكم من صَبِرٍ؟ قالتْ: نعم، فما تَصْنَع به؟ قال: شيءٌ أَجِدُه في بَطْنِي. فَأَتَتْهُ بصَبرٍ فمَلأَ رَاحَتَه ثم اقْتَمَحْهُ وأَتْبَعه المَاءَ. ثم قال: أَنتِ الآنَ فَقَرْقِرِي إِذا وَجَدْتِ رائحةَ الطَّعَام. ثم ارْتَحَلَ ولَمْ يَأْكُل. فقالتْ له: يا عَبْدَ الله، هَلْ رَأَيْتَ قَبِيحًا؟ قال: لا والله إِلَّا حَسَنًا جَمِيلًا. ثم أَنشأَ يقولُ:
وإِنّي لأُثْوِي الجُوعَ حَتَّى يَمَلَّنِي *** جَنَانِي ولَمْ تَدْنَس ثِيابِي ولا جِرْمي
وأَصْطَبِحُ المَاءَ القَرَاحَ وأَكْتَفِي *** إِذا الزَّادُ أَمْسَى للمُزَّلجِ ذا طَعْمِ
أَرُدُّ شُجَاعَ البَطْنِ قد تَعْلَمِينَه *** وأُوثِرُ غَيْرِي من عِيالِكِ بالطُّعْمِ
مَخَافَةَ أَنْ أَحْيَا برَغْم وذِلَّةٍ *** ولَلْمَوْتُ خَيرٌ من حياةٍ على رَغْمِ
قلتُ: وقد قَرَأْتُ هذِه القِصَّةَ هكذا في «بُغْيَةِ الآمَالِ» لأَبِي جَعْفَرٍ اللَّبْلِيِّ اللُّغَوِيِّ.
وقال ابنُ الأَعْرَابيّ: القُرَيْرَةُ: تصغِير القُرَّةِ، وهِيَ ناقَةٌ تُؤْخَذُ من المَغْنَم قَبْلَ قِسْمَةِ الغَنَائمِ فتُنْحَر وتُصْلح ويأْكُلُهَا الناسَ، يُقَال لها: قُرَّةُ العَيْنِ.
وتَقَرُّرُ الإِبلِ، مثْلُ اقْتِرَارِهَا.
وهو ابن عِشْرِينَ قارَّةٍ سَوَاءٍ، وهو مَجَازٌ.
وقُرّانُ، بالضّمِّ: فَرَسُ عَمْرِو بنِ رَبِيعَةَ الجَعْدِيِّ.
واذْكُرْنِي [في] المَقَارِّ المُقَدِّسَةِ.
وأَنا لا أُقَارُّك على ما أَنْتَ عليه؛ أَي لا أَقَرُّ مَعَكَ.
وما أَقَرَّنِي في هذا البَلَدِ إِلّا مَكَانُك.
ومن المَجَازِ: إِنّ فُلانًا لَقَرَارَةُ حُمْق وفِسْقٍ.
وهو في قُرَّةٍ من العَيْشِ: في رَغَدٍ وطِيبٍ.
وقَرْقَرَ السَّحَابُ بالرَّعْدِ.
وفي المَثَلِ: «ابْدَأْهُمْ بالصُّراخ يَقِرّوا» أَي ابْدَأْهُم بالشِّكايَة يَرْضُوْا بالسُّكُوت.
وقَرْقَرٌ، كجَعْفَر: جانبٌ من القُرَيَّة، به أَضاةٌ لِبَنِي سِنْبِسٍ، والقُرَيَّة: هذِه بَلْدَةٌ بين الفَلَج ونَجْرانَ.
وقَرْقَرَى، بالفَتْح مقصورًا، تَقَدّم ذِكْره.
وقِرّانُ، بكَسْرٍ فتَشْدِيد راءٍ مَفْتُوحَة: ناحِيَةٌ بالسَّرَاةِ من بِلادِ دَوْسٍ، كانَت بها وَقْعَةٌ؛ وصُقْعٌ من نَجْدٍ؛ وجَبَلٌ من جِبَالِ الجَدِيلَة. وقد خُفِّفَ في الشِّعْر، واشتهر به حَتّى ظُنَّ أَنَّهُ الأَصْل.
وقُرَّةُ، بالضَّم: بَلَدٌ حَصِينٌ بالرُّوم.
ودَيْرُ قُرَّةَ: مَوْضِعٌ بالشَّام. وقُرَّةُ: أَيضًا مَوْضِعٌ بالحِجَازِ، في دِيارِ فِرَاس، من جِبالِ تِهَامَةَ لهُذَيْل.
وسِراجُ بن قُرَّةَ: شاعِرٌ من بَنِي عبد اللهِ بن كِلابٍ.
وقُرَّةُ بنُ هُبَيْرَة القُشَيرِيّ، الذي قتَلَ عِمْرَانَ بنَ مُرَّةَ الشَّيْبَانِيَّ.
والقَرْقَرُ، كجَعْفَرٍ: الذَّلِيلُ؛ نَقَلَه السُّهَيلِيّ. قُلتُ: وهو مَجَازٌ، مأْخوذٌ من القَرْقَرِ، وهو الأَرْضُ المَوْطُوءَةُ التي لا تَمْنَعُ سالِكَهَا، وبه فُسِّر قولُه:
مَنْ لَيْسَ فيهَا بقَرْقَرِ
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
126-تاج العروس (عز عزز عزعز)
[عزز]: عَزَّ الرَّجلُ يَعِزّ عِزًّا وعِزَّةً، بكَسْرِهما، وعَزَازَةً، بالفَتْح: صار عَزِيزًا، كتَعَزَّزَ، ومنه الحديث قال لعائشة: «هل تَدْرِين لمَ كانَ قَوْمُك رَفَعُوا بابَ الكَعْبَةِ، قالت: لا، قال: تَعَزُّزًا لا يدخُلُهَا إِلاَّ مَنْ أَرادُوا»؛ أَي تَكَبُّرًا وتَشدُّدًا على الناس، وجاءَ في بعض نُسَخ مُسْلِم: تَعَزُّرًا، بالرّاءِ بعد الزّاي من التَّعْزِير وهو التَّوقِيرُ. وقال أَبو زَيْد: عَزَّ الرَّجل يَعِزّ عِزًّا وعِزَّةً، إِذ قَوِيَ بعد ذِلَّةٍ وصار عَزِيزًا. وأَعَزّه الله تعالى: جَعَلَه عَزِيزًا وعَزَّزَه تَعْزِيزًا كذلك، ويقَال: عَزَزْتُ القَوْمَ وأَعزَزْتُهم وعَزَّزْتُهُم قَوَّيتُهُم وشَدَّدْتُهُمْ وفي التَّنزِيل: فَعَزَّزْنا {بِثالِثٍ} أَي قَوَّيْنَا وشَدّدَنا» وقد قُرِئَت: فعَزَزْنَا بالتَّخفِيفِ كقولك: شَدَدنا. والعِزّ في الأَصْل القُوَّةُ والشِّدّة والغَلَبَة والرِّفعة والامْتِنَاعُ. وفي البَصَائِر: العِزَّةُ: حالةٌ مانِعَةٌ للإِنْسَان من أَن يُغْلَبَ، وهي يُمْدَح بها تَارَةً، ويُذَمّ بها تَارَةً، كعِزَّة الكُفَّار {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي} عِزَّةٍ {وَشِقاقٍ} ووَجْهُ ذلك أَنَّ العِزَّةُ لله ولِرسُولِه، وهي الدّائِمَة البَاقِيَة، وهي العِزّة الحَقِيقِيّة، والعِزّةُ التي هي للكُفّار هي التَّعَزُّز، وفي الحَقِيقَة ذُلّ لأَنّه تَشَبُّع بما لم يُعْطَه، وقد تُسْتَعَار العِزّة للحَمِيَّة والأَنَفَة المَذْمُومة، وذلِك في قَوْله تَعَالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ} الْعِزَّةُ (بِالْإِثْمِ).وعَزَّ الشّيْءُ يَعِزّ عِزًّا وعِزَّةً وعَزَازَة: قَلَّ فلا يَكَادُ يُوجَد، وهذا جامِعٌ لكَلّ شَيْء، فهو عَزِيزٌ قَلِيلٌ. وفي البَصَائِر: هو اعْتِبَار بما قِيل: كُلّ مَوْجُودٍ مَمْلُولَ وكُل مَفْقُودٍ مَطْلُوبٌ، الجمع: عِزَازٌ، بالكَسْرِ، وأَعِزَّةٌ وأَعِزَّاءُ. قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أَعِزَّةٍ {عَلَى الْكافِرِينَ}؛ أَي جَانِبهُم غَلِيظٌ على الكَافِرِين، لَيّنٌ على المُؤْمِنِين، وقال الشاعر:
بِيضُ الوُجُوهِ كَريمَةٌ أَحْسَابُهُم *** في كلِّ نائِبَةٍ عِزَازُ الآنُفِ
ولا يُقال عُزَزَاءُ، كَراهِيَةَ التَّضْعِيف، وامْتِنَاع هذا مُطَّرِد في هذا النَّحْو المُضَاعَف. قال الأَزْهَرِيّ: يَتَذَلَّلُون للمُؤْمِنين وإِن كَانُوا في شَرَفِ الأَحْسَاب دُونَهُم.
وعَزَّ المَاءُ يَعِزُّ، بالكَسْر؛ أَي سَالَ وكَذلك هَمَى وفَزَّ وفَضّ. وعَزّت القَرْحَةُ تَعِزّ، بالكَسْر، إِذا سَالَ مَا فِيهَا ويقال: عَزَّ عَلَيَّ أَن تَفْعَلَ كذا، وعَزّ عليّ ذلِك؛ أَي حَقَّ واشْتَدّ وشَقّ، وكذا قَولهم: عَزّ عَلَيَّ أَن أَسوءَك؛ أَي اشتَدّ، كما في الأَسَاس، يَعِزّ ويَعَزّ، كيَقِلّ ويَمَلّ؛ أَي بالكسر وبالفَتْح، يقال: عَزّ يَعَزُّ، بالفَتْح، إِذا اشْتَدَّ.
وعَزَزْتُ عليه أَعِزّ، من حَدّ ضَرَب؛ أَي كَرُمْت عليه، نقله الجوهريّ.
وأُعْزِزْتُ بما أَصابَكَ، بالضّمّ؛ أَي مَبْنِيًّا للمَجْهُول؛ أَي عَظُم عَلَيّ. ويقال: أَعزِزْ عَلَيَّ بذلك؛ أَي أَعْظِمْ، ومعناه عَظُمَ عَلَيّ، ومنه حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ الله عنه لمَّا رَأَى طَلْحَةَ قَتِيلًا قال: «أَعزِزْ عَلَيَّ أَبا محمَّد أَنْ أَرَاك مُجَدَّلًا تحتَ نُجُومِ السَّمَاءِ».
والعَزُوزُ، كصَبور: النّاقَةُ الضَّيِّقَةُ الإِحْلِيل لا تَدِرّ حتى تُحلَب بِجهْد، وكذلك الشَّاة، الجمع: عُزُزٌ، بضمَّتَيْن، كصَبُور وصُبُر، ويقولون: ما العَزُوز كالفَتُوح، ولا الجَرُور كالمَتُوح؛ أَي لَيْسَت الضَّيِّقَة الإِحْلِيلِ كالواسِعَتِه، والبَعِيدةُ القَعْرِ كالقَرِيبَتِه، وقد عَزَّتْ تَعُزُّ، كمَدَّ يَمُدُّ، عُزُوزًا، كقُعُود، وعِزَازًا، بالكَسْر، وعَزُزَت، ككَرُمَت، قَال ابنَ الأَعْرَابِيّ: عَزُزَت، الشَّاةُ والنَّاقَةُ عُزُزًا شَدِيدًا، بضَمَّتَيْن، إِذا ضاقَ خَلِفُهَا ولها لَبَنٌ كَثِيرٌ. قال الأَزهَرِيُّ: أَظهَر التَّضْعِيف في عَزُزَتْ، ومِثْلُه قَلِيل، وقد أَعَزَّت، إِذا كانَتْ عَزُوزًا، وكذلِك تَعَزَّزَت، والاسم العَزَز والعَزَازُ.
وعَزّه يَعُزّه عَزًّا كمَدَّه: قَهَرَه وغَلَبهَ في المُعَازَّةِ؛ أَي المُحَاجَّةِ. قال الشاعِرُ يَصِف جَمَلًا:
يَعُزُّ على الطَّرِيق بمَنْكِبَيْه *** كما ابتَرَكَ الخَلِيعُ على القِدَاحِ
أَي يَغْلِب هذا الجَمَلُ الإِبلَ على لُزُوم الطَّرِيقِ، فشَبَّهَ حِرْصَه عليه وإِلحَاحَه في السَّيْر بِحِرْص هذا الخَلِيعِ على الضَّرْب بالقِدَاحِ لعلّه يَسْتَرْجِع بعضَ ما ذهب من مالِه، والخَلِيع: المَخْلُوع المَقْمُور مالَه. والاسم العِزَّة، بالكَسْر، وهي القُوَّة والغَلَبة، كعَزْعَزَه عَزْعَزَةً. وعَزَّه في الخِطَابِ؛ أَي غَلَبَه في الاحْتِجَاج، وقيل: غَالَبَه كعَازَّه مُعَازَّةً، وقوله تعالى: {وَ} عَزَّنِي {فِي الْخِطابِ} أَي علبنِي، وقُرِئَ: وعَازَّنِي؛ أَي غَالَبَنِي، أَو عَزَّنِي: صَارَ أَعزَّ مِنّي في المُخَاطَبة والمُحَاجَّة، ويقال: عَازَّني فعَزَزْتُه؛ أَي غَالَبَنِي فغَلَبْتُه، وضَمّ العَيْنِ في مثل هذا مُطَّرِدٌ ولَيْس في كلّ شيْءٍ يُقَال فاعَلَني فَفعَلْتُه.
والعَزّة، بالفَتْح: بِنْتُ الظَّبْيَة، وقال الراجز:
هَانَ على عَزَّةَ بِنْتِ الشَّحّاجْ *** مَهْوَى جِمَالِ مالِكٍ في الإِدْلَاجْ
وبهَا سُمِّيَت المَرْأَة عَزَّة، وهي بنتُ جَمِيل الكِنانِيّة صاحِبة كُثَيِّر، وجَمِيلٌ هو أَبو بَصْرة الغِفَارِيّ.
والعَزَازُ، كسَحَاب: الأَرْضُ الصُّلْبَةُ، وفي كِتَابِه صلى الله عليه وسلم لوَفْدِ هَمْدانَ: «علَى أَنّ لهم عَزَازَها» وهو ما صَلُبَ من الأَرْض وخَشُنَ واشتَدَّ، وإِنَّمَا يَكُون في أَطْرافهَا، ويقال: العَزَاز: المَكَانُ الصُّلبُ السَّرِيعُ السَّيْلِ. قال ابنُ شُمَيْل: العَزَازُ: ما غَلُظَ من الأَرْض وأَسْرَعَ سَيْلُ مَطَرِه، يكونُ من القِيعَانِ والصَّحاصِح وأَسْنادِ الجِبَالِ والآكامِ وظُهُورِ القِفَافِ. قال العَجّاج:
من الصَّفَا العَاسِي ويَدْهَسْنَ الغَدَرْ *** عَزَازَهُ ويَهْتَمِرْن مَا انْهَمَرْ
وقال أَبو عَمرو في مَسايِلِ الوَادِي: أَبعَدُهَا سَيْلًا الرَّحَبَةُ، ثمّ الشُّعْبَةُ، ثمّ التَّلْعَة، ثمّ المِذْنَبُ ثمّ العَزَازَةُ. وفي الحَدِيث «أَنَّه نَهَى عن البَوْل في العَزَاز» لئلًا يَتَرشَّشَ عليه.
وفي حَدِيث الحَجَّاج في صِفَة الغَيْث: وأَسَالت العَزَازَ.
وأَعَزَّ الرَّجلُ إِعْزَازًا: وَقَعَ فيها؛ أَي في أَرْضٍ عَزَازٍ وسارَ فيها، كما يُقَال أَسْهَلَ، إِذا وَقَع في أَرْضٍ سَهْلَةٍ.
وعن أَبِي زَيد: أَعَزَّ فُلانًا: أَكْرمَه وأَحَبَّه، وقد ضَعَّفَ شَمِرٌ هذِه الكلمةَ عن أَبي زَيْد.
وعن أَبي زَيْد أَيضًا: أَعَزَّت الشَّاةُ من المَعْزِ والضَّأْن، إِذا اسْتَبَانَ حَمْلُهَا وعَظُمَ ضَرْعُهَا، قال: وكذلِك أَرْأَتْ ورَمَّدَتْ واضْرَعَت، بمعنًى وَاحِدٍ. وأَعَزَّت البَقَرَةُ إِذا عَسُرَ حَمْلُهَا وقال ابنُ القَطَّاع: ساءَ حَمْلُهَا.
وعَزَاز، كسَحَاب: موضع باليَمَن. وعَزَاز: بلد بالرِّقّة قُرْبَ حَلَبَ شَمَاليَّها. قالوا: إِذا تُرِكَ تُرَابُها على عَقْربٍ قَتَلَهَا بالخَوَاصّ، فإِن أَرضَها مُطلْسمه، وقد نسِب إِليها الشِّهَابُ العَزَازِيّ أَحدُ الشّعراءِ المُجِيدِين، كان بعدَ السَّبْعِمائَة، وقد ذَكَرَه الحَافِظُ في التَّبْصِير.
والعَزَّاءُ، بالمدّ: السَّنَةُ الشَّدِيدَةُ، قال:
ويَعْبِطُ الكُومَ في العَزَّاءِ إِن طُرِقَا
ويقال: هُوَ مِعْزازُ المَرَضِ، كمِحْرَاب؛ أَي شَدِيدُه.
والعُزَّى، بالضَّمّ: العَزِيزَةُ من النِّساءِ وقال ابنُ سِيدَه: العُزَّى تَأْنِيث الأَعَزّ، بمنزلة الفُضْلَى من الأَفْضَل، فإِن كان ذلك فاللامُ في العُزَّى ليست بزائِدَة، بل هي فِيهِ على حَدّ اللاّم في الحَارِث والعَبَّاس، قال: والوَجْهُ أَن تكُون زائِدَةً، لأَنَّا لم نَسْمَع في الصِّفَات العُزَّى، كما سَمِعْنَا فيها الصُّغْرَى والكُبْرَى.
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَ} الْعُزّى جاءَ في التَّفْسِير أَنّ الَّلاتَ صَنَمٌ كان لِثَقِيف، والعُزَّى: صَنَمٌ كان لُقرَيْش وبَنِي كِنَانَةَ، قال الشاعر:
أَمَا ودِمَاءٍ مَائِرَاتٍ تَخالُهَا *** على قُنَّةِ العُزَّى وبِالنَّسْرِ عَنْدَمَا
أَو العُزَّى: سَمُرَةٌ عَبدَتْهَا غَطَفانُ بنُ سَعْدِ بنِ قَيْس عَيْلان، أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَها منهم ظَالِمُ بنُ أَسعَد، فوقَ ذات عِرْق إِلى البُسْتَان بتِسْعَة أَميال، بالنَّخْلَة الشّامِية، بقرب مكّة، وقيل بالطَّائف، بَنَى عليها بَيْتًا وسَمَّاه بُسًّا، بالضَّمّ، وهو قَولُ ابنِ الكَلبِيّ، وقال غيره: اسمُه بُسّاءُ، بالمَدّ كما سَيَأْتِي، وأَقامُوا لها سَدَنَة مُضاهَاةً للكَعْبَة، وكانُوا يَسْمَعُون فيها الصَّوْتَ، فبَعَث إِليها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بنَ الوَلِيد رَضِيَ الله عنه عامَ الفَتْح، فهَدَم البَيْتَ، وقتل السادِنَ وأَحْرَقَ السَّمُرَةَ.
وقرَأْتُ في شَرْح دِيوانِ الهُذَلِيّين لأَبِي سَعِيد السُّكَّريّ ما نَصُّه: أَخبَرَ هِشَامُ بنُ الكَلبيّ عن أَبِيه عن أَبِي صَالِح، عن ابنِ عَبَّاس قال: كانت العُزَّى شَيْطَانةً تأْتي ثَلاثَ سَمُرَات ببَطْن نَخْلَة فلما افتَتَح النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ بعَثَ خالدَ بنَ الوَلِيد فقال: ائْتِ بَطْنَ نَخْلَةَ، فإِنك تَجِدُ بها ثَلاثَ سَمُرَّاتٍ، فاعْضِد الأُولَى، فأَتَاهَا فعَضدَها، ثم أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَال: هل رأَيتَ شَيْئًا: قال: لا، قال: فاعْضِد الثَّانِيَة، فَأَتَاهَا فعَضَدَها، ثم أَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: هل رأَيتَ شَيْئًا؟ قال: لا، قال: فَاعْضِد الثَّالِثَةَ. فأَتَاهَا، فإِذَا هو بزِنْجِيّة نَافِشَةٍ شَعرَهَا وَاضِعَةٍ يَدَيْهَا على عَاتِقها تَحْرِق بأَنْيَابها وخَلْفَها دُبَيّة السُّلَمِيّ وكان سادِنَها فَلَمَّا نظر إِلى خَالِد قال:
أَيَا عُزَّ شُدِّي شَدّةً لا تُكَذِّبِي *** على خالدٍ أَلقِي الخِمَارَ وشَمِّرِي
فإِنَّكِ إِن لمْ تَقتُلي اليومَ خالِدًا *** فبُوئِي بذُلٍّ عاجِلٍ وتَنَصَّرِي
فقال خالدٌ:
يا عُزَّ كفُرانَكِ لا سُبْحَانَكِ *** إِني وجدتُ الله قد أَهَانَكِ
ثمّ ضَرَبَهَا ففَلقَ رأْسَها، فإِذا هي حُمَمَةٌ، ثمّ عَضَدَ السَّمُرَةَ وقَتَل دُبَيَّةَ السّادِنَ، ثمّ أَتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَخبَرَه. فقال: تِلك العُزَّى ولا عُزَّى للعَرب بَعْدَهَا أَبدًا، أَمَا إِنّها لا تُعْبَد بعدَ اليومِ أَبدًا» قال: وكان سَدَنةُ العُزَّى بني شَيْبَانَ بن جَابر بنِ مُرَّةَ، من بني سُلَيم، وكان آخِرَ مَن سَدَنها منهم دُبَيّةُ بنُ حَرَميّ.
والعُزَيْزَى، مُصَغَّرًا مَقْصُورًا ويُمَدّ: طَرَفُ وَرِكِ الفَرَسِ، أَو ما بَيْن العَكْوَةِ والجَاعِرَة، وهما عُزَيْزَيَانِ، ومن مَدّ يقول: عُزَيْزَوَانِ وقِيل: العُزَيْزَوَانِ: عَصَبَتَانِ في أُصولِ الصَّلَوَيْن، فُصِلَتا من العَجْب وأَطرافِ الوَرِكَيْن: وقال أَبو مَالِك: العُزَيْزَى: عَصَبَةٌ رَقِيقةٌ مُركّبةٌ في الخَوْرَانِ إِلى الوَرِكِ، وأَنشد في صِفَةِ فَرَسٍ:
أُمِرَّت عُزَيْزاهُ ونِيطَتْ كُرُومُه *** إِلى كَفَلٍ رَابٍ وصُلْبٍ مُوَثَّقِ
المُرَادُ بالكُرُوم رأْسُ الفَخِد المُسْتَدِير كأَنّه جَوْزَةٌ.
وسَمّت العَرَبُ عِزّانَ، بالكَسْر، وأَعزَّ، وعَزَازَةَ، بالفَتْح، وعَزُّون، كحَمْدُون، وعَزِيزًا، كأَمِير، وعُزَيْزًا كزُبَيْر، وأَعَزُّ بنُ عُمَرَ بنِ مُحَمَّد السُّهْرَوَرْدِيّ البَكريّ، حدّثَ عن أَبي القاسم بنِ بَيَان وغَيرِه، مات سنة 557.
والأَعزُّ بنُ عَلِيّ بن المُظَفّر البَغْدَادِيّ الظَّهيْرِيّ، بفَتْح الظّاءِ المَنْقُوطة، أَبو المَكَارِم، رَوَى عن أَبي القَاسِم بن السَّمَرقَنْدِيّ، قيل اسمُه المُظَفّر، ووَلدُه أَبو الحَسَن عَليّ من شُيوخِ الدِّمياطيِّ، سَمِع أَباه أَبا المَكَارم المَذْكُور في سنة 83 وقد رأَيته في مُعْجَم شُيُوخِ الدِّمياطِيّ هكذا، وقد أَشَرْنَا إِليه في: ظَهْر. وأَبو نَصْر الأَعزّ بنُ فَضَائِل بن العُلَّيْق سَمِعَ شُهْدَة الكَاتِبَة، وعنه أُمّ عبد الله زَيْنَب بِنتُ الكَمَال وأَبُو الأَعزِّ قَرَاتَكِينُ، سَمِع أَبا محمّد الجَوهريّ، مُحَدِّثون.
قلْت: وفاتَه عبدُ الله بنُ أَعزّ، شيخٌ لأَبِي إِسحاقَ السَّبِيعِيّ، ذكره ابنُ مَاكُولَا. ويَحْيَى بنُ عبد الله بن أَعَزَّ، روى عن أَبي الوَقْت ذكَره ابنُ نُقْطَة. وأَعزّ بن كَرَم الحَرْبِيّ، عن يَحْيَى بن ثابت بن بُنْدار، وابنه عبد الرحمن، رَوَى عن عبدِ الله بن أَبي المَجْد الحَرْبِيّ، والحَسَنُ بنُ محمّد بنِ أَكْرَم بن أَعَزَّ الموسويّ، ذكره ابنُ سَلِيم. والأَعزُّ بن قَلاقِس، شاعِرُ الإِسْكَنْدَرِيّةِ، مَدَحَ السِّلَفيّ وسَمِع منه، واسمه نَصْر، وكُنْيَتُه أَبو الفُتُوح. والأَعزّ بنُ عبد السّيّد بن عبد الكريم السُّلَميّ، رَوَى عن أَبِي طَالِب بن يُوسف، وعُمَرُ بن الأَعَزّ بن عُمر، كتبَ عنه ابنُ نُقْطَة، والأَعزّ بنُ مَأْنُوس، ذكرَه المُصَنِّف في أَنس، وأَبُو الفَضَائِل أَحمدُ بنُ عبد الوهّاب بن خَلَف بن بَدْر ابن بِنْتِ الأَعزّ العلائِيّ، وُلِد بالقاهرة سنة 648 وتوفي سنة 699 والأَعزّ الذي نُسِب إِليه هو ابن شُكْر وَزِيرُ الملكِ الكامل.
وعَزَّانُ، بالفَتْح: حِصْنٌ على الفُراتِ، بل هي مَدِينَة كانت للزَّبَّاءِ، ولأُخْتِهَا أُخرَى يقال لها عَدَّانُ. وعَزّانُ خَبْتٍ.
وعَزَّانُ ذَخِرٍ، ككَتِف: مِن حُصُون اليَمَن. قلْت: هي من حصون تَعِزّ في جبل صَبِر، وتَعِزّ كتَقِلّ: قَاعِدَةُ اليَمَنِ، وهي مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ ذَاتُ أَسوارٍ وقُصَور، كانَتْ دَارَ مُلْكِ بَنِي أَيُّوبَ ثمّ بَنِي رَسُولٍ من بَعْدِهِم.
ويقال: عَزْعَزَ بالعَنْزِ فلَم تَتَعَزْعَزْ؛ أَي زَجَرَهَا فلم تَتَنَحَّ، وعَزْعَزْ زَجْرٌ لها، كذا في اللّسَان والتَّكْمِلَة.
واعْتَزَّ بفُلانٍ: عَدَّ نَفْسَه عَزِيزًا به، واعتَزّ به وتَعَزَّزَ، إِذا تَشَرَّفَ، ومنه المُعْتَزُّ بالله أَبو عبد الله مُحَمَّدُ بن المُتَوَكّل العَبّاسِيّ، وُلِدَ سنة 224 وبُويِعَ له سنة 252 وتُوُفِّي في رجب سنة 255 وابنه عَبْدُ الله بنُ المُعْتَزّ الشّاعِر المَشْهُور.
واستَعَزَّ عَلَيْه المَرَضُ، إِذا اشْتَدَّ عَليْه وغَلبَه، وكذلك استعَزّ به، كما في الأَسَاس، واستعَزَّ الله به: أَمَاتَه، واستَعَزَّ الرَّمْلُ: تَمَاسَكَ فلم يَنْهَلْ وعَزَّزَ المَطَرُ الأَرْضَ، وكذا عَزَّزَ المَطَرُ منها تَعْزِيزًا، إِذا لَبَّدَهَا وشَدَّدَهَا فلا تَسُوخُ فيها الأَرجُلُ، قال العَجّاج:
عَزَّزَ مِنْه وهو مُعْطِي الإِسْهَالْ *** ضَرْبُ السَّوارِي مَتْنَه بالتَّهْتَالْ
وعَزَوْزَى، كشرَوْرَى، وضَبَطَه الصَّاغَانِيّ بضَمّ الزّاي الأُولَى: موضع بين الحَرَمَيْن الشَّرِيفَيْن، فيما يقال، هكذا قاله الصاغَانِيّ. والمَعَزَّةُ: فَرَسُ الخَمْخَامِ بن حَمَلَةَ بن أَبي الأَسود.
وعِزّ، بالكَسْر: قَلْعَةٌ برُسْتَاقِ بَرْذَعَةَ، من نَوَاحِي أَرَّانَ.
والعِزّ أَيضًا؛ أَي بالكَسْر: المَطَرُ الشَّدِيدُ، وقيل: هو العَزِيز الكَثِير الذي لا يَمْتَنِع منه سَهْلٌ ولا جَبَل إِلاّ أَسَالَه.
والأَعزّ: العَزِيزُ، وبه فُسِّر قَوْلُه تعالى: {لَيُخْرِجَنَّ} الْأَعَزُّ {مِنْهَا الْأَذَلَّ} أَي العَزِيزُ منها ذَلِيلًا. ويُقَال: مَلِكٌ أَعزّ وعَزِيزٌ بمَعْنًى وَاحِدٍ، قال الفرزدق:
إِنّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لنا *** بَيْتًا دعَائِمُه أَعَزُّ وأَطْوَلُ
اي عَزِيزةٌ طَوِيلَةٌ، وهو مثل قَوْلِه تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وإِنّمَا وَجّهَ ابنُ سِيدَه هذا على غَيْر المُفَاضَلَةِ، لأَن الّلام ومن مُتَعَاقِبَتَان، وليس قَوْلُهُم: الله أَكْبَر بحُجَّة، لأَنّه مَسْمُوع، وقد كَثُر استِعْمَاله على أَنّ هذا وُجِّه على كبِير أَيضًا.
والمَعْزُوزَةُ: الشَّدِيدَةُ. يُقَال: أَرض مَعْزُوزَةٌ [وعزازة قد لبدها المطر، وعززها. وقال أَبو حنيفة: العز المطر الكثير. والمعزوزة: الأَرض الممطورة، يُقال: أَرض مَعْزوزة] *: أَصابها عِزّ من المَطَر، وفي قَوْلِ المُصَنّف نَظَرٌ، فإِن الشَّدِيدَةَ والمَمْطُورَةَ كِلاهُمَا من صِفَةِ الأَرضِ، كما عَرفْت، فلا وَجْهَ لتَخْصِيصِ أَحَدِهما دُونَ الآخرِ، مع القُصُورِ في ذِكْر نَظَائِر الأُولَى، وهي العَزَازَة والعَزَّاءُ، كما نبّه عليه في المستدركات.
وأَبو بَكْر مُحَمَّدُ بنُ عُزَيْز، كَزُبَيْر، وقد أَغْفَل ضَبطَه قُصُورًا، فإِنّه لا يُعْتَمد هنا على الشُّهْرَة مع وُجود الاخْتِلافِ، العُزَيْزِيّ السِّجِسْتَانِيّ المُفَسِّر، مُؤَلّف غَرِيبِ القُرْآن والمُتَوفَّى سنة 330 والبَغَادِدَةُ؛ أَي البَغْدَادِيُّون، يَقُولُون هو مُحَمَّدُ بنُ عُزَيْز، بالرّاءِ، ومنهُم الحَافِظُ أَبو الفَضْل محمَّدُ بنُ ناصِر السّلاميّ، والحَافِظ أَبو بَكْر محمدُ ابنُ عبد الغَنِيّ بنِ نُقْطَة، وابن النّجّار صاحب التاريخ، وأَبو محمّد بن عُبيد الله، وعبد الله بن الصّبّاح البَغْدَادِيّ، فهؤلاءِ كلُّهم ضَبطُوا بالرَّاءِ، وتَبِعَهم من المَغَارِبَة الحُفَّاظِ أَبو عليّ الصّدفِيّ، وأَبو بَكْر بن العَرَبِيّ، وأَبو عامر العَبْدَرِيّ، والقاسِم التُّجِيبيّ، في آخرين، وإِليه ذَهَب الصَّلاحُ الصَّفَدِيّ في الوَافِي بالوَفَيات، وهو تَصْحِيف، وَبَعْضُهم؛ أَي من البَغَادِدَة، والمُرَادُ به الحَافِظُ ابنُ نَاصِر، قد صَنّفَ فِيهِ رِسَالَةً مستقلَّةً، وجَمعَ كلامَ الناسِ، ورجَّحَ أَنَّه بالرَّاءِ، وقد ضَرَبَ في حَدِيدٍ بَارِدٍ لأَن جميع ما احتَجَّ به فيها راجِعٌ إِلى الكِتَابةِ لا إِلى الضَّبْط من قبل الحُرُوفِ، بل هو من قبلِ الناظِرِين في تلك الكِتَابَات، ولَيْسَ في مَجموعه ما يُفيد العِلْمَ بأَنَّ آخِرَه رَاءٌ، بل الاحْتِمَال يَطْرق هذِه المَواضِعَ التي احتَجَّ بها، إِذ الكاتِبُ قد يَذْهَلُ عن نَقْط الزَّاي فتَصِيرُ رَاءً، ثمّ ما المَانعُ أَن يكون فَوْقَها نُقْطَة فجَعَلَهَا بعضُ من لا يُمَيِّز علامَةَ الإِهْمَال، ولنَذْكُر فيه أَقْوَالَ العُلَمَاءِ ليَظْهَر لك تَصْوِيبُ ما ذَهَب إِليه المُصَنِّف، قال الحَافِظُ الذَّهَبِيّ في المِيزَان فِي تَرْجَمَتِه: قال ابنُ ناصر وغيرُه: من قَاله بزَاءَيْن مُعْجَمَتَيْن فقَد صَحّف، ثمّ احتَجّ ابنُ ناصِر لقَوْله بأُمور يَطول شَرحُها تُفِيد العِلْم بأَنّه بِرَاءٍ، وكذا ابنُ نُقْطَة وابنُ النّجّار، وقد تَمَّ الوَهمُ فيه على الدارَقطنيّ وعبدِ الغَنِيّ، والخَطِيب، وابنِ مَاكُولَا فقالوا: عزيز، بزاي مكرَّرة، وقد بَسطْنا القولَ في ذلك في تَرجَمَتِه في تاريخ الإِسلام، قال الحافِظُ ابنُ حَجَر في التَّبْصِير: هذا المكانُ هو مَحَلُّ البَسْطِ فيه، لأَنّه مَوضِعُ الكَشْفِ عنه، وقد اشتَهَر على الأَلسِنَةِ كِتَابُ غَرِيبِ القرآن للعُزَيْزِيّ، بزاءَين معجمتين.
وقَضِيّة كَلام ابنِ نَاصِر ومَنْ تَبِعَه أَن تَكُونَ الثَانِيَةُ رَاءً مهملَة، والحُكْم على الدار قطنيّ فيه بالوَهَم مع أَنّه لَقِيَه وجَالَسه وسَمِع مَعَه ومنه، ثمّ تَبِعَه النُّقَّادُ الذِين انتَقَدُوا عليه، كالخَطِيب، ثم ابن مَاكُولَا وغَيْرهمَا، في غَايَة البُعْدِ عِنْدِي.
والذي احتَجَّ به ابنُ ناصِرِ هُو أَنّ الإِثباتَ من اللّغَويِّين ضَبَطُوه بالرّاءِ. قال ابنُ نَاصِر: رأَيْت كِتَابَ المَلَاحن لأَبِي بكر بنِ دُرَيْد، وقد كَتَبَ عَلَيْه لمحمّد بن عُزَيْز السِّجِسْتَانِيّ، وقَيْده بالرَّاءِ، قال: ورأَيت بخَطّ إِبراهِيمَ بنِ مُحَمَّد الطَّبَرِيّ تُوزونَ، وكان ضابِطًا، نُسخةً من غَرِيبِ القرآن، كَتَبَها عن المُصنّف، وقيّد التَّرْجمة: تأْلِيف محمّد بن عُزَيْر ـ بالرّاءِ غير معجمة ـ قال: ورأَيتُ بخَطّ محمّدِ بنِ نَجْدة الطَّبَرِيّ اللّغوي نُسْخَة من الكِتَابِ كذلِك. قال ابنُ نُقْطَة: ورأَيْتُ نُسْخَةً من الكِتَاب بخَطّ أَبِي عامر العَبْدَرِيّ، وكان من الأَئمة في اللُّغَة والحَدِيث قال فيها. قال عبد المحسن السِّنجيّ: رأَيتُ نُسْخَةً من هذا الكتاب بخَطّ محمّد بن نَجْدة، وهو مُحَمَّد ابن الحُسين الطّبَريّ، وكان غاية في الإِتْقَان، تَرجمتُها: كتاب غريب القرآن لمحمّد بن عُزَير، الأَخِيرَة راءٌ غَيْرُ مُعْجَمَة. قال أَبو عامر: قال لي عبد المُحسن: ورأَيتُ أَنا نُسْخَةً من كتاب الأَلْفاظ رواية أَحمد بن عُبيد بن ناصِح، لمحمّد بن عُزَيْر السِّجِسْتَانِي، آخره راءٌ، مكتوب بخطّ ابن عُزَيْرٍ نَفسهِ الذي لا يَشُكّ فيه أَحدٌ من أَهل المَعْرِفة.
هذا آخر ما احتَجَّ به ابنُ نَاصِر وابنُ نُقطة. وقد تقدَّم ما فيه. ثمّ قال الحافظ: فكيف يَقْطع على وَهم الدارقطنيّ الذي لَقِيَه وأَخذَ عنه ولم يَنْفَرِد بذلك حتى تابَعَه جَمَاعةٌ.
هذا عندي لا يَتّجِه، بل الأَمر فيه على الاحتمال، وقد اشتهر في الشّرق والغَرْب بزَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ إِلاّ عندَ مَن سَمَّيْنَاه، ووجد بخَطّ أَبي طَاهِر السِّلفِيّ أَنّه بزَاءَيْن. وقيل فيه: براءٍ آخره، والأَصح بزَاءَين. قال: والقَلْبُ إِلى ما اتَّفَقَ عليه الدارقطنيّ [وأَتْبَاعه] أَميّلُ، إِلاّ أَن يَثبت عن بَعْضِ أَهل الضّبط أَنّه قَيَّدَه بالحُرُوف لا بالقَلَم. قال: ومِمَّن ضَبَطَه من المَغَارِبة بزَاءَيْن مُعْجَمَتَيْن أَبو العَبَّاس أَحمد بنُ عبد الجَلِيل بن سُلَيْمَان الغَسَّانيّ التُّدْمِيرِيّ، كما نَقَلَه ابنُ عبد الملك في التَّكْمِلَة، وتعقّب ذلِك عليه بكَلَام ابنِ نُقْطَة، ثمّ رجعَ في آخرِ الكلام أَنه على الاحْتِمَال. قلت: ونسبَه الصَّفدِيّ إِلى الدّار قُطْنيّ، قال: وهو مُعاصِرُه وأَخَذَا جَمِيعًا عن أَبي بَكْر بنِ الأَنْبَارِيّ؛ أَي فهو أَعرَفُ باسْمه ونَسَبِه من غيره.
وعُزَيْز أَيضًا؛ أَي كزُبَيْر كُحْلٌ معروف مَعْرُوف من الأَكْحَالِ، نقله الصَّاغَانِيّ.
وحَفْر عزَّى، ظاهره أَنه بفَتْح العَيْن، وهكذا هو مَضْبُوط بخَطّ الصّاغَانِيّ، والذي ضَبَطَه من تَكَلَّم على البِقَاع والبُلْدَان أَنه بكَسْرِ العَيْن وقالوا: هو ناحِيَةٌ بالمَوْصِلِ.
وتَعَزَّزَ لَحمُه، وفي الأَساس واللّسَان: لَحْمُ النّاقَةِ: اشتَدَّ وصَلُبَ، وقال المُتَلَمِّس:
أُجُدٌ إِذا ضَمَرَت تَعَزَّزَ لَحْمُها *** وإِذا تُشَدّ بنِسْعِهَا لا تَنْبِسُ
والعَزِيزَةُ في قَوْلِ أَبي كَبِيرٍ ثابِتِ بن عَبْد شَمْس الهُذَلِيّ من قَصِيدةٍ فائِيّة عِدَّتُها ثَلَاثَةٌ وعِشْرُون بَيْتًا:
حتّى انتهَيْتُ إِلى فِرَاشِ عَزِيزَةٍ *** سَوْدَاءَ رَوْثَةُ أَنْفِهَا كالمِخْصَفِ
وأَولُهَا:
أَزُهَيْرَ هَل عن شَيْبَةٍ من مَصْرِفِ *** أَم لا خُلُودَ لبَاذِلٍ مُتَكَلِّفِ
يريد زُهَيْرَة وهي ابنتُه، وقَبْل هذا البَيْت:
ولقد غَدَوتُ وصاحِبِي وَحْشِيّةٌ *** تَحت الرِّداءِ بَصِيرَةٌ بالمُشْرِفِ
يريد بالوَحْشِيّة الرِّيحَ. يقول: الرِّيح تَصْفُقُنِي. وبَصِيرَة الخ؛ أَي هذِه الرِّيح مَنْ أَشرَفَ لها أَصَابَتْه إِلاّ أَن يَستَتِرَ تدخُل في ثِيَابِه، والمُرَاد بالعَزِيزة العُقَاب، وبالفِرَاش وَكْرها، ورَوْثَة أَنْفِهَا؛ أَي طَرَف أَنْفِهَا. يَعْنِي مِنْقَارَها، أَراد: لم أَزَلْ أَعْلُو حتى بَلَغْت وَكْرَ الطَّيْر. والمِخْصَفُ: الذي يُخْصَف به، كالإِشْفَى، ويُرْوَى عَزِيبَة، وهي التي عَزَبَت عَمَّن أَرادَهَا، ويُرْوَى أَيضًا غَرِيبَة، بالغَيْن والراءِ، وهي السوداءُ، كما نَقله السُّكّرِيّ في شَرْح ديوان الهُذَليّين.
ويَقُولُون للَّرجُل: تُحِبُّني، فيقُول: لَعَزَّ مَا؛ أَي لَشَدَّ ما ولَحَقَّ مَا، كذا في الأَساس. ويقولون: فلان جئْ به عَزًّا بَزًّا؛ أَي لا مَحَالَةَ؛ أَي طَوْعًا أَو كَرْهَا. وقال ثَعْلَب في الكَلَام الفَصِيح: «إِذا عَزَّ أَخُوك فهُنْ»، والعَرَبُ تَقُولُه، وهو مَثلٌ؛ أَي إِذا تَعظَّمَ أَخُوك شامِخًا عليك فَهُن، فالتَزِمْ له الهَوَانَ، وقال الأَزهريّ: المَعْنَى: إِذا غَلَبَكَ وقَهَرَك ولم تُقَاوِمْه فلِنْ له: أَي تواضع له فإِن اضْطِرابك عليه يَزِيدُك ذُلًّا وخَبَالًا. قال أَبو إِسحاق: الذي قاله ثَعْلَب خَطَأٌ، وإِنَّمَا الكلام: إِذا عَزَّ أَخُوك فهِنْ. بكَسْر الهاءِ. مَعْنَاه: إِذا اشْتَدّ عَلَيْك فهِنْ له ودَارِه. وهذا من مَكارِم الأَخلاقِ. وأَمّا هُنْ، بالضّمّ، كما قَالَه ثَعْلَب، فهو من الهَوَانِ، والعَرب لا تَأْمُر بذلِك، لأَنهم أَعِزَّة أَبَّاؤُون للضَّيْم.
قال ابنُ سِيدَه: إِن الذي ذَهبَ إِليه ثَعْلَبٌ صَحِيحٌ، لِقَوْل ابنِ أَحمَر:
وقارِعَةٍ من الأَيّام لولَا *** سَبِيلُهُمُ لَزَاحَتْ عنك حِينَا
دَبَبْتُ لهَا الضَّرَاءَ فَقُلتُ أَبقَى *** إِذا عَزَّ ابنُ عَمِّك أَن تَهُونَا
«ومن عَزَّ بَزَّ» أَي مَنْ غَلَبَ سَلَب، وهو أَيضًا من الأَمثال، وقد تقدّم في ب ز ز.
والعَزِيزُ كأَمِير، المَلِك، مأْخُوذ من العِزّ، وهو الشِّدّة والقَهْر؛ وسُمِّيَ به لِغَلَبَتِه على أَهْلِ مَمْلَكَتِه؛ أَي فلَيْس هو من عِزَّةِ النَّفْس. والعَزِيزُ أَيضًا: لَقَبُ مَنْ مَلَكَ مِصْر مع الإِسْكَنْدَرِيَّة، كما يُقَال النَّجَاشِيّ لمَنْ مَلَك الحَبَشَة، وقَيْصَر لمَنْ مَلَك الرّومَ، وبهما فُسِّر قوله تعالى: {يا أَيُّهَا} الْعَزِيزُ {مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ}.
* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:
الْعَزِيزُ: من صِفات الله تعالى وأَسمائِه الحُسْنَى، قال الزَّجَّاج: هو المُمتَنِع فلا يَغْلِبُه شيْءٌ. وقال غَيْرَه: هو القَوِيّ الغالِبُ كلَّ شيْءٍ، وقيل: هو الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. ومن أَسمائِه عَزَّ وجَلَّ: المُعِزّ، وهو الذي يَهَب العِزَّ لمَنْ يَشَاءُ من عِبَادِه. والتَّعَزُّز: التَّكَبُّر: ورجل عَزِيزٌ: مَنِيعٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر، وقَوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ} عَزِيزٌ {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أَي حُفِظَ وعَزّ من أَن يَلحَقَه شَيْءٌ من هذا. وعِزٌّ عَزِيزٌ، على المُبَالَغَة، أَو بمعنى مُعِزّ، قال طَرَفَةُ:
ولو حَضَرَتْه تَغْلِبُ ابنَةُ وَائِلٍ *** لَكانُوا له عِزًّا عَزِيزًا ونَاصِرَا
وكَلِمَةٌ شَنْعَاءُ لاهْل الشِّحْر، يَقُولُون: بعِزِّي لَقَدْ كان كَذا وكذا، وبِعِزِّك، كقَوْلِك: لعَمْرِي ولَعَمْرُك. وفي حَدِيثِ عُمَر: «اخْشَوْشِنُوا وتَمَعْزَزُوا»؛ أَي تَشَدَّدُوا في الدّيْن وتَصَلَّبُوا. من العِزّ القُوّةِ والشِّدَة. والمِيمُ زَائِدَة، كتَمَسْكَن من السُّكُون، وقيل: هو من المَعَز وهو الشدّة، وسَيَأْتِي في مَوْضِعِه ويُرَوى و: تَمَعْدَدُوا. وقد ذُكِر في مَوضعه. وعَزَّزتُ القَوْمَ: قَوَّيتُهُم. والأَعِزَّاءُ: الأَشِدَّاءُ وليس من عِزَّة النَّفْسِ. ونقلَ سِيبَوَيْه: وقالُوا: عَزَّ ما أَنَّك ذَاهِبٌ، كقَولِك: حَقًّا أَنّك ذَاهِب.
والعَزَز، مُحَرَّكة: المَكَانُ الصُّلْبُ السَّرِيع السَّيْل. وأَرضٌ عَزَازَةٌ وعَزَّاءُ: مَعْزُوزَة، أَنشدَ ابنُ الأَعْرَابِيّ:
عَزَازَة كلِّ سائِلِ نَفْعِ سَوْءٍ *** لكُلِّ عَزَازَةٍ سالَتْ قَرَارُ
وفَرسٌ مُعْتَزَّةٌ: غَلِيظَةُ اللَّحْمِ شَدِيدَتُه.
وقولهم: تعزَّيت عنه؛ أَي تَصَبَّرْت، أَصلها تَعَزَّزْت؛ أَي تَشدَّدْت مثل تَظَنَّيْت من تَظَنَّنْت، ولها نَظَائِر تُذْكَر في مَوْضِعها. والاسمُ منه العَزَاءُ. وفي الحدِيث: «مَن لم يَتَعَزَّ بعَزَاءِ الله فلَيْس مِنّا» فسّره ثَعْلَب فقال: معناه مَنْ لم يَرُدَّ أَمرَه إِلى الله فلَيْس مِنَّا.
والعَزّاءُ: السنة الشَّدِيدَة.
وعَزَّه يَعُزّه عَزًّا: أَعانه، نقلَه ابنُ القَطّاع، قال: وبه فَسَّر من قرأَ: فَعَزَّزْنا {بِثالِثٍ}.
يقال: فلانٌ عَنْزٌ عَزُوز، كصَبُور: لها دَرٌّ جَمٌّ، وذلك إِذا كان كثِيَر المَالِ شَحِيحًا. وعازَّ الرجُلُ إِبلَه وغَنَمَه مُعَازَّةً، إِذا كانت مِرَاضًا لا تَقدِرُ أَن تَرْعَى فاحْتَشّ لها ولَقَّمَها، ولا تكون المُعازَّةُ إِلاّ في المَالِ، ولم يُسْمَع في مَصْدَرِه عِزَازًا.
وسَيْلٌ عِزٌّ، بالكَسْر: غالبٌ. والمُعْتَزّ: المُسْتَعِزّ.
وعِزَّ، بالكَسْر مَبْنِيًّا على الفَتْح: زَجْرٌ للغَنَم، وهذِه عن الصّاغَانِيّ. وعَزِيز، كأَمِير: بَطْن من الأَوْس من الأَنْصار.
وفي شرح أَسماءِ الله الحُسْنَى لابن بَرْجَان: العَزُوزُ، كصَبور: من أَسماءِ فَرْج المرأَة البِكْر. وعُزَّى، على اسمِ الصَّنَم: لَقبُ سَلمَة بنِ أَبي حَيَّةَ الكاهِن العُذرِيّ.
والعُزَّيَانِ، مُثَنًّى، هُمَا بظاهر الكُوفَة حيث قَبْرُ أَمِيرٍ المُؤمِنِين عليٍّ رضي الله عنه، زَعمُوا أَنهما بَناهُما بَعْضُ ملُوكِ الحِيرَةِ. وخَيَالانِ من أَخْيِلَةِ حِمَى فَيْد، يَطؤُهُمَا طَرِيقُ الحَاجّ، بينَهُمَا وبين فَيْدٍ سِتَّةَ عَشَر مِيلًا.
واستَعَزّ فُلانٌ بحَقّي؛ أَي غَلَبَنِي، واستُعِزَّ بفُلان أَي غُلِب في كل شيْءٍ من عاهَةٍ أَو مَرَضٍ أَو غيرِه. وقال أَبو عَمْرو: استُعِزّ بالعَلِيل، إِذا اشْتَدّ وَجَعُه وغُلِب على عَقْلِه. وفي الحديث: «لما قَدِم المَدِينَةَ نَزَل على كُلْثُومِ بنِ الهَدْمِ، وهو شاكٍ، ثمّ استُعِزّ بكُلْثومٍ فانتَقَلَ إِلى سَعْد بنِ خَيْثَمَة» ويقال أَيضًا: استُعِزّ به، إِذا مَاتَ.
وعَزَّز بهم تَعْزِيزًا: شَدَّدَ عليهم ولم يُرَخِّص. ومنه حَدِيثُ ابنِ عُمَر: «إِنكم لمُعَزَّز بكم، عليكم جَزاءٌ وَاحِدٌ» أَي مُثَقَّل عليكم الأَمرُ.
ومحمّد بن عِزّانَ، بالكَسْر، رَوَى عن صالحٍ مَوْلَى مَعْنِ بن زائدة. وعَزَّاز بن أَوْس، كشَدَّاد: مُحَدّث. وعُزَيْز، كزُبَيْر: محمّد بن عُزَيْز الأَيليّ، وعبد الله بن محمد بن عُزَيْزِ المَوْصِليّ. وأَحمَد بن إِبراهيم بن عُزَيْز الغُرناطِيّ. ومَيْسَرَةُ ابن عُزَيز: مُحَدِّثون. وكأَمِير، أَبو هُرَيْرَة عَزِيز بن محمّد المَالِقيِّ الأَندلُسِيِّ. وعَزِيز بن مُكْنِف، وعَزِيز بنُ محمّدِ بنِ أَحمدَ النَّيْسَابُورِيّ، ومُصْعَب بن عبد الرحمن بن شُرَحْبِيل ابن [أَبي] عَزِيز، وعَبْدُ الله بنُ يَحيى بن معاوِيَة بن عَزِيز بن ذي هِجْرَان السّبائي المِصْرِيّ، وعُمر بن مُصْعَب بن أَبي عَزِيزٍ الأَندلسيّ: مُحَدِّثون.
وأَبو إِهَابِ بنُ عَزيز بن قَيْسٍ الدّارِميّ: أَحَدُ سُرَّاقِ غَزَالِ الكَعْبَة، وابنَتَاه أُمّ حُجَيْر وأُم يَحْيَى، وقع ذكرُ الأَخيرةِ في صَحِيح البخاريّ، المَشْهُورُ فيه الفَتْح: وقَيَّده أَبو ذَرّ الهَرَوِيّ في روَايتِه عن المُسْتَمْلي والحَمَوِيّ بالضّمّ. وأَبو عَزِيز بن عُمَيْر العَبْدَرِيّ، قُتِل يَوْمَ أُحُد كافِرًا، وحَفِيده مُصْعَب بن عُمَيْر بن أَبي عَزِيز قُتِل بالحَرَّة. وهانئُ بن عَزيزٍ أَوّل من قُتِل من مُشْرِكِي مكّة، ذكره ابنُ دُرَيْد. ويَحْيَى بنُ يَزِيد بن حُمْرَان بن عَزِيز الكِلابيّ، من صَحَابَة المَنْصُور، وشُمَيْسة بنت عَزِيز، لها رواية. وعَزِيزَة ابنةُ علِيّ بن يَحْيَى بن الطَّرَّاح، عن جَدّهَا، ماتَت سنة 600 وعَزِيزة بنت مُشَرِّف، ماتت سنة 619 وعَزِيزةُ. لَقبُ مُسندة مِصر أُمّ الفضل هاجَرُ القُدْسية.
وبالضّمّ أَبو بكر محمّدُ بنُ عمر بن إِبراهيم بن عُزَيْزة الأَصْبَهَانيّ من شيوخ السِّلفَيّ، وأَخوه عبد الله، وابنه أَبو الخَيْر عُمَر بن محمّد، حدّث عنهما أَبو موسى المَدِينيّ، وعَنْهما، يعني: أَخبرَنا العُزَيْزِيّان، وولده أَبو الوفاءِ محمّد بن عُمر، حَدَّث أَيضًا، وأَبو المَكَارم أَحمد بن هِبة الله بن عُزَيْزَة الشّاهد، وابن عمه محمّد بن عبد الله بن محمود، حَدّثَا. والشِّهاب عليّ بن أَبي القاسم بن تميم الدِّهِسْتانيّ العَزِيزِيّ، بالفَتْح، سَمع من أَبي اليُمْن بنِ عَسَاكرَ، مَولده سنة 627. وعُزَيْزِيّ بلفظ النَّسب، اسم شَيْذَلةَ الواعِظِ المشهور، يأْتي للمصنِّف في شَ ذَ ل. وأَبو عبد رَبّ العِزّة، بالكَسْر، رَوَى عن معاويةَ، وعنه عَبْدُ الرحمن بن يَزِيد بن جابر. وعبد العُزَّى اسمُ أَبي لَهَبٍ، وعبد العُزَّى بن غَطَفان أَخو رَيْث ويُسَمَّى عبد الله. وعَبْد العُزَّى وَالدُ أَبي الكنُود وجَعْدةَ الشَّاعرَين. وعزازة بنُ عبدَّ الدائم شَيْخٌ لأَبي أَحمد العَسكريّ. والحُسين بن علي المُعْتَزّي المِصْريّ، روَى عن جعفر بن عبد الواحد الهَاشِمِيّ، وذكره المَالِينيّ ومُعْتَزَّة بنتُ الحُصَيْن الأَصْبَهانِيَّة، روتْ عن عبد المَلك بن الحُسين بن عَبْد رَبِّه العَطَّار، ماتتْ بعد الخَمْسِمِائَة. والعَزِيزِيّة، بالفَتْح: اسمٌ لثلاثِ قُرًى بمِصْر بالشَّرقِيَّة والمُرتاحِيّة والسَّمَنُّودِيّة. ومُنْيَة العِزّ، اسمٌ لأَربعِ قُرًى بمِصْر أَيضًا، بالدَّقَهْلِيّة وبالشَّرقِيَّة وبالمُنُوفِيَّة وبالأَشْمُونين، وكُوْم عَزّ الملك ومُنية عِزّ الملك، ومُنْيَة عَزُّونَ: قُرًى بالديار المِصريّة.
وأَبو العِزّ محمّد بن أَحمد بن أَحمد بن عبد الرحمن القاهرِيّ شَيخُ شُيوخِنا، أَجازَه المُعمَّر محمّدُ بنُ عُمر الشّوبريّ والشَّمس البابِليّ والشَّمْس بن سُليمان المَغْرِبيّ، سمعَ منه شيوخُنا: الشِّهابانِ: أَحمدُ بنُ عبد الفتاح المجيريّ، وأَحمد بن الحسن الخَالِديّ، والمحمَّدانِ: ابنُ يَحْيى بن حِجازيّ، وابن أَحْمَد بن محمّد الأَحمديّ، وغيرهم، وهو من أَعظَم مُسْندي مصرَ، كأَبِيه. وعبد الله بن عُزَيِّز، مُصَغَّرًا مثقَّلًا، من شُيُوخ العِزّ عبد السلام البَغْدَادِيّ الحَنَفِيّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
127-تاج العروس (بس بسس بسبس)
[بسس]: البَسُّ: السَّوْقُ اللَّيِّنُ الرَّفِيقُ اللطِيفُ، كما أَنَّ الخَبْزَ هو السَّوْقُ الشَّدِيدُ العَنِيف، وقد بَسَّ الإِبِلَ بَسًّا: ساقَها، قال الرّاجِزُ:لا تَخْبِزَا خَبْزًا وبُسَّا بَسَّا *** ولا تُطِيلَا بمُنَاخٍ حَبْسَا
وفسّرَه أَبو عُبَيْدَةَ على غيرِ مَا ذَكَرْنَا، وقد تَقَدَّم في «خ ب ز».
والبَسُّ: اتَّخاذُ البَسِيسَةِ بِأَنْ يُلَتَّ السَّوِيقُ ـ أَو الدَّقِيقُ ـ أَو الأَقِطُ المَطْحُونُ ـ بالسَّمْنِ أَو الزَّيتِ ثمَّ يُؤْكَل ولا يُطْبَخ، وقال يَعْقُوب: هو أَشَدُّ من اللَّتِّ بَلَلًا، وأَنشَدَ قولَ الرّاجِزِ السّابِق.
والبَسُّ: زَجْرٌ للإِبِل بِبَسْ بَسْ، بكسرِهِمَا وبِفَتْحِهما كالإِبْساسِ وقد بَسَّ بِهَا يَبُسُّ ويبس وأَبَسَّ، ومنه الحَدِيثُ: «يَخرُجُ قَومٌ مِنَ المَدِينَةِ إِلى الشّامِ واليَمَنِ والعِراقِ يُبِسُّون والمَدِينَةُ خَيْرٌ لهُمْ لو كانُوا يَعْلمُون» قال أَبو عُبَيْدٍ: قوله يُبِسُّونَ هو أَنْ يُقَالَ في زَجْرِ الدّابَّةِ إِذا سِيقَتْ حِمَارًا أَو غَيْرَه بَسْ بَسْ، وبِسْ بِسْ، بفتح الباءِ وكسرِهَا، وأَكْثرُ ما يُقَالُ بالفَتْحِ، وهو من كلامِ أَهْلِ اليَمَنِ، وفيه لُغَتَانِ بَسَسْتُهَا وأَبْسَسْتُهَا، وقال أَبُو سَعِيد: يُبِسُّونَ؛ أَي يَسِيحُونَ في الأَرْضِ.
والبَسُّ: إِرْسَالُ المَالِ في البلادِ وتَفْرِيقُهَا فيها، كالبَثِّ، وقد بَسَّهُ في البِلادِ فانْبَسَّ، كبَثَّهُ فانْبَثَّ.
والبَسُّ: الطَّلَبُ والجَهْدُ، ومِنْه قولُهم: لأَطْلُبَنَّهُ من حَسِّي وبَسِّي؛ أَي مِنْ جَهْدِي، كما سَيَأْتِي.
والبَسُّ: الهِرَّةُ الأَهْلِيَّةُ، نقلَه ابنُ عَبّادٍ، والعَامَّةُ تَكْسِرُ البَاءَ، قالَه الزَّمَخْشَرِيُّ، الوَاحِدَةُ بهاءٍ، والجَمْعُ بِسَاسٌ.
ويُقَال: جاءَ بهِ مِنْ حسِّهِ وبسِّه، مُثَلَّثَيِ الأَوَّلِ؛ أَي من جَهْدِه وطاقَتِهِ، قَالَهُ أَبو عَمْرٍو، وقال غيرُه: أَي من حَيْثُ كانَ ولم يَكُنْ، ويقالُ: جِيءْ بِه من حسِّك: وبسِّك؛ أَي ائْتِ بهِ على كُلِّ حالٍ من حَيْثُ شِئْتَ. ولأَطْلُبَنَّه من حسِّي وبسِّي؛ أَي جَهْدِي وطَاقَتِي، ويُنْشَدُ:
تَرَكَتْ بَيْتِي مِنَ الأَشْ *** ياءِ قَفْرًا مِثْلَ أَمْسِ
كُلُّ شَيْءٍ كُنْتُ قَدْ جَمَّ *** عْتُ مِنْ حسِّي وبسِّي
وبَسْ بمَعْنَى حَسْبُ، أَو هُوَ مُسْتَرْذَلٌ، كذا قالَهُ ابنُ فارِس، ووقع في المُزْهِرِ أَيْضًا أَنّهُ لَيْسَ بعَرَبَيّ، قال شيخُنَا: وقد صَحَّحَها بعضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وفي الكَشْكُول للبَهَاءِ العامِلِيِّ ما نَصُّه: ذَكَرَ بعضُ أَئِمَّةِ اللُّغَة أَنّ لَفْظَةَ بَسْ فارِسِيَّةٌ تقولُهَا العَامَّةُ، وتَصَرَّفُوا فيها، فقالوا بَسَّك وبَسِّي، إِلخ، وليسَ للفُرْسِ في مَعْنَاهَا كَلِمَةٌ سِوَاهَا، وللعَرَب حَسْبُ، وبَجَلْ، وقَطْ مُخَفَّفَة، وأَمْسِكْ، واكْفُفْ، وناهِيكَ، ومَهْ، ومَهْلًا، واقْطَعْ، واكْتَفِ.
والبَسُّ: بَطْنٌ من حِمْيَرَ، مِنْهُم أَبو مِحْجَنٍ تَوْبَةُ بنُ نَمِرٍ البَسِّيُّ قاضِي مِصْرَ، نُسِبَ إِلى هذَا البَطْنِ، نقَلَهُ الحافِظُ.
قلتُ: وهو تَوْبَةُ بنُ نَمِرِ بنِ حَرْمَلَةَ بنِ تَغْلِبَ بنِ رَبِيعَةَ الحَضْرَمِيُّ، رَوَى عن اللَّيْثِ وغيرِه، وعَمُّه الحارِثُ بنُ حَرْمَلَةَ بنِ تَغْلِب، عن عَلِيٍّ، وعنه رَجَاءُ بنُ حَيْوَةَ وعَبّاسُ بنُ عُتْبَةَ بنِ كُلَيْب بن تَغْلِبَ، عن يَحْيَى بنِ مَيْمُون ومُوسَى بنِ وَرْدَانَ، وعن ابنِ وَهْبٍ.
والبَسُوسُ، كصَبُور: النّاقَةُ الَّتِي لا تَدُرُّ إِلاّ عَلَى الإِبْسَاسِ؛ أَي التَّلَطُّف بأَنْ يُقَالَ لَهَا بُسّ بُسّ بالضّمِّ والتَّشْديد، قاله ابنُ دُرَيْد، تَسْكِينًا لَهَا، قالَ: وقد يُقَال ذلِكَ لغَيْرِ الإِبِلِ.
وفي المَثَلِ: «أَشْأَمُ مِنَ البَسُوس» لأَنّه أَصابَها رَجُلٌ من العَرَبِ بسَهْم في ضَرْعِها، فقَتَلَهَا، فقامَت الحَرْبُ بَيْنَهُما.
وقيل: البَسُوسُ: اسم امْرَأَة، وهي خالَةُ جَسّاسِ بنِ مُرَّةَ الشَّيْبَانِيِّ، كانَتْ لها ناقَةٌ يُقال لها: سَرَابِ، فرآها كُلَيْبُ وائِلٍ في حِمَاه، وقد كَسَرَتْ بَيْضَ طَيْرٍ كان قد أَجارَهُ، فرَمَى ضَرْعَها بسَهْمٍ، فوَثَبَ جَسّاسٌ على كُلَيْبٍ فقَتَلَه، فهاجَت حَرْبُ بَكْرٍ وتَغْلِبَ ابْنَيْ وَائِل بسَبَبِهَا أَربعينَ سَنَةً حَتَّى ضُرِبَ بها المَثَلُ في الشُّؤْمِ، وبها سُمِّيَتْ حَرْبُ البَسُوسِ، وقِيل: إِنَّ الناقَةَ عَقَرَهَا جَسّاسُ بنُ مُرَّةَ، وفي البَسُوسِ قولٌ آخرُ رُوِيَ عن ابنِ عَبّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قالَ الأَزْهَرِيّ فيه: إِنّه أَشْبَهُ بالحَقِّ، وقد ساقَه بسَنَدِه إِليهِ في قولِه تَعالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها} قال: كانَت امْرَأَةٌ مَشْؤُومَة اسمُها البَسُوس، أُعْطِيَ زَوْجُهَا ثَلاث دَعَواتٍ مُسْتَجاباتٍ، وكانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فكانت مُحِبَّةً لهُ، فقالَتْ: اجْعَلْ لِي مِنْهَا دَعْوَةً وَاحِدَةً.
قالَ: فلَكِ وَاحِدَةٌ، فما ذَا تُرِيدِينَ؟ قالَت: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَل امْرَأَةٍ في بَنِي إِسْرَائِيلَ، ففَعَلَ، فرَغِبَتْ عنهُ لَمّا عَلِمَتْ أَنّه ليسَ فيهِم مِثْلُهَا، فَأَرادَتْ سَيِّئًا، فدَعَا الله تَعَالَى عَلَيْهَا أَنْ يَجْعَلَها كَلْبَةً نَبّاحَةً، فذَهَبَتْ فِيهَا دَعْوَتانِ، فجاءَ بَنُوهَا، فقالُوا: لَيْسَ لَنَا عَلَى هذا قَرَارٌ، قد صارَتْ أُمُّنا كَلْبَةً يُعَيِّرُناهَا النّاسُ، كذا نَصُّ التَّكْمِلَةِ، وفي اللِّسَانِ يُعَيِّرُنَا بِهَا النَّاسُ، فادْعُ الله تَعَالَى أَن يَرُدَّهَا إِلى حالِهَا الَّتِي كانَتْ عليها، ففَعَلَ، فعادَتْ كما كَانَتْ، فذَهَبَت الدَّعَواتْ الثَّلاثُ بشُؤْمِهَا، وبها يُضْرَبُ المَثَلُ.
قالَ اللِّحْيَانِيُّ: يقال: بُسَّ فلانٌ، بالضّمِّ، في مالِه بَسًّا، إِذا ذَهَبَ شَيْءٌ من مالِهِ، كذا في التَّكْمِلَة، والذي في اللِّسَانِ: بَسَّ في مالِه بَسَّةً ووَزَمَ وَزْمَةً: أَذْهَب منه شَيْئًا.
وبِسْ بِسْ، مُثَلَّثَيْنِ: دعاءٌ للغَنَمِ وقد بَسَّهَا، وقال ابنُ دُرَيْدٍ: بَسَسْتُ الغَنَمَ: قلتُ لَهَا: بسْ بسْ، وقال الكِسَائِيُّ: أَبْسَسْتُ بالنَّعْجَةِ، إِذا دَعَوْتَهَا للحَلبِ، وقال الأَصْمَعِيُّ: لم أَسْمَع الإِبْسَاسَ إِلاّ في الإِبِلِ.
وبُسٌّ، بالضّمِّ، والتَّشْدِيدِ: جَبَلٌ قُرْبَ ذاتِ عِرْقٍ، وقيل: أَرضٌ لبَنِي نَصْرِ بنِ مُعاوِيَةَ بن بَكْرِ بنِ هَوَازِنَ قَرْبَ حُنَيْنٍ، ويقال: بُسَى أَيضًا، وهو اسمٌ لجِبَالٍ هُنَاك في دِيارِهِم، وإِيّاهُ عَنَى عَبّاسُ بنُ مِرْداسٍ السُّلَمِيُّ في قوله:
رَكَضْتُ الخَيْلَ فيها بَيْنَ بُسٍّ *** إِلى الأَوْرالِ تَنْحِطُ بالنِّهَابِ
وقال عاهانُ بنُ كَعْب:
بَنِيكَ وهَجْمَةٌ كأَشَاءِ بُسٍّ *** غِلاظُ مَنَابِتِ القَصَرَاتِ كُومُ
وقالَ ابنُ الكَلْبِيِّ: بُسّ: بَيْتٌ لغَطَفَانَ بنِ سَعْدِ بنِ قَيْسِ عَيْلان كانت تَعْبُدُه، بنَاهُ ظَالِمُ بنُ أَسْعَدَ بنِ رَبِيعَةَ بنِ مالِكِ بنِ مُرَّةَ بن عَوْفِ لمّا رَأَى قُرَيْشًا يَطُوفُون بالكَعْبَةِ ويَسْعَوْنَ بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ فذَرَعَ البَيْتَ. ونصُّ العُبَابِ: وأَخَذَ حَجَرًا من الصَّفَا وحَجَرًا من المَرْوَةِ فرَجَعَ إِلى قَوْمِه وقال: يا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، لِقُرَيْشٍ بيتٌ يَطُوفُونَ حَولَه، والصَّفَا والمَرْوَةُ، وليسَ لكم شَيْءٌ، فبَنَى بَيْتًا على قَدْرِ البَيْتِ، ووَضَعَ الحَجَرَيْنِ، فقال: هذان الصَّفَا والمَرْوَةُ.
فاجْتَزَؤُوا به عن الحَجِّ، فأَغَار زُهَيْرُ بنُ جَنَاب بنِ هُبَل بن عبدِ الله بنِ كِنَانَةَ الكَلْبِيُّ فقتَلَ ظالِمًا وهَدَمَ بِنَاءَه.
وقد تَقَدَّم للمُصَنِّفِ في «ع ز ز» أَنّ العُزَّى سَمُرَةٌ عَبَدَتْهَا غَطَفَانُ، أَوَّلُ من اتَّخَذَهَا ظالِمُ بنُ أَسْعَدَ فوقَ ذاتِ عِرْقٍ إِلى البُسْتَانِ بتِسْعَةِ أَمْيَالٍ، بَنَى عَلَيْهَا بَيْتًا وسَمّاهُ بُسًّا، وأَقَامَ لها سَدَنَةً، فبَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ رضِيَ الله عنه فهَدَمَ البيتَ وأَحْرَقَ السَّمُرَةَ، فانظرْ هذا مع كلامِه هُنَا، ففيه نَوْعُ مُخَالَفَةٍ، ولعَلّ هذا البَيْتَ هُدِمَ مَرَّتَيْنِ، مرَّةً في الجَاهِلِيَّةِ على يَدِ زُهَيْرٍ، وقُتِل إِذْ ذاكَ بانِيه ظالِمٌ، والمَرَّة الثانِيَة عامَ الفَتْحِ على يدِ خَالِدِ بنِ الوَليدِ رضِيَ الله تعالَى عنه، وقُتِلَ إِذْ ذاكَ سادِنُه رَبِيعَةُ بنُ جَرِيرٍ السُّلَمِيُّ، ولو قالَ: وبُسٌّ: بيتٌ لغَطَفانَ هي العُزَّى، كان قد أَصابَ في جَوْدَةِ الاقْتِصَارِ، على أَنّ الصّاغَانِيَّ ذَكَر فيه لغة أُخرَى وهي بُساءُ، بالضّمِّ والمَدِّ، فترْكُه قُصُورٌ، وقولُه: جَبَلٌ قُرْبَ ذاتِ عِرْقٍ، وأَرْضٌ لبَنِي نَصْر، ثمّ قولُه: وبَيْتٌ لغَطَفَانَ، كلُّ ذلِكَ وَاحِدٌ، فإِنَّهُمْ صَرَّحُوا أَنّ أَرضَ نَصْر هذِه هي الجِبَالُ التي فَوقَ النَّخْلَةِ الشَّامِيَّة بذَاتِ عِرْقٍ، وبه سُمِّيَ البَيْتُ المَذْكُور، وبنو نَصْرِ بنِ مُعَاوِيَة مع غَطَفَان شَيْءٌ وَاحِدٌ؛ لأَنَّهُم أَبنَاءُ عَمٍّ أَقْرِبَاءُ، فغَطفانُ هو ابنُ سَعْدِ بنِ قَيْسِ عَيْلَانَ، ونَصرٌ هو ابنُ مُعَاوِيَةَ بنِ بَكْرِ بنِ هَوازِنَ بنِ مَنْصُورِ بنِ عِكْرِمَةَ بنِ خَصَفَةَ بنِ قَيْسِ عَيْلَانَ، ولِبَنِي كَلْبٍ يَدٌ بيضاءُ في نُصْرَتِهم لقُرَيْشٍ حينَ بَنَوا الكَعْبَةَ، ذَكَر ابنُ الكَلْبِيِّ في الأَنْسَابِ ما نَصُّه: من بَنِي عَبْدِ اللهِ بن هُبَلَ بنِ أَبي سالِمٍ الذِي أَتَى قُرَيْشًا حينَ أَرادُوا بناءَ الكَعْبَةِ ومَعَه مالٌ فقالَ: دَعُونِي أَشْرَكْكُم في بِنَائِهَا، فأَذِنُوا له، فبَنَى جانِبَه الأَيْمَنَ.
والبَسْبَسُ: القَفْرُ الخالِي، لُغَةٌ في السَّبْسَبِ، وزَعَم يَعْقُوبُ أَنّه من المَقْلُوبِ، وبهما رُوِيَ قولُ قُسٍّ: «فبَيْنَمَا أَنا أَجُولُ بسَبْسَبِهَا».
والبَسْبَسُ: شَجَرٌ تُتَّخَذُ منه الرِّحالُ، قالَهُ اللَّيْثُ، أَو الصوابُ السَّبْسَبُ بالبَاءِ، وقد تصحَّفَ على اللَّيْثِ، قالَه الأَزْهَرِيّ.
وبَسْبَسُ بنُ عَمْرٍو الجُهَنِيُّ الصّحابِيُّ حليفُ الأَنْصَارِ، شهِدَ بَدْرًا، وبُعِثَ عَيْنًا للعِيرِ، ويقال: بَسْبَسَةُ، بهاءٍ.
ومن المَجَازِ: التُّرَّهَاتُ البَسَابِسُ، ورُبَّمَا قالُوا: تُرَّهَاتُ البَسَابِسِ، بالإِضَافَة، هي: الباطِلُ وفَسَّرَه الزَّمَخْشَرِيُّ: بالأَباطِيلِ.
وقال الجَوْهَرِيُّ: البَسْبَاسَةُ: نَبْتٌ، ولم يَزِدْ، وقال اللّيْثُ: بَقْلَة، ولم يَزِدْ، وقالَ أَبو حَنِفَةَ: البَسْبَاسُ من النّبَاتِ: الطَّيِّبُ الرِّيحِ، وزَعَم بعضُ الرُّواةِ أَنّه النانخاه.
قلتُ: الصواب هما بَسْبَاسَتان، إِحْداهُمَا: شَجَرَةٌ تَعْرِفُهَا العَرَبُ، قالَه الأَزْهَرِيُّ، قال الصّاغانِيُّ: وَيَأْكُلُهَا النّاسُ والماشِيَةُ، تَذْكُرُ بِهَا رِيحَ الجَزَرِ وطَعْمَه إِذا أَكَلْتَهَا. قلتُ: وهو قولُ أَبِي زِيَادٍ، زاد الصّاغَانِيُّ: مَنْبِتُهَا الحُزُونُ، والأُخْرَى: أَوْرَاقٌ صُفْرٌ طَيِّبَةُ الرِّيح تُجْلَبُ من الهِنْد، قال صاحِبُ المنْهَاجِ: وقيل: إِنّه قُشُورُ جَوْز بَوا، وأَنَّ قُوَّتَه كقُوَّةِ النّارمشك، وأَلْطَف منه، وهَذِه هي الَّتي تَسْتَعْمِلُها الأَطبَّاءُ، ويُرِيدُونَهَا إِذا أَطْلَقُوا، ولكنّهُم يَكْسِرُونَ الأَوَّلَ، وكلُّ واحِدَةٍ منها غيرُ الأُخْرَى.
وبَسْبَاسَةُ: امْرَأَةٌ من بَنِي أَسَدٍ، وإِيّاهَا عَنَى امْرُؤُ القَيْسِ بقولِه:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ اليَوْمَ أَنَّنِي *** كَبِرْتُ وأَلاّ يَشْهَدَ اللهْوَ أَمْثَالِي
والبَاسَّةُ والبَسّاسَةُ: من أَسْمَاءِ مَكَّة شَرَّفَها الله تَعالَى، الأَوّلُ في حَدِيثِ مُجَاهِدٍ قال: «سمِّيَتْ بِهَا لأَنَّها تَحْطِمُ من أَخْطَأَ فِيهَا، والبَسُّ: الحَطْمُ، ويُرْوَى بالنُّونِ، من النَّسِّ، وهو الطَّرْدُ. والثانيَةُ ذَكَرَها الصّاغَانِيُّ وياقُوت، وسَيَأْتِي، وقولُ اللهِ عَزَّ وجَلّ وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أَي فُتِّتَتْ، نَقَلَه اللِّحْيَانِيُّ، فَصَارَتْ أَرْضًا، قاله الفَرّاءُ، وقال أَبو عُبَيْدٍ: فصارَتْ تُرَابًا، وقيل: نُسِفَتْ، كما قال تعالَى: {يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا} وقيل: سِيقَتْ، كما قال تعالَى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَرابًا} وقال الزَّجّاجُ: بُسَّتِ: لُتَّتْ وخُلِطَتْ، وقال ثَعْلَبٌ: خُلِطَتْ بالتُّرَابِ، ونَقَلَ اللِّحْيَانِيُّ عن بعضِهِم: سُوِّيَتْ.
والبَسِيسُ، كأَمِيرٍ: القَلِيلُ من الطَّعَامِ الذي قد بُسَّ؛ أَي ذَهَبَ منه شيءٌ وبَقِيَ منه شيْءٌ.
والبَسِيسَةُ، بهاءٍ: الخُبْزُ يُجَفَّفُ ويُدَقُّ ويُشْرَبُ كما يُشْرَبُ السَّوِيقُ، قال ابنُ دُرَيْدٍ: وأَحْسَبُهُ الذي يُسَمَّى الفَتُوت، وقيل: البَسِيسَةُ عندَهُم: الدَّقِيقُ والسَّوِيقُ يُلَتُّ ويُتَّخَذُ زَادًا، وقال اللِّحْيَانِيُّ: هي التي تُلَتُّ بزَيْتٍ أَو سَمْن، ولا تُبَلُّ، وقال ابنُ سِيدَه: البَسِيسَةُ: الشَّعِيرُ يُخْلَطُ بالنَّوَى للإِبِلِ. وقال الأَصْمَعِيُّ: البَسِيسَةُ: كلُّ شيءٍ خَلَطْتَه بغيرِه، مثل السَّوِيق بالأَقِطِ، ثمّ تَبُلُّه بالزُّبْدِ، أَو مثلْ الشَّعِيرِ بالنَّوَى ثمّ تَبُلُّه للإِبِلِ.
والبِسِيسَةُ: الإِيكالُ بين النّاسِ بالسِّعايَةِ، عن ابنِ عَبّادٍ، ويُقَال: هو البَسْبَسَةُ، بباءَيْن موحَّدَتَيْن.
والبُسُسُ، بضَمَّتَيْنِ: الأَسْوِقَةُ المَلْتُوتَةُ، جمع بَسِيسَةٍ، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ.
والبُسُسُ: النُّوقُ الآنِسَةُ التي تَدُرّ عند الإِبْسَاسِ لها، جمْع بَسُوسٍ، والبُسُسُ: الرُّعاةُ، لأَنَّهُم يَبُسُّونَ المَالَ؛ أَي يَزْجُرُونَه، أَو يَسُوقُونَه.
وبَسْبَسَ: أَسْرَعَ في السَّيْرِ نَقَلَه الصّاغَانِيُّ، وكَأَنَّهُ لغةٌ في بَصْبَصَ بالصّادِ، كما سَيَأْتِي.
وبَسْبَسَ بالغَنَمِ أَو النّاقَةِ: إِذا دَعَاهَا للحَلْبِ فقالَ لها، بُسْ بُسْ، بكسرِهِمَا وبِفَتْحِهِمَا، قال الرّاعِي:
لعاشِرَةٍ وهْوَ قدْ خَافَها *** فَظَلَّ يُبَسْبِسُ أَو يَنْقُرُ
لعَاشِرَةٍ: بعدَ ما سارَتْ عَشْرَ لَيالٍ، يُبَسْبِسُ: أَي يَبُسُّ بها، يُسَكِّنُهَا لتَدِرَّ، والإِبْسَاسُ بالشَّفَتَيْنِ دونَ اللِّسَانِ، والنَّقْرُ باللِّسَانِ، دُونَ الشَّفَتَيْنِ، وقد ذُكِر في مَوْضِعِه.
وبَسْبَسَت النّاقَةُ: دَامَتْ على الشَّيْءِ، نقله الصّاغَانِيُّ.
وبُسَيْسٌ الجُهَنِيُّ، كزُبَيْرٍ: صَحَابِيٌّ. قلتُ: هو ابنُ عَمْرو الذِي تَقَدَّم ذِكرُه، يُقَالُ فيه: بَسْبَسٌ كجَعْفَرٍ، وبَسْبَسَةُ، بهاءٍ، وبُسَيْسَةُ، مصغَّرًا بهاءٍ، هكذا ذَكَرَه الأَئِمَّةُ، ثلاثة أَقْوَالٍ، ولم يَذْكُرُوا مُصَغَّرًا بغيرِ هاءٍ، ففي كلامِه نَظَرٌ.
وَتَبَسْبَسَ الماءُ: جَرَى على وَجْهِ الأَرْضِ، مثلُ تَسَبْسَبَ، أَو هو مَقْلُوبٌ منه.
والانْبِسَاسُ: الانْسِيَابُ على وَجْهِ الأَرْضِ، وقد انْبَسَّتِ الحَيَّةُ وانْسابَتْ.
وانْبَسَّ في الأَرْضِ: ذَهَبَ. عن اللِّحْيَانِيِّ وَحْدَه، حكاهُ في بابِ انْبَسَّتِ الحَيّاتُ انْبِساسًا، والمَعْرُوفُ عندَ أَبي عُبَيْدٍ وغيرِه: ارْبَسَّ، وسيأْتِي في مَوْضِعِه إِن شَاءَ الله تعالى.
وقال أَبو زَيْدٍ: أَبَسَّ بالمَعزِ إِبْساسًا: أَشْلَاهَا إِلى الماءِ. وأَبَسَّ بالإِبِلِ إِذا دَعا الفَصِيلَ إِلَى أُمِّه، وأَبَسَّ بأُمِّه لَهُ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
يَقُولُونَ: مَعِي بُرْدَةٌ قد بُسَّ مِنْهَا؛ أَي نِيلَ مِنْها وبَلِيَتْ، قال اللِّحْيَانِيُّ أَبَسَّ بالنّاقَةِ: دَعَاهَا للحَلْبِ، وقِيلَ مَعْنَاهُ: دَعَا وَلَدَهَا لتَدِرَّ على حالِبِها، واقْتَصَرَ المُصَنِّفُ على معْنَى الزَّجْرِ، والصَّحِيحُ أَنّه يُسْتَعْمَلُ فيه وفي الدُّعَاءِ للحَلبِ، وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: بَسَّ بالنَّاقَةِ وأَبَسَّ بها: دعَاها للحَلْبِ، وبَسَّتِ الرِّيحُ بالسَّحابَةِ، على المَثَلِ، قِيلَ: ولا يُبَسُّ الجَمَلُ إِذا اسْتَصْعَبَ، ولكن يُشْلَى باسْمِه واسْمِ أُمِّه فيَسْكُنُ.
وبُسَّهُمْ عنْكَ: أَي اطْرُدْهُمْ.
وبَسَّهُ بَسًّا: نَحّاهُ.
وانْبَسَّ الرجُلُ: تَنَحَّى.
وبَسْبَسَ بِه، وأَبَسَّ بهِ: قال له: بَسْ، بمعْنَى حَسْبُ.
وأَبَسَّ بهِ إِلى الطَّعَامِ: دَعاهُ.
وبَسَّ عَقَارِبَه: أَرْسَلَ نَمَائِمَه وأَرْسَلَ أَذاهُ، وهو مَجازٌ.
والبَسُّ: الدَّسُّ، يُقَال: بَسَّ فُلانٌ لفُلان مَنْ يَتَخَبَّرُ له خَبَرَهُ، ويَأْتِيه به؛ أَي دَسَّهُ إِليه، ومنه حَدِيثُ الحَجّاجِ: قالَ للنُّعْمَانِ بنِ زُرْعَة: «أَمِنْ أَهْلِ الرَّسِّ والبَسِّ أَنْتَ»؟: والبَسّ: شَجَرٌ.
والبَسَابِسُ: الكَذِبُ.
وبَسْبَسَ بَوْلَه: سَبْسَبهُ.
ويُقَال: لا أَفْعَلُ ذلِك آخِرَ باسُوسِ الدَّهْرِ؛ أَي أَبَدًا.
وبَسّانُ، بالفتح: مِن مَحالِّ هَرَاةَ.
وبَسُوسَى: مَوضِعٌ قربَ الكُوفَةِ. الثّلاثَةُ نَقَلَهَا الصّاغانِيُّ.
وبُسّةُ، بالضمّ: جَماعَةُ نِسْوَةٍ، وبالضمّ بُسَّةُ بنتُ سُلَيْمَانَ، زَوْجُ يُوسُفَ بنِ أَسْبَاط.
ومن أَمْثَالِهِم: لا أَفْعَلُه ما أَبَسَّ عَبْدٌ بناقَةٍ.
ومن كتابِ الأَساسِ: أَكَلَتْهُم البَسُوسُ، كما يأْكُلُ الخَشَبَ السُّوسُ.
وبَيْسُوس، فَيْعُول من البَسِّ: قَرْيَةٌ بشَرْقِيِّ مِصْرَ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
128-تاج العروس (فلس)
[فلس]: الفَلْس، بالفَتْح: معروف مَعْروفٌ، الجمع: في القلَّة أَفْلُسٌ، وفي الكَثير: فُلُوسٌ، وبائعه فَلاَّسٌ، ككَتَّانِ.والفَلْس: خَاتَمُ الجِزْيَة في الحَلْق، ونَصُّ التَّكْملَة: «في العنُق». وفي بَعْض النُّسَخ: الجِزْمَة، بدَل الجِزْيَة، وهو غَلَطٌ. وقال ابنُ درَيْدٍ: الفِلْس، بالكَسْر: صَنَمٌ كان لطَيِّئٍ في الجاهليَّة، فبَعَثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أَبي طالبٍ رَضيَ الله تَعَالَى عنه، فهَدَمه وأَخَذَ السَّيْفَيْن اللَّذَيْن كان الحارثُ بنُ أَبي شَمِر أَهْدَاهمَا إِليه، وهما مِخْذَمٌ ورَسَوبٌ.
والفَلَس، بالتَّحْريك: عَدَمُ النَّيْل، وبه فَسَّر أَبو عَمْرٍو قولَ أَبي قِلَابةَ الطّابخيِّ:
يا حُبَّ ما حُبُّ القَتُولِ وحُبُّها *** فَلَسٌ فَلَا يُنْصِبْكَ حُبُّ مُفْلِسُ
مأْخُوذٌ من أَفْلَسَ؛ أَي صارَ ذا فُلُوسٍ بَعْدَ أَنْ كانَ ذا دَرَاهِمَ، وفي الحديث: «مَنْ أَدْرَكَ مالَه عنْدَ رَجُلٍ قد أَفْلَسَ فهو أَحَقُّ به» أَفْلَسَ الرَّجلُ، إِذا لَم يَبْقَ له مالٌ، كأَنَّمَا صارتْ دَرَاهِمُه فُلُوسًا وزُيوُفًا، كما يقَال: أَخْبَثَ الرَّجلُ، إِذا صار أَصْحَابهُ خُبَثَاءَ، وأَقْطَفَ: صارَتْ دابَّتُه قَطُوفًا. أَو يُرَاد بالحَديث: أَنَّه صار إِلى حالٍ بحَيْثُ يقَالُ فيها؛ ليسَ مَعه فَلْسٌ، كما يقَال: أَقْهَرَ الرَّجلُ: صارَ إِلى حالٍ يُقْهَر عَلَيْهَا، وأَذَلّ الرجُلُ: صارَ إِلى حالٍ يُذَلُّ فيها.
وفَلَّسَه القاضِي، وفي التَّهْذيب: الحَاكِمُ، تَفْليسًا: حَكَمَ بإِفْلاسهِ، وفي التهْذيب والأَسَاس: نَادى عليه أَنّه أَفْلَسَ.
ومَفَالِيسُ، هكذا بصيغة الجَمْع: د، باليَمَن، نقَلَه الصّاغَانيُّ، وقال في العبَاب: وقد وَرَدْتُه. قلْتُ: هو في طَرِيق عَدَنَ.
وتَفْلِيس، بالفَتْح وقد تُكْسَر، فيكونُ على وَزْن فِعْلِيل، وتُجْعَلُ التَّاءُ أَصْليَّةً؛ لأَنَّ الكَلمَةَ جُرْجِيَّةٌ وإِن وَافَقَتْ أَوْزَانَ العَرَبيَّة، ومَن فَتح التاءَ جَعل الكَلمةَ عَربيَّةً، ويكون عنْدَه على وَزْن تَفْعِيل، نَقلَه الصّاغَانيُّ، وقد ذَكَره المصَنِّفُ رحمه الله أَوَّلًا، ونَسَب الكَسرَ إِلى العامَّة: د، وسَبَقَ له أَنَّهُ قَصَبَةُ كُرْجُسْتانَ، بَيْنَه وبينَ قَالِيقَلَا ثلاثُونَ فَرْسَخًا، افتُتِحَ في خِلَافَة أَمير المؤْمنِينَ عثْمَانَ رضِيَ الله تَعَالَى عنه، وسَبَقَ للمصَنِّف أَنَّ عليها سُورَيْن، وحَمَّامَاتُهَا تَنْبُعُ ماءً حارًّا بغيرِ نارٍ، ومنه عُمَرَ بنُ بُنْدارٍ التَّفْلِيسيُّ القَقيهُ، وأَبو أَحْمَد حامدُ بنُ يَوسفَ بن الحُسَيْن التَّغْلبي المُحَدِّثُ.
ويقال: شَيْءٌ مُفَلَّسُ اللَّونِ، كمُعَظَّمٍ، إِذا كان عَلَى جِلْدِه لُمَعٌ كالفُلُوسِ.
ومِمَّا يسْتَدْرَك عليه:
أَفْلَسْتُ الرَّجلَ، إِذا طَلَبْتَه فأَخْطَأْتَ مَوْضعَه، وهو الفَلَس والإِفْلاس، قاله أَبو عَمْرٍو.
وقَومٌ مَفَالِيسُ: اسمُ جَمْع مُفْلِسٍ، كمَفَاطيرَ جَمْع مُفْطِر، أَو جَمْع مِفْلاسٍ، قاله الزَّمَخْشَريُّ. ولَقَد أَبْدَعَ الحَريريُّ حيثُ قال: صَلَّيْتُ المَغْربَ في تَفْليس، مع زُمْرَةٍ مَفَالِيس.
وفُلانٌ فَلِسٌ من كُلِّ خَيْرٍ.
ووَقَع في فَلَسٍ شَديدٍ.
وهو مُفَيْلِس، مالَه إِلاّ أُفَيْلِس.
والفَلاَّسُ، كشَدَّادٍ، اشتهرَ به أَبو حَفْصٍ عَمْرو بنُ عليّ الصَّيْرَفيُّ الحافظُ، روى عنهُ البُخَاريُّ ومُسْلِمٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
129-تاج العروس (بسط)
[بسط]: بَسَطَهُ يَبْسُطُهُ بَسْطًا: نَشَرَه، وبالصّادِ أَيْضًا، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.وبَسَطَه: ضِدُّ قَبَضَه، كبَسَّطَه تَبْسِيطًا، قال بعضُ الأَغْفَال:
إِذا الصَّحِيحُ غَلَّ كَفًّا غَلاَّ *** بَسُّطَ كَفَّيْهِ مَعًا وبَلاَّ
فانْبَسَطَ وتَبَسَّطَ.
ومن المَجَازِ: بَسَطَ إِليَّ يَدَهُ بما أُحِبُّ وأَكْرَهُ: مَدَّهَا، ومنه قولُه تعالى: {لَئِنْ} بَسَطْتَ {إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} وكذلِك بَسَطَ رِجْلَهُ، وهو مَجَازٌ أَيْضًا، وكَذلِك قَبَضَ يَدَهُ ورِجْلَهُ.
وبَسَطَ فُلانًا: سَرَّهُ، ومنه حَدِيثُ فَاطِمَةَ رضِيَ الله عَنْها «يَبْسُطُنِي ما يَبْسُطُهَا» أَي: يَسُرُّنِي ما يَسُرُّها؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ إِذا سُرَّ انْبَسَطَ وَجْهُهُ واسْتَبْشَرَ. قال شَيْخُنَا: فإِطْلاقُ البَسْطِ بمعنَى السُّرُورِ من كَلامِ العَرَبِ وليس مَجَازًا ولا مُوَلَّدًا، خِلافًا لِمَنْ زَعَمَ ذلِكَ. وذَكَر الحَدِيثَ، وقد أَوْضَحَه الشِّهَابُ في شَرْح الشِّفَاءِ. قلتُ: أَمّا زَعْمُهم كَوْنَه مولَّدًا فخَطَأٌ، كيفَ وقد وَرَدَ في كلامِه صلى الله عليه وسلم، وأَمّا كونُه مَجَازًا فصَحِيحٌ، صَرَّح به الزَّمَخْشَرِيُّ في الأَسَاس. وأَصلُ البَسْطِ: النَّشْرُ، وما عَداه يَتَفَرَّع عليه، فتَأَمَّلْ.
وفي البَصائِرِ: أَصْلُ البَسْطِ: النَّشْرُ والتَّوْسِيعُ، فتارَةً يُتَصَوَّرُ منه الأَمْرَانِ وتارَةً يُتَصَوَّرُ منه أَحَدُهما.
واسْتَعَارَ قَوْمٌ البَسْطَ لكلِّ شَيْءٍ لا يُتَصَوَّرُ فيه تَرْكِيبٌ وتَأْلِيفٌ ونَظْمٌ.
ومن المجاز: بَسَطَ المَكَانُ القَوْمَ: وَسِعَهُم، ويُقَال: هذا بِسَاطٌ يَبْسُطُكَ؛ أَي يَسَعُك.
ومن المَجَازِ: بَسَطَ الله فُلانًا عليَّ: فَضَّلَهُ، نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ والصّاغَانِيُّ.
وبَسَطَ فُلانٌ من فُلانٍ: أَزالَ منه. وفي العُبَابِ: عنه الاحْتِشَامَ وهو مَجَازٌ أَيضًا، وقالَ الجَوْهَرِيُّ: الانْبِسَاطُ: تَرْكُ الاحْتِشَامِ، وقد بَسَطْتُ من فُلانٍ فانْبَسَطَ.
ومن المَجَاز: بَسَطَ العُذْرَ يَبْسُطُه بَسْطًا، إِذا قَبِلَهُ.
ويُقَال: هذا فِرَاشٌ يَبْسُطُنِي؛ أَي وَاسِعٌ عَرِيضٌ، ونَقَل الجَوْهَرِيُّ عن ابنِ السِّكِّيتِ: يُقَال: فَرَشَ لي فِرَاشًا لا يَبْسُطُنِي، إِذا كان ضَيِّقًا. وهذَا فِرَاشٌ يَبْسُطُك، إِذا كانَ وَاسِعًا. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: أَي يَسَعُك، وهو مَجَازٌ.
والبَاسِطُ: هو الله تَعَالَى هو الَّذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ، أَيْ يُوَسِّعُه عليه بجُودِهِ ورَحْمَتِه، وقيل: يَبْسُطُ الأَرْوَاحَ في الأَجْسَادِ عندَ الحَيَاةِ.
ومن المَجَاز: البَاسِطُ من الماءِ: البَعِيدُ من الكَلإِ، وهو دُونَ المُطْلِبِ، ويُقَالُ: خِمسٌ بَاسِطٌ؛ أَي بائِصٌ. نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ.
وبَسْطُ اليَدِ والكَفِّ، تَارَةً يُسْتَعْمَل للأَخْذِ، كقَوْلِه تعالَى: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ؛ أَي مُسَلَّطُون عَلَيْهِم، كما يُقَال: بُسِطَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ؛ أَي سُلِّطَ عَلَيْه، وتَارَةً يُسْتَعْمَلُ للطَّلَبِ، نحو قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاّ} كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ أَي كالدَّاعِي الماءَ يُومِئ إِلَيْهِ لِيُجِيبَهُ، وفي العُبَابِ: فلا يُجِيبَهُ. وتَارَةً يُسْتَعْمَلُ للصَّوْلَةِ والضَّرْبِ، نحو قولِه تَعَالَى: {وَ} يَبْسُطُوا {إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ}، وتَارَةً يُسْتَعْمَلُ للبَذْلِ والإِعْطَاءِ، نحو قولِه تعالَى: {بَلْ يَداهُ} مَبْسُوطَتانِ كما سَيَأْتِي. وكُلُّ ذلِكَ مَجَازٌ.
والبِسَاطُ، بالكَسْر: ما بُسِطَ، وفي الصّحاحِ: ما يُبْسَطُ، وفي البَصَائِرِ: اسْمٌ لكلِّ مَبْسُوطٍ. وأَنْشَدَ الصّاغَانِيُّ للمُتَنَخِّلِ الهُذَلِيِّ يَصِفُ حالَه مع أَضْيَافِه:
سَأَبْدَؤُهُمْ بمَشْمَعَةٍ وأَثْنِي *** بجُهْدِي من طَعَامٍ أَو بِسَاطِ
قال: ويُرْوَى: «من لِحَافٍ أَو بِسَاط» فعلَى هذِه الرِّوَايَةِ البِسَاطُ: ما يُبْسَطُ. قلتُ: وهي روايَةُ الأَخْفَشِ، ففي شَرْحِ الدِّيوَانِ: ولِحَافٌ: طَعَامٌ، يَقُول: يَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ فهو لِحَافُهُم، يقول: أَكَلَ الضَّيْفُ فنَامَ فهو لِحَافُه. ويُقَال: لِلَّبَنِ إِذا ذَهَبَتْ الرَّغْوَةُ عنه قد صُقِلَ كِسَاؤُه، وأَنْشَدَ رجلٌ من أَهل البَصْرَة:
فبَاتَ لنا مِنْهَا وللضَّيْفِ مَوْهِنًا *** لِحَافٌ ومَصْقُولُ الكِسَاءِ رَقِيقُ
قال: والمَشْمَعَة: المُزَاحُ والضَّحِكُ، وأَثْنِي أَي أُتْبع.
الجمع: بُسُطٌ، ككِتَابٍ وكُتُبٍ.
والبِسَاطُ: وَرَقُ السَّمُرِ يُبْسَطُ له ثَوْبٌ ثمّ يُضْرَبُ فيَنْحَتُّ عَلَيْه.
والبَسَاطُ، بالفَتْحِ: المُنْبَسِطَةُ المُسْتَوِيَةُ من الأَرْضِ، كالبَسِيطَةِ، قال ذُو الرُّمَّةِ:
ودَوٍّ ككَفِّ المُشْتَرِي غَيرَ أَنَّهُ *** بَسَاطٌ لأَخْفافِ المَرَاسِيلِ وَاسِعُ
وقال آخر:
ولو كانَ في الأَرْضِ البَسِيطَةِ مِنْهُمُ *** لِمُخْتَبِطٍ عَافٍ لَما عُرِفَ الفَقْرُ
وقال أَبو عُبَيْدٍ وغيرُهُ: البَسَاطُ، والبَسِيطَةُ: الأَرْضُ العَرِيضَةُ الوَاسِعَةُ، وتُكْسَرُ عن الفَرّاءِ، وزاد: لا نَبَلَ فِيهَا، كالبَسِيطِ، يُقَال: مَكَانٌ بَسَاطٌ، وبِسَاطٌ، وبَسِيطٌ؛ أَي وَاسِعٌ، نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ عن الفَرّاءِ، وأَنْشَدَ لرُؤْبَةَ:
لَنَا الحَصَى وأَوْسَعُ البِسَاطِ
وذَكَرَهُ الجَوْهَرِيُّ في الصّحاحِ، واقْتَصَرَ على الفَتْحِ.
وأَنْشَدَ للشّاعِرِ وهو العُدَيْلُ بنُ الفَرْخِ العِجْليُّ، وكان قد هَجَا الحَجّاجَ فَهَرَبَ منه إِلى قَيْصَرَ:
أُخَوَّفُ بالحَجّاجِ حَتّى كأَنَّمَا *** يُحَرَّكُ عَظْمٌ في الفُؤادِ مَهِيضُ
ودُونَ يَدِ الحجاجِ مِنْ أَنْ تَنَالَنَي *** بَسَاطٌ لأَيدِي النّاعجَاتِ عَرِيضُ
مَهَامِهُ أَشْبَاهٌ كأَنَّ سَرَاتَها *** مُلَاءٌ بأَيْدِي الغاسِلَات رَحِيضُ
فكَتَبَ الحَجّاجُ إِلى قَيْصَرَ: واللهِ لتَبْعَثَنّ بِهِ أَو لأَغْزُوَنَّكَ خَيْلًا يكونُ أَوَّلُهَا عِنْدَك وآخِرُهَا عِنْدِي. فبَعَثَ به، فلمّا دَخَلَ عليه قَال: أَنْتَ القائِلُ هذَا الشِّعْر؟ قال: نَعَم. قال: فكَيْفَ رَأَيْتَ الله أَمْكَنَ منك؟ قَال: وأَنَا القائِلُ:
فلَوْ كُنْتُ في سَلْمَى أَجَا وشِعَابِهَا *** لكان لِحَجَّاجٍ عَلَيَّ سبيلُ
خَلِيلُ أَميرِ المُؤْمِنِين وسَيْفُه *** لكلِّ إِمامٍ مُصْطَفًى وخَلِيلُ
بَنَى قُبَّةَ الإِسْلَامِ حَتَّى كأَنَّمَا *** هَدَى النَّاسَ مِنْ بعدِ الضَّلالِ رَسُولُ
فلمّا سَمِعَ شِعْرَه عَفا عنه.
والبَسَاطُ: القِدْرُ العَظِيمَةُ، نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ.
وقِيلَ: البَسِيطَةُ: الأَرْضُ، اسمٌ لَهَا، قاله ابنُ دُرَيْدٍ، يُقَال: ما على البَسِيطَة مِثلُ فُلانٍ.
والبَسِيطَةُ: موضع، ببادِيَةِ الشّامِ، قال الأَخْطَلُ يَصِفُ سَحابًا:
وعَلَا البَسِيطَةَ فالشَّقِيقَ برِيِّقٍ *** فالضَّوْجُ بينَ رُوَيَّةٍ وطِحَالِ
ويُصَغَّرُ، قال ابنُ بَرّيّ: بُسَيْطَةُ، مُصَغَّرًا: اسمُ مَوْضِعٍ رُبَّمَا سَلَكَهُ الحُجَّاجُ إِلى بيتِ الله الحَرَامِ، ولا يَدْخُلُه الأَلِفُ والّلامُ، والبَسِيطَةُ، وهو غيرُ هذَا المَوْضِعِ: بين الكُوفَةِ ومَكَّة، قال: وقولُ الرّاجِزِ:
إِنَّكِ يا بَسِيطَةُ الَّتِي الَّتِي *** أَنْذَرَنِيكِ في الطَّرِيقِ إِخْوَتِي
يَحْتَمِلُ المَوْضِعَيْن. قلتُ: والَّذِي في المُحْكَمِ قولُ الرّاجزِ:
ما أَنْتِ يا بُسَيِّطَ الَّتِي الَّتِي *** أَنْذَرَنِيكِ في المَقِيلِ صُحْبَتِي
قال أَرَادَ يا بُسَيِّطَةُ، فرَخَّمَ على لُغَةِ مَنْ قال: يا حارِ.
وفي المُعْجَمِ: بُسَيْطَةُ بالضَّمِّ: فَلَاةٌ بين أَرْضِ كَلْب وبَلْقَيْن، وهي بقَفَا عَفْرَاءَ وأَعْفَر، وقِيلَ: على طَرِيقِ طَيِّئٍ إِلى الشام، ويُقَال ـ في الشِّعْرِ ـ بُسَيْط وبُسَيْطَة. وأَمّا بالفَتْحِ فإِنَّه أَرضٌ بينَ الكُوفَةِ وحَزْنِ بَنِي يَرْبُوع، وقِيلَ: بين العُذَيْبِ والقَاعِ، وهُناك البَيْضَةُ، وهو من العُذَيْبِ.
وقال ابنُ عَبّادٍ: البَسِيطَة، كالنَّشِيطَةِ للرَّئيس، وهي النَّاقَةُ مَعَ وَلَدِهَا فتَكُونُ هي ووَلدُهَا في رُبْعِ الرَّئِيس، وجَمْعُهَا، بُسُطٌ.
قال: وذَهَبَ فُلانٌ في بُسَيْطَةَ، مَمْنُوعَةً من الصَّرْفِ مُصَغَّرَةً؛ أَي في الأَرْضِ، كما في الأَسَاسِ والعُبَابِ، وهو مَجَازٌ.
والبَسِيطُ: المُنْبَسِطُ بلِسَانِهِ، وقال اللَّيْثُ: البَسِيطُ: المُنْبَسِطُ اللِّسَانِ، وهي بهاءٍ، وقَدْ بَسُطَ، ككَرُمَ، بَسَاطَةً.
والبَسِيطُ: ثَالِثُ بُحورِ الشِّعْرِ، وفي الصّحاح: جِنْسٌ من العَرُوضِ، ووَزْنُه: «مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلُنْ» ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ سُمِّي به لانْبِسَاطِ أَسْبَابِه، قال أَبُو إِسحَاق: انْبَسَطَت فيهِ الأَسْبابُ فصار أَوَّلُه مُسْتَفْعِلُن، فيه سَبَبانِ مُتَّصِلانِ في أَوَّله.
ومن المَجازِ: رَجُلٌ بَسِيطُ الوَجْهِ؛ أَي مُتَهَلِّلٌ، وبَسِيطُ اليَدَيْنِ؛ أَي مِسْماحٌ مُنْبَسِطٌ بالمَعْرُوف.
الجمع: جَمْعُهُما بُسُطٌ، قال الشّاعِرُ:
في فِتْيةٍ بُسُطِ الأَكُفِّ مَسَامِحٍ *** عند الفِصَالِ قَدِيمُهم لم يَدْثُرِ
ومِنَ المَجازِ: أُذُنٌ بَسْطَاءُ؛ أَي عظِيمَةٌ عَرِيضَةٌ.
ومن المَجازِ: انْبَسَطَ النَّهَارُ: امْتَدَّ وطَالَ، وكذلِكَ غَيْرُهُ.
ومن المَجازِ: البَسْطَةُ: الفَضِيلَةُ، وقولُه تَعالَى: {وَزادَهُ} بَسْطَةً {فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} فَالْبَسْطَةُ في العِلْمِ: التَّوسُّعُ، وفي الجِسْمِ: الطُولُ والكَمالُ وقِيلَ: البَسْطَةُ في العِلْمِ: أَن يَنْتَفِع به ويَنْفَعَ غيرَه، وقال: أَعْلَمَهم الله تَعالى أَنَّ العِلْمَ الَّذِي به يَجِبُ أَنْ يَقَعَ الاخْتِيَارُ لا المالَ، وأَعْلَمَ أَنَّ الزِّيادةَ في الجِسْمِ مِمّا يَهِيبُ العَدُوُّ. ويُضَمُّ في الكُلِّ وبه قَرَأَ زيدُ بنُ عَلِيٍّ رضِيَ الله عنه: وزادُهُ بُسْطَةً.
والبِسْطُ، بالكَسْرِ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، وشاهِدُه قولُ أَبِي النَّجْمِ:
يَدْفَعُ عنها الجُوعَ كُلَّ مَدْفَعِ *** خَمْسونَ بسْطًا في خَلايَا أَرْبَعِ
وبالضَّمِّ لُغَةُ تَمِيمٍ، نَقَلَهُ الفَرَّاءُ في نَوَادِرِه، وبضَمَّتَيْنِ لُغَةُ بني أَسَدٍ، نَقَلَه الكِسائِيُّ، وهي: النَّاقَةُ المَتْرُوكَةُ مع وَلَدِها لا تُمْنَعُ عنه، وفي الصّحاحِ: لا يُمْنَعُ منها.
الجمع: أَبْساطٌ كبِئْرٍ وأَبْآرٍ، وظِئْرٍ وأَظْآرٍ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
وحَكَى ابنُ الأَعْرَابِيِّ في جمْعهما، بُسْطٌ بالضَّمِّ، وأَنْشَدَ للمَرّار:
متَابِيعُ بُسْطٌ مُتْئِمَاتٌ رَوَاجِعٌ *** كما رَجَعَتْ في لَيْلِها أُمُّ حائِلِ
وقيل: البُسْطُ هاهُنَا: المُنْبَسِطَةُ على أَوْلادِها لا تَنْقَبِضُ عنها. قال ابنُ سِيدَه: وليس هذا بقَوِيٍّ، ورَوَاجِعُ: مُرْجِعَةٌ على أَوْلَادِها، ومُتْئِمات: معها حُوَارٌ وابنُ مَخَاضٍ كأَنَّهَا وَلَدَت اثْنَيْنِ من كَثْرَةِ نَسْلها، وبِسَاطٌ، بالكَسْرِ، مثل: بِئْرٍ وبِئَارٍ، وشُهْدٍ وشِهَادٍ، وشِعْبٍ وشِعابٍ وبُسَاطٌ بالضَّمِّ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، ومَثَّلَهُ بظِئْرٍ وظُؤَارٍ، وهو شَاذٌّ، وفي اللَّسانِ: من الجَمْعِ العَزِيزِ.
وفي الحَدِيثِ أَنَّه كَتَبَ لوَفْدِ كَلْبٍ ـ وقِيلَ؛ لوفْد بَنِي عُلَيْمٍ ـ كِتَابًا فيه: «عَلَيْهِم في الهَمُولَةِ الرّاعِيَةِ البسَاطِ الظُّؤَارِ، في كُلِّ خَمْسِينَ من الإِبِلِ نَاقَةٌ غَيْرُ ذَاتِ عَوَارٍ» البسَاط، يُرْوى بالفَتْح، والضَّمِّ، والكَسْرِ، أَمّا بالكَسْرِ فهو جَمْعُ بِسْطٍ، بالكَسْرِ أَيْضًا، كما قالَهُ الأَزْهَرِيُّ، وبالضَّمِّ: جمع بُسْطٍ، بالضّمِّ أَيضًا، كشُهْدٍ وشُهَادٍ. وأَمّا بالفَتْحِ، فإنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ، فإِنّهَا الأَرْضُ الوَاسِعَةُ، كما تَقَدَّم، ويكونُ المَعْنِيُّ في الهَمُولَةِ: الرّاعِيَةَ الأَرْضَ الوَاسِعَة، وحِينَئِذٍ تكونُ الطَّاءُ منْصُوبةً على المَفْعُول، كما في اللِّسانِ.
والمَبْسَطُ، كمَقْعَدٍ: المُتَّسَعُ. قال رُؤْبَةُ في رِواية أَبِي عَمْرٍو وابن الأَعْرَابيّ. وقال ابنُ الأَعْرَابيِّ هو للعَجّاجِ، وكذلِك حُكْمُ ما أَذْكُره مِنْ هذِه الأُرْجَوزَةِ وإِنْ لَمْ أَذْكُر الاخْتِلافَ:
وبَلَدٍ يَغْتَالُ خَطْوَ المُخْتَطِي *** بغَائلِ الغَوْلِ عَرِيضِ المَبْسَطِ
وعُقْبَةٌ بَاسِطَةٌ: بَيْنَها وبَيْنَ الماءِ لَيْلَتَانِ وقال ابنُ السِّكِّيتِ: سِرْنَا عُقْبَةً جَوَادًا، وعُقْبَةً بَاسِطَةً، وعُقْبَةً حَجُونًا؛ أَي بعِيدَةً طَوِيلَةً.
والبَاسُوطُ، والمَبْسُوطُ من الأَقْتَابِ: ضِدُّ المَفْرُوقِ، وهو الَّذِي يُفْرَقُ بيْنَ الحِنْوَيْنِ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُما قَرِيبٌ منْ ذِراعٍ، والجمْعُ: مَبَاسِيطُ، كما يُجْمَعُ المفْرُوقُ مَفَارِيقَ.
وبَسْطَةُ، ممنُوعًا من الصَّرْفِ ويُصْرَفُ: موضع، بجَيّانَ من كُوَرِ الأَنْدَلُسِ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ.
قلتُ: وإِليه نُسِب أَبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بنُ عِيسَى بنِ مُحَمَّدٍ الوَرّاقُ البَسْطِيُّ القُرْطُبِيُّ، حَدَّثَ. تُوفِّيَ سنة 396. ذكره ابنُ الفَرَضِيِّ. وعبدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرّحْمنِ السَّعْدِيُّ البَسْطِيُّ، كَتَب عنه مُحَمَّدُ بنُ الزَّكِيِّ المُنْذِرِيُّ من شِعْرِه، وهو ضَبَطَه.
ورَكِيَّتُهُ قَامَةٌ بَاسِطَةٌ، وقامةٌ بَاسِطَةَ، مَضَافَةً غيرَ مُجْراةٍ؛ كَأَنَّهُمْ جَعَلُوها مَعْرِفَةً. أَي قامَةٌ وبَسْطَةٌ، كما في العُبَابِ.
وفي اللَّسان: وقال أَبو زَيْدٍ: حفَرَ الرَّجُلُ قَامةً باسِطَةً، إِذا حَفَرَ مَدَى قَامَتِه ومَدَّ يدَهُ.
ومن المَجازِ: يَدُهُ بُسْطٌ، بالضَّمِّ وبُسُطٌ، بضَمَّتَينِ، قال الزَّمَخْشَرِيُّ: ومِثْلُه في الصِّفاتِ. رَوْضَةٌ أُنُفٌ، ومِشْيةٌ سُجُحٌ، ثمّ يُخَفَّفُ، فيُقَالُ: بُسْطٌ كعُنْقٍ أُذْن، ويُكْسَرُ، كالطِّحْنِ والقِطْفِ، بمعنَى المطْحُونِ والمَقْطُوفِ، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ؛ أَي مُطْلَقَةٌ مَبْسُوطَةٌ، كما يُقَال: يَدٌ طِلْقٌ.
وقِيلَ: مَعْنَاه مِنْفَاقٌ مُنْبَسِطُ البَاعِ ومِنْه الحَدِيثُ: يَدا الله بُسْطَانِ لِمُسِيءِ النَّهَارِ حتى يتُوبِ باللَّيْلِ، ولمُسِيءِ اللَّيْلِ حتّى يَتُوبَ بالنَّهَارِ» يُرْوَى بالضَّم وبالكَسْرِ، وقُرِئَ بلْ يداهُ بِسْطَانِ بالكَسْرِ قَرَأَ به عبدُ الله بنُ مَسْعُودٍ وإِليه أَشارَ الجَوْهَرِيُّ، وهكَذَا رُوِيَ عن الحَكَم. وقُرِئَ بالضَّمِّ حَمْلًا على أَنَّهُ مَصْدَرٌ، كالغُفْرَانِ والرُّضْوان، ونَقَلَه الزَّمخْشَرِيُّ، وقال: فيكونُ مثلَ رَوْضَةٍ أُنُفٍ، كما تَقَدَّم قَرِيبًا، وقال: جَعَلَ بَسْطَ اليَدِ كِنَايةً عن الجُودِ وتَمْثِيلًا، ولا يَدَ ثَمَّ ولا بَسْطَ، تَعَالَى الله وتَقَدَّسَ عن ذلِكَ. وقالَ الصّاغَانِيُّ في شَرْحِ الحَدِيث الَّذِي تَقَدَّم قَرِيبًا: هو كِنَايةٌ عن الجُودِ حتَّى قِيلَ للمَلِكِ الذي تُطْلَقُ عَطايَاه بالأَمْر والإشَارَة: مَبْسُوطُ اليَدِ، وإِن كانَ لم يُعْطِ منها شَيْئًا بيَدِه ولا بَسَطَها به البَتَّةَ، والمَعْنَى: إِنّ الله جَوادٌ بالغُفْرَانِ للمُسيءِ التّائبِ.
* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
تَبَسَّطَ في البِلَادِ: سَارَ فيها طُولًا وعَرْضًا، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
والبَسْطَة، بالفَتْحِ: السَّعَة، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ أَيضًا، وكذَا الصّاغَانِيُّ، وزادَ: والطُّول، قال: وجمْعه بِسَاطٌ، بالكَسْرِ، وبه فَسَّرَ قولَ المُتَنَخِّلِ السابِقَ «من طَعامِ أَو بِسَاطٍ».
قلْت: وقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِ المُتَنَخَّلِ «أَوْ بِساط»: أَي أَلْقَاه ضاحِكَ السِّنِّ.
وقَالَ الأَخْفَشُ: سَمِعْتُ مَرَّةً شَيْخًا عالِمًا بشِعْرِ هُذَيْلٍ يَقُولُ: البَسْطَةُ: الدُّهْنُ، والمعْنَى: أَي أَدْهُنُهُم وأُطْعِمُهم، كَذَا في شَرْحِ الدِّيوانِ.
وقال غيرُ وَاحِدٍ من العَرَبِ: بَيْنَنَا وبَيْنَ الماءِ مِيلٌ بَسَاطٌ؛ أَي مِيلٌ مَتّاحٌ.
وقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: التَّبَسُّط: التَّنَزُّه، يُقَال: خَرَجَ يَتَبَسَّطُ، مأْخوذٌ من البَسَاطِ، وهي الأَرْضُ ذاتُ الرَّيَاحِينِ.
وقِيلَ: الأَشْبَهُ في قوله تَعالى: بلْ يَداهُ بَسْطان أَنْ تكون الباءُ مَفْتُوحةً حَمْلًا على باقِي الصِّفاتِ كالرَّحْمن.
وبَسَطَ ذِرَاعَيْه، وابْتَسَطَهُما؛ أَي فَرَشَهُمَا. وقد نُهِيَ عنه في الصَّلاةِ كما جاءَ في الحَدِيثِ.
وفي وَصْفِ الغَيْثِ: فوقَعَ بَسِيطًا مُتَدَاركًا؛ أَي انْبَسَط في الأَرْضِ واتَّسعَ، ومُتدَارِكًا؛ أَي مُتَتَابِعًا.
والبَسْطَةُ، بالفَتْحِ: الزِّيادَةُ.
وفلانٌ بَسِيطُ الجِسْمِ والبَاعِ.
وامرأَةٌ بَسْطَةٌ: حَسَنَةُ الجِسْم سَهْلَتُه، وظَبْيَةٌ بَسْطَةٌ، كذلِكَ.
ونَاقَةٌ بَسُوطٌ، كصَبُورٍ: تُرِكَتْ ووَلَدَهَا لا يُمْنَعُ منها ولا تَعْطِفُ على غيره، وهي مع ذلِك تُرْكَبُ، وجَمْعُه بُسُطٌ، بالضّمِّ، وقال الأَزْهَرِيُّ: نَاقَةٌ بَسُوطٌ، فَعُولٌ بمعْنَى مَفْعُولَة؛ أَي مَبْسُوطَةٌ، كما يُقَالُ: حَلُوبٌ للَّتِي تُحْلَبُ، ورَكُوبٌ للَّتِي تُرْكَب.
وقَرَأَ طَلْحَةُ بنُ مُصرِّفٍ بَلْ يَدَاهُ بساطان.
وأُبْسِطَتِ النّاقَةُ: تُرِكَتْ مع وَلَدِها، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
ويُجْمَع البِسَاطُ، لما يُفْرَشُ، على بُسُطٍ، بالضَّمّ.
والبُسْطَةُ والبُسطِيّون، بالضّمّ: جَماعَةٌ من المُحَدِّثين، نُسِبُوا إِلى بَيْعِهَا.
وقولُ العامَّة: أَبْسَطَنِي، رُباعِيًّا، غَلطٌ.
وقولهم: البَسْطُ، لبَعْضِ المُسْكِراتِ، مُوَلَّدة.
وبَسَطَ رِجْلَه مَجَازٌ، وكذا تَبَسَّطَ عليهِمُ العَدْلُ وبَسَطَه.
ونحنُ في بِسَاطٍ وَاسِعَةٍ.
وانْبَسَط إِليه، وبَاسَطَهُ، وبَيْنَهُما مُبَاسَطَة.
وبَسْطَةُ بالفَتْحِ: قَرْيَةٌ بالشَّرْقِيَّة.
وبَسْطوية: قريةٌ أُخْرى بالغَرْبِيّة.
وبَسُوطُ، كصبُور: أَربعُ قُرًى بمصرَ، ذَكَر ياقُوت منها في المُشْتَرَك ثلاثَةً، منها: في الدَّقَهْلِيَّة، وتعرف ببسوط اتفو؛ وفي الغربية بسوط بهنية وتُعْرَف ببُساطِ الأَحْلاف، وقريةٌ أُخرَى بها تُسَمَّى كذلِك، وتذكر مع بقليس؛ وفي السَّمَنُّودِيَّة، وتُعْرف ببُساط قروص، وهو اسم رُومِيٌّ، كما نَقَلَه السَّخَاوِيّ. وقيل: بِسَاط قروص من الغَرْبِيَّة والصَّحِيحُ ما قدّمناه. وإِلى هذه نُسِب عالِمُ الدِّيار المِصْرِيَّة الشَّمسُ محمّدُ بنُ أَحمدَ بنِ عُثْمانَ بن نعيم بن مُقَدَّم البُساطِيُّ المالِكِيّ، ولد سنة 760 وتوفي سنة 843 وابنُ عمّه العَلَم سليمانُ بنُ خالِدِ بن نعيم، وولَدُه الزَّيْنُ عبدُ الغَنِيِّ بنُ محمَّدٍ، ولد سنة 806 أَجازه الوَلِيُّ العِراقيّ والحافِظُ بنُ حَجَرٍ، وولَدُه البَدْرُ محمدُ بن عبدِ الغَنِيّ ولد سنة 836 أَجاز له البُرْهان الحَلبيّ وتوفِّي سنة 892 وعَمُّه العِزُّ عبد العزِيزِ بنُ مُحمَّدٍ أَخَذَ عن أَبِيه، ومات سنة 881 وهم بَيْتُ عِلْمٍ وحَدِيثٍ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
130-تاج العروس (عتك)
[عتك]: عَتَكَ يَعْتِكُ عَتْكًا كَرَّ وحَمَل. زَادَ الأَزْهَرِيُّ والصَّاغانيُّ: في القِتالِ، وهو قَوْلُ الأصْمَعِيِّ وعَتَكَ الفرسُ يَعْتِكُ عَتكًا حَمَلَ للعَضِّ فهي خَيْلٌ عواتِكٌ قالَ العَجَّاجُ:نُتْبِعُهم خَيْلًا لنا عَواتِكَا *** في الحرب حُرْدًا تَركَبُ المَهالِكا
حُردًا: أَي مُغْتَاظةً عَلَيْهم، ويُرْوَى: عَوانِكا. وعَتَكَ في الأَرْضِ عُتوكًا كقُعُودٍ ذهَبَ وحْدَه وقالَ اللَّيْثُ ذَهَبَ فيها ولم يَقُلْ وَحْدَه وقالَ ابنُ دُرَيْدً عَتَكَ الرجُلُ على يَمينٍ فاجِرَةٍ أَقْدَمَ عَلَيها. وعَتَكَ عليه بخَيْرٍ أو شَرٍّ اعْتَرَضَ وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ عَتَكَتِ المرأةُ على زَوْجِها نَشَزَتْ وعلى أَبِيها عَصَتْ وغَلَبَتْه. وقالَ ثَعْلَبُ: إنَّما هو عَنَك بالنُّونِ والتاء تَصْحِيف. وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: عَتَكَتِ القوسُ تَعْتِكُ عَتْكًا وعُتوكًا فهي عاتِكٌ أي احْمَرَّتْ قِدَمًا أي من القِدَمِ وطولِ العَهْدِ. ونَصّ الجَمْهرة إذا قَدُمَتْ فاحْمَارَّ عُودُها. وعَتَكَ اللَّبَنُ والنَّبيذُ يَعْتِكُ عُتوكًا اشْتَدَّتْ حُموضَتُه وقال أبو زَيْدٍ: العاتِكُ من اللَّبَنِ: الحازِرُ. وقد عَتَكَ عُتُوكًا.
وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: نَبِيذٌ عاتِكٌ إذا صَفَا. وعَتَكَ البَوْلُ على فَخِذِ النَّاقةِ يَبِسَ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ. قالَ جَبْرُ بنُ عَبْدِ الرَّحمن:
وعتك البول على أنسائها
ويُرْوَى وعَبَك بالموحَّدَةِ.
وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: عَتَكَ البَلَدَ يَعْتِكُهُ عُتوكًا عَسَفَهُ وقالَ الحِرْمَازِيُّ: عَتَكَ القومُ إلى مَوْضِعِ كذا مالوا إليه وعَدَلُوا قالَ جَرِيرٌ:
سارُوا فلَستُ على أَنِّي أُصِبْتُ بهم *** أَدْرِي على أَيِّ صَرْفَيْ نِيَّةٍ عَتَكُوا
وقال ابنُ عَبَّادٍ: عَتَكَ يَدَهُ عَتْكًا إذا ثَناها في صَدْرِهِ قالَ: وعَتَكَتِ المرأَةُ إذا شَرُقَتْ ورأسَتْ قيلَ: ومنه سُمِّيَت المَرْأَةُ عاتِكَة قالَ: وعَتَكَ فلانٌ بِنيَّتِه إذا اسْتَقَامَ لوَجْهِه وعَتَكَ عليه يَضْرِبُه أي لم يُنَهْنِهْهُ عنه شيءٌ. وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: إذا حَمَلَ عليه أو أَرْهَقَه؛ وقالَ غَيْرُه: حَمَلَ عليه حَمْلَة بَطْشٍ. والعاتِكُ الكريمُ من كلِّ شيءٍ. والعاتِكُ الخالِصُ من الأَلْوانِ والأشياءِ أيَّ لونٍ كان وأيَّ شيءٍ كان.
وقال ابنُ الأَعْرَابيِّ: العاتِكُ اللَّجوجُ الذي لا يَنْثَنِي عن الأَمْرِ وأَنْشَدَ الأَزْهَرِيُّ هنا للعَجَّاجِ:
نُتْبِعُهم خَيْلًا عَواتِكا
وقال أبو مالِكٍ: العاتِكُ الراجِعُ من حالٍ إلى حالٍ وقال ابنُ دُرَيْدٍ: العاتِكُ من النَّبِيذِ الصافي وقد تقدَّمَ ويروى بالنون أيضًا وسيأتي البحث فيه والعتك الدهر يقال أقام عتكًا أي دَهرًا عن اللحْيَاني ويأتِي في النون أيضًا والعَتْكُ جَبَلٌ قالَ ذُو الرِّمَّةِ:
فَلَيْتَ ثَنايا العَتْكِ قبلِ احْتِمالِها *** شَواهِقُ يَبْلُغْنَ السَّحابَ صِعابُ
وقالَ نَصْر: هو وادٍ باليَمَامَةِ في دِيارِ بَنِي عَوْف بن كَعْب بن سَعْد بن زَيْد مَنَاة بن تميم. والعَتِيكُ كأميرٍ من الأيامِ الشَّديدُ الحَرِّ عن ابن عَبَّادٍ. والعَتِيكُ فَخِذٌ من الأَزْدِ هكذا ذَكَرَه كراع بالأَلفِ واللَّامِ والنِّسْبَةُ إليهم عَتَكِيُّ محرَّكةً. وفي الصَّحَاحِ: وعَتِيك: حيٌّ من العَرَبِ ومنهم فلانٌ العَتَكِيُّ، قالَ الصَّاغَانيُّ: وهو عَتِيكُ بنُ الأَسَدِ بن عمْرَان بنِ عمرٍو ومزيقياءَ بنِ ماءِ السَّمَا!.
قُلْتُ: ومن ولدِه أَسَدُ بنُ الحارِثِ بن العَتِيكِ وأَخُوه وائِلُ بنُ الحارِثِ بنِ العَتِيكِ إليه يُنْسَبُ المُهَلَّبُ بنُ أَبي صفْرَة، وإليه يَرْجعُ المهَلَّبِيُّون عَشِيْرة أَبي الحَسَن المهَلّبِيّ شَيْخ اللغَةِ بمِصْرَ قالَهُ ابنُ الجواني النَّسَّابةِ.
والعاتِكَةُ من النَّخْلِ التي لا تَأَتَبِرُ أي لا تَقْبل الإِبار عن اللحْيَانيّ؛ وقالَ غَيْرُه: هي الصَّلُودُ تحملُ الشِّيْصَ.
والعاتِكَةُ المرأةُ المُحْمَرَّةُ من الطِّيبِ وقيلَ: امْرَأَةٌ عاتِكَةٌ بها رَدْعُ طِيْبٍ وقيلَ: سُمِّيت لصفائِها وحُمْرتها وقيلَ لشَرفِها كما تقدَّمَ فهي أَقْوالٌ ثَلاثَةٌ. وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: من عَتَكَتْ على بَعْلِها إذا نَشَزَتْ. وقالَ ابنُ قُتَيْبَة: من عَتَكَتِ القَوْسُ إذا احْمَرَّتْ. وقالَ ابنُ سَعْدٍ: العاتِكَةُ في اللغَة الطاهِرَةُ، فهما قَوْلان آخَرَانِ صَارَ المَجْمُوعُ خَمْسَةٌ. وقالَ السهيليُّ في الرَّوضِ: عاتِكَةُ اسمٌ مَنْقُولٌ مِنَ الصِّفَات يُقالُ امْرَأَةٌ عاتِكَةٌ وهي المُصْفَرَّةُ من الزَّعْفرَان، والجَمْعُ العَواتِكُ، وهنَّ في جَدَّاتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تِسْعٌ وقالَ ابنُ بَرِّيّ: هُنَّ اثْنَتَا عَشَرَة نُسْوة، ومِثْله لابنِ الأَثِيرِ؛ واقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ والصَّاغَانيُّ على التّسْعِ وإيَّاهما تَبِعَ المُصَنِّفُ، ومنه الحدِيثُ: قالَ في يومِ حُنَيْن: أَنَا ابنُ العَوَاتِكِ من سُلَيْم.
قال القُتَيْبِيُّ: قال أَبو اليَقْظان: العَوَاتِكُ ثَلاثُ نسْوةٍ من سُلَيْمٍ بنِ مَنْصُور بن عَكْرَمة بن خصفة بن قَيْسِ عِيْلان تُسَمَّى كلُّ واحِدَةٍ منهُنَّ عاتِكَة إحْدَاهنَّ: عاتِكَةُ بنتُ هِلالٍ بن فالَجِ بن ذَكْوان وهي أُمُّ عَبْدِ مَنَاف بن قصيِّ جَدِّ هاشِمٍ كذا هو في الصِّحَاحِ والعُبَابِ، والصَّوابُ أُمّ والِدِ هاشِم أَو أُمُّ عَبْدِ مَنَاف، نَبَّه عليه شَيْخُنَا.
قُلْتُ: ووَقَعَ في المقدِّمةِ الفاضِلِيَّةِ أَنَّ أُمَّه حُيَي بنْتَ حليلٍ الخزاعية وصَوّبَه ابنُ عقبة النَّسَّابة في عمْدَةِ الطالبِ.
والثانيةُ: عاتِكَةُ بنتُ مُرَّةَ بنِ هِلالٍ بن فالَج بن ذَكْوان وهي أُمُّ هاشِمٍ بنِ عَبْدِ مَنَاف، والثالثةُ: عاتِكةُ بنتُ الأَوْقَصِ بنِ مُرَّةَ بنِ هِلالٍ بن فالَج بن ذَكْوان وهي أُمُّ وَهْبِ بنِ عبدِ مَنَافٍ بن زُهْرة أبي آمِنَة أُمّ النبيِّ، صلى الله عليه وسلم ورَضِيَ عنها، فالأُوْلَى مِنَ العَوَاتِكِ عَمَّةُ الوُسْطَى والوُسْطَى عمةُ الأُخْرَى، وبنُو سُلَيْم تَفْتَخِرُ بهذِه الولادَةِ؛ وذَكْوان هو ابنُ ثَعْلَبة بن بَهثةَ بن سُلَيْم بن مَنْصور المَذْكور آنِفًا.
قُلْتُ: ولبَني سُلَيْم مَفَاخِر منها أَنَّها أَلَّفَتْ يومَ فتحِ مَكَّة أي شَهِدَه منهم أَلفٌ، وأنَّ النبيَّ، صلَّى الله تَعالى عليه وسلَّم، قَدَّمَ لواءَهُم يومئِذٍ على الأَلْوِيَةِ وكانَ أَحْمَر، ومنها أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلى أَهْلِ الكُوفَةِ والبَصْرَةِ ومِصْرَ والشَّام أَنِ ابْعَثُوا إليَّ مِن كلِّ بلدٍ بأَفْضَلِه رَجُلًا، فبعثَ أَهْلُ البَصْرةِ بمُجَاشِعِ بنِ مَسْعُودٍ السُّلَمِيِّ، وأَهْلُ الكُوفةِ بعُتْبة بن قَرْقَدٍ السُّلَمِيّ، وأَهْلُ مِصْر بمَعْن بن يَزِيد بن الأَخْنَسِ السُّلَمِيّ، وأَهْلُ الشَّام بأَبي الأَعْوَر السُّلَمِيّ، والجدَّاتُ البَواقي من غيرِ بني سُلَيْمٍ. فعَلَى قَوْلِ المُصَنِّفِ والجَوْهَرِيّ البَوَاقي ستّ، على قَوْلِ ابن بَرِّيّ تِسْع قالَ: وهنَّ اثْنَتان من قُرَيْش، واثْنَتَان من عَدْوَان، وكِنَانِيَّة وأَسَديَّة وهُذَليَّة وقُضَاعيَّة وأَزْديَّة فتأمَّلْ ذلك. وعاتِكَةُ بنتُ أُسَيْدٍ بنِ أَبي العيصِ بن أُمَيَّة أُخْت عتاب أَسْلَمَتْ يومَ الفتحِ؛ وعاتِكَةُ بنتُ خالِدٍ بن مُنْقِذ أُمّ مَعْبَد الخزَاعِيَّة صاحِبَة الخَيْمَتَيْن؛ وعاتِكَةُ بنتُ زَيْد بنِ عَمْرِو بن نُفَيْل أُخْت سَعِيد امْرَأَة عَبْدِ الله بن أَبي بَكْرِ الصِّدِّيق كانَتْ حَسْنَاءَ جميلةً فأَحَبَّها حبًّا شديدًا وله فيها أَشْعَارٌ ثم تزوَّجَها عُمَرُ ثم الزُّبير فوَرِثَتِ الثلاثَةَ، وعاتِكَةُ بنتُ عبدِ الله هكذا في سائِرِ النسخِ وهو خَطَأٌ والصَّوابُ بنْتُ عَبْدِ المُطَّلِب عَمَّةُ رَسُولِ الله، صلى الله عليه وسلم، قيلَ إنَّها أَسْلَمت وهي أُمُّ عَبْدِ الله بن أَبي أُمَيَّة بن المُغِيْرة المَخْزُوميّ رَوَت عنها أُمُّ كَلثُوم بنْتُ عقبة؛ وعاتِكَةُ بنتُ عَوْفٍ أُخْتُ عَبْدِ الرَّحمن بن عَوْف قيلَ: هي أُمُّ المسور وأُخْت الشفاء هَاجَرَتْ؛ وعاتِكَةُ بنتُ نُعَيْمٍ بنِ عَبْدِ الله العَدَوِيَّة رَوَتْ عنها زَيْنَبُ بنْتُ أَبي سَلَمَة في العدَّةِ؛ وعاتِكَةُ بنتُ الوَليدِ أُخْت خالِدِ بن الوليدِ زَوْجة صَفْوان بن أُمَيَّة طلَّقَها أَيَّام عُمَر صحابيَّاتٌ رضي الله عنهنَّ.
وعِتْكانٌ بالكسرِ موضع وجوَّزَ نَصْر فَتْحَ العَيْن وقالَ: اسمُ أَرْضٍ لهم.
* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيه:
عَتَكَ به الطِّيبُ أي لَزِقَ به نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ والصَّاغَانيُّ.
وذَكَر أَبو عُبَيْد في المُصَنِّفِ في بابِ لُزوق الشيْءِ: عَسِقَ وعَبِقَ وعَتَكَ. والعَتَكَةُ بالفتحِ الحَمْلة. وعَتَكَ به عَتْكًا لَزِمَه. والعاتِكَةُ القَوْس احْمَرَّتْ من طولِ العَهْد نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ قالَ المُتَنَخَّلُ الهُذَليُّ:
وصَفراءُ البُرايةِ غيرُ خِلقٍ *** كَوَقْفِ العاجِ عاتِكَةِ اللِّياط
وقال السُّكَّريّ: أي صَفْرَاء خالِصَة.
وأَحْمر عاتِكٌ وأَحْمر أَقْشَر إذا كان شديدَ الحُمْرة. وعِرْقٌ عاتِكٌ: أَصْفَر. وقَطِيْفةٌ عَتِكَةٌ كفَرِحَةٍ مُتلَبَّدة، وكذلك نَعْجة عَتِكَةٌ؛ قالَهُ ابن عَبَّادٍ.
والعاتِكِيُّ: ثيابٌ حُمْرٌ وصُفْرٌ تُجْلَب من الشَّامِ نُسِبَت إلى مَشْهَدِ عاتِكَة.
وعتيكُ بن الحرث بن عتيك وعتيكُ بنُ التَّيَّهَان صَحَابِيَّان رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهما.
وأبو عاتِكَة سُلَيْمان بن طرَيْف، ويُقالُ طُرَيْف بن سُلَيْمان تابعيٌّ رَوَى عن أَنَس وعنه الحَسَنُ بن عَطِية القُرَشِيّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
131-تاج العروس (حذل)
[حذل]: الحَذْلُ المَيْلُ. يقالُ: حَذْلُك مع فُلانٍ أَي مَيْلُكَ يُحْتَملُ أَنْ يكُونَ لغَةً في الحَدْلِ بالدَّالِ المُهْملَةِ، فإنَّ تَرْكيبَ الحَدَلِ هو الذي يدلُ على المَيْلِ، والمَيْلُ كما تقدَّمَ قَرِيبًا عن الصَّاغَانيّ. وأَمَّا بالذَّالِ المُعْجمةِ فمَا رَأَيتُ مَن ذَكَرَه غَيْر المصنِّف.والحَذَلُ: بالتَّحريكِ حُمْرَةٌ في العينِ وانْسِلاقٌ وسَيَلانُ دَمْعٍ قالَهُ أَبُو حاتِمِ، وانْسِلاقُها: حُمرةٌ تَعْتريها. وقالَ أَبو زَيْدٍ: هو طولُ البُكَاءِ وأَنْ لا تجفَّ. وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: هو انْسِلاقُ العَيْنِ، أَو قِلَّةُ في شَعَرِ العَيْنَيْنِ قالَ: حَذِلَتْ عَيْنُه كفرِحَ تَحْذَلُ حَذَلًا سَقَطَ هُدْبُها من بَثْرةٍ تكونُ في أَشْفارِها كما في الصِّحاحِ، ومنه قَوْلُ مُعَقِّر البارِقيُّ:
فأَخْلَفها مَوَدَّتِها فقاظت *** وما في عَيْنِها حَذِلٌ نَطُوف
فهي حذلة.
وعَيْنٌ حاذِلَةٌ لا تبْكِي البتَّةَ فإذا عَشِقَت بَكَتْ قالَ رُؤْبَةُ:
والشَّوْق شَاجٍ للعُيونِ الحُذَّل
وقيلَ: وصَفَها بما تؤول إليه بَعْدَ البُكَاءِ كما في المُحْكَمِ. وقالَ الأَزْهَريُّ: وصَفَها كَأَنَّ تِلْكَ الحُمْرةَ اعْتَرَتْها من شِدَّةِ النَّظَرِ إلى ما أُعْجِبَتْ به.
وأَحْذَلَها البُكاءُ والحَرُّ قال العُجَير السَّلُوليُّ:
ولم يُحْذِل العَيْنَ مثْلُ الفرَاقِ *** ولم يُرْمَ قلب بمثْلِ الهَوَى
والحَذَالُ: كسَحابٍ وغُرابٍ شِبْهُ دَمٍ يَخْرُجُ من السَّمُرِ، والعَرَبُ تُسَمِّيه حَيْض السَّمُرِ قالَ الشاعِرُ الهُذَليُّ:
إذا دُعِيَتْ لما في البيتِ قالت *** تَجَنَّ من الحَذَالِ وما جُنِيْتُ
أي قالَتْ اذْهَبْ إلى الشَّجَرِ فاقْلَع الحَذَالَ فكُلْه ولم تَقْرِه. أَو هو شيء يَنْبُتُ فيه أَو شيءٌ يكونَ في الطّلْحِ يُشْبِهُ الصَّمْغَ. وفي الصِّحَاحِ: ويقالُ: الحَذَالُ شيءٌ يَخْرُج من أُصُولِ السَّلَمِ يُنْقَع في اللبنِ فَيُؤْكلُ. وقالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هو الدُّوَدم.
والحَذَالُ: كسَحابٍ النَّمْلُ.
والحُذْلُ بالضم وبالكسرِ والحُذَلُ كصُرَدٍ الأَصْلُ قالَ:
أَنا من ضِئْضِيءِ صِدْقٍ *** بخْ وفي أَكْرَم حُذْلِ
من عزاني قال به به *** سنخ ذا أَكْرمِ أَصْلِ
وأَيْضًا حُجْزَةُ السَّراويلِ وفي الحدِيثِ: مَن دَخَلَ حائِطًا فليَأْكُل منه غَيْر آخذٍ في حَذْله شيئًا.
وقالَ ثَعْلَب: هي حُذْلَته وحُزَّته وهو في حُذْلِ أُمِّهِ بالضمِ أَي في حَجْرِها وقالَ ابنُ عَبَّادٍ الحِذْلُ: بالكسرِ ما تُدْلِجُ به مُثْقَلًا من شيءٍ تَحْمِلُهُ.
والحَذَلُ بالتحريكِ حَبُّ شَجَرٍ وهو يُخْتَبَزُ ويُؤْكَلُ في الجَدْبِ قالَ:
إنَّ بَوَاء زَادِهم لَمَّا أُكَل *** أَنْ يُحْذِلُوا فيُكْثِرُوا من الحَذَل
والحَذَلُ: مُسْتَدارُ ذَيْلِ القَميصِ كالحُذَلِ كصُرَدٍ وقُفَلٍ وثُمامةٍ وفي الصِّحاحِ: الحَذْلُ: حاشِيَةُ الإِزَارِ والقَمِيصِ.
وفي الحدِيثِ: «هَلُمِّي حَذْلَكِ» فجَعَل فيه المالَ، قالَهُ عُمَرُ رضي الله عنه لابنَةِ عَمْرٍو بن حممة لمَّا زَوَّجَها من عُثْمان رضي الله عنه فبَعَثَ إليها صَدَاقَها أَرْبَعة آلافِ دِرْهَمٍ فقالَ لَها: هَلُمِّي الحدِيثُ.
أَوِ الحُذْلُ والحُذْلَةُ بضمِّهِما أسفلُ النطاقِ أو أَسْفَلُ الحُجْزَةِ وحُذَيْلاءُ كرُتَيْلاءَ موضع عن ابنِ دُرَيْدٍ. ووَقَعَ في نسخِ المُحْكَمِ ضَبَطَه بفتحٍ فكسرٍ فينظر.
والحُذَالَةُ: كثُمامَةٍ صَمْغَةٌ حَمراءُ في السَّمُرةِ، كما في المُحْكَمِ. وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: الحُذَالَةُ مِثْل الحُثَالَةِ وهي حُطامُ التِّينِ.
وقالَ الكِسائيُّ: يقالُ تَحَذَّلَ عليه إذا أَشْفَقَ عليه.
وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: الحِذَالُ: ككِتابٍ شِبْهُ زَعْفَرانٍ يكونُ في زَهْرِ الرُّمانِ.
وقالَ الكِسائيُّ: الحَوْذَلَةُ أَنْ يَميلَ خُفُّ البَعيرِ في شِقِّ.
وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: الحَذَالَةُ: كسَحابَةٍ اسمُ امرَأَةٍ.
* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:
عَيْنٌ حَذِلَةٌ كفَرِحَةٍ أَصَابَها سلاق.
والحَذْلُ: بالفتحِ صَمْغ الطَّلْح إذا خَرَجَ فأَكَلَ العُودَ فانْحَتَّ واخْتَلَطَ بالصَّمْغ، وإذا كانَ كذلِكَ لم يُؤْكَل ولم يُنْتَفَع به.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
132-تاج العروس (حم حمم حمحم)
والحَمَّاءُ: الاسْتُ، وفي الصِّحاحِ: السافِلَةُ، الجمع: حُمُّ بالضَّمِ.واليَحْمومُ: الدُّخانُ، كما في الصِّحاحِ والمحْكَمِ. زادَ غيرُهما: الشَّديدُ السَّوادِ، وبه فسِّرَتِ الآيَةُ: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ}، إنّما سُمِّيَ به لمَا فيه من فرطِ الحَرارَةِ، كما فسَّره في قوْلِه تعالَى: {لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ}، أَو لمَا تصور فيه مِن الحَمَمَةِ وإليه أُشِيرَ بقَوْلِه: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}، إلَّا أَنَّه مَوْصوفٌ في هذا الموْضِعِ بشدَّةِ السَّوادِ، قالَ الصَّبَّاحُ بنُ عَمْرو الهَزَّانيُّ:
دَعْ ذا فَكَمْ مِنْ حالِكٍ يَحْمومِ *** ساقِطةٍ أَرْواقُه بَهِيمِ
واليَحْمومُ: طائِرٌ نظر فيه إلى سَوادِ جَناحَيْه.
واليَحْمومُ: الجَبَلُ الأَسْود، وبه فسِّرَتِ الآيَةُ أَيْضًا: قالوا: هو جَبَلٌ أَسْودُ في النارِ.
واليَحْمومُ: اسمُ فَرَسِ أَبي عبدِ اللهِ الحُسَيْنِ بنِ عليِّ بنِ أَبي طالِبٍ، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه.
وأَيضًا: فَرَسُ هِشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ المرْوانيّ، مِن نَسْلِ الحَرونِ.
قلْتُ: الذي قَرَأْته في كتابِ ابنِ الكَلْبي في الخَيْلِ المَنْسوبِ نَقْلًا عن بعضِ عُلماءِ اليَمَامَةِ أَنَّ هِشامَ بنِ عبدِ المَلِكِ كَتَبَ إلى إبْراهيمَ بنَ عَرَبيٍّ الكِنانيّ أَن اطْلُب في أَعْرابِ باهِلَةَ بعلَّكَ أَن تُصِيبَ فيهم مِن ولدِ الحَرونِ شَيئًا فإنَّه كانَ يطرفهم عليهم، ويحب أَن يبقى فيهم نَسْله، فبَعَثَ إلى مَشايخِهم فسَأَلَهم فقالوا: ما نَعْلَم شيئًا غيرَ فَرَسٍ عنْدَ الحَكَمِ بنِ عَرْعَرَةَ النّمَيْريّ يقالُ له الجَمومُ، فبَعَثَ إليه فجيءَ به إلى آخِرِ ما قالَ. فهو هكذا مَضْبوطٌ كصَبُورٍ بالجيمِ، فإن كانَ ما رأَيْته صَحِيحًا فالذي عنْدَ المصنِّفِ غَلَطٌ، فتأَمَّل ذلِكَ.
وأَيضًا: فَرَسُ حَسَّانَ الطَّائِيِّ.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ: اليَحْمومُ فَرَسُ النُّعْمانِ بنِ المُنْذِرِ، سُمِّيَ به لشدَّةِ سَوادِهِ، وقد ذَكَرَه الأعْشَى فقالَ:
ويأْمُرُ للْيَحْمومِ كلَّ عَشِيَّةٍ *** بِقَتٍّ وتَعْليقٍ فقد كادَ يَسْنَقُ
وقالَ لَبيدٌ:
والحارِثانِ كلاهُما ومُحَرِّقٌ *** والتُّبَّعانِ وفارِسُ اليَحْمومِ
وقالَ ابنُ سِيْدَه: وتسميته باليَحْمُومِ يحتملُ وَجْهَيْن: إمَّا أَن يكونَ مِن الحَمِيمِ الذي هو العَرَقُ، وإمَّا أَنْ يكونَ مِن السَّوادِ.
واليَحْمومُ: جَبَلٌ بمِصْرَ أَسْودُ اللَّوْنِ، ويُعْرفُ أَيْضًا بجَبَلِ الدُّخانِ، ذَكَرَه كُثَيِّرُ في قوْلِهِ:
إذا استشعث الأَجْواف أَجْلادَ شَتْوَة *** وأَصْبَح يَحْمومٌ به الثَّلْجُ جاهِدُ
واليَحْمومُ: ماءَةٌ غَرْبيَّ المُغِيثَةِ على ستَّةِ أَمْيالٍ مِن السندية بطَريقِ مكَّةَ.
وأَيْضًا: جَبَلٌ أَسْودُ طَويلٌ بِدِيارِ الضِّبابِ وكان قد التُقِطَتْ فيه سامَةٌ، والسامَةُ عِرْقٌ فيه وَشْي مِن فضَّةٍ، فجاءَ إنسانٌ يقالُ له ابنُ نائِل فأَنْفَقَ عليه أَمْوالًا حتى بَلَغَ الأَرْضَ مِن تحْت الجَبَلِ فلم يَجدْ شَيئًا، كذا في المُحْكَمِ.
والحُمَمُ، كصُرَدٍ: الفَحْمُ البارِدُ، واحِدَتُه بهاءٍ. قالَ الأَزْهَرِيُّ: وبها سُمِّي الرجُلُ.
وفي الحَدِيث: «حتى إذا صِرْتُ حُمَمًا فاسْحَقُوني ثم ذَرُّوني في الرِّيحِ»، وقالَ طَرَفَةُ:
أَشْجَاكَ الرَّبْعُ أَم قِدَمُهْ *** أَم رَمادٌ دارِسٌ حُمَمُه؟
وحَمَّمَ الرَّجُلُ: سَخَّمَ الوَجْه به، ومنه حَدِيْث الرَّجْم: أَنَّه مَرَّ بيَهُودِيٍّ مُحَمَّم مَجْلود أَي مُسْوَدّ الوَجْه مِن الحُمَمَةِ.
وحَمَّمَ الغُلامُ: بَدَتْ لِحْيَتُه.
وحَمَّمَ الرَّأْسُ: نَبَتَ شَعَرُهُ بعدَ ما حُلِقَ، وفي حَدِيث أَنَس: «أَنَّه كان إذا حَمَّمَ رأْسُه بمكَّةَ خَرَجَ واعْتَمَرَ؛ أَي سُوِّدَ بعدَ الحلْقِ بنَبَاتِ شَعَرِهِ، والمعْنَى أَنَّه كان لا يُؤخِّرُ العُمْرةَ إلى الحرم وإنَّما كان يخْرجُ إلى المِيقاتِ ويَعْتمرُ في ذي الحجَّةِ، ومنه حدِيْثُ ابنِ زِمْلٍ: «كأَنَّما حُمِّمَ شَعَرُهُ بالماءِ» أي سُوِّدَ، لأنَّ الشَّعَرَ إذا شَعِثَ اغْبَرَّ، فإذا غُسِل بالماءِ ظهر سَوادُه، ويُرْوَى بالجيمِ أَي جُعِل جُمَّةً».
وحَمَّمَ المرأَةَ: مَتَّعَها بالطَّلاقِ. وفي المُحْكَمِ: بشيءٍ بعدَ الطَّلاقِ.
وهذا هو الصَّوابُ وقوْلُ المصنِّفِ: بالطَّلاقِ غيرُ صَحِيحٍ، وأَنْشَدَ ابنُ الأَعْرابيِّ:
وحَمَّمْتُها قبل الفراقِ بِطعْنةٍ *** حِفاظًا وأَصْحابُ الحِفاظِ قَلِيلُ
وفي حدِيث عبدِ الرَّحْمن بنِ عَوْفٍ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه: إنَّه طَلَّقَ امْرأَتَه فَمَتَّعَها بخادِمٍ سَوْداءَ حَمَّمَها إِيَّاها؛ أَي مَتَّعَها بها بعدَ الطَّلاقِ، وكانتِ العَرَبُ تسمِّي المتعة التَّحْميمَ، وعَدَّاه إلى مَفْعولَيْن لأَنَّه في معْنَى أَعْطاها إِيَّاها، ويجوزُ أَنْ يكونَ أَرادَ حَمَّمَها بها فحَذفَ وأَوْصَلَ.
وقد ذَكَرَ المصنِّفُ هذه اللفْظَةَ أَيْضًا بالجيمِ كما تقدَّمَ.
وحَمَّمَتِ الأَرضُ: بَدا نَباتُها أَخْضَرَ إلى السَّوادِ.
وحَمَّمَ الفَرْخُ: نَبَتَ رِيشُه، وقيلَ: طَلَعَ زَغَبُهُ، قالَ ابنُ بَرِّي: شاهِدُهُ وقوْلُ عُمَر بن لجَأٍ:
فهو يَزُكُّ دائمَ التَّزَغُّم *** مِثْلَ زَكيكِ الناهِضِ المُحمَّمِ
والحَمَامَةُ، كسَحابَةٍ: وسَطُ الصَّدْرِ، قالَ:
إذا عَرَّسَتْ أَلْقَتْ حَمامَةَ صَدْرها *** بتَيْهاء لا يَقْضي كَراهًا رَقيبها
والحَمامَةُ: المرأَةُ، أَو الجَمِيلَةُ.
وأَيْضًا: ماءَةٌ، قالَ الشمَّاخُ:
ورَوَّحَها بالمَوْرِ مَوْرِ حَمامةٍ *** على كلِّ إجْرِيَّائِها وهو آبِرُ
والحَمامَةُ: خِيارُ المالِ.
وأَيْضًا: سَعْدانَةُ البَعيرِ.
وأَيْضًا: ساحَةُ القَصْرِ النَّقِيَّةُ.
وأَيْضًا: بَكْرَةُ الدَّلْوِ.
وأَيْضًا: حَلْقَةُ البابِ.
والحَمامَةُ من الفَرَسِ: القَصُّ.
وحَمامَةُ: فَرَسُ إياسِ بنِ قَبيصَةَ.
وأَيْضًا: فَرَسُ قُرادِ بنِ يَزيدَ.
وحَمامَةُ الأَسْلَمِيُّ وحَبيبُ بنُ حَمامَةَ: ذُكِرَا في الصَّحابَةِ.
وإنَّما عبَّر بهذه العِبارَةِ فإنَّ ابنَ فهْدٍ نَقَلَ في معْجَمِهِ: أَنَّ حَمامَةَ الأَسْلَميّ غلطَ فيه بعضُهم، وإنَّما هو ابنُ حَمامَةَ، أَو ابنُ أَبي حَمامَةَ، وقالَ في حَبِيبِ بنِ حَمامَةَ إنَّه مَجْهولٌ ذَكَرَه أَبو موسى.
وحِمَّانُ، بالكسْرِ: حَيُّ من تَميمٍ، وهو حِمَّانُ بنُ عبدِ العُزى بنِ كعْبِ بنِ سعْدِ بنِ زيْدِ مَنَاة بنِ تَمِيمٍ منهم: أَبو يَحْيَى عبدُ الحميدِ بنُ عبدِ الرَّحْمن بنِ مَيْمون الحماميُّ عن الأعْمشِ والثَّوريِّ، وعنه ابْنُه أَبو زَكريا يَحْيَى مَاتَ سَنَة مائَتَيْن وثلاث، وابْنُه يَحْيَى مَاتَ سَنَة مائَتَيْن وثَمَان وعشرين بسَامرَّاء.
وحَمُومَةُ: مَلِكٌ يَمَنِيُّ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، قالَ: وأَظنُّه أَسْود يَذْهَب إلى اشْتِقاقِه مِن الحُمَّةِ التي هي السَّوادُ.
قالَ ابنُ سِيْدَه: وليسَ بشيءٍ وقالوا: جارَا حَمومةَ، فحَمُومةُ هو هذا المَلِكُ، وجَارَاهُ: مالِكُ بنُ جَعْفَرِ بنِ كِلابٍ ومُعاوِيَةُ بنُ قُشَيْرٍ.
وأَبو الحَسَنِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَرَفَةَ، كذا في النسخِ، والصَّوابُ: عبدُ الرَّحمنِ بنُ عُمَرَ بنِ حَمَّةَ الخلّال العَدْلُ الحميُّ نُسِبَ إلى جَدِّه، رَوَى عن المحامِلِيّ وعن أَبي بكْرِ بنِ أَحْمدَ بنِ يَعْقوب بنِ شِيْبَة، وعنه أَبو الحَسَنِ بنُ زَرْقَوَيْه والبرقانيُّ وغيرُهما، ومَاتَ سَنَة ثلثمائة وعِشْرِيْن، وأَبوه عُمَرُ بنُ أَحْمدَ بنِ محمدِ بنِ حَمَّةَ يَرْوِي عن محمدِ بنِ يَحْيَى المَرْوَزيّ، وحَفِيدُه محمدُ بنُ الحُسَين بنِ عبدِ الرَّحْمن بنِ عُمَرَ بنِ حَمَّةَ حَدَّثَ عن أَبي عُمَر بنِ مَهْدي. وأَحمدُ بنُ العبَّاسِ بنِ حَمَّةَ الخلَّال، حَدَّثَ عنه الحافِظُ أَبو محمدٍ الخلَّال، مُحَدِّثانِ.
والحَمْحَمَةُ: صَوْتُ البِرْذَونِ عِنْدَ طَلَبِ الشَّعيرِ.
وأَيْضًا: عَرُّ الفَرَسِ حينَ يُقَصِّرُ في الصَّهيلِ ويَسْتَعينُ بنَفسِهِ.
وقالَ اللَّيْثُ: الحَمْحَمَةُ صَوْتُ البِرْذَوْنِ دُوْنِ الصَّوْتِ العالِي، وصَوْتُ الفَرَسِ دُوْن الصَّهيلِ كالتَّحَمْحُمِ.
قالَ الأزْهَرِيُّ: كأَنَّه حِكايَةُ صَوْتِه إذا طَلَبَ العَلَفَ أَو رَأَى صاحِبَه الذي كانَ أَلِفَه فاسْتَأنَس إليه. وفي الحَدِيث: «لا يَجِيءُ أَحَدُكُم يومَ القِيامَةِ بفَرَسٍ له حَمْحَمَةُ».
والحَمْحَمَةُ: نَبيبُ الثَّورِ للسِّفادِ، نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ.
والحِمْحِمَةُ، بالكسْرِ ويُضَمُّ: نَباتٌ كَثيرُ الماءِ له زَغَبٌ أَخْشَنُ أَقَلّ مِن الذِّراعِ. أَو هو لِسانُ الثَّوْرِ، الجمع: حِمْحِمٌ والحَماحِمُ: الحَبَقُ البُسْتانيُّ العَريضُ الوَرَقِ ويُسَمَّى الحَبَقَ النَّبَطِيَّ، واحِدَتُهُ بهاءٍ.
وقالَ أَبو حَنيفَةَ: الحَماحِمُ بأَطْرافِ اليَمَنِ كَثيرَةٌ وليْسَت ببَرِّية وتَعْظُم عنْدَهم، وهو جَيِّدٌ للزُكامِ، مُفَتِّحٌ لسُدَدِ الدِماغِ مُقَوٍّ للقَلْبِ، وشُرْبُ مَقْلُوِّهِ، يَشْفِي من الإِسْهالِ المُزْمِنِ بدُهْنِ وَرْدٍ وماءٍ باردٍ.
والحُمْحُمُ، كقُنْفُذٍ وسِمْسِمٍ: طائِرٌ أَسْودُ.
وآلُ حامِيمَ وذَواتُ حامِيمَ: السُّوَرُ المُفْتَتَحةُ بها.
قالَ ابنُ مَسْعودٍ: آلُ حامِيمَ دِيباجُ القُرآنِ.
قالَ الفَرَّاءُ: هو كقَوْلِكَ آلُ فُلانٍ وآلُ فلانٍ كأَنَّه نَسَبَ السُّورَةَ كُلَّها إلى {حم}، قالَ الكُمَيْت:
وَجَدْنا لكم في آلِ حامِيمَ آيةً *** تَأَوَّلَها مِنَّا تَقِيُّ ومُعْرِبُ
قالَ الجوْهَرِيُّ: ولا تَقُلْ حَواميمُ فإنَّه مِن كَلامِ العامَّةِ وليسَ مِن كَلامِ العَرَبِ، وقد جاءَ في شِعْرٍ، إشارَة إلى قوْلِ أَبي عُبَيْدَة، فإنَّه قالَ: الحَوامِيمُ سُورٌ في القُرْآن على غيرِ قِياسٍ، وأَنْشَدَ:
أَقْسَمْت بالسَّبْع اللَّواتي طُوِّلَتْ *** وبالطَّواسِين التي قد ثُلِّثَتْ
وبالحَوامِيم التي قد سُبِّعَتْ
قالَ: والأَوْلى أَن يُجْمَعَ بذواتِ حامِيمَ، وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْدَةَ في حَامِيم لشُرَيْحِ بنِ أَوْفَى العَبْسِيّ:
يُذَكِّرُني حَامِيمَ والرُّمْحُ شاجِرٌ *** فهَلَّا تَلا حَامِيمَ قبلَ التَّقَدُّمِ
قالَ: وأَنْشَدَه غيرُه للأَشْتَرِ النَّخْعِيّ، والضَّميرُ في يُذَكِّرُني هو لمحمدِ بنِ طَلْحَة، وقَتَلَه الأَشْترُ أَو شُرَيْحُ.
وقالَ أَبو حاتِمٍ قالَ العامَّةُ في جَمْعِ {حم} وو طَواسِين، قالَ: والصَّوابُ: ذَواتُ {طس} وذَواتُ {حم} وذَواتُ {الم}.
وجَاءَ في التَّفْسيرِ عن ابنِ عَبَّاسٍ: في {حم} ثلاثَةُ أَقْوالٍ: قالَ هو اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ، ويُؤيّدهُ حَدِيثُ الجِهادِ: «إذا بُيِّتُّمْ فقُولُوا: حم... {لا يُنْصَرُونَ} ».
قالَ ابنُ الأثيرِ: قيلَ معْناه اللهمَّ لا يُنْصَرُون، قالَ: ويُرِيدُ به الخَبَرَ لا الدُّعاءَ لأنَّه لو كانَ دُعاء لقَالَ لا يُنْصَروا مَجْزومًا، فكأَنَّه قالَ: والله لا يُنْصَرُون وهو المرادُ مِن قوْلِهِ أَو قَسَمٌ.
وقيلَ: قوْلُه: لا يُنْصَرون كَلامٌ مُسْتأْنفٌ كأَنَّه حينَ قالَ: قولوا حَامِيم، قيلَ: ماذا يكونُ إذا قلْناها؟ فقالَ: لا يُنْصَرون.
أَو حُروفُ الرَّحمنِ مُقَطَّعَةٌ، وهذا هو القوْلُ الثالِثُ.
قالَ الزَّجَّاجُ: وتَمامُهُ الرون بمنْزِلَةِ الرَّحْمَنِ.
قالَ الأزْهَرِيُّ: وقيلَ: معْنى {حم} قضى ما هو كائِنٌ، وقيلَ: هي مِن الحُروفِ المُعْجَمةِ، قالَ: وعليه العَمَلُ. وحَمَّتِ الجَمْرَةُ تَحَمُّ، بالفتحِ؛ أَي مِن حَدِّ عَلِمَ، وظاهِرُ سِياقِه أَنَّه مِن حَدِّ مَنَعَ وليسَ كَذلِكَ، صارَتْ حُمَمَةً؛ أَي فَحمَةً أَو رَمادًا.
وحَمَّ الماءُ حَمًّا: سَخُنَ، وفي الصَّحاحِ: صارَ حارًّا.
وحامَمْتُهُ مُحامَّةً: طالَبْتُهُ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ عن الأُمَويِّ.
وقالَ أَبو زَيْدٍ: يقالُ أَنا مُحامٌّ على هذا الأَمْرِ؛ أَي ثابِتٌ عليه.
وقالَ اللَّحْيانيُّ: قالَ العامِرِيُّ: قلْتُ لبعضِهم: أَبَقِيَ عنْدَكُم شيءٌ؟ فقالَ هَمْهام وحَمْحامِ ومَحْماحِ وبَحْباحِ كلُّ ذلِكَ مَبْنِيًّا على الكسْرِ؛ أَي لم يَبْقَ شيءٌ.
ومحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ العبَّاس أَبو المُغيثِ الحَماحِميُّ مُحَدِّثٌ، حَدّثَ بحَمَاة عن المُسَيِّبِ بنِ واضحٍ، وعنه ابنُ المقرى وأَبو أَحْمدَ الحاكِمُ.
وحُمَيْمَة، كجُهَيْنَةَ: بُلَيْدَةٌ بالبَلْقاءِ مِنِ الشأمِ.
وحِمٌّ، بالكسْرِ: وادٍ بدِيارِ طَيِّئٍ، قالَهُ نَصْرُ.
وحُمٌّ، بالضَّمِ: جُبَيْلاتٌ سُودٌ بدِيارِ بنِي كِلابٍ بنَجْدٍ، قالَهُ نَصْرُ.
والحمائِمُ: أَجْبُلٌ باليَمامَةِ.
وأَبو محمدٍ عبدُ اللهِ بنُ أَحْمدَ بنِ حَمُّويَةَ، كَشُّبويَةَ، السَّرْخَسِيُّ: رَاوِي الصَّحيح للبُخارِي عن محمدِ بنِ يوسفَ بنِ مَطر الفَرْبَريّ، وعنه أَبو بكْرٍ الهَيْثم المَرْوَزيّ، تُوفي بعَدَ سَنَة ثَمانِين وثلثمائة.
وبَنُو حَمُويَةَ الجُوَيْنِيِّ: مَشْيَخَةٌ، قالَهُ الذّهبيُّ.
قالَ الحافِظُ بنُ حجرٍ: هكذا سَمِعْنا مَن يَنْطقُ به، والأَوْلى أَنْ يقالَ بفتْحِ الميمِ بغيرِ إشْباعٍ لأنَّه في لفظِ النَّسبِ لا يُنْطَق فيه بما كَرِهُوه مِن لفْظِ ويه.
قلْتُ: ومنهم: أَبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ حَمويَه الجُوَيْنيُّ يكتبُ أَوْلادُه لأنْفُسِهم الحَمْويّ، توفي سَنَة خَمْسُمائة وثَلاثِيْن بنَيْسابورَ وحُمِل إلى جوين ودُفِنَ بها.
وسَمَّوْا حَمًّا، بالفتحِ، وبالضَّمِ، وكعِمْرانَ، وعُثْمانَ، ونَعامَةٍ، وهُمَزَةٍ، وكغُرابٍ، وكِرْكِرَةٍ، وحُمَّى مُمَالَةً مَضْمومَةً، وحُماميُّ بالضَّمِ كغُرابيٍّ.
فمن الأُوْلَى: أَبو بكْرٍ محمدُ بنُ حَرْب بنِ عبدِ الرَّحْمنِ بنِ حاشِدٍ الحافِظُ لَقَبُه حَمّ، وهو لَقَبُ غيرِ واحِدٍ.
ومِن الثاني: حُمُّ بنُ السّريّ النّسفيُّ واسْمُه محمدٌ، رأَى البُخارِي ورَوَى عن محمدِ بنِ موسَى بنِ الهُذَيْل فَرْدٌ.
ومِن الثالِثِ: حِمّانُ البَارِقِيُّ جَدُّ عَمْرو بنِ سَعِيدٍ الحِمَّانيّ الشَّاعِر نُسِبَ إلى جَدِّه، وحِمَّانُ بنُ عبدِ العُزى جَدُّ القَبيلَةِ، وقد ذَكَرَه المصنِّفُ، وأَبو حِمَّانِ الهنائيّ تابِعِيُّ رَوَى عن مُعاوِيَةَ بنِ أَبي سُفْيان وعنه أَخُوه أَبو شيخ.
وأَمَّا حُمَّانُ كعُثْمان، فلم أَجِد مَن يَتَسمَّى به ولعلَّه كسَحْبان فإنَّ الجوْهَرِيَّ قالَ: وحَمّان بالفتْحِ اسمٌ فتأَمَّل.
ومِن الخامِسِ: ابنُ حَمامَةَ، ويقالُ: ابنُ أَبي حَمامَةَ صَحابيُّ، وأَبو حَمامَةَ مِن كناهم.
ومِن السادِسِ: عَمْرُو بنُ حُمَمَةَ الدّوسِيُّ ذَكَرَه المصنِّفُ في ق ر ع.
ومِن السابِعِ: عَمْرُو بنُ الحُمامِ الأنْصارِيُّ له صُحبَةٌ، وحصينُ بنُ الحُمامِ المريُّ له صُحْبَةٌ، والأَكْدَرُ بنُ حُمامٍ اللّخَمِيُّ شَهِدَ فتْحَ مِصْرَ، وحُمامُ بنُ أَحْمدَ القُرْطبيُّ شيخُ أَبي محمدٍ بنِ حَزْم وآخَرُون.
ومِن التاسِعِ: يحْمِدُ بنُ حُمّى بنِ عُثْمان بنِ نَصْر بنِ زهْران جَدُّ بنِي زَهْران القَبيلَةُ المَشْهورَةُ.
ومِن الأخيرِ: حُماميُّ فخور بنُ وهبِ بنِ عَمْرو بنِ الفاتِكِ بنِ حَمامَةَ الساميُّ من بنِي سامَةَ بنِ لُؤَيٍّ، وكذا حُماميُّ بنُ رَبيعَةَ، وحُماميُّ بنُ سالِمٍ ذَكَرَهم ابنُ مَاكُولا. والحُميْماتُ: جَمْعُ حُمَيْمَة كجُهَيْنَةَ بمعْنَى: الجَمْرَةَ.
وأَحَمَّ بنَفْسِهِ: غَسَلَها بالماءِ البارِدِ، وهذا قد تقدَّمَ فهو تِكْرارٌ.
وثيابٌ التَّحِمَّةِ، بفتْحِ التاءِ وكسْرِ الحاءِ وفتْحِ الميمِ المشدَّدَةِ: ما يُلْبِسُ المُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ إذا مَتَّعَها، ومنه قوْلُه:
فإنْ تَلْبَسِي عَنِّي ثيابَ تَحِمَّةٍ *** فلن يُفْلِحَ الواشِي بك المُتَنَصِّحُ
واسْتَحَمَّ الرَّجُلُ: عَرِقَ، وكَذلِكَ الدابَّةُ، قالَ الأَعْشَى:
يَصِيدُ النَّحُوصَ ومِسْحَلَها *** وجَحْشَيْهما قبل أَن يَسْتَحِم
وقالَ آخَرُ يَصِفُ فَرَسًا:
فكأَنَّه لمّا اسْتَحَمَّ بمائِهِ *** حَوْلِيُّ غِرْبانٍ أَراح وأَمْطرا
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
أُحِمَّ الشيءُ، بالضمِ: أَي قُدِّرَ، فهو مَحْمومٌ.
وحامَّهُ مُحامَّةً: قارَبَهُ.
وقالَ الزَّمَخْشرِيُّ: المحمة الحاضرة مِن أَحَمَّ الشَّيءُ إذا قَرُبَ ودَنا والحَمِيمُ بالحاجَةِ الكَلِفُ بها والمُهْتَمّ لها، وأَنْشَدَ ابنُ الأعْرَابيِّ:
عليها فتىً لم يَجْعل النَّومَ هَمَّهُ *** ولا يُدْرِكُ الحاجاتِ إلَّا حَمِيمُها
وهو مِن حُمَّةِ نفْسِي أَي مِن حُبَّتِها، وقيلَ: المِيمُ بدلٌ مِن الباءِ.
ونَقَلَ الأَزْهَرِيُّ: فلانٌ حُمَّةُ نفْسِي وحُبَّة نفْسِي.
ونَقَلَ الأزْهرِيُّ: هو مَوْلاي الأَحَمُّ أَي الأَخَصُّ الأَحَبُّ.
وحُمَّةُ الحَرِّ، بالضمِ: مُعْظَمُهُ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ. وفي حدِيْث عُمَرَ: «إذا الْتَقَى الزَّحْفانِ وعندَ حُمَّةِ النَّهْضاتِ»؛ أَي شِدَّتها ومُعْظَمها.
وحُمَّةُ السِّنانِ: حِدَّتُه.
وماءٌ مَحْمومٌ مِثْلُ مَثْمودٍ، نَقَلَه الأزْهرِيُّ.
والمِحَمُّ، بكسْرِ المِيمِ: القُمْقُمُ الصَّغيرُ يُسَخَّنُ فيه الماءُ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.
والحَمِيمُ: الجَمرُ يُتَبَخَّرُ به، حَكَاه شَمِرٌ عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، وأَنْشَدَ شَمِرٌ للمُرَقِّش:
كلُّ عِشاءٍ لها مِقْطَرَةٌ *** ذاتُ كِباءٍ مُعَدٍّ وحَمِيم
والمُسْتَحَمُّ: الموْضِعُ الذي يُغْتَسَلُ فيه بالحَمِيمِ، ومنه حدِيْثُ ابنِ مُغَفَّلٍ: أَنَّه كان يكْرَهُ البولَ في المُسْتَحَمِّ.
واسْتَحَمَّ: دَخَلَ الحَمَّامَ.
والحُمَّاءُ، بالضمِ مَمْدودًا: حُمَّى الإِبِلِ خاصَّةً.
ويقالُ: أَخَذَ الناسَ حُمامُ قُرٍّ، وهو المُومُ يأْخُذُ الناسَ.
والحُمَّةُ، بالضمِ: السَّوادُ، قالَ الأَعْشَى:
فأَمَّا إذا رَكِبوا للصَّباحِ *** فأَوْجُهُهم من صدَى البَيْضِ حُمُّ
ورجُلٌ أَحَمُّ المُقْلَتَيْنِ: أَسْوَدُهُما، قالَ النابِغَةُ:
أَحْوَى أَحَمّ المُقْلَتَيْن مُقَلَّد
وفَرَسٌ أَحَمُّ: بَيِّنُ الحُمَّةِ، قالَ الأَصْمَعيُّ: وأَنْشَدَ الخَلِيلُ:
جلودًا وحوافر الكمت الحُمّ
نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.
والحُمَّةُ، بالضمِ: ما رَسَبَ في أَسْفَل النِّحيِ مِن مُسْوَدّ السَّمْنِ ونحْوِه، وبه فسِّرَ قوْلُ الراجزِ:
لا تَحْسِبَنْ أَن يدي في غُمّهْ *** في قَعْرِ نِحْيٍ أَسْتَثِيرُ حُمَّهْ
أَمْسَحُها بتُرْبةٍ أَو ثُمَّهْ
ويُرْوَى بالخاءِ ويَأْتي ذِكْرُها.
وشاةٌ حِمْحِمٌ، كزِبْرِجٍ: سَوْداءُ، قالَ:
أَشَدُّ من أُمِّ عُنُوقٍ حِمْحِمِ *** دَهْساءَ سَوْداءَ كلَوْن العِظْلِمِ
تَحْلُبُ هَيْسًا في الإِناءِ الأَعْظَمِ
والحُمَمُ: الرَّمادُ وكلُّ ما احْتَرَقَ مِن النارِ. وفي حدِيْث لُقْمان بنِ عاد: «خُذِي منّي أَخي ذا الحُمَمَة»، أَرادَ سَوادَ لَوْنِه.
وجارِيَةٌ حُمَمَةٌ: سَوْدَاءُ.
واليَحْمومُ: سُرادِقُ أَهْلِ النارِ، وبه فسِّرَتِ الآيَةُ أَيْضًا.
وحُمَمَهُ: اسمُ فَرَسٍ، ومنه قوْلُ بعضِ نِساءِ العَرَبِ تمْدَحُ فَرَسَ أَبيها: فَرَسُ أَبي حُمَمةُ وما حُمَمةُ.
ونَبْتٌ يَحْمومٌ: أَخْضرُ رَيَّانُ أَسْودُ.
والحَمُّ: المالُ والمتاعُ، رَوَى شَمِرُ عن ابنِ عُيَيْنَةَ قالَ: كان مَسْلمَةُ بنُ عبدِ المَلِكِ عَربيًّا، وكانَ يقولُ في خطْبَتِه: إنَّ أَقلَّ الناسِ في الدُّنْيا هَمًّا أَقَلُّهم حَمًّا؛ أَي مالًا ومتاعًا، وهو مِن التَّحْمِيمِ المُتْعَةُ.
ونَقَلَ الأزْهَرِيُّ: قالَ سُفْيانُ قالَ: أَرادَ بقوْلِه أَقَلُّهم حَمًّا أَي مُتْعةً.
قالَ ابنُ الأَثيرِ: وفي حدِيْثٍ مَرْفوعٍ أَنَّه كانَ يُعْجبُه النَّظَرُ إلى الأُتْرُجّ والحَمامِ الأَحْمَر.
قالَ أَبو موسَى: قالَ هِلالُ بنُ العلاءِ: هو التُّفَّاحُ، قالَ: وهذا التفْسِيرُ لم أَرَهُ لغيرِهِ.
والحَمامَةُ المِرْآةُ، وأَنْشَدَ الأزْهرِيُّ للمُؤَرِّجِ:
كأَنَّ عَيْنيه حَمامتانِ
أَي مِرْآتانِ.
وقالَ ابنُ شُمَيْل: الحُمَّةُ حِجارَةٌ سُودٌ تَرَاها لازِقَةً بالأَرْضِ، تقودُ في الأَرضِ الليلةَ واللَّيْلَتَيْن والثلاثَ، والأَرضُ تحتَ الحِجارَةِ تكونُ جَلَدًا وسُهولَةً، والحِجارَةُ تكونُ مُتدانِيَةً ومُتَفرِّقَةً، وتكونُ مُلْسًا مِثْل رُؤوسِ الرِّجالِ، والجَمْعُ حِمامٌ.
وذاتُ الحُمامِ، كغُرابٍ: مَوْضِعٌ بينَ الحَرَمَيْن الشَّرِيْفَيْن.
وأَيْضًا: ماءٌ في دِيارِ بنِي قُشَيْرٍ قريب اليَمامَةِ.
وأَيْضًا: ماءٌ جاهِليُّ بضريّة.
وغميس الحمام: بينَ ملَل وصُخَيْرات الثّمامِ، اجْتَازَ به رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وآله وسلم، يومَ بَدْرٍ.
وحُمامُ مِن العقرِ بالبَحْرَيْن، أَقْطَعَه نؤرُ بنُ عرزَةَ القُشَيْريّ، قالَهُ نَصْر.
قلْتُ: وإِيَّاه عَنَى سالمُ بنُ دارَةَ يَهْجو طَريفَ بنَ عَمْرو:
إِني وإن خُوِّفْتُ بالسِّجنِ ذاكِرٌ *** لِشَتْمِ بني الطَّمَّاح أَهلِ حَمامِ
إذا ماتَ منهم مَيِّتٌ دَهَنوا اسْتَهُ *** بِزَيت وحَفُّوا حَوْله بِقِرامِ
نَسَبَهم إلى التَّهَوُّدِ. أَو هو مَوْضِعٌ آخَرُ.
وحَمامُ أَيْضًا: صَنَمٌ في دِيارِ بنِي هِنْدِ بنِ حرام بنِ عبدِ اللهِ بنِ كبير بنِ عَدِيٍّ سُمِعَ منه صَوْتٌ بظُهورِ الإسْلامِ.
وحَمَّةُ جَبَلٌ بينَ ثورٍ وسَمِيراء عن يسارِ الطَّريقِ، به قبابٌ ومَسْجدٌ، قالَهُ نَصْر.
وبالضمِ: جَبَلٌ، أَو وادٍ بالحِجازِ.
واليَحْمومُ: مَوْضِعٌ بالشأمِ، قالَ الأَخْطَلُ:
أَمْسَتْ إلى جانب الحَشَّاك جيفَتُهُ *** ورأْسُه دونَهُ اليَحْمُوم والصُّوَرُ
وحَمُومَةُ: جَبَلٌ بالبادِيَةِ.
واليَحامِيمُ: جِبالٌ سُودٌ مُتَفرِّقَةٌ مُطِلَّةٌ على القاهِرَة بمِصْرَ مِن جانِبِها الشَّرْقيّ، وتَنْتهي هذه الجِبالُ إلى بعضِ طَريقِ الجبِّ، وقيلَ لها: اليَحامِيمُ لاخْتِلافِ أَلْوانها.
ويومُ اليَحامِيمِ: مِن أَيَّامِ العَرَبِ، قالَ ياقوتُ: وأَظنُّه الماءُ الذي قُرْبَ المُغَيْثة.
ويقالُ: نَزَلْتُ أَرضَ بنِي فلانٍ كأَنَّ عِضَاهَها سُوقُ الحَمَام، يُرِيدُ حُمْرَة أَغْصانِها.
وبَنُو حمامَةَ: بَطْنٌ مِن الأَزْدِ منهم: الأشْترُ الحَماميُّ الشاعِرُ، ومحمدُ بنُ عليِّ بنِ خُطْلُجِ البابصريّ الحَماميُّ عن أَبي الحُسَيْن بنِ يوسفَ، وأَحمدُ بنُ أَبي الحَسَنِ الدّينوريُّ الحَماميُّ مِن شيوخِ الدمياطيّ، وإبراهيمُ بنُ سعدِ بنِ إبراهيمَ الزهريّ يُعْرفُ بابنِ حَمامَةَ تُوفي سَنَة ثلثمائة وخَمْس وسَبْعِين.
وأَمَّا سعيدُ بنُ المبارَكِ الحمامي وابْنُه مَوْهوب فإنَّه يجوزُ تَخْفِيفَه وتَثْقِيلَه لأنَّه يُنْتَسَبُ لنِسْبَتَيْن، قالَهُ ابنُ نقْطَةَ.
والحُمومُ، بالضمِ، بمعْنَى الاغْتِسال لُغَةٌ عامِّيَّةٌ.
واحْتَمَّ لفلانٍ أَي احْتَدَّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
133-تاج العروس (عرم)
[عرم]: عُرامُ: الجَيْشِ، كغُرابٍ: حِدَّتُهُم وشِدَّتُهُم وكَثْرَتُهُم، قالَ سلامةُ بنُ جَنْدَلٍ:وِإِنا كالحَصَى عَددًا وإِنا *** بَنُو الحَرْبِ التي فيها عُرامُ
وقالَ آخَرُ:
وِليلةِ هَوْلٍ قد سَرَيْتُ وفِتْيَةٍ *** هَدَيْتُ وجَمْعٍ ذي عُرامٍ مُلادِسِ
وِالعُرامُ من العَظْمِ والشَجَرِ: العُراقُ، نَقَلَه الجَوْهرِيُّ.
يقالُ: أَعْرَمُ من كَلْبٍ على عُرامٍ.
وِالعُرامُ: ما سَقَطَ من قِشْرِ العَوْسَجِ، هكذا خصَّه الأَزْهرِيُّ وأَنْشَدَ للرَّاجزِ:
وِتَقَنَّعي بالعَرْفَجِ المُشَحَّجِ *** وِبالثُّمامِ وعُرامِ العَوْسَجِ
وعَمَّه غيرُهُ فقالَ: عُرامُ الشَّجَرَةِ: قِشْرُها.
وِالعُرَامُ من الرَّجُلِ: الشَّراسَةُ والشِدَّةُ والقُوَّةُ.
وِالعُرَامُ: الأَذَى، قالَ حُمَيْدُ بنُ ثورٍ الهِلاليُّ.
حَمَى ظِلَّها شَكْسُ الخَلِيقَةِ حائطٌ *** عَلَيْها عُرامُ الطائِفينَ شَفِيقُ
عَرَمَ الرَّجُلُ، كنَصَرَ وضَرَبَ وكَرَمَ وعَلِمَ، واقْتَصَرَ الجَوْهرِيُّ على الأَوَّلَيْن، عَرامَةً وِعُرامًا بالضمِّ، قالَ وعْلةُ الجَرّميُّ:
أَلَم تعْلَمُوا أَنِّي تُخافُ عَرَامَتي *** وِأَنَّ قَناتي لا تَلِينُ على الكَسْرِ؟
فهو عارِمٌ وِعَرِمٌ؛ أَي اشْتَدَّ، قالَ:
إِنِّي امْرُؤٌ ويَذُبُّ عن مَحارِمي *** بَسْطةُ كَفٍّ ولِسانٍ عارِمِ
وِعَرَمَ الصَّبِيُّ علينا عَرامَةً وِعُرامًا: أَشِرَ ومَرِحَ، أَو بَطِرَ أَو فَسَدَ، فهو عارِمٌ وِعَرِمٌ.
وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: العَرِمُ الجاهِلُ، وقد عَرَمَ يَعْرُمُ وِعَرُمَ وِعَرِمَ.
وِيَوْمٌ عارِمٌ: شَديدُ البَرْدِ.
وقيلَ: نِهايَةٌ في البَرْدِ، وكذا لَيْلٌ عارِمٌ.
وِعَرِمَ العَظْمَ يَعْرِمُه وِيَعْرُمُه عَرْمًا: نَزَعَ ما عليه من لَحْمٍ، كتَعَرَّمَهُ، وكَذلِكَ عَرِقَهُ وتَعَرَّقَهُ.
وِعَرَمَ الصَّبيُّ أُمَّه عَرْمًا: رَضَعَها.
وِعَرَمَتِ الإِبِلُ الشَّجَرَ: نالَتْ منه، نَقَلَه الجَوْهرِيُّ.
وِعَرَمَ فُلانًا عَرامَةً: أَصابَهُ بعُرامٍ؛ أَي شَراسَةٍ.
وِعَرِمَ العَظْمُ، كفَرِحَ، عَرَمًا: فَتِرَ، هكذا في النسخِ، والصَّوابُ: قَتِرَ.
وِالعَرَمُ، محرَّكةً وِالعُرْمَةُ بالضمِّ: سَوادٌ مُخْتَلِطٌ ببَياضٍ في أَي شيءٍ كان، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهرِيُّ.
أَو هو تَنْقِيطٌ بهما من غيرِ أَنْ تَتَّسِعَ، كلُّ نُقْطَةٍ عُرَمَةٌ، عن السِّيرافي.
وِالعُرْمَةُ: بَياضٌ يكونُ بمَرَمَّةِ الشّاةِ، كما في الصِّحاحِ، وكَذِلِكَ إِذا كانَ في أُذُنِها نُقَطٌ سُودٌ، وهو أَعْرَمُ وهي عَرْماءُ.
ويُرْوَى عن معاذَ بن جَبَلٍ: «أَنَّه ضَحَّى بكبشٍ أَعْرَمَ»، وهو الأَبْيضُ الذي فيه نُقَطٌ سُودٌ.
وِقالَ ثَعْلَبُ: العَرِمُ في كلِّ شيءٍ: ذُو لَوْنَيْنِ، قالَ: والنَّمِرُ ذو عَرَمٍ.
وِبَيْضُ القَطا: عُرْمٌ، وإِيَّاها عَنَى أَبو وَجْزَةَ السَّعْديُّ:
ما زِلْنَ يَنْسُبْنَ وَهْنًا غيرَ صادِقةٍ *** باتَتْ تُباشِرُ عُرْمًا غَيْرَ أَزْواجِ
وِقد غلبت العَرْماءُ على الحَيَّةِ الرَّقْشاءِ، والجَمْعُ العُرْمُ، قالَ مَعْقِلُ الهُذَليُّ:
أَبا مَعْقِلٍ لا تُوطِئَنْكَ بَغاضَتي *** رُؤُوسَ الأَفاعِي في مَراصِدِها العُرْمِ
وِالأَعْرَمُ: المُتَلَوَّنُ بلَوْنَيْنِ، ومنه دَهْرٌ أَعْرَمُ.
وِالأَعْرَمُ: الأَبْرَشُ، وهي عَرْماءُ، ويقالُ: هو الأَبْرَضُ.
وِالقَطِيعُ الأَعْرَمُ بَيِّنُ العَرَمِ: إِذا كان من ضَأْنٍ ومِعْزًى، وأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ لشاعِرٍ يَصِفُ امْرأَةٍ راعِيَةٍ:
حَيَّاكة وَسْطَ القَطِيعِ الْأَعْرَمِ
وِالأَعْرَمُ: الأَقْلَفُ الذي لم يُخْتَنْ فكأَنَّ وَسَخَ القُلْفَةِ باقٍ هناك، الجمع: عُرْمانٌ، بالضَّمِّ، و* جمع الجمع: عَرامينُ أَي جَمْعُ الجَمْعِ.
قالَ أَبو عَمْرو: العَرامِينُ القُلْفانُ مِن الرِّجالِ.
قالَ الأَزْهرِيُّ: ونُونُ العُرْمانِ وِالعَرامينِ ليسَتْ بأَصْلِيَّة.
قالَ: وسَمِعْتُ العَرَبَ تقولُ لجمْعِ القِعْدانِ قَعادِينُ والقِعدانُ جَمْعُ القَعودِ، والقَعادِينُ نَظِيرُ العَرامِينِ.
وِالعَرَمَةُ، محرَّكةً: رائِحَةُ الطَّبيخِ.
وِأَيْضًا: الكُدْسُ المَدُوسُ الذي لم يُذَرَّ يُجْعَلُ كهَيْئةِ الأَزَجِ ثم يُذَرَّي.
وقالَ ابنُ بَرِّي: قالَ بعضُهم: إِنَّه لا يقالُ إِلَّا عَرْمَةٌ، والصَّحِيحُ عَرَمَةٌ بدَليلِ جَمْعِهم له على عَرَمٍ، فأَمَّا حَلْقَةٌ وحَلَقٌ فشاذٌّ ولا يقاسُ عليه، وأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ:
تَدُقُّ مَعْزَاءَ الطَّريقِ الفازِرِ *** دَقَّ الدِّياسِ عَرَمَ الْأَنادِرِ
وِالعَرَمَةُ: مُجْتَمَعُ الرَّمْلِ، نَقَلَه الجَوْهرِيُّ. وأَنْشَد ابنُ بَرِّي:
حاذَرْنَ رَمْلَ أَيْلَةَ الدَّهاسا
وِبَطْنَ لُبْنى بَلَدًا حِرْماسا *** وِالعَرَماتِ دُسْتُها دِياسا
وِالعَرَمَةُ: أَرضٌ صُلْبَةٌ إِلى جَنْبِ الصَّمَّانِ، قالَهُ ابنُ الأَعْرَابيِّ، وأَنْشَدَ لرُؤْبَة:
وِعارِض العِرْض وأَعْناق العَرَمْ
وقالَ الأَزْهرِيُّ: تُناخِمُ الدَّهناءَ ويُقابِلُها عارِضُ اليَمامَةِ، قالَ: وقد نَزلْتَ بها.
وِالعَرِمَةُ، كفَرِحَةٍ: سُدُّ يَعْتَرَضُ به الوادِي، الجمع: عَرِمٌ، ككَتِفٍ، أو هو جَمْعٌ بلا واحِدٍ.
وفي الصِّحاحِ: العَرِمُ المُسَنَّاة لا واحِدَ لها من لفْظِها، ويقالُ: واحِدُها عَرِمَةٌ، أَنْشَدَ بنُ بَرِّي للجَعْدِيّ:
مِنْ سَبَأِ الحاضِرِينَ مَأْرِبَ إِذْ *** شَرَّدَ مِنْ دُون سَيْلِهِ العَرِما
أَو العَرِمُ هو، صَوابُه هي، الأَحْباسُ تُبْنى في أَوْساطِ الأَوْدِيَةِ، نَقَلَه أَبو حنيفَةَ.
وِقيلَ: العَرِمُ الجُرَذُ الذَّكَرُ وهو الخُلْدُ، قالَهُ الأَزْهرِيُّ.
وِقيلَ: المَطَرُ الشَّديدُ الذي لا يُطاقُ.
وِقيلَ: اسمُ وادٍ باليَمَنِ، نَقَلَه الأَزْهرِيُّ. وبكُلٍّ فُسِّرَ قولُه تعالَى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ} سَيْلَ الْعَرِمِ، قيلَ: أَضَافَهُ إِلى المُسَنَّاة أَو السُّدِّ أَو الفأْرِ الذي بَثَق السِّكْرَ عليهم.
قالَ الرَّاغِبُ: ونسبَ إِليه السَّيْل من حيثُ أَنَّه هو الذي ثَقَبَ المُسَنَّاة.
قالَ الأَزْهرِيُّ: وله قصَّةٌ وذلِكَ أَنَّ قَوْمَ سَبَأٍ كانوا في نِعْمةٍ وجِنانٍ كَثيرَةٍ، وكانتِ المَرْأَةُ منهم تَخْرُجُ وعلى رأْسِها الزَّبيلُ فَتَعْتَمِلُ بيَدَيْها وتسيرُ بينَ ظَهْرانَي الشَّجَر المُثْمِرِ فيَسْقُطُ في زَبيلِها ما تَحْتاجُ إِليه مِن ثمارِ الشَّجَرِ فلم يَشْكُروا نِعْمَة اللهِ فبَعَثَ عليهم جُرَذًا، وكان لهم سِكْرٌ فيه أَبوابٌ يَفْتَحونَ ما يَحْتاجونَ إِليه مِن الماءِ فثَقَبه ذلِكَ الجُرَذُ حتى بَثَقَ عليهم السِّكْر فغَرَّقَ جِنانَهم.
وِالعَرَمُ، بالتَّحريكِ: اللَّحْمُ، عن الفرَّاءِ يقالُ: إِن جَزُورَكم لَطَيِّبُ العَرَمةِ؛ أَي اللّحْمِ.
وِالعُرْمانُ، بالضمِّ: الأُكَرُ، واحِدُها عَرَمٌ، كذا في النسخِ، والصَّوابُ: عَرِيمٌ وِأَعْرَمُ، واقْتَصَرَ الأَزْهرِيُّ على الأَخيرِ. وبه فَسَّرَ بعضٌ حدِيْثَ أَقْوالِ شَنُوءَةَ: «ما كانَ لهم مِن مُلْك وِعُرْمانٍ».
وِقالَ ابنُ الأَعْرابيِّ: عَرْمَى واللهِ لأَفْعَلَنَّ ذلِكَ، وحَرْمَى واللهِ، كِلاهُما لُغَةٌ في أَما واللهِ، وأَنْشَدَ:
عَرْمى وجَدِّكَ لو وَجَدْتَ لَهم
وِعارِمَةُ: أَرْضٌ معروف مَعْروفَةٌ، وأَنْشَدَ الأَزْهرِيُّ للرَّاعي:
أَلم تَسْأَلْ بعارِمَة الدِّيارا *** عن الحَيِّ المُفارِقِ أَيْن سارَا؟
وِعَرْمانُ: أَبو قَبيلَةٍ، نَقَلَه ابنُ سِيْدَه، وهو عَرْمانُ بنُ عَمْرِو بنِ الأزْدِ.
وِالعَريمُ: الدَّاهِيَةُ لشِدَّتِها.
وِسَمَّوْا عارِمًا وِعُرامًا، كغُرابٍ وحَمامٍ، منهم: عارِمُ بنُ الفَضْلِ شيخُ البُخارِي، وِعُرامُ، بالضمِّ، في نَسَبِ الخالد بين الشاعرين في زَمَنِ سيفِ الدَّولَةِ.
وِالعَرْمُ، بالفتحِ: الدَّسَمُ. وِأَيْضًا: بَقِيَّةُ القِدْرِ، وقيلَ: وَسَخُها، وبه سُمِّي الأَقْلَفُ أَعْرَم.
وِعُرَيْمَةُ، كجُهَيْنَةَ: رَمْلَةٌ لبَني فَزارَةَ، وأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ لبِشْرِ بنِ أَبي خازِمٍ.
قالَ ابنُ بَرِّي: هو للنابغَةِ.
قلْتُ: وقد تَقَدَّمَ للجَوْهرِيّ في «س ح م» للنَّابغَةِ وهو الصَّوابُ:
إِنَّ العُرَيْمَةَ مانِعٌ أَرْماحَنا *** ما كان من سَحَمٍ بها وصَفارِ
ويُرْوَى: الدُّمَيْنَة، وهي ماءَةٌ لبَني فَزارَةَ.
وِالعارِمُ: فَرَسُ المُنْذِر بنِ الأَعْلَم الخَوْلانيّ، وله يقولُ:
جال مِن العارِمِ في ماقط *** يغشى وأغشيه صدُورَ العَوالِ
أَقِية في الحَرْبِ بنفْسِي كما *** يَقِيني المَوْتَ تحْتَ الظِّلالِ
كذا في كتابِ الخَيْلِ لابنِ الكَلْبي.
وِعَوارِمُ: هَضَبٌ، وِقيلَ: ماءٌ.
وقالَ نَصْر: جَبَلٌ لبَنِي أَبي بكْرِ بنِ كِلابٍ.
وِسِجْنُ عارِمٍ: حَبَسَ فيه عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيْرِ مُحَمَّدَ بنَ الحَنَفِيَّةَ مخْرَجَ المُخْتارِ بنِ عبيدٍ الثَّقفيّ بالكُوفَةِ خَوْفًا مِن خُروجِهِ معه، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي لكثيِّرٍ:
تُحَدِّثُ مَنْ لاقَيْت أَنَّكَ عائِذٌ *** بل العائذُ المَظْلومُ في سِجْنِ عارِمِ
وِالتَّعريمُ: الخَلْطُ.
وِالعَرَمْرَمُ: الشَّديدُ مِن كلِّ شيءٍ.
وِالعَرَمْرَمُ: الجَيْشُ الكَثيرُ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
ويقالُ: هو الكَثيرُ مِن كلِّ شيءٍ.
* وممّا يُسْتدركُ عليه:
العَرَمَةُ، محرَّكَةً: جَمْعُ عارِمٍ. يقالُ: غِلمانٌ عَقَقةٌ عَرَمةٌ.
واللَّيَالي العُرَّمُ: الشَّديداتُ البَرْدِ، قالَ:
وِليلةٍ من اللَّيالي العُرَّمِ *** بينَ الذِّراعَينِ وبين المِرْزَمِ
تَهُمُّ فيها العَنْزُ بالتَّكَلُّمِ
يعْنِي مِن شِدَّةِ بَرْدِها.
وِاعْتِرامُ الفِتَنِ: اشْتِدادُها.
وِالمُعارَمَةُ: المُخاصَمَةُ والمُفاتَنَةُ.
وِالعارِماتُ: الخَبِيثاتُ.
ورَجُلٌ عارِمٌ: خَبِيثٌ شِرِّيرٌ.
وقالَ الفرَّاءُ: العُرامِيُّ مِن العُرامِ، وهو الجَهْلُ.
وِاعْتَرَمَ الصَّبيُّ ثَدْي أمِّه: مَصَّه.
وِاعْتَرَمَتْ هِيَ: تَبَغَّتْ من يَعْرُمُها، قالَ:
وِلا تُلْقَيَنَّ كأُمِّ الغُلا *** مِ إِنْ تَجِدْ عارِمًا تَعْتَرِمْ
يقولُ: إِنْ لم تَجِدْ من تُرْضِعُه دَرَّتْ هي فَحَلَبَتْ ثَدْيَها، ورُبَّما رَضَعَتْه فمَجَّتْه مِنْ فيها.
وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: إِنَّما يقالُ هذا للمُتكلِّفِ ما ليسَ مِن شأْنِهِ.
وقالَ الأَزْهرِيُّ: مَعْناهُ لا تكنْ كمَنْ يَهْجُو نَفْسَه إِذا لم يَجِدْ من يَهْجُوه.
وِالعُرْمَةُ، بالضَّمِّ: الْأَنْبارُ مِن الحِنْطةِ والشَّعيرِ.
وِالعَرَمَةُ، محرَّكةً: المُسَنَّاةُ، لُغَةٌ في العَرِمَةِ، عن كُراعٍ.
وِالعُرامُ، بالضمِّ: وَسَخُ القِدْرِ.
وِالعُرْمَةُ، بالضَّمِّ: بَيْضَةُ السِّلاحِ.
وِالعُرْمانُ: المُزارِعُ، واحِدُها عَرِيمٌ وِأَعْرَمُ، والأَوَّلُ أَسْوَغُ في القِياسِ، لأَنَّ فُعْلانًا لا يجمعُ عليه أَفْعَلُ إِلَّا صِفةً، وبه فُسِّرَ حدِيْثُ أَقْوالِ شَنُوءَة.
وعزٌّ عَرَمْرَمٌ: كَثيرٌ، قالَ:
أَدَارًا بأَجْمادِ النَّعامِ عَهِدْتُها *** بها نَعَمًا حَوْمًا وعِزًّا عَرَمْرَمًا
ورجُلٌ عَرَمْرَمٌ: شديدُ العُجْمةِ، عن كُراعٍ.
وِالعَرِمُ، ككَتِفٍ: ما يُرْفَعُ حَوْلَ الدَّبَرَةِ، وهو المِعْذارُ.
وِالعَرَمَةُ، محرَّكةً: جُثْوَةٌ مِن دَمالٍ، قالَهُ بعضُ النَّمِريِّين.
وأَبو عُرامٍ، كغُرابٍ: كُنْيةُ كَثيبٍ بالجِفارِ.
وِعَرَّامُ بنُ عبدِ اللهِ، كشَدَّادٍ: مُحَدِّثٌ أَنْدَلُسِيٌّ، تُوفِي سَنَة مائَتَيْن وسِتّ وخَمْسِين.
وِعَرِمٌ، ككَتِفٍ: وادٍ بنَجْدٍ من يَنْبع حتى تصكَّه البركان دون الجار، قالَهُ نَصْر.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
134-تاج العروس (بطن)
[بطن]: البَطْنُ مِن الإنْسانِ وسائِرِ الحيوانِ مَعروفٌ خِلافُ الظَّهْرِ، مُذَكَّرٌ. وحَكَى أَبو حاتِمٍ عن أَبي عبيدَةَ: أَنْ تأْنِيثَه لُغَةٌ كما في الصِّحاحِ، فاقْتِصار المصنِّفِ على التَّذْكيرِ تَقْصيرٌ.قالَ ابنُ بَرِّي: شاهِدُ التَّذْكيرِ فيه قَوْلُ ميَّةَ بنتِ ضِرارٍ:
يَطْوي إذا ما الشُّحُّ أَبْهَمَ قُفْلَه *** بَطْنًا من الزادِ الخبيثِ خَمِيصا
وحكَى سِيْبَوَيْه قَوْلَ العَرَبِ: ضُرِبَ عبدُ اللهِ بَطْنُه وظهْرُه، وضُرِبَ زيدٌ البطنُ والظهْرُ، وقالَ: يَجوزُ فيه الرَّفْعُ والنَّصْبُ، وقد ذَكَرْناه في «ظ هـ ر».
الجمع: أَبْطُنٌ وبُطونٌ؛ قالَ الأَزهرِيُّ: وهي ثلاثَةُ أبْطُنٍ إلى العَشْرِ، وبُطونٌ كثيرَةٌ لمَا فَوْقَ العَشْرِ؛ وبُطْنانٌ، بالضمِّ، كعَبْدٍ وعُبْدانٍ.
ومِن المجازِ: البَطْنُ دونَ القَبيلةِ؛ كما في الصِّحاحِ؛ أَو دونَ الفَخِذِ وفَوْقَ العِمارَةِ، مُذَكَّر. وهو قَوْلُ النَّسَّابَة. ومَرَّ عن الجوْهرِيّ في الرَّاء: أَوَّل العَشِيرَة الشّعْبُ ثم القَبيلَةُ ثم الفَصِيلَةُ ثم العِمارَةُ ثم البَطْنُ ثم الفَخِذُ.
قالَ ابنُ الأَثيرِ: وقسَّمَها الزُّبَيْرُ بنُ بكَّارٍ في كتابِ النَّسَبِ إلى شعبٍ ثم قَبيلَةٍ ثم عِمَارَةٍ ثم بَطْنٍ ثم فخِذٍ ثم فَصِيلَةٍ؛ وزادَ غيرُهُ قَبْل الشعبِ الجذمَ، وبَعْد الفَصِيلَة العَشِيرَة؛ ومنهم مَنْ زادَ بَعْدَ العَشِيرَة الأُسْرة.
* قلْتُ: ومنهم مَنْ زادَ بَعْدَ الفَصِيلَة الرَّهْطِ. وقدمَ البَحث في ذلك مُفَصّلًا في شعبٍ وفي عشر وفي قبل.
الجمع: أَبْطُنٌ وبُطونٌ؛ وقَوْل الشَّاعِرِ:
وإنَّ كِلابًا هذه عَشْرُ أَبْطُنٍ *** وأَنتَ بريءٌ من قَبائِلِها العَشْرِ
أَنَّثَ على معْنَى القَبيلَةِ، وأَبانَ ذلكَ بقوْلِه مِن قَبائِلِها العَشْرِ.
والبَطْنُ: جَوْفُ كلِّ شيءٍ، والجَمْعُ كالجَمْعِ.
وفي صفَةِ القُرآنِ العَزيزِ: لكلِّ آيَةٍ منها ظَهْرٌ وبَطْنٌ؛ أَرادَ بالظَّهْر ما ظَهَرَ بيانُه، وبالبَطْن ما احْتِيج إلى تَفْسِيرِه.
ومِن المَجازِ: البَطْنُ الشَّقُّ الأَطْولُ من الرِّيشِ، الجمع: بُطْنانٌ، كظَهْرٍ وظُهْرانٍ وعَبْدٍ وعُبْدانٍ، وقيلَ: بُطْنانُ الريشِ ما كانَ تحْتَ العَسيبِ، وظُهْرانُه ما كانَ فَوْقَه، والعَسيبُ: قَضِيبُ الريشِ في وسَطِه؛ وقد ذُكِرَ ذلكَ في حَرْف الرَّاء.
والمُسَمَّى بالبَطْنِ عِشْرونَ مَوْضِعًا، يقالُ في كلِّ واحِدٍ بَطْنُ كذا.
والبَطِنُ، ككَتِفٍ: الأَشِرُ، وقيلَ: هو الأَشِرُ المُتَمَوِّلُ، وهو مجازٌ.
وقيلَ: هو مَن هَمُّه بَطْنُه. يقالُ: رجُلٌ بَطِنٌ أَي لا هَمَّ له إلَّا بَطْنُه.
أَو هو الرَّغيبُ الذي لا يَنْتَهي نَفْسُه مِن الأَكْلِ.
وقيلَ: هو الذي لا يَزالُ عَظِيمَ البَطْنِ مِن كثْرَةِ الأَكْلِ، كالمِبْطانِ، وهو الذي لا يَهُمُّه إلَّا بَطْنُه؛ ومنه حدِيثُ عليِّ، كَرَّمَ اللهُ وَجْهه: «أَبِيتُ مِبْطانًا وحَوْلي بُطونٌ غَرْثى».
ورَجُلٌ بَطِينٌ: عَظيمُ البَطْنِ مِن كثْرَةِ الأَكْلِ.
وفي صفَةِ عليِّ، رضِيَ اللهُ تعالى عنه: «الأَنزَعُ البَطِينُ»؛ أَي العَظيمُ البَطْنِ، وهو مدْحٌ.
وقد بَطُنَ، ككَرُمَ، بَطانَةً.
ورَجُلٌ مُبَطَّنٌ، كمعَظَّمٍ: ضامِرُ البَطْنِ خَمِيصُه، وهذا على السَّلْبِ كأَنَّه سُلِبَ بَطْنَه فأُعْدِمَه، وهي مُبَطَّنَةٌ من الشّبعِ.
ورجُلٌ مَبْطونٌ: يَشْتَكِيه؛ وأَنْشَدَ الجوْهرِيُّ لذي الرُّمَّة:
رَخِيمات الكلامِ مُبَطَّنات *** جَواعِل في البُرَى قَصَبًا خِدَالا
وقد بُطِنَ، كعُنِيَ.
وفي الحدِيثِ: «المَبْطُونُ شَهِيدٌ»؛ أَي الذي يَموتُ بمَرَضِ بَطْنه كالاسْتِسْقاءِ ونحْوه. وفي حدِيثٍ آخَر: «أنَّ امْرأَةً ماتَتْ في بَطَن»، أرادَ به هنا النِّفَاسَ.
والبَطَنُ، محرّكةً: داءُ البَطْنِ، وهو أَن يَعْظمَ من الشِّبَعِ، وقد بَطِنَ الرَّجُل كفَرِحَ، وأَنْشَدَ الجوْهرِيُّ للقُلاخِ:
ولم تَضَعْ أَوْلادَها من البَطَنْ *** ولم تُصِبْه نَعْسةٌ على غَدَنْ
وبَطَنَه بَطْنًا؛ وقالَ قَوْمٌ: بطنه؛ وبَطَنَ له مثْلُ شَكَرَه وشَكَرَ له ونَصَحَه ونَصَحَ له؛ كذا في الصِّحاحِ؛ وزادَ غيرُهُ: بَطَّنَه تَبْطِينًا: إذا ضَرَبَ بَطْنَهُ؛ وأَنْشَدَ الجوْهرِيُّ:
إذا ضَرَبْتَ مُوقَرًا فابْطُنْ لهْ *** تحتَ قُصَيْراهُ ودُون الجُلَّهْ
فإنَّ أَنْ تَبْطُنَهُ خَيرٌ لَهْ
قالَ ابنُ بَرِّي: أي إذا ضَرَبْتَ بَعيرًا مُوقَرًا بحِمْلِه فاضْرِبْه في مَوْضِعٍ لا يَضُرُّ به الضَّرْبُ، فإنَّ ضرْبَه في ذلكَ المَوْضِعِ خَيْرٌ لَه.
وبَطَنَ الشَّيءُ: خَفِيَ فهو باطِنٌ، خِلافُ الظاهِرِ، الجمع: بَواطِنُ.
ومِن المجازِ: بَطَنَ خَبَرَه: إذا عَلِمَه. ويقالُ: بَطَنَ الأَمْرَ إذا عَرَفَ باطِنَه.
ومِن المجازِ: بَطَنَ مِن فلانٍ، وفي المُحْكَم والصِّحاح: بفُلانٍ، إذا صارَ من خواصِّهِ داخِلًا في أَمْرِه؛ وقيلَ: بَطَنَ به: دَخَلَ في أَمْرِه، يَبْطُنُ به بُطونًا وبطانَةً.
ومِن المجازِ: اسْتَبْطَنَ أَمْرَهُ: إذا وقَفَ على دَخْلَتِه؛ أَي باطِنِه.
وفي الأساسِ: اسْتَبْطَنَه: دَخَلَ بَطْنَه، كما يَسْتَبْطِنُ العِرْقُ اللحْمَ.
واسْتَبْطَنَ أَمْرَه: عَرَفَ باطِنَه.
والبِطانَةُ، بالكسْرِ: السَّريرَةُ يسُّرها الرَّجُلُ. يقالُ: هو ذُو بِطانَةٍ بفُلانٍ؛ أَي ذُو علْمٍ بدَاخلَةِ أَمْرِه.
والبِطانَةُ: وَسَطُ الكورَةِ، هكذا في النُّسخِ، والصَّوابُ: وباطِنَةُ الكُورَةِ وَسَطُها وما تَنَحَّى منها.
والبِطانَةُ: الصَّاحِبُ للسّرِّ الذي يُشاوِرُ في الأَحْوالِ.
وفي الحدِيثِ: «ما بَعَثَ اللهُ مِن نبيِّ ولا اسْتَخْلَفَ من خَلِيفَةٍ إلَّا كانتْ له بِطَانتانِ، بِطَانَة تأْمرُه بالخيْرِ وتحضُّه عليه، وبِطانَة تأْمرُه بالشَّرِّ وتحثُّه عليه».
وفي الصِّحاحِ: البِطانَةُ: الوَلِيجةُ، وهو الذي يختص بالولوجِ والاطّلاعِ على باطِنِ الأَمْرِ، قالَ اللهُ تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ}، أي مُخْتَصَّا بكم يَسْتَبْطنُ أَمْرَكم.
قالَ الرَّاغبُ: وهو مُسْتعارٌ مِن بِطانَةِ الثَّوْبِ بدَليلِ قَوْلهم: لبسْتُ فلانًا إذا اخْتَصَصْته. وفلانٌ شِعارِي ودِثارِي.
وقالَ الزجَّاجُ: البِطانَةُ: الدُّخَلاءُ الذين يُنْبَسطُ إليهم ويُسْتَبْطَنونَ؛ يقالُ: فلانٌ بِطانَةٌ لفلانٍ، أي مُداخِلٌ له مُؤَانِسٌ، والمعْنَى أنَّ المُؤْمِنِينَ نُهوا أنْ يَتَّخِذوا المُنافِقِين خاصَّتَهم وأن يُفْضُوا إليهم أَسْرارَهم.
وفي الأساسِ: هو بِطَانَتِي، وهُم بِطانَتِي وأَهْلُ بِطَانَتِي.
والبِطانَةُ من الثَّوْبِ: خِلافُ ظهارَتِه؛ وقد بَطَّنَ الثَّوْبَ تَبْطِينًا وأَبْطَنَهُ: جَعَلَ له بِطانَةً، ولِحافٌ مُبَطَّنٌ؛ والجَمْعُ بَطائِنُ؛ قالَ اللهُ تعالى: {بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}.
وبطانَةُ: موضع خارجَ المَدينَةِ.
وقالَ نَصْر: بطانَةُ: بِئْرٌ بجنبِ قرايين وهُما جَبَلان بينَ رَبيعَةَ والأضْبَط لبَني كِلابٍ.
والباطِنُ: داخِلُ كلِّ شَيءٍ.
والباطِنُ مِن الأرْضِ: ما غَمَضَ منها واطْمَأَنَّ، كالبَطْنِ، الجمع: في القليلِ أَبْطِنَةٌ وهو نادِرٌ، والكَثير بُطْنانٌ.
وقالَ أبو حنيفَةَ: البُطْنانُ مِن الأَرضِ واحِدٌ كالبَطْن.
والباطِنُ: مَسِيلُ الماءِ في الغِلَظِ، الجمع: بُطْنانٌ؛ ومنه الحدِيثُ: «تَرْوَى به القِيعانُ وتَسِيلُ به البُطْنان».
وقالَ ابنُ شُمَيْل: بُطْنانُ الأَرضِ: ما تَوَطَّأَ في بُطونِ الأرض سَهْلِها وحَزْنِها ورِياضِها، وهي قرارُ الماءِ ومُسْتَنْقَعُه، وهي البَواطِنُ والبُطونُ.
وبِطانُ، ككِتابٍ: عَنْزُ سَوْءٍ.
وأَيْضًا: اسمُ فَرَسٍ وهو أَبو البَطِينِ، كأَمِيرٍ، وكِلاهُما لمحمدِ بنِ الوَلِيدِ بنِ عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوان، وهذا نسبه البِطانُ بنُ البَطِين بنِ الحَرُونِ بنِ الخززِ بنِ الوثيمي بنِ أَعْوجَ، والقتادي أَخُو البِطان، وكان الحَرُون هذا اشْتَراهُ مُسْلمُ بنُ عَمْرو الباهِلِيُّ مِن رَجُلٍ مِن بَني هِلالٍ بألْفِ دِينارٍ واسْتَنْجبها البَطِين وسَبَقَ بها الناس دَهْرًا، فلمَّا ماتَ مُسْلم أَخَذَ الحجَّاجُ البَطِين مِن قتيبَةَ بنِ مُسْلم فبَعَثَ به إلى عبْدِ المَلِكِ، فوَهَبَه عبدُ المَلِكِ لابْنِه الوَلِيدِ فسَبَقَ الناسَ عليه، ثم اسْتَنْجَبَه فهو أَبو الزائِدِ، والزَّائِدُ أَبو أَشْقر مَرْوان؛ كذا في أَنْسابِ الخيْلِ لابنِ الكَلْبي.
والبِطانُ: حِزامُ القَتَبِ الذي يُجْعَل تحْتَ بَطْن البَعيرِ.
يقالُ: الْتَقَتْ حَلْقَتا البِطان للأَمْرِ إذا اشْتَدَّ، وهو بمنْزلَةِ التَّصْديرِ للرَّحْلِ؛ كما في الصِّحاحِ؛ الجمع: أَبْطِنَةٌ وبُطْنٌ، بالضمِّ.
وبِطانُ: موضع بينَ الشُّقوقِ والثَّعْلَبِيَّةِ في طريقِ الكُوفَةِ؛ وأَنْشَدَ نَصْر:
أَقولُ لصاحِبيَّ من التأَسّي *** وقد بلغَتْ نفوسُهُمُ الحلوقا:
إذا بلغَ المطيُّ بنا بِطانًا *** وجُزْنا الثعلبيةَ والشُّقُوقا
وخَلَّفنا زُبالة ثم رُحنا *** فَقَدْ وأَبيكَ خَلَّفْنا الطريقا
وبِطانُ: موضع لهُذَيْلٍ.
وأَيْضًا: بلد ببِلادِ اليَمَنِ؛ ولو قالَ باليَمَنِ لكانَ أَخْصر وكأَنَّه سَبْقُ قلَمٍ.
وأَبْطَنَ البعيرَ: شَدَّ بِطانَهُ؛ نَقَلَه الجوْهرِيُّ: قالَ ذو الرُّمَّة يَصِفُ الظليم:
أَو مُقْحَم أَضْعَفَ الإبْطانَ حادِجُه *** بالأَمسِ فاسْتَأْخَرَ العِدْلانِ والقَتَبُ
شَبَّه اسْتِرْخاء العِكْمَيْن باسْتِرْخاء جَناحَيِ الظَّليم.
كبَطَّنَهُ يُبَطّنُه بَطنًا.
قالَ الأَزْهرِيُّ: وهي لُغَةٌ.
وقالَ ابنُ الأَعْرابيِّ: يقالُ أَبْطَنْتُ البَعيرَ ولا يقالُ بَطَنْتُهُ بغيرِ أَلِفٍ.
وقالَ أَبو الهَيْثم: لا يَجوزُ بَطَنْتُ البَعيرَ، واحْتَج بقوْلِ ذي الرُّمَّة.
ووَقَعَ في نسخِ القاموسِ: كبَطَّنَه مُشَدّدًا، وهو غَلَطٌ.
ومِن المجازِ: رجُلٌ عَرِيضُ البِطانِ: أي رَخِيُّ البالِ.
وقالَ أَبو عبيدٍ: يقالُ: ماتَ فلانٌ وهو عَرِيضُ البِطانِ، أي مالُه جَمٌّ لم يَذْهَبْ منه شيءٌ.
والبِطْنَةُ، بالكسْرِ: البَطَرُ والأَشَرُ، ومنه البَطِنُ، ككَتِفٍ، للأَشَرِ البَطِرِ، وقد تَقَدَّمَ، وقد بَطِنَ كفَرِحَ.
والبِطْنَةُ: الكِظَّةُ، أي الامْتِلاءُ الشَّديدُ مِن الطَّعامِ، وقد بَطِنَ بالكسْرِ.
وفي المَثَلِ: البِطْنَةُ تُذْهِبُ الفِطْنَةَ.
ويقالُ: ليسَ للبِطْنَةِ خَيْرٌ من خَمْصَةٍ تَتْبَعُها؛ أَرادَ بالخَمْصَةِ الجوعَ؛ وقالَ الشاعِرُ:
يا بَني المُنْذِرِ بن عَبْدانَ واليِطْ *** نةُ ممَّا تُسَفِّهُ الأَحلاما
والبَطينُ: البَعيدُ. يقالُ: شَأْوٌ بَطِينٌ: أي بَعِيدٌ واسِعٌ؛ قالَ:
وبَصبَصنَ بينَ أَداني الغَضَى *** وبين عُنَيزةَ شَأْوًا بَطِينا
وفي حدِيثِ سُلَيْمان بنِ صُرَد: «الشَّوْطُ بَطِينٌ»، أي بَعِيدٌ. وفي سَجَعاتِ الأَدِيبِ الحَرِيريّ، رحِمَه اللهُ تعالى: فلم أَعْلَم أنَّ الشَّوْطَ بَطِينٌ وأنَّ الشيخَ شُوَيْطِين.
والبَطِينُ: فَرَسُ محمدِ بنِ الولِيدِ بنِ عبدِ المَلِكِ، وقد ذُكِرَ قَرِيبًا فهو تِكْرارٌ.
والبَطِينُ: لَقَبُ خارِجِيِّ؛ نَقَلَهُ ابنُ سِيدَه.
وأَيضًا: لَقَبُ مُسْلِمِ بنِ أَبي عِمْرانَ؛ صوابُه: مُسْلِم ابنِ عِمْران، وهو أَبو عبدِ اللهِ الكُوفيّ؛ المُحدِّثِ الجَلِيلِ عن أَبي وائِلٍ وعليّ بنِ الحُسَيْن وأَبي عبْدِ الرّحمنِ السّلَميّ، وعنه الأَعْمشُ وابنُ عَوْفٍ وغيرُهُم.
والبُطَيْنُ، كزُبَيْرٍ: شاعِرٌ حمصيٌّ.
والبُطَيْنُ: مَنْزِلٌ للقَمَرِ بينَ الشرَطَيْن والثُّرَيَّا، جاءَ مصغَّرًا عن العَرَبِ، وهو ثلاثَةُ كواكِبَ صِغارٌ مُسْتَوِيةُ التَّثْليثِ، كأَنَّها أَثافِيُّ، وهو بَطْنُ الحَمَلِ والشَّرَطان قرْناهُ، والثُّرَيَّا أَليتُه؛ والعَرَبُ تَزْعُمُ أنَّ البُطَيْنَ لا نَوْءَ له إلَّا الريحُ.
وذُو البُطَيْنِ: لَقَبُ أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ، رضِيَ اللهُ تعالى عنه. قالَ الحافِظُ، رحِمَه اللهُ تعالى: وهو مَذْكورٌ بذلِكَ في كتابِ الإيمانِ في صَحِيحِ مُسْلم.
والمُبَطَّنُ، كمُعَظَّمٍ: الأَبْيَضُ الظَّهْرِ والبَطْنِ مِن الخَيْلِ وسائِر ما كانَ، كأَنَّه بطنَ بثَوْبٍ أَبْيَض.
والباطِنَةُ: قرية بساحِلِ بَحْرِ عُمَانَ.
ومِن المجازِ: الباطِنَةُ مِن البَصْرَةِ والكوفةِ: مُجْتَمَعُ الدُّورِ والأَسْواقِ في قَصَبَتِها؛ والضَّاحِيَةُ منهما: ما تَنَحَّى عن المساكِن وكان بارِزًا، إنَّما أَوْرَدَ الضاحِيَةَ هنا اسْتِطْرادًا، وسَيَأْتي في مَوْضِعِه.
وذُو البَطْنِ: كِنايَةٌ عن الجَعْسِ، وهو الرَّجِيعُ.
يقالُ: أَلْقَى الرَّجُل ذا بَطْنه.
وألْقَتْ المرْأَةُ ذَا بَطْنِها: أي وَلَدَتْ.
وأَلْقَتِ الدَّجاجَةُ ذا بَطْنِها: يعْنِي مَزْقَها إذا باضَتْ.
ومِن الأَمْثالِ: الذِّئْبُ يُغْبَطُ بذِي بَطْنِهِ.
قالَ أَبو عُبَيْدَةَ: وذلكَ لأَنَّه لا يُظَنُّ به الجوعُ أَبَدًا، وإنَّما تُظَنُّ به البِطْنَةُ، أي الشِّبَع، لعَدْوِهِ على النَّاسِ والماشِيَةِ، ورُبَّما يكونُ مَجْهودًا مِن الجُوعِ؛ وأَنْشَدَ:
ومَنْ يَسْكُنِ البَحْرَيْنِ يَعْظُمْ طِحالُه *** ويُغْبَطُ بما في بَطْنِه وهْو جائِعُ
وفي حدِيثِ النَّخَعي، رحِمَه اللهُ: «أنَّه كانَ يُبَطِّنُ لِحْيَتَه ويأْخُذُ من جَوانِبِها».
قالَ شَمِرٌ: تَبْطينُ اللِّحْيَةِ: أنْ لا يُؤْخَذَ، كذا في النُّسخِ، والصَّوابُ: أنْ يُؤْخَذَ، ممَّا تَحْتَ الذَّقَنِ والحَنَكِ؛ كذا في النِّهايَةِ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
البِطانُ، بالكسْرِ: جَمْعُ البَطِين، ومنه الحدِيثُ: «وتَرُوحُ بِطانًا»، أي ممتَلِئَةَ البُطونِ.
والمِبْطانُ: العَظيمُ البَطْنِ.
وقالوا: كِيسٌ بَطِينٌ: أي مَلآنُ، على المَثَلِ؛ أَنْشَدَ ثَعْلَب لبعضِ اللُّصوصِ:
فأَصْدَرْتُ منها عَيْبةً ذاتَ حُلَّةٍ *** وكِيسُ أَبي الجارُودِ غَيْرُ بَطِينِ
وقَوْل الرَّاعِي يَصِفُ إبلًا وحالِبَها:
إذا سَرَحَتْ من مَبْرَكٍ نامَ خلْفَها *** بمَيْثاءَ مِبْطانُ الضُّحى غَيْرَ أَرْوَعا
يعْنِي راعِيًا يُبادِرُ الصَّبوح فيشْرَبُ حتى يَميلَ مِن اللَّبَنِ.
والبَطَنُ: داءُ البَطْنِ؛ ومنه: ماتَ فلانٌ بالبَطَنِ، وقد بَطَنَه الداءُ بُطونًا: دَخَلَهُ.
وبَطَنَتْ به الحُمَّى: أَثَرَتْ في باطِنِه.
واسْتَبْطَنَ الفَرَسَ: طَلَبَ ما في بَطْنِها مِن النِّتاجِ.
ونَثَرَتِ المَرْأَةُ بَطْنَها ولدًا: كَثُرَ وَلدُها.
والبَطِنَةُ، كفَرِحَةٍ: الدّبُرُ.
ومِن أَسْماءِ اللهِ، عَزَّ وجلَّ: الْباطِنُ، أي عالِمُ السرِّ والخفيَّاتِ؛ وقيلَ: هو المُحْتَجِبُ عن أَبْصارِ الخلائِقِ وأَوْهامِهم فلا يُدْرِكُه بَصَر ولا يُحيطُ به وَهْمٌ.
وأَبْطَنَه: اتَّخَذَه بِطانةً، أي خاصَّةً.
وجاءَ أَهْلُ البِطانَةِ يَضِجُّون؛ وهو الخارجُ مِن المَدِينَةِ.
وبَطْنُ الرَّاحةِ مَعْروفٌ.
وباطِنُ الخُفِّ: الذي تَلِيه الرجْلُ.
ويقالُ: باطِنُ الإبْطِ، ولا يُقالُ: بَطْنُ الإبْطِ.
وأَفْرَشَنِي ظَهْرَ أَمْرِه وبَطْنَه، أي سِرَّه وعَلانِيَتَه.
وبَطَنَ الوادِي بَطنًا: دَخَلَهُ، كتَبَطَّنَه. وقيلَ: تَبَطَّنَ الوادِي: جَوَّلَ فيه.
وبُطْنانُ الجنَّةِ: وسَطُها.
وبُطْنانُ العَرْشِ: أَصْلُه.
والبُطْنُ، بالضمِّ: مَسايلُ الماءِ في الغَلْظِ، واحِدُها باطِنٌ.
وبَطِناتُ الوادِي، كفَرِحَاتٍ: مَحاجُّه؛ قالَ مُلَيْح:
مُنِيرٌ تَجُوزُ العِيْسُ من بَطِناتِه *** نَوَى مثلَ أَنْواءِ الرَّضيخِ المُفَلَّقِ
وأَبْطَنَ الرَّجُلُ كَشْحَه سَيْفَه وبسَيْفِه: جَعَلَه بطانتَه. وأَبْطَنَ السَّيفَ كَشْحَه: جَعَلَه تحتَ خَضْرِه.
وقالَ أَبو عبيدٍ: في باطِنِ وظِيفَيِ الفَرَسِ أَبْطَنانِ، وهُما عِرْقانِ استبطنا الذِّراعَ حتى انْغَمَسا في عَصَبِ الوَظِيفِ.
وقالَ الجَوْهرِيُّ: الأَبْطَنُ في ذِراعِ الفَرَسِ عِرْقٌ في باطِنِها، وهُما أَبْطَنانِ.
وماتَ فلانٌ ببِطْنَتِه ومالِهِ: إذا ماتَ ومالُه وافِرٌ ولم يُنْفِقْ منه شيئًا.
قالَ أَبو عبيدٍ: يُضْرَبُ هذا المَثَلُ في أَمْر الدِّيْن؛ أَي خَرَجَ مِن الدُّنيا سَلِيمًا لم يَثْلِمْ دينَه شيءٌ.
وتَبَطَّنَ الرَّجُلُ جارِيتَه: أَوْلَج ذَكَرَه فيها؛ وبه فُسِّر قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
كأنِّيَ لم أَرْكَبْ جَوادًا لِلَذَّةٍ *** ولم أَتَبَطَّنْ كاعِبًا ذاتَ خَلْخالِ
وقالَ شَمِرٌ: تَبَطَّنَها إذا باشَرَ بطنُه بطنَها.
وقالَ الجاحِظُ: ليسَ مِن الحيوانِ يتبطَّنُ طَروقَتَه غَيْرُ الإنْسانِ والتِّمْساحِ، والبَهائِمُ تأْتي إناثَها مِن وَرَائها والطَّيرُ تُلْزِق الدُّبُرَ بالدُّبُرِ.
ويقالُ: اسْتَبْطَنَ الفَحْلُ الشَّوْلَ إذا ضَرَبَها فلُقِحَتْ كلُّها كأَنَّه أَوْدَعَ نطْفَته بُطونَها.
واسْتَبْطَنَ الوادِي: جَوَّلَ فيه.
وابْتَطنْتُ الناقَةَ عشرةَ أَبْطُنٍ: أَي نَتَجْتُها عشْرَ مرَّاتٍ.
ورَجُلٌ بَطِينُ الكُرْزِ: إذا كانَ يَخْبَأُ زادَه في السَّفَرِ ويأْكُلُ زادَ صاحِبِهِ؛ قالَ رُؤْبَة يذمُّ رجُلًا:
أَو كُرَّزٌ يمشِي بَطِينَ الكُرْزِ
وباطَنْتُ صاحِبي: شَدَدْتُه.
وبَطْنُ مكَّةَ: أَشْرَف بُطونِ العَرَبِ.
وتَبَطَّنَ الكَلَأَ: تَوَسَّطَه.
وهو مُجرِّبٌ قد بَطَنَ الأُمُورَ: كأَنَّه ضرَبَ بُطُونَها عِرْفًا بحقائِقِها. ويقالُ: إذا اكْتَرَيْتَ فاشْتَرِطِ العِلَاوَةَ والبِطَانَةَ وهي ما يُجْعَلُ تحتَ العِكْمِ مِن نحو قِرْبَةٍ.
ونَزَتْ به البِطْنَةُ: أَي أَبْطَرَهُ الغِنَى.
وتَباطَرَ المَكانُ: تَبَاعَدَ.
ومنبج بطانة: قَرْيةٌ مِن أَعْمالِ قوص.
وكفر بُطَيْنَةَ، كجُهَيْنَةَ: قَرْيَةٌ مِن أَعْمالِ الغَربيَّة، وقد رأَيْتُها.
والباطِنِيَّةُ: فرْقَةٌ مِن أَهْلِ الأَهْواءِ.
وأَبو عيسَى عبدُ اللهِ بنُ أَحمدَ بنِ عيسَى البطائِنِيُّ: محدِّثٌ مَشْهورٌ بَغْدادِيٌّ عن الحَسَنِ بنِ عرفَةَ.
وبُطْنانُ، بالضمِّ: قَرْيةٌ بينَ حَلَبَ ومَنْبَج يُضافُ إليها وادِي نبراعا، وهو بُطْنانُ حَبيبٍ، ومنها: أَبو عليِّ الحُسَيْنُ بنُ محمدِ بنِ موسَى البُطْنانيُّ عن أَبي الولِيدِ الطيالسي.
والباطِنِيَّةُ: فرْقَةٌ مِن الخَوارِجِ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
135-تاج العروس (جن جنن جنجن)
[جنن]: جَنَّهُ اللَّيْلُ يَجُنُّه جَنًّا، وجَنَّ عليه كَذلِكَ، جَنًّا وجُنونًا، وكَذلِكَ أجَنَّهُ اللَّيْلُ: أي سَتَرَهُ، وهذا أصْلُ المَعْنَى. قالَ الرَّاغبُ: أصْلُ الجنّ السّترُ عن الحاسةِ؛ {فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا}.وقيلَ: جَنَّه: سَتَرَهُ؛ أو جَنَّه: جَعَلَ له ما يُجِنُّهُ كقَوْلِكَ: قَبَرْتهُ وأقْبَرْتُه وسَقَيْتُه وأسْقَيْتُه.
وكُلُّ ما سُتِرَ عَنْكَ: فقد جُنَّ عَنْكَ، بالضَّمِّ.
وجِنُّ اللَّيْلِ، بالكسْرِ، وجُنونُهُ، بالضَّمِ، وجَنانُهُ، بالفتْحِ: ظُلْمَتُهُ أو شِدَّتُها.
وقيلَ: اخْتلاطُ ظَلامِهِ لأَنَّ ذلِكَ كُلَّه ساتِرٌ.
وفي الصِّحاحِ: جَنانُ اللَّيْلِ: سَوادُهُ، وأيْضًا: ادْلِهْمامُه؛ قالَ الهُذَليُّ:
حتى يَجيءَ وجِنُّ الليل يُوغِلُه *** والشَّوْكُ في وَضَحِ الرِّجْلَيْن مَرْكوزُ
ويُرْوَى: وجُنْحُ اللَّيْل.
وقالَ دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّةِ:
ولو لا جَنانُ الليلِ أدْرَكَ خَيْلُنا *** بذي الرِّمْثِ والأَرْطَى عياضَ بنَ ناشِب
ويُرْوَى: جُنونُ الليْلِ، عن ابنِ السِّكِّيت، أي ما سَتَرَ من ظلْمَتِه.
والجَنَنُ، محرَّكةً: القَبْرُ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ، سُمِّي بذلِكَ لسَتْرِه المَيِّت.
وأيْضًا: المَيِّتُ لكَوْنِه مَسْتُورًا فيه، فهو فِعْلٌ بمعْنَى مَفْعولٍ كالنَّفْضْ بمعْنَى المَنْفُوضِ.
وأيْضًا: الكَفَنُ لأَنَّه يُجِنُّ المَيِّتَ أي يَسْترُه.
وأجَنَّه: كفَّنَهُ.
وقالَ ثَعْلَب: الجَنانُ: الثَّوْبُ واللَّيْلُ، أو ادْلِهْمامُهُ، وهذا نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ وتقدَّمَ شاهِدُه قَرِيبًا وهو بعَيْنِه اخْتلاطُ ظَلامِه، فهو تكْرارٌ.
والجَنانُ: جَوْفُ ما لم تَرَ لأَنَّه سُتِرَ عن العَيْنِ.
وجَنانٌ: جَبَلٌ، أو وادٍ نَجْدِيٌّ، قالَهُ نَصْر.
والجَنانُ: الحَريمُ للدَّارِ لأَنَّه يُوارِيها.
والجَنانُ: القَلْبُ. يقالُ: ما يستقرُّ جَنانُه مِن الفَزَعِ، سُمِّي به لأَنَّ الصَّدْرَ أجَنَّة، كما في التَّهْذِيبِ.
وفي المُحْكَم: لاسْتِتارِه في الصَّدْرِ، أو لِوَعْيه الأَشْياء وضَمِّه لها.
أو هو رَوْعُهُ وذلِكَ أذْهَبُ في الخَفاءِ.
ورُبَّما سُمِّي الرُّوحُ جَنانًا لأَنَّ الجِسْمِ يُجِنُّه.
قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: سُمِّيَتِ الرُّوح جَنانًا لأنَّ الجِسْمَ يُجِنُّها فأَنَّثَ الرُّوحَ، الجمع: أجْنانٌ؛ عن ابنِ جنِّي.
وكَشَدَّادٍ: عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ الجَنَّانِ الحَضْرميُّ مُحَدِّثٌ عن شُرَيحِ بنِ محمدٍ الأَنْدَلُسِيّ.
وأبو الوَليدِ بنُ الجَنَّانِ الشاطبيُّ أديبٌ مُتَصَوِّفٌ نزلَ دِمَشْقَ بَعْد السَّبْعين والسَّبْعمائَة.
* قُلْت: وأبو العَلاءِ عبدُ الحقِّ بنُ خَلَفَ بنِ المفرحِ الجَنَّان، رَوَى عن أبيهِ عن أبي الوَليدِ الباجيّ، وكانَ مِن فُقَهاءِ الشَّاطبيَّةِ، قالَهُ السَّلفيُّ.
وجِنانٌ، ككِتابٍ: جاريَةٌ شَبَّبَ بها أبو نُوَاسٍ الحَكَمِيُّ، وليسَ في نصّ الذهبيِّ الحَكَمِيّ؛ فإنَّ الحَكَمِيّ إلى حَكَم بنِ سَعْدِ العَشِيرَةِ، وأبو نُوَاسٍ المَشْهورُ ليسَ منهم، فليتأَمَّل.
وجِنانُ: موضع بالرَّقّةِ.
وقالَ نَصْر: هو بابُ الجِنانِ.
وبابُ الجِنانِ: مَحَلَّةٌ بحَلَبَ. ومحمدُ بنُ أحمدَ بنِ السِمسارِ: سَمِعَ ابنَ الحُصَيْن، ماتَ سَنَة 591؛ ونوحُ بنُ محمدٍ عن يَعْقوب الدَّوْرقيُّ وعنه إبْراهيمُ بنُ محمدِ بنِ عليِّ بنِ نُصَيْرٍ، الجِنانِيَّانِ مُحَدِّثانِ.
* وفاتَهُ:
عيسَى بنُ محمدٍ الجِنانيُّ المُقْرِي، ذَكَرَه ابنُ الزُّبَيْر، ماتَ سَنَة 662.
وأجَنَّ عنه واسْتَجَنَّ: اسْتَتَرَ.
والجَنِينُ، كأَميرٍ: الوَلَدُ ما دامَ في البَطْنِ لاسْتِتارِهِ فيه.
قالَ الرَّاغِبُ: فَعِيلٌ بمعْنَى مَفْعولٍ.
الجمع: أجِنَّةٌ، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهرِيُّ؛ ومنه قوْلُه تعالَى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ}، وأجْنُنٌ، بإظْهارِ التَّضْعيفِ، نَقَلَه ابنُ سِيْدَه.
وقيلَ: كُلُّ مَسْتورٍ: جَنِينٌ حتى إنَّهم ليَقُولونَ: حِقْدٌ جَنينٌ، قالَ:
يُزَمِّلونَ جَنِينَ الضِّغْن بينهمُ *** والضِّغْنُ أسْوَدُ أو في وجْهِه كَلَفُ
أي فهُم يَجْتَهِدونَ في سَتْرِه، وهو أسْودُ ظاهِرُ في وُجوهِهم.
وَجَنَّ الجَنِينُ في الرَّحِمِ يَجِنُّ جَنَّا: اسْتَتَرَ.
وأجَنَّتْهُ الحامِلُ: سَتَرَتْه.
والمِجَنُّ والمِجَنَّةُ، بكسْرِهِما، والجُنانُ والجُنانَةُ، بضمِّهما: التُّرْسُ؛ الثانِيَةُ حَكَاها اللَّحْيانيُّ، واقْتَصَرَ الجَوْهرِيُّ على الأُوْلى، قالَ: والجَمْعُ المَجَانُّ. وفي الحدِيْث: «كأَنَّ وُجُوهَهم المَجانُّ المُطْرَقَة».
وَجَعَلَه سِيْبَوَيْه فِعْلًا وسَيَأْتي في «ج معروف ن».
* قُلْت: وهو قَوْلُ سِيْبَوَيْه؛ قيلَ: للتَّنوريّ، رَحِمَه اللهُ تعالَى: قد أُخْطَأَ صاحِبُكم؛ أَي سِيْبَوَيْه، في أصالَةِ مِيمِ مِجَنّ وهل هو إلَّا مِن الجَنَّةِ؟ فقالَ: ليسَ هو بخَطَأ، العَرَبُ تقولُ: مَجَنَ الشيءُ أَي عطبَ.
قالَ شيْخُنا، رَحِمَه اللهُ تعالَى: وهو وإنَ كانَ وَجْهًا لكن يُعارِضُه أُمورٌ منها كَسْرُ المِيمِ وهو مَعْروفٌ في الآلةِ والزِّيادَةِ فيها ظاهِرَة وتَشْدِيد النُّونِ، ومِثْله قَلِيل، ووُرُود ما يُرادِفُه كجنان وجنانة ونحْو ذلِكَ وقد يُتَكَلَّف الجَواب عنها، فليتأمَّل.
ومِن المجازِ: قَلَبَ فلانٌ مِجَنَّهُ أَي أَسْقَطَ الحياءَ وفَعَلَ ما شاءَ، أَو مَلَكَ أَمْرَهُ واسْتَبَدَّ به؛ قالَ الفَرَزْدَقُ:
كيف تراني قالِبًا مِجَنِّي؟ *** أَقْلِبُ أَمْرِي ظَهْرَه للبَطْنِ
والجُنَّةُ، بالضَّمِّ: الدُّروعُ وكلُّ ما وَقَى مِن السِّلاحِ.
وفي الصِّحاحِ: الجُنَّةُ ما اسْتَتَرْتَ به مِن السِّلاحِ، والجَمْعُ الجُنَنُ.
والجُنَّةُ: خِرْقَةٌ تَلْبَسُها المرأَةُ تُغَطِّي من رأْسِها ما قَبَلَ ودَبَرَ غَيْرَ وسطِه، وتُغَطِّي الوجْهَ وجَنْبَي الصَّدْرِ؛ وفي المُحْكَم: وحَلْيَ الصَّدْرِ، وفيه عَيْنانِ مَجُوبتانِ كالبُرقُعِ، وفي المُحْكَم: كعَيْني البُرْقُعِ.
وجِنُّ النَّاسِ، بالكسْرِ، وجَنانُهُم، بالفَتْحِ؛ ذِكْرُ الفتْحِ مُسْتدركٌ، مُعْظَمُهُمِ لأَنَّ الدَّاخِلَ فيهم يَسْتَتِرُ بهم؛ واقْتَصَرَ الجَوْهرِيُّ على الأَخيرِ وقالَ: دَهْماؤُهم.
وأَنْشَدَ ابنُ سِيْدَه لابنِ أَحْمر:
جَنانُ المُسْلِمين أَوَدُّ مَسَّا *** ولو جاوَرْتَ أَسْلَمَ أَو غِفارا
ونَصُّ الأَزْهرِيّ:
وإن لاقَيْتَ أَسْلَم أَو غفارا
وقالَ ابنُ الأَعْرابيّ: جَنانُهم أَي جَماعتُهم وسَوادُهم.
وقالَ أَبو عَمْرٍو: ما سَتَرَك مِن شيءٍ، يقولُ: أكُونُ بينَ المُسْلمين خيرٌ لي، وأَسْلَمُ وغفَارُ خيرُ الناسِ جِوارًا.
والجِنِيُّ، بالكسْرِ: نِسْبَةٌ إلى الجِنِّ الذي هو خِلافُ الإنسِ، أَو إلى الجِنَّةِ الذي هو الجُنُونُ؛ وقَوْله:
ويْحَكِ يا جِنِّيَّ هل بَدا لك *** أَن تَرْجَعِي عَقْلي فقد أَنَى لكِ؟
إنَّما أَرادَ امْرأَةً كالجِنِّيَّة إمَّا لجمالِها، أَو في تلَوُّنِها وابْتِدالِها، ولا تكونُ الجِنِّيَّة هنا مَنْسوبةً إلى الجِنِّ الذي هو خِلافُ الإنسِ حَقيقَةً، لأَنَّ هذا الشاعِرَ المتغزِّلَ بها إنْسيٌّ، والإنْسيُّ لا يَتعشَّقُ جِنِّيَّةً.
وعبدُ السَّلامِ بنُ عَمْرٍو، كذا في النسخ والصَّوابُ ابنُ عُمَرَ، البَصْرِيُّ الفَقِيهُ، سَمِعَ مِن مالِكٍ وأَبي يوسُفَ، رَحِمَهما اللهُ تعالَى راوية المفضِّل الضَّبِّي، رَوَى عنه أبو عزيان السّلَمي، الجِنِّيَّانِ رَوَيا الحَدِيْثَ والشِّعْرَ.
والجِنَّةُ، بالكسْرِ: طائفَةٌ من الجِنِّ؛ ومنه قَوْله تعالَى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ}.
وجُنَّ الرَّجُلُ، بالضَّمِّ، جَنَّا وجُنونًا واسْتُجِنَّ، مَبْنيَّانِ للمَفْعولِ؛ قالَ مُلَيْحُ الهُذَليُّ:
فلم أَرَ مِثْلي يُسْتَجَنُّ صَبابةً *** من البَيْن أَو يَبْكي إلى غيرِ واصِلِ
وتَجَنَّنَ وتَجانٌ، وفي الصِّحاح: تَجَنَّنَ عليه وتَجانَنَ عليه وتَجانَّ: أَرَى من نفْسِه أَنَّه مَجْنونٌ وأَجَنَّه اللهُ، فهو مَجْنونٌ، ولا تَقُلْ مُجَنٌّ، كما في الصِّحاحِ، أي هو مِن الشَّواذِّ المَعْدودَةِ كأَحَبَّه اللهُ فهو مَحْبوبٌ، وذلك أنَّهم يَقولونَ جُنَّ، فبُني المَفْعولُ مِن أَجَنَّه اللهُ على غيرِ هذا.
والمَجَنَّةُ: الأَرضُ الكَثيرَةُ الجِنِّ.
وفي الصِّحاحِ: أَرضٌ مَجَنَّةٌ: ذاتُ جِنِّ.
ومَجَنَّةً: موضع قُرْبَ مكَّةَ على أَمْيالٍ منها؛ وقد تُكْسَرُ مِيمُها، كذا في النِّهايَةِ، والفتْحُ أَكْثَر؛ قالَ الجَوْهرِيُّ: وكان بِلالٌ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه، يتمثَّلُ بقوْلِ الشاعِرِ:
وهل أَرِدَنْ يومًا مِياهَ مَجَنَّةٍ *** وهل يَبْدُوَنْ لي شامةٌ وطَفيلُ؟
وقالَ ابنُ عبَّاس، رضِيَ اللهُ تعالَى عنهما: كانت مَجَنَّةٌ وذو المجازِ وعُكاظ أَسْواقًا في الجاهِليَّةِ؛ وقالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
فوافَى بها عُسْفانَ ثم أَتى بها *** مِجَنَّةَ تَصْفُو في القِلالِ ولا تَغْلي
قالَ ابنُ جنيِّ: يَحْتَمِل كَوْنها مَفْعَلة مِن الجُنونِ كأَنَّها سُمِّيَت بذلِكَ لشيءٍ يتَّصِل بالجِنِّ أَو بالجَنَّةِ، أَعْني البُسْتانَ أَو ما هذه سَبِيلُه؛ وكَوْنها فَعَلَّةً مِن مَجَنَ يَمْجُن كأَنَّها سُمِّيت لأَنَّ ضَرْبًا مِن المُجونِ كان بها، هذا ما توجبُه صنْعةُ عِلْمِ العَرَبِ.
قالَ: فأَمَّا لأَيِّ الأَمْرَيْنِ وقَعتِ التَّسْمية فذاكَ أَمْرٌ طَريقُه الخَبَر.
والمَجَنَّةُ: الجُنونُ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.
والجانُّ: أبو الجِنِّ، والجَمْعُ جِنّانٌ مِثْل حائِطٍ وحِيطانٍ؛ كذا في الصِّحاحِ.
* قُلْت: وهو قَوْلُ الحَسَنِ كما أَنَّ آدَمَ أَبو البَشَرِ كما في قَوْلِه تعالَى: {وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ}.
وفي التهْذِيبِ: الجانُّ مِن الجِنِّ، قالَهُ أَبو عَمْرٍو، أو الجَمْعُ جِنَّانٌ.
وفي المُحْكَم: الجانُّ اسْمُ جَمْعٍ للجِنِّ، كالجامِلِ والباقِرِ؛ ومنه قَوْلُه تعالَى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} وقَرَأَ عَمْرُو بنُ عبيدٍ: لا يُسْأل عن ذَنْبِه إنْسٌ ولا جَأنٌّ، بتَحْريكِ الألِفِ وقَلْبِها هَمْزةً، وهذا على قِراءَةِ أيّوب السَّخْتِيانيّ ولا الضَّألِّين؛ وعلى ما حَكَاه أَبو زَيْدٍ عن ابنِ الأصْبَغِ وغيرِهِ: شَأَبَّة ومَأَدَّة، على ما قالَهُ ابنُ جنِّي في كتابِ المحتسبِ.
قالَ الزَّجَّاجُ، رَحِمَه اللهُ تعالَى: ويُرْوَى أَنَّ خَلْقًا يقالُ لهم الجانُّ كانوا في الأَرضِ فأَفْسَدوا فيها وسَفَكوا الدِّماءَ فبَعَثَ اللهُ تعالَى ملائِكَةً أَجْلَتْهم مِن الأَرْضِ، وقيلَ: إنَّ هؤلاء المَلائِكةَ صارُوا سُكَّانَ الأَرضِ بعْدَهم فقالوا: يا رَبَّنا {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها}.
وقَوْلُه تعالَى: {كَأَنَّها جَانٌّ}. قالَ اللّيْثُ: حَيَّةٌ بَيْضاءُ.
وقالَ أَبو عَمْرٍو: الجانُّ حَيَّةٌ، وجَمْعُها جَوانُّ.
وقالَ الزَّجَّاجُ: يَعْني أَنَّ العَصا تحرَّكَتْ حَرَكَةً خَفِيفَةً وكانَتْ في صورَةِ ثُعْبانٍ، وهو العَظيمُ مِن الحيَّاتِ.
وفي المُحْكَم: الجانُّ ضَرْبٌ مِن الحيَّاتِ أَكْحَلُ العَيْنِ يَضْرِب إلى الصُّفْرةِ لا تُؤذِي، وهي كَثيرَةٌ في الُّدورِ، والجَمْعُ جِنَّانٌ؛ قالَ الخَطَفَي جَدُّ جَريرٍ يَصِفُ إبلًا:
أعْناقَ جِنَّانٍ وهامًا رُجَّفا *** وعَنَقًا بعدَ الرَّسِيم خَيْطَفا
والجِنُّ، بالكسْرِ: خِلافُ الإنْسِ، والواحِدُ جِنِّيُّ، يقالُ: سُمِّيَت بذلِكَ لأَنَّها تُتَّقَى ولا تُرَى؛ كما في الصِّحاحِ.
وكانوا في الجاهِليَّة يسمّونَ المَلائِكةَ، عليهمالسلام، جِنَّا لاسْتِتارِهم عن العُيونِ؛ قالَ الأَعْشَى يَذْكُر سُلَيْمان، عليهالسلام:
وسَخَّر من جِنِّ الملائكِ تِسعةً *** قِيامًا لَدَيْه يَعْمَلونَ محاربا
وقد قيلَ في {إِلّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ}: إنَّه عَنَى المَلائِكَةَ.
وقالَ الزَّمَخْشرِيُّ، رَحِمَه اللهُ تعالَى: جنى المَلائِكَة والجِنُّ واحِدٌ، لكن من خَبُثَ من الجِنّ وتمردَ شَيْطانٌ ومَن تَطَهَّر منهم ملَكٌ قال سعدى جلبى وفسّرَ الجِنَّ بالمَلائِكَةِ في قوْلِهِ تعالَى: {وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ}.
وقالَ الرَّاغِبُ، رَحِمَه اللهُ تعالَى: الجِنُّ يقالُ على وَجْهَيْن: أَحَدُهما للرُّوحانِيِّين المُسْتَتِرَة عن الحَواسِّ كُلِّها بإزاءِ الإنْس، فعلى هذا تَدْخُل فيه المَلائِكَةُ كُلّها جِنّ، وقيلَ: بل الجِنّ بعض الرُّوحانِيِّين، وذلِكَ أَنَّ الرُّوحانِيِّين ثلاثَةٌ: أَخْيارٌ وهُم المَلائِكَة، وأَشْرارٌ وهُم الشَّياطِين، وأَوْساط فيهم أَخْيارٌ وأَشْرارٌ وهُم الجِنُّ، ويدلُّ على ذلِكَ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}، إلى قوْلِه تعالَى: {وَمِنَّا الْقاسِطُونَ}.
قالَ شيْخُنا، رَحِمَه اللهُ تعالَى: وقالَ بعضُهم: تفْسِيرُ المصنِّفِ الجِنّ بالمَلائِكَة مَرْدودٌ، إذ خَلَقَ المَلائِكَة مِن نورٍ ولا مِن نارٍ كالجِنِّ، والمَلائِكَةُ مَعْصومُونَ ولا يَتَنَاسَلُونَ ولا يتَّصِفونَ بذكُورَةٍ وأُنُوثَةٍ بخِلافِ الجِنِّ.
ولهذا قالَ الجَماهيرُ: الاسْتِثناءُ في قوْلِه تعالَى: {إِلّا إِبْلِيسَ}، مُنْقطعٌ أو مُتَّصلٌ لكَوْنِه كانَ مَغْمورًا فيهم مُتَخلِّقًا بأَخْلاقِهم، وقيلَ غيرُ ذلِكَ ممَّا هو مَذْكورٌ في شرْحِ البُخارِي أَثْناء بدْءِ الخَلْقِ وفي أكْثَر التَّفاسِيرِ، واللهُ أَعْلم.
* قُلْت: وقالَ الزَّجَّاجُ: في سِياقِ الآيةِ دَليلٌ على أنَّه أُمِرَ بالسّجودِ مع المَلائِكَةِ، وأَكْثَرُ ما جاءَ في التَّفْسيرِ أَنَّه مِن غيرِ المَلائِكَةِ؛ وقد ذَكَرَ اللهُ تعالَى ذلِكَ فقالَ: {كانَ مِنَ الْجِنِّ}، وقيلَ أَيْضًا: إنَّه مِن الجنِّ بمنْزِلَةِ آدَمَ مِن الإنْسِ.
وقيلَ: إنَّ الجِنَّ ضَرْبٌ مِن المَلائِكَةِ كانوا خُزَّانَ الأَرْضِ أَو الجَنانِ، فإن قيلَ: كيفَ اسْتَثْنى مع ذكْرِ المَلائِكَةِ فقالَ: {فَسَجَدُوا إِلّا إِبْلِيسَ} وليس منهم، فالجَوابُ: أَنَّه أُمِرَ معهم بالسُّجودِ فاسْتَثْنى أَنَّه لم يَسْجُد، والدَّليلُ على ذلِكَ أَنَّك تقولُ: أَمَرْتُ عبْدِي وإخْوَتي فأَطاعُوني إلَّا عبْدِي؛ وكَذلِكَ قَوْلُه تعالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلّا رَبَّ الْعالَمِينَ}، فإنَّ رَبَّ العالَمِيْن ليسَ مِن الأَوَّل، لا يقْدر أَحدٌ أَنْ يَعْرفَ مِن مَعْنَى الكَلامِ غيرَ هذا.
كالجِنَّةِ، بالكسْرِ أَيْضًا؛ ومنه قوْلُه تعالَى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}؛ الجِنَّةُ هنا المَلائِكَةُ عَبَدَهُم قَوْمٌ مِن العَرَبِ.
وقالَ الفرَّاءُ في قوْلِه تعالَى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}؛ يقالُ: هُم هنا المَلائكَةُ إذ قالوا المَلائكَةُ بناتُ اللهِ.
ومِن المجازِ: الجِنُّ من الشَّبابِ وغيرِهِ: المَرَحُ أَوَّلُه وحِذثانُهُ، وقيلَ: جِدَّتُه ونشاطُه.
يقالُ: كان ذلك في جِنِّ شَبابِه أَي في أَوَّلِ شَبابِه.
وفي الأَساسِ: لَقِيْتُه بجِنِّ نَشاطِه، كأَنَّ ثَمَّ جِنَّا تُسوِّلُ له النَّزَغَاتِ، ا ه.
وتقولُ: افْعَلْ ذلِكَ الأَمْرَ بجِنِّ ذلك وبحِدْثانِه؛ قالَ المُتَنخّلُ:
أَرْوَى بجِنِّ العَهْدِ سَلْمَى ولا *** يُنْصِبْكَ عَهْدُ المَلِقِ الحُوَّلِ
يُريدُ الغيثَ الذي ذَكَرَه قَبْل هذا البَيْت، يقولُ: سَقَى هذا الغَيْثُ سَلْمى بحِدْثانِ نُزولِه مِن السَّحابِ قَبْل تغيُّرِه، ثم نَهَى نفْسَه أَن يُنْصِبَه حُبُّ مَن هو مَلِقٌ، كما في الصِّحاحِ؛ وأمَّا قَوْلُ الشاعِرِ:
لا يَنْفُخُ التَّقْريبُ منه الأَبْهَرا *** إذا عَرَتْه جِنّةٌ وأَبْطَرا
فيَجوزُ أَنْ يكونَ جُنونَ مَرَحِه، وقد يكونُ الجِنُّ هذا النَّوع المُسْتَتِر مِن العالمِ.
ومِن المجازِ: الجنُّ من النَّبْتِ: زَهْرُهُ ونَوْرُهُ.
وقد جُنَّتِ الأَرْضُ، بالضَّمِّ، وتَجَنَّنَتْ جُنونًا: أَخْرَجَتْ زَهْرَها ونَوْرَها.
وقالَ الفرَّاءُ: جُنَّتِ الأرضُ: جاءَتْ بشيءٍ مُعْجِبٍ مِن النَّبْتِ.
وفي الصِّحاحِ: جُنَّ النَّبْتُ جُنونًا: طالَ والْتَفَّ وخَرَجَ زَهْرُهُ.
وفي المُحْكَم: جُنَّ النَّبْتُ: غَلُظَ واكْتَمل؛ وقالَ بعضُ الهُذَليِّين:
أَلَمَّا يَسْلم الجِيرانُ منهم *** وقد جُنَّ العِضاهُ مِن العَمِيمِ
ومِن المجازِ: نَخْلَةٌ مَجْنونَةٌ: أَي سحوقٌ طَويلَةٌ، والجَمْعُ المَجانِينُ؛ وأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ:
تَنْفُضُ ما في السُّحُقِ المَجانِينْ
وقالَ ابنُ الأَعْرابيِّ: يقالُ للنَّخْلِ المُرْتفعِ طُولًا: مَجْنونٌ، وللنَّبْتِ المُلَتَفّ الذي تأزَّرَ بعضُه مَجْنونٌ، وقيلَ: هو المُلْتفُّ الكَثِيفُ منه.
والجَنَّةُ: الحَديقَةُ ذاتُ النَّخْلِ والشَّجَرِ.
قالَ أَبو عليِّ في التّذْكرةِ: لا تكونُ في كَلامِهم جَنَّةٌ إلَّا وفيها نَخْلٌ وعِنَبٌ، فإنْ لم يكونا فيها وكانتْ ذاتَ شَجَرٍ فحَدِيقَةٌ لا جَنَّةٌ.
وفي الصِّحاحِ: الجَنَّةُ: البُسْتانُ، ومنه الجَنَّاتُ، والعَرَبُ تسمِّي النَّخِيلَ جَنَّةً؛ وقالَ زُهَيْرٌ:
كأَنَّ عينيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلةٍ *** مِن النَّواضِح تَسْقي جَنَّةً سُحُقا
وفي المُفْردات للرَّاغبِ: الجَنَّةُ كُلُّ بُسْتانٍ ذي شَجَرٍ تَسْتَتِرُ بأَشْجارِه الأرضُ، قيلَ: وقد تُسمَّى الأَشْجارُ الساتِرَةُ جَنَّة، ومنه قَوْلُه:
تَسْقي جَنَّةً سُحُقًا
وسُمِّي بالجَنَّة إمَّا تَشْبيهًا بالجنَّةِ التي في الأَرضِ وإنْ كانَ بَيْنهما بونٌ، وإمَّا لسَتْرِه عَنَّا نِعَمَه المُشار إليها بقوْلِه تعالَى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.
الجمع: جِنانٌ، ككِتابٍ، وجَنَّات، ويقالُ أَجِنَّة أَيْضًا نَقَلَه شيْخُنا مِن النوادِرِ وقالَ: هو غَريبٌ.
وقالَ ابنُ عبَّاس، رضِيَ اللهُ تعالَى عنهما: إنَّما قالَ جَنَّات بلَفْظِ الجَمْعِ لكَوْن الجِنَان سَبْعًا: جَنَّةُ الفرْدَوْسِ، وجَنَّةُ عَدْنٍ، وجَنَّةُ النَّعِيم، ودارُ الخَلْدِ، وجَنَّةُ المَأْوَى، ودارُ السَّلامِ، وعليون.
وعَمْرُو بنُ خَلَفِ بنِ جِنانٍ، ككِتابٍ: مُقْرِئٌ مُحَدِّثٌ، هكذا في سائِر النسخِ، والصَّوابُ ابنُ جَنَّات، جَمْعُ جَنَّة، وهو عَمْرُو بنُ خَلَفِ بنِ نَصْرِ بنِ محمدِ ابنِ الفَضْلِ بنِ جَنَّاتٍ الجناتيُّ المُقْرِئُ عن أَبي سَعْدٍ الرَّازيّ، وعنه عبْدُ العَزيزِ النَّخْشبيُّ، ذَكَرَه ابنُ السَّمعانيّ.
والجَنينَةُ، كسَفِينَةٍ، هكذا هو في النسخِ. ووُجِدَ في المُحْكَم: الجِنِّيَّةُ، بالكسْرِ وشَدِّ النونِ على النِّسْبَةِ إلى الجِنِّ: مِطْرَفٌ مُدَوَّرٌ كالطَّيْلَسانِ تَلْبَسُه النِّساءُ.
وفي التَّهْذِيبِ: ثِيابٌ مَعْروفَةٌ.
والجُنُنُ، بضَمَّتَيْنِ: الجُنونُ، حُذِفَ منه الواوُ؛ أَي هو مَقْصورٌ منه بحذْفِ الواوِ كما ذَهَبَ إليه الجَوْهرِيُّ؛ وأَنْشَدَ للشاعِرِ يَصِفُ النَّاقَةَ:
مِثْل النَّعامةِ كانت وهْيَ سالمةٌ *** أَذْناءَ حتى زَهاها الحَيْنُ والجُنُنُ
وبخطِّ الأَزْهرِيِّ في كتابِه: حتى نَهاها، وبخطِّ الجَوْهرِيِّ: وهي سائِمةٌ، وأَذْناء ذان أُذُن، وزَهاها: اسْتَخَفَّها.
قالَ شيْخُنا: وزَعَمَ أَقْوامٌ أَنَّه أَصْلٌ لا مَقْصور وفي الحَدِيْث: «وأَنا أَخْشى أَنْ أَخْشى أَنْ يكونَ ابن جُنُن»، كما في الرَّوْض.
وتَجَنَّنَ عليه وتَجانَنَ عليه وتَجانَّ: أَرَى من نَفْسِه الجُنونَ وفي الصِّحاحِ: أَنَّه مَجْنونٌ؛ أَي وليسَ بذلِكَ لأَنَّه مِن صِيَغِ التَّكَلّف.
ويوسُفُ بنُ يَعْقوبَ الكِنانِيُّ لَقَبُهُ جَنَّونَةٌ، كخَرُّوبَةٍ:
مُحَدِّثٌ، رَوَى عن عيسَى بنِ حماد زُغْبَة. وجَنُّونُ بنُ أَرْمل المَوْصِلِيُّ الحافِظُ رَوَى عن غَسَّانِ بنِ الرَّبيعِ، كذا في النسخِ، وفيه غَلَطانٌ، الأَوَّل هو حَنُّونُ بالحاءِ المُهْمَلَةِ كما ضَبَطه الحافِظُ، رَحِمَه اللهُ تعالَى، وسَيَأْتي في الحاءِ على الصَّوابِ، والثاني: أَنَّ الذي رَوَى عنه هو عسافُ لا غَسَّانُ.
والاسْتِجْنانُ: الاسْتِطْرابُ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.
وقَوْلُهم: أَجِنَّكَ كذا؛ أَي من أَجْلِ أَنَّكَ، فحذَفُوا اللامَ والأَلِفَ اخْتِصارًا، ونَقَلوا كسْرَةَ اللامِ إلى الجِيمِ؛ قالَ الشاعِرُ:
أَجِنَّكِ عنْدي أَحْسَنُ الناسِ كلِّهم *** وأَنَّكِ ذاتُ الخالِ والحِبَراتِ
كما في الصِّحاحِ.
وقالَتِ امْرأَةُ ابنِ مَسْعود: له أَجَنَّك مِن أَصْحابِ النَّبيِّ صَلّى الله عليه وسلّم.
قالَ الكِسائيُّ وغيرُهُ: معْناهُ مِن أَجْلِ أَنَّكَ، فترَكَتْ مِنْ، كما يقالُ فَعَلْتُه أَجْلَك أَي مِن أَجْلِكَ.
والجَناجِنُ: عِظامُ الصَّدْرِ؛ كما في الصِّحاحِ.
وفي المُحْكَم: وقيلَ رُؤُوسُ الأَضْلاعِ، تكونُ للناسِ وغيرِهم.
وفي التَّهْذِيبِ: أَطْرافُ الأضْلاعِ ممَّا يَلي قَصَّ الصَّدْرِ وعَظْمَ الصُّلْبِ؛ الواحِدُ جِنْجِنٌ وجِنْجِنَةٌ، بكسْرِهما، كما في الصِّحاحِ، هكذا حَكَاه الفارِسِيُّ بهاءٍ وبلا هاءٍ، ويُفْتَحانِ.
وقيلَ: واحِدُها جُنْجونُ، بالضَّمِّ؛ قالَ:
ومن عَجارِيهنَّ كلُّ جِنْجِن
وقد تَقَدَّمَ في «ع الجمع: ر».
والمَنْجَنونُ والمَنْجَنينُ: الدُّولابُ التي يُسْتَقى عليها، مُؤَنَّثٌ؛ كما في الصِّحاحِ.
قالَ: وأَنْشَدَ الأَصْمَعيُّ:
ومَنْجَنون كالأَتان الفارق قالَ: شيْخُنا، رَحِمَه اللهُ تعالَى: الأكْثَر على أَنَّه فَعْلَلولُ لفَقْدِه مَفْعَلول ومَنْفَعول وفَنْعَلول، فمِيمُه ونُونُه أصْلِيَّتان، ولأنَّهم قالوا: مناجين بإِثْباتِهما؛ وقيلَ: هو فَنْعلون مِن مجن فهو ثلاثيٌّ، وقيلَ: مَنْفعول ورد بأَنَّه ليسَ جاريًِا على الفِعْل فتَلْحَقه الزِّيادَةُ مِن أَوَّلِه، وبأَنَّه بِناءٌ مَفْقودٌ وبثُبُوت النُّون في الجَمْعِ كما مَرَّ، وكذا مَنْجَنين فعلليل أو فنعليل أو منفعيل.
وقالَ السّهيليُّ في الرَّوْض: مِيمُ مَنْجَنون أَصْليَّة في قَوْلِ سِيْبَوَيْه، وكذا النُّون لأَنَّه يقالُ فيه مَنْجَنين كقرطليل، وقد ذَكَرَ سِيْبَوَيْه أَيْضًا في مَوْضِعٍ آخَر في كِتابِه أَنَّ النّونَ زائِدَةٌ إلَّا أنَّ بعضَ رُواةِ الكِتابِ قالَ فيه مَنْحَنون بالحاءِ المُهْمَلَةِ فعلَى هذا لم يَتَناقَض كَلامُه.
قالَ شيْخُنا: وكأَنَّ المصنِّفَ، رَحِمَه اللهُ تعالَى اخْتَارَ رَأْيَ سِيْبَوَيْه في أَصالَةِ الكلِّ واللهُ أَعْلَم.
* قُلْت: لو كانَ كَذلِكَ لكانَ مَوْضِعُه في معروف ن الجمع: ن، فتأَمَّل ذلك.
والمِجَنُّ، بالكسْرِ: الوِشاحُ؛ نَقَلَهُ الأَزْهرِيُّ وقوْلُهم: لا جِنَّ بهذا الأَمْرِ، بالكسْرِ؛ أَي لا خَفاءَ؛ قالَ الهُذَليُّ:
ولا جِنَّ بالبَغْضاءِ والنَّظَرِ الشَّزْرِ
وجُنَيْنَةُ، كجُهَيْنَةَ: موضع بعَقيقِ المَدينَةِ.
وأَيْضًا: رَوْضَةٌ بنَجْدٍ بينَ ضَرِيَّةَ وحَزْنِ بَني يَرْبوعٍ؛ نَقَلَهُ نَصْر.
وأَيْضًا: موضع بينَ وادِي القُرَى وتَبوكَ.
والجُنَيْناتُ: موضع بدارِ الخِلافَةِ ببَغْدادَ.
وأَبو جَنَّةَ: حكيمُ بنُ عبيدٍ، شاعِرٌ أَسَدِيٌّ وهو خالُ ذي الرُّمَّةِ الشَّاعِرِ. وذو المِجَنَّيْنِ، بكسْرِ المِيمِ: لَقَبُ عُتَيْبَةَ الهُذَلِيِّ كانَ يَحْمِلُ تُرْسَيْنِ في الحَرْبِ.
ومِن المجازِ: يقالُ أَتَيْتُ على أَرْضٍ مُتَجَنِّنَةٍ وهي التي كَثُرَ عُشْبُها حتى ذَهَبَ كلَّ مَذْهَبٍ.
وبَيْتُ جِنِّ، بالكسْرِ: قرية تَحْتَ جَبَلِ الثَّلْجِ، والنِّسْبَةُ إليها جِنَّانِيُّ، بكسْرٍ فتَشْديدٍ، ومنها الإمامُ المُحدِّثُ ناصِرُ الدِّيْن الجِنَّانيُّ وَكيلُ الحاكِمِ صاحِبُ الذهبيّ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
الجَنِينُ: القَبْرُ، فَعِيلٌ بمعْنَى فاعِلٍ؛ نَقَلَه الرَّاغِبُ.
وأَيْضًا: المَقْبورُ، وبه فَسَّرَ ابنُ دُرَيْدٍ قَوْلَ الشاعِرِ:
ولا شَمْطاءَ لم يَتْرُك شَفاها *** لها من تِسْعَةٍ إلَّا جَنِينا
أَي قد ماتُوا كُلّهم فَجُنُّوا.
والجَنِينُ: الرَّحِمُ، قالَ الفَرَزْدَقُ:
إذا غابَ نَصْرانِيُّه في جَنِينِها *** أَهَلَّتْ بحَجِّ فوق ظَهْرِ العُجارِم
ويُرْوَى: حَنِيفها، وعَنَى بالنَّصْرانيّ، ذَكَرَ الفاعِلِ لها مِن النَّصارَى، وبحَنِيفِها: حِرَها.
والأَجنَّةُ: الجنانُ.
وأَيْضًا: الأَمْواهُ المُتَدفقةُ؛ قالَ:
وجَهَرتْ أَجِنَّةٌ لم تُجْهَرِ
يقولُ: وَرَدَتْ هذه الإبِلُ الماءَ فكَسَحَتْه حتى لم تَدَعْ منه شيئًا لقِلَّتِه. يقالُ: جَهَرَ البِئْرَ: نَزَحَها.
والتَّجْنينُ: ما يقولُه الجِنُّ؛ قالَ بدرُ بنُ عامِرٍ:
ولقد نطَقْتُ قَوافِيًا إنْسِيّةً *** ولقد نَطقْتُ قَوافِيَ التَّجْنينِ
وأَرادَ بالإنْسِيَّة ما تقولُ الإنْسُ.
وقالَ السُّكَّريُّ، رَحِمَه اللهُ تعالَى: أَرادَ بالتَّجْنينِ الغَريبَ الوَحْشِيَّ.
وقَوْلُهم في المَجْنُونِ: ما أَجَنَّه، شاذٌّ لا يقاسُ عليه، لأنَّه لا يقالُ في المَضْروبِ ما أَضْرَبَه، ولا في المَسْلولِ ما أَسَلّه، كما في الصِّحاحِ.
وقالَ سِيْبَوَيْه: وَقَعَ التَّعجبُ منه بما أَفْعَلَه، وإن كانَ كالخُلُقِ لأَنَّه ليسَ بلونٍ في الجَسَدِ ولا بخِلْقةٍ فيه، وإنَّما هو مِن نُقْصان العَقْلِ.
وقالَ ثَعْلَب: جُنَّ الرَّجُلُ وما أَجَنَّه، فجاءَ بالتَّعجبِ مِن صيغَةِ فِعْل المَفْعولِ، وإنَّما التَّعجبُ مِن صيغَةِ فِعْل الفاعِلِ، وهو شاذٌ.
والمَجَنَّةُ: الجِنُّ.
وأَجَنَّ: وَقَعَ في مَجَنَّةٍ؛ وقالَ:
على ما أَنَّها هَزِئتْ وقالتْ *** هَنُون أَجَنَّ مَنْشأ ذا قريب
والجِنُّ، بالكسْرِ: الجِدُّ لأَنَّه ما يُلابِسُ الفِكْرَ ويُجِنُّه القَلْبُ.
وأَرْضٌ مَجْنونَةٌ: مُعْشَوْشِبةٌ لم تُرْعَ.
وجُنَّتِ الرِّياضُ: اعْتَمَّ نَبْتُها.
وجُنَّ الذُّبابُ جُنونًا: كثُرَ صَوْتُه؛ قالَ:
تَفَقَّأَ فَوقَه القَلَعُ السَّواري *** وجُنَّ الخازِبازِ به جُنونا
كما في الصِّحاحِ.
وفي الأساسِ: جُنَّ الذَّبابُ بالرَّوْضِ: تَرَنَّم سرورًا به.
وقد ذُكِرَ في «ب وز»: أَنَّ الخَازِبازَ اسْمٌ لنَبْتٍ أَو ذبابٍ فرَاجِعْه.
والجِنَّةُ، بالكسْرِ: الجُنونُ؛ ومنه قوْلُه تعالَى: {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}؛ والاسْمُ والمَصْدَرُ على صورَةٍ واحِدَةٍ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.
والجَنَنُ، محرَّكةً: ثَوْبٌ يوارِي الجَسَدَ.
وقالَ شَمِرٌ: الجَنانُ، بالفتحِ: الأَمْرُ المُلْتَبسُ الخَفِيُّ الفاسِدُ؛ وأنْشَدَ:
اللهُ يَعْلَمُ أَصْحابي وقولَهُم *** إذ يَرْكَبونَ جَنانًا مُسْهَبًا وَرِبا
وأَجَنَّ المَيِّتَ: قَبَرَهُ؛ قالَ الأَعْشَى:
وهالِك أَهلٍ يُجِنُّونَه *** كآخَرَ في أهْلِه لم يُجَنّ
ويقالُ: اتَّقِ الناقَةَ في جِنِّ ضِرَاسِها، بالكسْرِ، وهو سوءُ خُلْقِها عنْدَ النِّتاجِ؛ وقَوْلُ أَبي النَّجْم:
وطالَ جِنِّيُّ السَّنامِ الأَمْيَلِ
أرادَ تُمُوكَ سَنامِه وطُولَه.
وباتَ فلانٌ ضَيْفَ جِنِّ: أَي بمكانٍ خالٍ لا أَنِيسَ به.
ومنيةُ الجِنانِ، بالكسْرِ: قَرْيةٌ بشرقية مِصْرَ.
وحفْرَةُ الجَنانِ، بالفتحِ: رَحْبَةٌ بالبَصْرةِ.
وككِتابٍ: جِنانُ بنُ هانِئِ بنِ مُسْلمٍ بنِ قَيْسِ بنِ عَمْرِو ابنِ مالِكِ بنِ لامي الهَمدانيُّ ثم الأَرْحبيُّ، عن أَبيهِ، وعنه إسْماعيلُ بنُ إبْراهِيمَ بنِ ذي الشعارِ الهَمدانيّ، هكذا ضَبَطَه الأَميرُ. ويقالُ: هو حِبَّانُ، بكسْرِ الحاءِ المُهْمَلةِ وتَشْديدِ الموحَّدَةِ.
وعَمْرُو الجِنَّيُّ، بالكسْرِ، ذَكَرَه الطّبْرانيُّ في الصَّحابَةِ.
وعَمْرُو بنُ طارقٍ الجِنِّيُّ: صَحابيٌّ أَيْضًا، وهو غيرُ الأَوَّل حقَّقَه الحافِظُ في الإصابَةِ.
وأَبو الفتْحِ عُثْمانُ بنُ جنيِّ النّحويُّ مَشْهورٌ، وابْنُه عالي رَوى.
والحُسَيْنُ بنُ عليِّ بنِ محمدِ بنِ عليِّ بنِ إسْماعيلَ بنِ جَعْفرٍ الصَّادِقِ الحُسَيْنيّ يقالُ له أَبو الجنِّ وقتيلُ الجنِّ، عَقبهُ بدِمَشْقَ والعِرَاق، منهم أبو القاسِمِ النسيب عليُّ بنُ إبْراهيمَ بنِ العبَّاسِ بنِ الحَسَنِ بنِ العبَّاسِ بنِ عليِّ بنِ الحَسَنِ بنِ الحُسَيْنِ عن الخَطِيبِ أَبي بكْرٍ، وعنه ابنُ عَسَاكِر، ووالدُهُ أَبو الحُسَيْن قاضِي دِمَشْقَ وخَطِيبُها، وجَدُّه العبَّاسُ يُلَقَّبُ مجدُ الدِّيْن، هو الذي صَنَّف له الشيْخُ العمريُّ كتابَ المجدي في النّسَبِ، وجَدُّه الأَعْلى العبَّاسُ بنُ عليِّ، هو الذي انْتَقَلَ مِن قُمّ إلى حَلَبَ.
وأَبو الحَسَنِ عليُّ بنُ محمدِ بنِ إبْراهيمَ بنِ محمدِ بنِ إسْماعيلَ بنِ إبْراهيمَ الجنِّيُّ مِن شيوخِ الدِّمْياطي.
والجُنانُ، كغُرابٍ: الجُنونُ، عامِّيَّة.
وأحْمَدُ بنُ عيسَى المُقْرِئُ المَعْروفُ بابنِ جنِّيَّة عن أَبي شُعَيْب الحرانيّ، ذَكَرَه الذَّهبيُّ.
وعبدُ الوَهاب بنُ حَسَن بنِ عليِّ أَبي الجِنِّيَّة الوَاسِطيّ عن خميس الجُوزي، ذَكَرَه ابنُ نقْطَةَ.
وجَنَّ المَيِّتَ وأَجَنَّه: وَارَاهُ.
وأَجَنَّ الشيءَ في صدْرِه: أَكْمَنَه؛ كما في الصِّحاحِ.
واجْتَنَّ الجَنِينُ في البَطْنِ مِثْل جَنَّ. والجُنَّةِ، بالضمِّ: السُّتْرةُ، الجَمْعُ الجُنَنُ.
ودِيكُ الجِنِّ: شاعِرٌ مَعْرُوفٌ.
وأَكَمةُ الجِنِّ، بالكَسْرِ: مَوْضِعٌ؛ عن نَصْر.
وعبدُ الوهابِ بنِ الحَسَنِ بنِ عليِّ بنِ أَبي الجنِّيَّة الدَّارْقَطْنِيّ عن خميس الجوزي، ذَكَرَه ابنُ نقْطَةَ عن أَحْمَدَ ابنِ عيسَى المُقْري المَعْروف بابنِ جنِّيَّة عن أَبي شعْبَةَ الحرانيّ ذَكَرَه الحافِظُ الذهبيُّ، رَحِمَه اللهُ تعالَى.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
136-المصباح المنير (بحث)
بَحَثَ عَنْ الْأَمْرِ بَحْثًا مِنْ بَابِ نَفَعَ اسْتَقْصَى وَبَحَثَ فِي الْأَرْضِ حَفَرَهَا وَفِي التَّنْزِيلِ {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 31].المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م
137-المصباح المنير (كدر)
كَدِرَ الْمَاءُ كَدَرًا مِنْ بَابِ تَعِبَ زَالَ صَفَاؤُهُ فَهُوَ كَدِرٌ وَكَدُرَ كُدُورَةً وَكَدَرَ مِنْ بَابَيْ صَعُبَ صُعُوبَةً وَقَتَلَ وَتَكَدَّرَ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَيَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ فَيُقَالُ كَدَّرْتُهُوَكَدِرَ الْفَرَسُ وَغَيْرُهُ كَدَرًا مِنْ بَابِ تَعِبَ وَالِاسْمُ الْكُدْرَةُ وَالذَّكَرُ أَكْدَرُ وَالْأُنْثَى كَدْرَاءُ وَالْجَمْعُ كُدْرٌ مِنْ بَابِ أَحْمَرَ وَكَدُرَ مِنْ بَابِ قَرُبَ لُغَةٌ وَتَصْغِيرُ الْأَكْدَرِ أُكَيْدِرٌ وَبِهِ سُمِّيَ وَمِنْهُ أُكَيْدِرُ صَاحِبُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ وَكَاتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ وَأَهْدَى إلَيْهِ حُلَّةً سِيَرَاءَ فَبَعَثَ بِهَا إلَى عُمَرَ وَالْكُدْرِيُّ ضَرْبٌ مِنْ الْقَطَا نِسْبَةٌ إلَى الْكُدْرَةِ.
وَالْأَكْدَرِيَّةُ مِنْ مَسَائِلِ الْجَدِّ قِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَلْقَاهَا عَلَى فَقِيهٍ اسْمُهُ أَوْ لَقَبُهُ أَكْدَرُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م
138-لسان العرب (حنطب)
حنطب: أَبو عَمْرٍو: الحَنْطبة: الشَّجاعَة.وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: أَهْمَلَ الْجَوْهَرِيُّ أَن يَذْكُرَ حَنْطَب.
قَالَ: وَهِيَ لَفْظَة قَدْ يُصَحِّفُها بعضُ المُحَدِّثينَ، فَيَقُولُ: حَنْظَبَ، وَهُوَ غَلَط.
قَالَ، وَقَالَ أَبو عَلِيٍّ بْنُ رَشِيقٍ: حَنْطَبٌ هَذَا، بحاءٍ مُهْمَلَةٍ وطاءٍ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ، مِنْ مَخْزُومٍ، وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ حَنْطَبٌ غيرُه.
قَالَ: حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ الْفَقِيهُ السَّرَقُوسِي، وَزَعَمَ أَنه سَمِعَه مِن فِيهِ.
قَالَ وَفِي كِتاب البغويِّ: عبدُ اللَّهِ بنُ حَنْطَبِ بنِ عُبيد بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزوم ابن زَنْقَطَةَ بْنِ مرَّة، وَهُوَ أَبو المطَّلِبِ بْنُ عبدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبِ؛ وَفَسَّرَ بَيْتَ الْفَرَزْدَقِ:
وَمَا زُرْت سَلْمَى، أَن تَكونَ حَبِيبَةً ***إليَّ، وَلَا دَيْنٍ لَها أَنا طالِبُهْ
فَقَالَ إِنَّ الْفَرَزْدَقَ نَزَلَ بامرأَة مِنَ الْعَرَبِ، مِنَ الغَوْث، مِنْ طَيِّئٍ، فَقَالَتْ: أَلا أدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ يُعْطِي وَلَا يَليقُ شَيْئًا؟ فَقَالَ.
بَلَى.
فَدَلَّته على المُطَّلِبِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ المَخْزُومي، وَكَانَتْ أُمُّه بِنْتَ الحكَمِ بْنِ أَبي الْعَاصِ، وَكَانَ مروانُ بنُ الحَكَمِ خَالَهُ، فبَعثَ بِهِ مَرْوانُ عَلَى صَدَقات طَيِّئٍ، ومروانُ عاملُ مُعَاوِيَةَ يَوْمَئِذٍ عَلَى المَدينة، فَلَمَّا أَتى الْفَرَزْدَقُ المُطَّلِبَ وانْتَسَب لَهُ، رَحَّبَ بِهِ وأَكرمَه وأَعطاه عشرين أو ثلاثِين بَكْر.
وَذَكَرَ العُتْبِيُّ أَن رجُلًا مِنْ أَهل الْمَدِينَةِ ادَّعَى حَقًّا عَلَى رجلٍ، فَدَعَاهُ إِلَى ابْنِ حَنْطَبٍ، قَاضِي المَدينة، فَقَالَ: مَنْ يَشْهَد بِمَا تَقولُ؟ فَقَالَ: نُقْطَةُ.
فَلَمَّا وَلَّى قَالَ الْقَاضِي: مَا شَهادَتُه لَهُ إِلَّا كشَهادته عَلَيْهِ.
فَلَمَّا جاءَ نُقْطَةُ، أَقبل عَلَى الْقَاضِي، وَقَالَ: فداؤكَ أَبي وأُمِّي؛ وَاللَّهِ لَقَدْ أَحسن الشَّاعِرُ حَيْثُ يَقُولُ:
منَ الحَنْطَبِيِّينَ، الَّذينَ وجُوهُهُم ***دَنانِيرُ، مِمَّا شِيفَ فِي أَرْضِ قَيْصَرا
فأَقْبَلَ الْقَاضِي عَلَى الكاتِب وَقَالَ: كَيِّسٌ وربِّ السماءِ، وَمَا أَحسبه شهِدَ إِلَّا بالحق، فأَجِزْ شَهادَتَه.
قَالَ ابْنُ الأَثير فِي الحَنْظَب الَّذِي هُوَ ذَكَر الخَنافِس، والجَرادِ: وَقَدْ يُقَالُ بِالطَّاءِ المهملة، وسنذكره.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
139-لسان العرب (ذهب)
ذهب: الذَّهابُ: السَّيرُ والمُرُورُ؛ ذَهَبَ يَذْهَبُ ذَهابًا وذُهوبًا فَهُوَ ذاهِبٌ وذَهُوبٌ.والمَذْهَبُ: مَصْدَرٌ، كالذَّهابِ.
وذَهَبَ بِهِ وأَذهَبَه غَيْرُهُ: أَزالَه.
وَيُقَالُ: أَذْهَبَ بِهِ، قَالَ أَبو إِسحاق: وَهُوَ قَلِيلٌ.
فأَمَّا قراءَةُ بَعْضِهِمْ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يُذْهِبُ بالأَبْصار، فنادِرٌ.
وَقَالُوا: ذَهَبْتُ الشَّامَ، فعَدَّوْهُ بغيرِ حرفٍ، وإِن كَانَ الشامُ ظَرْفًا مَخْصُوصًا شَبَّهوه بِالْمَكَانِ المُبْهَم، إِذ كَانَ يَقَعُ عَلَيْهِ المكانُ والمَذْهَبُ.
وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: إِنَّ الليلَ طوِيلٌ، وَلَا يَذْهَبُ بنَفْسِ أَحدٍ منَّا، أَي لَا ذَهَب.
والمَذْهَب: المُتَوَضَّأُ، لأَنَّهُ يُذْهَبُ إِليه.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ، صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذا أَراد الغائطَ أَبْعَدَ فِي المَذْهَبِ»، وَهُوَ مَفْعَلٌ مِنَ الذَّهابِ.
الْكِسَائِيُّ: يقالُ لمَوضع الغائطِ: الخَلاءُ، والمَذْهَب، والمِرْفَقُ، والمِرْحاضُ.
والمَذْهَبُ: المُعْتَقَد الَّذِي يُذْهَبُ إِليه؛ وذَهَب فلانٌ لِذَهَبِه أَي لمَذْهَبِه الَّذِي يَذْهَبُ فِيهِ.
وحَكى اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: مَا يُدْرَى لَهُ أَينَ مَذْهَبٌ، وَلَا يُدْرَى لَهُ مَا مَذْهَبٌ أَي لَا يُدْرَى أَين أَصلُه.
وَيُقَالُ: ذَهَبَ فُلانٌ مَذْهَبًا حَسَنًا.
وَقَوْلُهُمْ بِهِ: مُذْهَب، يَعْنون الوَسْوَسَة فِي الماءِ، وَكَثْرَةَ استعمالِه فِي الوُضوءِ.
قَالَ الأَزْهَرِيُّ: وأَهلُ بَغدادَ يَقُولُونَ للمُوَسْوِسِ مِنَ النَّاسِ: بِهِ المُذْهِبُ، وعَوَامُّهم يَقُولُونَ: بِهِ المُذْهَب، بفَتح الْهَاءِ، وَالصَّوَابُ المُذْهِبُ.
والذَّهَبُ: معروفٌ، وَرُبَّمَا أُنِّثَ.
غَيْرُهُ: الذَّهَبُ التِّبْرُ، القِطْعَةُ مِنْهُ ذَهَبَة، وَعَلَى هَذَا يُذَكَّر ويُؤَنَّث، عَلَى مَا ذُكر فِي الجمعِ الَّذِي لَا يُفارِقُه واحدُه إلَّا بالهاءِ.
وَفِي حَدِيثِ عليٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «فبَعَثَ مِنَ اليَمَنِ بذُهَيْبَة».
قَالَ ابْنُ الأَثير: وَهِيَ تَصْغِيرُ ذَهَبٍ، وأَدْخَلَ الهاءَ فِيهَا لأَنَّ الذَّهَب يُؤَنَّث، والمُؤَنَّث الثُّلاثيّ إِذا صُغِّرَ أُلْحِقَ فِي تصغيرِه الهاءُ، نَحْوَ قُوَيْسَةٍ وشُمَيْسَةٍ؛ وَقِيلَ: هُوَ تصغيرُ ذَهَبَةٍ، عَلَى نِيَّةِ القِطْعَةِ مِنْهَا، فصَغَّرَها عَلَى لفظِها؛ وَالْجَمْعُ الأَذْهابُ والذُّهُوبُ.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ الله تعالى وَجْهَهُ: «لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَن يَفْتَحَ لَهُمْ كنوزَ الذِّهْبانِ، لفَعَل»؛ هُوَ جمعُ ذَهَبٍ، كبَرَقٍ وبِرْقانٍ، وَقَدْ يُجْمَعُ بالضمِّ، نَحْوَ حَمَلٍ وحُمْلانٍ.
وأَذْهَبَ الشيءَ: طَلَاهُ بالذَّهَبِ.
والمُذْهَبُ: الشيءُ المَطْليُّ بالذَّهَب؛ قَالَ لَبِيدٌ:
أَوْ مُذْهَبٌ جَدَدٌ، عَلَى أَلْواحِهِ ***أَلنَّاطِقُ المَبْرُوزُ والمَخْتُومُ
وَيُرْوَى: عَلَى أَلواحِهِنَّ النَّاطِقُ، وإِنما عَدَل عَنْ ذَلِكَ بَعْضُ الرُّواةِ اسْتِيحاشًا مِنْ قَطْعِ أَلِفِ الوَصْل، وَهَذَا جائِزٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ فِي الشِّعْرِ، وَلَا سِيَّما فِي الأَنْصافِ، لأَنها مواضِعُ فُصُولٍ.
وأَهلُ الحِجازِ يَقُولُونَ: هِيَ الذَّهَبُ، وَيُقَالُ نَزَلَت بلُغَتِهِم: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ، لَغَلَبَ المُذَكَّرُ المُؤَنَّثَ.
قَالَ: وسائِرُ العَرب يَقُولُونَ: هُوَ الذَّهَب؛ قَالَ الأَزهري: الذَّهب مُذَكَّر عندَ العَرَب، وَلَا يجوزُ تأْنِيثُه إِلا أَنْ تَجْعَلَهُ جَمْعًا لذَهَبَةٍ؛ وأَما قَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: وَلا يُنْفِقُونَها، وَلَمْ يَقُلْ وَلَا يُنْفِقُونَه، فَفِيهِ أَقاويل: أَحَدُها أَنَّ الْمَعْنَى يَكْنزُون الذَّهَبَ والفِضَّة، وَلَا يُنْفِقُونَ الكُنُوزَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ وَقِيلَ: جائِزٌ أَن يكونَ مَحْمولًا عَلَى الأَمْوالِ فَيَكُونَ: وَلَا يُنْفِقُونَ الأَموال؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ: وَلَا يُنْفِقُونَ الفِضَّة، وَحَذَفَ الذَّهب كأَنه قَالَ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَب وَلَا يُنْفِقُونَه، والفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَها، فاخْتُصِرَ الكَلام، كما قال:
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَلَمْ يَقُلْ يُرْضُوهُما.
وكُلُّ مَا مُوِّهَ بالذَّهَبِ فقَدْ أُذْهِبَ، وَهُوَ مُذْهَبٌ، وَالْفَاعِلُ مُذْهِبٌ.
والإِذْهابُ والتَّذْهِيبُ واحدٌ، وَهُوَ التَّمويهُ بالذَّهَب.
وَيُقَالُ: ذَهَّبْتُ الشيءَ فَهُوَ مُذَهَّب إِذا طَلَيْتَه بالذَّهَبِ.
وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ وذِكْرِ الصَّدَقَةِ: «حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَهَلَّل كأَنَّه مُذْهَبَةٌ»؛ كَذَا جاءَ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وبعضِ طُرُقِ مُسْلم، قَالَ: وَالرِّوَايَةُ بِالدَّالِ المهملة والنون، وسيأتي ذكره؛ فَعَلى قَوْلِهِ مُذْهَبَةٌ، هُوَ مِنَ الشيءِ المُذْهَب، وَهُوَ المُمَوَّه بالذَّهَبِ، أَو هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَس مُذْهَبٌ إِذا عَلَتْ حُمْرَتَه صُفْرَةٌ، والأُنْثَى مُذْهَبَة، وإِنما خَصَّ الأُنْثَى بالذِّكْرِ لأَنَّها أَصْفَى لَوْنًا وأَرَقُّ بَشَرَةً.
وَيُقَالُ: كُمَيْتٌ مُذْهَب للَّذي تَعْلُو حُمْرَتَه صُفْرَة، فإِذا اشتَدَّتْ حُمْرَتُه، وَلَمْ تَعْلُه صُفْرَةٌ، فَهُوَ المُدَمَّى، والأُنْثى مُذْهَبَة.
وشيءٌ ذَهِيبٌ مُذْهَبٌ؛ قَالَ: أُراه عَلَى تَوَهُّم حَذْفِ الزِّيادَةِ؛ قَالَ حُمَيْدُ بنُ ثَوْرٍ:
مُوَشَّحَة الأَقْرابِ، أَمَّا سَرَاتُها ***فَمُلْسٌ، وأَمَّا جِلْدُها فَذَهِيبُ
والمَذاهِبُ: سُيُورٌ تُمَوَّهُ بالذَّهَبِ؛ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ، فِي قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الخَطِيم:
أَتَعْرفُ رَسْمًا كاطِّرادِ المَذَاهِبِ
المَذاهِبُ: جُلُودٌ كَانَتْ تُذْهَب، واحِدُها مُذْهَبٌ؛ تُجْعَلُ فِيهِ خُطوطٌ مُذَهَّبة، فَيُرَى بَعْضُها فِي أَثرِ بَعْضٍ، فكأَنها مُتَتابِعَةٌ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:
يَنْزِعْنَ جِلْدَ المَرْءِ نَزْعَ ***القَينِ أَخْلاقَ المَذاهِبْ
يَقُولُ: الضِّباع يَنزِعْنَ جِلْدَ القَتِيل، كَمَا يَنزِعُ القَين خِلَل السُّيُوف.
قَالَ، ويقالُ: المَذاهِبُ البُرود المُوَشَّاةُ، يُقَالُ: بُرْدٌ مُذْهَبٌ، وَهُوَ أَرْفَعُ الأَتحَمِيِّ.
وذَهِبَ الرجلُ، بِالْكَسْرِ، يَذْهَبُ ذَهَبًا فَهُوَ ذَهِبٌ: هَجَمَ فِي المَعْدِن عَلَى ذَهبٍ كَثِيرٍ، فَرَآهُ فَزَالَ عقلُه، وبَرِقَ بَصَره مِنْ كَثْرَةِ عِظَمِه فِي عَيْنِه، فَلَمْ يَطْرِفْ؛ مُشْتَقٌّ مِنَ الذَّهَبِ؛ قَالَ الرَّاجز:
ذَهِبَ لمَّا أَن رَآهَا تَزْمُرَهْ وَفِي رِوَايَةٍ:
ذَهِبَ لمَّا أَن رَآهَا ثُرْمُلَهْ، ***وَقَالَ: يَا قَوْمِ، رأَيتُ مُنْكرَهْ:
شَذْرَةَ وادٍ، ورأَيتُ الزُّهَرَهْ
وثُرْمُلَة: اسمُ رَجُلٍ.
وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي: ذِهِبَ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدَنَا مُطَّرِدٌ إِذا كَانَ ثانيهِ حَرْفًا مِنْ حُروفِ الحَلْقِ، وَكَانَ الفعْل مَكْسُورَ الثَّانِي، وَذَلِكَ فِي لُغَةِ بَنِي تميمٍ؛ وَسَمِعَهُ ابْنُ الأَعرابي فظَنَّه غيرَ مُطَّرِدٍ فِي لغتِهِم، فَلِذَلِكَ حَكَاهُ.
والذِّهبةُ، بِالْكَسْرِ، المَطْرَة، وَقِيلَ: المَطْرةُ الضَّعيفة، وَقِيلَ: الجَوْدُ، والجمع ذِهابٌ؛ قال ذُو الرُّمة يَصِفُ رَوْضَةً:
حَوَّاءُ، قَرْحاءُ، أَشْراطِيَّة، وكَفَتْ ***فِيهَا الذِّهابُ، وحفَّتْها البراعيمُ
وأَنشد الْجَوْهَرِيُّ لِلْبَعِيثِ:
وَذِي أُشُرٍ، كالأُقْحُوانِ، تَشُوفُه ***ذِهابُ الصَّبَا، والمُعْصِراتُ الدَّوالِحُ
وَقِيلَ: ذِهْبةٌ للمَطْرة، واحدَةُ الذِّهاب.
أَبو عُبَيْدٍ عَنْ أَصحابه: الذِّهابُ الأَمْطارُ الضَّعيفة؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَوَضَّحْنَ فِي قَرْنِ الغَزَالَةِ، بَعْدَ مَا ***تَرَشَّفْنَ دِرَّاتِ الذِّهابِ الرَّكائِكِ
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي الِاسْتِسْقَاءِ: «لَا قَزَعٌ رَبابُها، وَلَا شِفّانٌ ذِهابُها»؛ الذِّهابُ: الأَمْطارُ اللَّيِّنة؛ وَفِي الْكَلَامِ مُضافٌ مَحْذُوفٌ تقديرُه: وَلَا ذَاتُ شِفّانٍ ذِهابُها.
والذَّهَب، بِفَتْحِ الهاءِ: مِكيالٌ معروفٌ لأَهْلِ اليَمَن، وَالْجَمْعُ ذِهابٌ وأَذهابٌ وأَذاهِيبُ، وأَذاهِبُ جَمْعُ الْجَمْعِ.
وَفِي حَدِيثِ عِكرمة أَنه قَالَ: «فِي أَذاهِبَ مِنْ بُرٍّ وأَذاهِبَ مِنْ شَعِيرٍ»، قَالَ: يُضَمُّ بعضُها إِلى بعضٍ فتُزَكَّى.
الذَّهَبُ: مِكيالٌ معروفٌ لأَهلِ اليمنِ، وجمعُه أَذهابٌ، وأَذاهِبُ جمعُ الْجَمْعِ.
والذِّهابُ والذُّهابُ: موضعٌ، وَقِيلَ: هُوَ جبلٌ بعَيْنه؛ قَالَ أَبو دواد:
لِمَنْ طَلَلٌ، كعُنْوانِ الكتابِ، ***ببَطْنِ لُواقَ، أَو بَطْنِ الذُّهابِ
وَيُرْوَى: الذِّهابِ.
وذَهْبانُ: أَبُو بَطْنٍ.
وذَهُوبُ: اسْمُ امرأَةٍ.
والمُذْهِبُ: اسمُ شيطانٍ؛ يقالُ هُوَ مِنْ وَلد إبليسَ، يَتَصَوَّر للقُرَّاءِ، فيَفْتِنهُم عِنْدَ الوضوءِ وغيرِه؛ قَالَ ابْنُ دُرَيْد: لَا أَحسبُه عَرَبِيًّا.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
140-لسان العرب (كثب)
كثب: الكَثَبُ، بِالتَّحْرِيكِ: القُرْبُ.وَهُوَ كَثَبَك أَي قُرْبَكَ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يُستعمل إِلَّا ظَرْفًا.
وَيُقَالُ: هُوَ يَرْمِي مِنْ كَثَبٍ، ومِنْ كَثَمٍ أَي مِنْ قُرْبٍ وتَمَكُّنٍ؛ أَنشد أَبو إِسحاق:
فهذانِ يَذُودانِ، ***وَذَا، مِنْ كَثَبٍ، يَرْمِي
وأَكْثَبَك الصيدُ والرَّمْيُ، وأَكْثَبَ لَكَ: دَنَا منكَ وأَمْكَنَك، فارْمِه.
وأَكْثَبُوا لَكُمْ: دَنَوْا مِنْكُمْ.
النَّضْرُ: أَكْثَبَ فلانٌ إِلى الْقَوْمِ أَي دَنَا مِنْهُمْ؛ وأَكْثَبَ إِلى الجَبل أَي دَنَا مِنْهُ.
وكاثَبْتُ القومَ أَي دَنَوْتُ مِنْهُمْ.
وَفِي حَدِيثِ بَدْرٍ: «إِنْ أَكْثَبَكُمُ القومُ فانْبِلوهم»؛ وَفِي رِوَايَةٍ: إِذا كَثَبُوكم فارْمُوهُمْ بالنَّبْل مِنْ كَثَب.
وأَكْثَبَ إِذا قارَبَ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَكْثَبكم لِتَعْدِيَةِ كَثَبَ، فَلِذَلِكَ عَدّاها إِلى ضَمِيرِهِمْ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ تَصِفُ أَباها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «وظَنَّ رجالٌ أَنْ قَدْ أَكْثَبَتْ أَطْماعُهم»أَي قَرُبَتْ.
وَيُقَالُ: كَثَبَ القومُ إِذا اجتَمعوا، فَهُمْ كاثِبُون.
وكَثَبُوا لَكُمْ: دخَلوا بَيْنَكُمْ وَفِيكُمْ، وَهُوَ مِنَ القُرْب.
وكَثَبَ الشيءَ يَكْثِبُه ويَكْثُبه كَثْبًا: جَمَعَه مِنْ قُرْبٍ وصبَّه؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
لأَصْبَحَ رَتْمًا دُقاقُ الحَصَى، ***مكانَ النبيِّ من الكائِبِ
قَالَ: يُرِيدُ بالنبيِّ، مَا نَبا مِنَ الحَصَى إِذا دُقَّ فَنَدَر.
والكاثِبُ: الجامِعُ لِمَا ندَر مِنْهُ؛ وَيُقَالُ: هُمَا مَوْضِعَانِ، وسيأْتي فِي أَثناء هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَيضًا.
وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «كنتُ فِي الصُّفَّةِ»، فبَعَثَ النبيُّ، صلى الله عليه وَسَلَّمَ، بتَمْرِ عَجْوةٍ فكُثِبَ بَيْنَنَا، وَقِيلَ: كُلُوه وَلَا تُوَزِّعُوه أَي تُرِكَ بَيْنَ أَيدينا مَجْموعًا.
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: جئتُ عَلِيًّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ قَرَنْفُلٌ مَكْثوبٌ أَي مَجْمُوعٌ.
وانْكَثَبَ الرَّمْلُ: اجْتَمع.
والكَثِيبُ مِنَ الرَّمْلِ: القِطْعةُ تَنْقادُ مُحْدَوْدِبةً.
وَقِيلَ: هُوَ مَا اجتَمع واحْدَوْدَبَ، وَالْجَمْعُ: أَكْثِبةٌ وكُثُبٌ وكُثْبانٌ، مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ تلالُ الرَّمْلِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}.
قَالَ الْفَرَّاءُ: الكَثيبُ الرَّمْل.
والمَهِيلُ: الَّذِي تُحَرِّكُ أَسْفَلَه، فيَنْهالُ عَلَيْكَ مِنْ أَعلاه.
اللَّيْثُ: كَثَبْتُ الترابَ فانْكَثَب إِذا نَثَرْتَ بعضَه فوقَ بَعْضٍ.
أَبو زَيْدٍ: كَثَبْتُ الطعامَ أَكْثُبه كَثْبًا، ونَثَرْتُه نَثْرًا، وَهُمَا واحدٌ.
وكلُّ مَا انْصَبَّ فِي شيءٍ وَاجْتَمَعَ، فَقَدِ انْكَثَب فِيهِ.
والكُثْبة مِنَ الْمَاءِ واللَّبن.
القَلِيلُ مِنْهُ؛ وَقِيلَ: هِيَ مِثْلُ الجَرْعَةِ تَبْقَى فِي الإِناءِ؛ وَقِيلَ: قَدْرُ حَلْبة.
وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: ملْءُ القَدَح مِنَ اللَّبن؛ وَمِنْهُ قولُ الْعَرَبِ، فِي بَعْضِ مَا تَضَعُه عَلَى أَلسنة الْبَهَائِمِ، قَالَتِ الضَّائنةُ: أُوَلَّدُ رُخالًا، وأُجَزُّ جُفَالًا، وأُحْلَبُ كُثَبًا ثِقالًا، وَلَمْ تَرَ مِثْلي مَالًا.
وَالْجَمْعُ الكُثَبُ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
بَرَّحَ بالعَيْنَيْنِ خطَّابُ الكُثَبْ، ***يقولُ: إِني خاطِبٌ وَقَدْ كَذَبْ،
وإِنما يَخْطُبُ عُسًّا منْ حَلَبْ
يَعْنِي الرجلَ يَجيءُ بعِلَّةِ الخِطْبةِ، وإِنما يُريدُ القِرَى.
قَالَ ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ للرَّجُل إِذا جاءَ يَطْلُبُ القِرَى، بعِلَّةِ الخِطْبة: إِنه ليَخْطُبُ كُثْبةً؛ وأَنشد الأَزهري لِذِي الرُّمَّةِ:
مَيْلاءَ، مِنْ مَعْدِنِ الصِّيرانِ، قاصِيَةً، ***أَبْعارُهُنَّ عَلَى أَهْدافِها كُثَبُ
وأَكْثَبَ الرجلَ: سَقَاهُ كُثْبةً مِنْ لَبَن.
وكلُّ طائفةٍ مِنْ طَعَامٍ أَو تَمْرٍ أَو تُرَابٍ أَو نَحْوِ ذَلِكَ، فَهُوَ كُثْبةٌ، بَعْدَ أَن يَكُونَ قَلِيلًا.
وَقِيلَ: كلُّ مُجْتَمِعٍ مِنْ طعامٍ، أَو غَيْرِهِ، بَعْدَ أَن يَكُونَ قَلِيلًا، فَهُوَ كُثْبةٌ.
وَمِنْهُ سُمِّيَ الكَثِيبُ مِنَ الرَّمْلِ، لأَنه انْصَبَّ فِي مكانٍ فَاجْتَمَعَ فِيهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «ثلاثةٌ عَلَى كُثُبِ المِسْكِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى كُثْبانِ المِسْك، هُمَا جَمْعُ كَثِيبٍ».
والكَثِيبُ: المُسْتَطيلُ المُحْدَوْدِبُ.
وَيُقَالُ للتَّمْر، أَو للبُرِّ وَنَحْوِهِ إِذا كَانَ مَصْبوبًا فِي مَوَاضِعَ، فكُلُّ صُوبةٍ مِنْهَا: كُثْبة.
وَفِي حَدِيثِ ماعزِ بْنِ مالكٍ: «أَن النَّبِيَّ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَر بِرَجْمِه حِينَ اعْتَرَفَ بِالزِّنَى، ثُمَّ قَالَ: يَعْمِدُ أَحَدُكم إِلى المرأَة المُغِيبَة، فيَخْدَعُها بالكُثْبَة، لَا أُوتى بأَحدٍ مِنْهُمْ فَعَلَ ذَلِكَ، إِلَّا جعلْتُه نَكالًا.
قَالَ أَبو عُبَيْدٍ قَالَ شُعْبةُ: سأَلتُ سِماكًا عَنِ الكُثْبة، فَقَالَ: القليلُ مِنَ اللَّبن؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَهُوَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ اللَّبَنِ.
أَبو حَاتِمٍ: احْتَلَبوا كُثَبًا أَي مِنْ كلِّ شاةٍ شَيْئًا قَلِيلًا.
وَقَدْ كَثَبَ لَبَنُها إِذا قَلَّ إِمَّا عِنْدَ غزارةٍ، وإِما عِنْدَ قِلَّةِ كَلإٍ.
والكُثْبة: كلُّ قَلِيلٍ جَمَعْتَه مِنْ طَعَامٍ، أَو لَبَنٍ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ.
والكَثْباءُ، مَمْدُودٌ: التُّرابُ.
ونَعَمٌ كُثابٌ: كَثِيرٌ.
والكُثَّابُ: السَّهْمُ عامَّةً، وَمَا رَمَاهُ بكُثَّابٍ أَي بسَهْمٍ؛ وَقِيلَ: هُوَ الصَّغِيرُ مِنَ السِّهام هَاهُنَا.
الأَصمعي: الكُثَّابُ سَهْمٌ لَا نَصْلَ لَهُ، وَلَا ريشَ، يَلْعَبُ بِهِ الصِّبيان؛ قَالَ الرَّاجِزُ فِي صِفَةِ الْحَيَّةِ.
كأَنَّ قُرْصًا مِنْ طَحِينٍ مُعْتَلِثْ، ***هامَتُه فِي مِثْلِ كُثَّابِ العَبِثْ
وجاءَ يَكْثُبه أَي يَتْلُوه.
والكاثِبةُ مِنَ الفَرس: المَنْسِجُ؛ وَقِيلَ: هُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنْ المَنْسِج؛ وَقِيلَ: هُوَ مُقَدَّمُ المَنْسِج، حَيْثُ تَقَع عَلَيْهِ يَدُ الفارِس، والجمعُ الكواثِبُ؛ وَقِيلَ: هِيَ مِنْ أَصل العُنُق إِلى مَا بَيْنَ الكَتِفَيْن؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
لَهُنَّ عَلَيْهِمْ عادةٌ قَدْ عَرَفْنَها، ***إِذا عُرِضَ الخَطِّيُّ فَوْقَ الكَواثِبِ
وَقَدْ قِيلَ فِي جَمْعِهِ: أَكْثابٌ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا أَدري كَيْفَ ذَلِكَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَضَعُونَ رِماحَهم عَلَى كَواثِبِ خَيْلِهِمْ»، وَهِيَ مِنَ الفَرس، مُجْتَمع كَتِفَيْه قُدَّامَ السَّرْج.
والكاثِبُ: موضعٌ، وَقِيلَ: جَبَلٌ؛ قَالَ أَوْسُ بنُ حَجَر يَرْثي فَضالةَ بنَ كِلْدَة الأَسَدِيَّ:
عَلَى السَّيِّدِ الصَّعْبِ، لَوْ أَنه ***يَقُوم عَلَى ذِرْوَةِ الصَّاقِبِ
لأَصْبَحَ رَتْمًا دُقاقُ الحَصى، ***مَكانَ النَّبِيِّ مِنَ الكاثِبِ
النبيُّ: مَوْضِعٌ، وَقِيلَ: هُوَ مَا نَبا وارْتَفَع.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: النبيُّ رَمْل مَعْرُوفٌ؛ وَيُقَالُ: هُوَ جمعنابٍ، كغازٍ وغَزِيٍّ.
وَقَوْلُهُ: لأَصْبَحَ، هُوَ جَوَابُ لَوْ فِي الْبَيْتِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ يَقُولُ: لَوْ عَلا فَضالةُ هَذَا عَلَى الصاقِبِ، وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ فِي بِلَادِ بَنِي عَامِرٍ، لأَصْبَحَ مَدْقُوقًا مَكْسُورًا، يُعَظِّم بِذَلِكَ أَمْرَ فَضالةَ.
وَقِيلَ: إِن قَوْلَهُ يقوم، بمعنى يُقاومُه.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
141-لسان العرب (خجج)
خجج: خَجَّت الرِّيحُ فِي هُبُوبِهَا تَخُجُّ خُجُوجًا: الْتَوَتْ.وَرِيحٌ خَجُوج: تَخُجُّ فِي هُبُوبِهَا أَي تَلْتَوِي.
قَالَ: وَلَوْ ضُوعِفَ وَقِيلَ: خَجْخَجَتِ الرِّيحُ، كَانَ صَوَابًا.
والخَجُوج من الرياح: الشديدة المَرِّ، وَقَدْ خَجْخَجَتْ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَقِيلَ هِيَ الشَّدِيدَةُ مِنْ كُلِّ رِيحٍ مَا لَمْ تُثِرْ عَجاجًا.
وخَجِيج الرِّيحِ: صَوْتُهَا.
شَمِرٌ: ريح خجُوح وخجَوْجَاةٌ: تَخُجُّ فِي كُلِّ شَقٍّ أَي تشقُّ.
قَالَ وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: رِيحٌ خَجَوْجاةٌ طَوِيلَةٌ دَائِمَةُ الْهُبُوبِ.
وَقَالَ أَبو نَصْرٍ: هِيَ الْبَعِيدَةُ المَسْلَك الدَّائِمَةُ الهُبوب.
وَقَالَ ابْنُ أَحمر يَصِفُ الرِّيحَ:
هَوْجاءُ رَعْبَلَةُ الرَّواح، خَجَوْجاةُ ***الغُدُوِّ، رَواحُها شَهْرُ
قَالَ: والأَصل خَجُوج.
وَقَدْ خَجَّتْ تَخُجُّ؛ وأَنشد أَبو عَمْرٍو:
وخَجَّتِ النَّيْرَجَ مِنْ خَرِيقِها وَرَوَى الأَزهري بإِسناده عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: إِن إِبراهيم حِينَ أُمِرَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ ضَاقَ بِهِ ذَرْعًا، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِليه السَّكِينَةَ وَهِيَ رِيحٌ خُجُوجٌ لَهَا رأْس فتطوَّقت بِالْبَيْتِ كَطَوْقِ الحَجَفَةِ، ثُمَّ استقرَّت، قَالَ: فَبَنَى إِبراهيم حِينَ اسْتَقَرَّتْ، فَجَعَلَ إِسماعيل يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلى مَوْضِعِ الحِجْر أَعيا إِسماعيل فأَتى إِبراهيم بالحِجْرِ.
وَقَالَ الأَصمعي: الخَجُوجُ الرِّيحُ الشديدةُ المرِّ؛ وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: هِيَ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ الخَوَّارَةُ لَا تَكُونُ إِلا فِي الصَّيْفِ، وَلَيْسَتْ بِشَدِيدَةِ الْحَرِّ.
وَفِي كِتَابِ الْقُتَيْبِيِّ: فتطوَّت موضعَ الْبَيْتِ كالحَجَفَة.
وَقِيلَ: رِيحٌ خَجُوج أَي شَدِيدَةُ الْمُرُورِ فِي غَيْرِ استواءٍ.
قَالَ: وأَصل الخَجِّ الشِّقُّ.
قَالَ ابْنُ الأَثير:
وجاءَ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ الأَوسط لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: السَّكِينَةُ رِيحٌ خَجُوجٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: إِذا حَمَل، فَهُوَ خَجُوج.
وَفِي حَدِيثِ الَّذِي بَنَى الْكَعْبَةَ لِقُرَيْشٍ: «كَانَ رُومِيًّا فِي سَفِينَةٍ أَصابتها رِيحٌ فخَجَّتْها»؛ أي صَرَفَتْهَا عَنْ جِهَتِهَا وَمَقْصِدِهَا بِشِدَّةِ عَصْفِهَا.
والخَجُّ: الدَّفْعُ.
وَفِي النَّوَادِرِ: النَّاسُ يَهُجُّونَ هَذَا الواديَ هَجًّا ويَخُجُّونه خَجًّا أَي يَنْحَدِرُونَ فِيهِ ويَطَؤُونه كَثِيرًا.
وخَجَّ بِهَا: ضَرَطَ.
وخَجَّ بِرِجْلِهِ: نَسَفَ بِهَا التُّرَابَ فِي مَشْيِهِ.
وخَجْخَجَ الرجلُ: لَمْ يُبْد مَا فِي نَفْسِهِ.
والخَجْخَجَةُ: سُرْعَةُ الإِناخَةِ والحُلُولِ.
والخَجْخَجَةُ: الِانْقِبَاضُ والاستخفاءُ فِي مَوْضِعٍ خَفِيٍّ، وَفِي التَّهْذِيبِ: فِي مَوْضِعٍ يَخْفَى فِيهِ، قَالَ: وَيُقَالُ أَيضًا بالحاءِ.
وَرَجُلٌ خَجَّاجَةٌ: أَحمق لَا يَعْقِلُ.
ابْنُ سِيدَهْ:
والخَجْخاجَةُ والخَجَّاجَةُ الأَحمق.
والخَجْخاج مِنَ الرِّجَالِ: الَّذِي يَهْمِزُ الكلامَ، لَيْسَتْ لِكَلَامِهِ جِهَةٌ، قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: لَمْ أَسمع خَجَّاجَةً فِي نَعْتِ الأَحمق إِلا مَا قرأْته فِي كِتَابِ اللَّيْثِ قال: والمسموع مِنَ الْعَرَبِ خَجَّاية؛ قَالَهُ ابْنُ الأَعرابي وَغَيْرُهُ.
النَّضِرُ: الخَجْخاجُ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يُري أَنه جادٌّ فِي أَمره وَلَيْسَ كَمَا يُري.
الفراءُ: خَجْخَجَ الرَّجُلُ وجَخْجَخَ إِذا لَمْ يُبْدِ مَا فِي نَفْسِهِ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ النَّضِرِ وَهُوَ أَصح مِمَّا قَالَهُ اللَّيْثُ فِي الخَجْخاجِ.
والخَجُّ: الجِماعُ.
وخَجَّ جَارِيَتَهُ: مَسَحَهَا.
والخَجْخَجَةُ: كِنَايَةٌ عن النكاح.
واخْتَجَّ الجملُ والناشطُ فِي سَيْرِهِ وَعَدْوِهِ إِذا لَمْ يَسْتَقِمْ، وَذَلِكَ سُرْعَةٌ مَعَ التواءِ.
اللَّيْثُ: الخَجْخَجَة تُوصَفُ فِي سرْعَةِ الإِناخة وَحُلُولِ الْقَوْمِ.
والخَجَوْجى مِنَ الرِّجَالِ: الطَّوِيلُ الرِّجْلَيْنِ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
142-لسان العرب (سطح)
سطح: سَطَحَ الرجلَ وَغَيْرَهُ يَسطَحه، فَهُوَ مسْطوحٌ وسَطِيح: أَضْجَعَه وَصَرَعَهُ فَبَسَطَهُ عَلَى الأَرض.وَرَجُلٌ مَسْطُوحٌ وسَطِيحٌ: قَتيلٌ منبَسِطٌ؛ قَالَ اللَّيْثُ: السَّطِيحُ المَسْطُوحُ هُوَ الْقَتِيلُ: وأَنشد:
حَتَّى يَراه وَجْهها سَطِيحا والسَّطِيح: الْمُنْبَسِطُ، وَقِيلَ: الْمُنْبَسِطُ الْبَطِيءُ الْقِيَامُ مِنَ الضَّعْفِ.
والسَّطِيح: الَّذِي يُولَدُ ضَعِيفًا لَا يقدر
عَلَى الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، فَهُوَ أَبدًا مُنْبَسِطٌ.
والسَّطِيح: الْمُسْتَلْقِي عَلَى قَفَاهُ مِنَ الزِّمَانَةِ.
وسَطِيحٌ: هَذَا الْكَاهِنُ الذِّئْبيُّ، مِنْ بَنِي ذِئْب، كَانَ يَتَكَهَّنُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنه كَانَ إِذا غَضِبَ قَعَدَ مُنْبَسِطًا فِيمَا زَعَمُوا؛ وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنه لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْنَ مَفَاصِلِهِ قَصَبٌ تَعْمِدُه، فَكَانَ أَبدًا مُنْبَسِطًا مُنْسَطِحًا عَلَى الأَرض لَا يَقْدِرُ عَلَى قِيَامٍ وَلَا قُعُودٍ، وَيُقَالُ: كَانَ لَا عَظْمَ فِيهِ سِوَى رأْسه.
رَوَى الأَزهري بإِسناده عَنِ مَخْزُوم بْنِ هانئٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبيه: وأَتت لَهُ خَمْسُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ؛ قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةَ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَجَسَ إِيوانُ كِسْرى وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَربع عَشْرَةَ شُرْفةً، وخَمِدَتْ نَارُ فارِسَ وَلَمْ تَخْمَدْ قَبْلَ ذَلِكَ مِائَةَ عَامٍ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَة ساوَةَ؛ ورأَى المُوبِذانُ إِبلًا صِعابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرابًا قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَة وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَلَمَّا أَصبح كِسْرَى أَفزعه مَا رأَى فَلَبِسَ تَاجَهُ وأَخبر مرازِبَتَه بِمَا رأَى، فَوَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابٌ بِخُمُودِ النَّارِ؛ فَقَالَ المُوبِذانُ: وأَنا رأَيت فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وقَصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ فِي الإِبل، فَقَالَ لَهُ: وأَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: حَادَثَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعَرَبِ.
فَبَعَثَ كِسْرَى إِلى النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ: أَنِ ابْعَثْ إِليَّ بِرَجُلٍ عَالِمٍ لِيُخْبِرَنِي عَمَّا أَسأَله؛ فَوَجَّه إِليه بِعَبْدِ المَسيح بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيلَة الغسَّانيّ، فأَخبره بِمَا رأَى؛ فَقَالَ: عَلِمَ هَذَا عِنْدَ خَالِيَ سَطِيح، قَالَ: فأْتِه وسَلْه وأْتنِي بِجَوَابِهِ؛ فَقَدِمَ عَلَى سَطِيح وَقَدْ أَشْفى عَلَى الْمَوْتِ، فأَنشأَ يَقُولُ:
أَصَمّ أَم يَسْمَعُ غِطرِيفُ اليَمنْ؟ ***أَم فادَ فازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ العَنَنْ؟
يَا فاصِلَ الخُطَّةِ أَعْيَتْ مَنْ ومَنْ ***، أَتاكَ شَيْخُ الحَيِّ مِنْ آلِ سَنَنْ
رسولُ قَيْلِ العُجْمِ يَسْري للوَسَنْ، ***وأُمُّه مِنْ آلِ ذِئْبِ بنِ حَجَنْ
أَبْيضُ فَضْفاضُ الرِّداءِ والبَدَنْ، ***تَجُوبُ بِي الأَرْضَ عَلَنْداةٌ شَزَنْ،
تَرْفَعُنِي وَجْنًا وتَهْوِي بِي وَجَنْ ***، حَتَّى أَتى عارِي الْجَآجِي والقَطَنْ،
لَا يَرْهَبُ الرَّعْدَ وَلَا رَيْبَ الزَّمَنْ، ***تَلُفُّهُ فِي الرِّيحِ بَوْغاءُ الدِّمَنْ
، كأَنما حُثْحِثَ مِنْ حِضْنَيْ ثَكَنْ
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ سَطِيحٌ شِعْرَهُ رَفَعَ رأْسه، فَقَالَ: عبدُ الْمَسِيحِ، عَلَى جَمَل مُسيح، إِلى سَطيح، وَقَدْ أَوْفى عَلَى الضَّريح، بَعَثَكَ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ، لِارْتِجَاسِ الإِيوان، وخُمُود النِّيرَانِ، ورُؤيا المُوبِذان، رَأَى إِبلًا صِعابًا، تَقُود خَيْلًا عِرابًا، يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ إِذا كَثُرَتِ التِّلاوَة، وبُعِثَ صَاحِبُ الهِراوة، وغاضَتْ بُحَيْرَة سَاوَةْ، فَلَيْسَ الشَّامَ لِسَطِيحٍ شَامًا، يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلوكٌ ومَلِكات، عَلَى عددِ الشُّرُفاتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، ثُمَّ قُبِضَ سطيحٌ مَكَانَهُ، وَنَهَضَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
شَمِّرْ فإِنك، مَا عُمِّرْتَ، شِمِّيرُ ***لَا يُفْزِعَنَّك تَفْريقٌ وتَغْييرُ
إِن يُمْسِ مُلْكُ بَنِي ساسانَ أَفْرَطَهُمْ، ***فإِنَّ ذَا الدَّهْرَ أَطْوارٌ دَهارِيرُ
فَرُبَّما رُبَّما أَضْحَوا بمنزلةٍ، ***تَخافُ صَولَهُمُ أُسْدٌ مَهَاصِيرُ
مِنْهُمْ أَخُو الصَّرْحِ بَهْرام، وإِخْوَتُهُمْ، ***وهُرْمُزانٌ، وسابورٌ، وسَابُورُ
والناسُ أَوْلادُ عَلَّاتٍ، فَمَنْ عَلِمُوا ***أَن قَدْ أَقَلَّ، فمَهْجُورٌ ومَحْقُورُ
وَهُمْ بَنُو الأُمِّ لمَّا أَنْ رَأَوْا نَشَبًا، ***فذاكَ بالغَيْبِ محفوظٌ ومنصورُ
والخيرُ والشَّرُّ مَقْرُونانِ فِي قَرَنٍ، ***فالخَيرُ مُتَّبَعٌ والشَّرُّ مَحْذورُ
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى كِسْرَى أَخبره بِقَوْلِ سَطِيحٍ؛ فَقَالَ كِسْرَى: إِلى أَن يَمْلِكَ مِنَّا أَربعة عَشَرَ مَلِكًا تَكُونُ أُمور، فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشْرَةٌ فِي أَربع سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلى زَمَنِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ نُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وانْسَطَحَ الرجلُ: امتدَّ عَلَى قَفَاهُ وَلَمْ يَتَحَرَّكِ.
والسَّطْحُ: سَطْحُك الشيءَ عَلَى وَجْهِ الأَرض كَمَا تَقُولُ فِي الْحَرْبِ: سَطَحُوهم أَي أَضْجَعُوهم عَلَى الأَرض.
وتَسَطَّحَ الشيءُ وانْسَطَحَ: انْبَسَطَ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ للمرأَة الَّتِي مَعَهَا الصِّبْيَانُ: «أَطْعِمِيهم وأَنا أَسْطَحُ لَكِ»أَي أَبْسُطه حَتَّى يَبْرُدَ.
والسَّطْحُ: ظَهْرُ الْبَيْتِ إِذا كَانَ مُسْتَوِيًا لِانْبِسَاطِهِ؛ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَعلاه، وَالْجَمْعُ سُطوح، وفعلُك التَّسطيحُ.
وسَطَحَ البيتَ يَسْطَحُه سَطْحًا وسَطَّحه سوَّى سَطْحه.
ورأَيت الأَرضَ مَساطِحَ لَا مَرْعَى بِهَا: شُبِّهَتْ بِالْبُيُوتِ الْمَسْطُوحَةِ.
والسُّطَّاحُ مِنَ النَّبْتِ: مَا افْتَرَشَ فَانْبَسَطَ وَلَمْ يَسْمُ؛ عَنْ أَبي حَنِيفَةَ.
وسَطَحَ اللهُ الأَرضَ سَطْحًا: بَسَطَهَا.
وتَسطِيحُ الْقَبْرِ: خِلَافُ تَسْنِيمِه.
وأَنفٌ مُسَطَّحٌ: منبسِط جِدًّا.
والسُّطَّاحُ، بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ: نَبتَةٌ سُهْلِيَّة تَنسَطِح عَلَى الأَرض، وَاحِدَتُهُ سُطَّاحة.
وَقِيلَ: السُّطَّاحة شَجَرَةٌ تَنْبُتُ فِي الدِّيَارِ فِي أَعطان الْمِيَاهِ مُتَسَطِّحَة، وَهِيَ قَلِيلَةٌ، وَلَيْسَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ؛ قَالَ الأَزهري: والسُّطَّاحة بَقْلَةٌ تَرْعَاهَا الْمَاشِيَةُ ويُغْسَلُ بوَرَقِها الرؤوس.
وسَطَحَ النَّاقَةَ: أَناخها.
والسَّطيحة والسَّطيح: المَزادة الَّتِي مِنْ أَدِيمَيْن قُوبل أَحدُهما بِالْآخَرِ، وَتَكُونُ صَغِيرَةً وَتَكُونُ كَبِيرَةً، وَهِيَ مِنْ أَواني الْمِيَاهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَعْضِ أَسفاره فَفَقَدوا الماءَ، فأَرْسَل عَلِيًّا وَفُلَانًا يَبْغِيان الْمَاءَ فإِذا هما بامرأَة بين سَطِيحَتَيْن»؛ قَالَ: السَّطِيحة المَزادة تَكُونُ مِنْ جِلْدَيْنِ أَو المَزادة أَكبر مِنْهَا.
والمِسْطَحُ: الصَّفاة يحاط عليها بالحجارة فيجتمع فِيهَا الْمَاءُ؛ قَالَ الأَزهري: والمِسْطَحُ أَيضًا صَفِيحة عَرِيضَةٌ مِنَ الصَّخْر يُحَوَّط عَلَيْهَا لِمَاءِ السَّمَاءِ؛ قَالَ: وَرُبَّمَا خَلَقَ اللَّهُ عِنْدَ فَمِ الرَّكِيَّة صَفاةً مَلْساء مُسْتَوِيَةً فَيُحَوَّطُ عَلَيْهَا بِالْحِجَارَةِ وتُسْقَى فِيهَا الإِبلُ شِبْهَ الحَوْض؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الطِّرِمَّاح:
فِي جنبي مريٍّ ومِسْطَحِ
والمِسْطَحُ: كُوز ذُو جَنْبٍ وَاحِدٍ، يُتَّخَذُ لِلسَّفَرِ.
والمِسْطَحُ والمِسْطَحَةُ: شِبْهُ مِطْهَرة لَيْسَتْ بمربعة، والمِسْطَحُ [المَسْطَحُ]، تُفْتَحُ مِيمُهُ وَتُكْسَرُ: مَكَانٌ مستوٍ يُبْسَطُ عَلَيْهِ التَّمْرُ وَيُجَفَّفُ ويُسَمَّى الجَرِينَ، يَمَانِيَةٌ.
والمِسْطَحُ: حَصِيرٌ يُسَفُّ مِنْ خُوصِ الدَّوْم؛ وَمِنْهُ قَوْلُ تَمِيمِ بْنِ مُقْبِلٍ:
إِذا الأَمْعَزُ المَحْزُوُّ آضَ كأَنه، ***مِنَ الحَرِّ فِي حَدِّ الظَّهِيرَةِ، مِسْطَحُ
الأَزهري: قَالَ الْفَرَّاءُ هُوَ المِسْطَحُ والمِحْوَرُ والشُّوبَقُ.
والمِسْطَحُ: عمودٌ مِنْ أَعمِدَة الخِباءِ والفُسْطاط؛ وَفِي حَدِيثِالنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ حَمَلَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ»، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي فضربتْ إِحداهما الأُخرى بمسْطَح، فأَلقت جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ؛ وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّة؛ وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ النَّضْرِيُّ، وَفِي حَوَاشِي ابْنِ بَرِّيٍّ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّضْرِيِّ:
تَعرَّضَ ضَيطارُو خُزاعَةَ دونَنا، ***وَمَا خَيرُ ضَيطارٍ يُقَلِّبُ مِسْطَحا
يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ سِلَاحٌ يُقَاتِلُ بِهِ غَيْرَ مِسْطَح.
والضَّيْطارُ: الضَّخْمُ الَّذِي لَا غَناءَ عِنْدَهِ.
والمِسْطَحُ: الْخَشَبَةُ المُعَرَّضة عَلَى دِعامَتَيِ الكَرْم بالأُطُرِ؛ قَالَ ابْنُ شُمَيْل: إِذا عُرِّشَ الكَرْمُ، عُمِدَ إِلى دَعَائِمَ يَحْفِرُ لَهَا فِي الأَرض، لِكُلِّ دِعامةٍ شُعْبَتان، ثُمَّ تؤْخذ شُعْبَةٌ فتُعَرَّضُ عَلَى الدِّعامَتين، وتسمَّى هَذِهِ الْخَشَبَةُ الْمُعَرَّضَةُ المِسْطَح، وَيُجْعَلُ عَلَى المَساطِح أُطُرٌ مِنْ أَدناها إِلى أَقصاها؛ تُسَمَّى المَساطِحُ بالأُطُر مَساطِحَ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
143-لسان العرب (سكر)
سكر: السَّكْرَانُ: خِلَافَ الصَّاحِي.والسُّكْرُ: نَقِيضُ الصَّحْوِ.
والسُّكْرُ ثَلَاثَةُ: سُكْرُ الشَّبابِ وسُكْرُ المالِ وسُكْرُ السُّلطانِ؛ سَكِرَ يَسْكَرُ سُكْرًا وسُكُرًا وسَكْرًا وسَكَرًا وسَكَرَانًا، فَهُوَ سَكِرٌ؛ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وسَكْرانُ، والأُنثى سَكِرَةٌ وسَكْرَى وسَكْرَانَةٌ؛ الأَخيرة عَنْ أَبي عَلِيٍّ فِي التَّذْكِرَةِ.
قَالَ: وَمَنْ قَالَ هَذَا وجب عَلَيْهِ أَن يَصْرِفَ سَكْرَانَ فِي النَّكِرَةِ.
الْجَوْهَرِيُّ: لغةُ بَنِي أَسد سَكْرَانَةٌ، وَالِاسْمُ السُّكْرُ، بِالضَّمِّ، وأَسْكَرَهُ الشَّرَابُ، وَالْجَمْعُ سُكَارَى وسَكَارَى وسَكْرَى، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى}؛ وَقُرِئَ: " سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى "؛ التَّفْسِيرُ أَنك تَرَاهُمْ سُكَارَى مِنَ الْعَذَابِ وَالْخَوْفِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: {وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}، وَلَمْ يقرأْ أَحد مِنَ الْقُرَّاءِ سَكَارَى، بِفَتْحِ السِّينِ، وَهِيَ لُغَةٌ وَلَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا لأَن الْقِرَاءَةَ سنَّة.
قَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: النَّعْتُ الَّذِي عَلَى فَعْلَانَ يُجْمَعُ عَلَى فُعَالى وفَعَالى مِثْلُ أَشْرَان وأُشَارى وأَشَارى، وغَيْرَانَ وَقَوْمٌ غُيَارَى وغَيَارَى، وإِنما قَالُوا سَكْرَى وفَعْلى أَكثر مَا تَجِيءُ جَمْعًا لفَعِيل بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ قَتِيلٍ وقَتْلى وَجَرِيحٍ وجَرْحَى وَصَرِيعٍ وصَرْعَى، لأَنه شُبِّهَ بالنَّوْكَى والحَمْقَى والهَلْكَى لِزَوَالِ عَقْلِ السَّكْرَانِ، وأَما النَّشْوَانُ فَلَا يُقَالُ فِي جَمْعِهِ غَيْرَ النَّشَاوَى، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ قِيلَ سَكْرَى عَلَى أَن الْجَمْعَ يَقَعُ عَلَيْهِ التأْنيث فَيَكُونُ كَالْوَاحِدَةِ كَانَ وَجْهًا؛ وأَنشد بَعْضُهُمْ:
أَضْحَتْ بنو عامرٍ غَضْبَى أُنُوفُهُمُ، ***إِنِّي عَفَوْتُ، فَلا عارٌ وَلَا باسُ
وَقَوْلُهُ تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى}؛ قَالَ ثَعْلَبٌ: إِنما قِيلَ هَذَا قَبْلَ أَن يَنْزِلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنما عَنَى هُنَا سُكْرَ النَّوْمِ، يَقُولُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ رَوْبَى.
ورَجُلٌ سِكِّيرٌ: دَائِمُ السُّكر.
ومِسْكِيرٌ وسَكِرٌ وسَكُورٌ: كَثِيرُ السُّكْرِ؛ الأَخيرة عَنِ ابْنِ الأَعرابي، وأَنشد لعمرو ابن قَمِيئَةَ:
يَا رُبَّ مَنْ أَسْفاهُ أَحلامُه ***أَن قِيلَ يَوْمًا: إِنَّ عَمْرًا سَكُورْ
وَجَمْعُ السَّكِر سُكَارَى كَجَمْعِ سَكرْان لِاعْتِقَابِ فَعِلٍ وفَعْلان كَثِيرًا عَلَى الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَرَجُلٌ سِكِّيرٌ: لَا يَزَالُ سكرانَ، وَقَدْ أَسكره الشَّرَابُ.
وتساكَرَ الرجلُ: أَظهر السُّكْرَ وَاسْتَعْمَلَهُ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقَ:
أَسَكْرَان كانَ ابْنُ المَرَاغَةِ إِذ هَجَا ***تَمِيمًا، بِجَوْفِ الشَّامِ، أَم مُتَساكِرُ؟
تَقْدِيرُهُ: أَكان سَكْرَانَ ابْنُ الْمَرَاغَةِ فَحَذَفَ الْفِعْلَ الرَّافِعَ وَفَسَّرَهُ بِالثَّانِي فَقَالَ: كَانَ ابْنُ الْمَرَاغَةِ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: فَهَذَا إِنشاد بَعْضِهِمْ وأَكثرهم يَنْصِبُ السَّكْرَانَ وَيَرْفَعُ الْآخَرَ عَلَى قَطْعٍ وَابْتِدَاءٍ، يُرِيدُ أَن بَعْضَ الْعَرَبِ يَجْعَلُ اسْمَ كَانَ سَكْرَانُ وَمُتَسَاكِرُ وَخَبَرَهَا ابْنَ الْمَرَاغَةِ؛ وَقَوْلُهُ: وأَكثرهم يَنْصِبُ السَّكْرَانَ وَيَرْفَعُ الْآخَرَ عَلَى قَطْعٍ وَابْتِدَاءٍ يُرِيدُ أَن سَكْرَانَ خَبَرُ كَانَ مُضْمَرَةٍ تَفْسِيرُهَا هَذِهِ الْمُظْهَرَةُ، كأَنه قَالَ: أَكان سَكْرَانَ ابْنُ الْمَرَاغَةِ، كَانَ سَكْرَانَ وَيَرْفَعُ مُتَسَاكِرُ عَلَى أَنه خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ، كأَنه قَالَ: أَم هُوَ مُتَسَاكِرٌ.
وَقَوْلُهُمْ: ذَهَبَ بَيْنَ الصَّحْوَة والسَّكْرَةِ إِنما هُوَ بَيْنَ أَن يَعْقِلَ وَلَا يَعْقِلَ.
والمُسَكَّرُ: الْمَخْمُورُ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
أَبا حاضِرٍ، مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤُهُ، ***ومَنْ يَشرَبِ الخُرْطُومَ، يُصْبِحْ مُسَكَّرا
وسَكْرَةُ الْمَوْتِ: شِدَّتُهُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ}؛ سَكْرَةُ الْمَيِّتِ غَشْيَتُه الَّتِي تَدُلُّ الإِنسان عَلَى أَنه مَيِّتٌ.
وَقَوْلُهُ بِالْحَقِّ أَي بِالْمَوْتِ الْحَقِّ.
قَالَ ابْنُ الأَعرابي: السَّكْرَةُ الغَضْبَةُ.
والسَّكْرَةُ: غَلَبَةُ اللَّذَّةِ عَلَى الشَّبَابِ.
والسَّكَرُ: الْخَمْرُ نَفْسُهَا.
والسَّكَرُ: شَرَابٌ يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ والكَشُوثِ والآسِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: السَّكَرُ يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ والكُشُوث يُطْرَحَانِ سَافًا سَافًا وَيَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ.
قَالَ: وَزَعَمَ زَاعِمٌ أَنه رُبَّمَا خُلِطَ بِهِ الْآسُ فَزَادَهُ شِدَّةً.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي السَّكَرِ الَّذِي فِي التَّنْزِيلِ: إِنه الخَلُّ وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَعْرِفُهُ أَهل اللُّغَةِ.
الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا "، قَالَ: هُوَ الْخَمْرُ قَبْلَ أَن يُحَرَّمَ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ الزَّبِيبُ والتمر وما أَشبهها.
وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: السَّكَرُ نقيع التَّمْرِ الَّذِي لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، وَكَانَ إِبراهيم وَالشَّعْبِيُّ وأَبو رَزِينٍ يَقُولُونَ: السَّكَرُ خَمْرٌ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنه قَالَ: السَّكَرُ مِنَ التَّمْرِ، وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ وَحْدَهُ: السَّكَرُ الطَّعَامُ؛ يَقُولُ الشَّاعِرُ: " جَعَلْتَ أَعْرَاضَ الكِرامِ سَكَرا "أَي جعلتَ ذَمَّهم طُعْمًا لَكَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا بِالْخَمْرِ أَشبه مِنْهُ بِالطَّعَامِ؛ الْمَعْنَى: جَعَلْتَ تَتَخَمَّرُ بأَعراض الْكِرَامِ، وَهُوَ أَبين مِمَّا يُقَالُ لِلَّذِي يَبْتَرِكُ فِي أَعراض النَّاسِ.
وَرَوَى" الأَزهري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: السَّكَرُ مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَتها، وَالرِّزْقُ مَا أُحِلَّ مِنْ ثَمَرَتِهَا.
ابْنُ الأَعرابي: السَّكَرُ الغَضَبُ؛ والسَّكَرُ الِامْتِلَاءُ، والسَّكَرُ الْخَمْرُ، والسَّكَرُ النَّبِيذُ؛ وَقَالَ جَرِيرٌ:
إِذا رَوِينَ عَلَى الخِنْزِيرِ مِن سَكَرٍ ***نادَيْنَ: يَا أَعْظَمَ القِسِّينَ جُرْدَانَا
وَفِي الْحَدِيثِ: «حُرِّمَتِ الخمرُ بِعَيْنِهَا والسَّكَرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ»؛ السَّكَر، بِفَتْحِ السِّينِ وَالْكَافِ: الْخَمْرُ المُعْتَصَرُ مِنَ الْعِنَبِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا رَوَاهُ الأَثبات، ومنهم مَنْ يَرْوِيهِ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْكَافِ، يُرِيدُ حَالَةَ السَّكْرَانِ فَيَجْعَلُونَ التَّحْرِيمَ للسُّكْرِ لَا لِنَفْسِ المُسْكِرِ فَيُبِيحُونَ قَلِيلَهُ الَّذِي لَا يُسْكِرُ، وَالْمَشْهُورُ الأَول، وَقِيلَ: السَّكَرُ، بِالتَّحْرِيكِ، الطَّعَامُ؛ وأَنكر أَهل اللُّغَةِ هَذَا وَالْعَرَبُ لَا تَعْرِفُهُ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي وَائِلٍ: «أَن رَجُلًا أَصابه الصَّقَرُ فَبُعِثَ لَهُ السَّكَرُ فَقَالَ: إِن اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ».
والسَّكَّار: النَّبَّاذُ.
وسَكْرَةُ الْمَوْتِ: غَشْيَتُه، وَكَذَلِكَ سَكْرَةُ الهَمِّ وَالنَّوْمِ وَنَحْوُهُمَا؛ وَقَوْلُهُ:
فجاؤونا بِهِمْ، سُكُرٌ عَلَيْنَا، ***فَأَجْلَى اليومُ، والسَّكْرَانُ صَاحِي
أَراد سُكْرٌ فأَتبع الضَّمَّ الضَّمَّ لِيَسْلَمَ الْجَزْءُ مِنَ الْعَصْبِ، وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ سَكَرٌ.
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَمَنْ قَالَ سَكَرٌ عَلَيْنَا فَمَعْنَاهُ غَيْظٌ وَغَضَبٌ.
ابْنُ الأَعرابي: سَكِرَ مِنَ الشَّرَابِ يَسْكَرُ سُكْرًا، وسَكِرَ من الغضب يَسْكَرُ سَكَرًا إِذا غَضِبَ، وأَنشد الْبَيْتَ.
وسُكِّرَ بَصَرُه: غُشِيَ عَلَيْهِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا}؛ أَي حُبِسَتْ عَنِ النَّظَرِ وحُيِّرَتْ.
وَقَالَ أَبو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مَعْنَاهَا غُطِّيَتْ وغُشِّيَتْ، وقرأَها الْحَسَنُ مُخَفَّفَةً وَفَسَّرَهَا: سُحِرَتْ.
التَّهْذِيبِ: قُرِئَ سُكِرت وسُكِّرت، بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، وَمَعْنَاهُمَا أُغشيت وسُدّت بالسِّحْرِ فَيَتَخَايَلُ بأَبصارنا غَيْرَ مَا نَرَى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُكِّرَتْ أَبصارنا أَي سُدَّت؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: يَذْهَبُ مُجَاهِدٌ إِلى أَن الأَبصار غَشِيَهَا مَا مَنَعَهَا مِنَ النَّظَرِ كَمَا يَمْنَعُ السَّكْرُ الْمَاءَ مِنَ الْجَرْيِ، فَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: سُكِّرَتْ أَبصار الْقَوْمِ إِذا دِيرَ بِهِم وغَشِيَهُم كالسَّمادِيرِ فَلَمْ يُبْصِرُوا؛ وَقَالَ أَبو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: سُكِّرَتْ أَبصارُنا مأْخوذ مِنْ سُكْرِ الشَّرَابِ كأَن الْعَيْنَ لَحِقَهَا مَا يَلْحَقُ شَارِبَ المُسكِرِ إِذا سكِرَ؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ حُبِسَتْ وَمُنِعَتْ مِنَ النَّظَرِ.
الزَّجَّاجُ: يُقَالُ سَكَرَتْ عَيْنُه تَسْكُرُ إِذا تَحَيَّرَتْ وسَكنت عَنِ النَّظَرِ، وسكَرَ الحَرُّ يَسْكُرُ؛ وأَنشد:
جَاءَ الشِّتاءُ واجْثَأَلَّ القُبَّرُ، ***وجَعَلَتْ عينُ الحَرُورِ تَسْكُرُ
قَالَ أَبو بَكْرٍ: اجْثَأَلَّ مَعْنَاهُ اجْتَمَعَ وتقبَّض.
والتَّسْكِيرُ لِلْحَاجَةِ: اخْتِلَاطُ الرأْي فِيهَا قَبْلَ أَن يَعْزِمَ عَلَيْهَا فإِذا عَزَمَ عَلَيْهَا ذَهَبَ اسم التكسير، وَقَدْ سُكِرَ.
وسَكِرَ النَّهْرَ يَسْكُرُه سَكْرًا: سَدَّ فَاهُ.
وكُلُّ شَقٍّ سُدَّ، فَقَدْ سُكِرَ، والسِّكْرُ مَا سُدَّ بِهِ.
والسَّكْرُ: سَدُّ الشِّقِّ ومُنْفَجَرِ الْمَاءِ، والسِّكْرُ: اسْمُ ذَلِكَ السِّدادِ الَّذِي يُجْعَلُ سَدًّا لِلشِّقِّ وَنَحْوِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنه قَالَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ لَمَّا شَكَتْ إِلَيْهِ كَثْرَةَ الدَّمِ: اسْكُرِيه "، أَي سُدِّيه بِخِرْقَةٍ وشُدِّيه بِعِصَابَةٍ، تَشْبِيهًا بِسَكْر الْمَاءِ، والسَّكْرُ الْمَصْدَرُ.
ابْنُ الأَعرابي: سَكَرْتُه ملأَته.
والسِّكْرُ، بِالْكَسْرِ: العَرِمُ.
والسِّكْرُ أَيضًا: المُسَنَّاةُ، وَالْجَمْعُ سُكُورٌ.
وسَكَرَتِ الريحُ تَسْكُرُ سُكُورًا وسَكَرانًا: سَكَنَتْ بَعْدَ الهُبوب.
وليلةٌ ساكِرَةٌ: سَاكِنَةٌ لَا رِيحَ فِيهَا؛ قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:
تُزَادْ لَياليَّ فِي طُولِها، ***فَلَيْسَتْ بِطَلْقٍ وَلَا ساكِرَهْ
وَفِي التَّهْذِيبِ قَالَ أَوس:
جَذَلْتُ عَلَى لَيْلَةٍ ساهِرَهْ، ***فَلَيْسَتْ بِطَلْقٍ وَلَا ساكرهْ
أَبو زَيْدٍ: الْمَاءُ السَّاكِرُ السَّاكِنُ الَّذِي لَا يَجْرِي؛ وَقَدْ سَكَر سُكُورًا.
وسُكِرَ البَحْرُ: رَكَدَ؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي فِي صِفَةِ بَحْرٍ: " يَقِيءُ زَعْبَ الحَرِّ حِينَ يُسْكَرُ "كَذَا أَنشده يَسْكَرُ عَلَى صِيغَةِ فِعْلِ الْمَفْعُولِ، وَفَسَّرَهُ بِيَرْكَدُ عَلَى صِيغَةِ فِعْلِ الْفَاعِلِ.
والسُّكَّرُ مِنَ الحَلْوَاءِ: فَارِسِيٌّ معرَّب؛ قَالَ:
يكونُ بَعْدَ الحَسْوِ والتَّمَزُّرِ ***فِي فَمِهِ، مِثْلَ عَصِيرِ السُّكَّرِ
والسُّكَّرَةُ: الْوَاحِدَةُ مِنَ السُّكَّرِ.
وَقَوْلُ أَبي زِيَادٍ الْكِلَابِيِّ فِي صِفَةِ العُشَرِ: وَهُوَ مُرٌّ لَا يأْكله شَيْءٌ ومَغافِيرهِ سُكَّرٌ؛ إِنما أَراد مِثْلَ السُّكَّرِ فِي الحلاوةِ.
وقال أَبو حنيفة: والسُّكَّرُ عِنَبٌ يُصِيبُهُ المَرَقُ فَيَنْتَثِرُ فَلَا يَبْقَى فِي العُنْقُودِ إِلَّا أَقله، وعناقِيدُه أَوْساطٌ، هو أَبيض رَطْبٌ صَادِقُ الْحَلَاوَةِ عَذْبٌ مِنْ طَرَائِفِ الْعِنَبِ، ويُزَبَّبُ أَيضًا.
والسَّكْرُ: بَقْلَةٌ مِنَ الأَحرار؛ عَنْ أَبي حَنِيفَةَ.
قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْنِي لَهَا حِلْيَةٌ.
والسَّكَرَةُ: المُرَيْرَاءُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْحِنْطَةِ.
والسَّكْرَانُ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ كُثيِّر يَصِفُ سَحَابًا:
وعَرَّسَ بالسَّكْرَانِ يَوْمَيْنِ، وارْتَكَى ***يجرُّ كَمَا جَرَّ المَكِيثَ المُسافِرُ
والسَّيْكَرَانُ: نَبْتٌ؛ قَالَ:
وشَفْشَفَ حَرُّ الشَّمْسِ كُلَّ بَقِيَّةٍ ***مِنَ النَّبْتِ، إِلَّا سَيْكَرانًا وحُلَّبَا
قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: السَّيْكَرانُ مِمَّا تَدُومُ خُضْرَتُه القَيْظَ كُلَّهُ قَالَ: وسأَلت شَيْخًا مِنَ الأَعراب عَنِ السَّيْكَرانِ فَقَالَ: هُوَ السُّخَّرُ وَنَحْنُ نأْكله رَطْبًا أَيَّ أَكْلٍ، قَالَ: وَلَهُ حَبٌّ أَخْضَرُ كَحَبِّ الرَّازِيَانِجِ.
وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْحَارِّ إِذا خَبَا حَرُّه وسَكَنَ فَوْرُه: قَدْ سَكَرَ يَسْكُرُ.
وسَكَّرَهُ تَسْكِيرًا: خَنَقَه؛ والبعيرُ يُسَكِّرُ آخَرَ بِذِرَاعِهِ حَتَّى يَكَادَ يَقْتُلُهُ.
التَّهْذِيبِ: رُوِيَ عَنْ أَبي مُوسَى الأَشعري أَنه قَالَ: السُّكُرْكَةُ خَمْرُ الْحَبَشَةِ؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَهِيَ مِنَ الذُّرَةِ؛ قَالَ الأَزهري: وَلَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ، وَقَيَّدَهُ شَمِرٌ بِخَطِّهِ: السُّكْرُكَةُ، الْجَزْمُ عَلَى الْكَافِ وَالرَّاءُ" مَضْمُومَةٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه سُئِلَ عَنِ الغُبَيْراء فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِيهَا، وَنَهَى عَنْهَا»؛ قَالَ مَالِكٌ: فسأَلت زَيْدَ بْنَ أَسلم: مَا الغبيراء؟ فقال: هي السكركة، بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، نَوْعٌ مِنَ الْخُمُورِ تُتَّخَذُ مِنَ الذُّرَةِ، وَهِيَ لَفْظَةٌ حَبَشِيَّةٌ قَدْ عُرِّبَتْ، وَقِيلَ: السُّقُرْقَع.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا آكُلُ فِي سُكُرُّجَة»؛ هِيَ، بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ، إِناء صَغِيرٌ يُؤْكَلُ فِيهِ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ من الأُدْمِ، وهي فارسية، وأَكثر مَا يُوضَعُ فِيهَا الكوامخ ونحوها.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
144-لسان العرب (فجر)
فجر: الفَجْر: ضَوْءُ الصَّبَاحِ وَهُوَ حُمْرة الشَّمْسِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، وَهُمَا فَجْرانِ: أَحدهما المُسْتطيل وَهُوَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُسَمَّى ذَنَبَ السِّرْحان، وَالْآخَرُ المُسْتطير وَهُوَ الصَّادِقُ المُنتَشِر فِي الأُفُقِ الَّذِي يُحَرِّم الأَكل وَالشُّرْبَ عَلَى الصَّائِمِ وَلَا يَكُونُ الصبحُ إِلا الصادقَ.الْجَوْهَرِيُّ: الفَجْر فِي آخِرِ اللَّيْلِ كالشَّفَقِ فِي أَوله.
ابْنُ سِيدَهْ: وَقَدِ انْفَجَر الصُّبْحُ وتَفَجَّر وانْفَجَر عَنْهُ الليلُ.
وأَفْجَرُوا: دَخَلُوا فِي الفَجْر كَمَا تَقُولُ: أَصبحنا، مِنَ الصُّبْحِ؛ وأَنشد الْفَارِسِيُّ:
فَمَا أَفْجَرَتْ حَتَّى أَهَبَّ بسُدْفةٍ ***عَلاجيمُ، عَيْنُ ابْنَيْ صُباحٍ تُثيرُها
وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ: كُنْتُ أَحُلّ إِذا أَسحرْت، وأَرْحَلُ إِذا أَفْجَرْت.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أُعَرّسُ إِذا أَفْجَرْت، وأَرْتَحِل إِذا أَسْفَرْت»أَي أَنزل لِلنَّوْمِ وَالتَّعْرِيسِ إِذا قَرُبْتُ مِنَ الْفَجْرِ، وأَرتحل إِذا أَضاء.
قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: أَنت مُفْجِرٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلى أَن تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
وَحَكَى الْفَارِسِيُّ: طريقٌ فَجْرٌ وَاضِحٌ: والفِجار: الطُّرُقُ مِثْلُ الفِجاج.
ومُنْفَجَرُ الرَّمْلِ: طَرِيقٌ يَكُونُ فِيهِ.
والفَجْر: تَفْجيرُكَ الْمَاءَ، والمَفْجَرُ: الْمَوْضِعُ يَنْفَجِرُ مِنْهُ.
وانْفَجَر الماءُ والدمُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ السَّيَّالِ وتَفَجَّرَ: انْبَعَثَ سَائِلًا.
وفَجَرَه هُوَ يَفْجُره، بِالضَّمِّ، فَجْرًا فانْفَجَرَ أَي بَجَسه فانْبَجَس.
وفَجَّره: شُدّد لِلْكَثْرَةِ؛ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: «فَجَّرْت بِنَفْسِكَ»أَي نَسَبْتَهَا إِلى الفُجورِ كَمَا يُقَالُ فَسَّقْته وكَفَّرْته.
والمَفْجَرةُ والفُجْرةُ، بِالضَّمِّ: مُنْفَجَر الْمَاءِ مِنَ الْحَوْضِ وَغَيْرِهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: مَوْضِعُ تَفَتُّح الْمَاءِ.
وفَجْرَة الْوَادِي: مُتَّسعه الَّذِي يَنْفَجِرُ إِليه الْمَاءُ كثُجْرَته.
والمَفْجَرة: أَرض تَطْمَئِنُّ فَتَنْفَجِرُ فِيهَا أَوْدِية.
وأَفْجَرَ يَنْبُوعًا مِنْ مَاءٍ أَي أَخرجه.
ومَفاجر الْوَادِي: مَرَافضه حَيْثُ يرفضُّ إِليه السَّيْلُ.
وانْفَجَرَتْ عَلَيْهِمُ الدَّوَاهِي: أَتتهم مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَثِيرَةً بَغْتة؛ وانْفَجَر عَلَيْهِمُ القومُ، وَكُلُّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ.
والمُتَفَجِّر: فرس الحرث بْنِ وَعْلَةَ كأَنه يَتَفَجَّرُ بِالْعَرَقِ.
والفَجَر: الْعَطَاءُ وَالْكَرَمُ وَالْجُودُ وَالْمَعْرُوفُ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
مَطاعيمُ للضَّيْفِ حِينَ الشِّتاءِ، ***شُمُّ الأُنوفِ، كثِيرُ والفَجَرْ
وَقَدْ تَفَجَّرَ بالكَرم وانْفَجَرَ.
أَبو عُبَيْدَةَ: الفَجَر الْجُودُ الْوَاسِعُ وَالْكَرَمُ، مِنَ التَّفَجُّرِ فِي الْخَيْرِ؛ قَالَ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ الأَنصاري يُخَاطِبُ مَالِكَ بْنَ الْعَجْلَانِ:
يَا مالِ، والسَّيِّدُ المُعَمَّمُ قَدْ ***يُبْطِرُه، بَعْدَ رأْيهِ، السَّرَفُ
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا، وأَنت بِمَا ***عِندك راضٍ، والرأْي مختلفُ
يَا مالِ، والحَقُّ إِن قَنِعْتَ بِهِ، ***فالحقُّ فِيهِ لأَمرِنا نَصَفُ
خالفتَ فِي الرأْي كلَّ ذِي فَجَرٍ، ***والحقُّ، يَا مالِ، غيرُ مَا تَصِفُ
إِنَّ بُجَيْرًا مَوْلًى لِقَوْمِكُمُ، ***والحَقُّ يُوفى بِهِ ويُعْتَرَفُ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَبَيْتُ الِاسْتِشْهَادِ أَورده الْجَوْهَرِيُّ:
خالفتَ فِي الرأْي كلَّ ذِي فَجَرٍ، ***والبَغْيُ، يَا مالِ، غيرُ مَا تَصفُ
قَالَ: وَصَوَابُ إِنشاده: وَالْحَقُّ، يَا مَالِ، غَيْرُ مَا تَصِفُ "قَالَ: وَسَبَبُ هَذَا الشِّعْرِ أَنه كَانَ لِمَالِكِ بْنِ العَجْلان مَوْلى يُقَالُ لَهُ بُجَيْر، جَلَسَ مَعَ نَفَرٍ مِنَ الأَوْس مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَتَفَاخَرُوا، فَذَكَرَ بُجَيْر مَالِكَ بْنَ الْعَجْلَانِ وَفَضَّلَهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَكَانَ سَيِّدَ الحيَّيْنِ فِي زَمَانِهِ، فَغَضِبَ جَمَاعَةٌ مِنْ كَلَامِ بُجير وَعَدَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَوس يُقَالُ لَهُ سُمَيْر بْنُ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ أَحد بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَقَتَلَهُ، فَبَعَثَ مَالِكٌ إِلى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَن ابْعَثُوا إِليَّ بسُمَيْر حَتَّى أَقتله بَمَوْلايَ، وإِلا جَرَّ ذَلِكَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا، فَبَعَثُوا إِليه: إِنا نُعْطِيكَ الرِّضَا فَخُذْ مِنَّا عَقْله، فَقَالَ: لَا آخُذُ إِلا دِيَةَ الصَّريحِ، وَكَانَتْ دِيَةُ الصَّريح ضِعْفَ دِيَةِ المَوْلى، وَهِيَ عَشْرٌ مِنَ الإِبل، ودِيةُ الْمَوْلَى خَمْسٌ، فَقَالُوا لَهُ: إِن هَذَا مِنْكَ اسْتِذْلَالٌ لَنَا وبَغْيٌ عَلَيْنَا، فأَبى مَالِكٌ إِلا أَخْذَ دِيَةِ الصَّرِيحِ، فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمُ الْحَرْبُ إِلى أَن اتَّفَقُوا عَلَى الرِّضَا بِمَا يَحْكُمُ بِهِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، فَحَكَمَ بأَن يُعْطى دِيَةَ الْمَوْلَى، فأَبى مَالِكٌ، ونَشِبَت الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ مُدَّةً عَلَى ذَلِكَ.
ابْنُ الأَعرابي: أَفْجَر الرجلُ إِذا جَاءَ بالفَجَرِ، وَهُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ، وأَفْجَرَ إِذا كَذَبَ، وأَفْجَرَ إِذا عَصَى، وأَفْجَرَ إِذا كَفَرَ.
والفَجَرُ: كَثْرَةُ الْمَالِ؛ قَالَ أَبو مِحْجن الثَّقَفِيُّ:
فَقَدْ أَجُودُ، وَمَا مَالي بِذِي فَجَرٍ، ***وأَكْتُم السرَّ فِيهِ ضَرْبَةُ العُنُقِ
وَيُرْوَى: بِذِي فَنَعٍ، وَهُوَ الْكَثْرَةُ، وسيأْتي ذِكْرُهُ.
والفَجَر: الْمَالُ؛ عَنْ كُرَاعٍ.
والفَاجِرُ: الْكَثِيرُ المالِ، وَهُوَ عَلَى النَّسَبِ.
وفَجَرَ الإِنسانُ يَفْجُرُ فَجْرًا وفُجورًا: انْبَعَثَ فِي الْمَعَاصِي.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن التُّجَّار يُبْعثون يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ»؛ الفُجَّار: جَمْعُ فاجِرٍ وَهُوَ المْنْبَعِث فِي الْمَعَاصِي وَالْمَحَارِمِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي العُمْرة: «كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشهر الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الفُجورِ»أَي مِنْ أَعظم الذُّنُوبِ؛ وَقَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:
وَلَا تَخْنُوا عَلَيَّ وَلَا تَشِطُّوا ***بقَوْل الفَجْرِ، إِنَّ الفَجْر حُوبُ
يُرْوَى: الفَجْر والفَخْر، فَمَنْ قَالَ الفَجْر فَمَعْنَاهُ الْكَذِبُ، وَمَنْ قَالَ الفَخر فَمَعْنَاهُ التَّزَيُّد فِي الْكَلَامِ.
وفَجَرَ فُجُورًا أَي فَسَقَ.
وفَجَر إِذا كَذَبَ، وأَصله الْمَيْلُ.
والفاجرُ: الْمَائِلُ؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قَتَلْتُم فَتًى لَا يَفْجُر اللهَ عَامِدًا، ***وَلَا يَحْتَويه جارُه حِينَ يُمْحِلُ
أَي لَا يَفْجُر أَمرَ اللَّهِ أَي لَا يَمِيلُ عَنْهُ وَلَا يَتْرُكُهُ.
الْهَوَازِنِيُّ: الافْتِجارُ فِي الْكَلَامِ اخْتِراقُه مِنْ غَيْرِ أَن تَسْمعه مِنْ أَحد فَتَتَعَلَّمَهُ؛ وأَنشد:
نازِعِ القومَ، إِذا نازَعْتَهُمْ، ***بأَرِيبٍ أَو بِحَلَّافٍ أَبَلْ
يَفْجُرُ القولَ وَلَمْ يَسْمَعْ بِهِ، ***وَهُوَ إِنْ قيلَ: اتَّقِ اللهَ، احْتَفَلْ
وفَجَرَ الرجلُ بالمرأَة يَفْجُر فُجورًا: زَنَا.
وفَجَرَت المرأَة: زَنَتْ.
وَرَجُلٌ فاجِرٌ مِنْ قَوْمٍ فُجَّارٍ وفَجَرَةٍ، وفَجورٌ مِنْ قَوْمٍ فُجُرٍ، وَكَذَلِكَ الأُنثى بِغَيْرِ هَاءٍ؛ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ}؛ أَي يَقُولُ سَوْفَ أَتوب؛ وَيُقَالُ: يُكْثرُ الذنوبَ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنه يسوِّف بِالتَّوْبَةِ وَيُقَدِّمُ الأَعمال السَّيِّئَةَ؛ قَالَ: وَيَجُوزُ، وَاللَّهُ أَعلم، ليَكْفُر بِمَا قُدَّامَهُ مِنَ الْبَعْثِ.
وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: فَجَرَ إِذا رَكِبَ رأْسه فَمَضَى غَيْرَ مُكْتَرِثٍ.
قَالَ: وَقَوْلُهُ لِيَفْجُرَ، لِيَمْضِيَ أَمامه رَاكِبًا رأْسه.
قَالَ: وفَجَرَ أَخطأَ فِي الْجَوَابِ، وفَجَرَ مِنْ مَرَضِهِ إِذا برأَ، وفَجَرَ إِذا كلَّ بصرُه.
ابْنُ شُمَيْلٍ: الفُجورُ الرُّكُوبُ إِلى مَا لَا يَحِلُّ.
وَحَلَفَ فُلَانٌ عَلَى فَجْرَةَ وَاشْتَمَلَ عَلَى فَجْرَةَ إِذا رَكِبَ أَمرًا قَبِيحًا مِنْ يَمِينٍ كَاذِبَةٍ أَو زِنًا أَو كَذِبٍ.
قَالَ الأَزهري: فالفَجْرُ أَصله الشَّقُّ، وَمِنْهُ أُخِذَ فَجْرُ السِّكْرِ، وَهُوَ بَثْقُه، وَيُسَمَّى الفَجْرُ فَجْرًا لانْفِجارِه، وَهُوَ انْصِدَاعُ الظُّلْمَةِ عَنْ نُورِ الصُّبْحِ.
والفُجورُ: أَصله الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ؛ قَالَ لَبِيدٌ يُخَاطِبُ عَمَّهُ أَبا مَالِكٍ:
فقلتُ: ازْدَجِرْ أَحْناءَ طَيْرِكَ، واعْلَمَنْ ***بأَنك، إِنْ قَدَّمْتَ رِجْلَكَ، عاثِرُ
فأَصْبَحْتَ أَنَّى تأْتِها تَبْتَئِسْ بِهَا، ***كِلا مَرْكَبَيها، تحتَ رِجْلِكَ، شاجِرُ
فإِن تَتَقَدَّمْ تَغْشَ مِنْهَا مُقَدَّمًا ***غَلِيظًا، وإِن أَخَّرْتَ فالكِفْلُ فاجِرُ
يَقُولُ: مَقْعد الرَّدِيفِ مَائِلٌ.
وَالشَّاجِرُ: الْمُخْتَلِفُ.
وأَحْناءَ طَيرِك أَي جَوَانِبَ طَيْشِكَ.
وَالْكَاذِبُ فاجرٌ وَالْمُكَذِّبُ فاجرٌ وَالْكَافِرُ فاجرٌ لِمَيْلِهِمْ عَنِ الصِّدْقِ وَالْقَصْدِ؛ وَقَوْلُ الأَعرابي لِعُمَرَ: " فَاغْفِرْ لَهُ، اللهمَّ، إِن كَانَ فَجَرْ أَي مَالَ عَنِ الْحَقِّ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ: أَي ليُكَذِّبَ بِمَا أَمامه مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.
وَقَوْلُ النَّاسِ فِي الدُّعَاءِ: ونَخْلَع وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُك؛ فَسَّرَهُ ثَعْلَبٌ فَقَالَ: مَنْ يَفْجُرُك مَنْ يَعْصِيكَ وَمَنْ يُخَالِفُكَ، وَقِيلَ: مَنْ يَضَعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَن رَجُلًا استأْذنه فِي الْجِهَادِ فَمَنَعَهُ لِضَعْفِ بَدَنِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِن أَطلقتني وإِلا فَجَرْتُكَ»؛ قَوْلُهُ: وإِلا فَجَرْتُكَ؛ أي عَصَيْتُكَ وَخَالَفْتُكَ وَمَضَيْتُ إِلى الغَزْوِ، يُقَالُ: مَالَ مِنْ حَقٍّ إِلى بَاطِلٍ.
ابْنُ الأَعرابي: الفَجُور والفاجِرُ الْمَائِلُ وَالسَّاقِطُ عَنِ الطَّرِيقِ.
وَيُقَالُ للمرأَة: يَا فَجارِ" مَعْدُولٌ عَنِ الفاجِرةِ، يُرِيدُ: يَا فاجِرةُ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «يَا لَفُجَر»هُوَ مَعْدُولٌ عَنْ فاجِرٍ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلا فِي النِّدَاءِ غَالِبًا.
وفَجارِ: اسْمٌ للفَجْرَة والفُجورِ مِثْلُ قَطامِ، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
إِنا اقْتَسَمْنا خُطَّتَيْنا بَيْنَنَا: ***فَحَمَلْتُ بَرَّةَ، واحتملتَ فَجارِ
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: قَالَ ابْنُ جِنِّي: فَجارِ مَعْدُولَةٌ عَنْ فَجْرَةَ، وفَجْرَةُ عَلَمٌ غَيْرُ مَصْرُوفٍ، كَمَا أَن بَرَّةَ كَذَلِكَ؛ قَالَ: وَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ إِنها مَعْدُولَةٌ عَنِ الفَجْرَةِ تَفْسِيرٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَعْنَى لَا عَلَى طَرِيقِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَن سِيبَوَيْهِ أَراد أَن يعرِّف أَنه مَعْدُولٌ عَنْ فَجْرَةَ عَلَمًا فَيُرِيكَ ذَلِكَ فَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْعَلَمِيَّةِ الْمُرَادِ إِلى لَفْظِ التَّعْرِيفِ فِيهَا الْمُعْتَادِ، وَكَذَلِكَ لَوْ عدلتَ عَنْ بَرَّةَ قُلْتَ بَرَارِ كَمَا قُلْتَ فَجارِ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ أَنهم عَدَلُوا حَذام وقَطام عَنْ حَاذِمَةَ وَقَاطِمَةَ، وَهُمَا عَلَمَانِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَن تَكُونَ فَجارِ معدولة عن فَجْرَةَ عَلَمًا أَيضًا.
وأَفْجَرَ الرجلَ: وَجَدَهُ فاجِرًا.
وفَجَرَ أَمرُ الْقَوْمِ: فَسَدَ.
والفُجور: الرِّيبة، وَالْكَذِبُ مِنَ الفُجُورِ.
وَقَدْ رَكِبَ فُلَانٌ فَجْرَةَ وفَجارِ، لَا يُجْرَيان، إِذا كَذَبَ وفَجَرَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِياكم وَالْكَذِبَ فإِنه مَعَ الفُجُورِ، وَهُمَا فِي النَّارِ»؛ يُرِيدُ الْمَيْلَ عَنِ الصِّدْقِ وأَعمال الْخَيْرِ.
وأَيامُ الفِجارِ: أَيامٌ كَانَتْ بَيْنَ قَيْسٍ وَقُرَيْشٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «كُنْتُ أَيام الفِجارِ أَنْبُلُ عَلَى عُمُومَتِي»، وَقِيلَ: أَيام الفِجارِ أَيام وَقَائِعَ كَانَتْ بَيْنَ الْعَرَبِ تَفَاجَرُوا فِيهَا بعُكاظَ فاسْتَحَلُّوا الحُرُمات.
الْجَوْهَرِيُّ: الفِجارُ يَوْمٌ مِنْ أَيام الْعَرَبِ، وَهِيَ أَربعة أَفْجِرَةٍ كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ ومَن مَعَهَا مِنْ كِنانَةَ وَبَيْنَ قَيْس عَيْلان فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتِ الدَّبْرة عَلَى قَيْسٍ، وإِنما سَمَّتْ قُرَيْشٌ هَذِهِ الْحَرْبَ فِجارًا لأَنها كَانَتْ فِي الأَشهر الْحُرُمِ، فَلَمَّا قَاتَلُوا فِيهَا قَالُوا: قَدْ فَجَرْنا فَسُمِّيَتْ فِجارًا.
وفِجاراتُ الْعَرَبِ: مُفَاخَرَاتُهَا، وَاحِدُهَا فِجارٌ.
والفِجاراتُ أَربعة: فِجار الرَّجُلِ، وفِجار المرأَة، وفِجار القِرْد، وفِجار البَرَّاضِ، وَلِكُلِّ فِجار خَبَرٌ.
وفَجَرَ الراكبُ فُجورًا: مَالَ عَنْ سَرْجِهِ.
وفَجَرَ أَيْضًا: مَالَ عَنِ الْحَقِّ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: كَذَبَ وفَجَرَ؛ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اسْتَحْمَلَه أَعرابي وَقَالَ: إِن نَاقَتِي قَدْ نَقِبتْ»، فَقَالَ لَهُ: كذبتَ، وَلَمْ يَحْمِلْهُ، فَقَالَ:
أَقْسَمَ بِاللَّهِ أَبو حَفْصٍ عُمَرْ: ***مَا مَسَّها مِنْ نَقَبٍ وَلَا دَبَرْ،
فَاغْفِرْ لَهُ، اللهمَّ، إِن كَانَ فَجَرْ أَي كَذَبَ وَمَالَ عَنِ الصِّدْقِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لأَن يُقَدَّمَ أَحدُكم فتُضْرَب عُنُقُه خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَن يَخُوض غَمَراتِ الدُّنْيَا، يَا هَادِيَ الطَّرِيقِ جُرْتَ، إِنما هُوَ الفَجْر أَو الْبَحْرُ»؛ يَقُولُ: إِنِ انْتَظَرْتَ حَتَّى يُضِيءَ لَكَ الفجرُ أَبْصَرْتَ قَصْدَكَ، وإِن خَبَطت الظَّلْمَاءَ وَرَكِبْتَ العَشْواء هَجَمَا بِكَ عَلَى الْمَكْرُوهِ؛ يَضْرِبُ الفَجْر وَالْبَحْرَ مَثَلًا لِغَمَرَاتِ الدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ البحرُ فِي موضعه.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
145-لسان العرب (قرر)
قرر: القُرُّ: البَرْدُ عَامَّةً، بِالضَّمِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: القُرُّ فِي الشِّتَاءِ وَالْبَرْدُ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، يُقَالُ: هَذَا يومٌ ذُو قُرٍّ أَي ذُو بَرْدٍ.والقِرَّةُ: مَا أَصاب الإِنسانَ وَغَيْرَهُ مِنَ القُرِّ.
والقِرَّةُ أَيضًا: الْبَرْدُ.
يُقَالُ: أَشدُّ الْعَطَشِ حِرَّةٌ عَلَى قِرَّةٍ، وَرُبَّمَا قَالُوا: أَجِدُ حِرَّةً عَلَى قِرَّةٍ، وَيُقَالُ أَيضًا: ذَهَبَتْ قِرَّتُها أَي الوقتُ الَّذِي يأْتي فِيهِ الْمَرَضُ، وَالْهَاءُ لِلْعِلَّةِ، ومَثَلُ الْعَرَبِ لِلَّذِي يُظهر خِلَافَ مَا يُضْمِرُ: حِرَّةٌ تَحْتَ قِرَّةٍ، وَجَعَلُوا الْحَارَّ الشديدَ مِنْ قَوْلِهِمُ اسْتَحَرَّ القتلُ أَي اشْتَدَّ، وَقَالُوا: أَسْخَنَ اللهُ عَيْنَهُ والقَرُّ: الْيَوْمُ الْبَارِدُ.
وكلُّ باردٍ: قَرٌ.
ابْنُ السِّكِّيتِ: القَرُورُ الْمَاءُ الْبَارِدُ يُغْسَلُ بِهِ.
يُقَالُ: "قَدِ اقْتَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ البَرُودُ، وقرَّ يَوْمُنَا، مِنَ القُرّ.
وقُرَّ الرجلُ: أَصابه القُرُّ.
وأَقَرَّه اللهُ: مِنَ القُرِّ، فَهُوَ مَقْرُورٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كأَنه بُنِيَ عَلَى قُرٍّ، وَلَا يُقَالُ قَرَّه.
وأَقَرَّ القومُ: دَخَلُوا فِي القُرِّ.
وَيَوْمٌ مقرورٌ وقَرٌّ وقارٌّ: بَارِدٌ.
وَلَيْلَةٌ قَرَّةٌ وقارَّةٌ أَي بَارِدَةٌ؛ وَقَدْ قَرَّتْ تَقَرّ وتَقِرُّ قَرًّا.
وَلَيْلَةٌ ذاتُ قَرَّةٍ أَي لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ؛ وأَصابنا قَرَّةٌ وقِرَّةٌ، وَطَعَامٌ قارٌّ.
وَرُوِيَ عَنْ" عُمَرَ أَنه قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ: بَلَغَنِي أَنك تُفْتي، وَلِّ حارَّها مَنْ تَوَلَّى قارَّها "؛ قَالَ شَمِرٌ: مَعْنَاهُ وَلِّ شَرَّها مَنْ تَولَّى خَيْرَها ووَلِّ شديدَتها مَنْ تَوَلَّى هَيِّنَتها، جَعَلَ الْحَرَّ كِنَايَةً عَنِ الشَّرِّ، والشدّةَ والبردَ كِنَايَةً عَنِ الْخَيْرِ والهَيْنِ.
والقارُّ: فَاعِلٌ مِنَ القُرِّ الْبَرْدِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ" الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي جَلْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبة: وَلِّ حارَّها مَنْ تولَّى قارَّها، وامتنعَ مِنْ جَلْدِه.
ابْنُ الأَعرابي: يَوْمٌ قَرٌّ وَلَا أَقول قارٌّ وَلَا أَقول يَوْمٌ حَرٌّ.
وَقَالَ: تَحَرَّقت الأَرضُ وَالْيَوْمُ قَرٌّ.
وَقِيلَ لِرَجُلٍ: مَا نَثَرَ أَسنانَك؟ فَقَالَ: أَكلُ الْحَارِّ وشُرْبُ القارِّ.
وَفِي حَدِيثِ أُم زَرْعٍ: «لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ»؛ القُرُّ: البَرْدُ، أَرادت أَنه لَا ذُو حَرٍّ وَلَا ذُو بَرْدٍ فَهُوَ مُعْتَدِلٌ، أَرادت بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ الْكِنَايَةَ عَنِ الأَذى، فَالْحَرُّ عَنْ قَلِيلِهِ وَالْبَرْدُ عَنْ كَثِيرِهِ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" حُذَيفة فِي غَزْوَةِ الخَنْدَق: فَلَمَّا أَخبرتُه خَبَرَ الْقَوْمِ وقَرَرْتُ قَرِرْتُ؛ أي لَمَّا سكنتُ وجَدْتُ مَسَّ الْبَرْدِ.
وَفِي حَدِيثُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْر: لَقُرْصٌ بُرِّيٌّ بأَبْطَحَ قُرِّيٍ "؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: سُئِلَ شَمِرٌ عَنْ هَذَا فَقَالَ: لَا أَعرفه إِلا أَن يَكُونَ مِنَ القُرِّ الْبَرْدِ.
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: قَرَّ يومُنا يَقُرُّ، ويَقَرُّ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ.
والقُرارة: مَا بَقِيَ فِي القِدْرِ بَعْدَ الغَرْفِ مِنْهَا.
وقَرَّ القِدْرَ يَقُرُّها قَرًّا: فَرَّغَ مَا فِيهَا مِنَ الطَّبِيخِ وَصَبَّ فِيهَا مَاءً بَارِدًا كَيْلَا تَحْتَرِقَ.
والقَرَرَةُ والقُرَرَة والقَرارة والقِرارة والقُرورةُ، كُلُّهُ: اسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ.
وكلُّ مَا لَزِقَ بأَسفل القِدْر مِنْ مَرَقٍ أَو حُطامِ تابِلٍ مُحْتَرِقٍ أَو سَمْنٍ أَو غَيْرِهِ: قُرّة وقُرارة وقُرُرَة، بِضَمِّ الْقَافِ وَالرَّاءِ، وقُرَرة، وتَقَرَّرَها واقْتَرَّها: أَخذها وائْتَدَمَ بِهَا.
يُقَالُ: قَدِ اقْتَرَّتِ القِدْرُ وَقَدْ قَرَرْتُها إِذا طَبَخْتَ فِيهَا حَتَّى يَلْصَقَ بأَسفلها، وأَقْرَرْتها إِذا نَزَعْتَ مَا فِيهَا مِمَّا لَصِقَ بِهَا؛ عَنْ أَبي زَيْدٍ.
والقَرُّ: صبُّ الْمَاءِ دَفْعَة وَاحِدَةً.
وتَقَرَّرتِ الإِبلُ: صَبَّتْ بَوْلَهَا عَلَى أَرجلها.
وتَقَرَّرَت: أَكلت اليَبِسَ فتَخَثَّرت أَبوالُها.
والاقْتِرار: أَن تأْكل الناقةُ اليبيسَ والحِبَّةَ فَيَتَعَقَّدَ عَلَيْهَا الشحمُ فَتَبُولَ فِي رِجْلَيْهَا مِنْ خُثُورة بَوْلِهَا.
وَيُقَالُ: تَقَرَّرت الإِبل فِي أَسْؤُقها، وقَرّت تَقِرُّ: نَهِلَتْ وَلَمْ تَعُلَّ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:
حَتَّى إِذا قَرَّتْ وَلَمَّا تَقْرِرِ، ***وجَهَرَت آجِنَةً، لَمْ تَجْهَرِ
وَيُرْوَى أَجِنَّةً.
وجَهَرَتْ: كَسَحَتْ.
وَآجِنَةٌ: مُتَغَيِّرَةٌ، وَمَنْ رَوَاهُ أَجِنَّةَ أَراد أَمْواهًا مُنْدَفِنَةً، عَلَى التَّشْبِيهِ بأَجنَّة الْحَوَامِلِ.
وقَرَّرت الناقةُ بِبَوْلِهَا تَقْريرًا إِذا رَمَتْ بِهِ قُرَّةً بَعْدَ قُرَّةٍ أَي دُفْعَةً بَعْدَ دُفْعة خَاثِرًا مِنْ أَكل الحِبّة؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
يُنْشِقْنَه فَضْفاضَ بَوْلٍ كالصَّبَرْ، ***فِي مُنْخُرَيْه، قُرَرًا بَعْدَ قُرَرْ
قَرَرًا بَعْدَ قَرَرٍ أَي حُسْوَة بَعْدَ حُسْوَة ونَشْقَةً بَعْدَ نَشْقة.
ابْنُ الأَعرابي: إِذا لَقِحَت النَّاقَةُ فَهِيَ مُقِرٌّ وقارِحٌ، وَقِيلَ: إِن الاقْترارَ السِّمنُ، تَقُولُ: "اقْتَرَّتِ الناقةُ سَمِنَتْ؛ وأَنشد لأَبي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ يَصِفُ ظَبْيَةً:
بِهِ أَبِلَتْ شَهْرَي رَبيعٍ كِلَاهُمَا، ***فَقَدْ مارَ فِيهَا نَسْؤُها واقترارُها
نَسْؤُهَا: بَدْءُ سِمَنِهَا، وَذَلِكَ إِنما يَكُونُ فِي أَوّل الرَّبِيعِ إِذا أَكلت الرُّطْبَ، واقترارُها: نِهَايَةُ سِمَنِهَا، وَذَلِكَ إِنما يَكُونُ إِذا أَكلت الْيَبِيسَ وبُزُور الصَّحْرَاءِ فعَقَّدَتْ عَلَيْهَا الشَّحْمَ.
وقَرَّ الكلامَ وَالْحَدِيثَ فِي أُذنه يَقُرُّه قَرًّا: فَرَّغه وصَبَّه فِيهَا، وَقِيلَ هُوَ إِذا سارَّه.
ابْنُ الأَعرابي: القَرُّ تَرْدِيدُك الْكَلَامَ فِي أُذن الأَبكم حَتَّى يَفْهَمَهُ.
شَمِرٌ: قَرَرْتُ الكلامَ فِي أُذنه أَقُرُّه قَرًّا، وَهُوَ أَن تَضَعَ فَاكَ عَلَى أُذنه فَتَجْهَرَ بِكَلَامِكَ كَمَا يُفعل بالأَصم، والأَمر: قُرَّ.
وَيُقَالُ: أَقْرَرْتُ الكلامَ لِفُلَانٍ إِقرارًا أَي بَيَّنْتُهُ حَتَّى عَرَفَهُ.
وَفِي حَدِيثِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ: «يأْتي الشيطانُ فَيَتَسَمَّعُ الكلمةَ فيأْتي بِهَا إِلى الْكَاهِنِ فَيُقِرُّها فِي أُذنه كَمَا تُقَرُّ القارورةُ إِذا أُفرغ فِيهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: فيَقْذفها فِي أُذن وَلِيِّه كقَرِّ الدَّجَاجَةِ»؛ القَرُّ: تَرْدِيدُكَ الْكَلَامَ فِي أُذن المخاطَب حَتَّى يَفْهَمَهُ.
وقَرُّ الدَّجَاجَةِ: صوتُها إِذا قَطَّعَتْهُ، يُقَالُ: قَرَّتْ تَقِرُّ قَرًّا وقَرِيرًا، فإِن رَدَّدَتْه قُلْتَ: قَرْقَرَتْ قَرْقَرَةً، وَيُرْوَى: كقَزِّ الزجاجة، بالزاي، أَي كَصَوْتِهَا إِذا صُبَّ فِيهَا الْمَاءُ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَن النَّبِيَّ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ فِي العَنانِ وَهِيَ السحابُ فَيَتَحَدَّثُونَ مَا عَلِمُوا به مما لَمْ يَنْزِلْ مِنَ الأَمر، فيأْتي الشَّيْطَانُ فَيَسْتَمِعُ فَيَسْمَعُ الكلمة فيأْتي بها إِلى الْكَاهِنِ فيُقِرُّها فِي أُذنه كَمَا تُقَرُّ القارورةُ إِذا أُفرغ فِيهَا مِائَةُ كِذْبةٍ.
والقَرُّ: الفَرُّوج.
واقْتَرَّ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ: اغْتَسَلَ.
والقَرُورُ: الْمَاءُ الْبَارِدُ يُغْتَسل بِهِ.
واقْتَرَرْتُ بالقَرُور: اغْتَسَلْتُ بِهِ.
وقَرَّ عَلَيْهِ الماءَ يَقُرُّه: صَبَّهُ.
والقَرُّ: مَصْدَرُ قَرَّ عَلَيْهِ دَلْوَ مَاءٍ يَقُرُّها قَرًّا، وقَرَرْتُ عَلَى رأْسه دَلْوًا مِنْ مَاءٍ بَارِدٍ أَي صَبَبْتُهُ.
والقُرّ، بِالضَّمِّ: القَرار فِي الْمَكَانِ، تَقُولُ مِنْهُ قَرِرْتُ بِالْمَكَانِ، بِالْكَسْرِ، أَقَرُّ قَرارًا وقَرَرْتُ أَيضًا، بِالْفَتْحِ، أَقِرُّ قَرَارًا وقُرورًا، وقَرَّ بِالْمَكَانِ يَقِرُّ ويَقَرُّ، والأُولى أَعلى؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: أَعني أَن فَعَلَ يَفْعِلُ هَاهُنَا أَكثر مِنْ فَعَلَ يَفْعَلُ قَرارًا وقُرورًا وقَرًّا وتَقْرارةً وتَقِرَّة، والأَخيرة شَاذَّةٌ؛ واسْتَقَرَّ وتَقارَّ واقْتَرَّه فِيهِ وَعَلَيْهِ وقَرَّره وأَقَرَّه فِي مَكَانِهِ فاستقرَّ.
وَفُلَانٌ مَا يَتَقارُّ فِي مَكَانِهِ أَي مَا يَسْتَقِرُّ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي مُوسَى: «أُقِرَّت الصَّلَاةُ بِالْبِرِّ وَالزَّكَاةِ؟»، وَرُوِيَ: قَرَّتْ أَي اسْتَقَرَّت مَعَهُمَا وقُرِنت بِهِمَا، يَعْنِي أَن الصَّلَاةَ مَقْرُونَةٌ بِالْبِرِّ، وَهُوَ الصِّدْقُ وَجِمَاعُ الْخَيْرِ، وأَنها مَقْرُونَةٌ بِالزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ مَذْكُورَةٌ مَعَهَا.
وَفِي حَدِيثِ أَبي ذَرٍّ: «فَلَمْ أَتَقارَّ أَن قمتُ» أَي لَمْ أَلْبَثْ، وأَصله أَتَقارَر، فأُدغمت الرَّاءُ فِي الرَّاءِ.
وَفِي حَدِيثِ نَائِلٍ مَوْلَى عُثْمَانَ: «قُلْنَا لرَباح بْنِ المُغْتَرِف: غَنِّنا غِناءَ أَهل القَرارِ»؛ أي أَهل الحَضَر المستقرِّين فِي مَنَازِلِهِمْ لَا غِناءَ أَهل البَدْو الَّذِينَ لَا يَزَالُونَ مُتَنَقِّلِينَ.
اللَّيْثُ: أَقْرَرْتُ الشَّيْءَ فِي مَقَرِّه ليَقِرّ.
وَفُلَانٌ قارٌّ: ساكنٌ، وَمَا يَتَقَارُّ فِي مَكَانِهِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}؛ أَي قَرار وَثُبُوتٌ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ}؛ أَي لِكُلِّ مَا أَنبأْتكم عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَايَةٌ وَنِهَايَةٌ تَرَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها؛ أَي لِمَكَانٍ لَا تُجَاوِزُهُ وَقْتًا وَمَحَلًّا وَقِيلَ لأَجَلٍ قُدِّر لَهَا.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَقَرْنَ} وَقَرْنَ "، هُوَ كَقَوْلِكَ ظَلْنَ وظِلْنَ؛ فقَرْنَ عَلَى أَقْرَرْنَ كظَلْنَ عَلَىأَظْلَلْنَ وقِرنَ عَلَى أَقْرَرنَ كظِلْنَ عَلَى أَظْلَلنَ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ؛ هُوَ مِنَ الوَقار.
وقرأَ عَاصِمٌ وأَهل الْمَدِينَةِ: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ؛ قَالَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الوَقار وَلَكِنْ يُرَى أَنهم إِنما أَرادوا: واقْرَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، فَحَذَفَ الرَّاءَ الأُولى وحُوّلت فَتْحَتُهَا فِي الْقَافِ، كَمَا قَالُوا: هَلْ أَحَسْتَ صاحِبَك، وَكَمَا يُقَالُ فَظِلْتم، يُرِيدُ فَظَلِلْتُمْ؛ قَالَ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: واقْرِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، فإِن قَالَ قَائِلٌ: وقِرْن، يُرِيدُ واقْرِرْنَ فتُحَوَّلُ كَسْرَةُ الرَّاءِ إِذا أُسقطت إِلى الْقَافِ، كَانَ وَجْهًا؛ قَالَ: وَلَمْ نَجِدْ ذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ مُسْتَعْمَلًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلا فِي فعَلْتم وفَعَلْتَ وفَعَلْنَ، فأَما فِي الأَمر وَالنَّهْيِ وَالْمُسْتَقْبَلِ فَلَا، إِلا أَنه جَوَّزَ ذَلِكَ لأَن اللَّامَ فِي النِّسْوَةِ سَاكِنَةٌ فِي فَعَلْن ويَفْعَلن فَجَازَ ذَلِكَ؛ قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَعرابي مِنْ بَنِي نُمَيْر: يَنْحِطْنَ مِنَ الْجَبَلِ، يُرِيدُ ينْحَطِطْنَ، فَهَذَا يُقَوِّي ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ"، عِنْدِي مِنَ القَرارِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قرأَ: وَقَرْنَ، فَهُوَ مِنَ القَرارِ، وَقَالَ: قَرَرْتُ بِالْمَكَانِ أَقِرُّ وقَرَرْتُ أَقَرُّ.
وَقَارَّهُ مُقارَّةً أَي قَرّ مَعَهُ وسَكَنَ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «قارُّوا الصلاةَ»، هُوَ مِنَ القَرارِ لَا مِنَ الوَقارِ، وَمَعْنَاهُ السُّكُونُ؛ أي اسْكُنُوا فِيهَا وَلَا تَتَحَرَّكُوا وَلَا تَعْبَثُوا، وَهُوَ تَفَاعُلٌ، مِنَ القَرارِ.
وتَقْرِيرُ الإِنسان بِالشَّيْءِ: جعلُه فِي قَراره؛ وقَرَّرْتُ عِنْدَهُ الْخَبَرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ.
والقَرُور مِنَ النساء: التي تَقَرّ [تَقِرّ] لِمَا يُصْنَعُ بِهَا لَا تَرُدّ المُقَبِّلَ والمُراوِدَ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، كأَنها تَقِرُّ وَتَسْكُنُ وَلَا تَنْفِرُ مِنَ الرِّيبَة.
والقَرْقَرُ: القاعُ الأَمْلَسُ، وَقِيلَ: الْمُسْتَوِي الأَملس الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ.
والقَرارة والقَرارُ: مَا قَرَّ فِيهِ الْمَاءُ.
والقَرارُ والقَرارةُ مِنَ الأَرض: الْمُطْمَئِنُّ الْمُسْتَقِرُّ، وَقِيلَ: هُوَ القاعُ الْمُسْتَدِيرُ، وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: القَرارة كُلُّ مُطْمَئِنٍّ انْدَفَعَ إِليه الْمَاءُ فاستقَرّ فِيهِ، قَالَ: وَهِيَ مِنْ مَكَارِمِ الأَرض إِذا كَانَتْ سُهولةٌ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ عَلِيًّا فَقَالَ: «عِلْمِي إِلى عِلْمِهِ كالقَرارة فِي المُثْعَنْجَرِ»؛ القَرارةُ الْمُطَمَئِنُّ مِنَ الأَرض وَمَا يَسْتَقِرُّ فِيهِ مَاءُ الْمَطَرِ، وَجَمْعُهَا القَرارُ.
وَفِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَر: «وَلَحِقَتْ طائفةٌ بقَرارِ الأَودية».
وَفِي حَدِيثِ الزَّكَاةِ: «بُطِحَ لَهُ بِقاعٍ قَرْقَرٍ»؛ هُوَ الْمَكَانُ الْمُسْتَوِي.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: «كُنْتُ زَميلَه فِي غَزْوة قَرقَرةِ الكُدْرِ»؛ هِيَ غَزْوَةٌ مَعْرُوفَةٌ، والكُدْرُ: مَاءٌ لَبَنِي سُلَيْمٍ: والقَرْقَرُ: الأَرض الْمُسْتَوِيَةُ، وَقِيلَ: إِن أَصل الكُدْرِ طَيْرٌ غُبْرٌ سُمِّيَ الموضعُ أَو الْمَاءُ بِهَا؛ وَقَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:
بقَرارِ قِيعانٍ سقَاها وابلٌ ***واهٍ، فأَثْجَمَ بُرْهَةً لَا يُقْلِعُ
قَالَ الأَصمعي: القَرارُ هَاهُنَا جَمْعُ قَرارةٍ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وإِنما حَمَلَ الأَصمعي عَلَى هَذَا قولُه قِيعان لِيُضِيفَ الْجَمْعَ إِلى الْجَمْعِ، أَلا تَرَى أَن قَرَارًا هَاهُنَا لَوْ كَانَ وَاحِدًا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ سَلٍّ وسَلَّة لأَضاف مُفْرَدًا إِلى جَمْعٍ وَهَذَا فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّنَاكُرِ وَالتَّنَافُرِ.
ابْنُ شُمَيْلٍ: بُطونُ الأَرض قَرارُها لأَن الْمَاءَ يَسْتَقِرُّ فِيهَا.
وَيُقَالُ: القَرار مُسْتَقَرُّ الْمَاءِ فِي الرَّوْضَةِ.
ابْنُ الأَعرابي: المَقَرَّةُ الْحَوْضُ الْكَبِيرُ يُجْمَعُ فِيهِ الْمَاءُ، والقَرارة القاعُ الْمُسْتَدِيرُ، والقَرْقَرة الأَرض الْمَلْسَاءُ لَيْسَتْ بجِدِّ واسعةٍ، فإِذا اتَّسَعَتْ غَلَبَ عَلَيْهَا اسْمُ التَّذْكِيرِ فَقَالُوا قَرْقَرٌ؛ وَقَالَ عَبِيدٌ: " تُرْخِي مَرابِعَها فِي قَرْقَرٍ ضاحِي "قال: والقَرَقُ [القَرِقُ] مِثْلُ القَرْقَرِ سَوَاءٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَحمر: القَرْقَرة وسطُ الْقَاعِ ووسطُ الْغَائِطِ المكانُ الأَجْرَدُ مِنْهُ لَا شَجَرَ فِيهِ وَلَا دَفَّ وَلَا حِجَارَةَ، إِنما هِيَ طِينٌ لَيْسَتْ بِجَبَلٍ وَلَا قُفٍّ، وعَرْضُها نَحْوٌ مِنْ عَشَرَةِ أَذرع أَو أَقل، وَكَذَلِكَ طُولُهَا؛ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ}؛ هُوَ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ الْمَاءُ.
وَيُقَالُ لِلرَّوْضَةِ الْمُنْخَفِضَةِ: القَرارة.
وَصَارَ الأَمر إِلى قَراره ومُسْتَقَرِّه: تَناهَى وَثَبَتَ.
وَقَوْلُهُمْ عِنْدَ شِدَّةٍ تُصِيبُهُمْ: صابتْ بقُرٍّ أَي صَارَتِ الشدّةُ إِلى قَرارها، وَرُبَّمَا قَالُوا: وَقَعَت بقُرٍّ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ وَقَعَتْ فِي الْمَوْضِعِ الذِي يَنْبَغِي.
أَبو عُبَيْدٍ فِي بَابِ الشِّدَّةِ: صابتْ بقُرٍّ إِذا نَزَلَتْ بِهِمْ شِدَّةٌ، قَالَ: وإِنما هُوَ مَثَل.
الأَصمعي: وَقَعَ الأَمرُ بقُرِّه أَي بمُسْتَقَرّه؛ وأَنشد:
لعَمْرُكَ، مَا قَلْبي عَلَى أَهله بحُرّ، ***وَلَا مُقْصِرٍ، يَوْمًا، فيأْتيَني بقُرّ
أَي بمُسْتَقَرّه؛ وَقَالَ عَدِيُّ بنُ زَيْدٍ:
تُرَجِّيها، وَقَدْ وقَعَتْ بقُرٍّ، ***كَمَا تَرْجُو أَصاغِرَها عَتِيبُ
وَيُقَالُ لِلثَّائِرِ إِذا صادفَ ثَأْرَه: وقَعْتَ بقُرِّكَ أَي صادَفَ فؤادُك مَا كَانَ مُتَطَلِّعًا إِليه فتَقَرّ؛ قَالَ الشَّمَّاخ:
كأَنها وابنَ أَيامٍ تُؤَبِّنُه، ***مِنْ قُرَّةِ العَيْنِ، مُجْتابا دَيابُوذِ
أَي كأَنهما مِنْ رِضَاهُمَا بِمَرْتَعِهِمَا وَتَرْكِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ مُجتابا ثوبٍ فاخِرٍ فَهُمَا مَسْرُورَانِ بِهِ؛ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: فعُرِضَ هَذَا القولُ عَلَى ثَعْلَبٍ فَقَالَ هَذَا الْكَلَامُ أَي سَكَّنَ اللهُ عينَه بِالنَّظَرِ إِلى مَا يُحِبُّ.
وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: قَرْقارِ أَي قِرَّ واسكنْ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وقَرَّتْ عينُه تَقَرّ؛ هَذِهِ أَعلى عَنْ ثَعْلَبٍ، أَعني فَعِلَتْ تَفْعَلُ، وقَرَّت تَقِرُّ قَرَّة وقُرَّةً؛ الأَخيرة عَنْ ثَعْلَبٍ، وَقَالَ: هِيَ مَصْدَرٌ، وقُرُورًا، وَهِيَ ضدُّ سَخِنتْ، قَالَ: وَلِذَلِكَ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَن يَكُونَ قَرَّت فَعِلَت لِيَجِيءَ بِهَا عَلَى بِنَاءِ ضِدِّهَا، قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ بَرَدَتْ وَانْقَطَعَ بُكَاؤُهَا واستحرارُها بِالدَّمْعِ فإِن لِلسُّرُورِ دَمْعَةً بَارِدَةً وَلِلْحُزْنِ دَمْعَةً حَارَّةً، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ القَرارِ، أَي رأَت ما كانت متشوّقة إِليه فقَرَّتْ وَنَامَتْ.
وأَقَرَّ اللهُ عينَه وَبِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: أَعطاه حَتَّى تَقَرَّ فَلَا تَطْمَحَ إِلى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَيُقَالُ: حَتَّى تَبْرُدَ وَلَا تَسْخَنَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرَّت عينُه مأْخوذ مِنَ القَرُور، وَهُوَ الدَّمْعُ الْبَارِدُ يَخْرُجُ مَعَ الْفَرَحِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ القَرارِ، وَهُوَ الهُدُوءُ، وَقَالَ الأَصمعي: أَبرد اللهُ دَمْعَتَه لأَن دَمْعَة السُّرُورِ بَارِدَةٌ.
وأَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ: مُشْتَقٌّ مِنَ القَرُور، وَهُوَ الْمَاءُ الْبَارِدُ، وَقِيلَ: أَقَرَّ اللهُ عَيْنَكَ أَي صَادَفْتَ مَا يُرْضِيكَ فَتَقَرُّ عَيْنُكَ مِنَ النَّظَرِ إِلى غَيْرِهِ، وَرَضِيَ أَبو الْعَبَّاسِ هَذَا الْقَوْلَ وَاخْتَارَهُ، وَقَالَ أَبو طَالِبٍ: أَقرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَنام اللَّهُ عَيْنَهُ، وَالْمَعْنَى صَادَفَ سُرُورًا يُذْهِبُ سَهَرَهُ فَيَنَامُ؛ وأَنشد: " أَقَرَّ بِهِ مَوَالِيكِ العُيونا أَي نَامَتْ عُيُونُهُمْ لَمَّا ظَفِرُوا بِمَا أَرادوا.
وَقَوْلُهُ تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَي طِيبِي نَفْسًا، قَالَ: وإِنما نُصِبَتِ الْعَيْنُ لأَن الْفِعْلَ كَانَ لَهَا فَصَيَّرَتْهُ للمرأَة، مَعْنَاهُ لِتَقَرَّ عينُك، فإِذا حُوِّل الفعلُ عَنْ صَاحِبِهِ نَصَبَ صَاحِبَ الْفِعْلِ عَلَى التَّفْسِيرِ.
وَعَيْنٌ قَرِيرةٌ: قارَّة، وقُرَّتُها: مَا قَرَّت بِهِ.
والقُرَّةُ: كُلُّ شَيْءٍ قَرَّت بِهِ عَيْنُكَ، والقُرَّةُ: " مَصْدَرُ قَرَّت الْعَيْنُ قُرَّةً.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}؛ وقرأَ أَبو هُرَيْرَةَ: " مِنْ قُرَّاتِ أَعْيُن، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ: «لَوْ رَآكَ لقَرَّتْ عَيْنَاهُ»أَي لَسُرَّ بِذَلِكَ وفَرِحَ، قَالَ: وَحَقِيقَتُهُ أَبْرَدَ اللهُ دَمْعَةَ عَيْنِيهِ لأَن دَمْعَةَ الْفَرَحِ بَارِدَةٌ، وَقِيلَ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ؛ أي بَلَّغَك أُمْنِيَّتك حَتَّى تَرْضَى نَفْسُك وتَسْكُنَ عَيْنُك فَلَا تَسْتَشْرِفَ إِلى غَيْرِهِ؛ وَرَجُلٌ قَرِيرُ الْعَيْنِ وقَرِرْتُ بِهِ عَيْنًا فأَنا أَقَرُّ وقَرَرْتُ أَقِرُّ وقَرِرْتُ [قَرَرْتُ] فِي الْمَوْضِعِ مِثْلُهَا.
ويومُ القَرِّ: الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي عِيدَ النَّحْرِ لأَن النَّاسَ يَقِرُّونَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَقِيلَ: لأَنهم يَقِرُّون بِمِنًى؛ عَنْ كُرَاعٍ، أَي يَسْكُنُونَ وَيُقِيمُونَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَفضلُ الأَيام عِنْدَ اللَّهِ يومُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ»؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: أَراد بِيَوْمِ القَرِّ الغَدَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ حَادِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، سُمِّيَ يومَ القَرِّ لأَن أَهل المَوْسِمِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ فِي تَعَبٍ مِنَ الْحَجِّ، فإِذا كَانَ الغدُ من يوم النحر قَرُّوا بِمِنًى فَسُمِّيَ يومَ القَرِّ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عُثْمَانَ: أَقِرُّوا الأَنفس حَتَّى تَزْهَقَ أَي سَكِّنوا الذَّبَائِحَ حَتَّى تُفارقها أَرواحها وَلَا تُعْجِلُوا سَلْخها وَتَقْطِيعَهَا.
وَفِي حَدِيثِ البُراق: «أَنه استصعبَ ثُمَّ ارْفَضَّ وأَقَرَّ»؛ أي سَكَنَ وَانْقَادَ.
ومَقَرُّ الرَّحِمِ: آخِرُها، ومُسْتَقَرُّ الحَمْل مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}؛ أَي فَلَكُمْ فِي الأَرحام مُسْتَقَرٌّ وَلَكُمْ فِي الأَصلاب مُسْتَوْدَعٌ، وَقُرِئَ: " فمستقِرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ "؛ أَي مُسْتَقِرٌّ فِي الرَّحِمِ، وَقِيلَ: مُسْتَقِرٌّ فِي الدُّنِيَا مَوْجُودٌ، ومستودعَ فِي الأَصلاب لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ؛ وَقَالَ اللَّيْثُ: الْمُسْتَقِرُّ مَا وُلِدَ مِنَ الْخَلْقِ وَظَهَرَ عَلَى الأَرض، والمستودَع مَا فِي الأَرحام، وَقِيلَ: مُسْتَقَرُّهَا فِي الأَصلاب ومستودعها في الأَرحام، وسيأْتي ذِكْرُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي حرف العين، إِن شاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: مُسْتَقِرٌّ فِي الأَحياء ومستودَع فِي الثَّرَى.
وَالْقَارُورَةُ: وَاحِدَةُ القَوارير مِنَ الزُّجاج، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي المرأَة الْقَارُورَةَ وَتُكَنِّي عَنْهَا بِهَا.
والقارُورُ: مَا قَرَّ فِيهِ الشرابُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ إِلا مِنَ الزُّجَاجِ خَاصَّةً.
وقوله تعالى: {قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ}؛ قَالَ بَعْضُ أَهل الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ أَوانيَ زُجاج فِي بَيَاضِ الْفِضَّةِ وَصَفَاءِ الْقَوَارِيرِ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا حَسَنٌ، فأَما مَنْ أَلحق الأَلف فِي قَوَارِيرَ الأَخيرة فإِنه زَادَ الأَلف لتَعْدِلَ رؤوس الْآيِ.
وَالْقَارُورَةُ: حَدَقة الْعَيْنِ، عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْقَارُورَةِ مِنَ الزُّجَاجِ لِصَفَائِهَا وأَن المتأَمّل يَرَى شَخْصَهُ فِيهَا؛ قَالَ رُؤْبَةُ:
قَدْ قَدَحَتْ مِنْ سَلْبِهِنَّ سَلْبا ***قارورةُ العينِ، فصارتْ وَقْبا
ابْنُ الأَعرابي: القَوارِيرُ شَجَرٌ يُشْبِهُ الدُّلْبَ تُعمل مِنْهُ الرِّحالُ وَالْمَوَائِدُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأَنْجَشةَ وَهُوَ يَحْدُو بِالنِّسَاءِ: رِفْقًا بالقَوارير»؛ أَراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوَارِيرِ النِّسَاءَ، شَبَّهَهُنَّ بِالْقَوَارِيرِ لِضَعْفِ عَزَائِمِهِنَّ وَقِلَّةِ دَوَامِهِنَّ عَلَى الْعَهْدِ، والقواريرُ مِنَ الزُّجاج يُسْرِع إِليها الْكَسْرُ وَلَا تَقْبَلُ الجَبْرَ، وَكَانَ أَنْجَشَةُ يَحْدُو بِهِنَّ رِكابَهُنَّ وَيَرْتَجِزُ بِنَسِيبِ الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ وَرَاءَهُنَّ، فَلَمْ يُؤْمَنْ أَن يُصِيبَهُنَّ مَا يَسْمَعْنَ مِنْ رَقِيقِ الشِّعْرِ فِيهِنَّ أَو يَقَعَ فِي قُلُوبِهِنَّ حُداؤه، فأَمر أَنجشَةَ بِالْكَفِّ عَنْ نَشِيدِهِ وحُدائه حِذارَ صَبْوَتِهن إِلى غَيْرِ الْجَمِيلِ، وَقِيلَ: أَراد أَن الإِبل إِذا سَمِعْتِ الحُداء أَسرعت فِي الْمَشْيِ وَاشْتَدَّتْ فأَزعجت الراكبَ فأَتعبته فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ لأَن النِّسَاءَ يَضْعُفْنَ عَنْ شِدَّةِ الْحَرَكَةِ.
وواحدةُ" الْقَوَارِيرِ: قارورةٌ، سُمِّيَتْ بِهَا لِاسْتِقْرَارِ الشَّرَابِ فِيهَا.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: «مَا أَصَبْتُ مُنْذُ وَلِيتُ عَمَلِي إِلا هَذِهِ القُوَيْرِيرةَ أَهداها إِليّ الدِّهْقانُ»؛ هِيَ تَصْغِيرُ قَارُورَةٍ.
وَرُوِيَ عَنِ الحُطَيْئة أَنه نَزَلَ بِقَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ فِي أَهله فَسَمِعَ شُبَّانَهم يَتَغَنَّوْنَ فَقَالَ: أَغْنُوا أَغانيَّ شُبَّانِكم فإِن الغِناء رُقْيَةُ الزِّنَا.
وَسَمِعَ سليمانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ غِناءَ رَاكِبٍ لَيْلًا، وَهُوَ فِي مِضْرَبٍ لَهُ، فَبَعْثَ إِليه مَنْ يُحْضِرُه وأَمر أَن يُخْصَى وَقَالَ: مَا تَسْمَعُ أُنثى غِناءه إِلا صَبَتْ إِليه؛ قَالَ: وَمَا شَبَّهْتُه إِلا بِالْفَحْلِ يُرْسَلُ فِي الإِبل يُهَدِّرُ فِيهِنَّ فيَضْبَعُهنّ.
والاقْترارُ: تَتَبُّعُ مَا فِي بَطْنِ الْوَادِي مِنْ بَاقِي الرُّطْبِ، وَذَلِكَ إِذا هَاجَتِ الأَرض ويَبِستْ مُتونُها.
والاقترارُ: استقرارُ مَاءُ الْفَحْلِ فِي رَحِمِ النَّاقَةِ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ: " فَقَدْ مَارَ فِيهَا نَسْؤُهَا وَاقْتِرَارُهَا "قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا أَعرف مِثْلَ هَذَا، اللَّهُمَّ إِلا أَن يَكُونَ مَصْدَرًا وإِلا فَهُوَ غَرِيبٌ ظَرِيفٌ، وإِنما عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنْهُ أَبو عُبَيْدٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِمِثْلِ هَذَا عِلْمٌ، وَالصَّحِيحُ أَن الِاقْتِرَارَ تَتَبُّعُها فِي بُطُونِ الأَوْدِية النباتَ الَّذِي لَمْ تُصِبْهُ الشَّمْسُ.
والاقترارُ: الشِّبَعُ.
وأَقَرَّت الناقةُ: ثَبَتَ حَمْلُهَا.
واقْتَرَّ ماءُ الفحل في الرحم أَي استقرَّ.
أَبو زَيْدٍ: اقترارُ مَاءِ الْفَحْلِ فِي الرَّحِمِ أَن تبولَ فِي رِجْلَيْهَا، وَذَلِكَ مِنْ خُثورة الْبَوْلِ بِمَا جَرَى فِي لَحْمِهَا.
تَقُولُ: قَدِ اقْتَرَّت، وَقَدِ اقْتَرَّ المالُ إِذَا شَبِعَ.
يُقَالُ ذَلِكَ فِي النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ.
وَنَاقَةٌ مُقِرٌّ: عَقَّدَتْ مَاءَ الْفَحْلِ فأَمسكته فِي رَحِمِهَا وَلَمْ تُلْقِه.
والإِقرارُ: الإِذعانُ لِلْحَقِّ والاعترافُ بِهِ.
أَقَرَّ بِالْحَقِّ أَي اعْتَرَفَ بِهِ.
وَقَدْ قَرَّرَه عَلَيْهِ وقَرَّره بِالْحَقِّ غيرُه حَتَّى أَقَرَّ.
والقَرُّ: مَرْكَبٌ لِلرِّجَالِ بَيْنَ الرَّحْل والسَّرْج، وَقِيلَ: القَرُّ الهَوْدَجُ؛ وأَنشد: " كالقَرِّ ناسَتْ فوقَه الجَزاجِزُ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فإِمَّا تَرَيْني فِي رِحالةِ جابرٍ ***عَلَى حَرَجٍ كالقَرِّ، تَخْفِقُ أَكفاني
وَقِيلَ: القَرُّ مَرْكَبٌ لِلنِّسَاءِ.
والقَرارُ: الْغَنَمُ عامَّةً؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:
أَسْرَعْت فِي قَرارِ، ***كأَنما ضِرارِي
أَرَدْتِ يَا جَعارِ "وخصَّ ثعلبٌ بِهِ الضأْنَ.
وَقَالَ الأَصمعي: القَرارُ والقَرارةُ النَّقَدُ، وَهُوَ ضربٌ مِنَ الغَنَمِ قِصَارُ الأَرْجُل قِباح الْوُجُوهِ.
الأَصمعي: القَرار النَّقَدُ مِنَ الشَّاءِ وَهِيَ صغارٌ، وأَجودُ الصُّوفِ صُوفُ النَّقَدِ؛ وأَنشد لِعَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ:
والمالُ صُوفُ قَرارٍ يَلْعَبونَ بِهِ، ***عَلَى نِقادَتِه، وافٍ ومَجْلُومُ
أَي يَقِلُّ عِنْدَ ذَا وَيَكْثُرُ عِنْدَ ذَا.
والقُرَرُ: الحَسا، وَاحِدَتُهَا قُرَّة؛ حَكَاهَا أَبو حَنِيفَةَ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا أَدري أَيَّ الحَسا عَنَى أَحَسَا الْمَاءِ أَم غَيْرَهُ مِنَ الشَّرَابِ.
وطَوَى الثَّوْبَ عَلَى قَرِّه: كَقَوْلِكَ عَلَى غَرّه أَي عَلَى كَسْرِه، والقَرُّ والغَرُّ والمَقَرُّ: كَسْرُ طَيِّ الثَّوْبِ.
والمَقَرّ: موضعٌ وسطَ كاظمةَ، وَبِهِ قَبْرُ غَالِبٍ أَبي الْفَرَزْدَقِ وَقَبْرُ امرأَة جَرِيرٍ؛ قَالَ الرَّاعِي:
فصَبَّحْنَ المَقَرَّ، وَهُنَّ خُوصٌ، ***عَلَى رَوَحٍ يُقَلِّبْنَ المَحارا
وَقِيلَ: المَقَرُّ ثنيةُ كاظِمةَ.
وَقَالَ خالدُ بْنُ جَبَلَة: زَعَمَ النُّمَيْرِي أَن المَقَرّ جَبَلٌ لِبَنِي تَمِيمٍ.
وقَرَّتِ الدَّجاجةُ تَقِرّ قَرًّا وقَرِيرًا: قَطَعتْ صوتَها وقَرْقَرَتْ رَدَّدَتْ صوتَها؛ حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ عَنِ الْهَرَوِيِّ فِي الْغَرِيبَيْنِ.
والقِرِّيَّة: الحَوْصلة مِثْلَ الجِرِّيَّة.
والقَرُّ: الفَرُّوجةُ؛ قَالَ ابْنُ أَحمر: " كالقَرِّ بَيْنَ قَوادِمٍ زُعْرِ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هَذَا العَجُزُ مُغَيَّر، قَالَ: وَصَوَابُ إِنشاد الْبَيْتِ عَلَى مَا رَوَتْهُ الرُّوَاةُ فِي شِعْرِهِ:
حَلَقَتْ بَنُو غَزْوانَ جُؤْجُؤَه ***والرأْسَ، غيرَ قَنازِعٍ زُعْرِ
فَيَظَلُّ دَفَّاه لَهُ حَرَسًا، ***ويَظَلُّ يُلْجِئُه إِلى النَّحْرِ
قَالَ هَذَا يَصِفُ ظليمًا.
وبنو غَزْوَانَ: حَيٌّ مِنَ الْجِنِّ، يُرِيدُ أَن جُؤْجُؤَ هَذَا الظَّلِيمِ أَجربُ وأَن رأْسه أَقرع، والزُّعْرُ: الْقَلِيلَةُ الشَّعْرِ.
ودَفَّاه: جَنَاحَاهُ، وَالْهَاءُ فِي لَهُ ضَمِيرُ الْبَيْضِ، أَي يجعل جناجيه حَرَسًا لِبَيْضِهِ وَيَضُمُّهُ إِلى نَحْرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ يُلْجِئُهُ إِلى النَّحْرِ.
وقُرَّى وقُرَّانُ: مَوْضِعَانِ.
والقَرْقَرة: الضَّحِكُ إِذا اسْتُغْرِبَ فِيهِ ورُجِّعَ.
والقَرْقَرة: الْهَدِيرُ، وَالْجَمْعُ القَراقِرُ.
والقَرْقَرة: دُعاء الإِبل، والإِنْقاضُ: دُعَاءُ الشَّاءِ وَالْحَمِيرِ؛ قَالَ شظَاظٌ:
رُبَّ عَجُوزٍ مِنْ نُمَيْرٍ شَهْبَرَهْ، ***عَلَّمْتُها الإِنْقاضَ بَعْدَ القَرْقَره
أَي سَبَيْتُهَا فَحَوَّلْتُهَا إِلى مَا لَمْ تَعْرِفْهُ.
وقَرْقَر البعيرُ قَرْقَرة: هَدَر، وَذَلِكَ إِذا هَدَلَ صوتَه ورَجَّع، وَالِاسْمُ القَرْقارُ.
يُقَالُ: بَعِيرٌ قَرْقارُ الهَدِير صَافِيَ الصَّوْتِ فِي هَديرِه؛ قَالَ حُمَيدٌ:
جَاءَتْ بِهَا الوُرَّادُ يَحْجِزُ بينَها ***سُدًى، بَيْنَ قَرْقارِ الهَدِير، وأَعْجَما
وَقَوْلُهُمْ: قَرْقارِ، بُنِيَ عَلَى الْكَسْرِ وَهُوَ مَعْدُولٌ، قَالَ: وَلَمْ يُسْمَعِ الْعَدْلُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ إِلا فِي عَرْعارِ وقَرْقارِ؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ العِجْلِيُّ:
حَتَّى إِذا كَانَ عَلَى مَطارِ ***يُمناه، واليُسْرى عَلَى الثَّرْثارِ
قَالَتْ لَهُ ريحُ الصَّبا: قَرْقارِ، ***واخْتَلَطَ المعروفُ بالإِنْكارِ
يريد: قالت لسحاب قَرْقارِ كأَنه يأْمر السَّحَابَ بِذَلِكَ.
ومَطارِ والثَّرْثارُ: مَوْضِعَانِ؛ يَقُولُ: حَتَّى إِذا صَارَ يُمْنى السَّحَابِ عَلَى مَطارِ ويُسْراه عَلَى الثَّرْثارِ قَالَتْ لَهُ رِيحُ الصَّبا: صُبَّ مَا عِنْدَكَ مِنَ الْمَاءِ مُقْتَرِنًا بِصَوْتِ الرَّعْدِ، وَهُوَ قَرْقَرَته، وَالْمَعْنَى ضَرَبَتْهُ رِيحُ الصَّبا فدَرَّ لَهَا، فكأَنها قَالَتْ لَهُ وإِن كَانَتْ لَا تَقُولُ.
وَقَوْلُهُ: وَاخْتَلَطَ الْمَعْرُوفُ بالإِنكار أَي اخْتَلَطَ مَا عُرِفَ مِنَ الدَّارِ بِمَا أُنكر أَي جَلَّلَ الأَرضَ كلَّها المطرُ فَلَمْ يُعْرَفْ مِنْهَا الْمَكَانُ الْمَعْرُوفُ مِنْ غَيْرِهِ.
والقَرْقَرة: نَوْعٌ مِنَ الضَّحِكِ، وَجَعَلُوا حِكَايَةَ صَوْتِ الرِّيحِ قَرْقارًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا بأْس بِالتَّبَسُّمِ مَا لَمْ يُقَرْقِرْ»؛ القَرْقَرة: الضحك لعالي.
والقَرْقَرة: لَقَبُ سَعْدٍ الَّذِي كَانَ يَضْحَكُ مِنْهُ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ.
والقَرْقَرة: مِنْ أَصوات الْحَمَامِ، وَقَدْ قَرْقَرَتْ قَرْقَرَةً وقَرْقَرِيرًا نادرٌ؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: القَرْقِيرُ فَعْلِيلٌ، جَعَلَهُ رُباعيًّا، والقَرْقارَة: إِناء، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لقَرْقَرَتها.
وقَرْقَرَ الشرابُ فِي حَلْقِهِ: صَوَّت.
وقَرْقَرَ بطنُه صَوَّت.
قَالَ شَمِرٌ: القَرْقَرة قَرْقَرةُ الْبَطْنِ، والقَرْقَرة نَحْوُ القَهْقهة، والقَرْقَرة قَرْقَرةُ الْحَمَامِ إِذا هَدَر، والقَرْقَرة قَرْقَرة الْفَحْلِ إِذا هَدَر، وَهُوَ القَرْقَرِيرُ.
وَرَجُلٌ قُراقرِيٌّ: جَهيرُ الصَّوْتِ؛ وأَنشد: " قَدْ كَانَ هَدَّارًا قُراقِرِيَّا "والقُراقِرُ والقُراقِرِيّ: الحَسَنُ الصَّوْتِ؛ قَالَ: " فِيهَا عِشاشُ الهُدْهُدِ القُراقِر "وَمِنْهُ: حادٍ قُراقِرٌ وقُراقِرِيٌّ جَيِّدُ الصَّوْتِ مِنَ القَرْقَرة؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
أَصْبَح صَوْتُ عامِرٍ صَئِيَّا، ***مِنْ بعدِ مَا كَانَ قُراقِرِيّا،
فَمَنْ يُنادي بعدَك المَطِيّا؟ "والقُراقِرُ: فَرَسُ عَامِرِ بْنِ قَيْسٍ؛ قَالَ: " وكانَ حدَّاءً قُراقِرِيَّا "والقَرارِيُّ: الحَضَريّ الَّذِي لَا يَنْتَجِعُ يَكُونُ مِنْ أَهل الأَمصار، وَقِيلَ: إِن كُلُّ صَانِعٍ عِنْدَ الْعَرَبِ قَرارِيّ.
والقَرارِيُّ: الخَيَّاط؛ قَالَ الأَعشى:
يَشُقُّ الأُمُورَ ويَجْتابُها ***كشَقِّ القَرارِيِّ ثوبَ الرَّدَنْ
قَالَ: يُرِيدُ الخَيَّاطَ؛ وَقَدْ جَعَلَهُ الرَّاعِي قَصَّابًا فَقَالَ:
ودَارِيٍّ سَلَخْتُ الجِلْدَ عَنْهُ، ***كَمَا سَلَخ القَرارِيُّ الإِهابا
ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ لِلْخَيَّاطِ القَرارِيُّ والفُضُولِيُّ، وَهُوَ البَيطَرُ والشَّاصِرُ.
والقُرْقُورُ: ضَرْبٌ مِنَ السُّفُنِ، وَقِيلَ: هِيَ السَّفِينَةُ الْعَظِيمَةُ أَو الطَّوِيلَةُ، والقُرْقُورُ مِنْ أَطول السُّفُنِ، وَجَمْعُهُ قَراقير؛ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: " قَراقِيرُ النَّبيطِ عَلَى التِّلالِ وَفِي حَدِيثِ صَاحِبِ الأُخْدُودِ: «اذْهَبُوا فاحْمِلُوه فِي قُرْقُورٍ»؛ قَالَ: هُوَ السَّفِينَةُ الْعَظِيمَةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فإِذا دَخَلَ أَهل الجنةِ الجنةَ رَكِبَ شهداءُ الْبَحْرِ فِي قَراقيرَ مِنْ دُرّ».
وَفِي حَدِيثِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَكِبُوا القَراقِيرَ حَتَّى أَتوا آسِيَةَ امرأَة فِرْعَوْنَ بتابُوتِ مُوسَى».
وقُراقِرُ وقَرْقَرى وقَرَوْرى وقُرَّان وقُراقِريّ: مَوَاضِعُ كُلُّهَا بأَعيانها مَعْرُوفَةٌ.
وقُرَّانُ: قَرْيَةٌ بِالْيَمَامَةِ ذَاتُ نَخْلٍ وسُيُوحٍ جاريةٍ؛ قَالَ عَلْقَمَةُ:
سُلَّاءَة كَعصَا النَّهْدِيِّ غُلَّ لَها ***ذُو فِيئَةٍ، مِنْ نَوى قُرَّانَ، مَعْجومُ
ابْنُ سِيدَهْ: قُراقِرُ وقَرْقَرى، عَلَى فَعْلَلى، مَوْضِعَانِ، وَقِيلَ: قُراقِرُ، عَلَى فُعالل، بِضَمِّ الْقَافِ، اسْمُ مَاءٍ بِعَيْنِهِ، وَمِنْهُ غَزَاةُ قُراقِر؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَهُمْ ضَرَبُوا بالحِنْوِ، حِنْوِ قُراقِرٍ، ***مُقَدِّمَةَ الهامُرْزِ حَتَّى تَوَلَّتِ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الْبَيْتُ للأَعشى، وَصَوَابُ إِنشاده: هُمُ ضَرَبُوا؛ وَقَبْلَهُ:
فِدًى لَبَنِي دُهْلِ بنِ شَيْبانَ ناقَتِي، ***وراكبُها يومَ اللِّقَاءِ، وقَلَّتِ
قَالَ: هَذَا يذكِّر فِعْلَ بَنِي ذُهْلٍ يَوْمَ ذِي قَارٍ وَجُعِلَ النَّصْرُ لَهُمْ خَاصَّةً دُونَ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ.
والهامُرْزُ: رَجُلٌ مِنَ الْعَجَمِ، وَهُوَ قَائِدٌ مِنْ قُوَّاد كِسْرى.
وقُراقِرُ: خَلْفَ الْبَصْرَةِ وَدُونَ الْكُوفَةِ قَرِيبٌ مِنْ ذِي قَارٍ، وَالضَّمِيرُ فِي قَلَّتِ يَعُودُ عَلَى الْفِدْيَةِ أَي قَلَّ لَهُمْ أَن أَفديهم بِنَفْسِي وَنَاقَتِي.
وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ قُراقِرَ، بِضَمِّ الْقَافِ الأُولى، وَهِيَ مَفَازَةٌ فِي طَرِيقِ الْيَمَامَةِ قَطَعَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ، مَوْضِعٌ مِنْ أَعراض الْمَدِينَةِ لِآلِ الْحَسَنَ بْنِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
والقَرْقَرُ: الظَّهْرُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «رَكِبَ أَتانًا عَلَيْهَا قَرْصَف لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلا قَرْقَرُها» أَي ظَهْرُهَا.
والقَرْقَرَةُ: جِلْدَةُ الْوَجْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فإِذا قُرِّبُ المُهْلُ مِنْهُ سَقَطَتْ قَرْقَرَةُ وَجْهِهِ»؛ حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ عَنْ الْغَرِيبَيْنِ لِلْهَرَوِيِّ.
قَرقَرَةُ وَجْهِهِ أَي جِلْدَتُهُ.
والقَرْقَرُ مِنْ لِبَاسِ النِّسَاءِ، شُبِّهَتْ بَشَرَةُ الْوَجْهِ بِهِ، وَقِيلَ: إِنما هِيَ رَقْرَقَةُ وَجْهِهِ، وهو مَا تَرَقْرَقَ مِنْ مَحَاسِنِهِ.
وَيُرْوَى: فَرْوَةُ وَجْهِهِ، بِالْفَاءِ؛ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَراد ظَاهِرَ وَجْهِهِ وَمَا بَدَا مِنْهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّحْرَاءِ الْبَارِزَةِ: قَرْقَرٌ.
والقَرْقَرُ والقَرْقَرَةُ: أَرض مُطَمَئِنَّةٌ لَيِّنَةٌ.
والقَرَّتانِ: الغَداةُ والعَشِيُّ؛ قَالَ لَبِيدٌ:
وجَوارِنٌ بيضٌ وكلُّ طِمِرَّةٍ، ***يَعْدُو عَلَيْهَا، القَرَّتَيْنِ، غُلامُ
الجَوارِنُ: الدُّرُوعُ.
ابْنُ السِّكِّيتِ: فُلَانٌ يأْتي فُلَانًا القَرَّتين أَي يأْتيه بالغداة والعَشِيّ.
وأَيوب بْنُ القِرِّيَّةِ: أَحدُ الْفُصَحَاءِ.
والقُرَّةُ: الضِّفْدَعَة وقُرَّانُ: اسْمُ رَجُلٍ.
وقُرَّانُ فِي شِعْرِ أَبي ذُؤَيْبٍ: اسْمُ وادٍ.
ابْنُ الأَعرابي: القُرَيْرَةُ تَصْغِيرُ القُرَّة، وَهِيَ نَاقَةٌ تؤْخذ مِنَ المَغْنَم قَبْلَ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَتُنْحَرُ وتُصْلَح ويأْكلها النَّاسُ يُقَالُ لَهَا قُرَّة العين.
يقال ابْنُ الْكَلْبِيِّ: عُيِّرَتْ هَوازِنُ وبنو أَسد بأَكل القُرَّة، وَذَلِكَ أَن أَهل الْيَمَنِ كَانُوا إِذا حلقوا رؤوسهم بِمِنًى وَضَع كلُّ رَجُلٍ عَلَى رأْسه قُبْضَةَ دَقِيقٍ فإِذا حلقوا رؤوسهم سَقَطَ الشَّعْرُ مَعَ ذَلِكَ الدَّقِيقِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ الدَّقِيقَ صَدَقَةً فَكَانَ نَاسٌ مِنْ أَسد وقيس يأْخذون ذَلِكَ الشَّعْرَ بِدَقِيقِهِ فَيَرْمُونَ الشَّعْرَ وَيَنْتَفِعُونَ بِالدَّقِيقِ؛ وأَنشد لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبي مُعَاوِيَةَ الجَرْمي:
أَلم تَرَ جَرْمًا أَنْجَدَتْ وأَبوكُمُ، ***مَعَ الشَّعْرِ، فِي قَصِّ المُلَبّدِ، سارِعُ
إِذا قُرَّةٌ جَاءَتْ يقولُ: أُصِبْ بِهَا ***سِوى القَمْلِ، إِني مِنْ هَوازِنَ ضارِعُ
التَّهْذِيبُ: اللَّيْثُ: الْعَرَبُ تُخْرِجُ مِنْ آخَرِ حُرُوفٍ مِنَ الْكَلِمَةِ حَرْفًا مِثْلَهَا، كَمَا قَالُوا: رَمادٌ رَمْدَدٌ، وَرَجُلٌ رَعِشٌ رِعْشِيشٌ، وَفُلَانٌ دَخيلُ فُلَانٍ ودُخْلُله، وَالْيَاءُ فِي رِعْشِيشٍ مَدَّة، فإِن جعلتَ مَكَانَهَا أَلفًا أَو وَاوًا جَازَ؛ وأَنشد يَصِفُ إِبلًا وشُرْبَها:
كأَنَّ صَوْتَ جَرْعِهِنّ المُنْحَدِرْ ***صَوْتُ شِقِرَّاقٍ، إِذا قَالَ: قِرِرْ
فأَظهر حَرْفَيِ التَّضْعِيفِ، فإِذا صَرَّفوا ذَلِكَ فِي الْفِعْلِ قَالُوا: قَرْقَرَ فَيُظْهِرُونَ حَرْفَ الْمُضَاعَفِ لِظُهُورِ الرَّاءَيْنِ فِي قَرْقَر، كَمَا قَالُوا صَرَّ يَصِرُّ صَرِيرًا، وإِذا خَفَّفَ الرَّاءَ وأَظهر الْحَرْفَيْنِ جَمِيعًا تَحَوَّلَ الصَّوْتُ مِنَ الْمَدِّ إِلى التَّرْجِيعِ فَضُوعِفَ، لأَن التَّرْجِيعَ يُضاعَفُ كُلُّهُ فِي تَصْرِيفِ الْفِعْلِ إِذا رَجَعَ الصَّائِتُ، قَالُوا: صَرْصَر وصَلْصَل، عَلَى تَوَهُّمِ الْمَدِّ فِي حَالٍ، وَالتَّرْجِيعِ فِي حَالٍ.
التَّهْذِيبُ: واد قَرِقٌ وقَرْقَرٌ وقَرَقُوْسٌ أَي أَملس، والقَرَق الْمَصْدَرُ.
وَيُقَالُ لِلسَّفِينَةِ: القُرْقُور والصُّرْصُور.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
146-لسان العرب (نهر)
نهر: النَّهْرُ والنَّهَرُ: وَاحِدُ الأَنْهارِ، وَفِي الْمُحْكَمِ: النَّهْرُ والنَّهَر مِنْ مَجَارِي الْمِيَاهِ، وَالْجَمْعُ أَنْهارٌ ونُهُرٌ ونُهُورٌ؛ أَنشد ابن الأَعرابي:سُقِيتُنَّ، مَا زالَتْ بكِرْمانَ نَخْلَةٌ، ***عَوامِرَ تَجْري بينَكُنَّ نُهُورُ
هَكَذَا أَنشده مَا زَالَتْ، قَالَ: وأُراهُ مَا دَامَتْ، وَقَدْ يَتَوَجَّهُ مَا زَالَتْ عَلَى مَعْنَى مَا ظَهَرَتْ وَارْتَفَعَتْ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
كأَنَّ رَحْلي، وَقَدْ زالَ النَّهارُ بِنَا ***يَوْمَ الجَلِيلِ، عَلَى مُسْتأْنِسٍ وَحِدِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «نَهْرانِ مُؤْمِنَانِ ونَهْرانِ كَافِرَانِ، فَالْمُؤْمِنَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَالْكَافِرَانِ دِجْلَةُ وَنَهْرُ بَلْخٍ».
ونَهَرَ الماءُ إِذا جرى فِي الأَرض وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ نَهَرًا.
ونَهَرْتُ النَّهْرَ: حَفَرْتُه.
ونَهَرَ النَّهْرَ يَنْهَرُهُ نَهْرًا: أَجراه.
واسْتَنْهَرَ النَّهْرَ إِذا أَخذ لِمَجْراهُ مَوْضِعًا مَكِينًا.
والمَنْهَرُ: مَوْضِعٌ فِي النَّهْرِ يَحْتَفِرُه الماءُ، وَفِي التَّهْذِيبِ: مَوْضِعُ النَّهْرِ.
والمَنْهَرُ: خَرْق فِي الحِصْنِ نافذٌ يَجْرِي مِنْهُ الْمَاءُ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنس: «فأَتَوْا مَنْهَرًا فاختَبَؤوا».
وَحَفَرَ الْبِئْرَ حَتَّى نَهِرَ يَنْهَرُ أَي بَلَغَ الْمَاءَ، مُشْتَقٌّ مِنَ النَّهْرِ.
التَّهْذِيبُ: حَفَرْتُ الْبِئْرَ حَتَّى نَهِرْتُ فأَنا أَنْهَرُ أَي بلغتُ الْمَاءَ.
ونَهَر الماءُ إِذا جَرى فِي الأَرض وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ نَهْرًا.
وَكُلُّ كَثِيرٍ جَرَى، فَقَدْ نَهَرَ واسْتَنْهَر.
الأَزهري: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي العَوَّاءَ والسِّماكَ أَنْهَرَيْنِ لِكَثْرَةِ مَائِهِمَا.
والنَّاهُور: السَّحَابُ؛ وأَنشد: " أَو شُقَّة خَرَجَتْ مِنْ جَوْفِ ناهُورِ "ونَهْرٌ وَاسِعٌ: نَهِرٌ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
أَقامت بِهِ، فابْتَنَتْ خَيْمَةً ***عَلَى قَصَبٍ وفُراتٍ نَهِرْ
وَالْقَصَبُ: مَجَارِي الْمَاءِ مِنَ الْعُيُونِ، وَرَوَاهُ الأَصمعي: وفُراتٍ نَهَرْ، عَلَى الْبَدَلِ، ومَثَّلَه لأَصحابه فَقَالَ: هُوَ كَقَوْلِكَ مَرَرْتُ بظَرِيفٍ رجلٍ، وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي مِنْ أَن سايَةَ وادٍ عظِيمٌ فِيهِ أَكثر مِنْ سَبْعِينَ عَيْنًا نَهْرًا تَجْرِي، إِنما النَّهْرُ بَدَلٌ مِنَ الْعَيْنِ.
وأَنْهَرَ الطَّعْنَةَ: وسَّعها؛ قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ يَصِفُ طَعْنَةً:
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَها، ***يَرى قائمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وراءَها
مَلَكْتُ أَي شَدَدْتُ وَقَوَّيْتُ.
وَيُقَالُ: طَعَنَهُ طَعْنَةً أَنْهَرَ فَتْقَها أَي وسَّعه؛ وأَنشد أَبو عُبَيْدٍ قَوْلَ أَبي ذُؤَيْبٍ.
وأَنْهَرْتُ الدمَ أَي أَسلته.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنْهِرُوا الدمَ بِمَا شِئْتُمْ إِلا الظُّفُرَ والسِّنَّ».
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: مَا أَنْهَرَ الدمَ فَكُلْ "؛ الإِنهار الإِسالة وَالصَّبُّ بِكَثْرَةٍ، شَبَّهَ خُرُوجَ الدَّمِ مِنْ مَوْضِعِ الذَّبْحِ بِجَرْيِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ، وإِنما نَهَى عَنِ السِّنِّ وَالظُّفْرِ لأَن مَنْ تَعَرَّضَ لِلذَّبْحِ بِهِمَا خَنَقَ المذبوحَ وَلَمْ يَقْطَعْ حَلْقَه.
والمَنْهَرُ: خَرْقٌ فِي الحِصْنِ نافذٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءِ، وَهُوَ مَفْعَلٌ مِنَ النَّهر، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ.
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ: «أَنه قُتِلَ وَطُرِحَ فِي مَنْهَرٍ مِنْ مَنَاهِيرِ خَيْبَرَ».
وأَما قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ}، فَقَدْ يَجُوزُ أَن يَعْنِيَ بِهِ السَّعَةَ والضِّياءَ وأَن يَعْنِيَ بِهِ النَّهْرَ الَّذِي هُوَ مَجْرَى الْمَاءِ عَلَى وَضْعِ الْوَاحِدِ مَوْضِعَ الْجَمِيعِ؛ قَالَ:
لَا تُنْكِرُوا القَتْلَ، وَقَدْ سُبِينا، ***فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شُجِينا
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ "؛ أَي فِي ضِيَاءٍ وَسَعَةٍ لأَن الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا لَيْلٌ إِنما هُوَ نُورٌ يتلألأُ، وَقِيلَ: نَهَرٌ أَي أَنهار.
وَقَالَ أَحمد بْنُ يَحْيَى: نَهَرٌ جَمْعُ نُهُرٍ، وَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ للنَّهار.
وَيُقَالُ: هُوَ وَاحِدُ نَهْرٍ كَمَايُقَالُ شَعَرٌ وشَعْرٌ، وَنَصْبُ الْهَاءِ أَفصح.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِي جَنَّاتٍ ونَهَرٍ، مَعْنَاهُ أَنهار.
كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، أَي الأَدْبارَ، وَقَالَ أَبو إِسحاق نَحْوَهُ وَقَالَ: الِاسْمُ الْوَاحِدُ يَدُلُّ عَلَى الْجَمِيعِ فيجتزأُ بِهِ عَنِ الْجَمِيعِ وَيُعَبَّرُ بِالْوَاحِدِ عَنِ الْجَمْعِ، كَمَا قَالَ تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
وَمَاءٌ نَهِرٌ: كَثِيرٌ.
وَنَاقَةٌ نَهِرَة: كَثِيرَةُ النَّهر؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:
حَنْدَلِسٌ غَلْباءُ مِصْباح البُكَرْ، ***نَهِيرَةُ الأَخْلافِ فِي غيرِ فَخَرْ
حَنْدَلِسٌ: ضَخْمَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَالْفَخْرُ: أَن يَعْظُمَ الضَّرْعُ فَيَقِلُّ اللَّبَنُ.
وأَنْهَرَ العِرْقُ: لَمْ يَرْقَأْ دَمُه.
وأَنْهَرَ الدمَ: أَظهره وأَساله.
وأَنْهَرَ دَمَه أَي أَسال دَمَهُ.
وَيُقَالُ: أَنْهَرَ بطنُه إِذا جَاءَ بطنُه مثلَ مَجِيءِ النَّهَرِ.
وَقَالَ أَبو الجَرَّاحِ: أَنْهَرَ بطنُه واسْتَطْلَقَتْ عُقَدُه.
وَيُقَالُ: أَنْهَرْتُ دَمَه وأَمَرْتُ دَمَه وهَرَقْتُ دَمَه.
والمَنْهَرَةُ: فَضَاءٌ يَكُونُ بَيْنَ بُيُوتِ الْقَوْمِ وأَفْنيتهم يَطْرَحُونَ فِيهِ كُناساتِهم.
وحَفَرُوا بِئْرًا فأَنْهَرُوا: لَمْ يُصِيبُوا خَيْرًا؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
والنَّهار: ضِياءُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلى غُرُوبِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّهَارُ انْتِشَارُ ضَوْءِ الْبَصَرِ وَاجْتِمَاعِهِ، وَالْجَمْعُ أَنْهُرٌ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، ونُهُرٌ عَنْ غَيْرِهِ.
الْجَوْهَرِيُّ: النَّهَارُ ضِدَّ اللَّيْلِ، وَلَا يُجْمَعُ كَمَا لَا يُجْمَعُ الْعَذَابُ والسَّرابُ، فإِن جَمَعْتَ قُلْتَ فِي قَلِيلِهِ: أَنْهُر، وَفِي الْكَثِيرِ: نُهُرٌ، مِثْلُ سَحَابٍ وسُحُب.
وأَنْهَرْنا: مِنَ النَّهَارِ؛ وأَنشد ابْنُ سِيدَهْ:
لَوْلَا الثَّرِيدَانِ لَمُتْنا بالضُّمُرْ: ***ثَرِيدُ لَيْلٍ وثَرِيدٌ بالنُّهُرْ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَلَا يُجْمَعُ، وَقَالَ فِي أَثناء التَّرْجَمَةِ: النُّهُر جَمْعُ نَهار هَاهُنَا.
وَرَوَى الأَزهري عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ قَالَ: النَّهَارُ اسْمٌ وَهُوَ ضِدُّ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارُ اسْمٌ لِكُلِّ يَوْمٍ، وَاللَّيْلُ اسْمٌ لِكُلِّ لَيْلَةٍ، لَا يُقَالُ نَهَارٌ وَنَهَارَانِ وَلَا لَيْلٌ وَلَيْلَانِ، إِنما وَاحِدُ النَّهَارِ يَوْمٌ، وَتَثْنِيَتُهُ يَوْمَانِ، وَضِدُّ الْيَوْمِ لَيْلَةٌ، ثُمَّ جَمَعُوهُ نُهُرًا؛ وأَنشد: " ثَرِيدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بالنُّهُر "وَرَجُلٌ نَهِرٌ: صَاحِبُ نَهَارٍ عَلَى النَّسَبِ، كَمَا قَالُوا عَمِلٌ وطَعِمٌ وسَتِهٌ؛ قَالَ: " لَسْتُ بلَيْلِيٍّ وَلَكِنِّي نَهِرْ "قَالَ سِيبَوَيْهِ: قَوْلُهُ بليليٍّ يَدُلُّ أَن نَهِرًا عَلَى النَّسَبِ حَتَّى كأَنه قَالَ نَهاريٌّ.
وَرَجُلٌ نَهِرٌ أَي صاحب نَهارٍ يُغِيرُ فِيهِ؛ قَالَ الأَزهري وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ تُنْشِدُ:
إِن تَكُ لَيْلِيًّا فإِني نَهِرُ، ***مَتَى أَتى الصُّبْحُ فَلَا أَنْتَظِرُ
قَالَ: وَمَعْنَى نَهِر أَي صَاحِبُ نَهَارٍ لَسْتُ بِصَاحِبِ لَيْلٍ؛ وَهَذَا الرَّجَزُ أَورده الْجَوْهَرِيُّ: " إِن كنتَ لَيْلِيًّا فإِني نَهِرُ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الْبَيْتُ مُغَيَّرٌ، قَالَ: وَصَوَابُهُ عَلَى مَا أَنشده سِيبَوَيْهِ:
لستُ بلَيْلِيٍّ وَلَكِنِّي نَهِرْ، ***لَا أُدْلِجُ الليلَ، وَلَكِنْ أَبْتَكِرْ
وَجَعَلَ نَهِر فِي مُقَابَلَةِ لَيْلِيٍّ كأَنه قَالَ: لَسْتُ بِلَيْلِيٍّ وَلَكِنِّي نَهَارِيٌّ.
وَقَالُوا: نهارٌ أَنْهَرُ كَلَيْلٍ أَلْيَل ونَهارٌ نَهِرٌ كَذَلِكَ؛ كِلَاهُمَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ.
واسْتَنْهَرَ الشيءُ أَي اتَّسَعَ.
والنَّهار: فَرْخُ القَطا والغَطاط، وَالْجَمْعُ أَنْهِرَةٌ، وَقِيلَ: النَّهار ذكرالبُوم، وَقِيلَ: هُوَ وَلَدُ الكَرَوانِ، وَقِيلَ: هُوَ ذَكَرُ الحُبَارَى، والأُنثى لَيْلٌ.
الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّهَارُ فَرْخُ الْحُبَارَى؛ ذَكَرَهُ الأَصمعي فِي كِتَابِ الْفَرْقِ.
وَاللَّيْلُ: فَرْخُ الْكَرَوَانِ؛ حَكَاهُ ابْنُ بَرِّيٍّ عَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ؛ قَالَ: وَحَكَى التَّوْزِيُّ عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ أَن جَعْفَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ قَدِمَ مِنْ عِنْدِ الْمَهْدِيِّ فَبَعَثَ إِلى يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ فَقَالَ إِني وأَمير المؤْمنين اخْتَلَفْنَا فِي بَيْتِ الْفَرَزْدَقِ وَهُوَ:
والشَّيْبُ يَنْهَضُ فِي السَّوادِ كأَنه ***ليلٌ، يَصِيح بجانِبيهِ نَهارُ
مَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ؟ فَقَالَ لَهُ: اللَّيْلُ هُوَ اللَّيْلُ الْمَعْرُوفُ، وَكَذَلِكَ النَّهَارُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: زَعَمَ الْمَهْدِيُّ أَنَّ اللَّيْلَ فَرْخُ الكَرَوان وَالنَّهَارُ فرخُ الحُبارَى، قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: الْقَوْلُ عِنْدِي مَا قَالَ يُونُسُ، وأَما الَّذِي ذَكَرَهُ الْمَهْدِيُّ فَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْغَرِيبِ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعِهِ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَدْ ذَكَرَ أَهل الْمَعَانِي أَن الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالَهُ يُونُسُ، وإِن كَانَ لَمْ يُفَسِّرْهُ تَفْسِيرًا شَافِيًا، وإِنه لَمَّا قَالَ: لَيْلٌ يَصِيحُ بِجَانِبَيْهِ نَهَارُ، فَاسْتَعَارَ لِلنَّهَارِ الصِّيَاحَ لأَن النَّهَارَ لَمَّا كَانَ آخِذًا فِي الإِقبال والإِقدام وَاللَّيْلَ آخَذُ فِي الإِدبار، صَارَ النَّهَارُ كأَنه هَازِمٌ، وَاللَّيْلُ مَهْزُومٌ، وَمِنْ عَادَةِ الْهَازِمِ أَنه يَصِيحُ عَلَى الْمَهْزُومِ؛ أَلا تَرَى إِلى قَوْلِ الشَّمَّاخ:
ولاقَتْ بأَرْجاءِ البَسِيطَةِ سَاطِعًا ***مِنَ الصُّبح، لمَّا صَاحَ بِاللَّيْلِ نَفَّرَا
فَقَالَ: صَاحَ بِاللَّيْلِ حَتَّى نَفَر وَانْهَزَمَ؛ قَالَ: وَقَدِ اسْتَعْمَلَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ هَانِئٍ فِي قَوْلِهِ:
خَلِيلَيَّ، هُبَّا فانْصُراها عَلَى الدُّجَى ***كتائبَ، حَتَّى يَهْزِمَ الليلَ هازِمُ
وَحَتَّى تَرَى الجَوْزاءَ تَنثُر عِقْدَها، ***وتَسْقُطَ مِنْ كَفِّ الثُّريَّا الخَواتمُ
والنَّهْر: مِنَ الِانْتِهَارِ.
ونَهَرَ الرجلَ يَنْهَرُه نَهْرًا وانْتَهَرَه: زَجَرَه.
وَفِي التَّهْذِيبِ: نَهَرْتَه وانْتَهرْتُه إِذا اسْتَقْبَلْتَهُ بِكَلَامٍ تَزْجُرُهُ عَنْ خَبَرٍ.
قَالَ: والنَّهْرُ الدَّغْر وَهِيَ الخُلْسَةُ.
ونَهار: اسْمُ رَجُلٍ.
وَنَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ: اسْمُ شَاعِرٍ مِنْ تَمِيمٍ.
والنَّهْرَوانُ: مَوْضِعٌ، وَفِي الصِّحَاحِ: نَهْرَوانُ، بِفَتْحِ النُّونِ وَالرَّاءِ، بَلْدَةٌ، والله أَعلم.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
147-لسان العرب (عزز)
عزز: العَزِيزُ: مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وأَسمائه الْحُسْنَى؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الْمُمْتَنِعُ فَلَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْقَوِيُّ الْغَالِبُ كُلِّ شَيْءٍ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.وَمِنْ أَسمائه عَزَّ وَجَلَّ المُعِزُّ، وَهُوَ الَّذِي يَهَبُ العِزَّ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
والعِزُّ: خِلَافَ الذُّلِّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالَ لِعَائِشَةَ: هَلْ تَدْرِينَ لِمَ كَانَ قومُك رَفَعُوا بَابَ الْكَعْبَةِ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: تَعَزُّزًا أَن لَا يُدْخِلَهَا إِلا مَنْ أَرادوا»أَي تَكَبُّرًا وتشدُّدًا عَلَى النَّاسِ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ: تَعَزُّرًا، بَرَاءٍ بَعْدَ زايٍ، مِنَ التَّعْزير وَالتَّوْقِيرِ، فإِما أَن يُرِيدَ تَوْقِيرَ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمَهُ أَو تعظيمَ أَنفسهم وتَكَبُّرَهم عَلَى النَّاسِ.
والعِزُّ فِي الأَصل: الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ وَالْغَلَبَةُ.
والعِزُّ والعِزَّة: الرِّفْعَةُ وَالِامْتِنَاعُ، والعِزَّة لِلَّهِ؛ وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أَي لَهُ العِزَّة وَالْغَلَبَةُ سُبْحَانَهُ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}؛ أَي مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَ اللَّهِ فإِنما لَهُ العِزَّة فِي الدُّنْيَا وَلِلَّهِ العِزَّة جَمِيعًا أَي يَجْمَعُهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بأَن يَنْصُر فِي الدُّنْيَا وَيَغْلِبَ؛ وعَزَّ يَعِزّ، بِالْكَسْرِ، عِزًّا وعِزَّةً وعَزازَة، وَرَجُلٌ عَزيزٌ مِنْ قَوْمٍ أَعِزَّة وأَعِزَّاء وعِزازٍ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ}؛ أَي جانبُهم غليظٌ عَلَى الْكَافِرِينَ لَيِّنٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
بِيض الوُجُوهِ كَرِيمَة أَحْسابُهُمْ ***فِي كلِّ نائِبَةٍ عِزاز الآنُفِ
وَرُوِيَ: بِيض الوُجُوه أَلِبَّة ومَعاقِل "وَلَا يُقَالُ: عُزَزَاء كَرَاهِيَةَ التَّضْعِيفِ وَامْتِنَاعُ هَذَا مُطَّرِدٌ فِي هَذَا النَّحْوِ الْمُضَاعَفِ.
قَالَ الأَزهري: يَتَذَلَّلُون لِلْمُؤْمِنِينَ وإِن كَانُوا أَعِزَّةً ويَتَعَزَّزُون عَلَى الْكَافِرِينَ وإِن كَانُوا فِي شَرَف الأَحْساب دُونَهُمْ.
وأَعَزَّ الرجلَ: جَعَلَهُ عَزِيزًا.
ومَلِكٌ أَعَزُّ: عَزِيزٌ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
إِن الَّذِي سَمَكَ السَّماءَ بَنى لَنَا ***بَيْتًا دَعائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ
أَي عَزِيزَةٌ طَوِيلَةٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، وإِنما وَجَّهَ ابنُ سِيدَهْ هَذَا عَلَى غَيْرِ المُفاضلة لأَن اللَّامَ ومِنْ مُتَعَاقِبَتَانِ، وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ اللَّهُ أَكْبَرُ بحجَّة لأَنه مَسْمُوعٌ، وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ، عَلَى أَن هَذَا قَدْ وُجِّهَ عَلَى كَبِيرٍ أَيضًا.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ}، وَقَدْ قُرِئَ: ليخْرُجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَ "أَي ليَخْرُجَنَّ العزيزُ مِنْهَا ذَلِيلًا، فأَدخل اللَّامَ والأَلف عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ لأَن الْحَالَ وَمَا وُضِعَ مَوْضِعَهَا مِنَ الْمَصَادِرِ لَا يَكُونُ مَعْرِفَةً؛ وَقَوْلُ أَبي كَبِيرٍ:
حَتَّى انتهيْتُ إِلى فِراشِ عَزِيزَة ***شَعْواءَ، رَوْثَةُ أَنْفِها كالمِخْصَفِ
عَنَى عُقَابًا، وَجَعَلَهَا عَزِيزَةً لِامْتِنَاعِهَا وسُكْناها أَعالي الْجِبَالِ.
وَرَجُلٌ عزِيزٌ: مَنِيع لَا يُغْلب وَلَا يُقْهر.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}؛ مَعْنَاهُ ذُقْ بِمَا كُنْتَ تعَدُّ فِي أَهل العِزّ وَالْكَرَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَقِيضِهِ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؛ وَمِنَ الأَوّل قَوْلُ الأَعشى:
عَلَى أَنها، إِذْ رَأَتْني أُقادُ ***قالتْ بِمَا قَدْ أَراهُ بَصِيرا
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نَزَلَتْ فِي أَبي جَهْلٍ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنا أَعَزُّ أَهلِ الْوَادِي وأَمنعُهم، فَقَالَ اللَّهُ تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}، مَعْنَاهُ ذُقْ هَذَا الْعَذَابَ إِنك أَنت الْقَائِلُ أَنا العَزِيزُ الْكَرِيمُ.
أَبو زَيْدٍ: عَزَّ الرجلُ يَعِزُّ عِزًّا وعِزَّةً إِذا قَوِيَ بَعْدَ ذِلَّة وَصَارَ عَزِيزًا.
وأَعَزَّه اللهُ وعَزَزْتُ عَلَيْهِ: كَرُمْت عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}؛ أَي أَن الْكُتُبَ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ لَا تُبْطِلُهُ وَلَا يأْتي بَعْدَهُ كِتَابٌ يُبْطِلُهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَحْفُوظٌ مِنْ أَن يُنْقَصَ مَا فِيهِ فيأْتيه الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، أَو يُزاد فِيهِ فيأْتيه الْبَاطِلُ مِنْ خَلْفِهِ، وكِلا الْوَجْهَيْنِ حَسَنٌ، أَي حُفِظَ وعَزَّ مِنْ أَن يَلْحَقَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا.
ومَلِكٌ أَعَزّ وعَزِيزٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وعِزٌّ عَزِيزٌ: إِما أَن يَكُونَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وإِما أَن يَكُونَ بِمَعْنَى مُعِزّ؛ قَالَ طَرَفَةُ:
وَلَوْ حَضَرتْهُ تَغْلِبُ ابْنَةُ وائلٍ ***لَكانُوا لَهُ عِزًّا عَزيزًا وناصِرا
وتَعَزَّزَ الرجلُ: صَارَ عَزِيزًا.
وَهُوَ يَعْتَزُّ بِفُلَانٍ واعْتَزَّ بِهِ.
وتَعَزَّزَ: تشرَّف.
وعَزَّ عَليَّ يَعِزُّ عِزًّا وعِزَّةً وعَزازَةً: كَرُمَ، وأَعْزَزتُه: أَكرمته وأَحببته، وَقَدْ ضَعَّفَ شمرٌ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلَى أَبي زَيْدٍ وعَزَّ عَلَيَّ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وعَزَّ عَلَيَّ ذَلِكَ أَي حَقَّ واشتدَّ.
وأُعْزِزْتُ بِمَا أَصابك: عَظُم عليَّ.
وأَعْزِزْ عليَّ بِذَلِكَ أَي أَعْظِمْ وَمَعْنَاهُ عَظُمَ عليَّ.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ الله عَنْهُ، لَمَّا رأَى طَلْحَةَ قَتِيلًا قَالَ: «أَعْزِزْ عليَّ أَبا مُحَمَّدٍ أَن أَراك مُجَدَّلًا تَحْتَ نُجُومِ السَّمَاءِ»؛ يُقَالُ: عَزَّ عليَّ يَعِزُّ أَن أَراك بِحَالٍ سَيِّئَةٍ؛ أي يشتدُّ وَيَشُقُّ عليَّ.
وكلمةٌ شَنْعَاءُ لأَهل الشِّحْر يَقُولُونَ: بِعِزِّي لَقَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا وبِعِزِّكَ، كَقَوْلِكَ لَعَمْري ولَعَمْرُكَ.
والعِزَّةُ: الشدَّة والقوَّة.
يُقَالُ: عَزَّ يَعَزُّ، بِالْفَتْحِ، إِذا اشتدَّ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنْهُ: «اخْشَوْشِنُوا وتَمَعْزَزُوا» أَي تشدَّدوا فِي الدِّينِ وتصلَّبوا، مِنِ العِزِّ القوَّةِ والشدةِ، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ، كَتَمَسْكَن مِنَ السُّكُونِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ المَعَزِ وَهُوَ الشِّدَّةُ، وسيجيءُ في موضعه.
وعَزَزْتُ القومَ وأَعْزَزْتُهم وعَزَّزْتُهم: قَوَّيْتُهم وشَدَّدْتُهم.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ}؛ أَي قَوَّينا وشَدَّدنا، وَقَدْ قُرِئَتْ: " فَعَزَزْنا بِثَالِثٍ، بِالتَّخْفِيفِ، كَقَوْلِكَ شَدَدْنا، وَيُقَالُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيضًا: رَجُلٌ عَزِيزٌ عَلَى لَفْظِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْجَمْعُ كَالْجَمْعِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ}؛ أَي أَشِداء عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ مِنْ عِزَّةِ النَّفْس.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ: إِذا عَزَّ أَخوكَ فَهُنْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُهُ، وَهُوَ مَثَلٌ مَعْنَاهُ إِذا تَعَظَّم أَخوكَ شامِخًا عَلَيْكَ فالْتَزِمْ لَهُ الهَوانَ.
قَالَ الأَزهري: الْمَعْنَى إِذا غَلَبَكَ وَقَهَرَكَ وَلَمْ تقاوِمْه فَتَوَاضَعْ لَهُ، فإِنَّ اضْطِرابَكَ عَلَيْهِ يَزِيدُكَ ذُلًا وخَبالًا.
قَالَ أَبو إِسحاق: الَّذِي قَالَهُ ثَعْلَبٌ خطأٌ وإِنما الْكَلَامُ إِذا عزَّ أَخوك فَهِنْ، بِكَسْرِ الْهَاءِ، مَعْنَاهُ إِذا اشْتَدَّ عَلَيْكَ فَهِنْ لَهُ ودارِه، وَهَذَا مِنْ مَكَارِمِ الأَخلاق كَمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنه قَالَ: لَوْ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ شَعْرَةً يمدُّونها وأَمُدُّها مَا انْقَطَعَتْ، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: كُنْتُ إِذا أَرْخَوْها مَدَدْتُ وإِذا مدُّوها أَرْخَيْت، فَالصَّحِيحُ فِي هَذَا الْمَثَلِ فَهِنْ، بِالْكَسْرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ هَانَ يَهِينُ إِذا صَارَ هَيِّنًا لَيِّنًا كَقَوْلِهِ:
هَيْنُونَ لَيْنُونَ أَيْسارٌ ذَوُو كَرَمٍ ***سُوَّاسُ مَكْرُمَةٍ أَبناءُ أَطْهارِ
وَيُرْوَى: أَيسار.
وإِذا قَالَ هُنْ، بِضَمِّ الْهَاءِ، كَمَا قَالَهُ ثَعْلَبٌ فَهُوَ مِنَ الهَوانِ، وَالْعَرَبُ لَا تأْمر بِذَلِكَ لأَنهم أَعزَّة أَبَّاؤُونَ للضَّيْم؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَن الَّذِي قَالَهُ ثَعْلَبٌ صَحِيحٌ لِقَوْلِ ابْنِ أَحمر:
وقارعةٍ مِنَ الأَيامِ لَوْلَا ***سَبِيلُهُمُ، لزَاحَتْ عَنْكَ حِينا
دَبَبْتُ لَهَا الضَّرَاءَ وقلتُ: أَبْقَى ***إِذا عَزَّ ابنُ عَمِّكَ أَن تَهُونا
قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالُوا عَزَّ مَا أَنَّك ذاهبٌ، كَقَوْلِكَ: حَقًّا أَنك ذَاهِبٌ.
وعَزَّ الشيءُ يَعِزُّ عِزًّا وعِزَّةً وعَزازَةً وَهُوَ عَزِيز: قَلَّ حَتَّى كَادَ لَا يُوجَدُ، وَهَذَا جَامِعٌ لِكُلِّ شَيْءٍ.
والعَزَزُ والعَزازُ: الْمَكَانُ الصُّلْب السَّرِيعُ السَّيْلِ.
وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: العَزازُ مَا غَلُظَ مِنَ الأَرض وأَسْرَعَ سَيْلُ مَطَرِهِ يَكُونُ مِنَ القِيعانِ والصَّحاصِحِ وأَسْنادِ الْجِبَالِ والإِكامِ وظُهور القِفاف؛ قَالَ الْعَجَّاجُ:
مِنَ الصَّفا العاسِي ويَدْعَسْنَ الغَدَرْ ***عَزَازَهُ، ويَهْتَمِرْنَ مَا انْهَمَرْ
وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: فِي مَسَايِلِ الْوَادِي أَبعدُها سَيْلًا الرَّحَبَة ثُمَّ الشُّعْبَةُ ثُمَّ التَّلْعَةُ ثُمَّ المِذْنَبُ ثُمَّ العَزَازَةُ.
وَفِي كِتَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوَفْدِ هَمْدانَ: عَلَى أَن لَهُمْ عَزَازَها "؛ العَزَازَ: مَا صَلُبَ مِنَ الأَرض وَاشْتَدَّ وخَشُنَ، وإِنما يَكُونُ فِي أَطرافها؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" الزُّهْرِيِّ: قَالَ كنتُ أَخْتَلِفُ إِلى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَة فَكُنْتُ أَخدُمُه، وذكَر جُهْدَه فِي الخِدمة فَقَدَّرْتُ أَني اسْتَنْظَفْتُ مَا عِنْدَهُ وَاسْتَغْنَيْتُ عَنْهُ، فَخَرَجَ يَوْمًا فَلَمْ أَقُمْ لَهُ وَلَمْ أُظْهِرْ مِنْ تَكْرِمَته مَا كنتُ أُظهره مِنْ قبلُ فَنَظَرَ إِليَّ وَقَالَ: إِنك بعدُ فِي العَزَازِ فَقُمْ أَي أَنت فِي الأَطراف مِنَ الْعِلْمِ لَمْ تَتَوَسَّطْهُ بعدُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي العَزازِ لِئَلَّا يَتَرَشَّشَ عليه».
وَفِي حَدِيثُ الْحَجَّاجِ فِي صِفَةِ الْغَيْثِ: وأَسالت العَزازَ "؛ وأَرض عَزازٌ وعَزَّاءُ وعَزَازَةٌ ومَعْزوزةٌ: كَذَلِكَ؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:
عَزَازَة كلِّ سائِلِ نَفْعِ سَوْءٍ ***لكلِّ عَزَازَةٍ سالتْ قَرارُ
وأَنشده ثَعْلَبٌ:
قَرارة كُلِّ سائلِ نَفْعِ سَوْءٍ ***لكلِّ قَرارَةٍ سالتْ قَرارُ
قَالَ: وَهُوَ أَجود.
وأَعْزَزْنا: وَقَعْنَا فِي أَرضٍ عَزَازٍ وَسِرْنَا فِيهَا، كَمَا يُقَالُ: أَسْهَلْنا وَقَعْنَا فِي أَرض سهلةٍ.
وعَزَّزَ المطرُ الأَرضَ: لَبَّدَها.
وَيُقَالُ للوابلِ إِذا ضَرَبَ الأَرض السَّهْلَةَ فَشَدَّدَها حَتَّى لَا تَسُوخَ فِيهَا الرِّجْلُ: قَدْ عَزَّزَها وعَزَّزَ مِنْهَا؛ وَقَالَ:
عَزَّزَ مِنْهُ، وَهُوَ مُعْطِي الإِسْهالْ ***ضَرْبُ السَّوارِي مَتْنَه بالتَّهْتالْ
وتَعَزَّز لحمُ النَّاقَةِ: اشتدَّ وصَلُبَ.
وتَعَزَّزَ الشيءُ: اشْتَدَّ؛ قَالَ المُتَلَمِّسُ:
أُجُدٌ إِذا ضَمَرَتْ تَعَزَّزَ لَحْمُها ***وإِذا تُشَدُّ بِنِسْعِها لَا تنْبِسُ
لَا تَنْبِسُ أَي لَا تَرْغُو.
وفرسٌ مُعْتَزَّة: غَلِيظَةُ اللَّحْمِ شَدِيدَتُهُ.
وَقَوْلُهُمْ تَعَزَّيْتُ عَنْهُ أَي تَصَبَّرْتُ أَصلها تَعَزَّزْت أَي تَشَدَّدْتُ مِثْلُ تَظَنَّيْت مِنْ تَظَنَّنْتُ، وَلَهَا نَظَائِرُ تُذْكَرُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَالِاسْمُ مِنْهُ العَزاءُ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَتَعَزَّ بِعَزاءِ اللهِ فَلَيْسَ منَّا "؛ فَسَّرَهُ ثَعْلَبٌ فَقَالَ: مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَرُدَّ أَمْرَه إِلى اللَّهِ فَلَيْسَ مِنَّا.
والعَزَّاءُ: السَّنَةُ الشَّدِيدَةُ؛ قَالَ: " ويَعْبِطُ الكُومَ فِي العَزَّاءِ إِنْ طُرِقا "وَقِيلَ: هِيَ الشِّدَّةُ.
وَشَاةٌ عَزُوزٌ: ضيِّقة الأَحاليل، وَكَذَلِكَ النَّاقَةُ، وَالْجَمْعُ عُزُزٌ، وَقَدْ عَزَّتْ تَعُزُّ عُزُوزًا وعِزازًا وعَزُزَتْ عُزُزًا، بِضَمَّتَيْنِ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، وتَعَزَّزَتْ، وَالِاسْمُ العَزَزُ والعَزَازُ.
وَفُلَانٌ عَنْزٌ عَزُوزٌ: لَهَا دَرُّ جَمٌّ، وَذَلِكَ إِذا كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ شَحِيحًا.
وَشَاةٌ عَزُوز: ضَيِّقَةُ الأَحاليل لَا تَدِرُّ حَتَّى تُحْلَبَ بجُهْدٍ.
وَقَدْ أَعَزَّت إِذا كَانَتْ عَزُوزًا، وَقِيلَ: عَزُزَتِ النَّاقَةُ إِذا ضَاقَ إِحليلها وَلَهَا لَبَنٌ كَثِيرٌ.
قَالَ الأَزهري: أَظهر التَّضْعِيفَ فِي عَزُزَتْ، وَمِثْلُهُ قَلِيلٌ.
وَفِي حَدِيثِ مُوسَى وَشُعَيْبٍ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: «فجاءَت بِهِ قالِبَ لَوْنٍ لَيْسَ فِيهَا عَزُوزٌ وَلَا فَشُوشٌ»؛ العزُوزُ: الشَّاةُ البَكِيئَةُ الْقَلِيلَةُ اللَّبَنِ الضَّيِّقَةُ الإِحليل؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ: لَوْ أَن رَجُلًا أَخذ شَاةً عَزُوزًا فَحَلَبَهَا مَا فَرَغَ مِنْ حَلْبِها حَتَّى أُصَلِّيَ الصلواتِ الخمسَ "؛ يُرِيدُ التَّجَوُّزَ فِي الصَّلَاةِ وتخفيفَها؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" أَبي ذرٍّ: هَلْ يَثْبُتُ لَكُمُ العدوُّ حَلْبَ شاةٍ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ وأَرْبَعٍ عُزُزٍ "؛ هُوَ جَمْعُ عَزُوزٍ كصَبُور وصُبُرٍ.
وعَزَّ الماءُ يَعِزُّ وعَزَّتِ القَرْحَةُ تَعِزُّ إِذا سَالَ مَا فِيهَا، وَكَذَلِكَ مَذَعَ وبَذَعَ وضَهَى وهَمَى وفَزَّ وفَضَّ إِذا سَالَ.
وأَعَزَّتِ الشَّاةُ: اسْتَبانَ حَمْلُها وعَظُمَ ضَرْعُها؛ يُقَالُ ذَلِكَ للمَعَز والضَّأْن، يُقَالُ: أَرْأَتْ ورَمَّدَتْ وأَعَزَّت وأَضْرَعَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وعازَّ الرجلُ إِبلَه وَغَنَمَهُ مُعازَّةً إِذا كَانَتْ مِراضًا لَا تَقْدِرُ أَن تَرْعَى فاحْتَشَّ لَهَا ولَقَّمَها، وَلَا تَكُونُ" المُعازَّةُ إِلا فِي الْمَالِ وَلَمْ نَسْمَعْ فِي مَصْدَرِهِ عِزازًا.
وعَزَّه يَعُزُّه عَزًّا: قَهَرَهُ وَغَلَبَهُ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ}؛ أَي غَلَبَنِي فِي الِاحْتِجَاجِ.
وقرأَ بَعْضُهُمْ: وعازَّني فِي الْخِطَابِ، أَي غَالَبَنِي؛ وأَنشد فِي صِفَةِ جَمَل:
يَعُزُّ عَلَى الطريقِ بمَنْكِبَيْهِ ***كَمَا ابْتَرَكَ الخَلِيعُ عَلَى القِداحِ
يَقُولُ: يَغْلِبُ هَذَا الجملُ الإِبلَ عَلَى لُزُومِ الطَّرِيقِ فشبَّه حِرْصَهُ عَلَى لُزُومِ الطَّرِيقِ وإِلحاحَه عَلَى السَّيْرِ بِحِرْصِ هَذَا الْخَلِيعِ عَلَى الضَّرْبِ بِالْقِدَاحِ لَعَلَّهُ يَسْتَرْجِعُ بَعْضَ مَا ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ، وَالْخَلِيعُ: الْمَخْلُوعُ المَقْمُور مالُه.
وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ، وَالِاسْمُ العِزَّة، وَهِيَ الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ؛ وَقَوْلُهُ: " عَزَّ عَلَى الرِّيحِ الشَّبُوبَ الأَعْفَرا "أَي غَلَبَهُ وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّيحِ فردَّ وُجُوهَهَا، وَيَعْنِي بالشَّبُوب الظَّبْيَ لَا الثَّوْرَ لأَن الأَعفر لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْبَقَرِ.
والعَزْعَزَةُ: الْغَلَبَةُ.
وعازَّني فَعَزَزْتُه أَي غَالَبَنِي فَغَلَبْتُهُ، وضمُّ الْعَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا مطَّرد وَلَيْسَ فِي كُلِّ شيءٍ، يُقَالُ: فَاعَلَنِي فَفَعَلْتُه.
والعِزُّ: الْمَطَرُ الغَزير، وَقِيلَ: مَطَرٌ عِزٌّ شَدِيدٌ كَثِيرٌ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ سَهْلٌ وَلَا جَبَلٌ إِلا أَساله.
وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: العِزُّ الْمَطَرُ الْكَثِيرُ.
أَرض مَعْزُوزَة: أَصابها عِزٌّ مِنَ الْمَطَرِ.
والعَزَّاءُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ الْوَابِلُ.
والعَزَّاءُ: الشِّدَّةُ.
والعُزَيْزاءُ مِنَ الْفَرَسِ: مَا بَيْنَ عُكْوَتِه وجاعِرَتِه، يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، وَهُمَا العُزَيْزاوانِ؛ والعُزَيْزاوانِ: عَصَبَتانِ فِي أُصول الصَّلَوَيْنِ فُصِلَتا مِنَ العَجْبِ وأَطرافِ الوَرِكَينِ؛ وَقَالَ أَبو مَالِكٍ: العُزَيْزاءُ عَصَبَة رَقِيقَةٌ مُرَكَّبَةٌ فِي الخَوْرانِ إِلى الْوِرْكِ؛ وأَنشد فِي صِفَةِ فَرَسٍ:
أُمِرَّتْ عُزَيْزاءُ ونِيطَتْ كُرومُه ***إِلى كَفَلٍ رَابٍ، وصُلْبٍ مُوَثَّقِ
والكَرْمَةُ: رأْس الْفَخْذِ الْمُسْتَدِيرُ كأَنه جَوْزَةٌ وموضعُها الَّذِي تَدُورُ فِيهِ مِنَ الْوِرْكِ القَلْتُ، قَالَ: وَمَنْ مَدَّ العُزَيْزَا مِنَ الْفَرَسِ قَالَ: عُزَيْزاوانِ، وَمَنْ قَصَرَ ثَنَّى عُزَيْزَيانِ، وَهُمَا طَرَفَا الوَرِكين.
وَفِي شَرْحِ أَسماء اللَّهِ الْحُسْنَى لابن بَرْجانَ: العَزُوز مِنْ أَسماء فَرْجِ المرأَة الْبِكْرِ.
والعُزَّى: شَجَرَةٌ كَانَتْ تُعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: أُراه تأْنيث الأَعَزِّ، والأَعَزُّ بِمَعْنَى العَزيزِ، والعُزَّى بِمَعْنَى العَزِيزَةِ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ يَجُوزُ فِي العُزَّى أَن تَكُونَ تأْنيث الأَعَزِّ بِمَنْزِلَةِ الفُضْلى مِنَ الأَفْضَل والكُبْرَى مِنَ الأَكْبَرِ، فإِذا كَانَ ذَلِكَ فَاللَّامُ فِي العُزَّى لَيْسَتْ زَائِدَةً بَلْ هِيَ عَلَى حَدِّ اللَّامِ فِي الحَرثِ والعَبَّاسِ، قَالَ: وَالْوَجْهُ أَن تَكُونَ زَائِدَةً لأَنا لَمْ نَسْمَعْ فِي الصِّفَاتِ العُزَّى كَمَا سَمِعْنَا فِيهَا الصُّغْرى والكُبْرَى.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}؛ جاءَ فِي التَّفْسِيرِ: أَن اللَّاتَ صَنَمٌ كَانَ لِثَقِيف، والعُزَّى صَنَمٌ كَانَ لِقُرَيْشٍ وَبَنِي كِنانَةَ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَمَا ودِماءٍ مائراتٍ تَخالُها ***عَلَى قُنَّةِ العُزَّى وبالنَّسْرِ، عَنْدَما
وَيُقَالُ: العُزَّى سَمُرَةٌ كَانَتْ لغَطَفان يَعْبُدُونَهَا وَكَانُوا بَنَوْا عَلَيْهَا بَيْتًا وأَقاموا لَهَا سَدَنَةً فَبَعَثَ إِليها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَهَدَمَ الْبَيْتَ وأَحرق السَّمُرَة وَهُوَ يَقُولُ:
يَا عُزَّ، كُفْرانَكِ لَا سُبْحانَكِ ***إِنِّي رأَيتُ اللَّهَ قَدْ أَهانَكِ
وَعَبْدُ العُزَّى: اسْمُ أَبي لَهَبٍ، وإِنما كَنَّاه اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، وَلَمْ يُسَمِّه لأَن اسْمَهُ مُحالٌ.
وأَعَزَّت البقرةُ إِذا عَسُرَ حَمْلُها.
واسْتَعَزَّ الرَّمْلُ: تَماسَكَ فَلَمْ يَنْهَلْ.
واسْتَعَزَّ اللَّهُ بِفُلَانٍ واسْتَعَزَّ فُلَانٌ بحقِّي أَي غَلَبَني.
واسْتُعِزَّ بِفُلَانٍ أَي غُلِبَ فِي كُلِّ شيءٍ مِنَ عاهةٍ أَو مَرَضٍ أَو غَيْرِهِ.
وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: اسْتُعِزَّ بِالْعَلِيلِ إِذا اشتدَّ وجعُه وغُلِب عَلَى عَقْلِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى كُلْثوم بْنِ الهَدْمِ وَهُوَ شاكٍ ثُمَّ اسْتُعِزَّ بكُلْثُومٍ فانتقل إِلى سعد بن خَيْثَمة».
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه اسْتُعِزَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ»أَي اشْتَدَّ بِهِ المرضُ وأَشرف عَلَى الْمَوْتِ؛ يُقَالُ: عَزَّ يَعَزُّ، بِالْفَتْحِ، إِذا اشتدَّ، واسْتُعِزَّ عَلَيْهِ إِذا اشْتَدَّ عَلَيْهِ وَغَلَبَهُ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَن قَوْمًا مُحْرِمِينَ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَقَالُوا: عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا جزاءٌ، فسأَلوا بعضَ الصَّحَابَةِ عَمَّا يجبُ عَلَيْهِمْ فأَمر لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بكفَّارة، ثُمَّ سأَلوا ابنَ عُمَرَ وأَخبروه بفُتْيا الَّذِي أَفتاهم فَقَالَ: إِنكم لَمُعَزَّزٌ بِكُمْ، عَلَى جَمِيعِكُمْ شاةٌ، وَفِي لفظٍ آخَرَ: عَلَيْكُمْ جزاءٌ واحدٌ»، قَوْلُهُ لَمُعَزَّزٌ بِكُمْ؛ أي مُشَدَّدٍ بِكُمْ ومُثَقَّل عَلَيْكُمُ الأَمرُ: وفلانٌ مِعْزازُ الْمَرَضِ؛ أي شَدِيدُهُ.
وَيُقَالُ لَهُ إِذا مَاتَ أَيضًا: قَدِ اسْتُعِزَّ بِهِ.
والعَزَّة، بِالْفَتْحِ: بِنْتُ الظَّبْية؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
هانَ عَلَى عَزّةَ بنتِ الشَّحَّاجْ ***مَهْوَى جِمالِ مالِك فِي الإِدْلاجْ
وَبِهَا سُمِّيَتِ المرأَة عَزَّة.
وَيُقَالُ للعَنْز إِذا زُجِرت: عَزْعَزْ، وَقَدْ عَزْعَزْتُ بِهَا فَلَمَّ تَعَزْعَزْ أَي لَمْ تَتَنَحَّ، والله أَعلم.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
148-لسان العرب (عدس)
عدس: العَدْسُ، بِسُكُونِ الدَّالِ: شِدَّةُ الْوَطْءِ عَلَى الأَرض والكَدْح أَيضًا.وعَدَس الرجلُ يَعْدِسُ عَدْسًا وعَدَسانًا وعُدُوسًا وعَدَسَ وحَدَسَ يَحْدِسُ: ذَهَبَ فِي الأَرض؛ يُقَالُ: عَدَسَتْ بِهِ المَنِيَّةُ؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:
أُكَلِّفُها هَوْلَ الظلامِ، وَلَمْ أَزَلْ ***أَخا اللَّيلِ مَعْدُوسًا إِليَّ وعادِسا
أَي يَسَارٌ إِليَّ بِاللَّيْلِ.
وَرَجُلٌ عَدُوسُ اللَّيْلِ: قَوِيٌّ عَلَى السُّرَى، وَكَذَلِكَ الأُنثى بِغَيْرِ هَاءٍ، يَكُونُ فِي النَّاسِ والإِبل؛ وَقَوْلُ جَرِيرٌ:
لقَدْ وَلدَتْ غَسَّانَ ثالِثَةُ الشَّوى، ***عَدُوسُ السُّرى، لَا يَقْبَلُ الكَرْمَ جِيدُها
يَعْنِي بِهِ ضَبُعًا.
وَثَالِثَةُ الشَّوَى: يَعْنِي أَنها عَرْجَاءُ فكأَنها عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ، كأَنه قَالَ: مَثْلُوثَة الشَّوَى، وَمَنْ رَوَاهُ ثالِبَة الشَّوَى أَراد أَنها تأْكل شَوَى القَتْلى مِنَ الثَّلْبِ، وَهُوَ الْعَيْبُ، وَهُوَ أَيضًا فِي مَعْنَى مَثْلُوبَةٍ.
والعَدَسُ: مِنَ الحُبوب، وَاحِدَتُهُ عَدَسَة، وَيُقَالُ لَهُ العَلَسُ والعَدَسُ والبُلُسُ.
والعَدَسَةُ: بَثْرَةٌ قَاتِلَةٌ تَخْرُجُ كَالطَّاعُونِ وَقَلَّمَا يُسْلَمُ مِنْهَا، وَقَدْ عُدِسَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي رَافِعٍ: «أَن أَبا لَهَبٍ رَمَاهُ اللَّه بالعَدَسَةِ»؛ هِيَ بَثْرَةٌ تُشْبِهُ العَدَسَة تَخْرُجُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْجَسَدِ مِنْ جِنْسِ الطَّاعُونِ تَقْتُلُ صَاحِبَهَا غَالِبًا.
وعَدَسْ وحَدَسْ: زَجْرٌ لِلْبِغَالِ، والعامَّة تَقُولُ: عَدْ؛ قَالَ بَيْهَس بنُ صُرَيمٍ الجَرْمِيُّ:
أَلا لَيْتَ شِعْري، هَلْ أَقُولَنْ لِبَغْلَتي: ***عَدَسْ بَعْدَ ما طالَ السِّفارُ وكَلَّتِ؟
وأَعربه الشَّاعِرُ لِلضَّرُورَةِ فَقَالَ وَهُوَ بِشْرُ بنُ سُفْيَانَ الرَّاسِبيُّ:
فاللَّهُ بَيْني وبَيْنَ كلِّ أَخٍ ***يَقولُ: أَجْذِمْ، وقائِلٍ: عَدَسا
أجذم: زَجْرٌ لِلْفَرَسِ، وعَدَس: اسْمٌ مِنْ أَسماء الْبِغَالِ؛ قَالَ:
إِذا حَمَلْتُ بِزَّتي عَلَى عَدَسْ، ***عَلَى الَّتِي بَيْنَ الحِمارِ والفَرَسْ،
فَلَا أُبالي مَنْ غَزا أَو مَنْ جَلَسْ "وَقِيلَ: سَمَّتِ الْعَرَبُ الْبَغْلَ عَدَسًا بالزَّجْرِ وسَببهِ لَا أَنه اسْمٌ لَهُ، وأَصلُ عَدَسْ فِي الزَّجْرِ فَلَمَّا كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ وَفَهِمَ أَنه زَجْرٌ لَهُ سُمِّيَ بِهِ، كَمَا قِيلَ لِلْحِمَارِ: سَأْسَأْ، وَهُوَ زَجْرٌ لَهُ فَسُمِّيَ بِهِ؛ وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
وَلَوْ تَرى إِذ جُبَّتي مِنْ طاقِ، ***ولِمَّتي مِثلُ جَناحِ غاقِ،
تَخْفِقُ عندَ المَشْيِ والسِّباقِ "وَقِيلَ: عَدَسْ أَو حَدَسْ رَجُلٌ كَانَ يَعْنُف عَلَى البغالِ فِي أَيام سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ إِذا قِيلَ لَهَا حَدَسْ أَو عَدَس انْزَعَجَتْ، وَهَذَا مَا لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ.
وَرَوَى الأَزهري عَنِ ابْنِ أَرقم حَدَسْ مَوْضِعَ عَدَسْ قَالَ: وَكَانَ الْبَغْلُ إِذا سَمِعَ بَاسِمِ حَدَسْ طَارَ فَرَقًا فَلَهِجَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ عَدَسْ؛ قَالَ: وَقَالَ يَزيدُ بنُ مُفَزِّغٍ فَجَعَلَ الْبَغْلَةَ نَفْسَهَا عَدَسًا فَقَالَ:
عَدَسْ، مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمارَةٌ، ***نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلينَ طَلِيقُ
فإِنْ تَطْرُقي بابَ الأَمِيرِ، فإِنَّني ***لِكُلِّ كريمٍ ماجِدٍ لَطَرُوقُ
سَأَشْكُرُ مَا أُولِيتُ مِنْ حُسْنِ نِعْمَةٍ، ***ومِثْلي بِشُكْرِ المُنْعِمِينَ خَلِيقُ
وعَبَّادٌ هَذَا: هُوَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبي سُفْيَانَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ وَلَّاهُ سِجِسْتانَ وَاسْتَصْحَبَ يَزِيدَ بنَ مُفَرِّغٍ مَعَهُ، وَكَرِهَ عُبَيْدُ اللَّه أَخو عَبَّادٍ اسْتِصْحَابَهُ لِيَزِيدَ خَوْفًا مِنْ هِجَائِهِ، فَقَالَ لِابْنِ مفرَّغ: أَنا أَخاف أَن يشتغلَ عَنْكَ عبادٌ فَتَهْجُوَنا فأُحِبُّ أَن لَا تَعْجَل عَلَى عَبَّادٍ حَتَّى يَكْتُبَ إِليَّ، وَكَانَ عبادٌ طَوِيلُ اللِّحْيَةِ عَرِيضُهَا، فَرَكَبَ يَوْمًا وَابْنُ مُفَرَّغٍ فِي مَوْكِبِه فهَبَّتِ الرِّيحُ فنَفَشَتْ لِحْيَتُهُ، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ مُفَرِّغٍ:
أَلا لَيْتَ اللِّحى كانتْ حَشِيشًا، ***فنَعْلِفَها خيولَ المُسْلِمِينا
وَهَجَاهُ بأَنواع مِنَ الْهِجَاءِ، فأَخذه عُبَيْدُ اللَّه بْنُ زِيَادٍ فَقَيَّدَهُ، وَكَانَ يَجْلِدُهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيُعَذِّبُهُ بأَنواع الْعَذَابِ وَيَسْقِيهِ الدَّوَاءَ المُسْهِل وَيَحْمِلُهُ عَلَى بَعِيرٍ ويَقْرُنُ بِهِ خِنْزيرَة، فإِذا انْسَهَلَ وَسَالَ عَلَى الْخِنْزِيرَةِ صاءَتْ وَآذَتْهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ كَتَبَ إِلى مُعَاوِيَةَ أَبياتًا يَسْتَعْطِفُهُ بِهَا وَيَذْكُرُ مَا حَلَّ بِهِ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّه أَرسل بِهِ إِلى عَبَّادٍ بِسِجِسْتَانَ وَبِالْقَصِيدَةِ الَّتِي هَجَاهُ بِهَا، فَبَعَثَ خَمْخَامَ مولاه على الزَّنْدِ وَقَالَ: انْطَلَقَ إِلى سِجِسْتَانَ وأَطلق ابْنُ مُفَرَّغٍ وَلَا تستأْمر عَبَّادًا، فأَتى إِلى سِجِسْتَانَ وسأَل عَنِ ابْنِ مُفَرَّغٍ فأَخبروه بِمَكَانِهِ فَوَجَدَهُ مُقَيَّدًا، فأَحضر قَيْنًا فكَّ قُيُودَهُ وأَدخله الْحَمَّامَ وأَلبسه ثِيَابًا فَاخِرَةً وأَركبه بَغْلَةً، فَلَمَّا رَكِبَهَا قَالَ أَبياتًا مِنْ جُمْلَتِهَا: عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ.
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ: صَنَعَ بِي مَا لَمْ يَصْنَعْ بأَحدٍ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ أَحدثته، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وأَيّ حَدَث أَعظم مِنْ حَدَثٍ أَحدثته فِي قَوْلِكَ:
أَلا أَبْلِغْ مُعاويةَ بنَ حَرْبٍ ***مُغَلْغَلَةً عَنِ الرجُل اليَماني
أَتَغْضَبُ أَن يُقال: أَبُوكَ عَفٌّ، ***وتَرْضى أَنْ يقالَ: أَبُوكَ زاني؟
قأَشْهَدُ أَنَّ رَحْمَك مِنْ زِيادٍ ***كَرَحْمِ الفِيلِ مِنْ ولَدِ الأَتانِ
وأَشْهَدُ أَنها حَمَلَتْ زِيادًا، ***وصَخْرٌ مِنْ سُمَيَّةَ غيرُ دَانِي
فَحَلَفَ ابْنُ مُفَرِّغَ لَهُ أَنه لَمْ يَقُلْهُ وإِنما قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ أَخو مَرْوَانَ فَاتَّخَذَهُ ذَرِيعَةً إِلى هِجَاءِ زِيَادٍ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ وَقَطَعَ عَنْهُ عَطَاءَهُ.
وَمِنْ أَسماء الْعَرَبِ: عُدُسٌ وحُدُسٌ وعُدَسٌ.
وعُدُسٌ: قَبِيلَةٌ، فَفِي تَمِيمٍ بِضَمِّ الدَّالِ، وَفِي سَائِرِ الْعَرَبِ بِفَتْحِهَا.
وعَدَّاسٌ وعُدَيسٌ: اسْمَانِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وعُدَسٌ مِثْلُ قُثَمٍ اسْمُ رَجُلٍ، وَهُوَ زُرارَةُ بنُ عُدَسٍ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ عُدُسٌ، بِضَمِّ الدَّالِّ.
رَوَى ابْنُ الأَنباري عَنْ شُيُوخِهِ قَالَ: كُلُّ مَا فِي الْعَرَبِ عُدَسٌ فإِنه بِفَتْحِ الدَّالِ، إِلا عُدُسَ بْنَ زَيْدٍ فإِنه بِضَمِّهَا، وَهُوَ عُدُسُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ دارِمٍ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي زُرارة بْنِ عُدَسٍ بِالضَّمِّ لأَنه مِنْ وَلَدِ زَيْدٍ أَيضًا.
قَالَ: وَكُلُّ مَا فِي الْعَرَبِ سَدُوس، بِفَتْحِ السِّينِ، إِلَّا سُدُوسَ بْنَ أَصْمَعَ فِي طَيِءٍ فإِنه بِضَمِّهَا.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
149-لسان العرب (ينع)
يَنْعَ: يَنَعَ الثَّمَرُ يَيْنَعُ ويَيْنِعُ يَنَعًا ويُنْعًا ويُنُوعًا، فَهُوَ يانِعٌ مِنْ ثَمَرٍ يَنْعٍ وأَيْنَعَ يُونِعُ إِيناعًا، كِلَاهُمَا: أَدْرَكَ ونَضِجَ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَلَمْ تَسْقُطِ الْيَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِتُقَوِّيَهَا بأُختها.وَفِي حَدِيثِ خَبّابٍ: «ومِنّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُها».
أَيْنَعَ يُونِعُ ويَنَعَ يَيْنِعُ: أَدْرَكَ ونَضِجَ، وأَيْنَعَ أَكثر اسْتِعْمَالًا، وَقُرِئَ ويَنْعِه ويُنْعِه ويانِعِه؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
فِي قِبابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ، ***حَوْلَها الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعا
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هُوَ للأَحْوَصِ أَو يزيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ؛ وَقَالَ آخَرُ:
لَقَدْ أَمَرَتْني أُمُّ أَوْفَى سَفاهةً ***لأَهْجُرَ هَجْرًا، حِينَ أَرطَبَ يانِعُهْ
أَراد هَجَرًا فسَكَّنَ ضَرورةً.
واليَنْعُ: النضجُ.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ}.
وثَمَرٌ يَنِيعٌ وأَيْنَعُ ويانِعٌ، واليَنِيعُ واليانِعُ مِثْلُ النَّضِيجِ والناضِجِ؛ قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ:
كأَنَّ عَلَى عَوارِضِهِنَّ رَاحًا، ***يُفَضُّ عَلَيْهِ رُمّانٌ يَنِيعٌ
وَقَالَ أَبو حَيّةَ النُّمَيْري:
لَهُ أَرَجٌ مِنْ طِيبِ مَا يُلْتَقَى بِهِ، ***لأَيْنَعَ يَنْدَى مِن أَراكٍ ومِن سِدْرِ
وَجَمْعُ اليانِعِ يَنْعٌ مِثْلَ صاحِبٍ وصَحْبٍ؛ عَنِ ابْنِ كَيْسَانَ: وَيُقَالُ: أَيْنَعَ الثَّمَرُ، فَهُوَ يانِعٌ ومُونِعٌ كَمَا يُقَالُ أَيْفَعَ الغلامُ فَهُوَ يافِعٌ، وَقَدْ يُكَنَى بالإِيناعِ عَنْ إِدْراكِ المَشْوِيِّ والمَطْبُوخِ؛ وَمِنْهُ" قَوْلُ أَبي سَمّالٍ لِلنَّجَاشِيِّ: هَلْ لكَ في رُؤُوسِ جُذْعانٍ فِي كَرِشٍ مِنْ أَوّلِ الليلِ إِلى آخِرِهِ قد أيْنَعَتْ وتَهَرَّأَتْ؟ وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، قَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: أَفي رَمَضَانَ؟ قَالَ لَهُ أَبو السَّمَّالِ: مَا شَوّالٌ ورمضانُ إِلا وَاحِدًا، أَو قَالَ نَعَمْ، قَالَ: فَمَا تَسْقيني عَلَيْهَا؟ قَالَ: شَرَابًا كالوَرْس، يُطيِّبُ النفْس، يُكَثِّر الطِّرْق، ويُدِرُّ فِي العِرْق، يَشُدُّ العِظام، ويُسَهِّلُ للفَدْمِ الْكَلَامَ، قَالَ: فَثَنَى رِجْلَهُ فَلَمَّا أَكَلا وشَرِبا أَخذ فِيهِمَا الشَّرَابَ فَارْتَفَعَتْ أَصواتهما فَنَذِرَ بِهِمَا بعضُ الْجِيرَانِ فأَتَى عليَّ بْنِ أَبي طَالِبٍ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي النَّجاشِيِّ وأَبي سَمَّالٍ سَكْرانَيْنِ مِنَ الْخَمْرِ؟ فَبَعَثَ إِليهما عَلِيٌّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فأَما أَبو سَمَّالٍ فسَقط إِلى جِيرانٍ لَهُ، وأَما النجاشيُّ فأُخِذَ فأُتِيَ بِهِ عليُّ بْنِ أَبي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَفي رمضانَ وصِبْيانُنا صِيامٌ؟ فأَمر بِهِ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ وَزَادَهُ عِشْرِينَ، فَقَالَ: أَبا حَسَنٍ مَا هَذِهِ العِلاوةُ؟ فَقَالَ: لِجُرْأَتِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَجَعَلَ أَهل الْكُوفَةِ يَقُولُونَ: ضَرطَ النجاشِيُّ، فَقَالَ: كَلَّا إِنها يَمانِيةٌ ووِكاؤُها شَهْر "؛ كُلُّ ذَلِكَ حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي.
وأَما قَوْلُ الْحَجَّاجِ: إِنِّي لأَرَى رُؤُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وحانَ قِطافُها، فإِنما أَراد: قَدْ قَرُبَ حِمامُها وحانَ انْصِرامُها، شَبَّهَ رؤُوسهم لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْقَتْلَ بِثِمَارٍ قَدْ أَدركت وَحَانَ أَن تُقْطَفَ.
واليانِعُ: الأَحمر مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وثَمَرٌ يانِعٌ إِذا لَوَّنَ، وامرأَة يانِعةُ الوَجْنَتَيْنِ؛ وَقَالَ رَكَّاضٌ الدُّبَيْريّ:
ونَحْرًا عَلَيْهِ الدُّرُّ تَزْهُو كُرومُه، ***تَرائبَ، لَا شُقْرًا ينَعْنَ وَلَا كُهْبا
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: واليُنُوعُ الحُمْرةُ مِنَ الدَّمِ؛ قَالَ الْمَرَّارُ:
وإِنْ رَعَفَتْ مَناسِمُها بِنَقْبٍ، ***تَرَكْنَ جَنادِلًا مِنْهُ يُنُوعا
قَالَ ابْنُ الأَثير: ودمٌ يانِعٌ مُحْمارٌّ.
واليَنَعةُ: خَرَزَةٌ حَمْراء.
وَفِي حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ: إِنْ جاءتْ بِهِ أُمّه أُحَيْمِرَ مِثْلَ اليَنَعةِ فَهُوَ لأَبيه الَّذِي انْتَفَى مِنْهُ»؛ قِيلَ: اليَنَعةُ خَرَزة حَمْراء، وَجَمْعُهُ يَنَعٌ.
واليَنَعةُ أَيضًا: ضَرْبٌ مِنَ العَقِيق مَعْرُوفٌ، وَفِي التَّهْذِيبِ: اليَنَعُ، بِغَيْرِ هَاءٍ، ضَرْبٌ مِنَ الْعَقِيقِ مَعْرُوفٌ، وَاللَّهُ أَعلم.
غ غ: الْغَيْنُ مِنَ الْحُرُوفِ الحَلْقِيّة وَمَخْرَجُهَا مِنَ الْحَلْقِ، وَهِيَ أَيضًا مِنَ الْحُرُوفِ المَجْهُورةِ، والغينُ وَالْخَاءُ فِي حَيِّزٍ واحد.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
150-لسان العرب (مستق)
مستق: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنه كَانَ يُصَلِّي وَيَدَاهُ فِي مُسْتُقَة، وَفِي رِوَايَةٍ: صَلَّى بِالنَّاسِ وَيَدَاهُ فِي مُسْتُقَة "؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: المَسَاتِقُ فِراءٌ طِوالُ الأَكمام، وَاحِدَتُهَا مُسْتُقة، قَالَ: وأَصلها بِالْفَارِسِيَّةِ مُشْتَهْ فَعُرِّبَ.قَالَ شَمِرٌ: يُقَالُ مُسْتُقة ومُسْتَقة، وَرُوِيَ" عَنْ أَنس أَن مَلِكَ الرُّومِ أَهدى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتُقَةً مِنْ سُنْدُسٍ فَلَبِسَهَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، فكأَني أَنْظُرُ إِلَى يَدَيْهَا تُذَبْذِبانِ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى جَعْفَرٍ وَقَالَ: ابْعَثْ بِهَا إِلَى أَخيك النَّجاشي "؛ هِيَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِهَا فَرْوٌ طَوِيلُ الْكُمَّيْنِ، وَقَوْلُهُ مِنْ سُنْدُسٍ يُشْبِهُ أَنها كَانَتْ مَكْفُوفَةً بِالسُّنْدُسِ، وَهُوَ الرَّفِيعُ مِنَ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ لأَن نَفْسَ الفَرْوِ لَا يَكُونُ سُنْدُسًا، وَجَمْعُهَا مَسَاتِقُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه كَانَ يَلْبَسُ البَرَانِس والمَسَاتِقَ وَيُصَلِّي فِيهَا»؛ وأَنشد شَمِرٌ:
إِذَا لَبِسَتْ مَسَاتِقَها غَنِيٌّ، ***فَيَا وَيْحَ المَسَاتِقِ مَا لَقِينَا
ابْنُ الأَعرابي: هُوَ فَرْوٌ طَوِيلُ الكُمِّ، وَكَذَلِكَ قَالَ الأَصمعي وَابْنُ شُمَيْلٍ فِي الجبة الواسعة.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
151-لسان العرب (عتك)
عتك: عَتَكَ يَعْتِكُ عَتْكًا: كَرَّ، وَفِي التَّهْذِيبِ: كرَّ فِي الْقِتَالِ.وعَتَكَ عَتْكَةً مُنْكَرة إِذَا حَمَلَ.
وعَتَك الفرسُ: حَمَل للعَضِّ؛ قَالَ:
نُتْبِعهُم خَيْلًا لَنَا عَواتِكَا، ***فِي الْحَرْبِ، حُرْدًا تَركَبُ المَهالكا
أَي مُغْتاظة عَلَيْهِمْ، وَيُرْوَى عَوانكا.
وعَتَك فِي الأَرض يَعْتِك عُتُوكًا: ذَهَبَ وَحْدَهُ.
وعَتَك عَلَيْهِ يَضْرِبُهُ: حَمَلَ عَلَيْهِ حَمْلةَ بَطْش.
وعَتَك عَلَيْهِ بِخَيْرٍ أَو شَرٍّ: اعْتَرَضَ.
وعَتَك عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ.
أَقْدَم.
والعاتِك: الرَّاجِعُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.
وعَتَكَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ يَعْتِك بِهِ إِذَا لَزِمَهُ.
وعَتَكتِ المرأةُ عَلَى زَوْجِهَا: نَشَزَت.
وعَتَكَتْ عَلَى أَبيها: عَصَتْهُ وَغَلَبَتْهُ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: إِنَّمَا هُوَ عَنَكت، بِالنُّونِ، وَالتَّاءِ تَصْحِيفٌ.
وعَتَكَ القومُ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا إِذَا عَدَلُوا إِلَيْهِ؛ قَالَ جَرِيرٌ:
سارُوا فلستُ، عَلَى أَني أُصِبْتُ بِهِمْ، ***أَدْري عَلَى أَيِّ صَرْفَيْ نِيَّةٍ عَتَكوا
وَرَجُلٌ عَاتِكٌ: لَجُوجٌ لَا يَنْتَهي وَلَا يَنْثَني عَنْ أَمر؛ وأَنشد الأَزهري هُنَا: " نُتْبعهم خَيْلًا لَنَا عواتِكا وعَتَكَتِ القَوْسُ تَعْتِك عَتْكًا وعُتوكًا، وَهِيَ عاتِك: احْمَرَّت مِنَ القِدَم وَطُولِ الْعَهْدِ.
والعاتِكة: الْقَوْسُ إِذَا قَدُمَتْ واحْمَرَّت.
وَامْرَأَةٌ عَاتِكَةٌ: مُحْمَرَّة مِنَ الطِّيب، وَقِيلَ: بِهَا رَدْعُ طِيبٍ، وَسُمِّيَتِ المرأَة عَاتِكَةً لِصَفَائِهَا وحُمْرتها.
وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: أَنا ابْنُ العَواتك مِنْ سُلَيْم»؛ الْعَوَاتِكُ: جَمْعُ عَاتِكَةٍ، وأَصل الْعَاتِكَةِ المُتَضَمِّخة بِالطِّيبِ.
وَنَخْلَةٌ عَاتِكَةٌ: لَا تأتَبِر أَي لَا تَقْبَلُ الإِبار وَهِيَ الصَّلُودُ تَحْمِلُ الشِّيصَ.
وَالْعَوَاتِكُ مِنْ سُلَيم: ثَلَاثٌ يَعْنِي جَدَّاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ عَاتِكَةُ بِنْتُ هِلال بْنِ فالَج بْنِ ذَكْوان أُمُّ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ جَدِّ هَاشِمٍ، وَعَاتِكَةُ بِنْتُ مُرّة بْنِ هِلَالِ بْنِ فالَج بْنِ ذَكْوَانَ أُم هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مُنَافٍ، وَعَاتِكَةُ بِنْتُ الأَوْقَص بْنِ مُرَّة بْنِ هِلَالِ بْنِ فالَج بْنِ ذَكْوَانَ أُم وَهْبِ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرة جَدِّ رسول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبي أُمه آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، فالأُولى مِنَ الْعَوَاتِكِ عَمَّةُ الوُسْطَى والوُسطى عمةُ الأُخرى، وَبَنُو سُلَيْمٍ تَفْخَرُ بِهَذِهِ الْوِلَادَةِ؛ وَلِبَنِي سُلَيم مَفاخِر: مِنْهَا أَنها أَلَّفَتْ مَعَهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَي شَهِدَهُ مِنْهُمْ أَلفٌ، وأَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّم لواءَهم يَوْمَئِذٍ عَلَى الأَلْوِية وَكَانَ أَحْمَرَ، وَمِنْهَا أَن عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ أَنِ ابْعَثُوا إِلَيَّ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ أَفضلَه رَجُلًا، فَبَعَثَ أَهل الْكُوفَةِ عُتْبة بْنَ فَرْقَدٍ السُّلَمي، وَبَعَثَ أَهل الْبَصْرَةِ مُجاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ السُّلَمي، وَبَعَثَ أَهْلُ مِصْرَ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ السُّلَمِي، وَبَعْثَ أَهل الشام أَبا الأَعْوَر السُّلَمِي، وَسَائِرُ العَواتك أُمهاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ بَنِي سُلَيْم.
قَالَ ابْنُ بَرِّي: وَالْعَوَاتِكُ اللَّاتي وَلَدْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَتَا عَشْرَةَ: اثْنَتَانِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَثَلَاثٌ مِنْ سُليم هُنَّ اللَّوَاتِي أَسْمَيْنَاهُنَّ، وَاثْنَتَانِ مِنْ عَدْوان، وكِنانية وَأَسَدِيَّةٌ وهُذَلية وقُضاعية وأَزْدية.
وأَحمر عَاتِكٌ: شَدِيدُ الحُمْرة.
والعَتِيك: الأَحمَر مِنَ القِدَم، وَهُوَ نَعْتٌ.
وأَحمر عاتكٌ وأَحمر أَقْشَر إِذَا كَانَ شَدِيدَ الحُمْرة.
وَلَوْنٌ عَاتِكٌ: خَالِصٌ أَيّ لَوْنٍ كَانَ.
وَالْعَاتِكُ: الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شيءٍ وَلَوْنٍ.
وعِرْقٌ عاتِك: أَصفر.
وعَتَكَ اللبنُ وَالنَّبِيذُ يَعْتِكُ عُتوكًا: اشْتَدَّتْ حُموضته.
وَنَبِيذٌ عَاتِكٌ إِذَا صَفَا.
أَبو عُبَيْدٍ فِي بَابِ لُزوق الشَّيْءِ: عَسِقَ وعَبِقَ وعَتَكَ، والعاتِك مِنَ اللَّبَنِ الحازِرُ.
وعَتَكَ اللبنُ والشيءُ يَعْتِكُ عَتْكًا: لَزِقَ.
وعَتَكَ بِهِ الطيبُ أَي لَزِقَ بِهِ.
وعَتَك البولُ عَلَى فَخْذِ النَّاقَةِ أَي يَبِسَ.
وكلُّ كَرِيمٍ عاتِك.
وأَقام عَتْكًا أَي دَهْرًا؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ؛ وَالْمَعْرُوفُ عَنْكًا.
وعَتِيكٌ: أَبو قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ، وَقِيلَ: العَتِيك بالأَلف وَاللَّامِ فَخِذٌ مَنِ الأَزد؛ عَنْ كُرَاعٍ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا عَتَكِيٌّ.
وعَتِيك: حيٌّ مِنَ الْعَرَبِ.
والعَتْكُ: اسْمُ جَبَلٍ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
فَلَيْتَ ثَنايا العَتْكِ قَبْلَ احْتِمالِها ***شَواهِقُ، يَبلُغْنَ السَّحابَ، صِعابُ
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
152-لسان العرب (مرجل)
مرجل: اللَّيْثُ: المَرَاجِل ضرْب مِنْ بُرود الْيَمَنِ؛ وأَنشد:وأَبْصَرْتُ سَلْمَى بَيْنَ بُرْدَيْ مَرَاجِلٍ، ***وأَخْياشِ عصبٍ مِنْ مُهَلْهلَة اليَمنْ
وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِشَاعِرٍ:
يُسائِلْنَ: مَنْ هَذَا الصَّريعُ الَّذِي نَرَى؟ ***ويَنْظُرْنَ خَلْسًا مِنْ خِلال المَرَاجِل
وَثَوْبٌ مُمَرْجَل: عَلَى صَنْعَةِ المَراجِلِ مِنَ البُرود.
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَعَلَيْهَا ثِياب مَرَاجِل، يُرْوَى بِالْجِيمِ وَالْحَاءِ، فَالْجِيمُ مَعْنَاهُ أَن عَلَيْهَا نُقوشًا تِمْثال الرِّجَالِ، وَالْحَاءُ مَعْنَاهُ أَن عَلَيْهَا صُوَرَ الرِّحال وَهِيَ الإِبل بأَكْوَارِها».
وَمِنْهُ: ثوبٌ مُرَحَّل، وَالرِّوَايَتَانِ مَعًا مِنْ بَابِ الرَّاءِ، وَالْمِيمُ فِيهِمَا زَائِدَةٌ، وَهُوَ مَذْكُورٌ أَيضًا فِي مَوْضِعِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَبَعَثَ مَعَهُمَا بِبُرْد مَرَاجِل»؛ هُوَ ضرْب مِنْ بُرود الْيَمَنِ، قَالَ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُشْبِهُ أَن تَكُونَ الْمِيمُ أَصلية.
والمُمَرْجَل: ضرْب مِنْ ثِيَابِ الوَشْيِ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " بِشِيَةٍ كَشِيَةِ المُمَرْجَلِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ سِيبَوَيْهِ مَرَاجِل ميمُها مِنْ نَفْسِ الْحَرْفِ وَهِيَ ثِيَابُ الوَشْيِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «ولِصَدْرِه أَزِيزٌ كأَزِيزِ المِرْجَل»؛ هُوَ، بِالْكَسْرِ: الإِناء الَّذِي يُغْلى فيه الماء، وسواءكَانَ مِنْ حَدِيدٍ أَو صُفْر أَو حِجَارَةٍ أَو خَزَف، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ، قِيلَ: لأَنه إِذا نُصِب كأَنه أُقيم عَلَى أَرْجُل.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: والمِرْجَل المِشط [المُشط]، مِيمُهُ زَائِدَةٌ لأَنه يرجَّل بِهِ الشَّعْرُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
مَرَاجِلُنا مِنْ عَظْمِ فِيلٍ، وَلَمْ تَكُنْ ***مَرَاجِلُ قَومي مِنْ جَديد القَماقِم
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
153-لسان العرب (أمم)
أمم: الأَمُّ، بِالْفَتْحِ: القَصْد.أَمَّهُ يَؤُمُّه أَمًّا إِذا قَصَدَه؛ وأَمَّمهُ وأْتَمَّهُ وتَأَمَّمَهُ ويَمَّه وتَيَمَّمَهُ، الأَخيرتان عَلَى البَدل؛ قَالَ:
فَلَمْ أَنْكُلْ وَلَمْ أَجْبُنْ، ولكنْ ***يَمَمْتُ بِهَا أَبا صَخْرِ بنَ عَمرو
ويَمَّمْتُه: قَصَدْته؛ قَالَ رُؤْبَةُ:
أَزْهَر لَمْ يُولَدْ بنَجْم الشُّحِّ، ***مُيَمَّم البَيْت كَرِيم السِّنْحِ
وتَيَمَّمْتُهُ: قَصَدْته.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «مَن كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلى سُنَّةٍ فَلِأَمٍّ مَا هُوَ»؛ أي قَصْدِ الطَّرِيقِ المُسْتقيم.
يُقَالُ: أَمَّه يَؤمُّه أَمًّا، وتأَمَّمَهُ وتَيَمَّمَه.
قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَن يَكُونَ الأَمُّ أُقِيم مَقام المَأْمُوم أَي هُوَ عَلَى طَرِيقٍ يَنْبَغِي أَن يُقْصد، وإِن كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، فإِنه يَرْجِعُ إِلى أَصله.
مَا هُوَ "بِمَعْنَاهُ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «كَانُوا يَتَأَمَّمُون شِرارَ ثِمارِهم فِي الصدَقة»أَي يَتَعَمَّدون ويَقْصِدون، وَيُرْوَى يَتَيَمَّمون، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: وانْطَلَقْت أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: «فتَيمَّمت بِهَا التَّنُّور»؛ أي قَصَدت.
وَفِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مالك: «ثُمَّ يُؤمَرُ بأَمِّ الْبَابِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ غَمٌّ أَبدًا»؛ أي يُقْصَد إِليه فَيُسَدُّ عَلَيْهِمْ.
وتَيَمَّمْت الصَّعيد لِلصَّلَاةِ، وأَصلُه التَّعَمُّد والتَّوَخِّي، مِنْ قَوْلِهِمْ تَيَمَّمْتُك وتَأَمَّمْتُك.
قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَوْلُهُ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}، أَي اقْصِدوا لصَعِيد طيِّب، ثُمَّ كَثُر استعمالُهم لِهَذِهِ الكلِمة حَتَّى صَارَ التَّيَمُّم اسْمًا علَمًا لِمَسْح الوَجْه واليَدَيْن بالتُّراب.
ابْنُ سِيدَهْ: والتَّيَمُّم التَّوَضُّؤ بالتُّراب عَلَى البَدل، وأَصْله مِنَ الأَول لأَنه يقصِد التُّراب فيَتَمَسَّحُ بِهِ.
ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ أَمَمْتُه أَمًّا وتَيَمَّمته تَيَمُّمًا وتَيَمَّمْتُه يَمامَةً، قَالَ: وَلَا يَعْرِفُ الأَصمعي أَمَّمْتُه، بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ: وَيُقَالُ أَمَمْتُه وأَمَّمْتُه وتَأَمَّمْتُه وتَيَمَّمْتُه بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَي تَوَخَّيْتُه وقَصَدْته.
قَالَ: والتَّيَمُّمُ بالصَّعِيد مأْخُوذ مِنْ هَذَا، وَصَارَ التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَوامّ النَّاسِ التَّمَسُّح بِالتُّرَابِ، والأَصلُ فِيهِ القَصْد والتَّوَخِّي؛ قَالَ الأَعشى:
تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَه، ***مِنَ الأَرض، مِنْ مَهْمَهٍ ذِي شزَنْ
وقال اللحياني: يقال أَمُّو ويَمُّوا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، ثُمَّ ذكَر سَائِرَ اللُّغَاتِ.
ويَمَّمْتُ المَرِيضَ فَتَيَمَّم لِلصَّلَاةِ؛ وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَكثر ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ يَمَّمَ بِالْيَاءِ.
ويَمَّمْتُه بِرُمْحي تَيْمِيمًا أَي تَوَخَّيْتُه وقَصَدْته دُونَ مَن سِوَاهُ؛ قَالَ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ مُلاعِب الأَسِنَّة:
يَمَّمْتُه الرُّمْح صَدْرًا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: ***هَذِي المُرُوءةُ لَا لِعْب الزَّحالِيقِ
وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي تَرْجَمَةِ يَمم: واليَمامة القَصْد؛ قَالَ المرَّار:
إِذا خَفَّ ماءُ المُزْن عَنْهَا، تَيَمَّمَتْ ***يَمامَتَها، أَيَّ العِدادِ تَرُومُ
وجَمَلٌ مِئمٌّ: دَلِيلٌ هادٍ، وَنَاقَةٌ مِئَمَّةٌ كَذَلِكَ، وكلُّه مِنَ القَصْد لأَن الدَّليلَ الْهَادِيَ قاصدٌ.
والإِمَّةُ: الحالةُ، والإِمَّة والأُمَّةُ: الشِّرعة والدِّين.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ}؛ قَالَهُ اللِّحْيَانِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عَلَى إِمَّةٍ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: قُرِئَ {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ}، وَهِيَ مِثْلُ السُّنَّة، وَقُرِئَ عَلَى إِمَّةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ مِنْ أَمَمْت.
يُقَالُ: مَا أَحسن إِمَّتَهُ، قَالَ: والإِمَّةُ أَيْضًا النَّعِيمُ والمُلك؛ وأَنشد لِعَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
ثُمَّ، بَعْدَ الفَلاح والمُلك والإِمَّةِ، ***وارَتْهُمُ هُنَاكَ القُبورُ
قَالَ: أَراد إِمامَة المُلك ونَعِيمه.
والأُمَّةُ والإِمَّةُ: الدِّينُ.
قَالَ أَبو إِسحق فِي قَوْلِهِ تعالى: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}، أَيْ كَانُوا عَلَى دينٍ واحد.
قال أَبو إِسحق: وقال بَعْضُهُمْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: كَانَ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ كُفّارًا فبعَث اللَّهُ النبيِّين يُبَشِّرون مَنْ أَطاع بِالْجَنَّةِ ويُنْذِرون مَنْ عَصى بِالنَّارِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ جَمِيعُ مَن مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ مُؤْمِنًا ثُمَّ تفرَّقوا مِنْ بَعْدُ عَنْ كُفر فَبَعَثَ اللَّهُ النبيِّين.
وقال آخَرُونَ: الناسُ كَانُوا كُفّارًا فَبَعَثَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ والنَّبيِّين مِنْ بعدهِ.
قَالَ "أَبو مَنْصُورٍ: فِيمَا فسَّروا يَقَعُ عَلَى الكُفَّار وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
والأُمَّةُ: الطَّرِيقَةُ وَالدِّينُ.
يُقَالُ: فُلَانٌ لَا أُمَّةَ لَهُ أَي لَا دِينَ لَهُ وَلَا نِحْلة لَهُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ: " وهَلْ يَسْتَوي ذُو أُمَّةٍ وكَفُورُ؟ وَقَوْلُهُ تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}؛ قَالَ الأَخفش: يُرِيدُ أَهْل أُمّةٍ أَي خَيْرَ أَهْلِ دينٍ؛ وأَنشد لِلنَّابِغَةِ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِك رِيبةً، ***وَهَلْ يأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طائعُ؟
والإِمَّةُ: لُغَةٌ فِي الأُمَّةِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ والدينُ.
والإِمَّة: النِّعْمة؛ قال الأَعشى:
وَلَقَدْ جَرَرْتُ لَكَ الغِنى ذَا فاقَةٍ، ***وأَصاب غَزْوُك إِمَّةً فأَزالَها
والإِمَّةُ: الهَيْئة؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
والإِمَّةُ أَيضًا: الحالُ والشأْن.
وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: الإِمَّةُ غَضارةُ العَيش والنعْمةُ؛ وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
فهلْ لكُمُ فيكُمْ، وأَنْتُم بإِمَّةٍ ***عَلَيْكُمْ عَطاءُ الأَمْنِ، مَوْطِئُكم سَهْلُ
والإِمَّةُ، بِالْكَسْرِ: العَيْشُ الرَّخِيُّ؛ يُقَالُ: هُوَ فِي إِمَّةٍ مِنَ العَيْش وآمَةٍ أَي فِي خِصْبٍ.
قَالَ شَمِرٌ: وآمَة، بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ: عَيْب؛ وأَنشد:
مَهْلًا، أَبَيْتَ اللَّعْنَ مَهْلًا ***إِنَّ فِيمَا قلتَ آمَهْ
وَيُقَالُ: مَا أَمّي وأَمُّه وَمَا شَكْلي وشَكله أَي مَا أَمْري وأَمْره لبُعْده مِنِّي فلِمَ يَتعرَّض لِي؟ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَمَا إِمِّي وإِمُّ الوَحْشِ لَمَّا ***تَفَرَّعَ فِي ذُؤابَتِيَ المَشيبُ
يَقُولُ: مَا أَنا وطَلَب الوَحْش بَعْدَمَا كَبِرْت، وَذِكْرُ الإِمِّ حَشْو فِي الْبَيْتِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ وَمَا أَمِّي وأَمُّ الوَحْش، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، والأَمُّ: القَصْد.
وقال ابْنُ بُزُرْج: قَالُوا مَا أَمُّك وأَمّ ذَاتِ عِرْق أَي أَيْهاتَ مِنْكَ ذاتُ عِرْق.
والأَمُّ: العَلَم الَّذِي يَتْبَعُه الجَيْش ابْنُ سِيدَهْ: والإِمَّة والأُمَّة السُّنَّةُ.
وتَأَمَّم بِهِ وأْتَمَّ: جَعَلَهُ أَمَّةً.
وأَمَّ القومَ وأَمَّ بِهِمْ: تقدَّمهم، وَهِيَ الإِمامةُ.
والإِمامُ: كُلُّ مَنِ ائتَمَّ بِهِ قومٌ كَانُوا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَو كَانُوا ضالِّين.
ابْنُ الأَعرابي فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ}، قَالَتْ طائفة: بكتابهم، وقال آخَرُونَ: بنَبيّهم وشَرْعهم، وَقِيلَ: بِكِتَابِهِ الَّذِي أَحصى فِيهِ عَمَله.
وسيدُنا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمامُ أُمَّتِه، وَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا الائتمامُ بسُنَّته الَّتِي مَضى عَلَيْهَا.
وَرَئِيسُ الْقَوْمِ: أَمُّهم.
ابْنُ سِيدَهْ: والإِمامُ مَا ائْتُمَّ بِهِ مِنْ رئيسٍ وغيرِه، وَالْجَمْعُ أَئِمَّة.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}، أَي قاتِلوا رؤساءَ الكُفْر وقادَتَهم الَّذِينَ ضُعَفاؤهم تَبَعٌ لَهُمْ.
الأَزهري: أَكثر القُراء قَرَؤوا أَيِمَّة الكُفْرِ، بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، وقرأَ بعضهم أَئمَّةَ، بهمزيتن، قَالَ: وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {وجَعلْناهم أَيِمَّةً يَدْعون إِلى النارِ}، أَي مَن تَبِعَهم فَهُوَ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قُلبت الْهَمْزَةُ يَاءً لثِقَلها لأَنها حَرْفٌ سَفُل فِي الحَلْق وبَعُد "عَنِ الْحُرُوفِ وحَصَل طرَفًا فَكَانَ النُّطْق بِهِ تكَلُّفًا، فإِذا كُرِهت الْهَمْزَةُ الْوَاحِدَةُ، فَهُمْ باسْتِكْراه الثِّنْتَيْن ورَفْضِهما لَا سِيَّما إِذا كَانَتَا مُصْطَحِبتين غَيْرَ مفرَّقتين فَاءً وَعَيْنًا أَو عَيْنًا وَلَامًا أَحرى، فَلِهَذَا لَمْ يأْت فِي الْكَلَامِ لفظةٌ توالتْ فِيهَا هَمْزتان أَصلًا البتَّة؛ فأَما مَا حَكَاهُ أَبو زَيْدٍ مِنْ قَوْلِهِمْ دَريئة ودَرائئٌ وخَطيئة وخَطائيٌ فشاذٌّ لَا يُقاس عَلَيْهِ، وَلَيْسَتِ الْهَمْزَتَانِ أَصْلَين بَلِ الأُولى مِنْهُمَا زَائِدَةٌ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ أَهل الْكُوفَةِ" أَئمَّة "، بِهَمْزَتَيْنِ، شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ؛ الْجَوْهَرِيُّ: الإِمامُ الَّذِي يُقْتَدى بِهِ وَجَمْعُهُ أَيِمَّة، وأَصله أَأْمِمَة، عَلَى أَفْعِلة، مِثْلَ إِناء وآنِيةٍ وإِلَه وآلِهةٍ، فأُدغمت الْمِيمُ فنُقِلَت حركتُها إِلَى مَا قَبْلَها، فَلَمَّا حَرَّكوها بِالْكَسْرِ جَعَلُوهَا يَاءً، وَقُرِئَ" أَيِمَّة الكُفْر "؛ قَالَ الأَخفش: جُعلت الْهَمْزَةُ يَاءً، وَقُرِئَ" أَيِمَّة الكُفْر "؛ قَالَ الأَخفش: جُعلت الْهَمْزَةُ يَاءً لأَنها فِي مَوْضِعِ كَسْر وَمَا قَبْلَهَا مَفْتُوحٌ فَلَمْ يَهمِزُوا لِاجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ، قَالَ: وَمَنْ كَانَ مِنْ رَأْيه جَمْعُ الْهَمْزَتَيْنِ همَز، قَالَ: وَتَصْغِيرُهَا أُوَيْمة، لَمَّا تحرّكت الهمزة بالفتحة قلبها واوًا، وقال الْمَازِنِيُّ أُيَيْمَة وَلَمْ يقلِب، وإِمامُ كلِّ شَيْءٍ: قَيِّمُهُ والمُصْلِح لَهُ، والقرآنُ إِمامُ المُسلمين، وسَيدُنا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمام الأَئِمَّة، وَالْخَلِيفَةُ إِمَامُ الرَّعِيَّةِ، وإِمامُ الجُنْد قَائِدُهُمْ.
وَهَذَا أَيَمُّ مِنْ هَذَا وأَوَمُّ مِنْ هَذَا أَي أَحسن إِمَامَةً مِنْهُ، قَلَبوها إِلى الْيَاءِ مرَّة وإِلى الْوَاوِ أُخرى كَراهِية التقاء الهمزتين.
وقال أَبو إِسحق: إِذا فضَّلنا رجُلًا فِي الإِمامةِ قُلْنَا: هَذَا أَوَمُّ مِنْ هَذَا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هَذَا أَيَمُّ مِنْ هَذَا، قَالَ: والأَصل فِي أَئمَّة أَأْمِمَة لأَنه جَمْعُ إِمامٍ مِثْلُ مِثال وأَمْثِلة ولكنَّ المِيمَيْن لمَّا اجْتَمَعَتَا أُدغمت الأُولى فِي الثَّانِيَةِ وأُلقيت حَرَكَتُهَا عَلَى الْهَمْزَةِ، فَقِيلَ أَئِمَّة، فأَبدلت الْعَرَبُ مِنَ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ الْيَاءَ، قَالَ: وَمَنْ قَالَ هَذَا أَيَمُّ مِنْ هَذَا، جَعَلَ هَذِهِ الْهَمْزَةَ كلَّما تَحَرَّكَتْ أَبدل مِنْهَا يَاءً، وَالَّذِي قَالَ فُلَانٌ أَوَمُّ مِنْ هَذَا كَانَ عِنْدَهُ أَصلُها أَأَمُّ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَن يُبْدِلَ مِنْهَا أَلفًا لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ فَجَعَلَهَا وَاوًا مَفْتُوحَةً، كَمَا قَالَ فِي جَمْعِ آدَم أَوادم، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، قَالَ: وَالَّذِي جَعَلها يَاءً قَالَ قَدْ صَارَتِ الياءُ فِي أَيِمَّة بَدَلًا لَازِمًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الأَخفش، والأَول مَذْهَبُ الْمَازِنِيِّ، قَالَ: وأَظنه أَقْيَس المذهَبين، فأَما أَئمَّة بِاجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ فإِنما يُحْكى عن أَبي إِسحق، فإِنه كَانَ يُجيز اجتماعَهما، قَالَ: وَلَا أَقول إِنها غَيْرُ جَائِزَةٍ، قَالَ: وَالَّذِي بَدَأْنا بِهِ هُوَ الِاخْتِيَارُ.
وَيُقَالُ: إِمامُنا هَذَا حَسَن الإِمَّة أَي حَسَن القِيام بإِمامته إِذا صلَّى بِنَا.
وأَمَمْتُ القومَ فِي الصَّلاة إِمامةً.
وأْتمّ بِهِ أَي اقْتَدَى بِهِ.
والإِمامُ: المِثالُ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
أَبوه قَبْلَه، وأَبو أَبِيه، ***بَنَوْا مَجْدَ الحيَاة عَلَى إِمامِ
وإِمامُ الغُلام فِي المَكْتَب: مَا يَتعلَّم كلَّ يَوْمٍ.
وإِمامُ المِثال: مَا امْتُثِلَ عَلَيْهِ.
والإِمامُ: الخَيْطُ الَّذِي يُمَدُّ عَلَى الْبِنَاءِ فيُبْنَى عَلَيْهِ ويُسَوَّى عَلَيْهِ سافُ الْبِنَاءِ، وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ؛ قَالَ:
وخَلَّقْتُه، حَتَّى إِذا تمَّ واسْتَوى ***كَمُخَّةِ ساقٍ أَو كَمَتْنِ إِمامِ
أَي كَهَذَا الخَيْط المَمْدود عَلَى البِناء فِي الامِّلاسِ والاسْتِواء؛ يَصِفُ سَهْمًا؛ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:
قَرَنْتُ بِحَقْوَيْه ثَلاثًا فَلَمْ يَزِغْ، ***عَنِ القَصْدِ، حَتَّى بُصِّرَتْ بِدِمامِ
وَفِي الصِّحَاحِ: الإِمامُ خَشَبَةُ البنَّاء يُسَوِّي عَلَيْهَا البِناء.
وإِمامُ القِبلةِ: تِلْقاؤها.
وَالْحَادِي: إمامُ الإِبل، وإِن كَانَ وَرَاءَهَا لأَنه الْهَادِي لَهَا.
والإِمامُ: الطريقُ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ}، أَي لَبِطريق يُؤَمُّ أَي يُقْصَد فَيُتَمَيَّز، يَعْنِي قومَ لُوطٍ وأَصحابَ الأَيكةِ.
والإِمامُ: الصُّقْعُ مِنَ الطَّرِيقِ والأَرض.
وقال الْفَرَّاءُ: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ "، يَقُولُ: فِي طَريق لَهُمْ يَمُرُّون عَلَيْهَا فِي أَسْفارِهم فَجعل الطَّريقَ إِمامًا لأَنه يُؤم ويُتَّبَع.
والأَمامُ: بِمَعْنَى القُدّام.
وَفُلَانٌ يَؤمُّ القومَ: يَقْدُمهم.
وَيُقَالُ: صَدْرك أَمامُك، بِالرَّفْعِ، إِذا جَعَلْته اسْمًا، وَتَقُولُ: أَخوك أَمامَك، بِالنَّصْبِ، لأَنه صِفَةٌ؛ وَقَالَ لَبِيدٌ فَجَعله اسْمًا:
فَعَدَتْ كِلا الفَرْجَيْن تَحْسِبُ أَنه ***مَوْلَى المَخافَةِ: خَلْفُها وأَمامُها
يَصِفُ بَقَرة وَحْشِية ذَعَرها الصائدُ فَعَدَتْ.
وكِلا فَرْجَيها: وَهُوَ خَلْفُها وأَمامُها.
تَحْسِب أَنه: الْهَاءُ عِمادٌ.
مَوْلَى مَخافَتِها أَي وَلِيُّ مَخافَتِها.
وَقَالَ أَبو بَكْرٍ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ يَؤُمُّ القَوْمَ أَي يَتَقَدَّمُهم، أُخِذ مِنَ الأَمامِ.
يُقَالُ: فُلانٌ إِمامُ الْقَوْمِ؛ مَعْنَاهُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ لَهُمْ، وَيَكُونُ الإِمامُ رئِيسًا كَقَوْلِكَ إمامُ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ الكتابَ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ}، وَيَكُونُ الإِمامُ الطريقَ الواضحَ؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ}، وَيَكُونُ الإِمامُ المِثالَ، وأَنشد بَيْتَ النَّابِغَةِ: بَنَوْا مَجْدَ الحَياةِ عَلَى إِمامِ "معناه على مِثال؛ وقال لَبِيدٌ: " ولكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإِمامُها وَالدَّلِيلُ: إِمامُ السَّفْر.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِمامًا}؛ قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: هُوَ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: " فِي حَلْقِكم عَظْمًا وَقَدْ شُجِينا "وإِنَّ المُتَّقِين فِي جَنَّات ونَهَرٍ.
وَقِيلَ: الإِمامُ جَمْعُ آمٍّ كصاحِبٍ وصِحابٍ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ إِمامٍ لَيْسَ عَلَى حَدِّ عَدْلٍ ورِضًا لأَنهم قَدْ قَالُوا إِمامان، وإِنما هُوَ جَمْعٌ مُكَسَّر؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: أَنْبأَني بِذَلِكَ أَبو العَلاء عَنْ أَبي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ قَالَ: وَقَدِ اسْتَعْمَلَ سِيبَوَيْهِ هَذَا القياسَ كَثِيرًا، قَالَ: والأُمَّةُ الإِمامُ.
اللَّيْثُ: الإِمَّةُ الائتِمامُ بالإِمامِ؛ يُقَالُ: فُلانٌ أَحقُّ بإِمَّةِ هَذَا الْمَسْجِدِ مِنْ فُلان أَي بالإِمامة؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: الإِمَّة الهَيْئةُ فِي الإِمامةِ والحالةُ؛ يُقَالُ: فُلَانٌ حَسَن الإِمَّةِ أَي حَسَن الهَيْئة إِذا أَمَّ الناسَ فِي الصَّلاة، وَقَدِ ائتَمَّ بِالشَّيْءِ وأْتَمَى بِهِ، عَلَى البدَل كَرَاهِيَةَ التَّضْعِيفِ؛ وأَنشد يَعْقُوبُ:
نَزُورُ امْرأً، أَمّا الإِلَه فَيَتَّقِي، ***وأَمّا بفعلِ الصَّالحين فَيَأْتَمِي
والأُمَّةُ: القَرْن مِنَ النَّاسِ؛ يُقَالُ: قَدْ مَضَتْ أُمَمٌ أَي قُرُونٌ.
وأُمَّةُ كُلِّ نَبِيٍّ: مَن أُرسِل إِليهم مِنْ كَافِرٍ ومؤمنٍ.
اللَّيْثُ: كلُّ قَوْمٍ نُسِبُوا إِلى نَبِيٍّ فأُضيفوا إِليه فَهُمْ أُمَّتُه، وَقِيلَ: أُمة مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عليهم وَسَلَّمَ، كلُّ مَن أُرسِل إِليه مِمَّن آمَن بِهِ أَو كَفَر، قَالَ: وَكُلُّ جِيلٍ مِنَ النَّاسِ هُمْ أُمَّةٌ عَلَى حِدَة.
وقال غَيْرُهُ: كلُّ جِنس مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ بَنِي آدَمَ أُمَّةٌ عَلَى حِدَة، والأُمَّةُ: الجِيلُ والجِنْسُ مِنْ كُلِّ حَيّ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ}؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ" فِي مَعْنىً دُونَ مَعْنىً، يُريدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهم وتَعَبَّدَهُم بِمَا شَاءَ أَنْ يَتَعَبَّدَهُم مِنْ تسْبيح وعِبادةٍ عَلِمها مِنْهُمْ وَلَمْ يُفَقِّهْنا ذَلِكَ.
وَكُلُّ جِنْسٍ مِنَ الْحَيَوَانِ أُمَّةٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْلَا أنَّ الكِلاب أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ لأَمَرْت بقَتْلِها، وَلَكِنِ اقْتُلوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَد بَهيم، وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ: لَوْلَا أَنَّهَا أُمَّةٌ تُسَبِّحُ لأَمَرْت بقَتْلِها»؛ يَعْنِي بِهَا الْكِلَابَ.
والأُمُّ: كالأُمَّةِ؛ وَفِي حديث: " إِنْ أَطاعُوهما، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَشِدوا ورَشَدت أُمُّهم "، وَقِيلَ، هُوَ نَقِيضُ قَوْلِهِمْ هَوَتْ أُمُّه، فِي الدُّعاء عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَن كَانَ عَلَى دينِ الحَقِّ مُخالفًا لِسَائِرِ الأَدْيان، فَهُوَ أُمَّةٌ وَحْدَهُ.
وَكَانَ إبراهيمُ خليلُ الرَّحْمَنِ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، أُمَّةً؛ والأُمَّةُ: الرَّجُلُ الَّذِي لَا نظِير لَهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ}؛ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كانَ أُمَّةًأَيِ إِمَامًا.
أَبو عَمْرٍو الشَّيباني: إِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِلشَّيْخِ إِذَا كَانَ باقِيَ الْقُوَّةِ: فُلَانٌ بإِمَّةٍ، مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى الْخَيْرِ والنِّعْمة لأَن بَقاء قُوّتِه مَنْ أَعظم النِّعْمة، وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ كُلِّهِ مِنَ القَصْد.
يُقَالُ: أَمَمْتُ إِلَيْهِ إِذَا قَصَدْته، فَمَعْنَى الأُمَّة فِي الدِّينِ أَنَّ مَقْصِدَهم مقْصِد وَاحِدٌ، وَمَعْنَى الإِمَّة فِي النِّعْمة إِنَّمَا هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَقْصِده الخلْق ويَطْلُبونه، وَمَعْنَى الأُمَّة فِي الرجُل المُنْفَرد الَّذِي لَا نَظِير لَهُ أَنَّ قَصْده مُنْفَرِدٌ مِنْ قَصْد سَائِرِ النَّاسِ؛ قَالَ النَّابِغَةُ: " وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طائعُ وَيُرْوَى: ذُو إمَّةٍ، فَمَنْ قال ذو أُمَّةٍ فمعناه ذُو دينٍ وَمَنْ قَالَ ذو إمَّةٍ فمعناه ذو نِعْمة أُسْدِيَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: وَمَعْنَى الأُمَّةِ الْقَامَةُ.
سَائِرُ مَقْصِدِ الْجَسَدِ، وَلَيْسَ يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ عَنْ مَعْنَى أَمَمْت قَصَدْت.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً}؛ قَالَ: أُمَّةً مُعلِّمًا للخَير.
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فسأَله عَنِ الأُمَّةِ، فَقَالَ: مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، والأُمَّةُ المُعَلِّم.
وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يُبْعَث يَوْمَ الْقِيَامَةِ زيدُ بنُ عَمْرِو بنِ نُفَيْل أُمَّةً عَلَى حِدَةٍ، وَذَلِكَ أَنه كَانَ تَبَرَّأَ مِنْ أَدْيان الْمُشْرِكِينَ وآمَن بِاللَّهِ قَبْلَ مَبْعَث سيدِنا مُحَمَّدٍ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي حَدِيثِ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ: «أَنه يُبْعَث يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وحْدَه»؛ قَالَ: الأُمَّةُ الرَّجُلُ المُتَفَرِّد بدينٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ}، وَقِيلَ: الأُمَّةُ الرجلُ الْجَامِعُ لِلْخَيْرِ.
والأُمَّةُ: الحِينُ.
قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}، قَالَ بَعْدَ حينٍ مِنَ الدَّهْرِ.
وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ}.
وقال ابْنُ الْقَطَّاعِ: الأُمَّةُ المُلْك، والأُمة أَتْباعُ الأَنبياء، والأُمّةُ الرَّجُلُ الجامعُ لِلْخَيْرِ، والأُمَّةُ الأُمَمُ، والأُمَّةُ الرَّجُلُ المُنْفَرد بِدِينِهِ لَا يَشْرَكُه فِيهِ أَحدٌ، والأُمَّةُ القامةُ والوجهُ؛ قَالَ الأَعشى:
وإنَّ مُعاوية الأَكْرَمِينَ ***بيضُ الوُجوهِ طِوالُ الأُمَمْ
أَيْ طِوالُ القاماتِ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّمَرْدَل بْنِ شَرِيكٍ اليَرْبوعي: " طِوال أَنْصِية الأَعْناقِ والأُمَمِ "قَالَ: وَيُرْوَى الْبَيْتُ للأَخْيَلِيَّة.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لحسَنُ الأُمَّةِ أَيِ الشَّطاطِ.
وأُمَّةُ الْوَجْهِ: سُنَّته وَهِيَ مُعظَمه ومَعْلم الحُسْن مِنْهُ.
أَبُو زَيْدٍ: إِنَّهُ لَحَسن أُمَّة الْوَجْهِ يَعْنُون سُنَّته وصُورَته.
وَإِنَّهُ لَقَبيحُ أُمَّةِ الْوَجْهِ.
وأُمَّة الرَّجُلِ: وَجْهُه وقامَتُه.
والأُمَّة: الطَّاعَةُ.
والأُمَّة: العالِم.
وأُمَّةُ الرَّجُلِ: قومُه.
والأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ؛ قَالَ الأَخفش: هُوَ فِي اللَّفْظِ وَاحِدٌ وَفِي الْمَعْنَى جَمْع، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ يَهُودَ بَني عَوْفٍ أُمَّةٌ مِنَ المؤْمنين»، يُرِيدُ أَنهم بالصُّلْح الَّذِي وقَع بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المؤْمنين كجماعةٍ مِنْهُمْ كلمَتُهم وَأَيْدِيهِمْ وَاحِدَةٌ.
وأُمَّةُ اللَّهِ: خلْقه: يُقَالُ: مَا رأَيت مِنْ أُمَّةِ اللَّهَ أَحسنَ مِنْهُ.
وأُمَّةُ الطَّرِيقِ وأُمُّه: مُعْظَمُه.
والأُمَمُ: القَصْد الَّذِي هُوَ الوسَط.
والأَمَمُ: القُرب، يُقَالُ: أَخذت ذَلِكَ مِنْ أَمَمٍ أَيْ مِنْ قُرْب.
وَدَارِي أَمَمُ دارِه أَيْ مُقابِلَتُها.
والأَمَمُ: الْيَسِيرُ.
يُقَالُ: دَارُكُمْ أَمَمٌ، وَهُوَ أَمَمٌ مِنْكَ.
وَكَذَلِكَ الِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ.
وأمْرُ بَني فُلان أَمَمٌ ومُؤامٌّ أَيْ بيّنٌ لَمْ يُجَاوِزِ الْقَدْرَ.
والمؤَامُّ، بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ: الْمُقَارِبُ، أُخِذ مِنَ الأَمَم وَهُوَ الْقُرْبُ؛ يُقَالُ: هَذَا أَمْرٌ مؤَامٌّ مِثْلَ مُضارٍّ.
وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ إِذَا كَانَ مُقارِبًا: هُوَ مُؤامٌّ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَا يَزال أَمْرُ النَّاسِ مُؤَامًّا مَا لَمْ يَنْظروا فِي القَدَرِ والوِلْدان أَيْ لَا يَزال جَارِيًا عَلَى القَصْد وَالِاسْتِقَامَةِ».
والمُؤَامُّ: المُقارَب، مُفاعَل مِنَ الأَمِّ، وَهُوَ القَصْد أَو مِنَ الأَمَمِ الْقُرْبُ، وأَصله مُؤامَم فأُدْغِم.
وَمِنْهُ حَدِيثُ كَعْبٍ: لَا تَزال الفِتْنة مُؤامًّا بِهَا مَا لَمْ تبْدأْ مِنَ الشَّامِ "؛ مُؤَامٌّ هُنَا: مُفاعَل، بِالْفَتْحِ، عَلَى الْمَفْعُولِ لأَن مَعْنَاهُ مُقارَبًا بِهَا، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَيُرْوَى مُؤَمًّا، بِغَيْرِ مدٍّ.
والمُؤَامٌّ: المُقارِب والمُوافِق مِنَ الأَمَم، وَقَدْ أَمَّهُ؛ وَقَوْلُ الطرِمّاح:
مِثْلَ مَا كافَحْتَ مَحْزُوبَةً ***نَصَّها ذاعِرُ وَرْعٍ مُؤَامْ
يَجُوزُ أَن يَكُونَ أَراد مُؤَامٌّ فَحَذَفَ إِحْدَى الْمِيمَيْنِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَراد مُؤَامٌّ فأَبدل مِنَ الْمِيمِ الأَخيرة يَاءً فَقَالَ: مُؤَامي ثُمَّ وَقَفَ لِلْقَافِيَةِ فَحَذَفَ الْيَاءَ فَقَالَ: مُؤَامْ، وَقَوْلُهُ: نَصَّها أَيْ نَصَبَها؛ قَالَ ثَعْلَبٌ: قَالَ أَبو نَصْرٍ أَحسنُ مَا تَكُونُ الظَّبْية إِذَا مَدَّت عُنُقَها مِنْ رَوْعٍ يَسير، وَلِذَلِكَ قَالَ مؤَامْ لأَنه المُقاربُ اليَسير.
قَالَ: والأَمَمُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَهُوَ مِنَ المُقارَبة.
والأَمَمُ: الشيءُ الْيَسِيرُ؛ يُقَالُ: مَا سأَلت إِلَّا أَمَمًا.
وَيُقَالُ: ظلَمْت ظُلْمًا أَمَمًا؛ قَالَ زُهَيْرٌ:
كأَنّ عَيْني، وَقَدْ سَالَ السَّلِيلُ بِهِمْ، ***وَجِيرة مَا هُمُ لَوْ أَنَّهم أَمَمُ
يَقُولُ: أَيُّ جيرةٍ كَانُوا لَوْ أَنَّهُمْ بِالْقُرْبِ مِنِّي.
وَهَذَا أمْر مُؤَامٌّ أَيْ قَصْدٌ مُقارب؛ وأَنشد اللَّيْثُ:
تَسْأَلُني بِرامَتَيْنِ سَلْجَما، ***لَوْ أَنَّهَا تَطْلُب شَيْئًا أَمَما
أَرَادَ: لَوْ طَلَبَت شَيْئًا يقْرُب مُتَناوَله لأَطْلَبْتُها، فأَما أَنْ تَطْلُب بالبلدِ السَّباسِبِ السَّلْجَمَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَيَسِّر وَلَا أَمَمٍ.
وأُمُّ الشَّيْءِ: أَصله.
والأُمُّ والأُمَّة: الْوَالِدَةُ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ:
تَقَبَّلَها مِنْ أُمَّةٍ، ولَطالما ***تُنُوزِعَ، فِي الأَسْواق مِنْهَا، خِمارُها
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ ***.
لإِمِّك؛ وَقَالَ أَيْضًا:
اضْرِب الساقَيْنِ إمِّك هابِلُ قَالَ فكسَرهما جَمِيعًا كَمَا ضَمَّ هُنَالِكَ، يَعْنِي أُنْبُؤُك ومُنْحُدُر، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ لُغَةً، وَالْجَمْعُ أُمَّات وأُمّهات، زادوا الهاء، وقال بَعْضُهُمْ: الأُمَّهات فِيمَنْ يَعْقِلُ، والأُمّات بِغَيْرِ هَاءٍ فِيمَنْ لَا يَعْقِلُ، فالأُمَّهاتُ لِلنَّاسِ والأُمَّات لِلْبَهَائِمِ، وَسَنَذْكُرُ الأُمَّهات فِي حَرْفِ الْهَاءِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الأَصل فِي الأُمَّهات أَنْ تَكُونَ لِلْآدَمِيِّينَ، وأُمَّات أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ الآدَمِيِّين، قَالَ: وَرُبَّمَا جَاءَ بِعَكْسِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ السفَّاح اليَرْبوعي فِي الأُمَّهات لِغَيْرِ الآدَمِيِّين:
قَوّالُ مَعْروفٍ وفَعّالُه، ***عَقَّار مَثْنى أُمَّهات الرِّباعْ
قَالَ: وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
سِوى مَا أَصابَ الذئبُ مِنْهُ وسُرْبَةٌ ***أطافَتْ بِهِ مِنْ أُمَّهات الجَوازِل
فَاسْتَعْمَلَ الأُمَّهات للقَطا واستعملها اليَرْبوعي للنُّوق؛ وقال آخَرُ فِي الأُمَّهات للقِرْدانِ:
رَمى أُمَّهات القُرْدِ لَذْعٌ مِنَ السَّفا، ***وأَحْصَدَ مِنْ قِرْبانِه الزَّهَرُ النَّضْرُ
وَقَالَ آخَرُ يَصِفُ الإِبل:
وَهَامٍ تَزِلُّ الشمسُ عَنْ أُمَّهاتِه ***صِلاب وأَلْحٍ، فِي المَثاني، تُقَعْقِعُ
وقال هِمْيان فِي الإِبل أَيْضًا:
جاءَتْ لِخِمْسٍ تَمَّ مِنْ قِلاتِها، ***تَقْدُمُها عَيْسًا مِنُ امَّهاتِها
وَقَالَ جَرِيرٌ فِي الأُمَّات للآدَمِييِّن:
لَقَدْ وَلَدَ الأُخَيْطِلَ أُمُّ سَوْءٍ، ***مُقَلَّدة مِنَ الأُمَّاتِ عَارَا
التَّهْذِيبُ: يَجْمَع الأُمَّ مِنَ الآدَميّاتِ أُمَّهات، وَمِنَ البَهائم أُمَّات؛ وَقَالَ:
لَقَدْ آلَيْتُ أَغْدِرُ فِي جَداعِ، ***وَإِنْ مُنِّيتُ، أُمَّاتِ الرِّباعِ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَصل الأُمِّ أُمّهةٌ، وَلِذَلِكَ تُجْمَع عَلَى أُمَّهات.
وَيُقَالُ: يَا أُمَّةُ لَا تَفْعَلي وَيَا أَبَةُ افْعَلْ، يَجْعَلُونَ عَلَامَةَ التأْنيث عِوَضًا مِنْ يَاءِ الإِضافة، وتَقِفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ؛ وَقَوْلُهُ:
مَا أُمّك اجْتاحَتِ المَنايا، ***كلُّ فُؤادٍ عَلَيْك أُمُ
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: عَلَّق الْفُؤَادَ بعَلى لأَنه فِي مَعْنَى حَزينٍ، فكأَنه قَالَ: عَلَيْكَ حَزينٌ.
وأَمَّتْ تَؤُمُّ أُمُومَةً: صَارَتْ أُمًّا.
وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي فِي امرأَة ذَكَرَهَا: كَانَتْ لَهَا عَمَّةٌ تَؤُمها أَيْ تَكُونُ لَهَا كالأُمِّ.
وتَأَمَّها واسْتَأَمَّها وتأَمَّمها: اتَّخَذَها أُمًّا؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:
ومِن عَجَبٍ، بَجِيلَ، لَعَمْرُ أُمّ ***غَذَتْكِ، وغيرَها تَتأَمّمِينا
قَوْلُهُ: وَمِنْ عَجَبٍ خَبَرُ مبتدإٍ مَحْذُوفٍ، تقديرهُ: وَمِنْ عَجَبٍ انْتِفاؤكم عَنْ أُمِّكم الَّتِي أَرْضَعَتْكم واتِّخاذكم أُمًّا غيرَها.
قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ تأَمَّم فُلَانٌ أُمًّا إِذَا اتَّخذَها لِنَفْسِهِ أُمًّا، قَالَ: وَتَفْسِيرُ الأُمِّ فِي كُلِّ مَعَانِيهَا أُمَّة لأَن تأْسيسَه مِنْ حَرْفين صَحِيحَيْنِ وَالْهَاءُ فِيهَا أَصْلِيَّةٌ، وَلَكِنَّ العَرب حذَفت تِلْكَ الْهَاءَ إِذْ أَمِنُوا اللَّبْس.
وَيَقُولُ بعضُهم فِي تَصْغير أُمّ أُمَيْمة، "قَالَ: وَالصَّوَابُ أُمَيْهة، تُردُّ إِلَى أَصل تأْسيسِها، وَمَنْ قَالَ أُمَيْمَة صغَّرها عَلَى لَفْظِهَا، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ أُمّات؛ وأَنشد:
إذِ الأُمّهاتُ قَبَحْنَ الوُجوه، ***فَرَجْتَ الظَّلامَ بأُمَّاتِكا
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يُقَالُ أُمٌّ وَهِيَ الأَصل، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أُمَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أُمَّهة؛ وَأَنْشَدَ:
تَقَبَّلْتَها عَنْ أُمَّةٍ لَكَ، طالَما ***تُنوزِعَ بالأَسْواقِ عَنْهَا خِمارُها
يُرِيدُ: عَنْ أُمٍّ لَكَ فأَلحقها هَاءَ التأْنيث؛ وَقَالَ قُصَيّ:
عِنْدَ تَناديهمْ بِهالٍ وَهَبِي، ***أُمَّهَتي خِنْدِفُ، والياسُ أَبي
فأَما الْجَمْعُ فأَكثر الْعَرَبِ عَلَى أُمَّهات، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أُمَّات، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: وَالْهَاءُ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ مَزِيدَةٌ فِي الأُمَّهات، والأَصل الأَمُّ وَهُوَ القَصْد؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لأَن الْهَاءَ مَزِيدَةٌ فِي الأُمَّهات؛ وَقَالَ اللَّيْثُ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَحْذِفُ أَلف أُمّ كَقَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
أَيُّها العائِبُ، عِنْدِ، امَّ زَيْدٍ، ***أَنْتَ تَفْدي مَن أَراكَ تَعِيبُ
وَإِنَّمَا أَرَادَ عنْدي أُمَّ زيدٍ، فَلَمَّا حذَف الأَلف التَزقَتْ يَاءُ عنْدي بصَدْر الْمِيمِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَسَقَطَتِ الْيَاءُ لِذَلِكَ، فكأَنه قَالَ: عِنْدِي أُمَّ زَيْدٍ.
وَمَا كُنْتِ أُمًّا ولقد أَمِمْتِ أُمُومةً؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الأُمَّهة كالأُمِّ، الْهَاءُ زَائِدَةٌ لأَنه بِمَعْنَى الأُمِّ، وَقَوْلُهُمْ أمٌّ بَيِّنة الأُمومة يُصَحِّح لَنَا أَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ فَاءُ الْفِعْلِ وَالْمِيمَ الأُولى عَيْن الفِعْل، وَالْمِيمَ الأُخرى لَامُ الفعْل، فَأُمٌّ بِمَنْزِلَةِ دُرّ وجُلّ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا جَاءَ عَلَى فُعْل وعينُه ولامُه مِنْ مَوْضِعٍ، وَجَعَلَ صاحبُ العَيْنِ الْهَاءَ أَصْلًا، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ.
اللَّيْثُ: إِذَا قَالَتِ الْعَرَبُ لَا أُمَّ لَكَ فَإِنَّهُ مَدْح عِنْدَهُمْ؛ غَيْرُهُ: وَيُقَالُ لَا أُمَّ لَكَ، وَهُوَ ذَمٌّ.
قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا أُمَّ لَكَ قَدْ وُضعَ مَوْضِعَ المَدح؛ قَالَ كَعْبُ بْنُ سَعْدٍ الغَنَويّ يَرْثي أَخاه:
هَوَتْ أُمُّه مَا يَبْعَث الصُّبْح غادِيًا، ***وَمَاذَا يُؤدّي الليلُ حينَ يَؤوبُ؟
قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ فِي هَذَا الْبَيْتِ: وأَيْنَ هَذَا مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبو عُبَيْدٍ؟ وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا كَقَوْلِهِمْ: وَيْحَ أُمِّه ووَيْلَ أُمِّه والوَيلُ لَهَا، وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ فِي هَذَا مِنَ المَدْح مَا ذهَب إِلَيْهِ، وَلَيْسَ يُشْبِه هَذَا قَوْلَهُمْ لَا أُمَّ لَكَ لأَن قَوْلَهُ لَا أُمَّ لَكَ فِي مَذْهَبٍ لَيْسَ لَكَ أُمٌّ حُرَّة، وَهَذَا السَّبُّ الصَّريح، وَذَلِكَ أَنّ بَني الإِماء عِنْدَ الْعَرَبِ مَذْمومون لَا يَلْحَقُونَ بِبَني الحَرائر، وَلَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ لَا أُمَّ لَكَ إلَّا فِي غضَبه عَلَيْهِ مُقَصِّرًا بِهِ شاتِمًا لَهُ، قَالَ: وأَمّا إِذَا قَالَ لَا أَبا لَك، فَلَمْ يَترك لَهُ مِنَ الشَّتِيمَة شَيْئًا، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا أُمَّ لَكَ، يَقُولُ أَنْتَ لَقِيطٌ لَا تُعْرَف لَكَ أُمٌّ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي تَفْسِيرِ بَيْتِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَوْلُهُ هَوَتْ أُمُّه، يُسْتَعْمَل عَلَى جِهَةِ التعَجُّب كَقَوْلِهِمْ: قاتَله اللَّهُ مَا أَسْمَعه مَا يَبْعَث الصبحُ: مَا اسْتِفْهَامٌ فِيهَا مَعْنَى التعَجُّب وَمَوْضِعُهَا نَصْب بيَبْعَث، أَيْ أَيُّ شيءٍ يَبعَثُ الصُّبْح مِنْ هَذَا الرَّجُلِ؟ أَي إِذَا أَيْقَظه الصُّبح تصرَّف فِي فِعْل مَا يُريده.
وغادِيًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَالْعَامِلُ فيه يَبْعَث، ويَؤُوب: يَرجع، يُرِيدُ أَن إِقْبال اللَّيل سَبَب رُجُوعِهِ إِلَى بَيْتِهِ كَمَا أَن إِقْبال النَّهَارِ سَبَب لتصرُّفه، وَسَنَذْكُرُهُ أَيضًا فِي الْمُعْتَلِّ.
الْجَوْهَرِيُّ: وَقَوْلُهُمْ وَيْلِمِّهِ، ويريدون وَيْلٌ لأُمّه فَحُذِفَ لِكَثْرَتِهِ فِي الْكَلَامِ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَيْلِمِّه، مَكْسُورَةُ اللَّامِ، شاهده قول المتنخل الْهُذَلِيِّ يَرْثي ولدهَ أُثَيلة:
وَيْلِمِّه رجلَا يأْتي بِهِ غَبَنًا، ***إِذَا تَجَرَّد لَا خالٌ وَلَا بَخِلُ
الغَبَنُ: الخَديعةُ فِي الرأْي، وَمَعْنَى التَّجَرُّد هَاهُنَا التَّشْميرُ للأَمرِ، وأَصْله أَن الإِنسان يَتجرَّد مِنْ ثِيَابِهِ إِذَا حاوَل أَمْرًا.
وَقَوْلُهُ: لَا خالٌ وَلَا بَخِل، الخالُ: الِاخْتِيَالُ والتَّكَبُّر مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ فِيهِ خالٌ أَيْ فِيهِ خُيَلاء وكِبْرٌ، وأَما قَوْلُهُ: وَيْلِمِّه، فَهُوَ مَدْح خَرَجَ بِلَفْظِ الذمِّ، كَمَا يَقُولُونَ: أَخْزاه اللَّهُ مَا أَشْعَرَه ولعَنه اللَّهُ مَا أَسْمَعه قَالَ: وكأَنهم قَصَدوا بِذَلِكَ غَرَضًا مَّا، وَذَلِكَ أَن الشَّيْءَ إِذَا رَآهُ الإِنسان فأَثْنى عَلَيْهِ خَشِيَ أَن تُصِيبه الْعَيْنُ فيَعْدِل عَنْ مَدْحه إِلَى ذَمِّهِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الأَذيَّةِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا غَرَضًا آخَرَ، وَهُوَ أَن هَذَا الْمَمْدُوحَ قَدْ بلَغ غَايَةَ الفَضْل وَحَصَلَ فِي حَدّ مَنْ يُذَمُّ ويُسَب، لأَن الفاضِل تَكْثُر حُسَّاده وعُيّابه والناقِص لَا يُذَمُّ وَلَا يُسَب، بَلْ يَرْفعون أَنفسَهم عَنْ سَبِّه ومُهاجاتِه، وأَصْلُ وَيْلِمِّه وَيْلُ أُمِّه، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وكَسَروا لامَ وَيْل إِتْباعًا لِكَسْرَةِ الْمِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَصْلُهُ وَيلٌ لأُمِّه، فَحُذِفَتْ لَامُ وَيْل وَهَمْزَةُ أُمّ فَصَارَ وَيْلِمِّه، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَصله وَيْ لأُمِّه، فَحُذِفَتْ هَمْزَةُ أُمّ لَا غَيْرُ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنه قَالَ لِرَجُلٍ: «لَا أُمَّ لَكَ»؛ قَالَ: هُوَ ذَمٌّ وسَبٌّ؛ أي أَنت لَقِيطٌ لَا تُعْرف لَكَ أُمٌّ، وَقِيلَ: قَدْ يقَع مَدْحًا بِمَعْنَى التعَجُّب مِنْهُ، قَالَ: وَفِيهِ بُعدٌ.
والأُمُّ تَكُونُ للحيَوان الناطِق وَلِلْمَوَاتِ النامِي كأُمّ النَّخْلة والشجَرة والمَوْزَة وَمَا أَشبه ذَلِكَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الأَصمعي لَهُ: أَنَا كالمَوْزَة الَّتِي إِنَّمَا صَلاحُها بمَوْت أُمِّها.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
154-لسان العرب (عرم)
عرم: عُرامُ الجيشِ: حَدُّهم وشِدَّتُهم وكَثرَتُهم؛ قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ:وَإِنَّا كالحَصى عَددًا، وَإِنَّا ***بَنُو الحَرْبِ الَّتِي فِيهَا عُرامُ
وَقَالَ آخَرُ:
وليلةِ هَوْلٍ قَدْ سَرَيْتُ، وفِتْيَةٍ ***هَدَيْتُ، وجَمْعٍ ذِي عُرامٍ مُلادِسِ
والعَرَمة: جمعُ عارمٍ.
يُقَالُ: غِلمانٌ عَقَقةٌ عَرَمةٌ.
وليلٌ عارمٌ: شديدُ البردِ نهايةٌ فِي البرْدِ "نَهارُه وليلُه، وَالْجَمْعُ عُرَّمٌ؛ قَالَ:
وليلةٍ مِنَ اللَّيالي العُرَّمِ، ***بينَ الذِّراعينِ وَبَيْنَ المِرْزَمِ،
تَهُمُّ فِيهَا العَنْزُ بالتَّكَلُّمِ "يَعْنِي مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهَا.
وعَرَمَ الإِنسانُ يَعْرُمُ ويَعْرِمُ وعَرِمَ وعَرُمَ عَرامةً، بِالْفَتْحِ وعُرامًا: اشتدَّ؛ قَالَ وعْلةُ الجَرْميُّ، وَقِيلَ هُوَ لِابْنِ الدِّنَّبة الثَّقَفي:
أَلم تعْلَمُوا أَني تُخافُ عَرَامَتي، ***وأَنَّ قَناتي لَا تَلِينُ عَلَى الكَسْرِ؟
وَهُوَ عارمٌ وعَرِمٌ: اشتَدَّ؛ وأَنشد:
إِنِّي امْرُؤٌ يَذُبُّ عَنْ مَحارمي، ***بَسْطةُ كَفّ ولِسانٍ عارِمِ
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: « عَلَى حِينِ فتْرَةٍ مِنَ الرُّسُل واعْتِرامٍ مِنَ الفِتَنِ»؛ أي اشتدادٍ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « أَن رَجُلًا قَالَ لَهُ عارَمْتُ غُلامًا بمكَّةَ فعَضَّ أُذُني فقطعَ مِنْهَا »أَي خاصَمْتُ وفاتَنْتُ، وصبيٌّ عارمٌ بيِّنُ العُرامِ، بِالضَّمِّ؛ أي شَرِسٌ؛ قَالَ شَبِيب بنُ البَرْصاء:
كأَنَّها مِنْ بُدُنٍ وإيفارْ، ***دَبَّتْ عَلَيْهَا عارماتُ الأَنْبارْ
أَي خَبيثاتُها، وَيُرْوَى: ذَرِبات.
وَفِي حَدِيثِ عَاقِرِ النَّاقَةِ: « فانبَعثَ لَهَا رجلٌ عارِمٌ »أَي خبيثٌ شِرِّيرٌ.
والعُرَامُ: الشِّدَّةُ والقُوَّةُ والشَّراسةُ.
وعَرَمنا الصبيُّ وعَرَمَ عَلَيْنَا وعَرُمَ يَعْرِمُ ويَعْرُمُ عَرامةً وعُرامًا: أَشِرَ.
وَقِيلَ: مَرِحَ وبَطِرَ، وَقِيلَ: فسَدَ.
ابْنُ الأَعرابي: العَرِمُ الجاهلُ، وَقَدْ عَرَمَ يَعْرُمُ وعَرُمَ وعَرِمَ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: العُرامِيُّ مِنَ العُرامِ وَهُوَ الجَهْلُ.
والعُرامُ: الأَذى؛ قَالَ حُمَيْدُ بنُ ثَوْرٍ الهِلاليُّ:
حَمَى ظِلَّها شَكْسُ الخَلِيقَةِ حائطٌ، ***عَلَيْها عُرامُ الطائِفينَ شَفِيقُ
والعَرَمُ: اللَّحْم؛ قَالَهُ الفراء: إنَّ جزُورَكم لَطَيِّبُ العَرَمةِ أَي طَيّبُ اللَّحْم.
وعُرامُ الْعَظْمِ، بِالضَّمِّ: عُراقُهُ.
وعَرَمَهُ يَعْرِمُه ويَعْرُمه عَرْمًا: تَعَرَّقه، وتَعَرَّمَه: تَعَرَّقَه ونَزَع مَا عَلَيْهِ مِنَ اللَّحْمِ، والعُرامُ والعُراقُ وَاحِدٌ، وَيُقَالُ: أَعْرَمُ مِنْ كَلْبٍ عَلَى عُرامٍ.
وَفِي الصِّحَاحِ: العُرامُ، بِالضَّمِّ، العُراقُ مِنَ العَظْمِ وَالشَّجَرِ.
وعَرَمَتِ الإِبلُ الشَّجَرَ: نالَتْ مِنْهُ.
وعَرِمَ العَظْمُ عَرَمًا: قَتِرَ.
وعُرَامُ الشَّجَرَةِ: قِشْرُها؛ قَالَ:
وتَقَنَّعي بالعَرْفَجِ المُشَجَّجِ، ***وبالثُّمامِ وعُرامِ العَوْسَجِ
وَخَصَّ الأَزهري بِهِ العَوْسَجَ فَقَالَ: يُقَالُ لقُشور العَوْسَج العُرامُ، وأَنشد الرجزَ.
وعَرَمَ الصبيُّ أُمَّه عَرْمًا: رَضَعها، واعْتَرم ثَدْيَها: مَصَّه.
واعْتَرَمَتْ هِيَ: تَبَغَّتْ مَنْ يَعْرُمُها؛ قَالَ:
ولا تُلْفَيَنَّ كأمِّ الغُلامِ، ***إِن لَمْ تَجِدْ عارِمًا تَعْتَرِمْ
يَقُولُ: إِنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ تُرْضِعُه دَرَّتْ هِيَ فَحَلَبَتْ ثَدْيَها، وَرُبَّمَا رَضَعَتْهُ ثُمَّ مَجَّتْه مِنْ فِيهَا؛ وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: إِنَّمَا يُقَالُ هَذَا لِلْمُتَكَلِّفِ مَا لَيْسَ مِنْ شأْنه؛ أَراد بذاتِ الغُلام.
الأُمَّ المُرْضِعَ إِنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ يَمُصُّ ثَدْيَها مَصَّتْه هِيَ؛ قَالَ الأَزهري: وَمَعْنَاهُلَا تَكُنْ كَمَنْ يَهْجُو نَفْسَه إِذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَهْجُوه.
والعَرَمُ والعُرْمَةُ: لونٌ مختلطٌ بسوادٍ وبياضٍ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَقِيلَ: تَنْقِيطٌ بِهِمَا مِنْ غَيْرِ أَن يَتَّسِعَ، كُلُّ نُقطةٍ عُرْمةٌ؛ عَنِ السِّيرَافِيِّ، الذكرُ أَعْرَمُ والأُنثى عَرْماءُ، وَقَدْ غَلَبَتِ العَرْماءُ عَلَى الْحَيَّةِ الرَّقْشاءِ؛ قَالَ مَعْقِلٌ الهُذَليُّ:
أَبا مَعْقِلٍ، لَا تُوطِئَنْكَ بَغاضَتي ***رُؤُوسَ الأَفاعي فِي مَراصِدِها العُرْمِ
الأَصمعي: الحَيَّةُ العَرْماءُ الَّتِي فِيهَا نُقَطٌ سودٌ وبيضٌ، وَيُرْوَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنه ضَحَّى بكبشٍ أَعْرَمَ "، وَهُوَ الأَبيض الَّذِي فِيهِ نُقَطٌ سُود.
قَالَ ثَعْلَبٌ: العَرِمُ مِنْ كُلِّ شَيْءِ ذُو لَوْنَيْنِ، قَالَ: والنَّمِرُ ذُو عَرَمٍ.
وبَيْضُ القَطا عُرْمٌ؛ وَقَوْلُ أَبي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ:
مَا زِلْنَ يَنْسُبْنَ وَهْنًا كُلَّ صادِقةٍ ***باتَتْ تُباشِرُ عُرْمًا، غَيْرَ أَزْواجِ
عَنَى بَيْضَ القَطا لأَنها كَذَلِكَ.
والعَرَمُ والعُرْمةُ: بَياضٌ بِمَرَمَّةِ الشاةِ الضَّائِنةِ والمِعْزَى، والصفةُ كَالصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي أُذُنها نُقَطٌ سُود، والاسمُ العَرَمُ.
وقطيعٌ أَعْرَمُ بَيِّنُ العَرَمِ إِذَا كَانَ ضَأْنًا ومِعْزًى؛ وَقَالَ يَصِفُ امرأَة رَاعِيَةً: " حَيَّاكة وَسْطَ القَطِيعِ الأَعْرَمِ "والأَعْرَمُ: الأَبْرَشُ، والأُنثى عَرْماءُ.
ودَهْرٌ أَعْرَمُ: مُتَلَوِّنٌ.
وَيُقَالُ للأَبْرَصِ: الأَعْرَمُ والأَبْقَعُ.
والعَرَمَةُ: الأَنْبارُ مِنِ الحِنْطة وَالشَّعِيرِ.
والعَرَمُ والعَرَمَةُ: الكُدْسُ المَدُوسُ الَّذِي لَمْ يُذَرَّ يُجْعَلُ كَهَيْئَةِ الأَزَجِ ثُمَّ يُذَرَّى، وحَصَرَه ابنُ برِّي فَقَالَ الكُدْسُ مِنِ الْحِنْطَةِ فِي الجَرِينِ والبَيْدَرِ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: ذَهَبَ بعضُهم إِلَى أَنه لَا يُقَالُ إِلا عَرْمَةٌ، وَالصَّحِيحُ عَرَمة، بِدَلِيلِ جَمْعِهِمْ لَهُ عَلَى عَرَمٍ، فأَما حَلْقَةٌ وحَلَقٌ فَشَاذٌّ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
تَدُقُّ مَعْزَاءَ الطَّريقِ الفازِرِ، ***دَقَّ الدِّياسِ عَرَمَ الأَنادِرِ
والعَرَمَةُ والعَرِمَةُ: المُسَنَّاةُ؛ الأُولى عَنْ كُرَاعٍ، وَفِي الصِّحَاحِ: العَرِمُ المُسَنَّاة لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَيُقَالُ: وَاحِدُهَا عَرِمَةٌ؛ أَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ للجَعْدِيِّ:
مِنْ سَبإِ الحاضِرين مَأْرِبَ، إذْ ***شَرَّدَ مِنْ دُون سَيْلهِ العَرِما
قَالَ: وَهِيَ العَرم، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَكَذَلِكَ واحدها وهو العَرِمَةُ [العَرَمَةُ]، قَالَ: والعَرِمَةُ مِنْ أَرض الرَّبابِ.
والعَرِمَةُ: سُدٌّ يُعْتَرَضُ بِهِ الْوَادِي، وَالْجَمْعُ عَرِمٌ، وَقِيلَ: العَرِمُ جمعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ.
وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: العَرِمُ الأَحْباسُ تُبْنى فِي أَوْساط الأَوْدِيَةِ.
والعَرِمُ أَيضًا: الجُرَذُ الذَّكَرُ.
قَالَ الأَزهري: وَمِنْ أَسماء الفأْر البِرُّ والثُّعْبَةُ والعَرِمُ.
والعَرِمُ: السَّيْلُ الَّذِي لَا يُطاق؛ وَمِنْهُ قَوْلِهِ تعالى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}؛ قِيلَ: أَضافه إِلَى المُسَنَّاة أَو السُّدِّ، وَقِيلَ: إِلَى الفأرِ الَّذِي بَثَق السِّكْرَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ الأَزهري: وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الخُلْد، وَلَهُ حَدِيثٌ، وَقِيلَ: العَرِمُ اسْمُ وادٍ، وَقِيلَ: العَرِمُ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، وَكَانَ قومُ سَبأَ فِي نِعْمةٍ ونَعْمَةٍ وجِنانٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَتِ المرأَة مِنْهُمْ تَخْرُجُ وَعَلَى رَأْسِهَا الزَّبيلُ فتَعْتَمِلُ بِيَدَيْهَا وَتَسِيرُ بَيْنَ ظَهْرانَي الشَّجَر المُثْمِر فيَسْقُط فِي زَبيلِها مَا تَحْتَاجُإِليه مِنْ ثِمَارِ الشَّجَرِ، فَلَمْ يَشْكُروا نِعْمَة اللَّهِ فبَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ جُرَذًا، وَكَانَ لَهُمْ سِكْرٌ فِيهِ أَبوابٌ يَفْتَحون مَا يَحْتاجُونَ إِليه مِنْ الْمَاءِ فثَقَبه ذَلِكَ الجُرَذُ حَتَّى بَثَقَ عَلَيْهِمُ السِكر فغَرَّقَ جِنانَهم.
والعُرامُ: وسَخُ القِدْرِ.
والعَرَمُ: وَسَخُ القِدْرِ.
وَرَجُلٌ أَعْرَمُ أَقْلَفُ: لَمْ يُخْتَنْ فكأَنَّ وَسَخَ القُلْفَةِ باقٍ هُنَالِكَ.
أَبو عَمْرٍو: العَرَامِينُ القُلْفانُ مِنَ الرِّجَالِ.
والعَرْمَةُ: بَيْضَة السِّلاح.
والعُرْمانُ: المَزارِعُ، وَاحِدُهَا عَرِيمٌ وأَعْرَمُ، والأَولُ أَسْوَغُ فِي الْقِيَاسِ لأَن فُعْلانًا لَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ أَفْعَلُ إِلا صِفةً.
وجَيْشٌ عَرَمْرَمٌ: كَثِيرٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْكَثِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
والعَرَمْرَمُ: الشديدُ؛ قَالَ:
أَدَارًا، بأَجْمادِ النَّعامِ، عَهِدْتُها ***بِهَا نَعَمًا حَوْمًا وعِزًّا عَرَمْرَما
وعُرامُ الجَيْشِ: كَثْرَتُه.
وَرَجُلٌ عَرَمْرَمٌ: شديدُ العُجْمةِ؛ عَنْ كُرَاعٍ.
والعَرِيمُ: الدَّاهِيَةُ.
الأَزهري: العُرْمانُ الأَكَرَةُ، واحدُهم أَعْرَمُ، وَفِي كتابِ أَقوالِ شَنُوأَةَ: مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مُلْكٍ وعُرْمانٍ؛ العُرْمانُ: المَزارِعُ، وَقِيلَ: الأَكَرَةُ، الواحدُ أَعْرَمُ، وَقِيلَ عَرِيمٌ؛ قَالَ الأَزهري: ونُونُ العُرْمانِ والعَرامينِ لَيْسَتْ بأَصلية.
يُقَالُ: رَجُلٌ أَعْرَمُ وَرِجَالٌ عُرْمانٌ ثُمَّ عَرامينُ جمعُ الْجَمْعِ، قَالَ: وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ لِجَمْعِ القِعْدانِ مِنَ الإِبل القَعادِينُ، والقِعْدانُ جمعُ القَعودِ، والقَعادينُ نظيرُ العَرامِينِ.
والعَرِمُ والمِعْذار: مَا يُرْفَعُ حَوْلَ الدَّبَرَةِ.
ابْنُ الأَعرابي: العَرَمةُ أَرضٌ صُلْبة إِلى جَنْبِ الصَّمَّانِ؛ قَالَ رُؤْبَةُ: " وعارِض العِرْض وأَعْناق العَرَمْ "قَالَ الأَزهري: العَرَمَة تُتاخِمُ الدَّهناءَ، وعارِضُ الْيَمَامَةِ يُقَابِلُهَا، قَالَ: وَقَدْ نزلتُ بِهَا.
وعارِمةُ: اسْمُ مَوْضِعٍ؛ قَالَ الأَزهري: عارِمةُ أَرضٌ مَعْرُوفَةٌ؛ قَالَ الرَّاعِي:
أَلم تَسْأَلْ بعارِمَة الدِّيارا، ***عَنِ الحَيِّ المُفارِقِ أَيْنَ سَارَا؟
والعُرَيْمَةُ، مُصَغَّرَةً: رملةٌ لِبَنِي فَزارةَ؛ وأَنشد الْجَوْهَرِيُّ لبِشْر بْنِ أَبي خَازِمٍ:
إِنَّ العُرَيْمَةَ مانِعٌ أَرْماحَنا ***مَا كَانَ مِنْ سَحَمٍ بِهَا وصَفارِ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هُوَ لِلنَّابِغَةِ الذُّبْياني وَلَيْسَ لبِشْرٍ كَمَا ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ، وَيُرْوَى: إِنَّ الدُّمَيْنَةَ، وَهِيَ ماءٌ لِبَنِي فَزارة.
والعَرَمةُ، بِالتَّحْرِيكِ: مُجْتَمَعُ رملٍ؛ أَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ:
حاذَرْنَ رَمْلَ أَيْلةَ الدَّهاسا، ***وبَطْنَ لُبْنى بَلَدًا حِرْماسا،
والعَرَماتِ دُسْتُها دِياسا "ابْنُ الأَعرابي: عَرْمى واللهِ لأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ، وغَرْمى وحَرْمى، ثَلَاثُ لُغَاتٍ بِمَعْنَى أَمَا واللهِ؛ وأَنشد:
عَرْمى وجَدِّكَ لَوْ وَجَدْتَ لَهم، ***كعَداوةٍ يَجِدونَها تَغلي
وَقَالَ بَعْضُ النَّمِريِّين: يُجْعَلُ فِي كُلِّ سُلْفةٍ منْ حَبٍّ عَرَمةٌ منْ دَمالٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا العَرَمةُ؟ فَقَالَ: جُثْوَةٌ مِنْهُ تَكُونُ مِزْبَلَين حِمْلَ بَقَرَتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وعارِمٌ سِجْنٌ؛ قَالَ كثيِّر:
تُحَدِّثُ مَنْ لاقَيْت أَنَّكَ عائذٌ، ***بَلِ العائذُ المَظْلومُ فِي سِجْنِ عارِمِ
وأَبو عُرامٍ: كُنْيةُ كَثيبٍ بالجِفار، وَقَدْ سَمَّوْا عارِمًا وعَرَّامًا.
وعَرْمان: أَبو قبيلة.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
155-لسان العرب (جنن)
جنن: جَنَّ الشيءَ يَجُنُّه جَنًّا: سَتَره.وكلُّ شَيْءٍ سُتر عَنْكَ فَقَدْ جُنَّ عَنْكَ.
وجَنَّه الليلُ يَجُنُّه جَنًّا وجُنونًا وجَنَّ عَلَيْهِ يَجُنُّ، بِالضَّمِّ، جُنونًا وأَجَنَّه: سَتَره؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: شاهدُ جَنَّه قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:
وَمَاءٍ ورَدْتُ عَلَى جِفْنِه، ***وَقَدْ جَنَّه السَّدَفُ الأَدْهَمُ
وَفِي الْحَدِيثِ: « جَنَّ عَلَيْهِ الليلُ »أَي ستَره، وَبِهِ سُمِّيَ الجِنُّ لاسْتِتارِهم واخْتِفائهم عَنِ الأَبصار، وَمِنْهُ سُمِّيَ الجَنينُ لاسْتِتارِه فِي بطنِ أُمِّه.
وجِنُّ اللَّيْلِ وجُنونُه وجَنانُه: شدَّةُ ظُلْمتِه وادْلِهْمامُه، وَقِيلَ: اختلاطُ ظلامِه لأَن ذَلِكَ كلَّه ساترٌ؛ قَالَ الْهُذَلِيُّ:
حَتَّى يَجيء، وجِنُّ اللَّيْلُ يُوغِلُه، ***والشَّوْكُ فِي وَضَحِ الرِّجْلَيْن مَرْكوزُ
وَيُرْوَى: وجُنْحُ اللَّيْلِ؛ وَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِمَّة بْنِ دَنْيَانَ وَقِيلَ هُوَ لِخُفافِ بْنِ نُدْبة:
وَلَوْلَا جَنانُ الليلِ أَدْرَكَ خَيْلُنا، ***بِذِي الرِّمْثِ والأَرْطَى، عياضَ بنَ نَاشِبِ
فَتَكْنا بعبدِ اللهِ خَيْرِ لِداتِه، ***ذِئاب بْنَ أَسْماءَ بنِ بَدْرِ بْنِ قارِب
وَيُرْوَى: وَلَوْلَا جُنونُ اللَّيْلِ أَي مَا سَتَر مِنْ ظُلْمَتِهِ.
وعياضُ بْنُ جَبَل: مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: عِيَاضُ بْنُ نَاشِبٍ فَزَارِيٌّ، وَيُرْوَى: أَدرَك رَكْضُنا؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَمِثْلُهُ لسَلامة بْنِ جَنْدَلٍ:
وَلَوْلَا جَنانُ الليلِ مَا آبَ عامرٌ ***إِلى جَعْفَرٍ، سِرْبالُه لَمْ تُمَزَّقِ
وَحُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ: الجَنانُ الليلُ.
الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا}؛ يُقَالُ جَنَّ عَلَيْهِ الليلُ وأَجَنَّه الليلُ إِذَا أَظلم حَتَّى يَسْتُرَه بظُلْمته.
وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا سَتر: جنَّ وأَجنَّ.
وَيُقَالُ: جنَّه الليلُ، والاختيارُ جَنَّ عَلَيْهِ الليلُوأَجَنَّه اللَّيْلُ: قَالَ ذَلِكَ أَبو إِسْحَاقَ.
واسْتَجَنَّ فلانٌ إِذَا استَتَر بِشَيْءٍ.
وجَنَّ المَيّتَ جَنًّا وأَجَنَّه: ستَره؛ قَالَ وَقَوْلُ الأَعشى:
وَلَا شَمْطاءَ لَمْ يَتْرُك شَفاها ***لَهَا مِنْ تِسْعةٍ، إِلّا جَنينا
فَسَّرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ فَقَالَ: يَعْنِي مَدْفونًا أَي قَدْ مَاتُوا كُلُّهُمْ فَجُنُّوا.
والجَنَنُ، بِالْفَتْحِ: هُوَ القبرُ لسَتْرِه الْمَيِّتَ.
والجَنَنُ أَيضًا: الكفَنُ لِذَلِكَ.
وأَجَنَّه: كفَّنَه؛ قَالَ:
مَا إنْ أُبالي، إِذَا مَا مُتُّ، مَا فعَلوا: ***أَأَحسنوا جَنَني أَم لَمْ يُجِنُّوني؟
أَبو عُبَيْدَةَ: جَنَنْتُه فِي الْقَبْرِ وأَجْنَنْتُه أَي وارَيتُه، وَقَدْ أَجنَّه إِذَا قبَره؛ قَالَ الأَعشى:
وهالِك أَهلٍ يُجِنُّونَه، ***كآخَرَ فِي أَهْلِه لَمْ يُجَنُ
والجَنينُ: المقبورُ.
وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: والجَنَنُ الْمَيِّتُ؛ قَالَ كُثَيّر:
وَيَا حَبَّذا الموتُ الكريهُ لِحُبِّها ***وَيَا حَبَّذا العيْشُ المُجمّلُ والجَنَنْ
قَالَ ابن بري: الجَنَنُ هاهنا يُحْتَمَلُ أَن يُرَادَ بِهِ الميتُ والقبرُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « وَليَ دَفْنَ سَيّدِنا رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإِجْنانَه عليٌّ والعباسُ، »أَي دَفْنه وسَتْرَه.
وَيُقَالُ لِلْقَبْرِ الجَنَنُ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَجْنانٍ؛ وَمِنْهُ حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جُعِل لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ أَجْنانٌ.
والجَنانُ، بِالْفَتْحِ: القَلْبُ لاستِتاره فِي الصَّدْرِ، وَقِيلَ: لِوَعْيه الأَشْياء وجَمْعِه لَهَا، وَقِيلَ: الجَنانُ رُوعُ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ أَذْهَبُ فِي الخَفاءِ، وَرُبَّمَا سُمِّيَ الرُّوحُ جَنانًا لأَن الْجِسْمَ يُجِنُّه.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: سُمِّيَتِ الرُّوح جَنانًا لأَن الْجِسْمَ يُجِنُّها فأَنَّث الرُّوحَ، وَالْجَمْعُ أَجْنانٌ؛ عَنِ ابْنِ جِنِّي.
وَيُقَالُ: مَا يستقرُّ جَنانُه مِنَ الفزَعِ.
وأَجَنَّ عَنْهُ واسْتَجَنَّ: استَتَر.
قَالَ شَمِرٌ: وَسُمِّيَ القلبُ جَنانًا لأَن الصدْرَ أَجَنَّه؛ وأَنشد لِعَدِيّ:
كلُّ حَيٍّ تَقودُه كفُّ هادٍ ***جِنَّ عينٍ تُعْشِيه مَا هُوَ لاقي
الهادي هاهنا: القَدَرُ.
قَالَ ابْنُ الأَعرابي: جِنَّ عينٍ أَي مَا جُنَّ عَنِ الْعَيْنِ فَلَمْ تَرَه، يَقُولُ: المَنيَّةُ مستورةٌ عَنْهُ حَتَّى يَقَعَ فِيهَا؛ قَالَ الأَزهري: الْهَادِي القَدَرُ هاهنا جَعَلَهُ هَادِيًا لأَنه تَقَدَّمَ المنيَّة وسبَقها، ونصبَ جِنَّ عينٍ بِفِعْلِهِ أَوْقَعَه عَلَيْهِ؛ وأَنشد: " وَلَا جِنَّ بالبَغْضاءِ والنَّظَرِ الشَّزْرِ ".
وَيُرْوَى: وَلَا جَنَّ، مَعْنَاهُمَا وَلَا سَتْر.
وَالْهَادِي: الْمُتَقَدِّمُ، أَراد أَن القَدَر سابقُ المنيَّةِ المقدَّرة؛ وأَما قَوْلُ مُوسَى بْنُ جَابِرٍ الحَنفيّ:
فَمَا نَفَرتْ جِنِّي وَلَا فُلَّ مِبْرَدي، ***وَلَا أَصْبَحَتْ طَيْري مِنَ الخَوْفِ وُقَّعا
فَإِنَّهُ أَراد بالجِنّ القَلْبَ، وبالمِبْرَدِ اللسانَ.
والجَنينُ: الولدُ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمّه لاسْتِتاره فِيهِ، وجمعُه أَجِنَّةٌ وأَجْنُنٌ، بِإِظْهَارِ التَّضْعِيفِ، وَقَدْ جَنَّ الجنينُ فِي الرَّحِمِ يَجِنُّ جَنًّا وأَجَنَّتْه الحاملُ؛ وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
إِذَا غابَ نَصْرانِيُّه فِي جَنِينِها، ***أَهَلَّتْ بحَجٍّ فَوْقَ ظهْر العُجارِم
عَنَى بِذَلِكَ رَحِمَها لأَنها مُسْتَتِرة، وَيُرْوَى: إِذَا غَابَ نَصْرانيه فِي جَنِيفِهَا، يَعْنِي بالنَّصْرانيّ، ذكَر "الْفَاعِلِ لَهَا مِنَ النَّصَارَى، وبجَنِيفِها: حِرَها، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ جَنيفًا لأَنه جزءٌ مِنْهَا، وَهِيَ جَنيفة، وَقَدْ أَجَنَّت المرأَة وَلَدًا؛ وَقَوْلُهُ أَنشد ابْنُ الأَعرابي: " وجَهَرتْ أَجِنَّةً لَمْ تُجْهَرِ.
يَعْنِي الأَمْواهَ المُنْدَفِنةَ، يَقُولُ: وردَت هَذِهِ الإِبلُ الماءَ فكسَحَتْه حَتَّى لَمْ تدعْ مِنْهُ شَيْئًا لِقِلَّتِه.
يُقَالُ: جهَرَ البئرَ نزحَها.
والمِجَنُّ: الوِشاحُ.
والمِجَنُّ: التُّرْسُ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأُرى اللِّحْيَانِيَّ قَدْ حَكَى فِيهِ المِجَنَّة وَجَعَلَهُ سِيبَوَيْهِ فِعَلًّا، وَسَنَذْكُرُهُ، وَالْجَمْعُ المَجانُّ، بِالْفَتْحِ.
وَفِي حَدِيثِ السَّرِقَةِ: « القَطْعُ فِي ثَمَنِ المِجَنِ، هُوَ التُّرْسُ لأَنه يُواري حاملَه»؛ أي يَسْتُره، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ: وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كرَّم اللَّهُ وجهَه: كَتَبَ إليَّ ابنُ عباسٍ قلَبْتَ لابنِ عَمِّكَ ظَهْرَ المِجَنِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَذِهِ كَلِمَةٌ تُضْرَب مَثَلًا لِمَنْ كَانَ لِصَاحِبِهِ عَلَى مودَّة أَو رعايةٍ ثُمَّ حالَ عَنْ ذَلِكَ.
ابْنُ سِيدَهْ: وقَلَبْ فلانٌ مِجَنَّة أَي أَسقَط الحياءَ وفعَل مَا شاءَ.
وقلَبَ أَيضًا مِجَنَّة: ملَك أَمرَه واستبدَّ بِهِ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
كَيْفَ تَرَانِي قالِبًا مِجَنِّي؟ ***أَقْلِبُ أَمْري ظَهْرَه للبَطْنِ
وَفِي حَدِيثِ أَشراطِ الساعةِ: « وُجوهُهم كالمَجانِّ المُطْرَقة »، يَعْنِي التُّرْكَ.
والجُنَّةُ، بِالضَّمِّ: مَا واراكَ مِنَ السِّلاح واسْتَتَرْتَ بِهِ مِنْهُ.
والجُنَّةُ: السُّتْرة، وَالْجَمْعُ الجُنَنُ.
يُقَالُ: اسْتَجَنَّ بجُنَّة أَي اسْتَتَر بسُتْرة، وَقِيلَ: كلُّ مستورٍ جَنِينٌ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ حِقْدٌ جَنينٌ وضِغْنٌ جَنينٌ؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:
يُزَمِّلونَ جَنِينَ الضِّغْن بينهمُ، ***والضِّغْنُ أَسْوَدُ، أَو فِي وجْهِه كَلَفُ
يُزَمِّلون: يَسْتُرون ويُخْفُون، والجَنينُ: المَسْتُورُ فِي نُفُوسِهِمْ، يَقُولُ: فَهُمْ يَجْتَهِدون فِي سَتْرِه وَلَيْسَ يَسْتَتِرُ، وَقَوْلُهُ الضِّغْنُ أَسْوَدُ، يَقُولُ: هُوَ بيِّنٌ ظاهرٌ فِي وُجُوهِهِمْ.
وَيُقَالُ: مَا عليَّ جَنَنٌ إِلَّا مَا تَرى أَي مَا عليَّ شيءٌ يُواريني، وَفِي الصِّحَاحِ: مَا عليَّ جَنانٌ إِلَّا مَا تَرى أَي ثوبٌ يُوارِيني.
والاجْتِنان؛ الاسْتِتار.
والمَجَنَّة: الموضعُ الَّذِي يُسْتَتر فِيهِ.
شَمِرٌ: الجَنانُ الأَمر الْخَفِيُّ؛ وأَنشد:
اللهُ يَعْلَمُ أَصحابي وقولَهمُ ***إِذْ يَرْكَبون جَنانًا مُسْهَبًا وَرِبا
أَي يَرْكبون أَمْرًا مُلْتَبِسًا فَاسِدًا.
وأَجْنَنْتُ الشَّيْءَ فِي صَدْرِي أَي أَكْنَنْتُه.
وَفِي الْحَدِيثِ: « تُجِنُّ بَنانَه» أَي تُغَطِّيه وتَسْتُره.
والجُّنَّةُ: الدِّرْعُ، وَكُلُّ مَا وَقاك جُنَّةٌ.
والجُنَّةُ: خِرْقةٌ تَلْبسها المرأَة فتغطِّي رأْسَها مَا قبَلَ مِنْهُ وَمَا دَبَرَ غيرَ وسَطِه، وتغطِّي الوَجْهَ وحَلْيَ الصَّدْرِ، وَفِيهَا عَيْنانِ مَجُوبتانِ مِثْلَ عيْنَي البُرْقُع.
وَفِي الْحَدِيثِ: « الصومُ جُنَّةٌ» أَي يَقي صاحبَه مَا يؤذِيه مِنَ الشَّهَوَاتِ.
والجُنَّةُ: الوِقايةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الإِمامُ جُنَّةٌ، لأَنه يَقِي المأْمومَ الزَّلَلَ والسَّهْوَ.
وَفِي حَدِيثِ الصَّدَقَةِ: « كمِثْل رجُلين عَلَيْهِمَا جُنَّتانِ مِنْ حديدٍ »أَي وِقايَتانِ، وَيُرْوَى بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، تَثْنِية جُبَّةِ اللِّبَاسِ.
وجِنُّ النَّاسِ وجَنانُهم: مُعْظمُهم لأَن الداخلَ فِيهِمْ يَسْتَتِر بِهِمْ؛ قَالَ ابْنُ أَحمر:
جَنانُ المُسْلِمين أَوَدُّ مَسًّا ***وَلَوْ جاوَرْت أَسْلَمَ أَو غِفارا
وَرَوِيَ: وَإِنْ لاقَيْت أَسْلَم أَو غِفَارَا.
قَالَ الرِّياشي فِي مَعْنَى بَيْتِ ابْنِ أَحمر: قَوْلُهُ أَوَدُّ مَسًّا أَي أَسهل لَكَ، يَقُولُ: إِذَا نَزَلْتَ الْمَدِينَةَ فَهُوَ خيرٌ لَكَ مِنْ جِوار أَقارِبك، وَقَدْ أَورد بَعْضُهُمْ هَذَا الْبَيْتَ شَاهِدًا للجَنان السِّتْر؛ ابْنُ الأَعرابي: جَنانُهم جماعتُهم وسَوادُهم، وجَنانُ النَّاسِ دَهْماؤُهم؛ أَبو عَمْرٍو: جَنانُهم مَا سَتَرك مِنْ شَيْءٍ، يَقُولُ: أَكون بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ خيرٌ لِي، قَالَ: وأَسْلَمُ وَغِفَارُ خيرُ النَّاسِ جِوارًا؛ وَقَالَ الرَّاعِي يَصِفُ العَيْرَ:
وهابَ جَنان مَسْحورٍ تردَّى ***بِهِ الحَلْفاء، وأْتَزَر ائْتِزارا
قَالَ: جَنَانُهُ عَيْنُهُ وَمَا وَارَاهُ.
والجِنُّ: ولدُ الْجَانِّ.
ابْنُ سِيدَهْ: الجِنُّ نوعٌ مِنَ العالَم سمُّوا بِذَلِكَ لاجْتِنانِهم عَنِ الأَبصار ولأَنهم اسْتَجَنُّوا مِنَ النَّاسِ فَلَا يُرَوْن، وَالْجَمْعُ جِنانٌ، وَهُمُ الجِنَّة.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}؛ قَالُوا: الجِنَّةُ هاهنا الملائكةُ عِنْدَ قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا، قَالَ: يقال الجِنَّةُ هاهنا الْمَلَائِكَةُ، يَقُولُ: جَعَلُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِه نَسَبًا فَقَالُوا الملائكةُ بناتُ اللَّهِ، وَلَقَدْ عَلِمَت الجِنَّةُ أَن الَّذِينَ قَالُوا هَذَا القولَ مُحْضَرون فِي النَّارِ.
والجِنِّيُّ: منسوبٌ إِلَى الجِنِّ أَو الجِنَّةِ.
والجِنَّةُ: الجِنُّ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: التأْويلُ عِنْدِي قَوْلُهُ تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ}، الَّذِي هُوَ مِنِ الجِن، وَالنَّاسِ مَعْطُوفٌ عَلَى الوَسْوَاس، الْمَعْنَى مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ وَمِنْ شَرِّ النَّاسِ.
الْجَوْهَرِيُّ: الجِنُّ خِلَافُ الإِنسِ، وَالْوَاحِدُ جنِّيٌّ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنها تَخْفَى وَلَا تُرَى.
جُنَّ الرجلُ جُنونًا وأَجنَّه اللهُ، فَهُوَ مجنونٌ، وَلَا تَقُلْ مُجَنٌّ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ:
رأَت نِضْوَ أَسْفار أُمَيَّةُ شاحِبًا، ***عَلَى نِضْوِ أَسْفارٍ، فَجُنَّ جُنونُها،
فَقَالَتْ: مِنَ أَيِّ الناسِ أَنتَ ومَن تَكُنْ؟ ***فإِنك مَوْلى أُسْرةٍ لَا يَدِينُها
وَقَالَ مُدرك بْنُ حُصين:
كأَنَّ سُهَيْلًا رامَها، وكأَنها ***حَليلةُ وخْمٍ جُنَّ مِنْهُ جُنونها
وَقَوْلُهُ:
ويَحَكِ يَا جِنِّيَّ، هَلْ بَدا لكِ ***أَن تَرْجِعِي عَقْلي، فَقَدْ أَنَى لكِ؟
إِنما أَراد مَرْأَة كالجِنِّيَّة إمَّا فِي جِمَالِهَا، وَإِمَّا فِي تلَوُّنِها وابتِدالها؛ وَلَا تَكُونُ الجِنِّيَّة هُنَا مَنْسُوبَةً إِلَى الجِنِّ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الإِنس حَقِيقَةً، لأَن هَذَا الشَّاعِرَ المتغزِّلَ بِهَا إنْسيٌّ، والإِنسيُّ لَا يَتعشَّقُ جنِّيَّة؛ وَقَوْلُ بَدْرِ بْنِ عَامِرٍ:
وَلَقَدْ نطَقْتُ قَوافِيًا إنْسِيّةً، ***وَلَقَدْ نَطقْتُ قَوافِيَ التَّجْنينِ
أَراد بالإِنْسِيَّة الَّتِي تَقُولُهَا الإِنْسُ، وأَراد بالتَّجْنينِ مَا تقولُه الجِنُّ؛ وَقَالَ السُّكَّرِيُّ: أَراد الغريبَ الوَحْشِيّ.
اللَّيْثُ: الجِنَّةُ الجُنونُ أَيضًا.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}؛ والاسمُ والمصدرُ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُقَالُ: بِهِ جِنَّةٌ وجنونٌ ومَجَنَّة؛ وأَنشد:
مِنَ الدَّارِميّينَ الَّذِينَ دِماؤُهم ***شِفاءٌ مِنَ الداءِ المَجَنَّة والخَبْل
والجِنَّةُ: طائفُ الجِنِّ، وَقَدْ جُنَّ جَنًّا وجُنونًا واسْتُجِنَّ؛ قَالَ مُلَيح الهُذَليّ:
فلمْ أَرَ مِثْلي يُسْتَجَنُّ صَبابةً، ***مِنَ البَيْن، أَو يَبْكي إِلَى غَيْرِ واصِلِ
وتَجَنَّن عَلَيْهِ وتَجانَّ وتجانَنَ: أَرَى مِنْ نفسِه أَنه مجنونٌ.
وأَجَنَّه اللَّهُ، فَهُوَ مَجْنُونٌ، عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَذَلِكَ لأَنهم يَقُولُونَ جُنَّ، فبُني المفعولُ مِنْ أَجنَّه اللَّهُ عَلَى هَذَا، وَقَالُوا: مَا أَجنَّه؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَعَ التعجبُ مِنْهُ بِمَا أَفْعَلَه، وَإِنْ كَانَ كالخُلُق لأَنه لَيْسَ بِلَوْنٍ فِي الْجَسَدِ وَلَا بِخِلْقة فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نقْصان الْعَقْلِ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: جُنَّ الرجلُ وَمَا أَجنَّه، فَجَاءَ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ صِيغَةِ فِعل الْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا التَّعَجُّبُ مِنْ صِيغَةِ فِعْل الْفَاعِلِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا ونحوُه شاذٌّ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَوْلُهُمْ فِي المَجْنون مَا أَجَنَّه شاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، لأَنه لَا يُقَالُ فِي الْمَضْرُوبِ مَا أَضْرَبَه، وَلَا في المَسْؤول ما أَسْأَلَه.
والجُنُنُ، بِالضَّمِّ: الجُنونُ، محذوفٌ مِنْهُ الواوُ؛ قَالَ يَصِفُ النَّاقَةَ:
مِثْل النَّعامةِ كَانَتْ، وَهْيَ سائمةٌ، ***أَذْناءَ حَتَّى زَهاها الحَيْنُ والجُنُنُ
جَاءَتْ لِتَشْرِيَ قَرْنًا أَو تُعَوِّضَه، ***والدَّهْرُ فِيهِ رَباحُ البَيْع والغَبَنُ
فقيل، إذْ نال ظُلْمٌ ثُمَّتَ، اصْطُلِمَتْ ***إِلَى الصِّماخِ، فَلَا قَرْنٌ وَلَا أُذُنُ
والمَجَنَّةُ: الجُنُونُ.
والمَجَنَّةُ: الجِنُّ.
وأَرضُ مَجَنَّةٌ: كثيرةُ الجِنِّ؛ وَقَوْلُهُ:
عَلَى مَا أَنَّها هَزِئت وَقَالَتْ ***هَنُون أَجَنَّ مَنْشاذا قَرِيبُ
أَجَنَّ: وَقَعَ فِي مَجَنَّة، وَقَوْلُهُ هَنُون، أَراد يَا هَنُونُ، وَقَوْلُهُ مَنْشاذا قَرِيبُ، أَرادت أَنه صغيرُ السِّنّ تَهْزَأ به، وما زَائِدَةٌ أَي عَلَى أَنها هَزِئَت.
ابْنُ الأَعرابي: باتَ فلانٌ ضَيْفَ جِنٍّ أَي بِمَكَانٍ خالٍ لَا أَنيس بِهِ؛ قَالَ الأَخطل فِي مَعْنَاهُ: " وبِتْنا كأَنَّا ضَيْفُ جِنٍّ بِلَيْلة.
والجانُّ: أَبو الجِنِّ خُلق مِنْ نَارٍ ثُمَّ خُلِقَ مِنْهُ نَسْلُه.
والجانُّ: الجنُّ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ كالجامِل والباقِر.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}.
وقرأَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَل عَنْ ذَنْبِه إنْسٌ قَبْلَهم وَلَا جأَنٌ، بِتَحْرِيكِ الأَلف وقَلْبِها هَمْزَةً، قَالَ: وَهَذَا عَلَى قراءة أَيوب السَّخْتِيالي: وَلَا الضَّأَلِّين "، وَعَلَى مَا حَكَاهُ أَبو زَيْدٍ عَنْ أَبي الأَصبغ وَغَيْرِهِ: شأَبَّة ومأَدَّة؛ وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: " خاطِمَها زأَمَّها أَن تَذْهَبا.
وَقَوْلُهُ: وجلَّه حَتَّى ابْيَأَضَّ مَلْبَبُهْ وَعَلَى مَا أَنشده أَبو عَلِيٍّ لكُثيّر:
وأَنتَ، ابنَ لَيْلَى، خَيْرُ قَوْمِكَ مَشْهدًا، ***إذا مَا احْمأَرَّت بالعَبِيطِ العَوامِلُ
وَقَوْلُ عِمْران بْنِ حِطَّان الحَرُورِيّ:
قَدْ كنتُ عندَك حَوْلًا لَا تُرَوِّعُني ***فِيهِ رَوائع مِنْ إنْسٍ وَلَا جَانِي
إِنَّمَا أَراد مِنْ إنسٍ وَلَا جانٍّ فأَبدل النونَ الثَّانِيَةَ يَاءً؛ وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: بَلْ حَذَفَ النونَ الثَّانِيَةَ تَخْفِيفًا.
وَقَالَ أَبو إِسْحَقَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ}؛ " رُوِيَ أَن خَلْقًا يُقَالُ لَهُمُ الجانُّ كَانُوا فِي الأَرض فأَفسَدوا فِيهَا وسفَكوا الدِّماء فَبَعَثَ
لَا يَنْفُخُ التَّقْريبُ مِنْهُ الأَبْهَرا، ***إِذَا عَرَتْه جِنُّه وأَبْطَرا
قَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ جُنونَ مَرَحِه، وَقَدْ يكونُ الجِنُّ هُنَا هَذَا النَّوْعَ المُسْتَتِر عَنِ العَين أَي كأَنَّ الجِنَّ تَسْتَحِثُّه ويُقوِّيه قولُه عَرَتْه لأَن جنَّ المرَح لَا يؤَنَّث إِنَّمَا هُوَ كجُنونه، وَتَقُولُ: افْعَلْ ذَلِكَ الأَمرَ بجِنِّ ذَلِكَ وحِدْثانِه وجِدِّه؛ بجِنِّه أَي بحِدْثانِه؛ قَالَ الْمُتَنَخِّلُ الْهُذَلِيُّ:
كالسُّحُل البيضِ جَلا لَوْنَها ***سَحُّ نِجاءِ الحَمَلِ الأَسْوَلِ
أَرْوَى بجِنِّ العَهْدِ سَلْمَى، وَلَا ***يُنْصِبْكَ عَهْدُ المَلِقِ الحُوَّلِ
يُرِيدُ الغيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا الْبَيْتِ، يَقُولُ: سَقَى هَذَا الغيثُ سَلْمى بحِدْثانِ نُزولِه مِنَ السَّحَابِ قَبْل تغيُّره، ثُمَّ نَهَى نفسَه أَن يُنْصِبَه حُبُّ مَنْ هُوَ مَلِقٌ.
يَقُولُ: مَنْ كَانَ مَلِقًا ذَا تَحوُّلٍ فَصَرَمَكَ فَلَا ينْصِبْكَ صَرْمُه.
وَيُقَالُ: خُذ الأَمرَ بجِنِّه واتَّقِ الناقةَ فإِنها بجِنِّ ضِراسِها أَي بحِدْثانِ نتاجِها.
وجِنُّ النَّبْتِ: زَهْرُه ونَوْرُه، وَقَدْ تجنَّنَتْ الأَرضُ وجُنَّتْ جُنونًا؛ قَالَ:
كُوم تَظاهرَ نِيُّها لَمَّا رَعَتْ ***رَوْضًا بِعَيْهَمَ والحِمَى مَجْنونًا
وَقِيلَ: جُنَّ النَّبْتُ جُنونًا غلُظ واكْتَهل.
وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: نَخْلَةٌ مَجْنونة إِذَا طَالَتْ؛ وأَنشد:
يَا رَبِّ أَرْسِلْ خارِفَ المَساكِينْ ***عَجاجةً ساطِعَةَ العَثانِينْ
تَنْفُضُ مَا فِي السُّحُقِ المَجانِينْ ".
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يَعْنِي بخارفِ الْمَسَاكِينِ الريحَ الشديدةَ الَّتِي تنفُض لَهُمْ التَّمْرَ من رؤُوس النَّخْلِ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
أَنا بارِحُ الجَوْزاءِ، مَا لَك لَا تَرى ***عِيالَكَ قَدْ أَمْسَوا مَرامِيلَ جُوَّعًا؟
الْفَرَّاءُ: جُنَّت الأَرض إِذَا قاءتْ بِشَيْءٍ مُعْجِبٍ؛ وَقَالَ الْهُذَلِيُّ:
أَلَمَّا يَسْلم الجِيرانُ مِنْهُمْ، ***وَقَدْ جُنَّ العِضاهُ مِنَ العَميم
ومرَرْتُ عَلَى أَرضِ هادِرة مُتَجَنِّنة: وَهِيَ الَّتِي تُهال مِنْ عُشْبِهَا وَقَدْ ذَهَبَ عُشْبها كلَّ مَذْهَبٍ.
وَيُقَالُ: جُنَّت الأَرضُ جُنونًا إِذَا اعْتَمَّ نَبْتُهَا؛ قَالَ ابْنُ أَحمر:
تَفَقَّأَ فوقَه القَلَعُ السَّواري، ***وجُنَّ الخازِبازِ بِهِ جُنونا
جُنونُه: كثرةُ تَرَنُّمه فِي طَيَرانِه؛ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الخازِبازِ نَبْتٌ، وَقِيلَ: هُوَ ذُبابٌ.
وَجُنُونُ الذُّباب: كثرةُ تَرَنُّمِه.
وجُنَّ الذُّبابُ أَي كثُرَ صَوْتُهُ.
وجُنونُ النَّبْت: التفافُه؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ: " وطالَ جنُّ السَّنامِ الأَمْيَلِ.
أَراد تُمُوكَ السَّنامِ وطولَه.
وجُنَّ النبتُ جُنونًا أَي طالَ والْتَفَّ وَخَرَجَ زَهْرُهُ؛ وَقَوْلُهُ: " وجُنَّ الخازِبازِ بِهِ جُنونا.
يَحْتَمِلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
أَبو خَيْرَةَ: أَرضٌ مجنونةٌ مُعْشِبة لَمْ يَرْعَها أَحدٌ.
وَفِي التَّهْذِيبِ: شَمِرٌ عَنِ ابْنِ الأَعرابي: يُقَالُ لِلنَّخْلِ الْمُرْتَفِعُ طُولًا مجنونٌ، وللنبتِ الملتَفّ الْكَثِيفِ الَّذِي قَدْ تأَزَّرَ بعضُه فِي بَعْضٍ مجنونٌ.
والجَنَّةُ: البُسْتانُ، وَمِنْهُ الجَنّات، والعربُ تسمِّي النخيلَ جنَّةً؛ قَالَ زُهَيْرٌ:
كأَنَّ عينيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلةٍ، ***مِنَ النَّواضِح، تَسْقي جَنَّةً سُحُقًا
والجَنَّةُ: الحَديقةُ ذَاتُ الشَّجَرِ وَالنَّخْلِ، وَجَمْعُهَا جِنان، وَفِيهَا تَخْصِيصٌ، وَيُقَالُ لِلنَّخْلِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ أَبو عَلِيٍّ فِي التَّذْكِرَةِ: لَا تَكُونُ الجَنَّة فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا وَفِيهَا نخلٌ وعنبٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذَلِكَ وَكَانَتْ ذَاتَ شَجَرٍ فَهِيَ حَدِيقَةٌ وَلَيْسَتْ بجَنَّةٍ، وَقَدْ وَرَدَ ذكرُ الجَنَّة فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ وَالْحَدِيثِ الْكَرِيمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
والجَنَّةُ: هِيَ دارُ النَّعِيمِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، مِنَ الاجْتنان، وَهُوَ السَّتْر لتَكاثُفِ أَشْجارِها وَتَظْلِيلِهَا بالتِفافِ أَغصانِها، قَالَ: وَسُمِّيَتْ بالجَنَّة وَهِيَ المرَّة الْوَاحِدَةُ مِنَ مَصْدر جَنَّه جَنًّا إِذَا ستَرَه، فكأَنها ستْرةٌ واحدةٌ لشدَّةِ التِفافِها وإظْلالِها؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ابْنُ الأَعرابي وزعمَ أَنه لِلْبِيدٍ:
دَرَى باليَسَارَى جَنَّةً عَبْقَرِيَّةً، ***مُسَطَّعةَ الأَعْناق بُلْقَ القَوادِم
قَالَ: يَعْنِي بالجَنَّة إِبِلًا كالبُسْتان، ومُسطَّعة: مِنَ السِّطاع وَهِيَ سِمةٌ فِي الْعُنُقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَنه جِنَّة، بِالْكَسْرِ، لأَنه قَدْ وُصِفَ بِعَبْقَرِيَّةٍ أَي إِبِلًا مِثْلَ الجِنة فِي حِدَّتها وَنِفَارِهَا، عَلَى أَنه لَا يَبْعُدُ الأَول، وَإِنْ وَصَفَهَا بِالْعَبْقَرِيَّةِ، لأَنه لَمَّا جَعَلَهَا جَنَّة اسْتَجازَ أَن يَصِفَها بِالْعَبْقَرِيَّةِ، قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَعْنِيَ بِهِ مَا أَخرج الربيعُ مِنْ أَلوانِها وأَوبارها وَجَمِيلِ شارَتِها، وَقَدْ قِيلَ: كلُّ جَيِّدٍ عَبْقَرِيٌّ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَن يوصَف بِهِ الجِنَّة وأَن يُوصَفَ بِهِ الجَنَّة.
والجِنِّيَّة: ثِيَابٌ مَعْرُوفَةٌ.
والجِنِّيّةُ: مِطْرَفٌ مُدَوَّرٌ عَلَى خِلْقة الطَّيْلَسان تَلْبَسُها النِّسَاءُ.
ومَجَنَّةُ: موضعٌ؛ قَالَ فِي الصِّحَاحِ: المَجَنَّةُ اسمُ مَوْضِعٍ عَلَى أَميال مِنْ مَكَّةَ؛ وَكَانَ بِلالٌ يتمثَّل بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَلا ليْتَ شِعْري هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ***بمكةَ حَوْلي إِذْخِرٌ وجَليلُ؟
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِياهَ مَجَنَّةٍ؟ ***وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شامةٌ وطَفيلُ؟
وَكَذَلِكَ مِجَنَّة؛ وَقَالَ أَبو ذؤَيب:
فوافَى بِهَا عُسْفانَ، ثُمَّ أَتى بِهَا ***مِجَنَّة، تَصْفُو فِي القِلال وَلَا تَغْلي
قَالَ ابْنُ جِنِّي: يَحْتَمِلُ مَجَنَّةُ وَزْنَين: أَحدهما أَن يَكُونَ مَفْعَلة مِنَ الجُنون كأَنها سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِشَيْءٍ يَتَّصِلُ بالجِنِّ أَو بالجَنَّة أَعني البُسْتان أَو مَا هَذَا سَبيلُه، وَالْآخَرُ أَن يَكُونَ فَعَلَّةً مِنَ مَجَنَ يَمْجُن كأَنها سمِّيت بِذَلِكَ لأَن ضَرْبًا مِنَ المُجون كَانَ بِهَا، هَذَا مَا توجبُه صنعةُ عِلْمِ الْعَرَبِ، قَالَ: فأَما لأَيِّ الأَمرَينِ وَقَعَتِ التَّسْمِيَةُ فَذَلِكَ أَمرٌ طَرِيقُهُ الْخَبَرُ، وَكَذَلِكَ الجُنَيْنة؛ قَالَ:
مِمَّا يَضُمُّ إِلَى عِمْرانَ حاطِبُه، ***مِنَ الجُنَيْنَةِ، جَزْلًا غيرَ مَوْزون
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَتْ مَجَنَّةٌ وَذُو المَجاز وعُكاظ أَسواقًا فِي الجاهليَّة.
والاسْتِجْنانُ: الاسْتِطْراب.
والجَناجِنُ: عِظامُ الصَّدْرِ، وقيل: رؤُوسُ الأَضْلاع، يَكُونُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وغيرهم؛ قال الأَسَقَرُ الجُعْفِيّ:
لَكِنْ قَعِيدةَ بَيْتِنا مَجْفُوَّةٌ، ***بادٍ جَناجِنُ صَدْرِها وَلَهَا غِنا
وَقَالَ الأَعشى:
أَثَّرَتْ فِي جَناجِنٍ، كإِران المَيْت، ***عُولِينَ فوقَ عُوجٍ رِسالِ
وَاحِدُهَا جِنْجِنٌ وجَنْجَنٌ، وَحَكَاهُ الْفَارِسِيُّ بِالْهَاءِ وَغَيْرِ الْهَاءِ: جِنْجِن وجِنْجِنة؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَدْ يُفْتَحُ؛ قَالَ رُؤْبَةُ: " وَمِنْ عَجارِيهنَّ كلُّ جِنْجِن.
وَقِيلَ: وَاحِدُهَا جُنْجون، وَقِيلَ: الجَناجِنُ أَطرافُ الأَضلاع مِمَّا يَلِي قَصَّ الصَّدْرِ وعَظْمَ الصُّلْب.
والمَنْجَنُونُ: الدُّولابُ الَّتِي يُسْتَقى عَلَيْهَا، نَذْكُرُهُ فِي مَنْجَنَ فإِن الْجَوْهَرِيَّ ذَكَرَهُ هُنَا، وردَّه عَلَيْهِ ابنُ الأَعرابي وَقَالَ: حقُّه أَن يُذْكَرَ فِي مَنْجَنَ لأَنه رباعي، وسنذكره هناك.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
156-لسان العرب (هدي)
هدي: مِنْ أَسماء اللَّهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ: الهَادِي؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هُوَ الَّذِي بَصَّرَ عِبادَه وعرَّفَهم طَريقَ مَعْرِفَتِهِ حَتَّى أَقرُّوا برُبُوبيَّته، وهَدى كُلَّ مَخْلُوقٍ إِلى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي بَقائه ودَوام وجُوده.ابْنُ سِيدَهْ: الهُدى ضِدُّ الضَّلَالِ وَهُوَ الرَّشادُ، وَالدَّلَالَةُ أُنثى، وَقَدْ حُكِيَ فِيهَا التَّذْكِيرُ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِيَزِيدَ بْنُ خَذَّاقٍ:
وَلَقَدْ أَضاءَ لَكَ الطرِيقُ وأَنْهَجَتْ ***سُبُلُ المَكارِمِ، والهُدَى تُعْدِي
قَالَ ابْنُ جِنِّي: قَالَ اللِّحْيَانِيُّ الهُدَى مُذَكَّرٌ، قَالَ: وَقَالَ الْكِسَائِيُّ بَعْضُ بَنِي أَسد يُؤَنِّثُهُ، يَقُولُ: هَذِهِ هُدًى مُسْتَقِيمَةٌ.
قَالَ أَبو إِسحاق: قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى}؛ أَي الصِّراط الَّذِي دَعا إِليه هُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى}؛ أَي إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ طريقَ الهُدَى مِنْ طَرِيق الضَّلال.
وَقَدْ هَداه هُدًى وهَدْيًا وهِدَايةً وهِديَةً وهَداه للدِّين هُدًى وهَداه يَهْدِيه فِي الدِّين هُدًى.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ}؛ أَي بَيَّنَّا لَهُمْ طَرِيقَ الهُدى وَطَرِيقَ الضَّلَالَةِ فاسْتَحَبُّوا أَي آثرُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الهُدَى.
اللِّيْثُ: لُغَةُ أَهل الغَوْرِ هَدَيْتُ لَكَ فِي مَعْنَى بَيَّنْتُ لَكَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ}؛ قَالَ أَبو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: أَوَلم يُبَيِّنْ لَهُمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه قَالَ لِعَلِيٍّ سَلِ اللهَ الهُدَى، وَفِي رِوَايَةٍ: قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وسَدِّدْني وَاذْكُرْ بالهُدَى هِدايَتك الطريقَ وبالسَّدادِ تَسْدِيدَك السَّهْمَ »؛ وَالْمَعْنَى إِذا سأَلتَ اللَّهَ الهُدَى فأَخْطِر بقَلْبك هِدايةَ الطَّريق وسَلِ اللَّهَ الْاسْتِقَامَةَ فِيهِ كَمَا تتَحَرَّاه فِي سُلوك الطَّرِيقِ، لأَنَّ سالكَ الفَلاة يَلزم الجادّةَ وَلَا يُفارِقُها خَوْفًا مِنَ الضَّلَالِ، وَكَذَلِكَ الرَّامِي إِذا رَمَى شَيْئًا سَدَّد السَّهم نَحْوَهُ ليُصِيبه، فأَخْطِر ذَلِكَ بِقَلْبِكَ لِيَكُونَ مَا تَنْويه مِنَ الدُّعاء عَلَى شَاكِلَةِ مَا تَسْتَعْمِلُهُ فِي الرَّمْيِ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}؛ مَعْنَاهُ خَلَق كلَّ شَيْءٍ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي بِهَا يُنْتَفَعُ وَالَّتِي هِيَ أَصْلَحُ الخَلْقِ لَهُ ثُمَّ هَدَاهُ لمَعِيشته، وَقِيلَ: ثُمَّ هَداه لموضعِ مَا يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ، والأَوَّل أَبين وأَوضح، وَقَدْ هُدِيَ فاهْتَدَى.
الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ}؛ يُقَالُ: هَدَيْتُ للحَقِّ وهَدَيْت إِلى الْحَقِّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لأَنَّ هَدَيْت يَتَعدَّى إِلى المَهْدِيّين، والحقُّ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ، الْمَعْنَى: قُلِ اللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ لِلْحَقِّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « سُنَّة الخُلفاء الرَّاشِدِين المَهْدِيّينَ »؛ المَهْدِيُّ: الَّذِي قَدْ هَداه اللَّهُ إِلى الْحَقِّ، وَقَدِ اسْتُعْمِل فِي الأَسماء حَتَّى صَارَ كالأَسماء الْغَالِبَةِ، وَبِهِ سُمي المهْدِيُّ الَّذِي بَشَّر بِهِ النبيُّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَنه يَجِيءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَيُرِيدُ بِالْخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وإِن كَانَ عَامًّا فِي كُلِّ مَنْ سَارَ سِيرَتَهم، وَقَدْ تَهَدَّى إِلى الشَّيْءِ واهْتَدَى.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً}؛ قِيلَ: بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَقِيلَ: بأَن يَجْعَلَ جَزَاءَهُمْ أَن يَزِيدَهُمْ فِي يَقِينِهِمْ هُدًى كَمَا أَضَلَّ الفاسِق بِفِسْقِهِ، وَوَضْعُ الهُدَى مَوْضِعَ الاهْتداء.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: تابَ مِنْ ذَنْبِهِ وَآمَنَ برَبِّهِ ثُمَّ اهْتَدَى أَي أَقامَ عَلَى الإِيمان، وهَدَى واهْتَدَى بِمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ لَا يَهْتدِي.
وَقَوْلُهُ تعالى: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى}، بِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فِيمَنْ قرأَ بِهِ، فإِن ابْنِ جِنِّي قَالَ: لَا يَخْلُو مِنْ أَحد أَمرين: إِما أَن تَكُونَ الْهَاءُ مُسَكَّنَةً الْبَتَّةَ فَتَكُونُ التَّاءُ مَنْ يَهْتَدِي مُخْتَلَسَةُ الْحَرَكَةِ، وإِما أَن تَكُونَ الدَّالُ مشدَّدة فَتَكُونُ الْهَاءُ مَفْتُوحَةً بِحَرَكَةِ التَّاءِ الْمَنْقُولَةِ إِليها أَو مَكْسُورَةً لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الدَّالِ الأُولى، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى قَوْلِهِ تعالى: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى}؛ يَقُولُ: يَعْبُدون مَا لَا يَقْدِر أَن يَنتقل عَنْ مَكَانِهِ إِلا أَن يَنْقُلُوه، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقُرِئَ" أَمْ مَن لَا يَهْدْي، بِإِسْكَانِ الْهَاءِ وَالدَّالِ، قَالَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ، قَالَ: وقرأَ أَبو عَمْرٍو أَمْ مَن لَا يَهَدِّي، بِفَتْحِ الْهَاءِ، والأَصل لَا يَهْتَدِي.
وقرأَ عاصم: أَمَّنْ لَا يَهِدِّي "، بِكَسْرِ الْهَاءِ، بِمَعْنَى يَهْتَدِي أَيضًا، وَمَنْ قرأَ أَمْ مَنْ لَا يَهْدِي خَفِيفَةً، فَمَعْنَاهُ يَهْتَدِي أَيضًا.
يُقَالُ: هَدَيْتُه فَهَدَى أَي اهْتَدَى؛ وَقَوْلُهُ أَنشده" ابْنُ الأَعرابي:
إِنْ مَضَى الحَوْلُ وَلَمْ آتِكُمُ ***بِعَناجٍ تَهتدِي أَحْوَى طِمِرْ
فَقَدْ يَجُوزُ أَن يُرِيدَ تَهْتَدِي بأَحوى، ثُمَّ حَذَفَ الْحَرْفَ وأَوصل الْفِعْلَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ مَعْنَى تَهْتَدِي هُنَا تَطْلُب أَن يَهْدِيها، كَمَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ اخْتَرَجْتُه فِي مَعْنَى اسْتَخْرَجَتُهُ أَي طَلَبْتُ مِنْهُ أَن يَخْرُج.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَدَاه اللهُ الطريقَ، وَهِيَ لُغَةُ أَهل الْحِجَازِ، وهَداه للطَّريقِ وإِلى الطريقِ هِدايةً وهَداه يَهْدِيه هِدايةً إِذا دَلَّه عَلَى الطَّرِيقِ.
وهَدَيْتُه الطَّريقَ والبيتَ هِداية أَي عرَّفته، لُغَةَ أَهل الْحِجَازِ، وَغَيْرُهُمْ يَقُولُ: هَدَيْتُه إِلى الطَّرِيقِ وإِلى الدَّارِ؛ حَكَاهَا الأَخفش.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يُقَالُ هَدَيْتُهُ الطَّرِيقَ بِمَعْنَى عَرَّفْتُهُ فيُعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيُقَالُ: هَدَيْتُهُ إِلى الطَّرِيقِ وَلِلطَّرِيقِ عَلَى مَعْنَى أَرشَدْته إِليها فيُعدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ كأَرْشَدْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: هَدَيْتُ لَهُ الطريقَ عَلَى مَعْنَى بَيَّنْتُ لَهُ الطَّرِيقَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ}، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ، وَفِيهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، مَعْنَى طَلَب الهُدَى مِنْهُ تَعَالَى، وَقَدْ هَداهُم أَنهم قَدْ رَغِبُوا مِنْهُ تَعَالَى التَّثْبِيتَ عَلَى الْهُدَى، وَفِيهِ: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ، وَفِيهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وأَمّا هَدَيْتُ العَرُوس إِلى زَوْجِهَا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اللَّامِ لأَنه بِمَعْنَى زَفَفْتها إِليه، وأَمَّا أَهْدَيْتُ إِلى الْبَيْتِ هَدْيًا فَلَا يَكُونُ إِلا بالأَلف لأَنه بِمَعْنَى أَرْسَلْتُ فَلِذَلِكَ جَاءَ عَلَى أَفْعَلْتُ.
وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: « بَلَغَنِي أَن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبي سَلِيط قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حارِثةَ»، وَقَدْ أَخَّر صَلَاةَ الظُّهْرِ: أَكانوا يُصَلُّون هَذِهِ الصَّلَاةَ السَّاعةَ؟ قَالَ: لَا واللهِ، فَما هَدَى مِمّا رَجَعَ أَي فَمَا بَيَّنَ وَمَا جَاءَ بحُجَّةٍ مِمّا أَجاب، إِنما قَالَ لَا واللهِ وسَكَتَ، والمَرْجُوعُ الْجَوَابُ فَلَمْ يجىءْ بِجَوَابٍ فِيهِ بَيَانٌ وَلَا حُجَّةَ لِمَا فَعَلَ مِنْ تأْخير الصَّلَاةِ.
وهَدَى: بِمَعْنَى بيَّنَ فِي لُغَةِ أَهل الغَوْر، يَقُولُونَ: هَدَيْتُ لَكَ بِمَعْنَى بَيَّنْتُ لَكَ.
وَيُقَالُ بِلُغَتِهِمْ نَزَلَتْ: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ".
وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي: رَجُل هَدُوٌّ عَلَى مِثَالِ عدُوٍّ، كأَنه مِنَ الهِداية، وَلَمْ يَحكها يَعْقُوبُ فِي الأَلفاظ الَّتِي حَصَرَهَا كحَسُوٍّ وفَسُوٍّ.
وهَدَيْت الضالَّةَ هِدايةً.
والهُدى: النَّهارُ؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
حَتَّى اسْتَبَنْتُ الهُدى، والبِيدُ هاجِمةٌ ***يخْشَعْنَ فِي الآلِ غُلْفًا، أَو يُصَلِّينا
والهُدى: إِخراج شَيْءٍ إِلى شَيْءٍ.
والهُدى أَيضًا: الطاعةُ والوَرَعُ.
والهُدَى: الْهَادِي فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً}؛ والطريقُ يسمَّى هُدًى؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ:
قَدْ وكَّلَتْ بالهُدى إِنسانَ ساهِمةٍ، ***كأَنه مِنْ تمامِ الظِّمْءِ مَسْمولُ
وَفُلَانٌ لَا يَهْدي الطريقَ وَلَا يَهْتَدي وَلَا يَهَدِّي وَلَا يَهِدِّي، وَذَهَبَ عَلَى هِدْيَتِه أَي عَلَى قَصْده فِي الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ.
وَخُذْ فِي هِدْيَتِك أَي فِيمَا كُنْتَ فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ والعَمَل وَلَا تَعْدِل عَنْهُ.
الأَزهري: أَبو زَيْدٍ فِي بَابِ الْهَاءِ وَالْقَافِ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذا حَدَّث بِحَدِيثٍ ثُمَّ عَدل عَنْهُ قَبْلَ أَن يَفْرُغ إِلى غَيْرِهِ: خُذْ عَلَى هِدْيَتِك، بِالْكَسْرِ، وقِدْيَتِك أَي خُذْ فِيمَا كُنْتَ فِيهِ وَلَا تَعْدِل عَنْهُ، وَقَالَ: كَذَا أَخبرني أَبو بَكْرٍ عَنْ شَمِرٍ، وَقَيَّدَهُ فِي كِتَابِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْ شَمِرٍ: خُذْ فِي هِدْيَتِك وقِدْيَتِك أَي خُذْ فِيمَا كُنْتَ فِيهِ، بِالْقَافِ.
ونَظَرَ "فُلَانٌ هِدْيَةَ أَمرِه أَي جِهةَ أَمرِه.
وضلَّ هِدْيَتَه وهُدْيَتَه أَي لوَجْهِه؛ قَالَ عَمْرُو بْنُ أَحمر الْبَاهِلِيِّ:
نَبَذَ الجُؤارَ وضَلَّ هِدْيَةَ رَوْقِه، ***لمَّا اخْتَلَلْتُ فؤادَه بالمِطْرَدِ
أَي ترَك وجهَه الَّذِي كَانَ يُرِيدُه وسقَط لَمَّا أَنْ صَرَعْتُه، وضلَّ الموضعَ الَّذِي كَانَ يَقْصِدُ لَهُ برَوْقِه مِنَ الدَّهَش.
وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَذْهَب عَلَى هِدْيَتِه أَي عَلَى قَصْدِه.
وَيُقَالُ: هَدَيْتُ أَي قصدْتُ.
وَهُوَ عَلَى مُهَيْدِيَتِه أَي حَالِهِ؛ حَكَاهَا ثَعْلَبٌ، وَلَا مُكَبِّرَ لَهَا.
وَلَكَ هُدَيّا هَذِهِ الفَعْلةِ أَي مِثلُها، وَلَكَ عِنْدِي هُدَيَّاها أَي مثلُها.
وَرَمَى بِسَهْمٍ ثُمَّ رَمَى بآخرَ هُدَيَّاهُ أَي مثلِه أَو قَصْدَه.
ابْنُ شُمَيْلٍ: اسْتَبَقَ رَجُلَانِ فَلَمَّا سَبَقَ أَحدُهما صاحبَه تَبالحا فَقَالَ لَهُ المَسْبُوق: لِمَ تَسْبِقْني فَقَالَ السابقُ: فأَنت عَلَى هُدَيَّاها أَي أُعاوِدُك ثَانِيَةً وأَنت عَلَى بُدْأَتِكَ أَي أُعاوِدك؛ وتبالحا: وتَجاحَدا، وَقَالَ: فَعل بِهِ هُدَيَّاها أَي مِثلَها.
وَفُلَانٌ يَهْدي هَدْيَ فُلَانٍ: يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ ويَسِير سِيرَته.
وَفِي الْحَدِيثِ: « واهْدُوا بهَدْي عَمَّارٍ »أَي سِيرُوا بسِيرَتِه وتَهَيَّأُوا بهَيْئَتِه.
وَمَا أَحسن هَدْيَه أَي سَمْتَه وَسُكُونَهُ.
وَفُلَانٌ حسَنُ الهَدْي والهِدْيَةِ أَي الطَّرِيقَةِ والسِّيرة.
وَمَا أَحْسَنَ هِدْيَتَهُ وهَدْيَه أَيضًا، بِالْفَتْحِ، أَي سِيرَته، وَالْجَمْعُ هَدْيٌ مِثْلَ تَمْرة وتَمْرٍ.
وَمَا أَشبه هَدْيَه بهَدْي فُلَانٍ أَي سَمْتَه.
أَبو عَدْنَانَ: فُلَانٌ حَسَنُ الهَدْي وَهُوَ حُسْنُ الْمَذْهَبِ فِي أُموره كُلِّهَا؛ وَقَالَ زيادةُ بْنُ زَيْدٍ الْعَدَوِيُّ:
ويُخْبِرُني عَنْ غائبِ المَرْءِ هَدْيُه، ***كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرا
وهَدى هَدْيَ فُلَانٍ أَي سارَ سَيْره.
الْفَرَّاءُ: يُقَالُ لَيْسَ لِهَذَا الأَمر هِدْيةٌ وَلَا قِبْلةٌ وَلَا دِبْرةٌ وَلَا وِجْهةٌ.
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: « إِن أَحسَنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمدٍ»؛ أي أَحسَنَ الطريقِ والهِداية وَالطَّرِيقَةِ وَالنَّحْوِ وَالْهَيْئَةِ، وَفِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ: كُنَّا نَنْظُر إِلى هَدْيهِ ودَلِّه؛ أَبو عُبَيْدٍ: وأَحدهما قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنَ الْآخَرِ؛ وَقَالَ عِمْرانُ بْنُ حِطَّانَ:
وَمَا كُنتُ فِي هَدْيٍ عليَّ غَضاضةٌ، ***وَمَا كُنْتُ فِي مَخْزاتِه أَتَقَنَّعُ
وَفِي الْحَدِيثُ: الهَدْيُ الصَّالِحُ والسَّمْتُ الصالِحُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزءًا مِنَ النبوَّة "؛ ابْنُ الأَثير: الهَدْيُ السِّيرةُ والهَيْئة وَالطَّرِيقَةُ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَن هَذِهِ الحالَ مِنْ شَمَائِلِ الأَنبياء مِنْ جُمْلَةِ خِصَالِهِمْ وأَنها جُزْء مَعْلُومٌ مِنْ أَجْزاء أَفْعالهم، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَن النُّبُوَّةَ تَتَجَزَّأُ، وَلَا أَنَ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الخِلال كَانَ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ النُّبُوّة، فإِن النبوّةَ غَيْرُ مُكْتَسبة وَلَا مُجْتَلَبةٍ بالأَسباب، وإِنما هِيَ كرامةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ أَراد بِالنُّبُوَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ وَدَعَتْ إِليه، وتَخْصيصُ هَذَا الْعَدَدِ مِمَّا يستأْثر النبي، صلى الله عليه وَسَلَّمَ، بِمَعْرِفَتِهِ.
وكلُّ متقدِّم هادٍ.
والهَادِي: العُنُقُ لِتُقَدِّمِهُ؛ قَالَ الْمُفَضَّلُ النُّكْري:
جَمُومُ الشَّدِّ شائلةُ الذُّنابى، ***وهَادِيها كأَنْ جِذْعٌ سَحُوقُ
وَالْجُمْعُ هَوادٍ.
وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَنه بَعَثَ إِلى ضُباعةَ وذَبَحت شَاةً فطَلَب مِنْهَا فَقَالَتْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلا الرَّقَبَةُ فبَعَثَ إِليها أَن أَرْسِلي بها فإِنها هَادِيَةُ الشاةِ».
والهَادِيَةُ والهَادِي: العنُقُ لأَنها تَتَقَدَّم عَلَى البدَن ولأَنها تَهْدي الجَسَد.
الأَصمعي: الهادِيَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَوَّلُه وَمَا تقَدَّمَ مِنْهُ، وَلِهَذَا قِيلَ: أَقْبَلَتْ هَوَادِي الخيلِ إِذا بَدَتْ أَعْناقُها.
وَفِي الْحَدِيثِ: « طَلَعَتْ هَوَادِي الْخَيْلِ »يَعْنِي أَوائِلَها.
وهَوَادِي اللَّيْلِ: أَوائله لِتَقَدُّمِهَا كتقدُّم الأَعناق؛ قَالَ سُكَيْن بْنُ نَضْرةَ البَجَليّ:
دَفَعْتُ بِكَفِّي الليلَ عَنْهُ وَقَدْ بَدَتْ ***هَوَادِي ظَلامِ الليلِ، فالظِّلُّ غامِرُهُ
وهَوَادِي الْخَيْلِ: أَعْناقُها لأَنها أَولُ شَيْءٍ مِنْ أَجْسادِها، وَقَدْ تَكُونُ الهَوَادِي أَولَ رَعيل يَطْلُع مِنْهَا لأَنها المُتَقَدِّمة.
وَيُقَالُ: قَدْ هَدَت تَهْدِي إِذا تَقَدَّمتْ؛ وَقَالَ عَبِيد يَذْكُرُ الْخَيْلَ:
وغَداةَ صَبَّحْنَ الجِفارَ عَوابِسًا، ***تَهْدِي أَوائلَهُنَّ شُعْثٌ شُزَّبُ
أَي يَتَقَدَّمُهن؛ وَقَالَ الأَعشى وَذَكَرَ عَشاه وأَنَّ عَصاه تَهْدِيه:
إِذا كَانَ هَادِي الفَتى في البلادِ، ***صَدْرَ القَناةِ، أَطاع الأَمِيرا
وَقَدْ يَكُونُ إِنما سَمَّى العَصا هَادِيًا لأَنه يُمْسِكها فَهِيَ تَهْديه تتقدَّمه، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الهِدَايَةِ لأَنها تَدُلُّه عَلَى الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ الدليلُ يُسَمَّى هَادِيًا لأَنه يَتَقَدَّم القومَ وَيَتْبَعُونَهُ، وَيَكُونُ أَن يَهْدِيَهم للطريقِ.
وهَادِيَاتُ الوَحْشِ: أَوائلُها، وَهِيَ هَوَادِيها.
والهَادِيَةُ: المتقدِّمة مِنَ الإِبل.
والهَادِي: الدَّلِيلُ لأَنه يَقْدُمُ القومَ.
وهَدَاه أَي تَقَدَّمه؛ قَالَ طَرَفَةُ:
لِلْفَتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ، ***حيثُ تَهْدِي ساقَه قَدَمُهْ
وهَادِي السهمِ: نَصْلُه؛ وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كأَنَّ دِماء الهَادِيَاتِ بنَحْرِه ***عُصارة حِنَّاءٍ بشَيْبٍ مُرَجَّلِ
يَعْنِي بِهِ أَوائلَ الوَحْشِ.
وَيُقَالُ: هُوَ يُهَادِيه الشِّعرَ، وهَادَانِي فُلَانٌ الشِّعرَ وهَادَيْتُه أَي هَاجَانِي وهاجَيْتُه.
والهَدِيَّةُ: مَا أَتْحَفْتَ بِهِ، يُقَالُ: أَهْدَيْتُ لَهُ وإِليه.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنها أَهْدَتْ إِلى سُلَيْمَانَ لَبِنة ذَهَبٍ، وَقِيلَ: لَبِنَ ذَهَبٍ فِي حَرِيرٍ، فأَمر سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بلَبِنة الذَّهَبِ فطُرحت تَحْتَ الدوابِّ حَيْثُ تَبولُ عَلَيْهَا وتَرُوث، فصَغُر في أَعينهم ما جاؤُوا بِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَن الْهَدِيَّةَ كَانَتْ غَيْرُ هَذَا، إِلا أَن قَوْلَ سُلَيْمَانَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ؟ يَدُلُّ عَلَى أَن الْهَدِيَّةَ كَانَتْ مَالًا.
والتَّهَادِي: أَن يُهْدي بعضُهم إِلى بَعْضٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « تَهَادُوا تَحابُّوا »، وَالْجَمْعُ هَدَايا وهَدَاوَى، وَهِيَ لُغَةُ أَهل الْمَدِينَةِ، وهَدَاوِي وهَدَاوٍ؛ الأَخيرة عَنْ ثَعْلَبٍ، أَما هَدايا فَعَلَى الْقِيَاسِ أَصلها هَدائي، ثُمَّ كُرهت الضَّمَّةُ عَلَى الْيَاءِ فأُسكنت فَقِيلَ هَدائيْ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْيَاءُ أَلفًا اسْتِخْفَافًا لِمَكَانِ الْجَمْعِ فَقِيلَ هَداءا، كَمَا أَبدلوها فِي مَدارَى وَلَا حَرْفَ عِلَّةٍ هُنَاكَ إِلا الْيَاءَ، ثُمَّ كَرِهُوا هَمْزَةً بَيْنَ أَلفين لأَن الْهَمْزَةَ بِمَنْزِلَةِ الأَلف، إِذ لَيْسَ حَرْفٌ أَقرب إِليها مِنْهَا، فَصَوَّرُوهَا ثَلَاثَ هَمَزَاتٍ فأَبدلوا مِنَ الْهَمْزَةِ يَاءً لِخِفَّتِهَا ولأَنه لَيْسَ حَرْفٌ بَعْدَ الأَلف أَقرب إِلى الْهَمْزَةِ مِنَ الْيَاءِ، وَلَا سَبِيلَ إِلى الأَلف لِاجْتِمَاعِ ثَلَاثِ أَلفات فَلَزِمَتِ الْيَاءُ بَدَلًا، وَمَنْ قَالَ هَداوَى أَبدل الْهَمْزَةَ وَاوًا لأَنهم قَدْ يُبْدِلُونَهَا مِنْهَا كَثِيرًا كبُوس وأُومِن؛ هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وزِدْته أَنا إِيضَاحًا، وأَما هَدَاوِي فَنَادِرٌ، وأَما هَداوٍ فَعَلَى أَنهم حَذَفُوا الْيَاءَ مِنْ هَداوي حَذْفًا ثُمَّ عَوَّضَ مِنْهَا التَّنْوِينَ.
أَبو زَيْدٍ: الهَدَاوَى لُغَةُ" عُلْيا مَعَدٍّ، وسُفْلاها الهَدَايا.
وَيُقَالُ: أَهْدَى وهَدَّى بِمَعْنًى وَمِنْهُ: أَقولُ لَهَا هَدِّي وَلَا تَذْخَري لَحْمي "وأَهْدَى الهَدِيَّةَ إِهْداءً وهَدَّاها.
والمِهْدَى، بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْمِيمِ: الإِناء الَّذِي يُهْدَى فِيهِ مِثْلَ الطَّبَقِ وَنَحْوِهِ؛ قَالَ:
مِهْداكَ أَلأَمُ مِهْدًى حِينَ تَنْسُبُه، ***فُقَيْرةٌ أَو قَبيحُ العَضْدِ مَكْسُورُ
وَلَا يُقَالُ للطَّبَقِ مِهْدًى إِلَّا وَفِيهِ مَا يُهْدَى.
وامرأَة مِهْداءٌ، بِالْمَدِّ، إِذا كَانَتْ تُهْدي لِجَارَاتِهَا.
وَفِي الْمُحَكَمِ: إِذا كَانَتْ كَثِيرَةَ الإِهْداء؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:
وإِذا الخُرَّدُ اغْبَرَرْنَ مِنَ المَحْلِ، ***وصارَتْ مِهْداؤُهُنَّ عَفِيرا
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ مِهْدَاءٌ: مِنْ عَادَتِهِ أَن يُهْدِيَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « مَنْ هَدَى زُقاقًا كَانَ لَهُ مِثْلُ عِتْقِ رَقَبةٍ »؛ هُوَ مِنْ هِدَايَةِ الطريقِ أَي مَنْ عَرَّف ضَالًّا أَو ضَرِيرًا طَرِيقَه، وَيُرْوَى بِتَشْدِيدِ الدَّالِ إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ مِنَ الهِداية، أَو مِنَ الهَدِيَّةِ أَي مَنْ تصدَّق بزُقاق مِنَ النَّخْلِ، وَهُوَ السِّكَّةُ والصَّفُّ مِنْ أَشجاره، والهِداءُ: أَن تجيءَ هَذِهِ بطعامِها وَهَذِهِ بِطَعَامِهَا فتأْكُلا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ.
والهَدِيُّ والهِدِيَّةُ: العَرُوس؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
برَقْمٍ ووَشْيٍ كَمَا نَمْنَمَتْ ***بمِشْيَتِها المُزْدهاةُ الهَدِيّ
والهِدَاء: مَصْدَرُ قَوْلِكَ هَدَى العَرُوسَ.
وهَدَى العروسَ إِلى بَعْلِها هِداء وأَهْدَاها واهْتَدَاها؛ الأَخيرة عَنْ أَبي عَلِيٍّ؛ وأَنشد: " كذَبْتُمْ وبَيتِ اللهِ لَا تَهْتَدُونَها "وَقَدْ هُدِيَتْ إِليه؛ قَالَ زُهَيْرٌ:
فإِنْ تَكُنِ النِّساءُ مُخَبَّآتٍ، ***فحُقَّ لكلِّ مُحْصِنةٍ هِداء
ابْنُ بُزُرْج: واهْتَدَى الرجلُ امرأَتَه إِذا جَمَعَها إِليه وضَمَّها، وَهِيَ مَهْدِيَّةٌ وهَدِيٌّ أَيضًا، على فَعِيلٍ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ:
أَلا يَا دارَ عَبْلةَ بالطَّوِيّ، ***كرَجْعِ الوَشْمِ فِي كَفِّ الهَدِيّ
والهَدِيُّ: الأَسيرُ؛ قَالَ الْمُتَلَمِّسُ يَذْكُرُ طَرفة ومَقْتل عَمرو بْنِ هِند إِياه:
كطُرَيْفَةَ بنِ العَبْدِ كَانَ هَدِيَّهُمْ، ***ضَرَبُوا صَمِيمَ قَذالِه بِمُهَنَّدِ
قَالَ: وأَظن المرأَة إِنما سُمِّيَتْ هَدِيًّا لأَنها كالأَسِير عِنْدَ زَوْجِهَا؛ قَالَ الْشَّاعِرُ: " كَرَجْعِ الْوَشْمِ فِي كَفِّ الهَدِيّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ سُمِّيَتْ هَدِيًّا لأَنها تُهْدَى إِلى زَوْجِهَا، فَهِيَ هَدِيٌّ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ.
والهَدْيُ: مَا أُهْدِيَ إِلى مَكَّةَ مِنَ النَّعَم.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، وَقُرِئَ: حَتَّى يَبْلُغَ الهَدِيُّ مَحِلَّه "، بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، الْوَاحِدَةُ هَدْيَةٌ وهَدِيَّةٌ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الَّذِي قرأَه بِالتَّشْدِيدِ الأَعرج وَشَاهِدُهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقُ:
حَلَفْتُ برَبِّ مَكَّةَ والمُصَلَّى، ***وأَعْناقِ الهَدِيِّ مُقَلَّداتِ
وَشَاهِدُ الهَدِيَّةِ قولُ ساعدةَ بْنِ جُؤَيَّة:
إِنِّي وأَيْدِيهم وَكُلَّ هَدِيَّة ***مِمَّا تَثِجُّ لَهُ تَرائِبُ تَثْعَبُ
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الهَدْيُ، بِالتَّخْفِيفِ، لُغَةُ أَهل الْحِجَازِ، والهَدِيُّ، بِالتَّثْقِيلِ عَلَى فَعِيل، لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ وسُفْلى قَيْسٍ، وَقَدْ قُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ".
ويقال: ما لي هَدْيٌ إِن كَانَ كَذَا، وَهِيَ يَمِينٌ.
وأَهْدَيْتُ الهَدْيَ إِلى بَيْتِ اللهِ إِهْدَاءً.
وَعَلَيْهِ هَدْيَةٌ أَي بَدَنة.
اللِّيْثُ وَغَيْرُهُ: مَا يُهْدى إِلى مَكَّةَ مِنَ النَّعَم وَغَيْرِهِ مِنْ مَالٍ أَو متاعٍ فَهُوَ هَدْيٌ وهَدِيٌّ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الإِبل هَدِيًّا، وَيَقُولُونَ: كَمْ هَدِيُّ بَنِي فُلَانٍ؛ يُعْنُونَ الإِبل، سُمِّيَتْ هَدِيًّا لأَنها تُهْدَى إِلى الْبَيْتِ.
غَيْرُهُ: وَفِي حَدِيثِ طَهْفةَ فِي صِفة السَّنةِ هَلَكَ الهَدِيُّ وَمَاتَ الوَديُ "؛ الهَدِيُّ، بِالتَّشْدِيدِ: « كالهَدْي بِالتَّخْفِيفِ»، وَهُوَ مَا يُهْدى إِلى البَيْتِ الحَرام مِنَ النَّعَمِ لتُنْحَر فأُطلق عَلَى جَمِيعِ الإِبل وإِن لَمْ تَكُنْ هَدِيًّا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِبَعْضِهِ، أَراد هَلَكَتِ الإِبل ويَبِسَتِ النَّخِيل.
وَفِي حَدِيثِ الْجُمُعَةِ: « فكأَنَّما أَهْدَى دَجاجةً وكأَنما أَهْدَى بَيْضةً »؛ الدَّجاجةُ والبَيضةُ لَيْسَتَا مِنَ الهَدْيِ وإِنما هُوَ مِنَ الإِبل وَالْبَقَرِ، وَفِي الْغَنَمِ خِلَافٌ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِ مَا تَقدَّمه مِنَ الْكَلَامِ، لأَنه لَمَّا قَالَ أَهْدَى بَدَنَةً وأَهْدَى بَقَرَةً وَشَاةَ أَتْبَعه بالدَّجاجة وَالْبَيْضَةِ، كَمَا تَقُولُ أَكلت طَعامًا وشَرابًا والأَكل يُخْتَصُّ بِالطَّعَامِ دُونَ الشَّرَابِ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: " مُتَقَلِّدًا سَيفًا ورُمْحًا "والتَّقَلُّدُ بِالسَّيْفِ دُونَ الرُّمْحِ.
وفلانٌ هَدْيُ بَنِي فُلَانٍ وهَدِيُّهمْ أَي جارُهم يَحرم عَلَيْهِمْ مِنْهُ مَا يَحْرُم مِنَ الهَدْي، وَقِيلَ: الهَدْيُ والهَدِيُّ الرَّجُلُ ذُو الْحُرْمَةِ يأْتي الْقَوْمَ يَسْتَجِير بِهِمْ أَو يأْخذ مِنْهُمْ عَهْدًا، فَهُوَ، مَا لَمْ يُجَرْ أَو يأْخذِ العهدَ، هَدِيٌّ، فإِذا أَخَذ العهدَ مِنْهُمْ فَهُوَ حِينَئِذٍ جارٌ لَهُمْ؛ قَالَ زُهَيْرٌ:
فلَمْ أَرَ مَعْشَرًا أَسَرُوا هَدِيًّا، ***ولمْ أَرَ جارَ بَيْتٍ يُسْتَباءُ
وقال الأَصمعي فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْبَيْتِ: هُوَ الرَّجل الَّذِي لَهُ حُرمة كحُرمة هَدِيِّ الْبَيْتِ، ويُسْتَباء: مِنَ البَواء أَي القَوَدِ أَي أَتاهم يَسْتَجير بِهِمْ فقَتلُوه بِرَجُلٍ مِنْهُمْ؛ وَقَالَ غَيْرُهُ فِي قِرْواشٍ:
هَدِيُّكُمُ خَيْرٌ أَبًا مِنْ أَبِيكُمُ، ***أَبَرُّ وأَوْفى بالجِوارِ وأَحْمَدُ
وَرَجُلٌ هِدانٌ وهِداءٌ: للثَّقِيل الوَخْمِ؛ قَالَ الأَصمعي: لَا أَدري أَيّهما سَمِعْتُ أَكثر؛ قَالَ الرَّاعِي:
هِداءٌ أَخُو وَطْبٍ وصاحِبُ عُلْبةٍ ***يَرى المَجْدَ أَن يَلْقى خِلاءً وأَمْرُعا
ابْنُ سِيدَهْ: الهِداء الرَّجُلُ الضَّعِيفُ البَليد.
والهَدْيُ: السُّكون؛ قَالَ الأَخطل: " وَمَا هَدى هَدْيَ مَهْزُومٍ وَمَا نَكَلا يَقُولُ: لَمْ يُسْرِعْ إِسْراعَ المُنْهَزم وَلَكِنْ عَلَى سُكُونٍ وهَدْيٍ حَسَنٍ.
والتَّهادِي: مَشْيُ النِّساء والإِبل الثِّقال، وَهُوَ مَشْيٌ فِي تَمايُل وَسُكُونٍ.
وَجَاءَ فُلَانٌ يُهَادَى بَيْنَ اثْنَيْنِ إِذا كَانَ يَمْشِي بَيْنَهُمَا مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا مِنْ ضَعْفِهِ وتَمايُله.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ يُهادَى بَيْنَ رَجُلَيْن »؛ أَبو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ أَنه كَانَ يَمْشِي بَيْنَهُمَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِمَا مِنْ ضَعْفِه وتَمايُلِه، وَكَذَلِكَ كلُّ مَن فَعَلَ بأَحد فَهُوَ يُهَادِيه؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
يُهَادِينَ جَمَّاء المَرافِقِ وَعْثةً، ***كَلِيلةَ حَجْمِ الكَعْبِ رَيَّا المُخَلْخَلِ
وإِذا فَعلت ذَلِكَ المرأَة وتَمايَلَتْ فِي مِشْيتها مِنْ غَيْرِ أَن يُماشِيها أَحد قِيلَ: تَهَادَى؛ قَالَ الأَعشى:
إِذا مَا تأَتَّى تُريدُ القِيام، ***تَهَادَى كَمَا قَدْ رأَيتَ البَهِيرا
وجئتُكَ بَعْدَ هَدْءٍ مِن الليلِ، وهَدِيٍّ لُغَةٌ فِي هَدْءٍ؛ الأَخيرة عَنْ ثَعْلَبٍ.
والهَادِي: الراكِسُ، وَهُوَ الثَّوْرُ فِي وَسَطِ البَيْدَر يَدُور عَلَيْهِ الثِّيرانُ فِي الدِّراسة؛ وَقَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:
فَمَا فَضْلةٌ مِنْ أَذْرِعاتٍ هَوَتْ بِهَا ***مُذَكَّرةٌ عنْسٌ كهَادِيَةِ الضَّحْلِ
أَراد بهَادِيَةِ الضَّحْلِ أَتانَ الضَّحْلِ، وَهِيَ الصَّخْرَةُ المَلْساء.
والهادِيَةُ: الصَّخْرَةُ النابتةُ فِي الماء.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
157-مختار الصحاح (عزز)
(الْعِزُّ) ضِدُّ الذُّلِّ تَقُولُ مِنْهُ: (عَزَّ) (يَعِزُّ) عِزًّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِيهِمَا وَ (عَزَازَةً) بِالْفَتْحِ، فَهُوَ (عَزِيزٌ) أَيْ قَوِيٌّ بَعْدَ ذِلَّةٍ.وَ (أَعَزَّهُ) اللَّهُ.
وَ (عَزَّ) الشَّيْءُ أَيْضًا بِوِزَانِ مَا مَرَّ فَهُوَ (عَزِيزٌ) إِذَا قَلَّ فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ.
وَ (عَزَزْتُ) عَلَيْهِ بِالْفَتْحِ كَرُمْتُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] يُخَفَّفُ وَيُشَدَّدُ أَيْ قَوَّيْنَا وَشَدَّدْنَا.
وَ (تَعَزَّزَ) الرَّجُلُ صَارَ عَزِيزًا.
وَهُوَ (يَعْتَزُّ) بِفُلَانٍ.
وَعَزَّ عَلَيَّ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا.
وَعَزَّ عَلَيَّ ذَاكَ أَيْ حَقَّ وَاشْتَدَّ.
وَفِي الْمَثَلِ: إِذَا عَزَّ أَخُوكَ فَهُنْ.
وَ (أَعْزِزْ) عَلَيَّ بِمَا أُصِبْتَ بِهِ وَقَدْ (أُعْزِزْتُ) بِمَا أَصَابَكَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ أَيْ عَظُمَ عَلَيَّ.
وَجَمْعُ (الْعَزِيزِ عِزَازٌ) مِثْلُ كَرِيمٍ وَكِرَامٍ وَقَوْمٌ (أَعِزَّةٌ) وَ (أَعِزَّاءُ).
وَ (عَزَّهُ) غَلَبَهُ وَبَابُهُ رَدَّ.
وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ.
وَ (اسْتُعِزَّ) بِالْعَلِيلِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ إِذَا اشْتَدَّ وَجَعُهُ وَغُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «اسْتُعِزَّ بِكُلْثُومٍ» وَ (الْعُزَّى) تَأْنِيثُ (الْأَعَزِّ) وَقَدْ يَكُونُ الْأَعَزُّ بِمَعْنَى الْعَزِيزِ.
وَ (الْعُزَّى) بِمَعْنَى الْعَزِيزَةِ.
وَالْعُزَّى أَيْضًا اسْمٌ صَنَمٍ.
وَقِيلَ: الْعُزَّى سَمُرَةٌ كَانَتْ لِغَطَفَانَ يَعْبُدُونَهَا وَكَانُوا بَنَوْا عَلَيْهَا بَيْتًا وَأَقَامُوا لَهَا سَدَنَةً فَبَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَهَدَمَ الْبَيْتَ وَأَحْرَقَ السَّمُرَةَ.
مختار الصحاح-محمد بن أبي بكر الرازي-توفي: 666هـ/1268م
158-مقاييس اللغة (أم)
(أَمَّ) وَأَمَّا الْهَمْزَةُ وَالْمِيمُ فَأَصْلٌ وَاحِدٌ، يَتَفَرَّعُ مِنْهُ أَرْبَعُ أَبْوَابٍ، وَهِيَ الْأَصْلُ وَالْمَرْجِعُ وَالْجَمَاعَةُ وَالدِّينُ، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُتَقَارِبَةٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ أُصُولٌ ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ الْقَامَةُ وَالْحِينُ وَالْقَصْدُ، قَالَ الْخَلِيلُ: الْأُمُّ: الْوَاحِدُ، وَالْجَمْعُ أُمَّهَاتٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا: أُمٌّ وَأُمَّاتٌ.قَالَ شَاعِرٌ، وَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ:
إِذَا الْأُمَّهَاتُ قَبَحْنَ الْوُجُوهَ *** فَرَجْتَ الظَّلَامَ بِأُمَّاتِكَا
وَقَالَ الرَّاعِي:
أَمَّاتُهُنَّ وَطَرْقُهُنَّ فَحِيلَا.
وَتَقُولُ الْعَرَبُ: لَا أُمَّ لَهُ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ جَمِيعًا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا كُنْتِ أُمًّا وَلَقَدْ أَمَمْتِ أُمُومَةً.
وَفُلَانَةٌ تَؤُمُّ فُلَانًا، أَيْ: تَغْذُوهُ، أَيْ: تَكُونُ لَهُ أُمًّا تَغْذُوهُ وَتُرَبِّيهِ.
قَالَ:
نَؤُمُّهُمُ وَنَأْبُوهُمْ جَمِيعًا *** كَمَا قُدَّ السُّيُورُ مِنَ الْأَدِيمِ
أَيْ: نَكُونُ لَهُمْ أُمَّهَاتٍ وَآبَاءً.
وَأَنْشَدَ:
اطْلُبْ أَبَا نَخْلَةَ مِنْ يَأْبُوكَا *** فَكُلُّهُمْ يَنْفِيكَ عَنْ أَبِيكَا
وَتَقُولُ: أُمٌّ وَأُمَّةٌ، بِالْهَاءِ.
قَالَ:
تَقَبَّلْتَهَا مِنْ أُمَّةٍ لَكَ طَالَمَا *** تُنُوزِعَ فِي الْأَسْوَاقِ عَنْهَا خِمَارُهَا
قَالَ الْخَلِيلُ: كُلُّ شَيْءٍ يُضَمُّ إِلَيْهِ مَا سِوَاهُ مِمَّا يَلِيهِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي ذَلِكَ الشَّيْءَ أُمًّا.
وَمِنْ ذَلِكَ أُمُّ الرَّأْسِ وَهُوَ الدِّمَاغُ.
تَقُولُ: أَمَمْتُ فُلَانًا بِالسَّيْفِ وَالْعَصَا أَمًّا: إِذَا ضَرَبْتَهُ ضَرْبَةً تَصِلُ إِلَى الدِّمَاغِ.
"وَالْأَمِيمُ: الْمَأْمُومُ، وَهِيَ أَيْضًا الْحِجَارَةُ الَّتِي تُشْدَخُ بِهَا الرُّؤُوسُ; قَالَ: "
بِالْمَنْجَنِيقَاتِ وَبِالْأَمَائِمِ.
وَالشَّجَّةُ الْآمَّةُ: الَّتِي تَبْلُغُ أُمَّ الدِّمَاغِ، وَهِيَ الْمَأْمُومَةُ أَيْضًا.
قَالَ:
يَحُجُّ مَأْمُومَةً فِي قَعْرِهَا لَجَفٌ *** فَاسْتُ الطَّبِيبِ قَذَاهَا كَالْمَغَارِيدِ
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: بَعِيرٌ مَأْمُومٌ: إِذَا أُخْرِجَتْ مِنْ ظَهْرِهِ عِظَامٌ فَذَهَبَتْ قَمْعَتُهُ.
قَالَ:
لَيْسَ بِمَأْمُومٍ وَلَا أَجَبِّ.
قَالَ الْخَلِيلُ: أُمُّ التَّنَائِفِ: أَشَدُّهَا وَأَبْعَدُهَا.
"وَأُمُّ الْقُرَى: مَكَّةُ; وَكُلُّ مَدِينَةٍ هِيَ أُمُّ مَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، وَكَذَلِكَ أُمُّ رُحْمٍ."
وَأُمُّ الْقُرْآنِ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ.
وَأُمُّ الْكِتَابِ: مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وَأُمُّ الرُّمْحِ: لِوَاؤُهُ وَمَا لُفَّ عَلَيْهِ.
قَالَ:
وَسَلَبْنَ الرُّمْحَ فِيهِ أُمُّهُ *** مِنْ يَدِ الْعَاصِي وَمَا طَالَ الطِّوَلْ
وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي يُنْزَلُ عَلَيْهَا: أُمُّ مَثْوًى، وَلِلرَّجُلِ أَبُو مَثْوًى.
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أُمُّ مِرْزَمٍ: الشَّمَالُ، قَالَ:
إِذَا هُوَ أَمْسَى بِالْحَلَاءَةِ شَاتِيًا *** تُقَشِّرُ أَعْلَى أَنْفِهِ أُمُّ مِرْزَمِ
وَأُمُّ كَلْبَةٍ: الْحُمَّى.
فَفِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ الْخَيلِ: أَبْرَحَ فَتًى إِنْ نَجَا مِنْ أُمِّ كَلْبَةٍ.
وَكَذَلِكَ أُمُّ مِلْدَمٍ.
وَأُمُّ النُّجُومِ: السَّمَاءُ.
قَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا:
يَرَى الْوَحْشَةَ الْأُنْسَ الْأَنِيسَ وَيَهْتَدِي *** بِحَيْثُ اهْتَدَتْ أُمُّ النُّجُومِ الشَّوَابِكِ
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ السُّنِّىِّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُسَبِّحٍ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: أُمُّ النُّجُومِ: الْمَجَرَّةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السَّمَاءِ بُقْعَةٌ أَكْثَرَ عَدَدَ كَوَاكِبَ مِنْهَا، قَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْبَيْتَ.
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
بِشُعْثٍ يَشُجُّونَ الْفَلَا فِي رُؤُوسِهِ *** إِذَا حَوَّلَتْ أُمُّ النُّجُومِ الشَّوَابِكِ
حَوَّلَتْ يُرِيدُ أَنَّهَا تَنْحَرِفُ.
وَأُمُّ كِفَاتٍ: الْأَرْضُ.
وَأُمُّ الْقُرَادِ، فِي مُؤَخَّرِ الرُّسْغِ فَوْقَ الْخُفِّ، وَهِيَ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا الْقِرْدَانُ كاَلسُّكُرُّجَّةِ.
قَالَ أَبُو النَّجْمِ:
لِلْأَرْضِ مِنْ أُمِّ الْقُرَادِ الْأَطْحَلِ.
وَأُمُّ الصَّدَى هِيَ أُمُّ الدِّمَاغِ.
وَأُمُّ عُوَيْفٍ: دُوَيْبَّةٌ مُنَقَّطَةٌ، إِذَا رَأَتِ الْإِنْسَانَ قَامَتْ عَلَى ذَنَبِهَا وَنَشَرَتْ أَجْنِحَتَهَا، يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الْجُبْنِ.
قَالَ:
يَا أُمَّ عَوْفٍ نَشِّرِي بُردَيْكْ *** إِنَّ الْأَمِيرَ وَاقِفٌ عَلَيْكْ
وَيُقَالُ: هِيَ الْجَرَادَةُ.
وَأُمُّ حُمارِسٍ دُوَيْبَّةٌ سَوْدَاءُ كَثِيرَةُ الْقَوَائِمِ.
وَأُمُّ صَبُّورٍ: الْأَمْرُ الْمُلْتَبِسُ، وَيُقَالُ: هِيَ الْهَضَبَةُ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَنْفَذٌ.
وَأُمُّ غَيْلَانَ: شَجَرَةٌ كَثِيرَةُ الشَّوْكِ.
وَأُمُّ اللُّهَيْمِ: الْمَنِيَّةُ.
وَأُمُّ حُبَيْنٍ: دَابَّةٌ.
وَأُمُّ الطَّرِيقِ: مُعْظَمُهُ.
وَأُمُّ وَحْشٍ: الْمَفَازَةُ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الظِّبَاءِ.
قَالَ:
وَهَانَتْ عَلَى أُمِّ الظِّبَاءِ بِحَاجَتِي *** إِذَا أَرْسَلَتْ تُرْبًا عَلَيْهِ سَحُوقُ
وَأُمُّ صَبَّارٍ: الْحَرَّةُ.
قَالَ النَّابِغَةُ:
تُدَافِعُ النَّاسَ عَنَّا حِينَ نَرْكَبُهَا *** مِنَ الْمَظَالِمِ تُدْعَى أُمَّ صَبَّارِ
وَأُمُّ عَامِرٍ، وَأُمُّ الطَّرِيقِ: الضَّبُعُ.
قَالَ يَعْقُوبُ: أُمُّ أَوْعَالٍ: هَضْبَةٌ بِعَيْنِهَا.
قَالَ:
وَأُمُّ أَوْعَالٍ كَهَا أَوْ أَقْرَبَا.
وَأُمُّ الْكَفِّ: الْيَدُ.
قَالَ:
لَيْسَ لَهُ فِي أُمِّ كَفٍّ إِصْبَعُ.
وَأُمُّ الْبَيْضِ: النَّعَامَةُ.
قَالَ أَبُو دُؤَادٍ:
وَأَتَانَا يَسْعَى تَفَرُّشَ أُمِّ الْ *** بَيْضِ
وَأُمُّ عَامِرٍ: الْمَفَازَةُ.
وَأُمُّ كُلَيْبٍ: شُجَيْرَةٌ لَهَا نَوْرٌ أَصْفَرُ.
وَأُمُّ عِرْيَطٍ: الْعَقْرَبُ.
وَأُمُّ النَّدَامَةِ: الْعَجَلَةُ.
وَأُمُّ قَشْعَمٍ، وَأُمُّ خَشَّافٍ، وَأُمُّ الرَّقُوبِ، وَأُمُّ الرَّقِمِ، وَأُمُّ أَرَيْقَ، وَأُمُّ رُبَيْقٍ، وَأُمُّ جُنْدَبٍ، وَأُمُّ الْبَلِيلِ، وَأُمُّ الرُّبَيْسِ، وَأُمُّ حَبَوْكَرَى، وَأُمُّ أَدْرَصٍ، وَأُمُّ نَآدٍ، كُلُّهَا كُنَى الدَّاهِيَةِ.
وَأُمُّ فَرْوَةٍ: النَّعْجَةُ.
وَأُمُّ سُوَيدٍ وَأُمُّ عِزْمٍ: سَافِلَةُ الْإِنْسَانِ.
وَأُمُّ جَابِرٍ: إِيَادٌ.
وَأُمُّ شَمْلَةٍ: الشَّمَالُ الْبَارِدَةُ.
وَأُمُّ غِرْسٍ: الرَّكِيَّةُ.
وَأُمُّ خُرْمَانَ: طَرِيقٌ.
وَأُمُّ الْهَشِيمَةِ: شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ يَابِسِ الشَّجَرِ.
قَالَ الْفَرَزْدَقُ يَصِفُ قِدْرًا:
إِذَا أُطْعِمَتْ أُمَّ الْهَشِيمَةِ أَرْزَمَتْ *** كَمَا أَرْزَمَتْ أُمُّ الْحِوَارِ الْمُجَلَّدِ
وَأُمُّ الطَّعَامِ: الْبَطْنُ.
قَالَ:
رَبَّيْتُهُ وَهْوَ مِثْلُ الْفَرْخِ أَعْظَمُهُ *** أُمُّ الطَّعَامِ تَرَى فِي جِلْدِهِ زَغَبَا
قَالَ الْخَلِيلُ: الْأُمَّةُ: الدِّينُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22].
وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: لَا أُمَّةَ لَهُ، أَيْ: لَا دِينَ لَهُ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى دِينٍ حَقٍّ مُخَالِفٍ لِسَائِرِ الْأَدْيَانِ فَهُوَ أُمَّةٌ.
وَكُلُّ قَوْمٍ نُسِبُوا إِلَى شَيْءٍ وَأُضِيفُوا إِلَيْهِ فَهُمْ أُمَّةٌ، وَكُلُّ جِيلٍ مِنَ النَّاسِ أُمَّةٌ عَلَى حِدَةٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: لَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، وَلَكِنِ اقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213]، فَقِيلَ: كَانُوا كُفَّارًا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
وَقِيلَ: بَلْ كَانَ جَمِيعُ مَنْ مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّفِينَةِ مُؤْمِنًا ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
وَقِيلَ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]، أَيْ: إِمَامًا يُهْتَدَى بِهِ، وَهُوَ سَبَبُ الِاجْتِمَاعِ.
وَقَدْ تَكُونُ الْأُمَّةُ جَمَاعَةَ الْعُلَمَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104]، وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْأُمَّةُ: الْقَامَةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: إِنَّ فُلَانًا لَطَوِيلُ الْأُمَّةِ، وَهُمْ طِوَالُ الْأُمَمِ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ الْأَكْرَمِينَ *** حِسَانُ الْوُجُوهِ طِوَالُ الْأُمَمْ
قَالَ الْكِسَائِيُّ: أُمَّةُ الرَّجُلِ بَدَنُهُ وَوَجْهُهُ.
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْأُمَّةُ: الطَّاعَةُ وَالرَّجُلُ الْعَالِمُ.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ: إِنَّهُ لَحَسَنُ أُمَّةِ الْوَجْهِ، يَغْزُونَ السُّنَّةَ.
وَلَا أُمَّةَ لِبَنِي فُلَانٍ، أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ وَجْهٌ يَقْصِدُونَ إِلَيْهِ لَكِنَّهُمْ يَخْبِطُونَ خَبْطَ عَشْوَاءَ.
قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: مَا أَحْسَنَ أُمَّتَهُ، أَيْ: خَلْقَهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْأُمِّيُّ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْسُوبُ إِلَى مَا عَلَيْهِ جِبِلَّةُ النَّاسِ لَا يَكْتُبُ، فَهُوَ [فِي] أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ عَلَى مَا وُلِدَ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ النَّابِغَةِ:
وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ.
فَمَنْ رَفَعَهُ أَرَادَ سُنَّةَ مَلِكَةٍ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَكْسُورًا جَعَلَهُ دِينًا مِنَ الِائْتِمَامِ، كَقَوْلِكَ: ائْتَمَّ بِفُلَانٍ إِمَّةً.
وَالْأُمَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، أَيْ بَعْدَ حِينٍ.
وَالْإِمَامُ: كُلُّ مَنِ اقْتُدِيَ بِهِ وَقُدِّمَ فِي الْأُمُورِ.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ، وَالْخَلِيفَةُ إِمَامُ الرَّعِيَّةِ، وَالْقُرْآنُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ الْخَلِيلُ: الْإِمَّةُ: النِّعْمَةُ.
قَالَ الْأَعْشَى:
وَأَصَابَ غَزْوُكَ إَمَّةً فَأَزَالَهَا.
قَالَ: وَيُقَالُ لِلْخَيْطِ الَّذِي يُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ: إِمَامٌ.
قَالَ الْخَلِيلُ: الْأَمَامُ: الْقُدَّامُ، يَقُولُ: صَدْرُكَ أَمَامُكَ، رَفَعَ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ اسْمًا، وَيَقُولُ: أَخُوكَ أَمَامَكَ، نُصِبَ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الصِّفَةِ يَعْنِي بِهِ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ لَبِيدٍ:
فَغَدَتْ كِلَا الْفَرْجَيْنِ تَحْسَبُ أَنَّهُ *** مَوْلَى الْمَخَافَةِ خَلْفُهَا وَأَمَامُهَا
فَإِنَّهُ رَدَّ الْخَلْفَ وَالْأَمَامَ عَلَى الْفَرْجَيْنِ، كَقَوْلِكَ: كِلَا جَانِبَيْكَ مَوْلَى الْمَخَافَةِ يَمِينُكَ وَشِمَالُكَ، أَيْ: صَاحِبُهَا وَوَلِيُّهَا، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: امْضِ يَمَامِي، فِي مَعْنَى: امْضِ أَمَامِي.
وَيُقَالُ: يَمَامِي وَيَمَامَتِي.
قَالَ:
فَقُلْ جَابَتِي لَبَّيْكَ وَاسْمَعْ يَمَامَتِي.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ:.
أَمَامَهَا لَقِيَتْ أَمَةٌ عَمَلَهَا.
أَيْ: حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ وَجَدَتْ عَمَلًا.
وَيَقُولُونَ: أَمَامَكَ تَرَى أَثَرَكَ، أَيْ: تَرَى مَا قَدَّمْتَ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ:
رُوَيْدَ تَبَيَّنْ مَا أَمَامَةُ مِنْ هِنْدِ.
يَقُولُ: تَثَبَّتْ فِي الْأَمْرِ وَلَا تَعْجَلْ يَتَبَيَّنْ لَكَ.
قَالَ الْخَلِيلُ: الْأَمَمُ: الشَّيْءُ الْيَسِيرُ الْحَقِيرُ، تَقُولُ: فَعَلْتُ شَيْئًا مَا هُوَ بِأَمَمٍ وَلَا دُونٍ.
وَالْأَمَمُ: الشَّيْءُ الْقَرِيبُ الْمُتَنَاوَلُ.
قَالَ:
كُوفِيَّةٌ نَازِحٌ مَحَلَّتُهَا *** لَا أَمَمٌ دَارُهَا وَلَا صَقَبُ
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ: أَمَمٌ، أَيْ: [صَغِيرٌ، وَ] عَظِيمٌ، مِنَ الْأَضْدَادِ.
وَقَالَ ابْنُ قَمِيئَةَ فِي الصَّغِيرِ:
يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى الشَّبَابِ وَلَمْ *** أَفْقِدْ بِهِ إِذْ فَقَدْتُهُ أَمَمَا
قَالَ الْخَلِيلُ: الْأَمَمُ: الْقَصْدُ.
قَالَ يُونُسُ: هَذَا أَمْرٌ مَأْمُومٌ: يَأْخُذُ بِهِ النَّاسُ.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو: رَجُلٌ مِئَمٌّ، أَيْ: يَؤُمُّ الْبِلَادَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
قَالَ:
احْذَرْنَ جَوَّابَ الْفَلَا مِئَمَّا.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، جَمْعُ آمٍّ يَؤُمُّونَ بَيْتَ اللَّهِ، أَيْ: يَقْصِدُونَهُ.
قَالَ الْخَلِيلُ: التَّيَمُّمُ يَجْرِي مَجْرَى التَّوَخِّي، يُقَالُ لَهُ: تَيَمَّمْ أَمْرًا حَسَنًا وَتَيَمَّمُوا أَطْيَبَ مَا عِنْدَكُمْ تَصَدَّقُوا بِهِ.
وَالتَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، أَيْ: تَوَخَّوْا أَطْيَبَهُ وَأَنْظَفَهُ وَتَعَمَّدُوهُ.
فَصَارَ التَّيَمُّمُ فِي أَفْوَاهِ الْعَامَّةِ فِعْلًا لِلتَّمَسُّحِ بِالصَّعِيدِ، حَتَّى يَقُولُوا قَدْ تَيَمَّمَ فُلَانٌ بِالتُّرَابِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، أَيْ: تَعَمَّدُوا.
قَالَ:
إِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا *** فَعَمْدًا عَلَى عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا
وَتَقُولُ: يَمَّمْتُ فُلَانًا بِسَهْمِي وَرُمْحِي، أَيْ: تَوَخَّيْتُهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، قَالَ:
يَمَّمْتُهُ الرُّمْحَ شَزْرًا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ *** هَذِهِ الْمُرُوَّةُ لَا لِعْبُ الزَّحَالِيقِ
وَمَنْ قَالَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: أَمَّمْتُهُ، فَقَدْ أَخْطَأَ لِأَنَّهُ قَالَ شَزْرًا وَلَا يَكُونُ الشَّزْرُ إِلَّا مِنْ نَاحِيَةٍ، وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ أَمَامَهُ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْأُمَامَةُ الثَّمَانُونَ مِنَ الْإِبِلِ.
قَالَ:
فَمَنَّ وَأَعْطَانِي الْجَزِيلَ وَزَادَنِي *** أُمَامَةَ يَحْدُوهَا إِلَيَّ حُدَاتُهَا
وَالْأُمُّ: الرَّئِيسُ، يُقَالُ: هُوَ أُمُّهُمْ.
قَالَ الشَّنْفَرَى:
وَأُمُّ عِيَالٍ قَدْ شَهِدْتُ تَقُوتُهُمْ *** إِذَا أَطْعَمَتْهُمْ أَحْتَرَتْ وَأَقَلَّتِ
أَرَادَ بِأُمِّ الْعِيَالِ رَئِيسَهُمُ الَّذِي كَانَ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ تَأَبَّطَ شَرًّا.
مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م
159-مقاييس اللغة (أنف)
(أَنَفَ) الْهَمْزَةُ وَالنُّونُ وَالْفَاءُ أَصْلَانِ مِنْهُمَا يَتَفَرَّعُ مَسَائِلُ الْبَابِ كُلُّهَا: أَحَدُهُمَا أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَالثَّانِي أَنْفُ كُلِّ ذِي أَنْفٍ.وَقِيَاسُهُ التَّحْدِيدُ.
فَأَمَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فَقَالَ الْخَلِيلُ: اسْتَأْنَفْتُ كَذَا، أَيْ: رَجَعْتُ إِلَى أَوَّلِهِ، وَائْتَنَفْتُ ائْتِنَافًا.
وَمُؤْتَنَفُ الْأَمْرِ: مَا يُبْتَدَأُ فِيهِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: فَعَلَ كَذَا آنِفًا، كَأَنَّهُ ابْتِدَاؤُهُ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16].
وَالْأَصْلُ الثَّانِي الْأَنْفُ، مَعْرُوفٌ، وَالْعَدَدُ آنُفٌ، وَالْجَمْعُ أُنُوفٌ.
وَبَعِيرٌ مَأْنُوفٌ يُسَاقُ بِأَنْفِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا عَقَرَهُ الْخِشَاشُ انْقَادَ.
وَبَعِيرٌ أَنِفٌ وَآنِفٌ مَقْصُورٌ مَمْدُودٌ.
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: الْمُسْلِمُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ، كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، إِنْ قِيدَ انْقَادَ وَإِنْ أُنِيخَ اسْتَنَاخَ.
وَرَجُلٌ أُنَافِيٌّ عَظِيمُ الْأَنْفِ.
وَأَنَفْتُ الرَّجُلَ: ضَرَبْتُ أَنْفَهُ.
وَامْرَأَةٌ أَنُوفٌ طَيِّبَةُ رِيحِ الْأَنْفِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنِفَ مِنْ كَذَا، فَهُوَ مِنَ الْأَنْفِ أَيْضًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ لِلْمُتَكَبِّرِ: وَرِمَ أَنْفُهُ.
ذُكِرَ الْأَنْفُ دُونَ سَائِرِ الْجَسَدِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: شَمَخَ بِأَنْفِهِ، يُرِيدُ رَفَعَ رَأْسَهُ كِبْرًا، وَهَذَا يَكُونُ مِنَ الْغَضَبِ.
قَالَ:
وَلَا يُهَاجُ إِذَا مَا أَنْفُهُ وَرِمَا.
أَيْ: لَا يُكَلَّمُ عِنْدَ الْغَضَبِ.
وَيُقَالُ: وَجَعُهُ حَيْثُ لَا يَضَعُ الرَّاقِي أَنْفَهُ.
يُضْرَبُ لِمَا لَا دَوَاءَ لَهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بَنُو أَنْفِ النَّاقَةِ بَنُو جَعْفَرِ بْنِ قُرَيْعِ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ، يُقَالُ: إِنَّهُمْ نَحَرُوا جَزُورًا كَانُوا غَنِمُوهَا فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِمْ،.
وَقَدْ تَخَلَّفَ جَعْفَرُ بْنُ قُرَيْعٍ، فَجَاءَ وَلَمْ يَبْقَ مِنَ النَّاقَةِ إِلَّا الْأَنْفُ فَذَهَبَ بِهِ، فَسَمَّوْهُ بِهِ.
هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ قُرَيْعَ بْنَ عَوْفٍ نَحَرَ جَزُورًا وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِنَّ بِلَحْمٍ خَلَا أُمَّ جَعْفَرٍ، فَقَالَتْ أُمُّ جَعْفَرٍ: اذْهَبْ وَاطْلُبْ مِنْ أَبِيكَ لَحْمًا.
فَجَاءَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْأَنْفُ فَأَخَذَهُ فَلَزِمَهُ وَهُجِيَ بِهِ.
وَلَمْ يَزَالُوا يُسَبُّونَ بِذَلِكَ، إِلَى أَنْ قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
قَوْمٌ هُمُ الْأَنْفُ وَالْأَذْنَابُ غَيْرُهُمُ *** وَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا
فَصَارَ بِذَلِكَ مَدْحًا لَهُمْ.
وَتَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ أَنْفِي، أَيْ: عِزِّي وَمَفْخَرِي.
قَالَ شَاعِرٌ:
وَأَنْفِي فِي الْمَقَامَةِ وَافْتِخَارِي.
قَالَ الْخَلِيلُ: أَنْفُ اللِّحْيَةِ طَرَفُهَا، وَأَنْفُ كُلِّ شَيْءٍ أَوَّلُهُ.
قَالَ:
وَقَدْ أَخَذَتْ مِنْ أَنْفِ لِحْيَتِكَ الْيَدُ.
وَأَنْفُ الْجَبَلِ: أَوَّلُهُ وَمَا بَدَا لَكَ مِنْهُ.
قَالَ:
خُذَا أَنْفَ هَرْشَى أَوْقَفَاهَا فَإِنَّهُ *** كِلَا جَانِبَيْ هَرْشَى لَهُنَّ طَرِيقُ
قَالَ يَعْقُوبُ: أَنْفُ الْبَرْدِ: أَشَدُّهُ.
وَجَاءَ يَعْدُو أَنْفَ الشَّدِّ، أَيْ: أَشَدَّهُ.
وَأَنْفُ الْأَرْضِ: مَا اسْتَقْبَلَ الْأَرْضَ مِنَ الْجَلَدِ وَالضَّوَاحِي.
وَرَجُلٌ مِئْنَافٌ: يَسِيرُ فِي أَنْفِ النَّهَارِ.
وَخَمْرَةٌ أُنُفٌ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا.
قَالَ:
أُنُفٍ كَلَوْنِ دَمِ الْغَزَالِ مُعَتَّقٍ *** مِنْ خَمْرِ عَانَةَ أَوْ كُرُومِ شِبَامِ
وَجَارِيَةٌ أُنُفٌ مُؤْتَنِفَةُ الشَّبَابِ.
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَنَّفْتُ السِّرَاجَ: إِذَا أحْدَدْتُ طَرَفَهُ وَسَوَّيْتَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ فِي مَدْحِ الْفَرَسِ: أُنِّفَ تَأْنِيفَ السَّيْرِ، أَيْ: قُدَّ وَسُوِّيَ كَمَا يُسَوَّى السَّيْرُ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سِنَانٌ مُؤَنَّفٌ، أَيْ: مُحَدَّدٌ.
قَالَ:
بِكُلِّ هَتُوفٍ عَجْسُهَا رَضَوِيَّةٍ *** وَسَهْمٍ كَسَيْفِ الْحِمْيَرِيِّ الْمُؤَنَّفِ
وَالتَّأْنِيفُ فِي الْعُرْقُوبِ: التَّحْدِيدُ، وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ مِنَ الْفَرَسِ.
مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م
160-صحاح العربية (عز)
[عزز] العِزُّ: خلاف الذُلّ.ومطر عز، أي شديد.
وعز الشئ يعز وعزة وعزازة، إذا قلَّ لا يكاد يوجد، فهو عزيز.
وعز فلان يعز عزا وعِزَّةً وعَزازَةً أيضًا، أي صار عَزيزًا، أي قوي بعد ذِلَّة.
وأعَزَّهُ الله.
وعَزَزْت عليه أيضًا: كَرُمت عليه.
وقوله تعالى: {فَعَزَّزْنا بثالث}، يخفَّف ويشدد، أي قوَّينا وشددنا.
قال الاصمعي: أنشدني فيه أبو عمرو ابن العلاء للمتلمس: أجد إذا رحلت تعزز لحمها *** وإذا تشد بنسعها لا تنبس *** ويروى: " أجد إذا ضمزت ".
قوله: لا تنبس، أي لا ترغو.
وتعزز الرجل: صار عزيزا.
وهو يَعْتَزُّ بفلان.
وعَزَّ عليَّ أن تفعل كذا.
وعَزَّ عليَّ ذاك أي حَقّ واشتدَّ.
وفي المثل: " إذا عَزَّ أخوك فَهُنْ ".
وأعْزِزْ عليّ بما أصبت به.
وقد أُعْزِزْتُ بما أصابك، أي عَظُم عليّ.
وجمع العزيز عِزازٌ، مثل كريم وكرام.
وقوم أعزَّةٌ وأعِزَّاءُ.
وقال: بيض الوجوه ألِبَّة ومَعاقل *** في كلِّ نائبة عِزاز الآنفِ *** والعَزوزُ من النوق: الضيِّقة الإحليل.
تقول منه: عَزَّتِ الناقة تَعُزُّ بالضم عُزوزًا وعزازا.
وأعزت وتعززت مثله.
وعزه أيضًا يَعُزُّهُ عَزًّا: غلبه.
وفي المثل: " مَنْ عَزَّ بَزَّ "، أي من غلب سلب.
والاسم العِزَّةُ، وهي القوة والغلبة.
والعَزَّةُ بالفتح: بنت الظبية.
قال الراجز: هان على عزة بنت الشحاج *** مهوى جمال مالك في الادلاج *** وبها سميت المرأة عزة.
وعزه في الخطاب وعازَّهُ، أي غَالَبه.
وأعَزَّتِ البقرةُ، إذا عَسُر حمْلُها.
والعَزازُ بالفتح: الأرض الصلبة.
وقد أعْزَزْنا، أي وقعنا فيها وسِرنا.
وأرضٌ معزوزةٌ، أي شديدة.
والمطر يُعَزِّزُ الأرض، أي يلبِّدها.
والعزَّاءُ: السنة الشديدة.
قال الشاعر:
ويَعبِط الكومَ في العزَّاء إن طُرقا *** ويقال: إنَّكم معزَّزٌ بكم، أي مشدَّد بكم بر مخفف عنكم.
واستعز الرمل وغيره: تماسك فلم ينهل.
واسْتَعَزَّ فلانٌ بحقِّي، أي غلبني.
واسْتُعِزَّ بفلانٍ، أي غُلِبَ في كل شئ، مرض أو غيره.
وقال أبو عمرو: اسْتُعِزَّ بالعليل، إذا اشتد
وجعه وغلب على عقله.
وفى الحديث: " استعز بكلثوم ".
وفلان معزاز المرض، أي شديده.
والعُزَّى: تأنيث الأعَزِّ.
وقد يكون الأعزُّ بمعنى العزيز والعُزَّى بمعنى العزيزة.
وهو أيضا اسم صنم كان لقريش وبنى كنانة.
قال الشاعر: أما ودماءٍ مائِراتٍ تَخالُها *** على قُنَّةِ العزى وبالنسر عندما *** ويقال: العزى سمرة كانت لغطفان يعبدونها، وكانوا بنوا عليها بيتا وأقاموا لها سدنة، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السمرة، وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك *** إنى رأيت الله قد أهانك *** والعزيزى من الفرس، يُمدُّ ويقصر.
فمن قصر ثنَّى: عُزِيْزَيانِ، ومن مدَّ: عُزِيْزاوانِ ; وهما طرفا الوركين.
قال: أُمِرَّت عُزَيْزاهُ ونِيطتْ كُرومه *** إلى كَفَلٍ رابٍ وصلب موثق
صحاح العربية-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م
161-تهذيب اللغة (عزّ)
عزّ: (الْعَزِيزُ) من صفات الله جلّ وعزّ وأسمائه الحسنى.وقال أبو إسحاق بن السريّ: (الْعَزِيزُ) في صفة الله تعالى: الممتنع، فلا يغلبه شيء.
وقال غيره: هو القويّ الغالب على كلّ شيء، وقيل: هو الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
ويقال مَلكٌ أعزّ وعزيزٌ، بمعنًى واحد.
وقال الله جلّ وعزّ: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} [ص: 23] معناه غلبني.
وقرأ بعضهم: {وعازني في الخطاب} أي غالبني.
وأخبرني المنذريّ عن الحراني عن ابن السكيت قال: يقال عزّه يعزُّه، إذا غلبه وقهره.
وأنشد في صفة جمل:
يَعُزُّ على الطريق بمنكِبَيْهِ *** كما ابتركَ الخليعُ على القِداح
يقول: يغلب هذا الجملُ الإبلَ على لزوم الطريق، فشبَّه حرصَه على لزوم الطَّريقِ وإلحاحَه على السَّير، بحِرص هذا الخليعِ على الضَّرب بالقداح، لعلَّه أن يسترجعَ بعضَ ما ذهبَ من ماله.
والخليع: المخلوع المقمور ماله.
وأما قول الله عزّ وجلّ: {فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ} [يس: 14] فمعناه قوّيناه وشدّدناه.
وقال الفراء: ويجوز {عزَزنا} مخفّفًا بهذا المعنى، كقولك شدَدنا قال: ويقال عَزَّ يَعَزّ، بفتح العين من يَعزّ، إذا اشتدّ.
ويقال عزّ كذا وكذا، جامعٌ في كل شيء، إذا قلّ حتَّى لا يكاد يوجد.
وهو يَعِزُّ بكسر العين عِزَّةً فهو عزيز.
أبو عبيد عن أبي زيد: يقال عزّ الرجل يعِزّ عِزًّا وعِزّة إذا قوىَ بعد ذلّة.
وعززت عليه
أعِزّ عِزًّا وعَزَازة.
قال: وعَزَّت الناقة تعُزُّ عُزوزًا فهي عَزُوزٌ، إذا كانت ضيّقة الإحليل.
قال: وأعززتُ الرجل: جعلتُه عزيزًا.
وأعززته: أكرمته وأحببته.
وأخبرني الإياديّ أنه وجد شمرًا يضعِّف قول أبي زيد في قوله أعززته أي أحببته.
وقال ابن شميل: شاة عَزوز: ضيّقة الإحليل لا تُدرّ حتَّى تحلب بجهد.
وقد أعزّت، إذا كانت عَزُوزًا.
وقال الليث: يقال تعزَّزَتْ، لهذا المعنى.
أبو عبيد عن أبي زيد: إذا استبانَ حملُ الشاة وعظُم ضرعُها قيل رمّدت، وأعزّت وأضرعَت، بمعنى واحد.
وقول الله عزّ وجلّ: {لَيُخْرِجَنَ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ} [المنَافِقون: 8] وقرىء: {لَيَخرُجَنَ الأعز منها الأذل} أي ليخرجن العزيز منها ذليلا، فأدخل الألف واللام على الحال.
وقال: جلّ وعزّ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ} [المَائدة: 54] يقول: يتذللون للمؤمنين وإن كانوا أعزة، ويتعززون على الكافرين وإن كانوا في شرف الأحساب دونهم.
والعرب تقول: «إذا عزّ أخوك فهُنْ»، المعنى إذا غلبك وقهرَك فلم تقاومْه فتواضعْ له؛ فإن اضطرابك عليه يزيدك ذُلًّا.
ومن كلام العرب: «مَن عَزّ بَزّ» ومعناه من غَلَب سَلب.
والعَزَاز: الأرض الضُّلبة.
ويقال للمطر الوابل إذا ضربَ الأرضَ السهلةَ بغيبتها فشدّدها حتَّى لا تسوخ فيها القوائم ويذهب وعوثتها: قد شدّد منها وعزّزَ منها.
وقال
عزّزَ منه وهو معطي الإسهالْ *** ضربُ السوارى متْنَه بالتَّهتال
ويقال أعززنا: أي وقَعنا في الأرض العَزاز، كما يقال أسهلنا، أي وقعنا في أرض سهلة.
وفي الحديث أنّه «استُعِزَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه».
قال أبو عمرو: واستُعِزَّ بفلان، أي غُلِب، يقال ذلك في كل شيءٍ من مرضٍ أو عاهة.
قال: واستعزَّ الله بفلانٍ.
واستَعزَّ فلانٌ بحقّي، أي غلبني.
وفلانٌ مِعزازُ المرض، إذا كان شديدَ المرض.
ويقال له أيضًا إذا مات: استُعِزَّ به.
وفي حديث ابن عمر «أنّ قومًا اشتركوا في لحم صيدٍ وهم مُحرمون، فسألوا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّا يجب عليهم، فأمر كلّ واحدٍ منهم بكفّارة ثم سألوا عمر وَأخبروه بفتيا الذي أفتاهم، فقال: إنكم معزَّزٌ بكم»، أي مشدّد بكم، ومثقَّل عليكم الأمر.
أبو العباس عن ابن الأعرابيّ قال: العِزُّ: المطر الشديد الوابل.
قال: والعَزَّاء: الشدّة.
وقال الفراء: يقال للأرض العَزَاز عَزّاءُ أيضًا.
وقال ابن شميل: العَزَاز: ما غلظ من الأرض وأسرع سيلُ مطره، يكون من القِيعان والصَّحاصح وأسناد الجبال والآكام وظهور القِفاف.
وقال العجّاج:
من الصَّفا العاسي ويَدهَسْنَ الغَدَرْ *** عَزَازَه ويهتمِرْن ما انْهمَرْ
وتعزَّز لحمُ الناقة، إذا اشتدّ وصلُب.
وقال أبو عمرو في مسائل الوادي: أبعدها سيلا الرَّحَبة، ثم الشُّعبة، ثم التَّلْعة، ثم المِذْنب، ثم العَزَازة.
وقال الفرّاء: العَزَّة: بنت الظَّبية، وبها سمِّيت المرأة عَزّة.
وقال أبو عبيدةَ في كتاب «الخيل»: العزيزاء وهما عُزَيزاوا الفرس: ما بين جاعرتيه.
وقال أبو مالك: العُزَيزاء: عصبة رقيقة مركّبة في عظم الخَوْران إلى الورك.
وأنشد في صفة الفرس:
أمِرَّت عُزيزاهُ ونيطت كُرومهُ *** إلى كفلٍ رابٍ وصُلْبٍ موثِّقِ
قال: والكرمة: رأس الفخذ المستديرُ كأنّه جَوْزة، وموضعها الذي تدور فيه من الورك القَلْت.
وقال ابنُ شميل: يقال للعنز إذا زُجرتْ: عَزْ عَزْ، وعزعزتُ بها فلم تَعَزعَز، أي لم تتنحَّ.
ثعلبٌ عن ابن الأعرابي: العَزعزُ الغلبة.
قال: والزَّعزع الفالوذ.
قال: وعزّ الماء يعزّ، وعزّت القَرحة تَعِزّ، إذا سال ما فيها وكذلك مَذَع وبَذَعَ، وصَهَى، وهمى، وفزّ، إذا سال ويقال عَزُزت الناقة، إذا ضاق إحليلُها ولها لبنٌ كثير.
قلت: أظهر التضعيف في عَزُزت، وليس ذلك بقياس.
وقول الله جلّ وعزّ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النّجْم: 19] جاء في التفسير أن اللاتَ صنَم كان لثقيف، وأن العُزَّى سمُرةٌ كانت لغطَفانَ يعبدونها، وكانوا بنَوْا عليها بيتًا وأقاموا لها سَدَنة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إليها، فهدم البيت وأحْرق السَّمُرة.
والعُزَّى: تأنيث الأعزّ، مثل الكبرى والأكبر.
والأعزُّ بمعنى العزيز، والعُزَّى بمعنى العزيزة.
وقال أبو زيد: يقال: إنّما فلانٌ عنزٌ عَزُوزٌ لها دَرٌّ جَمٌّ، إذا كان كثير المال شحيحًا والعزوز: الضيّقة الإحليل.
وقال ابن شُميل: شاةٌ عَزوزٌ بيِّنة العِزاز.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
162-تهذيب اللغة (رعم)
رعم: قال الليث: رَعمت الشاة تَرْعَم فهي رَعُوم.وهو داء يأخذها في أَنْفها فيسيل منه شيء يقال له: الرُّعَام.
قال: ورَعُوم: اسم امرأة.
أبو عبيد عن أبي زيد: الرَّعُوم ـ بالراء ـ: من الشاء التي يسيل مُخَاطها من الهُزَال وقد أَرْعمت إرعامًا إذا سال رُعَامُها وهو
المُخَاط.
ويقال: كِسْر رَعِم: ذو شحم.
والرِّعْم: الشَحْم.
وقال أبو وجزة:
فيها كسورٌ رَعِمات وسُدُفْ
ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الرَّعَام واليعمور: الطلِيّ وهو العَرِيض.
ويقال رَعَمْتُ الشمسَ إذا نظرت وجوبها.
وقال الطِرِمَّاح:
ومُشيحٍ عَدْوه مِتْأقٌ *** يَرْعَم الإيجاب قبل الظلام
أي: ينتظر وجوب الشمس.
عرم: الليث: عَرَم الإنسان يَعْرُم عَرَامة فهو عارم، وأنشد:
إن امرؤ يذُبّ عن محارمي *** بَسْطةُ كَفّ ولسانٍ عارمِ
وعُرَام الجيش: حَدّهم وشِرَّتهم وكثرتهم.
وأنشد:
وليلة هَول قد سَرَيت وفِتْيةٍ *** هَدَيتُ وجمع ذي عُرام مُلَادِس
ثعلب عن ابن الأعرابيّ: العَرِم: الجاهل، وقد عَرَم يَعْرُم وعَرُم وعَرِم.
وقال الفرّاء: العُرَاميّ من العُرّام وهو الجهل.
أبو العباس عن ابن الأعرابيّ قال: يقال لقشور العَوْسج: العُرَام، وأنشد:
وبالثُمَام وعُرَام العَوْسَج
قال: والعَرِم: السَيْل الذي لا يطاق.
قال الله جلّ وعزّ {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سَبَإ: 16] قال أبو عبيدة: العَرِم جمع العَرِمة وهي السِكْر والمُسنَّاة.
وقيل: العَرِم: اسم واد.
وقيل: العَرِم ههنا: اسم الجُرَذ الذي بَثَق السِكْرَ عليهم، وهو الذي يقال له: الخلْد.
أبو العباس عن ابن الأعرابي: من أسماء الفأر البِرّ والثُعْبة والعَرِم.
وقيل: العَرِم: المطر الشديد.
وكان قوم سبأ في نَعْمة ونِعمة وجِنان كثيرة.
وكانت المرأة منهم تخرج وعلى رأسها الزَبِيلِ فتعتمل بيديها وتسير بين ظهراني الشجر المثمر فيسقط في زَبِيلها ما تحتاج إليه من ثمار الشجر، فلم يشكروا نعمة الله، فبعث الله عليهم جُرَزًا وكان لهم سِكْر فيه أبواب يفتحون ما يحتاجون إليه من الماء، فنقبه ذلك الجُرَذ حتى بثق عليهم السِكْر فغرَّق جِنانَهم.
وقال أبو العباس: قال ابن الأعرابي: يوم عارم: ذو نهاية في البَرْد نهارُه وليلُه.
وأنشد:
وليلة إحدى الليالي العُرَّم *** بين الذراعين وبين المِرْزَم
تهُمّ فيها العَنْز بالتكلُّم
أبو عُبَيد عن الأصمعيّ قال: الحيَّة العَرْماء: التي فيها نُقَط سود وبيض.
وقال أبو عبيد: ورُوِي عن مُعاذ بن جبل أنه ضحَّى بكبشين أعرمين.
وأنشد الأصمعيّ:
أبا مَعْقِل لا توطِئَنْكَ بَغَاضَى *** رؤوسَ الأفاعي في مراصدها العُرْمِ
وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: الأقلف يقال له: الأعرم.
ورَوَى عمرو عن أبيه أنه قال: العرامين: القُلْفان من الرجال.
قال: والعُرمان: الأكَرَة،
واحدهم أعرم.
قلت: ونون العرامين والعُرْمان ليست بأصلية.
يقال: رجل أعرم ورجال عُرْمان ثم عرامين جمع الجمع.
وسمعت العرب تقول لجمع القِعْدان من الإبل: القعادين، والقِعْدانُ جمع القَعُود، والقعادين نظير العرامين.
وقال ابن الأعرابيّ: العريم: الداهية.
وقال ابن شميل عن الهَمْداني: العَرِم والمِعْذار: ما يُرْفع حول الدبرة.
شمر عن ابن الأعرابي: العَرَمَة: أرض صُلْبة إلى جَنْب الصَّمان.
وقال رؤبَة:
وعارض العِرْض وأعناق العَرَمْ
قلت: العَرَمة تتاخم الدَهْنى وعارض اليمامة يقابلها، وقد نزلْت بها.
وقال ابن الأعرابي: كبش أعرم: فيه سواد وبياض.
وقال ثعلب: العَرِم من كل شيء: ذو لونين.
قال: والنمر ذو عَرَم.
وكذلك بَيْضُ القطا عُرْم.
وقال أبو وَجْزة:
باتت تباشر عُرمًا غير أزواج
قال: والعَرَمة: الأنبار من الحِنطة والشعير.
وقال الليث: العُرْمة: بياض بَمَرمَّة الشاة الضائنة أو المعْزى.
وكذلك إذا كان في أذنها نُقَط سود والاسم العَرَم.
قال: والعَرَمة: الكُدْس المَدُوس الذي لم يُذَرّ، يجعل كهيئة الأَزَج ثم يُذرَّى.
قال: والعَرَمْرَم: الجيش الكثير.
والعَرَم: اللحم، قاله الفرَّاء.
قال: ويقال: عَرَمت العظم أعرِمه إذا تعرّقتَه.
والعُرَام والعُراق واحد.
ويقال: أعْرُم من كلب على عُرَام.
ويقال: إن جزورَكم لطيّب العَرَمة أي طيّب اللحم.
ويقال عَرَم الصبيّ ثدي أمّه إذا مَصّه.
وأنشد يونس:
ولا تُلْفَيَنّ كذات الغلا *** م إن لم تجد عارمًا تعترمْ
أراد بذات الغلام: الأمّ المرضع إن لم تجد مَن يمتَصّ ثديها مصّته هي.
قال: ومعناه: لا تكن كمن يهجو نفسه إذا لم يجد من يهجوه.
وعارِمة: أرض معروفة.
وقال ابن الأعرابي: عَرْمى والله لأفعلن ذاك وعَرْمى وحَرْمى ثلاث لغات بمعنى: أَمَا والله.
وأنشد:
عَرْمى وجَدّك لو وجدتَ لهم *** كعداوةٍ يجدونها تَغلي
وقال شمر: العَرَم: الكُدْس من الطعام، عَرَمةٌ وعَرَم.
وقال بعض النَمريين: تجعل في كل سُلْفة من حبّ عَرَمة من دَمَال.
فقيل له: ما العَرَمة؟ فقال: جُثْوة منه يكون مزبلين حِمْلَ بقرتين.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
163-تهذيب اللغة (عملق قمعلقلعم)
عملق ـ قمعل ـ قلعم: وقال ابن دريد: العَمْلَقة: اختلاط الماء وَخثورته.وقال الليث: القُمْعُل: القَدَح الضخم بلغة هُذَيل.
وقال راجزهم:
يلتهب الأرض بوَأْب حَوْأَبِ *** كالقمعل المنكبّ فوق الأثلب
ينعت حافر الفرس.
ثعلب عن ابن الأعرابي: القُمْعُل: القَدَح الضخم.
وقال الليث: القِمْعال: سيّد القوم.
عمرو عن أبيه: العَمْلق الجَوْر والظلم.
وقال الليث القِلَّعْم والقِلَّحم: الشيخ المسن الهَرِم.
والحاء أصوب اللغتين.
قال وأما عِمْلاق وهو أبو العمالقة فَهُم الجبابرة الذين كانوا بالشام على عهد موسى.
ورُوِي عن عبد الله بن خبّاب قال: سمعني أبي ونحن نقرأ السجدة ونبكي ونسجد، فبعث إليَّ فدعاني، فأخذ الهِراوة فضربني بها حتى حجزه عني الرَبْو.
فقلت يأبه ما لي؟ قال: ألا أراك جالسًا مع العمالقة، هذا قَرْن خارج الآن.
قلت: كانَ عبدُ الله جلس في مجلس قاصّ لا علم له، وكان يذكّرهم فيبكيهم فأنكر قعوده معهم ودخوله فيما بينهم وسمَّاهم عمالقة لإعجابهم بما هم فيه وتكبرهم على الناس بقراءتهم شبّههم بالجبابرة الذين كانوا على عهد موسى وإعجابهم بأنفسهم وانفرادهم عن الناس وفيهم نزلَ {قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المَائدة: 22].
وعن الأعمش قال: العمالقة حَرُوريَّة بني إسرائيل.
قلت: كأن خَبابًا شبّه القوم الحروريَّة.
أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: القَعْمَلة الفَرْجَهارة، وهي القَمْعَلة.
قال والقَلْعَمة: السَّفِلة من الناس الخسيس وأنشد:
أقلمعة بن صَلْمَعة بن فَقْع *** لهنك لا أبالك تزدريني
وقال والقلعمة المسنَّة من الإبل.
عمرو عن أبيه: قلمع رأسه وصلمعه إذا حَلَقه وقال غيره: القِمعال: رئيس الرِّعاء.
خرج مُقَمْعِلًا إذا كان على الرعاء يأمرهم وينهاهم ويقال للرجل إذا كان في رأسه عُجَر: فيه قماعيل، واحدها قُمعُول، قال ذلك ابن دريد.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
164-تهذيب اللغة (سطح)
سطح: قال الليث: السَّطْحُ: سَطْحُك الشيءَ على وجه الأرض، كما تقول في الحرب: سَطَحُوهُم أي أَضْجَعُوهُم على الأَرْضِ، والسَّطِيحُ المسطوح هو القَتِيلُ، وأنشد:* حتى تَراهُ وَسْطَهَا سَطيحًا*
وسَطِيحٌ الذِّئْبِيُّ كان في الجاهلية يتكَهَّنُ سُمِّي سطيحًا، لأنه لم يكن له بين مَفَاصِلِه قَصَبٌ فكان لا يقدر على قيام ولا قعود، وكان مُنْسَطِحًا على الأرض، وحَدَّثنا بقصته محمدُ ابنُ إسْحَاق السّعْدِيّ قال: حدثنا علي بن حرب المَوْصِليّ، قال: حدثنا أبو أيوب يَعْلَى بن عمْران البَجَلِيّ، قال: حدثني مخزوم بن هانىء المخزومي عن أبيه، وأَتَتْ له خمسون ومائة سنة قال: لما كانت ليلة ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارْتَجَس إيوانُ كِسْرَى، وسقطت منه أربعَ عشرة شُرْفَةً، وخَمِدَت نارُ فارِس، ولم تَخْمَد قبل ذلك مائة عام، وغاضت بُحَيْرَة سَاوَةَ، ورأى المُوبِذَان إِبِلًا صِعابًا تقود خَيْلًا عِرابًا قد قَطَعَتْ دِجْلَةَ، وانتشرت في بلادها فلمّا أصبح كسرى أفزعه ما رأى، فلَبِس تاجه وأخبر مَرازِبَتَه بما رأى، فورد عليه كتَابٌ بخمود النار، فقال المُوبِذَانُ: وأنا رأيت في هذه الليلة وقَصَّ عليه رؤياه في الإبل، فقال له الملك: وأيُّ شيء يكون هذا؟ قال: حادث من ناحية العرب، فبعث كسرى إلى النعمان بن المنذر أن ابْعَثْ إليّ برجل عَالِمٍ ليخبرني عمَّا أسأله، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن نُفَيْلَة الغَسَّانِي، فأخبره بما رأى، فقال: عِلْم هذا عند خالي سَطِيح، قال: فأته وسَلْه وأتِني بجوابه، فقدم على سَطِيح وقد أَشْفَى على الموت فأنْشَأَ يقول:
أَصَمُّ أم يَسْمَعُ غِطْرِيفُ اليمَن *** أم فَادَ فازْلَمَّ به شَأْوُ العَنَن
يا فَاصِلَ الْخُطَّة أَعْيَتْ مَنْ ومَنْ *** أَتَاكَ شَيْخُ الحَيِّ من آل سَنَنْ
رَسُولُ قَيْل العُجْم يَسْرِي لِلْوَسَن *** وأمّه من آل ذئْب بن حَجَن
أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرِّداء والبَدَنْ *** تَجُوبُ بي الأرضَ عَلَى ذات شَجَن
تَرْفَعُني وَجْنَاءُ تَهْوِي من وَجَن *** حتى أَتَى عاري الجبين والقَطَن
لا يَرْهَبُ الرَّعدَ ولا ريْبَ الزَّمن *** تَلُفُّهُ في الرِّيح بَوْغَاءٌ الدِّمَن
كأَنَّما حُثْحِثَ من حِضْنَي ثَكَن فلما سمع سَطِيح شِعْرَه رفع رأسَه فقال: عبد المسيح على جَمَلٍ مُشيح يهوي إلى سَطيح وقد أوفى على الضَّرِيح، بَعَثَكَ مَلِك من بني سَاسَان لارْتجَاسِ الإيوان وخمود النيران ورُؤْيا المُوبِذان، رأى إبِلًا صِعَابًا تقود خَيْلًا عِرَابًا.
يا عبدَ المسيح، إذا كَثُرَت التِّلاوة، وبُعِثَ صاحبُ الهِرَاوَة، وغاضت بُحَيرةُ سَاوَة، فليس الشأم لِسَطيح شَأمًا، يَمْلكُ منهم ملوك ومَلِكات على عَدَدِ الشُّرُفات، وكلّ ما هو آتٍ آت، ثم قُبِضَ سَطِيحٌ مكانه، ونهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول:
شَمِّر فإنك ما عُمِّرْتَ شِمِّيرُ *** لا يُفْزِعَنَّكَ تَفْرِيقٌ وتَغْيِيرُ
إن يُمْسِ مُلْكُ بني ساسان أفرطهم *** فإنَّ ذا الدَّهْرِ أَطْوَارٌ دَهَارِيرُ
فرُبَّما رُبَّمَا أَضْحَوْا بِمَنْزِلَةٍ *** تخَافُ صَوْلَهُم أُسْدٌ مَهَاصِير
منهم أخو الصَّرْح بَهْرَامٌ وإخْوَتهُم *** وهْرْمُزَانٌ وسَابُورٌ وسَابُورُ
والناسُ أولاد عَلَّاتٍ فمن عَلِمُوا *** أَنْ قد أقلَّ فَمَهْجُورٌ ومَحْقُورُ
وهُم بَنُو الأُمِّ لَمَّا أن رَأَوْا نَشَبًا *** فذاك بالغَيْبِ مَحْفُوظٌ ومَنْصُورُ
والخيرُ والشَّرُّ مقرونان في قَرَنٍ *** فالخيرُ مُتَّبَعٌ والشَّرُّ مَحْذُورُ
فلمّا قدم على كِسْرى أخبره بقول سطيح فقال كِسْرى: إلى أن يَمْلِكَ مِنَّا أربعةَ عشرَ مَلِكًا تكون أمُورٌ، فملك منهم عَشَرَة في أربع سنين، ومَلَك الباقون إلى زَمَن عُثمان.
قلت: وهذا الخبر فيه ذكر آية من آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، وهو حديث حسن غريب.
وقال الليث: السَّطحُ: ظَهْرُ البيت إذا كان مُسْتَوِيًا، وفِعْلُكه التَّسْطِيح.
قال: والمِسْطَح والمِسْطَحَةُ: شبه مِطْهَرَة ليست بمُربَّعة، قال: ويُسَمَّى هذا الكوزُ الذي يُتَّخَذُ للسفر ذُو الجَنْبِ الواحِدِ مِسْطَحًا.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنّ حَمَلَ بن مالك قال للنبي صلى الله عليه وسلم، كنتُ بين جَارَتَين لي فضَرَبَت إحداهما الأخرى بمِسْطح فألقت جَنينًا ميِّتًا وماتت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المقتولة على عاقلة القاتلة، وجعل في الجنين غُرَّة.
قال أبو عُبَيد: المِسْطح: عُودٌ من عِيدان الخِباءِ أو الفُسْطاط.
وأنشد قول عوف بن مالك النَّضْرِيّ:
تَعرَّض ضَيْطَارُو فُعَالة دوننا *** وما خَيْرُ ضَيْطَارٍ يُقَلِّبُ مِسْطَحا
يقول: ليس له سلاح يقاتل به غير مِسْطح.
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض أسفاره، ففقدوا الماء، فأرسل عَلِيًّا وفلانًا يبغيان الماء فإذا هما بامرأة بين سطيحتين.
قال أبو عُبَيد: قال الأصمعي والكِسَائي: السَّطِيحةُ: المزادَةُ تكون من جلدين، والمزادة أكبر منها.
ثعلب عن ابن الأعرابي قال: السَّطِيحة من المزاد: إذا كانت من جلدين قُوبِل أحدهما بالآخر فَسُطح عليه فهي سطيحة.
وقال غيره: المِسْطحُ: حصيرٌ يُسَفُّ من خُوصِ الدَّوْمِ، ومنه قولُ تَمِيم بن مُقبل:
إذا الأمْعَزُ المَحْزُوُّ آضَ كأنه *** من الحَرِّ في حَدِّ الظهيرة مِسطَحُ
والمِسْطَح: أيضًا: صفيحة عريضة من الصخر يُحَوَّط عليه لماء السماء، ورُبما خلق الله عند فم الرَّكِيَّة صفَاةً ملساء مستويةً فيُحَوَّط عليها بالحجارة، ويُسقَى فيها للإبل شبه الحوض، ومنه قول الطّرمّاح:
*.
.
.
في جَنْبَيْ مَدِيِّ ومِسْطَح *
والمِسْطَح أيضًا: مكان مُسْتَوٍ يُجَفَّفُ عليه التمر ويُسَمَّى الجَرِين.
والسُّطَّاحَة: بقلة ترعاها الماشية، ويُغسَل بورقها الرؤوس.
وقال الفرّاء: هو المِسْطح والمِحْورُ والشُّوبق.
قال ابن شميل: إذا عُرِّش الكرْمُ عُمِدَ إلى دعائم يُحْفَر لها في الأرض، لكل دعامة شُعْبَتان، ثم تؤخَذُ خَشَبَةٌ فَتُعَرَّضُ على الدّعامَتَيْن، وتُسَمَّى هذه الخشبة المعروضة المِسْطح، ويجعل على المساطِح أُطُرٌ من أدناها إلى أقصاها تُسمَّى المساطِح بالأُطُر مساطِح.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
165-تهذيب اللغة (هدي)
ويقال: هُدِيَ فاهْتَدَى.وقال الزجاج في قول الله جلّ وعزّ: {قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يُونس: 35] يقال: هَدَيْتُ إلى الحق، وهدَيْتُ للحق، بمعنًى واحد؛ لأن هَدَيْتُ يتعدّى إلى المَهْدِيِّين، والحق يتعدَّى بحرف جرّ، المعنى الله يَهدِي من يشاء إلى الحق.
أبو العباس عن ابن الأعرابيّ: الهُدَى: البَيان، والهُدَى: إخراج شيء إلى شيء، والهُدَى أيضًا: الطاعة والوَرَع.
والهُدَى الهادي في قوله جلّ وعزّ: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} [طه: 10] أي هادِيًا.
قلت والطريقُ يسمَّى هُدًى، ومنه قولُ الشماخ:
وقد وَكَّلَتْ بالهُدَى إنسانَ ساهِمَةٍ *** كأنه من تمَامِ الظِّمْءِ مَسْمولُ
وقال الفرّاء في قول الله جلّ وعزّ: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى} [يونس: 35] يقول: تعبدون ما لا يَقدِرَ على أن ينتقل من مكانه إلا أن تنقلُوه.
وقال الزجاج: قرىء: (أم من لا يَهْدْي) بإسكان الهاء والدال.
قال: وهذه قراءة مَرْوية، وهي شاذة.
قال: وقراءة أبي عمرو: (أمن لا يهَدى) بفتح الهاء، والأصل: يَهتَدي، وقراءة عاصم (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) بكسر الهاء بمعنى يَهتَدي أيضًا، ومن قرأ (أمّن لا يَهْدي) خفيفة فمعناه يَهتَدي أيضًا.
يقال: هَدَيْتُه فَهَدِي، أي اهتَدَى.
وقال قتادة في قوله جلّ وعزّ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ} [فُصّلَت: 17] أي بَيَّنا لهم طريقَ الهُدَى وطريق الضلالة، {فَاسْتَحَبُّوا}، أي آثروا الضلالة {عَلَى الْهُدى}.
وقوله جلّ وعزّ {أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَ هَدى} [طه: 50] قال: معناه خَلَقَ كلَّ شيء على الهيئة التي بها يَنتَفِع والتي هي أصلح الخَلْق له، ثم هداه لمعيشته، وقد قيل: ثم هداه لموضع ما يكون منه الوَلَد، والأول أبيَن وأوضح.
وقال الأصمعيّ: هداه يَهْدِيه في الدين هُدًى، وهَداه يَهْدِيه هِدايةً، إذا دَلَّه على الطريق، وهَدَيْتُ العَروسَ فأنا أهْدِيها هِداءً وأَهْدَيْتُ الهَدِيَّةَ إهداءً، وأَهْدَيْتُ الهَدْيَ إلى بيت الله إهداءً، والهَدْي خفيف، وعليه هَدْيةٌ، أي بَدَنةٌ.
وقال ابن السكيت: الهَدِيّ: الرجلُ ذو الحُرْمة، وهو أن يأتي القومَ يستجيرُهم أو يأخذُ منهم عَهدًا، فهو هَدِيّ ما لم يُجَر أو يأخذ العَهْد، فإذا أَخَذ العهدَ أو أُجِير فهو حينئذٍ جارٌ.
وقال زُهير:
فلَم أَرَ معشَرًا أسَرُوا هَدِيًّا *** ولم أَرَ جارَ بَيْتٍ يُستباءُ
وقال عنترة في قِرْوَاشٍ:
هَدِيُّكُم خيرٌ أبَا من أبيكُم *** أبرُّ وأَوْفَى بالجِوار وأَحْمَدُ
أبو الهيثم لابن بزرج: أَهدَى الرجلُ امرأتَه: جَمَعها إليه وضَمّها.
وقال أبو عبيد: يقال للأسير أيضًا: الهَدِيُ، وقال المتلمِّس:
كطُرَيْفه بن العَبْد كان هَدِيَّهم *** ضَرَبوا صَميمَ قَذالِه بمُهنَّدِ
قال: وأظنّ المرأة إنما سميت هدِيًّا لهذا المعنى، لأنها كالأسيرة عند زوجها، وقال عنترة:
ألا يا دار عَبلة بالطَّوِيِ *** كرَجْع الوَشْم في كفِ الهَدِيّ
قال: وقد يجوز أن تكون سُمِّيتْ هدِيًّا؛ لأنها تُهدَى إلى زوجها، فهي هَدِيّ فَعِيل في معنى مفعول.
وقال أبو زيد في باب الهاء والفاء: يقال للرّجل إذا حَدَّث بحديث فعَدَل عنه قبل أن يفرغ إلى غيره: خُذْ عني هِدْيَتِك وقِدْيَتِك أي خُذْ فيما كنت فيه ولا تَعدِل عنه.
كذا أخبَرَني أبو بكر عن شمِر، وقيَّده في كتابه المسموع من شمِر: خُذْ في هِدْيَتِك وقِدْيَتِك، أي خذ فيما كنتَ فيه بالقاف.
وقال الأصمعي: يقال: نَظَر فلانٌ هِدْيَة أمره، أي جِهة أمره، ويقال: هَدَيْتُ به أي قَصَدْتُ به.
ويقال: ما أشبَه هَدْيَه بَهْدِي فلان، أي سَمْتَه.
وتركَهُ على مُهَيْدِيته، أي على حاله.
وقال شمر: قال الفراء: يقال: هدَيتُ هَدْيَ فلان، إذا سِرتَ سِيرته.
وفي الحديث: «اهْدُوا هَدْيَ عمّار».
وقال أبو عَدنان: فلان حَسَن الهَدْي، وهو حُسن المَذْهب في أموره كلِّها.
وقال زيادُ ابن زيد العدوِيّ:
ويُخبِرُني عن غائبِ المرءِ هَدْيُه *** كَفَى الهَدْيُ عمّا غَيّبَ المرءُ مُخْبِرًا
وفلانٌ يذهبُ على هِدْيَتِه، أي على قَصْدِه، وأقرأنِي ابنُ الأعرابي لعمرو بنُ أحمر الباهليّ:
نَبَذَ الجُؤارَ وضَلَ هِدْيَةَ رَوْقِه *** لمّا اخْتَلسْتُ فؤادَه بالمِطْرَدِ
أي: تَرَك وَجْهَه الذي كان يريده، وسَقَط لمّا أن صَرَعتُه.
وقال الأصمعيّ وأبو عمرو: ضلَّ الموضعَ الذي كان يَقصِد له برَوْقِه من الدَّهَش.
وقال الفرّاء: يقال ليس لهذا الأمر هِدْيَةٌ، ولا قِبْلة، ولا دِبْرَة ولا وِجْهَة.
أبو عُبيد عن أبي زيد: لك عندي مِثلها هُدَيَّاها.
شمِر، قال ابن شميل: اسْتَبَق رَجلان، فلمَّا سبَق أحدُهما صاحبَه تَبالحَا، فقال المسبوق؛ لَمْ تَسْبِقْني، فقال له السابق: فأَنت على هُدَيّاها، أي أعاوِدُك ثانيةً، وأنت على بُدْأَتِك، أي أعاوِدُك.
قال شمر: تَبَالحَا أي، تَجاحَدا.
وفي حديث ابن مسعود: إنّ أحسنَ الهدْيِ هَدْيُ محمد، أي أحسنَ الطريق والهِداية والطريقة والنحو والهيئة.
وفي حديثه: كنّا ننظرُ إلى هَدْيه ودَلِّه.
قال أبو عبيد: وأحدُهما قريبُ المعنى من الآخر، وقال عمران بن حطان:
وما كان في هَدْي عَلَيَّ غَضاضةٌ *** وما كنتُ من مَخْزاتِه أَتَقَنَّعُ
وقال الليث وغيرُه فيما يُهدَى إلى مكَّة من النَّعَم وغيرِه من مالٍ أو متاعٍ فهو هَدِيٌ وهَدْيٌ، وقُرِىء بالوجهين.
والهِداء: الرَّجل البَليد الضعيف.
وجمع الهَدِيَّة هدايا، ولُغة أهلِ المدينة: هدَاوَى والهَدْيُ السُّكون.
قال الأخْطَل:
وما هدَى هَدْيَ مَهزومٍ وما نَكَلا*
يقول: لمْ يُسرِع إسراعَ المنْهزِم، ولكن على سكونٍ وحُسْن هدْي.
وقال أبو زيد: الهدَاوَى لُغةُ عُلْيا مَعَدّ وسُفْلاها الهدايا.
أبو بكر: رجلٌ هِداء وهِدان للثقيل الوَخم.
قال الأصمعيّ: لا أَدْري أيهما سمعتُ أكثر.
قال الراعي:
هِداءٌ أخُو وَطْبٍ وصاحبُ عُلْبَةٍ *** يَرى المجدَ أن يَلقَى خِلَاء وأمْرُعا
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج في مَرَضه يُهادَى بين اثنين.
قال أبو عبيد: معناه أنّه كان يَعتمد عليهما من ضَعفه وتمايُله.
وكذلك كلُّ من فَعل ذلك بأَحدٍ فهو يُهاديه.
وقال ذو الرمة يصف نساءً يُهادِين جاريةً ناعمةً:
يُهادِين جَمّاء المرافِق وَعْثَةً *** كَلِيلةَ حَجم الكَعب رَيّا المخلْخَلِ
فإذا فعلتْ ذلك المرأةُ فتمايلتْ في مشيها من غير أن يُماشيها أحد، قيل: هي تَهادَى.
قاله الأصمعيّ: قال الأعشى:
إذا ما تَأَتَّى تريد القيامَ *** تَهادَى كما قد رأيتَ البَهِيرا
وقال أبو ذؤيب:
فما فَضْلَةٌ من أَذْرِعاتٍ هوَتْ بها *** مُذكَّرَةٌ عَنْسٌ كهادية الضَّحْلِ
أراد بهاديةِ الضَّحل أتان الضَّحْل، وهي الصخرة الملساء.
ويقال: هو يُهاديه الشِّعْرَ ويُهاجِيه الشِّعر، بمعنًى واحد.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه بَعَثَ إلى ضُباعَة وذَبَحت شاةً فطَلَب منها، فقالت: ما بقِي إلّا الرَّقبة، فبَعث إليها أنْ أرسِلِي بها، فإِنها هاديةُ الشاة.
قال أبو عبيد: قال الأصمعيّ: الهادية من كلّ شيء أوّله وما تقدَّم منه.
ولهذا قيل: أقبلَت هَوادِي الخَيل، إذا بَدَت أعناقُها، لأنها أوَّل شيء من أجسادها وقد تكون الهوادي أوّلَ رَعِيل يطلعُ منها، لأنها المتقدّمة.
يقال: قد هَدَت تَهْدِي، إذا تقدَّمَت.
وقال عَبيد يذكرُ الخَيل:
وغَداةَ صَبَّحْنَ الجِفَارَ عَوَابسًا *** يَهدِي أوائِلَهُنَّ شُعْثٌ شُرَّبُ
أي: يتقدّمهنّ، وقال الأعشى وذَكر عَشاهُ وأنّ عصاه تَهديه:
إذا كان هادِي الفتى في البلا *** دِ صدْرَ القَناةِ أَطاعَ الأمِيرا
فقد يكون إنّما سَمَّى العَصا هاديًا؛ لأنه يُمسكُها فهِي تَهدِيه؛ تَتقدَّمه، وقد يكون من الهداية، لأنها تدلّه على الطريق، وكذلك الدليل يسمّى هادِيًا؛ لأنّه يتقدّم القومَ ويَتبعونه ويكون أن يَهديَهم للطريق.
وقال الليث: لُغَةُ أهلِ الغَوْر في معنى بَيَّنتُ لك: هدَيتُ لك.
وقوله جلّ وعزّ: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [طه: 128]: نبيِّن بهم.
وهادِياتُ الوَحْش: أوائلها، وهي هَوادِيها.
ويقال: فَعَلَ به هُدَيّاها أي مثلَها.
ويقال: أهدَى وهدَّى، بمعنًى واحد.
ومنه قولُ الشاعر:
أقولُ لها هَدِّي ولا تَذْخَرِي لحمِي
والعرب تسمِّي الإبلَ هَدِيًّا، يقولون: كم هَدِيُ بني فلان أي كم إبِلُهم، سُمِّيَتْ هَدِيًّا لأنها تُهدَى إلى البيت.
وجاء في حديث فيه ذكر السّنَة والْجَدب هَلك الهدِيُ، ومات الوَدِيّ، أي هلكَت الإبلُ ويَبِسَ النَّخْل، وامرأةٌ مِهداءٌ بالمدّ، إذا كانت تُهْدِي لجاراتها وأما المِهدَى بالقَصْر، فهو الطَّبق الذي يُهدَى عليه.
وقال المؤرِّج: هاداني فلانٌ الشِّعرَ وهادَيتُه، أي هاجاني وهاجَيْتُه.
والهاديَة: الصخرة الناتئة في الماء.
وقال أبو ذؤيب:
مذكَّرة عنسٌ كهادِية الضَّحْلِ*
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
166-تهذيب اللغة (هو)
هو: القُرَرَةُ، وأما أنا فحفظي القُرُرَةُ.قال أبو عبيد: وقال أبو زيد: قَرَرْتُ القدرَ أقُرُّها إذا فرَّغْتُ ما فيها من الطبيخ، ثم صببْتُ فيها ماءً باردًا كي لا تحترق، واسمُ ذلكَ الماءِ القَرارَةُ والقُرارَةُ.
شمر: قَرَرْتُ الكلامَ في أذنهِ أقُرُّهُ، وهو أن تضعَ فاكَ على أذنهِ فتجهرَ بكلامِكَ كما يُفعلُ بالأصمِ، والأمرُ قُرَّ.
روي ذلك عن أبي زيد، وقد رواه أبو عبيد عنه.
الأصمعيُّ: وقعَ الأمرُ بِقُرِّهِ، أي: بمستقرهِ.
وقال امرؤ القيس:
لعمركَ ما قلبي إلى أهلهِ بحُرّ *** ولا مُقْصِر يومًا فيأتيني بِقُرّ
أي: بمستقرٍّ.
أبو عبيد في باب الشِّدّةِ يقال: صابَتْ بِقُرٍّ: إذا نزلت بهم شدةٌ، وإنما هو مثلٌ، يقال: صابَتْ بِقُرٍّ: إذا صار الشيءُ في قراره.
قال: والقَرَارُ: النَّقَدُ من الشاءِ، وهيَ صغارٌ وأجودُ الصوفِ صوفُ النَّقدِ، وهيَ قِصارُ الأرْجُلِ قباحُ الوجوه.
وأنشد لعلقمة بن عبدة:
والمالُ صوفُ قرارٍ يلعبونَ به *** على نِقَادَتِهِ وافٍ ومَجْلُومُ
أي: يقلُّ عند ذا ويكثر عند ذا.
وقال الليث: القَرارُ: المستقرُّ من الأرضِ.
وقال ابن شميل: بطون الأرضِ قرارُها لأن الماءَ يستقرُّ فيها.
وقال غيره: القَرارُ مستقرُّ الماءِ في الرّوْضَة.
وقال أبو عمرو: القَرارَةُ: الأرضُ المطمئنة.
وقال ابن الأعرابي: المَقَرّةُ: الحوْضُ الكبيرُ يجمع فيه الماءُ.
وقال الليث: أقْرَرْتُ الشيء في مقرِّهِ ليقرّ، وفلانٌ قارٌّ: ساكنٌ وما يتقارُّ في مكانه، والإقرارُ: الاعترافُ بالشيء، والقَرارَةُ: القاعُ المستديرُ، والقَرْقَرَةُ: الأرضُ الملساءُ ليست بجدّ واسعةٍ، فإذا اتسعت غلبَ عليها اسمُ التذكير فقالوا قرقرٌ.
وقال عبيد:
تُزْجَى مرابِعَها في قَرْقَرٍ ضاحي
قال: والقَرِقُ مثلُ القَرْقَرِ.
شمر: القرقرُ: المستوي الأملسُ الذي لا شيءَ فيه.
وقال ابن شميل: القَرْقرةُ: وسطُ القاعِ ووسطُ الغائِطِ، المكانُ الأجردُ منه لا شجرَ فيه ولا دفءَ ولا حجارةَ، إنما هي طين ليست بجبلٍ ولا قُفٍّ وعرضها نحو من عشرة أذْرُعٍ أو أقل، وكذلك طولها.
ثعلب عن ابن الأعرابي: القِرْقُ: الأصلُ، وقاعٌ قَرِق مستو.
وقال أيضًا: القِرْقُ: لَعِبُ السُّدَّر، والقِرْقُ: الأصلُ الرّديءُ، والقَرْقُ: صوتُ الدّجاجةِ إذا حَضنَتْ.
عمرو عن أبيه: قَرِقَ: إذا هَذَى وقَرِقَ: إذا لعبَ بالسُّدَّر.
ومن كلامهم استَوَى القِرْقُ فقوموا بنا، أي: استوينا في اللعبِ فلم يقمُرْ واحدٌ منا صاحبه.
وقال شمر: القَرْقَرَة: قرقرةُ البطنِ، والقرقرةُ نحوُ القهقهةِ، والقرقرةُ: قرقرةُ الفحلِ: إذا هَدَرَ، والقرقرةُ: قرقرةُ الحمامِ إذا هدر، وهو القَرْقَريرُ.
أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: القواريرُ شجرٌ يشبهُ الدُّلْبَ تُعْمَلُ منه الرِّحالُ والموائد.
قال: والقَرُّ والغَرُّ والمَقَرُّ كسرُ طَيِّ الثوب.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأَنْجَشَةَ وهو يحدو بالنساء: «رِفْقًا بالقوارير» أراد عليهالسلام بالقوارير النساء، شَبّهَهُنّ بالقواريرِ لِضَعْفِ عزائمهنّ وقِلَّةِ دوامهنّ على العهد، والقواريرُ يُسْرعُ إليها الكسرُ، ثم لا تقبلُ الجبر، وكان أنجَشَةُ يحدو بهنّ ويرتجزُ بنسيب الشعر فيهنّ، فلم يأمَنْ أن يُصيبَهُنّ ما سمعْنَ من رقيق الشِّعْر فنهاهُ النبيُّ عن حُدائِه حذار صَبْوَتَهُنّ إلى ما يَفْتِنُهُنّ.
وروي عن الحطيئة، أنه جاور حَيًّا منَ العرب، فسمعَ شبابَهُم يَتَغَنَّوْنَ، فقال: أَغْنوا عنّا أغانيّ شُبّانكم، فإن الغِنَاء رُقْيَةُ الزِّنى.
وسمعَ وسمع سليمان بن عبد الملك غِناء راكبٍ ليلًا، وهو في مَضْرِبٍ، فبعث إليه من يحضره وأمرَ بِخِصَائِهِ.
وقال: ما تَسْمَعُ أنْثى غِناءَهُ إلا صَبَتْ إليه.
قال: وما شَبّهْتُه إلا بالفحل يُرْسَلُ في إبِلٍ فيُهَدِّرِ فيهنَّ حتى يَضْبَعَهُنَّ.
وقال الله جل وعز: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: 98].
قال الليث: المستقِرُّ: ما وُلِدَ من الخلق وظهر على الأرض، والمستودع: ما كان في الأرحام، وقد مرّ تفسيرهما.
وقال الليث: العربُ تُخْرجُ من آخر حروف من كلمةٍ حرفًا مثلها، كما قالوا: رمادٌ رِمْدَدٌ، ورجلٌ رَعِشٌ رِعْشيش، وفلان دخيلٌ على فلان ودُخْلُلُهُ، والياءُ في رِعْشِش مدّة، فإن جعلتَ مكانها ألِفًا أو واوًا، جاز، وأنشد:
كأَنَّ صوت جَرْعِهِنّ المُنْحَدِرْ *** صوت شِقِرّاق إِذ قال قِررْ
يصف إبلًا وشربها.
فأظْهَر حَرْفي التضعيف، فإذا صَرّفوا ذلك
في الفِعْل، قالوا: قرقر فيُظهرون حُروف المضاعف لِظُهور الراءين في قَرْقَر، ولو حكى صوتهُ وقال: قَرَّ ومَدَّ الراءَ، لكان تصريفه: قَرّ يَقِرّ قرِيرًا، كما يقال: صَرَّ يَصِرُّ صَرِيرًا، وإذا خَفّفَ وأظهرَ الحرفين جميعًا، تحوَّل الصَّوتُ من المَدِّ إلى الترجيع فَضوعِفَ لأن الترجيع يُضاعفُ كلُّه في تصريف الفِعل إذا رجَّع الصائتُ، قالوا: صَرْصَرَ وصَلْصَلَ، على توهُّم المدّ في حال والترجِيع في حالٍ.
والقَرْقَارَةُ، سُمِّيَتْ لِقَرْقَرَتها، والقُرْقُورُ من أطول السُّفُن، وجمعه قَرَاقِيرُ.
قال النَّابِغَةُ:
قَرَاقِيرُ النَّبِيط على التّلال
وقُرَاقِرُ وقَرْقَرَى وقَرَوْرَى وقُرّان وقُرَاقِرِيّ: مواضعُ كلها بأعيانها، وقُرَّانُ: قرية باليمامة ذاتُ نخلٍ وسُيوحٍ جارية.
وقال علقمة بن عبدة يصف فرسًا:
سُلَّاءة كعصا النَّهْدِيّ غُلّ لها *** ذو فَيْئَة من نَوَى قُرَّان معجوم
وفي حديث ابن مسعود: «قارُّوا الصلاة».
قال أبو عبيدة: معناه السكون وهو من القَرارِ لا من الوَقار.
وفي حديث آخر: «أفضل الأيام عند الله يوم النَّحْر ثم يوم القَرَّ».
أراد بيوم القَر: الغَد من يوم النَّحْر.
سُمي يومَ القَر؛ لأن أهل الموسم يوم التَّرْوية ويوم عرفة ويوم النَّحر، في تعَب من الحجّ فإِذا كان الغَدُ من يوم النَّحر، قَرُّوا بِمِنًى.
فسمِّي يوم القَرّ.
ابن السكيت: يقال: فلان يأتي فلانًا القَرَّتَيْن: أي: يأْتِيه بالغداة والعِشِيّ.
وقال لبيد:
يَعْدُوا عليها القَرَّتَيْنِ غُلَامُ
وقَرَّرت الناقةُ بِبَوْلها تقريرًا: إذا رمَت به قُرَّةً بعد قُرّةٍ، أي: دَفْعَةً بعد دَفْعَة، خاثِرًا من أكلِ الجبَّة.
وقال الراجز:
يُنْشِقْنَهُ فَضْفَاضَ بَوْلٍ كالصَّبر *** في منْخَريه قُررًا بعد قُرَر
وقال ابن الأعرابي: إذا لَقِحَتْ الناقة فهي مُقِرٌّ وقارحٌ، وامرأة قَرُورٌ، لا تمنع يدَ لامسٍ، كأنها تَقِرُّ وتَسْكُن، ولا تنفر من الرِّيبة.
والقِرِّيَّةُ: الحوصلة، يقال: ألْقِه في قِرِّيّتِك.
وقال ابن السكيت: القَرُور: الماء البارد، يُغتسل به، وقد اقْتَرَرْتُ به، وهو البرود.
وقال غيره: القَرَارِيّ: الحَضَرِي الذي لا يَنْتَجعُ الكَلأَ يكون من أهل الأمصار، ويقال: إن كل صانع عند العرب قَرَارِيّ.
وقال الأعشى:
كَشَقِ القَرَارِيّ ثوب الرَّدَن
يُريدُ الْخَيَّاط، قد جعله الراعي قصّابًا فقال:
ودَارِيٍّ سَلَخْتُ الجِلْدَ عنه *** كما سَلَخَ القَرَارِيّ الإهابا
ويقال: أقْرَرْتُ الكلامَ لفلان، إقْرَارًا أي: بَيّنْتُه له حتى عَرفه، والمَقَرُّ: موضع بِكَاظِمَة معروف، ورجلٌ قُرَاقِريٌ: جهيرُ الصوت، وقال:
قد كان هَدَّارًا قُرَاقِرِيّا
وجعلوا حكاية صوت الرِّيح قَرْقارًا.
قال أبو النجم:
قالت له رِيح الصبا قَرْقارِ
والقَرْقَرة: دعاء الإبل، والإنقاض: دعاء الشاء والحمير.
وقال الراجز:
رُبَّ عَجُوزٍ من نُمَيْرٍ شَهْبَرَه *** عَلَّمْتُها الإنقاض بعد القَرْقَرَة
أي: سَبَبْتُها فحوّلْتُها إلى ما لم تعرفه.
ابن الأعرابي: عَلَّمتها الإنقاض بعد القَرْقَرة.
الإنقاضُ: زجر القَعُود، والقَرْقَرَةُ: زَجْرُ المُسِنّ.
ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: يقال للخياط: القَرَارِيُ والفضُوليُّ، وهو البيطر والشَّاصر.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
167-تهذيب اللغة (مستق)
[مستق]: ورُوِي عن عمر أنَّه كان يصلي ويداه في مُسْتُقه.قال أبو عبيد: المَسَاتق: فِراءٌ طِوال الأكمام، واحدها مُستَقة، وأصلُها بالفارسية مُشْتَة فعُرِّب.
قلت: والفُسْتُقة أيضًا فارسية معرّبة، وهي ثمرةُ شجرةٍ معروفة.
وقال شمر: يقال: مُسْتُفة ومُسْتَقَة.
وعن أنس رضياللهعنه، «أن ملك الرُّوم أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتُقةً من سُندسٍ فلبِسها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فكأنّي أنظُر إلى يديها تذبذِبان، فبعثَ بها إلى جعفر، وقال: ابعثْ بها إلى أخيك النَّجاشيّ».
وأنشد:
إذا لبِسَتْ مساتقَها غنيٌ *** فيا ويحَ المساتقِ ما لَقِينا
قال ابنُ الأعرابي: هو فروٌ طويلُ الكم، وكذلك قال الأصمعيّ، قال النَّضر: هي الجُبة الواسعة.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
168-تهذيب اللغة (أم)
أم: أبو العبّاس، عن ابن الأعرابي: الأُم: امرأة الرَّجل المُسِنّة.والأم، الوالدة من كل الحَيوان.
ويُقال: ما أَمِّي وأَمُّه؟ وما شَكلي وشَكله؟
أي: ما أَمْري وأَمْره لبُعده منّي، فلمَ يتعرّض لي؟ ومنه قول الشاعر:
فما أَمضي وأَمّ الوَحْش لمّا *** تَفَرَّع في ذُؤابَتِي المَشِيبُ
وقال ابن بُزُرْج: قالوا ما أَمّك وأمّ ذات عِرْق؟ أي: أَيْهات منك ذات عِرْق؟
قال الليث: الأُم، هي الوالدة؛ والجمع الأُمَّهات.
وقال غيره: تُجمع «الأُم» من الآدميّات: أمّهات؛ وتجمع من البهائم: أُمّات؛ قال:
لقد آليْت أُعْذَر في خِداع *** وإن مَنَّيت أمّاتِ الرِّبَاعِ
الليث: يقال: تأمّم فلان أُمًّا، أي: اتخذها لنفسه أُمًّا.
وتفسير «الأم» في كل معانيها: أمّة، لأن تأسيسه من حَرْفين صحيحين، والهاء فيه أصلية، ولكن العرب حذَفت تلك الهاء إذا أمنوا اللَّبْس.
قال: ويقول بعضُهم في تَصغير «أُمّ»: أمَيْمة.
والصواب: أُمَيْهة، تُرد إلى أصل تأسيسها.
ومن قال «أُميمة» صغّرها على لفظها، وهم الذين يقولون «أمّات»؛ وأَنشد:
إذا الأمّهات قَبَحْن الوُجُوهَ *** فَرَجْتَ الظَّلامَ بأُمّاتِكَا
قال ابن كيسان: يُقال: أُمّ، وهي الأصْل؛ ومنهم من يقول: أُمّة؛ ومنهم من يقول: أُمّهة؛ وأَنْشد:
تَقَبَّلْتها عن أُمَّةٍ لك طالما *** تُنوزع في الأَسواق عنها خِمارُها
يُريد: عن أُم لك، فألحقها هاء التأنيث.
وقال آخر:
* أُمَّهتي خندفُ والياس أَبِي*
فأمّا الجمع فأكثر العرب على «أمّهات» ومنهم من يقُول: أُمّات.
وقال المبرّد: الهاء من حروف الزّيادة، وهي مزيدة في «الأُمهات» والأصل «الأُم» وهو: القَصْد.
قلت: وهذا هو الصواب، أن «الهاء» مزيدة في «الأمهات».
وقال الليث: من العرب مَن يَحذف ألف «أم» كقول عديّ بن زيد:
* أيّها العائب عندي مّ زَيْد*
واعلم أن كل شيء يُضم إليه سائر ما يليه فإن العرب تسمِّي ذلك الشيء: أُمًّا، من ذلك: أُم الرأس، وهو الدِّماغ؛ ورَجُلٌ مَأْمُوم؛ والشجّة الآمّة: التي تبلغ أُمَ الدِّماغ.
والأَميم: المَأْموم.
قال والأُمَيْمة: الحجارة التي تُشْدخ بها الرُّؤوس؛ قال:
ويومَ جَلَّينا عن الأهاتم *** بالمَنْجنيقات وبالأمَائمِ
المكنىّ بالأم
قال: وأُم التّنائف: المفازة البعيدة.
وأم القُرَى: مَكَّة.
وكُل مدينة، هي أُم ما حولها من القُرى.
وأُم الكِتَاب: كُل آية محكمة من آيات الشرائع والأحكام والفرائض.
وجاء في الحديث: «إن أُم الكتاب هي فاتحة الكتاب»، لأنها هي المتقدّمة أمام كل سُورة في جميع الصلوات، وابتدى بها في المُصحف فقدّمت، وهي القرآن العظيم.
وأما قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِ الْكِتابِ لَدَيْنا} [الزخرف: 4].
فقال: هي اللوح المحفوظ.
قال قتادة: أُم الكتاب: أَصل الكتاب.
وعن ابن عبّاس: أُمّ الكتاب، القرآن من أوله إلى آخره.
وقوله تعالى: {فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ} [القارعة: 9] أي: أُمه التي يأوي إليها، كما يأوي الرجل إلى أُمه، هاوية، وهي النار يهوي فيها من يدخلها، أي: يَهلك.
وقيل: فأم رأسه هاوية فيها، أي: ساقطة.
وأُم الرُّمْح: لواؤُه وما لُفّ عليه من خِرقة؛ ومنه قول الشاعر:
وسَلَبْنا الرُّمْح فيه أُمّه *** مِن يَدِ العاصِي وما طالَ الطِّوَلْ
وأخبرنا عبد الملك، عن الربيع، عن الشافعي، قال: العربُ تقول للرجل يلي طعام القوم وخدمتهم: هو أُمتهم؛ وأَنْشد للشَّنْفرى:
وأُمّ عيال قد شهدت تَقُوتهم *** إذا حَتَرتْهم أَتْفَهت وأَقَلَّت
قال: ويُقال للمرأة التي يأوي إليها الرَّجُلُ: هي أُم مَثْواه.
وفي الحديث: «اتقوا الخمر فإنها أُم الخبائث».
وقال شمر: أم الخبائث: التي تجمع كُل خبيث.
قال: وقال: الفصيح في أعراب قَيس: إذا قيل: أُمّ الشر، فهي تَجمع كل شَرّ على وَجه الأرض.
وإذا قيل أُمّ الخير، فهي تَجمع كُلّ خَير.
قال: وقال ابن شميل: الأم لكُل شيء، هي المجَمع له والمَضَمّ.
وأُم الرأس، هي الخريطة التي فيها الدِّماغ.
وأمُ النُّجوم: المَجَرّة.
وأمُ الطَّريق: مُعظمها، إذا كان طريقًا عظيمًا وحوله طُرق صِغار فالأعظم أُمّ الطريق.
وأمّ اللُّهَيْم: هي المَنِيّة.
وأمّ خَنُّور: الخِصْب.
وأمّ جابر: الخُبز.
وأمّ صَبَّار: الحَرَّة.
ورُوي عن عَمرو، عن أبيه، أنه قال: أمّ عُبَيد: هي الصَّحراء.
وأمّ عَطِيّة: الرَّحَى.
وأمّ شَمْلة: الشَّمْس.
وأمّ الخُلْفُف: الدَّاهية.
وأمّ رُبَيْق: الحرب.
وأمّ ليْلى: الخَمْرُ.
وليلى: النَّشوة.
وأمّ دَرْز: الدُّنيا.
وأمّ بَحنة: النَّخلة.
وأمّ سِرياح: الجرادة.
وأمّ عامر: المَقْبُرة.
وأمّ جابر: السُّنْبلة.
وأمّ طِلْبة: العُقاب.
وكذلك: أمّ شَعْواء.
وأمّ حباب: هي الدُّنيا؛ وهي أمّ وافرة.
وأمّ زافرة: البَيْن.
وأمّ سَمْحة: العَنْز.
ويُقال لِلْقِدْر: أمّ غِياث، وأمّ عُقْبة، وأمّ بيضاء، وأمّ دسمة، وأمّ العِيَال.
وأمّ جِرْذَان: النَّخلة، وإذا سَمَّيت رجلًا بأُم جِرذان لم تَصْرفه.
وأمّ خَبِيص، وأمّ سُويد، وأمّ عَقاق، وأمّ عَزمة، وأمّ طبيخة، وهي أمّ تسعين.
وأمّ حِلْس: الأثان.
وأمّ عمرو، وأمّ عامر: الضَّبُع.
ابن هانىء، عن أبي زيد، يقال: إنه لحسن أمّة الوَجْه، يعنون: سُنَّته وصُورته.
وإنه لقبيح أمّة الوَجه.
وأخبرني المنُذري، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: يُقال للرجل العالم: أُمّة.
قال: والأُمّة: الجماعة.
والأُمّة: الرجل الجامع للخَيْر.
والأُمة: الطاعة.
وأُمّة الرَّجُل: وَجهه وقامَتُه.
وأُمّة الرَّجل: قَوْمُه.
والإمّة، بالكسر: العيش الرَّخِيّ.
وقال أبو الهيثم: فيما أخبرني عنه المنذري، قال: الأُمَّة: الحِين.
وقال الفراء في قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45].
قال: بعد حينٍ من الدَّهْر.
قال أبو الهيثم: والأُمّة: الدِّين.
والأُمّة: المُعلِّم.
وقال الفراء في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا} [النحل: 120].
قال: أُمّة معلِّما للخير.
وروى سَلمة، عن الفراء: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]، وهي مثل: السُّنّة والمِلّة.
وقرىء «على إمّة»، وهي الطريقة، من: أَمَمْت.
يقال: ما أحسن إمّته!
قال: والإمّة أيضًا: الملك والنَّعيم؛ وأَنْشد لعديّ بن زَيد:
ثم بعد الفَلاح والمُلك والإمّ *** ة وارتْهمُ هناك القُبور
قال: أراد: إمامة المُلك ونعيمه.
وقال أَبو إسحاق في قوله تعالى: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة: 213]، أي: كانو على دين واحد.
قال: والأُمّة: في اللغة أشياء، فمنها؛ أن الأُمُّة: الدين، وهو هذا.
والأُمّة: القامة؛ وأنشد:
وإن مُعاوية الأَكْرمي *** ن حِسان الوُجوه طِوال الأُمَمْ
أي: طوال القَامات.
قال: والأُمّة، من الناس، يُقال: قد مَضَت أُمم، أي: قرون.
والأُمّة: الرجل الذي لا نَظير له، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120].
وقال أَبو عُبيدة: معنى قوله «كانَ أُمَّةً» أي: كان إمَامًا.
والأُمّة: النِّعمة.
أبو عُبيد، عن أبي زيد: هو في إمّة من العَيش؛ وآمة، أي: خِصْب.
قال شمر.
وآمة، بتخفيف الميم: عَيْب؛ وأُنْشد:
مَهلًا أَبيت اللّعْن مَهْ *** لًا إنّ فيما قُلت آمَهْ
وذكر أبو عمرو الشَّيباني أن العرب تقول للشيخ إذا كان باقي القُوة: فلان بإِمّةٍ، راجع إلى الخير والنّعمة، لأن بقاء قُوته من أعظم النِّعمة.
قال: وأَصل هذا الباب كله من «القَصْد».
يقال: أممت إليه، إذا قَصدته.
فمعنى «الأمّة» في الدّين، أن مَقصدهم مقصدٌ واحد.
ومعنى «الإمّة» في النِّعمة؛ إنما هو الشيء الذي يَقْصده الخلق ويَطْلُبونه.
ومعنى «الأمة» في الرجُل المُنفرد الذي لا نَظير له: أنّ قَصْده مُنفرد من قصد سائر الناس؛ قال النابغة:
* وهل يَأْثمن ذو أُمّة وهو طائع*
ويُروى: ذو إمّة.
فمن قال: ذو أمّة، فمعناه: ذو دِين.
ومن قال: ذو إمّة، فمعناه: ذو نعمة أُسديت إليه.
قال: ومعنى «الأُمّة»: القامة، سائر مَقْصَد الجسد.
فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى «أممت»، أَي: قصدت.
ويقال: إمامنا هذا حَسن الإمّة، أي: حسن القيام بإمامته إذا صلّى بنا.
وقال أبو إسحاق: قالوا في معنى الآية غيْرَ قولٍ.
قال بعضهم: كان الناس فيما بين آدم ونوح كُفَّارًا (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) يُبشِّرون مَن أَطاع بالجنّة ويُنذرون مَن عَصى بالنار.
وقال آخرون: كان جميع مَن مع نوح في السَّفِينة مُؤمنًا ثم تَفرّقوا من بعده عن كُفْر، (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ).
قال: وقال آخرون: الناس كانوا كفّارًا (فَبَعَثَ اللهُ) إبراهيم و (النَّبِيِّينَ) من بعده.
قلت: و «الأمّة» فيما فسروا، يَقع على الكفّار وعلى المُؤمنين.
وقال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ} [البقرة: 78].
قال أبو إسحاق: معنى «الأمي» في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أُمّه، أَي: لا يكتب، فهو في أنه لا يكتب على ما ولد عليه.
وارتفع «أميون» بالابتداء، و «منهم» الخبر.
وقال غيره: قيل للذي لا يكتب: أُمي، لأن الكتابة مكتسبة، فكأنه نُسب إلى ما وُلد عليه، أي: هو على ما ولدته أُمه عليه.
وكانت الكتابة في العرب في أهل الطائف تعلّموها من رجل من أهل الحيرة، عن أَهل الأنبار.
قال أبو زيد: الأمّي من الرجال: العَيِيّ القليل الكلام الجافي الجلْف؛ وأَنشد:
ولا أَعُود بعدها كَرِيّا *** أمارس الكَهْلة والصَّبِيَّا
* والعَرَب المنفَّه الأمِّيّا*
قيل له: أمّي، لأنه على ما وَلدته أُمه عليه من قلة الكلام وعُجْمة اللّسان.
وقيل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: الأُمي، لأن أُمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، بعثه الله رسولًا وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المُعجزة، لأنه صلى الله عليه وسلم تلا عليهم كتاب الله منظومًا مع أميته بآيات مفصلات، وقصص مؤتلفات، ومواعظ حكيمات، تارة بعد أخرى، بالنَّظم الذي أُنزل عليه، فلم يغيّره ولم يبدِّل ألفاظه.
وكان الخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونَقص، فَحفِظه الله
جلّ وعزّ على نبيّه كما أَنزله، وأَبانه من سائر مَن بعثه إليهم بهذه الآية التي بايَن بينه وبينهم بها، وفي ذلك أَنزل الله تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].
يقول جلّ وعزّ: لو كنت تتلو من الكتاب، أو تخط لارتاب المُبطلون الذين كفروا، ولقالوا إنه وَجد هذه الأقاصيص مكتوبة فحفظها من الكتب.
الليث: كُل قوم نُسبوا إلى نبي فأُضيفوا إليه، فهم: أُمّته.
وقيل: أُمة محمد: كُل من أَرسل إليه ممَّن آمن به أَو كفر.
قال: وكل جيل من الناس، فهم: أُمة على حِدة.
وقال غيره: كل جنس من الحيوان غير بني آدم أُمّة على حدة؛ قال الله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} [الأنعام: 38] الآية.
ومعنى قوله: «إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» في معنى دون معنى.
يريد: والله أَعلم: أَن الله خلقهم وتعبّدهم بما شاء أن يتعبَّدهم به من تَسبيح وعبادة عَلِمها منهم ولم يُفقِّهنا ذلك.
وجاء في الحديث: «لو لا أَن الكلاب أُمّة تُسبِّح لأَمرتُ بقَتْلها، ولكن اقْتُلوا منها كُلَّ أَسْود بَهيم».
الليث: الإمّة: الائتمام بالإمام.
يُقال: فلان أَحقّ بإِمّة هذا المسجد من فلان، أَي: بالإمامة.
قلت: الإمّة: الهيئة في الإمَامة والحالة.
يُقال: فلان حَسن الإمّة، أي: حسن الهيئة إذا أمّ الناس في الصلاة.
والإمام: كل من ائتم به قومٌ كانوا على الصّراط المستقيم أو كانوا ضالّين.
والنبيّ صلى الله عليه وسلم إمَام أُمته، وعليهم جميعًا الائتمام بسُنَّته التي مَضى عليها.
والخليفة: إمَام رَعيّته.
والقرآن: إمَام المُسلمين.
وإمَام الغُلام في المَكتب، ما يتعلّمه كُلَّ يوم.
وقال ابن الأعرابيّ في قول الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} [الإسراء: 71] قالت طائفة، بإِمامهم.
وقالت طائفة: دينهم وشَرعهم.
وقيل: بكتابهم الذي أحصى فيه عملهم.
وقول الله تعالى: {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] أي: قاتلوا رُؤساء الكفّار وقادَتهم الذين ضُعَفاؤُهم تَبع لهم.
وقرىء قوله تعالى: (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) على حَرْفين.
فأكثر القُراء قرؤوا: أيِمة؛ بهمزة واحدة.
وقرأ بعضهم: أَئِمَّةَ، بهمزتين.
وكل ذلك جائز.
وقال أبو إسحاق: إذا فَضلنا رجلًا في الإمامة قلنا: هذا أَوَمُّ من هذا.
وبعضهم يقول: هذا أَيَمّ من هذا.
قال: والأصل في «أئمة»: أأْمِمَة، لأنه جمع «إمام» مثله: مثال وأَمثلة.
ولكن الميمين لمّا اجتمعتا أُدْغمت الأولى في الثانية، وأُلقيت حركتها على الهمزة، فقيل: أَئمّة، فأبدلت العرب من الهمزة المكسورة الياء.
قال: ومن قال: هذا أَيَمّ من هذا، جعل هذه الهمزة كلّما تحركت أَبدل منها ياءً.
والذي قال: فلان أَوَمُ من هذا، كان عنده أَصلها «أَأَمّ»، فلم يمكنه أن يبدل منه ألفًا لاجتماع الساكنين، فجعلها واوًا مفتوحة؛ كما في جمع «آدم»: أوادم.
وهذا هو القياس.
قال: والذي جعلها ياء قال: قد صارت الياء في «أَيمّة» بدلًا لازمًا.
وهذا مذهب الأخفش.
والأول مذهب المازنيّ، وأظنه أَقيس المذهبين.
فأما «أئمة» باجتماع الهمزتين، فإنما يُحكى عن أبي إسحاق: فإِنه كان يجيز اجتماعهما، ولا أَقول إنها غير جائزة.
والذي بدأنا به هو الاختيار.
وقال الفَرّاء في قوله تعالى: {وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 79] يقول: في طريق لهم يَمُرون عليها في أَسْفارهم.
فجعل الطَّريقَ إمَامًا، لأنه يُؤَمّ ويُتّبع.
الليث: الأمام، بمعنى: القُدّام.
وفلان يَؤُم القوم، أي: يَقْدُمهم.
ويقال: صَدرك أمامُك، بالرفع، إذا جعلته اسْمًا.
وتقول: أخوك أمامَك، بالنصب، لأنه صِفة.
وقال لَبيد، فجعله اسْمًا:
فعدتْ كلا الفرْجين تَحسب أنّه *** مولَى المخَافة خَلْفُها وأَمامُها
يصف بقرةً وحشيّة غرّها القنّاص فعَدت، وكِلا فَرْجَيها، وهما أمامها وخلفها، تحسب أنه ألهاه عِمادٌ مولى مخافتها، أي: وليّ مَخافتها.
قال أبو بكر: معنى قولهم: فلانٌ يؤُمّ أي: يتقدّمهم.
أُخذ من «الأمام»، يقال: فلان إمام القوم، إذا تَقدَّمهم.
وكذلك قولهم: فلان إمام القوم، معناه: هو المتقدِّم لهم.
ويكون الإمام رئيسًا، كقولك: إمام
المُسلمين.
ويكون: الكتاب؛ قال الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} [الإسراء: 71].
ويكون «الإمام»: الطريق الواضح، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 79].
ويكون «الإمام»: المثال، وأنشد:
أبوه قبله وأبو أبيه *** بنَوا مجد الحياة على إِمامِ
معناه: على مثال؛ وقال لَبيد:
* ولكُلّ قَومٍ سُنَّة وإمامُها*
الحرّاني، عن ابن السِّكيت، قال: الأَمُ، هو القَصْد.
يقال: أممته أؤُمه أمًّا، إذا قَصَدْت له.
وأَمَمته أَمًّا: إذا شَجَجْته.
وشَجَّة آمَّةٌ.
قال: والأَمَم، بين القريب والبَعيد.
ويقال: ظَلَمت ظلمًا أَمَمًا؛ قال زُهير:
كأن عَيْني وقد سال السَّلِيلُ بهم *** وَجِيرة ما هُمُ لو أنهم أَمَمُ
ويقال: هذا أمر مُؤَامٌ، أي: قَصْدُ مُقَارِب.
وأَنشد: الليث:
تسألُني برامَتَين سَلْجَمَا *** لو أنها تَطْلب شَيئًا أَمَمَا
أراد: لو طلبت شيئًا يقرب مُتناوله لأطْلَبْتُها، فأما أن تطلُب بالبلد القَفر السَّلْجم، فإنه غير مُتَيَسِّر ولا أَمَم.
ويقال: أَمَمْتُه أمًّا، وتَيَمَّمته تَيَمُّمًّا، وتَيَمَّمْتُه يَمامةً.
قال: ولا يَعرف الأصمعيّ «أَمَّمْته» بالتّشديد.
ويُقال: أَمَمْتُه، وأَمَّمْته، وتأَمَّمْته، وتَيَمَّمته، بمعنى واحد، أي: توخيته وقَصَدْتُه.
والتَيمُّم بالصَّعيد، مأخوذ من هذا.
وصار «التيمّم» عند عوام الناس المَسْح بالتراب، والأصل فيه، القَصْد والتوخِّي؛ قال الأعشى:
تَيَمَّمت قيسًا وكم دُونه *** من الأرض من مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ
اللّحياني، يقال: أَمّوا، ويَمُّوا، بمعنى واحد، ثم ذكر سائر الُّلغات.
الليث: إذا قالت العرب للرجل: لا أُم لك، فإِنه مَدْحٌ عِنْدهم.
وقال أبو عُبيد: زَعم بعضُ العلماء أن قولهم: لا أبا لك، ولا أب لك: مدح؛ وأن قولهم: لا أُمَ لك: ذمّ.
قال أبو عُبيد: وقد وجدنا قولهم: لا أُمّ لك، قد وُضع موضع المَدح؛ قال كَعْب الغَنويّ:
هَوت أُمّه ما يَبْعث الصُّبح غاديًا *** وماذا يُؤَدّي الليلُ حين يُؤوبُ
قال أبو الهيثم: وأين هذا ممّا ذهب إليه أبو عُبيد، وإنما معنى هذا كقولهم: ويح أُمه، ويل أمّه، وهَوت أُمه، والوَيل لها، وليس في هذا من المدح ما ذَهب إليه، وليس يُشبه هذا قولهم: لا أُم لك، لأن قوله: لا أم لك، في مذهب: ليس لك أُمٌ حرة، وهذا السبّ الصريح، وذلك أن بني الإماء عند العرب مَذْمُومون لا يَلحقون ببني الحرائر، ولا يقول الرَّجلُ لصاحبه: لا أُم لك، إلا في غضبه عليه مُقصِّرًا به شاتمًا له.
قال: وأما إذا قال: لا أَبا لك، فلم يَتْرك من الشَّتيمة شَيئًا.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م