نتائج البحث عن (فَتَسَقَّطَ)
1-شمس العلوم (النون)
الكلمة: النون. الجذر: نون. الوزن: فُعْل.[النون]: هذا الحرف، وجمعها نونات.
ولها مواضع: تكون من أصل الكلمة نحو نجح جنح حجن.
وتكون مبدلة نحو صنعاني وبهراني، أبدلت من الهمزة من صنعاء وبهراء.
وتكون زائدة في أبنية الأسماء والأفعال نحو غلمان ورجل غضبان ورعنش.
من الارتعاش، وحسر حسرانا وشنبث شنبثة.
إِذا علق من التشبث، وانقطع: إِذا طاوع إِلى القطع وتكون للاستقبال في أوائل الأفعال نحو نقوم نحن وتكون علامة للرفع في أواخر الأفعال نحو يقومان وتقومان وتقومون وتقومين يا امرأة، فإِذا نصبت هذه الأفعال أو جزمت سقطت.
وتكون للتثنية مكسورة كقوله: {هذانِ خَصْمانِ} وتكون للجمع المسلم مفتوحةً نحو مسلمون، وتكون لجمع المؤنث، والفعلُ معها مبني على الوقف نحو خرجْن يخرجْن، وتكون للعماد.
نحو: أمرني، وهي ثابتة مع الأفعال وساقطة مع الأسماءِ وبعضِ الحروف نحو: ليْ وبيْ وفيّ وإِليّ وعليَّ، وتثبت في بعضها نحو: من وعن ولكن الخفيفة، ولا يجوز إِسقاطها.
ويجوز فيها الوجهان مع إِن وأن وكأن ولعل ولكنّ الثقيلة.
وقد جُوِّز الوجهان في ليت وقد وقط خفيفتين.
قال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ}.
وقال: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} وتكون مع الألف لضمير الجماعة والواحد المخبِر عن نفسه نحو أمرنا، وهي ثابتة في جميع ذلك ويجوز الحذف مع إِن وأنَّ وكأن ولكنّ الثقيلة قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا} وقال: {وَلَوْ أَنَّنا} وتكون للتوكيد خفيفة وثقيلة فيبنى ما قبلها على الفتح في فعل الواحد، وعلى الضم في فعل جماعة المذكر، وعلى الكسر في فعل المؤنث، وأكثر ما تأتي في جواب القسم كقوله: {وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَ}، وفي الجزاء بإِن دون أخواتها كقوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} وفي النهي كقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ} وفي الأمر كقوله:
واستقدر الله خيرًا وارضينَّ به
وفي الاستفهام كقوله:
وهل يأثمن ذو أمَّةٍ وهو طائع
وقد وكدوا الخبر إِذا كان فيه «ما» كقولهم: بعين ما أَرَيْتَك، وتقول في توكيد فعل الاثنين لتذهبان، بألف بعدها نون.
قال الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعانِ} وفي جمع المذكر: لتذهبُن، بضم ما قبل النون لتدل على سقوط الواو {قال الله تعالى: {لَتُسْئَلُنَّ}.
وفي فعل المؤنث: لتذهِبنّ بكسر ما قبل النون لتدل على سقوط الياء}.
وفي الجميع كقولك: لَتَذْهَبْنان، بألف بين النونين.
ولام الفعل المعتل في التوكيد ثابتة في الواحد كقولك: لا تدعُونِّ وترميَنِّ.
وفي التثنية: لا تدعوانِّ وترميانَّ.
وفي تثنية المؤنث وجمعه أيضًا كقولك: لا تدعُونان وترمِيْنان، فأما في جمع المذكر فتسقط ويضم ما قبلها كقولك: لتدعُن وترمُن قال الله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} وتسقط مع الواحدة ويكسر ما قبل النون في ذوات الواو والياء جميعًا كقولك: لتدعِن وترمِنّ، فإِن انفتح ما قبل الواو والياء ثبتتا وحركت الواو بالضم والياء بالكسر.
قال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَ} وقال: {فَإِمَّا تَرَيِنَ}.
والخفيفة إِذا كان قبلها ضمة أو كسرة ثبتت في الوصل وحذفت في الوقف كقولك: يا قوم اضربن زيدًا ويا هند اضربن زيدًا وإِن وقفت قلت: اضربوا واضربي، وإِن كانت قبلها فتحة أبدلت ألفًا في الوقف؛ فتقول في الوصل: اضربن زيدًا وفي الوقف: اضربا، فبعض الكتاب.
يكتبه بالنون على اللفظ وبعضهم يكتبه بالألف.
قال الله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} وقال: {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} الوقف عليها بالألف.
ولا يؤكد بالخفيفة فعل الاثنين وجماعة المؤنث لأنها ساكنة والألف قبلها ساكنة ولا يجمع بين ساكنين ولك أن لا تؤكد هذه
وفي جمع المذكر: لتذهبُن، بضم ما قبل النون لتدل على سقوط الواو {قال الله تعالى: {لَتُسْئَلُنَّ}.
وفي فعل المؤنث: لتذهِبنّ بكسر ما قبل النون لتدل على سقوط الياء}.
وفي الجميع كقولك: لَتَذْهَبْنان، بألف بين النونين.
ولام الفعل المعتل في التوكيد ثابتة في الواحد كقولك: لا تدعُونِّ وترميَنِّ.
وفي التثنية: لا تدعوانِّ وترميانَّ.
وفي تثنية المؤنث وجمعه أيضًا كقولك: لا تدعُونان وترمِيْنان، فأما في جمع المذكر فتسقط ويضم ما قبلها كقولك: لتدعُن وترمُن قال الله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} وتسقط مع الواحدة ويكسر ما قبل النون في ذوات الواو والياء جميعًا كقولك: لتدعِن وترمِنّ، فإِن انفتح ما قبل الواو والياء ثبتتا وحركت الواو بالضم والياء بالكسر.
قال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَ} وقال: {فَإِمَّا تَرَيِنَ}.
والخفيفة إِذا كان قبلها ضمة أو كسرة ثبتت في الوصل وحذفت في الوقف كقولك: يا قوم اضربن زيدًا ويا هند اضربن زيدًا وإِن وقفت قلت: اضربوا واضربي، وإِن كانت قبلها فتحة أبدلت ألفًا في الوقف؛ فتقول في الوصل: اضربن زيدًا وفي الوقف: اضربا، فبعض الكتاب.
يكتبه بالنون على اللفظ وبعضهم يكتبه بالألف.
قال الله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} وقال: {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} الوقف عليها بالألف.
ولا يؤكد بالخفيفة فعل الاثنين وجماعة المؤنث لأنها ساكنة والألف قبلها ساكنة ولا يجمع بين ساكنين ولك أن لا تؤكد هذه الأفعال بالنون إِلا جواب القسم فالنون لازمة له.
والنون: الحوت وجمعه نينان مثل حوت وحيتان.
هذا في الكثير وفي القليل أنوان ومن ذلك ذو النون وهو النبي يونس عليه السلام لأن النون التقمه، فيقال: إِنه أقام أربعين يومًا.
قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا}.
ويقال: النون الدواة.
وعلى جميع ذلك يفسر قوله تعالى: {ن.
وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ}.
وقيل: نون اسم للسورة.
والنون: اسم سيف في قوله:
سأجعله مكان النون منِّي
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
2-تقويم اللسان (مشيت حتى أعييت)
وتقول: "مشيتُ حتى أعييت".والعامة تقول: عيَيت، فتسقط الألف وتكسر الياء، وإنما يقال: عيَيت، فيما يلتبس عليك فلا تدري ما وجهُه.
تقويم اللسان-جمال الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي-توفي 597هـ/1201م
3-معجم متن اللغة (الشنظيرة)
الشنظيرة: السيء الخلق الفحاش، وهو الشنظير.و-: السخيف العقل: الصخرة تفلق من ركن الجبل فتسقط، وهي الشنظورة.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
4-معجم متن اللغة (شنظوة الحبل وشناظه)
شنظوة الحبل وشناظه: أعلاه ج الشناظي، وهي أيضًا نواحيه وأطرافه.و-: الصخرة تنفلق من ركن من أركان الجبل فتسقط.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
5-جمهرة اللغة (رشف رفش شرف شفر فرش فشر)
رَشَفتُ الماءَ أرشِفه وأرشفه رَشْفًا، إذا استقصيت شربَه من الإناء حتى لا تدع فيه شيئًا، والماء مرشوف ومرتشَف، وكذلك رَشْف الرّيقِ، يقال: رَشَفَ الرجلُ رِيق المرأة رَشْفًا.والشَّفْر من قولهم: ما بالدار شَفْر، أي ما بها أحد، ولا يكادون يقولون ذلك إلاّ في النفي.
والشُّفْر: مَنْبِت شعر الجَفن، والجمع أشفار.
وشَفير كل شيء: حَرفه، شَفير النهر وشَفير البئر، وشَفير الوادي وكذلك شُفْر الفَرْج: حروف أشاعره.
وشَفار: موضع.
وشَفْرَة السّيف: حدُّه والشَّفْرَة: السكين أيضًا، ويسمى إزميل الحَذّاء شَفْرَة.
ومِشْفَر البعير ومَشْفَره أيضأ مثل الجَحْفَلَة من الفَرَس والشفة من الإنسان.
ويربوع شُفاريٌّ، وهو الذي على أذنه شَعَر.
والشَّرَف والشُّرَيْف: موضعان بنجد.
والشرَف: علوّ الحسب.
وشَرَف الإنسان: أعلى جسمه.
والرجل شريف، والذي دونه لا حَسَبَ له مشروف.
والرجل الأشرف: الطويل الأذنين، وبه سُمّي الرجل أشرف.
وناقة شُرافيّة: مرتفعة عالية.
وناقة شارف: مسِنَّة.
وشَراف: موضع معروف.
وشرَّفتُ القصر وغيرَه، إذا جعلتَ له شُرَفًا.
وأذُن شُرافية وشُفاريّة، إذا كانت عالية طويلة وعليها شَعَر.
والفَرش: مصدر فرشتُ الفِراش أفرُشه فَرْشًا.
وافترشت الأرض، إذا اتّخذتها فراشًا، وافترشَ الرجلُ المرأةَ كذلك.
والفَريش من الخيل: التي يُحمل عليها بعد نَتاجها بسبعة أيام، والجمع الفرائش، قال الأصمعي: وهو خير أوقاتها في النِّتاج.
قال ذو الرُّمَّة:
«باتت يقحِّمها ذو أزْمَلٍ وسَقَتْ***له الفرائشُ والسُّلبٌ القياديدُ»
يصف آتنًا، وسَقَتْ: جمعت الماء في رحمها، والسُّلْب: جمع سَلوب، وهي التي فقدت ولدها، والفَريش في الخيل والحمير سواء.
والفَرْش من الإبل: صغارها التي لا يُحمل عليها، الواحد والجمع فيه سواء.
وكذلك فُسِّر في التنزيل في قوله جلّ وعز: {حَمولةً وفَرشًا}، والله أعلم.
والفَراش: جمع فَراشة، وهي دوَيْبَّة تطير بالليل فتسقط في النار.
وفي الحديث: (فيتتابعون تتابع الفَراش في النار).
وفَراش الرأس: عظام رقاق متداخلة في مقدَّمه تحت الجبهة والجبينين.
قال النابغة:
«تطير فضاضًا بينهم كلُّ قوْنَسٍ***ويَتْبعُها منهم فَراشُ الحواجبِ»
والفَرْش: الفضاء الواسع من الأرض.
والمَفارش: النساء، ويقال: فلان كريم المفارش، إذا تزَوَّج كرائم النساء.
والمَفارش أيضًا: كل ما افترشته.
وفَراشة القفْل أحسبها عربية صحيحة، وقد سمَّوها المِنْشَب.
وأكَمَة مفترشة الظهر، إذا كانت دَكّاء، وكذلك الناقة، وجمل مفترِش الظهر: لا سَنام له.
وما بقي من الغدير إلاّ فَراشة، أي ماء قليل.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
6-جمهرة اللغة (باب ما جاء على فعليل)
رجل عِتريف: غاشم؛ وكذلك العِتْريس مأخوذ من العَتْرَسة، وهو العُنف.وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القوم الذين جاءوا بالأسير فعنفوا به فقال عمر: أبعَتْرَسة، فصحّفه أصحاب الحديث فقالوا: أبغير بيِّنة؛ فمتى احتاج الأسير الى بيِّنة.
وعِفريت: شيطان.
وصِمليل: ضرب من النبت لا أقف على حدّه ولم أسمعه إلا من رجل من جَرْم قديمًا.
ويقال للرجل الضئيل الجسم الضيق الخُلق صِمليل أيضًا؛ عربي صحيح.
ورجل رِهجيج، أي ضعيف.
والقِطمير: الحبّة التي تكون في باطن النواة تنبت منها النخلة.
وقال قوم: بل القِطمير الذي يخرج مع الثُّفروق إذا نزعته من الرُّطَبة، وهي الهُنَيْئة المتعلّقة بقِمَع البُسْرة أو الرُّطَبة تتّصل بالنواة.
ويقال للنقطة في ظهر النواة: قِطمير.
وبِرطيل: حجر طويل طوله ذراع أو أكثر.
وطِمليل، وقالوا طُملول أيضًا، وهو الفقير العاري من ثيابه.
قال الراجز:
«أطْلَسُ طُمْلولٌ عليه طِمْرُ»
وفرس لِهميم ولُهموم: جواد؛ ورجل لِهميم ولُهموم، إذا كان جوادًا.
وجمل لِهميم: عظيم الجوف.
وصِهميم، يقال: بعير صِهميم، إذا كان عَسِرًا لا ينقاد.
وقال الأصمعي: هو الذي يخبِط بيديه ويزبِن برجليه.
قال الراجز:
«قومًا ترى واحدَهم صِهميما *** لا يرحم الناسَ ولا مرحوما»
وغِذمير مأخوذ من الغَذمرة، وهو التخليط في الكلام وغيره.
قال الشاعر:
«وحادٍ ذو غذاميرَ صَيْدَحُ»
وقال الآخر:
«ومغذمِرٌ لحقوقها هَضّامُها»
ورجل صِنديد: سيّد كريم، وربما قالوا صِمّيت للكريم وصِنتيت أيضًا.
وقِنديد: عصير عنب يُطبخ بأفواه، وليس بالخمر بعينها.
وكِرديد، والكِرديد: القطعة من التمر.
قال الشاعر:
«القاعداتُ فلا ينفعن ضَيفكمُ*** والآكلاتُ بَقِيّاتِ الكراديدِ»
وفِندير: صخرة تنقلع من رأس جبل فتسقط.
قال الشاعر:
«كأنها من ذُرى هَضْبٍ فناديرُ»
وشِهميل: اسم أبي قبيلة، منهم بفارس قطعة كبيرة.
والخِنزير: معروف.
والخِنزير أيضًا: جبل باليمامة أو قريب منها.
قال الأعشى:
«فالسفحُ أسفلُ خِنزيرٍ فبُرْقَتُه*** حتى تدافعَ منه الرَّبْوُ فالحُبَلُ»
وحِبرير: جبل معروف.
وقِنديل: معروف.
وقِرطيط: داهية.
قال الشاعر:
«سألناهمُ أن يَرْفُدونا فـأجـبَـلـوا*** وجاءت بقِرطيط من الأمر زينبُ»
قال أبو بكر: أظنّ هذا البيت مصنوعًا.
يقال: أجبلَ الحافرُ، إذا بلغ موضعًا لا يمكنه فيه الحفر؛ وأجبلَ الشاعرُ، إذا تعذّر عليه قول الشعر، وأراد هاهنا أنهم لم يعطوهم شيئًا.
وتَنبيت: ضرب من النبت، وقالوا: بل النبت كلّه تَنبيت.
قال الراجز:
«صحراءُ لم ينبت بها تَنبيتُ»
وشِنظير: سيّئ الخُلق.
وقِنفير: قصير.
وسِختيت: شديد صلب، وأحسبه معرَّبًا.
قال رؤبة:
«هل يُنْجِيَنّي حَلِفٌ سِختيتُ»
وكِبريت، غلط فيه رؤبة فجعله الذهب فقال:
«أو فضّةٌ أو ذهبٌ كبريتُ»
وقال قوم: بل الكبريت الياقوت الأحمر، والكبريت هو الذي تتّقد فيه النار، ولا أحسبه عربيًا صحيحًا.
وعِبديد: اسم.
وعِربيد: شديد العَربدة.
والعِرْبَدّ: الحيّة.
وحِلبيب: نبت.
والحِلتيت: صمغ شجر معروف.
وعِمليق: اسم عربي واشتقاقه من العَملقة، وهو الماء المختلط الطين في الحوض.
وقِسميل: اسم؛ وقِسميل: أبو بطن من العرب.
فأما قِسميل بن معاوية فبطن من الأزد، أبو القسامل.
وغِربيب: أسود.
وفِرطيس وفِنطيس واحد، وهو أنف الخِنزير.
ويقال للرجل العريض الأنف أيضًا: فِنطيس.
وحِربيش، وهو الخشن المسّ؛ أفعى حِربيش، إذا كانت خشنة المسّ.
وجِرجير: ضرب من البقل، وهو الذي يسمّى الأيْهُقان، ويسمّيه أهل اليمن القَصْقَصِير.
وبِرعيس: ناقة غزيرة.
قال الراجز:
«أنتَ وَهَبْتَ الهجمةَ الجَراجِرا *** كُومًا بَراعيسَ معًا خَناجرا»
وبِرغيل، والجمع براغيل، وهي مياه تقرب من سِيف البحر.
والسِّفسير: الخادم أو الفَيْج.
قال أوس بن حجر:
«وقارفتْ وهي لم تَجإعَبْ وباعَ لها*** من الفَصافص بالنُّمِّيِّ سِفسـيرُ»
يصف ناقة؛ باع لها، أي اشترى لها؛ والفَصافص: القَتّ؛ والنُّمّي، ويقال النِّمّي، بالضمّ والكسر: فلوس كانت تُتّخذ بالحيرة في أيام ملك بني نصر بن المنذر.
وقالوا غِرقيل: مُحّة البيض، ولا أدري ما صحّته، إلا أنه قد جاء في الشعر الفصيح.
والهِدليق مثل الهِدْلق سواء، وهو البعير الواسع الأشداق.
وعِفليط: أحمق.
وسِرطيط: عظيم اللَّقْم.
وقِرميد، قالوا: هو الآجُرّ بالرومية، وقد تكلّمت به العرب؛ يقال آجُرّ وآجُور، وهو فارسيّ معرّب.
وقالوا: القِرميد والقُرمود: ذَكَر الوعول، وليس من هذا الباب.
قال ابن أحمر:
«ما أمُّ غُفْرٍ على دَعجاءَ ذي عَلَـقٍ*** ينفي القراميدَ عنها الأعصمُ الوَقُلُ»
الأعصَم: الوَعِل الذي في إحدى يديه بياض؛ والوَقُل: الذي يتوقّل في الجبل، أي يصعد فيه، ولا يقال فَعُلٌ إلا لما داوم الفعل؛ وَقُلٌ، إذا داوم على التّوقّل؛ ورجل نَدُسّ: يتندّس في الأمور وينظر فيها؛ ورجل بَكُرٌ، إذا كان كثير البُكور في حوائجه؛ ولا يكون إلا في هذه الأفعال الثلاثة، ولا يستحقّ هذا الاسم إلا من واظب على الشيء.
وخِرفيج، يقال: نبت خِرفيج، إذا كان ناعمًا غضًّا.
وحِلبيس، ويقال حُلابِس: اسم من أسماء الأسد.
وخِلبيس: واحد الخلابيس، وأنكر ذلك الأصمعي وقال: لا أعرف له واحدًا، وكان ينكر جمع الشماطيط والعبابيد.
وقال قوم: الخلابيس له واحد من لفظه، والخلابيس: الأمر الذي لا نظام له.
قال المتلمِّس:
«إنّ العِلافَ ومن باللّوذ من حَضَنٍ*** لمّا رأوا أنـه دِينٌ خَـلابـيسُ»
العِلاف: قوم من قُضاعة؛ ويروي هؤلاء أن سامة بن لُؤيّ تزوّج فيهم.
وخِنسير: لئيم زَريّ.
والخِنسير: الداهية.
قال الشاعر:
«طَرَقَ الخناسرةُ اللئامُ فلم*** يَسْعَ الخفيرُ بناقة القَسْرِ»
وبِطريق: معروف، وقد تكلّمت به العرب قديمًا.
وسِحتيت: موضع.
وغِمليس، وهو الَمير، وهو صغار البقل الذي ينبت تحت كباره.
وقِنبير: ضرب من النبت.
وبِرغيل، والجمع بَراغيل، وهي مياه تقرب من السِّيف.
وقِنفير والقُنفورة: ثَقْب الدُّبُر، وليس من هذا الباب.
وبِرزين فارسيّ معرَّب، وهو إناء من قشر الطَّلع يُشرب فيه، وقد تكلمت به العرب.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
7-العباب الزاخر (كسف)
كسفالكِسْفَةُ: القِطعة، يقال: أعطني كِسْفَةً من ثوبك، والجمع: كِسْفٌ وكِسَفٌ، ومنه قوله تعالى: (أوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كما زعمتَ علينا كِسْفًا) و"كِسَفًا"، قرأها هنا -بفتح السين- أبو جعفر ونافع وأبو بكر وابن ذكوان، وفي الروم -بالإسكان- أبو جعفر وابن ذكوان، وقرأ -بالفتح- إلاّ في الطور حفْصٌ. فمن قرأ مُثقَّلا جعله جمْع كِسْفَةٍ كَفِلْقَةٍ وفِلَقٍ وهي القطعة والجانب، ومن قرأ مُخفَّفا فهو على التوحيد، وجمْعه: أكْسَافٌ وكُسُوْفٌ، كأنه قال: تُسْقِطها طبقًا علينا، من كَسَفْتُ الشيء: إذا غَطَّيته.
وقال أبو زيد: كَسَفْتُ الشيء أكْسِفُه كَسْفًا: إذا قطَعْته.
والكَسْفُ: مصدر كَسَفْتُ عُرْقُوْبه: إذا عَرْقَبْته. وفي الحديث: أن صفوان كَسَفَ عُرْقُوب راحلة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أحرج.
وأنشد الليث:
«ويَكْسِفُ عُرْقُوْبَ الجَوَادِ بمِخْذَمِ»
وكسَفت الشمس تَكْسِفُ كُسوفًا، وكَسَفها الله، يتعدى ولا يتعدى، قال جَرير يَرْثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
«فالشَّمْسُ كاسِفَةٌ لَيْسَتْ بِطالِـعَةٍ *** تَبْكي عليكَ نُجُوْمَ اللَّيْلِ والقَمَرا»
هكذا الرواية، أي أن الشمس كاسِفة تبكي عليك الدهر، النُّحاة يرْوُونه مُغيَّرًا وهو: "الشمس طالِعةٌ ليست بِكاسِفة" أي ليست تَكْسِف ضوء النجوم مع طلوعها لِقلة ضوئها وبُكائها عليك.
وكذلك كسَفَ القمرُ، إلاّ أن الأجَوَد فيه أن يقال خَسَف القمر.
وكَسَفَتْ حال الرجال: إذا ساءت، ورجل كاسِف البال: أي سيئ الحال.
وكاسِف الوجه: أي عابِس. وفي المَثل: أكَسْفًا وإمْسَاكًا: يُضربُ لمن يجمع بين العُبوس والإمساك.
ويوم كاسِفٌ: عظيم الهول شديد الشر، قال:
«يا لَكَ يَوْمًا كاسِفًا عَصَبْصَبَا»
وكَسَفَ الرجل: إذا نَكَسَ طَرْفه.
الكَسْفُ في العَرُوْض: أن يكون آخر الجزء متحركًا فتُسقط الحرف رأسًا، والشين المُعجَمة تصحِيفٌ، قاله جار الله العلاّمة الزمخشري -رحمه الله-.
وكَسَفُ: قرية من نواحي الصُّغدِ.
وكَسْفَةُ -بالفتح-: ماءةٌ لبني نعامة من بني أسد، وقيل: هي مُعجمَة.
وقال ابن عبّاد: الكِسْفُ: صاحب المنصورية.
وقال غيره: كَسَّف بصره عن فلان تَكْسِيفًا: أي خفَّضه.
وقال الليث: بعض الناس يقول: انْكَسَفَتِ الشمس، وهو الخطأ. قال الزهري: ليس ذلك بَخطأ؛ لما روى جابر -رضي الله عنه-: انْكَسَفَتِ الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والتركيب يدل على تغير في حال الشيء إلى ما لا يحب، وعلى قَطْع شيء من شيء.
الكَشْفُ والكاشِفَةُ: الإظهار.
والكاشِفَةُ: من المصادر التي جاءت على فاعِلَةَ كالعافية والكاذبة، قال الله تعالى: (ليسَ لها من دُوْنِ اللهِ كاشِفَةٌ): أي كَشْفٌ وإظْهارٌ.
وقال الليث: الكَشْفُ: رفْعُكَ شيئا عمّا يُواريه ويُغطِّيه.
والكَشُوْفُ: النّاقة يضْرِبُها الفحل وهي حامل، وربما ضربها وقد عظُم بطنُها. وقال الأصمعي: فإنْ حَمَل عليها الفحل سنتين متواليتين فذلك الكِشَافُ، والناقة كَشُوفٌ، وقد كَشَفَتْ، قال زُهير بن أبي سُلمى:
«فَتَعْرُكْكُمُ عَرْكَ الرَّحى بِثِفالِها *** وتَلْقَحْ كِشَافًا ثُمّ تُنْتَجْ فَتَفْطِمِ»
ويروى: "فَتُتْئمِ". وقال اليث: الكِشَافُ: أن تَلْقح حين تُنتج، والكِشَافُ: أن يُحمل عليها في كل سنة وذلك أرد النِّتاج.
والكَشَُ: انقلاب من قُصاص الناصية كأنها دائرة، وهي شُعيرات تنبتُ صُعدًا، والرجل كشَفُ، وذلك الموضع كشفةٌ، قال الليث: يُتشَأمُ بها.
والكَشَفُ في الخيل: التواء في عَسِيْبِ الذنب.
والأكْشَفُ: الذي لا تُرْسَ معه في الحرب.
والأكْشَفُ: الذي ينهزم في الحرب. وبِكِلى المعنيين فُسِّر قول كعب بن زهير رضي الله عنه.
«زالُوا فما زالَ أنْكاسٌ ولا كُشُفٌ *** عند اللِّقَاءِ ولا مِيْلٌ مَعَـازِيْلُ»
وقال ابن الأعرابي: كَشِفَ القوم: إذا انهزموا، وأنشد:
«فما ذَمَّ جـادِيْهِـمْ ولا فـالَ رَأْيُهـم *** ولا كَشِفُوا إنْ أفْزَعَ السَّرْبَ صائحُ»
أي لم ينهزموا.
وقال ابن عبّاد: الكْشَفُ: الذي لا بيضة على رأسه.
وكُشَافٌ: موضِع من زابِ الموصل.
وقال غيره: كَشَفَتْه الكَواشِفُ: أي فَضحتْه الفضائح.
والجبهةُ الكَشْفاء: التي أدبَرت ناصيتها.
وأكْشَفَ القوم: كَشَفَتْ إبلُهم.
وقال الأصمعي: أكْشَفَ الرجل: إذا ضَحك فانقلبت شَفتُه حتى تبدو دَرادِرُه.
وقال الزَّجّاج: أكْشَفَتِ النّاقة: إذا تابعت بين النِّتاجين.
وقال ابن عبّاد: أكْشَفْتُ الناقة: جعلتُها كَشُوْفًا.
والتَّكْشِيْفُ: مبالغة الكَشْفِ.
وقال ابن دريد: كَشَّفْتُ فلانًا عن كذا وكذا: إذا أكْرَهْتُه على إظهاره.
والتَّكَشُّفُ: الظهور.
وتَكَشَّفَ البرق: إذا كلأ السماء.
والانْكِشَافُ: مُطاوَعةُ الكَشْفِ.
واسْتَكْشَفَ عن الشيء: سأل أن يُكْشَفَ له عنه.
وكاشَفَه بالعداوة: باداه بها.
ويقال: لو تَكاشَفْتُمْ ما تَدافنْتُم: أي لو انكشف عيب بعضكم لِبعضٍ.
واكتَشَفَتِ المرأة لزوجها: إذا بالغت في التَّكَشُّفِ، قاله ابن الأعرابيِّ، وأنشد:
«وأكْشَفَتْ لنا شِيءٍ دَمَكْمَـكِ *** عن وارِمٍ أكْظَارُهُ عَضَنَّكِ»
«تقول: دَلِّصْ ساعَةً لا بَلْ نِكِ *** فَدَاسَها بأذْلَغِيٍّ بَـكْـبَـكِ»
واكتشف الكبش: نزا.
والتركيب يدل على سرو عن الشيء كالثوب يُسْرى عن البدن.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
8-القاموس المحيط (الشنظرة)
الشَّنْظَرَةُ، (بالظاء المعجمة): الشَّتْمُ.وشَنْظَرَ بِهِمْ: شَتَمَهُمْ.
والشِّنْظِيرُ: السَّيِّئُ الخُلُقِ الفَحَّاشُ،
كالشِّنْظِيرَةِ، والصَّخْرَةُ تَنْفَلِقُ من رُكْنِ الجَبَلِ فَتَسْقُطُ،
كالشُّنْظُورَةِ، وبالهاءِ: حَرْفُ الجَبَلِ وطَرَفُه.
وبَنُو شِنْظيرٍ: بَطْنٌ من العَرَبِ.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
9-المعجم المفصل في النحو العربي (باب الهمزة)
باب الهمزةورودها: وردت الهمزة في مفاتيح السّور القرآنيّة مثل: «آلم، المر، المص»، وتلفظ هذه الكلمات كما يلي: ألف، لام، ميم؛ ألف، لام، ميم، راء؛ ألف، لام، ميم، صاد؛ و «الم» في قوله تعالى: {الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} تعني حسب تفسير ابن عباس رضي الله عنه: «أنا الله أعلم» فالهمزة هي الحرف الأوّل من كلمة «أنا»، و «اللام» هي الحرف الأول من كلمة اسم الجلالة «الله» بعد «أل»، و «الميم» هو الحرف الأخير من كلمة «أعلم»، وكلمة «المر» تعني: «أنا الله أرى» و «المص» تعني: «أنا الله أفصل». قال بعض النحويّين موضع هذه المفاتيح رفع بما بعدها. فـ «الم» كلمة تقع مبتدأ خبره «ذلك الكتاب» وتقدير الكلام: حروف المعجم ذلك الكتاب؛ أو هي خبر لمبتدأ محذوف، ويجوز أن تكون «الم» مفعولا به لفعل محذوف تقديره: «اتل»؛ أو هي مفعول به لفعل قسم محذوف تقديره: «أقسم».
والهمزة هي أوّل الحروف الهجائيّة في التّرتيب الهجائي على النّهج الألفبائيّ والأبجديّ، وهي صوت مخرجه من الحنجرة، لا يوصف بالجهر ولا بالهمس. يقول الأزهري: اعلم أنّ الهمزة لا هجاء لها، إنّما تكتب مرّة «ألفا»، ومرّة «ياء» ومرّة «واوا»، والألف الليّنة لا حرف لها، إنّما هي جزء من مدّة بعد فتحة.
والحروف الهجائيّة ثمانية وعشرون حرفا ومع الهمزة يصبح العدد تسعة وعشرين حرفا.
والهمزة كالحرف الصّحيح غير أنّ لها حالات تكون فيها حرف علّة فتقلب «ألفا» أو «واوا» أو «ياء». فتلحق بالحرف المعتلّ وتصير بذلك حروف العلّة أربعة: الهمزة، الألف، الواو، الياء. ولها ألقاب منها: همزة التأنيث مثل: «حمراء»، «نفساء»، «عشراء»، «الخنساء»...
ومنها: الهمزة الأصليّة في آخر الكلمة مثل: «الجفاء»، «البواء»، «الوطاء»، «الطواء»، «الوحاء»، «الباء»، «الدّاء» «الإيطاء»، ومنها الهمزة الأصليّة الظّاهرة مثل: «الخبء»، «الدفء»، «الكفء»، «العبء» وقد تجتمع همزتان في كلمة واحدة مثل: «الرّئاء»، «الحاوئاء»، ولا يجوز همز «ياء» كلمة «الضياء» والمدّة الأخيرة هي همزة أصليّة من «ضاء، يضوء، ضوءا» ومنهم من يهمز ما ليس بمهموز مثل قول أبي العباس أحمد بن يحيى:
«وكنت أرجّي بئر نعمان حائرا***فلوّأ بالعينين والأنف حائر”
والأصل: لوّى، لكنّه همزها فقال: لوّأ، ومنه القول: «كمشترىء بالحمد ما لا يضيره» حيث همز كلمة «كمشترىء» والأصل «كمشتري».
ومنهم من يحذفها في الرّفع والجرّ إذا كانت ظرفا وقبلها ساكن ويثبتها في النّصب، ومنهم من يثبتها في الحالات الثلاث، أمّا إذا كانت الهمزة متوسّطة فهي مثبتة دائما.
كتابتها: اختلف النحاة في كتابة الهمزة.
فمنهم من يرى كتابتها بحسب حركة ما قبلها، ومنهم من يرى كتابتها بحسب حركتها، ومنهم من يقول بإن الخط ينوب عن اللسان، ولذلك يجب أن نترجم بالخط ما نطق به اللسان.
واختلف النّحويّون أيضا في كتابة الهمزتين المجتمعتين في معنيين، فنطقوا قوله تعالى: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بتحقيق الهمزتين وقرأ سواهم: «آنذرتهم» بالهمزة الممدودة، وكذلك قرأوا قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} وكذلك نطقوا في كل ما أشبه ذلك من قوله تعالى، وهي لغة سائرة من العرب، وكقول الشاعر:
«تطاللت فاستشرفته فعرفته ***فقلت له: انت زيد الأرانب»
ومثل:
«خرق إذا ما القوم أجروا فكاهة***تذكّر ايّاه يعنون أم قردا»
ومنهم من يخفّف الثّانية لاجتماع النّاس على بدل الثّانية في قولهم «آدم»، «آخر»، لأن الأصل: «أأدم»، و «أأخر».
وإذا اجتمعت همزتان مكسورتان مثل: على البغاء إن أردن تحصّنا أو مضمومتان، مثل: «أولياء»، «أولئك» فتخفف الثّانية، فتلفظ، «على البغاء أن أردن تحصّنا» فتكون الأولى في «البغاء» بين «الهمزة» و «الياء» مكسورة وتلفظ «أولياء أولئك»، الهمزة الأولى بين «الواو» و «الهمزة» مضمومة.
تحقيق الهمزة وتخفيفها وتحويلها: من العرب من يجري على الهمزة التّحقيق والتّخفيف، والتّحويل، والحذف، ولكلّ من هذه الأمور أحكام وأمثلة خاصة منها:
أولا: تحقيق الهمزة هو أن تعطي الهمزة حقّها من الإشباع، يقول أبو زيد الأنصاري: «إذا أردت أن تعرف إشباع الهمزة فاجعل العين في موضعها» فتقول: «قد خبأت لك» بوزن قد خبعت لك، وتقول: «قرأت» بوزن «قرعت» و «أنا أخبأ» بوزن: «أنا أخبع» و «أنا أقرأ» بوزن: «أنا أقرع» وتقول: «يلؤم» بوزن: «يلقم» للرجل البخيل. وتقول: «أسد يزئر» مثل «يزعر» ومن التّحقيق القول: يا زيد من أنت؟ مثل: «من عنت» ومن التّحقيق قول بعض العرب: «هذه دأبة» بهمز الألف في دابّة، و «هذه امرأة شأبة» في همز «شابّة» وذلك عند ثقل إسكان حرفين وإن كان الثاني متحرّكا ومثل:
«يا عجبا! لقد رأيت عجبا***حمار قبّان يسوق أرنبا»
وأمّها خاطمها أن تذهبا
فوقف على الألف مع النّبر.
ثانيا: وتخفيف الهمزة هو عدم إعطاء الهمزة حقّها من الإعراب والإشباع، وتصرف في وجوه العربية بمنزلة سائر الحروف التي تحرّك، فتقول: «خبات» و «قرات» في «خبأت» و «قرأت» فتجعل الهمزة «ألفا» ساكنة على سكونها في التّحقيق إذا كان ما قبلها مفتوحا، والهمزة كسائر الحروف التي تحرّك، فتقول: «لن يخبإ الرجل» و «لم يقرإ القرآن» فتكسر الهمزة في «يخبإ» و «يقرإ» لأن ما بعدها ساكن فكأنّك تقول: «لم يخبيرّ جل، ولم يقر يلقرآن» وتقول: «هو يخبو» و «هو يقرو» فتجعلها «واوا» مضمومة في الدّرج، كما تجعلها «ألفا» في الوقفة غير أنك تهيّئها للضمّة من غير أن تظهر ضمّتها فتقول: ما أخبأه وأقرأه فتحرك الألف بالفتح لبقية ما فيها من الهمزة.
ومن التّخفيف قولك في «يلؤم»: «يلم» وفي «يزئر»: «يزر» فتكون قد طرحت الهمزة وحرّكت ما قبلها بحركتها على الضّمّ في «يلم» والكسر في «يزر» إذا كان ما قبلها ساكنا. ومن التّخفيف قولك في «يا زيد من أنت»: «من نت» كأنك تلفظ: «مننت» فتسقط الهمزة من «أنت» وتحرك ما قبلها بحركتها. ولا يجوز أن تدغم الحرفين المثلين لأن أوّلهما متحرّك. أما في قولك: «من أنا» فتلفظ «من نا» أو «منّا» بإدغام المثلين لأن أوّلهما ساكن.
ومثله التّخفيف في قوله تعالى: و {لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي} فخففت الهمزة من «لكن أنا» فتلفظ «لكن نا» كما تلفظ «لكننا» ثم أسكنت النّون الأولى بعد التّخفيف فتلفظ «لكننا» لكنّا.
ومن التّخفيف قول بعض العرب: «الأسد يزير» بجعل الهمزة «ياء» ونقل حركتها إلى الساكن قبلها؛ وكذلك في قولك للرجل: «سل» بدلا من «اسأل» فتحذف الهمزة وتنقل حركتها إلى ما قبلها ثم تحذف همزة الوصل التي يؤتى بها لتسهيل النّطق بالسّاكن، وإذا تحرّك ما بعدها فلا حاجة إليها فتصير سأل. وكقول الشاعر:
وأنت يا با مسلم وفيتا
والأصل: «يا أبا مسلم» فحذفت الهمزة رغم أنها أصليّة: كما تحذف من «لا أبا لك» فتصير: لا با لك.
ومن التّخفيف قولك في «هذا غطاء، وكساء، وخباء»: «هذا غطاو، وكساو وخباو»، فتجعل الهمزة «واوا» لأنها مضمومة، وبالتّثنية تقول: «هذان غطاأن، وكساأن، وخباأن» بتحريك الألف بغير إشباع لأن فيها بقية من الهمزة وقبلها ساكن.
ثالثا: التّحويل في الهمزة هو جعلها «واوا» أو «ياء» فتقول في «خبأت»: «خبّيت» الكتاب فهو «مخبّى»، وهو «يخباه»، وتقول: «رفوت الثوب رفوا» بتحويل الهمزة «واوا» وتقول: «لم يخبّ عني شيئا» بدلا من «لم يخبّىء» بإسقاط الهمزة لأنها متطرّفة وفي موضع «اللّام» وبإبقاء ما قبلها على حاله متحرّكا.
وتقول في «هذا فضاء»: هذا فضاو لأن «الواو» أخف من «الياء» وفي التّثنية تقول: «فضاوان». وتقول في تحويل: «توضأت»: توضّيت بتحويل الهمزة إلى «ياء».
انتماؤها: الهمزة حرف لا يوصف بالهمس ولا بالجهر. فالحرف المجهور هو الذي يلزم موضعه إلى انقضاء حروفه وحبس النّفس أن يجري معه، ولم يخالطه شيء يغيّره وعدد المجهور من الحروف تسعة عشر حرفا هي: «الألف»، «العين» «الغين»، «القاف»، «الجيم»، «الباء»، «الضّاد»، «اللّام»، «النّون»، «الرّاء»، «الطّاء»، «الدّال»، «الزّاي»، «الظّاء»، «الذّال»، «الميم»، «الواو»، «الياء» وقد تنتمي الهمزة إليها.
والمهموس هو حرف مخرجه دون المجهور، وجرى معه النّفس، وهو دون المجهور في رفع الصّوت والحروف المهموسة عشرة أحرف هي: «الهاء»، «الحاء»، «الخاء»، «الكاف»، «الشّين»، «السّين»، «التّاء»، «الصّاد»، «الثّاء»، «الفاء». وقد يكون المهموس مشدّدا أو يكون رخوا، والمجهور كذلك.
والهمزة كالحرف الصّحيح قد يلحقها الحذف والإبدال والتّحقيق فتعتلّ، وتلحق بالأحرف المعتلّة الجوف، وليست من أحرف الجوف، إنّما هي حلقيّة في أقصى الفم، قال الخليل: «حروف العربية تسعة وعشرون حرفا منها خمسة وعشرون حرفا صحاح لها أحياز ومدارج، وأربعة حروف جوف: «الواو» و «الياء» و «الألف» الليّنة والهمزة». وسمّيت هكذا لأنها تخرج من الجوف فلا تخرج في مدرجة من مدارج الحلق ولا مدارج اللهاة، ولا مدارج اللّسان، وهي في الهواء فليس لها حيّز تنسب إليه إلّا الجوف. ومن الحروف ما هي حلقيّة وهي: «العين»، «الهاء»، «الحاء»، «الخاء»، «الغين» ومنها ما هي لهويّة مثل: «القاف»، «الكاف» والشجريّة وهي: «الجيم» و «الشين» و «الضاد» والشجر: مفرج الفم، والأسليّة وهي: «الصّاد»، السّين، «الزّاي» ومبدأها من أسلة اللّسان أي: مستدقّ طرفه، والنّطعيّة وهي: «الطاء» و «الذال»، و «التاء» لأن مبدأها من نطع الغار الأعلى: واللّثويّة وهي: «الظّاء»، «الدّال»، «الثاء» لأن مبدأها اللّثة، والذّلقيّة وهي: «الرّاء»، «اللّام»، «النّون»، والشّفوية وهي: «الباء»، «الفاء» و «الميم»، والهوائيّة وهي: «الواو»، «الألف»، «الياء».
أسماء الهمزة ومعانيها: للهمزة أسماء كثيرة ومعان مختلفة منها:
أولا: همزة الاستفهام، هي أصل أدوات الاستفهام ولها أحكام تتميّز بها عن غيرها:
1 ـ يجوز أن تحذف همزة الاستفهام سواء أكانت متقدّمة على «أم» كقول الشاعر:
«فو الله ما أدري وإن كنت داريا***بسبع رمين الجمر أم بثمان»
والتقدير: أبسبع، أو لم تكن قد تقدّمت على «أم»، كقول الشاعر:
«طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ***ولالعبا منّي وذو الشّيب يلعب؟»
والتّقدير: أذو الشيب يلعب؟. أما قول الشاعر:
«ثم قالوا: تحبّها؟ قلت: بهرا***عدد الرّمل والحصى والتّراب»
فمنهم من قدر جملة «تحبها» خبرا لمبتدأ محذوف تقديره: أنت تحبها؛ ومنهم من قدّر همزة استفهام محذوفة والتّقدير: أتحبّها.
2 ـ قد تكون الهمزة لإدراك المفرد وتعيينه، وجواب الاستفهام المقصود منه ذلك يكون بالتّعيين مثل: «أنمت أم ذهبت للنّزهة؟» ومثل: «من درس» والمقصود طلب التّصوّر، أو تكون لطلب التّصديق، أي: إدراك النّسبة بين أمرين سواء أكانت النّسبة مثبتة أو منفيّة والجواب عن هذا الاستفهام يكون بـ «نعم» أو «لا» فهي تجمع بين معنى التصوّر والتّصديق بينما «هل» تختص بالتّصديق وبقية أدوات الاستفهام تختصّ بالتّصور فقط، مثل: «هل درس أخوك؟» و «كم عمرك؟» و «أين بيتك؟» و «متى سفرك؟» و «من زارك؟».
2 ـ لهمزة الاستفهام حقّ الصّدارة، فلا تأتي بعد «أم» التي تفيد الإضراب، فلا يجوز القول: «أدرس أخوك أم أذهب» بل يمكنك القول: «أم
هل ذهب» وكذلك لا تأتي بعد العاطف بل تتقدّم عليه فتقول: «أو لم تذهب إلى الجامعة؟» وكقوله تعالى: {قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وكقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وقوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} وكقوله تعالى: {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} والأصل أن يتقدّم العاطف على حرف الاستفهام فتقول: «وهل ينفع الكذب؟» لكنّ الهمزة لها حق الصّدارة فلا يتقدّم عليها حرف العطف. أمّا الزّمخشري فإنه يقدّر جملة بعد الهمزة تناسب السّياق ليكون كلّ من الحرفين، حرف العطف والاستفهام في موضعه، ففي قوله تعالى السّابق {أَفَلا يَعْقِلُونَ} يكون التقدير: «أيجهلون فلا يعقلون». ولكن لم يسمع هذا عن العرب ولم يطّرد بدليل عدم إمكانيّة هذا التّقدير في قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ}.
والاستفهام بالهمزة التي تفيد التّصور يأتي مباشرة بعدها المستفهم عنه، ويأتي بعده معادل له بعد «أم» فتقول: «أأنت نجحت أم أخوك؟» ومثل: أكتابا اشتريت أم دفترا؟ وكقوله تعالى: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ} والتّقدير: أأنت أم غيرك. فالاستفهام متّصل بين ما قبل «أم» وما بعدها لذلك تسمّى «أم» المتّصلة. ومن معانيها:
1 ـ التّسوية، إذا وقعت بعد كلمة «سواء» أو «ليت شعري» أو «ما أدري» ويصحّ حلول المصدر محلّها مع ما بعدها، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(8) وكقوله تعالى: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} والتّقدير في هذه الآية: «أإستغفرت» حيث حذفت همزة الوصل من الفعل «استغفرت» لدخول همزة التّسوية عليها.
2 ـ الإنكار وهي التي يكون ما بعدها غير واقع، كقوله تعالى: {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} وكقوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ}. وهمزة الإنكار تنفي ما بعدها، وتلزم ثبوته إن كان منفيّا، إذ إن نفي النّفي إثبات، كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} ففي هذا الآية إثبات انشراح الصّدر، لأن همزة الإنكار دخلت على الجملة المنفيّة بـ «لم» فحوّلت معناه إلى الإثبات، بدليل العطف عليها بالإثبات في كلمة «ووضعنا» وفي كلمة «ورفعنا» وكقوله تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى} وكقول الشاعر:
«ألستم خير من ركب المطايا***وأندى العالمين بطون راح»
وفيه وردت همزة الإنكار وبعدها منفيّ في كلمة «ألستم» ومعناها الإثبات بدليل أنّ هذا القول هو في مدح الشّاعر جرير لعبد الملك بن مروان، ويقال: إنّه أمدح بيت قالته العرب.
3 ـ الإنكار التّوبيخي وهو عكس الأول وفيه تقتضي الهمزة أنّ ما بعدها واقع، والتوبيخ حاصل لمن قام به، كقوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ} وكقوله تعالى: أ{أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي} الحياة {الدُّنْيا}.
4 ـ التّقرير، أي: إقرار المخاطب على أمر قد استقرّ ثبوته أو نفيه، ويلي هذه الهمزة مباشرة الشيء الذي يجب تقريره، مثل: «أمنحت المجتهد جائزة؟» فالشيء المطلوب الاستفهام عنه هو منح المجتهد جائزة ويكون الجواب: نعم منحته، ومثل: «أأنت الذي منحت المجتهد مكافأة» فالمطلوب الاستفهام عن مانح الجائزة لذلك يكون الجواب: نعم أنا منحته، وكقوله تعالى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً} وفي هذه الآية اجتمع المعنيان: التّقرير مع التّوبيخ.
5 ـ التّهكّم، أي: الاستهزاء الممزوج بالإنكار التوبيخي، كقوله تعالى: {يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا}.
6 ـ الأمر، ويكون معناها في الظّاهر الاستفهام وفي الحقيقة الأمر، كقوله تعالى {أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} وتشترك معها «هل» في هذا المعنى كما في قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} أي: انتهوا. فلفظه لفظ الاستفهام ومعناه الأمر.
7 ـ التّعجّب، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ}.
8 ـ الاستبطاء أي: وجدوا الأمر بطيئا، كقوله تعالى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ}(8) وفيها أن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم بهذه الآية.
9 ـ التّهديد أي التّخويف والوعيد بالعقوبة، كقوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} وفيها تهديد بالعذاب كما عذب قوم نوح وعاد وثمود حين كذّبوا رسلهم.
10 ـ التّنبيه، أي: الوقوف على أمر والإعلام به، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} وفيها إعلام المؤمنين أن الله سميع بصير هو الحقّ بدليل أنه أنزل...
11 ـ التّحقيق، أي: التّقرير مع الإنكار، وفيه تكون الهمزة مما يقتضي إنكار النّفي بعدها، وإرجاع المعنى إلى الثبوت، كقول جرير السّابق: ألستم خير من...
12 ـ القسم، وتكون الهمزة قد حلّت محل فعل قسم، أو حرف قسم محذوف هو «الباء»، كقولك: «آ الله لأجتهدنّ»، فالهمزة هي عوض من «الباء» المخصّصة للقسم، وكلمة الجلالة «الله» اسم مجرور، منهم من يقول: إنّه مجرور بالهمزة المعوّضة عن «الباء» حرف الجر المحذوف، ومنهم من يقول: إنّه مجرور بحرف الجرّ المحذوف والهمزة عوضا منه.
ثانيا: التّسوية، هي التي تقع بعد كلمة «سواء» أو «ما أدري» أو «ما أبالي» ويصح أن يحل المصدر محلّها مع ما بعدها، كقوله تعالى: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} والتّقدير: سواء إنذاركم أو عدم إنذاركم....
ثالثا: همزة النّداء وهي التي تستعمل في نداء القريب، كقول الشاعر:
«أفاطم مهلا بعض هذا التّدلّل ***وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي»
رابعا: همزة التّعريف على لغة من يقول: إن أداة التعريف في كلمة «الطفل» هي الهمزة لا «أل» ولا «اللّام» وتكون همزة قطع، لا همزة وصل مثل: «العزّى».
خامسا: همزة «أي» التي تكون للنداء، كقول الشاعر:
«ألم تسمعي أي عبد في رونق الضّحا***بكاء حمامات لهنّ هدير»
سادسا: الهمزة الفعلية هي فعل أمر من «وأى» بمعنى «وعد» كما في مثل:
«إنّ هند المليحة الحسناء***وأي من أضمرت لخلّ وفاء»
حيث ورد فعل الأمر «إنّ» والأصل «إينّ» فحذفت «الياء» منعا من التقاء ساكنين، ويعرب «إنّ» فعل أمر مبني على حذف النّون لأنه آت من الأفعال الخمسة و «ياء» المخاطبة المحذوفة منعا من التقاء ساكنين هي ضمير متّصل مبنيّ على السّكون في محل رفع فاعل و «النون»: حرف توكيد مبني على الفتح لا محل له من الإعراب «هند» منادى مبني على الضّمّ في محل نصب «المليحة» نعت «هند» تبعه على اللفظ «الحسناء» نعت «هند» تبعه على المحل. «وأي»: مفعول مطلق منصوب وهو مضاف؛ «من»: اسم موصول مبنيّ في محل جرّ بالإضافة.
سابعا: هي حرف من أحرف المضارعة، مثل: «أكتب»، «أدرس»، «أكرم» «أحجم» وتكون مفتوحة في الثّلاثي والخماسي والسّداسيّ، مثل: «أكتب، أنطلق، أستخرج» ومضمومة في الرّباعي مثل: «أحجم، أكرم» على أنّ قبيلة بهراء تكسر حرف المضارعة فيقولون: تعلم، تئثم، كقول الشاعر:
«لو قلت ما في قومها لم تيثم ***يفضلها في حسب وميسم»
حيث ورد المضارع «تيثم» والأصل: «تئثم» وقلبت الهمزة المكسورة ما قبلها إلى «ياء»، كما نقول في ذئب: «ذيب».
ثامنا: همزة «أفعل» التي تصيّر اللّازم متعدّيا مثل: جلس، فعل لازم «أجلس» متعدّ، وتدخل بخاصّة على الفعل الثّلاثي الذي يتعدّى لو نطق به فتقدّر الهمزة زائدة مثل: «ألقى الفلاح البذور في الأرض» والأصل: «لقى»، لأنه من «اللقاء» وجذره «اللّام والقاف والياء» ودخلت الهمزة للتّعدية، إلا أنه لم ينطق به إلا بالهمزة، لذلك تقدّر الهمزة زائدة، وهذه الهمزة تدخل على «اللّازم» فيتعدّى بواسطتها إلى مفعول واحد، كما تدخل على المتعدّي إلى واحد فيتعدّى إلى اثنين، مثل: «أجلس الولد أخاه» فالفعل «جلس”
لازم وصار متعدّيا بواسطة الهمزة إلى مفعول واحد، ومثل قول الشاعر:
«فألفيته غير مستعتب ***ولا ذاكر الله إلّا قليلا»
حيث دخلت الهمزة على المتعدّي إلى واحد «فألفيته» فصار متعدّيا إلى اثنين وما يكون متعدّيا إلى اثنين تعدّيه إلى ثلاثة، مثل: «علمت الطفل مريضا» «أعلمت سعيدا الطفل مريضا».
تاسعا: همزة النّقل التي تنقل الفعل من الثّلاثي إلى الرّباعي، فإن كان متعدّيا بقي على تعديته، وقد يذكر ثلاثيّة وقد لا يذكر، قيل: «أوقفت صاحبي ووقفته» وقيل: «مهرت العروسة وأمهرتها» وقيل: «سقيت الطفل وأسقيته» وقيل: «أسرى بعبده وسرى به» فالفعل «أمهر» و «أوقف» و «أسرى» كلّ متعدّ وبقي على تعديته بعد دخول همزة التّعدية على الفعل: «مهر» و «وقف» و «سرى». ومثل: «ألاح البرق ولاح» فالفعل «لاح» فعل ماض ثلاثيّ غير متعدّ وبقي كذلك بعد دخول همزة التّعدية عليه ومثل: «أشكل الأمر» فالفعل «أشكل» لا ينطق بثلاثيّة وبقي غير متعدّ.
عاشرا ـ همزة التّعدية هي التي تحوّل الفعل الثلاثي اللّازم إلى فعل رباعي متعد، مثل: «جلس الطفل وأجلست الطفل»، وإذا ما كان الثّلاثي متعدّيا إلى واحد فيصير متعديا إلى مفعولين، مثل: «تبع الطفل أباه وأتبعت الطفل أباه» وإذا كان متعدّيا إلى اثنين يصير متعديا إلى ثلاثة مفاعيل، مثل: «علمت زيدا ناجحا وأعلمت صديقي زيدا ناجحا».
حادي عشر: همزة السّلب هي التي تحوّل معنى الفعل، عند دخولها، إلى ضدّه مثل: «أشكيت الطفل» أي: أزلت شكايته، ومثل: «أعجمت الأبيات الشّعرية» أي: أزلت عجمتها ومثل: «أقسط الطفل» أي: أزيل عنه الجور.
ثاني عشر: هي التي تقع في أول الكلمة ويؤتى بها لإنكار الرأي، ففي مثل: نجح زيد فتقول: «أزيدنيه»، وفي رأيت زيدا تقول: «أزيدنيه» وفي مررت بزيد تقول؛ «أزيدنيه» فكلمة «زيد» بقيت على إعرابها في الرفع والنّصب والجرّ ودخلت الهمزة على أوّلها، ولحقت بها الحروف «نيه» فالنّون فيها هي التّنوين في كلمة «زيد» و «الياء» لإشباع حركة «النون» وإظهار الإنكار، و «الهاء» للمدّ والوقف، ومنهم من يضيف «إن» فيقول: «أزيد إنيه، أزيدا إنيه، أزيد إنيه» وتفسير «إنيه» مثل: «نيه».
ثالث عشر: همزة الوقف، هي التي يأتي بها بعض العرب عند آخر الفعل للوقف عليها، لا لشيء آخر، فيقولون في الوقف للمرأة، «كلىء» وللرجل «كلأ» وللجمع «كلؤ» كما يقولون في الوقف على كلمة «لا»: «لأ» كما تلفظها العامّة.
رابع عشر: الهمزة التي هي عين فاعل، مثل: «وأل وائل» «طاف طائف» أو همزة «فعائل»: مثل «سرير سرائر» و «كتيبة كتائب».
خامس عشر: الهمزة الزّائدة فتقول في «الشمال» أي: الريح الشمالية «شمأل» أو الشأمل، وتقول في «الغرقى» أي: القشرة الرقيقة التي تحيط ببياض البيضة، أو هي البياض نفسه، فتقول فيها: الغرقىء.
سادس عشر: همزة التّأنيث التي هي همزة «فعلاء» مثل: «حمراء» و «نفساء» وهي المرأة إذا ولدت، و «خيلاء» وهو اسم مؤنّث للاختيال.
سابع عشر: الهمزة الأصليّة التي هي أحد الحروف الأصليّة من الكلمة، مثل: «أخذ»، «أكل»، «سأل»، «قرأ»، «أب»، «أخ».
ثامن عشر: الهمزة المبدلة وهي التي تكون بدلا من «الواو» أو «الياء» ويكون ذلك في المواضع الخمسة التالية:
1 ـ إذا تطرّفت «الواو» أو «الياء» بعد ألف زائدة، مثل: «سماو سماء»، «دعاو دعاء»، «بناي بناء»، «طلاي طلاء» كما تقلب الألف المتطرفة همزة، مثل: «حمراء» حيث زيدت الألف قبل الآخر للمدّ ثم قلبت الألف الثّانية همزة، فصارت «حمراء». ولا تقلب «الواو» ولا «الياء» إلى همزة في كلمة «بايع»، و «جاوز» لعدم تطرّفهما، ولا تقلبان همزة في كلمة «واو» ولا في كلمة «أي» لأنهما أصليتان أما إذا جاء بعدهما تاء التّأنيث، فإذا كانت زائدة تقلبان همزة فتقول: بناءة وكساءة، وإذا كانت لازمة فلا قلب فتقول: هداية وحلاوة.
2 ـ إذا كانت «الواو» أو «الياء» عينا في «فاعل» أعلّت في فعله مثل: «بايع وبائع»، «صايم وصائم»، «غايم وغائم»، «غايب وغائب»، «طاير وطائر».
3 ـ إذا وقعتا عين «مفاعل» أي: بعد الألف السّاكنة في «مفاعل» أو ما يشبهها في عدد الحروف وضبطها، مثل: «فواعل» و «فعالل»، و «أفاعل»، وإذا كانتا حرف مدّ ثالثا في الكلمة، مثل: «عجوز عجائز» «طريق طرائق»، «قصيدة قصائد» وكذلك تقلب الألف همزة على الشّرطين السّابقين الخّاصين بالواو والياء، فتقول في: «قلادة: قلائد» وفي: «رسالة: رسائل».
4 ـ إذا وقعت ثاني حرفين ليّنين بينهما ألف «مفاعل» أو ما يشبهها مثل: «نيّف نيايف ونيائف» و «أوّل أو اول وأوائل» وسيّد أصلها سيود فتقول: «سياود سيايد وسيائد».
5 ـ إذا اجتمعت «واوان» في أوّل الكلمة الثّانية منهما معلّة، أي: منقلبة عن حرف آخر مثل: واثق على وزن «فواعل» تقول: وواثق، أواثق بقلب الأولى همزة وبقاء الثانية المعلّة كما تقول في: «واصل»: «وواصل» «أواصل» وفي «واقف»: «وواقف» «أواقف»، أما الألف فتقلب همزة سماعيا وبدون قياس، كقوله تعالى: {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وفيها تقرأ «الضّالّين» في قراءة البعض «الضألّين» منعا من التقاء ساكنين؛ ومثل قول بعضهم «شأبّة» و «دأبّة» ومنهم من يقلب الألف همزة في غير المهموز فيقولون في «العالم»: «العالم» وفي «الخاتم»: «الخأتم». وتبدل الهمزة من الألف باطّراد في الوقف مثل: «حبلى» و «حبلا» و «موسى» و «موسأ» وتبدل الهمزة من الألف الزّائدة إذا وقعت بعد ألف الجمع مثل: «رسالة رسائل» وذلك منعا من التقاء ساكنين وتبدل الهمزة من «الهاء» في كلمة «ماء» وأصلها «موه» بدليل الجمع على «أمواه»، فتقلب «الواو» من «موه»، ألفا، والهاء همزة فتصير «ماء». وتبدل أيضا في «أمواه» فتصير «أمواء». كما تبدل «الهاء»، «همزة» في كلمة «آل» فتصير «أهل» والأصل: «أأل» كما تبدل «الهاء» «همزة» في «هل» و «هذا» في لغة بعض العرب، فيقولون في: «هل قلت حقا»: «أل قلت حقا» وفي: «هذا أخي» يقولون: «آذا أخي». وتبدل «العين» همزة في لغة بعض العرب فيقولون في: عباب أباب.
تاسع عشر: همزة التّوهّم مثل: «العالم”
«العألم»، «دابّة» «دأبّة» «شابّة» «شأبّة».
عشرون: همزة القطع. هي التي تقع في أوّل الكلمة أو في درجها أو فى آخرها ولا يطلق هذا الاسم إلّا على التي تقع في أوّل الكلمة وينطق بها سواء أكانت في أوّلها أو في درجها، وسمّيت بذلك لأنها تقطع في النّطق ما قبلها عمّا بعدها أهم مواضعها:
1 ـ مصدر الفعل الثّلاثيّ، مثل: «أرق أرق»، «أسف أسف»، «أخذ أخذ».
2 ـ مصدر الفعل الرّباعي، مثل: «أنقذ»، «إنقاذ»، و «أراد» «إرادة»، و «أهمل» «إهمال».
3 ـ ماضي الفعل الثّلاثي، مثل: «أكل»، «أخذ»، «أبى»، «أمر»، «أتى»...
4 ـ ماضي الفعل الرّباعي، مثل: «أكرم»، «أخرج»، «أظهر»، «أحسن» «أخاف»...
5 ـ أمر الفعل الرّباعي، مثل: «أسرع»، «أكرم»، «أظهر»، «أحسن»...
7 ـ المضارع المتكلّم الثّلاثي مثل: «أكتب»، والرّباعيّ، مثل: «أسافر»، والخماسيّ، مثل: «أنطلق» والسّداسيّ، مثل: «أستخرج»... كما تقع في أوّل الأسماء ما عدا أسماء الوصل.
8 ـ في الحروف، مثل: «إلى»، «إنّ»، «أنّ»، همزة الاستفهام مثل: «أأكتب فرضي».
واعتبرت همزة «ألبتّة» منها، شذوذا، ولا تكون همزة قطع في «أل» المتّصلة بالاسم.
واحد وعشرون: همزة الوصل. هي الّتي إذا وقعت في ابتداء الكلام تكتب وينطق بها أما إذا وقعت في وسطه فإنها تكتب ولا تقرأ مثل: «إستولى القائد على مواضع الأعداء». فالهمزة في أول الفعل «استولى» هي همزة وصل وكذلك في أوّل القائد، وهي كذلك في كلمة «الأعداء» الواقعة في درج الكلام أي: هي مسبوقة بكلمة، وليست مسبوقة بحرف، وسمّيت بهذا الاسم لأنها تصل ما قبلها بما بعدها وقال البصريّون: «سمّيت كذلك لأن المتكلّم يصل بها إلى النّطق بالسّاكن» بينما قال المالقيّ: كان الأفضل أن تسمّى همزة إيصال لا همزة وصل لأنها توصل الناطق إلى النّطق بالسّاكن بعدها. وقيل: هي همزة وصل على غير مصدر «أوصل» كقوله تعالى: {وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} فكلمة «نباتا» ليست مصدر «أنبتكم» إنّما هو «إنباتا» وتقع هذه الهمزة في المواضع التّالية:
1 ـ في أسماء تبدأ دائما بهمزة وصل وهي: «است»، «ابن»، «ابنة»، «ابنم» لغة في «ابن»، «امرؤ»، «امرأة»، «اسم»، وفي المنسوب إليه، اسمي، وفي مثنّاه «اسمان»، وفي «اثنان»، و «اثنتان»، و «اثنين»، أمّا إذا دخلتها «أل» وكانت علما على ثاني أيام الأسبوع فتصير «همزة قطع» فتقول: «جئت يوم الإثنين»، و «اثنين»، و «ايمن» اسم وضع للقسم وفي «ايم» لغة في «ايمن». وتكتب هذه الهمزة رأس عين صغيرة مع كرسيّ لها على الألف بينما تكتب همزة القطع فوق الألف إن كانت حركتها الفتح مثل: «أحمد»، «أكرم»، «أمجد»، «أب»، «أخ»، «أسماء»، «أنا»، «أنت»، أو مضمومة، مثل: «أخت»، «أم» وتكتب تحت الألف إذا كانت مكسورة، مثل: «إيّاك»، «إيّاي» ومشتقاتهما ومثل: «إذا» الشرطيّة الظّرفيّة ومثل: «إذ» الظّرفيّة، ومثل: «إن» حرف الشّرط و «إنّ» الحرف المشبّه بالفعل ومثل «إذما» حرف الشّرط.
2 ـ في أوّل مصدر الفعل الخماسي، مثل: «اتّحاد»، «انطلاق»، «اجتماع»، «ابتداء».
3 ـ في أوّل مصدر الفعل السّداسي، مثل: «استخراج»، «استعداد»، «استحسان»..
4 ـ في ماضي الفعل الخماسيّ، مثل: انطلق»، «اجتمع»، «امتحن»، «اشترك»...
5 ـ في ماضي الفعل السّداسي، مثل: «استخرج»، «استعدّ»، «استحسن»، «استعلم»...
6 ـ في أمر الفعل الثّلاثي، مثل: «اكتب»، «ادرس»، «اجتهد»، «اجر»...
7 ـ في أمر الفعل الخماسيّ، مثل: «انطلق»، «اتّحد»، «اجتمع»، «ابتدىء».
في أمر الفعل السّداسيّ، مثل: استخرج، استعدّ، استحسن، استعلم.
8 ـ في همزة «أل» المتصلة بالاسم مثل: «الله»، «التّلميذ»، «الذي»، وفروعها.
اختصاصها: وتختلف همزة الوصل عن همزة القطع في عدّة نقاط.
1 ـ في الحركة، فهمزة القطع تكتب فوق الألف إذا كانت مفتوحة أو مضمومة، مثل: «أنت أمي»، وتحت الألف إذا كانت مكسورة مثل: «إنّ أبي يحبّني» بينما تكسر همزة الوصل دائما إلّا في الابتداء فإنها تفتح للتّخفيف انظر حركة همزة القطع وحركة همزة الوصل.
2 ـ من ناحية النّطق، فهمزة الوصل لا ينطق بها إلّا في ابتداء الكلام بعكس همزة القطع التي ينطق بها دائما سواء أوقعت في ابتداء الكلام أو في وسطه.
3 ـ في مكان وقوعها، فهمزة القطع قد تكون فاء الفعل، مثل «أخذ» أو عينه مثل «سأل» أو لامه، مثل: قرأ، أمّا همزة الوصل فلا تكون إلّا فاء الفعل فليست لاما في الكلمة ولا عينا لها.
4 ـ همزة الوصل دائما زائدة، ويؤتى بها للتّوصّل إلى النّطق بالسّاكن أمّا همزة القطع فتكون أصليّة دائما، مثل: «أخت»، «أب»، «أنت»، «أكل» وقد تكون زائدة: مثل «ألوان»، «أزواج» وقد تكون مبدلة من حرف آخر، مثل: «سماء»، «بناء»، «طلاء».
حذفها: 1 ـ لا توجد همزة الوصل في الأسماء التي ليست مصادر لفعل زائد على أربعة أحرف.
2 ـ لا توجد همزة الوصل في الحروف إلّا في «أل». وإذا دخلت همزة الاستفهام المفتوحة على «أل»، فلا يجوز حذف همزة الاستفهام لئلا يلتبس بالخبر الاستفهام، فوجب إبدال همزة الوصل «ألفا» مثل: «آلمعلم قادم» وكقول الشاعر:
«أالحقّ إن دار الرّباب تباعدت ***أو انبتّ حبل أنّ قلبك طائر»
وفيه أالحقّ حيث سهّل همزة الوصل الواقعة بعد همزة الاستفهام ويجوز أن تكون غير مسهّلة فتقول: «آلحقّ»، ويجوز في كلمة «الحقّ» الرّفع على الابتداء أو النّصب على الظّرفيّة وتكون خبرا مقدما للمبتدأ المؤخّر المؤول بالصّريح والذي يتألّف من أنّ ومعموليها. وفي هذا البيت وردت كلمة «انبتّ» وقد ابتدأ الماضي بهمزة الوصل لأنه يتألّف من خمسة أحرف.
3 ـ لا تظهر همزة الوصل في المضارع مطلقا فنقول: يأكل، يأخذ، ولا في ماض ثلاثيّ، مثل: «أمر»، «أخذ»، «أكل»، ولا في رباعيّ، مثل: «أعطى»، «أخرج»، «أجلس»، ولا في اسم
إلّا إذا كان مصدرا لفعل خماسيّ، مثل «انطلق»، «الانطلاق»، والسّداسيّ مثل «استخرج»، «الاستخراج».
حركتها: همزة الوصل بالنّسبة لحركاتها على سبع حالات:
1 ـ وجوب الفتح في المبدوء بـ «أل»، كقول الشاعر:
«رأيت الوليد بن اليزيد مباركا***شديدا بأعباء الخلافة كاهله»
2 ـ وجوب الضّمّ في الخماسيّ المجهول، مثل: انطلق، والسّداسيّ المجهول، مثل استخرج.
3 ـ وجوب الضّم في أمر الثّلاثي المضموم العين، مثل: اقتل، اكتب، اخرج.
4 ـ ترجيح الضّم على الكسر فيما عرض جعل ضمّة عينه كسرة، مثل: «اغري».
5 ـ ترجيح الفتح على الكسر في: «ايمن»، و «ايم».
6 ـ ترجيح الكسر على الضّمّ في كلمة «اسم».
7 ـ جواز الضّمّ والكسر والإشمام في المجهول من «انقاد»: «انقيد»، «اختار»، «اختير».
وجوب إبقاء همزة الوصل: لا تحذف همزة الوصل المفتوحة، إذا دخلت عليها همزة الاستفهام كقوله تعالى: {أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا} وكقوله تعالى: {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر. بينما تحذف همزة الوصل المكسورة إذا دخلت عليها همزة الاستفهام. وإذا دخلت همزة الاستفهام على المفتوحة، فإمّا أن تبدل ألفا، أو تسهّل مع القصر، فتقول: «آلحسن موجود»، ومثل: «ايمن الله قسمك» وكقول الشاعر:
«أالحقّ إن دار الرّباب تباعدت ***أو انبتّ حبل أنّ قلبك طائر»
وقد وردت فيه همزة الوصل المفتوحة وقد دخلت عليها همزة الاستفهام فظهرت في «أالحقّ» همزة «أل» بين الألف والهمزة مع القصر وهذا هو التّسهيل. وقد تبدل الهمزة الخاصة بـ «أل»، ألفا بعد همزة الاستفهام، كقوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} وكقوله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} من {قَبْلُ} ولا تثبت همزة الوصل في درج الكلام إلّا في الضّرورة الشعرية، كقول الشاعر:
«ألا لا أرى إثنين أحسن شيمة***على حدثان الدّهر مني ومن جمل»
حيث ثبتت همزة «إثنين» في درج الكلام.
تحويل همزة الوصل إلى همزة قطع: قد تتحوّل همزة الوصل إلى همزة قطع في:
1 ـ «أل» التّعريف في كلمة «ألبتّة» شذوذا.
2 ـ في اسم العلم المبدوء بهمزة وصل مثل «الإثنين» علم على ثاني أيّام الأسبوع.
ومثل لفظه «أل» علم على أداة التّعريف، ومثل: «إبتسام» علم على امرأة.
3 ـ نداء ما فيه «أل» مثل: «يا ألرجل المساعد غيره» و «يا ألذي حفر بئر زمزم» ونداء اسم الجلالة، مثل: «يا الله استجب لدعائي» ويجوز أن تبقى للوصل فتقول: يا الله، كما يجوز وصلها مع حذف ألف حرف النّداء «يا لله».
4 ـ الضّرورة الشّعرية وأكثر ما تكون في أوّل العجز لتقدير الوقف على الأنصاف التي هي الصّدور، كقول الشاعر:
«لتسمعنّ وشيكا في ديارهم ***ألله أكبر يا ثارات عثمانا»
وقد تقطع همزة الوصل في الحشو وذلك قليل، كقول الشاعر:
«ألا لا أرى إثنين أحسن شيمة***على حدثان الدّهر منّي ومن جمل»
حيث قطعت «إثنين» وهي في الأصل همزة وصل.
11 ـ تحويل همزة القطع إلى همزة وصل: لا يتمّ تحويل همزة القطع إلى همزة وصل إلا في الضّرورة الشعريّة، كقول الشاعر:
«يا با المغيرة ربّ أمر معضل ***فرّجته بالمكر منّي والدّها»
والتقدير: يا أبا المغيرة حيث تلفظ همزة القطع وصلا بعد حرف النداء، ومثل:
«ألا أيها اللّيل الطّويل ألا اصبح ***بتمّ وما الإصباح فيك بأروح»
حيث وصلت همزة الفعل «أصبح» والتقدير «ألا أصبح». وتتحوّل همزة القطع إلى همزة وصل في لغات بعض العرب.
أين تحذف همزة الوصل: تحذف همزة الوصل كتابة في المواضع التالية:
1 ـ في «أل» التّعريف إذا اقترنت بحرف الجرّ «اللّام» أو بـ «لام» الابتداء أو بهمزة الاستفهام، كقول الشاعر:
«تشطّ غدا دار جيراننا***وللدّار بعد غد أو أبعد»
حيث حذفت همزة الوصل من «للّدار» عند دخول لام الابتداء على «أل» التّعريف، ومثل «للتلميذ حقوق وعليه واجبات» حيث حذفت همزة الوصل من «أل» لدخول «لام» الجرّ عليها، ومثل: «آلمال أفضل من العلم» فقد حذفت همزة الوصل كتابة لاقتران الاسم المعرّف بـ «أل» بهمزة الاستفهام.
2 ـ وتحذف من كلمة «ابن» إذا وقعت صفة بين علمين، الثّاني منهما هو أبو الأوّل، مثل «الخليفة عمر بن الخطّاب هو ثاني الخلفاء الراشدين» أو إذا كانت مفصولة عن العلم الأول وكتبت في أوّل السّطر، كما تحذف من كلمة «ابنة» بالشروط عينها، مثل قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها} حيث حذفت همزة الوصل من «ابنة» كما حذفت من «ابن» ومنهم من يحوّل كلمة «ابنة» المحذوفة الهمزة إلى «بنت» فيقول: مريم بنت عمران، كما تحذف همزة الوصل من «ابن» و «ابنة» بعد حرف النداء «يا» مثل:
«يا بن أمّي ويا شقيق نفسي ***أنت خلّفتني لدهر شديد”
ومثل........... يا بنة عمّا لا تلومي واهجعي حيث حذفت همزة الوصل كتابة من «يابن» في البيت الأول ومن كلمة «يابنة» في الرّجز المشطور.
3 ـ وتحذف همزة الوصل من كلمة «اسم» إذا دخلت عليها همزة الاستفهام مثل؛ «أسمه خليل؟» والتّقدير: أاسمه خليل حيث حذفت همزة الوصل بعد همزة الاستفهام، كما تحذف من هذه الكلمة في البسملة إذا ذكرت كاملة، فنقول: «بسم الله الرحمن الرحيم» وتثبت إذا لم تكن كاملة فتقول: «باسم الله» أو إذا ذكر متعلّق حرف الجر: فتقول: «اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في أوّل كلّ سورة من سور القرآن الكريم» فقد ثبتت همزة الوصل في البسملة لذكر الفعل الذي يتعلّق به حرف الجرّ، فإذا لم يذكر حذفت ومنهم من يحذفها إذا أضيفت كلمة «اسم» إلى أحد أسماء الله الحسنى فيقولون: بسم القادر، بسم المقتدر، بسم الجبّار، بسم المتعال... كما تحذف في تصغير كلمة «اسم» فتقول: سميّ، وفي تصغير كلمة «ابن» فتقول: «بنيّ»، كقول الشاعر:
«أبنيّ إنّ أباك كارب يومه ***فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل»
4 ـ وتحذف همزة الوصل من الأمر المهموز الفاء، إذا اتّصل «بالواو» أو بالفاء، كقوله تعالى {يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} حيث حذفت همزة الوصل من الفعل «وأمر» المهموز الفاء وهو بصيغة الأمر، ومتّصل بالواو، كما حذفت من كلمة «بنيّ» المصغّرة، بينما لم تحذف من الفعل «وانه» لأنه غير مهموز الفاء إذ الماضي منه «نهى».
5 ـ وتحذف من الفعل الواقع بعد همزة الاستفهام، مثل: «أستخبرت عن ما جرى في الليل الفائت» فقد حذفت همزة الوصل بعد همزة الاستفهام والأصل «أاستخبرت»، أو بعد همزة الاستفهام في قوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} والتّقدير: أاتّخذتم، أو بعد همزة التّسوية، كقوله تعالى: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} حيث حذفت همزة الوصل من الفعل «أستغفرت» لأنها وقعت بعد همزة التّسوية، والتّقدير «أاستغفرت لهم».
6 ـ وتحذف همزة الوصل من المضارع، مثل: «يستعلم الولد عن درسه» فقد حذفت الهمزة من الفعل «استعلم» عند تحويله إلى مضارع، ومثل: «يستخرج الذّهب من مناجم في إفريقيا»، وأصل الفعل «استخرج».
حذف همزة القطع: أمّا همزة القطع فتحذف في المواضع التّالية:
1 ـ من الأمر المتصرّف المهموز الفاء مثل: «أخذ» «خذ»، «أكل»، «كل».
2 ـ وتحذف همزة القطع بعد همزة مفتوحة، وتكتب على الأولى علامة المدّ، مثل: «أنا آخذ نتيجة عملي» والأصل: «أأخذ»، حيث قلبت الهمزة الثانية السّاكنة مدّا وكتبت على الأولى علامة المدّ. ومثل: «أنا آكل فطوري في الثّامنة صباحا» ومثل: «أنا آمر أولادي بالصّدق».
3 ـ وتحذف في لغة من يخفف الهمزة ولا يحقّقها، فتنقلب ألفا بعد الفتحة فتقول في «كأس»: «كاس» و «واوا» بعد الضّمّة، فتقول في «بؤس»: «بوس» وياء بعد الكسرة فتقول في «ذئب»: «ذيب» وفي «بئر»: «بير».
4 ـ وتحذف من الاسم الممدود للضّرورة الشّعريّة، كقول الشّاعر:
«بكت عيني وحقّ لها بكاها***وما يغني البكاء ولا العويل»
5 ـ وتحذف من مضارع الفعل «رأى» فتقول «يرى» والأصل «يرأى» و «يريان، ويرون» كما تحذف من أمره، ومن مضارع الفعل «أرأى» من «رأى» على وزن «أفعل» فتقول: يرى، كقوله تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى} ومن اسم فاعله فتقول: «هو مر» ومن اسم مفعوله، فتقول «هو مرى»، وقد تثبت في الضّرورة الشعريّة رجوعا إلى الأصل، كقول الشاعر:
«أري عينيّ ما لم ترأياه ***كلانا عالم بالتّرّهات»
حيث ثبتت همزة «ترأياه» للضّرورة الشّعريّة والقياس: «ترياه».
6 ـ وتحذف سماعا في قولهم «الحمر» من «الأحمر»، «الغرّ» و «الأغر» «المرة» و «المرأة» «الكمة» و «الكمأة» و «يا با المغيرة» في قول الشاعر:
«
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
10-معجم القواعد العربية (عطف النسق)
عطف النّسق:1 ـ تعريفه:
هو تابع يتوسّط بينه وبين متبوعه أحد حروف العطف الآتي ذكرها.
2 ـ أقسام العطف ثلاثة:
(أحدها) العطف على اللّفظ ـ وهو الأصل ـ نحو «ليس أحمد بالعالم ولا القانت» وشرطه: إمكان توجّه العامل إلى المعطوف.
(الثاني) العطف على المحلّ نحو «ليس عمر بجائع ولا تعبا» ولهذا ثلاثة شروط:
«أ» إمكان ظهوره في الفصيح، فيجوز بقولك «ليس عليّ بقائم» أن تقول: «ليس علي قائما» فتسقط «الباء»، وكذلك «ما جاءني من أحد» أن تقول: «ما جاءني أحد» بإسقاط «من».
(ب) أن يكون الموضع هو الأصل فلا يجوز «هذا آكل خبزا وزيتون» لأنّ الوصف المستوفي للشروط الأصل إعماله لا إضافته.
«ج» وجود المحرز أي الطّالب لذلك المحل.
ويبتني على اشتراط هذا امتناع مسائل منها:
«1"» «إنّ زيدا وعمرو قائمان» وذلك لأنّ الطالب لرفع زيد هو الابتداء، والابتداء هو التجرّد، والتّجرّد قد زال بدخول «إنّ».
«2"» «إنّ زيدا قائم وعمرو» بعطف «عمرو» على المحلّ لا المبتدأ.
«3"» «هذا مانح أخيه ومحمّدا الخير» بنصب محمدا على محل أخيه.
(الثالث) العطف على التّوّهم، نحو: «ليس بكر بائعا ولا مشتر» بخفض مشتر على توهّم دخول الباء، في الخبر، وشرط جوازه صحّة دخول ذلك العامل المتوهّم، وشرط حسنه كثرة دخوله هناك ولهذا حسن قول زهير:
«بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى *** ولا سابق شيئا إذا كان جائيا»
وقول الآخر:
«ما الحازم الشّهم مقداما ولا بطل *** إن لم يكن للهوى بالحق غلّابا»
ولم يحسن قول الآخر:
«وما كنت ذا نيرب فيهم *** ولا منمش فيهم منمل »
لقلّة دخول الباء على خبر «كان» بخلاف خبري «ليس» و «ما». وكما وقع هذا العطف في المجرور، وقع في المجزوم، وقال به الخليل وسيبويه، في قوله تعالى: {لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} قالا: فإن معنى لو لا أخّرتني فأصّدق: إن أخّرتني أصّدّق وأكن.. وقرىء: وأكون على الأصل. وكذلك وقع في المرفوع، قال سيبويه: واعلم أنّ ناسا من العرب يغلطون فيقولون: «إنّهم أجمعون ذاهبون» وذلك على أنّ معناه معنى الابتداء، والتقدير: هم أجمعون.
3 ـ حروف العطف:
هي «الواو، الفاء، ثمّ، حتّى، أم، أو، لكن، بل، لا، لا يكون، ليس».
(انظر كلّا في حرفه).
والأصل بالعطف أن يكون على الأوّل إلّا في حروف التّرتيب.
4 ـ حروف العطف نوعان:
«أ» ما يقتضي التّشريك في اللفظ والمعنى مطلقا، وهو أربعة: «الواو، الفاء، ثمّ، حتّى» أو مقيّدا بشرط، وهو إثنان «أو، أم» وشرطهما ألّا يقتضيا إضرابا.
«ب» ما يقتضي التّشريك في اللّفظ دون المعنى، إمّا لكونه يثبت لما بعده ما انتفى عمّا قبله، وهو «بل، ولكن»، وإمّا لكونه بالعكس وهو «لا» و «ليس».
5 ـ أحكام تشترك فيها الواو والفاء:
تشترك الواو والفاء بأحكام منها:
جواز حذفهما مع معطوفهما لدليل مثاله في الواو قول النّابغة الذّبياني:
«فما كان بين الخير لو جاء سالما *** أبو حجر إلّا ليال قلائل »
أي بين الخير وبيني.
ومثاله في الفاء {أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ} أي فضرب فانبجست.
وجواز حذف المعطوف عليه بهما، فمثال الواو قول بعضهم: «وبك وأهلا وسهلا» جوابا لمن قال له: مرحبا بك، والتّقدير: مرحبا بك وأهلا وسهلا، ومثال الفاء نحو {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا}، أي أنهملكم فنضرب عنكم، ونحو {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} أي أعموا فلم يروا.
6 ـ العطف على الضّمير:
يعطف على الضّمير المنفصل مرفوعا أو منصوبا، وعلى الضّمير المتّصل المنصوب بغير شرط، نحو: «أنت وزيد تسرعان» و «ما أدعو إلّا إيّاك وخالدا» ونحو قوله تعالى: {جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ}.
ولا يحسن العطف على الضّمير المتّصل المرفوع بارزا كان أو مستترا إلّا بعد توكيده بضمير منفصل نحو {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}. أو بوجود فاصل ما، نحو {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ}.
فمن معطوفة على الواو في يدخلونها أو وجود فصل ب «لا» نحو {ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا}.
ويضعف العطف بدون ذلك، نحو: «مررت برجل سواء والعدم». بالرّفع عطفا على الضّمير المستتر في سواء لأنّه بتأويل مستو هو والعدم، وهو في الشّعر كثير كقول جرير يهجو الأخطل:
«ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه *** ما لم يكن وأب له لينالا»
عطف «أب» على الضّمير في «يكن» من غير توكيد ولا فصل، ويقلّ العطف على الضّمير المخفوض إلّا بإعادة الخافض حرفا كان أو اسما نحو {فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ}، {قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ}. وهناك قراءة ابن عبّاس: تسائلون به والأرحامِ بالخفض من غير إعادة الخافض، وحكاية قطرب عن العرب «ما فيها غيره وفرسه» بالخفض عطفا على الهاء من غيره.
7 ـ عطف الفعل:
يعطف الفعل على الفعل بشرط اتّحاد زمنيهما، سواء اتّحد نوعاهما نحو {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ}، {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ}، أم اختلفا نحو {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}، {تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}.
ويعطف الفعل على الاسم المشبه له في المعنى نحو {فَالْمُغِيراتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} و {صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}.
فالمغيرات في تأويل: واللّاتي أغرن «صافّات» في معنى: يصففن.
ويجوز العكس كقوله:
«يا ربّ بيضاء من العواهج *** أمّ صبيّ قد حبا أو دارج »
ومنه {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ}.
7 ـ جواز حذف العاطف وحده:
يجوز بقلّة حذف العاطف وحده نحو:
«كيف أصبحت كيف أمسيت ممّا *** يغرس الودّ في فؤاد الكريم »
أي: وكيف أمسيت، وفي الحديث: «تصدّق رجل من ديناره، من درهمه) أي: ومن درهمه.
8 ـ العطف على معمول عامل:
أجمعوا على جواز العطف على معمول عامل واحد نحو «إنّ أباك آت وأخاك ذاهب» وعلى جواز معمولات عامل نحو.. أعلم المدير بكرا المدرس آتيا والأستاذ خالدا أباه حاضرا».
وأجمعوا على منع العطف على معمولي أكثر من عاملين نحو: «إنّ زيدا ضارب أبوه لعمرو وأخاك غلامه لبكر»، أمّا معمولا عاملين، فإن لم يكن أحدهما جارّا فالأكثر امتناعه، وإن كان أحدهما جارّا فإن كان مؤخّرا نحو «محمد في العمل والبيت أخوه» فهو ـ عند الأكثر ـ أيضا ممتنع، وإن كان الجارّ مقدّما نحو «في عمله محمد والبيت أخوه» فمنع منه سيبويه والمبرد وابن السراج، وأجازه الأخفش والكسائي والفراء والزجاج. والأولى المنع منه.
معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه/1984م
11-موسوعة الفقه الكويتية (إبراء 2)
إِبْرَاء -2الْمُبْرِئُ وَشُرُوطُهُ:
27- الْإِبْرَاءُ كَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَرِّفِ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ التَّامَّةُ لِلتَّعَاقُدِ، مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْعَقْدِ. وَلَكِنَّ الْأَهْلِيَّةَ الْمَطْلُوبَةَ هُنَا هِيَ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ، بِأَنْ يَكُونَ رَشِيدًا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ أَوِ الْمَدْيُونِيَّةِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ (الْحَجْرِ).
وَتُشْتَرَطُ الْوِلَايَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ إِبْرَاءٍ لَا يَخْلُو مِنْ حَقٍّ يَجْرِي التَّنَازُلُ عَنْهُ (بِإِسْقَاطِهِ أَوْ تَمْلِيكِهِ)، لِذَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ التَّنَازُلَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْحَقِّ نَفْسِهِ أَوْ مَنْ يَتَصَرَّفُ عَنْهُ، فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ إِلاَّ بِأَنْ يَكُونَ لِلْمُبْرِئِ وِلَايَةٌ عَلَى الْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ أَوْ مُوَكَّلاً بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ، أَوْ مُتَصَرِّفًا بِالْفُضَالَةِ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلَحِقَتْهُ الْإِجَازَةُ مِنَ الْمَالِكِ، عِنْدَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (فُضُولِيّ).
وَالْعِبْرَةُ فِي وِلَايَةِ الْمُبْرِئِ عَلَى الْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ هُوَ بِمَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ لَا بِمَا فِي الظَّنِّ. فَلَوْ أَبْرَأَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَالِ أَبِيهِ ظَانًّا بَقَاءَ أَبِيهِ حَيًّا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا حِينَ الْإِبْرَاءِ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمُبْرَأَ مِنْهُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ حِينَ الْإِبْرَاءِ فِي الْوَاقِعِ.
وَيُشْتَرَطُ الرِّضَا، فَإِبْرَاءُ الْمُكْرَهِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِفَرَاغِ الذِّمَّةِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مِمَّا يَشُوبُ شَرِيطَةَ الرِّضَا أَنْ يَعْلَمَ الْمَدِينُ وَحْدَهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، فَيَكْتُمُهُ عَنِ الدَّائِنِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْتَكْثِرَهُ فَلَا يُبْرِئَهُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ صَادِرٌ حِينَئِذٍ عَنْ إِرَادَةٍ غَيْرِ مُعْتَبَرَةٍ.
التَّوْكِيلُ بِالْإِبْرَاءِ:
28- يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْإِبْرَاءِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ الْخَاصِّ بِهِ، وَلَا يَكْفِي لَهُ إِذْنُ الْوَكَالَةِ بِعَقْدٍ مَا وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ بِشَأْنِ السَّلَمِ أَنَّهُ إِذَا أَبْرَأَ وَكِيلُ الْمُسَلَّمِ الْمُسَلَّمَ إِلَيْهِ بِلَا إِذْنٍ لَمْ يَبْرَأْ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ. فَلَوْ قَالَ لَهُ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ: لَسْتَ وَكِيلاً وَالسَّلَمُ لَكَ وَأَبْرَأْتَنِي مِنْهُ، نَفَذَ الْإِبْرَاءُ ظَاهِرًا، وَتَعَطَّلَ بِذَلِكَ حَقُّ الْمُسَلِّمِ، وَغَرِمَ لَهُ الْوَكِيلُ قِيمَةَ رَأْسِ الْمَالِ لِلْحَيْلُولَةِ، فَلَا يَغْرَمُ بَدَلَ الْمُسَلَّمِ فِيهِ كَيْلَا يَكُونَ اعْتِيَاضًا عَنْهُ. كَمَا خَصَّ الْحَنَفِيَّةُ إِبْرَاءَ الْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ فِيمَا وَجَبَ بِعَقْدِهِمَا، وَيَضْمَنَانِ. وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَمْ يَجِبْ بِعَقْدِهِمَا، كَمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ مَأْذُونًا بِالْإِبْرَاءِ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ بِهِ فَأَجْرَاهُ فِي حُضُورِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ، لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ.
وَإِنْ وَكَّلَهُ بِإِبْرَاءِ غُرَمَائِهِ، وَكَانَ الْوَكِيلُ مِنْهُمْ لَمْ يُبْرِئْ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ أَمْرِ الْمُخَاطِبِ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ فَأَبْرِئْ نَفْسَكَ، فَلَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمَدِينَ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ.
إِبْرَاءُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ:
29- يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُبْرِئُ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ بِحَسَبِ الْمُبْرَأِ، فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا وَالدَّيْنُ يُجَاوِزُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَهُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ الْمُبْرَأُ وَارِثًا تَوَقَّفَ الْإِبْرَاءُ كُلُّهُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ. وَإِذَا أَبْرَأَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ أَحَدَ مَدْيُونِيهِ، وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالدُّيُونِ، لَمْ يَنْفُذْ إِبْرَاؤُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ (مَرَضِ الْمَوْتِ).
الْمُبْرَأُ وَشُرُوطُهُ:
30- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِالْمُبْرَأِ، فَلَا يَصِحُّ. الْإِبْرَاءُ لِمَجْهُولٍ.
وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، فَلَوْ أَبْرَأَ أَحَدَ مَدِينِيهِ عَلَى التَّرَدُّدِ لَمْ يَصِحَّ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.
فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمُبْرَأِ تَعْيِينًا كَافِيًا. كَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِبَرَاءَةِ كُلِّ مَدِينٍ لَهُ لَا يَصِحُّ إِلاَّ إِذَا كَانَ يَقْصِدُ مَدِينًا مُعَيَّنًا أَوْ أُنَاسًا مَحْصُورِينَ.
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُبْرَأِ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِالْحَقِّ، بَلْ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِلْمُنْكِرِ أَيْضًا، بَلْ حَتَّى لَوْ جَرَى تَحْلِيفُ الْمُنْكِرِ يَصِحُّ إِبْرَاؤُهُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُبْرِئَ يَسْتَقِلُّ بِالْإِبْرَاءِ- لِعَدَمِ افْتِقَارِهِ إِلَى الْقَبُولِ- فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى تَصْدِيقِ الْغَرِيمِ.
الْمُبْرَأُ مِنْهُ (الْمَحَلُّ) وَشُرُوطُهُ:
31- يَخْتَلِفُ الْمُبْرَأُ مِنْهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحُقُوقِ أَوِ الدُّيُونِ أَوِ الْأَعْيَانِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَنْ ذَلِكَ فِي (مَوْضُوعِ الْإِبْرَاءِ). وَتَبَعًا لِلِاخْتِلَافِ السَّابِقِ بَيَانُهُ، فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ أَوِ الْغَالِبُ فِيهِ أَحَدُهُمَا، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ، فَمَنْ نَظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى مَعْنَى التَّمْلِيكِ اشْتَرَطَ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى مَعْنَى الْإِسْقَاطِ ذَهَبَ إِلَى الصِّحَّةِ.
فَالِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) أَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْمَجْهُولِ صَحِيحٌ، بَلْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْإِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الْمُبْرَأُ مِنْهُ مَجْهُولاً لِكُلٍّ مِنَ الثَّلَاثَةِ (الْمُوَكِّلِ، وَالْوَكِيلِ، وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ) لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ- كَمَا قَالُوا- هِبَةٌ، وَهِبَةُ الْمَجْهُولِ جَائِزَةٌ. وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ بِمَا لَوْ أَبْرَأَ ذِمَّةَ غَرِيمِهِ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ بِكَمْ هِيَ مَشْغُولَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَهَالَةَ السَّاقِطِ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ.
وَيَقْرَبُ مِنْهُ الِاتِّجَاهُ الثَّانِي، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، وَهُوَ صِحَّةُ الْإِبْرَاءِ مَعَ الْجَهْلِ إِنْ تَعَذَّرَ عِلْمُهُ، وَإِلاَّ فَلَا، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ كَتَمَهُ طَالِبُ الْإِبْرَاءِ خَوْفًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَهُ الْمُبْرِئُ لَمْ يُبْرِئْهُ، لَمْ يَصِحَّ.
أَمَّا الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمَجْهُولِ مُطْلَقًا. وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَجْهُولِ بَيْنَ مَجْهُولِ الْجِنْسِ أَوِ الْقَدْرِ أَوِ الصِّفَةِ، حَتَّى الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ وَمِقْدَارِ الْأَجَلِ. كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْإِبْرَاءُ ضِمْنَ مُعَاوَضَةٍ كَالْخُلْعِ، اشْتُرِطَ عِلْمُ الطَّرَفَيْنِ بِالْمُبْرَأِ عَنْهُ، أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَكْفِي عِلْمُ الْمُبْرِئِ وَحْدَهُ، وَلَا أَثَرَ لِجَهْلِ الشَّخْصِ الْمُبْرَأِ.
32- وَمِمَّا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَجْهُولِ مَا لَا تَسْهُلُ مَعْرِفَتُهُ، بِخِلَافِ مَا تَسْهُلُ مَعْرِفَتُهُ، كَإِبْرَائِهِ مِنْ حِصَّتِهِ فِي تَرِكَةِ مُوَرِّثِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ جَهِلَ قَدْرَ حِصَّتِهِ، لَكِنْ يَعْلَمُ قَدْرَ تَرِكَتِهِ، فَتَسْهُلُ مَعْرِفَةُ الْحِصَّةِ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ، فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ أَمْكَنَتْ مَعْرِفَتُهُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يُحْتَاطُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ، فِي حِينِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَغْلِبُ فِيهِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَيْسَ مَوْضِعَ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ صُورِيَّةٌ.
وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ صُورَتَيْنِ، هُمَا: الْإِبْرَاءُ مِنَ الدِّيَةِ الْمَجْهُولَةِ، وَمَا إِذَا ذَكَرَ غَايَةً يَتَيَقَّنُ أَنَّ حَقَّهُ دُونَهَا، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ لِلْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ، بِأَنْ يُبْرِئَهُ عَمَّا يَتَأَكَّدُ أَنَّهُ أَزْيَدُ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَضَافَ الرَّمْلِيُّ إِلَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مَا لَوْ أَبْرَأَ إِنْسَانًا مِمَّا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْوَصِيَّةِ.
وَمِنْ صُوَرِ الْمَجْهُولِ: الْإِبْرَاءُ مِنْ أَحَدِ الدَّيْنَيْنِ، قَالَ الْحَلْوَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَصِحُّ، وَيُؤْخَذُ بِالْبَيَانِ، كَمَا فِي الطَّلَاقِ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: يَعْنِي ثُمَّ يُقْرِعُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
شُرُوطٌ لِلْإِبْرَاءِ فِي ذَاتِهِ:
أ- شَرْطُ عَدَمِ مُنَافَاتِهِ لِلشَّرْعِ:
33- مِمَّا هُوَ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ لِلشَّرِيعَةِ، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْإِبْرَاءِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى تَغْيِيرِ حُكْمِ الشَّرْعِ، كَإِبْرَاءِ مَنْ شَرَطَ التَّقَابُضَ فِي الصَّرْفِ، وَالْإِبْرَاءِ مِنْ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ أَوِ الْوَصِيَّةِ (عَلَى خِلَافٍ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ) وَالْإِبْرَاءِ مِنْ حَقِّ السُّكْنَى فِي بَيْتِ الْعِدَّةِ، وَحَقِّ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرِ. لِأَنَّ كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَغَيُّرِ الْمَشْرُوعِ بَاطِلٌ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ تَغْيِيرَ حُكْمِ اللَّهِ.
كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الْإِبْرَاءُ إِلَى ضَيَاعِ حَقِّ الْغَيْرِ، كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الْأُمِّ الْمُطَلَّقَةِ عَنْ حَقِّ الْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الصَّغِيرِ مَعَ وُجُودِ حَقٍّ لِلْحَاضِنَةِ أَيْضًا، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ.
ب- شَرْطُ سَبْقِ الْمِلْكِ:
34- يُشْتَرَطُ سَبْقُ مِلْكِ الْمُبْرِئِ لِلْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ دُونَ إِنَابَةٍ مِنْهُ، أَوْ فَضَالَةٍ عَنْهُ (عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ). وَهَذَا الشَّرْطُ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي حَالَةِ الظُّهُورِ بِمَظْهَرِ الْمَالِكِ، حَتَّى عِنْدَ الَّذِينَ يُجِيزُونَ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ؛ لِأَنَّ الْفُضُولِيَّ هُوَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيمَا تَظْهَرُ مِلْكِيَّةُ غَيْرِهِ لَهُ، وَإِلاَّ كَانَ مِنْ بَيْعِ مَا لَا يَمْلِكُ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ... وَتَدُلُّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ مِمَّا تَفْصِيلُهُ فِي (الْأَهْلِيَّة) (وَالْعَقْد) وَمَا قَرَّرُوهُ فِي الْمُقَاصَّةِ بَيْنَ الدُّيُونِ مِنْ أَنَّهَا تَقُومُ عَلَى
أَسَاسِ مِلْكِ الدَّائِنِ لِلدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَأَنَّ الْمَدِينَ عِنْدَ الْإِيفَاءِ يَمْلِكُ مِثْلَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الدَّائِنِ، فَتُقْضَى الدُّيُونُ بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا. وَمِثْلُ الْإِيفَاءِ: الْإِبْرَاءُ فِي وُرُودِهِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ الْمُبْرِئُ فِي ذِمَّةِ الشَّخْصِ الْمُبْرَأِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي إِبْرَاءِ الْمُحَالِ الْمُحِيلَ عَنِ الدَّيْنِ، حَيْثُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، لِانْتِقَالِ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ نَقْلُ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ الْقَائِلِ بِأَنَّهَا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ، فَيُصَادِفُ الْإِبْرَاءُ ذِمَّةً مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ.
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْبُلْقِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، بِقَوْلِهِ:
«فِي مَسْأَلَةِ الْإِبْرَاءِ يَمْلِكُ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ، وَقَدْ نَفَذَ الْإِبْرَاءُ لِحُصُولِهِ فِي مِلْكِ الْمَدْيُونِ قَهْرًا مِمَّنْ كَانَ يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ» أَيْ عِنْدَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الْقَبُولَ كَمَا سَبَقَ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُ عَمِيرَةَ: «إِنَّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ تَتَوَقَّفُ عَلَى سَبْقِ الْمِلْكِ» وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَقِبَ حَدِيثِ «لَا طَلَاقَ وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» وَالْإِبْرَاءُ فِي مَعْنَاهُمَا.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ تَصْرِيحِ الدَّرْدِيرِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْهِبَةِ وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ فِي مَالِ غَيْرِهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَبْقُ مِلْكِ الْمُبْرِئِ لِمَا أَبْرَأَ مِنْهُ.
بَلْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِضَرُورَةِ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ حَيْثُ عَلَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْهُمْ عَدَمَ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ قَبْلَ التَّقَابُضِ بِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ مِمَّا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ.
وَهَلْ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْمُبْرِئِ بِمِلْكِهِ مَا يُبْرِئُ مِنْهُ، أَمْ يَكْفِي تَحَقُّقُ مِلْكِهِ إِيَّاهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَوْ اعْتَقَدَ عَدَمَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ لِلْأَبِ دَيْنٌ عَلَى شَخْصٍ، فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ الِابْنُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْتَ أَبِيهِ، فَبَانَ مَيِّتًا، أَيْ فَظَهَرَ أَنَّ الِابْنَ الْمُبْرِئَ يَمْلِكُهُ فِي الْوَاقِعِ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ سَوَاءٌ اعْتُبِرَ الْإِبْرَاءُ إِسْقَاطًا أَوْ تَمْلِيكًا، كَمَا سَبَقَ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا بَيْنَ كَوْنِ الْإِبْرَاءِ إِسْقَاطًا فَيَصِحُّ، أَوْ تَمْلِيكًا فَلَا يَصِحُّ. وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى تَصْرِيحٍ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْإِبْرَاءُ بَعْدَ سُقُوطِ الْحَقِّ أَوْ دَفْعِهِ:
35- الْإِبْرَاءُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ بِقَضَائِهِ الْمُطَالَبَةُ، لَا أَصْلُ الدَّيْنِ، وَلِذَا قَالُوا: الدَّيْنَانِ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا (أَيْ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تُقْضَى الدُّيُونُ بِأَمْثَالِهَا فَتَسْقُطُ مُطَالَبَةُ كُلٍّ لِلْآخَرِ لِانْشِغَالِ ذِمَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدَيْنِ الْآخَرِ. فَإِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَانَ لِلْمَدِينِ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّاهُ إِذَا أَبْرَأَهُ بَرَاءَةَ إِسْقَاطٍ. أَمَّا إِذَا أَبْرَأَهُ بَرَاءَةَ اسْتِيفَاءٍ فَلَا رُجُوعَ. وَيُعْرَفُ ذَلِكَ مِنَ الصِّيغَةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَقْسَامِ الْإِبْرَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ الْبَرَاءَةَ، فَاخْتَارَ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ لِعَدَمِ فَهْمِ غَيْرِهَا فِي عَصْرِهِ.
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْإِطْلَاقِ هُوَ الْعُرْفُ.
وَعَلَيْهِ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ الْمَرْأَةِ بِإِبْرَائِهَا لَهُ مِنَ الْمَهْرِ ثُمَّ دَفَعَهُ لَهَا، لَا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ، فَإِذَا أَبْرَأَتْهُ بَرَاءَةَ إِسْقَاطٍ صَحَّتْ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا دَفَعَهُ.
وَمِثْلُهُ مَا لَوْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَنْ إِنْسَانٍ ثُمَّ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ عَلَى وَجْهِ الْإِسْقَاطِ فَلِلْمُتَبَرِّعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا تَبَرَّعَ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا يُشْبِهُ هَذِهِ الصُّوَرَ إِلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الضَّامِنَ لَوْ قَضَى الدَّيْنَ ثُمَّ أَبْرَأَهُ عَنْهُ الْغَرِيمُ بَعْدَ قَبْضِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ إِنْ وَهَبَهُ بَعْضَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ.
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى رَأْيٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
ج- وُجُوبُ الْحَقِّ، أَوْ وُجُودُ سَبَبِهِ:
36- الْأَصْلُ أَنْ يَقَعَ الْإِبْرَاءُ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لِإِسْقَاطِ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ انْشِغَالِهَا. وَلَكِنَّهُ قَدْ يَأْتِي قَبْلَ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَهُنَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الَّذِي يَنْشَأُ بِهِ الْوُجُوبُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ، فَوُجُودُهُ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ سَاقِطٌ أَصْلاً بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا مَعْنَى لِإِسْقَاطِ مَا هُوَ سَاقِطٌ فِعْلاً، وَيَكُونُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ مُجَرَّدَ امْتِنَاعٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْزِمٍ، لِأَنَّهُ وَعْدٌ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِمَا أَبْرَأَ مِنْهُ، عَلَى مَا سَبَقَ.
37- وَأَمَّا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَفِي اشْتِرَاطِ وُجُوبِ الْحَقِّ وَحُصُولِهِ فِعْلاً خِلَافٌ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ شَرْطٌ، فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَإِنْ انْعَقَدَ السَّبَبُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِيمَا لَا يُمْلَكُ». وَالْإِبْرَاءُ فِي مَعْنَاهُمَا، وَقَدِ اعْتَبَرُوا مَا لَمْ يَجِبْ سَاقِطًا فَلَا مَعْنَى لِإِسْقَاطِهِ.
وَقَدْ مَثَّلَ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِالْإِبْرَاءِ عَنْ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ فَرْضِهَا (أَيْ الْقَضَاءِ بِتَقْدِيرِهَا) فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ قَبْلَ الْوُجُوبِ- بِالرَّغْمِ مِنْ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ- وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ لَا يَصِحُّ. وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا الْإِبْرَاءُ فِي بَابِ الْغَصْبِ وَفَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ فِيهِ تَبَعًا لِوُجُوبِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِبْرَاءُ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ مِنَ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِ رَدِّهَا (أَيْ تُصْبِحُ لَدَيْهِ وَدِيعَةً) لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ تَعَلَّقَ بِضَمَانِ الرَّدِّ وَهُوَ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ. أَمَّا إِنِ اسْتَهْلَكَهَا الْغَاصِبُ، أَوْ مَنَعَهَا مِنَ الْمَالِكِ بَعْدَ طَلَبِهَا، فَلَا أَثَرَ لِلْإِبْرَاءِ، وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا. فَلَمْ يَتَعَلَّقِ الْإِبْرَاءُ بِالْقِيمَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِهَا حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ.
كَمَا صَرَّحُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ (فِيمَا لَوْ تَكَفَّلَ بِأَدَاءِ مَا يَمُوتُ فُلَانٌ وَلَمْ يُؤَدِّهِ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَمَّا يَجِبُ مِنْ مَالٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمَالُ لَمْ يَجِبْ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ، فَلَا يَصِحُّ إِبْرَاؤُهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ. وَنَحْوُهُ لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ ثَمَنِ مَا تَشْتَرِيهِ مِنِّي غَدًا فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ أَيْضًا.
وَمَثَّلَ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِإِبْرَاءِ الْمُفَوِّضَةِ عَنْ مَهْرِهَا قَبْلَ الْفَرْضِ (التَّقْدِيرِ) وَالدُّخُولِ، وَمِثْلُهُ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمُتْعَةِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، لِعَدَمِ الْوُجُوبِ. وَاسْتَثْنَوْا صُورَةً يَصِحُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ. وَهِيَ مَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ، وَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، أَوْ رَضِيَ بِبَقَائِهَا، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ حَافِرُهَا مِمَّا يَقَعُ فِيهَا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الِاكْتِفَاءِ بِوُجُودِ السَّبَبِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ أَوِ الْوَاقِعَةُ الَّتِي يَنْشَأُ بِهَا الْحَقُّ الْمُبْرَأُ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْحَقُّ بَعْدُ، وَقَدْ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ الْحَطَّابُ فِي (الِالْتِزَامَاتِ) فَعَقَدَ فَصْلاً لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَتَعَرَّضَ لِلْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ، وَكَرَّرَ الْإِشَارَةَ لِلْخِلَافِ، وَاسْتَظْهَرَ الِاكْتِفَاءَ بِالسَّبَبِ. وَمِمَّا قَالَ: «إِذَا أَبْرَأَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا مِنَ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا، فَقَالَ ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ: يَتَخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِمَّا جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْوُجُوبِ (وَذَكَرَ عِبَارَاتٍ شَتَّى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَى تَقَدُّمِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَوْ حُصُولُ الْوُجُوبِ) ثُمَّ قَالَ: فَهُوَ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ بَعْدَ سَبَبِهِ».
ثُمَّ أَشَارَ الْحَطَّابُ إِلَى مَسْأَلَةِ إِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ فَقَالَ: فِي لُزُومِ ذَلِكَ قَوْلَانِ: هَلْ يَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهَا قَدْ وُجِدَ، أَوْ لَا يَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بَعْدُ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ رَاشِدٍ الْقَفْصِيُّ ثُمَّ قَالَ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ: «وَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْقَطَتْ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ لَزِمَهَا ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ».
38- وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ إِنَّمَا هِيَ لِلْوَاقِعِ لَا لِلِاعْتِقَادِ، فَلَوْ أَبْرَأَهُ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ، صَحَّ الْإِبْرَاءُ لِمُصَادَفَتِهِ الْحَقَّ الْوَاجِبَ. وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى تَصْرِيحٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ سِوَى الِاسْتِئْنَاسِ بِمَا سَبَقَ فِي شَرْطِ (سَبْقِ الْمِلْكِ) مِنَ اكْتِفَائِهِمْ بِالْوَاقِعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ، أَوْ عَدَمُهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ.
كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِصِحَّةِ الْإِبْرَاءِ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ، وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ عِبَارَاتِ غَيْرِهِمْ، لِجَعْلِهِمْ مُتَعَلِّقَ الْإِبْرَاءِ هُوَ الْحَقُّ الْوَاجِبُ لَا وَقْتُ وُجُوبِهِ، وَلِاعْتِبَارِهِمُ الْحُلُولَ وَالتَّأْجِيلَ صِفَتَيْنِ، وَالْإِبْرَاءُ يَتَّصِلُ بِأَصْلِ وُجُوبِ الْحَقِّ لَا بِصِفَاتِهِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ هُوَ لِسُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ مُطْلَقًا، فَالْحَقُّ يُعْتَبَرُ وَاجِبًا وَلَوْ تَأَخَّرَ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ.
مَوْضُوعُ الْإِبْرَاءِ
39- الْإِبْرَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُهُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، أَوْ عَيْنًا (مَالاً مُعَيَّنًا) أَوْ حَقًّا مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
الْإِبْرَاءُ عَنِ الدَّيْنِ:
40- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدُّيُونَ الثَّابِتَةَ فِي الذِّمَمِ يَجْرِي فِيهَا الْإِبْرَاءُ، لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ فِي بَيَانِ حُكْمِهِ التَّكْلِيفِيِّ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مَدَارُهُ إِسْقَاطُ مَا فِي الذِّمَمِ.
الْإِبْرَاءُ عَنِ الْعَيْنِ:
41- الْإِبْرَاءُ عَنِ الْعَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ دَعْوَى الْعَيْنِ، أَوْ عَنِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَنِ الْإِبْرَاءِ عَنِ الدَّعْوَى بِصَدَدِ الْحُقُوقِ.
أَمَّا الْإِبْرَاءُ عَنِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا بِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، فَلَا تُوصَفُ بِالْبَرَاءَةِ، فَإِذَا أُطْلِقَ هَذَا التَّعْبِيرُ فَالْمُرَادُ الصَّحِيحُ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ عَنْ عُهْدَتِهَا أَوْ دَعْوَاهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا، كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (أَوْ هُوَ ثُبُوتُ الْبَرَاءَةِ بِالنَّفْيِ مِنَ الْأَصْلِ، أَوْ بِرَدِّ الْعَيْنِ إِلَى صَاحِبِهَا فِي إِبْرَاءِ الِاسْتِيفَاءِ الَّذِي عُنِيَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ) أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا أَنَّ الْمُرَادَ سُقُوطُ الطَّلَبِ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ إِذَا فَوَّتَهَا الْمُبْرَأُ، وَسُقُوطُ الطَّلَبِ بِرَفْعِ الْيَدِ عَنْهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ هُنَا تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْعَيْنِ صَرَاحَةً، وَبَيْنَ الْإِبْرَاءِ عَنْهَا ضِمْنًا، أَوْ مِنْ خِلَالِ الْإِبْرَاءِ الْعَامِّ، فَإِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ ضِمْنِيًّا كَمَا لَوْ جَاءَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ، فَعَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَصِحُّ الصُّلْحُ وَالْإِبْرَاءُ، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَعْنَى الْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى الْعَيْنِ لَا عَنِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا. وَعَلَى جَوَابِ الْهِدَايَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى بِهِ إِسْقَاطٌ لِلْبَاقِي، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْإِبْرَاءِ عَنِ الْعَيْنِ مُبَاشَرَةً.
وَإِنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ عَامًّا فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْأَعْيَانَ وَغَيْرَهَا، فَالْخِلَافُ لَيْسَ فِي هَذَا. فَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ كَالْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِبْرَاءَ مَتَى لَاقَى عَيْنًا لَا يَصِحُّ، مَحْمُولٌ- كَمَا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ- عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِبْرَاءُ الْمُقَيَّدُ بِالْعَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى بُطْلَانِ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْأَعْيَانِ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى دَعْوَاهُ، بَلْ تَسْقُطُ فِي الْحُكْمِ. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى لِابْنِ عَابِدِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّ لِلْمُبْرِئِ أَخْذَ الْعَيْنِ مَا دَامَتْ قَائِمَةً، فَلَوْ هَلَكَتْ سَقَطَ (أَيْ ضَمَانُهَا) لِأَنَّهَا بِالْإِبْرَاءِ صَارَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، أَيْ أَمَانَةً.
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَصْحِيحِ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا مَا لَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً، كَالدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْهَا صَحِيحٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَالِكَةً أَمْ قَائِمَةً، لِأَنَّ الْهَالِكَةَ كَالدَّيْنِ، وَالْقَائِمَةَ يُرَادُ الْبَرَاءَةُ عَنْ ضَمَانِهَا لَوْ هَلَكَتْ، فَتَصِيرُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ كَالْوَدِيعَةِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ أَمَانَةٌ يَصِحُّ قَضَاءً لَا دِيَانَةً.
الْإِبْرَاءُ عَنِ الْحُقُوقِ:
42- الْحُقُوقُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَقًّا خَالِصًا لِلَّهِ أَوْ حَقًّا خَالِصًا لِلْعَبْدِ، أَوْ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مَعَ غَلَبَةِ أَحَدِهِمَا. وَهِيَ إِمَّا مَالِيَّةٌ كَالْكَفَالَةِ، أَوْ غَيْرُ مَالِيَّةٍ، كَحَدِّ الْقَذْفِ.
وَالْإِبْرَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُهُ حَقًّا بِعَيْنِهِ، أَوْ جَمِيعَ الْحُقُوقِ، بِحَسَبِ الصِّيغَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يَقْتَضِي الْعُرْفُ اسْتِيعَابَهُ جَمِيعَ الْحُقُوقِ، عَلَى الرَّاجِحِ الْمُصَرَّحِ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنِ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الدَّلَالَةِ بِحَسَبِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، كَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ (عِنْدَ) وَ (مَعَ) لِلْأَمَانَاتِ، وَ (عَلَى) لِلدُّيُونِ، عَلَى مَا سَبَقَ.
وَقَدْ تَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ حَتَّى جَعَلُوهَا تَشْمَلُ «الدُّيُونَ وَالْقَرْضَ وَالْقِرَاضَ وَالْوَدَائِعَ وَالرُّهُونَ وَالْمِيرَاثَ، وَكَذَلِكَ الْحَقُّ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْإِتْلَافِ كَالْغُرْمِ لِلْمَالِ» وَهُوَ إِطْلَاقٌ اصْطِلَاحِيٌّ لَيْسَ خَاصًّا بِهِمْ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، يَدْخُلُ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ وَالْكَفَالَةُ وَالْجِنَايَةُ.
فَالْإِبْرَاءُ عَنِ الْحُقُوقِ الْخَالِصَةِ لِلْعَبْدِ، كَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ، صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا الْحُقُوقُ الْخَالِصَةُ لِلَّهِ كَحَدِّ الزِّنَى فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهَا. وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بَعْدَ طَلَبِهِ، وَحَدِّ السَّرِقَةِ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ. وَأَمَّا الْحُقُوقُ الَّتِي غَلَبَ فِيهَا حَقُّ الْعَبْدِ، كَالتَّعْزِيرِ فِي قَذْفٍ لَا حَدَّ فِيهِ، فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ مَوْطِنُهُ الْأَبْوَابُ الَّتِي يُفَصَّلُ فِيهَا ذَلِكَ الْحَقُّ.
الْإِبْرَاءُ عَنْ حَقِّ الدَّعْوَى:
43- الْإِبْرَاءُ عَنِ الدَّعْوَى إِمَّا أَنْ يَرِدَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، وَكَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ أَصَالَةً أَوْ تَبَعًا، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي: يَكُونُ الْإِبْرَاءُ عَنِ الدَّعْوَى عَامًّا مُطْلَقًا إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْمُخَاصَمَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ تُجَاهَ شَخْصٍ مَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ وَمَا لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، وَالْإِبْرَاءُ عَمَّا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِهِ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا.
وَمِنَ الْعَامِّ نِسْبِيًّا الْإِبْرَاءُ عَنْ جَمِيعِ الدَّعَاوَى الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَخْصٍ إِلَى تَارِيخِ الْإِبْرَاءِ، فَهَذَا الْإِبْرَاءُ صَحِيحٌ، وَلَا تُسْمَعُ بَعْدَ ذَلِكَ دَعْوَاهُ بِحَقٍّ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ.
وَالْخَاصُّ مَا كَانَ عَنْ دَعْوَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ اتِّفَاقًا، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بَعْدَهُ عَنْ تِلْكَ الْعَيْنِ.
وَحَقَّقَ الشُّرُنْبُلَالِيُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى الْعَيْنِ فِي صُورَةِ التَّغْمِيمِ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ، خِلَافًا لِمَنْ أَبْطَلَ إِنْشَاءَ الْإِبْرَاءِ عَنْ جَمِيعِ الدَّعَاوَى، وَقَصَرَ الصِّحَّةَ عَلَى الْإِخْبَارِ أَوِ الْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى مَخْصُوصَةٍ.
هَذَا عَنِ الدَّعْوَى أَصَالَةً. أَمَّا الْإِبْرَاءُ عَنْهَا تَبَعًا فَهُوَ مَالُ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْعَيْنِ إِذْ يَنْصَرِفُ إِلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ ضَمَانِهَا أَوْ عَنْ دَعْوَاهَا، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا بَاطِلٌ، وَهِيَ لَا تُوصَفُ بِالْبَرَاءَةِ عَلَى مَا سَبَقَ.
أَنْوَاعُ الْإِبْرَاءِ:
44- الْإِبْرَاءُ عَلَى نَوْعَيْنِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ. وَالْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ هُنَا بِالنِّسْبَةِ لِأَصْلِ الصِّيغَةِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
أَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ مَا يُبْرَأُ بِهِ عَنْ كُلِّ عَيْنٍ وَدَيْنٍ وَحَقٍّ، وَأَلْفَاظُهُ كَثِيرَةٌ وَلِلْعُرْفِ فِيهَا مَدْخَلٌ، عَلَى مَا سَبَقَ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَفْصِيلٍ لِفِكْرَةِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لَمْ نَقِفْ عَلَى مِثْلِهِ صَرِيحًا عِنْدَ غَيْرِهِمْ، إِذْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَسْتَوِي فِي الْعُمُومِ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ، كَمَا لَوْ قَالَ: هُوَ بَرِيءٌ مِنْ حَقِّي. وَأَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْشَاءِ، كَقَوْلِهِ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ حَقِّي، عَلَى مَا بَحَثَهُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ الْحَنَفِيُّ.
أَمَّا الْإِبْرَاءُ الْخَاصُّ، فَلَهُ عِدَّةُ صُوَرٍ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ تَبَعًا لِمَوْضُوعِ الْإِبْرَاءِ:
أ- إِبْرَاءٌ خَاصٌّ بِدَيْنٍ خَاصٍّ، كَأَبْرَأْتُهُ مِنْ دَيْنِ كَذَا، أَوْ بِدَيْنٍ عَامٍّ، كَأَبْرَأْتُهُ مِمَّا لِي عَلَيْهِ. فَيَبْرَأُ عَنِ الدَّيْنِ الْخَاصِّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَعَنْ كُلِّ دَيْنٍ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، دُونَ التَّعَيُّنِ.
ب- إِبْرَاءٌ خَاصٌّ بِعَيْنٍ خَاصَّةٍ، كَأَبْرَأْتُهُ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ بِكُلِّ عَيْنٍ، أَوْ خَاصٌّ بِالْأَمَانَاتِ دُونَ الْمَضْمُونَاتِ. (ثُمَّ هَذَا الْإِبْرَاءُ عَنِ الْعَيْنِ إِمَّا عَنْهَا نَفْسِهَا وَإِمَّا عَنْ دَعْوَاهَا وَهُوَ مَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْشَاءِ أَوِ الْإِخْبَارِ، وَأَثَرُ هَذَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَوْضُوعِ الْإِبْرَاءِ).
وَالْإِبْرَاءُ يَتَّبِعُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَصْلِ الصِّيغَةِ أَوْ فِي الْمَوْضُوعِ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْمُدَّعِي الْمُبْرِئِ فِيمَا تَنَاوَلَ الْإِبْرَاءَ. فَالْإِبْرَاءُ الْعَامُّ يَدْخُلُ فِيهِ الْبَرَاءَةُ عَنْ كُلِّ حَقٍّ، وَلَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ كَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ. كَمَا يَدْخُلُ مَا هُوَ بَدَلٌ عَمَّا هُوَ مَالٌ كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ، أَوْ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَمَا هُوَ مَضْمُونٌ كَالْمَغْصُوبِ، أَوْ أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ.
شُمُولُ الْإِبْرَاءِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَنُ وَالْمِقْدَارُ:
45- الْإِبْرَاءُ لَا يَشْمَلُ مَا بَعْدَ تَارِيخِهِ مِنْ دُيُونٍ أَوْ حُقُوقٍ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْمُبْرِئِ، بَعْدَ إِبْرَائِهِ الْعَامِّ بِشَيْءٍ سَابِقٍ لِتَارِيخِهِ، وَذَلِكَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى اشْتِرَاطِ وُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لِصِحَّةِ الْإِبْرَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ.
عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ خَاصًّا بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِهِ أَصْلاً، وَهَذَا إِذَا ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ، أَمَّا لَوِ ادَّعَاهُ لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وِصَايَةٍ فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُسْمَعُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِغَيْرِهِ، فَكَمَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَدَّعِيَهَا لِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَدَّعِيَهَا لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وِصَايَةٍ.
وَلَا يَشْمَلُ الْإِبْرَاءُ ضَمَانَ الِاسْتِحْقَاقِ، لِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ ذَلِكَ الضَّمَانَ الْحَادِثَ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَبَعْدَ الْحُكْمِ بِالرُّجُوعِ بِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَاحِقٌ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الشُّمُولِ وَحُدُودِهِ قَاضِيخَانْ فِي فَتَاوَاهُ بِقَوْلِهِ: «الْبَرَاءَةُ السَّابِقَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الدَّيْنِ اللاَّحِقِ».
وَمِمَّا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ هُنَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْمُبْرِئِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا كَانَ مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ الْخُصُومَةُ فَقَطْ، وَكَذَا إِذَا قَالَ: لَيْسَ قَصْدِي عُمُومَ الْإِبْرَاءِ بَلْ تَعَلُّقَهُ بِشَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ كَذَا، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، فَفِي ادِّعَاءِ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ بِقَلْبِهِ يُقْبَلُ، وَلِخَصْمِهِ تَحْلِيفُهُ.
وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْحَقَّ الْمُدَّعَى بِهِ حَصَلَ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ لِتُقْبَلَ دَعْوَاهُ بِهِ، كَمَا لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ الْجَهْلَ بِقَدْرِ الْمُبْرَأِ مِنْهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى النِّسْيَانِ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْجَهْلِ بَيْنَ مَا إِذَا بَاشَرَ سَبَبَ الدَّيْنِ بِنَفْسِهِ، أَوْ رُوجِعَ إِلَيْهِ عِنْدَ السَّبَبِ
فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَإِلاَّ فَيُقْبَلُ، وَفِي دَعْوَى النِّسْيَانِ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ.
سَرَيَانُهُ مِنْ حَيْثُ الْأَشْخَاصُ:
46- لِلْإِبْرَاءِ- عَدَا شُمُولِهِ الزَّمَنِيِّ- سَرَيَانٌ لِغَيْرِ الْمُبْرَأِ أَحْيَانًا. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا لَوْ أَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ الْإِبْرَاءِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ مِقْدَارُ مَا حَطَّهُ الْبَائِعُ عَنِ الْمُشْتَرِي. وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ إِنْ كَانَ يَصْلُحُ ثَمَنًا (بِأَنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْأَقَلِّ) اسْتَفَادَ الشَّفِيعُ مِنَ الْإِبْرَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْأَكْثَرِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى كُلِّهِ قَبْلَ الْحَطِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَصِحُّ وَلَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ سِوَى الْمُشْتَرِي، أَمَّا الشَّفِيعُ فَيَأْخُذُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ أَوْ يَتْرُكُ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْكَفَالَةُ، فَإِنَّ إِبْرَاءَ الْأَصِيلِ يَسْرِي إِلَى الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ إِبْرَاءَهُ إِسْقَاطٌ لِلْوَثِيقَةِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي سُقُوطَ أَصْلِ الدَّيْنِ، وَهَذَا إِنْ أَبْرَأَهُ مِنَ الضَّمَانِ، أَمَّا إِنْ أَبْرَأَهُ مِنَ الدَّيْنِ فَيَنْبَغِي عَلَى مَا قَالَ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَتْ مَحَالُّهُ. وَكَذَلِكَ إِنْ تَكَرَّرَ الْكُفَلَاءُ وَتَتَابَعُوا، فَإِنَّ إِبْرَاءَ غَيْرِ الْأَصِيلِ مِنَ الْمُلْتَزِمِينَ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ مَنْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُمْ فَرْعُهُ، لَا مَنْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَا يَبْرَأُ بِبَرَاءَةِ فَرْعِهِ.
وَفِي الْغَصْبِ إِنْ أَبْرَأَ غَاصِبَ الْغَاصِبِ بَرِئَ الْأَوَّلُ أَيْضًا، أَمَّا إِنْ أَبْرَأَ الْغَاصِبَ الْأَوَّلَ فَقَطْ فَلَا يَبْرَأُ الثَّانِي.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
12-موسوعة الفقه الكويتية (إجارة 2)
إِجَارَة -2الْمَطْلَبُ الثَّانِي
الْأُجْرَةُ
40- الْأُجْرَةُ هِيَ مَا يَلْتَزِمُ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ عِوَضًا عَنِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَتَمَلَّكُهَا. وَكُلُّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْأُجْرَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ.
وَيَجِبُ الْعِلْمُ بِالْأَجْرِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ مِمَّا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ. وَلَوْ كَانَ فِي الْأَجْرِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ لِلنِّزَاعِ فَسَدَ الْعَقْدُ، فَإِنِ اسْتُوْفِيَتِ الْمَنْفَعَةُ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ مَا يُقَدِّرُهُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ.
41- وَجَوَّزَ الْجُمْهُورُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَنْفَعَةً مِنْ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. يَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: وَيَجُوزُ إِجَارَةُ الْمَنَافِعِ مِنْ جِنْسِهَا وَمِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْإِجَارَةِ كَالْأَعْيَانِ فِي الْبَيْعِ. ثُمَّ الْأَعْيَانُ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فَكَذَلِكَ الْمَنَافِعُ. وَيَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: أَجَازَ مَالِكٌ إِجَارَةَ دَارٍ بِسُكْنَى دَارٍ أُخْرَى. وَيَقُولُ الْبُهُوتِيُّ مَا خُلَاصَتُهُ: يَجُوزُ إِجَارَةُ دَارٍ بِسُكْنَى دَارٍ أُخْرَى أَوْ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ، لِقِصَّةِ شُعَيْبٍ- عليه السلام-؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ النِّكَاحَ عِوَضَ الْأُجْرَةِ. وَمَنَعَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَنْفَعَةً مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالْخِدْمَةِ.
42- وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يُجِيزُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ بَعْضَ الْمَعْمُولِ، أَوْ بَعْضَ النَّاتِجِ مِنَ الْعَمَلِ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَرٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا هَلَكَ مَا يَجْرِي فِيهِ الْعَمَلُ ضَاعَ عَلَى الْأَجِيرِ أَجْرُهُ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ»،، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِيمِ الْأُجْرَةِ، وَلَا يُعَدُّ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَمِثَالُهُ: سَلْخُ الشَّاةِ بِجِلْدِهَا، وَطَحْنُ الْحِنْطَةِ بِبَعْضِ الْمَطْحُونِ مِنْهَا، لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ جِلْدَهَا إِلاَّ بَعْدَ السَّلْخِ، وَلَا يَدْرِي هَلْ يَخْرُجُ سَلِيمًا أَوْ مُقَطَّعًا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ جُزْءًا شَائِعًا مِمَّا عَمِلَ فِيهِ الْأَجِيرُ، تَشْبِيهًا بِالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، فَيَجُوزُ دَفْعُ الدَّابَّةِ إِلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ رِبْحِهَا وَالزَّرْعِ أَوِ النَّخْلِ إِلَى مَنْ يَعْمَلُ فِيهِ بِسُدُسِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا شَاهَدَهُ عَلِمَهُ بِالرُّؤْيَةِ وَهِيَ أَعْلَى طُرُقِ الْعِلْمِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا عِلْمُ الْأَجْرِ بِالتَّقْدِيرِ يَتَّجِهُونَ وُجْهَةَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَقُولُونَ: إِنْ قَالَ: احْتَطِبْهُ وَلَكَ النِّصْفُ، أَوِ: احْصُدْهُ وَلَكَ النِّصْفُ، فَيَجُوزُ إِنْ عَلِمَ مَا يَحْتَطِبُهُ بِعَادَةٍ. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي جَذِّ النَّخْلِ وَلَقْطِ الزَّيْتُونِ وَجَزِّ الصُّوفِ وَنَحْوِهِ. وَعِلَّةُ الْجَوَازِ الْعِلْمُ. وَلَوْ قَالَ: احْتَطِبْ، أَوِ: احْصُدْ وَلَكَ نِصْفُ مَا احْتَطَبْتَ أَوْ حَصَدْتَ، فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْجِعَالَةِ. وَهِيَ يُتَسَامَحُ فِيهَا مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي الْإِجَارَةِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الزَّيْلَعِيُّ الْحَنَفِيُّ صُورَةً مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهِيَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْحَائِكِ غَزْلاً يَنْسِجُهُ بِالنِّصْفِ. وَقَالَ: إِنَّ مَشَايِخَ بَلْخٍ جَوَّزُوهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ، لَكِنْ قَالَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الصَّحِيحُ خِلَافُهُ.
أَثَرُ الْإِخْلَالِ بِشَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ:
43- إِذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الِانْعِقَادِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ وُجِدَتْ صُورَتُهَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَنْعَقِدُ فَوُجُودُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَا يُوجِبُ فِيهِ الْحَنَفِيَّةُ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى، وَلَا أَجْرَ الْمِثْلِ الَّذِي يَقْضُونَ بِهِ إِذَا مَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ الَّتِي لَا تَرْجِعُ لِأَصْلِ الْعَقْدِ وَالَّتِي يَعْتَبِرُونَ الْعَقْدَ مَعَ الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ؛ إِذْ يَرَوْنَ أَنَّ الْعَقْدَ الْبَاطِلَ مَا لَمْ يُشْرَعْ بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ. أَمَّا الْفَاسِدُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ. وَلِذَا كَانَ لِلْعَقْدِ وُجُودٌ مُعْتَبَرٌ مِنْ نَاحِيَتِهِ، فَجَهَالَةُ الْمَأْجُورِ أَوِ الْأُجْرَةِ أَوْ مُدَّةِ الْعَمَلِ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا لَا يَقْتَضِيهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مِنْ شُرُوطٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ فِيهِ أَجْرُ الْمِثْلِ عِنْدَهُمْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، بِشَرْطِ أَلاَّ يَزِيدَ أَجْرُ الْمِثْلِ عَنِ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ. أَمَّا مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْفَعَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ.
44- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فِي هَذَا، وَيَرَوْنَ الْعَقْدَ غَيْرَ صَحِيحٍ بِفَوَاتِ مَا شَرَطَ الشَّارِعُ، لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِ الْعَقْدِ شَرْعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّهْيُ لِخَلَلٍ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، أَوْ لِوَصْفٍ مُلَازِمٍ لَهُ، أَوْ طَارِئٍ عَلَيْهِ. وَالنَّهْيُ فِي الْجَمِيعِ يُنْتِجُ عَدَمَ تَرَتُّبِ الْأَثَرِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ انْتِفَاعُ الْمُسْتَأْجِرِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ إِذَا قَبَضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَوِ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ، أَوْ مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ فِيهِ الِاسْتِيفَاءُ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ كَالْبَيْعِ، وَالْمَنْفَعَةُ كَالْعَيْنِ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ كَالصَّحِيحِ فِي اسْتِقْرَارِ الْبَدَلِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ، هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَمِثْلُهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِيمَا إِذَا كَانَ قَدِ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا. وَأَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ قَبَضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَمَضَى زَمَانٌ يُمْكِنُ فِيهِ الِاسْتِيفَاءُ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِلُزُومِ أَجْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ عَلَى مَنَافِعَ لَمْ يَسْتَوْفِهَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ عِوَضُهَا.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
أَحْكَامُ الْإِجَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالتَّبَعِيَّةِ
الْمَطْلَبُ الْأَوَّلُ
أَحْكَامُ الْإِجَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ
45- إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُهَا الْأَصْلِيُّ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْمُؤَجِّرِ.
وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ تَبَعِيَّةٌ، وَهِيَ الْتِزَامُ الْمُؤَجِّرِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَتَمْكِينُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَالْتِزَامُ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا.
وَإِذَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ، وَالْأَجِيرُ مُشْتَرَكٌ، فَإِنَّ الْأَجِيرَ يَلْتَزِمُ بِالْقِيَامِ بِالْعَمَلِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَيْنِ، وَتَسْلِيمِهَا بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنَ الْعَمَلِ. وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا كَانَ الْأَصْلُ الْمُدَّةَ، وَكَانَ الْعَمَلُ تَبَعًا، وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَمَلِ فَقَطْ، كَالْمُعَلِّمِ وَالظِّئْرِ، كَانَ الِالْتِزَامُ مُنْصَبًّا عَلَى الْعَمَلِ أَوْ عَلَى الْمُدَّةِ، حَسْبَمَا كَانَتْ إِجَارَةً مُشْتَرَكَةً أَوْ خَاصَّةً. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
تَمَلُّكُ الْمَنْفَعَةِ، وَتَمَلُّكُ الْأُجْرَةِ، وَوَقْتُهُ:
46- يَتَّجِهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُسْتَحَقُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ أَوِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: التَّعْجِيلَ بِالْفِعْلِ. يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ إِلاَّ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ:
أَحَدُهَا: شَرْطُ التَّعْجِيلِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»...
وَالثَّانِي: التَّعْجِيلُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ فِي جَوَازِ تَعْجِيلِ الثَّمَنِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
الثَّالِثُ: اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْمُعَوَّضَ فَيَمْلِكُ الْمُؤَجِّرُ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَتِهِ، تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَتَسْوِيَةً بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ.
47- وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّأْجِيلُ خِلَافًا لِلْبَيْعِ، فَالْأَصْلُ فِيهِ التَّعْجِيلُ، إِلاَّ فِي أَرْبَعَةِ مَسَائِلَ يَجِبُ فِيهَا تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ، وَهِيَ: إِنْ شُرِطَ ذَلِكَ، أَوْ جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ كَمَا فِي كِرَاءِ الدُّورِ وَالدَّوَابِّ لِلسَّفَرِ إِلَى الْحَجِّ، أَوْ إِذَا عَيَّنَ الْأَجْرَ، كَأَنْ يَكُونَ ثَوْبًا مُعَيَّنًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ التَّعْجِيلُ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطِ التَّعْجِيلُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ. وَيَجِبُ التَّعْجِيلُ أَيْضًا إِذَا كَانَ الْأَجْرُ لَمْ يُعَيَّنْ وَالْمَنَافِعُ مَضْمُونَةً فِي ذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ. فَإِنْ شَرَعَ فِيهَا فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ لِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا عَجَّلَ جَمِيعَ الْأَجْرِ، وَإِلاَّ أَدَّى إِلَى ابْتِدَاءِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.
وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ تَعْجِيلِ جَمِيعِ الْأُجْرَةِ وَلَوْ شَرَعَ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَوَائِلِ لَيْسَ قَبْضًا لِلْأَوَاخِرِ.
عَلَى أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ تَعْجِيلِ جَمِيعِ الْأُجْرَةِ (فِيمَا إِذَا لَمْ يَشْرَعْ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَأْجُورِ)- عَلَى الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ- صُورَةٌ يَتَعَسَّرُ فِيهَا الشُّرُوعُ وَهِيَ: مَا إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْإِجَابَةِ دَابَّةً لِلسَّفَرِ وَنَحْوَهَا، وَكَانَتْ مَسَافَةُ السَّفَرِ بَعِيدَةً، وَالسَّفَرُ فِي غَيْرِ وَقْتِ سَفَرِ النَّاسِ عَادَةً، وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ كَثِيرَةً، فَلَا يُشْتَرَطُ تَعْجِيلُ جَمِيعِهَا بَلْ يُكْتَفَى بِتَعْجِيلِ الْيَسِيرِ مِنَ الْأُجْرَةِ الْكَثِيرَةِ، فَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً وَجَبَ تَعْجِيلُ جَمِيعِهَا. وَهَذَا فِي غَيْرِ الصَّانِعِ وَالْأَجِيرِ، فَلَيْسَ لَهُمَا أُجْرَةٌ إِلاَّ بَعْدَ التَّمَامِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، وَأَمَّا عِنْدَ التَّرَاضِي فَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْجَمِيعِ وَتَأْخِيرُهُ. كَمَا قَالُوا: تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ إِنْ وَقَعَتْ بِأَجْرٍ مُعَيَّنٍ، وَانْتَفَى عُرْفُ تَعْجِيلِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَيْعًا مُعَيَّنًا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ، وَلَيْسَ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ. وَتَفْسُدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَوْ عُجِّلَ الْأَجْرُ بِالْفِعْلِ بَعْدَ الْعَقْدِ، إِذْ لَا تَصِحُّ إِلاَّ إِذَا شُرِطَ تَعْجِيلُهُ وَعُجِّلَ. وَقَالُوا: إِذَا أَرَادَ الصُّنَّاعُ وَالْأُجَرَاءُ تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ، وَامْتَنَعَ رَبُّ الْعَمَلِ، حُمِلُوا عَلَى الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُنَّةٌ لَمْ يُقْضَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ.
وَأَمَّا فِي الْأَكْرِيَةِ فِي دَارٍ أَوْ رَاحِلَةٍ أَوْ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى بَيْعِ السِّلَعِ كَالسَّمْسَرَةِ أَوْ نَحْوِهَا، فَبِقَدْرِ مَا مَضَى، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَجْرُ مُعَيَّنًا وَلَمْ يُشْرَطْ تَعْجِيلُهُ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِتَعْجِيلِهِ، وَلَمْ تَكُنِ الْمَنَافِعُ مَضْمُونَةً، فَلَا يَجِبُ تَعْجِيلُ الْأَجْرِ. وَإِذَا لَمْ يَجِبِ التَّعْجِيلُ كَانَ مُيَاوَمَةً، أَيْ كُلَّمَا اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ يَوْمٍ أَوْ تَمَكَّنَ مِنَ اسْتِيفَائِهَا، لَزِمَتْهُ أُجْرَتُهُ، أَوْ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ.
48- وَيَتَّجِهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا أُطْلِقَ وَجَبَتِ الْأُجْرَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ. وَيَجِبُ تَسْلِيمُهَا بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَالتَّمْكِينُ مِنَ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ فِعْلاً؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ أُطْلِقَ ذِكْرُهُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَيُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كَالثَّمَنِ وَالْمَهْرِ. فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ اسْتَقَرَّتِ الْأُجْرَةُ.
وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ فَإِنَّ الْأَجْرَ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ أَيْضًا، وَيَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ إِلاَّ عِنْدَ تَسْلِيمِهِ الْعَمَلَ أَوْ إِيفَائِهِ أَوْ يُمْضِي الْمُدَّةَ إِنْ كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا. وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ اسْتِحْقَاقُهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ. وَفَارَقَ الْإِجَارَةَ عَلَى الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهَا أُجْرِيَ مَجْرَى تَسْلِيمِ نَفْعِهَا. وَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ، أَوْ مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَا حَاجِزَ لَهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ، اسْتَقَرَّ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، فَاسْتَقَرَّ الْبَدَلُ، أَوْ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَلِفَتْ بِاخْتِيَارِهِ.
وَإِذَا تَمَّتِ الْإِجَارَةُ، وَكَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ، مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا إِلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيَكُونُ حُدُوثُهَا عَلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَهِيَ مُقَدَّرَةُ الْوُجُودِ. إِيجَارُ الْمُسْتَأْجِرِ الْعَيْنَ لآِخَرَ:
49- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى جَوَازِ إِيجَارِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِ الْمُؤَجِّرِ الشَّيْءَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ وَقَبَضَهُ فِي مُدَّةِ الْعَقْدِ، مَا دَامَتِ الْعَيْنُ لَا تَتَأَثَّرُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ، وَقَدْ أَجَازَهُ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ السَّلَفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ أَمْ بِزِيَادَةٍ. وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ مُطْلَقًا لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ» وَالْمَنَافِعُ لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَجُزْ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ قَبْضَ الْعَيْنِ قَامَ مَقَامَ قَبْضِ الْمَنَافِعِ.
إِيجَارُ الْمُسْتَأْجِرِ لِغَيْرِ الْمُؤَجِّرِ بِزِيَادَةٍ:
49 م- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْأُجْرَةُ الثَّانِيَةُ مُسَاوِيَةً أَمْ زَائِدَةً أَمْ نَاقِصَةً؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعٌ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِمِثْلِ الثَّمَنِ، أَوْ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِنَقْصٍ كَالْبَيْعِ، وَوَافَقَهُمْ أَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ عِنْدَهُ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ الثَّانِيَةِ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْأُجْرَةُ فِيهَا مِنْ جِنْسِ الْأُجْرَةِ الْأُولَى، لِلْمَعْنَى السَّابِقِ، أَمَّا إِنِ اتَّحَدَ جِنْسُ الْأُجْرَتَيْنِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَطِيبُ لِلْمُسْتَأْجِرِ. وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ، وَصَحَّتِ الْإِجَارَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ الْفَضْلَ فِيهِ شُبْهَةٌ. أَمَّا إِنْ أَحْدَثَ زِيَادَةً فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فَتَطِيبُ الزِّيَادَةُ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُسْتَحْدَثَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ثَانٍ لَهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَحْدَثَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَوَّلُ زِيَادَةً فِي الْعَيْنِ جَازَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِي الْأَجْرِ دُونَ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ جِنْسِ الْأَجْرِ أَوِ اخْتِلَافِهِ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمُؤَجِّرُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ.
وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ إِنْ أَذِنَ الْمُؤَجِّرُ بِالزِّيَادَةِ جَازَ، وَإِلاَّ فَلَا.
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يُجِيزُونَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ.
50- أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مُطْلَقًا عَقَارًا كَانَ أَوْ مَنْقُولاً، بِمُسَاوٍ أَوْ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِنُقْصَانٍ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَنَافِعُ، وَهِيَ لَا تَصِيرُ مَقْبُوضَةً بِقَبْضِ الْعَيْنِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْقَبْضُ. وَفِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُولِ. وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ مُطْلَقًا. وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْعَقَارِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ.
51- وَأَمَّا إِجَارَةُ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلْمُؤَجِّرِ فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يُجِيزُونَهَا مُطْلَقًا، عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْقَبْضِ، بِنَاءً عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ. وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ إِيجَارَهَا لِلْمُؤَجِّرِ مُطْلَقًا، عَقَارًا كَانَ أَوْ مَنْقُولاً قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَوْ بَعْدَ مُسْتَأْجِرٍ آخَرَ.
وَهَلْ إِذَا أَجَّرَهَا ثَانٍ لِلْمُؤَجِّرِ الْأَوَّلِ تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ الْأُولَى؟ رَأْيَانِ؛ الصَّحِيحُ لَا تَبْطُلُ، وَالثَّانِي تَبْطُلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِيجَارَهَا لِلْمُؤَجِّرِ تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُطَالَبٌ بِالْأُجْرَةِ لِلْمُؤَجِّرِ، فَيُصْبِحُ دَائِنًا وَمَدِينًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ.
الْمَطْلَبُ الثَّانِي
الْأَحْكَامُ التَّبَعِيَّةُ الَّتِي يَلْتَزِمُ بِهَا الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ الْتِزَامَاتُ الْمُؤَجِّرِ
أ- تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ:
52- يَلْتَزِمُ الْمُؤَجِّرُ بِتَمْكِينِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِتَسْلِيمِهِ الْعَيْنَ حَتَّى انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ. وَيَشْمَلُ التَّسْلِيمُ تَوَابِعَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ الَّتِي لَا يَتَحَقَّقُ الِانْتِفَاعُ الْمَطْلُوبُ إِلاَّ بِهَا حَسَبَ الْعُرْفِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى أَنَّ التَّسْلِيمَ تَمْكِينٌ مِنَ الِانْتِفَاعِ أَنَّ مَا يَعْرِضُ أَثْنَاءَ الْمُدَّةِ مِمَّا يَمْنَعُ الِانْتِفَاعَ بِغَيْرِ فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ يَكُونُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ إِصْلَاحُهُ، كَعِمَارَةِ الدَّارِ وَإِزَالَةِ كُلِّ مَا يُخِلُّ بِالسَّكَنِ، مَعَ مُلَاحَظَةِ مَا سَبَقَ مِنِ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَاشْتِرَاطِ بَيَانِ الْمَنْفَعَةِ وَتَحْدِيدِهَا.
53- وَفِي إِجَارَةِ الْعَمَلِ يَكُونُ الْأَجِيرُ هُوَ الْمُؤَجِّرَ لِخِدْمَاتِهِ، وَقِيَامُ الْأَجِيرِ بِالْعَمَلِ هُوَ الْتِزَامُهُ بِالتَّسْلِيمِ.
فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ يَجْرِي فِي عَيْنٍ تُسَلَّمُ لِلْأَجِيرِ- وَهُوَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ- كَانَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَأْجُورِ فِيهِ بَعْدَ قِيَامِهِ بِالْعَمَلِ. وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ لَا يَجْرِي فِي عَيْنٍ تُسَلَّمُ لِلْأَجِيرِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ قِيَامِهِ بِالْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ يُعْتَبَرُ تَسْلِيمًا، كَالطَّبِيبِ أَوِ السِّمْسَارِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا كَانَ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِلْعَمَلِ فِي مَحَلِّ الْمُسْتَأْجِرِ تَسْلِيمًا مُعْتَبَرًا.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ.
ب- ضَمَانُ غَصْبِ الْعَيْنِ.
54- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا غُصِبَتِ الْعَيْنُ فِي إِجَارَةِ الْأَعْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ، أَوْ يَنْتَظِرَ مُدَّةً يَسِيرَةً لَيْسَ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، رَيْثَمَا تُنْتَزَعُ مِنَ الْغَاصِبِ.
وَفِي إِجَارَةِ مَا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ وَعَلَى الْمُؤَجِّرِ الْإِبْدَالُ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مُخَاصَمَةُ الْغَاصِبِ فِي الْعَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَعَذَّرَ بَدَلُهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ.
وَتَنْفَسِخُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ إِنْ كَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ لِعَمَلٍ، كَذَا إِلَى جِهَةٍ، كَانَ لَهُ الْفَسْخُ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ لِمُدَّةٍ، خُيِّرَ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ إِبْقَاءِ الْعَقْدِ وَمُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَإِنْ فَسَخَ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مَا مَضَى. وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ هُوَ الْمُؤَجِّرَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ.
وَيَرَى قَاضِيخَانْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِغَصْبِ الْعَيْنِ، وَلَوْ غُصِبَتْ بَعْضَ الْمُدَّةِ فَبِحِسَابِهِ. وَاتَّجَهَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ إِلَى أَنَّهَا تَنْفَسِخُ بِالْغَصْبِ.
أَمَّا الْأُجْرَةُ فَتَسْقُطُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَحَلِّ إِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا فَاتَ التَّمَكُّنُ بِالْغَصْبِ فَاتَ التَّسْلِيمُ. وَلِذَا فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَوْ لَمْ تَفُتْ بِالْغَصْبِ، كَغَصْبِ الْأَرْضِ الْمُقَرَّرَةِ لِلْغَرْسِ مَعَ الْغَرْسِ، لَا تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ.
ج- ضَمَانُ الْعُيُوبِ:
55- يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ فِي الْإِجَارَةِ، كَالْبَيْعِ. وَالْعَيْبُ الْمُوجِبُ لِلْخِيَارِ فِيهَا هُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِنَقْصِ الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْعَقْدِ وَلَوْ بِفَوَاتِ وَصْفٍ فِي إِجَارَةِ الذِّمَّةِ، وَلَوْ حَدَثَ الْعَيْبُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَبَعْدَ الْعَقْدِ. وَيَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَبَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعَ الِالْتِزَامِ بِتَمَامِ الْأَجْرِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْفَسْخِ لِلْعَيْبِ. الْتِزَامَاتُ الْمُسْتَأْجِرِ:
أ- دَفْعُ الْأُجْرَةِ (وَحَقِّ الْمُؤَجِّرِ فِي حَبْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ):
56- الْأُجْرَةُ تَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ عَلَى مَا سَبَقَ. فَإِنْ كَانَتْ مُعَجَّلَةً حُقَّ لِلْمُؤَجِّرِ حَبْسُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مِلْكُهُ، فَجَازَ لَهُ حَبْسُهُ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْإِجَارَةِ كَالْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ. وَلَا يَحِقُّ لَهُ ذَلِكَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْهَنِ الْعَيْنَ عِنْدَهُ. وَلِكُلِّ صَانِعٍ، لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ، كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ، أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ لِاسْتِيفَاءِ الْأَجْرِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ لَهُ الْحَبْسَ. وَكُلُّ صَانِعٍ، لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْحَمَّالِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ، وَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ فِي الْعَيْنِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ أَثْبَتُوا لَهُ حَقَّ الْحَبْسِ.
ب- اسْتِعْمَالُ الْعَيْنِ حَسَبَ الشَّرْطِ أَوِ الْعُرْفِ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا:
57- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَّبِعَ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَيْنِ مَا أُعِدَّتْ لَهُ، مَعَ التَّقَيُّدِ بِمَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ، أَوْ بِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ شَرْطٌ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا، أَوْ مَا دُونَهَا مِنْ نَاحِيَةِ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِذَا اسْتَأْجَرَ الدَّارَ لِيَتَّخِذَهَا سَكَنًا فَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا مَدْرَسَةً أَوْ مَصْنَعًا، وَإِنِ اسْتَأْجَرَ الدَّابَّةَ لِرُكُوبِهِ الْخَاصِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، (عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ إِجَارَةِ الْأَرْضِ وَالدُّورِ وَالدَّوَابِّ). وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إِصْلَاحُ مَا تَلِفَ مِنَ الْعَيْنِ بِسَبَبِ اسْتِعْمَالِهِ.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَوْ هَلَكَتْ دُونَ اعْتِدَاءٍ مِنْهُ أَوْ مُخَالَفَةِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ، أَوْ دُونَ تَقْصِيرٍ فِي الصِّيَانَةِ وَالْحِفْظِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْإِجَارَةِ قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ.
ج- رَفْعُ الْمُسْتَأْجِرِ يَدَهُ عَنِ الْعَيْنِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْإِجَارَةِ:
58- بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ رَفْعُ يَدِهِ عَنِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِيَسْتَرِدَّهَا الْمُؤَجِّرُ، فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ طَلَبُ اسْتِرْدَادِهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ. وَإِنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَصِلَ بِهَا إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ لَزِمَ الْمُؤَجِّرَ اسْتِلَامُهَا مِنْ هَذَا الْمَكَانِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْإِجَارَةُ لِلذَّهَابِ وَالْعَوْدَةِ.
وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ رَدُّ الْعَيْنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْهَا الْمُؤَجِّرُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي إِمْسَاكِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعَقْدِ، فَلَزِمَهُ الرَّدُّ كَالْعَارِيَّةِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ سَيَرِدُ فِي مَوْضِعِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ.
الْفَصْلُ الرَّابِعُ
انْقِضَاءُ الْإِجَارَةِ:
59- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، أَوْ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ بِالْإِقَالَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تَنْقَضِي أَيْضًا بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ طُرُوءِ عُذْرٍ يَمْنَعُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأُجْرَةِ أَنَّهَا تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْمَنْفَعَةِ.
وَذَهَبَ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْأُجْرَةَ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ، كَالثَّمَنِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً- انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ:
60- إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُحَدَّدَةَ الْمُدَّةِ وَانْتَهَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْتَهِي بِلَا خِلَافٍ.
غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ عُذْرٌ يَقْتَضِي امْتِدَادَ الْمُدَّةِ، كَأَنْ تَكُونَ أَرْضًا زِرَاعِيَّةً، وَفِي الْأَرْضِ زَرْعٌ لَمْ يُسْتَحْصَدْ، أَوْ كَانَتْ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ، أَوْ طَائِرَةً فِي الْجَوِّ، وَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْأَرْضِ.
61- وَإِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ غَيْرَ مُحَدَّدَةِ الْمُدَّةِ، كَأَنْ يُؤَجِّرَ لَهُ الدَّارَ مُشَاهَرَةً كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا دُونَ بَيَانِ عَدَدِ الْأَشْهُرِ، فَإِنَّ لِكُلِّ ذَلِكَ أَحْكَامًا مُفَصَّلَةً سَيَأْتِي ذِكْرُهَا. ثَانِيًا- انْقِضَاءُ الْإِجَارَةِ بِالْإِقَالَةِ:
62- كَمَا أَنَّ الْإِقَالَةَ جَائِزَةٌ فِي الْبَيْعِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَهِيَ كَذَلِكَ جَائِزَةٌ فِي الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ مَنَافِعَ.
ثَالِثًا- انْقِضَاءُ الْإِجَارَةِ بِهَلَاكِ الْمَأْجُورِ:
63- تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ بِسَبَبِ هَلَاكِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ بِحَيْثُ تَفُوتُ الْمَنَافِعُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا كُلِّيَّةً، كَالسَّفِينَةِ إِذَا نُقِضَتْ وَصَارَتْ أَلْوَاحًا، وَالدَّارِ إِذَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ أَنْقَاضًا، وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِذَا نَقَصَتِ الْمَنْفَعَةُ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.
رَابِعًا: فَسْخُ الْإِجَارَةِ لِلْعُذْرِ:
64- الْحَنَفِيَّةُ، كَمَا سَبَقَ، يَرَوْنَ جَوَازَ فَسْخِ الْإِجَارَةِ لِحُدُوثِ عُذْرٍ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ بِالْمُسْتَأْجَرِ (بِفَتْحِ الْجِيمِ) وَلَا يَبْقَى الْعَقْدُ لَازِمًا وَيَصِحُّ الْفَسْخُ، إِذْ الْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَيْهِ عِنْدَ الْعُذْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ لَلَزِمَ صَاحِبَ الْعُذْرِ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ. فَكَانَ الْفَسْخُ فِي الْحَقِيقَةِ امْتِنَاعًا مِنِ الْتِزَامِ الضَّرَرِ، وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ. وَقَالُوا: إِنَّ إِنْكَارَ الْفَسْخِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعُذْرِ خُرُوجٌ عَنِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنِ اشْتَكَى ضِرْسَهُ، فَاسْتَأْجَرَ رَجُلاً لِيَقْلَعَهَا، فَسَكَنَ الْوَجَعُ، يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ. وَهَذَا قَبِيحٌ شَرْعًا وَعَقْلاً.
وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَصْلِ جَوَازِ الْفَسْخِ بِالْعُذْرِ، لَا فِيمَا تَوَسَّعَ فِيهِ الْحَنَفِيَّةُ، إِذْ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْعُذْرُ بِغَصْبِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ أَوْ مَنْفَعَتِهَا أَوْ أَمْرِ ظَالِمٍ لَا تَنَالُهُ الْأَحْكَامُ بِإِغْلَاقِ الْحَوَانِيتِ الْمُكْتَرَاةِ، أَوْ حَمْلِ ظِئْرٍ- لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يَضُرُّ الرَّضِيعَ- أَوْ مَرَضِهَا الَّذِي لَا تَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى رَضَاعٍ، حُقَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ أَوِ الْبَقَاءُ عَلَى الْإِجَارَةِ.
65- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا أَشَرْنَا لَا يَرَوْنَ فَسْخَ الْإِجَارَةِ بِالْأَعْذَارِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْبَيْعِ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا، إِذِ الْعَقْدُ انْعَقَدَ بِاتِّفَاقِهِمَا، فَلَا يَنْفَسِخُ إِلاَّ بِاتِّفَاقِهِمَا. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِالْأَعْذَارِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى عَيْنٍ أَمْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ، مَا دَامَ الْعُذْرُ لَا يُوجِبُ خَلَلاً فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. فَتَعَذُّرُ وُقُودِ الْحَمَّامِ، أَوْ تَعَذُّرُ سَفَرِ الْمُسْتَأْجِرِ، أَوْ مَرَضِهِ، لَا يُخَوِّلُهُ الْحَقَّ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ، وَلَا حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ.
وَقَالَ الْأَثْرَمُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ اكْتَرَى بَعِيرًا، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ لَهُ: فَاسِخْنِي. قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ. قُلْتُ: فَإِنْ مَرِضَ الْمُسْتَكْرِي بِالْمَدِينَةِ، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فَسْخًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ. وَإِنْ فَسَخَهُ لَمْ يَسْقُطِ الْعِوَضُ.
66- وَالْعُذْرُ كَمَا يَرَى الْحَنَفِيَّةُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ، نَحْوُ أَنْ يُفْلِسَ فَيَقُومَ مِنَ السُّوقِ، أَوْ يُرِيدَ سَفَرًا، أَوْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْحِرْفَةِ إِلَى الزِّرَاعَةِ، أَوْ مِنَ الزِّرَاعَةِ إِلَى التِّجَارَةِ أَوْ يَنْتَقِلَ مِنْ حِرْفَةٍ إِلَى حِرْفَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُفْلِسَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْحَانُوتِ، وَفِي إِلْزَامِهِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَفِي إِبْقَاءِ الْعَقْدِ مَعَ ضَرُورَةِ خُرُوجِهِ لِلسَّفَرِ ضَرَرٌ بِهِ.
فَلَوِ اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ رَجُلاً لِيَقْصِرَ لَهُ ثِيَابًا- أَيْ يُبَيِّضَهَا- أَوْ لِيَقْطَعَهَا، أَوْ لِيَخِيطَهَا، أَوْ يَهْدِمَ دَارًا لَهُ، أَوْ يَقْطَعَ شَجَرًا لَهُ، أَوْ لِيَقْلَعَ ضِرْسًا. ثُمَّ بَدَا لَهُ أَلاَّ يَفْعَلَ، فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِمَصْلَحَةٍ يَأْمُلُهَا، فَإِذَا بَدَا لَهُ أَنْ لَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ صَارَ الْفِعْلُ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ، فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الضَّرَرِ بِالْفَسْخِ.
67- وَقَدْ يَكُونُ الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِ الْمُؤَجِّرِ نَحْوُ أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ فَادِحٌ لَا يَجِدُ قَضَاءَهُ إِلاَّ مِنْ ثَمَنِ الْمُسْتَأْجَرِ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- مِنَ الْإِبِلِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَيَحِقُّ لَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ ثَابِتًا قَبْلَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ ثَابِتًا بَعْدَ الْإِجَارَةِ بِالْإِقْرَارِ فَلَا يَحِقُّ لَهُ الْفَسْخُ بِهِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ، وَيَحِقُّ لَهُ عِنْدَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا، وَبَقَاءُ الْإِجَارَةِ مَعَ لُحُوقِ الدَّيْنِ الْفَادِحِ الْعَاجِلِ إِضْرَارٌ بِالْمُؤَجِّرِ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ. وَلَا يَجُوزُ الْجَبْرُ عَلَى تَحَمُّلِ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ. وَقَالُوا فِي امْرَأَةٍ آجَرَتْ نَفْسَهَا ظِئْرًا، وَهِيَ تُعَابُ بِذَلِكَ: لِأَهْلِهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُمْ يُعَيَّرُونَ بِذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إِذَا مَا مَرِضَتِ الظِّئْرُ وَكَانَتْ تَتَضَرَّرُ بِالْإِرْضَاعِ فِي الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ يَحِقُّ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ الْعَقْدَ.
68- وَمِنْ صُوَرِ الْعُذْرِ الْمُقْتَضِي لِلْفَسْخِ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْفَسْخَ بِالْعُذْرِ مِنْ جَانِبِ الْمُسْتَأْجَرِ «بِفَتْحِ الْجِيمِ» الصَّبِيُّ إِذَا آجَرَهُ وَلِيُّهُ، فَبَلَغَ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَهُوَ عُذْرٌ يُخَوِّلُ لَهُ فَسْخَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ فِي إِبْقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ضَرَرًا بِهِ. وَمِنْ هَذَا مَا قَالُوا فِي إِجَارَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ غَلَاءِ أَجْرِ الْمِثْلِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ عُذْرٌ يَفْسَخُ بِهِ مُتَوَلِّي الْوَقْفِ الْإِجَارَةَ، وَيُجَدِّدُ الْعَقْدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى سِعْرِ الْغَلَاءِ، وَفِيمَا مَضَى يَجِبُ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ. أَمَّا إِذَا رَخُصَ أَجْرُ الْمِثْلِ فَلَا يُفْسَخُ، مُرَاعَاةً لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ.
69- وَعِنْدَ وُجُودِ أَيِّ عُذْرٍ مِنْ هَذَا فَإِنَّ الْإِجَارَةَ يَصِحُّ فَسْخُهَا إِذَا أَمْكَنَ الْفَسْخُ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْفَسْخُ، بِأَنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ لَمْ يُسْتَحْصَدْ، لَا تُفْسَخُ؛ لِأَنَّ فِي الْقَلْعِ ضَرَرًا بِالْمُسْتَأْجِرِ، وَتُتْرَكُ إِلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ.
تَوَقُّفُ الْفَسْخِ عَلَى الْقَضَاءِ:
70- إِذَا وُجِدَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَعْذَارِ، وَكَانَ الْفَسْخُ مُمْكِنًا، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَكُونُ قَابِلَةً لِلْفَسْخِ، كَمَا يَرَى بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَنْفَسِخُ تِلْقَائِيًّا بِنَفْسِهَا. وَيَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى الْعُذْرِ، فَإِنْ كَانَ يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ عَنِ الْمُضِيِّ فِيهِ شَرْعًا، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى خَلْعِ الضِّرْسِ، وَقَطْعِ الْيَدِ الْمُتَأَكِّلَةِ إِذَا سَكَنَ الْأَلَمُ وَبَرَأَتْ مِنَ الْمَرَضِ، فَإِنَّهَا تَنْتَقِضُ بِنَفْسِهَا. وَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ لَا يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَوْعَ ضَرَرٍ لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ، لَا يَنْفَسِخُ إِلاَّ بِالْفَسْخِ. وَهُوَ حَقٌّ لِلْعَاقِدِ، إِذِ الْمَنَافِعُ فِي الْإِجَارَةِ لَا تُمْلَكُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَكَانَ اعْتِرَاضُ الْعُذْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ عَيْبٍ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَهَذَا يُوجِبُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ الْفَسْخِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَضَاءٍ أَوْ رِضَاءٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْفَسْخَ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّرَاضِي أَوِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخِيَارَ ثَبَتَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْعُذْرُ ظَاهِرًا فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا كَالدَّيْنِ اشْتُرِطَ الْقَضَاءُ. وَهُوَ مَا اسْتَحْسَنَهُ الْكَاسَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْقَضَاءِ.
71- وَإِنْ طَلَبَ الْمُسْتَأْجِرُ الْفَسْخَ قَبْلَ الِانْتِفَاعِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَفْسَخُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَإِنْ كَانَ قَدِ انْتَفَعَ بِهَا فَلِلْمُؤَجِّرِ مَا سَمَّى مِنَ الْأَجْرِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ تَعَيَّنَ بِالِانْتِفَاعِ. وَلَا يَكُونُ لِلْفَسْخِ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
13-موسوعة الفقه الكويتية (إحراق 2)
إِحْرَاقٌ -235- الْغَالُّ هُوَ الَّذِي يَكْتُمُ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يُطْلِعُ الْإِمَامَ عَلَيْهِ، وَلَا يَضُمُّهُ إِلَى الْغَنِيمَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْرِيقِ مَالِ الْغَالِّ لِلْغَنِيمَةِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَاللَّيْثُ: لَا يُحْرَقُ مَالُهُ.وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَدَمِ تَحْرِيقِهِ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ بِزِمَامٍ مِنْ شَعْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتَ بِلَالًا نَادَى ثَلَاثًا؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ فَاعْتَذَرَ.فَقَالَ؛ كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.وَلِأَنَّ إِحْرَاقَ الْمَتَاعِ إِضَاعَةٌ لَهُ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَالَ بِإِحْرَاقِ مَالِ الْغَالِّ الْحَنَابِلَةُ وَفُقَهَاءُ الشَّامِ، مِنْهُمْ مَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ.
وَقَدْ أُتِيَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِغَالٍّ فَجَمَعَ مَالَهُ وَأَحْرَقَهُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَاضِرُ ذَلِكَ فَلَمْ يَعِبْهُ قَالَ يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ: السُّنَّةُ فِي الَّذِي يَغُلُّ أَنْ يُحْرَقَ رَحْلُهُ.رَوَاهُمَا سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ، قَالَ: «دَخَلْتُ مَعَ مَسْلَمَةَ أَرْضَ الرُّومِ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ.قَالَ: فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا.فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ».وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحْرَقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ»
36- قَالَ أَحْمَدُ: إِنْ لَمْ يُحْرِقْ رَحْلَهُ حَتَّى اسْتَحْدَثَ مَتَاعًا آخَرَ وَكَذَلِكَ إِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، أُحْرِقَ مَا كَانَ مَعَهُ حَالَ الْغُلُولِ.
37- وَيُشْتَرَطُ فِي الْغَالِّ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا، فَتُوقَعُ عُقُوبَةُ الْإِحْرَاقِ فِي مَتَاعِ الرَّجُلِ وَالْخُنْثَى وَالْمَرْأَةِ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ.وَإِنْ كَانَ الْغَالُّ صَبِيًّا لَمْ يُحْرَقْ مَتَاعُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَاقَ عُقُوبَةٌ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ.
38- وَيَسْقُطُ إِحْرَاقُ مَتَاعِ الْغَالِّ إِذَا مَاتَ قَبْلَ إِحْرَاقِ رَحْلِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، كَالْحُدُودِ؛ وَلِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ انْتَقَلَ الْمَتَاعُ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَإِحْرَاقُهُ يَكُونُ عُقُوبَةً لِغَيْرِ الْجَانِي.وَإِنِ انْتَقَلَ مِلْكُهُ إِلَى غَيْرِ الْغَالِّ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ احْتَمَلَ عَدَمُ تَحْرِيقِهِ، لِصَيْرُورَتِهِ لِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ انْتِقَالَهُ لِلْوَارِثِ بِالْمَوْتِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَيُحْرَقَ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ سَابِقٌ عَلَى الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ كَالْقِصَاصِ فِي حَقِّ الْجَانِي.
39- وَمَا لَا يُحْرَقُ لِلْغَالِّ بِالِاتِّفَاقِ الْمُصْحَفُ، وَالْحَيَوَانُ أَمَّا الْمُصْحَفُ فَلَا يُحْرَقُ، لِحُرْمَتِهِ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ سَالِمٍ فِيهِ.وَإِنْ كَانَ مَعَ الْغَالِّ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوِ الْعِلْمِ فَيَنْبَغِي أَلاَّ تُحْرَقَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ يَعُودُ إِلَى الدِّينِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِضْرَارَ بِهِ فِي دِينِهِ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ الْإِضْرَارُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُبَاعَ الْمُصْحَفُ وَيُتَصَدَّقُ بِهِ لِقَوْلِ سَالِمٍ فِيهِ.
40- أَمَّا الْحَيَوَانُ فَلَا يُحْرَقُ وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّهَا؛ وَلِحُرْمَةِ الْحَيَوَانِ فِي نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَتَاعِ الْمَأْمُورِ بِإِحْرَاقِهِ.
41- وَلَا تُحْرَقُ ثِيَابُ الْغَالِّ الَّتِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عُرْيَانًا، وَلَا سِلَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ لِلْقِتَالِ، وَلَا نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْرَقُ عَادَةً وَلِلِاحْتِيَاجِ إِلَى الْإِنْفَاقِ.
42- وَلَا يُحْرَقُ الْمَالُ الْمَغْلُولُ؛ لِأَنَّ مَا غُلَّ مِنْ غَنِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقَصْدُ الْإِضْرَارُ بِالْغَالِّ فِي مَالِهِ وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: أَيُّ شَيْءٍ يُصْنَعُ بِالْمَالِ الَّذِي أَصَابَهُ فِي الْغُلُولِ؟ قَالَ: يُرْفَعُ إِلَى الْغُنْمِ.
43- وَاخْتُلِفَ فِي آلَةِ الدَّابَّةِ، فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُحْرَقُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لَا يُحْرَقُ فَأَشْبَهَ جِلْدَ الْمُصْحَفِ وَكِيسَهُ؛ وَلِأَنَّهَا مَلْبُوسُ حَيَوَانٍ، فَلَا يُحْرَقُ، كَثِيَابِ الْغَالِّ.وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُحْرَقُ سَرْجُهُ وَإِكَافُهُ.
مِلْكِيَّةُ مَا لَمْ يُحْرَقْ:
44- جَمِيعُ مَا ذُكِرَ مِمَّا لَمْ يُحْرَقْ، وَكَذَلِكَ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ.مِنْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ، وَإِنَّمَا عُوقِبَ الْغَالُّ بِإِحْرَاقِ مَتَاعِهِ، فَمَا لَمْ يُحْرَقْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
14-موسوعة الفقه الكويتية (إسلام 1)
إِسْلَامٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْإِسْلَامِ فِي اللُّغَةِ: الْإِذْعَانُ وَالِانْقِيَادُ، وَالدُّخُولُ فِي السِّلْمِ، أَوْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ.وَالْإِسْلَامُ يَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى: الْإِسْلَافُ، أَيْ عَقْدُ السَّلَمِ يُقَالُ: أَسْلَمْتُ إِلَى فُلَانٍ فِي عِشْرِينَ صَاعًا مَثَلًا، أَيِ اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ مُؤَجَّلَةً بِثَمَنٍ حَالٍّ.
أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ تَبَعًا لِوُرُودِهِ مُنْفَرِدًا، أَوْ مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ.
فَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا: الدُّخُولُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ نَفْسُهُ.وَالدُّخُولُ فِي الدِّينِ هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الشَّهَادَةِ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ.
وَمَعْنَاهُ إِذَا وَرَدَ مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ هُوَ: أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةُ، مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ.
وَإِذَا انْفَرَدَ الْإِيمَانُ يَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى: الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مَعَ الِانْقِيَادِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِيمَانُ:
2- سَبَقَ تَعْرِيفُ الْإِسْلَامِ مُنْفَرِدًا وَمُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ.وَهَذَا يَتَأَتَّى فِي تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ أَيْضًا.فَالْإِيمَانُ مُنْفَرِدًا: هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-.وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ بِهِ.أَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ يَقْتَصِرُ عَلَى تَصْدِيقِ الْقَلْبِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ وَنَصُّهُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.قَالَ: صَدَقْتَ.قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ».الْحَدِيثَ.
إِطْلَاقُ الْإِسْلَامِ عَلَى مِلَلِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ:
3- اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ، فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يُطْلَقُ عَلَى الْمِلَلِ السَّابِقَةِ.وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الْآيَةَ، وَآيَاتٍ أُخْرَى.
وَيَرَى آخَرُونَ: أَنَّهُ لَمْ تُوصَفْ بِهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَقَطْ، وَشُرِّفَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِأَنْ وُصِفَتْ بِمَا وُصِفَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا.
وَوَجْهُ اخْتِصَاصِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ «الْإِسْلَامِ» هُوَ: أَنَّ الْإِسْلَامَ اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَالْجِهَادِ، وَنَحْوِهَا.وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ كَثِيرٍ غَيْرِهِ خَاصٍّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَإِنَّمَا كُتِبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ.
وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى- وَهُوَ اخْتِصَاصُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ- قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}.فَالضَّمِيرُ (هُوَ) يَرْجِعُ لِإِبْرَاهِيمَ- عليه السلام-، كَمَا يَرَاهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ لِسَابِقِيَّةِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}.فَدَعَا بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ، ثُمَّ دَعَا لِأُمَّةٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَهِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَالَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} الْآيَةَ وَهُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَبَعَثَ مُحَمَّدًا إِلَيْهِمْ، وَسَمَّاهُمْ مُسْلِمِينَ.
فَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أُمَّةً بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِأُمَّةٍ ذُكِرَتْ بِهِ غَيْرُهَا.
4- وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ لَا؟ فَالْإِسْلَامُ الْحَاضِرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- الْمُتَضَمِّنُ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ، لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا، فَإِنَّهُ إِسْلَامُ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ يُمْكِنُ أَنْ تُفْهَمَ كُلُّ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي تَعَرَّضَ فِيهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مُسْتَعْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمَمِ الْأُخْرَى، إِمَّا عَلَى أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِمَادَّةِ أَسْلَمَ، أَوْ أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ كُلِّهَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
أَثَرُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فِي التَّصَرُّفَاتِ السَّابِقَةِ:
5- الْأَصْلُ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ صَحِيحَةٌ إِلاَّ مَا جَاءَ الْإِسْلَامُ بِإِبْطَالِهِ، كَمَا يُعْلَمُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ.
وَإِذَا كَانَ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مُتَزَوِّجًا بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، أَوْ بِمَنْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ، كَأُخْتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ، أَوْ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ.وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْقَرَافِيُّ «بِقَوْلِ النَّبِيِّ- عليه الصلاة والسلام- لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ».وَهَلْ يَلْزَمُهُ فِرَاقُ مَنْ عَدَا الْأَرْبَعِ الَّتِي تَزَوَّجَهُنَّ أَوَّلًا، أَوْ مَنْ شَاءَ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَابِهِ.وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ فِرَاقِ أَيِّ الْأُخْتَيْنِ شَاءَ.
وَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ الْكَافِرَانِ مَعًا، قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
إِذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ أَسْلَمَا مَعًا، فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، لِأَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ، فَاسْتِدَامَتُهُ أَوْلَى، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِإِجَازَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ.
وَأَمَّا إِنْ أَسْلَمَتِ الْكِتَابِيَّةُ قَبْلَهُ وَقَبْلَ الدُّخُولِ،
تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، إِذْ لَا يَجُوزُ لِكَافِرٍ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا فُرْقَةَ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَيَأْبَى.
وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي:
6- وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ، أَوْ كِتَابِيٌّ مُتَزَوِّجٌ بِوَثَنِيَّةٍ، أَوْ مَجُوسِيَّةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حِينِ إِسْلَامِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لَا طَلَاقًا.وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ، بَلْ إِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ أَبَى وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَمَرَّتِ الزَّوْجِيَّةُ، وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَفَ ذَلِكَ عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ، أَوْ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَيْسَتْ عِدَّةً، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمِ الْآخَرُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ.وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ.
أَمَّا إِنْ كَانَ إِسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ أَوْ زَوْجَةِ الْكِتَابِيِّ، بَعْدَ الدُّخُولِ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:
الْأَوَّلُ: يَقِفُ الْأَمْرُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَسْلَمَ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ.وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الثَّانِي.تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ.وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ الْحَسَنِ وطَاوُسٍ.
الثَّالِثُ: يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ إِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، كَقَوْلِهِ فِي إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَانْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ أَوْ ثَلَاثَةُ حِيَضٍ، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْنَا مُهَاجِرَةً، فَتَمَّتِ الْحِيَضُ هُنَا، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ.
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ مِنَ التَّكَالِيفِ السَّابِقَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ:
7- قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّ أَحْوَالَ الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ، وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ، وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ، وَلَا الْغَصْبُ وَالنَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا.وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا، لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ.وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ، فَلَا تَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَا ظِهَارٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَلَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَلَا الزَّكَوَاتِ، وَلَا شَيْءٍ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ» وَضَابِطُ الْفَرْقِ: أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا رَضِيَ بِهِ حَالَةَ كُفْرِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، هَذَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إِلْزَامَهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ.وَمَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ.وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَالْعِبَادَاتُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، Bوَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، لِحُصُولِ الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.
وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَلْ لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَاسَبَ أَلاَّ يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ.
(وَثَانِيهِمَا) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ، تُنَاسِبُ رَحْمَتَهُ الْمُسَامَحَةُ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا، وَإِنْ رَضِيَ بِهَا، كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ.وَلَا يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِلاَّ مَا تَقَدَّمَ الرِّضَى بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ.
الْآثَارُ اللاَّحِقَةُ لِدُخُولِ الْإِسْلَامِ:
8- إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَصْبَحَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.
فَتَلْزَمُهُ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ، كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ.إِلَخْ.وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، كَإِبَاحَةِ تَوَلِّي الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ كَالْإِمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْوِلَايَاتِ الْخَاصَّةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ...إِلَخْ
الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهَا:
9- الْكَافِرُ فِي حَالِ كُفْرِهِ هَلْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَمُكَلَّفٌ بِهَا أَمْ لَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لِيَزْدَادَ عَذَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَيَسْتَوْفِي الْمَسْأَلَةَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي مَبَاحِثِ التَّكْلِيفِ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا.
فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَعْصِمُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ؛ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» فَتَثْبُتُ هَذِهِ الْعِصْمَةُ لِلنَّفْسِ مُبَاشَرَةً، وَلِلْمَالِ تَبَعًا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ مَمْنُوعَةً عَنْهُ بِالْكُفْرِ.وَيَحْصُلُ التَّوَارُثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَرِثُهُمْ إِنْ مَاتُوا، وَيَرِثُونَهُ كَذَلِكَ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» Bوَلِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ.كَمَا أَنَّهُ يُحْرَمُ مِنْ إِرْثِ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ، وَيَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمَةِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَزَوُّجُ الْمُشْرِكَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيِ الْوَثَنِيَّةِ.
وَتَبْطُلُ- فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ- مَالِيَّةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَعْدَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَتَلْزَمُهُ جَمِيعُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِي مُقَدِّمَتِهَا أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، أُصُولًا وَفُرُوعًا، بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ.
وَكَذَلِكَ يُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، بَعْدَمَا كَانَ غَيْرَ مُطَالَبٍ بِهِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» وَتَحِلُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ، وَغُسْلُهُ وَكَفَنُهُ وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْ أَحْكَامٍ تَعَرَّضَتْ لَهَا كُتُبُ الْفِقْهِ فِي كُلِّ الْمَذَاهِبِ.
10- إِذَا بَاعَ ذِمِّيٌّ لآِخَرَ خَمْرًا وَخِنْزِيرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، يُفْسَخُ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، فَيَحْرُمُ الْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ أَيْضًا، أَخْذًا مِنْ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَوْ أَسْلَمُوا لأَحْرَزُوا بِإِسْلَامِهِمْ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}.كَمَا يَجِبُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمَ أَنْ يَهْجُرَ بَلَدَ الْكُفْرِ وَبَلَدَ الْحَرْبِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَقَدْ وَجَبَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِبَلَدِ الْكُفْرِ أَنْ يَهْجُرَهُ، وَيَلْحَقَ بِدَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَسْكُنَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَيُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ دِينِهِ، أَوْ يُجْبَرُ عَلَى أَحْكَامِ الْكُفْرِ.وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هِجْرَة).
مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْإِسْلَامُ:
11- مِمَّا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ لِصِحَّتِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:
(1) الْعَقْدُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ.
(2) وِلَايَةُ عَقْدِ نِكَاحِهَا.
(3) الشَّهَادَةُ عَلَى عَقْدِ نِكَاحِهَا.
(4) شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَسَاوَى الشُّرَكَاءُ فِي الْمَالِ وَالدَّيْنِ وَالتَّصَرُّفِ.وَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ.
(5) الْوَصِيَّةُ بِمُصْحَفٍ أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ مُسْلِمًا.
(6) النَّذْرُ، فَيُشْتَرَطُ إِسْلَامُ النَّاذِرِ، لِأَنَّ النَّذْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً، وَفِعْلُ الْكَافِرِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ Bقُرْبَةً.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.وَيَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.قَالَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَيَصِحُّ النَّذْرُ مِنْ كَافِرٍ وَلَوْ بِعِبَادَةٍ، لِحَدِيثِ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَوْفِ بِنَذْرِكَ».
(7) الْقَضَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
(8) الْوِلَايَاتُ الْعَامَّةُ كُلُّهَا، وَهِيَ الْخِلَافَةُ، وَمَا تَفَرَّعَ مِنْهَا، مِنَ الْوِلَايَةِ وَإِمَارَةِ الْجُيُوشِ، وَالْوَزَارَةِ وَالشُّرْطَةِ، وَالدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ، وَالْحِسْبَةِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
(9) الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ حَالِ ضَرُورَةِ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أَيْ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: أَجَازَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْحَاجَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}.ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضَرُورَةٌ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَلَوْ قِيلَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ عُدِمَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَيَكُونُ بَدَلًا مُطْلَقًا.
ب- الدِّينُ، أَوِ الْمِلَّةُ:
12- مِنْ مَعَانِي الدِّينِ لُغَةً: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ وَالْحِسَابُ وَالطَّاعَةُ وَالْمِلَّةُ.
وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
التَّوْحِيدُ: كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.
الْحِسَابُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}.
الْحُكْمُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}.
الْمِلَّةُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} يَعْنِي الْمِلَّةَ الْمُسْتَقِيمَةَ.
وَاصْطِلَاحًا: يُطْلَقُ الدِّينُ عَلَى الشَّرْعِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مِلَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ.وَقَدْ يُخَصُّ بِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.
13- وَعَلَى ضَوْءِ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَعَلَى ضَوْءِ التَّوْجِيهِ الْقُرْآنِيِّ الَّذِي سَلَكَ فِي اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ Bبِالْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، أَوْ بِغَيْرِهَا الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، لَا نَكَادُ نَلْمِسُ فَرْقًا جَوْهَرِيًّا بَيْنَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَمُسَمَّى الدِّينِ، مَا عَدَا الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ.
مَا يُخْرِجُ الْمَرْءَ عَنِ الْإِسْلَامِ:
14- كُلُّ مَا يَصِيرُ الْكَافِرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ مُسْلِمًا يَكْفُرُ الْمُسْلِمُ بِإِنْكَارِهِ.وَكَذَا كُلُّ مَا يَقْطَعُ الْإِسْلَامَ مِنْ نِيَّةِ كُفْرٍ، أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ، أَوْ فِعْلِ كُفْرٍ، سَوَاءٌ اسْتِهْزَاءً أَمِ اعْتِقَادًا أَمْ عِنَادًا.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ خَصَائِصِ الْكُفَّارِ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ، أَوْ تَرَكَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الْمُسْلِمِينَ يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الدِّينِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِهَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ لَا بِالْفِعْلَيْنِ.
وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَا يُخْرِجُ الرَّجُلَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلاَّ جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، ثُمَّ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ رِدَّةٌ يُحْكَمُ بِهَا، وَمَا يُشَكُّ أَنَّهُ رِدَّةٌ لَا يُحْكَمُ بِهِ، إِذِ الْإِسْلَامُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، مَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا، إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يُمَانِعُهُ فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِإِرَادَةِ مُوجِبِ الْكُفْرِ فَلَا يَنْفَعُ التَّأْوِيلُ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (رِدَّة). مَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا:
15- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ هُنَاكَ طُرُقًا ثَلَاثَةً يُحْكَمُ بِهَا عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ مُسْلِمًا وَهِيَ: النَّصُّ- وَالتَّبَعِيَّةُ- وَالدَّلَالَةُ.
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ صَرِيحًا.وَأَمَّا التَّبَعِيَّةُ فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَ التَّابِعُ حُكْمَ الْمَتْبُوعِ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا يَتَّبِعُ ابْنُ الْكَافِرِ الصَّغِيرِ أَبَاهُ إِذَا أَسْلَمَ مَثَلًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى.
وَأَمَّا طَرِيقُ الدَّلَالَةِ فَهِيَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْفِعْلِ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
أَوَّلًا: الْإِسْلَامُ النَّصُّ:
وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ، وَالْبُرْءُ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ.
16- يَكْفِي كُلَّ الْكِفَايَةِ التَّصْرِيحُ بِالشَّهَادَةِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ، مُدَعَّمًا بِالتَّصْدِيقِ الْبَاطِنِيِّ وَالِاعْتِقَادِ الْقَلْبِيِّ الْجَازِمِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ تَعَالَى، وَالتَّصْرِيحُ كَذَلِكَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ، فَلَيْسَ هُنَاكَ عُنْوَانٌ فِي قُوَّتِهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى التَّحَقُّقِ مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْكَامِلَةِ أَصْرَحُ مِنَ النُّطْقِ بِصِيغَتَيِ الشَّهَادَتَيْنِ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ».
فَالْكَافِرُ الَّذِي أَنَارَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ وَأَشْرَقَتْ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ الْيَقِينِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَعْتَنِقَ الْإِسْلَامَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْقَادِرِ كَالْأَخْرَسِ، وَمِنْ غَيْرِ Bالْمُتَمَكِّنِ كَالْخَائِفِ وَالشَّرِقِ وَمَنْ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ، وَكُلِّ مَنْ قَامَ بِهِ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ النُّطْقَ، فَنُصَدِّقُ عُذْرَهُ إِنْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ.وَلَا لُزُومَ لِأَنْ تَكُونَ صِيغَتُهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ حَتَّى بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا.
وَأَمَّا مَنْ يَرَى اخْتِصَاصَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- بِالْعَرَبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ بِعُمُومِ رِسَالَتِهِ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ أَصَالَةً، أَيْ مَنْ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِوَالِدَيْهِ، وَمَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ طِوَالَ عُمُرِهِ.وَأَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَلَوْ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ.
17- وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ كَافٍ فِي صِحَّةِ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ.
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِكُفْرٍ إِلاَّ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ.إِذَنْ فَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا لِتُقَامَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أُمِّي أَوْصَتْ أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَعِنْدِي جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ نُوبِيَّةٌ أَفَأَعْتِقُهَا؟ قَالَ: اُدْعُهَا، فَدَعَوْتُهَا فَجَاءَتْ فَقَالَ: مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتِ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ».
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا يَكُونُ إِلاَّ مَنِ اعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ دِينَ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا جَازِمًا خَالِيًا مِنَ الشُّكُوكِ وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
18- فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِحْدَاهُمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِلاَّ إِذَا عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ لِخَلَلٍ فِي لِسَانِهِ، أَوْ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لِمُعَاجَلَةِ الْمَنِيَّةِ لَهُ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا، أَمَّا إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَلَا يُشْتَرَطُ مَعَهُمَا أَنْ يَقُولَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ اخْتِصَاصَ رِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- لِلْعَرَبِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إِلاَّ بِأَنْ يُسْتَبْرَأَ.أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَمْ يَقُلْ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ Bوَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالَ: يَكُونُ مُسْلِمًا، وَيُطَالَبُ بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ أَبَى جُعِلَ مُرْتَدًّا، وَيُحْتَجُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».
وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ عَلَى قَوْلِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَاسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى لِارْتِبَاطِهِمَا وَشُهْرَتِهِمَا.
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: سُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنِ الرَّجُلِ كَيْفَ يُسْلِمُ، فَقَالَ: يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِرُّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ الدِّينِ الَّذِي انْتَحَلَهُ.وَفِيهِ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَكَذَا الْيَهُودِيَّةُ وَغَيْرُهَا.
وَأَمَّا مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: دَخَلْتُ دِينَ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَخَلْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ دَلِيلُ إِسْلَامِهِ، فَكَيْفَ إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَأَمَّا تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ فَهُوَ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَنْ يَتَبَرَّأَ مِمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهِ.
أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ
أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ خَمْسَةٌ:
19- جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْكَرِيمَةُ مُجْمَلَةً بِالْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ فِيمَا يَخُصُّ هَذِهِ الْأَرْكَانَ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَأَيْضًا الْحَدِيثُ السَّابِقُ الْمَشْهُورُ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ.
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ:
20- هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَدْخُلُ بِهِ الْمَرْءُ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ تَصْدِيقًا وَاعْتِقَادًا وَنُطْقًا.
وَأَئِمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ الشَّهَادَتَانِ.وَقَدْ كَانَتْ رِسَالَاتُ كُلِّ الرُّسُلِ تَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَالْإِقْرَارُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} فَكَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُ بِهِ Bالْمَرْءُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَتْ آخِرَ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الدُّنْيَا دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»..وَالْإِيمَانُ أَيْضًا بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- هُوَ إِيمَانٌ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا تَتَضَمَّنُهُ رِسَالَتُهُ، وَإِيمَانٌ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَتَصْدِيقٌ بِرِسَالَاتِهِمْ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي هَذَا الرُّكْنِ الرَّكِينِ الَّذِي يَسْبِقُ كُلَّ الْأَرْكَانِ تَتَحَقَّقُ بِهِ بَاقِي الْأَرْكَانِ.
الرُّكْنُ الثَّانِي: إِقَامُ الصَّلَاةِ.
21- الصَّلَاةُ لُغَةً بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَقَدْ أَضَافَ الشَّرْعُ إِلَى الدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَسُمِّيَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الصَّلَاةَ، أَوْ هِيَ مَنْقُولَةٌ مِنَ الصِّلَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَهِيَ بِذَلِكَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَفُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ.
وَوُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
فَمَنْ جَحَدَهَا كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ.
أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا، فَقِيلَ: فَاسِقٌ يُقْتَلُ حَدًّا إِنْ تَمَادَى عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَقِيلَ: مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ مُفَرِّطًا فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ كُفْرًا.وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ، مِنْهَا قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ.
أَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فَمِنْهَا «سُئِلَ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِمَوَاقِيتِهَا» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.ر: (صَلَاةٌ).
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: إِيتَاءُ الزَّكَاةِ.
22- الزَّكَاةُ لُغَةً: النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ.يُقَالُ: زَكَا الشَّيْءُ إِذَا نَمَا وَكَثُرَ، إِمَّا حِسًّا كَالنَّبَاتِ وَالْمَالِ، أَوْ مَعْنًى كَنُمُوِّ الْإِنْسَانِ بِالْفَضَائِلِ وَالصَّلَاحِ.
وَشَرْعًا: إِخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ مَالٍ مَخْصُوصٍ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ، وَسُمِّيَتْ صَدَقَةُ الْمَالِ زَكَاةً، لِأَنَّهَا تَعُودُ بِالْبَرَكَةِ فِي الْمَالِ الَّذِي أُخْرِجَتْ مِنْهُ وَتُنَمِّيهِ.وَرُكْنِيَّتُهَا وَوُجُوبُهَا ثَابِتَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.فَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا مُرْتَدٌّ، لِإِنْكَارِهِ مَا قَامَ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً.
وَمَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا أُخِذَتْ مِنْهُ كَرْهًا، بِأَنْ يُقَاتَلَ وَيُؤَدَّبَ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَنْ أَدَائِهَا.وَقُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي اثْنَيْنِ Bوَثَمَانِينَ آيَةً.وَفُرِضَتْ فِي مَكَّةَ مُطْلَقَةً أَوَّلًا، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ حُدِّدَتِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، وَمِقْدَارُ النِّصَابِ فِي كُلٍّ ر: (زَكَاة).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
15-موسوعة الفقه الكويتية (أنوثة 2)
أُنُوثَةٌ -2هـ- حَقُّ الْعَمَلِ:
14- الْأَصْلُ أَنَّ وَظِيفَةَ الْمَرْأَةِ الْأُولَى هِيَ إِدَارَةُ بَيْتِهَا وَرِعَايَةُ أُسْرَتِهَا وَتَرْبِيَةُ أَبْنَائِهَا وَحُسْنُ تَبَعُّلِهَا، يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا».وَهِيَ غَيْرُ مُطَالَبَةٍ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهَا، فَنَفَقَتُهَا وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهَا أَوْ زَوْجِهَا؛ لِذَلِكَ كَانَ مَجَالُ عَمَلِهَا هُوَ الْبَيْتُ، وَعَمَلُهَا فِي الْبَيْتِ يُسَاوِي عَمَلَ الْمُجَاهِدِينَ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ الْمَرْأَةَ مِنَ الْعَمَلِ فَلَهَا أَنْ تَبِيعَ وَتَشْتَرِيَ، وَأَنْ تُوَكِّلَ غَيْرَهَا، وَيُوَكِّلَهَا غَيْرُهَا، وَأَنْ تُتَاجِرَ بِمَالِهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ مَا دَامَتْ مُرَاعِيَةً أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَآدَابَهُ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَ لَهَا كَشْفُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، قَالَ الْفُقَهَاءُ: لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى إِبْرَازِ الْوَجْهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِلَى إِبْرَازِ الْكَفِّ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ.
وَفِي الِاخْتِيَارِ: لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إِلاَّ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ...لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرُورَةً لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهَا عِنْدَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْأَجَانِبِ؛ لِإِقَامَةِ مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ بِأَسْبَابِ مَعَاشِهَا.
وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى جَوَازِ عَمَلِ الْمَرْأَةِ كَثِيرَةٌ، وَالَّذِي يُمْكِنُ اسْتِخْلَاصُهُ مِنْهَا، أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْحَقَّ فِي الْعَمَلِ بِشَرْطِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِلْخُرُوجِ، إِنِ اسْتَدْعَى عَمَلُهَا الْخُرُوجَ وَكَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْإِذْنِ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا.
جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: إِذَا أَعْسَر الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ وَتَحَقَّقَ الْإِعْسَارُ فَالْأَظْهَرُ إِمْهَالُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَهَا الْفَسْخُ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ، وَلِلزَّوْجَةِ- وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً- الْخُرُوجُ زَمَنَ الْمُهْلَةِ نَهَارًا لِتَحْصِيلِ النَّفَقَةِ بِنَحْوِ كَسْبٍ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي مُقَابِلِ النَّفَقَةِ.
وَفِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ خُيِّرَتِ الزَّوْجَةُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ مَعَ مَنْعِ نَفْسِهَا، فَإِنْ لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا مِنْهُ وَمَكَّنَتْهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَلَا يَمْنَعُهَا تَكَسُّبًا، وَلَا يَحْبِسُهَا مَعَ عُسْرَتِهِ إِذَا لَمْ تَفْسَخْ لِأَنَّهُ إِضْرَارٌ بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْلِكُ حَبْسَهَا إِذَا كَفَاهَا الْمَئُونَةَ وَأَغْنَاهَا عَمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْعَمَلُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ.جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ قَابِلَةً، أَوْ كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى آخَرَ، أَوْ لآِخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ تَخْرُجُ بِالْإِذْنِ وَبِغَيْرِ الْإِذْنِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ سَعْدِي جَلَبِي عَنْ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ.إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا فِي الْفَتْحِ قَالَ: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْخَانِيَّةِ تَقْيِيدُ خُرُوجِهَا بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ.
هَذَا، وَإِذَا كَانَ لَهَا مَالٌ فَلَهَا أَنْ تُتَاجِرَ بِهِ مَعَ غَيْرِهَا، كَأَنْ تُشَارِكَهُ أَوْ تَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً دُونَ إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ.جَاءَ فِي جَوَاهِرِ الْإِكْلِيلِ: قِرَاضُ الزَّوْجَةِ أَيْ دَفْعُهَا مَالًا لِمَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ، فَلَا يَحْجُرُ عَلَيْهَا فِيهِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ مِنَ التِّجَارَةِ.
15- ثُمَّ إِنَّهَا لَوْ عَمِلَتْ مَعَ الزَّوْجِ كَانَ كَسْبُهَا لَهَا.جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ: أَفْتَى الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي زَوْجَيْنِ سَعَيَا وَحَصَّلَا أَمْوَالًا أَنَّهَا لَهُ؛ لِأَنَّهَا مُعِينَةٌ لَهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لَهَا كَسْبٌ عَلَى حِدَةٍ فَلَهَا ذَلِكَ.وَفِي الْفَتَاوَى: امْرَأَةٌ مُعَلَّمَةٌ، يُعِينُهَا الزَّوْجُ أَحْيَانًا فَالْحَاصِلُ لَهَا، وَفِي الْتِقَاطِ السُّنْبُلَةِ إِذَا الْتَقَطَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَنْصَافًا.
كَمَا أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُوَجِّهَ ابْنَتَهُ لِلْعَمَلِ: جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: لِلْأَبِ أَنْ يَدْفَعَ ابْنَتَهُ لِامْرَأَةٍ تُعَلِّمُهَا حِرْفَةً كَتَطْرِيزٍ وَخِيَاطَةٍ.
وَإِذَا عَمِلَتِ الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حُدُودٍ لَا تَتَنَافَى مَعَ مَا يَجِبُ مِنْ صِيَانَةِ الْعِرْضِ وَالْعَفَافِ وَالشَّرَفِ.وَيُمْكِنُ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي:
(1) أَلاَّ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْصِيَةً كَالْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ، وَأَلاَّ يَكُونَ مَعِيبًا مُزْرِيًا تُعَيَّرُ بِهِ أُسْرَتُهَا.جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا آجَرَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِمَا يُعَابُ بِهِ كَانَ لِأَهْلِهَا أَنْ يُخْرِجُوهَا مِنْ تِلْكَ الْإِجَارَةِ، وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ: تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلْ بِثَدْيَيْهَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ- رحمه الله- (فِي امْرَأَةٍ نَائِحَةٍ أَوْ صَاحِبِ طَبْلٍ أَوْ مِزْمَارٍ اكْتَسَبَ مَالًا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ.
(2) أَلاَّ يَكُونَ عَمَلُهَا مِمَّا يَكُونُ فِيهِ خَلْوَةٌ بِأَجْنَبِيٍّ.جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ: كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتِخْدَامَ الْمَرْأَةِ وَالِاخْتِلَاءَ بِهَا؛ لِمَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، أَمَّا الْخَلْوَةُ؛ فَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا» وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَ الْخَلْوَةِ مُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورِ.
(3) أَلاَّ تَخْرُجَ لِعَمَلِهَا مُتَبَرِّجَةً مُتَزَيِّنَةً بِمَا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إِلَى مَا يَكُونُ دَاعِيَةً لِنَظَرِ الرِّجَالِ وَالِاسْتِمَالَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وَفِي الْحَدِيثِ: «الرَّافِلَةُ فِي الزِّينَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا كَمَثَلِ ظُلْمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا نُورَ لَهَا».
ثَالِثًا: الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأُنْثَى:
لِلْأُنْثَى أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِالْعَوْرَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَمِنْهَا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِبَاطِهَا بِزَوْجٍ، وَمِنْهَا الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالْعِبَادَاتِ أَوِ الْوِلَايَاتِ أَوِ الْجِنَايَاتِ..وَهَكَذَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
بَوْلُ الْأُنْثَى الرَّضِيعَةِ الَّتِي لَمْ تَأْكُلِ الطَّعَامَ:
16- يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي إِزَالَةِ نَجَاسَةِ بَوْلِ الْأُنْثَى الرَّضِيعَةِ الَّتِي لَمْ تَأْكُلِ الطَّعَامَ عَنْ بَوْلِ الذَّكَرِ الرَّضِيعِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمْ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ نَضْحُهُ بِالْمَاءِ (أَيْ أَنْ يَرُشَّهُ بِالْمَاءِ) وَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي إِزَالَةِ بَوْلِ الْأُنْثَى، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ «أُمِّ قَيْسِ بْنِ مُحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى، وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ».
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فَيُغْسَلُ مَا أَصَابَهُ بَوْلُ كُلٍّ مِنَ الصَّبِيِّ أَوِ الصَّيِّبَةِ لِنَجَاسَتِهِ؛ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ».
الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْضٍ وَحَمْلٍ:
17- مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِنْسَانَ عَلَيْهَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ يَمِيلُ إِلَى الْآخَرِ، وَجَعَلَ الِاتِّصَالَ الشَّرْعِيَّ بَيْنَهُمَا وَسِيلَةً لِامْتِدَادِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ بِالتَّنَاسُلِ وَالتَّوَالُدِ.
وَاخْتَصَّ الْأُنْثَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحِيضُ وَتَحْمِلُ وَتَلِدُ وَتُرْضِعُ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بَعْضُ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ نُوجِزُهَا فِيمَا يَلِي:
(1) يُعْتَبَرُ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ مِنْ عَلَامَاتِ بُلُوغِ الْأُنْثَى.
(2) التَّخْفِيفُ عَنْهَا فِي الْعِبَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَتَسْقُطُ عَنْهَا الصَّلَاةُ أَثْنَاءَ الْحَيْضِ دُونَ قَضَاءٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْإِفْطَارُ مَعَ الْقَضَاءِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ، وَجَوَازُ الْإِفْطَارِ أَثْنَاءَ الْحَمْلِ أَوِ الرَّضَاعَةِ، إِنْ كَانَ الصِّيَامُ يَضُرُّ بِهَا أَوْ بِوَلَدِهَا.
(3) وَالِاعْتِبَارُ بِالْحَيْضِ وَبِالْحَمْلِ فِي احْتِسَابِ الْعِدَّةِ.
(4) وَالِامْتِنَاعُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَعَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَعَنْ تَمْكِينِ زَوْجِهَا مِنْهَا أَثْنَاءَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
(5) وَوُجُوبُ الْغُسْلِ عِنْدَ انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (حَيْضٍ، حَمْلٍ، نِفَاسٍ، رَضَاعٍ). لَبَنُ الْأُنْثَى:
18- لَا يَخْتَلِفُ لَبَنُ الْأُنْثَى بِالنِّسْبَةِ لِطَهَارَتِهِ عَنْ لَبَنِ الذَّكَرِ- لَوْ كَانَ لَهُ لَبَنٌ- فَلَبَنُ الْأُنْثَى طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ.وَلَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي أَنَّ لَبَنَ الْأُنْثَى يَتَعَلَّقُ بِهِ مَحْرَمِيَّةُ الرَّضَاعِ.
أَمَّا الرَّجُلُ فَلَوْ كَانَ لَهُ لَبَنٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ (الرَّضَاعُ، وَالنِّكَاحُ).
خِصَالُ الْفِطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُنْثَى:
19- تَخْتَصُّ الْمَرْأَةُ مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ بِأَنَّهُ يُسَنُّ لَهَا إِزَالَةُ لِحْيَتِهَا لَوْ نَبَتَتْ.وَالسُّنَّةُ فِي عَانَتِهَا النَّتْفُ.وَلَا يَجِبُ خِتَانُهَا فِي وَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَكْرُمَةٌ.وَتُمْنَعُ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهَا.
عَوْرَةُ الْأُنْثَى:
20- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ بَدَنَ الْأُنْثَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ كُلَّهُ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَجْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هُمَا عَوْرَةٌ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْكَفَّيْنِ، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُمَا عَوْرَةٌ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، وَاعْتَمَدَهُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ.
وَأَمَّا الْقَدَمَانِ فَهُمَا عَوْرَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ غَيْرَ الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ، وَهُوَ رَأْيُ الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٍ).
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ بَدَنَ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ» وَقَوْلُهُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ» وَالْمُرَادُ بِالْحَائِضِ الْبَالِغَةُ.
انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الْأُنْثَى:
21- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الرَّجُلِ لِلْأُنْثَى الْمُشْتَهَاةِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُنْتَقَضُ بِاللَّمْسِ؛ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِاللَّمْسِ إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا حِينَ اللَّمْسِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ- رحمه الله-، وَهُوَ أَنَّ لَمْسَ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إِنْ كَانَ اللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ.وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالشَّعْبِيِّ.
وَالْقُبْلَةُ بِالْفَمِ تَنْقُضُ مُطْلَقًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَيْ دُونَ تَقْيِيدٍ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وُجْدَانِهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ لِوَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ فَلَا تَنْقُضُ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ اللَّمْسَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِعُمُومِ قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}.
وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الْأُنْثَى الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيهِ الْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ.وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ كَذَلِكَ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ عَلَى الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.يُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (وُضُوءٍ).
حُكْمُ دُخُولِ الْمَرْأَةِ الْحَمَّامَاتِ الْعَامَّةِ.
22- يَنْبَنِي حُكْمُ دُخُولِ النِّسَاءِ الْحَمَّامَاتِ الْعَامَّةِ عَلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَسِتْرِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَوْرَةُ مَسْتُورَةً، وَلَا تَرَى وَاحِدَةٌ عَوْرَةَ الْأُخْرَى فَالدُّخُولُ جَائِزٌ، وَإِلاَّ كَانَ الدُّخُولُ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ.وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيلَ: يُكْرَهُ.وَقِيلَ: يَحْرُمُ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ الْحَنَابِلَةُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا حَمَّامَاتٍ، فَامْنَعُوا نِسَاءَكُمْ إِلاَّ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ».وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا دُخُولُ الْحَمَّامِ لِعُذْرٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ.
الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَظَاهِرِ الْأُنُوثَةِ:
23- يَعْتَنِي الْإِسْلَامُ بِجَعْلِ الْأُنْثَى تُحَافِظُ عَلَى مَظَاهِرِ أُنُوثَتِهَا، فَحَرَّمَ عَلَيْهَا التَّشَبُّهَ بِالرِّجَالِ فِي أَيِّ مَظْهَرٍ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ أَيِّ تَصَرُّفٍ.وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ.وَفِي الطَّبَرَانِيِّ «أَنَّ امْرَأَةً مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُتَقَلِّدَةً قَوْسًا، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ».
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ: تَرَجُّلَ الْمَرْأَةِ وَتَخَنُّثَ الرَّجُلِ.
وَقَدْ أَبَاحَ لَهَا الْإِسْلَامُ أَنْ تَتَّخِذَ مِنْ وَسَائِلِ الزِّينَةِ مَا يَكْفُلُ لَهَا الْمُحَافَظَةَ عَلَى أُنُوثَتِهَا، فَيَحِلُّ ثَقْبُ أُذُنِهَا لِتَعْلِيقِ الْقُرْطِ فِيهِ.يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: لَا بَأْسَ بِثَقْبِ آذَانِ النِّسْوَانِ، وَلَا بَأْسَ بِثَقْبِ آذَانِ الْأَطْفَالِ مِنَ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْأُنْثَى مُحْتَاجَةٌ لِلْحِلْيَةِ فَثَقْبُ الْأُذُنِ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّهَا.
وَيُبَاحُ لَهَا التَّزَيُّنُ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ دُونَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «حَرَامٌ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلّ لِإِنَاثِهِمْ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أُبِيحَ التَّحَلِّي فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِحَاجَتِهَا إِلَى التَّزَيُّنِ لِلزَّوْجِ وَالتَّجَمُّلِ عِنْدَهُ.كَذَلِكَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْضِبَ يَدَيْهَا، وَأَنْ تُعَلِّقَ الْخَرَزَ فِي شَعْرِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الزِّينَةِ.
وُجُوبُ التَّسَتُّرِ وَعَدَمُ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ الْأَجَانِبِ:
24- إِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ لِحَاجَتِهَا لَا تَخْرُجُ إِلاَّ مُتَسَتِّرَةً.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ، وَعَدَمِ تَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إِلَى مَا يَكُونُ دَاعِيَةً لِنَظَرِ الرِّجَالِ وَالِاسْتِمَالَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}.
قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَالِ، فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ.وَقَالَ قَتَادَةَ: كَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَةُ تَكَسُّرٍ وَتَغَنُّجٍ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثِّيَابُ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا أَمَامَ النَّاسِ مِمَّا يَظْهَرُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهَا الْوَاجِبِ سِتْرُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَبَانَ جَسَدُهَا كَانَتْ كَاسِيَةً عَارِيَّةً حَقِيقَةً.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: «سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ، الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ».
وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: لَا يَلْبَسُ النِّسَاءُ مِنَ الرَّقِيقِ مَا يَصِفُهُنَّ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَالْخُرُوجُ لَيْسَ بِقَيْدٍ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ لُبْسُ مَا يُرَى مِنْهُ جَسَدُهَا بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ.
وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْتِيَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يُلْفِتُ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِافْتِتَانُ بِهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَتْ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ، وَفِي رِجْلِهَا خَلْخَالٌ صَامِتٌ لَا يُعْلَمُ صَوْتُهُ، ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا الْأَرْضَ فَيَسْمَعُ الرِّجَالُ طَنِينَهُ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُؤْمِنَاتِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ زِينَتِهَا مَسْتُورًا، فَتَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ لِتُظْهِرَ مَا هُوَ خَفِيٌّ دَخَلَ فِي هَذَا النَّهْيِ لقوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ}.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تُنْهَى عَنِ التَّعَطُّرِ وَالتَّطَيُّبِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا فَيَشُمُّ الرِّجَالُ طِيبَهَا، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ فَهِيَ كَذَا وَكَذَا» يَعْنِي زَانِيَةً.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُنَّ يُنْهَيْنَ عَنِ الْمَشْيِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ؛ لِمَا رَوَى حَمْزَةُ بْنُ أَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَدِ اخْتَلَطَ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلنِّسَاءِ: اسْتَأْخِرْنَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ».
وَلَا تَجُوزُ خَلْوَةُ الْمَرْأَةِ بِالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ فِي عَمَلٍ، وَالْمُرَادُ بِالْخَلْوَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ فِي مَكَانٍ يَأْمَنَانِ فِيهِ مِنْ دُخُولِ ثَالِثٍ. (ر: خَلْوَةٌ).
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ امْرَأَةً حُرَّةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا».وَيُمْنَعُ الِاخْتِلَاطُ الْمُرِيبُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِلَاطٌ).
الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخُصُّ النِّسَاءَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَةِ:
25- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي أَهْلِيَّةِ الْعِبَادَةِ.
إِلاَّ أَنَّهُ نَظَرًا لِكَوْنِهَا مَأْمُورَةً بِالتَّسَتُّرِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ الْمُرِيبِ بِالرِّجَالِ الْأَجَانِبِ فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ فِي عِبَادَاتِهَا.وَمِنْ ذَلِكَ:
(1) الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ: فَالْأَصْلُ أَنَّهَا لَا تُؤَذِّنُ وَلَا تُقِيمُ (ر: أَذَانٌ.إِقَامَةٌ).
(2) وَلَا تَؤُمُّ الرِّجَالَ، بَلْ يُكْرَهُ لَهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ أَنْ تَؤُمَّ النِّسَاءَ. (ر: إِمَامَةٌ).
(3) وَمِنْهَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ بِإِمَامَةِ إِحْدَاهُنَّ، فَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ لَهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَالِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِنَدْبِهَا لَهُنَّ، وَلَوْ لَمْ يَؤُمَّهُنَّ رِجَالٌ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ).
(4) وَمِنْهَا حُضُورُ الْمَرْأَةِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَالِ: فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ حُضُورُ الْمَرْأَةِ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَا حُضُورُهَا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ.وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ (صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ.صَلَاةَ الْجُمُعَةِ.صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ).
هـ- هَيْئَتُهَا فِي الصَّلَاةِ:
26- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي عَمَلِ الْعِبَادَاتِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْهَيْئَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ كَمَا يَأْتِي:
يُسْتَحَبُّ أَنْ تَجْمَعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي الرُّكُوعِ، فَتَضُمَّ مِرْفَقَيْهَا إِلَى الْجَنْبَيْنِ وَلَا تُجَافِيهِمَا، وَتَنْحَنِيَ قَلِيلًا فِي رُكُوعِهَا، وَلَا تَعْتَمِدَ، وَلَا تُفَرِّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهَا، بَلْ تَضُمُّهَا، وَتَضَعُ يَدَيْهَا عَلَى رُكْبَتَيْهَا، وَتَحْنِي رُكْبَتَهَا، وَتُلْصِقُ مِرْفَقَيْهَا بِرُكْبَتَيْهَا.
وَفِي سُجُودِهَا تَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهَا، وَتَنْضَمُّ وَتَلْزَقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتُرُ لَهَا، فَلَا يُسَنُّ لَهَا التَّجَافِي كَالرِّجَالِ؛ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى امْرَأَتَيْنِ تُصَلِّيَانِ، فَقَالَ: إِذَا سَجَدْتُمَا فَضُمَّا بَعْضَ اللَّحْمِ إِلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلِ».
وَلِأَنَّهَا عَوْرَةٌ فَالْأَلْيَقُ بِهَا الِانْضِمَامُ.كَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُكَثِّفَ جِلْبَابَهَا وَتُجَافِيَهُ رَاكِعَةً وَسَاجِدَةً، لِئَلاَّ تَصِفَهَا ثِيَابُهَا، وَأَنْ تَخْفِضَ صَوْتَهَا، وَتَجْلِسَ مُتَرَبِّعَةً؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ أَنْ يَتَرَبَّعْنَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تَسْدُلَ رِجْلَيْهَا عَنْ يَمِينِهَا، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّرَبُّعِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ فِعْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- وَأَشْبَهُ بِجِلْسَةِ الرَّجُلِ، وَهُوَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ.
كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ عَقِبَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الرِّجَالِ، حَتَّى لَا يَخْتَلِطْنَ بِالرِّجَالِ.
فَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَهُوَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ.قَالَتْ: نَرَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالُ».
و- الْحَجُّ:
27- مَا يَتَّصِلُ بِفَرْضِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: بِالنِّسْبَةِ لِلْوُجُوبِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي:
مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ- بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَغَيْرِهِمَا- مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ مُطْلَقًا، وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ؛ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ؛ لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجٌ وَلَا مَحْرَمٌ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا، إِذِ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ، إِلاَّ مَا ذُبَّ عَنْهُ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (حَجٌّ).
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ، أَمَّا النَّفَلُ فَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ لَهُ دُونَ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ.
الثَّانِي: بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الْأَعْمَالِ فَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، إِلاَّ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَمِنْ ذَلِكَ:
- أَنَّهَا تَلْبَسُ الْمَخِيطَ كَالْقَمِيصِ وَالْقَبَاءِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ وَمَا هُوَ أَسْتَرُ لَهَا؛ لِأَنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ، وَلَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ (ر: إِحْرَامٌ).
- وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ رَمَلٌ فِي طَوَافِهَا، وَلَا إِسْرَاعٌ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ فِي السَّعْيِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا اضْطِبَاعٌ أَيْضًا.
وَالْمَشْرُوعُ لِلْمَرْأَةِ التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ. (ر: حَجٌّ).
- وَلَا تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا تُسْمِعُ رَفِيقَتَهَا. (ر: حَجٌّ.تَلْبِيَةٌ).
ز- الْخُرُوجُ مِنَ الْمَنْزِلِ:
28- إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُتَزَوِّجَةً فَإِنَّهَا تَرْتَبِطُ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الْمَنْزِلِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا.وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: «رَأَيْتُ امْرَأَةً أَتَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ؟ قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَهَا اللَّهُ وَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْغَضَبِ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَرْجِعَ»؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ وَاجِبٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَخُرُوجُ الزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا يَجْعَلُهَا نَاشِزًا، وَيُسْقِطُ حَقَّهَا فِي النَّفَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ زِيَارَةِ أَبَوَيْهَا وَعِيَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الزِّيَارَةِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوقِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ.
كَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَدُرُوسِ الْوَعْظِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا». لَكِنْ هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا أَمِنَ عَلَيْهَا، وَكَانَ لَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ مِنْ خُرُوجِهَا، فَإِنْ كَانَ يَخْشَى الْفِتْنَةَ فَلَهُ مَنْعُهَا.وَكَرِهَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجَهَا وَلَوْ عَجُوزًا لِفَسَادِ الزَّمَانِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
ح- التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَاتِ:
29- الزَّوْجَةُ مُرْتَبِطَةٌ كَذَلِكَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ فِي التَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَاتِ، فَلَا يَجُوزُ لَهَا إِذَا كَانَ زَوْجُهَا حَاضِرًا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوِ اعْتِكَافٍ بِدُونِ إِذْنِهِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَشْغَلُهَا عَنْ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَرْضٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِنَفْلٍ؛ وَلِأَنَّ لَهُ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ أَثْنَاءَ الصَّوْمِ أَوِ الْحَجِّ أَوِ الِاعْتِكَافِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ أَيْ حَاضِرٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ».رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَإِنْ تَطَوَّعَتْ بِصَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوِ اعْتِكَافٍ دُونَ إِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَهَا فِي الصَّوْمِ، وَيُحَلِّلَهَا مِنَ الْحَجِّ، وَيُخْرِجَهَا مِنَ الِاعْتِكَافِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ غَيْرِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَانَ لِرَبِّ الْحَقِّ الْمَنْعُ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ الصَّوْمَ الرَّاتِبَ كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ، فَلَا يَمْنَعْهَا مِنْهُ لِتَأَكُّدِهِ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ لِقِصَرِ زَمَنِهِ.
وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ أَوِ اعْتِكَافٍ أَوْ حَجٍّ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الصَّوْمِ أَوِ الِاعْتِكَافِ وَلَوْ كَانَتْ شُرِعَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ (فِي الِاعْتِكَافِ، ثُمَّ مَنَعَهُنَّ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلْنَ فِيهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِيَ لَهَا.قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَى بِنَائِهِ، فَأَبْصَرَ الْأَبْنِيَةَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: بِنَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: آلْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا؟ مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ».
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهَا فَقَدْ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مَا لَمْ تَشْرَعْ فِي الْعِبَادَةِ، فَإِنْ شَرَعَتْ فَلَا يَمْنَعْهَا.
وَمَا أَوْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا بِنَذْرٍ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانٍ مُبْهَمٍ، فَلَهُ الْمَنْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا دَخَلَتْ فِيهِ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
16-موسوعة الفقه الكويتية (تترس)
تَتَرُّسٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّتَرُّسُ فِي اللُّغَةِ: التَّسَتُّرُ بِالتُّرْسِ، وَالِاحْتِمَاءُ بِهِ وَالتَّوَقِّي بِهِ.وَكَذَلِكَ التَّتْرِيسُ، يُقَالُ: تَتَرَّسَ بِالتُّرْسِ، أَيْ تَوَقَّى وَتَسَتَّرَ بِهِ.
كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِتُرْسٍ وَاحِدٍ» وَيُقَالُ أَيْضًا: تَتَرَّسَ بِالشَّيْءِ جَعَلَهُ كَالتُّرْسِ وَتَسَتَّرَ بِهِ، وَمِنْهُ: تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِأَسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَصِبْيَانِهِمْ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ.
وَلَا يَخْرُجُ الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحَصُّنُ:
2- مِنْ مَعَانِي التَّحَصُّنِ: الِاحْتِمَاءُ بِالْحِصْنِ، يُقَالُ: تَحَصَّنَ الْعَدُوُّ: إِذَا دَخَلَ الْحِصْنَ وَاحْتَمَى بِهِ، فَالتَّحَصُّنُ نَوْعٌ مِنَ التَّسَتُّرِ وَالتَّوَقِّي أَثْنَاءَ الْحَرْبِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ رَمْيُ الْكُفَّارِ إِذَا تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَأَسَارَاهُمْ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ أَوْ حِصَارِهِمْ مِنْ قِبَلِ الْمُسْلِمِينَ، إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ فِي الْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمُ انْهِزَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْخَوْفُ عَلَى اسْتِئْصَالِ قَاعِدَةِ الْإِسْلَامِ.وَيُقْصَدُ بِالرَّمْيِ الْكُفَّارُ.
وَلَكِنْ إِذَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إِلَى رَمْيِهِمْ لِكَوْنِ الْحَرْبِ غَيْرَ قَائِمَةٍ، أَوْ لِإِمْكَانِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ بِدُونِهِ، فَلَا يَجُوزُ رَمْيُهُمْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- مَا عَدَا الْحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ- لِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالدَّفْعِ عَنْ مُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِ، إِلاَّ أَنَّهُ عَلَى الرَّامِي أَلاَّ يَقْصِدَ بِالرَّمْيِ إِلاَّ الْكُفَّارَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ، وَلَا يَقْصِدُونَ الْمُتَتَرَّسَ بِهِمْ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي عَدَمِ رَمْيِ الْمُتَتَرَّسِ بِهِمْ خَوْفٌ عَلَى أَكْثَرِ الْجَيْشِ الْمُقَاتِلِينَ لِلْكُفَّارِ، فَتَسْقُطُ حُرْمَةُ التُّرْسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَتَرَّسِ بِهِمْ أَكْثَرَ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ أَمْ أَقَلَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَتَرَّسُوا بِالصَّفِّ، وَكَانَ فِي تَرْكِ قِتَالِهِمُ انْهِزَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَتِيجَةَ الرَّمْيِ وَقُتِلَ، وَعُلِمَ الْقَاتِلُ، فَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ، وَالْغَرَامَاتُ لَا تُقْرَنُ بِالْفَرَائِضِ، خِلَافًا لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ قَوْلًا وَاحِدًا.أَمَّا الدِّيَةُ فَفِيهَا عَنْهُمْ قَوْلَانِ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ عَلِمَهُ الرَّامِي مُسْلِمًا، وَكَانَ يُمْكِنُ تَوَقِّيهِ وَالرَّمْيُ إِلَى غَيْرِهِ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ رَمْيُ الْكُفَّارِ إِلاَّ بِرَمْيِ الْمُسْلِمِ فَلَا.
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّهُ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَا دِيَةَ لِأَنَّهُ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِرَمْيٍ مُبَاحٍ.
4- وَإِنْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَيَجُوزُ رَمْيُهُمْ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَيَقْصِدُ بِالرَّمْيِ الْمُقَاتِلِينَ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَمَعَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ».وَلَا فَرْقَ فِي جَوَازِ الرَّمْيِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ مُلْتَحِمَةً وَمَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُلْتَحِمَةٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يَتَحَيَّنُ بِالرَّمْيِ حَالَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَمْيُهُمْ، إِلاَّ إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ وَيُتْرَكُونَ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَيَكُونُ تَرْكُ الْقِتَالِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ وَاجِبًا فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا جَاءَ فِي الرَّوْضَةِ وَهُوَ: جَوَازُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّتَرُّسِ فِي بَابِ الْجِهَادِ: عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ، وَبَيَانِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ فِي الْغَزْوِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
17-موسوعة الفقه الكويتية (تردي)
تَرَدِّيالتَّعْرِيفُ:
1- لِلتَّرَدِّي فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، مِنْهَا: السُّقُوطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ يُقَالُ: تَرَدَّى فِي مُهْوَاةٍ: إِذَا سَقَطَ فِيهَا، وَرَدَيْتُهُ تَرْدِيَةً: أَسْقَطْتُهُ وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَدْ عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: السُّقُوطُ مِنْ عَالٍ إِلَى سَافِلٍ.
وَمِنْهُ الْمُتَرَدِّيَةُ: وَهِيَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ أَوْ مِنْ جَبَلٍ.
وَفِي النَّظْمِ الْمُسْتَعْذَبِ: هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنَ الْجَبَلِ فَتَسْقُطُ.
وَفِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: هِيَ الْوَاقِعَةُ مِنْ عُلُوٍّ كَجَبَلٍ وَحَائِطٍ، وَسَاقِطَةٌ فِي نَحْوِ بِئْرٍ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} فَقَدْ حَرَّمَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعًا مِنْهَا: الْمُتَرَدِّيَةُ إِلاَّ إِذَا ذُكِّيَتْ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً، اخْتِيَارِيَّةً كَانَتْ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ فِي مَحَلِّهِ.أَوِ اضْطِرَارِيَّةً بِالْجُرْحِ بِالطَّعْنِ وَإِنْهَارِ الدَّمِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَيَسَّرَ مِنَ الْبَدَنِ.وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الثَّانِيَةِ إِلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْأُولَى.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الذَّكَاةَ: إِمَّا اخْتِيَارِيَّةٌ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ بِالذَّبْحِ فِيمَا يُذْبَحُ، كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، أَوِ النَّحْرِ فِيمَا يُنْحَرُ كَالْإِبِلِ، وَلَا تَحِلُّ بِغَيْرِ الذَّكَاةِ فِي مَحَلِّهَا.وَإِمَّا اضْطِرَارِيَّةٌ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، كَالْحَيَوَانِ الْمُتَوَحِّشِ الشَّارِدِ وَالْمُتَرَدِّي فِي بِئْرٍ مَثَلًا، وَتَعَذَّرَتْ ذَكَاتُهُ فِي مَحَلِّهَا، وَهِيَ- أَيِ الِاضْطِرَارِيَّةُ- تَكُونُ بِالْعُقْرِ، وَهُوَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنَ الْبَدَنِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الشَّاةَ إِذَا نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ، فَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ عَقْرِهَا، حَيْثُ يُمْكِنُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا وَإِمْسَاكُهَا.
3- فَمَا تَرَدَّى مِنَ النَّعَمِ فِي بِئْرٍ مَثَلًا، وَوَقَعَ الْعَجْزُ عَنْ تَذْكِيَتِهِ الذَّكَاةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ، فَذَكَاتُهُ الْعَقْرُ وَالْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ جِسْمِهِ تَيَسَّرَ لِلْعَاقِرِ فِعْلُهُ، كَالنَّادِّ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ.وَبِذَلِكَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ، فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُعِينُ عَلَى قَتْلِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ بِالْمَاءِ- فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) - لِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَنَدَّ بَعِيرٌ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا»، وَفِي لَفْظٍ «فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا».وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلاَّ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: لَوْ طُعِنَتْ فِي فَخِذِهَا لأَجْزَأَكَ» قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا لَا يَصِحُّ إِلاَّ فِي الْمُتَرَدِّيَةِ وَالْمُتَوَحِّشِ.وَقَالَ الْمَجْدُ: هَذَا فِيمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- سِوَى ابْنِ حَبِيبٍ- أَنَّ الْمُتَرَدِّيَةَ لَا يُحِلُّهَا الْعَقْرُ، وَإِنَّمَا تُحِلُّهَا الذَّكَاةُ بِالذَّبْحِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُذْبَحُ، أَوِ النَّحْرِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُنْحَرُ.
4- وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ فَيَحْرُمُ؛ لِاحْتِمَالِ قَتْلِهِ بِالْمَاءِ، أَوْ وَقَعَ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ فَتَرَدَّى مِنْهُ إِلَى الْأَرْضِ حَرُمَ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ مِثْلِ هَذَا مُمْكِنٌ.
5- وَفِي الْمُغْنِي وَمَطَالِبِ أُولِي النُّهَى لِلْحَنَابِلَةِ: لَوْ رَمَى حَيَوَانًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ يَقْتُلُهُ مِثْلُهُ، أَوْ تَرَدَّى تَرَدِّيًا يَقْتُلُهُ مِثْلُهُ لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَاءَ أَعَانَ عَلَى خُرُوجِ رُوحِهِ.أَمَّا لَوْ وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِي الْمَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْتُلُهُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ خَارِجًا مِنَ الْمَاءِ، أَوْ يَكُونَ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَقْتُلُهُ الْمَاءُ، أَوْ كَانَ التَّرَدِّي لَا يَقْتُلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ فَلَا خِلَافَ فِي إِبَاحَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «...فَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ»
وَلِأَنَّ الْوُقُوعَ فِي الْمَاءِ وَالتَّرَدِّي إِنَّمَا حَرُمَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا أَوْ مُعِينًا عَلَى الْقَتْلِ.فَإِنْ رَمَى طَائِرًا فِي الْهَوَاءِ أَوْ عَلَى شَجَرَةٍ أَوْ جَبَلٍ فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ حَلَّ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
6- وَلَوْ تَرَدَّى بَعِيرَانِ- مَثَلًا- أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ فِي نَحْوِ بِئْرٍ.فَإِنْ مَاتَ الْأَسْفَلُ بِثِقَلِ الْأَعْلَى مَثَلًا لَمْ يَحُلَّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ طَعَنَ الْأَعْلَى بِنَحْوِ سَهْمٍ أَوْ رُمْحٍ، فَوَصَلَ إِلَى الْأَسْفَلِ وَأَثَّرَ فِيهِ يَقِينًا، فَهُمَا حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِالْأَسْفَلِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
18-موسوعة الفقه الكويتية (جزية 3)
جِزْيَةٌ -336- وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ أَمْ يَكْفِي عَقْدُ أَبِيهِ
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ إلَى أَنَّهُ يَكْفِي عَقْدُ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ يَتَنَاوَلُ الْبَالِغِينَ وَمَنْ سَيَبْلُغُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَلَمْ يُفْرِدُوا كُلَّ مَنْ بَلَغَ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْعَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ يُرَدَّ إِلَى مَأْمَنِهِ، فَإِنِ اخْتَارَ الذِّمَّةَ عُقِدَتْ لَهُ، وَإِنِ اخْتَارَ اللَّحَاقَ لِمَأْمَنِهِ أُجِيبَ إِلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ الْبُلُوغُ فِي أَوَّلِ حَوْلِ قَوْمِهِ وَأَهْلِهِ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فِي آخِرِهِ مَعَهُمْ، وَإِذَا كَانَتْ فِي أَثْنَائِهِ أُخِذَ مِنْهُ فِي آخِرِهِ بِقِسْطِهِ.
ثَانِيًا: الْعَقْلُ:
37- نَقَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ مَجَانِينِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا إجْمَاعٌ، لَكِنَّ ابْنَ رُشْدٍ ذَكَرَ خِلَافًا فِي الْمَجْنُونِ، وَذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ نَقْلًا عَنِ الْبَيَانِ وَجْهًا ضَعِيفًا لِلشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُ كَالْمَرِيضِ وَالْهَرِمِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
ثَالِثًا: الذُّكُورَةُ:
38- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُضْرَبُ عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ.
رَابِعًا: الْحُرِّيَّةُ:
39- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مَمْلُوكًا لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ.وَقَدْ نَقَلَ هَذَا الِاتِّفَاقَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ رُشْدٍ.
لِأَنَّ الْجِزْيَةَ شُرِعَتْ بَدَلًا عَنِ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ، وَعَنِ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا، وَالْعَبْدُ مَحْقُونُ الدَّمِ بِدُونِ دَفْعِ الْجِزْيَةِ.وَالْعَبْدُ أَيْضًا لَا تَلْزَمُهُ النُّصْرَةُ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهَا، فَإِذَا امْتَنَعَ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ امْتَنَعَ الْبَدَلُ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا لِسَيِّدٍ كَافِرٍ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ سَيِّدِهِ الْكَافِرِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَا تَشْتَرُوا رَقِيقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ خَرَاجٍ يَبِيعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُقِرَّنَّ أَحَدُكُمْ بِالصَّغَارِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: أَرَادَ أَنْ يُوَفِّرَ الْجِزْيَةَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا اشْتَرَاهُ سَقَطَ عَنْهُ أَدَاءُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَالذِّمِّيُّ يُؤَدِّي عَنْهُ وَعَنْ مَمْلُوكِهِ خَرَاجَ جَمَاجِمِهِمْ.
وَلِأَنَّ الْعَبْدَ ذَكَرٌ مُكَلَّفٌ قَوِيٌّ مُكْتَسِبٌ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ كَالْحُرِّ.
خَامِسًا: الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ:
40- اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِوُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْعَاجِزِ عَنِ الْعَمَلِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ.وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ لَهُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًاإلاَّ وُسْعَهَا} وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنِ الْكَسْبِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَدْفَعَ الْجِزْيَةَ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يُكَلَّفُ بِهَا.وَقَدْ وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُكْتَسِبِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا.
فَقَدْ فَرَضَهَا عُمَرُ- رضي الله عنه- عَلَى طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ أَدْنَاهَا الْفَقِيرُ الْمُعْتَمِلُ، فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ.وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ ((، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَهُوَ إِجْمَاعٌ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْجِزْيَةَ مَالٌ يَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ، فَلَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنِ الْكَسْبِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ.
وَأَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْأَدَاءِ مَعْذُورٌ شَرْعًا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْعِبَادِ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةُ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فَفِي الْجِزْيَةِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ، كَمَا تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، إِلاَّ أَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَمِلِ تَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ، فَإِذَا أَيْسَرَ طُولِبَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَةٍ.وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَعُمُومِ حَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ: «أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا».
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلٌ عَنِ الْقَتْلِ، وَالسُّكْنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُفَارِقِ الْمَعْذُورُ فِيهَا غَيْرَهُ، فَتُؤْخَذُ مِنَ الْفَقِيرِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيِّ.
سَادِسًا: أَلَا يَكُونَ مِنَ الرُّهْبَانِ الْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فِي الصَّوَامِعِ:
41- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرُّهْبَانَ الْمُخَالِطِينَ لِلنَّاسِ، وَالْمُشَارِكِينَ لَهُمْ فِي الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ وَالْمَكَايِدِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَهُمْ أَوْلَى بِهَا مِنْ عَوَامِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ رُءُوسُ الْكُفْرِ، وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ عُلَمَائِهِمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ انْقَطَعُوا لِلْعِبَادَةِ فِي الصَّوَامِعِ، وَلَمْ يُخَالِطُوا النَّاسَ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُفْرَضُ عَلَيْهِمْ.وَسَوَاءٌ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ أَمْ غَيْرَ قَادِرِينَ؛ لِأَنَّ الرُّهْبَانَ لَا يُقْتَلُونَ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ، لِمَا جَاءَ فِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ وَجَّهَهُ إِلَى الشَّامِ: لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا وَلَا امْرَأَةً وَسَتَمُرُّونَ عَلَى أَقْوَامٍ فِي الصَّوَامِعِ احْتَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، فَدَعْهُمْ حَتَّى يُمِيتَهُمُ اللَّهُ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ.
فَإِذَا كَانَ الرَّاهِبُ لَا يُقْتَلُ فَهُوَ مَحْقُونُ الدَّمِ بِدُونِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَالْجِزْيَةُ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، كَمَا لَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ؛ وَلِأَنَّ الرَّاهِبَ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تُرِكَ لَهُ مِنَ الْمَالِ الْيَسِيرُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ نَقَلَهَا عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ إِذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ.قَالَ أَبُو يُوسُفَ: «الْمُتَرَهِّبُونَ الَّذِينَ فِي الدِّيَارَاتِ إِذَا كَانَ لَهُمْ يَسَارٌ أُخِذَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا هُمْ مَسَاكِينُ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْيَسَارِ مِنْهُمْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الصَّوَامِعِ إِنْ كَانَ لَهُمْ غِنًى وَيَسَارٌ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ صَيَّرُوا مَا كَانَ لَهُمْ لِمَنْ يُنْفِقُهُ عَلَى الدِّيَارَاتِ وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْمُتَرَهِّبِينَ وَالْقُوَّامِ أُخِذَتِ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ».
وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَيَّدَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنَ الرُّهْبَانِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ- أَنَّ الْمُعْتَمِلَ إِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، فَكَذَلِكَ الرَّاهِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ الصَّالِحَةَ لِلزِّرَاعَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا الْخَرَاجُ بِتَعْطِيلِ الْمَالِكِ لَهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ، فَكَذَلِكَ الرَّاهِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ إِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ.
هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ عَلَى عَدَمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الرَّاهِبِ، فَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا أَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَحَمَلُوهَا عَلَى الرَّاهِبِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ الَّذِي يَعِيشُ عَلَى صَدَقَاتِ الْمُوسِرِينَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْمَعْمُولِ بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ لِلْعِبَادَةِ فِي الْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ، سَوَاءٌ أَكَانُوا مُوسِرِينَ أَوْ غَيْرَ مُوسِرِينَ، قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ أَمْ غَيْرَ قَادِرِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَهُوَ يَشْمَلُ الرُّهْبَانَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ وَغَيْرَ الْقَادِرِينَ، الْمُوسِرِينَ وَغَيْرَ الْمُوسِرِينَ.وَبِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ بَالِغٍ كَحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ: «أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا».وَحَدِيثِ عُمَرَ السَّابِقِ: «وَلَا يَضْرِبُوهَا إِلاَّ عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى»، وَبِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: «أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ عَلَى كُلِّ رَاهِبٍ دِينَارَيْنِ».
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَالرَّاهِبُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لِحَقْنِ الدَّمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالرَّاهِبُ كَغَيْرِهِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالدَّارِ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ.سَابِعًا: السَّلَامَةُ مِنَ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ:
42- إِذَا أُصِيبَ الْمُطَالَبُ بِالْجِزْيَةِ بِعَاهَةٍ مُزْمِنَةٍ، كَالْمَرَضِ، أَوِ الْعَمَى، أَوِ الْكِبَرِ الْمُقْعِدِ عَنِ الْعَمَلِ وَالْقِتَالِ، فَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَمْ لَا؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَوْ كَانُوا مُوسِرِينَ.وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
فَفَحْوَى الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، إِذِ الْقِتَالُ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَمَنْ يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ مِنَ الْمُحْتَرِفِينَ، وَلِذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ: كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمَفْلُوجِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الْفَانِي: سَوَاءٌ أَكَانَ مُوسِرًا أَمْ غَيْرَ مُوسِرٍ؛ وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِمَّنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ، وَهَؤُلَاءِ لَا يُقْتَلُونَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ وَالشُّيُوخِ الْكِبَارِ إِذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُصَابِينَ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ أَهْلٌ لِلْقِتَالِ، إِذْ إِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إِذَا كَانُوا ذَوِي رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، كَمَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، وَوُجُودُ الْمَالِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُصَابِينَ أَكْثَرُ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِمِ الْجِزْيَةُ إِذَا كَانُوا مُوسِرِينَ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا مُعْسِرِينَ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ- رضي الله عنه- وَأَهْلِ الْحِيرَةِ: «وَجَعَلْتُ لَهُمْ أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ، أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنَ الْآفَاتِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ وَصَارَ أَهْلُ دَيْنِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ، وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ خَرَجُوا إِلَى غَيْرِ دَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِهِمْ.
وَمَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الْمُصَابِينَ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُوسِرِينَ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَهُوَ يَشْمَلُ الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانَ وَالشُّيُوخَ الْكِبَارَ.
وَبِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ، كَحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ.الَّذِي أَمَرَهُ فِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ السَّابِقِ: «وَلَا يَضْرِبُوهَا إِلاَّ عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى»، وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَهَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِحَقْنِ الدَّمِ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُمُ الْجِزْيَةُ بِتِلْكَ الْإِصَابَاتِ، وَأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالدَّارِ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُمُ الْجِزْيَةُ، كَمَا أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ.
ضَبْطُ أَسْمَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَصِفَاتِهِمْ فِي دِيوَانٍ:
43- يَسْتَوْفِي الْعَامِلُ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَفْقَ دِيوَانٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَسْمَائِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.قَالَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ: » وَيُثْبِتُ الْإِمَامُ عَدَدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَسْمَاءَهُمْ، وَيُحَلِّيهِمْ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَيَّامِ فَيَقُولُ: طَوِيلٌ، أَوْ قَصِيرٌ، أَوْ رَبْعَةٌ، وَأَبْيَضُ، أَوْ أَسْوَدُ، أَوْ أَسْمَرُ، أَوْ أَشْقَرُ، وَأَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ، أَوْ مَقْرُونُ الْحَاجِبَيْنِ، أَوْ أَقْنَى الْأَنْفِ.
وَيَكْتُبُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَجْعَلُ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ عَرِيفًا، لِيَجْمَعَهُمْ عِنْدَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَيَكْتُبُ مَنْ يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ بِالْبُلُوغِ، وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْهُمْ بِالْمَوْتِ.
مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ:
44- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ، وَجِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا فَتَحَ بِلَادَهُمْ عَنْوَةً.
فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ بَلْ تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَقَادِيرِ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ مِنْ مَجْمُوعَةٍ إِلَى مَجْمُوعَةٍ أُخْرَى.
فَقَدْ «صَالَحَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ، وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ».
«وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَعَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ».
وَصَالَحَ عُمَرُ- رضي الله عنه- بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا ضِعْفَ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ.رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ- أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمَّا صَالَحَهُمْ- يَعْنِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ- عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ قَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ، وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ- يَعْنُونَ الصَّدَقَةَ- فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: لَا، هَذِهِ فَرْضُ الْمُسْلِمِينَ.قَالُوا: فَزِدْ مَا شِئْتَ بِهَذَا الِاسْمِ، لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ، فَفَعَلَ فَتَرَاضَى هُوَ وَهُمْ عَلَى أَنْ تُضَعَّفَ عَلَيْهِمِ الصَّدَقَةُ.وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: «سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ».
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ وَهِيَ مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَضَعَ فِي الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: «وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ عُمَرَ اعْتَمَدَ السَّمَاعَ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخَذْنَا بِهِ» وَقَدْ فَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْجِزْيَةِ عَلَى خَرَاجِ الْأَرْضِ، فَقَدْ جَعَلَ الْخَرَاجَ عَلَى مِقْدَارِ الطَّاقَةِ، وَاخْتَلَفَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَرْضِ وَطَاقَتِهَا الْإِنْتَاجِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَالْإِمْكَانِ، فَتَخْتَلِفُ بِحَسَبِ طَاقَةِ الشَّخْصِ وَإِمْكَانَاتِهِ الْمَالِيَّةِ.
وَبِأَنَّ الْجِزْيَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ عِوَضًا عَنِ النُّصْرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالنُّصْرَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَتَفَاوَتُ، فَالْفَقِيرُ يَنْصُرُ دَارَ الْإِسْلَامِ رَاجِلًا، وَمُتَوَسِّطُ الْحَالِ يَنْصُرُهَا رَاجِلًا وَرَاكِبًا، وَالْمُوسِرُ يَنْصُرُهَا بِالرُّكُوبِ بِنَفْسِهِ وَإِرْكَابِ غَيْرِهِ.فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ الشَّخْصِ وَإِمْكَانَاتِهِ الْمَالِيَّةِ.
45- وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَهُوَ فَقِيرٌ.وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُوَ مِنَ الْأَوَاسِطِ.وَمَنْ مَلَكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، فَهُوَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُمَا قَالَا: أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ كَنْزٌ.
وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ: مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا فَهُوَ فَقِيرٌ، وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إِلَى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنَ الْأَوْسَاطِ، وَمَنْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ.
وَالثَّالِثُ: مَا قَالَهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ: مَنْ كَانَ يَمْلِكُ قُوتَهُ وَقُوتَ عِيَالِهِ وَزِيَادَةً فَهُوَ مُوسِرٌ، وَإِنْ مَلَكَ بِلَا فَضْلٍ فَهُوَ الْوَسَطُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرُ الْكِفَايَةِ فَهُوَ الْفَقِيرُ الْمُعْتَمِلُ أَوِ الْمُكْتَسِبُ.
وَالرَّابِعُ: مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: «الْمُوسِرُ»: مِثْلُ الصَّيْرَفِيِّ، وَالْبَزَّازِ، وَصَاحِبِ الضَّيْعَةِ، وَالتَّاجِرِ، وَالْمُعَالِجِ، وَالطَّبِيبِ، وَكُلِّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِيَدِهِ صِنَاعَةٌ وَتِجَارَةٌ يَحْتَرِفُ بِهَا فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ عَلَى قَدْرِ صِنَاعَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْمُوسِرِ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْوَسَطِ، مَنِ احْتَمَلَتْ صِنَاعَتُهُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَمَنِ احْتَمَلَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا أُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَاثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا عَلَى الْعَامِلِ بِيَدِهِ: مِثْلِ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالْإِسْكَافِ وَالْخَرَّازِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ.
وَالْخَامِسُ: مَا قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ فِي ذَلِكَ، فَصَاحِبُ خَمْسِينَ أَلْفًا بِبَلْخٍ يُعَدُّ مِنَ الْمُكْثِرِينَ، وَفِي الْبَصْرَةِ لَا يُعَدُّ مُكْثِرًا.فَهُوَ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ عُرْفُهَا، فَمَنْ عَدَّهُ النَّاسُ فِي بَلَدِهِمْ فَقِيرًا، أَوْ وَسَطًا، أَوْ غَنِيًّا فَهُوَ كَذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ الْمَوْصِلِيُّ: «وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُنْظَرَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَى حَالِ أَهْلِهِ، وَمَا يَعْتَبِرُونَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ عَادَةَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ».
46- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ ضَرْبَانِ: صُلْحِيَّةٌ، وَعَنْوِيَّةٌ:
فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ: وَهِيَ الَّتِي عُقِدَتْ مَعَ الَّذِينَ مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَبِلَادَهُمْ مِنْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بِالْقِتَالِ، وَهِيَ تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ.وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّهَا وَلَا أَكْثَرِهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ الصُّلْحِيَّ إِنْ بَذَلَ الْقَدْرَ الَّذِي عَلَى الْعَنْوِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْإِمَامَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقَاتِلَهُ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةِ الْحَنَفِيَّةِ السَّابِقَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ: وَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً، وَتُقَدَّرُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ، وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْفِضَّةِ، بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.وَنَحْوُ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا أَنَّهَا عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَا عَشَرَ، وَهَذِهِ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَيُرْجَعُ إِلَى الْعُرْفِ مِنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَمَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ، وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.قَالَ الْبَاجِيُّ الْمُرَادُ بِأَرْزَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَقْوَاتُ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُرَادُ بِالضِّيَافَةِ ضِيَافَةُ الْمُجْتَازِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِهَذَا الْمِقْدَارِ وَذَلِكَ لِمَا رَآهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاحْتِمَالِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ.وَأَمَّا أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ وَالضِّيَافَةُ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: «أَرَى أَنْ تُوضَعَ عَنْهُمُ الْيَوْمَ الضِّيَافَةُ وَالْأَرْزَاقُ، لِمَا حَدَثَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَوْرِ»، وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَنَقَلَ الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْبَاجِيِّ وَأَقَرَّهُ أَنَّهُ إِنِ انْتَفَى الظُّلْمُ فَلَا تَسْقُطُ.
47- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةُ يَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ ذَهَبِيٌّ خَالِصٌ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ التَّرَاضِي مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ فِي حَالَةِ الْقُوَّةِ، وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينَارِ، بَلْ تُسْتَحَبُّ الْمُمَاكَسَةُ فِي الزِّيَادَةِ: بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ إِنْ ظَنَّ إِجَابَتَهُمْ إِلَيْهَا، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ إِلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلْمُمَاكَسَةِ.وَفِي حَالَةِ الضَّعْفِ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ التَّرَاضِي مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنَ الدِّينَارِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ: «أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ».
فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ الْجِزْيَةِ بِالدِّينَارِ مِنَ الذَّهَبِ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ، وَظَاهِرُ إِطْلَاقِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ غَنِيًّا أَمْ مُتَوَسِّطًا أَمْ فَقِيرًا.
وَقَدْ أَخَذَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ «أَيْلَةَ»، حَيْثُ «قَدِمَ يُوحَنَّا بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَبُوكَ، وَصَالَحَهُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ بِأَرْضِهِ فِي السَّنَةِ دِينَارًا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ قِرَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ».
وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ أَلْفَيْ حُلَّةٍ نِصْفُهَا فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يَذْكُرُ أَنَّ قِيمَةَ مَا أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ دِينَارٌ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- ضَرَبَ عَلَى نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ، يُقَالُ لَهُ مَوْهَبٌ دِينَارًا كُلَّ سَنَةٍ» وَاسْتَدَلُّوا لِجَوَازِ عَقْدِهَا مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ فِي حَالَةِ الضَّعْفِ بِأَنَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا: «أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ» فَإِذَا كَانَ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
48- وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- نَقَلَهَا عَنْهُ الْأَثْرَمُ-: أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْجِزْيَةِ إِلَى الْإِمَامِ، فَلَهُ أَنْ يُزِيدَ وَيُنْقِصَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعَلَى مَا يَرَاهُ.وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي الْإِنْصَافِ، وَقَالَ الْخَلاَّلُ: الْعَمَلُ فِي قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ وَيُنْقِصَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ، فَاسْتَقَرَّ قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.فَلَفْظُ الْجِزْيَةِ فِي الْآيَةِ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا كَانَ وَلِيَّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَقْدًا عَلَى الْجِزْيَةِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَصَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَاقِي فِي رَجَبٍ».
وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَصَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى ضِعْفِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الزَّكَاةِ.
فَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْتَلِفَ.وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ أَجَلِ الْيَسَارِ.
وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى الْأَمَانِ ضَرْبَانِ: هُدْنَةٌ وَجِزْيَةٌ، فَلَمَّا كَانَ الْمَأْخُوذُ هُدْنَةً إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ جِزْيَةً.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ، فَلَمْ تَتَقَدَّرْ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ كَالْأُجْرَةِ.
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ:
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ:
49- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ وَلَا تَتَكَرَّرُ.وَالسَّنَةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُرَادَةُ شَرْعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، أَمَّا إِذَا عَيَّنَ الْإِمَامُ كَوْنَهَا شَمْسِيَّةً أَوْ قَمَرِيَّةً فَيَجِبُ اتِّبَاعُ مَا عَيَّنَهُ.
وَقْتُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ:
50- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الِالْتِزَامِ بِالْجِزْيَةِ عَقِبَ عَقْدِ الذِّمَّةِ مُبَاشَرَةً، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: تَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ وَتَسْتَقِرُّ بِانْقِضَاءِ الزَّمَنِ كَالْأُجْرَةِ، فَكَلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنَ الْحَوْلِ اسْتَقَرَّ قِسْطُهَا مِنْ جِزْيَةِ الْحَوْلِ، حَتَّى تَسْتَقِرَّ جِزْيَةُ الْحَوْلِ كُلِّهِ بِانْقِضَائِهِ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ مَنْفَعَةِ حَقْنِ الدَّمِ، فَتَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَتَسْتَقِرُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ شَيْئًا فَشَيْئًا كَالْأُجْرَةِ.
51- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ آخِرُ الْحَوْلِ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْجِزْيَةِ، فَقَدْ ضَرَبَهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمَجُوسِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِأَدَائِهَا فِي الْحَالِ، بَلْ كَانَ يَبْعَثُ رُسُلَهُ وَسُعَاتَهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِجِبَايَتِهَا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ».
وَتَدُلُّ سِيرَةُ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْعَثُونَ الْجُبَاةَ فِي آخِرِ الْعَامِ لِجِبَايَةِ الْجِزْيَةِ.فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَقَدِمَ بِمَالٍ كَثِيرٍ.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ، فَوَجَبَ بِآخِرِهِ كَالزَّكَاةِ.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ جَزَاءً عَلَى تَأْمِينِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَلَا تَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَتَحَقَّقَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي طُولِ السَّنَةِ.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، فَتَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا كَالصَّلَاةِ، وَلِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
فَجَعَلَ إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِرَفْعِ الْقِتَالِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ غَايَةَ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَقَدْ حَظَرَ إِبَاحَةَ قُرْبِهِنَّ إِلاَّ بَعْدَ وُجُودِ طُهْرِهِنَّ، وَكَذَلِكَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تُعْطِ زَيْدًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ، مَنْعُ الْإِعْطَاءِ إِلاَّ بَعْدَ دُخُولِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ مُوجِبَةٌ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُزِيلَةٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ.
وَلِقَوْلِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ: «أَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا- صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ» فَوَقْتُ وُجُوبِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَقِبَ الْعَقْدِ مُبَاشَرَةً.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنِ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ، فَتَجِبُ فِي الْحَالِ كَالْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.وَلِأَنَّ الْمُعَوَّضَ قَدْ سُلِّمَ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ الْعِوَضُ عَلَيْهِمْ كَالثَّمَنِ.وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا مِنَ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا، وَهِيَ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْمَاضِي، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ نُصْرَةَ الْمَاضِي يُسْتَغْنَى عَنْهَا بِانْقِضَائِهِ.فَإِذَا تَعَذَّرَ إِيجَابُ الْجِزْيَةِ بَعْدَ الْحَوْلِ تَجِبُ فِي أَوَّلِهِ.
تَعْجِيلُ الْجِزْيَةِ:
52- الْمَقْصُودُ بِتَعْجِيلِ الْجِزْيَةِ: اسْتِيفَاؤُهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهَا بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعْجِلَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ أَوْ يَسْتَسْلِفَهَا؟
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ، إِلَى جَوَازِ تَعْجِيلِهَا لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِرِضَا أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ تَعْجِيلِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَالْخَرَاجِ، وَلِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ فَأَشْبَهَتِ الْأُجْرَةَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اشْتِرَاطِ تَعْجِيلِهَا، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا بِرِضَا أَهْلِ الذِّمَّةِ.وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْجِزْيَةِ عَلَى الزَّكَاةِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ الزَّكَاةَ إِلاَّ بِرِضَا رَبِّ الْمَالِ، بَلِ الْجِزْيَةُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهَا تَتَعَرَّضُ لِلسُّقُوطِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَهُ، فَتَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ أَثْنَاءَ السَّنَةِ وَتَتَدَاخَلُ بِالِاجْتِمَاعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
تَأْخِيرُ الْجِزْيَةِ:
53- إِذَا تَأَخَّرَ الذِّمِّيُّ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فِي وَقْتِهَا الْمُحَدَّدِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا.
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَمَطَلَ بِهَا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا عُقُوبَتُهُمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا مَعَ التَّمَكُّنِ فَجَائِزٌ، فَأَمَّا مَعَ تَبَيُّنِ عَجْزِهِمْ فَلَا تَحِلُّ عُقُوبَتُهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْجِزْيَةِ سَقَطَتْ عَنْهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
19-موسوعة الفقه الكويتية (جزية 4)
جِزْيَةٌ -4مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ:
54- الْجِزْيَةُ مِنَ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى أَمْرَهَا الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَاطِينُ، فَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَ الْجِزْيَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: يُقَدِّرُهَا الْإِمَامُ.
وَالْإِمَامُ يَعْقِدُ الذِّمَّةَ وَيُطَالِبُ بِالْجِزْيَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ بِاجْتِهَادِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ الْعَدْلَ وَكِيلٌ عَنِ الْأُمَّةِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَفِي تَدْبِيرِ شُئُونِهَا.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «الْأَمْوَالُ الَّتِي لِلْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فِيهَا مَدْخَلٌ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيقِ التَّطْهِيرِ لَهُمْ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ.وَالثَّانِي: الْغَنَائِمُ وَمَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكَافِرِينَ بِالْحَرْبِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.وَالثَّالِثُ: الْفَيْءُ، وَهُوَ مَا رَجَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ عَفْوًا صَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافٍ كَالصُّلْحِ وَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَحَقُّ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ لِلْإِمَامِ، فَيُطَالِبُ بِهَا وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ.
وَالْإِمَامُ الْمُطَالِبُ بِالْجِزْيَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا، أَوْ جَائِرًا ظَالِمًا، أَوْ بَاغِيًا، أَوْ خَارِجًا عَلَى إِمَامِ الْعَدْلِ، أَوْ مُحَارِبًا وَقَاطِعًا لِلطَّرِيقِ.
1- حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إِلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ:
54 م- الْإِمَامُ الْعَادِلُ: هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُسْلِمُونَ لِلْإِمَامَةِ وَبَايَعُوهُ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ الْأُمَّةِ وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَإِذَا طَلَبَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ مَالًا لَا يَطْلُبُهُ إِلاَّ بِحَقٍّ، وَإِذَا قَسَمَ أَمْوَالًا عَامَّةً قَسَمَهَا وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ وَحَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- » إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ وَالِي الْيَتِيمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وَاللَّهِ مَا أَرَى أَرْضًا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَاةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلاَّ اسْتَسْرَعَ خَرَابُهَا.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ إِذَا طَلَبَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَفْرِقَةُ خَرَاجِ رَأْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا أَدَّى شَخْصٌ الْجِزْيَةَ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْفَيْءِ بِنَفْسِهِ فَلِلْإِمَامِ أَخْذُهَا مِنْهُ ثَانِيَةً؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ.
2- حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إِلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ:
55- الْإِمَامُ الْجَائِرُ: هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ الْأُمَّةِ وَفْقَ هَوَاهُ، فَيَقَعُ مِنْهُ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ عَلَى النَّاسِ
وَإِذَا طَلَبَ الْإِمَامُ الْجَائِرُ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا إِلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَإِذَا أَدَّى الذِّمِّيُّ الْجِزْيَةَ إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ سَقَطَتْ عَنْهُ وَلَا يُطَالَبُ بِهَا مَرَّةً ثَانِيَةً مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورَ وَالْخَرَاجَ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا، فَهَلْ تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا؟
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا، لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِأَخْذِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَالُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ: إِنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ، وَلَا تَسْقُطُ الصَّدَقَاتُ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ، وَهُمْ يَصْرِفُونَ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ فِي طَلَبِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ بِمَا يَلِي:
أ- مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي.وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ وَيَكْثُرُونَ.قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَقَالَ: أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ».
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: فِي بَيَانِ مَعْنَى «أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ»- أَيِ ادْفَعُوا إِلَى الْأُمَرَاءِ حَقَّهُمُ الَّذِي لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَقَبْضُهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَخْتَصُّ بِهِمْ أَوْ يَعُمُّ، وَذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ كَالزَّكَاةِ، وَفِي الْأَنْفُسِ كَالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ.
ب- وَمَا رُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ».
ج- وَمَا رُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ، أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا».
3- دَفْعُ الْجِزْيَةِ إِلَى الْبُغَاةِ:
56- الْبُغَاةُ: هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى التَّأْوِيلِ وَيَخْرُجُونَ عَلَى الْإِمَامِ، أَوْ يَمْتَنِعُونَ عَنِ الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، أَوْ يَمْنَعُونَ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ كَالزَّكَاةِ وَشِبْهِهَا، فَيُدْعَوْنَ إِلَى الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ.
فَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ وَنَصَبُوا إِمَامًا، فَجَبَى الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِدَفْعِهَا إِلَى الْبُغَاةِ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ:
بِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جُبِيَ مِنْهُمْ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلِأَنَّ حَقَّ الْإِمَامِ فِي الْجِبَايَةِ مَرْهُونٌ بِالْحِمَايَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ عِنْدَ تَغَلُّبِ الْبُغَاةِ عَلَى بَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ احْتِسَابِهَا ضَرَرًا عَظِيمًا وَمَشَقَّةً كَبِيرَةً، فَإِنَّ الْبُغَاةَ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلَادِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ وَتَتَجَمَّعُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَبَالِغُ طَائِلَةٌ لَا يُطِيقُونَهَا.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ دَفَعَ الْجِزْيَةَ إِلَى الْبُغَاةِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ أَعْطَاهَا إِلَى مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ غَصْبًا.
4- حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إِلَى الْمُحَارِبِينَ «قُطَّاعِ الطُّرُقِ»:
57- الْمُحَارِبُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِالسِّلَاحِ فَيَغْصِبُونَ الْمَالَ مُجَاهَرَةً أَوْ يَقْتُلُونَ أَوْ يُخِيفُونَ الطَّرِيقَ
فَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ، وَلَمْ تَسْقُطِ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ بِأَدَائِهَا إِلَى الْمُحَارِبِينَ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا.
طُرُقُ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ:
58- إِذَا كَانَ الْإِمَامُ هُوَ صَاحِبَ الْحَقِّ فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ، فَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَيُبَاشِرُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَقْدِيرُهَا وَتَدْوِينُهَا وَجَمْعُهَا وَصَرْفُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصْعُبُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَطِيعُهُ، بَلْ يَعْنِي تَوْلِيَةَ مَنْ يَجْمَعُهَا وَالْإِشْرَافَ عَلَيْهَا وَمُتَابَعَةَ مَنْ يَقُومُ بِاسْتِيفَائِهَا وَصَرْفِهَا.وَمِنْ طُرُقِ الِاسْتِيفَاءِ الَّتِي كَانَتْ مُتَّبَعَةً فِي ذَلِكَ، الْعِمَالَةُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَالْقَبَالَةُ (التَّضْمِينُ).
الطَّرِيقَةُ الْأُولَى:
الْعِمَالَةُ عَلَى الْجِزْيَةِ:
59- الْعِمَالَةُ عَلَى الْجِزْيَةِ وِلَايَةٌ مِنَ الْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْإِمَامِ يَتِمُّ بِمُقْتَضَاهَا اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ وَقَبْضُهَا.
وَعَامِلُ الْجِزْيَةِ وَكِيلٌ عَنِ الْإِمَامِ فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ وَقَبْضِهَا، وَجِبَايَتُهُ لِلْجِزْيَةِ مُحَدَّدَةٌ بِمَا رَسَمَهُ لَهُ الْإِمَامُ، وَلِعَامِلِ الْجِزْيَةِ شُرُوطٌ أَهَمُّهَا: الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْأَمَانَةُ، وَالْكِفَايَةُ، وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ.
وَلِلتَّفْصِيلِ تُنْظَرُ الشُّرُوطُ الْمَطْلُوبَةُ فِي: (جِبَايَةٌ).
مَا يُرَاعِيهِ الْعَامِلُ فِي جِبَايَةِ الْجِزْيَةِ:
الرِّفْقُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ:
60- لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اتِّجَاهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِعَامِلِ الْجِزْيَةِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ اسْتِيفَائِهِ لِلْجِزْيَةِ: بِأَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُمْ بِتَلَطُّفٍ دُونَ تَعْذِيبٍ أَوْ ضَرْبٍ، وَأَنْ يُؤَخِّرَهُمْ إِلَى غَلاَّتِهِمْ، وَأَنْ يُقَسِّطَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمُ الْقِيمَةَ بَدَلًا مِنَ الْعَيْنِ.وَالصَّغَارُ فِي قوله تعالى {وَهُمْ صَاغِرُونَ} مَعْنَاهُ عِنْدَهُمُ الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ.
وَالِاتِّجَاهُ الْآخَرُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُسْتَوْفَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِإِهَانَةٍ وَإِذْلَالٍ، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
الْأَمْوَالُ الَّتِي تُسْتَوْفَى مِنْهَا الْجِزْيَةُ:
61- لَا يَتَعَيَّنُ فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ وَلَا نَوْعٌ بِعَيْنِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَخْذُهَا مِمَّا تَيَسَّرَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ: كَالسِّلَاحِ وَالثِّيَابِ وَالْحُبُوبِ وَالْعُرُوضِ فِيمَا عَدَا ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1- حَدِيثُ مُعَاذٍ السَّابِقِ: «أَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ» فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْقِيمَةِ فِي الْجِزْيَةِ مِنَ الثِّيَابِ الْمَصْنُوعَةِ بِالْيَمَنِ وَالْمَنْسُوبَةِ إِلَى قَبِيلَةِ مَعَافِرَ.قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: «أَلَا تَرَاهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُمُ الثِّيَابَ مَكَانَ الدَّنَانِيرِ؟ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ الرِّفْقُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَنْ لَا يُبَاعَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْءٌ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِمَّا سَهُلَ عَلَيْهِمْ بِالْقِيمَةِ.أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ» فَقَدْ بَيَّنَ لَكَ ذِكْرُ الْعَدْلِ أَنَّهُ الْقِيمَةُ».
2- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَاقِي فِي رَجَبٍ».
3- مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ النَّعَمَ فِي الْجِزْيَةِ.
4- مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ ذِي صَنْعَةٍ مِنْ مَتَاعِهِ: مِنْ صَاحِبِ الْإِبَرِ إِبَرًا، وَمِنْ صَاحِبِ الْمَسَانِّ مَسَانًّا، وَمِنْ صَاحِبِ الْحِبَالِ حِبَالًا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأَمْتِعَةَ بِقِيمَتِهَا مِنَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهِمْ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَلَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى بَيْعِهَا ثُمَّ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنَ الثَّمَنِ، إِرَادَةَ الرِّفْقِ بِهِمْ وَالتَّخْفِيفَ عَلَيْهِمْ.
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ:
62- اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَعْيَانِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَمَالٌ غَيْرُ مُتَقَوَّمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهَا فِي الْجِزْيَةِ.
وَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ مَا بَاعُوهُ مِنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إِذَا تَوَلَّى الذِّمِّيُّ بَيْعَهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1- مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ- بِسَنَدِهِ- عَنْ سُوَيْدٌ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْخَنَازِيرِ، وَقَامَ بِلَالٌ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَفْعَلُوا: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِعُمَرِ بْنَ الْخَطَّابِ: إِنَّ عُمَّالَكَ يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ فِي الْخَرَاجِ، فَقَالَ: لَا تَأْخُذُوا مِنْهُمْ، وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنَ الثَّمَنِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: «يُرِيدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَخَرَاجِ أَرْضِهِمْ بِقِيمَتِهَا ثُمَّ يَتَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ بَيْعَهَا، فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ بِلَالٌ، وَنَهَى عَنْهُ عُمَرُ، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ أَثْمَانِهَا إِذَا كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ هُمُ الْمُتَوَلِّينَ لِبَيْعِهَا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا تَكُونُ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ».
2- وَلِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي نُقِرُّهُمْ عَلَى اقْتِنَائِهَا، وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا، فَجَازَ أَخْذُ أَثْمَانِهَا مِنْهُمْ كَثِيَابِهِمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1- رَوَى الْبَيْهَقِيُّ- بِسَنَدِهِ- إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ».
2- وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ.
3- وَلِأَنَّ ثَمَنَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِنَا فَحَرُمَ عَلَيْنَا أَخْذُ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ.
تَأْخِيرُهُمْ إِلَى غَلاَّتِهِمْ:
63- مِمَّا يُرَاعَى فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ تَأْخِيرُ مَنْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ إِلَى غَلاَّتِهِمْ، أَيْ حَتَّى تَنْضَجَ الثِّمَارُ، وَتُحْصَدَ الزُّرُوعُ فَيَتَمَكَّنُوا مِنْ بَيْعِهَا وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ.وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ- بِسَنَدِهِ- إِلَى سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: » قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حُذَيْمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا أَتَاهُ عَلَاهُ بِالدِّرَّةِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: سَبَقَ سَيْلُكَ مَطَرَكَ، إِنْ تُعَاقِبْ نَصْبِرْ، وَإِنْ تَعْفُ نَشْكُرْ، وَإِنْ تَسْتَعْتِبْ نَعْتِبْ، فَقَالَ: مَا عَلَى الْمُسْلِمِ إِلاَّ هَذَا، مَا لَكَ تُبْطِئُ فِي الْخَرَاجِ؟ قَالَ: أَمَرْتَنَا أَلَا نَزِيدَ الْفَلاَّحِينَ عَلَى أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ فَلَسْنَا نَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّنَا نُؤَخِّرُهُمْ إِلَى غَلاَّتِهِمْ.فَقَالَ عُمَرُ: لَا عَزَلْتُكَ مَا حَيِيتُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا وَجْهُ التَّأْخِيرِ إِلَى الْغَلَّةِ الرِّفْقُ بِهِمْ، وَلَمْ نَسْمَعْ فِي اسْتِيدَاءِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَقْتًا مِنَ الزَّمَانِ يُجْتَبَى فِيهِ غَيْرَ هَذَا.
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَقْسَاطٍ:
64- وَمِمَّا يُرَاعَى فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَخْذُهَا مِنْهُمْ عَلَى أَقْسَاطٍ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ شَهْرِيًّا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: «يَأْخُذُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ- أَيْ عَلَى الْغَنِيِّ- لِأَجْلِ التَّسْهِيلِ عَلَيْهِ».
وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: يُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمٌ، ثُمَّ قَالَ: نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَاتِرُونَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا.
وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً كُلَّ عَامٍ.
كِتَابَةُ عَامِلِ الْجِزْيَةِ بَرَاءَةً لِلذِّمِّيِّ:
65- إِذَا اسْتُوْفِيَتِ الْجِزْيَةُ كُتِبَ لِلذِّمِّيِّ بَرَاءَةٌ، لِتَكُونَ حُجَّةً لَهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهَا.
التَّعَفُّفُ عَنْ أَخْذِ مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ:
66- يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الْجِزْيَةِ عَفِيفَ النَّفْسِ، فَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا رِشْوَةً لِحَدِيثِ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ».
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ، فَقَالَ: فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ.اللَّهُمَّ هَلْ بَلَغْتُ ثَلَاثًا».
فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي يُقَدِّمُهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ لِلْعُمَّالِ حَرَامٌ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ قَبُولُهَا.قَالَ الْخَطَّابِيُّ: «فِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ سُحْتٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُبَاحَاتِ، وَإِنَّمَا يُهْدَى إِلَيْهِ لِلْمُحَابَاةِ وَلِيُخَفِّفَ عَنِ الْمُهْدِي وَيُسَوِّغَ لَهُ بَعْضَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ خِيَانَةٌ مِنْهُ وَبَخْسٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهُ لِأَهْلِهِ».وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (هَدِيَّةٌ وَرِشْوَةٌ).
الرِّقَابَةُ عَلَى عُمَّالِ الْجِزْيَةِ:
67- عَلَى الْإِمَامِ مُشَارَفَةُ الْأُمُورِ وَتَصَفُّحُ الْأَحْوَالِ، وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ هَذَا الْوَاجِبِ: الرِّقَابَةُ الْفَعَّالَةُ عَلَى عُمَّالِ الْجِزْيَةِ، وَضَرُورَةُ مَنْحِهِمْ رَوَاتِبَ تَكْفِيهِمْ.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي نَصِيحَتِهِ الَّتِي كَتَبَهَا لِهَارُونَ الرَّشِيدِ: «أَرَى أَنْ تَبْعَثَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، يَسْأَلُونَ عَنْ سِيرَةِ الْعُمَّالِ، وَمَا عَمِلُوا بِهِ فِي الْبِلَادِ، وَكَيْفَ جَبَوُا الْخَرَاجَ؟ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ وَعَلَى مَا وَظَّفَ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاسْتَقَرَّ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَكَ وَصَحَّ، أَخَذُوا بِمَا اسْتَفْضَلُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْأَخْذِ، حَتَّى يُؤَدُّوهُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ الْمُوجِعَةِ وَالنَّكَالِ، حَتَّى لَا يَتَعَدَّوْا مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِيهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا عَمِلَ بِهِ وَالِي الْخَرَاجِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِهِ، وَقَدْ أُمِرَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَحْلَلْتَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ انْتَهَى غَيْرُهُ وَاتَّقَى وَخَافَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا بِهِمْ تَعَدَّوْا عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاجْتَرَءُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَتَعَسُّفِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنَ الْعَامِلِ وَالْوَالِي تَعَدٍّ بِظُلْمٍ وَعَسْفٍ وَخِيَانَةٍ لَكَ فِي رَعِيَّتِكَ وَاحْتِجَازِ شَيْءٍ مِنَ الْفَيْءِ أَوْ خُبْثِ طُعْمَتِهِ أَوْ سُوءِ سِيرَتِهِ، فَحَرَامٌ عَلَيْكَ اسْتِعْمَالُهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ، وَأَنْ تُقَلِّدَهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ رَعِيَّتِكَ أَوْ تُشْرِكَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ، بَلْ عَاقِبْهُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمِثْلِ مَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ».
وَلِاجْتِنَابِ وُقُوعِ عُمَّالِ الْجِزْيَةِ فِي الرِّشْوَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، يَصْرِفُ الْإِمَامُ لَهُمْ أُجُورًا (رَوَاتِبَ) مُجْزِيَةً تَفِي بِحَاجَاتِهِمْ، وَتَكْفِي نَفَقَاتِهِمْ.
وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَشْيَاخُنَا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: دَنَّسْتَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ إِذَا لَمْ أَسْتَعِنْ بِأَهْلِ الدِّينِ عَلَى سَلَامَةِ دِينِي فَبِمَنْ أَسْتَعِينُ؟ أَمَّا إِنْ فَعَلْتَ فَأَغْنِهِمْ بِالْعِمَالَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ يَعْنِي إِذَا اسْتَعْمَلَتْهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَأَجْزِلْ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ لَا يَحْتَاجُونَ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِاسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ:
68- الْقَبَالَةُ (أَوِ التَّقْبِيلُ) وَتُسَمَّى التَّضْمِينَ أَوِ الِالْتِزَامَ:
هِيَ فِي اللُّغَةِ- بِالْفَتْحِ الْكَفَالَةُ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَبَلَ بِفَتْحِ الْبَاءِ إِذَا كَفَلَ وَقَبُلَ بِضَمِّهَا إِذَا صَارَ قَبِيلًا أَيْ كَفِيلًا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كُلُّ مَنْ يَقْبَلُ بِشَيْءٍ مُقَاطَعَةً وَكُتِبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابٌ، فَالْكِتَابُ الَّذِي يُكْتَبُ هُوَ الْقَبَالَةُ بِالْفَتْحِ وَالْعَمَلُ قِبَالَةٌ بِالْكَسْرِ؛ لِأَنَّهُ صِنَاعَةٌ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ صَقْعًا أَوْ بَلْدَةً أَوْ قَرْيَةً إِلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ مُقَاطَعَةً بِمَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ عَنْ خَرَاجِ أَرْضِهَا، وَجِزْيَةِ رُءُوسِ أَهْلِهَا إِنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ، فَيَقْبَلُ ذَلِكَ، وَيَكْتُبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا.
وَقَدْ يَقَعُ فِي جِبَايَةِ الْجِزْيَةِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ ظُلْمٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ غَبْنٌ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلِذَلِكَ مَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَنْعِهَا، قَالَ أَبُو يُوسُفَ «فَإِنْ قَالَ صَاحِبُ الْقَرْيَةِ أَنَا أُصَالِحُكُمْ عَنْهُمْ وَأُعْطِيكُمْ ذَلِكَ لَمْ يُجِيبُوهُ إِلَى مَا سَأَلَ لِأَنَّ ذَهَابَ الْجِزْيَةِ مِنْ هَذَا أَكْثَرُ لَعَلَّ صَاحِبَ الْقَرْيَةِ يُصَالِحُهُمْ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَفِيهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ إِذَا أُخِذَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ بَلَغَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ».
مُسْقِطَاتُ الْجِزْيَةِ:
69- تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِالْإِسْلَامِ، أَوِ الْمَوْتِ، أَوِ التَّدَاخُلِ، أَوِ الْعَجْزِ الْمَالِيِّ، أَوْ عَجْزِ الدَّوْلَةِ عَنْ تَوْفِيرِ الْحِمَايَةِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوِ الْإِصَابَةِ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ، أَوِ اشْتِرَاكِ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ خِلَافٌ يَتَبَيَّنُ بِمَا يَلِي:
الْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ:
70- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَلَا يُطَالَبُ بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1- رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ».
2- الْإِجْمَاعُ: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: «أَجْمَعُوا- يَعْنِي الْفُقَهَاءَ- عَلَى أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ».
3- وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَا تَبْقَى بَعْدَهُ.
4- وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ أَوْ بَدَلًا عَنِ النُّصْرَةِ، فَلَا تُقَامُ الْعُقُوبَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَلَا يُطَالَبُ بِالْجِزْيَةِ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ قَادِرًا عَلَى النُّصْرَةِ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
هَذَا الِاتِّجَاهُ الْفِقْهِيُّ هُوَ السَّائِدُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ لَمْ يَلْتَزِمُوا بِهِ، فَقَدْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيَعْتَبِرُونَهَا بِمَنْزِلَةِ الضَّرِيبَةِ عَلَى الْعَبِيدِ.
وَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْعِرَاقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَارْفَعِ الْجِزْيَةَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
حُكْمُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ عَمَّا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ بَعْدَ
دُخُولِ الذِّمِّيِّ فِي الْإِسْلَامِ:
71- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةُ سِنِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1- قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}
تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَمَّنْ أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِمَّنْ يَجِبُ قِتَالُهُ عَلَى الْكُفْرِ إِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا، وَمَتَى أَسْلَمَ لَمْ يَجِبْ قِتَالُهُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ.
2- قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}
فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ لَا يُطَالَبُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ زَكَاةٍ، وَكَذَا لَا يُطَالَبُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَةٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ.قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَشْهَبَ عَنْهُ: «الصَّوَابُ عِنْدِي أَنْ يُوضَعَ عَمَّنْ أَسْلَمَ الْجِزْيَةُ حِينَ يُسْلِمُ، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنَ السَّنَةِ إِلاَّ يَوْمٌ وَاحِدٌ لقوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} يَعْنِي مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ شَيْءٍ».
3- وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
4- وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُولِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا تَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِزْيَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ جِزْيَةً: أَيْ جَزَاءَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْإِسْلَامِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّ إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ، أَمَّا إِذَا أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ وَلَا يُطَالَبُ بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنَ السَّنَةِ وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنَ السَّنَةِ كَالْأُجْرَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1- أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى الذِّمِّيِّ الْمُعَوَّضُ وَهُوَ حَقْنُ الدَّمِ، فَصَارَ الْعِوَضُ وَهُوَ الْجِزْيَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ.
2- أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى الذِّمِّيُّ مَنَافِعَ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَلَا تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ بِإِسْلَامِ الذِّمِّيِّ.
3- وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَتَسْتَقِرُّ بِانْقِضَاءِ الزَّمَنِ كَالْأُجْرَةِ، فَكُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنَ الْحَوْلِ اسْتَقَرَّ قِسْطُهَا مِنْ جِزْيَةِ الْحَوْلِ.
الثَّانِي: الْمَوْتُ:
72- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْجِزْيَةِ بِالْمَوْتِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَحَصَلَ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ:
بِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْحُدُودِ.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ إِذَا حَصَلَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ.بَلْ تُؤْخَذُ مِنَ التَّرِكَةِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ.أَمَّا إِذَا حَصَلَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، فَلَا تَسْقُطُ بِهِ أَيْضًا فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ.وَتَسْقُطُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ آخَرَ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ حَوْلِهَا وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ سُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ بِالْأَدِلَّةِ الْآتِيَةِ: 1- مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنَادَةَ- كَاتِبِ حَيَّانَ بْنِ سُرَيْجٍ- وَكَانَ حَيَّانُ بَعَثَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَتَبَ يَسْتَفْتِيهِ أَيَجْعَلُ جِزْيَةَ مَوْتَى الْقِبْطِ عَلَى أَحْيَائِهِمْ؟ فَسَأَلَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ عِرَاكَ بْنَ مَالِكٍ- وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يَسْمَعُ- فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ لَهُمْ بِعَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ، إِنَّمَا أُخِذُوا عَنْوَةً بِمَنْزِلَةِ الْعَبِيدِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى حَيَّانَ بْنِ سُرَيْجٍ يَأْمُرَهُ: أَنْ يَجْعَلَ جِزْيَةَ الْأَمْوَاتِ عَلَى الْأَحْيَاءِ.
2- وَلِأَنَّهَا اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ بَدَلًا عَنِ الْعِصْمَةِ وَالسُّكْنَى، فَلَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.
الثَّالِثُ: اجْتِمَاعُ جِزْيَةِ سَنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ:
73- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَدَاخُلِ الْجِزَى:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ التَّدَاخُلِ وَتَجِبُ الْجِزَى كُلُّهَا.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ: بِأَنَّ الْجِزْيَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ يَجِبُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ وَغَيْرِهِمَا.
وَلِأَنَّ الْمُدَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ كَخَرَاجِ الْأَرْضِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَضَتْ عَلَى الْجِزْيَةِ سَنَةٌ وَدَخَلَتْ ثَانِيَةٌ فَإِنَّ الْجِزَى تَتَدَاخَلُ، فَتَسْقُطُ جِزَى السَّنَوَاتِ الْمَاضِيَةِ وَيُطَالَبُ بِجِزْيَةِ السَّنَةِ الْحَالِيَّةِ.وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ:
بِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ، وَالْعُقُوبَاتُ إِذَا تَرَاكَمَتْ تَدَاخَلَتْ خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْحُدُودِ.أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ زَنَى مِرَارًا ثُمَّ رُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْهُ إِلاَّ حَدًّا وَاحِدًا بِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ لِأَجْلِهَا، لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا إِذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْحَقْنِ بِالْجِزْيَةِ؛ وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَا وَجَبَتْ إِلاَّ لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ حَتَّى دَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى انْقَطَعَ الرَّجَاءُ فِيمَا مَضَى، وَبَقِيَ الرَّجَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ.
الرَّابِعُ: طُرُوءُ الْإِعْسَارِ:
74- الْإِعْسَارُ: ضِيقُ الْحَالِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمَالِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّ بِالْإِعْسَارِ الطَّارِئِ سَوَاءٌ أَطَرَأَ عَلَيْهِ الْإِعْسَارُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ.وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعْسَرَ أَكْثَرَ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّ بِالْإِعْسَارِ الطَّارِئِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ الْإِعْسَارَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً.وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ عَنْهُ، وَتُعْتَبَرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَيُمْهَلُ إِلَى وَقْتِ يَسَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْأَدَاءِ.أَخْذًا بِعُمُومِ قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّ بِالْإِعْسَارِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَجِبُ، وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِعْسَارُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ، وَتُصْبِحُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَيُنْظَرُ وَيُمْهَلُ إِلَى وَقْتِ يَسَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْأَدَاءِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
20-موسوعة الفقه الكويتية (جزية 5)
جِزْيَةٌ -5الْخَامِسُ: التَّرَهُّبُ وَالِانْعِزَالُ عَنِ النَّاسِ:
75- إِذَا تَرَهَّبَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ، فَانْعَزَلَ عَنِ النَّاسِ وَانْقَطَعَ لِلْعِبَادَةِ فِي الْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ، فَهَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ بِالتَّرَهُّبِ، لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً فَأَشْبَهَ الْعَجْزَ وَالْجُنُونَ، فَتَسْقُطُ عَنْهُ مُطْلَقًا وَلَوْ مُتَجَمِّدَةً عَنْ سِنِينَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْأَخَوَانِ (مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ) مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ بِالتَّرَهُّبِ الطَّارِئِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً، فَلَا يُعْتَبَرُ عُذْرًا لِإِسْقَاطِ الْجِزْيَةِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ.وَعَلَّلَهُ الْأَخَوَانِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ يَتَّخِذُهُ وَسِيلَةً لِلتَّهَرُّبِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَلَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّرَهُّبَ الطَّارِئَ لَا يُسْقِطُ الْجِزْيَةَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ، وَتُصْبِحُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.أَمَّا إِذَا تَرَهَّبَ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ.
وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالرَّاهِبِ الَّذِي تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ، هُوَ مَنْ لَا يَبْقَى بِيَدِهِ مَالٌ إِلاَّ بُلْغَتَهُ فَقَطْ وَيُؤْخَذُ مِمَّا بِيَدِهِ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا الرُّهْبَانُ الَّذِينَ يُخَالِطُونَ النَّاسَ وَيَتَّخِذُونَ الْمَتَاجِرَ وَالْمَزَارِعَ فَحُكْمُهُمْ كَسَائِرِ النَّصَارَى تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ اتِّفَاقًا.
السَّادِسُ: الْجُنُونُ:
76- إِذَا أُصِيبَ الذِّمِّيُّ- بَعْدَ الِالْتِزَامِ بِالْجِزْيَةِ- بِالْجُنُونِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى سُقُوطِهَا بِالْجُنُونِ الطَّارِئِ إِذَا اسْتَمَرَّ أَكْثَرَ الْعَامِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً- كَمَا بَيَّنَّا فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ الطَّارِئَ إِنْ كَانَ يَسِيرًا كَسَاعَةٍ مِنْ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ مِنْ سَنَةٍ فَلَا تَسْقُطُ.وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا كَيَوْمٍ إِفَاقَةً وَيَوْمٍ جُنُونًا فَإِنَّ الْإِفَاقَةَ تُلَفَّقُ فَإِذَا بَلَغَتْ سَنَةً وَجَبَتِ الْجِزْيَةُ.
أَمَّا الْجِزْيَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا تَسْقُطُ بِالْجُنُونِ طِبْقًا لِمَذْهَبِهِمْ فِي عَدَمِ تَدَاخُلِ الْجِزْيَةِ كَمَا سَبَقَ فِي (ف 73).
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ الطَّارِئَ لَا يُسْقِطُ الْجِزْيَةَ إِذَا كَانَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ.أَمَّا إِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَتَسْقُطُ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرَّابِعُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تَسْقُطُ وَلَا تَجِبُ.
السَّابِعُ: الْعَمَى وَالزَّمَانَةُ وَالشَّيْخُوخَةُ:
77- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ الَّتِي سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْهَا فِي شُرُوطِ الْجِزْيَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ بِهَذِهِ الْعَاهَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَا أُصِيبَ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ، وَاشْتَرَطُوا أَنْ تَكُونَ إِصَابَتُهُ بِإِحْدَى تِلْكَ الْعَاهَاتِ أَكْثَرَ السَّنَةِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّ الَّذِي أُصِيبَ بِإِحْدَى تِلْكَ الْعَاهَاتِ إِلاَّ إِذَا كَانَ فَقِيرًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّ الَّذِي أُصِيبَ بِإِحْدَى تِلْكَ الْعَاهَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ، أَمَّا إِذَا أُصِيبَ بِإِحْدَى الْعَاهَاتِ السَّابِقَةِ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ، فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلاَّ بِكَمَالِ الْحَوْلِ.
الثَّامِنُ: عَدَمُ حِمَايَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ:
78- عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مُقَابِلِ الْجِزْيَةِ تَوْفِيرُ الْحِمَايَةِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالذَّبُّ عَنْهُمْ، وَمَنْعُ مَنْ يَقْصِدُهُمْ بِالِاعْتِدَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَاسْتِنْقَاذُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، وَاسْتِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ سَوَاءٌ أَكَانُوا يَعِيشُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ فِي بَلَدٍ لَهُمْ.فَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنِ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْ حِمَايَتِهِمْ وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ حَتَّى مَضَى الْحَوْلُ، فَهَلْ يُطَالَبُونَ بِالْجِزْيَةِ أَمْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ؟
صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا لَمْ تَتَمَكَّنِ الدَّوْلَةُ مِنْ حِمَايَةِ الذِّمِّيِّينَ لِأَنَّهُمْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ، لِحِفْظِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَدْفَعِ الدَّوْلَةُ عَنْهُمْ، لَمْ تَجِبِ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لِلْحِفْظِ وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَجِبْ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ، كَمَا لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ إِذَا لَمْ يُوجَدِ التَّمْكِينُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ.
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ تَصْرِيحًا بِالسُّقُوطِ إِذَا لَمْ تَحْصُلِ الْحِمَايَةُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْحِمَايَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّهُ عِنْدَمَا أَعْلَمَهُ نُوَّابُهُ عَلَى مُدُنِ الشَّامِ بِتَجَمُّعِ الرُّومِ لِمُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ كَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ رُدُّوا الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: إِنَّمَا رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا مَا جُمِعَ لَنَا مِنَ الْجُمُوعِ، وَأَنَّكُمِ اشْتَرَطْتُمْ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَكُمْ، وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ مَا أَخَذْنَا مِنْكُمْ، وَنَحْنُ لَكُمْ عَلَى الشُّرُوطِ مَا كَتَبْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ نَصَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْبَلَاذِرِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو حَفْصٍ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ هِرَقْلُ لِلْمُسْلِمِينَ الْجُمُوعَ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ إِقْبَالُهُمْ إِلَيْهِمْ لِوَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ رَدُّوا عَلَى أَهْلِ حِمْصَ مَا كَانُوا أَخَذُوا مِنْهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ.وَقَالُوا: قَدْ شُغِلْنَا عَنْ نُصْرَتِكُمْ وَالدَّفْعِ عَنْكُمْ، فَأَنْتُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، فَقَالَ أَهْلُ حِمْصَ: لَوَلَايَتُكُمْ وَعَدْلُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ.وَلَنَدْفَعَنَّ جُنْدَ هِرَقْلَ عَنِ الْمَدِينَةِ مَعَ عَامِلِكُمْ، وَنَهَضَ الْيَهُودُ فَقَالُوا: وَالتَّوْرَاةِ لَا يَدْخُلُ عَامِلُ هِرَقْلَ مَدِينَةَ حِمْصَ إِلاَّ أَنْ نُغْلَبَ وَنَجْهَدَ فَأَغْلَقُوا الْأَبْوَابَ وَحَرَسُوهَا».وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَهْلُ الْمُدُنِ الَّتِي صُولِحَتْ مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ.وَقَالُوا: إِنْ ظَهَرَ الرُّومُ وَأَتْبَاعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صِرْنَا إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَإِنَّا عَلَى أَمْرِنَا مَا بَقِيَ لِلْمُسْلِمِينَ عَدَدٌ، فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْكَفَرَةَ وَأَظْهَرَ الْمُسْلِمِينَ فَتَحُوا مُدُنَهُمْ وَأَخْرَجُوا الْمُقَلِّسِينَ، فَلَعِبُوا وَأَدَّوُا الْخَرَاجَ.
وَجَاءَ فِي كِتَابِ صُلْحِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ مَعَ أَهْلِ تَفْلِيسَ: «...وَإِنْ عَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ شُغْلٌ عَنْكُمْ فَقَهَرَكُمْ عَدُوُّكُمْ فَغَيْرُ مَأْخُوذِينَ بِذَلِكَ.
هَذِهِ السَّوَابِقُ التَّارِيخِيَّةُ حَدَثَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ ((، وَعَلِمُوا بِهَا وَسَكَتُوا عَنْهَا، فَيُعْتَبَرُ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا.
وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ حَيْثُ قَالَ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ: «إِنَّ مَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَجَاءَ أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَى بِلَادِنَا يَقْصِدُونَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ لِقِتَالِهِمْ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَنَمُوتُ دُونَ ذَلِكَ، صَوْنًا لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُ دُونَ ذَلِكَ إِهْمَالٌ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ» وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ.
التَّاسِعُ: اشْتِرَاكُ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ مَعَ
الْمُسْلِمِينَ:
79- صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّينَ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ الشَّلَبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوِ اسْتَعَانَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ سَنَةً، فَقَاتَلُوا مَعَهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ جِزْيَةُ تِلْكَ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ طَرِيقَ النُّصْرَةِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ الْمَالَ دُونَ النَّفْسِ.
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ الِاسْتِعَانَةَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْقِتَالِ.
فَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: «الْجِهَادُ أَنْ يُقَاتَلَ النَّاسُ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَالْمُشْرِكُ لَا يُقَاتِلُ لِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يَلْزَمُ أَنْ يُقَاتَلَ عَنْهُ وَتُمْنَعُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي الْحَرْبِ وَإِنِ اسْتُعِينَ بِهِ فِي الْأَعْمَالِ وَالصَّنَائِعِ وَالْخِدْمَةِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: إِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ.
وَانْظُرْ بَحْثَ: (جِهَادٌ) - الِاسْتِعَانَةُ بِالْكُفَّارِ.
مَصَارِفُ الْجِزْيَةِ:
80- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ، حَتَّى رَأَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ اسْمَ الْفَيْءِ شَامِلٌ لِلْجِزْيَةِ.وَيُصْرَفُ الْفَيْءُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ وَمَرَافِقِ الدَّوْلَةِ الْهَامَّةِ: كَأَرْزَاقِ الْمُجَاهِدِينَ وَذَرَارِيِّهِمْ وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَبِنَاءِ الْجُسُورِ، وَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَإِصْلَاحِ الْأَنْهَارِ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا، وَرَوَاتِبِ الْمُوَظِّفِينَ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُفْتِينَ وَالْعُمَّالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي تَقْدِيرِ ذَلِكَ وَمَا يُرَاعَى فِيهِ يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (بَيْتُ الْمَالِ، وَفَيْءٌ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
21-موسوعة الفقه الكويتية (حامل)
حَامِلٌالتَّعْرِيف:
1- الْحَامِلُ فِي اللُّغَةِ الْحُبْلَى وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَمَلَ الشَّيْءَ حَمْلًا، وَالْحَمْلُ أَيْضًا مَا يُحْمَلُ فِي الْبَطْنِ مِنَ الْوَلَدِ وَجَمْعُهُ أَحْمَالٌ وَحِمَالٌ، يُقَالُ: حَمِلَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ وَحَمَلَتْ بِهِ عَلِقَتْ فَهِيَ حَامِلٌ بِغَيْرِ هَاءٍ؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِنَاثِ، وَرُبَّمَا قِيلَ: حَامِلَةٌ.وَتُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ أُنْثَى مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ.يُقَالُ: حَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، وَكُلُّ بَهِيمَةٍ تَلِدُ حَبَلًا إِذَا حَمِلَتْ بِالْوَلَدِ، فَهِيَ حُبْلَى.وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحَبَلُ مُخْتَصٌّ بِالْآدَمِيَّاتِ، وَأَمَّا الْحَمْلُ فَيَشْمَلُ الْآدَمِيَّاتِ وَالْبَهَائِمَ وَالشَّجَرَ، وَيُقَالُ فِيهَا: (حَمْلٌ) بِالْمِيمِ.
أَمَّا حَمْلُ الْمَتَاعِ فَيُقَالُ فِيهِ: حَامِلٌ لِلذَّكَرِ، وَحَامِلَةٌ بِالْهَاءِ لِلْأُنْثَى؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ مُشْتَرَكَةٌ، وَالْحِمْلُ: مَا يُحْمَلُ عَلَى الظَّهْرِ وَنَحْوِهِ.
وَتُنْظَرُ أَحْكَامُ حَمْلِ الْمَتَاعِ فِي مُصْطَلَحِ: (حَمْلٌ) (وَإِجَارَةٌ).
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَائِل:
2- الْحَائِلُ هِيَ الْأُنْثَى الَّتِي لَمْ تَحْمِلْ فَهِيَ مُقَابِلُ الْحَامِلِ.
أَحْكَامُ الْحَامِلِ:
أَوَّلًا: بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ:
دَمُ الْحَامِلِ:
3- الْغَالِبُ عَدَمُ نُزُولِ الدَّمِ مِنَ الْحَامِلِ؛ لِأَنَّ فَمَ الرَّحِمِ يَنْسَدُّ بِالْحَبَلِ عَادَةً، وَلَا يَنْفَتِحُ إِلاَّ بِخُرُوجِ الْوَلَدِ حَيْثُ يَنْدَفِعُ النِّفَاسُ.فَإِذَا رَأَتِ الْحَامِلُ دَمًا حَالَ الْحَمْلِ وَقَبْلَ الْمَخَاضِ يَكُونُ دَمَ اسْتِحَاضَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اعْتَبَرُوا الدَّمَ النَّازِلَ مِنَ الْحَامِلِ قَبْلَ وِلَادَتِهَا بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ نِفَاسًا.
وَالِاسْتِحَاضَةُ لَا تُسْقِطُ الصَّلَاةَ، وَلَا تُحَرِّمُ الصَّوْمَ اتِّفَاقًا، وَلَا الْجِمَاعَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلَافِ النِّفَاسِ الَّذِي يُسْقِطُ الصَّلَاةَ وَيُحَرِّمُ الصَّوْمَ وَالْوَطْءَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّ الدَّمَ النَّازِلَ مِنَ الْحَامِلِ يُعْتَبَرُ حَيْضًا يَمْنَعُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَالْوَطْءَ، لَكِنَّهُ لَا يُحْسَبُ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ.
أَمَّا الدَّمُ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِلُ بَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَفِيهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ رَأْيَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَمُ نِفَاسٍ يَمْنَعُ الصَّوْمَ، وَالصَّلَاةَ، وَالْوَطْءَ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ خَارِجٌ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ.وَهَذَا رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.الثَّانِي: أَنَّهُ دَمُ اسْتِحَاضَةٍ لَا يَمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ مَا فِي الْبَطْنِ وَهِيَ لَا تَزَالُ حُبْلَى، وَهَذَا رَأْيُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يَكُونُ بِوِلَادَةِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَمْ يَحْصُلْ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ.وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحَاضَةٌ ف 22- 25) وَتَوْأَمٌ (ج 14 103) وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (حَيْضٌ، نِفَاسٌ).
إِفْطَارُ الْحَامِلِ فِي رَمَضَانَ:
4- يَجُوزُ لِلْحَامِلِ أَنْ تُفْطِرَ إِنْ خَافَتْ ضَرَرًا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ عَلَى نَفْسِهَا وَوَلَدِهَا، وَيَجِبُ ذَلِكَ إِذَا خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا هَلَاكًا أَوْ شَدِيدَ أَذًى، وَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ بِلَا فِدْيَةٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ إِذَا أَفْطَرَتِ الْحَامِلُ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْفِدْيَةُ كَذَلِكَ إِذَا أَفْطَرَتْ خَوْفًا عَلَى وَلَدِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ مُتَّصِلٌ بِالْحَامِلِ، فَالْخَوْفُ عَلَيْهِ كَالْخَوْفِ عَلَى بَعْضِ أَعْضَائِهَا، وَلِأَنَّ الْفِدْيَةَ ثَبَتَتْ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ، وَالْفِطْرُ بِسَبَبِ الْخَوْفِ عَلَى الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ: إِذَا أَفْطَرَتِ الْحَامِلُ خَوْفًا عَلَى وَلَدِهَا فَعَلَيْهَا مَعَ الْقَضَاءِ الْفِدْيَةُ (طَعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ)؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- فِي قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} أَنَّهُ نُسِخَ حُكْمُهُ إِلاَّ فِي حَقِّ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا.
نِكَاحُ الْحَامِلِ:
5- الْحَامِلُ مِنْ غَيْرِ الزِّنَى، أَيْ مَنْ كَانَ حَمْلُهَا ثَابِتَ النَّسَبِ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهَا لِغَيْرِ مَنْ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ إِذَا كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنَ الْغَيْرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَمْ فَاسِدٍ أَمْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لَزِمَ حِفْظُ حُرْمَةِ مَائِهِ بِالْمَنْعِ مِنَ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ لَا تَنْتَهِي إِلاَّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ لقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} أَيْ مَا كُتِبَ عَلَيْهَا مِنَ التَّرَبُّصِ.
وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحَامِلِ الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ بَيْنُونَةً صُغْرَى لِمَنْ لَهُ الْحَمْلُ أَيِ الزَّوْجِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ الزَّوْجِ فَلَا يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِ.
أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا (الْبَائِنُ بَيْنُونَةً كُبْرَى) فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إِلاَّ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ اتِّفَاقًا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الْحَامِلِ مِنْ زِنًى: فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ، لَا مِنَ الزَّانِي نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ».
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ «رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمَّا أَصَابَهَا وَجَدَهَا حُبْلَى فَرَفَعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا».
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ الْحَامِلِ مِنَ الزِّنَى؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ نِكَاحِ الْحَامِلِ حَمْلًا ثَابِتَ النَّسَبِ لِحُرْمَةِ مَاءِ الْوَطْءِ، وَلَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزِّنَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ».وَلَا تُشْتَرَطُ التَّوْبَةُ لِصِحَّةِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ رَجُلًا وَامْرَأَةً فِي الزِّنَى وَحَرَصَ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ التَّوْبَةَ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْحَامِلِ مِنَ الزِّنَى لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ}...إِلَى قَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وَهِيَ قَبْلَ التَّوْبَةِ فِي حُكْمِ الزِّنَى، فَإِذَا تَابَتْ زَالَ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».
وَمَعَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ نِكَاحِ الْحَامِلِ مِنَ الزِّنَى فَلَا فَرْقَ فِي حِلِّ نِكَاحِهَا لِلزَّانِي وَغَيْرِهِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ مَنْ زَنَى بِهَا لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَضَعَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (عِدَّةٌ، نِكَاحٌ، زِنًى).
وَإِذَا تَزَوَّجَهَا مَنْ لَهُ الْحَمْلُ جَازَ لَهُ وَطْؤُهَا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُونَ نِكَاحَهَا.
طَلَاقُ الْحَامِلِ:
6- يَصِحُّ طَلَاقُ الْحَامِلِ رَجْعِيًّا وَبَائِنًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَيُعْتَبَرُ طَلَاقُهَا طَلَاقَ السُّنَّةِ إِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً عَنْ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ ثَلَاثًا يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَانْظُرْ (طَلَاقٌ).
فَإِذَا طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا صَحَّ رُجُوعُ الزَّوْجِ إِلَيْهَا أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ.وَيَصِحُّ لَهُ نِكَاحُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ إِذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا بِطَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا حَيْثُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا مُطْلَقًا إِلاَّ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَا تَحِلُّ لِمُطَلِّقِهَا ثَلَاثًا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
وَإِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِحَمْلٍ كَأَنْ قَالَ: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ ظَاهِرٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِلاَّ فَإِنْ وَلَدَتْهُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَعَ مِنْ حِينِ التَّعْلِيقِ؛ لِثُبُوتِ الْحَمْلِ؛ إِذْ أَقَلُّ مُدَّتِهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
أَمَّا إِذَا وَلَدَتْ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ: (طَلَاقٌ).
عِدَّةُ الْحَامِلِ:
7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ وَضْعُ الْحَمْلِ؛ لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْعِدَّةِ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَهِيَ حَاصِلَةٌ بِوَضْعِ الْحَمْلِ.وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْعِدَّةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ).
نَفَقَةُ الْحَامِلِ:
8- تَجِبُ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْحَامِلِ الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
9- وَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْحَامِلِ النَّاشِزِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْحَامِلِ النَّاشِزِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَيْثُ لَمْ تَحْمِلْ خَاصَّةٌ لَهَا فَتَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ، وَمَعَ حَمْلِهَا تَجِبُ النَّفَقَةُ لَهَا وَلِلْحَمْلِ.وَعَدَمُ سُقُوطِ النَّفَقَةِ بِنُشُوزِ الْحَامِلِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ نَفْسِهِ، وَالْحَامِلُ طَرِيقُ وُصُولِ النَّفَقَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَتَغَذَّى بِغِذَاءِ أُمِّهِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ تَسْقُطُ بِنُشُوزِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَهَا لَا لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لَهُ لَتَقَدَّرَتْ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ، وَلِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ لَمَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَإِذَا كَانَ أَصْلُ النَّفَقَةِ لَهَا لَا لِلْحَمْلِ فَتَسْقُطُ بِنُشُوزِهَا.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ حُكْمَ الْحَامِلِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ فَعَلَى الزَّوْجِ أَوِ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُهُ فَلَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ، كَمَا بَعْدَ الْوَضْعِ، وَإِنْ قِيلَ لِلْحَامِلِ: لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ وَلَا عَلَى الزَّوْجِ مُدَّةَ عِدَّةِ الشُّبْهَةِ.
10- أَمَّا الْحَامِلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا بِمَوْتِ الزَّوْجِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) لِحَدِيثِ: «لَيْسَ لِلْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا نَفَقَةٌ»، وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ كَانَ لَهُ مِيرَاثٌ انْتَقَلَ إِلَى الْوَرَثَةِ، فَنَفَقَةُ الْحَمْلِ نَصِيبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِيرَاثٌ لَمْ يَلْزَمْ وَارِثَ الْمَيِّتِ الْإِنْفَاقُ عَلَى حَمْلِ امْرَأَتِهِ كَمَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ.
وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: لَهَا النَّفَقَةُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ.
11- أَمَّا الْحَامِلُ مِنَ الزِّنَى فَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ نِكَاحِهَا إِنْ تَزَوَّجَهَا الزَّانِي يَحِلُّ وَطْؤُهَا وَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا اتِّفَاقًا، وَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ وَإِنْ وَجَبَتْ مَعَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَكِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ مِنَ الدُّخُولِ مِنْ جِهَتِهَا، وَهُنَا يُوجَدُ مَانِعٌ.
خُرُوجُ جَمِيعِ الْحَمْلِ:
12- الْوَضْعُ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ انْفِصَالُ جَمِيعِ الْحَمْلِ، حَتَّى إِذَا خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، فَتَصِحُّ مُرَاجَعَتُهَا وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ).وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهَا تَحِلُّ بِوَضْعِ ثُلُثَيِ الْحَمْلِ بِنَاءً عَلَى تَبَعِيَّةِ الْأَقَلِّ لِلْأَكْثَرِ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ يَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ...وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْكُلِّ فِي حَقِّ انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ احْتِيَاطًا، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي حَقِّ حِلِّهَا لِلْأَزْوَاجِ احْتِيَاطًا.
13- وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ إِذَا كَانَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا إِلاَّ بِوَضْعِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي الْبَطْنِ، وَالْعِدَّةُ شُرِعَتْ لِمَعْرِفَةِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَمْلِ، فَإِذَا عُلِمَ وُجُودُ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ فَقَدْ تَيَقَّنَ وُجُودُ الْمُوجِبِ لِلْعِدَّةِ، وَانْتَفَتِ الْبَرَاءَةُ الْمُوجِبَةُ لِانْقِضَائِهَا.وَهَذَا إِذَا كَانَ بَيْنَ وَضْعِ الْحَمْلِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ).
14- وَالْمُرَادُ بِالْحَمْلِ الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَوْ كَانَ مَيِّتًا أَوْ مُضْغَةً تُصُوِّرَتْ، وَلَوْ صُورَةً خَفِيَّةً تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الثِّقَاتِ مِنَ الْقَوَابِلِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ).وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مُضْغَةً لَمْ تُتَصَوَّرْ لَكِنْ شَهِدَ الثِّقَاتُ مِنَ الْقَوَابِلِ أَنَّهَا مَبْدَأُ خِلْقَةِ آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَتْ لَتُصُوِّرَتْ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِحُصُولِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ بِهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِنُطْفَةٍ مُتَغَيِّرَةٍ، فَإِذَا كَانَ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تُتَصَوَّرْ فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا مُتَغَيِّرَةً إِلاَّ بِاسْتِبَانَةِ بَعْضِ الْخَلْقِ.
أَمَّا إِذَا أَلْقَتْ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ دَمًا أَوْ وَضَعَتْ مُضْغَةً لَا صُورَةَ فِيهَا فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِهِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ دَمًا اجْتَمَعَ بِحَيْثُ إِذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْحَارُّ لَمْ يَذُبْ يُعْتَبَرُ حَمْلًا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ).
تَصَرُّفَاتُ الْحَامِلِ:
15- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ لَهَا أَهْلِيَّةٌ تَامَّةٌ وَلَا تُحَدُّ تَصَرُّفَاتُهَا بِسَبَبِ الْحَمْلِ، وَلَا تُعْتَبَرُ مَرِيضَةً مَرَضَ الْمَوْتِ إِلاَّ إِذَا جَاءَهَا الطَّلْقُ؛ لِأَنَّهُ أَلَمٌ شَدِيدٌ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، فَأَشْبَهَتْ صَاحِبَ سَائِرِ الْأَمْرَاضِ الْمَخُوفَةِ.وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا أَلَمَ بِهَا، وَاحْتِمَالُ وُجُودِهِ خِلَافُ الْعَادَةِ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِاحْتِمَالِهِ الْبَعِيدِ، كَمَا لَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ الْإِسْقَاطِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تُعْتَبَرُ مَرِيضَةً مَرَضَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا تَتَوَقَّعُ الْوِلَادَةَ كُلَّ سَاعَةٍ.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِلْحَجْرِ عَلَى الْحَامِلِ أَنْ تَكُونَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ بِيَوْمٍ كَامِلٍ عَلَى الْأَقَلِّ، فَلَوْ تَبَرَّعَتْ بَعْدَ السِّتَّةِ وَقَبْلَ تَمَامِ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِي السَّابِعِ بِأَنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهِ كَانَ تَبَرُّعُهَا مَاضِيًا.وَحَيْثُ اعْتُبِرَتِ الْحَامِلُ مَرِيضَةً مَرَضَ الْمَوْتِ، يَنْفُذُ تَبَرُّعُهَا بِمَا لَا يَزِيدُ عَنِ الثُّلُثِ، كَالْوَصِيَّةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ مَرَضِ الْمَوْتِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي بَحْثِ: (مَرَضُ الْمَوْتِ).
اسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ مِنَ الْحَامِلِ:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى حَامِلٍ حَتَّى تَضَعَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًى أَمْ غَيْرِهِ، فَلَا تُقْتَلُ إِذَا ارْتَدَّتْ، وَلَا تُرْجَمُ إِذَا زَنَتْ، وَلَا تُقْطَعُ إِذَا سَرَقَتْ، وَلَا تُجْلَدُ إِذَا قَذَفَتْ أَوْ شَرِبَتْ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي غَامِدٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طَهِّرْنِي، قَالَ وَمَا ذَاكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهَا حُبْلَى مِنْ زِنًى.قَالَ: أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ، قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِذًا لَا نَرْجُمُهَا، وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ تُرْضِعُهُ.فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إِلَيَّ إِرْضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: فَرَجَمَهَا».
وَلِأَنَّ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا إِتْلَافًا لِمَعْصُومٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَدُّ رَجْمًا أَمْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَلَفُ الْوَلَدِ مِنْ سِرَايَةِ الضَّرْبِ وَالْقَطْعِ، وَرُبَّمَا سَرَى إِلَى نَفْسِ الْمَضْرُوبِ وَالْمَقْطُوعِ، فَيَفُوتُ الْوَلَدُ بِفَوَاتِهِ.
فَإِذَا وَضَعَتِ الْوَلَدَ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا لَا يُؤَخَّرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُرْضِعُهُ أَوْ يَتَكَفَّلُ بِرَضَاعِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا تُحَدُّ حَتَّى تَسْقِيَهُ اللِّبَأَ، وَهُوَ اللَّبَنُ أَوَّلَ النِّتَاجِ لِاحْتِيَاجِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ غَالِبًا.أَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُرْضِعُهُ أَوْ يَتَكَفَّلُ بِرَضَاعِهِ تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، فَإِذَا وَضَعَتِ الْوَلَدَ وَانْقَطَعَ النِّفَاسُ وَكَانَتْ قَوِيَّةً يُؤْمَنُ تَلَفُهَا أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا أَوْ ضَعِيفَةً يُخَافُ عَلَيْهَا التَّلَفُ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهَا الْحَدُّ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَقْوَى، فَيُسْتَوْفَى الْحَدُّ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ فَوَاتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ)؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ: «أَنَّ الْمَرْأَةَ انْطَلَقَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَجَاءَتْ بِهِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهَا: انْطَلِقِي فَتَطَهَّرِي مِنَ الدَّمِ».
وَالتَّعْزِيرُ بِالْجَلْدِ وَنَحْوِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَدِّ جَلْدًا مِنْ حَيْثُ التَّأْخِيرُ وَعَدَمُهُ.
وَيُعْتَبَرُ قَوْلُهَا إِنِ ادَّعَتِ الْحَمْلَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِقَبُولِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَوْلَ الْغَامِدِيَّةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا، بَلْ بِظُهُورِ أَمَارَاتِ الْحَمْلِ.وَمِثْلُ الْحُدُودِ حُكْمُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ. (ر: حَدٌّ، قِصَاصٌ).
الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَامِلِ:
17- الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَامِلِ بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ جَرِيمَةٌ كَالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَيِّ إِنْسَانٍ يُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ) فَإِذَا تَسَبَّبَ الِاعْتِدَاءُ فِي سُقُوطِ الْجَنِينِ مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ اتِّفَاقًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةِ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ.ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ.فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا».
وَتَجِبُ الْغُرَّةُ أَيْضًا إِذَا أَسْقَطَتْهُ الْحَامِلُ بِدَوَاءٍ أَوْ فِعْلٍ كَضَرْبِ بَطْنِهَا مَثَلًا.وَالْغُرَّةُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ قِيمَتُهَا نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ أُمِّ الْجَنِينِ، تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ إِذَا كَانَ الِاعْتِدَاءُ عَمْدًا حَيْثُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِهَا فِي مَالِ الْجَانِي. (ر غُرَّةٌ).
18- وَإِذَا أَلْقَتْ بِهِ حَيًّا حَيَاةً مُحَقَّقَةً بِأَنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا مَثَلًا ثُمَّ مَاتَ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ فَدِيَةٌ كَامِلَةٌ وَكَفَّارَةٌ اتِّفَاقًا، إِذَا كَانَ الِاعْتِدَاءُ خَطَأً، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَمْدًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ إِذَا كَانَ عَمْدًا.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (إِجْهَاضٌ، جَنِينٌ، غُرَّةٌ).
مَوْتُ الْحَامِلِ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ حَيٌّ:
19- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ قَوْلُ سُحْنُونٍ وَابْنِ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- بِأَنَّ الْحَامِلَ إِذَا مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ حَيٌّ شُقَّ بَطْنُهَا وَيُخْرَجُ وَلَدُهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْقَاءُ حَيٍّ بِإِتْلَافِ جُزْءٍ مِنَ الْمَيِّتِ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ جُزْءٍ مِنَ الْمَيِّتِ، وَإِحْيَاءُ نَفْسٍ أَوْلَى مِنْ صِيَانَةِ مَيِّتٍ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ شَقُّ بَطْنِ الْمَيِّتِ لِإِخْرَاجِ مَالِ الْغَيْرِ مِنْهُ، فَلِإِبْقَاءِ الْحَيِّ أَوْلَى.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُبْقَرُ بَطْنُ حَامِلٍ عَنْ جَنِينٍ، وَلَوْ رُجِيَ خُرُوجُهُ حَيًّا؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَا يَعِيشُ عَادَةً وَلَا يَتَحَقَّقُ أَنْ يَحْيَا، فَلَا يَجُوزُ هَتْكُ حُرْمَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ».
وَفَصَّلَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ فَقَالَ: إِنْ رُجِيَ حَيَاةُ الْجَنِينِ وَجَبَ شَقُّ بَطْنِهَا وَإِخْرَاجُهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، فَإِنْ لَمْ تُرْجَ حَيَاتُهُ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا لَا تُشَقُّ لَكِنَّهَا لَا تُدْفَنُ حَتَّى يَمُوتَ الْجَنِينُ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قُدِرَ عَلَى إِخْرَاجِهِ بِحِيلَةٍ غَيْرِ شَقِّ الْبَطْنِ، كَأَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِ الْقَوَابِلُ فَيُخْرِجْنَهُ فُعِلَ.أَمَّا إِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا وَهِيَ حَيَّةٌ جَازَ قَطْعُ الْجَنِينِ لِإِنْقَاذِ حَيَاةِ الْأُمِّ بِلَا خِلَافٍ. (ر.إِجْهَاضٌ).
غُسْلُ وَتَكْفِينُ الْحَامِلِ:
20- إِنْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ مُسْلِمٍ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ أَنْ يُغَسِّلَهَا وَيُكَفِّنَهَا الْمُسْلِمُ، وَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ الْغُسْلِ شَامِلٌ لِسَائِرِ الْكُفَّارِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ تَغْسِيلُ وَتَكْفِينُ الْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ تَعْظِيمٌ لِلْمَيِّتِ وَتَطْهِيرٌ لَهُ، وَالْكَافِرُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْثَرْ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْحَامِلِ إِذَا مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مِنْ مُسْلِمٍ.
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ الْجَوَازِ مُطْلَقًا؛ حَيْثُ قَالُوا: بِعَدَمِ حُرْمَةِ جَنِينِ الْحَامِلِ حَتَّى يُولَدَ صَارِخًا.هَذَا، وَلَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَلَا الدُّعَاءُ لَهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
دَفْنُ الْحَامِلِ:
21- إِذَا مَاتَتِ الْحَامِلُ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ حَيٌّ يُؤَجَّلُ دَفْنُهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ وَلَدُهَا بِشَقِّ الْبَطْنِ أَوْ بِحِيلَةٍ إِنْ رُجِيَ خُرُوجُهُ حَيًّا أَوْ يُتَيَقَّنُ مَوْتُهُ، عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِتَأْخِيرِ دَفْنِهَا وَلَوْ تَغَيَّرَتْ لِئَلاَّ يُدْفَنَ الْحَمْلُ حَيًّا.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمَيِّتَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا، وَفِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ إِذَا كَانَ كَافِرًا، وَلِهَذَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- بِأَنَّ الْحَامِلَ الْكَافِرَةَ تُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَلَوْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مِنْ مُسْلِمٍ بِشُبْهَةٍ، أَوْ نِكَاحِ كِتَابِيَّةٍ، أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَسْلَمَ زَوْجُهَا؛ وَذَلِكَ لِعَدَمِ حُرْمَةِ جَنِينِهَا حَتَّى يُولَدَ صَارِخًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ: تُدْفَنُ بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ لَا تُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَذَّوْا بِعَذَابِهَا، وَلَا فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا مُسْلِمٌ فَيَتَأَذَّى بِعَذَابِهِمْ.
وَنُقِلَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ بِدَفْنِهَا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ.
وَيُجْعَلُ ظَهْرُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى جَانِبِهَا الْأَيْسَرِ لِيَكُونَ وَجْهُ الْجَنِينِ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ، قَالُوا: لِأَنَّ وَجْهَ الْجَنِينِ إِلَى ظَهْرِهَا.
ثَانِيًا: حَمْلُ الْحَيَوَانِ:
الْحَامِلُ مِنَ الْحَيَوَانِ لَهَا بَعْضُ الْأَحْكَامِ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ التَّذْكِيَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْبَيْعِ.وَفِيمَا يَلِي مُجْمَلُهَا.
أ- فِي التَّذْكِيَةِ:
22- إِذَا ذُبِحَ الْحَيَوَانُ وَوُجِدَ فِي بَطْنِهِ جَنِينٌ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ كَامِلِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَحِلُّ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَيِّتًا وَيُعْلَمُ أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ قَبْلَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ بِلَا خِلَافٍ.
وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً لَا يَحِلُّ إِلاَّ بِالتَّذْكِيَةِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذَكَاتِهَا.
أَمَّا إِنْ خَرَجَ بَعْدَ تَذْكِيَةِ الْحَامِلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُ قَبْلَ التَّذْكِيَةِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ مَوْتَهُ بِسَبَبِ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ».وَلِأَنَّ الْجَنِينَ مُتَّصِلٌ بِهَا اتِّصَالَ خِلْقَةٍ يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا، وَيُبَاعُ بِبَيْعِهَا، فَتَكُونُ ذَكَاتُهُ بِذَكَاتِهَا كَأَعْضَائِهَا.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحِلُّ حَتَّى يَخْرُجَ حَيًّا فَيُذَكَّى؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَنْفَرِدُ بِحَيَاتِهِ، فَلَا يَتَذَكَّى بِذَكَاةِ غَيْرِهِ كَمَا بَعْدَ الْوَضْعِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (أَطْعِمَةٌ، وَتَذْكِيَةٌ).
ب- فِي الزَّكَاةِ وَالْأُضْحِيَّةِ:
23- لَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الْحَامِلَ فِي زَكَاةِ الْحَيَوَانِ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: لَا تُؤْخَذُ الرُّبَّى وَلَا الْمَاخِضُ وَلَا الْأَكُولَةُ وَالْمَاخِضُ هِيَ الْحَامِلُ.وَإِنْ تَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا جَازَ أَخْذُهَا، وَلَهُ ثَوَابُ الْفَضْلِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَلَمْ يَذْكُرْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَمْلَ عَيْبًا فِي الْأُضْحِيَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ صَرَّحُوا بِعَدَمِ إِجْزَائِهَا فِي الْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يُفْسِدُ الْجَوْفَ وَيُصَيِّرُ اللَّحْمَ رَدِيئًا. (ر: زَكَاةٌ، أُضْحِيَّةٌ).
ج- فِي الْبَيْعِ:
24- يَجُوزُ بَيْعُ الْحَامِلِ مَعَ جَنِينِهَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَلَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ فِي الْبَيْعِ أَوْ ذِكْرُ ثَمَنٍ مُسْتَقِلٍّ لِلْجَنِينِ فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ، أَيْ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ وَمَا فِي أَرْحَامِ الْأَنْعَامِ وَالْخَيْلِ مِنَ الْأَجِنَّةِ.وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ أَيْ نِتَاجِ النِّتَاجِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
22-موسوعة الفقه الكويتية (ديات 5)
دِيَاتٌ -5ب- خَطَأُ الْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فِي حُكْمِهِ:
79- إِذَا أَخْطَأَ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَوِ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ فَتَلِفَ بِذَلِكَ نَفْسٌ أَوْ عُضْوٌ، فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِثَالُهُ مَنْ مَاتَ فِي التَّعْزِيرِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالتَّجَاوُزِ بِأَمْرِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ دِيَتَهُ تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ بِأَنَّهُ خَطَأٌ يَكْثُرُ وُجُودُهُ، فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ أَجْحَفَ بِهِمْ.
وَفِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِخَطَئِهِ، كَمَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَ آدَمِيًّا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ زَادَ فِي التَّعْزِيرِ يَظُنُّ السَّلَامَةَ فَخَابَ ظَنُّهُ فَهَدَرٌ، وَإِنْ شَكَّ فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ.
ج- وُجُودُ الْقَتِيلِ فِي الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ:
80- إِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَكَانٍ يَكُونُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، كَالشَّارِعِ الْأَعْظَمِ النَّافِذِ، وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَالسِّجْنِ وَكُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْتَصُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ، فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ، فَلَمَّا كَانَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الْمُنْتَفَعِينَ بِهَذِهِ الْأَمَاكِنِ كَانَ الْغُرْمُ عَلَيْهِمْ، فَيُدْفَعُ مِنْ مَالِهِمُ الْمَوْضُوعِ لَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ.وَكَذَلِكَ إِذَا قُتِلَ شَخْصٌ فِي زِحَامِ طَوَافٍ أَوْ مَسْجِدٍ عَامٍّ أَوِ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَدِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «لَا يُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ».
تَعَذُّرُ حُصُولِ الدِّيَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ:
81- إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي عَاقِلَةٌ، وَتَعَذَّرَ حُصُولُ الدِّيَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِعَدَمِ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِ ضَبْطِهِ، فَهَلْ يَسْقُطُ الدَّمُ أَوْ تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً عَلَى الْجَانِي نَفْسِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَسْقُطُ بِتَعَذُّرِ أَخْذِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ حَيْثُ وَجَبَتْ فِيهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَلَا عَلَى الْعَاقِلَةِ أَيْضًا لِعَجْزِهَا عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا مِنَ الدِّيَةِ، وَلَوْ أَيْسَرَتِ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ أُخِذَتِ الدِّيَةُ مِنْهَا كَامِلَةً لِئَلاَّ يَضِيعَ دَمُ الْمُسْلِمِ هَدَرًا، قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: وَهَذَا مُتَّجَهٌ، وَيُتَّجَهُ أَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الدِّيَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَتَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا تُؤْخَذُ مِنَ الْجَانِي بَلْ تَجِبُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَنَفَقَةِ الْفُقَرَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ، وَقَالَ: لَوْ حَدَثَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ هَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْوَاجِبُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا، كَمَا لَا يُطَالَبُ فَقِيرُ الْعَاقِلَةِ لِغِنَاهُ بَعْدَ الْحَوْلِ.
مَنْ يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ:
82- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلدِّيَةِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ أَيْ قَطْعِ الْأَطْرَافِ وَإِزَالَةِ الْمَعَانِي هُوَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، إِذْ هُوَ الْمُتَضَرِّرُ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالدِّيَةِ، وَلَهُ حَقُّ الْإِبْرَاءِ وَالْعَفْوُ عَنْهَا.وَإِذَا عَفَا عَنِ الدِّيَةِ فَلَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ الْمُطَالَبَةُ بِشَيْءٍ إِذَا لَمْ تَسْرِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ.
أَمَّا إِذَا سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ وَمَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَعْدَ عَفْوِهِ عَنْ قَطْعِ الْأَطْرَافِ وَالْمَعَانِي فَهَلْ لِلْأَوْلِيَاءِ الْمُطَالَبَةُ بِدِيَةِ النَّفْسِ لِأَنَّ الْعَفْوَ حَصَلَ عَنِ الْقَطْعِ لَا عَنِ الْقَتْلِ؟ أَوْ لَيْسَ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ الْقَطْعُ عَفْوٌ عَنِ الْجِنَايَةِ نَفْسِهَا؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، وَعَفْو، وَسِرَايَة).
أَمَّا دِيَةُ النَّفْسِ فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَيِّتِ حَسَبَ الْفَرَائِضِ الْمُقَدَّرَةِ شَرْعًا فِي تَرِكَتِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهَا كُلٌّ مِنَ الْوَرَثَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نَصِيبَهُ الْمُقَدَّرَ لَهُ بِاسْتِثْنَاءِ الْقَاتِلِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَلِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الْعَقْلُ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ».وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: لَا يَرِثُ الدِّيَةَ إِلاَّ عَصَبَاتُ الْمَقْتُولِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، وَكَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- يَذْهَبُ إِلَى هَذَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَوْرِيثُ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا.فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ «الضَّحَّاكِ الْكِلَابِيِّ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ».
وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ تُؤَدَّى دِيَتُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُهُ».
الْعَفْوُ عَنِ الدِّيَةِ:
83- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عَنْهَا.فَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ دِيَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْقَطْعِ وَإِتْلَافِ الْمَعَانِي تَسْقُطُ دِيَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي تَسْقُطُ بِعَفْوِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْعَفْوِ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ الْوَحِيدُ فِي دِيَةِ الْأَطْرَافِ وَالْمَعَانِي.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ تَسْقُطُ بِعَفْوِ أَوْ إِبْرَاءِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا.وَإِذَا عَفَا أَوْ أَبْرَأَ بَعْضُهُمْ دُونَ الْبَعْضِ يَسْقُطُ حَقُّ مَنْ عَفَا وَتَبْقَى حِصَّةُ الْآخَرِينَ فِي مَالِ الْجَانِي إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ إِنْ كَانَتْ خَطَأً.
وَاتَّفَقُوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَهُ الْعَفْوُ عَنْ دَمِ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا وَجَبَ لَهُ الدَّمُ مِثْلَ أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ إِنْفَاذِ مَقَاتِلِهِ عَمْدًا كَانَ الْقَتْلُ أَوْ خَطَأً.
وَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ يَكُونُ الْعَفْوُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فَيَنْعَقِدُ فِي الثُّلُثِ.
أَمَّا إِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ دِيَةِ قَطْعِ عُضْوٍ، فَسَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى عُضْوٍ آخَرَ أَوْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَهَلْ يَشْمَلُ الْعَفْوُ دِيَةَ النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ الَّذِي سَرَتْ إِلَيْهِ الْجِنَايَةُ؟ فَفِيهِ مَا يَأْتِي مِنَ التَّفْصِيلِ:
أ- إِذَا عَفَا عَنِ الْقَطْعِ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ بِأَنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْ جِنَايَتِكَ، أَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ، شَمَلَ الْعَفْوُ مَا يَحْدُثُ مِنَ الْقَطْعِ مِنْ إِتْلَافِ عُضْوٍ آخَرَ أَوِ الْمَوْتِ.
وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَطْعِ مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَهَذَا الْعَفْوُ يَخُصُّ الْقَطْعَ، وَلَا يَتَنَاوَلُ مَا يَسْرِي مِنْهُ مِنْ إِتْلَافِ أَعْضَاءٍ أُخْرَى أَوِ النَّفْسِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ)، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْجَانِي ضَامِنٌ لِلْجِنَايَةِ وَمَا تَسْرِي إِلَيْهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ.حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا بِالْقِصَاصِ بَعْدَ الْقَسَامَةِ إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا مِنْ وَاحِدٍ تَعَيَّنَ لَهَا.
وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ لِعَدَمِ شُمُولِ الْعَفْوِ لِمَا يَسْرِي مِنْهُ مِنْ إِتْلَافِ الْأَعْضَاءِ أَوِ النَّفْسِ بِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ (أَوْ إِتْلَافُ الْعُضْوِ)، وَالْعَفْوُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِصَرِيحِهِ؛ لِأَنَّهُ عَفَا عَنِ الْقَطْعِ، وَهُوَ غَيْرُ الْقَتْلِ، وَبِالسِّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاقِعَ قَتْلٌ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ إِلاَّ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ صُورَةَ الْعَفْوِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ، بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنِ الْقَطْعِ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا اسْمُ جِنْسٍ وَبِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْعَفْوِ عَنِ السِّرَايَةِ وَالْقَتْلِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَصِحُّ الْعَفْوُ، وَيَتَنَاوَلُ مَا يَسْرِي عَنِ الْقَطْعِ مِنْ إِتْلَافِ عُضْوٍ آخَرَ أَوِ النَّفْسِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَطْعِ عَفْوٌ عَنْ مُوجَبِهِ، وَمُوجَبُهُ الْقَطْعُ لَوِ اقْتَصَرَ، أَوِ الْقَتْلُ إِذَا سَرَى، فَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ عَفْوًا عَنْ مُوجَبِهِ أَيُّهُمَا كَانَ.وَلِأَنَّ اسْمَ الْقَطْعِ يَتَنَاوَلُ السَّارِيَ وَالْمُقْتَصِرَ، فَيَكُونُ الْعَفْوُ عَنِ الْقَطْعِ عَفْوًا عَنْ نَوْعَيْهِ، وَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَ الْعَفْوُ عَنِ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجِنَايَةَ السَّارِيَةَ وَالْمُقْتَصِرَةَ فَكَذَا هَذَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَتَسْقُطُ بِعَفْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْقَطْعِ وَلَوْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ عِنْدَهُمْ.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (قَتْل، قِصَاص، سِرَايَة).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
23-موسوعة الفقه الكويتية (رقص)
رَقْصالتَّعْرِيفُ:
1- الرَّقْصُ وَالرَّقَصُ وَالرَّقَصَانُ مَعْرُوفٌ.
وَهُوَ مَصْدَرُ رَقَصَ يَرْقُصُ رَقْصًا، وَالرَّقْصُ: أَحَدُ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعَلَ فِعْلًا نَحْوُ طَرَدَ طَرَدًا، وَحَلَبَ حَلَبًا.
وَيُقَالُ: أَرْقَصَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا وَرَقَّصَتْهُ، وَفُلَانٌ يَرْقُصُ فِي كَلَامِهِ أَيْ: يُسْرِعُ، وَلَهُ رَقْصٌ فِي الْقَوْلِ أَيْ: عَجَلَةٌ.
فَتَدُورُ مَوَادُّ اللَّفْظِ لُغَةً عَلَى مَعَانِي الْإِسْرَاعِ فِي الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ وَالِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ.
وَالزَّفْنُ: الرَّقْصُ، وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَزْفِنُ لِلْحَسَنِ أَيْ: تُرَقِّصُهُ.
وَاصْطِلَاحًا: عَرَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ الرَّقْصَ بِأَنَّهُ التَّمَايُلُ، وَالْخَفْضُ، وَالرَّفْعُ بِحَرَكَاتٍ مَوْزُونَةٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
(أ) اللَّعِبُ:
2- وَهُوَ طَلَبُ الْفَرَحِ بِمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ.
(ب) اللَّهْوُ:
3- صَرْفُ الْهَمِّ بِمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يُصْرَفَ بِهِ، وَقِيلَ: اللَّهْوُ الِاسْتِمْتَاعُ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا.
وَاللَّعِبُ: الْعَبَثُ، وَقِيلَ: اللَّهْوُ: الْمَيْلُ عَنِ الْجِدِّ إِلَى الْهَزْلِ، وَاللَّعِبُ: تَرْكُ مَا يَنْفَعُ بِمَا لَا يَنْفَعُ.
حُكْمُ الرَّقْصِ:
4- عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَتِ الْحَبَشَةُ يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَيَرْقُصُونَ، يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا يَقُولُونَ؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ».
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا فَسَمِعْنَا لَغَطًا وَصَوْتَ صِبْيَانٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ- أَيْ تَرْقُصُ- وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ تَعَالَيْ فَانْظُرِي».
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْقَفَّالُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ الرَّقْصِ مُعَلِّلِينَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِعْلَهُ دَنَاءَةٌ وَسَفَهٌ، وَأَنَّهُ مِنْ مُسْقِطَاتِ الْمُرُوءَةِ، وَأَنَّهُ مِنَ اللَّهْوِ.قَالَ الْأَبِيُّ: وَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ حَدِيثَ رَقْصِ الْحَبَشَةِ عَلَى الْوَثْبِ بِسِلَاحِهِمْ، وَلَعِبِهِمْ بِحِرَابِهِمْ، لِيُوَافِقَ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ بِحِرَابِهِمْ».
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَصْحَبِ الرَّقْصَ أَمْرٌ مُحَرَّمٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَيَحْرُمُ اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الرَّقْصِ ذِكْرًا أَوْ عِبَادَةً، بِدْعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ، لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ، وَلَا رَسُولُهُ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، أَوِ السَّلَفِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّقْصَ لَا يَحْرُمُ وَلَا يُكْرَهُ بَلْ يُبَاحُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَ حَبَشَةُ يَزْفِنُونَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ».وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِقْرَارِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِفِعْلِهِمْ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَتِهِ، وَدَلِيلُهُ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ الرَّقْصَ مُجَرَّدُ حَرَكَاتٍ عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَاعْوِجَاجٍ.
وَذَهَبَ الْبُلْقِينِيُّ إِلَى أَنَّ الرَّقْصَ إِذَا كَثُرَ بِحَيْثُ أَسْقَطَ الْمُرُوءَةَ حَرُمَ، وَالْأَوْجَهُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْإِبَاحَةَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكَسُّرٌ كَفِعْلِ الْمُخَنَّثِينَ وَإِلاَّ حَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، أَمَّا مَنْ يَفْعَلُهُ خِلْقَةً مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَلَا يَأْثَمُ بِهِ.
قَالَ فِي الرَّوْضِ: وَبِالتَّكَسُّرِ حَرَامٌ وَلَوْ مِنَ النِّسَاءِ.
شَهَادَةُ الرَّقَّاصِ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الرَّقَّاصِ لِأَنَّهُ سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ، وَهِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ.وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إِسْقَاطِ الْمُرُوءَةِ هُوَ الْمُدَاوَمَةُ وَالْإِكْثَارُ مِنَ الرَّقْصِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِمَنْ يَلِيقُ بِهِ الرَّقْصُ، أَمَّا مَنْ لَا يَلِيقُ بِهِ فَتَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ وَلَوْ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.وَالْمَرْجِعُ فِي الْمُدَاوَمَةِ وَالْإِكْثَارِ إِلَى الْعَادَةِ، وَيَخْتَلِفُ الْأَمْرُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّوَاحِي وَالْبِلَادِ، وَقَدْ يُسْتَقْبَحُ مِنْ شَخْصٍ قَدْرٌ لَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ غَيْرِهِ.وَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ يُفِيدُ اعْتِبَارَ الْمُدَاوَمَةِ وَالْإِكْثَارِ كَذَلِكَ، حَيْثُ عَبَّرُوا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ.قَالَ فِي الْبِنَايَةِ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ وَالْمُشَعْوِذِ وَالرَّقَّاصِ وَالسُّخَرَةِ بِلَا خِلَافٍ.
الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الرَّقْصِ:
6- الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الرَّقْصِ يَتْبَعُ حُكْمَ الرَّقْصِ نَفْسِهِ، فَحَيْثُ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا كَانَ حُكْمُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ.
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّقْصَ حَيْثُ كَانَ حَرَامًا لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الدَّرَاهِمِ لِلرَّقَّاصِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُتَقَوِّمَةِ، فَحَيْثُ كَانَ الرَّقْصُ حَرَامًا لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ.وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا مُصْطَلَحُ: «إِجَارَة».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
24-موسوعة الفقه الكويتية (زكاة 1)
زَكَاة -1التَّعْرِيفُ:
1- الزَّكَاةُ لُغَةً: النَّمَاءُ وَالرِّيعُ وَالزِّيَادَةُ، مِنْ زَكَا يَزْكُو زَكَاةً وَزَكَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: الْعِلْمُ يَزْكُو بِالْإِنْفَاقِ.
وَالزَّكَاةُ أَيْضًا الصَّلَاحُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً}.قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ صَلَاحًا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} أَيْ مَا صَلُحَ مِنْكُمْ {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أَيْ يُصْلِحُ مَنْ يَشَاءُ.وَقِيلَ لِمَا يُخْرَجُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي الْمَالِ «زَكَاةٌ»، لِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ لِلْمَالِ مِمَّا فِيهِ مِنْ حَقٍّ، وَتَثْمِيرٌ لَهُ، وَإِصْلَاحٌ وَنَمَاءٌ بِالْإِخْلَافِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.وَزَكَاةُ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لَلْأَبْدَانِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يُطْلَقُ عَلَى أَدَاءِ حَقٍّ يَجِبُ فِي أَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَيُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهِ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ.وَتُطْلَقُ الزَّكَاةُ أَيْضًا عَلَى الْمَالِ الْمُخْرَجِ نَفْسِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: عَزَلَ زَكَاةَ مَالِهِ، وَالسَّاعِي يَقْبِضُ الزَّكَاةَ.وَيُقَالُ: زَكَّى مَالَهُ أَيْ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ، وَالْمُزَكِّي: مَنْ يُخْرِجُ عَنْ مَالِهِ الزَّكَاةَ.وَالْمُزَكِّي أَيْضًا: مَنْ لَهُ وِلَايَةُ جَمْعِ الزَّكَاةِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الزَّكَاةَ تُطْلَقُ عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ، وَالنَّفَقَةِ وَالْحَقِّ، وَالْعَفْوِ.ثُمَّ ذَكَرَ تَعْرِيفَهَا فِي الشَّرْعِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الصَّدَقَةُ:
2- الصَّدَقَةُ: تُطْلَقُ بِمَعْنَيَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا أَعْطَيْتَهُ مِنَ الْمَالِ قَاصِدًا بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَشْمَلُ مَا كَانَ وَاجِبًا وَهُوَ الزَّكَاةُ، وَمَا كَانَ تَطَوُّعًا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الزَّكَاةِ، أَيْ فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ خَاصَّةً، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ».
وَالْمُصَدِّقُ- بِفَتْحِ الصَّادِ مُخَفَّفَةً- هُوَ السَّاعِي الَّذِي يَأْخُذُ الْحَقَّ الْوَاجِبَ فِي الْأَنْعَامِ، يُقَالُ: جَاءَ السَّاعِي فَصَدَقَ الْقَوْمَ، أَيْ أَخَذَ مِنْهُمْ زَكَاةَ أَنْعَامِهِمْ.
وَالْمُتَصَدِّقُ وَالْمُصَّدِّقُ- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ- هُوَ مُعْطِي الصَّدَقَةِ.
ب- الْعَطِيَّةُ:
3- الْعَطِيَّةُ: هِيَ مَا أَعْطَاهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يُرِيدُ بِهِ التَّوَدُّدَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- الزَّكَاةُ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ.وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.
فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}.وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَوَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وَقَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ»
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» وَذَكَرَ مِنْهَا إِيتَاءَ الزَّكَاةِ «وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُرْسِلُ السُّعَاةَ لِيَقْبِضُوا الصَّدَقَاتِ، وَأَرْسَلَ مُعَاذًا إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، وَقَالَ لَهُ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ».وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ- يَعْنِي شِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ».
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى وُجُوبِهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- عَلَى قِتَالِ مَانِعِيهَا.
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه-، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ.وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا قَالَ عُمَرُ: فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه-، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
أَطْوَارُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ:
5- إِيتَاءُ الزَّكَاةِ كَانَ مَشْرُوعًا فِي مِلَلِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ ((: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}.
وَشُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ إِيتَاءُ الصَّدَقَةِ لِلْفُقَرَاءِ، مُنْذُ الْعَهْدِ الْمَكِّيِّ، كَمَا فِي قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَاأَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} وَبَعْضُ الْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ جَعَلَتْ لِلْفُقَرَاءِ فِي أَمْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا مَعْلُومًا، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌلِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ فَرْضِ الزَّكَاةِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَادَّعَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ فَرْضَهَا كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ جَعْفَرٍ لِلنَّجَاشِيِّ: «وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ» وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَذِهِ الزَّكَاةَ الْمَخْصُوصَةَ ذَاتَ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ.
قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ إِنَّمَا فُرِضَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ مَدَنِيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ فَرِيضَةُ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا، وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ».
فَضْلُ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ:
6- يَظْهَرُ فَضْلُ الزَّكَاةِ مِنْ أَوْجُهٍ:
1- اقْتِرَانُهَا بِالصَّلَاةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَحَيْثُمَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ اقْتَرَنَ بِهِ الْأَمْرُ بِالزَّكَاةِ، مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}.وَمِنْ هُنَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ: وَاَللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ.
2- أَنَّهَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ».
3- أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ فَرِيضَةٌ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهَا تَطَوُّعِيَّةٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ».
أَمَّا فَضْلُ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ فَيَأْتِي فِي مَبَاحِثِ: (صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ).
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ:
7- أ- أَنَّ الصَّدَقَةَ وَإِنْفَاقَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُطَهِّرَانِ النَّفْسَ مِنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ، وَسَيْطَرَةِ حُبِّ الْمَالِ عَلَى مَشَاعِرِ الْإِنْسَانِ، وَيُزَكِّيهِ بِتَوْلِيدِ مَشَاعِرِ الْمُوَادَّةِ، وَالْمُشَارَكَةِ فِي إِقَالَةِ الْعَثَرَاتِ، وَدَفْعِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِينَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى.
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَفِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ، فَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الصَّدَقَاتِ حَدًّا أَدْنَى أَلْزَمَ الْعِبَادَ بِهِ، وَبَيَّنَ مَقَادِيرَهُ، قَالَ الدَّهْلَوِيُّ: إِذْ لَوْلَا التَّقْدِيرُ لَفَرَّطَ الْمُفْرِطُ وَلَاعْتَدَى الْمُعْتَدِي.
ب- الزَّكَاةُ تَدْفَعُ أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ الْمَكْنُوزَةِ دَفْعًا إِلَى إِخْرَاجِهَا لِتَشْتَرِكَ فِي زِيَادَةِ الْحَرَكَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ».
ج- الزَّكَاةُ تَسُدُّ حَاجَةَ جِهَاتِ الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ وَبِذَلِكَ تَنْتَفِي الْمَفَاسِدُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَالْخُلُقِيَّةُ النَّاشِئَةُ عَنْ بَقَاءِ هَذِهِ الْحَاجَاتِ دُونَ كِفَايَةٍ.
أَحْكَامُ مَانِعِ الزَّكَاةِ:
إِثْمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ:
8- مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَدِ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا هُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ عُقُوبَتَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلاَّ أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلاَّ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرَ مَا كَانَتْ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، إِلاَّ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، كَأَوْفَرَ مَا كَانَتْ، فَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ».
الْعُقُوبَةُ لِمَانِعِ الزَّكَاةِ:
9- مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَهُوَ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ تُؤْخَذُ مِنْهُ قَهْرًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» وَمِنْ حَقِّهَا الزَّكَاةُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ: الزَّكَاةُ حَقُّ الْمَالِ وَقَالَ- رضي الله عنه-: وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ.وَأَقَرَّهُ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ إِذَا أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا لَا يُؤْخَذُ مَعَهَا مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ يُؤْخَذُ شَطْرُ مَالِهِ عُقُوبَةً لَهُ، مَعَ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لآِلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ».
وَيُسْتَدَلُّ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ».
وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- لَمْ يَأْخُذُوا نِصْفَ أَمْوَالِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ.
فَأَمَّا مَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ وَمَنَعَ الزَّكَاةَ، فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقَاتِلَهُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَاتَلُوا الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَدَائِهَا، فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ أَخَذَهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لَكِنْ مَنَعَهَا بُخْلًا أَوْ تَأَوُّلًا، وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَلِذَا فَإِنْ مَاتَ فِي قِتَالِهِ عَلَيْهَا وَرِثَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَاتَلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَعَضَّتْهُمُ الْحَرْبُ قَالُوا: نُؤَدِّيهَا، قَالَ: لَا أَقْبَلُهَا حَتَّى تَشْهَدُوا أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ.وَلَمْ يُنْقَلْ إِنْكَارُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مُنْكِرًا لِوُجُوبِهَا، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا وَمِثْلُهُ يَجْهَلُ ذَلِكَ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ لِأَنَّهُ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْأَمْصَارِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ وُجُوبَهَا وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا نَاشِئًا بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَيَكُونُ مُرْتَدًّا، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ، لِكَوْنِهِ أَنْكَرَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
مَنْ تَجِبُ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ:
10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ الْعَالِمَ بِكَوْنِ الزَّكَاةِ فَرِيضَةً، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً تَجِبُ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَ نِصَابًا، وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَتَمَّتِ الشُّرُوطُ فِي الْمَالِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
أ- الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ:
11- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِ كُلٍّ مِنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَعَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ، وَعَائِشَةَ، وَجَابِرٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ، وَرَبِيعَةُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ.وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ؛ لِأَنَّ الْيَتِيمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ مَالِهِ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ، إِذْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَبَرَّعَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِشَيْءٍ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تُرَادُ لِثَوَابِ الْمُزَكِّي وَمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَأَهْلِ الْمُوَاسَاةِ عَلَى مَا قَالَ الشِّيرَازِيُّ، وَبِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، فَأَشْبَهَ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ وَأُرُوشَ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ.
وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي مَالِهِمَا لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ.
وَيَتَوَلَّى الْوَلِيُّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِمَا مِنَ الْحُقُوقِ، كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا زَكَاةٌ، فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا الْوَلِيُّ وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَالْمَجْنُونِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ، إِخْرَاجُ زَكَاةِ مَا مَضَى.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَلَا تُخْرَجُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، أَوْ يُفِيقَ الْمَجْنُونُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْأَدَاءِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: احْصِ مَا يَجِبُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنَ الزَّكَاةِ، فَإِذَا بَلَغَ فَأَعْلِمْهُ، فَإِنْ شَاءَ زَكَّى وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُزَكِّ، أَيْ لَا إِثْمَ عَلَى الْوَلِيِّ بَعْدَئِذٍ إِنْ لَمْ يُزَكِّ الصَّبِيُّ.وَذَهَبَ ابْنُ شُبْرُمَةَ إِلَى أَنَّ أَمْوَالَهُ الظَّاهِرَةَ مِنْ نَعَمٍ وَزَرْعٍ وَثَمَرٍ يُزَكَّى، وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَلَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَا يُزَكِّي حَتَّى يُصَلِّيَ وَيَصُومَ، وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي زُرُوعِهِمَا وَثِمَارِهِمَا، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُمَا.
وَاسْتُدِلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ».
وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَلَا تَتَأَدَّى إِلاَّ بِالِاخْتِيَارِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَلَا اخْتِيَارَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعَدَمِ الْعَقْلِ، وَقِيَاسًا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْعُشْرُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ أَرْضِهِمَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مُؤْنَةِ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ تَابِعٌ.وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهَذَا زَكَاةُ مَالِ الْجَنِينِ مِنْ إِرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ، ذَكَرَ فِيهِ النَّوَوِيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ طَرِيقَيْنِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ، قَالَ: وَبِذَلِكَ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ لَا يُتَيَقَّنُ حَيَاتُهُ وَلَا يَوْثُقُ بِهَا، فَلَا يَحْصُلُ تَمَامُ الْمِلْكِ وَاسْتِقْرَارُهُ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَبْتَدِئُ حَوْلُ مَالِهِ مِنْ حِينِ يَنْفَصِلُ.
ب- الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْكَافِرِ:
12- لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ اتِّفَاقًا، حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَمْ يَلْتَزِمْهُ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ طُهْرَةً لِلْمُزَكِّي، وَالْكَافِرُ لَا طُهْرَةَ لَهُ مَا دَامَ عَلَى كُفْرِهِ.
وَأَخَذَ عُمَرُ- رضي الله عنه- الزَّكَاةَ مُضَاعَفَةً مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عِنْدَمَا رَفَضُوا دَفْعَ الْجِزْيَةِ وَرَضُوا بِدَفْعِ الزَّكَاةِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِيقَتِهِ جِزْيَةٌ، وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْمُرْتَدُّ، فَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ فِي إِسْلَامِهِ، وَذَلِكَ إِذَا ارْتَدَّ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ لَا يَسْقُطُ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ فَلَا يَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ، فَيَأْخُذُهُ الْإِمَامُ مِنْ مَالِهِ كَمَا يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنَ الْمُسْلِمِ الْمُمْتَنِعِ، فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ الزَّكَاةُ الَّتِي وَجَبَتْ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ الرِّدَّةِ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةَ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَنِيَّتُهُ الْعِبَادَةَ وَهُوَ كَافِرٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، فَتَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالصَّلَاةِ، حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا زَكَاةَ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ.
وَأَمَّا إِذَا ارْتَدَّ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مِلْكَهُ لِمَالِهِ مَوْقُوفٌ فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ تَبَيَّنَ بَقَاءُ مِلْكِهِ وَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلَا.
ج- مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِفَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ:
13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الزَّكَاةِ مَفْرُوضَةً لَيْسَ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْحَرْبِيِّ إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ سَوَائِمُ وَمَكَثَ هُنَاكَ سِنِينَ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَيُخَاطَبُ بِأَدَائِهَا إِذَا خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الزَّكَاةِ فَرِيضَةً شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْحَرْبِيِّ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ.
د- مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْأَدَاءِ:
14- ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنَ الْأَدَاءِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ صَاحِبُهُ مِنَ الْأَدَاءِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْمَالِكَ لَوْ أَتْلَفَ الْمَالَ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إِمْكَانُ أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنَ الْأَدَاءِ لَيْسَ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا، لِمَفْهُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ».فَمَفْهُومُهُ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ، فَيَثْبُتُ وُجُوبُهَا فِي الذِّمَّةِ مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، كَثُبُوتِ الدُّيُونِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ.
الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ (أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ):
14 م- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَالَ الْفَيْءِ، وَخُمُسَ الْغَنِيمَةِ، وَكُلَّ مَا هُوَ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى الصَّرْفِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لَا زَكَاةَ فِيهِ.
وَلَمْ نَجِدْ لَدَى غَيْرِهِمْ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مُرَاعَاتِهَا فِي التَّطْبِيقِ، إِذْ لَمْ يُعْهَدْ عِلْمًا وَلَا عَمَلًا أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنَ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ.
الزَّكَاةُ فِي الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْأَمْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَمْوَالِ الْمُتَفَرِّقَةِ:
15- الَّذِي يُكَلَّفُ بِالزَّكَاةِ هُوَ الشَّخْصُ الْمُسْلِمُ بِالنِّسْبَةِ لِمَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مَا يَمْلِكُهُ نِصَابًا وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَتَمَّتِ الشُّرُوطُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ شَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَكَانَ الْمَالُ نِصَابًا فَأَكْثَرَ فَلَا زَكَاةَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ نَصِيبُهُ نِصَابًا، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَيْءٌ، وَيُسْتَثْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ- وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ- السَّائِمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فَإِنَّهَا تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَالِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَفِي النِّصَابِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَا السَّائِمَةُ الْمُخْتَلِطَةُ- أَيِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ حَقُّ كُلٍّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ فِيهَا لَكِنَّهَا تَشْتَرِكُ فِي الْمَرْعَى وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَرَافِقِ- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ وَالْمَالَ الْمُخْتَلِطَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَالِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي النِّصَابِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رَجَّحَ الْعَمَلَ بِهَا بَعْضُهُمْ كَابْنِ عَقِيلٍ وَالْآجُرِّيِّ.وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ».وَلِمَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ وَالْخِلَافِ فِيهِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (خُلْطَة).
هَذَا إِذَا كَانَ الْمَالُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إِنْ كَانَ مَالُ الرَّجُلِ مُفَرَّقًا بَيْن بَلَدَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَوَاشِي فَلَا أَثَرَ لِتَفَرُّقِهِ، بَلْ يُزَكَّى زَكَاةَ مَالٍ وَاحِدٍ.
وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَوَاشِي وَكَانَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ مَسَافَةُ قَصْرٍ فَأَكْثَرُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَجَّحَهَا صَاحِبُ الْمُغْنِي.وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ كُلَّ مَالٍ مِنْهَا يُزَكَّى مُنْفَرِدًا عَمَّا سِوَاهُ، فَإِنْ كَانَ كِلَا الْمَالَيْنِ نِصَابًا زَكَّاهُمَا كَنِصَابَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا وَالْآخَرُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ زَكَّى مَا تَمَّ نِصَابًا دُونَ الْآخَرِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ غَيْرِ أَحْمَدَ.وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا بِأَنَّهُ لَمَّا أَثَّرَ اجْتِمَاعُ مَالِ الْجَمَاعَةِ حَالَ الْخُلْطَةِ فِي مَرَافِقِ الْمِلْكِ وَمَقَاصِدِهِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَمَالٍ وَاحِدٍ وَجَبَ تَأْثِيرُ الِافْتِرَاقِ الْفَاحِشِ فِي الْمَالِ الْوَاحِدِ حَتَّى يَجْعَلَهُ كَمَالَيْنِ.وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ» وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ تُخْرَجُ زَكَاتُهُ بِبَلَدِهِ.
شُرُوطُ الْمَالِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ:
16- يُشْتَرَطُ فِي الْمَالِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ شُرُوطٌ:
1- كَوْنُهُ مَمْلُوكًا لِمُعَيَّنٍ.
2- وَكَوْنُ مَمْلُوكِيَّتِهِ مُطْلَقَةً (أَيْ كَوْنُهُ مَمْلُوكًا رَقَبَةً وَيَدًا).
3- وَكَوْنُهُ نَامِيًا.
4- وَأَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَاتِ الْأَصْلِيَّةِ.
5- حَوَلَانُ الْحَوْلِ.
6- وَبُلُوغُهُ نِصَابًا، وَالنِّصَابُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَالِ بِحَسَبِهِ.
7- وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْ وُجُودِ الْمَانِعِ، وَالْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَالِكِ دَيْنٌ يُنْقِصُ النِّصَابَ.
17- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: كَوْنُ الْمَالِ مَمْلُوكًا لِمُعَيَّنٍ:
فَلَا زَكَاةَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي سَوَائِمِ الْوَقْفِ، وَالْخَيْلِ الْمُسَبَّلَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ.
قَالُوا: لِأَنَّ فِي الزَّكَاةِ تَمْلِيكًا، وَالتَّمْلِيكُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يُتَصَوَّرُ، قَالُوا: وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، وَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بِالْإِحْرَازِ، فَزَالَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ عَنْهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا زَكَاةَ فِي الْمُوصَى بِهِ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ.وَتَجِبُ فِي الْمَوْقُوفِ وَلَوْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَمَسَاجِدَ، أَوْ بَنِي تَمِيمٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُمْ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ، فَلَوْ وَقَفَ نُقُودًا لِلسَّلَفِ يُزَكِّيهَا الْوَاقِفُ أَوِ الْمُتَوَلِّي عَلَيْهَا مِنْهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهَا حَوْلٌ مِنْ يَوْمِ مِلْكِهَا، أَوْ زَكَّاهَا إِنْ كَانَتْ نِصَابًا، وَهَذَا إِنْ لَمْ يَتَسَلَّفْهَا أَحَدٌ، فَإِنْ تَسَلَّفَهَا أَحَدٌ زُكِّيَتْ بَعْدَ قَبْضِهَا مِنْهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ.
وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْفُقَرَاءِ، أَوْ كَانَ عَلَى مَسْجِدٍ، أَوْ مَدْرَسَةٍ، أَوْ رِبَاطٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَالِكٌ لَا زَكَاةَ فِيهِ.وَكَذَا النَّقْدُ الْمُوصَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، أَوْ لِيُشْتَرَى بِهِ وَقْفٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، بِخِلَافِ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ عِنْدَهُمْ: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.
18- الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِلْكِيَّةُ الْمَالِ مُطْلَقَةً:
وَهَذِهِ عِبَارَةُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَبَّرَ غَيْرُهُمْ بِالْمِلْكِ التَّامِّ: وَهُوَ مَا كَانَ فِي يَدِ مَالِكِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ.
وَالْمِلْكُ النَّاقِصُ يَكُونُ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَالِ مُعَيَّنَةٍ، مِنْهَا:
1- مَالُ الضِّمَارِ: وَهُوَ كُلُّ مَالٍ مَالِكُهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ لِكَوْنِ يَدِهِ لَيْسَتْ عَلَيْهِ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ، كَالْبَعِيرِ الضَّالِّ، وَالْمَالِ الْمَفْقُودِ، وَالْمَالِ السَّاقِطِ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً، وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ بَيِّنَةٌ، وَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى أَخْذِهِ، وَالْمَسْرُوقِ الَّذِي لَا يَدْرِي مَنْ سَرَقَهُ، وَالْمَالِ الْمَدْفُونِ فِي الصَّحْرَاءِ إِذَا خَفِيَ عَلَى الْمَالِكِ مَكَانُهُ، فَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْبَيْتِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيْ لِأَنَّهُ فِي مَكَانٍ مَحْدُودٍ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي مَالِ الضِّمَارِ زَكَاةٌ
وَلِأَنَّ الْمَالَ إِذَا لَمْ يَكُنْ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ مَقْدُورًا لَا يَكُونُ الْمَالِكُ بِهِ غَنِيًّا.قَالُوا:
وَهَذَا بِخِلَافِ ابْنِ السَّبِيلِ (أَيِ الْمُسَافِرِ عَنْ وَطَنِهِ) فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَكَذَا الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَى مَلِيءٍ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْمَالَ الضَّائِعَ وَنَحْوَهُ كَالْمَدْفُونِ فِي صَحْرَاءَ إِذَا ضَلَّ صَاحِبُهُ عَنْهُ أَوْ كَانَ بِمَحَلٍّ لَا يُحَاطُ بِهِ، فَإِنَّهُ يُزَكَّى لِعَامٍ وَاحِدٍ إِذَا وَجَدَهُ صَاحِبُهُ وَلَوْ بَقِيَ غَائِبًا عَنْهُ سِنِينَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْمَالِ الضَّائِعِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ دَفْعُهَا حَتَّى يَعُودَ الْمَالُ.فَإِنْ عَادَ يُخْرِجُهَا صَاحِبُهُ عَنِ السَّنَوَاتِ الْمَاضِيَةِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمِلْكُ، وَهُوَ ثَابِتٌ.قَالُوا: لَكِنْ لَوْ تَلِفَ الْمَالُ، أَوْ ذَهَبَ وَلَمْ يَعُدْ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ.وَكَذَا عِنْدَهُمُ الْمَالُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ لِانْقِطَاعِ خَبَرِهِ، أَوِ انْقِطَاعِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ.
وَالْمَالُ الْمَوْرُوثُ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ قَبْضِهِ، يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْوَارِثُ حَوْلًا، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقَامَ سِنِينَ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْوَارِثُ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.
الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْأَسِيرِ، وَالْمَسْجُونِ وَنَحْوِهِ:
19- مَنْ كَانَ مَأْسُورًا أَوْ مَسْجُونًا قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي مَالِهِ بِبَيْعٍ وَهِبَةٍ وَنَحْوِهِمَا نَفَذَ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَ فِي مَالِهِ نَفَذَتِ الْوَكَالَةُ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ مَفْقُودًا أَوْ أَسِيرًا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ فِي حَقِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِ الْبَاطِنَةِ، لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مَغْلُوبًا عَلَى عَدَمِ التَّنْمِيَةِ فَيَكُونُ مَالُهُ حِينَئِذٍ كَالْمَالِ الضَّائِعِ، وَلِذَا يُزَكِّيهَا إِذَا أُطْلِقَ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ.وَفِي قَوْلِ الْأُجْهُورِيِّ وَالزَّرْقَانِيِّ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا أَصْلًا.وَفِي قَوْلِ الْبُنَانِيِّ: لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنِ الْأَسِيرِ وَالْمَفْقُودِ، بَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِمَا كُلَّ عَامٍ، لَكِنْ لَا يَجِبُ الْإِخْرَاجُ مِنْ مَالِهِمَا بَلْ يَتَوَقَّفُ مَخَافَةَ حُدُوثِ الْمَوْتِ.
أَمَّا الْمَالُ الظَّاهِرُ فَقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْفَقْدَ وَالْأَسْرَ لَا يُسْقِطَانِ زَكَاتَهُ؛ لِأَنَّهُمَا مَحْمُولَانِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِمَا الظَّاهِرِ وَتُجْزِئُ، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْمُخْرِجِ تَقُومُ مَقَامَ نِيَّتِهِ.
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ مَنْ ذُكِرَ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
25-موسوعة الفقه الكويتية (سكوت)
سُكُوتالتَّعْرِيفُ:
1- السُّكُوتُ خِلَافُ النُّطْقِ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ.يُقَالُ: سَكَتَ الصَّائِتُ سُكُوتًا: إِذَا صَمَتَ.
وَالِاسْمُ السُّكْتَةُ وَالسِّكْتَةُ.يَقُولُ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: السُّكُوتُ مُخْتَصٌّ بِتَرْكِ الْكَلَامِ.
وَرَجُلٌ سِكِّيتٌ: كَثِيرُ السُّكُوتِ.
وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ: تَكَلَّمَ الرَّجُلُ ثُمَّ سَكَتَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَإِذَا انْقَطَعَ كَلَامُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ قِيلَ: أَسْكَتَ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الصَّمْتُ:
2- الصَّمْتُ هُوَ السُّكُوتُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ أَمْ لَا.وَجَاءَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الصَّمْتَ هُوَ السُّكُوتُ الطَّوِيلُ.وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النَّهْرِ حَيْثُ قَالَ: السُّكُوتُ ضَمُّ الشَّفَتَيْنِ، فَإِنْ طَالَ يُسَمَّى صَمْتًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ».
ب- الْإِنْصَاتُ:
3- الْإِنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ لِلِاسْتِمَاعِ، يُقَالُ: أَنْصَتَ: إِذَا سَكَتَ سُكُوتَ مُسْتَمِعٍ.
وَأَنْصَتَهُ: إِذَا أَسْكَتَهُ، فَهُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ.يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} الْإِنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ لِلِاسْتِمَاعِ، وَالْإِصْغَاءُ وَالْمُرَاعَاةُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ السُّكُوتِ.
حُكْمُ السُّكُوتِ:
4- تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مُخْتَلَفِ الْمَسَائِلِ: وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَحْكَامَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، بَادِئِينَ بِالْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ، ثُمَّ حُكْمِ السُّكُوتِ وَأَثَرِهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُودِ وَالدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ إِجْمَالًا مَعَ التَّعَرُّضِ لِحُكْمِ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- السُّكُوتُ مُبَاحٌ غَالِبًا، وَتَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْأُخْرَى حَسَبَ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ السُّكُوتِ التَّكْلِيفِيِّ فِي مَسَائِلَ، مِنْهَا:
سُكُوتُ الْمُقْتَدِي:
6- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ السُّكُوتُ عَلَى الْمُقْتَدِي عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، فَيَسْتَمِعُ إِذَا جَهَرَ الْإِمَامُ، وَيُنْصِتُ إِذَا أَسَرَّ.فَإِنْ قَرَأَ كُرِهَ تَحْرِيمًا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا نَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَنَزَلَ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} » قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْبَحْرِ: الْمَطْلُوبُ بِالْآيَةِ أَمْرَانِ: الِاسْتِمَاعُ وَالسُّكُوتُ، فَيُعْمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.وَالْأَوَّلُ يَخُصُّ الْجَهْرِيَّةَ، وَالثَّانِي لَا، فَيُجْرَى عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَيَجِبُ السُّكُوتُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا.ا هـ.وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: الِاسْتِمَاعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ فَالْإِنْصَاتُ مُمْكِنٌ عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ، فَيَجِبُ بِظَاهِرِ النَّصِّ.وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ.فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ».
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا تَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي الْقِرَاءَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّلَاةُ جَهْرِيَّةً أَمْ سَرِيَّةً، لَكِنَّهُمْ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا لَا يُجْهَرُ فِيهِ.كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِهَا لِلْمُقْتَدِي فِي الْجَهْرِيَّةِ عِنْدَ سَكَتَاتِ الْإِمَامِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».
أَمَّا فِيمَا يُجْهَرُ فِيهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ بَلْ يُنْصِتُ، وَذَلِكَ لِلْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.وَفِي الْجَدِيدِ: تَتَعَيَّنُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، حِفْظًا أَوْ نَظَرًا فِي مُصْحَفٍ، أَوْ تَلْقِينًا، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، لِكُلٍّ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي، سَرِيَّةً كَانَتِ الصَّلَاةُ أَوْ جَهْرِيَّةً، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة).
السُّكُوتُ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ:
7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ) إِلَى أَنَّ السُّكُوتَ وَالْإِنْصَاتَ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ، فَيَحْرُمُ الْكَلَامُ إِلاَّ لِلْخَطِيبِ أَوْ لِمَنْ يُكَلِّمُهُ الْخَطِيبُ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}.وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ».
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرَ مَنْ خِيفَ هَلَاكُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَالْإِنْصَاتُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ.وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ قَلِيلَ الذِّكْرِ سِرًّا، كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُشِيرَ بِرَأْسِهِ، أَوْ يَدِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مُنْكَرًا.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ السُّكُوتِ بِمَا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَرِيبًا، بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِنْصَاتِ لِلِاسْتِمَاعِ، وَالْبَعِيدُ لَيْسَ بِمُسْتَمِعٍ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا بِوُجُوبِ السُّكُوتِ حِينَ الْخُطْبَةِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ، فِي الْأَصَحِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجِبُ الْإِنْصَاتُ، وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ حِينَ الْخُطْبَةِ؛ لِمَا صَحَّ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَادْعُ لَنَا.فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَوْعِدِ السَّاعَةِ، فَأَوْمَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَعَادَ الْكَلَامَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا».وَالْأَمْرُ فِي الْآيَةِ لِلنَّدْبِ، فَيُسَنُّ السُّكُوتُ وَالْإِنْصَاتُ وَيُكْرَهُ الْكَلَامُ، وَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
سَكَتَاتُ الْإِمَامِ:
8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّأْمِينِ قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ.وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ لِيَتَمَكَّنَ الْمَأْمُومُ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مَعَ الْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ حِينَئِذٍ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالذِّكْرِ أَوِ الدُّعَاءِ أَوْ الْقِرَاءَةِ سِرًّا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَ فِيهَا سُكُوتٌ حَقِيقِيٌّ لِلْإِمَامِ.
وَقَالُوا: إِنَّ السَّكَتَاتِ الْمَنْدُوبَةَ فِي الصَّلَاةِ أَرْبَعٌ: سَكْتَةٌ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ يَفْتَتِحُ فِيهَا، وَسَكْتَةٌ بَيْنَ: وَلَا الضَّالِّينَ وَآمِينَ، وَسَكْتَةٌ لِلْإِمَامِ بَعْدَ التَّأْمِينِ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَسَكْتَةٌ قَبْلَ تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ.
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لِلْإِمَامِ سَكْتَتَانِ، فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ: إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ}.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَغْتَنِمُ مِنَ الْإِمَامِ اثْنَتَيْنِ: إِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَأَقْرَأُ عِنْدَهَا، وَحِينَ يَخْتِمُ السُّورَةَ، فَأَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ.
وَلَا يَقُولُ بِاسْتِحْبَابِ هَذِهِ السَّكَتَاتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاة، وَقِرَاءَة).
السُّكُوتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ:
9- الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ- أَيْ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ- وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ مَا فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ- أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ كَمَا يَقُولُ الْغَزَالِيُّ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.فَالسُّكُوتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ ارْتِكَابِ الْمُنْكَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ حَرَامٌ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ حِينَ تَوَفُّرِ شُرُوطِهِ وَالْمَرَاتِبِ وَالْوَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَفِي بَيَانِ شُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ وَمَرَاتِبِهِ، وَالْوَسَائِلِ الَّتِي يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُهَا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَلْ هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ- تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ، يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ) ف 3- 5 (6 248- 250).
السُّكُوتُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
10- تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالطَّلَبِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ.وَهَذَا إِذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَكَانَ الْقَاضِي عَادِلًا، وَيَكُونُ الْمَكَانُ قَرِيبًا، وَلَا يَعْلَمُ بُطْلَانَ الشُّهُودِ بِهِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ خَوْفًا.
فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّكُوتُ؛ لِأَنَّ فِي سُكُوتِهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَهَذَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.
أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالرَّضَاعِ فَيَجِبُ الْأَدَاءُ حِسْبَةً بِلَا طَلَبٍ.
إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُخَيَّرُ فِي الْحُدُودِ، وَسَتْرُهَا فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَبَرُّ، فَالْأَوْلَى فِيهَا الْكِتْمَانُ إِلاَّ لِمُتَهَتِّكٍ وَمَنِ اشْتُهِرَ بِالْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي.
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَخِلَافٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة).
حُكْمُ السُّكُوتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُودِ:
11- الْمُعَامَلَاتُ وَالْعُقُودُ أَسَاسُهَا الرِّضَا الَّذِي يَتَحَقَّقُ غَالِبًا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ الْقَوْلِيِّ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ السُّكُوتَ لَا يُعْتَبَرُ رِضًا فَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ تَقُولُ: (لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ وَالسُّيُوطِيُّ فِي أَشْبَاهِهِمَا مِنْ أَنَّ الثَّيِّبَ لَوْ سَكَتَتْ عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْإِذْنِ.وَلَوْ رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِسُكُوتِ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ أَوْ إِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْعِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَسُكُوتُ الْوَلِيِّ عَنْ مُطَالَبَةِ التَّفْرِيقِ لَيْسَ بِرِضًا مَا لَمْ تَلِدْ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ بَعْضِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَنَظَائِرِهَا فِيمَا بَعْدُ مَعَ الْأَدِلَّةِ.هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.
لَكِنْ قَدْ يَتَحَقَّقُ الرِّضَا بِالْفِعْلِ وَالتَّعَاطِي، أَوِ الْقَوْلِ مِنْ طَرَفٍ وَالْفِعْلِ مِنْ طَرَفٍ آخَرَ، أَوِ الْقَوْلِ مِنْ جَانِبٍ وَالسُّكُوتِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، كَمَا فُصِّلَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِمَا يَدُلُّ السُّكُوتُ فِيهَا عَلَى الرِّضَا وَالْإِذْنِ وَفْقًا لِقَاعِدَةِ: إِنَّ السُّكُوتَ فِي مَعْرِضِ الْحَاجَةِ بَيَانٌ، كَمَا ذَكَرُوا أَمْثِلَةً لِمَا لَا يَدُلُّ فِيهِ السُّكُوتُ عَلَى الرِّضَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ.
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَهَمَّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِالتَّفْصِيلِ:
أ- سُكُوتُ الْمَالِكِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ
12- إِذَا تَصَرَّفَ الْفُضُولِيُّ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِبَيْعٍ فِي حُضُورِ الْمَالِكِ، فَسَكَتَ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْبَيْعِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِذْنًا بِالْبَيْعِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يُعْتَبَرُ هَذَا السُّكُوتُ إِذْنًا وَلَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لِقَاعِدَةِ: لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ.وَعَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ الصَّرِيحَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ بِيعَ مَالُهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَلَا يُعْذَرُ بِسُكُوتِهِ إِذَا ادَّعَاهُ.فَإِنْ مَضَى عَامٌ وَهُوَ سَاكِتٌ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ أَيْضًا.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ أَصْلًا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَوْ بِحَضْرَتِهِ وَسُكُوتِهِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَلَوْ أَجَازَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَيِ الْمِلْكِ وَالْإِذْنِ.
أَمَّا شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (فُضُولِيّ).
ب- سُكُوتُ الْوَلِيِّ عِنْدَ بَيْعِ أَوْ شِرَاءِ مَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ:
13- إِذَا رَأَى الْوَلِيُّ مُوَلِّيَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ التَّصَرُّفِ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِذْنًا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.قَالَ الْمُوصِلِيُّ: لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلِيلُ رِضًا، كَسُكُوتِ الشَّفِيعِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْهُ يَتَصَرَّفُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْوَلِيُّ سَاكِتٌ، يَعْتَقِدُونَ رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ لَمَنَعَهُ، فَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةَ الْمَأْذُونِ.فَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ سُكُوتُهُ رِضًا يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ: السُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُعْتَبَرُ رِضًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَالسَّخَطَ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْإِذْنِ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ سُكُوتَ الْقَاضِي فَقَالُوا: إِذَا رَأَى الْقَاضِي الصَّبِيَّ أَوِ الْمَعْتُوهَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ، لَا يَكُونُ سُكُوتُهُ إِذْنًا فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ حَتَّى يَكُونَ الْإِذْنُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ.
ج- سُكُوتُ الشَّفِيعِ:
14- سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ وَالثَّمَنِ يُعْتَبَرُ رِضًا بِالْعَقْدِ وَإِقْرَارًا بِالتَّنَازُلِ عَنِ الشُّفْعَةِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ).فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الشَّفِيعَ أَنْ يَقُولَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي سَمِعَ فِيهِ عَقْدَ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ يَطْلُبُ طَلَبَ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ، فَإِنْ سَكَتَ وَأَخَّرَ الطَّلَبَ يَسْقُطُ حَقُّ شُفْعَتِهِ.
وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْخَطِيبُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّهَا حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَرَدِّ الْمَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا أَوْ خَائِفًا مِنْ عَدُوٍّ فَلْيُوَكِّلْ إِنْ قَدَرَ، وَإِلاَّ فَلْيُشْهِدْ عَلَى الطَّلَبِ.وَإِلاَّ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْأَظْهَرِ لِتَقْصِيرِهِ، وَلِإِشْعَارِ السُّكُوتِ- مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِشْهَادِ- بِالرِّضَا.
وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنِ اشْتَغَلَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ بِكَلَامٍ آخَرَ، أَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ سَكَتَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ الطَّلَبُ فَوْرًا، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ سَكَتَ الشَّفِيعُ مَعَ عِلْمِهِ بِهَدْمٍ أَوْ بِنَاءٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ لِإِصْلَاحٍ، أَوْ سَكَتَ بِلَا مَانِعٍ شَهْرَيْنِ، إِنْ حَضَرَ الْعَقْدُ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ.
وَإِلاَّ فَتَسْقُطُ بِحُضُورِهِ سَاكِتًا بِلَا عُذْرٍ سَنَةً.
فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ سَاكِتٌ بِلَا مَانِعٍ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ.
د- السُّكُوتُ فِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ:
15- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ صَرَاحَةً تَنْعَقِدُ كَذَلِكَ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ دَلَالَةً.فَإِذَا وَضَعَ رَجُلٌ مَالَهُ فِي دُكَّانٍ مَثَلًا، فَرَآهُ صَاحِبُ الدُّكَّانِ وَسَكَتَ، ثُمَّ تَرَكَ الرَّجُلُ ذَلِكَ الْمَالَ وَانْصَرَفَ صَارَ ذَلِكَ الْمَالُ عِنْدَ صَاحِبِ الدُّكَّانِ وَدِيعَةً، لِأَنَّ سُكُوتَ صَاحِبِ الدُّكَّانِ حِينَ وَضَعَ الْمَالَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ حِفْظِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ يَكُونُ ضَامِنًا كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَمَانَاتِ.
أَمَّا السُّكُوتُ فِي الْعَارِيَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا مِنَ الْمُعِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ طَلَبَ شَخْصٌ مِنْ آخَرَ إعَارَةَ شَيْءٍ، فَسَكَتَ صَاحِبُ ذَلِكَ الشَّيْءِ ثُمَّ أَخَذَهُ الْمُسْتَعِيرُ كَانَ غَاصِبًا.
وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالُوا: الْأَصَحُّ فِي النَّاطِقِ اشْتِرَاطُ لَفْظٍ يُشْعِرُ بِالْإِذْنِ أَوْ بِطَلَبِهِ، كَأَعَرْتُكَ هَذَا وَنَحْوَهُ.وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ.
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (وَدِيعَة، عَارِيَّةً).
هـ- الصُّلْحُ عَلَى السُّكُوتِ:
16- الصُّلْحُ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ، أَوْ خَوْفِ وُقُوعِهِ، كَمَا عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ، أَوْ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ بِالتَّرَاضِي، كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَقَدْ قَسَّمَهُ الْفُقَهَاءُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ وَالصُّلْحُ عَنْ سُكُوتٍ، بِأَنْ يَسْكُتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَى الْمُدَّعِي فَيُصَالِحَهُ بِدَفْعِ شَيْءٍ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى.
وَحُكْمُ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُوَ حُكْمُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ.
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنِ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِهِ أَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَيُنْكِرُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ يَسْكُتُ وَهُوَ يَجْهَلُهُ، ثُمَّ يُصَالِحُ عَلَى مَالٍ، يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ الْمَالُ الْمُصَالَحُ بِهِ بَيْعًا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَإِبْرَاءً فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ.
وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ نَصُّوا بِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ أَوِ السُّكُوتِ هُوَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةٌ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَلَاصٌ مِنَ الْيَمِينِ وَقَطْعٌ لِلْمُنَازَعَةِ.
أَمَّا الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَحُكْمُ السُّكُوتِ فِي الصُّلْحِ حُكْمُ الْإِقْرَارِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ وَتَجْرِي فِيهِ الصُّوَرُ الَّتِي تَجْرِي فِي الْإِقْرَارِ، مِنْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صُلْح).
سُكُوتُ الْمَرْأَةِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا لِلنِّكَاحِ:
17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا لِلنِّكَاحِ يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ، قِيلَ: إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي وَتَسْكُتُ، قَالَ: هُوَ إِذْنُهَا».وَفِي رِوَايَةٍ: «الْبِكْرُ رِضَاهَا صُمَاتُهَا».وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا إِنْ بَكَتْ بِغَيْرِ صَوْتٍ أَوْ ضَحِكَتْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سُكُوتِهَا.
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: سُكُوتُ الْبِكْرِ فِي النِّكَاحِ إِذْنٌ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ قَطْعًا، أَمَّا لِسَائِرِ الْعَصَبَةِ وَالْحَاكِمِ فَقَوْلَانِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ إِذْنٌ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا بُدَّ مِنَ الْكَلَامِ كَالثَّيِّبِ.
أَمَّا الثَّيِّبُ فَسُكُوتُهَا عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ فِي النِّكَاحِ لَا يُعْتَبَرُ إِذْنًا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ الصَّرِيحِ بِالْكَلَامِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ إِذْنَهَا الْكَلَامُ لِخَبَرِ: «الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا».ا هـ.وَلِأَنَّ السُّكُوتَ إِنَّمَا جُعِلَ إِذْنًا فِي الْبِكْرِ لِمَكَانِ الْحَيَاءِ الْمَانِعِ مِنَ النُّطْقِ الْمُخْتَصِّ بِالْأَبْكَارِ، لِأَنَّ الْحَيَاءَ يَكُونُ فِيهِنَّ أَكْثَر، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الثَّيِّبُ، كَمَا قَالَ الْمُوصِلِيُّ.
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح، وَاسْتِئْذَان).
سُكُوتُ الزَّوْجِ عِنْدَ وِلَادَةِ الْمَرْأَةِ:
18- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي بَحْثِ اللِّعَانِ أَنَّهُ لَوْ نَفَى الْوَلَدَ فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ، أَوْ عِنْدَ شِرَاءِ آلَةِ الْوِلَادَةِ كَالْمَهْدِ وَنَحْوِهِ، صَحَّ نَفْيُهُ.أَمَّا بَعْدَ التَّهْنِئَةِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّتِهَا فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ وَإِقْرَارٌ عَلَى النَّسَبِ، فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ: فَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهَا بِمُدَّةِ النِّفَاسِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَخَّرَ الزَّوْجُ نَفْيَ الْحَمْلِ يَوْمًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَضْعِ أَوِ الْحَمْلِ بِلَا عُذْرٍ، امْتَنَعَ لِعَانُهُ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ.وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ، حَيْثُ قَالُوا: يُشْتَرَطُ النَّفْيُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَوْ سَكَتَ مُدَّةً مَعَ إِمْكَانِ الرَّدِّ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِقْرَارًا، كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الشُّفْعَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سَمِعَ إِنْسَانًا يُقِرُّ بِنَسَبٍ، وَسَكَتَ الْمُقَرُّ لَهُ جَازَ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي النَّسَبِ إِقْرَارٌ، لِأَنَّ مَنْ بُشِّرَ بِوَلَدٍ فَسَكَتَ لَحِقَهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَقَرَّ بِهِ.وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (لِعَان وَنَسَب).
19- هَذَا، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مَسَائِلَ أُخْرَى، وَذَكَرُوا أَنَّ السُّكُوتَ فِيهَا وَأَمْثَالِهَا يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا، كَالْقَبُولِ بِالسُّكُوتِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ، وَسُكُوتِ الْمُحْرِمِ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ.فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ السُّكُوتَ فِي الْإِجَارَةِ يُعَدُّ قَبُولًا وَرِضًا، فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ: اسْكُنْ بِكَذَا وَإِلاَّ فَاخْرُجْ، فَسَكَتَ وَسَكَنَ، كَانَ مُسْتَأْجَرًا بِالْمُسَمَّى بِسُكْنَاهُ وَسُكُوتِهِ.كَذَلِكَ لَوْ قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ: اسْكُنْ بِمِائَةٍ، وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: ثَمَانِينَ، فَسَكَتَ الْمَالِكُ وَأَبْقَى الْمُسْتَأْجِرَ سَاكِنًا يَلْزَمُ ثَمَانُونَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ مِنْ قِبَلِ الْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعَدُّ قَبُولًا.
وَكَذَا لَوْ قَالَ الرَّاعِي لِلْمَالِكِ: لَا أَرْضَى بِمَا سَمَّيْتَ وَإِنَّمَا أَرْضَى بِكَذَا، فَسَكَتَ الْمَالِكُ فَرَعَى الرَّاعِي لَزِمَ الْمَالِكَ مَا سَمَّاهُ الرَّاعِي بِسُكُوتِ الْمَالِكِ.
وَقَالُوا: سُكُوتُ الْوَكِيلِ قَبُولٌ وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ.وَسُكُوتُ الْبَائِعِ الَّذِي لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حِينَ رَأَى الْمُشْتَرِيَ قَبَضَ الْمَبِيعَ إِذْنٌ بِقَبْضِهِ.وَإِذَا رَأَى الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ يَبِيعُ الرَّهْنَ فَسَكَتَ يَكُونُ رِضًا مِنَ الْمُرْتَهِنِ، وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَقَ الْحَلاَّقُ رَأْسَ مُحْرِمٍ وَهُوَ سَاكِتٌ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إِذْنًا، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ كَمَا لَوْ حَلَقَ بِأَمْرِهِ فَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَإِنَّهَا تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ.وَاشْتَرَطَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ مِنَ الْقَارِئِ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ لَرَدَّهُ الشَّيْخُ، فَسُكُوتُهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ قِرَاءَتِهِ.وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي أَشْبَاهِهِ، وَالْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ، وَابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّرْكَشِيُّ فُرُوعًا أُخْرَى يَنْزِلُ فِيهَا السُّكُوتُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ وَالْإِذْنِ.
كَمَا ذَكَرُوا أَمْثِلَةً أُخْرَى لَا يَدُلُّ السُّكُوتُ فِيهَا عَلَى الرِّضَا وَالْإِذْنِ وَفْقًا لِقَاعِدَةِ: (لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) وَمِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ:
لَوْ سَكَتَ عَنْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ فَلَا يَسْقُطُ ضَمَانُهُ.وَلَوْ سَكَتَ عَنْ إِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْعِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ.وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَسَكَتَ الْوَلِيُّ عَنْ مُطَالَبَةِ التَّفْرِيقِ لَا يُعَدُّ رِضًا مَا لَمْ تَلِدْ، وَكَذَا سُكُوتُ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ لَيْسَ بِرِضًا وَلَوْ أَقَامَتْ مَعَهُ سِنِينَ.وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَفِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ
السُّكُوتُ فِي الدَّعَاوَى:
20- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا كُلِّفَ بِالْيَمِينِ فَنَكَلَ صَرَاحَةً، كَأَنْ قَالَ: لَا أَحْلِفُ، أَوْ حُكْمًا كَأَنْ سَكَتَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَمِنْ غَيْرِ آفَةٍ (كَخَرَسٍ وَطَرَشٍ) يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ نُكُولًا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ.
وَإِذَا قَالَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، لَا يُسْتَحْلَفُ بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَكَذَا لَوْ لَزِمَ السُّكُوتَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَدَائِعِ أَنَّ الْأَشْبَهَ أَنَّ هَذَا السُّكُوتَ إِنْكَارٌ فَيُسْتَحْلَفُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ قَالَ: لَا أُخَاصِمُهُ، قَالَ لَهُ الْقَاضِي: إِمَّا خَاصَمْتَ وَإِمَّا أَحَلَفْتُ هَذَا الْمُدَّعِيَ عَلَى دَعْوَاهُ وَحَكَمْتُ لَهُ.فَإِنْ تَكَلَّمَ وَإِلاَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعِي.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ وَجَرَى بِهَا الْعَمَلُ: إِنْ قَالَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ.فَإِنْ تَمَادَى فِي امْتِنَاعِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ جَوَابِ الْمُدَّعِي لِغَيْرِ دَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ جُعِلَ حُكْمُهُ كَمُنْكِرٍ لِلْمُدَّعَى بِهِ نَاكِلٌ عَنِ الْيَمِينِ، وَحِينَئِذٍ فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي بَعْدَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: أَجِبْ عَنْ دَعْوَاهُ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلًا، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُ لِدَهْشَةٍ أَوْ جَهَالَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ شَرَحَ لَهُ ثُمَّ حَكَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.وَسُكُوتُ الْأَخْرَسِ عَنِ الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ لِلْجَوَابِ كَسُكُوتِ النَّاطِقِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي اعْتِبَارِ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نُكُولًا رِوَايَتَانِ: فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُجِيبَ، وَلَا يَجْعَلُهُ بِذَلِكَ نَاكِلًا.ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ.
وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ قَوْلًا آخَرَ مُوَافِقًا لِمَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ أَوْ قَالَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، أَوْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ قَدْرَ حَقِّهِ: قَالَ لَهُ الْقَاضِي: احْلِفْ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلًا وَقَضَيْتُ عَلَيْكَ.وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: إِنْ حَلَفْتَ وَإِلاَّ قَضَيْتُ عَلَيْكَ بِالنُّكُولِ وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلاَّ جَعَلَهُ نَاكِلًا وَحَكَمَ عَلَيْهِ.
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء).
السُّكُوتُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:
تَعَرَّضَ الْأُصُولِيُّونَ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مَوْضِعَيْنِ: الْأَوَّلُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ وَمِنْهَا بَيَانُ الضَّرُورَةِ، وَالثَّانِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.وَفِيمَا يَلِي إِجْمَالُ مَا قَالُوا:
21- أَوَّلًا: مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بَيَانُ الضَّرُورَةِ وَهُوَ الْبَيَانُ الَّذِي يَقَعُ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ بِمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَهُوَ السُّكُوتُ، فَيَقَعُ السُّكُوتُ فِيهِ مَقَامَ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
(الْأَوَّلُ): مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ مِثْلُ قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ، فَصَارَ بَيَانًا لِقَدْرِ نَصِيبِهِ بِدَلَالَةِ صَدْرِ الْكَلَامِ، لَا بِمَحْضِ السُّكُوتِ.وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّ بَيَانَ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَالسُّكُوتَ عَنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ صَحِيحٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْبَيَانِ.كَذَلِكَ بَيَانُ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ وَالسُّكُوتُ عَنْ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ.
(الثَّانِي): مَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ كَسُكُوتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ عَنِ التَّغْيِيرِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقًّا، مِثْلُ مَا شَاهَدَ مِنْ بِيَاعَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَآكِلَ وَمَشَارِبَ وَمَلَابِسَ كَانُوا يَسْتَدِيمُونَ مُبَاشَرَتَهَا، فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُنْكِرْهَا عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ أَنَّ جَمِيعَهَا مُبَاحٌ فِي الشَّرْعِ، إِذْ لَا يَجُوزُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مُنْكَرٍ مَحْظُورٍ، فَكَانَ سُكُوتُهُ بَيَانًا.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ سُكُوتُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ فِي النِّكَاحِ يُجْعَلُ بَيَانًا لِحَالِهَا الَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَيَاءُ، فَجُعِلَ سُكُوتُهَا دَلِيلًا عَلَى الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا.وَكَذَلِكَ النُّكُولُ جُعِلَ بَيَانًا لِحَالِ النَّاكِلِ، وَهُوَ امْتِنَاعُهُ عَنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْمُدَّعَى.
(الثَّالِثُ): مَا جُعِلَ بَيَانًا لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْغُرُورِ، كَسُكُوتِ الْمَوْلَى حِينَ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي، فَجُعِلَ هَذَا السُّكُوتُ إِذْنًا؛ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنِ النَّاسِ.
وَكَذَا سُكُوتُ الشَّفِيعِ، جُعِلَ رَدًّا لِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ دَفْعُ الْغُرُورِ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ إِسْقَاطًا لَهَا فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ الْمُشْتَرِي عَنِ التَّصَرُّفِ أَوْ تَصَرَّفَ ثُمَّ يَنْقُضُ الشَّفِيعُ عَلَيْهِ تَصَرُّفَهُ، وَكِلَاهُمَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي.
(الرَّابِعُ): مَا ثَبَتَ لِضَرُورَةِ الْكَلَامِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ، أَوْ أَلْفٌ وَدِينَارٌ أَوْ مِائَةٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ، فَإِنَّ الْعَطْفَ جُعِلَ بَيَانًا لِلْأَوَّلِ، فَجُعِلَ الْأَوَّلُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ.
ثَانِيًا: الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ:
22- الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ هُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِقَوْلٍ وَيَنْتَشِرَ ذَلِكَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فَيَسْكُتُونَ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ تَصْرِيحٌ بِالْقَوْلِ وَلَا الْإِنْكَارِ.
وَشُرُوطُ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ الَّذِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ فِي حُكْمِهِ هِيَ:
(1) أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ مُجَرَّدًا عَنْ أَمَارَةِ الرِّضَا وَالسَّخَطِ، فَإِذَا كَانَ السُّكُوتُ مُقْتَرِنًا بِالرِّضَا فَإِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعًا، أَوْ بِالسَّخَطِ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ قَطْعًا.
(2) أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ قَدْ بَلَغَتْ كُلَّ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ.
(3) أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى عَلَى الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ زَمَنُ مُهْلَةِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ عَادَةً، وَلَا تَقِيَّةَ هُنَاكَ لِخَوْفٍ أَوْ مَهَابَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
(4) أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ وَلَا تَكُونَ قَطْعِيَّةً، وَإِلاَّ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُجِّيَّتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شُرِطَ قَوْلُ كُلٍّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَتَحَقَّقْ إِجْمَاعٌ أَصْلًا، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي كُلِّ عَصْرٍ إِفْتَاءُ الْأَكَابِرِ وَسُكُوتُ الْأَصَاغِرِ تَسْلِيمًا.قَالَ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ: سُكُوتُ الْعُلَمَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُظَنُّ مِنْهُ الْمُوَافَقَةُ عَادَةً.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، أَخْذًا مِنْ قَاعِدَةِ: (لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ لِغَيْرِ الْمُوَافَقَةِ، كَالْخَوْفِ وَالْمَهَابَةِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ فِي الْفُتْيَا فَقَطْ أَمَّا الْقَضَاءُ فَلَا إِجْمَاعَ فِيهِ أَصْلًا.
وَقِيلَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ إِذَا كَثُرَ السُّكُوتُ وَتَكَرَّرَ فِيمَا يَعُمُّ فِيهِ الْبَلْوَى.وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ وَالْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ.
قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ بَعْدَمَا نَقَلَ أَقْوَالَ وَآرَاءَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا.
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
26-موسوعة الفقه الكويتية (شفعة 1)
شُفْعَةٌ -1التَّعْرِيفُ
1- الشُّفْعَةُ بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْفَاءِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّمَلُّكِ، وَتَأْتِي أَيْضًا اسْمًا لِلْمِلْكِ الْمَشْفُوعِ كَمَا قَالَ الْفَيُّومِيُّ.وَهِيَ مِنَ الشَّفْعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَتْرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ ضَمِّ عَدَدٍ إِلَى عَدَدٍ أَوْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، يُقَالُ: شَفَعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ شَفْعًا إِذَا كَانَ فَرْدًا فَصَارَ لَهُ ثَانِيًا وَشَفَعَ الشَّيْءَ شَفْعًا ضَمَّ مِثْلَهُ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ زَوْجًا.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: «تَمْلِيكُ الْبُقْعَةِ جَبْرًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ.أَوْ هِيَ حَقُّ تَمَلُّكٍ قَهْرِيٍّ يَثْبُتُ لِلشَّرِيكِ الْقَدِيمِ عَلَى الْحَادِثِ فِيمَا مُلِكَ بِعِوَضٍ» الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ:
2- الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْبَيْعُ الْحَاصِلُ مِنْ مُكْرَهٍ بِحَقٍّ، أَوِ الْبَيْعُ عَلَيْهِ نِيَابَةً عَنْهُ، لِإِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ، أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ لِتَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ.فَالْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ أَعَمُّ مِنَ الشُّفْعَةِ.
ب- التَّوْلِيَةُ:
3- التَّوْلِيَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ: بَيْعُ مَا مَلَكَهُ بِمِثْلِ مَا قَامَ عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْ بَيْعِ التَّوْلِيَةِ وَالشُّفْعَةِ بَيْعٌ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- الشُّفْعَةُ حَقٌّ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلِصَاحِبِهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ أَوْ تَرْكُهُ لَكِنْ قَالَ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ- مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِ الشُّفْعَةِ مَعْصِيَةٌ- كَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مَشْهُورًا بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ- فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ بِهَا مُسْتَحَبًّا بَلْ وَاجِبًا إِنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ مَا يُرِيدُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْفُجُورِ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ»
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ جَابِرٌ- رضي الله عنه-: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ».وَعَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ».
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ فِيمَا بِيعَ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ أَوْ حَائِطٍ.حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الشُّفْعَةِ:
5- لَمَّا كَانَتِ الشَّرِكَةُ مَنْشَأَ الضَّرَرِ فِي الْغَالِبِ وَكَانَ الْخُلَطَاءُ كَثِيرًا مَا يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفْعَ هَذَا الضَّرَرِ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ:
(1) بِالْقِسْمَةِ تَارَةً وَانْفِرَادِ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِنَصِيبِهِ
(2) وَبِالشُّفْعَةِ تَارَةً أُخْرَى وَانْفِرَادِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِالْجُمْلَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْآخَرِ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ.
فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَ نَصِيبِهِ وَأَخْذَ عِوَضِهِ كَانَ شَرِيكُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ يَصِلُ إِلَى غَرَضِهِ مِنَ الْعِوَضِ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ فَكَانَ الشَّرِيكُ أَحَقَّ بِدَفْعِ الْعِوَضِ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ وَيَزُولُ عَنْهُ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ وَلَا يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الثَّمَنِ وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعَدْلِ وَأَحْسَنِ الْأَحْكَامِ الْمُطَابِقَةِ لِلْعُقُولِ وَالْفِطَرِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ.كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ.
وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الشُّفْعَةِ كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ، دَفْعُ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ وَاسْتِحْدَاثِ الْمَرَافِقِ وَغَيْرِهَا كَمِنْوَرٍ وَمِصْعَدٍ وَبَالُوعَةٍ فِي الْحِصَّةِ الصَّائِرَةِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ ضَرَرِ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ.
أَسْبَابُ الشُّفْعَةِ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي نَفْسِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ مَا لَمْ يُقْسَمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الِاتِّصَالِ بِالْجِوَارِ وَحُقُوقِ الْمَبِيعِ فَاعْتَبَرَهُمَا الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَسْبَابِ الشُّفْعَةِ خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ عَلَى الشُّيُوعِ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي ذَاتِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ مَا دَامَ لَمْ يُقَاسِمْ.وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- السَّابِقِ ف 4
الشَّرِكَةُ الَّتِي تَكُونُ مَحَلًّا لِلشُّفْعَةِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّرِكَةِ الَّتِي تَكُونُ مَحَلًّا لِلشُّفْعَةِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: ذَهَبَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْقَسِمُ- كَالْبِئْرِ، وَالْحَمَّامِ الصَّغِيرِ، وَالطَّرِيقِ- لَا شُفْعَةَ فِيهِ.
لِأَنَّ إِثْبَاتَ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ يَضُرُّ بِالْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِهِ بِالْقِسْمَةِ وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ الشَّفِيعِ فَيَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ فَيُؤَدِّي إِثْبَاتُهَا إِلَى نَفْيِهَا.
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:
9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَمَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ فِي الْعَقَارِ سَوَاءٌ قَبِلَ الْقِسْمَةَ أَمْ لَمْ يَقْبَلْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ».
وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِالشَّرِكَةِ فَتَجُوزُ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ، فَإِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي عَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ، لَمْ يَكُنْ دَفْعُ ضَرَرِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ الْآخَرِ فَإِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ كَانَ شَرِيكُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، إِذْ فِي ذَلِكَ إِزَالَةُ ضَرَرِهِ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الثَّمَنِ وَيَصِلُ هَذَا إِلَى اسْتِبْدَادِهِ بِالْمَبِيعِ فَيَزُولُ الضَّرَرُ عَنْهُمَا جَمِيعًا.
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الضَّرَرَ بِالشَّرِكَةِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ أَبْلَغُ مِنَ الضَّرَرِ بِالْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ مُرِيدًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى فَالْأَعْلَى أَوْلَى بِالدَّفْعِ، وَلَوْ كَانَتِ الْأَحَادِيثُ مُخْتَصَّةً بِالْعَقَارَاتِ الْمَقْسُومَةِ فَإِثْبَاتُ الشُّفْعَةِ فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهَا فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ.
الشَّفْعَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ:
10- الشَّرِكَةُ الْمُجِيزَةُ لِلشُّفْعَةِ هِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْمِلْكِ فَقَطْ، فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي رَقَبَةِ الْعَقَارِ.
أَمَّا الشَّرِكَةُ فِي مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا تَثْبُتُ فِيهَا الشُّفْعَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ لِمَالِكٍ لِلشَّرِيكِ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ أَيْضًا.قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: (لَا شُفْعَةَ لِشَرِيكٍ فِي كِرَاءٍ، فَإِنِ اكْتَرَى شَخْصَانِ دَارًا مَثَلًا ثُمَّ أَكْرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ لِشَرِيكِهِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ مَالِكٍ، وَلَهُ الشُّفْعَةُ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ).
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِلشُّفْعَةِ فِي الْكِرَاءِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَنْقَسِمُ وَأَنْ يَشْفَعَ لِيَسْكُنَ.
شُفْعَةُ الْجَارِ الْمَالِكِ وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كَمَا سَبَقَ عَلَى ثُبُوتِ شُفْعَةٍ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي ذَاتِ الْمَبِيعِ مَا دَامَ لَمْ يُقَاسِمْ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهَا لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ.
الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ وَلَا لِلشَّرِيكِ فِي حُقُوقِ الْبَيْعِ، وَبِهِ قَالَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو الزِّنَادِ وَرَبِيعَةُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَفِيهِ: «فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ».
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ فِي صَدْرِهِ إِثْبَاتَ الشُّفْعَةِ فِي غَيْرِ الْمَقْسُومِ وَنَفْيَهَا فِي الْمَقْسُومِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لِإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَآخِرُهُ نَفْيُ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ، وَالْحُدُودُ بَيْنَ الْجَارَيْنِ وَاقِعَةٌ وَالطُّرُقُ مَصْرُوفَةٌ فَكَانَتِ الشُّفْعَةُ مَنْفِيَّةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَقَالُوا: إِذَا كَانَ الشَّارِعُ يَقْصِدُ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الْجَارِ فَهُوَ أَيْضًا يَقْصِدُ رَفْعَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي.وَلَا يُدْفَعُ ضَرَرُ الْجَارِ بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي حَاجَةٍ إِلَى دَارٍ يَسْكُنُهَا هُوَ وَعِيَالُهُ، فَإِذَا سُلِّطَ الْجَارُ عَلَى انْتِزَاعِ دَارِهِ مِنْهُ أَضَرَّ بِهِ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَأَيُّ دَارٍ اشْتَرَاهَا وَلَهُ جَارٌ فَحَالُهُ مَعَهُ هَكَذَا.وَتَطَلُّبُهُ دَارًا لَا جَارَ لَهَا كَالْمُتَعَذَّرِ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ أَسْقَطَ الشُّفْعَةَ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَتَصْرِيفِ الطُّرُقِ لِئَلاَّ يَضُرَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ دَارٍ لَهَا جَارٌ أَنْ يَتِمَّ لَهُ مَقْصُودُهُ.
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ، فَسَبَبُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ عِنْدَهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الشَّرِكَةُ أَوِ الْجِوَارُ.ثُمَّ الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ:
أ- شَرِكَةٌ فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ.
ب- شَرِكَةٌ فِي حُقُوقِهِ، كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ.
قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: «الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ، ثُمَّ لِلْجَارِ».
وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: «وَقَفْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَجَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى إِحْدَى مَنْكِبَيَّ إِذْ جَاءَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا سَعْدُ، ابْتَعْ مِنِّي بَيْتِي فِي دَارِكَ.فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا فَقَالَ الْمِسْوَرُ: وَاللَّهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ مُنَجَّمَةً أَوْ مُقَطَّعَةً، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ».
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تُسْتَحَقُّ بِسَبَبِ الْجِوَارِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا».
عَنِ «الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٌ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرْضِي لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَرِكَةٌ وَلَا قِسْمَةٌ إِلاَّ الْجِوَارُ، فَقَالَ: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ».
اسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ ثَبَتَ فِي الشَّرِكَةِ لِإِفْضَائِهَا إِلَى ضَرَرِ الْمُجَاوَرَةِ فَحَقِيقَةُ الْمُجَاوَرَةِ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ فِيهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ الْمُتَأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَضَرَرُ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ بِاتِّصَالِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَأَتَّى الْفَصْلُ فِيهِ.
وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ حَتَّى يُرْغَبُ فِي مُجَاوَرَةِ بَعْضِ النَّاسِ لِحُسْنِ خُلُقِهِ وَيُرْغَبُ عَنْ جِوَارِ الْبَعْضِ لِسُوءِ خُلُقِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْجَارُ الْقَدِيمُ يَتَأَذَّى بِالْجَارِ الْحَادِثِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا لِهَذَا الضَّرَرِ.
شُرُوطُ الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ:
13- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجِوَارَ سَبَبٌ لِلشُّفْعَةِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا بِالْجِوَارِ عَلَى عُمُومِهِ، بَلِ اشْتَرَطُوا لِذَلِكَ أَنْ تَتَحَقَّقَ الْمُلَاصَقَةُ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَيِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ، سَوَاءٌ امْتَدَّ مَكَانُ الْمُلَاصَقَةِ حَتَّى عَمَّ الْحَدَّ أَمْ قَصُرَ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْ.
فَالْمُلَاصِقُ لِلْمَنْزِلِ وَالْمُلَاصِقُ لِأَقْصَى الدَّارِ سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ حَدٍّ مِنْهُمْ مُتَّصِلٌ بِالْبَيْعِ.
أَمَّا الْجَارُ الْمُحَاذِي فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِالْمُجَاوَرَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ أَقْرَبَ بَابًا أَمْ أَبْعَدَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشُّفْعَةِ هُوَ الْقُرْبُ وَاتِّصَالُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ وَذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُلَاصِقِ دُونَ الْجَارِ الْمُحَاذِي فَإِنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ طَرِيقًا نَافِذًا
وَقَالَ شُرَيْحٌ الشُّفْعَةُ بِالْأَبْوَابِ، فَأَقْرَبُ الْأَبْوَابِ إِلَى الدَّارِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ.لِمَا وَرَدَ أَنَّ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا».
وَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلْجَارِ الْمُقَابِلِ.لِأَنَّ سُوءَ الْمُجَاوَرَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكُ أَحَدِهِمَا مُتَّصِلًا بِمِلْكِ الْآخَرِ وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ.
وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ لِيُتَرَفَّقَ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَوَسُّعُ الْمِلْكِ وَالْمَرَافِقِ، وَهَذَا فِي الْجَارِ الْمُلَاصِقِ يَتَحَقَّقُ لَامِكَانِ جَعْلِ إِحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الْأُخْرَى.
وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُقَابِلِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ جَعْلِ إِحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الْأُخْرَى بِطَرِيقٍ نَافِذٍ بَيْنَهُمَا.
وَلَكِنْ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُقَابِلِ إِذَا كَانَتِ الدُّورُ كُلُّهَا فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، لِإِمْكَانِ جَعْلِ بَعْضِهَا مِنْ مَرَافِقِ الْبَعْضِ بِأَنْ تُجْعَلَ الدُّورُ كُلُّهَا دَارًا وَاحِدَةً.
وَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ إِلاَّ لِلْجَارِ الْمَالِكِ، فَلَا تَثْبُتُ لِجَارِ السُّكْنَى، كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَجِوَارُ السُّكْنَى لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ، وَضَرَرُ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ، بِاتِّصَالِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَأَتَّى الْفَصْلُ فِيهِ.
الشُّفْعَةُ بَيْنَ مُلاَّكِ الطَّبَقَاتِ:
13 م- مُلاَّكُ الطَّبَقَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُتَجَاوِرُونَ فَيَحِقُّ لَهُمُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْجِوَارِ.
وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ صَاحِبُ الْعُلُوِّ السُّفْلَ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى انْهَدَمَ الْعُلُوُّ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ- لِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْجِوَارِ قَدْ زَالَ، كَمَا لَوْ بَاعَ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا قَبْلَ الْأَخْذِ.
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ الْبِنَاءِ بَلْ بِالْقَرَارِ وَحَقُّ الْقَرَارِ بَاقٍ.
وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَبَابُ كُلٍّ إِلَى السِّكَّةِ فَبِيعَ الْأَوْسَطُ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ وَإِنْ بِيعَ الْأَسْفَلُ أَوِ الْأَعْلَى، فَالْأَوْسَطُ أَوْلَى، بِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْقَرَارِ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ، وَهُوَ غَيْرُ مَنْقُولٍ فَتُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ كَالْعَقَارِ.
وَلَوْ كَانَ سُفْلٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِ عُلُوٌّ لِأَحَدِهِمَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ هُوَ السُّفْلَ وَالْعُلُوَّ كَانَ الْعُلُوُّ لِشَرِيكِهِ فِي الْعُلُوِّ وَالسُّفْلُ لِشَرِيكِهِ فِي السُّفْلِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرِيكٌ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ فِي حَقِّهِ وَجَارٌ فِي حَقِّ الْآخَرِ أَوْ شَرِيكٌ فِي الْحَقِّ إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا.
وَلَوْ كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَالْعُلُوُّ لآِخَرَ فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا فَالشُّفْعَةُ لَهُمَا.
أَرْكَانُ الشُّفْعَةِ:
14- أَرْكَانُ الشُّفْعَةِ ثَلَاثَةٌ
(1) الشَّفِيعُ: وَهُوَ الْآخِذُ.
(2) وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ: وَهُوَ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَكُونُ الْعَقَارُ فِي حِيَازَتِهِ.
(3) الْمَشْفُوعُ فِيهِ: وَهُوَ الْعَقَارُ الْمَأْخُوذُ أَيْ مَحَلُّ الشُّفْعَةِ.
وَلِكُلِّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ شُرُوطٌ وَأَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا كَمَا سَيَأْتِي.
الشُّرُوطُ الْوَاجِبُ تَوَافُرُهَا فِي الشَّفِيعِ:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: مِلْكِيَّةُ الشَّفِيعِ لِمَا يَشْفَعُ بِهِ:
15- اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ مَالِكًا لِلْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ بِهِ وَقْتَ شِرَاءِ الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ.لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ جَوَازُ الْمِلْكِ، وَالسَّبَبُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالِانْعِقَادُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْوُجُودِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَا شُفْعَةَ لَهُ بِدَارٍ يَسْكُنُهَا بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَلَا بِدَارٍ بَاعَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ وَلَا بِدَارٍ جَعَلَهَا مَسْجِدًا وَلَا بِدَارٍ جَعَلَهَا وَقْفًا.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ الشُّفْعَةِ فِي الْكِرَاءِ كَمَا سَبَقَ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: بَقَاءُ الْمِلْكِيَّةِ لِحِينِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ:
16- يَجِبُ أَنْ يَبْقَى الشَّفِيعُ مَالِكًا لِلْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ بِهِ حَتَّى يَمْتَلِكَ الْعَقَارَ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِالرِّضَاءِ أَوْ بِحُكْمِ الْقَضَاءِ لِيَتَحَقَّقَ الِاتِّصَالُ وَقْتَ الْبَيْعِ.
الشُّفْعَةُ لِلْوَقْفِ:
17- لَا شُفْعَةَ لِلْوَقْفِ لَا بِشَرِكَةٍ وَلَا بِجِوَارٍ.
فَإِذَا بِيعَ عَقَارٌ مُجَاوِرٌ لِوَقْفٍ، أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ بَعْضُهُ مِلْكٌ وَبَعْضُهُ وَقْفٌ وَبِيعَ الْمِلْكُ فَلَا شُفْعَةَ لِلْوَقْفِ، لَا لِقَيِّمِهِ وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.
وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا أَلاَّ يَتَضَمَّنَ التَّمَلُّكُ بِالشُّفْعَةِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ.وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قِطْعَةً وَاحِدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا فَلَا يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ بَعْضَ الْمَبِيعِ وَيَتْرُكَ الْبَعْضَ الْآخَرَ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْقِطْعَةُ وَاحِدَةً، وَكَانَ الْمُشْتَرِي مُتَعَدِّدًا فَيَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ نَصِيبَ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ يَطْلُبَ الْكُلَّ، وَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا تَجْزِئَةً لِلشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ مُسْتَقِلٌّ بِمِلْكِيَّةِ نَصِيبِهِ تَمَامَ الِاسْتِقْلَالِ.وَإِذَا كَانَتِ الْقِطَعُ مُتَعَدِّدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا أَخَذَ كُلُّ شَفِيعٍ الْقِطْعَةَ الَّتِي يَشْفَعُ فِيهَا، فَإِنْ تَعَدَّدَ الْمُشْتَرُونَ أَيْضًا فَلِكُلِّ شَفِيعٍ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ بَعْضِهِمْ أَوْ يَأْخُذَ الْكُلَّ وَيُقَدِّرَ لِكُلِّ قِطْعَةٍ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الثَّمَنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا فِي الْعَقْدِ.
الْمَشْفُوعُ مِنْهُ:
18- وَتَجُوزُ الشُّفْعَةُ عَلَى أَيِّ مُشْتَرٍ لِلْعَقَارِ الْمَبِيعِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَرِيبًا لِلْبَائِعِ أَمْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ.لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْمُثَبِّتَةِ لِلشُّفْعَةِ.
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الشُّفْعَةُ:
19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُجِيزَ لِلشُّفْعَةِ هُوَ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ الْبَيْعُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ.فَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يَكُونُ بِمِثْلِ مَا مَلَكَ فَإِذَا انْعَدَمَتِ الْمُعَاوَضَةُ تَعَذَّرَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي كُلِّ مِلْكٍ انْتَقَلَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ لِغَيْرِ الثَّوَابِ، وَالصَّدَقَةِ، مَا عَدَا الْمِيرَاثَ فَإِنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ.وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا اعْتَبَرَتِ الضَّرَرَ فَقَطْ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ وَالصُّلْحِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا الْمِرْدَاوِيُّ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ فَقَطْ وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ؛ وَلِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الشَّفِيعُ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ هَؤُلَاءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ بِجَامِعِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُعَاوَضَةِ مَعَ لُحُوقِ الضَّرَرِ ثُمَّ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ وَفِي قَوْلٍ: بِقِيمَةِ مُقَابِلِهِ.
الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ
20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، فَإِنْ تَقَابَضَا وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عِنْدَ التَّقَابُضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا شُفْعَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
الشُّفْعَةُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ:
21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ أَوْ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مَعًا فَلَا شُفْعَةَ حَتَّى يَجِبَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا لِجَوَازِ الشُّفْعَةِ زَوَالَ مِلْكِ الْبَائِعِ عَنِ الْمَبِيعِ.
وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَقِفُ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ.لِأَنَّ بَيْعَ الْخِيَارِ مُنْحَلٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ، إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّهِ وَلُزُومِهِ فَتَكُونُ الشُّفْعَةُ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ فَفِي أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ وَفِي الْأَخْذِ إِلْزَامٌ وَإِثْبَاتٌ لِلْعُهْدَةِ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ- يُؤْخَذُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِ إِلاَّ لِلْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ سُلِّطَ عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ الْمِلْكِ وَاسْتِقْرَارِهِ فَقَبْلَهُ أَوْلَى.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلشَّفِيعِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلشَّفِيعِ شَرْطٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ أَجَازَ الشَّفِيعُ الْبَيْعَ جَازَ وَلَا شُفْعَةَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ ابْتِدَاءً.وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ لَمْ يَزُلْ، وَالْحِيلَةُ لِلشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ أَلاَّ يَفْسَخَ وَلَا يُجِيزَ حَتَّى يُجِيزَ الْبَائِعُ أَوْ يُجَوِّزَ الْبَيْعَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَتَكُونُ لَهُ الشُّفْعَةُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
27-موسوعة الفقه الكويتية (شفعة 2)
شُفْعَةٌ -2الشُّفْعَةُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ:
أ- الْبَيْعُ بِالْمَزَادِ الْعَلَنِيِّ:
22- إِذَا بِيعَ الْعَقَارُ بِالْمَزَادِ الْعَلَنِيِّ فَمُقْتَضَى صِيَغِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ الشُّفْعَةَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا شُرُوطًا لِلشُّفْعَةِ إِذَا تَحَقَّقَتْ ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا الْبَيْعَ بِالْمُزَايَدَةِ.
ب- مَا بِيعَ لِيُجْعَلَ مَسْجِدًا:
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اتَّخَذَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ مَسْجِدًا ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْمَسْجِدَ وَيَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَتَحَرَّرُ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ.وَحَقُّ الشَّفِيعِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الرَّاهِنِ فَكَذَلِكَ حَقُّ الشَّفِيعِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْلِ الدَّارِ مَسْجِدًا.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لِلشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ حَقًّا مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْلِهِ مَسْجِدًا، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ دَارِهِ مَسْجِدًا أَوْ جَعَلَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ مَا فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ إِذَا جَعَلَهُ مَسْجِدًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَسْجِدِ الضِّرَارِ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْأَضْرَارَ بِالشَّفِيعِ مِنْ حَيْثُ إِبْطَالُ حَقِّهِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَيَرْفَعَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَهُ الْمُحْدَثَ.
الْمَالُ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ:
24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الثَّابِتَةِ تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ.وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ فَفِيهَا خِلَافٌ يَأْتِي بَيَانُهُ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ وَنَحْوِهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ».
وَبِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي الْعَقَارِ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهِ: مَسْكَنًا، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِخَوْفِ أَذَى الدَّخِيلِ وَضَرَرِهِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ فِي الْعَقَارِ.
وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْعُلُوُّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَقَارُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهَا كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى وَالْبِئْرِ، وَالنَّهْرِ، وَالْعَيْنِ، وَالدُّورِ الصِّغَارِ.وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ مِمَّا لَهُ ثَبَاتٌ وَاتِّصَالٌ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدَّمِ ذِكْرُهَا.
25- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَنْقُولِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا تَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبَيِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ.بِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ ((((«قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ».
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ وُقُوعَ الْحُدُودِ وَتَصْرِيفَ الطُّرُقِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُولِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ ((((قَالَ: «لَا شُفْعَةَ إِلاَّ فِي دَارٍ أَوْ عَقَارٍ».، وَهَذَا يَقْتَضِي نَفْيَهَا عَنْ غَيْرِ الدَّارِ وَالْعَقَارِ مِمَّا لَا يَتْبَعُهُمَا وَهُوَ الْمَنْقُولُ، وَأَمَّا مَا يَتْبَعُهُمَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهَا.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالضَّرَرُ فِي الْعَقَارِ يَكْثُرُ جِدًّا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ الشَّرِيكُ إِلَى إِحْدَاثِ الْمَرَافِقِ، وَتَغْيِيرِ الْأَبْنِيَةِ وَتَضْيِيقِ الْوَاسِعِ وَتَخْرِيبِ الْعَامِرِ وَسُوءِ الْجِوَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْعَقَارِ بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الضَّرَرَ فِي غَيْرِ الْمَنْقُولِ يَتَأَبَّدُ بِتَأَبُّدِهِ وَفِي الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدُ فَهُوَ ضَرَرٌ عَارِضٌ فَهُوَ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ.
26- الْقَوْلُ الثَّانِي: تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْمَنْقُولِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ».
قَالُوا: إِنَّ الرَّسُولَ ((((أَثْبَتَ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْعَقَارَ وَالْمَنْقُولَ.لِأَنَّ «مَا» مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْمَنْقُولِ كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْعَقَارِ.
وَقَالُوا: وَلِأَنَّ الضَّرَرَ بِالشَّرِكَةِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ أَبْلَغُ مِنَ الضَّرَرِ بِالْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ مُرِيدًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى فَالْأَعْلَى أَوْلَى بِالدَّفْعِ.
مَرَاحِلُ طَلَبِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ:
27- عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يُظْهِرَ رَغْبَتَهُ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ بِمَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ، ثُمَّ يُؤَكِّدَ هَذِهِ الرَّغْبَةَ وَيُعْلِنَهَا وَيُسَمَّى هَذَا طَلَبَ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ، فَإِذَا لَمْ تَتِمَّ لَهُ الشُّفْعَةُ تَقَدَّمَ لِلْقَضَاءِ بِمَا يُسَمَّى بِطَلَبِ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ.
أ- طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ
28- وَقْتُ هَذَا الطَّلَبِ هُوَ وَقْتُ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ، وَعِلْمُهُ بِالْبَيْعِ قَدْ يَحْصُلُ بِسَمَاعِهِ بِالْبَيْعِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ لَهُ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ فِي الْمُخْبِرِ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ أَحَدُ هَذَيْنِ إِمَّا الْعَدَدُ فِي الْمُخْبِرِ وَهُوَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَإِمَّا الْعَدَالَةُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالشُّفْعَةِ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، فَسَكَتَ وَلَمْ يَطْلُبْ عَلَى فَوْرِ الْخَبَرِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ.بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عِنْدَهُمَا إِذَا ظَهَرَ كَوْنُ الْخَبَرِ صَادِقًا.وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدَدَ وَالْعَدَالَةَ لَا يُعْتَبَرَانِ شَرْعًا فِي الْمُعَامَلَاتِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ.أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَبْطُلُ لَوْ لَمْ يَطْلُبْ بَعْدَ الْخَبَرِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَحَدُ شَرْطَيِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَدَدُ أَوِ الْعَدَالَةُ.
29- وَشَرْطُ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوْرِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ.إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَسَكَتَ عَنِ الطَّلَبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ.وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ وَخِيَارِ الْقَبُولِ مَا لَمْ يَقُمْ عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ يَتَشَاغَلْ عَنِ الطَّلَبِ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلشَّفِيعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّلِ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ هَلْ تَصْلُحُ بِمِثْلِ هَذَا الثَّمَنِ وَأَنَّهُ هَلْ يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِ هَذَا الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ، أَمْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتْرُكُ.وَهَذَا لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى التَّأَمُّلِ شَرْطُ الْمَجْلِسِ فِي جَانِبِ الْمُخَيَّرَةِ، وَالْقَبُولِ، كَذَا هَاهُنَا.وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ مَا رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ» وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، إِذِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكُ مَالٍ مَعْصُومٍ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ لِخَوْفِ ضَرَرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَلَا يَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِالطَّلَبِ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْمُوَاثَبَةِ حَالَاتٍ يُعْذَرُ فِيهَا بِالتَّأْخِيرِ كَمَا إِذَا سَمِعَ بِالْبَيْعِ فِي حَالِ سَمَاعِهِ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَائِلٌ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ مَخُوفٌ، أَوْ أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَانِعِ، لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِتَرْكِ الْمُوَاثَبَةِ إِلَى أَنْ يَزُولَ الْحَائِلُ.
30- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَيْسَتْ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ وَقْتُ وُجُوبِهَا مُتَّسِعٌ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ هَلْ هُوَ مَحْدُودٌ أَمْ لَا؟ فَمَرَّةً قَالَ: هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَأَنَّهَا لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا، إِلاَّ أَنْ يُحْدِثَ الْمُبْتَاعُ بِنَاءً أَوْ تَغْيِيرًا كَثِيرًا بِمَعْرِفَتِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ عَالِمٌ سَاكِتٌ، وَمَرَّةً حَدَّدَ هَذَا الْوَقْتَ بِسَنَةٍ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ كَمَا يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنَ السَّنَةِ وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ إِنَّ الْخَمْسَةَ الْأَعْوَامَ لَا تَنْقَطِعُ فِيهَا الشُّفْعَةُ.
31- وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الشُّفْعَةَ يَجِبُ طَلَبُهَا عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهَا حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ الْأَصْلِ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُؤَقَّتٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْمُكْنَةِ، فَإِنْ طَلَبَهَا إِلَى ثَلَاثٍ كَانَ عَلَى حَقِّهِ، وَإِنْ مَضَتِ الثَّلَاثُ قَبْلَ طَلَبِهِ بَطَلَتْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَمْتَدُّ مُدَّةً تَسَعُ التَّأَمُّلَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الشِّقْصِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُمْتَدٌّ عَلَى التَّأْبِيدِ مَا لَمْ يُسْقِطْهُ أَوْ يُعَرِّضْ بِإِسْقَاطِهِ.
وَقَدِ اسْتَثْنَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَشْرَ صُوَرٍ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْفَوْرُ هِيَ:
(1) لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَا دَامَ الْخِيَارُ بَاقِيًا.
(2) إِنَّ لَهُ التَّأْخِيرَ لِانْتِظَارِ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ حَصَادَهُ عَلَى الْأَصَحِّ.
(3) إِذَا أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ عَلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ مِنْ زِيَادَةٍ فِي الثَّمَنِ فَتَرَكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلَافُهُ فَحَقُّهُ بَاقٍ.
(4) إِذَا كَانَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ غَائِبًا فَلِلْحَاضِرِ انْتِظَارُهُ وَتَأْخِيرُ الْأَخْذِ إِلَى حُضُورِهِ.
(5) إِذَا اشْتَرَى بِمُؤَجَّلٍ.
(6) لَوْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِي الشُّفْعَةَ وَهُوَ مِمَّنْ- يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ.
(7) لَوْ قَالَ الْعَامِّيُّ.لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ هُنَا وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبُولُ قَوْلِهِ.
(8) لَوْ كَانَ الشِّقْصُ الَّذِي يَأْخُذُ بِسَبَبِهِ مَغْصُوبًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْبُوَيْطِيُّ فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ شِقْصٌ مِنْ دَارٍ فَغَصَبَ عَلَى نَصِيبِهِ ثُمَّ بَاعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ سَاعَةَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ، نَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ.
(9) الشُّفْعَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْوَلِيُّ لِلْيَتِيمِ لَيْسَتْ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ حَقُّ الْوَلِيِّ عَلَى التَّرَاخِي قَطْعًا، حَتَّى لَوْ أَخَّرَهَا أَوْ عَفَا عَنْهَا لَمْ يَسْقُطْ لِأَجْلِ الْيَتِيمِ.
(10) لَوْ بَلَغَهُ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ فَأَخَّرَ لِيَعْلَمَ لَا يَبْطُلُ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ.
32- وَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ- أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ إِنْ طَالَبَ بِهَا سَاعَةَ يَعْلَمُ بِالْبَيْعِ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَحُكِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى التَّرَاخِي لَا تَسْقُطُ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى مِنْ عَفْوٍ أَوْ مُطَالَبَةٍ بِقِسْمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ لِلشَّفِيعِ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ الطَّلَبَ مِثْلُ أَنْ لَا يَعْلَمَ بِالْبَيْعِ فَأَخَّرَ إِلَى أَنْ عَلِمَ وَطَالَبَ سَاعَةَ عَلِمَ أَوْ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ لَيْلًا فَأَخَّرَ الطَّلَبَ إِلَى الصُّبْحِ أَوْ أَخَّرَ الطَّلَبَ لِشِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ حَتَّى يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ، أَوْ أَخَّرَ الطَّلَبَ مُحْدِثٌ لِطَهَارَةٍ أَوْ إِغْلَاقِ بَابٍ أَوْ لِيَخْرُجَ مِنَ الْحَمَّامِ أَوْ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، أَوْ لِيُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ وَيَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ بِسُنَنِهَا، أَوْ لِيَشْهَدَهَا فِي جَمَاعَةٍ يَخَافُ فَوْتَهَا وَنَحْوِهِ، كَمَنْ عَلِمَ وَقَدْ ضَاعَ مِنْهُ مَالٌ فَأَخَّرَ الطَّلَبَ يَلْتَمِسُ مَا سَقَطَ مِنْهُ لَمْ تَسْقُطِ الشُّفْعَةُ، لِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْحَوَائِجِ وَنَحْوِهَا عَلَى غَيْرِهَا فَلَا يَكُونُ الِاشْتِغَالُ بِهَا رِضًا بِتَرْكِ الشُّفْعَةِ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُسْرِعَ فِي مَشْيِهِ أَوْ يُحَرِّكَ دَابَّتَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ وَمَضَى عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا عِنْدَ الشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَتَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ حُضُورِهِ يُمْكِنُهُ مُطَالَبَتُهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ عَنْ أَشْغَالِهِ إِلاَّ الصَّلَاةَ فَلَا تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِتَأْخِيرِ الطَّلَبِ لِلصَّلَاةِ وَسُنَنِهَا، وَلَوْ مَعَ حُضُورِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَأْخِيرُ الْكَلَامِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ عَلَى الشَّفِيعِ تَخْفِيفُ الصَّلَاةِ- وَلَا الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلِّ مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ.
الْإِشْهَادُ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ:
33- الْإِشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ فَلَوْ لَمْ يُشْهِدْ صَحَّ طَلَبُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ لِلْإِظْهَارِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُصَدِّقُ الشَّفِيعَ فِي الطَّلَبِ أَوْ لَا يُصَدِّقُهُ فِي الْفَوْرِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْإِظْهَارِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّصْدِيقِ، لَا أَنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ الطَّلَبِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ إِنْ كَانَ لِلشَّفِيعِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ، فَلْيُوَكِّلْ فِي الْمُطَالَبَةِ أَوْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ تَرَكَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ مِنْهَا بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْأَظْهَرِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِسَيْرِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي فِي طَلَبِهَا بِلَا إِشْهَادٍ، وَلَا تَسْقُطُ إِنْ أَخَّرَ طَلَبَهُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ، أَيْ إِنَّ الْحَنَابِلَةَ يَشْتَرِطُونَ الْإِشْهَادَ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ.وَيَصِحُّ الطَّلَبُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ قَالَ: طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ أَطْلُبُهَا أَوْ أَنَا طَالِبُهَا، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعْنَى.
ب- طَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ:
34- هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ اخْتَصَّ بِذِكْرِهَا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الشَّفِيعِ بَعْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ أَنْ يُشْهِدَ وَيَطْلُبَ التَّقْرِيرَ وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ هُوَ أَنْ يُشْهِدَ الشَّفِيعُ عَلَى الْبَائِعِ إِنْ كَانَ الْعَقَارُ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَقَارُ فِي يَدِهِ، أَوْ عِنْدَ الْمَبِيعِ بِأَنَّهُ طَلَبَ وَيَطْلُبُ فِيهِ الشُّفْعَةَ الْآنَ.
وَالشَّفِيعُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْإِشْهَادِ لِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِشْهَادُ ظَاهِرًا عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لِأَنَّهُ عَلَى فَوْرِ الْعِلْمِ بِالشِّرَاءِ- عِنْدَ الْبَعْضِ- فَيَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى طَلَبِ الْإِشْهَادِ وَالتَّقْرِيرِ.
35- وَلِبَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ نَقُولُ: الْمَبِيعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الْبَائِعِ، وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ عِنْدَ الْمَبِيعِ.
أَمَّا الطَّلَبُ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ، الْبَائِعُ بِالْيَدِ وَالْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ، فَصَحَّ الطَّلَبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَأَمَّا الطَّلَبُ عِنْدَ الْمَبِيعِ فَلِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَإِنْ سَكَتَ عَنِ الطَّلَبِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَعِنْدَ الْمَبِيعِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ.
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ عِنْدَ الْمَبِيعِ، وَلَا يَطْلُبُ مِنَ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِزَوَالِ يَدِهِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ.
هَذَا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعِ أَوْ عِنْدَ الْمَبِيعِ.
وَالْإِشْهَادُ عَلَى طَلَبِ التَّقْرِيرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِتَوْثِيقِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ كَمَا فِي طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ.وَتَسْمِيَةُ الْمَبِيعِ وَتَحْدِيدُهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ وَالْإِشْهَادِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْعَقَارُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إِلاَّ بِالتَّحْدِيدِ فَلَا يَصِحُّ الطَّلَبُ وَالْإِشْهَادُ بِدُونِهِ.
36- وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَبِ، وَصَحَّحَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ أَيَّ لَفْظٍ كَانَ يَكْفِي، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: ادَّعَيْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ سَأَلْتُ الشُّفْعَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الطَّلَبِ، وَمَعْنَى الطَّلَبِ يَتَأَدَّى بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ الطَّلَبِ أَمْ بِغَيْرِهِ، وَمِنْ صُوَرِ هَذَا الطَّلَبِ مَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْكَنْزِ، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الشَّفِيعُ: إِنَّ فُلَانًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ وَأَنَا شَفِيعُهَا، وَقَدْ كُنْتُ طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا الْآنَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ.
37- وَأَمَّا حُكْمُ هَذَا الطَّلَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْحَقِّ، فَالشَّفِيعُ إِذَا أَتَى بِطَلَبَيْنِ صَحِيحَيْنِ (طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ وَطَلَبِ التَّقْرِيرِ) اسْتَقَرَّ الْحَقُّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْطُلُ بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ أَمَامَ الْقَاضِي بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَبَدًا حَتَّى يُسْقِطَهَا بِلِسَانِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: إِذَا تَرَكَ الْمُخَاصَمَةَ إِلَى الْقَاضِي فِي زَمَانٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَلَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَاضِي، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، إِذَا مَضَى شَهْرٌ بَعْدَ الطَّلَبِ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَبِهِ أَخَذَتِ الْمَجَلَّةُ.وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الشَّفِيعِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْإِنْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ، وَفِي إِبْقَاءِ هَذَا الْحَقِّ بَعْدَ تَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ أَبَدًا إِضْرَارٌ بِالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْنِي وَلَا يَغْرِسُ خَوْفًا مِنَ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ بِزَمَانٍ، وَقُدِّرَ بِالشَّهْرِ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجَالِ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْحَقَّ لِلشَّفِيعِ قَدْ ثَبَتَ بِالطَّلَبَيْنِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَقَّ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَبْطُلُ إِلاَّ بِإِبْطَالِهِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ لَا يَكُونُ إِبْطَالًا، كَتَأْخِيرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ.
ج- طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ:
38- طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ هُوَ طَلَبُ الْمُخَاصَمَةِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَيَلْزَمُ أَنْ يَطْلُبَ الشَّفِيعُ وَيُدْعَى فِي حُضُورِ الْحَاكِمِ بَعْدَ طَلَبِ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ.
وَلَا تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِتَأْخِيرِ هَذَا الطَّلَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ إِنْ تَرَكَهَا شَهْرًا بَعْدَ الْإِشْهَادِ بَطَلَتْ.
وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِالتَّأْخِيرِ بِالِاتِّفَاقِ.لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْخُصُومَةِ إِلاَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ عُذْرًا.
وَإِذَا تَقَدَّمَ الشَّفِيعُ إِلَى الْقَاضِي فَادَّعَى الشِّرَاءَ وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ سَأَلَهُ الْقَاضِي فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمِلْكِهِ الَّذِي يَشْفَعُ بِهِ، وَإِلاَّ كَلَّفَهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ ظَاهِرٌ مُحْتَمَلٌ فَلَا تَكْفِي لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ.
فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْبَيِّنَةِ اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَالِكٌ لِلَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يَشْفَعُ بِهِ، فَإِنْ نَكَلَ أَوْ قَامَتْ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ يَسْأَلُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَلِ ابْتَاعَ أَمْ لَا؟ فَإِنْ أَنْكَرَ الِابْتِيَاعَ قِيلَ لِلشَّفِيعِ: أَقِمِ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ إِلاَّ بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْعِ وَثُبُوتُهُ بِالْحُجَّةِ- فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاللَّهِ مَا ابْتَاعَ أَوْ بِاللَّهِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ شُفْعَةً مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ.
وَلَا يَلْزَمُ الشَّفِيعَ إِحْضَارُ الثَّمَنِ وَقْتَ الدَّعْوَى بَلْ بَعْدَ الْقَضَاءِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْمُنَازَعَةُ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرِ الثَّمَنَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
الشُّفْعَةُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ:
39- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَلِلذِّمِّيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، إِلَى ثُبُوتِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَيْضًا.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الشُّفْعَةِ الَّتِي سَبَقَتْ كَحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ، رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ».
وَبِالْإِجْمَاعِ لِمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فَأَجَازَهُ وَأَقَرَّهُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.
وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ كَالْمُسْلِمِ فِي السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ وَهُمَا اتِّصَالُ الْمِلْكِ بِالشَّرِكَةِ أَوِ الْجِوَارِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الشَّرِيكِ أَوِ الْجَارِ، فَكَمَا جَازَتِ الشُّفْعَةُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ تَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا شُفْعَةَ لِنَصْرَانِيٍّ».
وَبِأَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا قَصَدَتْ مِنْ وَرَاءِ تَشْرِيعِ الشُّفْعَةِ الرِّفْقَ بِالشَّفِيعِ، وَالرِّفْقُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلاَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا وَالذِّمِّيُّ لَمْ يُقِرَّ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهَا فَلَا يَسْتَحِقُّ الرِّفْقَ الْمَقْصُودَ بِتَشْرِيعِ الشُّفْعَةِ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ.
وَبِأَنَّ فِي إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ تَسْلِيطًا لَهُ عَلَيْهِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بِالِاتِّفَاقِ.
تَعَدُّدُ الشُّفَعَاءِ وَتَزَاحُمُهُمْ:
أَوَّلًا.عِنْدَ اتِّحَادِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ:
40- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ عِنْدَ اتِّحَادِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِأَنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ- أَيْ شُرَكَاءَ مَثَلًا-
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ الشُّفَعَاءُ وُزِّعَتِ الشُّفْعَةُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الْحِصَصِ مِنَ الْمِلْكِ، لَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ.وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِلْكِ فَقُسِّطَ عَلَى قَدْرِهِ كَالْأُجْرَةِ وَالثَّمَنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ، إِلَى أَنَّهَا تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ فِي مَوْضُوعِ الشَّرِكَةِ أَصْلُ الشَّرِكَةِ، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
41- وَكَمَا يُقْسَمُ الْمَشْفُوعُ فِيهِ عَلَى الشُّرَكَاءِ بِالتَّسَاوِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، يُقْسَمُ أَيْضًا عَلَى الْجِيرَانِ بِالتَّسَاوِي بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مِقْدَارِ الْمُجَاوَرَةِ، فَإِذَا كَانَ لِدَارٍ وَاحِدَةٍ شَفِيعَانِ جَارَانِ جِوَارُهُمَا عَلَى التَّفَاوُتِ بِأَنْ كَانَ جِوَارُ أَحَدِهِمَا بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الدَّارِ وَجِوَارُ الْآخَرِ بِسُدُسِهَا، كَانَتِ الشُّفْعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ أَصْلُ الْجِوَارِ.
فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي السَّبَبِ أَصْلُ الشَّرِكَةِ لَا قَدْرُهَا، وَأَصْلُ الْجِوَارِ لَا قَدْرُهُ، وَهَذَا يَعُمُّ حَالَ انْفِرَادِ الْأَسْبَابِ وَاجْتِمَاعِهَا.
ثَانِيًا: عِنْدَ اخْتِلَافِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ:
42- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ الشُّفْعَةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ يُرَاعَى فِيهَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الشُّفَعَاءِ فَيُقَدَّمُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى، فَيُقَدَّمُ الشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ عَلَى الْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ، وَيُقَدَّمُ الْخَلِيطُ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ عَلَى الْجَارِ الْمُلَاصِقِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنَ الْخَلِيطِ وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ» وَلِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ هُوَ دَفْعُ ضَرَرِ الدَّخِيلِ وَأَذَاهُ، وَسَبَبُ وُصُولِ الضَّرَرِ وَالْأَذَى هُوَ الِاتِّصَالُ، وَالِاتِّصَالُ عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، فَالِاتِّصَالُ بِالشَّرِكَةِ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ أَقْوَى مِنَ الِاتِّصَالِ بِالْخَلْطِ، وَالِاتِّصَالُ بِالْخَلْطِ أَقْوَى مِنَ الِاتِّصَالِ بِالْجِوَارِ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ تَرْجِيحٌ صَحِيحٌ.فَإِنْ سَلَّمَ الشَّرِيكُ وَجَبَتْ لِلْخَلِيطِ.
وَإِنِ اجْتَمَعَ خَلِيطَانِ يُقَدَّمُ الْأَخَصُّ عَلَى الْأَعَمِّ، وَإِنْ سَلَّمَ الْخَلِيطُ وَجَبَتْ لِلْجَارِ لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلَا شُفْعَةَ لِغَيْرِهِ.
فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ لِلْمُتَأَخِّرِ حَقٌّ إِلاَّ إِذَا سَلَّمَ الْمُتَقَدِّمُ، فَإِنْ سَلَّمَ فَلِلْمُتَأَخِّرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُلِّ إِلاَّ أَنَّ لِلشَّرِيكِ حَقَّ التَّقَدُّمِ.
وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ طَلَبَ الشُّفْعَةَ مَعَ الشَّرِيكِ إِذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ لِيُمْكِنَهُ الْأَخْذُ إِذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ حَتَّى سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلَا يَحِقُّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَا يُثْبِتُونَ الشُّفْعَةَ إِلاَّ لِلشَّرِيكِ فِي الْمِلْكِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَتَأَتَّى التَّزَاحُمُ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ وَافَقُوهُمْ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ ذَهَبُوا مَذْهَبًا آخَرَ فَجَعَلُوهَا لِلشُّرَكَاءِ فِي الْعَقَارِ دُونَ تَرْتِيبٍ إِذَا مَا كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُونُ كُلُّ شَرِيكٍ أَصْلًا فِي الشَّرِكَةِ لَا خَلَفًا فِيهَا عَنْ غَيْرِهِ.أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ خَلَفًا فِي الشَّرِكَةِ عَنْ غَيْرِهِ دُونَ بَعْضٍ فَلَا تَكُونُ لَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ الشَّرِيكُ فِي السَّهْمِ الْمُبَاعِ بَعْضُهُ عَلَى الشَّرِيكِ فِي أَصْلِ الْعَقَارِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْوَرَثَةِ، فَإِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ جَدَّتَيْنِ، وَزَوْجَتَيْنِ، وَشَقِيقَتَيْنِ، فَبَاعَتْ إِحْدَى هَؤُلَاءِ حَظَّهَا مِنَ الدَّارِ كَانَتِ الشُّفْعَةُ أَوَّلًا لِشَرِيكَتِهَا فِي السَّهْمِ دُونَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَالشَّرِيكِ الْأَجْنَبِيِّ، فَتَكُونُ الْجَدَّةُ- مَثَلًا- أَوْلَى بِمَا تَبِيعُ صَاحِبَتُهَا (وَهِيَ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى) لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي السُّدُسِ، وَهَكَذَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، إِنْ أَعَارَ شَخْصٌ أَرْضَهُ لِقَوْمٍ يَبْنُونَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسُونَ فِيهَا فَفَعَلُوا ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمْ حَظَّهُ مِنَ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ قُدِّمَ الشَّخْصُ الْمُعِيرُ عَلَى شُرَكَاءِ الْبَائِعِ فِي أَخْذِ الْحَظِّ الْمَبِيعِ بِقِيمَةِ نَقْضِهِ مَنْقُوضًا أَوْ بِثَمَنِهِ الَّذِي بِيعَ بِهِ فَالْخِيَارُ لَهُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ، هَذَا فِي الْإِعَارَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدَةُ بِزَمَنٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ يُنْقَضْ فَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ بَاعَ أَحَدُهُمْ حَظَّهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ أَمَدِ الْإِعَارَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فَلِشَرِيكِهِ الشُّفْعَةُ وَلَا مَقَالَ لِرَبِّ الْأَرْضِ إِنْ بَاعَهُ عَلَى الْبَقَاءِ، وَإِنْ بَاعَهُ عَلَى النَّقْضِ قُدِّمَ رَبُّ الْأَرْضِ.
فَإِذَا بَنَى رَجُلَانِ فِي عَرْصَةِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّقْضِ فَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَخْذُهُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا أَوْ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلِشَرِيكِهِ الشُّفْعَةُ لِلضَّرَرِ إِذْ هُوَ أَصْلُ الشُّفْعَةِ.
ثَالِثًا: مُزَاحَمَةُ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ لِغَيْرِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ:
43- إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي شَفِيعًا، فَإِنَّهُ يُزَاحِمُ غَيْرَهُ مِنَ الشُّفَعَاءِ بِقُوَّةِ سَبَبِهِ وَيُزَاحِمُونَهُ كَذَلِكَ بِقُوَّةِ السَّبَبِ وَيُقَاسِمُهُمْ وَيُقَاسِمُونَهُ إِذَا كَانُوا مِنْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَالْمُشْتَرِي الشَّفِيعُ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ دُونَهُ فِي سَبَبِ الشُّفْعَةِ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فِي السَّبَبِ.
وَعَلَى هَذَا إِذَا تَسَاوَى الْمُشْتَرِي مَعَ الشُّفَعَاءِ فِي الرُّتْبَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَفِيعًا مِثْلَهُمْ فَيُشَارِكُهُمْ وَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ وَيُقْسَمُ الْعَقَارُ الْمَشْفُوعُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِهِمْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ أَصْلُ كُلٍّ مِنْهُمْ فِي تَقْسِيمِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
28-موسوعة الفقه الكويتية (شفعة 4)
شُفْعَةٌ -4الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ فِي الْمَالِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ:
48- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ فِيهَا، ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ، وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ هُوَ تَرَدُّدُ تَصَرُّفِ الْمَشْفُوعِ عَلَيْهِ الْعَالِمِ بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ شُبْهَةِ تَصَرُّفِ الْغَاصِبِ وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ الِاسْتِحْقَاقُ وَقَدْ بَنَى فِي الْأَرْضِ وَغَرَسَ وَذَلِكَ أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا.
فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ التَّعَدِّي كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنَقْضِهِ أَوْ يُعْطِيَهُ قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ، ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، وَإِنْ شَاءَ أَجْبَرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى قَلْعِهِمَا، فَيَأْخُذُ الْأَرْضَ فَارِغَةً.وَهَذَا هُوَ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.أَنَّهُ بَنَى فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لِلْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَيُنْقَضُ كَالرَّاهِنِ إِذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُنْقَضُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَلْعِ وَيُخَيَّرُ الشَّفِيعُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْقَلْعِ مِنْ أَحْكَامِ الْعُدْوَانِ وَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، وَكَمَا إِذَا زَرَعَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي إِيجَابِ الْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِتَحَمُّلِ الْأَدْنَى فَيُصَارُ إِلَيْهِ.
أَمَّا الزَّرْعُ فَالْقِيَاسُ قَلْعُهُ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْسَانَ عَدَمُ قَلْعِهِ، لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً وَيَبْقَى بِالْأَجْرِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَحْدَثَ الْمُشْتَرِي بِنَاءً أَوْ غَرْسًا أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فِي الشِّقْصِ قَبْلَ قِيَامِ الشَّفِيعِ، ثُمَّ قَامَ الشَّفِيعُ بِطَلَبِ شُفْعَتِهِ فَلَا شُفْعَةَ إِلاَّ أَنْ يُعْطَى الْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا بَنَى وَمَا غَرَسَ.
وَلِلْمُشْتَرِي الْغَلَّةُ إِلَى وَقْتِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِهَا وَالْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَقَلْعُ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ وَزَرْعِهِ مَجَّانًا لَا بِحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا انْفَرَدَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْلَعَ مَجَّانًا.
وَإِنْ بَنَى الْمُشْتَرِي وَغَرَسَ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالتَّمْيِيزِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَلْعُهُ مَجَّانًا، لِأَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ الَّذِي يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فَلَا يُقْلَعُ مَجَّانًا.
فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي قَلْعَ الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُكَلَّفُ تَسْوِيَةَ الْأَرْضِ.لِأَنَّهُ كَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ نَقْصٌ فَالشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى صِفَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ، فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِي الْأَرْضِ بِأُجْرَةٍ وَبَيْنَ تَمَلُّكِهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْأَخْذِ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْقُضَهُ وَيَغْرَمَ أَرْشَ النَّقْصِ.
وَلَوْ كَانَ قَدْ زَرَعَ فَيَبْقَى زَرْعُهُ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ فَيَحْصُدَهُ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ قِيمَةَ بِنَائِهِ أَوْ غَرْسِهِ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ بِنَاءَهُ وَغِرَاسَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ ضَرَرٌ.لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، فَإِذَا قَلَعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحُفَرِ وَلَا نَقْصُ الْأَرْضِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ غَرَسَ وَبَنَى فِي مِلْكِهِ، وَمَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ إِنَّمَا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ النَّقْصِ الْحَاصِلِ بِالْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ اشْتُرِطَ فِي قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عَدَمُ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَقْصٌ دَخَلَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ تَخْلِيصِ مِلْكِهِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ الْحَاصِلَ بِالْقَلْعِ إِنَّمَا هُوَ فِي مِلْكِ الشَّفِيعِ.فَأَمَّا نَقْصُ الْأَرْضِ الْحَاصِلُ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فَلَا يَضْمَنُهُ.
فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أ- تَرْكِ الشُّفْعَةِ.
ب- دَفْعِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَيَمْلِكُهُ مَعَ الْأَرْضِ.
ج- قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَيَضْمَنُ لَهُ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ.
وَإِنْ زَرَعَ فِي الْأَرْضِ فَلِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَيَبْقَى زَرْعُ الْمُشْتَرِي إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ، لِأَنَّ ضَرَرَهُ لَا يَبْقَى وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ زَرَعَهُ فِي مِلْكِهِ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ اشْتَرَى الْأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ لِلْبَائِعِ مُبْقًى إِلَى الْحَصَادِ بِلَا أُجْرَةٍ كَغَيْرِ الْمَشْفُوعِ، وَإِنْ كَانَ فِي الشَّجَرِ ثَمَرٌ ظَاهِرٌ أَثْمَرَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَهُ مُبْقًى إِلَى الْجُذَاذِ كَالزَّرْعِ.
اسْتِحْقَاقُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لِلْغَيْرِ:
49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُهْدَةِ الشَّفِيعِ أَهِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَمْ عَلَى الْبَائِعِ.يَعْنِي إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فَعَلَى مَنْ يَرْجِعُ الثَّمَنُ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا فَرُجُوعُهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِهِ.
وَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَهُ رَدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ أَخْذُ أَرْشِهِ مِنْهُ، وَالْمُشْتَرِي يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ يَأْخُذُ الْأَرْشَ مِنْهُ سَوَاءٌ قَبَضَ الشِّقْصَ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنَ الْبَائِعِ فَالْعُهْدَةُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِي.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، أَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَزُولُ الْمِلْكُ مِنَ الْمُشْتَرِي إِلَى الشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ فَكَانَتِ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَمَلَكَ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ فَأَدَّى ثَمَنَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ، فَإِنْ أَدَّاهُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ اسْتُحِقَّ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ أَدَّاهُ لِلْبَائِعِ وَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلشَّفِيعِ.
وَيَرْجِعُ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ فَقَطْ إِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ ثُمَّ اسْتُحِقَّتِ الْعَيْنُ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُقَرَّرًا بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: الْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ بِإِيجَابِ الْبَائِعِ فَكَانَ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي.
تَبِعَةُ الْهَلَاكِ:
50- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا هَدَمَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ أَوْ هَدَمَهُ غَيْرُهُ أَوْ قَلَعَ الْأَشْجَارَ الَّتِي كَانَتْ مَغْرُوسَةً فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الْعَرْصَةَ أَوِ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْعَرْصَةِ أَوِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ وَمَا خَصَّ الْعَرْصَةَ أَوِ الْأَرْضَ مِنْهُ يَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ وَتَكُونُ الْأَنْقَاضُ وَالْأَخْشَابُ لِلْمُشْتَرِي.وَإِذَا تَخَرَّبَتِ الدَّارُ الْمَشْفُوعَةُ أَوْ جَفَّتْ أَشْجَارُ الْبُسْتَانِ الْمَشْفُوعِ بِلَا تَعَدِّي أَحَدٍ عَلَيْهَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى، فَإِنْ كَانَ بِهَا أَنْقَاضٌ أَوْ خَشَبٌ وَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الدَّارِ أَوِ الْبُسْتَانِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةِ الْأَنْقَاضِ وَالْخَشَبِ يَوْمَ الْأَخْذِ، وَإِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ بِغَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ سَقَطَتْ حِصَّةُ التَّالِفِ مِنْ أَصْلِ الثَّمَنِ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ مَعَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا، فَأَمَّا إِذَا زَالَ الِاتِّصَالُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلَا سَبِيلَ لِلشَّفِيعِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ قَائِمَةً سَوَاءٌ أَكَانَ الزَّوَالُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ مَعْلُولًا بِالتَّبَعِيَّةِ وَقَدْ زَالَتِ التَّبَعِيَّةُ بِزَوَالِ الِاتِّصَالِ فَيُرَدُّ الْحُكْمُ فِيهِ إِلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي نَقْصَ الشِّقْصِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِلَا سَبَبٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ تَغَيُّرِ سُوقٍ أَوْ كَانَ بِسَبَبٍ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ فَعَلَهُ لِمَصْلَحَةٍ كَهَدْمٍ لِمَصْلَحَةٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ لَهُ شَفِيعًا أَمْ لَا.فَإِنْ هَدَمَ لَا لِمَصْلَحَةٍ ضَمِنَ، فَإِنْ هَدَمَ وَبَنَى فَلَهُ قِيمَتُهُ عَلَى الشَّفِيعِ قَائِمًا لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ وَتُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ وَلَهُ قِيمَةُ النَّقْصِ الْأَوَّلِ مَنْقُوضًا يَوْمَ الشِّرَاءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّبَتِ الدَّارُ الْمُشْتَرَى بَعْضُهَا أَخَذَ الشَّفِيعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ أَوْ تَرَكَ كَتَعَيُّبِهَا بِيَدِ الْبَائِعِ، وَكَذَا لَوِ انْهَدَمَتْ بِلَا تَلَفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ وَقَعَ تَلَفٌ لِبَعْضِهَا فَبِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ الشِّقْصُ أَوْ بَعْضُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ.لِأَنَّهُ مِلْكُهُ تَلِفَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بَعْدَ تَلَفِ بَعْضِهِ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ، وَسَوَاءٌ أَتَلِفَ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي كَنَقْضِهِ لِلْبِنَاءِ أَمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مِثْلَ أَنِ انْهَدَمَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْأَنْقَاضُ مَوْجُودَةً أَخَذَهَا مَعَ الْعَرْصَةِ بِالْحِصَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً أَخَذَ الْعَرْصَةَ وَمَا بَقِيَ مِنَ الْبِنَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الشَّفِيعِ أَخْذُ الْجَمِيعِ وَقَدَرَ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ فَكَانَ لَهُ بِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ سِوَاهُ أَوْ لَوْ كَانَ لَهُ شَفِيعٌ آخَرُ.أَوْ نَقُولُ: أَخَذَ بَعْضَ مَا دَخَلَ مَعَهُ فِي الْعَقْدِ، فَأَخَذَهُ بِالْحِصَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ.
وَأَمَّا الضَّرَرُ فَإِنَّمَا حَصَلَ بِالتَّلَفِ وَلَا صُنْعَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ وَالَّذِي يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ يُؤَدِّي ثَمَنَهُ فَلَا يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِهِ.
وَإِنَّمَا قَالُوا بِأَخْذِ الْأَنْقَاضِ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلشُّفْعَةِ كَانَ حَالَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ كَانَ مُتَّصِلًا اتِّصَالًا لَيْسَ مَآلُهُ إِلَى الِانْفِصَالِ وَانْفِصَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الشُّفْعَةِ.وَإِنْ نُقِضَتِ الْقِيمَةُ مَعَ بَقَاءِ صُورَةِ الْمَبِيعِ مِثْلَ انْشِقَاقِ الْحَائِطِ وَانْهِدَامِ الْبِنَاءِ، وَشُعْثِ الشَّجَرِ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوِ التَّرْكُ.لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ.
مِيرَاثُ الشُّفْعَةِ:
51- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِ حَقِّ الشُّفْعَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يُورَثُ، فَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ يَنْتَقِلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ إِلَى وَرَثَتِهِ.
وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ.
وَوَجْهُ الِانْتِقَالِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَالِ فَوُرِثَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ حَقُّ الْأَخْذِ بِهَا، فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَوْتِ الشَّفِيعِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ الرَّأْيِ وَالْمَشِيئَةِ وَهُمَا لَا يَبْقَيَانِ بَعْدَ مَوْتِ الشَّفِيعِ وَلِأَنَّ مِلْكَ الشَّفِيعِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ قَدْ زَالَ بِمَوْتِهِ.أَمَّا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ أَوْ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِهَا فَلِوَرَثَتِهِ أَخْذُهَا بِالشُّفْعَةِ.
وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ حَيٌّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ، وَبِمَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرِ الِاسْتِحْقَاقُ.
مُسْقِطَاتُ الشُّفْعَةِ:
52- تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَا يَلِي:
أَوَّلًا: تَرْكُ أَحَدِ الطَّلَبَاتِ الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتِهِ وَهِيَ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ، وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ، وَطَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ إِذَا تُرِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ.
ثَانِيًا: إِذَا طَلَبَ الشَّفِيعُ بَعْضَ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ وَكَانَ قِطْعَةً وَاحِدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ.
ثَالِثًا: مَوْتُ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِهَا رِضَاءً أَوْ قَضَاءً سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَمْ بَعْدَهُ.وَلَا تُورَثُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ.
رَابِعًا: الْإِبْرَاءُ وَالتَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ: فَالْإِبْرَاءُ الْعَامُّ مِنَ الشَّفِيعِ يُبْطِلُهَا قَضَاءً مُطْلَقًا لَا دِيَانَةً إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا.
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّنَازُلِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِالتَّفْصِيلِ كَالتَّالِي:
53- إِذَا تَنَازَلَ الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ سَقَطَ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا، وَالتَّنَازُلُ هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ضِمْنِيًّا.
فَالتَّنَازُلُ الصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الشَّفِيعُ: أَبْطَلْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ أَسْقَطْتُهَا أَوْ أَبْرَأْتُكَ عَنْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الدَّيْنِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْبَيْعِ.
أَمَّا التَّنَازُلُ الضِّمْنِيُّ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الشَّفِيعِ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِالْبَيْعِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا رَضِيَ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِحُكْمِهِ فَقَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ جِوَارِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الدَّفْعَ بِالشُّفْعَةِ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِسْقَاطٌ).
التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ:
54- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَازَلَ الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ بَيْعِ الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّنَازُلَ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ مُحَالٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَسْقُطُ بِالتَّنَازُلِ عَنْهَا قَبْلَ الْبَيْعِ- فَإِنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ رَبْعَةٌ فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَلْيَعْرِضْهَا عَلَيْهِ».
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا يَحِلُّ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَيْهِ» إِذَا كَانَتِ الشُّفْعَةُ ثَابِتَةً لَهُ؟ فَقَالَ.مَا هُوَ بِبَعِيدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَلاَّ تَكُونَ لَهُ الشُّفْعَةُ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَكَمِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي خَيْثَمَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ أَوْ نَخْلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ» وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ»،، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ بِإِذْنِهِ لَا حَقَّ لَهُ.
وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي مَوْضِعِ الْوِفَاقِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ يَأْخُذُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ رِضَائِهِ، وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بِهِ لِدُخُولِهِ مَعَ الْبَائِعِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَسَاءَ فِيهِ بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَتَرْكِهِ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ فِي عَرْضِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ هَاهُنَا فَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَهُ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعُهُ مِنْ أَخْذِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ بِبَيْعِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَهُوَ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ.
التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ مُقَابِلَ تَعْوِيضٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْهَا:
55- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّنَازُلِ عَنِ الشُّفْعَةِ مُقَابِلَ تَعْوِيضٍ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ، فَلَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ وَلَمْ يَثْبُتِ الْعِوَضُ وَيَبْطُلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ إِنْ عَلِمَ بِفَسَادِهِ.
أَمَّا بُطْلَانُ الصُّلْحِ فَلِانْعِدَامِ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْمَحَلِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهَا مَعْنًى قَائِمٌ بِالشَّفِيعِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَبَطَلَ الصُّلْحُ وَلَمْ يَجِبِ الْعِوَضُ.
وَأَمَّا بُطْلَانُ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ؛ فَلِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ بِالصُّلْحِ فَالصُّلْحُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَإِسْقَاطُ حَقِّ الشُّفْعَةِ صَحِيحٌ، لِأَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى الْعِوَضِ بَلْ هُوَ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْوَالِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهُ فَالْتُحِقَ ذِكْرُ الْعِوَضِ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِلَا عِوَضٍ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِعِوَضٍ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: مِنَ الْحَنَابِلَةِ.لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَلَكِنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَسْقُطُ.لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهَا وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا وَلَمْ تَثْبُتِ الْمُعَاوَضَةُ فَبَقِيَتِ الشُّفْعَةُ.
التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا:
56- يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَهَا وَقَبْلَ رِضَى الْمُشْتَرِي أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَهُ بِهَا، فَإِنْ تَرَكَ الشَّفِيعُ طَلَبَ الشُّفْعَةِ أَوْ بَاعَ حِصَّتَهُ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا بَعْدَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَقَبْلَ تَمَلُّكِهِ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ يُعَدُّ تَنَازُلًا مِنْهُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِهَا قَبْلَ الْحُكْمِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ التَّنَازُلُ بَعْدَ الْحُكْمِ لَهُ بِهَا أَوْ بَعْدَ رِضَاءِ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ فَلَيْسَ لَهُ التَّنَازُلُ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مِلْكَ الْمَشْفُوعِ فِيهِ وَالْمِلْكُ لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ.
مُسَاوَمَةُ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي:
57- الْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلًا عَنِ الشُّفْعَةِ فَإِذَا سَامَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنَ الْمُشْتَرِي سَقَطَ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ طَلَبُ تَمْلِيكٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَهُوَ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ.
وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِمَّا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الرِّضَا فَيَبْطُلُ بِدَلَالَةِ الرِّضَا أَيْضًا، وَالْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
29-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة الجمعة 2)
صَلَاةُ الْجُمُعَةِ-2السَّعْيُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ:
29- مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ: وُجُوبُ السَّعْيِ إِلَيْهَا، وَتَرْكُ مُعَامَلَاتِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عِنْدَ الْأَذَانِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ- إِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَأْخِيرِ هَذَا السَّعْيِ الْوَاجِبِ عِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ.أَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ مِنْ بَيْعٍ، وَنَحْوِهِ بَدَلًا مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى السَّعْيِ فَفِي بُطْلَانِهِ، أَوْ كَرَاهَتِهِ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَحْكَامِ الْبَيْعِ (ر: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ج 9 ف 133).
الْمُسْتَحَبَّاتُ مِنْ كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ:
30- (1) الْأَذَانُ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ قَبْلَ الْبَدْءِ بِالْخُطْبَةِ إِذَا جَلَسَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهَذَا الْأَذَانُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُؤَذَّنُ لِكُلٍّ مِنَ الْوَقْتِ وَالْخُطْبَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَفِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- ثُمَّ رَأَى عُثْمَانُ- رضي الله عنه- أَنْ يُؤَذِّنَ أَذَانًا أَوَّلَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ النَّاسِ.وَأَبْقَى الْأَذَانَ الثَّانِيَ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ الْتِزَامًا لِلسُّنَّةِ.
(2) - أَنْ يَخْطُبَ الْخَطِيبُ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ يَفْتَتِحُهَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
31- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ فِي الْخُطْبَةِ، فَذَهَبَ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ سُنَّةٌ فِي الْخُطْبَةِ وَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِهَا شَرْطًا فِيهَا.
وَدَلِيلُ الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا الطَّهَارَةَ فِيهَا: أَنَّ الْخُطْبَةَ مِنْ بَابِ الذِّكْرِ، وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعَانِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا دَلِيلُ الْآخَرِينَ: فَهُوَ مُوَاظَبَةُ السَّلَفِ عَلَى الطَّهَارَةِ فِيهَا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الصَّلَاةِ.
اسْتِحْبَابُ كَوْنِ الْخَطِيبِ وَالْإِمَامِ وَاحِدًا:
32- يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَؤُمَّ الْقَوْمَ إِلاَّ مَنْ خَطَبَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالْخُطْبَةَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ قَالَ فِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: فَإِنْ فَعَلَ بِأَنْ خَطَبَ صَبِيٌّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ وَصَلَّى بَالِغٌ جَازَ غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ.قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ: إِنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنَ الْخُطْبَةِ لَمْ يَجُزْ، وَيُصَلِّي بِهِمُ الظُّهْرَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، فَذَهَبُوا إِلَى وُجُوبِ كَوْنِ الْخَطِيبِ وَالْإِمَامِ وَاحِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ، وَكَأَنْ لَا يَقْدِرَ الْإِمَامُ عَلَى الْخُطْبَةِ، أَوْ لَا يُحْسِنَهَا.
مَا يُقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:
33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى (سُورَةَ الْجُمُعَةِ)، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ).لِمَا رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «صَلَّى بِنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَلَمَّا قَضَى أَبُو هُرَيْرَةَ الصَّلَاةَ أَدْرَكْتُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ، كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ».
كَمَا اسْتَحَبَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- أَيْضًا قِرَاءَةَ سُورَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَ {هَلْ أَتَاكَ} فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ.لِمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ».
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَكِنْ لَا يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَتِهَا بَلْ يَقْرَأُ غَيْرَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إِلَى هَجْرِ بَعْضِ الْقُرْآنِ، وَلِئَلاَّ تَظُنُّهُ الْعَامَّةُ حَتْمًا.
وَصَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ قِرَاءَةَ (الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقِينَ) أَوْلَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ: كَانَ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ بِهَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ، وَهَاتَيْنِ فِي آخَرَ فَهُمَا سُنَّتَانِ،
وَصَرَّحَ الْمَحَلِّيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ (سُورَةِ الْجُمُعَةِ) فِي الْأُولَى قَرَأَهَا مَعَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ قَرَأَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الْأُولَى قَرَأَ (الْجُمُعَةَ) فِي الثَّانِيَةِ.كَيْ لَا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ- أَيْضًا- بِسُورَةِ {هَلْ أَتَاكَ}، أَوْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الثَّلَاثِ- {هَلْ أَتَاكَ} أَوْ {سَبِّحْ} أَوِ (الْمُنَافِقُونَ) - وَأَنَّ كُلًّا يَحْصُلُ بِهِ النَّدْبُ، لَكِنْ {هَلْ أَتَاكَ} أَقْوَى فِي النَّدْبِ، وَهَذَا مَا اعْتَمَدَهُ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيُّ.وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ قَوْلَيْنِ، وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى {هَلْ أَتَاكَ} مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الثَّلَاثِ قَوْلُ الْكَافِي.
مُفْسِدَاتُ الْجُمُعَةِ:
تَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ:
مُفْسِدَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَمُفْسِدَاتٍ خَاصَّةٍ:
34- فَأَمَّا الْمُفْسِدَاتُ الْمُشْتَرَكَةُ: فَهِيَ كُلُّ مَا يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ (ر.صَلَاة)
35- وَأَمَّا مُفْسِدَاتُهَا الْخَاصَّةُ بِهَا فَتَنْحَصِرُ فِي الْأُمُورِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلِهَا: خُرُوجُ وَقْتِ الظُّهْرِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا، وَيَسْتَوِي فِي الْفَسَادِ خُرُوجُ الْوَقْتِ قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ بِهَا، وَخُرُوجُهُ بَعْدَ الْمُبَاشَرَةِ بِهَا وَقَبْلَ الِانْتِهَاءِ مِنْهَا هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَحْوُهُ لِلشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ ظُهْرًا وَلَا تَكُونُ جُمُعَةً، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَحْرَمُوا بِهَا فِي الْوَقْتِ فَهِيَ جُمُعَةٌ.
وَهَذَا يَعْنِي: أَنَّ اشْتِرَاطَ وَقْتِ الظُّهْرِ لَهَا مُسْتَمِرٌّ فِي الِاعْتِبَارِ إِلَى لَحْظَةِ الْفَرَاغِ مِنْهَا قَالَ فِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: لِأَنَّ الْوَقْتَ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ الِافْتِتَاحِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: شَرْطُ الْجُمُعَةِ وُقُوعُ كُلِّهَا بِالْخُطْبَةِ وَقْتَ الظُّهْرِ لِلْغُرُوبِ.
ثَانِيهَا: انْفِضَاضُ الْجَمَاعَةِ أَثْنَاءَ أَدَائِهَا، قَبْلَ أَنْ تُقَيَّدَ الرَّكْعَةُ الْأُولَى بِالسَّجْدَةِ فَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا.وَذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ أَدَاءٍ، وَأَمَّا عَلَى مَا رَجَّحَهُ الْآخَرُونَ، فَلَا أَثَرَ لِانْفِسَاخِهَا بَعْدَ الِانْعِقَادِ وَإِنْ لَمْ تُقَيَّدِ الرَّكْعَةُ الْأُولَى جَمَاعَةً.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَظْهَرُ: يُتِمُّهَا ظُهْرًا، وَالثَّانِي: إِنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ يُتِمُّهَا جُمُعَةً، وَالثَّالِثُ: إِنْ بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ يُتِمُّهَا جُمُعَةً.
وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ أَدَاءٍ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَهِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَرْطُ انْعِقَادٍ.
قَضَاءُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:
36- صَلَاة الْجُمُعَةُ لَا تُقْضَى بِالْفَوَاتِ، وَإِنَّمَا تُعَادُ الظُّهْرُ فِي مَكَانِهَا.قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَأَمَّا إِذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا، وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، سَقَطَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تُقْضَى؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ فَاتَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ، فَتَسْقُطُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ إِذَا فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ.
اجْتِمَاعُ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ:
37- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَافَقَ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُبَاحُ لِمَنْ شَهِدَ الْعِيدَ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَسَوَاءٌ مَنْ شَهِدَ الْعِيدَ بِمَنْزِلِهِ فِي الْبَلَدِ، أَوْ خَارِجَهَا.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَصَلَّوْا الْعِيدَ وَالظُّهْرَ جَازَ وَسَقَطَتِ الْجُمُعَةُ عَمَّنْ حَضَرَ الْعِيدَ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى الْعِيدَ، وَقَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ» وَصَرَّحُوا بِأَنَّ إِسْقَاطَ الْجُمُعَةِ حِينَئِذٍ إِسْقَاطُ حُضُورٍ لَا إِسْقَاطُ وُجُوبٍ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ أَوْ شُغْلٌ يُبِيحُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ وُجُوبُهَا فَتَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَيَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا.وَالْأَفْضَلُ لَهُ حُضُورُهَا خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامُ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ».
وَلِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَامْتَنَعَ فِعْلُهَا فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَنْ يُرِيدُهَا مِمَّنْ سَقَطَتْ عَنْهُ، وَقَالُوا: إِنْ قَدَّمَ الْجُمُعَةَ فَصَلاَّهَا فِي وَقْتِ الْعِيدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ: تُجْزِئُ الْأُولَى مِنْهُمَا.فَعَلَى هَذَا: تُجْزِيهِ عَنِ الْعِيدِ وَالظُّهْرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِلَى الْعَصْرِ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ الْجُمُعَةَ فِي وَقْتِ الْعِيدِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُوَافِقُ فِيهِ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ يَبْلُغُهُمُ النِّدَاءُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ: الرُّجُوعُ وَتَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ حَضَرُوا لِصَلَاةِ الْعِيدِ وَلَوْ رَجَعُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَاتَتْهُمُ الْجُمُعَةُ؛ فَيُرَخَّصُ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ.وَمِنْ ثَمَّ لَوْ تَرَكُوا الْمَجِيءَ لِلْعِيدِ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْحُضُورُ لِلْجُمُعَةِ، وَيُشْتَرَطُ- أَيْضًا- لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَنْصَرِفُوا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ.
آدَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُهَا:
اخْتَصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَاخْتَصَّتْ صَلَاتُهَا بِآدَابٍ تَشْمَلُ مَجْمُوعَةَ أَفْعَالٍ وَتُرُوكٍ، مُجْمَلُهَا فِيمَا يَلِي: -
أَوَّلًا: مَا يُسَنُّ فِعْلُهُ:
38- يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا وَيَتَجَمَّلَ، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- مَرْفُوعًا: «لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا»،، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: الْغُسْلُ لَهَا وَاجِبٌ.
قَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فِي بَيَانِ عِلَّةِ ذَلِكَ: لِأَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لَهَا عَلَى أَحْسَنِ وَصْفٍ كَمَا يُسَنُّ التَّبْكِيرُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْجَامِعِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْخَطِيبُ.
وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا اتَّفَقَتِ الْأَئِمَّةُ عَلَى نَدْبِهِ، وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ- أَيْضًا- فَاشْتَرَطُوا فِي الْغُسْلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِوَقْتِ الذَّهَابِ إِلَى الْجَامِعِ، قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ الزَّكِيَّةِ: فَإِنِ اغْتَسَلَ وَاشْتَغَلَ بِغِذَاءٍ أَوْ نَوْمٍ أَعَادَ الْغُسْلَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِذَا خَفَّ الْأَكْلُ، أَوِ النَّوْمُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
ثَانِيًا: مَا يُسَنُّ تَرْكُهُ:
39- أَوَّلًا: أَكْلُ كُلِّ ذِي رِيحٍ كَرِيهَةٍ: كَثُومٍ وَبَصَلٍ وَنَحْوِهِمَا.
40- ثَانِيًا: تَخَطِّي الرِّقَابِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ إِذَا كَانَ الْخَطِيبُ قَدْ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ، إِلاَّ أَنْ لَا يَجِدَ إِلاَّ فُرْجَةً أَمَامَهُ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلاَّ بِتَخَطِّي الرِّقَابِ، فَيُرَخَّصُ فِي ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ.
41- ثَالِثًا: تَجَنُّبُ الِاحْتِبَاءِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، حَيْثُ صَرَّحُوا بِكَرَاهَتِهِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الْحَبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ»
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: نَهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ يَجْلُبُ النَّوْمَ، فَيُعَرِّضُ طَهَارَتَهُ لِلنَّقْضِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ.وَلَمْ يَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِهِ بَأْسًا حَيْثُ صَرَّحُوا بِجَوَازِهِ (ر: احْتِبَاء) كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ أَوْ يَعْبَثُ حَالَ ذَهَابِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِهِ لَهَا
42- يَحْرُمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِنْشَاءُ سَفَرٍ بَعْدَ الزَّوَالِ (وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ) مِنَ الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يُدْرِكَ أَدَاءَهَا فِي مِصْرٍ آخَرَ.فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ عَلَى الرَّاجِحِ مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رُفْقَتِهِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- حَيْثُ صَرَّحُوا بِحُرْمَةِ السَّفَرِ بَعْدَ الزَّوَالِ.كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ السَّفَرِ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: إِلَى أَنَّ حُرْمَةَ السَّفَرِ تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ الْفَجْرِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ، وَدَلِيلُهُ: أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْجُمُعَةِ مُضَافَةٌ إِلَى الْيَوْمِ كُلِّهِ لَا إِلَى خُصُوصِ وَقْتِ الظُّهْرِ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ السَّعْيِ إِلَيْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ عَلَى بَعِيدِ الدَّارِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
30-موسوعة الفقه الكويتية (صوم 4)
صَوْمٌ -458- وَفِي وَقْتِ جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثُ أَحْوَالٍ: الْأُولَى: أَنْ يَبْدَأَ السَّفَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ، أَوْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُسَافِرٌ، وَيَنْوِيَ الْفِطْرَ، فَيَجُوزَ لَهُ الْفِطْرُ إِجْمَاعًا- كَمَا قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ- لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالسَّفَرِ، عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْدَأَ السَّفَرَ بَعْدَ الْفَجْرِ، بِأَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُقِيمٌ بِبَلَدِهِ، ثُمَّ يُسَافِرَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ خِلَالَ النَّهَارِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ بِإِنْشَاءِ السَّفَرِ بَعْدَمَا أَصْبَحَ صَائِمًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.وَذَلِكَ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَضَرِ.
وَمَعَ ذَلِكَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي إِفْطَارِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، خِلَافًا لِابْنِ كِنَانَةَ، وَذَلِكَ لِلشُّبْهَةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ.وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَافَرَ بَعْدَ الْفَجْرِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْفِطْرِ، فَسَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فِي الْحَضَرِ، ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، فَلَهُ الْفِطْرُ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَمُفَارَقَتِهِ بُيُوتَ قَرْيَتِهِ الْعَامِرَةِ، وَخُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ بُنْيَانِهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
- ظَاهِرُ قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
- وَحَدِيثُ جَابِرٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَشَرِبَ- وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ- فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ، وَصَامَ بَعْضُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ».
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى مَرَّ بِغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ.قَالَ: فَعَطِشَ النَّاسُ، جَعَلُوا يَمُدُّونَ أَعْنَاقَهُمْ، وَتَتُوقُ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهِ.قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَأَمْسَكَهُ عَلَى يَدِهِ، حَتَّى رَآهُ النَّاسُ، ثُمَّ شَرِبَ، فَشَرِبَ النَّاسُ».
وَقَالُوا: إِنَّ السَّفَرَ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ، فَإِبَاحَتُهُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ كَالْمَرَضِ الطَّارِئِ وَلَوْ كَانَ بِفِعْلِهِ.
وَقَالَ الَّذِينَ أَبَاحُوهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ تَغْلِيبٌ لِحُكْمِ السَّفَرِ.
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ الْمُؤَيِّدُونَ لِهَذَا الرَّأْيِ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ لِمَنْ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ نَوَى صَوْمَهُ- إِتْمَامُ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ لَمْ يُبِحْ لَهُ الْفِطْرَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَضَرِ، كَالصَّلَاةِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُفْطِرَ قَبْلَ مُغَادَرَةِ بَلَدِهِ.وَقَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: إِنَّ رُخْصَةَ السَّفَرِ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ، كَمَا لَا تَبْقَى بِدُونِهِ، وَلَمَّا يَتَحَقَّقُ السَّفَرُ بَعْدُ، بَلْ هُوَ مُقِيمٌ وَشَاهِدٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَلَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُسَافِرًا حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْبَلَدِ، وَمَهْمَا كَانَ فِي الْبَلَدِ فَلَهُ أَحْكَامُ الْحَاضِرِينَ، وَلِذَلِكَ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.
وَالْجُمْهُورُ الَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ الْإِفْطَارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَكَلَ، هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا.وَقَالَ أَشْهَبُ: هُوَ مُتَأَوِّلٌ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: يُكَفِّرُ.
وَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: فَإِنْ أَفْطَرَ قَبْلَ الْخُرُوجِ، فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يُسَافِرَ فَتَسْقُطَ، أَوْ لَا، فَتَجِبُ.
59- وَيَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي إِفْطَارِ الْمُسَافِرِ: مَا لَوْ نَوَى فِي سَفَرِهِ الصَّوْمَ لَيْلًا، وَأَصْبَحَ صَائِمًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ عَزِيمَتَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ، لَا يَحِلُّ فِطْرُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَوْ أَفْطَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِالْأَوْلَى، لَوْ نَوَى نَهَارًا.
وَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ كَانَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحَ عَلَى نِيَّةِ الصَّوْمِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ إِلاَّ بِعُذْرٍ، كَالتَّغَذِّي لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَجَازَهُ مُطَرِّفٌ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ: إِنْ أَفْطَرَ، فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ بِجِمَاعٍ فَتَجِبَ، أَوْ بِغَيْرِهِ فَلَا تَجِبَ.
لَكِنَّ الَّذِي فِي شُرُوحِ خَلِيلٍ، وَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ: أَنَّهُ إِذَا بَيَّتَ نِيَّةَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَأَصْبَحَ صَائِمًا فِيهِ ثُمَّ أَفْطَرَ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ أَفْطَرَ مُتَأَوِّلًا أَمْ لَا.فَسَأَلَ سَحْنُونٌ ابْنَ الْقَاسِمِ، عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ بَيَّتَ الصَّوْمَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ بَعْدَ أَنْ سَافَرَ بَعْدَ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْوِيَهُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الْحَاضِرَ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ فَسَافَرَ فَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْفِطْرِ، فَسَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَالْمُسَافِرُ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا، فَاخْتَارَ الصَّوْمَ وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ، فَصَارَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْكَفَّارَةِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي السَّفَرِ، ثُمَّ أَرَادَ الْفِطْرَ، جَازَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، لِأَنَّ الْعُذْرَ قَائِمٌ- وَهُوَ السَّفَرُ- أَوْ لِدَوَامِ الْعُذْرِ- كَمَا يَقُولُ الْمَحَلِّيُّ.
وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «....فَصَامَ حَتَّى مَرَّ بِغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ» وَحَدِيثُ جَابِرٍ- رضي الله عنه- «.....فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ، لَا يُعْرَجُ عَلَى مَا خَالَفَهُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَصَاحِبِ الْمُهَذَّبِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي فَرْضِ الْمُقِيمِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّرَخُّصُ بِرُخْصَةِ الْمُسَافِرِ، كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةِ الْإِتْمَامِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْصُرَ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَفِي كَرَاهَةِ الْفِطْرِ وَجْهَانِ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ ذَلِكَ.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ لَهُ الْفِطْرَ بِمَا شَاءَ، مِنْ جِمَاعٍ وَغَيْرِهِ، كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، لِأَنَّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ أُبِيحَ لَهُ الْجِمَاعُ، كَمَنْ لَمْ يَنْوِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ، لِحُصُولِ الْفِطْرِ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الْجِمَاعِ، فَيَقَعُ الْجِمَاعُ بَعْدَهُ.
صِحَّةُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ:
60- ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ صَحِيحٌ مُنْعَقِدٌ، وَإِذَا صَامَ وَقَعَ صِيَامُهُ وَأَجْزَأَهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهم- أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُسَافِرِ إِنْ صَامَ فِي سَفَرٍ.وَرُوِيَ الْقَوْلُ بِكَرَاهَتِهِ.
وَالْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ، وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ- اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ، الصَّوْمُ أَمِ الْفِطْرُ، أَوْ هُمَا مُتَسَاوِيَانِ؟
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، إِذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ وَلَمْ يُضْعِفْهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ.قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالصَّوْمُ أَحَبُّ مِنَ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، لِتَبْرِئَةِ الذِّمَّةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ.وَقَيَّدَ الْقَلْيُوبِيُّ الضَّرَرَ بِضَرَرٍ لَا يُوجِبُ الْفِطْرَ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}..إِلَى قَوْلِهِ..
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}.فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ عَزِيمَةٌ وَالْإِفْطَارَ رُخْصَةٌ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْعَزِيمَةَ أَفْضَلُ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مَا كَانَ رُخْصَةً فَالْأَفْضَلُ تَرْكُ الرُّخْصَةِ،.
وَبِحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي حَرٍّ شَدِيدٍ.مَا فِينَا صَائِمٌ إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ».
وَقَيَّدَ الْحَدَّادِيُّ، صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَفْضَلِيَّةَ الصَّوْمِ- أَيْضًا- بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عَامَّةُ رُفْقَتِهِ مُفْطِرِينَ، وَلَا مُشْتَرِكِينَ فِي النَّفَقَةِ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ، فَالْأَفْضَلُ فِطْرُهُ مُوَافَقَةً لِلْجَمَاعَةِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ، بَلْ قَالَ الْخِرَقِيُّ: وَالْمُسَافِرُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ، قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.
وَفِي الْإِقْنَاعِ: وَالْمُسَافِرُ سَفَرَ قَصْرٍ يُسَنُّ لَهُ الْفِطْرُ.
وَيُكْرَهُ صَوْمُهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَشَقَّةً.وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ وَجَدَ مَشَقَّةً أَوْ لَا، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- وَسَعِيدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ.
وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه-: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّذِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا».
قَالَ الْمَجْدُ: وَعِنْدِي لَا يُكْرَهُ لِمَنْ قَوِيَ، وَاخْتَارَهُ الْآجُرِّيُّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْفِطْرِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ يَتَضَرَّرُ بِالصَّوْمِ، وَفِي بَعْضِهَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، لِيُجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِ بَعْضِهَا، أَوِ ادِّعَاءِ النَّسْخِ، مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ.
وَالَّذِينَ سَوَّوْا بَيْنَ الصَّوْمِ وَبَيْنَ الْفِطْرِ، اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ- رضي الله عنه- قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟- وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ- فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ».
انْقِطَاعُ رُخْصَةِ السَّفَرِ:
61- تَسْقُطُ رُخْصَةُ السَّفَرِ بِأَمْرَيْنِ اتِّفَاقًا:
الْأَوَّلُ: إِذَا عَادَ الْمُسَافِرُ إِلَى بَلَدِهِ، وَدَخَلَ وَطَنَهُ، وَهُوَ مَحَلُّ إقَامَتِهِ، وَلَوْ كَانَ دُخُولُهُ بِشَيْءٍ نَسِيَهُ، يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، كَمَا لَوْ قَدِمَ لَيْلًا، أَوْ قَدِمَ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا لَوْ قَدِمَ نَهَارًا، وَلَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ لَيْلًا، أَوْ قَدِمَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ نَوَى الصَّوْمَ قَبْلًا- فَإِنَّهُ يُمْسِكُ بَقِيَّةَ النَّهَارِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي وُجُوبِ إِمْسَاكِهِ.
الثَّانِي: إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ مُطْلَقًا، أَوْ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي شُرُوطِ جَوَازِ فِطْرِ الْمُسَافِرِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الْمَكَانُ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ، لَا كَالسَّفِينَةِ وَالْمَفَازَةِ وَدَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِذَلِكَ، فَيُتِمُّ الصَّلَاةَ، وَيَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، لِانْقِطَاعِ حُكْمِ السَّفَرِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ- عَلَى الصَّحِيحِ- لِزَوَالِ الْعُذْرِ، وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، اعْتِبَارًا بِأَوَّلِ الْيَوْمِ.
قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: إِنَّ السَّفَرَ لَا يُبِيحُ قَصْرًا وَلَا فِطْرًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ وَالْفِعْلِ، بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الصَّوْمَ وَالْإِتْمَامَ بِالنِّيَّةِ دُونَ الْفِعْلِ.
وَإِذَا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ لَكِنَّهُ أَقَامَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ لَهُ، بِلَا نِيَّةِ إقَامَةٍ، وَلَا يَدْرِي مَتَى تَنْقَضِي، أَوْ كَانَ يَتَوَقَّعُ انْقِضَاءَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، كَمَا يَقْصُرَ الصَّلَاةَ.قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ.
فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَنْقَضِي إِلاَّ فَوْقَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُقِيمًا، فَلَا يُفْطِرُ وَلَا يَقْصُرُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْفَرْضُ قِتَالًا- كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ- فَإِنَّهُ يَتَرَخَّصُ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ أَرْضَ الْحَرْبِ أَوْ حَاصَرُوا حِصْنًا فِيهَا، أَوْ كَانَتِ الْمُحَاصَرَةُ لِلْمِصْرِ عَلَى سَطْحِ الْبَحْرِ، فَإِنَّ لِسَطْحِ الْبَحْرِ حُكْمَ دَارِ الْحَرْبِ.
وَدَلِيلُ هَذَا «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» وَيُلَاحَظُ أَنَّ الْفِطْرَ كَالْقَصْرِ الَّذِي نَصُّوا عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، مِنْ حَيْثُ التَّرَخُّصُ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ لَهُ سَائِرُ رُخَصِ السَّفَرِ.
ثَالِثًا: الْحَمْلُ وَالرَّضَاعُ:
62- الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ لَهُمَا أَنْ تُفْطِرَا فِي رَمَضَانَ، بِشَرْطِ أَنْ تَخَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ عَلَى وَلَدِهِمَا الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَتَهُ، أَوِ الضَّرَرَ أَوِ الْهَلَاكَ، فَالْوَلَدُ مِنَ الْحَامِلِ بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ مِنْهَا، فَالْإِشْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَالْإِشْفَاقِ مِنْهُ عَلَى بَعْضِ أَعْضَائِهَا.
قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَيَجِبُ (يَعْنِي الْفِطْرَ) إِنْ خَافَتَا هَلَاكًا أَوْ شَدِيدَ أَذًى، وَيَجُوزُ إِنْ خَافَتَا عَلَيْهِ الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَتَهُ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهِمَا، كَالْمَرِيضِ.
وَدَلِيلُ تَرْخِيصِ الْفِطْرِ لَهُمَا: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَرَضِ صُورَتَهُ، أَوْ عَيْنَ الْمَرَضِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، فَكَانَ ذِكْرُ الْمَرَضِ كِنَايَةً عَنْ أَمْرٍ يَضُرُّ الصَّوْمُ مَعَهُ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَرَضِ، وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا، فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْحَمْلَ مَرَضٌ حَقِيقَةً، وَالرَّضَاعَ فِي حُكْمِ الْمَرَضِ، وَلَيْسَ مَرَضًا حَقِيقَةً.
وَكَذَلِكَ، مِنْ أَدِلَّةِ تَرْخِيصِ الْفِطْرِ لَهُمَا، حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْكَعْبِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ الْحَامِلِ أَوِ الْمُرْضِعِ الصَّوْمَ أَوِ الصِّيَامَ» وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ: «عَنِ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ».
وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْحَامِلِ يَتَنَاوَلُ- كَمَا نَصَّ الْقَلْيُوبِيُّ- كُلَّ حَمْلٍ، وَلَوْ مِنْ زِنًا وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمُرْضِعُ أُمًّا لِلرَّضِيعِ، أَمْ كَانَتْ مُسْتَأْجَرَةً لِإِرْضَاعِ غَيْرِ وَلَدِهَا، فِي رَمَضَانَ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنَّ فِطْرَهَا جَائِزٌ، عَلَى الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، بَلْ لَوْ كَانَتْ مُتَبَرِّعَةً وَلَوْ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا، أَوْ مِنْ زِنًا، جَازَ لَهَا الْفِطْرُ مَعَ الْفِدْيَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، كَابْنِ الْكَمَالِ وَالْبَهْنَسِيِّ: تُقَيَّدُ الْمُرْضِعُ بِمَا إِذَا تَعَيَّنَتْ لِلْإِرْضَاعِ، كَالظِّئْرِ بِالْعَقْدِ، وَالْأُمِّ بِأَنْ لَمْ يَأْخُذْ ثَدْيَ غَيْرِهَا، أَوْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ عَلَيْهَا، لَكِنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ خِلَافُهُ، وَأَنَّ الْإِرْضَاعَ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمِّ دِيَانَةً مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ، وَقَضَاءً إِذَا كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا، أَوْ كَانَ الْوَلَدُ لَا يَرْضَعُ مِنْ غَيْرِهَا.
وَأَمَّا الظِّئْرُ فَلِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي رَمَضَانَ، خِلَافًا لِمَنْ قَيَّدَ الْحِلَّ بِالْإِجَارَةِ قَبْلَ رَمَضَانَ.
كَمَا قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالْغَزَالِيِّ: يُقَيَّدُ فِطْرُ الْمُرْضِعِ، بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَأْجَرَةً لِإِرْضَاعِ غَيْرِ وَلَدِهَا، أَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَبَرِّعَةً، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْمُصَحَّحَ عِنْدَهُمْ خِلَافُهُ، قِيَاسًا عَلَى السَّفَرِ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِي جَوَازِ الْإِفْطَارِ بِهِ مَنْ سَافَرَ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، وَغَرَضِ غَيْرِهِ، بِأُجْرَةٍ وَغَيْرِهَا.
رَابِعًا: الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ:
63- وَتَشْمَلُ الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ مَا يَلِي: -
الشَّيْخَ الْفَانِيَ، وَهُوَ الَّذِي فَنِيَتْ قُوَّتُهُ، أَوْ أَشْرَفَ عَلَى الْفَنَاءِ، وَأَصْبَحَ كُلَّ يَوْمٍ فِي نَقْصٍ إِلَى أَنْ يَمُوتَ.
الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَتَحَقَّقَ الْيَأْسُ مِنْ صِحَّتِهِ.
الْعَجُوزَ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْمُسِنَّةُ.
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ فِي حُكْمِ الْكَبِيرِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ عَجْزَ الشَّيْخُوخَةِ وَالْهَرَمِ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَمِرًّا، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرَا عَلَى الصَّوْمِ لِشِدَّةِ الْحَرِّ مَثَلًا، كَانَ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا، وَيَقْضِيَاهُ فِي الشِّتَاءِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمَا الصَّوْمُ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا، إِذَا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُمَا وَيَشُقُّ عَلَيْهِمَا مَشَقَّةً شَدِيدَةً.
قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: إِنَّ الشَّيْخَ وَالْعَجُوزَ الْعَاجِزَيْنِ عَنِ الصَّوْمِ، يَجُوزُ لَهُمَا الْفِطْرُ إِجْمَاعًا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا.
وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِيَّةِ إِفْطَارِ مَنْ ذُكِرَ:
أ- قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: إِنَّ (لَا) مُضْمَرَةٌ فِي الْآيَةِ، وَالْمَعْنَى: وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: الْآيَةُ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وَهِيَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ، لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا، فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
وَالْآيَةُ فِي مَحَلِّ الِاسْتِدْلَالِ، حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِنَسْخِهَا، لِأَنَّهَا إِنْ وَرَدَتْ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي- كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ- فَظَاهِرٌ، وَإِنْ وَرَدَتْ لِلتَّخْيِيرِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ، فَبَقِيَ الشَّيْخُ الْفَانِي عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ.
ب- وَالْعُمُومَاتُ الْقَاضِيَةُ بِرَفْعِ الْحَرَجِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وَمُوجِبُ الْإِفْطَارِ بِسَبَبِ الشَّيْخُوخَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ، وَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
خَامِسًا: إِرْهَاقُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ:
64- مَنْ أَرْهَقَهُ جُوعٌ مُفْرِطٌ، أَوْ عَطَشٌ شَدِيدٌ، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيَقْضِي.وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلِ: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ، بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، لَا بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ، أَوْ يَخَافَ نُقْصَانَ الْعَقْلِ، أَوْ ذَهَابَ بَعْضِ الْحَوَاسِّ، كَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الْهَلَاكَ أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِمَا.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ حُرِّمَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ وَالْمَنَافِعِ وَاجِبٌ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ بِإِتْعَابِ نَفْسِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ بِهِ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَقِيلَ: لَا.
وَأَلْحَقَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْمَرِيضِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْخَوْفَ عَلَى النَّفْسِ فِي مَعْنَى الْمَرَضِ.وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَمِثْلُ الْمَرَضِ غَلَبَةُ جُوعٍ وَعَطَشٍ، لَا نَحْوُ صُدَاعٍ، وَوَجَعِ أُذُنٍ وَسِنٍّ خَفِيفَةٍ.
وَمَثَّلُوا لَهُ بِأَرْبَابِ الْمِهَنِ الشَّاقَّةِ، لَكِنْ قَالُوا: عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ لَيْلًا، ثُمَّ إِنِ احْتَاجَ إِلَى الْإِفْطَارِ، وَلَحِقَتْهُ مَشَقَّةٌ، أَفْطَرَ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمُحْتَرِفُ الْمُحْتَاجُ إِلَى نَفَقَتِهِ كَالْخَبَّازِ وَالْحَصَّادِ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِحِرْفَتِهِ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ قَبْلَ أَنْ تَلْحَقَهُ مَشَقَّةٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ صَنْعَتُهُ شَاقَّةٌ، فَإِنْ خَافَ بِالصَّوْمِ تَلَفًا، أَفْطَرَ وَقَضَى، إِنْ ضَرَّهُ تَرْكُ الصَّنْعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَضُرَّهُ تَرْكُهَا أَثِمَ بِالْفِطْرِ وَبِتَرْكِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْتِفِ الضَّرَرُ بِتَرْكِهَا، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالْفِطْرِ لِلْعُذْرِ.
65- وَأَلْحَقُوا بِإِرْهَاقِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ خَوْفَ الضَّعْفِ عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ الْمُتَوَقَّعِ أَوِ الْمُتَيَقَّنِ كَأَنْ كَانَ مُحِيطًا: فَالْغَازِي إِذَا كَانَ يَعْلَمُ يَقِينًا أَوْ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ الْقِتَالَ بِسَبَبِ وُجُودِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ، وَيَخَافُ الضَّعْفَ عَنِ الْقِتَالِ بِالصَّوْمِ، وَلَيْسَ مُسَافِرًا، لَهُ الْفِطْرُ قَبْلَ الْحَرْبِ.
قَالَ فِي الْهِنْدِيَّةِ: فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقِ الْقِتَالُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيمِ الْإِفْطَارِ، لِيَتَقَوَّى وَلَا كَذَلِكَ الْمَرَضُ.
وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَمَنْ قَاتَلَ عَدُوًّا، أَوْ أَحَاطَ الْعَدُوُّ بِبَلَدِهِ، وَالصَّوْمُ يُضْعِفُهُ عَنِ الْقِتَالِ، سَاغَ لَهُ الْفِطْرُ بِدُونِ سَفَرٍ نَصًّا، لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ، فِي أَنَّ الْمُرْهَقَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، يُفْطِرُ، وَيَقْضِي- كَمَا ذَكَرْنَا- وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إِذَا أَفْطَرَ الْمُرْهَقُ، فَهَلْ يُمْسِكُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، أَمْ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ؟
سَادِسًا: الْإِكْرَاهُ:
66- الْإِكْرَاهُ: حَمْلُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ، عَلَى فِعْلِ أَوْ تَرْكِ مَا لَا يَرْضَاهُ بِالْوَعِيدِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ فَأَفْطَرَ قَضَى.
قَالُوا: إِذَا أُكْرِهَ الصَّائِمُ بِالْقَتْلِ عَلَى الْفِطْرِ، بِتَنَاوُلِ الطَّعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ، فَمُرَخَّصٌ لَهُ بِهِ، وَالصَّوْمُ أَفْضَلُ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِفْطَارِ حَتَّى قُتِلَ، يُثَابُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي الْإِكْرَاهِ هُوَ سُقُوطُ الْمَأْثَمِ بِالتَّرْكِ، لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ، بَلْ بَقِيَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا، وَالتَّرْكُ حَرَامًا، وَإِذَا كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا، وَالتَّرْكُ حَرَامًا، كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا، فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ، فَكَانَ مُجَاهِدًا فِي دِينِهِ، فَيُثَابُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا، فَالْإِكْرَاهُ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- حِينَئِذٍ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ، فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا، بَلْ مُوجِبٌ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِفْطَارُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يُفْطِرَ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقُتِلَ، يَأْثَمُ.وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةِ التَّرْكِ أَصْلًا، فَإِذَا جَاءَ الْإِكْرَاهُ- وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ- كَانَ أَثَرُهُ فِي إِثْبَاتِ رُخْصَةِ التَّرْكِ، لَا فِي إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ.
وَأَمَّا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، فَالْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ التَّرْكِ، كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلْإِكْرَاهِ أَثَرٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ إِسْقَاطَ الْوُجُوبِ رَأْسًا، وَإِثْبَاتَ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَهُنَاكَ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَكَذَا هُنَا.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَكْلِ أَوِ الشُّرْبِ، وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْوَطْءِ: فَقَالُوا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَكْلِ: لَوْ أُكْرِهَ حَتَّى أَكَلَ أَوْ شَرِبَ لَمْ يُفْطِرْ، كَمَا لَوْ أُوجِرَ فِي حَلْقِهِ مُكْرَهًا، لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى اخْتِيَارِهِ سَاقِطٌ لِعَدَمِ وُجُودِ الِاخْتِيَارِ.
أَمَّا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْوَطْءِ زِنًا، فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ، فَيُفْطِرُ بِهِ، بِخِلَافِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ.
وَاعْتَمَدَ الْعَزِيزِيُّ الْإِطْلَاقَ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ عَدَمَ الْإِفْطَارِ، لِشُبْهَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْحُرْمَةِ مِنْ جِهَةِ الْوَطْءِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِفْطَارِ مُطْلَقًا بِالْوَطْءِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِذَا فَعَلَهُ الْمُكْرَهُ لَا يُفْطِرُ بِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِلاَّ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِفْطَارِ بِالزِّنَا، فَإِنَّ فِيهِ وَجْهًا بِالْإِفْطَارِ وَالْقَضَاءِ عِنْدَهُمْ.
وَهَذَا الْإِطْلَاقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِعْلِ، أَوْ فُعِلَ بِهِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، بِأَنْ صُبَّ فِي حَلْقِهِ، مُكْرَهًا أَوْ نَائِمًا، كَمَا لَوْ أُوجِرَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مُعَالَجَةً، لَا يُفْطِرُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِحَدِيثِ: «وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
مُلْحَقَاتٌ بِالْعَوَارِضِ
67- يُمْكِنُ إِلْحَاقُ مَا يَلِي مِنَ الْأَعْذَارِ بِالْعَوَارِضِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، وَأَقَرُّوهَا وَأَفْرَدُوا لَهَا أَحْكَامًا كُلَّمَا عَرَضَتْ فِي الصَّوْمِ، كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ وَالسُّكْرِ وَالنَّوْمِ وَالرِّدَّةِ وَالْغَفْلَةِ.
وَأَحْكَامُهُمَا تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ:
أَوَّلًا: الْجِمَاعُ عَمْدًا:
68- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ جِمَاعَ الصَّائِمِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا مُخْتَارًا بِأَنْ يَلْتَقِيَ الْخِتَانَانِ وَتَغِيبَ الْحَشَفَةُ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ- مُفْطِرٌ يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ.
وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ الْخَلَلَ انْجَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ.وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لَهُمْ: إِنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ دَخَلَ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَإِلاَّ فَلَا يَدْخُلُ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ- بِلَا عُذْرٍ- آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا أَنْزَلَ أَمْ لَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا، أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُخْطِئًا، مُخْتَارًا أَوْ مُكْرَهًا وَهَذَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا.قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا.قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا.قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا- يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».
وَلَا خِلَافَ فِي فَسَادِ صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِالْجِمَاعِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ.وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا:
فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا أَيْضًا، لِأَنَّهَا هَتَكَتْ صَوْمَ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا كَالرَّجُلِ.
وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ وُجُوبَهَا عَلَيْهَا، بِأَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ هُوَ جِنَايَةُ الْإِفْسَادِ، لَا نَفْسُ الْوِقَاعِ، وَقَدْ شَارَكَتْهُ فِيهَا، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِي الْجِنَايَةِ، وَالْبَيَانُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ بَيَانٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، فَقَدْ وُجِدَ فَسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ حَرَامٍ مَحْضٍ مُتَعَمَّدٍ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَلَا يَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ، وَلَا يَجْرِي فِيهَا التَّحَمُّلُ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَرِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ الْوَاطِئَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، وَلَمْ يَأْمُرِ الْمَرْأَةَ بِشَيْءٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُودِ ذَلِكَ مِنْهَا.وَلِأَنَّ الْجِمَاعَ فِعْلُهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ.وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ، وَيَتَحَمَّلُهَا الرَّجُلُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الزَّوْجَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْهُمَا، وَضَعَّفَهَا بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّدَاخُلِ.وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ أُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ حَتَّى مَكَّنَتِ الرَّجُلَ مِنْهَا لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ غُصِبَتْ أَوْ أُتِيَتْ نَائِمَةً فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا.
ثَانِيًا: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ عَمْدًا:
69- مِمَّا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ.
فَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ، فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ غِذَاءً أَوْ دَوَاءً، طَائِعًا عَامِدًا، بِغَيْرِ خَطَأٍ وَلَا إِكْرَاهٍ وَلَا نِسْيَانٍ، أَفْطَرَ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ بَدَنِهِ لِجَوْفِهِ، بِأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُؤْكَلُ عَادَةً عَلَى قَصْدِ التَّغَذِّي أَوِ التَّدَاوِي أَوِ التَّلَذُّذِ، أَوْ مِمَّا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ، وَتَنْقَضِي بِهِ شَهْوَةُ الْبَطْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ، بَلْ ضَرَرُهُ.
وَشَرَطُوا أَيْضًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ: أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ لَيْلًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُكْرَهًا، وَأَنْ لَا يَطْرَأَ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، كَمَرَضٍ وَحَيْضٍ.
وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنْ يَكُونَ إِفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، عَمْدًا قَصْدًا لِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ لِلْفِطْرِ.
وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي شُرْبِ الدُّخَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ- فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَضَرَّ الْبَدَنَ، لَكِنْ تَمِيلُ إِلَيْهِ بَعْضُ الطِّبَاعِ، وَتَنْقَضِي بِهِ شَهْوَةُ الْبَطْنِ، يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُفْتِرٌ وَحَرَامٌ، لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ».
وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَمْدًا، مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا» فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْإِفْطَارِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ وَاقِعَةَ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، لَكِنَّهَا عُلِّقَتْ بِالْإِفْطَارِ، لَا بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ الْإِفْطَارِ وَلَفْظُ الرَّاوِي عَامٌّ، فَاعْتُبِرَ، كَقَوْلِهِ: «قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ».
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَدَاءً، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَّ- وَهُوَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ- وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ، وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ.وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِهَذَا، وَلَا إِجْمَاعَ.
وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ أَمَسُّ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعَدِّي بِهِ آكَدُ، وَلِهَذَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ مُحَرَّمًا.
ثَالِثًا: رَفْعُ النِّيَّةِ:
70- وَمِمَّا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، مَا لَوْ تَعَمَّدَ رَفْعَ النِّيَّةِ نَهَارًا، كَأَنْ يَقُولَ- وَهُوَ صَائِمٌ: رَفَعْتُ نِيَّةَ صَوْمِي، أَوْ يَقُولَ رَفَعْتُ نِيَّتِي.
وَأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ، رَفْعُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ، كَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ، لِأَنَّهُ رَفَعَهَا فِي مَحِلِّهَا فَلَمْ تَقَعِ النِّيَّةُ فِي مَحِلِّهَا.
وَكَذَلِكَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْإِصْبَاحِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ، وَلَوْ نَوَى الصِّيَامَ بَعْدَهُ، عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جُزَيٍّ.
أَمَّا إِنْ عَلَّقَ الْفِطْرَ عَلَى شَيْءٍ، كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ وَجَدْتُ طَعَامًا أَكَلْتُ فَلَمْ يَجِدْهُ، أَوْ وَجَدَهُ وَلَمْ يُفْطِرْ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِتَرْكِ النِّيَّةِ دُونَ الْكَفَّارَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
31-موسوعة الفقه الكويتية (ضمان 2)
ضَمَانٌ -2خَامِسًا: الْأَوْصَافُ وَضَمَانُهَا:
25- إِذَا نَقَصَتْ السِّلْعَةُ، عِنْدَ الْغَاصِبِ، بِسَبَبِ فَوَاتِ وَصْفٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبِ هُبُوطِ الْأَسْعَارِ فِي السُّوقِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ فَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ:
أ- فَإِنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ هُبُوطِ الْأَسْعَارِ فِي الْأَسْوَاقِ، فَلَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ أَوِ الْمُتَعَدِّي ضَمَانُ نَقْصِ الْقِيمَةِ اتِّفَاقًا، لِأَنَّ الْمَضْمُونَ نُقْصَانُ الْمَغْصُوبِ، وَنُقْصَانُ السِّعْرِ لَيْسَ بِنُقْصَانِ الْمَغْصُوبِ، بَلْ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا وَهَذَا مَا أَخَذَتْ بِهِ الْمَجَلَّةُ (الْمَادَّةُ: 900)، وَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الْقِيمَةِ، مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الْعَيْنِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ، كَمَا كَانَتْ، وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا غَصَبَ، وَالْقِيمَةُ لَا تَدْخُلُ فِي الْغَصْبِ.
ب- وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ فَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ، فَهُوَ مَضْمُونٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ كَمَا لَوْ سَقَطَ عُضْوُ الْحَيَوَانِ الْمَغْصُوبِ، وَهُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ حَدَثَ لَهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَرَجٌ أَوْ شَلَلٌ أَوْ عَمًى، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَالِكَ يَأْخُذُ الْمَغْصُوبَ، وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ النُّقْصَانَ: لِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ، أَوْ فَوَاتِ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا؛ وَلِأَنَّهُ دَخَلَتْ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ، فَمَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ، يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ أَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا، وَيُقَوَّمَ وَبِهِ الْعَيْبُ، فَيَجِبُ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا.
تَصْنِيفُ الْعُقُودِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ:
26- يُمْكِنُ تَصْنِيفُ الْعُقُودِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَوَّلًا: فَهُنَاكَ عَقْدٌ شُرِعَ لِلضَّمَانِ، أَوْ هُوَ الضَّمَانُ بِذَاتِهِ، وَهُوَ: الْكَفَالَةُ- كَمَا يُسَمِّيهَا الْحَنَفِيَّةُ- وَهِيَ- أَيْضًا-: الضَّمَانُ كَمَا يُسَمِّيهَا الْجُمْهُورُ.
ثَانِيًا: وَهُنَاكَ عُقُودٌ لَمْ تُشْرَعْ لِلضَّمَانِ، بَلْ شُرِعَتْ لِلْمِلْكِ وَالرِّبْحِ وَنَحْوِهِمَا، لَكِنِ الضَّمَانُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِهِ أَثَرًا لَازِمًا لِأَحْكَامِهَا، وَتُسَمَّى: عُقُودَ ضَمَانٍ، وَيَكُونُ الْمَالُ الْمَقْبُوضُ فِيهَا مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ، بِأَيِّ سَبَبٍ هَلَكَ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْقِسْمَةِ، وَالصُّلْحِ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ، وَالْمُخَارَجَةِ، وَالْقَرْضِ، وَكَعَقْدِ الزَّوَاجِ، وَالْمُخَالَعَةِ.
ثَالِثًا: وَهُنَاكَ عُقُودٌ يَتَجَلَّى فِيهَا طَابَعُ الْحِفْظِ وَالْأَمَانَةِ، وَالرِّبْحِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَتُسَمَّى عُقُودَ أَمَانَةٍ، وَيَكُونُ الْمَالُ الْمَقْبُوضُ فِيهَا أَمَانَةً فِي يَدِ الْقَابِضِ، لَا يَضْمَنُهُ إِلاَّ إِذَا تَلِفَ بِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ فِي حِفْظِهِ، كَعَقْدِ الْإِيدَاعِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَالشَّرِكَةِ بِأَنْوَاعِهَا، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ.
رَابِعًا: وَهُنَاكَ عُقُودٌ ذَاتُ وَجْهَيْنِ، تُنْشِئُ الضَّمَانَ مِنْ وَجْهٍ، وَالْأَمَانَةَ مِنْ وَجْهٍ، وَتُسَمَّى لِهَذَا، عُقُودٌ مُزْدَوَجَةُ الْأَثَرِ، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَالرَّهْنِ وَالصُّلْحِ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ.
27- وَمَنَاطُ التَّمْيِيزِ- بِوَجْهٍ عَامٍّ- بَيْنَ عُقُودِ الضَّمَانِ، وَبَيْنَ عُقُودِ الْأَمَانَةِ، يَدُورُ مَعَ الْمُعَاوَضَةِ: فَكُلَّمَا كَانَ فِي الْعَقْدِ مُعَاوَضَةٌ، كَانَ عَقْدَ ضَمَانٍ، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَصْدُ مِنَ الْعَقْدِ غَيْرَ الْمُعَاوَضَةِ، كَالْحِفْظِ وَنَحْوِهِ، كَانَ الْعَقْدُ عَقْدَ أَمَانَةٍ.
وَيَسْتَنِدُ هَذَا الضَّابِطُ الْمُمَيَّزُ، إِلَى قَوْلِ الْمَرْغِينَانِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ يَدِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، يَدَ أَمَانَةٍ: لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ، فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ.
وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْقَبْضَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ، هُوَ: مَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، كَالْمَغْصُوبِ، وَمَا كَانَ بِسَبِيلِ الْمُبَادَلَةِ، أَيِ الْمُعَاوَضَةِ، أَوْ مَا كَانَ بِسَبِيلِ التَّوْثِيقِ، كَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ.
وَالرَّهْنُ- فِي الْوَاقِعِ- يُؤَوَّلُ إِلَى الْمُعَاوَضَةِ، لِأَنَّهُ تَوْثِيقٌ لِلْبَدَلِ، وَكَذَا الْكَفَالَةُ، فَكَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ، هُوَ الْمُبَادَلَةَ، وَفِي غَيْرِ الْعُقُودِ، هُوَ عَدَمَ الْإِذْنِ، وَمَا الْمُبَادَلَةُ إِلاَّ الْمُعَاوَضَةُ، فَهِيَ مَنْشَأُ التَّمْيِيزِ، بَيْنَ عُقُودِ الضَّمَانِ، وَبَيْنَ عُقُودِ الْحِفْظِ وَالْأَمَانَةِ.
وَبَيَانُ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ فِيمَا يَلِي: أَوَّلًا: الضَّمَانُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلضَّمَانِ:
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ:
28- إِذَا صَحَّ الضَّمَانُ- أَوِ الْكَفَالَةُ بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهَا- لَزِمَ الضَّامِنَ أَدَاءُ مَا ضَمِنَهُ، وَكَانَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ (الدَّائِنِ) مُطَالَبَتُهُ، وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ، وَهُوَ فَائِدَةُ الضَّمَانِ ثُمَّ:
إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، وَهُوَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ، رَجَعَ عَلَيْهِ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ- عَلَى مَا يَقُولُ ابْنُ جُزَيٍّ- فِي الْجُمْلَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، فَفِي الرُّجُوعِ خِلَافٌ:
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ الرُّجُوعِ، إِذِ اعْتُبِرَ مُتَبَرِّعًا فِي هَذِهِ الْحَالِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ قَرَّرُوا الرُّجُوعَ فِي هَذِهِ الْحَالِ إِنْ ثَبَتَ دَفْعُ الْكَفِيلِ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِإِقْرَارِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَعَلَّلُوهُ بِسُقُوطِ الدَّيْنِ بِذَلِكَ.
وَالشَّافِعِيَّةُ فَصَّلُوا، وَقَالُوا:
إِنْ أَذِنَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ، فِي الضَّمَانِ وَالْأَدَاءِ فَأَدَّى الْكَفِيلُ، رَجَعَ.
وَإِنِ انْتَفَى إِذْنُهُ فِيهِمَا فَلَا رُجُوعَ.
وَإِنْ أَذِنَ فِي الضَّمَانِ فَقَطْ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي الْأَدَاءِ، رَجَعَ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي سَبَبِ الْغُرْمِ.
وَإِنْ أَذِنَ فِي الْأَدَاءِ فَقَطْ، مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، لَا يَرْجِعُ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْغُرْمَ فِي الضَّمَانِ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ.
وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ نِيَّةَ الرُّجُوعِ عِنْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، فَقَرَّرُوا أَنَّهُ:
إِنْ قَضَى الضَّامِنُ الدَّيْنَ مُتَبَرِّعًا، لَا يَرْجِعُ، سَوَاءٌ أَضَمِنَهُ بِإِذْنِهِ أَمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِذَلِكَ.
وَإِنْ قَضَاهُ نَاوِيًا الرُّجُوعَ، يَرْجِعُ لِأَنَّهُ قَضَاهُ مُبْرِئًا مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ.
وَلَوْ قَضَاهُ ذَاهِلًا عَنْ قَصْدِ الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ، لَا يَرْجِعُ، لِعَدَمِ قَصْدِ الرُّجُوعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الضَّمَانُ أَوِ الْأَدَاءُ بِإِذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، أَمْ بِغَيْرِ إِذْنٍ.
وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ رُبَاعِيٌّ فِي نِيَّةِ الرُّجُوعِ يَقْرُبُ مِنْ تَفْصِيلِ الشَّافِعِيَّةِ. (يُرَاجَعُ فِيهِ مُصْطَلَح: كَفَالَة).
29- إِذَا مَاتَ الْكَفِيلُ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِ الدَّيْنِ، فَفِي حُلُولِ الدَّيْنِ وَمُطَالَبَةِ الْوَرَثَةَ بِهِ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي: (مُصْطَلَحِ: كَفَالَة).
ضَمَانُ الدَّرَكِ:
30- قَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ ضَمَانَ الدَّرَكِ، عَلَى ضَمَانِ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَقَالُوا:
هُوَ: الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ.
وَالدَّرَكُ هُوَ: الْمُطَالَبَةُ وَالتَّبَعَةُ وَالْمُؤَاخَذَةُ.وَيُقَالُ لَهُ: ضَمَانُ الْعُهْدَةِ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي، إِنْ ظَهَرَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا أَوْ نَاقِصًا، بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَضَمَانُ الدَّرَكِ صَحِيحٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَذَلِكَ.
أ- لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ الْمَالِيَّةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ وَالْمَضْمُونُ- كَمَا يَقُولُ الْعَدَوِيُّ- فِي الْمَعِيبِ قِيمَةُ الْعَيْبِ، وَفِي الْمُسْتَحَقِّ الثَّمَنُ وَهُوَ جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ.
ب- وَلِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَا، كَفَالَةٌ، وَالْكَفَالَةُ لِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ، وَالْتِزَامُ الْأَفْعَالِ يَصِحُّ مُضَافًا إِلَى الْمَآلِ، كَمَا فِي الْتِزَامِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ بِالنَّذْرِ.
ج- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي تَعْلِيلِ جَوَازِهِ: لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى الْوَثِيقَةِ، وَهِيَ: ثَلَاثَةٌ: الشَّهَادَةُ وَالرَّهْنُ وَالضَّمَانُ، فَالْأُولَى لَا يَسْتَوْفِي مِنْهَا الْحَقَّ، وَالثَّانِيَةُ مَمْنُوعَةٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ حَبْسُ الرَّهْنِ إِلَى أَنْ يُؤَدَّى، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَيُؤَدِّي إِلَى حَبْسِهِ أَبَدًا، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الضَّمَانِ.
د- وَقَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ لَامْتَنَعَتِ الْمُعَامَلَاتُ مَعَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، رَافِعٌ لِأَصْلِ الْحِكْمَةِ، الَّتِي شُرِعَ مِنْ أَجْلِهَا الْبَيْعُ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ ضَمَانِ الدَّرَكِ ثُبُوتُ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ بِالْقَضَاءِ فَلَوِ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، لَا يُؤْخَذُ ضَامِنُ الدَّرَكِ، إِذْ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ عَلَى الظَّاهِرِ، إِذْ يُعْتَبَرُ الْبَيْعُ مَوْقُوفًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِهَذَا لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ الْبَيْعَ قَبْلَ الْفَسْخِ جَازَ وَلَوْ بَعْدَ قَبْضِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَمَا لَمْ يُقْضَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لَا يَجِبُ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الْأَصِيلِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ قَبْلَ قَبْضِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، بِأَنْ لَا يُسَلِّمَ الثَّمَنَ إِلاَّ بَعْدَهُ.
ثَانِيًا: الْعُقُودُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ لِلضَّمَانِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الضَّمَانُ:
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ:
31- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، إِلَى أَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، مَعَ رِوَايَةِ تَفْرِقَةِ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَنَحْوِهَا، وَبَيْنَ غَيْرِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّمَانَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي- كَمَا يَقُولُ ابْنُ جُزَيٍّ- بِنَفْسِ الْعَقْدِ، إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: مَا بِيعَ عَلَى الْخِيَارِ، وَمَا بِيعَ مِنَ الثِّمَارِ قَبْلَ كَمَالِ طِيبِهِ. وَأَهَمُّ مَا يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ: هَلَاكُ الْمَبِيعِ، وَهَلَاكُ الثَّمَنِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمَبِيعِ، وَظُهُورُ عَيْبٍ قَدِيمٍ فِيهِ.
وَيُلْحَقُ بِهِ: ضَمَانُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَضَمَانُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ النَّظَرِ، وَضَمَانُ الدَّرَكِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا يَلِي:
هَلَاكُ الْمَبِيعِ:
32- يُفَرَّقُ فِي الْحُكْمِ فِيهِ، تَبَعًا لِأَحْوَالِ هَلَاكِهِ: هَلَاكُ كُلِّهِ، وَهَلَاكُ بَعْضِهِ، وَهَلَاكُ نَمَائِهِ، وَهَلَاكُهُ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، وَالْفَاسِدِ، وَالْبَاطِلِ، وَهَلَاكُهُ وَهُوَ فِي يَدِ الْبَائِعِ: أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (بَيْع ف 59 وَمُصْطَلَحِ: هَلَاك)
هَلَاكُ نَمَاءِ الْمَبِيعِ:
33- الْأَصْلُ الْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ زَوَائِدَ الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الْأَصْلِ، كَغَلَّةِ الْمَبَانِي وَالْعَقَارَاتِ، فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ أَوْ بَعْدَهُ:
أ- فَقَبْلَ الْقَبْضِ، إِذَا أَتْلَفَ الْبَائِعُ الزِّيَادَةَ يَضْمَنُهَا، فَتَسْقُطُ حِصَّتُهَا مِنَ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنَ الْمَبِيعِ، وَكَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ.
وَإِذَا هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، كَمَا لَوْ هَلَكَ الثَّمَرُ، فَلَا تُضْمَنُ، لِأَنَّهَا كَالْأَوْصَافِ، لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَبِيعَةً، لَكِنَّهَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا لَا قَصْدًا.
ب- أَمَّا لَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهَا.الْمُشْتَرِي، أَوْ أَتْلَفَهَا هُوَ، فَهِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِقَبْضِهِ، وَلَهَا حِصَّتُهَا مِنَ الثَّمَنِ، فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأَصْلِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ.وَلَوْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ، ضَمِنَهَا بِلَا خِلَافٍ، لَكِنِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ:
إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْجَانِي بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ.
وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ، وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْأَصْلَ.
الضَّمَانُ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِلِ:
34- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ فِي قَوَاعِدِهِمُ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ، وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْحَنَفِيَّةُ هُمُ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا.
وَالْبَيْعُ الْبَاطِلُ لَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ أَصْلًا، وَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ، وَلَا وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ. وَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (بُطْلَان ف 26، 27 وَالْبَيْعُ الْبَاطِلُ ف 11).
ضَمَانُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
35- كُلُّ بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهُوَ فَاسِدٌ كَأَنْ كَانَ فِي الْمَبِيعِ جَهَالَةٌ، كَبَيْعِ شَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ، أَوْ غَرَرٌ كَبَيْعِ بَقَرَةٍ عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ كَذَا فِي الْيَوْمِ، أَوْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَبَيْعِ الْعِينَةِ.
وَمَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ فَسْخِهِ، وَخُبْثِ الرِّبْحِ النَّاشِئِ عَنْهُ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ضَمَانِ الْمَبِيعِ فِيهِ بَعْدَ قَبْضِهِ، وَمِلْكِهِ:
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، وَلَا يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ، لَكِنَّهُ يُضْمَنُ ضَمَانَ الْغَصْبِ، وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهِ كَالْمَغْصُوبِ؛ وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ نُقْصَانَهُ، وَزَوَائِدُهُ مَضْمُونَةٌ، وَفِي تَعَيُّبِهِ أَرْشُ النَّقْصِ، وَفِي تَلَفِهِ وَإِتْلَافِهِ الضَّمَانُ.
وَعَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ، كَالْمَيْتَةِ، فَكَانَ مَضْمُونًا فِي جُمْلَتِهِ، فَأَجْزَاؤُهُ مَضْمُونَةٌ أَيْضًا.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفِيدُ الْمِلْكَ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارُ شَرْطٍ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ الْمَعْرُوفِ وَلِصُدُورِ الْعَقْدِ مِنْ أَهْلِهِ وَوُقُوعِهِ فِي مَحَلِّهِ، لَكِنَّهُ مِلْكٌ خَبِيثٌ حَرَامٌ لِمَكَانِ النَّهْيِ؛ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ.
وَيَكُونُ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقِيمَتُهُ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، بَعْدَ هَلَاكِهِ أَوْ تَعَذُّرِ رَدِّهِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ عَلَى جِهَةِ الْأَمَانَةِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ عَلَى جِهَةِ التَّمْلِيكِ، بِحَسَبِ زَعْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَيْهِ الْمِلْكُ بِحَسَبِ الْأَمْرِ نَفْسِهِ.
وَنَصَّ الْأُبِّيُّ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْفَاسِدِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِقَبْضِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فَوَاتِهِ (سَوَاءٌ أَنْقَدَ الثَّمَنَ أَمْ لَا) قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ:
لَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهِ إِلاَّ بِالْقَبْضِ وَالْفَوَاتِ.
وَالْفَوَاتُ- كَمَا يَقُولُ ابْنُ جُزَيٍّ- يَكُونُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ، ذَكَرَ مِنْهَا تَغَيُّرَ الذَّاتِ وَالتَّعَيُّبَ وَتَعَلُّقَ حَقِّ الْآخَرِينَ...
36- وَفِي وَقْتِ تَقْدِيرِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بِهِ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ، لَا مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ مَا يُضْمَنُ يَوْمَ الْعَقْدِ هُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ أَوِ الْهَلَاكِ، لِأَنَّ بِهِمَا يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ كَمَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ.
وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةَ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عِنْدَهُمْ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتِبَارُ أَقْصَى الْقِيمَةِ، فِي الْمُتَقَوِّمِ، مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ.
وَهَذَا- أَيْضًا- وَجْهٌ ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي الْغَصْبِ، وَهُوَ هَاهُنَا كَذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ الْمَقْدِسِيُّ.
37- وَلَوْ نَقَصَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا، وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ النَّقْصَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ:
أ- لِلتَّعَيُّبِ.
ب- وَلِأَنَّ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ مَضْمُونَةٌ، فَتَكُونُ أَجْزَاؤُهَا مَضْمُونَةً أَيْضًا.
38- وَلَوْ زَادَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا بَعْدَ قَبْضِهِ، زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ، أَوْ مُتَّصِلَةً كَالسَّمْنِ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي- كَزَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ- كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ.
وَعَدَمُ ضَمَانِ الزِّيَادَةِ هُوَ- أَيْضًا- وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ.
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، أَسْقَطَتِ الزِّيَادَةَ مِنَ الْقِيمَةِ، وَضَمِنَهَا بِمَا بَقِيَ مِنَ الْقِيمَةِ حِينَ التَّلَفِ.
وَذَكَرَ الْمَقْدِسِيُّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ:
أ- أَحَدُهُمَا: الضَّمَانُ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، فَأَشْبَهَتِ الزِّيَادَةَ فِي الْمَغْصُوبِ.
ب- وَالْآخَرُ: عَدَمُ الضَّمَانِ، لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ عِوَضٌ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ: إِنْ هَلَكَتْ بِتَفْرِيطِهِ أَوْ عُدْوَانِهِ، ضَمِنَهَا، وَإِلاَّ فَلَا.
وَالْحَنَفِيَّةُ قَرَّرُوا أَنَّ الزِّيَادَةَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
أ- الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الْأَصْلِ، كَالْوَلَدِ، فَهَذِهِ يَضْمَنُهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا بِالْهَلَاكِ.
ب- الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْأَصْلِ، كَالْكَسْبِ، لَا تُضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ، عِنْدَ الْإِمَامِ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ تُضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ، لَا بِالْهَلَاكِ، كَالْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ.
ح- الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الْأَصْلِ، كَالسَّمْنِ، يَضْمَنُهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا بِالْهَلَاكِ.
د- الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْأَصْلِ، كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ، (فَإِنَّهَا مِلْكُ الْمُشْتَرِي.وَهَلَاكُهَا أَوِ اسْتِهْلَاكُهَا مِنْ حِسَابِهِ) وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي هَذِهِ مِنْ حَيْثُ الْفَسْخُ:
- فَعِنْدَ الْإِمَامِ يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ فِيهَا، وَتَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ قِيمَتُهَا.
وَعِنْدَهُمَا: يَنْقُضُهَا الْبَائِعُ، وَيَسْتَرِدُّ الْمَبِيعَ.
وَمَا سِوَاهَا لَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ.
وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَقَطْ، دُونَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، فَلِلْبَائِعِ أَخْذُ الزِّيَادَةِ، وَأَخْذُ قِيمَةِ الْمَبِيعِ يَوْمَ الْقَبْضِ.
وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَقَطْ، دُونَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ، كَالْكَسْبِ، فَلِلْبَائِعِ أَخْذُهَا مَعَ تَضْمِينِ الْمَبِيعِ، لَكِنْ لَا تَطِيبُ لَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا.
39- إِذَا اسْتَغَلَّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا، بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ، لَا يَرُدُّ غَلَّتَهُ، لِأَنَّ ضَمَانَهُ مِنْهُ، وَ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».
وَالْخَرَاجُ هُوَ: الْغَلَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْمَبِيعِ، كَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ، وَكُلُّ مَا خَرَجَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ خَرَاجُهُ، فَخَرَاجُ الشَّجَرِ ثَمَرُهُ، وَخَرَاجُ الْحَيَوَانِ دَرُّهُ وَنَسْلُهُ.
وَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِنَفَقَتِهِ، لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْغَلَّةُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالنَّفَقَةِ.
وَإِذَا أَحْدَث فِيهِ، مَا لَهُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ، كَبِنَاءٍ وَصَبْغٍ، رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ، مَعَ كَوْنِ الْغَلَّةِ لَهُ، كَسُكْنَاهُ وَلُبْسِهِ.
وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ، غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْأَصْلِ، كَالْكَسْبِ، لَا تُضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَهُوَ كَمَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، لِحَدِيثِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ تُضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا بِالْهَلَاكِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ غَلاَّتِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، كَمَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، لِلْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ لِلْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهَا، وَكَذَلِكَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى حُكِمَ بِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلدَّارِ أَوْ لِبَعْضِهَا ضَمِنَ الْأُجْرَةَ.
وَنَصَّ الْمَقْدِسِيُّ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ مِثْلِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا مُدَّةَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ تَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعَلَيْهِ رَدُّهَا.
ضَمَانُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ:
40- الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ: هُوَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُسَاوِمُ الْمَبِيعَ، بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ، وَبَعْدَ الشِّرَاءِ، فَيَقُولُ لِلْبَائِعِ: هَاتِهِ، فَإِنْ رَضِيتُهُ اشْتَرَيْتُهُ.
وَلَا بُدَّ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ تَوَافُرِ شَرْطَيْنِ:
أ- أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ، مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي.
ب- وَأَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِقَصْدِ الشِّرَاءِ، لَا لِمُجَرَّدِ النَّظَرِ.
وَيَضْمَنُهُ الْقَابِضُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، إِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ، بِالْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ يَوْمَ الْقَبْضِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، خِلَافًا لِلطَّرَسُوسِيِّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُزَادَ بِهَا عَلَى الْمُسَمَّى، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ.
أَمَّا لَوِ اسْتَهْلَكَهُ فَيَجِبُ فِيهِ الثَّمَنُ لَا الْقِيمَةُ، لِأَنَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ يُعْتَبَرُ رَاضِيًا بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ بِثَمَنِهِ.
وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَأْخُوذُ بِالسَّوْمِ مَضْمُونٌ كُلُّهُ إِنْ أَخَذَهُ لِشِرَاءِ كُلِّهِ، وَإِلاَّ فَقَدْرُ مَا يُرِيدُ شِرَاءَهُ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الْمَقْبُوضُ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ مَضْمُونٌ إِذَا تَلِفَ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْعِوَضِ. 41- أَمَّا الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ النَّظَرِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُسَاوِمُ: هَاتِهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، أَوْ حَتَّى أُرِيَهُ غَيْرِي، وَلَا يَقُولُ: فَإِنْ رَضِيتُهُ أَخَذْتُهُ فَهَذَا غَيْرُ مَضْمُونٍ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ أَمَانَةٌ، ذَكَرَ الثَّمَنَ أَوْ لَا، وَيَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا- كَمَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ-:
أ- أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ، أَمَّا الْآخَرُ فَلَا يُذْكَرُ فِيهِ ثَمَنٌ.
ب- وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: إِنْ رَضِيتُهُ أَخَذْتُهُ.فَلَوْ قَالَ: حَتَّى أَرَاهُ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَإِنْ صَرَّحَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ أَخَذَ إِنْسَانٌ شَيْئًا بِإِذْنِ رَبِّهِ لِيُرِيَهُ الْآخِذُ أَهْلَهُ فَإِنْ رَضُوهُ أَخَذَهُ وَإِلاَّ رَدَّهُ مِنْ غَيْرِ مُسَاوَمَةٍ وَلَا قَطْعِ ثَمَنٍ فَلَا يَضْمَنُهُ إِذَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ.
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْقِسْمَةِ:
42- تَشْتَمِلُ الْقِسْمَةُ عَلَى الْإِفْرَازِ وَالْمُبَادَلَةِ.
وَالْإِفْرَازُ: أَخْذُ الشَّرِيكِ عَيْنَ حَقِّهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمِثْلِيَّاتِ.
وَالْمُبَادَلَةُ: أَخْذُهُ عِوَضَ حَقِّهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ.
وَلِوُجُودِ وَصْفِ الْمُبَادَلَةِ فِيهَا، كَانَتْ عَقْدَ ضَمَانٍ.
وَيَدُ كُلِّ شَرِيكٍ عَلَى الْمُشْتَرَكِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، يَدُ أَمَانَةٍ، وَبَعْدَهَا يَدُ ضَمَانٍ.
وَإِذَا قَبَضَ كُلُّ شَرِيكٍ نَصِيبَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، مَلَكَهُ مِلْكًا مُسْتَقِلًّا، يُخَوِّلُهُ حَقَّ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِيهِ، وَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ مِنْ ضَمَانِهِ هُوَ فَقَطْ.
(انْظُرْ: قِسْمَة).
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ عَنِ الْمَالِ بِمَالٍ:
43- يُعْتَبَرُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الصُّلْحِ بِمَثَابَةِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ كَالْبَيْعِ وَلِهَذَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَمَا لَا فَلَا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعَى (بِهِ) بَيْعٌ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطَ الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ أَبْرَزُ عُقُودِ الضَّمَانِ، فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنِ الْمَالِ بِمَالٍ. فَإِذَا قَبَضَ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَدَلُ الصُّلْحِ، وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُصَالِحِ، هَلَكَ مِنْ ضَمَانِهِ، كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ قَبْضِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. (انْظُرْ: صُلْح).
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ التَّخَارُجِ:
44- التَّخَارُجُ: اصْطِلَاحُ الْوَرَثَةِ عَلَى إِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ، بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ.
وَيُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ تَنَازُلِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ التَّرِكَةِ، فِي مُقَابِلِ مَا يَتَسَلَّمُهُ مِنَ الْمَالِ، عَقَارًا كَانَ أَوْ عُرُوضًا أَوْ نُقُودًا، فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بَيْعًا، فَإِذَا قَبَضَ الْمُخْرِجُ مِنَ التَّرِكَةِ بَدَلَ الْمُخَارَجَةِ أَخَذَ حُكْمَ الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِهِ، تَمَلُّكًا وَتَصَرُّفًا وَاسْتِحْقَاقًا، فَإِذَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ حِسَابِهِ الْخَاصِّ، كَالْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ قَبْضِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ بَيْعًا، فَكَانَ مَضْمُونًا كَضَمَانِ الْمَبِيعِ. (انْظُرْ: تَخَارُج).
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ:
45- يُشْبِهُ الْقَرْضُ الْعَارِيَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّلَةِ، وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الِانْتِهَاءِ، لِوُجُودِ رَدِّ الْمِثْلِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ مَحْضٍ، لِمَكَانِ الْعِوَضِ، وَلَيْسَ جَارِيًا عَلَى حَقِيقَةِ الْمُعَاوَضَاتِ، بِدَلِيلِ الرُّجُوعِ فِيهِ مَا دَامَ بَاقِيًا.
وَيُمْلَكُ الْقَرْضُ بِالْقَبْضِ، كَالْمَوْهُوبِ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ التَّبَرُّعُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، بِالتَّصَرُّفِ وَالْعَقْدِ.
فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُقْتَرِضُ، ضَمِنَهُ، كُلَّمَا هَلَكَ، بِآفَةٍ أَوْ تَعَدٍّ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ بَعْدَ الْقَبْضِ، لِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ ضَمَانٍ، لَا قَبْضُ حِفْظٍ وَأَمَانَةٍ كَقَبْضِ الْعَارِيَّةِ.
46- وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِقَرْضٍ فَاسِدٍ كَالْمَقْبُوضِ، بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، سَوَاءٌ، فَإِذَا هَلَكَ ضَمِنَهُ الْمُقْتَرِضُ فَيَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، لَكِنْ يَصِحُّ بَيْعُهُ، لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ لَا يَحِلُّ، لِأَنَّ الْفَاسِدَ يَجِبُ فَسْخُهُ، وَالْبَيْعُ مَانِعٌ مِنَ الْفَسْخِ، فَلَا يَحِلُّ، كَمَا لَا تَحِلُّ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْفَسْخِ.
وَالْقَرْضُ الْفَاسِدُ يُمْلَكُ بِقَبْضِهِ، وَيُضْمَنُ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ، كَبَيْعٍ فَسَدَ.
وَلَوْ أَقْرَضَ صَبِيًّا، فَهَلَكَ الْقَرْضُ فِي يَدِهِ، لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ.
أَمَّا لَوِ اسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ بِالتَّعَمُّدِ وَالِاسْتِهْلَاكِ.قَالَ فِي الْخَانِيَّةِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ بِالْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ بِالْبَيْعِ، كَانَ كَالْبَائِعِ، يَضْمَنُ الْقَرْضَ، بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ.
(انْظُرْ: قَرْض).
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ:
47- لَا بُدَّ مِنَ الْمَهْرِ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ، فَيَجْرِي فِيهِ الضَّمَانُ.
فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا، ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ.
وَإِنْ كَانَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ تَمْلِكُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُسَلِّمَهَا الْعَيْنَ، وَلَوْ لَمْ تَتَسَلَّمْهَا بَقِيَتْ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ، عَيْنًا مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُقَابَلَةٍ بِمَالٍ، فَإِذَا هَلَكَتْ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إِلَى الزَّوْجَةِ:
فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَضْمُونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، هُوَ قِيمَةُ الْعَيْنِ أَوْ مِثْلُهَا، كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا: كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمٍ، وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.وَلَا يَبْطُلُ الزَّوَاجُ بِهَلَاكِ بَدَلِ الْمَهْرِ.
وَالْمَنْصُوصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ لَوْ أَصْدَقَ عَيْنًا، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِهِ قَبْلَ قَبْضِهَا، ضَمَانَ عَقْدٍ، لَا ضَمَانَ يَدٍ، وَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهَا هُوَ، وَجَبَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، لِانْفِسَاخِ عَقْدِ الصَّدَاقِ بِالتَّلَفِ. (انْظُرْ: مَهْر).
48- وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ، وَيَجْرِي فِيهِ الضَّمَانُ، فَلَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهَلَكَتِ الْعَيْنُ قَبْلَ الدَّفْعِ إِلَى الزَّوْجِ:
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ عَلَيْهَا مِثْلَهَا أَوْ قِيمَتَهَا.
قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَلَوْ هَلَكَ بَدَلُهُ (يَعْنِي بَدَلَ الْخُلْعِ) فِي يَدِهَا، قَبْلَ الدَّفْعِ، أَوِ اسْتُحِقَّ، فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ لَوِ الْبَدَلُ قِيَمِيًّا، وَمِثْلُهُ لَوْ مِثْلِيًّا، لِأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ عَلَيْهَا مَهْرَ مِثْلِهَا. (انْظُرْ: خُلْع).
ثَالِثًا: الضَّمَانُ فِي عُقُودِ الْأَمَانَةِ:
ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ:
49- تُعْتَبَرُ الْوَدِيعَةُ مِنْ عُقُودِ الْأَمَانَةِ، وَهِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ (أَوِ الْوَدِيعِ) فَهُوَ أَمِينٌ غَيْرُ ضَامِنٍ لِمَا يُصِيبُ الْوَدِيعَةَ، مِنْ تَلَفٍ جُزْئِيٍّ أَوْ كُلِّيٍّ، إِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ التَّلَفُ بِتَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ إِهْمَالِهِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ».
وَالْمُغِلُّ هُوَ: الْخَائِنُ، فِي الْمَغْنَمِ وَغَيْرِهِ.
وَمَا رُوِيَ- أَيْضًا- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ».
وَمِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ التَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرُ أَوِ الْإِهْمَالُ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَدِيعَة).
ضَمَانُ الْعَارِيَّةِ:
50- مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَأَحَدِ قَوْلَيْ مَالِكٍ- كَمَا نَصَّ ابْنُ رُشْدٍ- وَقَوْلُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ، سَوَاءٌ أُتْلِفَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَمْ تَلِفَتْ بِفِعْلِ الْمُسْتَعِيرِ، بِتَقْصِيرٍ أَوْ بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ، وَاسْتَدَلُّوا: بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَدْرُعًا، يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةً» وَفِي رِوَايَةٍ «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ، قَالَ: نَعَمْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ».
وَحَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ- رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».
وَلِأَنَّهُ أَخَذَ مِلْكَ غَيْرِهِ، لِنَفْعِ نَفْسِهِ، مُنْفَرِدًا بِنَفْعِهِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَلَا إِذْنٍ، فَكَانَ مَضْمُونًا، كَالْغَاصِبِ، وَالْمَأْخُوذِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ. وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَارِيَّةَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ، فَلَا تُضْمَنُ إِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ».
وَلِأَنَّ عَقْدَ الْعَارِيَّةِ تَمْلِيكٌ أَوْ إِبَاحَةٌ لِلْمَنْفَعَةِ، وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِلْعَيْنِ، وَلَيْسَ فِي قَبْضِهَا تَعَدٍّ، لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَانْتَفَى سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ.
وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ حَالُ الْعَارِيَّةِ مِنَ الْأَمَانَةِ إِلَى الضَّمَانِ، بِمَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حَالُ الْوَدِيعَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَضْمِينِ الْمُسْتَعِيرِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَارِيَّةِ، وَهُوَ: مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُتُبِ، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَلَاكِهَا أَوْ ضَيَاعِهَا بِلَا سَبَبٍ مِنْهُ فَلَا يَضْمَنُ حِينَئِذٍ، خِلَافًا لِأَشْهَبَ الْقَائِلِ: إِنَّ ضَمَانَ الْعَوَارِيِّ ضَمَانُ عَدَاءٍ، لَا يَنْتَفِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَمَا ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ تَضْمِينِهِ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، فَلَا يَضْمَنُهُ الْمُسْتَعِيرُ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الْمُعِيرُ الضَّمَانَ، وَلَوْ كَانَ لِأَمْرٍ خَافَهُ، مِنْ طَرِيقٍ مَخُوفٍ أَوْ لُصُوصٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا قَرَّرَهُ الدُّسُوقِيُّ.
أَمَّا لَوْ شَرَطَ الْمُسْتَعِيرُ نَفْيَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ، فَلَهُمْ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالشُّرُوطِ، وَيَضْمَنُ، لِأَنَّ الشَّرْطَ يَزِيدُهُ تُهْمَةً، وَلِأَنَّهُ مِنْ إِسْقَاطِ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ.
الْآخَرُ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الشَّرْطُ، وَلَا يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: فَالْعَارِيَّةُ مَعْرُوفٌ، وَإِسْقَاطُ الضَّمَانِ مَعْرُوفٌ آخَرُ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».
وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ وَوَقْتِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (إِعَارَة ف 17).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
32-موسوعة الفقه الكويتية (عتق)
عِتْقالتَّعْرِيفُ:
1- الْعِتْقُ لُغَةً: خِلَافُ الرِّقِّ- وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَعَتَقَ الْعَبْدُ يَعْتِقُ عِتْقًا وَعَتْقًا، وَأَعْتَقْتُهُ فَهُوَ عَتِيقٌ، وَلَا يُقَالُ: عَتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ، بَلْ أَعْتَقَ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْخُلُوصُ.وَسُمِّيَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ- الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، لِخُلُوصِهِ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ جَبَّارٌ.
وَاصْطِلَاحًا: هُوَ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وَتَخْلِيصُهَا مِنَ الرِّقِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْكِتَابَةُ:
2- الْكِتَابَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْكِتَابِ، بِمَعْنَى الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ.
وَاصْطِلَاحًا- عَقْدٌ يُوجِبُ عِتْقًا عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ مِنَ الْعَبْدِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَدَائِهِ فَإِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ صَارَ الْعَبْدُ حُرًّا.
وَالْكِتَابَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا عِتْقٌ عَلَى مَالٍ.
ب- التَّدْبِيرُ:
3- التَّدْبِيرُ لُغَةً: النَّظَرُ فِي عَاقِبَةِ الْأُمُورِ لِتَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَأَنْ يُعْتِقَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عَنْ دُبُرِهِ، فَيَقُولُ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي- لِأَنَّ الْمَوْتَ دُبُرُ الْحَيَاةِ.
وَاصْطِلَاحًا- تَعْلِيقُ مُكَلَّفٍ رَشِيدٍ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ.
وَالتَّدْبِيرُ عِتْقٌ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ.
ج- الِاسْتِيلَادُ:
4- الِاسْتِيلَادُ لُغَةً: طَلَبُ الْوَلَدِ، وَهُوَ مَصْدَرُ اسْتَوْلَدَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ: إِذَا أَحْبَلَهَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً وَاصْطِلَاحًا: تَصْيِيرُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ.وَالِاسْتِيلَادُ عِتْقٌ بِسَبَبٍ، وَهُوَ حَمْلُ الْأَمَةِ مِنْ سَيِّدِهَا وَوِلَادَتُهَا.
مَشْرُوعِيَّةُ الْعِتْقِ:
5- شُرِعَ الْعِتْقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَقَوْلُهُ {فَكُّ رَقَبَةٍ}.
وَأَمَّا السُّنَّةُ- فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهَا» وَقَدْ «أَعْتَقَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْكَثِيرَ مِنَ الرِّقَابِ»، وَأَعْتَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ الْكَثِيرَ مِنَ الرِّقَابِ.
وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى صِحَّةِ الْعِتْقِ وَحُصُولِ الْقُرْبَةِ بِهِ.
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِتْقِ:
6- الْعِتْقُ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ جَعَلَهُ كَفَّارَةً لِجِنَايَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: الْقَتْلُ، وَالظِّهَارُ، وَالْوَطْءُ فِي شَهْرِ الصِّيَامِ، وَالْحِنْثُ فِي الْأَيْمَانِ، وَجَعَلَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- فِكَاكًا لِمُعْتِقِهِ مِنَ النَّارِ- لِأَنَّ فِيهِ تَخْلِيصًا لِلْآدَمِيِّ الْمَعْصُومِ مِنْ ضَرَرِ الرِّقِّ وَمِلْكِ نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهِ وَتَكْمِيلِ أَحْكَامِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7- حُكْمُ الْعِتْقِ: الِاسْتِحْبَابُ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ.
وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَتَضَرَّرُ بِالْعِتْقِ، كَمَنْ لَا كَسْبَ لَهُ فَتَسْقُطُ نَفَقَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ، أَوْ يَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ وَيَحْتَاجُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ، أَوْ يَخَافُ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ الْخُرُوجَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْرِقَ، أَوْ تَكُونُ جَارِيَةً فَيَخَافُ مِنْهَا الزِّنَا وَالْفَسَادَ.
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ الْخُرُوجُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ أَوِ الرُّجُوعُ عَنِ الْإِسْلَامِ، أَوِ الزِّنَا مِنَ الْجَارِيَةِ- لِأَنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَلَكِنْ إِذَا أَعْتَقَهُ صَحَّ- لِأَنَّهُ إِعْتَاقٌ صَادِرٌ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ.
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ وَفِي الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُعَيَّنًا أَمْ لَا؛ لِأَنَّ النَّذْرَ كَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَى النَّاذِرِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَنْفِيذُهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعِتْقُ نَاجِزًا وَتَعَيَّنَ مُتَعَلِّقُهُ، كَعَبْدِي هَذَا، أَوْ عَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ.
فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِتَنْجِيزِ الْعِتْقِ إِنِ امْتَنَعَ.
أَرْكَانُ الْعِتْقِ وَشُرُوطُهُ:
8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْعِتْقِ رُكْنًا وَاحِدًا، وَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي جُعِلَ دَلَالَةً عَلَى الْعِتْقِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْعِتْقِ أَرْكَانًا ثَلَاثَةً تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْعِتْقِ هِيَ: الْمُعْتِقُ بِالْكَسْرِ- وَالْمُعْتَقُ بِالْفَتْحِ- وَالصِّيغَةُ.
الْأَوَّلُ: الْمُعْتِقُ:
9- وَيُشْتَرَطُ فِي الْعِتْقِ كَوْنُهُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ، بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا رَشِيدًا مَالِكًا فَلَا يَصِحُّ الْعِتْقُ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ بِلَا إِذْنٍ، وَلَا مِنْ غَيْرِ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ أَوْ سَفَهٍ، وَلَا مِنْ مُبَعَّضٍ وَمُكَاتَبٍ وَمُكْرَهٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعِتْقُ السَّكْرَانِ كَطَلَاقِهِ، وَفِيهِ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَلَاق ف 18)، وَيَصِحُّ الْعِتْقُ وَيَلْزَمُ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَيَثْبُتُ وَلَاؤُهُ عَلَى عَتِيقِهِ الْمُسْلِمِ، سَوَاءٌ أَعْتَقَهُ مُسْلِمًا، أَوْ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ.
الثَّانِي: الْمُعْتَقُ:
10- وَيُشْتَرَطُ فِيهِ: أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لَازِمٌ يَمْنَعُ عِتْقَهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ، أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلسَّيِّدِ إِسْقَاطُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ، لِعَدَمِ لُزُومِهِ لِعَيْنِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهِ سَيِّدُهُ لِفُلَانٍ ثُمَّ نَجَّزَ عِتْقَهُ فَإِنَّ عِتْقَهُ صَحِيحٌ مَاضٍ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ- وَهُوَ الْمُوصَى لَهُ بِهِ- إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ لِلْمُوصَى أَنْ يَرْجِعَ فِي وَصِيَّتِهِ وَيُنَجِّزُ الْعِتْقَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُرْتَهِنًا، أَوْ كَانَ رَبُّهُ مَدِينًا، أَوْ تَعَلَّقَتْ بِهِ جِنَايَةٌ وَكَانَ رَبُّهُ مَلِيًّا صَحَّ الْعِتْقُ، وَعُجِّلَ الدَّيْنُ وَالْأَرْشُ، وَلَا يَصِحُّ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا.
الثَّالِثُ: الصِّيغَةُ:
11- وَيُشْتَرَطُ فِي الصِّيغَةِ أَنْ تَكُونَ بِاللَّفْظِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً، ظَاهِرَةً أَوْ خَفِيَّةً، فَالصَّرِيحُ مِثْلُ: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ عَتِيقٌ أَوْ مُعْتَقٌ أَوْ أَعْتَقْتُكَ.
وَالْكِنَايَةُ الظَّاهِرَةُ- مِثْلُ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: لَا سَبِيلَ عَلَيْكَ وَلَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْكَ، وَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، وَقَدْ خَلَّيْتُكَ.
وَالْكِنَايَةُ الْخَفِيَّةُ- كَاذْهَبْ أَوِ اغْرُبْ عَنِّي أَوِ اسْقِنِي فَلَا يَنْصَرِفُ لِلْعِتْقِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
أَسْبَابُ الْعِتْقِ:
لِلْعِتْقِ أَسْبَابٌ سِتَّةٌ هِيَ:
1- التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
2- النَّذْرُ وَالْكَفَّارَاتُ.
3- الْقَرَابَةُ.
4- الْمُثْلَةُ بِالْعَبْدِ.
5- التَّبْعِيضُ.
6- الْعِتْقُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ.
أَوَّلًا- الْعِتْقُ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ:
12- وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى ذَلِكَ: لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَّهُ قَالَ «أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ».
ثَانِيًا- عِتْقٌ وَاجِبٌ بِالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ:
13- وَذَلِكَ كَالْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَالظِّهَارِ وَاجِبٌ عَلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَفِي الْيَمِينِ عَلَى التَّخْيِيرِ.
ثَالِثًا: الْقَرَابَةُ:
14- فَمَنْ مَلَكَ قَرِيبًا لَهُ بِمِيرَاثٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ وَصِيَّةٍ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَرِيبِ الَّذِي يُعْتَقُ عَلَى مَنْ مَلَكَهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ» وَهُمُ الْوَالِدَانِ وَإِنْ عَلَوْا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ جَمِيعًا، وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ مِنْ وَلَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَاتُ وَالْإِخْوَةُ وَأَوْلَادُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، وَالْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَالْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ دُونَ أَوْلَادِهِمْ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهما-، وَقَالَ بِهِ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الَّذِي يُعْتَقُ بِالْقَرَابَةِ- الْأَبَوَانِ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْمَوْلُودُونَ وَإِنْ سَفَلُوا، وَالْأَخُ وَالْأُخْتُ مُطْلَقًا شَقِيقَيْنِ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ، وَعَلَى هَذَا فَاَلَّذِي يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ عِنْدَهُمُ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ وَالْحَاشِيَةُ الْقَرِيبَةُ فَقَطْ، فَلَا عِتْقَ لِلْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَلَا لِلْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الَّذِي يُعْتَقُ إِذَا مُلِكَ بِالْقَرَابَةِ- عَمُودُ النَّسَبِ أَيِ: الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ- وَيَخْرُجُ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُعْتَقُونَ بِالْمِلْكِ لقوله تعالى فِي الْأُصُولِ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} وَالْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ يُعْتَقُونَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ مُلِكُوا اخْتِيَارًا أَوْ لَا، اتَّحَدَ دِينُهُمَا أَوْ لَا، لِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْقَرَابَةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى خَفْضُ الْجَنَاحِ مَعَ الِاسْتِرْقَاقِ، وَلِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا، إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ».أَيْ فَيُعْتِقَهُ الشِّرَاءُ، لَا أَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الْمُعْتِقُ بِإِنْشَائِهِ الْعِتْقَ، بِدَلِيلِ رِوَايَةِ «فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ».
وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنَ عَبْدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ اجْتِمَاعِ الْوَلَدِيَّةِ وَالْعَبْدِيَّةِ.
رَابِعًا: الْمُثْلَةُ بِالْعَبْدِ:
15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِعْتَاقُ شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ بِمَا يَفْعَلُهُ سَيِّدُهُ فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ الْخَفِيفِ كَاللَّطْمِ وَالْأَدَبِ وَالْخَطَأِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا كَثُرَ مِنْ ذَلِكَ وَشَنُعَ، مِنْ ضَرْبٍ مُبَرِّحٍ لِغَيْرِ مُوجِبٍ، أَوْ تَحْرِيقٍ بِنَارٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوْ إِفْسَادِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وُجُوبًا بِالْحُكْمِ، لَا بِمُجَرَّدِ التَّمْثِيلِ- إِنْ تَعَمَّدَ السَّيِّدُ التَّمْثِيلَ بِالْعَبْدِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ أَوْ حَرَقَهُ بِالنَّارِ فَهُوَ حُرٌّ، وَهُوَ مَوْلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ».
الثَّانِي: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ.
خَامِسًا: التَّبْعِيضُ:
16- مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ رَقِيقِهِ الْمَمْلُوكِ لَهُ، فَإِنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُعْتَقُ كُلُّهُ عَلَيْهِ بِالسِّرَايَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ.
وَإِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ مَعَ غَيْرِهِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ تَبَعًا لِكَوْنِ الْمُعْتِقِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا.
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُعْتَقُ كُلُّهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ بَاقِيهِ لِشَرِيكِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ نَصِيبُهُ فَقَطْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَبْعِيض ف 40).
سَادِسًا: الْعِتْقُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ:
17- إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ يَقَعُ الْعِتْقُ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَلَاءِ الْمُعْتِقِ وَمِيرَاثِهِ مِنَ الْمُعْتَقِ- فَتْحُ التَّاءِ- عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ ثَمَرَةُ الْعِتْقِ، فَحَيْثُ وُجِدَ هَذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ السَّبَبُ تَحَقَّقَ الْمُسَبَّبُ لِحَدِيثِ: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ- بِكَسْرِ التَّاءِ-.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَلَاء).
تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ السَّيِّدُ عِتْقَ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ عَلَى مَجِيءِ وَقْتٍ أَوْ فِعْلٍ، كَأَنْتَ حُرٌّ فِي رَأْسِ الْحَوْلِ، أَوْ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ فَعَبْدِي حُرٌّ لَمْ يُعْتَقْ حَتَّى يَأْتِيَ الْوَقْتُ أَوْ يَحْصُلَ الْفِعْلُ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ- لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ عَتِيقٌ إِلَى رَأْسِ الْحَوْلِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِالْحَوْلِ لَمْ يُعَلِّقْهُ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ أَوْ حَصَلَ الْفِعْلُ الْمُعَلَّقُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَتَقَ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ لَمْ يُعْتَقْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا طَلَاقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا عِتْقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا بَيْعَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ».وَلِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ، فَلَمْ يَقَعْ عَتَاقُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ مُتَقَدِّمٌ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَتَقَ، وَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَنْقَسِمُ صِيغَةُ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ إِلَى قِسْمَيْنِ: صِيغَةُ بِرٍّ، وَصِيغَةُ حِنْثٍ.
فَأَمَّا صِيغَةُ الْبِرِّ فَصُورَتُهَا: أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ، أَوْ أَمَتِي فُلَانَةُ حُرَّةٌ.
وَأَمَّا صِيغَةُ الْحِنْثِ فَصُورَتُهَا: أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ أَمَتِي حُرَّةٌ.
فَإِذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِصِيغَةِ الْبِرِّ فَلِلسَّيِّدِ الْبَيْعُ وَالْوَطْءُ، لِأَنَّهُ عَلَى بِرٍّ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ قَيَّدَ الْعِتْقَ بِأَجَلٍ أَوْ أَطْلَقَ، وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ لَمْ يَخْرُجِ الْعَبْدُ وَلَا الْأَمَةُ مِنْ ثُلُثٍ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ يَكُونُ مِيرَاثًا.
وَإِذَا عَلَّقَ السَّيِّدُ الْعِتْقَ بِصِيغَةِ الْحِنْثِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْعَبْدِ وَلَا وَطْءُ الْأَمَةِ، وَإِذَا بَاعَ فُسِخَ الْبَيْعُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ فِعْلِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ عَتَقَ مِنَ الثُّلُثِ.
وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ الْحِنْثِ مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ، مِثْلُ: إِنْ لَمْ أَدْخُلِ الدَّارَ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَعَبْدِي حُرٌّ وَأَمَتِي حُرَّةٌ، فَيُمْنَعُ مِنَ الْبَيْعِ دُونَ الْوَطْءِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ يَقْطَعُ الْعِتْقَ وَيُضَادُّهُ، بِخِلَافِ الْوَطْءِ.
فَإِنْ عَادَ الْعَبْدُ الْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ عَلَى صِفَةٍ إِلَى مِلْكِ السَّيِّدِ، بَعْدَ أَنْ بَاعَهُ وَتَحَقَّقَتِ الصِّفَةُ، عَتَقَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ التَّعْلِيقَ حَدَثَ وَالْعَبْدُ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ، وَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ السَّابِقَ يَسْقُطُ بِالْبَيْعِ.
الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْعِتْقِ:
أَوَّلًا- إِرْثُ الْمُعْتِقِ مِنْ عَتِيقِهِ:
19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ- رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً- يَرِثُ جَمِيعَ مَالِ مَنْ أَعْتَقَهُ، أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ بِالنَّسَبِ، وَيُسَمَّى الْعَتِيقُ: مَوْلَى الْعَتَاقَةِ: وَمَوْلَى النِّعْمَةِ أَوِ الْعُصُوبَةِ السَّبَبِيَّةِ.
فَإِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ صِفَةً تَجْعَلُهُ مُسْتَحِقًّا لِإِرْثِ عَتِيقِهِ لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ».
فَالْوَلَدُ يُنْسَبُ إِلَى أَبِيهِ وَأُسْرَتِهِ، وَالْعَتِيقُ يُنْسَبُ إِلَى مُعْتِقِهِ وَأُسْرَتِهِ، إِلاَّ أَنَّ النَّسَبَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْإِرْثُ لِكِلَا الْجَانِبَيْنِ، فَكَمَا يَرِثُ الِابْنُ أَبَاهُ يَرِثُ الْأَبُ ابْنَهُ، أَمَّا الْإِعْتَاقُ فَيُقَرِّرُ الْإِرْثَ لِجَانِبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُعْتِقُ، فَلَا إِرْثَ لِلْعَتِيقِ مِنْ سَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا يَسْتَوْجِبُ الْمُكَافَأَةَ بِعَكْسِ السَّيِّدِ.لِمَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ.أَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ».وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْوَلَاءُ لِلْأَكْبَرِ» مِنَ الذُّكُورِ، وَلَا تَرِثُ النِّسَاءُ مِنَ الْوَلَاءِ إِلاَّ وَلَاءَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَهُ مَنْ أَعْتَقْنَ.
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِرْثَ هُنَا بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ، وَهِيَ قَاصِرَةٌ عَلَى الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ تَتَحَقَّقُ بِهِمُ النُّصْرَةُ، وَهِيَ سَبَبٌ لِلْخِلَافَةِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَيْسَ لَهُنَّ مِنَ الْوَلَاءِ إِلاَّ مَا كُنَّ سَبَبًا فِيهِ، بِإِعْتَاقِهِنَّ مُبَاشَرَةً، أَوْ بِوَاسِطَةِ إِعْتَاقِ مَنْ أَعْتَقْنَ.وَإِذَا كَانَ لِلْعَتِيقِ عَصَبَةٌ مِنَ النَّسَبِ، أَوْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ أَصْحَابُ فُرُوضٍ، وَاسْتَوْعَبَتْ أَنْصِبَاؤُهُمْ كُلَّ التَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ أَوْلَوِيَّةً عَلَيْهِ.
مَرْتَبَةُ الْعَصَبَةِ السَّبَبِيَّةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ:
20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَاصِبَ السَّبَبِيَّ مُؤَخَّرٌ فِي الْإِرْثِ عَنِ الْعَاصِبِ النَّسَبِيِّ، أَمَّا تَحْدِيدُ مَرْتَبَتِهِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعَاصِبِ السَّبَبِيِّ فِي الْإِرْثِ تَلِي الْعَاصِبَ النَّسَبِيَّ مُبَاشَرَةً، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا عَنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَإِرْثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَلَوْ مَاتَ الْعَتِيقُ عَنْ بِنْتِهِ وَمَوْلَاهُ، فَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِمَوْلَاهُ، وَإِنْ خَلَّفَ ذَا رَحِمٍ وَمَوْلَاهُ فَالْمَالُ لِمَوْلَاهُ دُونَ ذِي الرَّحِمِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ «عَنْ بِنْتِ حَمْزَةَ قَالَتْ: مَاتَ مَوْلَايَ وَتَرَكَ ابْنَةً، فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَالَهُ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنَتِهِ فَجَعَلَ لِي النِّصْفَ وَلَهَا النِّصْفَ».
وَمَا رُوِيَ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: الْمِيرَاثُ لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ فَالْوَلَاءُ».
وَذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- إِلَى أَنَّ إِرْثَ الْعَصَبَةِ السَّبَبِيَّةِ مُؤَخَّرٌ عَنِ الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَعَنْ تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَلَا إِرْثَ لِلْعَاصِبِ السَّبَبِيِّ مَعَ وُجُودِ وَارِثٍ آخَرَ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ فَرْضٍ أَوْ عَاصِبًا نَسَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ لِظَاهِرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.
ثَانِيًا- مَالُ الْعَتِيقِ:
21- إِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ وَلَهُ مَالٌ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّ مَالَهُ لِسَيِّدِهِ، لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِغُلَامِهِ عُمَيْرٍ: يَا عُمَيْرُ إِنِّي أَعْتَقْتُكَ عِتْقًا هَنِيئًا، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ غُلَامًا وَلَمْ يُسَمِّ مَالَهُ فَالْمَالُ لَهُ فَأَخْبَرَنِي مَا مَالُكَ»، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ كَانَا لِلسَّيِّدِ، فَأَزَالَ مِلْكَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَبَقِيَ مِلْكُهُ فِي الْآخَرِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ مَالَ الْعَبْدِ تَبَعٌ لَهُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم- وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُ الْعَبْدِ لَهُ».
وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَالَ الْعَبْدِ يَتْبَعُهُ فِي الْعِتْقِ، دُونَ الْبَيْعِ، مَا لَمْ يَسْتَثْنِ مَالَهُ السَّيِّدُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلسَّيِّدِ.
عِتْقُ الْمُكَاتَبِ:
22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُعْتَقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ، إِذْ هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ» وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام- «أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلاَّ عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ» فَعَلَى هَذَا إِنْ أَدَّى الْعَبْدُ عَتَقَ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ لَمْ يُعْتَقْ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي عِتْقَهُ عَتَقَ وَيُعْتَقُ مَعَهُ وَلَدُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ».
فَالرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُنَّ بِالْحِجَابِ بِمُجَرَّدِ مِلْكِهِ لِمَا يُؤَدِّي، وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِوَفَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَدَّاهُ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَصِيرُ حُرًّا بِمِلْكِ الْوَفَاءِ، وَإِنْ هَلَكَ مَا فِي يَدَيْهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَقَدْ أَصْبَحَ حُرًّا.
عِتْقُ الْمُدَبَّرِ:
23- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ يُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ، وَيُفَارِقُ التَّدْبِيرُ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ، فَإِنَّ التَّدْبِيرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُعْتِقِ، فَيَنْفُذُ فِي الْجَمِيعِ كَالْهِبَةِ الْمُنَجَّزَةِ.
وَإِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ عَتَقَ مِنْهُ مِقْدَارُ الثُّلُثِ وَبَقِيَ سَائِرُهُ رَقِيقًا.
عِتْقُ الْمُسْتَوْلَدَةِ:
24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ فِي أُمِّ وَلَدِهِ التَّصَرُّفُ بِمَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَلَا وَقْفُهَا وَلَا رَهْنُهَا وَلَا تُورَثُ، بَلْ تُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ مِنْ كُلِّ الْمَالِ وَيَزُولُ الْمِلْكُ عَنْهَا.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اسْتِيلَاد ف 10).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
33-موسوعة الفقه الكويتية (كفر 1)
كُفْر -1التَّعْرِيفُ:
1- الْكُفْرُ فِي اللُّغَةِ: السِّتْرُ، يُقَالُ: كَفَرَ النِّعْمَةَ، أَيْ: غَطَّاهَا، مُسْتَعَارٌ مِنْ كَفَرَ الشَّيْءَ: إِذَا غَطَّاهُ، وَهُوَ أَصْلُ الْبَابِ.
وَالْكُفْرُ نَقِيضُ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ: كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشُّكْرِ، وَكَفَرَ النِّعْمَةَ وَبِالنِّعْمَةِ: جَحَدَهَا، وَكَفَرَ بِكَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي} وَيُقَالُ: كَفَرَ بِالصَّانِعِ: نَفَاهُ وَعَطَّلَ، وَهُوَ الدَّهْرِيُّ الْمُلْحِدُ، وَكَفَّرَهُ- بِالتَّشْدِيدِ: نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ: إِذَا فَعَلَ الْكَفَّارَةَ، وَأَكْفَرْتُهُ إِكْفَارًا: جَعَلْتُهُ كَافِرًا.
وَالْكُفْرُ شَرْعًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، كَإِنْكَارِ وُجُودِ الصَّانِعِ، وَنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسِّلَامُ، وَحُرْمَةِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الرِّدَّةُ:
2- الرِّدَّةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ.
وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنَ الرِّدَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا أَصْلِيًّا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ.
ب- الْإِشْرَاكُ:
3- الْإِشْرَاكُ مَصْدَرُ أَشْرَكَ، وَهُوَ: اتِّخَاذُ الشَّرِيكِ، يُقَالُ: أَشْرَكَ بِاللَّهِ، جَعَلَ لَهُ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ.وَالِاسْمُ: الشِّرْكُ.
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْإِشْرَاكَ بِمَعْنَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَبِمَعْنَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَالْإِشْرَاكُ أَعَمُّ مِنَ الْكُفْرِ، لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْإِشْرَاكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَيَشْمَلُ الْكُفْرَ بِاللَّهِ تَعَالَى.
ج- الْإِلْحَادُ:
4- الْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْلُ وَالْعُدُولُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْإِلْحَادُ فِي الدِّينِ: هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ.
وَمِنَ الْإِلْحَادِ: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الْإِسْلَامِ، أَوِ التَّأْوِيلُ فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ لِإِجْرَاءِ الْأَهْوَاءِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ:
أَنَّ الْإِلْحَادَ قَدْ يَكُونُ نَوْعًا مِنَ الْكُفْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- الْكُفْرُ حَرَامٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ».
جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا:
6- جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكَافِرِ فِي حَالَةِ الْعَهْدِ عَنْهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ:
فَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ يَجُوزُ قَتْلُ الْمُقَاتِلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُقَاتِلُ يَجُوزُ قَتْلُهُ.
(ر: أَهْلُ الْحَرْبِ ف 11)
وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الشُّيُوخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْفَلاَّحَ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: (اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلاَّحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ) وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُقْتَلُ الْحَرَّاثُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ.
(ر: جِهَادٌ ف 29).
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعَهْدِ فَيُعْصَمُ دَمُ الْكَافِرِ وَمَالُهُ بِتَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلِحَاتِ (أَهْلِ الذِّمَّةِ، مُسْتَأْمَنٌ، هُدْنَةٌ).
الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ:
7- مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وَوَرَدَ «أَنَّ عَمَّارًا- رضي الله عنه- أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَجَابَهُمْ إِلاَّ بَلَالًا فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»،، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ.
وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٍ وَقُيُودًا تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ وَبَيَانُهَا كَمَا يَأْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْكُفْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِكْرَاهًا تَامًّا جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا:
إِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- أَوْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أُمِرَ بِهِ.
وَجَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ: وَيُوَرِّي وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ إِنْ وَرَّى لَا يَكْفُرُ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى السُّجُودِ لِلصَّلِيبِ، أَوْ سَبِّ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- فَفَعَلَ وَقَالَ: نَوَيْتُ بِهِ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً.
وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَلَمْ يُوَرِّ كَفَرَ وَبَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً، لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَوَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ ثُمَّ لَمَّا تَرَكَ مَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ وَشَتَمَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ وَافَقَ الْمُكْرِهَ فِيمَا أَكْرَهَهُ، لِأَنَّهُ وَافَقَهُ بَعْدَمَا وَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ، فَكَانَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ.
وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَفَعَلَ مَا يَكْفُرُ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ لَا قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ غَيْرُهُ.
وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْكُفْرَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ بِهِ فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ، لَا فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ، لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتِ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَتِ الْمُؤَاخَذَةُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ فَقَطْ، فَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُقْتَلَ جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.
أَمَّا الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَالضَّرْبِ وَقَتْلِ الْوَلَدِ وَنَهْبِ الْمَالِ وَقَطْعِ عُضْوٍ فَلَا يَجُوزُ مَعَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ يَظْهَرُ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ إِذَا كَانَ فِيهِ صِيَانَةٌ لِلْحُرُمِ وَالذُّرِّيَّةِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الصَّبْرَ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَتِهِمْ أَوِ اسْتِئْصَالِهِمْ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ أَعْظَمَ مِنْهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْإِكْرَاهِ وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَالَ نُطْقِهِ حُكِمَ بِرِدَّتِهِ.
وَمَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِإِكْرَاهِ وَقَعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ زَالَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إِسْلَامِهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ، لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ مُخْتَارًا لَهُ.
8- وَيَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَلَوْ كَانَ بِالْقَتْلِ أَفَضْلُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى لَوْ قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ».
وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: الْأَفْضَلُ الْإِتْيَانُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ.
صِيَانَةً لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فَالْأَفْضَلُ الثُّبُوتُ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْإِنْكَاءُ وَالْقِيَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَنْطِقَ بِهَا لِمَصْلَحَةِ بَقَائِهِ، وَإِلاَّ فَالْأَفْضَلُ الثُّبُوتُ.
أَصْنَافُ الْكُفَّارِ:
9- ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ
صِنْفٌ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ أَصْلًا، وَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ، وَيُنْكِرُونَ تَوْحِيدَهُ، وَهُمُ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ، وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ الصَّانِعَ وَتَوْحِيدَهُ وَالرِّسَالَةَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
مَا اتُّفِقَ عَلَى اعْتِبَارِهِ كُفْرًا وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ
10- الْكُفْرُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَقِسْمٌ يَكُونُ بِأُمُورٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا.
فَالْأَوَّلُ: نَحْوُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَجَحْدِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَجَحْدِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَكَذَلِكَ جَحْدُ الْبَعْثِ أَوِ النُّبُوَّاتِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ أَوْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالتَّرْكِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (رِدَّةٌ ف 10- 21).
مُخَاطَبَةُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ:
11- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: حُصُولُ الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ مِنَ التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، أَمَّا حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ (الْمَسْأَلَةُ) مَفْرُوضَةٌ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَإِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهُ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلًا.
أَمَّا خِطَابُ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا فَفِيهِ- كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ- مَذَاهِبُ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مُطْلَقًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ بِالْمُرْسَلِ كَمَا يُخَاطَبُ الْمُحْدِثُ بِالصَّلَاةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَحَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
فَالْآيَةُ نَصٌّ فِي مُضَاعَفَةِ عَذَابِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، لَا كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
وَكَذَلِكَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالْكُفْرِ وَنَقْصِ الْمِكْيَالِ، وَذَمَّ قَوْمَ لُوطٍ بِالْكُفْرِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَعْذِيبِ الْكَافِرِ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا يُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَشَايِخِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْبُخَارِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهَذَا قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: اخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِمِنْدَادَ الْمَالِكِيُّ.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ كَذَلِكَ. أَمَّا فِي حَقِّ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ مُخَاطَبَتِهِمْ بِالْفُرُوعِ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُتَصَوَّرُ مَعَ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهَا فَلَا مَعْنًى لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَضَاءِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِحَالَةِ فِعْلِهِ فِي الْكُفْرِ وَمَعَ انْتِفَاءِ وُجُوبِهِ لَوْ أَسْلَمَ، فَكَيْفَ يَجِبُ مَا لَا يُمْكِنُ امْتِثَالُهُ؟.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ، لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ مُمْكِنٌ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَرُّبُ فَجَازَ التَّكْلِيفُ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ، فَإِنَّ شَرْطَ الْأَوَامِرِ الْعَزِيمَةُ، وَفِعْلُ التَّقْرِيبِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُقَرَّبِ إِلَيْهِ مُحَالٌ فَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ بِهَا.
وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي التَّحْقِيقِ أَوْجُهًا، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْأَوَامِرِ.
وَنَقَلَ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَاحِبُ اللُّبَابِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْأَوَامِرِ فَقَطْ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ دُونَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا عَدَا الْجِهَادَ.
وَقِيلَ: بِالتَّوَقُّفِ.
وَاجِبُ الْمُسْلِمِينَ تُجَاهَ الْكُفَّارِ
12- يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دَعْوَةُ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَلَا يُقَاتَلُونَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّ قِتَالَ الْكُفَّارِ لَمْ يُفْرَضْ لِعَيْنِ الْقِتَالِ بَلْ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ.
وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَالُ وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وَهُوَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالدَّعْوَةُ بِالْبَيَانِ أَهْوَنُ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْقِتَالِ لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتُمِلَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بِهَا، وَقَدْ «رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ».
ثُمَّ إِذَا دَعَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَالَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»،، فَإِنْ أَبَوُا الْإِجَابَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إِلَى الذِّمَّةِ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ» وَإِنْ أَبَوُا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى قِتَالِهِمْ وَوَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جَهْدَهُمْ وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (جِزْيَةٌ ف 25- 30، وَجِهَادٌ ف 24).
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ
13- قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَحْوَالُ الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ وَلَا الْغَصْبُ وَلَا النَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُهُ- وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا- مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ لَا ظِهَارٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ مِنَ الْأَيْمَانِ وَلَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَلَا الزَّكَوَاتِ وَلَا شَيْءٌ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ».
وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مِنْهَا رَضِيَ بِهِ حَالَ كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، فَهَذَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إِلْزَامَهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ.
أَمَّا مَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَمْ يَرْضَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعِبَادَاتُ وَنَحْوُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لِحُصُولِ الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.
وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الْآدَمِيِّينَ وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَلْ لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَاسَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ تُنَاسِبُ رَحْمَتُهُ الْمُسَامَحَةَ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا وَإِنْ رَضِيَ بِهَا كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامِ، وَلَا يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَا تَقَدَّمَ الرِّضَا بِهِ.
مُعَامَلَةُ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ
14- أَمَرَ الْإِسْلَامُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا سَوَاءً أَكَانَ الْوَالِدَانِ مُسْلِمَيْنِ أَمْ كَافِرَيْنِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 3).
نَجَاسَةُ الْكَافِرِ وَطَهَارَتُهُ:
15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ الْحَيَّ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ، وَالْآدَمِيُّ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} نَجَاسَةَ الْأَبْدَانِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَجَاسَةُ مَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَقَدْ رَبَطَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْأَسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ.
مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ
16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لِلْمُصْحَفِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَمَسَّ الْكَافِرُ الْمُصْحَفَ إِذَا اغْتَسَلَ، لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَالَ بِالْغُسْلِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لَا فِي يَدِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ حِرْزًا مِنْ قُرْآنٍ وَلَوْ بِسَاتِرٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى امْتِهَانِهِ. دُخُولُ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ:
17- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}.
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مُرَادٌ بِهِ الْحَرَمُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} إِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ.
أَمَّا الْمَسَاجِدُ الْأُخْرَى غَيْرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا رَوَى عِيَاضٌ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ أَبَا مُوسَى- رضي الله عنه- وَفَدَ إِلَى عُمَرَ- رضي الله عنه- وَمَعَهُ نَصْرَانِيٌّ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ خَطُّهُ فَقَالَ: قُلْ لِكَاتِبِكَ هَذَا: يَقْرَأُ لَنَا كِتَابًا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: لِمَ؟ أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، هُوَ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ: فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ.
فَإِنْ دَخَلَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ لِمَا رَوَتْ أُمُّ غُرَابٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَصُرَ بِمَجُوسِيٍّ فَنَزَلَ فَضَرَبَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ.
وَإِنْ وَفَدَ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ مَوْضِعٌ يُنْزِلُهُمْ فِيهِ جَازَ أَنْ يُنْزِلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ».
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الدُّخُولِ، وَهَذَا مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ نَجَّارٌ أَوْ بَنَّاءٌ وَغَيْرُهُ وَالْمَسْجِدُ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ لَكِنْ كَانَ الْكَافِرُ أَتْقَنَ لِلصَّنْعَةِ، فَلَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ مُمَاثِلٌ لَهُ فِي إِتْقَانِ الصَّنْعَةِ لَكِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمُسْلِمِ أَزْيَدَ مِنْ أُجْرَةِ الْكَافِرِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ الضَّرُورَةِ وَإِلاَّ كَانَ مِنْهَا عَلَى الظَّاهِرِ.
وَإِذَا دَخَلَ الْكَافِرُ الْمَسْجِدَ لِلْعَمَلِ فَيُنْدَبُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ جِهَةِ عَمَلِهِ.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ هُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ بِحَالٍ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَمْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ»،، وَلِأَنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلَا يُؤَدِّي إِلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} مَحْمُولٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلَاءً وَاسْتِعْلَاءً، أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَيْسَ الْمَمْنُوعُ نَفْسَ الدُّخُولِ.
تَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ:
18- قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: لَوْ كَانَ- أَيِ الْمُحْتَضِرُ- كَافِرًا لُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَأُمِرَ بِهِمَا لِمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ».
وَتَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ الشَّهَادَةَ يَكُونُ وُجُوبًا إِنْ رُجِيَ إِسْلَامُهُ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ إِسْلَامُهُ فَيُنْدَبُ ذَلِكَ.
قَالَ الْجَمَلُ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُلَقَّنُ إِنْ رُجِيَ إِسْلَامُهُ وَإِنْ بَلَغَ الْغَرْغَرَةَ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَإِنْ ظَهَرَ لَنَا خِلَافُهُ وَإِنْ كُنَّا لَا نُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ.
وِلَايَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَوِلَايَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ
19- لَا يُعْتَبَرُ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلَايَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ إِلاَّ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ كَوِلَايَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ- لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْمُسْلِمَةَ، وَلَا لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْكَافِرَةَ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُمَا لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ( (: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.
ب- الْقَضَاءُ مِنَ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمْ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ.
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (قَضَاءٌ ف 22).
أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ:
20- أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا إِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا فِي الْحَالِ، وَلَا يُنْظَرُ صِفَةُ عَقْدِهِمْ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَسْلَمَا فِي الْحَالِ مَعًا أَنَّ لَهُمَا الْمَقَامَ عَلَى نِكَاحِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ، وَقَدْ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- عَنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ وَلَا كَيْفِيَّتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ وَالضَّرُورَةِ فَكَانَ يَقِينًا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي الْحَالِ فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةٍ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا أُقِرَّ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا كَإِحْدَى الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ أَوِ السَّبَبِ أَوِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَمْ يُقَرَّ.
وَإِنْ أَسْلَمَ الْحُرُّ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَيُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى تِسْعِ نِسْوَةٍ: «أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا».
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُسْلِمِ الْآخَرُ أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ وَإِسْلَامٌ ف 5).
نِكَاحُ الْمُسْلِمِ كَافِرَةً وَنِكَاحُ الْكَافِرِ مُسْلِمَةً:
21- يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهَا مِنَ الْكُفَّارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَهَذَا بِاتِّفَاقِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ.
وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لَا يَحْصُلُ السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ.
22- وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ زَوَاجُ الْحَرَائِرِ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهما- تَزَوَّجُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ- رضي الله عنه- نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَسْلَمَتْ عِنْدَهُ، وَتَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ- رضي الله عنه- بِيَهُودِيَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ.وَإِنَّمَا جَازَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ لِرَجَاءِ إِسْلَامِهَا، لِأَنَّهَا آمَنَتْ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُل فِي الْجُمْلَةِ.
وَمَعَ الْحُكْمِ بِجَوَازِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ الزَّوَاجُ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهَا فَتَفْتِنَهُ عَنِ الدِّينِ، أَوْ يَتَوَلَّى أَهْلَ دِينِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَالْكَرَاهِيَةُ أَشَدُّ، لِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الْفِتْنَةُ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ يُكْثِرُ سَوَادَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُسْبَى وَلَدُهُ مِنْهَا فَيُسْتَرَقُّ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- لِلَّذِينَ تَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ: طَلِّقُوهُنَّ فَطَلَّقُوهُنَّ إِلاَّ حُذَيْفَةُ- رضي الله عنه-، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: طَلِّقْهَا قَالَ: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَالَ: هِيَ خَمْرَةٌ طَلِّقْهَا، قَالَ: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَالَ: هِيَ خَمْرَةٌ، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهَا خَمْرَةٌ، وَلَكِنَّهَا لِي حَلَالٌ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ طَلَّقَهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا طَلَّقْتَهَا حِينَ أَمَرَكَ عُمَرُ؟ قَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنِّي رَكِبْتُ أَمْرًا لَا يَنْبَغِي لِي.
وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا مَالِكٌ لِأَنَّهَا تَتَغَذَّى بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَتُغَذِّي وَلَدَهُ بِهِمَا، وَهُوَ يُقَبِّلُهَا وَيُضَاجِعُهَا وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ التَّغَذِّي، وَلَوْ تَضَرَّرَ بِرَائِحَتِهِ، وَلَا مِنَ الذَّهَابِ لِلْكَنِيسَةِ، وَقَدْ تَمُوتُ وَهِيَ حَامِلٌ فَتُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَهِيَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ.
23- وَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَلِأَنَّ فِي نِكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ خَوْفُ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكُفْرِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدْعُوهَا إِلَى دِينِهِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرِّجَالَ فِيمَا يُؤْثِرُونَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَيُقَلِّدْنَهُمْ فِي الدِّينِ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْكُفْرِ دُعَاءٌ إِلَى النَّارِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ النَّارَ، فَكَانَ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ سَبَبًا دَاعِيًا إِلَى الْحَرَامِ فَكَانَ حَرَامًا، وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ تَعُمُّ الْكَفَرَةَ أَجْمَعَ، فَيَعُمُّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ.
24- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَاجِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ بِاعْتِبَارِ شَبَهِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الزَّوَاجِ مِنَ السَّامِرَةِ وَالصَّابِئَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيِّ الْكَافِرَةِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا.
وَكَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فَانْتَقَلَتْ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ،.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
34-موسوعة الفقه الكويتية (مخارج الحيل 1)
مَخَارِجُ الْحِيَلِ -1التَّعْرِيفُ:
1- مَخَارِجُ الْحِيَلِ مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ مِنْ مَخَارِجَ وَحَيْلٍ.
فَالْمَخَارِجُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَخْرَجٍ وَهُوَ مَوْضِعُ الْخُرُوجِ وَيُقَالُ: وَجَدْتُ لِلْأَمْرِ مَخْرَجًا مَخْلَصًا وَفُلَانٌ يَعْرِفُ مَوَالِجَ الْأُمُورِ وَمَخَارِجَهَا أَيْ: مُتَصَرِّفٌ خَبِيرٌ بِالْأَشْيَاءِ.
وَالْمَخَارِجُ فِي اسْتِعْمَالَاتِ الْفُقَهَاءِ: هِيَ الْحِيَلُ الْمُبَاحَةُ وَالْعَمَلُ بِهَا لِأَنَّهَا مَخَارِجُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ حَلَّتْ بِهِ نَازِلَةٌ وَضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحِيَلَ مَخَارِجُ مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ فَالْحَالِفُ يَضِيقُ عَلَيْهِ إِلْزَامُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ لَهُ بِالْحِيلَةِ مَخْرَجٌ مِنْهُ وَالرَّجُلُ تَشْتَدُّ بِهِ الضَّرُورَةُ إِلَى نَفَقَةٍ وَلَا يَجِدُ مِنْ يُقْرِضُهُ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ هَذَا الضِّيقِ مَخْرَجٌ بِالْعِينَةِ وَالتَّوَرُّقِ وَنَحْوِهِمَا.
وَالْحِيلَةُ لُغَةً: الْحِذْقُ فِي تَدْبِيرِ الْأُمُورِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ النَّسَفِيُّ: مَا يُتَلَطَّفُ بِهِ لِدَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: غَلَبَ عَلَيْهَا بِالْعُرْفِ اسْتِعْمَالُهَا فِي سُلُوكِ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الرَّجُلُ إِلَى حُصُولِ غَرَضِهِ بِحَيْثُ لَا يُتَفَطَّنُ لَهُ إِلاَّ بِنَوْعٍ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَقْصُودُ أَمْرًا جَائِزًا أَوْ مُحَرَّمًا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الرُّخْصَةُ:
2- الرُّخْصَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّسْهِيلُ فِي الْأَمْرِ وَالتَّيْسِيرُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ وَعَجْزٍ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الْمُحَرَّمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الرُّخْصَةُ مَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ وَيُقَابِلُهَا الْعَزِيمَةُ.وَتَشْتَرِكُ الرُّخْصَةُ مَعَ مَخَارِجِ الْحِيَلِ فِي التَّيْسِيرِ فِي كُلٍّ.
ب- التَّيْسِيرُ:
3- مِنْ مَعَانِي التَّيْسِيرِ: التَّسْهِيلُ وَالتَّهْيِئَةُ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعِلَاقَةُ بَيْنَ مَخَارِجِ الْحِيَلِ وَالتَّيْسِيرِ أَنَّ الْمَخَارِجَ سَبَبٌ فِي التَّيْسِيرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جِوَازِ الْحِيَلِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا قَالَ السَّرَخْسِيُّ- إِنَّ الْحِيَلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْرَجَّةِ عَنِ الْآثَامِ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذَا تَعْلِيمُ الْمَخْرَجِ لِأَيُّوبِ- عليه السلام- عَنْ يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَتَهُ مِائَةً.
وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِنَعِيمِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَقَدْ أَسْلَمَ: «إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَخَذِّلْ عَنَّا إِنْ اسْتَطَعْتَ فَإِنَّمَا الْحَرْبُ خُدْعَةٌ».
وَقَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْحَرَامِ أَوْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْحَلَالِ مِنَ الْحِيَلِ فَهُوَ حَسَنٌ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَالَ فِي حَقِّ شَخْصٍ حَتَّى يُبْطِلَهُ أَوْ فِي بَاطِلٍ حَتَّى يُمَوِّهَهُ أَوْ فِي حَقٍّ حَتَّى يُدْخِلَ فِيهِ شُبْهَةً فَمَا كَانَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْأَوَّلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ الْحَقِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ لِلْحِيَلِ أَنَّهَا: تَقْدِيمُ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ لِإِبْطَالِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَتَحْوِيلُهُ فِي الظَّاهِرِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ فَمَآلُ الْعَمَلِ فِيهَا خَرْمُ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فِي الْوَاقِعِ كَالْوَاهِبِ مَالَهُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ فَإِنَّ أَصْلَ الْهِبَةِ عَلَى الْجَوَازِ وَلَوْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ هِبَةٍ لَكَانَ مَمْنُوعًا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ أَمْرُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْقَصْدِ صَارَ مَآلُ الْهِبَةِ الْمَنْعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَهُوَ مَفْسَدَةٌ وَلَكِنْ هَذَا بِشَرْطِ الْقَصْدِ إِلَى إِبْطَالِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِيَلِ فِي الدِّينِ- بِمَعْنَى قَلْبِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ شَرْعًا إِلَى أَحْكَامٍ أُخَرَ بِفِعْلٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ لَغْوٌ فِي الْبَاطِنِ- غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَمَرْجِعُ الْأَمْرِ فِي الْحِيَلِ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: لَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِهِ كَحِيَلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ.
وَالثَّانِي: لَا خِلَافَ فِي جِوَازِهِ كَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِكْرَاهًا عَلَيْهَا لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَصْلَحَةً دُنْيَوِيَّةً لَا مَفْسَدَةَ فِيهَا بِإِطْلَاقِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَحَلُّ الْإِشْكَالِ وَالْغُمُوضِ:
وَهُوَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ قَطْعِيٍّ لَحَاقُهُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي وَلَا تَبَيَّنَ فِيهِ لِلشَّارِعِ مَقْصِدٌ يُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ وَلَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَنَازَعًا فِيهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْحِيَلُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَقْسَامٍ بِحَسَبِ الْحَامِلِ عَلَيْهَا فَإِنْ تَوَصَّلَ بِهَا بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ إِلَى إِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ إِثْبَاتِ بَاطِلٍ فَهِيَ حَرَامٌ أَوْ إِلَى إِثْبَاتِ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ بَاطِلٍ فَهِيَ وَاجِبَةٌ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ وَإِنْ تَوَصَّلَ بِهَا بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ إِلَى سَلَامَةٍ مِنْ وُقُوعٍ فِي مَكْرُوهٍ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ مُبَاحَةٌ أَوْ إِلَى تَرْكِ مَنْدُوبٍ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ تَعَاطِي الْحِيَلِ فِي تَفْوِيتِ الْحُقُوقِ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ هِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ كَالْغَزَالِيِّ: هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَيَأْثَمُ بِقَصْدِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فَمَنْ نَوَى بِعَقْدِ الْبَيْعِ الرِّبَا وَقَعَ فِي الرِّبَا وَلَا يُخَلِّصُهُ مِنَ الْإِثْمِ صُورَةُ الْبَيْعِ وَمَنْ نَوَى بِعَقْدِ النِّكَاحِ التَّحْلِيلَ كَانَ مُحَلِّلًا وَدَخَلَ فِي الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ بِاللَّعْنِ، وَلَا يُخَلِّصُهُ مِنْ ذَلِكَ صُورَةُ النِّكَاحِ وَكُلُّ شَيْءٍ قُصِدَ بِهِ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ أَوْ تَحْلِيلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ كَانَ إِثْمًا وَلَا فَرْقَ فِي حُصُولِ الْإِثْمِ فِي التَّحْلِيلِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ بَيْنَ الْفِعْلِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَالْفِعْلِ الْمَوْضُوعِ لِغَيْرِهِ إِذَا جُعِلَ ذَرِيعَةً لَهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: تَجْوِيزُ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرَائِعِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً فَإِنَّ الشَّارِعَ يَسُدُّ الطَّرِيقَ إِلَى الْمُفَاسَدِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ وَالْمُحْتَالُ يَفْتَحُ الطَّرِيقَ إِلَيْهَا بِحِيلَةٍ وَالْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ حَرَامٌ فَحَقِيقٌ بِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَخَافَ نَكَالَهُ أَنْ يَحْذَرَ اسْتِحْلَالَ مَحَارِمِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَهُوَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ الْحِيلَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ أَوْ تَنْقِيصِهَا بِسَبَبِ الْجَمْعِ أَوِ التَّفْرِيقِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْحِيَلِ وَإِبْطَالِهَا وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَتَحْرِيمِهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَوْجَبَ الْوَاجِبَاتِ وَحَرَّمَ الْمُحَرَّمَاتِ لِمَا تَتَضَمَّنُ مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ فَإِذَا احْتَالَ الْعَبْدُ عَلَى تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَإِسْقَاطِ مَا فَرَضَ اللَّهُ وَتَعْطِيلِ مَا شَرَعَ اللَّهُ كَانَ سَاعِيًا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْفَسَادِ وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْحِيَلِ لَا تَمْشِي عَلَى أُصُولِ الْأَئِمَّةِ بَلْ تَنَاقُضُهَا أَعْظَمَ مُنَاقَضَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَإِنْ فَعَلَ لَمْ تَسْقُطْ.
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ وَقَدْ سَأَلْتُهُ عَنِ الْحِيلَةِ فِي إِبْطَالِ الشُّفْعَةِ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنَ الْحِيَلِ فِي ذَلِكَ وَلَا فِي إِبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ.
مَخَارِجُ الْحِيَلِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ:
تَدْخُلُ الْحِيَلُ فِي الْعَدِيدِ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
الْحِيلَةُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
5- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لُبْسُهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ لَبِسَ الْمُتَوَضِّئُ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ غَسْلِ الرِّجْلِ الْأُخْرَى ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ عَلَيْهَا الْخَفَّ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ عَلَى كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْقَيِّمِ: أَنْ يَخْلَعَ هَذِهِ الْفَرْدَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ يَلْبَسَهَا.
الْحِيلَةُ فِي الصَّلَاةِ
6- مِنَ الْحِيَلِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ: بِأَنَّهُ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ مُنْفَرِدًا أَرْبَعًا فَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَالْحِيلَةُ أَنْ لَا يَجْلِسَ عَلَى رَأْسِ الرَّابِعَةِ حَتَّى تَنْقَلِبَ هَذِهِ الصَّلَاةُ نَفْلًا وَيُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ.
قَالَ الْحَمَوِيُّ: وَإِذَا انْقَلَبَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ نَفْلًا يَضُمُّ إِلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِئَلاَّ يَلْزَمَ التَّنَفُّلُ بِالْبَتْرَاءِ.
الْحِيلَةُ فِي قِرَاءَةِ الْحَائِضِ
7- قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَةُ بَعْضِ آيَةٍ مَا لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً وَلَوْ كَرَّرَهُ لَا إِعْجَازَ فِيهِ مَا لَمْ يَتَحَيَّلْ عَلَى قِرَاءَةٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ كَقِرَاءَةِ آيَةٍ فَأَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْحِيَلَ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ.
الْحِيلَةُ فِي قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ
8- مِنَ الْحِيَلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةَ السَّجْدَةِ، وَيَدَعَ آيَتَهَا أَوْ يَقْرَأَهَا سِرًّا بِحَيْثُ لَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ إِسْمَاعُ نَفْسِهِ لَا مُجَرَّدُ تَصْحِيحِ الْحُرُوفِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذِهِ الْحِيلَةِ: فَيَرَى أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّهَا لَا تُكْرَهُ وَقَالَ مُحَمِّدٌ: تُكْرَهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. الْحِيلَةُ فِي الزَّكَاةِ
الْكَلَامُ عَلَى الْحِيَلِ فِي الزَّكَاةِ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أ- فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّحَيُّلِ عَلَى إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بِإِبْدَالِ النِّصَابِ بِغَيْرِ جَنْسِهِ قَبْلَ نِهَايَةِ الْحَوْلِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ النِّصَابَ نَقْصٌ قَبْلَ تَمَامِ حَوْلِهِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ لِحَاجَتِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى تَحْرِيمِ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ وَأَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُبَدَّلُ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنَ النُّصُبِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 114).
ب- فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ:
10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى أَصْلِهِ وَإِنْ عَلَا وَلَا إِلَى فَرْعِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ وَالْحِيلَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفَقِيرِ ثُمَّ يَصْرِفُهَا الْفَقِيرُ إِلَيْهِمَا. وَكَذَلِكَ التَّمْلِيكُ شَرْطٌ فِي مُصَارِفِ الزَّكَاةِ فَلَا تُصْرَفُ الزَّكَاةُ إِلَى بِنَاءِ نَحْوِ مَسْجِدٍ كَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالسِّقَايَاتِ وَإِصْلَاحِ الطُّرُقَاتِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ وَالْحَجِّ وَالتَّكْفِينِ وَكُلِّ مَا لَا تَمْلِيكَ فِيهِ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازُ الدَّفْعِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ صِحَّةُ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْفَقِيرِ ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِفِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ الزَّكَاةِ وَلِلْفَقِيرِ ثَوَابُ هَذِهِ الْقُرَبِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الزَّكَاةِ أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنِ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ بِالدَّيْنِ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ وَبِالْعَيْنِ مَا كَانَ قَائِمًا فِي مِلْكِهِ مِنْ نُقُودٍ وَعُرُوضٍ، وَأَدَاءُ الدَّيْنِ عَنِ الْعَيْنِ كَجَعْلِهِ مَا فِي ذِمَّةِ مَدْيُونِهِ زَكَاةً لِمَالِهِ الْحَاضِرِ.
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ دَيْنٍ عَنْ دَيْنٍ سَيُقْبَضُ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْفَقِيرَ عَنْ بَعْضِ النِّصَابِ نَاوِيًا بِهِ الْأَدَاءَ عَنِ الْبَاقِي لِأَنَّ الْبَاقِيَ يَصِيرُ عَيْنًا بِالْقَبْضِ فَيَصِيرُ مُؤَدِّيًا الدَّيْنَ عَنِ الْعَيْنِ.
وَحِيلَةُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ فِيمَا إِذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مُعْسِرٍ وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ زَكَاةً عَنْ عَيْنٍ عِنْدَهُ أَوْ عَنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ سَيَقْبِضُهُ: أَنْ يُعْطِيَ مَدْيُونَهُ الْفَقِيرَ زَكَاتَهُ، ثُمَّ يَأْخُذَهَا عَنْ دَيْنِهِ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَابِدِينَ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ يَصِيرُ وَسِيلَةً إِلَى بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ حِيلَةً قَالَ الْحَطَّابُ: وَمَحَلُّ الْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَيْهِ وَإِلاَّ مُنِعَ اتِّفَاقًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ كَانَ حِيلَةً فَلَا يُعْجِبْنِي قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: مَعْنَى الْحِيلَةِ: أَنْ يُعْطِيَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا كَوْنَهَا تَمْلِيكًا صَحِيحًا، فَإِذَا شَرَطَ الرُّجُوعَ لَمْ يُوجَدْ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى نَفْعِهِ وَإِنْ رَدَّ الْغَرِيمُ مِنْ نَفْسِهِ مَا قَبَضَهُ وَفَاءً عَنْ دَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَا مُوَاطَأَةٍ جَازَ لِرَبِّ الْمَالِ أَخْذُهُ مِنْ دَيْنِهِ لِأَنَّهُ بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ كَالْإِرْثِ وَالْهِبَةِ.
الْحِيلَةُ فِي الْحَجِّ
11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْحِيلَةِ فِي الْحَجِّ وَذَلِكَ كَأَنْ يَهَبَ مَالَهُ لِابْنِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا: فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُكْرَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تُكْرَهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَإِذَا خَافَ الرَّجُلُ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَيَفُوتَهُ فَيَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ وَدَمُ الْفَوَاتِ فَالْحِيلَةُ مِنَ الْخَلَاصِ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يُحْرِمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا وَلَا يُعَيِّنُهُ فَإِنِ اتَّسَعَ لَهُ الْوَقْتُ جَعَلَهُ حَجًّا مُفْرَدًا أَوْ قِرَانًا أَوْ تَمَتُّعًا، وَإِنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ جَعَلَهُ عُمْرَةً وَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهَا.
قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: إِذَا أَرَادَ الْآفَاقِيُّ دُخُولَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ مِنَ الْمِيقَاتِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقْصِدَ مَكَانًا آخَرَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ كَبُسْتَانِ بَنِي عَامِرٍ.
وَعَلَّقَ الْحَمَوِيُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: عِبَارَةُ التَّتَارْخَانِيَّةِ: قَصَدَ مَكَانًا آخَرَ وَرَاءَ مِيقَاتٍ نَحْوَ بُسْتَانِ بَنِي عَامِرٍ، أَوْ مَوْضِعًا آخَرَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِحَاجَةٍ، ثُمَّ إِذَا وَصَلَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَدْخُلُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ.وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرَطَ الْإِقَامَةَ بِذَلِكَ الْمَكَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، يَعْنِي لَوْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ.
الْحِيلَةُ فِي النِّكَاحِ
12- الْأَصْلُ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَتِ امْرَأَةٌ نِكَاحَ رَجُلٍ فَأَنْكَرَ وَلَا بَيِّنَةَ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُمْكِنُهَا التَّزَوُّجُ وَلَا يُؤْمَرُ بِتَطْلِيقِهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالنِّكَاحِ فَالْحِيلَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ: أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي أَنْ يَقُولَ: إِنْ كُنْتِ امْرَأَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا.
وَمِنَ الْحِيَلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ سُئِلَ عَنْ أَخَوَيْنِ تَزَوَّجَا أُخْتَيْنِ فَزُفَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَى زَوْجِ أُخْتِهَا وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى أَصْبَحُوا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَطَلَبُوا الْمَخْرَجَ مِنْهُ فَقَالَ: لِيُطَلِّقْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَخَوَيْنِ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً ثُمَّ يَتَزَوَّجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَرْأَةَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مَكَانَهَا فَيَكُونُ جَائِزًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ دُخُولٌ وَلَا خَلْوَةٌ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنَ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَعِدَّتُهَا مِنَ الْوَاطِئِ لَا تَمْنَعُ نِكَاحَهُ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْحِيلَةُ فِي غَايَةِ اللُّطْفِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا فَإِنَّهُ لَا يُصَانُ مَاؤُهُ عَنْ مَائِهِ، وَأَمْرُهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً: فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِالَّتِي طَلَّقَهَا فَالْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْهُ، فَلِلْآخَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. الْحِيلَةُ فِي الطَّلَاقِ
13- الْأَصْلُ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَالْحِيلَةُ فِي عَدَمِ وُقُوعِ ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنْ يَصِلَ قَوْلَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَيَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (طَلَاقٌ ف 55 وَمَا بَعْدَهَا).
الْحِيلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ فِي الطَّلَاقِ
14- صُورَةُ هَذِهِ الْحِيلَةِ كَمَا نَقَلَهَا ابْنُ الْقَيِّمِ- أَنْ يَقُولَ زَوْجٌ لِزَوْجَتِهِ: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ أَوْ كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ الطَّلَاقُ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا يَقُولُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ-: إِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ إِذْ لَوْ وَقَعَ لَزِمَ مَا عَلَّقَ بِهِ وَهُوَ الثَّلَاثُ وَإِذَا وَقَعَتِ الثَّلَاثُ امْتَنَعَ وُقُوعُ هَذَا الْمُنَجَّزِ فَوُقُوعُهُ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ وَمَا أَفْضَى وُجُودُهُ إِلَى عَدَمِ وُجُودِهِ لَمْ يُوجَدْ.
وَأَبَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ إِبْطَالِ هَذَا التَّعْلِيقِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذَا التَّعْلِيقُ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ مِنَ الْقَوْلِ. الْحِيلَةُ فِي الْأَيْمَانِ
15- الْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّ إِمْكَانَ تَصَوُّرِ الْبِرِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلَوْ بِطَلَاقٍ وَكَذَلِكَ شَرْطُ بَقَائِهَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُشْتَرَطُ تَصَوُّرُ الْبِرِّ وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ لَمْ تَهَبِينِي صَدَاقَكِ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ أَبُوهَا: إِنْ وَهَبْتِهِ فَأُمُّكِ طَالِقٌ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ: أَنْ تَشْتَرِيَ الزَّوْجَةُ مِنْ زَوْجِهَا مَهْرَهَا ثَوْبًا مَلْفُوفًا فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ لَمْ يَحْنَثْ أَبُوهَا لِعَدَمِ الْهِبَةِ وَلَا الزَّوْجُ لِعَجْزِهَا عَنِ الْهِبَةِ عِنْدَ الْغُرُوبِ لِسُقُوطِ الْمَهْرِ بِالْبَيْعِ ثُمَّ إِذَا أَرَادَتِ الرُّجُوعَ رَدَّتْهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.
وَكَذَلِكَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِلْكِيَّةُ الْمَالِكِ حِينَ الْحِنْثِ لَا حِينَ الْحَلِفِ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَمَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ فَحِيلَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَبِيعَ مِلْكَهُ مِنْ رَجُلٍ بِثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ وَيَقْبِضَهُ وَلَمْ يَرَهُ ثُمَّ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمِلْكُ حِينَ الْحِنْثِ لَا حِينَ الْحَلِفِ وَلَا يَدْخُلُ الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ حَتَّى يَرَاهُ وَيَرْضَى بِهِ. الْحِيلَةُ فِي الْوَقْفِ
16- صَرَّحَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ شَخْصٌ وَقْفَ دَارِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَخَافَ عَدَمَ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَالْحِيلَةُ: أَنْ يُقِرَّ أَنَّهَا وَقْفُ رَجُلٍ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ وَأَنَّهُ مُتَوَلِّيهَا وَهِيَ فِي يَدِهِ.
الْحِيلَةُ فِي الْوِصَايَةِ
17- إِذَا أَرَادَ الْمَرِيضُ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ فَفِي الصَّحِيحِ عَنِ الْقَوْلِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُقِرَّ لِإِنْسَانٍ يَثِقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ بِدَيْنٍ يُحِيطُ بِمَالِهِ كُلِّهِ ثُمَّ يُوصِيهِ إِذَا أَخَذَ ذَلِكَ الْمَالَ أَنْ يَضَعَهُ فِي الْجِهَاتِ الَّتِي يُرِيدُ.
الْحِيلَةُ فِي التَّرِكَةِ
18- الْأَصْلُ فِي التَّرِكَةِ أَنَّ نَقْدَهَا وَعَيْنَهَا وَدَيْنَهَا شَائِعٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، فَلَيْسَ لِبَعْضِهِمُ الِاسْتِقْلَالُ بِشَيْءٍ دُونَ قِسْمَةٍ مُعْتَبَرَةٍ حَتَّى لَوْ قَبَضَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنَ الدَّيْنِ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ وَإِنْ قَصَدَ الْمَدِينُ الْأَدَاءَ عَنْ حِصَّتِهِ فَقَطْ.
وَمِنْ حِيَلِ الِاسْتِقْلَالِ- كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يُحِيلَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ دَائِنَهُ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ دَيْنِ التَّرِكَةِ، فَإِذَا وَفَّى مَدِينُ التَّرِكَةِ الْمُحْتَالَ عَنِ الْحَوَالَةِ اخْتَصَّ بِحِصَّتِهَا وَلَمْ يُشَارِكْ فِيهَا الْوَارِثُ الْآخَرُ.
الْحِيلَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
19- لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَهَا جَارُهَا بِالشُّفْعَةِ فَاشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِينَارٍ مِنْ صَاحِبِهَا ثُمَّ أَعْطَاهُ بِالْأَلْفِ دِينَارٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَرَّحَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مُصَارَفَةٌ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لِحَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، وَرُبَّمَا أَبِيعُهَا بِالدَّرَاهِمِ، وَآخُذُ مَكَانَهَا دَنَانِيرَ، فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: لَا 2 بَأْسَ إِذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ»، فَإِنْ حَلَّفَهُ الْقَاضِي: (مَا دَلَّسْتُ وَلَا وَالَسْتُ) فَحَلَفَ، كَانَ صَادِقًا لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْغُرُورِ وَالْخِيَانَةِ وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
الْحِيلَةُ فِي الرِّبَا وَالصَّرْفِ
20- مِنَ الْحِيَلِ فِي الْبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِجَنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَبَيْعِ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ مُتَفَاضِلًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ: أَنْ يَبِيعَ الذَّهَبَ مِنْ صَاحِبِهِ بِدَرَاهِمَ أَوْ عَرْضٍ وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعَرْضِ الذَّهَبَ بَعْدَ التَّقَابُضِ فَيَجُوزُ وَلَوِ اتَّخَذَهُ عَادَةً قِيَاسًا بِمَا «أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَامِلَ خَيْبَرَ أَنْ يَبِيعَ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَا جَنِيبًا».أَوْ أَنْ يَقْرِضَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَيُبْرِئَهُ أَوْ أَنْ يَتَوَاهَبَا فَهَذِهِ الْحِيَلُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ- إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَيْعِهِ وَإِقْرَاضِهِ وَهِبَتِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْآخَرُ وَلَكِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ إِذَا نَوَيَا ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ أَفْسَدَ التَّصْرِيحُ بِهِ الْعَقْدَ إِذَا نَوَاهُ كُرِهَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَرْطِ أَنْ يُطَلِّقَهَا لَمْ يَنْعَقِدْ وَبِقَصْدِ ذَلِكَ كُرِهَ.
ثُمَّ هَذِهِ الطُّرُقُ لَيْسَتْ حِيَلًا فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِجَنْسِهِ مُتَفَاضِلًا لِأَنَّهُ حَرَامٌ بَلْ حِيَلٌ فِي تَمْلِيكِهِ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ.
الْحِيلَةُ فِي السَّلَمِ
21- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَبْدِلَ عَنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ غَيْرَ جَنْسِهِ كَبُرٍّ عَنْ شَعِيرٍ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ هَذَا الِاسْتِبْدَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ: أَنْ يَفْسَخَا السَّلَمَ بِأَنْ يَتَقَايَلَا فِيهِ ثُمَّ يُعْتَاضُ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِكَثِيرٍ وَأَيْضًا مَعَ بَقَاءِ رَأْسِ الْمَالِ الْأَصْلِيِّ.
الْحِيلَةُ فِي الشُّفْعَةِ:
22- الْحِيلَةُ فِي الشُّفْعَةِ أَنْ يُظْهِرَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي الْبَيْعِ شَيْئًا لَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَعَهُ وَأَنْ يَتَوَاطَآ فِي الْبَاطِنِ عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرَاهُ وَالْكَلَامُ عَلَى الْحِيلَةِ فِي الشُّفْعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أ- الْحِيلَةُ لِإِبْطَالِ حَقِّ الشُّفْعَةِ
23- الْحِيلَةُ لِإِبْطَالِ الشُّفْعَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلرَّفْعِ بَعْدَ الْوُجُوبِ أَوْ لِدَفْعِهِ قَبْلَ الْوُجُوبِ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ: أَنَا أَبِيعُهَا مِنْكَ بِمَا أَخَذْتُ فَلَا حَاجَةَ لَكَ فِي الْأَخْذِ فَيَقُولُ الشَّفِيعُ: نَعَمْ وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وِفَاقًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَرَامٌ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ دَارًا إِلاَّ مِقْدَارَ ذِرَاعٍ مِنْهَا فِي طُولِ الْحَدِّ الَّذِي يَلِي الشَّفِيعَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ لِانْقِطَاعِ الْجِوَارِ.
وَكَذَا إِذَا وَهَبَ مِنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَهْ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ إِلَى أَنَّهَا تُكْرَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الشَّفِيعِ وَالْحِيلَةُ تُنَافِيهِ وَلِأَنَّ الَّذِي يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صَرَّحَ بِهِ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا الْحِيَلُ فِي دَفْعِ شُفْعَةِ الْجَارِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا مُطْلَقًا لِأَنَّهُ دَفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ لَا الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنِ التَّصَرُّفِ أَوْ تَمَلُّكِ الدَّارِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ إِضْرَارًا بِهِ وَهُوَ إِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ هَذَا الضَّرَرَ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ فَاسِقًا يَتَأَذَّى بِهِ وَفِي اسْتِعْمَالِ الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ تَحْصِيلُ الْخَلَاصِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْجَارِ.
وَالْفَتْوَى فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقُيِّدَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ فِي السِّرَاجِيَّةِ بِمَا إِذَا كَانَ الْجَارُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ وَاسْتَحْسَنَهُ شَرَفُ الدِّينِ الْغَزِّيُّ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَحْنَافِ فِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ حَيْثُ قَالَ: وَيَنْبَغِي اعْتِمَادُ هَذَا الْقَوْلِ لِحُسْنِهِ. ب- الْحِيلَةُ لِتَقْلِيلِ رَغْبَةِ الشَّفِيعِ
24- إِذَا أَرَادَ شَخْصٌ أَنْ يَبِيعَ دَارَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يَبِيعُهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا ثُمَّ يَقْبِضُ تِسْعَةَ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَيَقْبِضُ بِالْبَاقِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَلَوْ أَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا إِنْ شَاءَ، فَلَا يَرْغَبُ فِي الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الثَّمَنِ.
وَلِلْحِيَلِ الْمُسْقِطَةِ لِلشُّفْعَةِ، وَالْمُقَلِّلَةِ لِرَغْبَةِ الشَّفِيعِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْحِيَلُ لَا تُفِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ وَلَا فِي الْمُعَامَلَاتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَإِنْ فَعَلَ لَمْ تَسْقُطْ قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنَ الْحِيَلِ فِي ذَلِكَ وَلَا فِي إِبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ.وَبِهَذَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجَوزَجَانِيُّ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ وُضِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَلَوْ سَقَطَتْ بِالتَّحَيُّلِ لَلَحِقَ الضَّرَرُ، فَلَمْ تَسْقُطْ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ شِقْصًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ يَقْضِيهِ عَنْهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّحَيُّلَ فَتَسْقُطُ بِهِ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ لَا خِدَاعَ فِيهِ وَلَا قَصَدَ بِهِ إِبْطَالَ حَقٍّ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِيمَا إِذَا اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهِ حِيلَةً أَمْ لَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ وَحَالِهِ.
الْحِيلَةُ فِي الْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ
25- الْأَصْلُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَرَمَّةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى قَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَيَضُمَّ إِلَى الْأُجْرَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ الْمُؤَجِّرُ بِصَرْفِهِ إِلَى الْمَرَمَّةِ، فَيَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ وَكِيلًا بِالْإِنْفَاقِ.
وَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ خَرَاجِ الْأَرْضِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمَالِكِ وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَزِيدَ فِي الْأُجْرَةِ بِقَدْرِهِ، ثُمَّ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ فِي خَرَاجِهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى أُجْرَتِهَا، لِأَنَّهُ مَتَى زَادَ مِقْدَارُ الْخَرَاجِ عَلَى الْأُجْرَةِ أَصْبَحَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْخَرَاجِ وَهُوَ جَائِزٌ.
وَنَظِيرُ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يُؤَجِّرَ دَابَّةً، وَيَشْتَرِطَ عَلْفَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَالْأَجْرُ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ كَمَا سَبَقَ.
وَهَذِهِ الْحِيلَةُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ اسْتِئْجَارَ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا وَالْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، فَكَذَلِكَ إِجَارَةُ الدَّابَّةِ بِعَلْفِهَا وَسَقْيِهَا.
وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَعَلَى هَذَا إِذَا أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ لَا تَنْفَسِخَ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ، فَالْحِيلَةُ: أَنْ يُقِرَّ الْمُؤَجِّرُ بِأَنَّهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ عَشْرَ سِنِينَ يَزْرَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، وَمَا خَرَجَ فَهُوَ لَهُ، فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا.
وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ غَزْلًا لآِخَرَ لِيَنْسِجَهُ لَهُ بِنِصْفِ الْغَزْلِ، أَوِ اسْتَأْجَرَ بَغْلًا لِيَحْمِلَ طَعَامَهُ بِبَعْضِهِ، أَوْ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ بُرَّهُ بِبَعْضِ دَقِيقِهِ، فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ فِي الْكُلِّ، لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِجُزْءِ عَمَلِهِ، وَلِنَهْيِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ.
وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يُفْرِزَ الْأَجْرَ أَوَّلًا وَيُسَلِّمَهُ إِلَى الْأَجِيرِ، أَوْ يُسَمِّي قَفِيزًا بِلَا تَعْيِينٍ، ثُمَّ يُعْطِيهِ قَفِيزًا مِنْهُ فَيَجُوزُ، فَلَوْ خَلَطَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَطَحَنَ الْكُلَّ ثُمَّ أَفْرَزَ الْأُجْرَةَ، وَرَدَّ الْبَاقِيَ جَازَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْهُ أَنْ يَطْحَنَ بِجُزْءٍ مِنْهُ.
الْحِيلَةُ فِي الرَّهْنِ
26- الْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُ مَشَاعٍ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَبِيعَ نِصْفَ دَارِهِ مَشَاعًا مِنْ طَالِبِ الرَّهْنِ، وَيَقْبِضَ مِنْهُ الثَّمَنَ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ، وَيَقْبِضَ الدَّارَ ثُمَّ يَفْسَخَ الْبَيْعَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ، فَتَبْقَى فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ بِالثَّمَنِ.
وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ فَلَا حَاجَةَ لِلْحِيلَةِ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ رَهْنُ مَشَاعٍ
الْحِيلَةُ فِي الْوَكَالَةِ
27- الْأَصْلُ أَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ الْمُعَيَّنِ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لِأَنَّ الْآمِرَ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي شِرَائِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَدْ خَدَعَهُ بِقَبُولِ الْوَكَالَةِ لِيَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَالْحِيلَةُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِعَدِمِ جَوَازِ ذَلِكَ: أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِخِلَافِ جَنْسٍ مَا أُمِرَ بِهِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ أَوْ بِأَقَلَّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ، لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي اكْتِسَابِ هَذِهِ الْحِيلَةِ لِيَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ.
الْحِيلَةُ فِي الْكَفَالَةِ
28- رَجُلٌ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ آخَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُوَافِ بِمَا عَلَيْهِ، غَدًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ الَّذِي لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبُ، فَلَمْ يُوَافِ الْمَطْلُوبَ، فَالْكَفِيلُ ضَامِنُ الْمَالِ، فَهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْأَحْنَافِ.
وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَجُوزَ عِنْدَ الْجَمِيعِ: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْأَلْفِ الَّتِي عَلَى الْمَطْلُوبِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ وَافَى بِهِ غَدًا فَهُوَ بَرِيءٌ، فَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَحْنَافِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
35-موسوعة الفقه الكويتية (موت 3)
مَوْتٌ -3ثَامِنًا- حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْإِقْطَاعِ:
46- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَ الْأَرْضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِرَقَبَتِهَا كَمَا يُعْطِي الْمَالَ لِمُسْتَحِقِّهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُقْطَعُ، فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، سَوَاءٌ عَمَّرَهَا وَأَحْيَاهَا أَمْ لَا.
أَمَّا إِقْطَاعُ الْأَرَاضِي الْمَوَاتِ لِإِحْيَائِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ وَفِي انْتِقَالِ الْحَقِّ فِيهِ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُقْطَعِ إِلاَّ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ، وَهَذَا الْحَقُّ يَنْتَقِلُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ كُلَّ مَوَاتٍ وَكُلَّ مَا لَيْسَ فِيهِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ، فَإِنْ عَمَّرَهَا الْمُقْطَعَ وَأَحْيَاهَا صَارَتْ مِلْكًا لَهُ، وَتُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُحْيِهَا وَلَمْ يُعَمِّرْهَا طِيلَةَ ثَلَاثَةِ سَنَوَاتٍ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِيهَا يَبْطُلُ، وَتَعُودُ إِلَى حَالِهَا مَوَاتًا، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهَا غَيْرَهُ.
وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ إِقْطَاعَ الْمَوَاتِ تَمْلِيكٌ مُجَرَّدٌ، فَمَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ شَيْئًا صَارَ مِلْكًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يُحْيِهِ وَيُعَمِّرْهُ، وَبِالْمَوْتِ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِإِقْطَاعِ الِاسْتِغْلَالِ الَّذِي يَقَعُ عَلَى أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، عَلَى سَبِيلِ اسْتِغْلَالِهَا لَا تَمْلِيكِهَا فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الْأَرْضَ التَّابِعَةَ لِبَيْتِ الْمَالِ مَنْفَعَةً، بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُعْطَى مُسْتَحِقًّا لِمَنْفَعَتِهَا دُونَ رِقْبَتِهَا وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهَا يُعْتَبَرُ حَقًّا شَخْصِيًّا، فَيَسْقُطُ بِوَفَاةِ صَاحِبِهِ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ عُرْفًا بِحَيَاةِ الْمُقْطَعِ، وَتَرْجِعُ الْأَرْضُ الْمُقْطَعَةُ بِمَوْتِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ وَقْفًا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ.
تَاسِعًا- الِاخْتِصَاصُ بِالِانْتِفَاعِ بِالْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ:
47- الِاخْتِصَاصُ هُوَ حَقٌّ فِي شَيْءٍ، يَخْتَصُّ مُسْتَحِقُّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلشُّمُولِ وَالْمُعَاوَضَاتِ.
وَمِنْ صُوَرِ الِاخْتِصَاصِ بِالْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْكَلْبُ الْمُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ كَكَلْبِ الْحِرَاسَةِ وَالصَّيْدِ وَالزُّيُوتِ وَالْأَدْهَانِ الْمُتَنَجِّسَةِ الَّتِي يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِالِاسْتِصْبَاحِ أَوْ بِتَحْوِيلِهَا إِلَى صَابُونٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالِاخْتِصَاصُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَنَحْوِهَا لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُعْطِي صَاحِبَهُ حَقَّ الِانْتِفَاعِ الْمَحْدُودِ بِهَا فِي الْوُجُوهِ السَّائِغَةِ شَرْعًا.وَهَذَا الْحَقُّ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إِلَى وَرَثَةِ صَاحِبِ الِاخْتِصَاصِ وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ أَوِ الْمُتَنَجِّسَةَ الَّتِي أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهَا شَرْعًا مَالًا مُتَقَوِّمًا، كَالسِّرْجِينِ وَالْبَعْرِ وَكِلَابِ الْمَاشِيَةِ وَالصَّيْدِ وَنَحْوِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُورَثُ عَنْ صَاحِبِهَا بِمَوْتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ.
عَاشِرًا- حَقُّ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوُ عَنْهُ:
48- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ إِلاَّ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ بَعْدَ اجْتِمَاعِ شُرُوطِهِ، وَأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ (أَوْلِيَاءِ الدَّمِ)، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْحَقِّ هَلْ يَثْبُتُ لَهُمُ ابْتِدَاءً أَمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؟ وَمَنْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْهُمْ؟ وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ يَثْبُتُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلًا بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ جَمِيعِهِمْ، الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ.
وَعَلَى ذَلِكَ، فَمَتَى انْتَقَلَ الْحَقُّ لِلْوَرَثَةِ، فَهُمْ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءُوا اقْتَصُّوا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا، وَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا، وَلَا يَكُونُ لِلْعَافِي شَيْءٌ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مَجَّانًا بِرِضَاهُ.
وَإِذَا انْقَلَبَ الْقِصَاصُ إِلَى مَالٍ بِعَفْوِ الْوَرَثَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ يَكُونُ لِلْمَوْرُوثِ أَوَّلًا، فَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ، وَتَنْفُذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ.
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْعَصَبَاتِ الذُّكُورِ مِنْ وَرَثَتِهِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ.
وَالثَّالِثُ: لِأَبِي حَنيِفَةَ وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ مَوْرُوثًا عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ التَّشَفِّي وَدَرْكُ الثَّأْرِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَجِبُ لَهُ إِلاَّ مَا يَصْلُحُ لِحَاجَتِهِ مِنْ تَجْهِيزِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ وَقَعَتْ عَلَى وَرَثَتِهِ مِنْ وَجْهٍ، لِانْتِفَاعِهِمْ بِحَيَاتِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَأْنِسُونَ بِهِ وَيَنْتَصِرُونَ، وَيَنْتَفِعُونَ بِمَالِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً، لِحُصُولِ التَّشَفِّي لَهُمْ وَلِوُقُوعِ الْجِنَايَةِ عَلَى حَقِّهِمْ، لَا أَنْ يَثْبُتَ لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ التَّوَارُثُ كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلَكِنْ إِذَا انْقَلَبَ ذَلِكَ الْحَقُّ مَالًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ عِنْدَئِذٍ مَوْرُوثًا، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً إِنَّمَا كَانَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ صُلُوحِهِ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ، فَإِذَا انْقَلَبَ مَالًا بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ أَوِ الْعَفْوِ إِلَى الدِّيَةِ- وَالْمَالُ يَصْلُحُ لِحَوَائِجِ الْمَيِّتِ مِنَ التَّجْهِيزِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا- ارْتَفَعَتِ الضَّرُورَةُ، وَصَارَ الْوَاجِبُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَالُ، إِذِ الْخُلْفُ إِنَّمَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْأَصْلُ، فَيَثْبُتُ الْفَاضِلُ عَنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ لِوَرَثَتِهِ خِلَافَةً لَا أَصَالَةً.
أَمَّا حَقُّ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُورَثُ عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَلَا يَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، وَثُبُوتُهُ لِوَرَثَتِهِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ عَنْهُ لَا ابْتِدَاءً وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ إِلاَّ إِذَا طَالَبَ بِهِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُطَالِبْ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِوَفَاتِهِ.
حَادِيَ عَشَرَ- حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي قَبُولِ الْوَصِيَّةِ:
49- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ قَبُولَ الْوَصِيَّةِ مِنَ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَأَنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي قَبُولِهِ أَوْ رَدِّهَا بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ.
وَلَكِنْ إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْمُوصِي وَقَبْلَ صُدُورِ الْقَبُولِ أَوِ الرَّدِّ مِنْهُ، فَهَلْ يَنْتَقِلُ ذَلِكَ الْحَقُّ لِوَرَثَتِهِ أَمْ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْقَبُولِ أَوِ الرَّدِّ فِي الْوَصِيَّةِ يَنْتَقِلُ لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ أَوْ رَدٍّ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مَوْرُوثٌ، فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ شَاءُوا قَبِلُوا وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِعَيْنِهِ وَشَخْصِهِ، فَحِينَئِذٍ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ ذَلِكَ الْحَقُّ إِلَى وَرَثَتِهِ.
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ أَوِ الرَّدِّ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي، فَإِنَّ الْمُوصَى بِهِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى قَبُولِ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّ الْقَبُولَ عِنْدَهُمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الرَّدِّ، فَمَتَى وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ رَدِّ الْمُوصَى لَهُ اعْتُبِرَ قَابِلًا حُكْمًا.
الثَّالِثُ: لِلأْبْهَرِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَخَذَ بِهَا ابْنُ حَامِدٍ وَوَصَفَهَا الْقَاضِي بِأَنَّهَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهِيَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ، لِأَنَّهَا عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، فَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْقَبُولِ قَبْلَهُ بَطَلَ الْعَقْدُ، كَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ لَا يُعْتَاضُ عَنْهُ، فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ وَخِيَارِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ.
ثَانِيَ عَشَرَ- حَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي قَبُولِ الْهِبَةِ وَقَبْضِهَا:
50- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ، هَلْ تَبْطُلُ الْهِبَةُ بِمَوْتِهِ، أَمْ أَنَّ حَقَّ الْقَبُولِ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَتِ الْهِبَةُ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ حَقُّ الْقَبُولِ مِنْ بَعْدِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فَمَاتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبُولِ.
وَإِذَا مَاتَ بَعْدَ الْقَبُولِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّهَا لَا تَلْزَمُ وَلَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهَا إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَقَدِ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ الْهِبَةَ صِلَةٌ، وَالصِّلَاتُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ قَبْلَهُ، فَبَطَلَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ.
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ انْفِسَاخِ الْهِبَةِ بِمَوْتِ الْمُتَّهِبِ قَبْلَ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَئُولُ إِلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْمُتَّهِبِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ فِي الْقَبْضِ.
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِالْهِبَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ أَوِ الرَّدِّ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَاهِبُ يَقْصِدُ شَخْصَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَذَاتَهُ لَفْظًا أَوْ بِدَلَالَةِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، فَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ الْهِبَةُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ، لِأَنَّ الْحَقَّ هَاهُنَا شَخْصِيٌّ، فَيَنْتَهِي بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ.
أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْهِبَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ رَدٌّ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَابِلًا حُكْمًا، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ، وَكَذَا إِذَا قَبِلَ صَرَاحَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْبِضِ الْهِبَةَ حَتَّى وَافَتْهُ الْمَنِيَّةُ، فَيُورَثُ عَنْهُ حَقُّ قَبْضِهَا.
ثَالِثَ عَشَرَ- حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ
51- ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِي الرُّجُوعِ فِيهَا حَقٌّ شَخْصِيٌّ لِلْوَاهِبِ، ثَبَتَ لَهُ لِمَعَانٍ وَأَوْصَافٍ ذَاتِيَّةٍ فِيهِ، وَالْحَقُّ الشَّخْصِيُّ لَا يُورَثُ.
ثُمَّ إِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا أَوْجَبَ هَذَا الْحَقَّ لِلْوَاهِبِ، وَالْوَارِثُ لَيْسَ بِوَاهِبٍ.
وَأَيْضًا هُوَ حَقٌّ مُجَرَّدٌ، وَالْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ لَا تُورَثُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا تُورَثُ تَبَعًا لِلْمَالِ، وَوَرَثَةُ الْوَاهِبِ لَا يَرِثُونَ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ الَّتِي هِيَ مَالٌ، فَلَا يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَقِّ الرُّجُوعِ. أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْتِزَامَاتِ الْمُتَوَفَّى:
أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الِالْتِزَامَاتِ الْمُفْتَرَضَةِ بِنَصِّ الشَّارِعِ:
هُنَاكَ الْتِزَامَاتٌ مَالِيَّةٌ وَغَيْرُ مَالِيَّةٍ، وَسَنَعْرِضُ فِيمَا يَلِي أَثَرَ الْمَوْتِ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ:
أَوَّلًا- الِالْتِزَامَاتُ الْمَالِيَّةُ:
أ- الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ:
52- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى سُقُوطِ دَيْنِ الزَّكَاةِ إِذَا تُوُفِّيَ مَنْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ قَبْلَ أَدَائِهَا، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهَا، وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَيَلْزَمُ إِخْرَاجُهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ حَقٌّ مَالِيٌّ وَاجِبٌ لَزِمَهُ حَالَ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، كَدَيْنِ الْعَبْدِ.وَيُفَارِقُ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا وَلَا النِّيَابَةُ فِيهَا وَبِعُمُومِ قوله تعالى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} حَيْثُ عَمَّمَ سُبْحَانَهُ الدُّيُونَ كُلَّهَا، وَالزَّكَاةُ دَيْنٌ قَائِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْغَارِمِينَ وَسَائِرِ مَنْ فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْمُبِينِ.
وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ.قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى أَحَقُّ أَنْ تُقْضَى، وَدَيْنُ الزَّكَاةِ مِنْهَا.
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ زَكَاةٍ لَمْ يُؤَدِّهِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا يُلْزَمُ الْوَرَثَةُ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ تَرِكَتِهِ مَا لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَوْصَى بِأَدَائِهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهَا كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَا يَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ الْأَفْعَالُ، إِذْ بِهَا تَظْهَرُ الطَّاعَةُ وَالِامْتِثَالُ، وَمَا كَانَ مَالِيًّا مِنْهَا، فَالْمَالُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَقْصُودِ، وَهُوَ الْفِعْلُ، وَقَدْ سَقَطَتِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا بِالْمَوْتِ، لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ الْإِيصَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُهَا تَبَرُّعًا مِنَ الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً، فَاعْتُبِرَ مِنَ الثُّلُثِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ، وَالصِّلَاتُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ زَكَاةَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَقَالُوا بِعَدَمِ سُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْأَدَاءِ إِذَا كَانَ الْخَارِجُ، قَائِمًا، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ.
الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ لَمْ تُؤَدَّ فِي حَيَاتِهِ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزَّكَاةُ حَالَّةً فِي الْعَامِ الْحَاضِرِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَنْ سِنِينَ مَاضِيَةٍ فَرَّطَ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ فِيهَا.
الْحَالَةُ الْأُولَى: فَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ حَالَّةً فِي الْعَامِ الْحَاضِرِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ زَكَاةَ حَرْثٍ وَثَمَرٍ وَمَاشِيَةٍ، أَوْ زَكَاةَ عَيْنٍ (ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ).
فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ أَمْوَالٍ ظَاهِرَةٍ كَحَرْثٍ وَمَاشِيَةٍ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ تَخْرَجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَوْ لَا، لِأَنَّهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ زَكَاةَ عَيْنٍ حَاضِرَةً (مِنَ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ) فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ جَبْرًا عَنِ الْوَرَثَةِ، إِنِ اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا وَبَقَائِهَا فِي ذِمَّتِهِ وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا، أَمَّا إِذَا اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا، وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِبَقَائِهَا، وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا، فَلَا يُجْبَرُ الْوَرَثَةُ عَلَى إِخْرَاجِهَا لَا مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ وَلَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُونَ فِي غَيْرِ جَبْرٍ، إِلاَّ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْوَرَثَةُ مِنْ عَدَمِ إِخْرَاجِهَا، فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ جَبْرًا.
وَإِذَا اعْتَرَفَ بِبَقَائِهَا، وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا، أُخْرِجَتْ مِنَ الثُّلُثِ جَبْرًا.
وَإِنِ اعْتَرَفَ بِبَقَائِهَا وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا، لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِمْ بِإِخْرَاجِهَا، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُونَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْرَجَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، فَإِنْ عَلِمُوا عَدَمَ إِخْرَاجِهَا أُجْبِرُوا عَلَى الْإِخْرَاجِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وَإِذَا كَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ مُدَّةٍ مَاضِيَةٍ، وَفَرَّطَ فِي أَدَائِهَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَكَاةَ عَيْنٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ حَرْثٍ فَيَلْزَمُ إِخْرَاجُهَا مِنَ الثُّلُثِ إِنْ أَوْصَى بِهَا أَوِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِهِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ وَلَمْ يُوصِ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ إِخْرَاجُهَا لَا مِنَ الثُّلُثِ وَلَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
وَلَوْ أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
وَإِذَا أَشْهَدَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَتَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ.
ب- صَدَقَةُ الْفِطْرِ:
53- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى سُقُوطِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهَا، وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ، لَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا.
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ إِخْرَاجُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ مَا لَمْ يُوصِ بِهَا.
فَإِنْ أَوْصَى بِهَا، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ، وَالصِّلَاتُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ.
الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ الْحَاضِرَةَ إِذَا مَاتَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ إِخْرَاجِهَا، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ كَزَكَاةِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ إِنْ أَوْصَى بِهَا.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا، فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يُؤْمَرُونَ بِإِخْرَاجِهَا، لَكِنَّهُمْ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ سِنِينَ مَاضِيَةٍ فَرَّطَ فِيهَا، ثُمَّ أَوْصَى بِأَدَائِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ.
وَلَوْ أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ. ج- الْخَرَاجُ وَالْعُشْرُ:
54- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَنَّ أَرْضًا مِنْ أَرَاضِي الْخَرَاجِ مَاتَ رَبُّهَا قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ فِي مَعْنَى الصِّلَةِ، فَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يَتَحَوَّلُ إِلَى التَّرِكَةِ كَالزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ مُعْتَبَرٌ بِخَرَاجِ الرَّأْسِ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى الصَّغَارِ، وَكَمَا أَنَّ خَرَاجَ الرَّأْسِ يَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، فَكَذَلِكَ خَرَاجُ الْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الْوَرَثَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ، وَفِيهَا زَرْعٌ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ عَلَى حَالِهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، وَقَالَ: يَسْقُطُ بِمَوْتِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَالزَّرْعُ الْقَائِمُ يَصِيرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَرَبِّ الْأَرْضِ، عُشْرُهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ، وَتِسْعَةُ أَعْشَارِهِ حَقُّ رَبِّ الْأَرْضِ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِي إِيجَابِ الْعُشْرِ الْمَالِكُ، حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ وَالْمَدِينِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَبِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْآخَرِ، وَلَكِنْ يَبْقَى مَحِلُّهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَرَاجِ، حَيْثُ إِنَّ مَحَلَّهُ الذِّمَّةُ، وَبِمَوْتِهِ خَرَجَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ، وَالْمَالُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّمَّةِ فِيمَا طَرِيقُهُ طَرِيقُ الصِّلَةِ.
د- الْجِزْيَةُ:
55- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنِ الذِّمِّيِّ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الذِّمِّيِّ، فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ أَدَائِهَا، سَوَاءٌ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْحُدُودِ، وَلِأَنَّهَا تَسْقُطُ أَيْضًا بِإِسْلَامِهِ، فَتَسْقُطُ كَذَلِك بِمَوْتِهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِذَا أَوْصَى بِهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا.
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ، فَإِنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ، لِأَنَّهَا دَيْنٌ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمَالِيَّةِ. أَمَّا إِذَا مَاتَ فِي أَثَنَاء الْحَوْلِ، فَلَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا تَسْقُطُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ قِسْطُ مَا مَضَى، لِأَنَّهَا كَالْأُجْرَةِ.
هـ- الْكَفَّارَاتُ الْوَاجِبَةُ وَفِدْيَةُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ:
56- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الْكَفَّارَاتِ الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا، وَكَذَا مَا يَلْزَمُهُ مِنْ فَدِيَةِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ إِخْرَاجِهَا وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ، الْكَفَّارَاتِ وَنَحْوَهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ كَفِدْيَةِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَدَائِهَا وَتَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، أَوْصَى بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ.
وَكَذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِدْيَةُ الصَّوْمِ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَمَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْهَدْيِ، وَلَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ بَعْدُ، فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ.
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا قَبْلَ وَفَاتِهِ، فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَمَا زَادَ مِنْهَا عَلَى الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدُّوهُ بَطَلَ.
وَكَذَا الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِفِدْيَةِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ.
الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ عَلَى الْكَفَّارَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَدَائِهَا، فَإِنَّهَا بِمَوْتِهِ تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ.
وَأَمَّا إِذَا فَرَّطَ فِي أَدَائِهَا حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يُشْهِدْ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِهَا، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي فِدْيَةِ الْحَجِّ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا، وَلَمْ يُشْهِدْ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، فَلَا يُجْبَرُ الْوَرَثَةُ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنَ التَّرِكَةِ أَصْلًا.
وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ فِي الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِذَا مَاتَ الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ أَمْ لَا.وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ، فَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ ذَبْحُهُ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
و- نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ
57- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَتَى سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إِلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا وَلَمْ تَكُنْ نَاشِزًا.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا إِلَيْهَا، وَوُجُوبِهَا فِي تَرِكَتِهِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، أَوْ سُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَكُونُ عَلَى زَوْجِهَا- حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا- إِذَا لَمْ تَمْنَعْهُ تَمَتُّعًا مُبَاحًا، وَتَجِبُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَهَا إِذَا لَمْ يَقُمْ بِوَاجِبِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ بِهَا قَضَاءُ قَاضٍ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْأَدَاءِ إِلَيْهَا، بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ.
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ قَضَى بِهَا الْقَاضِي وَأَمَرَ الزَّوْجَةَ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ، فَفَعَلَتْ، فَإِنَّ دَيْنَ النَّفَقَةِ هَذَا لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الزَّوْجِ قَبْلَ أَدَائِهِ إِلَيْهَا.
أَمَّا إِذَا قَضَى بِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالِاسْتِدَانَةِ، فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّهَا صِلَةٌ، وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ.
الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ لَا تَلْزَمُهُ فِي حَالِ إِعْسَارِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى نَفْسِهَا فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ لَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَلَا يَجِبُ لَهَا فِي تَرِكَتِهِ شَيْءٌ مِنَ النَّفَقَةِ عَنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ سَاقِطَةً عَنْهُ خِلَالَهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُوسِرًا، فَإِنَّ مَا تَجَمَّدَ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فِي زَمَنِ الْيَسَارِ، يَكُونُ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَوْ لَمْ يَفْرِضْهُ قَاضٍ، وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ الْعِبَادِ، وَتُحَاصِصُ الزَّوْجَةُ فِيهِ سَائِرَ الْغُرَمَاءِ.
ز- نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ:
58- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِمَنْ ثَبَتَتْ لَهُ، وَوُجُوبِهَا فِي تَرِكَتِهِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَدَائِهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، لِأَنَّهَا صِلَةٌ، وَالصِّلَاتُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، إِلاَّ إِذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي وَأَمَرَ بِاسْتِدَانَتِهَا عَلَيْهِ، فَفَعَلَ الْمُسْتَحِقُّ، فَعِنْدَئِذٍ تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ لَزِمَتْهُ، وَلَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ الْعِبَادِ، حَيْثُ إِنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِفَرْضِ الْحَاكِمِ وَأَمْرِهِ بِالِاسْتِدَانَةِ.
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مُتَجَمِّدَ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ يَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ لَزِمَتْهُ قَبْلَ أَدَائِهَا إِلاَّ إِذَا حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ، أَوْ أَنْفَقَ شَخْصٌ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ لَهُ غَيْرَ قَاصِدٍ التَّبَرُّعَ عَلَيْهَا بِهَا، وَكَانَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مُوسِرًا، فَعِنْدَئِذٍ تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ لِلْآدَمِيِّينَ.
ح- الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ:
59- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُنَجَّمَةً عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَاقِلَةِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، فَهَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ، أَمْ تَكُونُ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ الْعَاقِلَةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَكَانَ مُوسِرًا، اسْتَقَرَّتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَأُخِذَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا وَالْمِيرَاثِ، وَأَمَّا إِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أَوْ مَاتَ مُعْسِرًا، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْهَا.الثَّانِي: لِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ الْعَاقِلَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا يَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ شَيْءٌ مِمَّا ضُرِبَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، إِذْ هِيَ مَالٌ يَجِبُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، فَأَشْبَهَ الزَّكَاةَ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ.
الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا ضُرِبَ عَلَى فَرْدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ، وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ حِينَ لَزِمَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَكُونُ دَيْنًا يُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ، وَحَتَّى مَا كَانَ مُؤَجَّلًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ بِمَوْتِهِ.
ط- الْفِعْلُ الضَّارُّ:
60- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ أَلْحَقَ بِغَيْرِهِ ضَرَرًا يَسْتَوْجِبُ ضَمَانًا مَالِيًّا، فَإِنَّهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ تَأْدِيَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ، بَلْ يَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ، كَسَائِرِ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دَيْنٌ ف 20).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
36-موسوعة الفقه الكويتية (نذر 7)
نَذْرٌ -7أَوَّلًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ قَبْلَ أَدَائِهِ:
مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ وَمَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ، أَوْ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ.
أ- مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهِ:
65- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، بِأَنْ مَاتَ قَبْلَ حَجِّ النَّاسِ مِنْ سَنَةِ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَلَا يُؤَدَّى عَنْهُ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهِ، فَإِنْ وَصَّى بِهِ حُجَّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ أَوِ الْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَ بِالْحَجِّ عَنْهُ بِمَالِهِ (أَيْ بِمَالِ الْوَارِثِ أَوِ الْوَلِيِّ).قَالَ بِهِ: ابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِالنَّذْرِ قَدْ مَاتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ، فَسَقَطَ عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ وَبِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَتَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَبِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الِاخْتِيَارِ، وَذَلِكَ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ، لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، وَالْإِيصَاءَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، وَلِأَنَّ الْحَجَّ فِعْلٌ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الْأَفْعَالُ بِالْمَوْتِ، فَصَارَ الْحَجُّ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي حَقِّ الدُّنْيَا، فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ تَبَرُّعًا، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهِ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ، إِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَتَطَوَّعُ بِالْحَجِّ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهم-، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتِهِ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» وَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ الَّذِي وَجَبَ عَلَى هَذَا النَّاذِرِ، حَتَّى اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ كَالدَّيْنِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّ هَذَا الْحَجَّ الْمَنْذُورَ دَيْنٌ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ النَّاذِرِ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فَكَانَ مِنْ جَمِيعِ مَا تَرَكَ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.
ب- مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ:
66- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، بِأَنْ يُخْرَجَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُؤَدَّى بِهِ ذَلِكَ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهم-، وَقَالَ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ لَمْ يُخَلِّفْ مَالًا يُحَجُّ مِنْهُ النَّذْرُ، فَلَا يَلْزَمُ الْوَارِثَ الْحَجُّ عَنْهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ بِنَفْسِهِ أَوِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ أَجْزَأَ عَنِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَإِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ» وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ «امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتِهِ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْهُ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا حَجٌّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ فَقَالَ: هَلْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ فَمَا صَنَعْتِ؟ قَالَتْ: قَضَيْتُهُ عَنْهَا، قَالَ: فَاللَّهُ خَيْرُ غُرَمَائِكِ، حُجِّي عَنْ أُمِّكِ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ قَضَى عَنْهُ وَلِيُّهُ وَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ الَّذِي أَوْجَبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ حَقٌّ لَزِمَهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الْحَجَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ النَّاذِرِ دَيْنٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَكَانَ مِنْ رَأْسِ مَالِ تَرِكَتِهِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ، إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِأَدَائِهِ عَنْهُ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ حُجَّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْحَجِّ عَنْهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، قَالَ بِهِ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَلَوْ كُنْتُ أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ لَتَصَدَّقْتُ وَأَهْدَيْتُ وَبِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَتَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَبِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ إِجْزَاءِ الْعِبَادَةِ، لِيَتَحَقَّقَ أَدَاءُ الْمُكَلَّفِ لَهَا اخْتِيَارًا مِنْهُ، فَيَظْهَرُ اخْتِيَارُهُ الطَّاعَةَ مِنِ اخْتِيَارِهِ الْمَعْصِيَةَ، الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّكْلِيفِ، وَفِعْلُ الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْمُبْتَلَى بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُحَقِّقُ اخْتِيَارَهُ، بَلْ إِنَّهُ لَمَّا مَاتَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَلَا أَمْرٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ عِصْيَانُهُ، بِخُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ بِغَيْرِ امْتِثَالٍ لِمَا كُلِّفَ بِهِ، وَهَذَا يُقَرِّرُ عَلَيْهِ مُوجِبَ الْعِصْيَانِ، فَلَيْسَ فِعْلُ الْوَارِثِ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هِيَ الْأَفْعَالُ، لِأَنَّهَا الَّتِي تُظْهِرُ الطَّاعَةَ وَالِامْتِثَالَ، وَقَدْ سَقَطَتِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا بِالْمَوْتِ، لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ الْإِيصَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُ الْأَفْعَالِ تَبَرُّعًا مِنَ الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ.
ثَانِيًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الصِّيَامَ قَبْلَ أَدَائِهِ:
67- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يُصَامُ عَنْهُ أَوْ يُطْعَمُ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مَنْذُورٌ فَلَا يُصَامُ عَنْهُ وَإِنَّمَا يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهما-، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا أَوْصَى النَّاذِرُ بِهِ، وَتُخْرَجُ فِدْيَةُ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْوَارِثَ إِخْرَاجُ الْفِدْيَةِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فَقَطْ، فَإِنْ تَبَرَّعَ وَلِيُّهُ بِهَا عَنْهُ جَازَ وَأَجْزَأَهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ النَّاذِرُ لِلصِّيَامِ صَحِيحًا مُقِيمًا عِنْدَ النَّذْرِ، فَإِنْ نَذَرَ الصِّيَامَ فِي أَثْنَاءِ مَرَضِهِ أَوْ سَفَرِهِ وَاسْتَمَرَّ مَرَضُهُ أَوْ سَفَرُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَيْسَتْ لَهُ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْتِزَامِ أَدَاءِ الصَّوْمِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ لَا يَلْتَزِمُ بِالصِّيَامِ حَتَّى يُقِيمَ، فَإِنْ بَرَأَ الْمَرِيضُ يَوْمًا وَاحِدًا، أَوْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ وَلَوْ لِيَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَصُمْ أَيٌّ مِنْهُمَا فَقَدْ لَزِمَهُ جَمِيعُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوِ الْإِقَامَةِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلنَّذْرِ، إِذِ الصَّحِيحُ لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ فَمَاتَ بَعْدَ يَوْمٍ لَزِمَهُ صَوْمُ جَمِيعِ الشَّهْرِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ مِنَ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ بِقَدْرِ مَا صَحَّ وَأَقَامَ مِنْ أَيَّامٍ، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مِنَ الْأَيَّامِ مَا يُمْكِنُهُ الْوَفَاءُ فِيهِ بِمَا نَذَرَ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا أَدْرَكَ، فَيُخْرِجُ الْوَلِيُّ الْفِدْيَةَ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ إِنْ أَوْصَى النَّاذِرُ بِذَلِكَ، وَيُجْبَرُ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ، إِذَا أَوْصَى أَنْ يُوَفَّى عَنْهُ، وَالْقَوْلُ بِالْإِطْعَامِ عَمَّنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مَنْذُورٌ هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ أَشْهَرُ قَوْلَيْهِ وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ، هَذَا إِذَا كَانَ قَدْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الصِّيَامِ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، فَأَمَّا إِذَا مَاتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الصِّيَامِ فَلَا يُصَامُ وَلَا يُطْعَمُ عَنْهُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ» وَحَكَى الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالْمَاوَرْدِيُّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ عَنِ الْمَيِّتِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ»، بَعْدَ أَنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حَدِيثَ الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ وَهُوَ: «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ صِيَامٍ مَنْذُورٍ مَاتَتْ أُمُّهَا قَبْلَ أَدَائِهِ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَصُومَ عَنْهَا» وَمِنْهُمْ أَيْضًا عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: لَا تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وَأَطْعِمُوا عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حَدِيثَ الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَفَتْوَى الرَّاوِي عَلَى خِلَافِ مَرْوِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِ الْمَنَاطِ عَنْ الِاعْتِبَارِ، وَلِهَذَا فَقَدِ اشْتُرِطَ فِي الْقِيَاسِ: أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَنْسُوخًا، لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْجَامِعِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ إِبْطَالَ اعْتِبَارِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَاسْتَمَرَّ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ مِثْلُ ذَلِكَ عُمَرُ- رضي الله عنه- - قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: لَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ- رضي الله عنهم- بِالْمَدِينَةِ، أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ، أَوْ يُصَلِّيَ عَنْ أَحَدٍ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ النَّسْخَ وَأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ آخِرًا وَأَضَافُوا: إِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ لَا تَدْخُلُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْعِبَادَةِ كَوْنُهَا شَاقَّةً عَلَى بَدَنِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِأَدَاءِ نَائِبِهِ عَنْهُ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، لِأَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ، فَتَقُومُ الْفِدْيَةُ مَقَامَهُ، كَمَا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ، وَذَلِكَ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ، لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، ثُمَّ هُوَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ الصَّوْمَ فِعْلٌ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الْأَفْعَالُ بِالْمَوْتِ، فَصَارَ الصَّوْمُ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي حَقِّ الدُّنْيَا، فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَدَاءِ الْفِدْيَةِ تَبَرُّعًا
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مَنْذُورٌ، فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَصُومُهُ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَطَاوُسٍ، وَقَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي مَذْهَبِهِ الْقَدِيمِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ بِصِحَّتِهِ، وَتَابَعَهُ فِي الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، إِلاَّ أَنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ: إِنَّمَا يُصَامُ عَنِ النَّاذِرِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الصِّيَامِ وَلَمْ يَصُمْ، فَأَمَّا إِذَا مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الصِّيَامِ فَلَا يُصَامُ وَلَا يُطْعَمُ عَنْهُ، وَقَالَ: مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ النَّذْرِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَالِيٍّ، أَوْ كَانَ مَالِيًّا وَلَمْ يَتْرُكِ الْمَيِّتُ مَالًا يُقْضَى مِنْهُ النَّذْرُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْوَارِثِ قَضَاؤُهُ عَنْهُ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَصُومَ عَنِ الْمَيِّتِ إِنْ لَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الصِّلَةِ لَهُ وَالْمَعْرُوفِ لِتَفْرَغَ ذِمَّتُهُ مِنْهُ، وَالْأَوْلَى- كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ- أَنْ يَقْضِيَ النَّذْرَ عَنْهُ وَارِثُهُ، فَإِنْ قَضَاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَجْزَأَ عَنْهُ، كَمَا لَوْ قَضَى عَنْهُ دَيْنَهُ، فَإِنْ خَلَّفَ تَرِكَةً وَجَبَ صِيَامُ النَّذْرِ عَنْهُ، كَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَصُومَ عَنِ الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَجَبَ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ تَرِكَتِهِ إِلَى مَنْ يَصُومُ عَنْهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ طَعَامَ مِسْكِينٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِدْيَةٌ، وَيُجْزِئُ صَوْمُ غَيْرِ الْوَلِيِّ سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الْوَلِيُّ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ» وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ وَهِيَ فِي الْبَحْرِ، إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ أَنْ تَصُومَ شَهْرًا، فَأَنْجَاهَا اللَّهُ، وَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصُومَ، فَجَاءَتْ ذَاتُ قُرَابَةٍ لَهَا إِمَّا أُخْتُهَا أَوِ ابْنَتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: صُومِي عَنْهَا» وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ صَوْمُ شَهْرٍ، وَعَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: أَمَّا رَمَضَانُ فَيُطْعَمُ عَنْهُ، وَأَمَّا النَّذْرُ فَيُصَامُ عَنْهُ وَبِأَنَّ الصَّوْمَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ النِّيَابَةَ، إِلاَّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النِّيَابَةَ تَدْخُلُ الْعِبَادَةَ بِحَسَبِ خِفَّتِهَا، وَالنَّذْرُ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، لِكَوْنِ النَّذْرِ لَمْ يَجِبْ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ
ثَالِثًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الِاعْتِكَافَ قَبْلَ فِعْلِهِ:
68- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ لَمْ يَفْعَلْهُ حَتَّى مَاتَ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَاتٍ ثَلَاثَةٍ:
الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَعْتَكِفُ عَنْهُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم- وَقَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّ اعْتِكَافَ الْوَلِيِّ عَنِ الْمَيِّتِ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ فِعْلُهُ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الصِّلَةِ لَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهُ وَارِثُهُ، فَإِنْ قَضَاهُ عَنْهُ غَيْرُ الْوَارِثِ أَجْزَأَ النَّاذِرَ، كَمَا لَوْ قَضَى عَنْهُ دَيْنَهُ، إِذِ النَّذْرُ شَبِيهٌ بِالدَّيْنِ، وَلِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ الْوَارِثُ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، وَغَيْرُهُ مِثْلُهُ فِي التَّبَرُّعِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدَهُ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أُمَّهُ نَذَرَتِ اعْتِكَافًا فَمَاتَتْ وَلَمْ تَعْتَكِفْ، فَسَأَلَ إِخْوَتُهُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: اعْتَكِفْ عَنْهَا وَصُمْ وَأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الصِّيَامُ عَنِ الْمَيِّتِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ كَفٌّ وَمَنْعٌ
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ يُطْعَمُ عَنْهُ، وَلَا يُعْتَكَفُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ إِنْ أَوْصَى النَّاذِرُ بِذَلِكَ، وَيُجْبَرُ الْوَارِثُ عَلَى إِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْوَارِثُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ إِيجَابُ الِاعْتِكَافِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ نَذَرَ الِاعْتِكَافَ، وَلَمْ يَبْرَأْ حَتَّى مَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَيْسَ لَهُ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ الِاعْتِكَافِ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا ثُمَّ مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ عَنْ جَمِيعِ الْأَيَّامِ الَّتِي نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُطْعَمُ عَنْهُ بِعَدَدِ مَا صَحَّ مِنْ أَيَّامٍ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَيُطْعِمُ الْوَلِيُّ وَفْقًا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنِ اعْتِكَافِ يَوْمٍ بِلَيْلَتِهِ مُدًّا وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الِاعْتِكَافَ فَرْعٌ عَنِ الصَّوْمِ، وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْمَيِّتِ بِالنَّذْرِ تُجْزِئُ فِيهِ الْفِدْيَةُ، فَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ يُجْزِئُ فِيهِ ذَلِكَ إِذَا أَوْصَى بِهِ.وَبِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا يَظْهَرُ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ، لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عَنِ الْمَيِّتِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَصَارَ الِاعْتِكَافُ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي حَقِّ الدُّنْيَا، فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَدَاءِ الْفِدْيَةِ عَنْهُ تَبَرُّعًا، فَيُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ
الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ، فَلَا يُعْتَكَفُ عَنْهُ، وَلَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، وَلَا يُطْعَمُ عَنْهُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الِاعْتِكَافُ بِالْفِدْيَةِ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَغَيْرِهِ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنِ الشَّارِعِ مَا يُفِيدُ جَوَازَ الِاعْتِكَافِ عَمَّنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ، وَلَا تُجْزِئُهُ الْفِدْيَةُ عَنْ هَذَا الِاعْتِكَافِ، لِعَدَمِ وُرُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِجْزَاءِ الْفِدْيَةِ عَنْهُ
رَابِعًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ قَبْلَ أَدَائِهَا:
69- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ مَنْذُورَةٌ، لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ مَنْذُورَةٌ فَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَوْ غَيْرِهِ فِعْلُهَا عَنْهُ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْفِدْيَةِ، بِاسْتِثْنَاءِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، فَإِنَّهُمَا تُصَلَّيَانِ عَنِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُحَجُّ أَوْ يُعْتَمَرُ عَنْهُ إِنْ قِيلَ بِجَوَازِ النِّيَابَةِ عَنْهُ فِيهِمَا، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا تُنَفَّذُ عِنْدَهُمْ وَصِيَّتُهُ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ حَكَى الْعَيْنِيُّ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَنِ الْمَيِّتِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: حُكِيَ فِي الصَّلَاةِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَنِ الْمَيِّتِ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فَرْضًا وَلَا سُنَّةً، لَا عَنْ حَيٍّ وَلَا عَنْ مَيِّتٍ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ أَوْ يُصَلِّيَ عَنْ أَحَدٍ وَبِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا بَدَلَ لَهَا بِحَالٍ، فَلَا يَقُومُ فِيهَا فِعْلُ النَّائِبِ مَقَامَ فِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ وَبِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ الِابْتِلَاءُ وَالْمَشَقَّةُ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِإِتْعَابِ النَّفْسِ وَالْجَوَارِحِ بِالْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ، وَبِفِعْلِ النَّائِبِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمَشَقَّةُ عَلَى نَفْسِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَجُزِ النِّيَابَةُ فِيهَا مُطْلَقًا
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ مَنْذُورَةٌ أَدَّاهَا وَلِيُّهُ عَنْهُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَقَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَعَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَذَهَبَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْوَارِثَ يُصَلِّي عَنِ الْمَيِّتِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِوَلِيِّ الْمَيِّتِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنْ صَلَاةٍ نَذَرَ أَدَاءَهَا وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ، وَذَلِكَ صِلَةٌ لَهُ وَإِبْرَاءٌ لِذِمَّتِهِ مِنْهَا وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ يَقْضِيهِ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدَهُ» وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى جَوَازِ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ، وَالصِّيَامِ عَنْهُ وَنَحْوِهَا، إِذْ جَاءَ فِيهَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فَاقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» وَهَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ هِيَ دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ، فَيُجْزِئُهُ قَضَاءُ وَلِيِّهِ عَنْهُ ذَلِكَ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ أَمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلَاةً بِقُبَاءَ، فَقَالَ: صَلِّي عَنْهَا وَأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قَضَاءُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ بِالنَّصِّ، فَيَجُوزُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا دَيْنٌ وَجَبَ عَلَى الْمَيِّتِ، فَيُقْضَى عَنْهُ كَبَقِيَّةِ دُيُونِهِ وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ خَامِسًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ قَبْلَ أَدَائِهَا:
70- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ صَدَقَةً وَمَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا، عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَدَقَةً وَمَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا أَدَّاهَا وَلِيُّهُ عَنْهُ مِنَ التَّرِكَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَقَالُوا: إِنَّ أَدَاءَ الْوَلِيِّ هَذَا النَّذْرَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى سَبِيلِ الصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ، وَتَبْرِئَةً لِذِمَّةِ الْمَيِّتِ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ مِائَةُ رَقَبَةٍ، فَأَعْتَقَ ابْنُهُ هِشَامٌ خَمْسِينَ رَقَبَةً، فَأَرَادَ ابْنُهُ عَمْرٌو أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ الْخَمْسِينَ الْبَاقِيَةَ فَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي أَوْصَى بِعِتْقِ مِائَةِ رَقَبَةٍ، وَإِنَّ هِشَامًا أَعْتَقَ عَنْهُ خَمْسِينَ، وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ رَقَبَةً، أَفَأُعْتِقُ عَنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ» وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ تَقْضِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: اقْضِهِ عَنْهَا.فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدَهُ»
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ مَنْذُورَةٌ، فَلَا تُؤَدَّى عَنْهُ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ، وَكَانَتْ لَهُ تَرِكَةٌ تُؤَدَّى مِنْهَا، فَإِنْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا كَانَتْ وَصِيَّةً وَأُخْرِجَتْ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا سَقَطَتْ عَنْهُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ أَدَاؤُهَا مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ أَوْ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكَالِيفِ الِابْتِلَاءُ وَالْمَشَقَّةُ، وَهَذَا يَتَأَتَّى فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ الْمَحْبُوبِ لِلنَّفْسِ بِإِيصَالِهِ إِلَى الْفَقِيرِ، وَهَذَا الْمَالُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا بِالْمَوْتِ، لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ الْإِيصَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُهَا تَبَرُّعًا مِنَ الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً، فَيُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
37-موسوعة الفقه الكويتية (نشوز 1)
نُشُوزٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- النُّشُوزُ فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّشْزِ، وَهُوَ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، كَالنَّشَازِ وَالنَّشَزِ، يُقَالُ: نَشَزَ الشَّيْءُ نَشْزًا وَنُشُوزًا: ارْتَفَعَ، وَنَشَزَتِ الْمَرْأَةُ تَنْشُزُ: عَصَتْ زَوْجَهَا وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ.وَيُقَالُ: نَشَزَ بِهِ وَمِنْهُ وَعَلَيْهِ، فَهُوَ نَاشِزٌ، وَهِيَ نَاشِزٌ وَنَاشِزَةٌ، وَالْجَمْعُ نَوَاشِزُ.قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: النُّشُوزُ يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ: كَرَاهَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ النَّشْزِ وَهُوَ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَنَشَزَتِ الْمَرْأَةُ بِزَوْجِهَا عَلَى زَوْجِهَا: ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِ وَأَبْغَضَتْهُ وَخَرَجَتْ عَنْ طَاعَتِهِ وَفَرَكَتْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}.نُشُوزُ الْمَرْأَةِ: اسْتِعْصَاؤُهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَنَشَزَ هُوَ عَلَيْهَا نُشُوزًا كَذَلِكَ، وَضَرَبَهَا وَجَفَاهَا وَأَضَرَّ بِهَا وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَإِنِامْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}.وَالنُّشُوزُ فِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: خُرُوجُ الزَّوْجَةِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: خُرُوجُ الزَّوْجَةِ عَنِ الطَّاعَةِ الْوَاجِبَةِ لِلزَّوْجِ وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ النُّشُوزَ بِمَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيِّ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَلَا عَكْسَ، وَصَرَّحَ آخَرُونَ بِأَنَّ النُّشُوزَ كَمَا يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجِ.قَالَ الشَّرْقَاوِيُّ: إِنَّ النُّشُوزَ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَمِنَ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ إِطْلَاقُ النُّشُوزِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَقَالَ الْبَهْوَتِيُّ: يُقَالُ: نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا فَهِيَ نَاشِزَةٌ وَنَاشِزٌ، وَنَشَزَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا: جَفَاهَا وَأَضَرَّ بِهَا الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الطَّاعَةُ:
2- الطَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ: الِانْقِيَادُ وَالْمُوَافَقَةُ، وَفِي التَّهْذِيبِ: طَاعَ لَهُ: إِذَا انْقَادَ لَهُ، فَإِذَا مَضَى لِأَمْرِهِ فَقَدْ أَطَاعَهُ، فَإِذَا وَافَقَهُ فَقَدْ طَاوَعَهُ، وَطَاوَعَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا طَوَاعِيَةً وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الطَّاعَةُ هِيَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ طَوْعًا.قَالَ الرَّاغِبُ: أَكْثَرُ مَا تُقَالُ الطَّاعَةُ فِي الِائْتِمَارِ لِمَا أَمَرَ وَالِارْتِسَامِ فِيمَا رَسَمَ وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّشُوزِ وَالطَّاعَةِ التَّضَادُّ.
ب- الْإِعْرَاضُ:
3- مِنْ مَعَانِي الْإِعْرَاضِ فِي اللُّغَةِ: الصَّدُّ، يُقَالُ: أَعْرَضَ عَنِ الشَّيْءِ: صَدَّ وَوَلَّى، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}.وَيُقَالُ: أَعْرَضْتُ عَنْهُ: أَضْرَبْتُ وَوَلَّيْتُ عَنْهُ.قَالَ الرَّاغِبُ: الْعَرْضُ خُصَّ بِالْجَانِبِ، وَعَرَضَ الشَّيْءُ: بَدَا عَرْضُهُ، وَأَعْرَضَ: أَظْهَرَ عَرْضَهُ أَيْ نَاحِيَتَهُ، فَإِذَا قِيلَ: أَعْرَضَ عَنِّي فَمَعْنَاهُ: وَلَّى مُبْدِيًا عَرْضَهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ أَنَّ الْإِعْرَاضَ يَكُونُ أَمَارَةً مِنْ أَمَارَاتِ النُّشُوزِ.
ج- الْبُغْضُ:
4- الْبُغْضُ هُوَ: الْكُرْهُ وَالْمَقْتُ، يُقَالُ: بَغَضَ الشَّيْءَ بُغْضًا: كَرِهَهُ وَمَقَتَهُ، وَأَبْغَضَهُ: كَذَلِكَ، وَبَغُضَ الشَّيْءُ بُغْضًا، وَبَغِضَ الشَّيْءُ بَغَاضَةً وَبِغْضَةً: صَارَ مَمْقُوتًا كَرِيهًا، وَبَاغَضَهُ: جَزَاهُ بُغْضًا بِبُغْضٍ.وَالْبَغْضَاءُ: شِدَّةُ الْبُغْضِ، قَالَ الْبَرَكَتِيُّ: وَهِيَ فِي الْقَلْبِ.وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْبُغْضُ نِفَارُ النَّفْسِ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي تَرْغَبُ عَنْهُ، وَهُوَ ضِدُّ الْحُبِّ وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّشُوزِ وَالْبُغْضِ هِيَ أَنَّ الْبُغْضَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النُّشُوزِ، وَأَمَارَةٌ عَلَيْهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلنُّشُوزِ:
5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ نُشُوزَ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَرَامٌ، لِمَا وَرَدَ فِي تَعْظِيمِ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهَا لَهُ وَمِنْهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِامْرَأَةٍ: «أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: انْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ فَإِنَّهُ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ» وَلِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا».
وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ عَلَى حُرْمَةِ نُشُوزِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا بِمَا وَرَدَ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِمَنْ تَنْشُزُ عَلَى زَوْجِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ»
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الصَّالِحَاتِ مِنَ النِّسَاءِ قَانِتَاتٌ أَيْ: مُطِيعَاتٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}.قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُنَّ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ أَيْ: يَحْفَظْنَ أَزْوَاجَهُنَّ فِي غَيْبَتِهِمْ فِي أَنْفُسِهِنَّ وَأَمْوَالِهِمْ بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعُونَتِهِ وَتَسْدِيدِهِ
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} هَذَا خَبَرٌ، وَمَقْصُودُ الْأَمْرِ بِطَاعَةِ الزَّوْجِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ فِي مَالِهِ وَفِي نَفْسِهَا فِي حَالِ غَيْبَةِ الزَّوْجِ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.الْآيَةَ».
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: عَدُّ النُّشُوزِ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ، أَيْ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَمْ يُرِدِ الشَّيْخَانِ بِقَوْلِهِمَا: امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ كَبِيرَةٌ خُصُوصَهُ، بَلْ نَبَّهَا بِهِ عَلَى سَائِرِ صُوَرِ النُّشُوزِ
مَا يَكُونُ بِهِ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ:
6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ عَلَى نُشُوزِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا نَفَقَةَ لِلنَّاشِزَةِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ مِنْ جِهَتِهَا وَهُوَ النُّشُوزُ، وَالنُّشُوزُ قَدْ يَكُونُ فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْعِدَّةِ.
فَأَمَّا النُّشُوزُ فِي النِّكَاحِ فَهُوَ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنَ الزَّوْجِ بِغَيْرِ حَقٍّ خَارِجَةً مِنْ مَنْزِلِهِ، بِأَنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَغَابَتْ أَوْ سَافَرَتْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي مَنْزِلِهِ وَمَنَعَتْ نَفْسَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّهِ مُنْتَفَعٌ بِهَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا، فَكَانَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ حَاصِلًا.
وَجَاءَ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ: وَشَمَلَ النُّشُوزُ بِخُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِهِ الْخُرُوجَ الْحُكْمِيَّ، كَأَنْ كَانَ الْمُنْزِلُ لَهَا فَمَنَعَتْهُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا، فَهِيَ كَالْخَارِجَةِ مَا لَمْ تَكُنْ سَأَلَتْهُ النَّقْلَةَ- بِأَنْ قَالَتْ لَهُ: حَوِّلْنِي إِلَى مَنْزِلِكَ، أَوِ اكْتَرِ لِي مَنْزِلًا فَإِنِّي مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَنْزِلِي هَذَا آخُذُ كِرَاءَهُ- فَلَهَا النَّفَقَةُ حِينَئِذٍ.
وَلَوْ كَانَ فِي الْمَنْزِلِ شُبْهَةٌ- كَبَيْتِ السُّلْطَانِ- فَامْتَنَعَتْ مِنْهُ فَهِيَ نَاشِزَةٌ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ فِي زَمَانِنَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ الْغَصْبِ لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الْمَغْصُوبِ حَرَامٌ، وَالِامْتِنَاعَ عَنِ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ الِامْتِنَاعِ عَنِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُ مَنْدُوبٌ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَقُّ الزَّوْجِ الْوَاجِبُ.
وَلَوْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، أَوْ عَكْسَهُ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِنَقْصِ التَّسْلِيمِ، قَالَ فِي الْمُجْتَبَى: وَبِهِ عُرِفَ جَوَابُ وَاقِعَةٍ فِي زَمَانِنَا أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ مِنَ الْمُحْتَرِفَاتِ الَّتِي تَكُونُ بِالنَّهَارِ فِي مَصَالِحِهَا وَبِاللَّيْلِ عِنْدَهُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، قَالَ فِي النَّهْرِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَجْهُهُ- كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ- أَنَّهَا مَعْذُورَةٌ لِاشْتِغَالِهَا بِمَصَالِحِهَا، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا لَا عُذْرَ لَهَا فَنَقْصُ التَّسْلِيمِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ عَصَتْهُ وَخَرَجَتْ بِلَا إِذْنٍ كَانَتْ نَاشِزَةً مَا دَامَتْ خَارِجَةً، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا لَمْ تَكُنْ نَاشِزَةً
وَالنُّشُوزُ فِي الْعِدَّةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ مُرَاغَمَةً لِزَوْجِهَا، أَوْ تَخْرُجَ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا.وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ كَانَتْ تَبْذُو عَلَى أَحْمَائِهَا، فَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ «أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرٍو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَسْتَفْتِيهِ فِي خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَأَبَى مَرْوَانُ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِي خُرُوجِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ بَيْتِهَا، وَقَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ» وَلِأَنَّ الْإِخْرَاجَ كَانَ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا خَرَجَتْ بِنَفْسِهَا مُرَاغَمَةً لِزَوْجِهَا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مِمَّا يَكُونُ بِهِ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ مَنْعُهَا زَوْجَهَا مِنَ الْوَطْءِ أَوِ الِاسْتِمْتَاعِ- فِي الْمَشْهُورِ- وَخُرُوجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا لِمَحَلٍّ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَأْذَنُ فِيهِ أَوْ لَا يُحِبُّ خُرُوجَهَا إِلَيْهِ، وَعَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ مَنْعِهَا ابْتِدَاءً ثُمَّ عَنْ رَدِّهَا لِمَحَلِّ طَاعَتِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى مَنْعِهَا ابْتِدَاءً أَوْ عَلَى رَدِّهَا بِصُلْحِهَا أَوْ بِحَاكِمٍ فَلَا تَكُونُ نَاشِزًا، وَيَكُونُ النُّشُوزُ كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى كَالْغُسْلِ أَوِ الصَّلَاةِ أَوْ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَبِإِغْلَاقِهَا الْبَابَ دُونَهُ، وَبِأَنْ تَخُونَهُ فِي نَفْسِهَا أَوْ مَالِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِمَّا يَكُونُ بِهِ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ خُرُوجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا مِنَ الْمَنْزِلِ لَا إِلَى الْقَاضِي لِطَلَبِ الْحَقِّ مِنْهُ، وَلَا إِلَى اكْتِسَابِ النَّفَقَةِ إِذَا أَعْسَرَ بِهَا الزَّوْجُ، وَلَا إِلَى اسْتِفْتَاءٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا فَقِيهًا وَلَمْ يَسْتَفْتِ لَهَا، وَلَا إِلَى الطَّحْنِ أَوِ الْخُبْزِ أَوْ شِرَاءِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، أَوِ الْخَوْفِ مِنَ انْهِدَامِ الْمَنْزِلِ، أَوْ جَلَاءِ مَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْجِيرَانِ فِي غَيْبَةِ الزَّوْجِ، أَوِ انْقِضَاءِ إِجَارَةِ الْمَنْزِلِ أَوْ رُجُوعِ مُعِيرِهِ، وَكَذَا لَوْ خَرَجَتْ لِحَاجَتِهَا فِي الْبَلَدِ بِإِذْنِهِ كَأَنْ تَكُونَ بَلاَّنَةً أَوْ مَاشِطَةً أَوْ دَايَةً تُوَلِّدُ النِّسَاءَ، فَلَا تُعْتَبَرُ نَاشِزَةً بِذَلِكَ.
وَتَكُونُ الزَّوْجَةُ نَاشِزَةً كَذَلِكَ بِإِغْلَاقِهَا الْبَابَ فِي وَجْهِ زَوْجِهَا، وَعَدَمِ فَتْحِهَا الْبَابَ لِيَدْخُلَ وَكَانَ قَفْلُهُ مِنْهَا، وَبِمَنْعِهِ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ، وَحَبْسِهَا زَوْجَهَا، وَدَعْوَاهَا طَلَاقًا، وَكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً عَنْ غَيْرِهِ كَوَطْءِ شُبْهَةٍ.
وَتَكُونُ نَاشِزَةً بِمَنْعِهَا الزَّوْجَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا حَيْثُ لَا عُذْرَ، لَا مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ تَدَلُّلًا، وَيَدْخُلُ فِي الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي تَنْشُزُ بِهِ الْمَنْعُ مِنْ نَحْوِ قُبْلَةٍ- وَإِنْ مَكَّنَتْهُ مِنَ الْجِمَاعِ- حَيْثُ لَا عُذْرَ فِي امْتِنَاعِهَا مِنْهُ، فَإِنْ عُذِرَتْ كَأَنْ كَانَ بِهِ صُنَانٌ مُسْتَحْكِمٌ- مَثَلًا- وَتَأَذَّتْ بِهِ تَأَذِّيًا لَا يُحْتَمَلُ لَمْ تَعُدْ نَاشِزَةً، وَتُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى كَذِبِهَا.
وَقَالُوا: إِنَّ شَتْمَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا وَإِيذَاءَهَا لَهُ بِنَحْوِ لِسَانِهَا لَا يَكُونُ نُشُوزًا، بَلْ تَأْثَمُ بِهِ وَتَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ عَلَيْهِ.
وَيَكُونُ النُّشُوزُ كَذَلِكَ إِذَا دَعَا الزَّوْجُ نِسَاءَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ الَّذِي أَعَدَّهُ لِإِتْيَانِهِنَّ فِيهِ، فَتَمْتَنِعُ إِحْدَاهُنَّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ دَعَا إِحْدَاهُنَّ لِمَنْزِلِ ضَرَّتِهَا فَلَا يُعَدُّ امْتِنَاعُهَا نُشُوزًا، وَمَحَلُّ كَوْنِ امْتِنَاعِهَا نُشُوزًا عِنْدَ دُعَائِهَا لِمَنْزِلِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ شَرِيفَةً، وَإِلاَّ فَلَا يُعَدُّ نُشُوزًا حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي بَيْتٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ عُدَّ ذَلِكَ نُشُوزًا.
وَتُعَدُّ الزَّوْجَةُ نَاشِزَةً إِذَا سَافَرَتْ بِدُونِ زَوْجِهَا بِلَا إِذْنِهِ، أَوْ بِإِذْنٍ لِغَيْرِ حَاجَتِهِ بِأَنْ كَانَ لِحَاجَتِهَا، أَوْ لِحَاجَةِ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ لِحَاجَتِهِمَا، أَوْ لَا لِحَاجَةٍ كَنُزْهَةٍ.
وَلَوْ سَافَرَتِ الزَّوْجَةُ مَعَ الزَّوْجِ- وَلَوْ بِلَا إِذْنٍ- فَلَا تَكُونُ نَاشِزَةً إِنْ لَمْ يَنْهَهَا، فَإِنْ نَهَاهَا كَانَتْ نَاشِزَةً، سَوَاءٌ أَقْدَرَ عَلَى رَدِّهَا أَمْ لَا.نَعَمْ، إِنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا لَا تَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا نَاشِزَةً؛ لِأَنَّ اسْتِمْتَاعَهُ بِهَا رِضًا بِمُصَاحَبَتِهَا لَهُ.
وَلَوِ ارْتَحَلَتْ لِخَرَابِ الْبَلَدِ وَارْتَحَلَ أَهْلُهَا، وَاقْتَصَرَتْ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ لَا تُعَدُّ نَاشِزَةً.وَقَالُوا: مِنْ أَمَارَاتِ نُشُوزِ الزَّوْجَةِ قَوْلًا أَنْ تُجِيبَ زَوْجَهَا بِكَلَامٍ خَشِنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تُجِيبُهُ بِكَلَامٍ لَيِّنٍ، فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ الْخَشِنُ عَادَتَهَا لَمْ يَكُنْ نُشُوزًا إِلاَّ إِنْ زَادَ. وَمِنْ أَمَارَاتِ نُشُوزِهَا فِعْلًا أَنْ يَجِدَ مِنْهَا إِعْرَاضًا وَعُبُوسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلاَّ عَنْ كَرَاهَةٍ، وَبِذَلِكَ فَارَقَ السَّبَّ وَالشَّتْمَ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِسُوءِ الْخُلُقِ، لَكِنْ لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُهَا عَلَيْهِ وَلَوْ بِلَا حَاكِمٍ
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: أَمَارَاتُ النُّشُوزِ مِثْلُ أَنْ تَتَثَاقَلَ أَوْ تَتَدَافَعَ إِذَا دَعَاهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ، وَلَا تَصِيرُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِتَكَرُّهٍ وَدَمْدَمَةٍ، أَوْ تُجِيبُهُ مُتَبَرِّمَةً مُتَكَرِّهَةً، وَيَخْتَلُّ أَدَبُهَا فِي حَقِّهِ.
وَيَكُونُ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا بِأَنْ تَعْصِيَهُ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَةٍ، وَتَمْتَنِعَ مِنْ فِرَاشِهِ، أَوْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
أَثَرُ النُّشُوزِ عَلَى النَّفَقَةِ:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِنُشُوزِهَا.فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَحَمَّادٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ النَّاشِزَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ تَمْكِينِهَا لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ، وَإِذَا مَنَعَهَا النَّفَقَةَ كَانَ لَهَا مَنْعُهُ التَّمْكِينَ، فَإِذَا مَنَعَتْهُ التَّمْكِينَ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ النَّفَقَةِ كَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ النَّفَقَةَ لَا تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ، وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِأَنَّ نُشُوزَهَا لَا يُسْقِطُ مَهْرَهَا فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهَا
وَلِلْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ بِالنُّشُوزِ تَفْصِيلٌ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا نَفَقَةَ لِلْنَاشِزَةِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا وَهُوَ النُّشُوزُ.وَالنُّشُوزُ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: نُشُوزٌ فِي النِّكَاحِ وَنُشُوزٌ فِي الْعِدَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَتَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ النَّفَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ لَا الْمُسْتَدَانَةُ فِي الْأَصَحِّ، أَيْ إِذَا كَانَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَشْهُرٍ مَفْرُوضَةٌ ثُمَّ نَشَزَتْ سَقَطَتْ تِلْكَ الْأَشْهُرُ الْمَاضِيَةُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَمَرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ فَاسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَسُقُوطُ الْمَفْرُوضَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ، أَمَّا الْمُسْتَدَانَةُ فَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي سُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ، وَالْأَصَحُّ مِنْهُمَا عَدَمُ السُّقُوطِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهَا لَوْ عَادَتْ إِلَى بَيْتِهِ لَا يَعُودُ مَا سَقَطَ، وَهَلْ يَبْطُلُ الْفَرْضُ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِهِ بَعْدَ الْعَوْدِ إِلَى بَيْتِهِ أَمْ لَا؟ الظَّاهِرُ عَدَمُ بُطْلَانِهِ، لِأَنَّ كَلَامَهُمْ فِي سُقُوطِ الْمَفْرُوضِ لَا الْفَرْضِ.
وَاتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ النَّاشِزِ لَا تَسْقُطُ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ لِلْحَمْلِ، وَكَذَا إِذَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً رَجْعِيًّا وَخَرَجَتْ بِلَا إِذْنٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ نَفَقَةِ النَّاشِزِ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ:
فَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ: إِنْ مَنَعَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا الْوَطْءَ أَوْ الِاسْتِمْتَاعَ بِغَيْرِ عُذْرٍ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا عَنْهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَنَعَتْهُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالُوا: تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا أَيْضًا إِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ مِنْ مَحَلِّ طَاعَتِهِ ظَالِمَةً بِلَا إِذْنٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ حَاكِمٍ يُنْصِفُ، وَكَانَ خُرُوجُهَا إِلَى مَكَانٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهَا ابْتِدَاءً، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى مَنْعِهَا وَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ بَعْدَ التَّمْكِينِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ قَوْلِهِمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَسْقُطُ النَّفَقَةُ بِنُشُوزٍ- أَيْ خُرُوجٍ- عَنْ طَاعَةِ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ قَدَرَ عَلَى تَسَلُّمِهَا، وَلَوْ بِمَنْعِ لَمْسٍ أَوْ نَظَرٍ بِنَحْوِ تَغْطِيَةِ وَجْهٍ لِغَيْرِ دَلَالٍ بِلَا عُذْرٍ، وَتَسْقُطُ نَفَقَةُ كُلَّ يَوْمٍ بِالنُّشُوزِ بِلَا عُذْرٍ فِي كُلِّهِ، وَكَذَا فِي بَعْضِهِ فِي الْأَصَحِّ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَكِسْوَةُ الْفَصْلِ كَنَفَقَةِ الْيَوْمِ، وَلَا تَعُودُ بِعَوْدِهَا لِلطَّاعَةِ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ أَوِ اللَّيْلَةِ أَوِ الْفَصْلِ مَا لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَنُشُوزُ الْمَجْنُونَةِ وَالْمُرَاهِقَةِ كَالْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا.
وَلَوْ صَرَفَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ الْمُؤَنَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالنُّشُوزِ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ فَلَهُ الِاسْتِرْدَادُ، وَلَوْ تَصَرَّفَتْ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ.
وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ فِي سُقُوطِ نَفَقَةِ الْيَوْمِ كُلِّهِ بِالنُّشُوزِ فِي بَعْضِهِ: وَإِنَّمَا سَقَطَتِ النَّفَقَةُ لَهَا لِأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُسَلَّمُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَلَا تُفَرَّقُ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: النَّاشِزُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ تَمْكِينِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إِلَى الزَّوْجِ، فَإِذَا مَنَعَهَا النَّفَقَةَ كَانَ لَهَا مَنْعُهُ مِنَ التَّمْكِينِ، فَإِذَا مَنَعَتْهُ التَّمْكِينَ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ النَّفَقَةِ كَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ بِمَعْصِيَتِهَا، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا إِيَّاهَا إِذَا كَانَتْ هِيَ الْحَاضِنَةَ لَهُ أَوِ الْمُرْضِعَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ أَجْرُ إِرْضَاعِهَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ أَجْرٌ مَلَكَتْهُ عَلَيْهِ بِالْإِرْضَاعِ، لَا فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلَا يَزُولُ بِزَوَالِهِ.
عَوْدَةُ النَّفَقَةِ بِتَرْكِ النُّشُوزِ:
8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ بِالنُّشُوزِ إِلَى أَنَّ النَّاشِزَ إِذَا رَجَعَتْ عَنْ نُشُوزِهَا وَعَادَتْ إِلَى زَوْجِهَا، عَادَتْ نَفَقَتُهَا لِزَوَالِ الْمُسْقِطِ لَهَا.وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النَّاشِزُ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا حَتَّى تَعُودَ إِلَى بَيْتِ الزَّوْجِ وَلَوْ بَعْدَ سَفَرِ الزَّوْجِ، فَلَوْ عَادَتْ إِلَى بَيْتِهِ بَعْدَمَا سَافَرَ خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا نَاشِزَةً، فَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، فَتَكْتُبُ إِلَيْهِ لِيُنْفِقَ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ أَمْرَهَا لِلْقَاضِي لِيَفْرِضَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةً، أَمَّا لَوْ أَنْفَقَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَا رُجُوعَ لَهَا، لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إِلاَّ بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا، فَتَسْقُطُ بِالْمُضِيِّ بِدُونِ قَضَاءٍ وَلَا تَرَاضٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا سُكْنَى لِلْمُعْتَدَّةِ النَّاشِزَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ طَلَاقِهَا- كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ- أَمْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ- كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي- فَإِنْ عَادَتْ إِلَى الطَّاعَةِ عَادَ حَقُّ السُّكْنَى- كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي- وَقِيلَ: إِنْ نَشَزَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَهِيَ فِي بَيْتِهِ فَلَهَا السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ خَرَجَتْ وَاسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا سُكْنَى لَهَا، وَيَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ فِي مُدَّةِ النُّشُوزِ وَإِنْ كَانَ لِزَوْجِهَا، وَلَهُ إِخْرَاجُهَا إِذَا نَشَزَتْ، وَيَجِبُ عَوْدُهَا إِذَا عَادَتْ.
وَلَوْ نَشَزَتْ فَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَغَابَ، ثُمَّ عَادَتْ بَعْدَ غَيْبَتِهِ فَأَطَاعَتْهُ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا زَمَنَ الطَّاعَةِ فِي الْأَصَحِّ لِانْتِفَاءِ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: تَجِبُ لِعَوْدِهَا إِلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ رَفَعَتِ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ كَتَبَ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِهِ يُعْلِمُهُ بِالْحَالِ، فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ أَوْ وَكِيلُهُ وَاسْتَأْنَفَ تَسَلُّمَ الزَّوْجَةِ عَادَتِ النَّفَقَةُ، وَإِنْ مَضَى زَمَنُ إِمْكَانِ الْعَوْدِ وَلَمْ يُوجَدْ عَادَتْ أَيْضًا.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ لَوْ حَصَلَتْ غَيْبَةُ الزَّوْجِ قَبْلَ النُّشُوزِ. وَلَوْ نَشَزَتْ فِي الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ فَغَابَ، ثُمَّ أَطَاعَتْ، وَجَبَتِ النَّفَقَةُ بِمُجَرَّدِ إِطَاعَتِهَا- كَمُرْتَدَّةٍ أَسْلَمَتْ- لِأَنَّهُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا سَقَطَتْ نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ لِنُشُوزِهَا فَعَادَتْ عَنِ النُّشُوزِ وَالزَّوْجُ حَاضِرٌ عَادَتْ نَفَقَتُهَا، لِزَوَالِ الْمُسْقِطِ لَهَا وَوُجُودِ التَّمْكِينِ الْمُقْتَضِي لَهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ تَعُدْ نَفَقَتُهَا حَتَّى يَعُودَ التَّسْلِيمُ بِحُضُورِهِ، أَوْ حُضُورِ وَكِيلِهِ، أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِالْوُجُوبِ إِذَا مَضَى زَمَنُ الْإِمْكَانِ.
وَقَالُوا: إِنَّ النَّفَقَةَ سَقَطَتْ فِي النُّشُوزِ بِخُرُوجِهَا عَنْ يَدِهِ، أَوْ مَنْعِهَا لَهُ مِنَ التَّمْكِينِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهَا، وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ إِلاَّ بِعَوْدِهَا إِلَى بَيْتِهِ وَتَمْكِينِهِ مِنْهَا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي غَيْبَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ بَذَلَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا فِي حَالِ غَيْبَتِهِ لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ بِمُجَرَّدِ الْبَذْلِ، كَذَا هُنَا
أَثَرُ النُّشُوزِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ:
9- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ مَانَعُ الْوَطْءِ فِي الزَّوْجَةِ الْمُوْلَى مِنْهَا وَهُوَ حِسِّيٌّ، كَصِغَرٍ وَمَرَضٍ يَمْنَعُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْوَطْءَ، مَنْعَ ابْتِدَاءِ الْمُدَّةِ، فَإِذَا زَالَ اسْتُؤْنِفَتْ، وَإِنْ حَدَثَ مَانِعٌ لِوَطْءٍ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ- كَنُشُوزِهَا فِيهَا- قَطَعَهَا لِامْتِنَاعِ الْوَطْءِ مَعَهُ، فَإِذَا زَالَ الْحَادِثُ اسْتُؤْنِفَتِ الْمُدَّةُ، إِذِ الْمُطَالَبَةُ مَشْرُوطَةٌ بِالْإِضْرَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ، وَقِيلَ: تُبْنَى عَلَى مَا مَضَى وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْعُذْرُ الْمَانِعُ مِنْ وَطْئِهَا مِنْ جِهَتِهَا، كَصِغَرِهَا وَمَرَضِهَا وَحَبْسِهَا، وَصِيَامِهَا وَاعْتِكَافِهَا الْفَرْضَيْنِ، وَإِحْرَامِهَا وَنِفَاسِهَا وَغَيْبَتِهَا وَنُشُوزِهَا وَجُنُونِهَا وَنَحْوِهِ كَالْإِغْمَاءِ عَلَيْهَا، وَكَانَ ذَلِكَ الْعُذْرُ مَوْجُودًا حَالَ الْإِيلَاءِ، فَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ زَوَالِهِ، لِأَنَّ الْمُدَّةَ تُضْرَبُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ وَطْئِهَا، وَالْمَنْعُ هُنَا مَنْ قِبَلِهَا، وَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ طَارِئًا فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ اسْتُؤْنِفَتِ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ زَوَالِهِ، وَلَمْ تُبْنَ عَلَى مَاضٍ لقوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا مُتَوَالِيَةٌ، فَإِذَا انْقَطَعَتْ وَجَبَ اسْتِئْنَافُهَا كَمُدَّةِ الشَّهْرَيْنِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ إِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ الَّتِي حَلَفَ لَا يَطَؤُهَا فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، بَلْ أَرْبَعَةٌ فَأَقَلُّ، سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَلَا تُبْنَى عَلَى مَا مَضَى إِذَا حَدَثَ عُذْرٌ مِمَّا سَبَقَ، كَمُدَّةِ الشَّهْرَيْنِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ إِذَا انْقَطَعَ التَّتَابُعُ يَسْتَأْنِفُهُمَا.
أَثَرُ النُّشُوزِ فِي الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ:
10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ نُشُوزَ الزَّوْجَةِ يُسْقِطُ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ لَهَا مَعَ سَائِرِ الزَّوْجَاتِ، لِأَنَّهَا بِنُشُوزِهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي الْقَسْمِ، فَإِنْ عَادَتْ إِلَى الْمُطَاوَعَةِ اسْتَأْنَفَ الزَّوْجُ الْقَسْمَ لَهَا مَعَ بَاقِي زَوْجَاتِهِ، وَلَمْ يَقْضِ لَهَا مَبِيتَهُ عِنْدَ ضَرَّتِهَا لِسُقُوطِ حَقِّهَا إِذْ ذَاكَ.
إِعْطَاءُ النَّاشِزَةِ مِنَ الزَّكَاةِ:
11- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ النَّاشِزَةَ عَلَى زَوْجِهَا لَا تُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فَقِيرَةً لِقُدْرَتِهَا عَلَى الطَّاعَةِ حَالًا وَالرُّجُوعِ عَنِ النُّشُوزِ، فَتَكُونُ عِنْدَئِذٍ مَكْفِيَّةً بِنَفَقَةِ الزَّوْجِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا فَقِيرَةٌ، لِأَنَّهَا بِاكْتِفَائِهَا بِالنَّفَقَةِ مِنَ الزَّوْجِ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ، كَالْمُكْتَسِبِ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرَ كِفَايَتِهِ.
وَالثَّانِي مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: يَجُوزُ إِعْطَاؤُهَا مِنَ الزَّكَاةِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا لَا مَالَ لَهَا وَلَا كَسْبَ، وَيُمْنَعُ تَشْبِيهُهَا بِالْمُكْتَسِبِ.
مَشْرُوعِيَّةُ تَأْدِيبِ النَّاشِزَةِ وَوِلَايَةُ تَأْدِيبِهَا:
12- تَأْدِيبُ الزَّوْجَةِ النَّاشِزَةِ مَشْرُوعٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ «فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ- رضي الله عنه-، نَشَزَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ فَلَطَمَهَا، فَجَاءَ بِهَا أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَفْرَشْتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: اقْتَصِّي مِنْهُ، وَانْصَرَفَتْ مَعَ أَبِيهَا لِتَقْتَصَّ مِنْهُ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: ارْجِعُوا، هَذَا جِبْرِيلُ أَتَانِي، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا، وَالَّذِي أَرَادَ اللَّهُ خَيْرٌ، وَرَفَعَ الْقِصَاصَ». فَالْحَقُّ فِي تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ إِنْ نَشَزَتْ لِلْأَزْوَاجِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ بَيَانٌ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ لِلزَّوْجِ إِذَا لَمْ تُطِعْهُ- أَيِ الزَّوْجَةُ- فِيمَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ بِأَنْ كَانَتْ نَاشِزَةً، فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهَا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا عُلِمَ أَنَّ النُّشُوزَ مِنَ الزَّوْجَةِ فَإِنَّ الْمُتَوَلِّي لِزَجْرِهَا هُوَ الزَّوْجُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ نُشُوزُهَا الْإِمَامَ، أَوْ بَلَغَهُ وَرَجَا إِصْلَاحَهَا عَلَى يَدِ زَوْجِهَا، وَإِلاَّ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَتَوَلَّى زَجْرَهَا.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَّى اللَّهُ تَعَالَى الْأَزْوَاجَ ذَلِكَ دُونَ الْأَئِمَّةِ، وَجَعَلَهُ لَهُمْ دُونَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلَا بَيِّنَاتٍ ائْتِمَانًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَزْوَاجِ عَلَى النِّسَاءِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: جَازَ لِلزَّوْجِ ضَرْبُ النَّاشِزَةِ، وَلَمْ يَجِبِ الرَّفْعُ لِلْحَاكِمِ لِمَشَقَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ رَدُّهَا إِلَى الطَّاعَةِ كَمَا أَفَادَهُ قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} وَخَصَّصَ الزَّرْكَشِيُّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ تَعَيَّنَ الرَّفْعُ لِلْحَاكِمِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الزَّوْجُ الَّذِي لَهُ حَقُّ تَأْدِيبِ امْرَأَتِهِ يُمْنَعُ مِنْهُ إِذَا عُلِمَ مَنْعُهُ حَقَّهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهُ وَحَتَّى يُحْسِنَ عِشْرَتَهَا، لِأَنَّهُ يَكُونُ ظَالِمًا بِطَلَبِهِ حَقَّهُ مَعَ مَنْعِهَا حَقَّهَا.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَأْدِيب ف 3، 4، 7، 8 وَزَوْج ف 7).
مَا يَكُونُ بِهِ التَّأْدِيبُ لِلنُّشُوزِ:
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُ امْرَأَتِهِ لِنُشُوزِهَا، وَعَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْدِيبَ يَكُونُ بِالْوَعْظِ وَالْهَجْرِ فِي الْمَضْجَعِ وَالضَّرْبِ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}.
وَلَهُمْ بَعْدَ هَذَا الْإِجْمَالِ تَفْصِيلٌ فِي كُلٍّ مِنَ الْوَعْظِ وَالْهَجْرِ فِي الْمَضْجَعِ وَالضَّرْبِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ- الْوَعْظُ:
14- الْوَعْظُ هُوَ: التَّذْكِيرُ بِمَا يُلَيِّنُ الْقَلْبَ لِقَبُولِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الْمُتَرَتِّبَيْنِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ وَعْظِ الرَّجُلِ امْرَأَتُهُ إِنْ نَشَزَتْ، أَوْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ نُشُوزِهَا، لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ}.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَعْظَ- فِي الْحَالَاتِ الَّتِي يُشْرَعُ فِيهَا- مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الزَّوْجَ يَعِظُ امْرَأَتَهُ إِنْ نَشَزَتْ فِعْلًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَعِظُهَا إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ نُشُوزِهَا.
وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: يَعِظُهَا عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ، بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: كُونِي مِنَ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ، وَلَا تَكُونِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَيَعِظُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُذَكِّرُهَا مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنْ حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَجَمِيلِ الْعِشْرَةِ لِلزَّوْجِ وَالِاعْتِرَافِ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهَا، وَيُحَذِّرُهَا عِقَابَ الدُّنْيَا بِالضَّرْبِ وَسُقُوطِ الْمُؤَنِ، وَعِقَابَ الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ، وَيَقُولُ لَهَا: اتَّقِ اللَّهَ فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ لِي عَلَيْكِ، وَيُبَيِّنُ لَهَا أَنَّ النُّشُوزَ يُسْقِطُ الْقَسْمَ، فَلَعَلَّهَا تُبْدِي عُذْرًا أَوْ تَتُوبُ عَمَّا وَقَعَ مِنْهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَذْكُرَ لَهَا قَوْلَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» وَقَوْلُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» وَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: أَيُّمَا امْرَأَةٍ عَبَسَتْ فِي وَجْهِ زَوْجِهَا إِلاَّ قَامَتْ مِنْ قَبْرِهَا مُسْوَدَّةَ الْوَجْهِ وَلَا تَنْظُرُ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبَرَّهَا وَيَسْتَمِيلَ قَلْبَهَا بِشَيْءٍ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ، إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ».
وَقَالُوا: إِنْ رَجَعَتْ بِالْوَعْظِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْأَدَبِ حَرُمَ مَا بَعْدَ الْوَعْظِ مِنَ الْهَجْرِ وَالضَّرْبِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
38-موسوعة الفقه الكويتية (نفقة 3)
نَفَقَةٌ -3أ- السَّفَرُ لِأَدَاءِ حَجِّ الْفَرِيضَةِ:
41- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ فِيمَا لَوْ خَرَجَتْ لِتَأْدِيَةِ حَجِّ الْفَرِيضَةِ دُونَ سَفَرِ الزَّوْجِ مَعَهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: تَجِبُ لِلزَّوْجَةِ النَّفَقَةُ إِذَا خَرَجَتْ لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ دُونَ سَفَرِ الزَّوْجِ مَعَهَا.وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
لِأَنَّ الزَّوْجَةَ فَعَلَتِ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا بِأَصْلِ الشَّرْعِ فِي وَقْتِهِ فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا كَصِيَامِ رَمَضَانَ.
وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ قَدْ حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ إِلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ فَاتَ بِعَارِضِ أَدَاءِ فَرْضٍ، وَهَذَا لَا يُبْطِلُ النَّفَقَةَ كَمَا لَوِ انْتَقَلَتْ إِلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا ثُمَّ لَزِمَهَا صَوْمُ رَمَضَانَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ مَعَهَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ مَا عَدَا رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ فَوَاتَ الِاحْتِبَاسِ لَا مِنْ قِبَلِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ النَّفَقَةِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ إِحْرَامَ الزَّوْجَةِ بِحَجِّ فَرْضٍ أَوْ عُمْرَةٍ بِلَا إِذْنٍ نُشُوزٌ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إِنْ لَمْ يَمْلِكْ تَحْلِيلَهَا وَذَلِكَ حَالَ إِحْرَامِهَا بِفَرْضٍ عَلَى قَوْلٍ مَرْجُوحٍ، فَإِنْ مَلَكَ تَحْلِيلَهَا حَالَ إِحْرَامِهَا بِفَرْضٍ عَلَى الْأَظْهَرِ فَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا لِلْحَجِّ، فَإِذَا خَرَجَتْ فَمُسَافِرَةٌ لِحَاجَتِهَا، فَإِنْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا بِإِذْنِهِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا فِي الْأَظْهَرِ، أَوْ مَعَهُ اسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا
ب- السَّفَرُ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ:
42- فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ سَفَرِ الزَّوْجَةِ لِتَأْدِيَةِ الْحَجِّ غَيْرِ الْفَرْضِ بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَبَيْنَ سَفَرِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِلْمَرْأَةِ إِنْ سَافَرَتْ لِحَجِّ تَطَوُّعٍ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَنْذُورُ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمُسَافِرَةِ وَحْدَهَا فَلَا تَكُونُ لَهَا نَفَقَةٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ إِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ وَسَافَرَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُمَكَّنَةٍ مِنْ نَفْسِهَا فَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا كَمَا لَوْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلزَّوْجَةِ إِذَا أَحْرَمَتْ بِحَجِّ التَّطَوُّعِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
لِأَنَّهَا سَافَرَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا كَمَا لَوْ سَافَرَتْ فِي حَاجَةِ زَوْجِهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَحْرَمَتِ الزَّوْجَةُ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ بِإِذْنٍ مِنْ زَوْجِهَا فَفِي الْأَصَحِّ لَهَا نَفَقَةٌ مَا لَمْ تَخْرُجْ لِأَنَّهَا فِي قَبْضَتِهِ.
وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ لِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا.
وَلَوْ خَرَجَتْ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا إِنْ خَرَجَتْ وَحْدَهَا فَإِنْ خَرَجَ مَعَهَا لَمْ تَسْقُطْ.
امْتِنَاعُ الزَّوْجَةِ مِنَ السَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ:
43- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهَا إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ السَّفَرِ مَعَ زَوْجِهَا وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا غَيْرَ مَخُوفٍ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ غَيْرِ الْمُحْتَمَلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عُذْرٌ يَمْنَعُهَا مِنَ السَّفَرِ مَعَهُ مَعَ اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الشُّرُوطِ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَحَمَّادٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِلزَّوْجَةِ إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ السَّفَرِ مَعَ زَوْجِهَا، وَاعْتَبَرُوا الْمُمْتَنِعَةَ عَنِ السَّفَرِ مَعَ زَوْجِهَا دُونَ عُذْرٍ نَاشِزَةً.
لِأَنَّ الزَّوْجَةَ إِنَّمَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ بِتَسْلِيمِهَا نَفْسَهَا إِلَى الزَّوْجِ فَتَسْقُطُ بِامْتِنَاعِهَا عَنِ السَّفَرِ مَعَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَالْمُرَادُ بِالسُّقُوطِ عَدَمُ الْوُجُوبِ.
وَفِي قَوْلٍ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَلَا تُعَدُّ نَاشِزًا إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ بِهَا مَسَافَةَ الْقَصْرِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا بِدُونِ رِضَاهَا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَهُ جَبْرُهَا عَلَى السَّفَرِ مَعَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ كَانَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَيْضًا يُتْرَكُ أَمْرُ ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي حَسَبَ مَا يَظْهَرُ لَهُ.
فَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنَ السَّفَرِ الْكَيْدَ لِلُزُوجَةِ وَالْإِضْرَارَ بِهَا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا فِي هَذَا السَّفَرِ فَلَا يَحْكُمُ الْقَاضِي بِالسَّفَرِ مَعَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنَ السَّفَرِ مَعَهُ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا.
وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ لَيْسَ فِيهِ إِضْرَارٌ بِالزَّوْجَةِ وَإِنَّمَا كَانَ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ كَالتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَيْهَا أَجَابَهُ الْقَاضِي إِلَى طَلَبِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا فِي مُدَّةِ الِامْتِنَاعِ.
نَفَقَةُ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ:
44- إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ كَبِيرَةً- أَيْ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا- وَالزَّوْجُ صَغِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَسَلَّمَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا لَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا الصَّغِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ إِذَا كَانَ مَدْخُولًا بِهَا عَلَى مَا صَحَّحَهُ فِي التَّوْضِيحِ.
وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا تَسْلِيمًا صَحِيحًا فَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ كَبِيرًا.
وَبِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا مُمْكِنٌ وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الْوَطْءُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ لِمَرَضِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ.
وَلِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ وَالْمَانِعُ مِنْ جِهَتِهِ فَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِهَا الصَّغِيرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَوْ دَخَلَ بِهَا وَافْتَضَّهَا وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا لِسَبَبٍ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُهُ غُرْمُ نَفَقَتِهَا.
نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ مُدَّةَ حَبْسِ الزَّوْجِ فِي دَيْنِ نَفَقَتِهَا:
45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ إِنْ حَبَسَتْ زَوْجَهَا فِي سَدَادِ مَا عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تَأْدِيَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَهَا النَّفَقَةُ مُدَّةَ حَبْسِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لَا مِنْهَا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهَا النَّفَقَةُ مُدَّةَ حَبْسِهِ وَلَوْ بِحَقٍّ لِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ.
لِأَنَّ التَّمْكِينَ الْمُوجِبَ لِلنَّفَقَةِ قَدِ انْتَفَى بِسَبَبِ سَجْنِهِ فَلَا تَجِبُ مَعَهُ النَّفَقَةُ.
وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا لِأَنَّهَا ظَالِمَةٌ مَانِعَةٌ لَهُ مِنَ التَّمْكِينِ مِنْهَا.
طَلَبُ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ:
أ- إِذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا:
46- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ حَاضِرًا مُوسِرًا وَلَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَسْتَوْفِيَ حَقَّهَا مِنْهُ وَلَيْسَ لَهَا حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ وَرَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ فَلَهَا أَنْ تَبْقَى مَعَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَرْضَ زَوْجَتُهُ بِالْبَقَاءِ مَعَهُ فِي حَقِّهَا فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَيْسَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ التَّكَسُّبِ كَيْ تُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرُهُمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلَالَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ إِلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ يَسَارُهُ فَتَدْخُلُ الزَّوْجَةُ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَكُونُ مَأْمُورَةً بِإِنْظَارِ الزَّوْجِ، وَلَا يَحِقُّ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالطَّلَاقِ.
وَإِلَى مَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما- قَالَ: «دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ، لَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ.قَالَ: فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَوَجَدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا، حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَاجِمًا سَاكِتًا.قَالَ فَقَالَ: لأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم-.فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا.فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: «هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ»، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، فَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَقُلْنَ: وَاللَّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}، حَتَّى بَلَغَ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}.قَالَ: فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ فَقَالَ.«يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ» قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! ! فَتَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ قَالَتْ: أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَسْتَشِيرُ أَبَوِيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ.قَالَ: لَا تَسْأَلْنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلاَّ أَخْبَرْتُهَا.إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا».فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْأَلَ زَوْجَهَا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَلَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالطَّلَاقِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِعَجْزِهِ، قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ فَسْخِهِ بِالدَّيْنِ وَعَلَى الْإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلْمَرْأَةِ حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا لِعَجْزِهِ عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهَذَا التَّفْرِيقُ فَسْخٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَطَلَاقٌ رَجْعِيٌّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ.
مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِإِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ، وَعَدَمُ إِنْفَاقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا تَفْوِيتٌ لِلْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي وَهُوَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ.
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِيمَنْ غَابَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نِسَائِهِمْ إِمَّا أَنْ يُفَارِقُوا وَإِمَّا أَنْ يَبْعَثُوا بِالنَّفَقَةِ، فَمَنْ فَارَقَ مِنْهُمْ فَلْيَبْعَثْ بِنَفَقَةِ مَا تَرَكَ.
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا الزِّنَادِ سَأَلَهُ عَنِ الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ، قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: قُلْتُ: سَنَةً؟ فَقَالَ: سَنَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنَّهُ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-.
وَلِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْفَسْخُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْوَطْءِ، وَالضَّرَرُ فِيهِ أَقَلُّ، فَلأَنْ يَثْبُتَ بِالْعَجْزِ عَنِ النَّفَقَةِ الَّتِي لَا يَقُومُ الْبَدَنُ إِلاَّ بِهَا أَوْلَى.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَلَاق ف 82- 86).
ب- إِذَا كَانَ الزَّوْجُ غَائِيًّا:
47- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلَبِ الْمَرْأَةِ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْغَائِبِ، إِذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتْرُكْ لَهَا مَالًا لِتُنْفِقَ مِنْهُ وَلَمْ يُوَكِّلْ أَحَدًا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَطْلُبَ التَّفْرِيقَ لِذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ تَسْتَطِعِ الِاسْتِدَانَةَ عَلَيْهِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِذَلِكَ: أَنْ تَثْبُتَ الزَّوْجِيَّةُ، وَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا أَوْ دُعِيَ إِلَى الدُّخُولِ بِهَا، وَأَنْ تَكُونَ الْغَيْبَةُ بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ، أَوْ عُلِمَ وَلَمْ يُمْكِنِ الْإِعْذَارُ إِلَيْهِ، وَأَنْ تَشْهَدَ لَهَا الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ الزَّوْجَ تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً وَلَا كُسْوَةً وَلَا شَيْئًا مِنْ مُؤْنَتِهَا، وَلَا أَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهَا بِشَيْءٍ وَصَلَ إِلَيْهَا فِي عِلْمِهِمْ إِلَى هَذَا الْحِينِ.
ثُمَّ يَضْرِبُ الْقَاضِي لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَجَلًا حَسَبَ مَا يَرَاهُ: شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَقْدَمْ وَلَمْ يَبْعَثْ بِشَيْءٍ وَلَا ظَهْرَ لَهُ مَالٌ وَدَعَتْ إِلَى النَّظَرِ لَهَا، فَإِنَّهَا تَحْلِفُ بِمَحْضَرِ عَدْلَيْنِ أَنَّهُ مَا رَجَعَ إِلَيْهَا زَوْجُهَا الْمَذْكُورُ مِنْ مَغِيبِهِ الثَّابِتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ إِلَى حِينِ حَلِفِهَا وَلَا تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً وَلَا كُسْوَةً وَلَا وَضَعَتْ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَا وَصَلَ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى الْآنَ، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي حَلِفُهَا طَلَّقَهَا عَلَيْهِ، أَوْ أَبَاحَ لَهَا التَّطْلِيقَ.
مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى: مَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه- أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِيمَنْ غَابَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نِسَائِهِمْ، إِمَّا أَنْ يُفَارِقُوا وَإِمَّا أَنْ يَبْعَثُوا بِالنَّفَقَةِ، فَمَنْ فَارَقَ مِنْهُمْ فَلْيَبْعَثْ بِنَفَقَةِ مَا تَرَكَ.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ أَوْ بِالِاسْتِدَانَةِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ بِالْفَسْخِ كَحَالِ الْإِعْسَارِ.
وَلِأَنَّ فِي عَدَمِ الْإِنْفَاقِ ضَرَرًا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِالْفَسْخِ فَكَانَ لَهَا حَقُّ طَلَبِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْحَقُّ فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ.لِأَنَّ الْفَسْخَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُ الزَّوْجِ لِغَيْبَتِهِ لِعَدَمِ تَبَيُّنِ حَالِهِ.
أَمَّا إِذَا ثَبَتَ الْإِعْسَارُ تَوَلَّى الْحَاكِمُ أَوْ مَنْ يَأْذَنُ لَهُ أَمْرَ التَّفْرِيقِ بِطَلَبِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ مُجْتَهَدٌ فِيهَا فَافْتَقَرَتْ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَالْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ.
فَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ مِنْ سَفَرِهِ وَغَابَ مَالُهُ فَقَدْ فَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْلَ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ غَائِبًا مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَأَكْثَرَ كَانَ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخُ وَلَا يَلْزَمُهَا الصَّبْرُ لِلضَّرَرِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا بِنَحْوِ اسْتِدَانَةٍ، وَإِلاَّ فَلَا فَسْخَ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَضَرِ وَيُؤْمَرُ بِالْإِحْضَارِ عَاجِلًا.
وَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ مَدِينٌ غَائِبٌ مُوسِرٌ وَكَانَ لَهُ مَالٌ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَفِي حَقِّ طَلَبِ الْفَسْخِ لَهَا وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا عَدَمُ الْفَسْخِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَدِينٌ حَاضِرٌ وَلَهُ مَالٌ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ كَانَ لَهَا الْفَسْخُ كَمَا لَوْ كَانَ مَالُ الزَّوْجِ غَائِبًا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِعَجْزِ الزَّوْجِ عَنِ النَّفَقَةِ غَائِبًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا.
التَّبَرُّعُ بِالنَّفَقَةِ:
48- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ طَلَبِ الزَّوْجَةِ الْفَسْخَ وَعَدَمِ قَبُولِهَا النَّفَقَةَ إِذَا تَبَرَّعَ بِهِ أَحَدٌ عَنِ الزَّوْجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُولِ النَّفَقَةِ مِنَ الْمُتَبَرِّعِ وَلَيْسَ لَهَا حَقُّ طَلَبِ الْفَسْخِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلاَّ ابْنَ الْكَاتِبِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ وَبِهِ أَفْتَى الْغَزَالِيُّ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُولِ النَّفَقَةِ مِنَ الْمُتَبَرِّعِ وَلَهَا حَقُّ طَلَبِ الْفَسْخِ.
وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْكَاتِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُتَبَرِّعُ أَبًا أَوْ جَدًّا لِلزَّوْجِ وَهُوَ فِي وِلَايَةِ أَيٍّ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُهَا الْقَبُولُ لِدُخُولِهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ تَقْدِيرًا وَأَلْحَقَ بِهِمَا الْأَذْرَعِيُّ وَلَدَ الزَّوْجِ.
لِأَنَّ فِي قَبُولِهَا مِنَ الْمُتَبَرِّعِ مِنَّةً عَلَيْهَا وَإِلْحَاقَ ضَرَرٍ بِهَا، فَلَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهَا، كَمَا لَا يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُولِ مِنَ الْمُتَبَرِّعِ سَدَادَ الدَّيْنِ الَّذِي لِلدَّائِنِ عَلَى غَيْرِهِ.
هَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا دَفَعَ الْمُتَبَرِّعُ النَّفَقَةَ إِلَى الزَّوْجِ أَوَّلًا ثُمَّ قَامَ الزَّوْجُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهَا.
فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُتَبَرِّعَ لَوْ سَلَّمَ النَّفَقَةَ لِلزَّوْجِ ثُمَّ دَفَعَهَا الزَّوْجُ لَهَا أَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ وَكِيلُهُ فَإِنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ حِينَئِذٍ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا.
اعْتِبَارُ النَّفَقَةِ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ:
49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ النَّفَقَةِ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا تُعْتَبَرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ إِلاَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِتَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَضَاءٌ وَلَا تَرَاضٍ سَقَطَتْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ لِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَتْ تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِعِوَضٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عِوَضًا حَقِيقَةً لَكَانَتْ عِوَضًا عَنْ نَفْسِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الِاسْتِمْتَاعُ، أَوْ كَانَتْ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الِاخْتِصَاصُ بِهَا وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ مُتْعَتَهَا بِالْعَقْدِ فَكَانَ هُوَ بِالِاسْتِمْتَاعِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ لِغَيْرِهِ.
وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَدْ قُوبِلَ بِعِوَضٍ مَرَّةً فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ آخَرَ، فَخَلَتِ النَّفَقَةُ عَنْ مُعَوَّضٍ، فَلَا يَكُونُ عِوَضًا حَقِيقَةً بَلْ كَانَتْ صِلَةً، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
الْقَوْلُ الثَّانِي: تَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهَا بَعْدَ أَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا رِضَا الزَّوْجِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلَالَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ مُطْلَقًا دُونَ تَقَيُّدٍ بِزَمَانٍ دُونَ آخَرَ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ قَدْ وَجَبَتْ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى إِنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِالْوَفَاءِ أَوِ الْإِبْرَاءِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ.
ثَانِيًا: الْقَرَابَةُ:
تَجِبُ النَّفَقَةُ- فِي الْجُمْلَةِ- بِالْقَرَابَةِ وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
الْقَرَابَةُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّفَقَةِ وَبَيَانُ دَرَجَاتِهَا:
50- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا هُمُ الْآبَاءُ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْأَوْلَادُ وَإِنْ سَفَلُوا، وَالْحَوَاشِي ذَوُو الْأَرْحَامِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْعَمِّ وَالْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ، وَلَا تَجِبُ لِغَيْرِهِمْ كَابْنِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْخَالِ وَبِنْتِ الْخَالَةِ، وَلَا لِلْمَحْرَمِ غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ كَابْنِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَخًا مَنَ الرَّضَاعِ، وَيُشْتَرَطُ اتِّحَادُهُمْ فِي الدِّينِ فِيمَا عَدَا الزَّوْجِيَّةِ وَالْوِلَادِ فَلَا تَجِبُ لِأَحَدٍ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ إِلاَّ بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ وَقَرَابَةِ الْوِلَادِ.
أَمَّا الْأَوْلَادُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَالْمَوْلُودُ لَهُ هُوَ الْأَبُ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ رِزْقَ النِّسَاءِ لِأَجْلِ الْأَوْلَادِ، فَلأَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
وَأَمَّا الْأَبَوَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فَقَدْ نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهَا وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ وَلَيْسَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَلَا مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا.
وَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَكَالْأَبَوَيْنِ وَلِهَذَا يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَبِ وَالْأُمِّ فِي الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا لِإِحْيَائِهِ فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْإِحْيَاءَ كَالْأَبَوَيْنِ.
أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ اتِّحَادِ الدِّينِ فَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْحَبْسِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْوِلَادِ مِنَ اتِّحَادِ الدِّينِ أَيْضًا فَلِأَنَّ الْمَنْفَيَّ عَلَيْهِ جُزْؤُهُ، وَنَفَقَةُ الْجُزْءِ لَا تَمْتَنِعُ بِالْكُفْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ أَبَوَيْهِ الْحَرْبِيَّيْنِ.
وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الْفَقْرَ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ مُفَرِّقِينَ بَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَغَيْرِهَا قَائِلِينَ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ حَيْثُ تَجِبُ مَعَ الْغِنَى، لِأَنَّهَا تَجِبُ لِأَجْلِ الْحَبْسِ الدَّائِمِ كَرِزْقِ الْقَاضِي.
وَفِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ فَإِنَّمَا تَجِبُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ صَغِيرًا أَوْ أُنْثَى وَلَوْ بَالِغَةً صَحِيحَةً، أَمَّا الذَّكَرُ الْبَالِغُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَجْزِهِ عَنِ الْكَسْبِ بِخِلَافِ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهَا تَجِبُ لَهُمَا مَعَ الْقُدْرَةِ، لِأَنَّهُمَا يَلْحَقُهُمَا تَعَبُ الْكَسْبِ، وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا.
وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَارِثِ تَنْبِيهٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ، وَلِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ الْمُبَاشِرِينَ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَا يَشْتَرِطُونَ اتِّحَادَ الدِّينِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، أَيْ بَيْنَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَبَيْنَ مَنْ تَجِبُ لَهُ، بَلْ يُوجِبُونَهَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَ دَيْنُهُ مَعَ الْآخَرِ، مَا دَامَ مُسْتَحِقًّا لَهَا، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ غَيْرَ حَرْبِيٍّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا هُمُ الْآبَاءُ وَإِنْ عَلَوْا وَالْأَوْلَادُ وَإِنْ نَزَلُوا.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهَا لِلْآبَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ».
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهَا لِلْأَوْلَادِ وَإِنْ نَزَلُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَإِيجَابُ الْأُجْرَةِ لِإِرْضَاعِ الْأَوْلَادِ يَقْتَضِي إِيجَابَ مُؤْنَتِهِمْ.
«وَبِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- لِهِنْدَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».
وَالْأَحْفَادُ مُلْحَقُونَ بِالْأَوْلَادِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ إِطْلَاقُ مَا تَقَدَّمَ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ اتِّحَادَ الدِّينِ بَلْ يُوجِبُونَهَا مَعَ اخْتِلَافِهِ.وَلَمْ يُوجِبْهَا الشَّافِعِيَّةُ لِغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْحَوَاشِي.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى اسْتِحْقَاقِهَا لِلْآبَاءِ وَإِنْ عَلَوْا وَلِلْأَوْلَادِ وَإِنْ نَزَلُوا، وَلِمَنْ يَرِثُهُمُ الْمُنْفِقُ دُونَ مِنْ سِوَاهُمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِيرَاثُهُ مِنْهُمْ بِفَرْضٍ أَمْ بِتَعْصِيبٍ، وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا مِنْهُ.
وَلَا نَفَقَةَ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الدِّينِ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ، لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ لَمْ تَجِبْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ كَنَفَقَةِ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ، وَلِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَوَارِثَيْنِ، فَلَمْ تَجِبْ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ.
إِنْفَاقُ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ:
51- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ الْمُبَاشِرَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ لقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. وَمِنَ الْإِحْسَانِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا.
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَلِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا وَوَالِدًا، وَإِنَّ وَالِدِي يَجْتَاحُ مَالِيَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكِ، إِنَّ أَوْلَادَكُمْ مَنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ».فَإِذَا كَانَ كَسْبُ الْوَلَدِ يُعَدُّ مِنْ كَسْبِ الْأَبِ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الْأَبِ تَكُونُ وَاجِبَةً فِيهِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ تَكُونُ مِنْ كَسْبِهِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ فِي هَذَا فَقَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا كَسْبَ لَهُمَا وَلَا مَالَ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْوَلَدِ.
أَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ لِسَائِرِ الْأُصُولِ وَإِنْ عَلَوْا.
وَقَدِ احْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ الْمُبَاشِرَيْنِ دُونَ سَائِرِ الْأُصُولِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِمَا، وَمِنْ ثَمَّ لَا نَفَقَةَ عَلَى الْوَلَدِ لِجَدٍّ أَوْ جَدَّةٍ.
أَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: إِنَّ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ مُلْحَقُونَ بِالْأَبَوَيْنِ الْمُبَاشِرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ إِطْلَاقُ مَا تَقَدَّمَ، كَمَا أُلْحِقُوا بِهِمَا فِي عَدَمِ الْقَوْدِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِأَنَّ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَبَوَيْنِ الْمُبَاشِرَيْنِ فِي الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ.
وَلِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِي إِحْيَاءِ وَلَدِ الْوَلَدِ، فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْإِحْيَاءَ كَالْأَبَوَيْنِ.
شُرُوطُ وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأُصُولِ:
52- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأُصُولِ مَا يَأْتِي:
أ- أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فَقِيرًا أَوْ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْفَرْعِ نَفَقَةُ أَصْلِهِ إِنْ كَانَ أَصْلُهُ غَنِيًّا أَوْ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ وَالْبِرِّ، وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ كَالْمُوسِرِ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْمُوَاسَاةِ.
وَبِهَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَ الْأَصْلُ فَقِيرًا قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى فَرْعِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَفِي إِلْزَامِ الْآبَاءِ التَّكَسُّبَ مَعَ غِنَى الْأَبْنَاءِ تَرْكٌ لِلْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَإِيذَاءٌ لَهُمْ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
ب- أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مُوسِرًا وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ قَادِرًا عَلَى التَّكَسُّبِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي جَزَمَ بِهَا صَاحِبُ الْهِدَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ أَوْ كَسْبِهِ فَضْلٌ عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَامْرَأَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْهُ شَيْءٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجِبُ عَلَى الْفَرْعِ الْمُعْسِرِ التَّكَسُّبُ لِيُنْفِقَ عَلَى وَالِدَيْهِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا كَانَ الِابْنُ فَقِيرًا كَسُوبًا وَكَانَ الْأَبُ كَسُوبًا لَا يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي إِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَيْرِ.
ج- اتِّحَادُ الدِّينِ بَيْنَ الْمُنْفِقِ وَالْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ مُوَاسَاةٌ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، فَلَمْ تَجِبْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، كَنَفَقَةِ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ، وَلِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَوَارِثَيْنِ فَلَمْ يَجِبْ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ نَفَقَةٌ بِالْقَرَابَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: اتِّحَادُ الدِّينِ لَيْسَ شَرْطًا لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ، فَتَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَلَا مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ الْإِنْسَانُ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْرُكَ أَبَوَيْهِ يَمُوتَانِ جُوعًا لِوُجُودِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْبَعْضِيَّةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
39-موسوعة الفقه الكويتية (نيابة 2)
نِيَابَة -2ط- النِّيَابَةُ عَنْ رَجُلٍ فِي الْحَجِّ وَعَنْ آخَرَ فِي الْعُمْرَةِ:
35- إِذَا أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِحَجَّةٍ وَأَمَرَهُ الْآخَرُ بِعُمْرَةٍ، فَإِنْ أَذِنَا لَهُ بِالْجَمْعِ- وَهُوَ الْقِرَانُ- فَجَمَعَ جَازَ.
لِأَنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَنْصَرِفُ بَعْضُهُ إِلَى الْحَجِّ وَبَعْضُهُ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا.
وَإِنْ لَمْ يَأْذَنَا لَهُ بِالْجَمْعِ فَجَمَعَ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ خَالَفَ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَنْصَرِفُ كُلُّهُ إِلَى الْحَجِّ وَقَدْ صَرَفَهُ إِلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَصَارَ مُخَالِفًا.
وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَاعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ جَازَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلَانِ شَخْصًا: أَحَدُهُمَا لِيَحُجَّ عَنْهُ وَالثَّانِي لِيَعْتَمِرَ عَنْهُ فَقَرَنَ عَنْهُمَا، فَعَلَى الْجَدِيدِ يَقَعَانِ عَنِ الْأَجِيرِ، وَعَلَى الثَّانِي يَقَعُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مَا اسْتَأْجَرَ لَهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اسْتَنَابَهُ رَجُلٌ فِي الْحَجِّ وَآخَرُ فِي الْعُمْرَةِ، وَأَذِنَا لَهُ فِي الْقِرَانِ فَفَعَلَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ مَشْرُوعٌ، وَإِنْ قَرَنَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمَا، صَحَّ، وَوَقَعَ عَنْهُمَا، وَيَرُدُّ مِنْ نَفَقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّفَرَ عَنْهُمَا بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا.
وَإِنْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، رَدَّ عَلَى غَيْرِ الْأَمْرِ نِصْفَ نَفَقَتِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي صِفَتِهِ لَا فِي أَصْلِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: إِذَا لَمْ يَأْذَنَا لَهُ ضَمِنَ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِنُسُكٍ مُفْرَدٍ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَكَانَ مُخَالِفًا، كَمَا لَوْ أُمِرَ بِحَجٍّ فَاعْتَمَرَ.
ي- الِاسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْ رَجُلَيْنِ:
36- لَوْ أَمَرَهُ رَجُلٌ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّةً، وَأَمَرَهُ آخَرُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ أَيْضًا، فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ، فَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا:
الْحَالَةُ الْأُولَى: الْإِحْرَامُ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا مَعًا:
37- إِذَا أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْهُمَا مَعًا يَكُونُ مُخَالِفًا، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَنْهُمَا مَعًا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ صَاحِبِهِ.
وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لَهُمَا إِنْ كَانَ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِحَجٍّ تَامٍّ وَلَمْ يَفْعَلْ فَصَارَ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِمَا فَلَمْ يَقَعْ حَجُّهُ عَنْهُمَا فَيَضْمَنُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَرْضَ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فَيَضْمَنُ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْحَاجِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَقَعَ كُلُّ فِعْلٍ عَنْ فَاعِلِهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ لِغَيْرِهِ بِجُعْلِهِ، فَإِذَا خَالَفَ لَمْ يَصِرْ لِغَيْرِهِ فَبَقِيَ فِعْلُهُ لَهُ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الِابْنِ إِذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الِابْنَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالْحَجِّ عَنِ الْأَبَوَيْنِ فَلَا تَتَحَقَّقُ مُخَالَفَةُ الْآمِرِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ثَوَابَ الْحَجِّ الْوَاقِعِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَبَوَيْهِ وَكَانَ مِنْ عَزْمِهِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ حَجَّةٍ لَهُمَا، ثُمَّ نَقَضَ عَزْمَهُ وَجَعْلَهُ لِأَحَدِهِمَا، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ لِأَنَّ الْحَاجَّ مُتَصَرِّفٌ بِحُكْمِ الْآمِرِ وَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُمَا، فَلَا يَقَعُ حَجُّهُ لَهُمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِحْرَامُ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا:
38- إِذَا أَمَرَاهُ بِالْحَجِّ فَأَحْرَمَ عَنْ أَحَدِهِمَا عَيْنًا وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الَّذِي عَيَّنَهُ، وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِلْآخَرِ وَهَذَا ظَاهِرٌ.
وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا شَاءَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْأَدَاءُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ لَيْسَ مِنَ الْأَدَاءِ بَلْ هُوَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَيَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ مُتَصَوَّرٌ بِوَاسِطَةِ التَّعْيِينِ، فَإِذَا جَعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ تَعَيَّنَ لَهُ فَيَقَعُ عَنْهُ.
فَإِذَا لَمْ يَجْعَلِ الْحَجَّةَ عَنْ أَحَدِهِمَا حَتَّى طَافَ شَوْطًا، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا لَمْ تَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ تَعَذَّرَ تَعْيِينُ الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى قَدْ مَضَى وَانْقَضَى فَلَا يُتَصَوَّرُ تَعْيِينُهُ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَصَارَ إِحْرَامُهُ وَاقِعًا لَهُ لِاتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ.
وَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لَهُمَا، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ خَالَفَ الْأَمْرَ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالْحَجِّ لِمُعَيَّنٍ وَقَدْ حَجَّ لِمُبْهَمٍ، وَالْمُبْهَمُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ، فَصَارَ مُخَالِفًا وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ.بِخِلَافِ مَا إِذَا أَحْرَمَ الِابْنُ بِالْحَجِّ عَنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّ الِابْنَ فِي حَجِّهٍ لِأَبَوَيْهِ لَيْسَ مُتَصَرِّفًا بِحُكْمِ الْآمِرِ حَتَّى يَصِيرَ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ، بَلْ هُوَ يَحُجُّ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَجْعَلُ ثَوَابَ حَجِّهِ لِأَحَدِهِمَا وَذَلِكَ جَائِزٌ وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ.
وَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَنْوِهَا فَمَعَ نِيَّتِهِ أَوْلَى.
ك- اسْتَنَابَهُ فِي الْحَجِّ فَحَجَّ عَنْهُ مَاشِيًا:
39- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَحَجَّ عَنْهُ مَاشِيًا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ خَالَفَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ يَنْصَرِفُ إِلَى الْحَجِّ الْمُتَعَارَفِ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِذَلِكَ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، فَإِذَا حَجَّ مَاشِيًا فَقَدْ خَالَفَ فَيَضْمَنُ، وَلِأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْآمِرِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ هُوَ ثَوَابُ النَّفَقَةِ، وَالنَّفَقَةُ فِي الرُّكُوبِ أَكْثَرُ فَكَانَ الثَّوَابُ فِيهِ أَوْفَرَ.
وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ حَجَّ عَلَى حِمَارٍ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ، وَالْجَمَلُ أَفْضَلُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي رُكُوبِ الْجَمَلِ أَكْثَرُ، فَكَانَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ فِيهِ أَكْمَلَ فَكَانَ أَوْلَى.
ل- فَعَلَ النَّائِبُ فِي الْحَجِّ مَا يُوجِبُ الدَّمَ أَوْ غَيْرَهُ:
40- إِذَا فَعَلَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ مَا يُوجِبُ الدَّمَ فَالدَّمُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا لَوْ قَرَنَ عَنِ الْآمِرِ بِأَمْرِهِ فَدَمُ الْقِرَانِ عَلَى الْمَأْمُورِ، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ عَلَى الْآمِرِ كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ الَّذِي شَرَطَ الْقِرَانَ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَوْجِيهِ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ الدِّمَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِحْرَامِ فِي مَالِ الْحَاجِّ إِلاَّ دَمَ الْإِحْصَارِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ.
وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عَلَى الْحَاجِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
أَمَّا مَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ فَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَنَى فَكَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَلِأَنَّهُ أَمَرَ بِحَجٍّ خَالٍ عَنِ الْجِنَايَةِ فَإِذَا جَنَى فَقَدْ خَالَفَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْخِلَافِ.
وَأَمَّا دَمُ الْقِرَانِ فَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ لِأَنَّهُ يَجِبُ شُكْرًا وَسَائِرُ أَفْعَالِ النُّسُكِ عَلَى الْحَاجِّ فَكَذَا هَذَا النُّسُكُ، وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَلِأَنَّ الْمَحْجُوجَ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ وَالْمُؤْنَةِ وَذَلِكَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا.
وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقِرَانِ فَأَتَى بِهِ فَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَحَدِ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ لِسَفَرٍ مُفْرَدٍ لِلْحَجِّ، وَقَدْ خَالَفَ، فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ، فَقَدْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ أَحْسَنَ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا، كَالْوَكِيلِ إِذَا بَاعَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ الْمُوَكِّلُ.
م- جِمَاعُ النَّائِبِ فِي الْحَجِّ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
41- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْحَاجَّ عَنِ الْغَيْرِ إِذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَيَمْضِي فِيهِ وَالنَّفَقَةُ فِي مَالِهِ وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ فَلِأَنَّ الْجِمَاعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ، وَالْحَجَّةُ الْفَاسِدَةُ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهَا، وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِحَجَّةٍ صَحِيحَةٍ وَهِيَ الْخَالِيَةُ عَنِ الْجِمَاعِ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَصَارَ مُخَالِفًا، فَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ وَمَا بَقِيَ يُنْفِقُ فِيهِ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ الْحَجَّ وَقَعَ لَهُ، وَيَقْضِي لِأَنَّ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ.
ثَانِيًا: النِّيَابَةُ عَنِ الْحَيِّ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ:
أ- النِّيَابَةُ فِي التَّلْبِيَةِ:
42- تَجُوزُ الْإِنَابَةُ فِي التَّلْبِيَةِ عِنْدَ عَجْزِ الْحَاجِّ بِنَفْسِهِ بِأَمْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ حَتَّى لَوْ تَوَجَّهَ يُرِيدُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَبَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، حَتَّى لَوْ عَجَزَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ بِإِجْمَاعِهِمْ.فَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ نَصًّا فَأَهَلُّوا عَنْهُ جَازَ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا مَوْجُودٌ دَلَالَةً، وَهِيَ دَلَالَةُ عَقْدِ الْمُرَافَقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ رُفَقَائِهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إِلَى الْكَعْبَةِ يَكُونُ آذِنًا لِلْآخَرِ بِإِعَانَتِهِ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ، فَكَانَ الْأَمْرُ مَوْجُودًا دَلَالَةً، وَسَعْيُ الْإِنْسَانِ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ سَعْيًا لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ بِمُوجِبِ قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ، لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ السَّعْيُ فِي التَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ فِعْلَهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ فِعْلًا لَهُ تَقْدِيرًا بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ هُنَاكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلِ الشَّرْطُ حُصُولُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَقَدْ حَصَلَ، وَالشَّرْطُ هَاهُنَا هُوَ التَّلْبِيَةُ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ لَا يَصِيرُ قَوْلًا لَهُ إِلاَّ بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ.
ب- النِّيَابَةُ فِي الرَّمْيِ:
43- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الرَّمْيِ بِنَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رَمْيٍ ف 23).
ثَالِثًا: النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ:
أ- النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي حَجِّ الْفَرْضِ:
44- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مَتَى تُوُفِّيَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلَمْ يَحُجَّ، وَجَبَ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ وَيُعْتَمَرُ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا.وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهما- وَالْحَسَنُ وَطَاوسٌ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ:
أَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَقَدْ رَوَى بُرَيْدَةُ - رضي الله عنه -: «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- وَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، قَالَ: حُجِّي عَنْهَا».وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ، فَأَتَى أَخُوهَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَاقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ».
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ لَزِمَهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.
وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِي الْقَضَاءِ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ وَقَدْ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- أَبَا رَزِينٍ أَنْ يَحُجَّ عَنْ أَبِيهِ وَيَعْتَمِرَ» وَيَكُونُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَيَعْتَمِرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ لَهُ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ، فَكَانَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.
هَذَا فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي حَجِّ النَّذْرِ وَالْقَضَاءِ.
وَيَجُوزُ الْحَجُّ مِنَ الْوَارِثِ وَمِنَ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْوَارِثُ أَمْ لَا بِلَا خِلَافٍ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الِاسْتِنَابَةَ فِي الْحَجِّ مَكْرُوهَةٌ، إِلاَّ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ.
زَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَنْفُذُ مِنَ الثُّلْثِ، سَوَاءٌ كَانَ صَرُورَةً أَمْ غَيْرَ صَرُورَةٍ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ كَانَ صَرُورَةً نَفِذَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا لَمْ يُحَجَّ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تُبِيحُ الْمَمْنُوعَ وَيُصْرَفُ الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ فِي الْهَدَايَا.
ب- النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ:
45- يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ الِاسْتِنَابَةُ فِي حَجِّ تَطَوُّعٍ لَمْ يُوصِ بِهِ الْمَيِّتُ، وَكَذَا التَّطَوُّعُ عَنْهُ بِلَا اسْتِنَابَةٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ.
أَمَّا إِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ بِحَجِّ التَّطَوُّعِ عَنْهُ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازَ الِاسْتِنَابَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْعُ الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْفَرْضِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي النَّفْلِ.
مَكَانُ الِاسْتِنَابَةِ عَنِ الْمَيِّتِ:
46- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدِهِ، قِيَاسًا لَا اسْتِحْسَانًا، أَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا الِاسْتِحْسَانُ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي يَسْكُنُهُ، وَإِلاَّ فَمِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْطَانٌ، فَمِنْ أَقْرَبِهَا إِلَى مَكَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَطَنٌ فَمِنْ حَيْثُ مَاتَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُوصِيَ إِذَا عَيَّنَ مَوْضِعَ الْإِحْرَامِ الَّذِي يُحْرِمُ مِنْهُ الْأَجِيرُ فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ إِحْرَامُهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ذَلِكَ وَأَطْلَقَ تَعَيَّنَ عَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِ الْمَيِّتِ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَجِيرُ مِنْ بِلَادِ الْمَيِّتِ أَوْ مِنْ بِلَادٍ أُخْرَى لَهُمْ مِيقَاتٌ آخَرُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوصِي مِصْرِيًّا وَالْأَجِيرُ مَدَنِيًّا.وَظَاهِرُهُ: مَاتَ الْمُوصِي بِبَلَدِهِ أَوْ بِغَيْرِهَا، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ أَوِ الْإِجَارَةُ بِبَلَدِ الْمَيِّتِ أَوْ بِغَيْرِهَا كَالْمَدِينَةِ مَثَلًا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، خِلَافًا لِأَشْهَبَ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُعْتَبَرُ مِيقَاتُ بَلَدِ الْعَقْدِ- كَانَتْ بَلَدَ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرَهَا- وَاسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ وَصَاحِبُ الطِّرَازِ، قَالَ الْحَطَّابُ: وَهُوَ أَقْوَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَنِ الْمَيِّتِ مِنَ الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ مِنَ الْمِيقَاتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَنَابُ مَنْ يَحُجُّ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ، إِمَّا مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَيْسَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْأَدَاءِ كَقَضَاءِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ.
فَإِنْ كَانَ لَهُ وَطَنَانِ اسْتُنِيبَ مِنْ أَقْرَبِهِمَا، فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِخُرَاسَانَ وَمَاتَ بِبَغْدَادَ، أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِبَغْدَادَ فَمَاتَ بِخُرَاسَانَ فَقَالَ أَحْمَدُ: يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ لَا مِنْ حَيْثُ مَوْتُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْمَكَانَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا فِي أَقْرَبِ الْمَكَانَيْنِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ أَبْعَدَ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ نَائِبُهُ.
فَإِنْ أَحَجَّ عَنْهُ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَقَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ بِكَمَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْزِئَهُ، وَيَكُونُ مُسِيئًا كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ.
فَإِنْ خَرَجَ لِلْحَجِّ أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، حَجَّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجِبْ ثَانِيًا.
وَكَذَلِكَ إِنْ مَاتَ نَائِبُهُ اسْتُنِيبَ حَيْثُ مَاتَ لِذَلِكَ.
النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ بِأُجْرَةٍ:
47- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ.
أَمَّا عَنِ الْحَيِّ فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ لِلْعُذْرِ الْمَيْئُوسِ عَنْ زَوَالِهِ وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ أَوِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ وَقَعَتِ الْإِجَارَةُ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لَكِنَّ الْحَجَّةَ تَقَعُ عَنِ الْأَصِيلِ، وَلِمَنْ حَجَّ نَفَقَةُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ حَبَسَ نَفْسَهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَصِيلِ، فَوَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ.
رَابِعًا: النِّيَابَةُ فِي الْأُضْحِيَّةِ:
48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ إِذَا كَانَ النَّائِبُ مُسْلِمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهَا إِذَا كَانَ النَّائِبُ كِتَابِيًّا، وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِمَوْضِعِ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ لَا مَوْضِعِ الْمُضَحَّى عَنْهُ عَلَى خِلَافٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أُضْحِيَّة ف 64).
خَامِسًا: النِّيَابَةُ فِي الْوَظَائِفِ:
49- اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْوَظَائِفِ.
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ- مِنْهُمُ الطَّرْطُوسِيُّ- إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ لِأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ حَتَّى مَعَ قِيَامِ الْأَعْذَارِ.وَيَرَى آخَرُونَ- مِنْهُمْ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ- جَوَازَ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْوَظَائِفِ.
وَقَالَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: يَجِبُ تَقْيِيدُ جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ بِوَظِيفَةٍ تَقْبَلُ الْإِنَابَةَ كَالتَّدْرِيسِ بِخِلَافِ التَّعَلُّمِ، وَحَيْثُ تَحَرَّرَ الْجَوَازُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنَابُ مُسَاوِيًا لِلنَّائِبِ فِي الْفَضِيلَةِ أَوْ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ.
وَاشْتَرَطَ أَبُو السُّعُودِ لِجَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ الْعُذْرَ الشَّرْعِيَّ، وَكَوْنَ الْوَظِيفَةِ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ كَالْإِفْتَاءِ وَالتَّدْرِيسِ، وَكَوْنَ النَّائِبِ مِثْلَ الْأَصِيلِ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ، وَأَنَّ الْمَعْلُومَ بِتَمَامِهِ يَكُونُ لِلنَّائِبِ لَيْسَ لِلْأَصِيلِ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي أَيَّامِ الْعُذْرِ وَقَالُوا: جَازَ لِلْمُسْتَنِيبِ تَنَاوُلُ رِيعِ الْوَقْفِ وَأَنْ يُطْلِقَ لِنَائِبِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ ذَلِكَ الرِّيعِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الْأَعْذَارِ فَلَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ عِنْدَهُمْ فِي الْوَظَائِفِ، قَالَ فِي الْمَسَائِلِ الْمَلْقُوطَةِ: مَنْ وَلاَّهُ الْوَاقِفُ عَلَى وَظِيفَةٍ بِأُجْرَةٍ، فَاسْتَنَابَ فِيهَا غَيْرَهُ وَلَمْ يُبَاشِرِ الْوَظِيفَةَ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَنَاوُلُ الْأُجْرَةِ وَلَا لِنَائِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرِ الْوَظِيفَةَ بِنَفْسِهِ، وَمَا عُيِّنَ لَهُ النَّاظِرُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلاَّ بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعَيِّنِ النَّاظِرُ النَّائِبَ فِي الْوَظِيفَةِ، فَمَا تَنَاوَلَاهُ حَرَامٌ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْوَظَائِفِ، فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ: الِاسْتِنَابَةُ فِي الْوَظَائِفِ الَّتِي تَقْبَلُ النِّيَابَةَ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ النَّائِبُ مِثْلَ الْمُسْتَنِيبِ أَوْ أَعْلَى، وَيَسْتَحِقُّ الْمُسْتَنِيبُ جَمِيعَ الْمَعْلُومِ وَإِنْ جَعَلَ لِلنَّائِبِ شَيْئًا وَجَبَ دَفْعُهُ.
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ عَمِيرَةَ مَا يُفِيدُ أَنَّ الِاسْتِنَابَةَ فِي الْوَظَائِفِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَنِيبُ وَلَا النَّائِبُ شَيْئًا، لَكِنْ تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ إِذَا كَانَتْ بِإِذْنِ الْوَاقِفِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: النِّيَابَةُ فِي الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَةِ مِنْ تَدْرِيسٍ وَإِمَامَةٍ وَخَطَابَةٍ وَأَذَانٍ وَغَلْقِ بَابٍ وَنَحْوِهَا جَائِزَةٌ، إِذَا كَانَ النَّائِبُ مِثْلَ مُسْتَنِيبِهِ فِي كَوْنِهِ أَهْلًا لِمَا اسْتُنِيبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَنْ أَكَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ قَوَّمَ لَهُمْ رَوَاتِبَ أَضْعَافَ حَاجَاتِهِمْ وَقَوَّمَ لَهُمْ جِهَاتٍ مَعْلُومُهَا كَثِيرٌ يَأْخُذُونَهُ وَيَسْتَنِيبُونَ فِيهَا بِيَسِيرٍ مِنَ الْمَعْلُومِ لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ غَرَضِ الْوَاقِفِينَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
40-موسوعة الفقه الكويتية (هلاك)
هَلَاكٌالتَّعْرِيفُ
1- الْهَلَاكُ: مَصْدَرٌ لِفِعْلِ هَلَكَ، يُقَالُ: هَلَكَ الشَّيْءُ هَلْكًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَهَلَاكًا، وَهُلُوكًا: مَاتَ.
وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، يُقَالُ: أَهْلَكْتُهُ.
وَفِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ: فَيُقَالُ: هَلَكْتُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ عَلَى فَقْدِ الشَّيْءِ مَعَ وُجُودِهِ مَعَ غَيْرِهِ.وَعَلَى السُّقُوطِ، وَالْفَسَادِ، وَمَصِيرِ الشَّيْءِ إِلَى حَيْثُ لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ خُرُوجُ الشَّيْءِ عَنِ الِانْتِفَاعِ الْمَقْصُودِ بِهِ سَوَاءٌ بَقِيَ أَوْ لَمْ يَبْقَ أَصْلًا.
وَالْهَلَاكُ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَوْتِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَنَاءُ:
2- الْفَنَاءُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ فَنَى أَيْ بَادَ وَانْتَهَى وُجُودُهُ يُقَالُ: فَنَى فُلَانٌ أَيْ هَرِمَ وَأَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ.
وَاصْطِلَاحًا: صَيْرُورَةُ الشَّيْءِ مَعْدُومًا بِذَاتِهِ أَوْ بِأَجْزَائِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ: أَنَّ الْفَنَاءَ أَعَمُّ مِنَ الْهَلَاكِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهَلَاكِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْهَلَاكِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ- هَلَاكُ الْمَبِيعِ:
3- إِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَإِنْ هَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَلِمَ عَيْبًا بَعْدَ هَلَاكِهِ كَأَنْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا، أَوْ خَرَجَ عَنْ قَبُولِ النَّقْلِ كَأَنْ يَعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ أَوْ وَقَفَهُ أَوِ اسْتَوْلَدَ الْأَمَةَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ الْعَيْبَ، أَوْ جَعَلَ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ رَجَعَ بِالْأَرْشِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ حِسًّا فِي حَالَةِ التَّلَفِ، وَلِعَدَمِ قَبُولِ النَّقْلِ فِي حَالَاتِ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْوَقْفِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَمْنَعُ النَّقْلَ.أَمَّا الْهَلَاكُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَهَى بِهِ، وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا بِفِعْلِهِ، وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَإِنَّهُ إِنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ لَمْ يُخْلَقْ لِلْمِلْكِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَلِكُ مُوَقَّتًا إِلَى الْإِعْتَاقِ فَكَانَ الْإِنْهَاءُ بِهِ كَالْمَوْتِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْع ف 59، عَيْب ف 6، وَمَا بَعْدَهَا، تَلَف ف9 وَمَا بَعْدَهَا، ضَمَان ف 31 وَمَا بَعْدَهَا).
وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ هَلَاكِهِ عَيْبًا قَدِيمًا فِيهِ فَإِنْ لَمْ يُدَلِّسْهُ الْبَائِعُ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْعَيْبِ فَقَطْ.
أَمَّا إِنْ هَلَكَ بِسَبَبِ عَيْبٍ دَلَّسَهُ الْبَائِعُ بِأَنْ عَلِمَهُ وَكَتَمَهُ أَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فِي زَمَنِ تَلَبُّسِهِ بِالْعَيْبِ الْمُدَلَّسِ كَمَوْتِهِ فِي إِبَاقِهِ كَأَنِ اقْتَحَمَ نَهْرًا فِي إِبَاقِهِ أَوْ تَرَدَّى فِي نَهْرٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ دَخَلَ جُحْرًا فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ حُكْمًا كَأَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ خَبَرٌ فِي زَمَنِ إِبَاقِهِ الَّذِي دُلِّسَ فِيهِ فَهَلَكَ، أَوْ غَابَ وَلَمْ يَدْرِ حَيَاتَهُ وَلَا مَوْتَهُ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ الْمُدَلِّسِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لَا بِالْأَرْشِ فَقَطْ.
وَإِنْ مَاتَ بِسَمَاوِيٍّ فِي غَيْرِ حَالَةِ تَلَبُّسِهِ بِعَيْبِ التَّدْلِيسِ فَلَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ بَلْ يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ الْقَدِيمِ فَقَطْ وَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْعَيْبِ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِعَيْبِ التَّدْلِيسِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ الْمُدَلِّسِ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ رُجُوعُهُ عَلَى بَائِعِهِ لِعَدَمِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ حَاضِرٌ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ الْمُدَلِّسُ، لِكَشْفِ الْعَيْبِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِتَدْلِيسِهِ.فَإِنْ سَاوَى مَا أَخَذَهُ مَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ فَوَاضِحُ.
وَإِنْ زَادَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُدَلِّسِ عَلَى مَا أَخَذَهُ مِنْهُ الْبَائِعُ الثَّانِي فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ الثَّانِي وَهُوَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ يَحْفَظُهُ لَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي حَتَّى يَدْفَعَهُ لَهُ أَوْ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ نَقَصَ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُدَلِّسِ عَلَى مَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ فَهَلْ يُكْمِلُهُ الْبَائِعُ الثَّانِي لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ لِأَنَّهُ قَبَضَ هَذَا الزَّائِدَ مِنْهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ أَوْ لَا يُكْمِلُهُ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِاتِّبَاعِ الْأَوَّلِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الثَّانِي فِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
الْأَوَّلُ: حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَابْنُ شَاسٍ، وَالثَّانِي حَكَاهُ فِي النَّوَادِرِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ يُونُسَ.
ب- سُقُوطُ الزَّكَاةِ بِهَلَاكِ الْمَالِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ:
4- إِنْ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَالِكِ.وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ فَتَصِيرُ عَلَيْهِ دَيْنًا لِلتَّقْصِيرِ فِي تَأْخِيرِ إِخْرَاجِهَا فَيَكُونُ ضَامِنًا.وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَلَف ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).
ج- هَلَاكُ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ:
5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ هَلَاكَ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ لَا يُسْقِطُهَا إِنْ كَانَ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ إِخْرَاجِهَا.أَمَّا بَعْدَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ فَتَسْقُطُ عَنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (تَلَف ف 5 وَمَا بَعْدَهَا).
د- هَلَاكُ الْأُضْحِيَّةِ:
6- إِنْ عَيَّنَ شَاةً أَوْ بَدَنَةً لِلْأُضْحِيَّةِ: كَأَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، أَوْ نَذَرَ: كَأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ أَوِ الشَّاةَ فَمَاتَتْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، أَوْ سُرِقَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَبْحِهَا يَوْمَ النَّحْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.وَكَذَا الْهَدْيُ الْمُعَيَّنُ إِذَا تَلِفَ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَنْسَكِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهِ.
أَمَّا إِنْ تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهِ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَلَف ف 6، هَدْي ف 7).
هـ- هَلَاكُ الْمَهْرِ:
7- إِذَا هَلَكَ الْمَهْرُ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي ضَمَانِهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ كَوْنِ هَلَاكِهِ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ كَانَ الْهَلَاكُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ.
وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَهْر ف 54).
و- هَلَاكُ الْمَرْهُونِ:
8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ يَدُ أَمَانَةٍ فَلَا يَضْمَنُ إِنْ هَلَكَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ؛ لِخَبَرِ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ».
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا يَدُ ضَمَانٍ فَيَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ إِنْ هَلَكَ بِيَدِهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الدَّيْنِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرْهُونُ عِنْدَ أَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ فَلَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِتَعَدٍّ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رَهَنَ ف 18 وَمَا بَعْدَهَا).
ز- هَلَاكُ الْمُعَارِ:
9- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَارِيَّةَ إِنْ هَلَكَتْ بِتَعَدٍّ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَلَاكِ الْمُعَارِ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَارِيَة ف 15).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
41-موسوعة الفقه الكويتية (وصية 7)
وَصِيَّةٌ-7ب- الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ يَبْقَى بَعْدَ النَّصِيبِ:
96- مِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ:
إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ خَمْسَةُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ لآِخَرَ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ أَحَدٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا، لِصَاحِبِ النِّسَبِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ مَا بَقِيَ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ.فَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ عَدَدِ الْبَنِينَ خَمْسَةً فَتَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ سَهْمًا؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ؛ وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ وَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَطْرَحَ السَّهْمَ الَّذِي زِدْتَهُ بَقِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَالِ أَحَدًا وَخَمْسِينَ.وَإِنَّمَا طَرَحْنَا هَذَا السَّهْمَ الزَّائِدَ لِتَبَيُّنِ مِقْدَارِ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ، وَلَا وَصِيَّةَ فِي الثُّلُثَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ السَّهْمِ الزَّائِدِ فِيهِ، وَبِهَذَا طَرَحْنَاهُ فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ سَبْعَةَ عَشَرَ فَوَجْهُ مَعْرِفَةِ النَّصِيبِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ- وَهُوَ وَاحِدٌ- وَتَضْرِبَهُ فِي ثَلَاثَةٍ ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ، فَيَكُونَ تِسْعَةً، ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْ ذَلِكَ سَهْمًا كَمَا طَرَحْتَ فِي الِابْتِدَاءِ يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ، فَإِذَا رَفَعْتَ ذَلِكَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ تَبْقَى تِسْعَةٌ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ثُلُثُ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، تَبْقَى سِتَّةٌ تُضِيفُهَا إِلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَيَكُونُ أَرْبَعِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ فَاسْتَقَامَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلآِخَرَ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ، اجْعَلْ ثُلُثَ الْمَالِ نَصِيبًا مَجْهُولًا وَثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، اعْزِلْ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ، يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْهَا دِرْهَمًا، يَبْقَى دِرْهَمَانِ تُضِيفُهُمَا لِثُلُثَيِ الْمَالِ وَذَلِكَ نَصِيبَانِ وَسِتَّةُ دَرَاهِمَ فَيَصِيرُ نَصِيبَيْنِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، فَذَلِكَ الَّذِي يَكُونُ لِلْبَنِينَ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءَ، فَيَصِيرُ النَّصِيبَانِ لِابْنَيْنِ وَثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ لِنَصِيبِ الثَّالِثِ، فَقَدْ بَانَ النَّصِيبُ الْمَجْهُولُ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَقَدْ جَعَلْتَ ثُلُثَ الْمَالِ نَصِيبًا وَثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَجَمِيعُهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، يَخْرُجُ الثُّلُثُ أَحَدَ عَشَرَ وَيَخْرُجُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ ثَمَانِيَةٌ، وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى وَاحِدٌ، وَيَبْقَى اثْنَانِ لِثُلُثَيِ الْمَالِ وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَتَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ بَيْنَ الْبَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ كَمَا أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ.
فَإِنْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ وَلآِخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ، وَتَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتَيْنِ اجْعَلِ الثُّلُثَ نَصِيبًا وَثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَالنَّصِيبُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهِ، وَثُلُثُ الْبَاقِي دِرْهَمٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْبَاقِي، وَيَبْقَى دِرْهَمَانِ تُضِيفُهُمَا لِثُلُثَيِ الْمَالِ فَيَكُونُ نَصِيبَيْنِ وَثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ الْمُوصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهَا لَهَا رُبُعُ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْوَصَايَا وَذَلِكَ نَصِيبَانِ فَثَمَانِيَةٌ لِنَصِيبَيْنِ؛ لِكُلِّ نَصِيبٍ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثَةٌ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ، وَهَذَا ثُلُثُ الْمَالِ فَجَمِيعُهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ مِنَ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى وَاحِدٌ، وَيَبْقَى اثْنَانِ يُضَافَانِ لِثُلُثَيِ الْمَالِ وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَيْنَ الْبِنْتِ وَالْأُخْتَيْنِ، لِلْبِنْتِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ أَرْبَعَةٌ مِثْلَ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِهَا.
وَمِثَالُ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: ثَلَاثَةُ بَنِينَ وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِمِثْلِ مَا تَبَقَّى مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، تُقَدِّرُ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لَهُ ثُلُثٌ لِقَوْلِهِ: بِثُلُثِ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ.وَلْيَكُنْ ثَلَاثَةً، تَزِيدُ عَلَيْهِ وَاحِدًا لِلنَّصِيبِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً، وَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ أَرْبَعَةً، فَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَالْجُمْلَةُ اثْنَا عَشَرَ، تُعْطِي زَيْدًا سَهْمًا، وَعَمْرًا سَهْمًا، وَهُوَ ثُلُثُ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ الْبَاقِي، يَبْقَى سَهْمَانِ، تَضُمُّهُمَا إِلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ تَكُونُ عَشْرَةً، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةً، فَيَكُونُ لِكُلِّ ابْنٍ مِثْلُ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ، فَقَدْ زَادَ عَلَى مَا يَنْبَغِي سَبْعَةٌ، وَهُوَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ تُقَدِّرُ الثُّلُثَ خَمْسَةً، وَتَجْعَلُ النَّصِيبَ اثْنَيْنِ، وَتُعْطِي عَمْرًا وَاحِدًا، يَبْقَى سَهْمَانِ، تَزِيدُهُمَا عَلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، وَهُوَ عَشَرَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، تَبْلُغُ اثْنَيْ عَشَرَ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سِتَّةً لِيَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، فَزَادَ عَلَى مَا يَنْبَغِي سِتَّةً، وَهُوَ الْخَطَأُ الثَّانِي، ثُمَّ نَقُولُ: لَمَّا أَخَذْنَا أَرْبَعَةً زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ سَبْعَةً، وَلَمَّا زِدْنَا سَهْمًا نَقَصَ عَنِ الْخَطَأِ سَهْمٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ يَزِيدُ يَنْقُصُ بِهِ مِنَ الْخَطَأِ سَهْمٌ.
وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْخَطَأِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، فَتَزِيدُ لَهَا سِتَّةَ أَسْهُمٍ يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ، فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، النَّصِيبُ مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ، وَجَمِيعُ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلآِخَرَ بِنِصْفِ بَاقِي الْمَالِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ.
الْأَوَّلُ: يُعْطَى صَاحِبُ النَّصِيبِ مِثْلَ نَصِيبِ ابْنٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَصِيَّةٌ أُخْرَى.
وَالثَّانِي: يُعْطَى نَصِيبَهُ مِنْ ثُلُثَيِ الْمَالِ.
وَالثَّالِثُ: يُعْطَى مِثْلَ نَصِيبِ ابْنٍ بَعْدَ أَخْذِ صَاحِبِ النِّصْفِ وَصِيَّتَهُ فَيَدْخُلُهَا الدَّوْرُ وَلَهَا طُرُقٌ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَأْخُذَ مَخْرَجَ النِّصْفِ، فَتُسْقِطَ مِنْهُ سَهْمًا يَبْقَى سَهْمٌ، فَهُوَ النَّصِيبُ، فَزِدْ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ وَاحِدًا، تَكُنْ أَرْبَعَةً، فَتَضْرِبَهَا فِي الْمَخْرَجِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً تُنْقِصُهَا سَهْمًا يَبْقَى سَبْعَةٌ، فَهِيَ الْمَالُ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمٌ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الْبَاقِي ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ.
الثَّانِي: أَنْ تُزِيدَ سِهَامَ الْبَنِينَ نِصْفَ سَهْمٍ، وَتَضْرِبَهَا فِي الْمَخْرَجِ تَكُنْ سَبْعَةً.
الثَّالِثُ: طَرِيقُ الْمَنْكُوسِ، وَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ سِهَامَ الْبَنِينَ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، فَتَقُولُ: هَذَا بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ نِصْفُهُ، فَإِذَا أَرَدْتَ تَكْمِيلَهُ، زِدْتَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ مِثْلَ نَصِيبِ ابْنٍ تَكُنْ سَبْعَةً.
الرَّابِعُ: أَنْ تَجْعَلَ الْمَالَ سَهْمَيْنِ وَنَصِيبًا، تَدْفَعُ النَّصِيبَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِهِ يَبْقَى سَهْمٌ لِلْبَنِينَ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَالْمَالُ كُلُّهُ سَبْعَةٌ، وَبِالْجَبْرِ تَأْخُذُ مَالًا، وَتَلْقَى مِنْهُ نَصِيبًا يَبْقَى مَالُ الْأَنْصِبَاءِ، تَدْفَعُ نَصِيبَ الْبَاقِي إِلَى الْوَصِيِّ الْآخَرِ يَبْقَى نِصْفُ مَالٍ إِلاَّ نِصْفَ نَصِيبٍ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، اجْبُرْهُ بِنِصْفِ نَصِيبٍ، وَزِدْهُ عَلَيْهِ يَبْقَى نَصِيبًا كَامِلًا يَعْدِلُ ثَلَاثَةً وَنِصْفًا، فَالْمَالُ سَبْعَةٌ.
ج- الْوَصِيَّةُ بِالنَّصِيبِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ عَنْهُ:
97- مِثَالُ هَذِهِ الصُّورَةِ: أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ إِلاَّ نِصْفَ مَالِهِ وَتَرَكَ ابْنًا وَاحِدًا صَحَّا وَلِلْمُوصَى لَهُ رُبُعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ سَهْمٌ إِذِ الِابْنُ وَاحِدٌ فَزِدْ عَلَيْهِ سَهْمًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ بِالْمِثْلِ؛ وَاجْعَلْ كُلَّ سَهْمٍ سَهْمَيْنِ لِحَاجَتِنَا إِلَى مَعْرِفَةِ نِصْفِ الْمَالِ فَصَارَ كُلُّ الْمَالِ أَرْبَعَةً، فَأَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَثْنَى مِنَ النَّصِيبِ نِصْفَ الْمَالِ كَانَ النَّصِيبُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْمَالِ وَاسْتَرْجِعْ مِنْهُ نِصْفَ الْمَالِ وَهُوَ اثْنَانِ فَيَصِيرَ فِي يَدِ الِابْنِ ثَلَاثَةٌ، وَيَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ وَهُوَ رُبُعُ الْمَالِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا:
أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ وَاسْتَثْنَى مِنْهُ جُزْءًا مُعَيَّنًا، نَحْوَ ثَلَاثَةِ بَنِينَ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلاَّ سُبْعَ مَالِهِ، فَيُدْفَعُ لَهُ مَا كَانَ يُصِيبُ أَحَدُ الْبَنِينَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ الثُّلُثُ، يَبْقَى ثُلُثُ الْمَالِ سَهْمَانِ عَلَى ثَلَاثَةٍ مُبَايِنًا، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةٍ تَبْلُغُ تِسْعَةً، فِي سَبْعَةٍ- مَخْرَجُ الْجُزْءِ الْمُسْتَثْنَى- تَبْلُغُ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ، لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ ذَلِكَ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ، وَالنَّصِيبُ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثٍ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ الْبَنُونَ أَرْبَعَةً أَوْ أَكْثَرَ أَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنَ النِّصْفِ لَصَحَّتْ.ثُمَّ الْعَمَلُ أَنْ تَأْخُذَ مَخْرَجَ الرُّبُعِ إِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً تَضْرِبُهُ فِي مَخْرَجِ ثُلُثِ الثُّلُثِ تِسْعَةٌ، يَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، النَّصِيبُ مِنْهَا تِسْعَةٌ، وَالثُّلُثُ اثْنَا عَشَرَ يَبْقَى مِنْهُ ثَلَاثَةٌ، ثُلُثُهَا وَاحِدٌ فَيُضَافُ عَلَى النَّصِيبِ فَيَصِيرُ عَشَرَةً، وَتَرُدُّ مِنْهُ سُبُعَ الْمَالِ وَهُوَ تِسْعَةٌ تَبْقَى بِيَدِهِ اثْنَا عَشَرَ وَذَلِكَ جُمْلَةُ مَا يَصِحُّ لَهُ وَيَبْقَى أَحَدٌ وَخَمْسُونَ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةَ عَشَرَ.
د- الِاسْتِثْنَاءُ مَعَ ذِكْرِ الْأَنْصِبَاءِ وَالْكُسُورِ:
الِاسْتِثْنَاءُ مَعَ ذِكْرِ الْأَنْصِبَاءِ وَالْكُسُورِ فِي مَسَائِلِ الْوَصَايَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ:
98- مِثَالُهُ: إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ خَمْسَةُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلاَّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ النَّصِيبِ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ، النَّصِيبُ عَشَرَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ.وَتَخْرِيجُهُ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً فَتَزِيدَ عَلَيْهَا سَهْمًا بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَزِيدَ عَلَيْهَا سَهْمًا فَيَكُونَ تِسْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ فَالْجُمْلَةُ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ، وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ وَهُوَ وَاحِدٌ وَتَضْرِبَهُ فِي ثَلَاثَةٍ ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ، فَيَكُونَ تِسْعَةً ثُمَّ تَزِيدَ عَلَيْهِ سَهْمًا فِي أَصْلِ الْمَالِ فَيَكُونَ عَشَرَةً، وَهُوَ النَّصِيبُ الْكَامِلُ إِذَا رَفَعْتَهُ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ بَقِيَ تِسْعَةٌ فَاسْتَرْجِعْ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنَ النَّصِيبِ مِثْلَ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَضُمَّ ذَلِكَ إِلَى تِسْعَةٍ فَيَكُونَ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ تَضُمَّ ذَلِكَ إِلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ فَيَكُونَ خَمْسِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ مِثْلَ نَصِيبٍ كَامِلٍ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ:
99- مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولُ الْمُوصِي: أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيَّ الثَّلَاثَةِ إِلاَّ رُبُعَ الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَلَكَ فِيهَا طُرُقٌ مِنْهَا: اجْعَلِ الْمَخْرَجَ ثَلَاثَةً وَزِدْ عَلَى الْمَخْرَجِ وَاحِدًا يَبْلُغْ أَرْبَعَةً، فَهُوَ النَّصِيبُ، وَرُدَّ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ سَهْمًا لِيَكُونَ النَّصِيبُ أَرْبَعَةً، وَزِدْ أَيْضًا ثُلُثًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ وَاضْرِبِ الَّذِي صَارَ أَرْبَعَةً وَثُلُثًا فِي ثَلَاثَةٍ الَّتِي هِيَ الْمَخْرَجُ يَكُنْ بِالضَّرْبِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ سَهْمٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ مِنْ جُزْءٍ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ:
100- مِثَالُهُ: خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِنَصِيبِ ابْنٍ إِلاَّ نِصْفَ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَقُلْ: ثُلُثُ الْمَالِ وَصِيَّةٌ وَقِسْمَانِ، وَنَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ وَصِيَّةٌ وَقِسْمٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ نَصِيبٌ إِلاَّ وَاحِدًا- أَيْ نِصْفُ الْبَاقِي- يَكُونُ النَّصِيبُ وَصِيَّةً وَوَاحِدًا؛ وَجَمِيعُ الْأَنْصِبَاءِ ثَلَاثُ وَصَايَا وَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ وَهِيَ تَعْدِلُ مَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ وَصِيَّتَانِ وَسِتَّةُ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ وَصِيَّةٌ وَقِسْمَانِ فَجَمِيعُهُ ثَلَاثُ وَصَايَا وَسِتَّةُ أَقْسَامٍ فَإِذَا أَخْرَجْتَ الْوَصِيَّةَ يَبْقَى مَا ذُكِرَ ثُمَّ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْمُشْتَرَكِ يَبْقَى وَصِيَّةٌ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ الْمَالِ خَمْسَةً وَالْكُلُّ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْوَصِيَّةُ ثَلَاثَةً وَكُلُّ نَصِيبٍ أَرْبَعَةً.
الضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءًا مِمَّا يَبْقَى مِنْ جُزْءِ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ:
101- مِثَالُهُ: خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِنَصِيبِ ابْنٍ إِلاَّ ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، فَنَقُولُ: يَفْرِضُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ نَصِيبًا وَثَلَاثَةً لِيَكُونَ لَهَا ثُلُثٌ صَحِيحٌ فَيَكُونُ كُلُّ التَّرِكَةِ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ وَتِسْعَةً فَالْوَصِيَّةُ مِنْهَا نَصِيبٌ إِلاَّ ثُلُثَ الثَّلَاثَةِ إِذِ الثُّلُثُ نَصِيبٌ وَثَلَاثَةٌ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ نَصِيبُ ابْنٍ إِلاَّ ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، ثُمَّ الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ نَصِيبَانِ وَعَشَرَةٌ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَالنَّصِيبُ عَشَرَةٌ، وَالثُّلُثُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالْجَمِيعُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَالْوَصِيَّةُ تِسْعَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ.
هـ- إِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ:
102- مَتَى أَطْلَقَ الْمُوصِي الِاسْتِثْنَاءَ كَأَنْ يَقُولُ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ فُلَانٍ إِلاَّ رُبُعَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَالِ، وَلَمْ يَقُلْ: بَعْدَ النَّصِيبِ وَلَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: يُحْمَلُ عَلَى مَا بَعْدَ النَّصِيبِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ النَّصِيبُ فَانْصَرَفَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَيْهِ.
وَعَزَا ابْنُ قُدَامَةَ هَذَا الرَّأْيَ إِلَى جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: يُحْمَلُ عَلَى الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ أَكْثَرُ مِنَ الْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبِ؛ فَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى أَكْثَرَ، وَيَقِلُّ نَصِيبُ الْمُوصَى لَهُ وَقَدْ تَقَرَّرَ تَنْزِيلُ الْوَصَايَا عَلَى الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ.
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَزَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَالْبَصْرِيِّينَ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
42-موسوعة الفقه الكويتية (وعظ)
وَعْظٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْوَعْظُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ، يُقَالُ: وَعَظَهُ يَعِظُهُ وَعْظًا وَعِظَةً؛ أَيْ أَمَرَهُ بِالطَّاعَةِ وَوَصَّاهُ بِهَا.
وَمِنْ مَعَانِي الْوَعْظِ أَيْضًا: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ}.
وَوَعَظَهُ فَاتَّعَظَ؛ أَيِ ائْتَمَرَ وَقَبِلَ الْمَوْعِظَةَ، وَالِاسْمُ: الْمَوْعِظَةُ، وَهِيَ مَا يُوعَظُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْوَاعِظُ مَنْ يَنْصَحُ وَيُذَكِّرُ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النَّصِيحَةُ:
2- النَّصِيحَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الْإِخْلَاصُ وَالصِّدْقُ وَالْمَشُورَةُ وَالْعَمَلُ.
وَالنَّصِيحَةُ اصْطِلَاحًا: هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالنَّهْيُ عَمَّا فِيهِ الْفَسَادُ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ: أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الدُّعَاءَ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالتَّذْكِيرَ بِالْخَيْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَعْظِ الِاسْتِحْبَابُ، فَقَدْ قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: التَّذْكِيرُ عَلَى الْمَنَابِرِ وَالِاتِّعَاظُ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمَّا كَانَتِ الْمَوَاعِظُ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَعَاهَدُوا النَّاسَ بِالتَّذْكِرَةِ» أَلَّفْتُ فِي هَذَا الْفَنِّ كُتُبًا.
وَقَالَ الرُّحَيْبَانِيُّ: ذَكَرَ الْإِمَامُ (أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) أَلْفَاظًا كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الْوَعْظِ، وَحُسْنِ حَالِ الْوُعَّاظِ مِمَّا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى وَعْظِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ- وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ- فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَعْظِ الْمُرَقِّقِ لِلْقُلُوبِ الْمُقَوِّي لِلْيَقِينِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْوَعْظُ مَنْهِيًّا عَنْهِ كَأَنْ يُهَيِّجَ الْمُصِيبَةَ فَيُعْتَبَرُ مِنَ النِّيَاحَةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْوَعْظِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ: الْوَعْظُ لِلرِّئَاسَةِ، وَكَسْبِ الْمَالِ، وَالْقَبُولِ لَدَى عَامَّةِ النَّاسِ.
فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَا يَحِلُّ لِلْوَاعِظِ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا فِي مَجْلِسِهِ لِلْوَعْظِ لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ الدُّنْيَا بِالْعِلْمِ.
أَرْكَانُ الْوَعْظِ:
أَرْكَانُ الْوَعْظِ هِيَ: الْوَاعِظُ، وَالْمَوْعُوظُ، وَأُسْلُوبُ الْوَعْظِ.
وَنَتَنَاوَلُ كُلَّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ بِالتَّفْصِيلِ حَسَبَ الْآتِي:
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْوَاعِظُ:
شُرُوطُ الْوَاعِظِ:
4- يُشْتَرَطُ فِي الْوَاعِظِ مَا يَلِي:
أ- أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا أَيْ عَاقِلًا بِالِغًا.
ب- أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.
ج- أَنْ يَكُونَ مُحَدِّثًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْتَغِلُ بِكُتُبِ الْحَدِيثِ بِأَنْ يَكُونَ قَرَأَ لَفْظَهَا وَفَهِمَ مَعْنَاهَا وَعَرَفَ صِحَّتَهَا وَسُقْمَهَا وَلَوْ بِإِخْبِارِ حَافِظٍ أَوِ اسْتِنْبَاطِ فَقِيهٍ.
د- أَنْ يَكُونَ مُفَسِّرًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْتَغِلُ بِشَرْحِ غَرِيبِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَوْجِيهِ مُشْكِلِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فَصِيحًا لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّاسِ إِلاَّ قَدْرَ فَهْمِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ لَطِيفًا ذَا وَجْهٍ وَمُرُوءَةٍ.
وَأَنْ يَكُونَ مُيَسِّرًا لَا مُعَسِّرًا.
آدَابُ الْوَاعِظِ:
5- مِنْ آدَابِ الْوَاعِظِ وَالْعَالِمِ وَالْمُعَلِّمِ وَنَحْوِهِمْ: أَنْ يَجْتَنِبَ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا خِلَافَ الصَّوَابِ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِيهَا، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ.
مِنْ جُمْلَتِهَا: تَوَهُّمُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عَلَى ظَاهِرِهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَأَنْ يُصْبِحَ ذَلِكَ شَرْعًا وَأَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْمَحْمَلِ الَّذِي صَحِبَهُ مَقْصُورًا.
وَمِنْهَا: وُقُوعُ النَّاسِ فِي الْوَاعِظِ بِالتَّنْقِيصِ بِكَوْنِهِ يُبَاشِرُ مَا لَا يَجُوزُ، فَيُطْلِقُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَيْهِ وَيُنَفِّرُونَ عَنْهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ يُسِيئُونَ الظَّنَّ بِهِ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ، وَيُنَفِّرُونَ غَيْرَهُمْ عَنْ أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْهُ، وَتَسْقُطُ رِوَايَاتُهُ وَشَهَادَاتُهُ، وَيَبْطُلُ الْعَمَلُ بِفَتْوَاهُ، وَيَذْهَبُ رُكُونُ النَّفْسِ إِلَى مَا يَقُولُهُ مِنَ الْعُلُومِ، وَذَلِكَ لِانْطِلَاقِ الْأَلْسِنَةِ فِيهِ الْمُقْتَضِي عَادَةً قِلَّةَ الْوُثُوقِ مِمَّنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ مَفَاسِدُ ظَاهِرَةٌ يَنْبَغِي اجْتِنَابُ أَفْرَادِهَا، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ- وَكَانَ مُحِقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ- لَمْ يُظْهِرْهُ خَشْيَةً مِنْ حُصُولِ الضَّرَرِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ، أَوْ أَظْهَرَهُ قَصْدًا لِيُعْلَمَ جَوَازُهُ مَثَلًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: هَذَا الَّذِي فَعَلْتُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ إِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلْتُهُ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَكَذَا، وَدَلِيلُهُ كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ «سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: قَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ عُمِلَ وَوُضِعَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، كَبَّرَ وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» وَلِحَدِيثِ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا».
وَلِمَا وَرَدَ «أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- شَرِبَ قَائِمًا، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ».
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: فَعَلَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- لِتَبْلِيغِ شَرْعِهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَأَنَّ فِعْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ نَهْيَهُ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ وَالتَّنْزِيهِ.
مَنْعُ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْوَعْظِ مِنَ الْوَعْظِ:
6- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَصَدَّى لِلْوَعْظِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ كَانَ يَكْذِبُ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ اغْتِرَارُ النَّاسِ بِهِ فِي تَأْوِيلٍ أَوْ تَحْرِيفٍ.
أَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَلَا يَجُوزُ حُضُورُ مَجْلِسِهِ إِلاَّ عَلَى قَصْدِ إِظْهَارِ الرَّدِّ عَلَيْهِ، إِمَّا لِلْكَافَّةِ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ حَوَالَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْجُلُوسُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَوْعُوظُ
7- مِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِ مَا يَلِي:
أ- مِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ لِلْوَعْظِ أَنْ يُنْصِتُوا لِلْوَاعِظِ وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُنْصِتُوا فَلِلْوَاعِظِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْحَاضِرِينَ الِاسْتِمَاعَ إِلَى وَعْظِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَيْسِيرِ وُصُولِ الْوَعْظِ إِلَيْهِمْ، لِحَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: اسْتَنْصِتِ النَّاسَ.فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: إِنَّ الْإِنْصَاتَ لِلْعُلَمَاءِ لَازِمٌ لِلْمُتَعَلِّمِينَ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَكَانِتُ الْخُطْبَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْجَمْعُ كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ- صلى الله عليه وسلم-: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَلَمَّا خَطَبَهُمْ لِيُعَلِّمَهُمْ نَاسَبَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْإِنْصَاتِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوَّلُ الْعِلْمِ الِاسْتِمَاعُ، ثُمَّ الْإِنْصَاتُ، ثُمَّ الْحِفْظُ، ثُمَّ الْعَمَلُ، ثُمَّ النَّشْرُ.
ب- وَمِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْوَاعِظَ.
ج- وَمِنْ آدَابِهِمْ أَنْ لَا يَلْعَبُوا وَلَا يَلْغَطُوا أَثْنَاءَ الْوَعْظِ.
د- مِنْ آدَابِهِمْ أَلاَّ يُكْثِرُوا السُّؤَالَ مِنَ الْوَاعِظِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، بَلْ إِذَا عَرَضَ خَاطِرٌ فَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ تَعَلُّقًا قَوِيًّا أَوْ كَانَ دَقِيقًا لَا يَتَحَمَّلُهُ فَهْمُ الْعَامَّةِ فَلْيَسْكُتِ الْمَوْعُوظُ عَنْهُ فِي الْمَجْلِسِ الْحَاضِرِ، فَإِنْ شَاءَ سَأَلَهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ قَوِيٌّ كَتَفْصِيلِ إِجَمَالٍ، وَشَرْحِ غَرِيبٍ فَلْيَنْتَظِرْ حَتَّى يَنْقَضِيَ كَلَامُهُ.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: أُسْلُوبُ الْوَعْظِ وَمَنْهَجُهُ:
يُرَاعَى فِي أُسْلُوبِ الْوَعْظِ مَا يَلِي:
أَوَّلًا: اسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ:
8- يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يُوَضِّحَ الْكَلَامَ بِاسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَاجْتِنَابِ الْغَرِيبِ مِنَ الْكَلِمَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَوْعُوظِ، وَعَدَمِ إِخْفَاءِ شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَى الْمَوْعُوظِ فَهْمُهُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَلَامًا فَصْلًا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ» لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُخَاطِبُ كُلًّا بِقَدْرِ فَهْمِهِ وَعَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ.
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ نَقْلًا عَنِ السَّخَاوِيِّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: «كَلَامًا فَصْلًا» أَيْ مَفْصُولًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ لِبَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ مَعَ اخْتِصَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَلْتَبِسُ مَعْنَاهُ بِمَعْنَى غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَاصِلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوْ مَفْصُولًا عَنِ الْبَاطِلِ وَمَصُونًا عَنْهُ، فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ بَاطِلٌ أَصْلًا، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ.
وَقَوْلُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يسْمَعُهُ» أَيْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ.
ثَانِيًا: تَكْرَارُ كَلِمَاتِ الْوَعْظِ:
9- يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يُكَرِّرَ الْكَلِمَاتِ إِذَا لَمْ يَفْهَمْهَا الْمَوْعُوظُ إِلاَّ بِذَلِكَ التَّكْرَارِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ لِمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِمَدْلُولِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، أَوْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْمُخَاطَبِينَ، فَيُعِيدُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ سَمَاعَ الْجَمِيعِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ».
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الْجُمْلَةَ وَالْجُمَلَ مِمَّا لَا يَتَبَيَّنُ لَفْظُهُ أَوْ مَعْنَاهُ إِلاَّ بِإِعَادَتِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُعِيدُهَا لِذَلِكَ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا عَرَضَ لِلسَّامِعِينَ مَا خَلَطَ عَلَيْهِمْ فَيُعِيدُهُ لَهُمْ لِيَفْهَمُوهُ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَثُرُوا لَمْ يَسْتَيْقِنْ سَمَاعَ جَمِيعِهِمْ فَيُعِيدُ لِيَسْمَعَ الْكُلُّ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُعِيدَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِعَادَةِ كَيْ يُفْهَمَ عَنْهُ.
ثَالِثًا: مُرَاعَاةُ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْوَعْظِ:
10- يُرَاعَى فِي أُسْلُوبِ الْوَعْظِ أَنْ لَا يُحَدِّثَ الْوَاعِظُ النَّاسَ بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ مِمَّا لَا تُطِيقُ عُقُولُهُمْ قَبُولَهُ، أَوْ بِمَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَحْرِيفِهِ إِذَا أَرَادُوا نَقْلَهُ وَالتَّعْبِيرَ عَنْهُ؛ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لِغُمُوضِهِ وَدِقَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَّسِعُ لَهُ عَقْلُ الْمُخَاطَبِ، كَمَا لَا يُحَدِّثُهُمْ بِمَا يَخَافُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافِ الْمُرَادِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ إِلَى الذِّهْنِ، فَيُنْهَى الْعَالِمُ وَالْوَاعِظُ وَالْقَاصُّ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْحَالِ؛ لِئَلاَّ يَحْمِلَهُ الْمُخَاطَبُ عَلَى خِلَافِ الْمُرَادِ.
لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، وَاتْرُكُوا مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ فَهْمُهُ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ.
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً.
رَابِعًا: الِاقْتِصَادُ فِي الْوَعْظِ:
11- يُرَاعَى فِي الْوَعْظِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْبَسْطِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِمْلَالِ وَالسَّآمَةِ وَبَيْنَ الْإِيجَازِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ أَوْ عُسْرِ الْفَهْمِ لِلْمَقَالِ، لِأَنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَأَحْسَنُ الْمَوَاعِظِ مَا كَانَ جَزْلًا جَامِعًا بَلِيغًا نَافِعًا، وَلِأَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ، لِمَا رَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ».
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَقِيهَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ وَالْخُطْبَةَ تَوْطِئَةٌ لَهَا، فَيَصْرِفُ الْعِنَايَةَ إِلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عُبُودِيَّةُ الْعَبْدِ، وَالْإِطَالَةُ فِيهَا مُبَالَغَةٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَالْخُطْبَةُ الْمُرَادُ مِنْهَا التَّذْكِيرُ، وَمَا قَلَّ وَقَرَّ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَفَرَّ.
12- وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَعَهُّدِ النَّاسِ بِالْوَعْظِ وَمُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ فِي وَعْظِهِمْ، وَيَتَحَرَّى مِنَ الْأَوْقَاتِ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الْقَبُولِ، وَلَا يَعِظُ النَّاسَ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى لَا يَسْأَمُوا مِنْ سَمَاعِ الْمَوْعِظَةِ.
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ الْحَاجَةُ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ النَّشَاطِ مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّ الْمَوَاعِظَ إِذَا كَثُرَتْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْقُلُوبِ فَتَسْقُطُ بِالْإِكْثَارِ فَائِدَةُ الْمَوَاعِظِ.
وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا إِلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَجْعَلَ الْوَاعِظُ لِوَعْظِهِ وَقْتًا مُحَدَّدًا كَيَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا».
وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
خَامِسًا: التَّعَرُّفُ عَلَى الْمُنْكَرِ وَكَيْفِيَّةُ وَعْظِ مُرْتَكِبِهِ:
13- عَلَى الْوَاعِظِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمُنْكَرِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ، وَعَارِفًا بِحَالِ الْمَوْعُوظِ، مِنْ كَوْنِهِ قَدِ ارْتَكَبَهُ عَنْ جَهْلٍ أَوْ عَنْ عِلْمٍ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي وَعْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ:
فَالنَّهْيُ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ وَالتَّخْوِيفِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِكَوْنِهِ مُنْكَرًا، أَوْ فِيمَنْ أَصَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مُنْكَرًا، كَالَّذِي يُوَاظِبُ عَلَى الشَّرَابِ، أَوْ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ عَلَى اغْتِيَابِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوعَظَ، وَيُخَوَّفَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتُورَدَ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ بِالْوَعِيدِ فِي ذَلِكَ، وَتُحْكَى لَهُ سِيرَةُ السَّلَفِ وَعِبَادَةُ الْمُتَّقِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِشَفَقَةٍ وَلُطْفٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَغَضَبٍ؛ بَلْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ الْمُتَرَحِّمِ عَلَيْهِ، وَيَرَى إِقْدَامَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مُصِيبَةً عَلَى نَفْسِهِ، إِذِ الْمُسْلِمُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَعْظُ وَالنُّصْحُ فِي سِرٍّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَمَا كَانَ عَلَى الْمَلأَِ فَهُوَ تَوْبِيخٌ وَفَضِيحَةٌ، وَمَا كَانَ فِي السِّرِّ فَهُوَ شَفَقَةٌ وَنَصِيحَةٌ.
فَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنها- قَالَتْ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ زَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ شَانَهُ.
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيُّ: وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ فِي خَلْوَةٍ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ وَأَمْكَنَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالزَّجْرِ وَالنَّصِيحَةِ لَهُ، وَأَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ وَالْإِقْلَاعِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفَعْهُ أَظْهَرَ- حِينَئِذٍ- ذَلِكَ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَبِأَصْحَابِ السُّلْطَانِ.
14- وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِنْ دَرَجَاتِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ التَّعْنِيفُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ الْخَشِنِ، وَذَلِكَ يُعْدَلُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَنْعِ بِاللُّطْفِ وَظُهُورِ مَبَادِئِ الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْآمِرِ النَّاهِي مِنْ تَغْلِيظِ الْقَوْلِ وَتَخْشِينِهِ رُجُوعَ الْمَأْمُورِ عَنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ لَا الِانْتِصَارَ لِنَفْسِهِ.
سَادِسًا: مَا يَنْبَغِي اسْتِخْدَامُهُ فِي الْوَعْظِ مِنْ آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ وَقِصَصٍ:
15- قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْآمِرِ النَّاهِي بِالْوَعْظِ، وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُخَوِّفَةِ لِلْعَاصِينَ وَالْمُذْنِبِينَ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ حِكَايَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّلَفِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَرِّرَ أَنَّ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مُتَوَقَّعٌ عَلَى الذَّنْبِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ بِسَبَبِ جِنَايَاتِهِ، فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ يَتَسَاهَلُ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَيَخَافُ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ لِفَرْطِ جَهْلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَوَّفَ بِهِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا يُتَعَجَّلُ شُؤْمُهَا فِي الدُّنْيَا، فَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِسَبَبِ الذَّنْبِ يُصِيبُهُ...».
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنِّي لأَحْسَبُ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْسَى الْعَمَلَ بِذَنْبٍ يُصِيبُهُ.
الرَّابِعُ: مِنْ صِفَةِ الْوَعْظِ أَنْ يَذْكُرَ مَا وَقَعَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى آحَادِ الذُّنُوبِ فِي مَحَلِّهِ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَالْغَيْبَةِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ.
.الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَعْظِ:
لِلْوَعْظِ أَحْكَامٌ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مُخْتَلِفِ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْهَا:
أ- وَعْظُ الزَّوْجَةِ:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا نَشَزَتْ يَقُومُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهَا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَعْظِهَا إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ النُّشُورِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (نُشُوز ف14).
وَالْوَعْظُ يَكُونُ بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لَهَا: كُونِي مِنَ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ، وَلَا تَكُونِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَيَذْكُرُ لَهَا مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ وَمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الْإِثْمِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَمَا يُسْقِطُ بِذَلِكَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَمَا يُبَاحُ لَهُ مِنْ هَجْرِهَا وَضَرْبِهَا.
ب- وَعْظُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ:
17- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسَنُّ تَخْوِيفُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بِالْوَعْظِ، بِأَنْ يُقَالَ لَهُمَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي اللَّعَانِ عِنْدَ الْأُولَى وَعِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَخُصُوصًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ: إِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ كَاذِبًا فِيهِ الْوَبَالُ الْأُخْرَوِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ، وَالِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ فِيهِ النَّجَاةُ وَإِنْ لَزِمَهُ الْحَدُّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِهِلَالٍ: اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ».
وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَيُقَالُ لَهُمَا كَمَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ».
وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ: فَأَمَّا سُنَّةُ اللِّعَانِ فَأَنْ يُخَوَّفَا، فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ: تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تُجْلَدْ وَيَسْقُطْ عَنْكَ الْمَأْثَمُ، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا نَحْوُ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُبَالِغُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي وَعْظِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ نَدْبًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ مِنْ لِعَانِهِمَا قَبْلَ شُرُوعِهِمَا فِيهَا، فَيَقُولُ لِلزَّوْجِ: اتَّقِ اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلَّعْنٍ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، وَيَقُولُ لِلزَّوْجَةِ: اتَّقِي اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيَّ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْغَضَبِ إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً، لَعَلَّهُمَا يَنْزَجِرَانِ أَوْ يَتْرُكَانِ، وَيَأْمُرُ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَامْرَأَةً أَنَ تَضَعَ يَدَهَا عَلَى فِيهَا، لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ فِي خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَيَأْتِي الَّذِي يَضَعُ يَدَهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَإِنْ أَبَيَا إِلاَّ إِتْمَامَ اللَّعَّانِ تَرَكَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا وَلَقَّنَهُمَا الْخَامِسَةَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ الرَّابِعَةِ وَقَبْلَ الْخَامِسَةِ، فَإِذَا بَلَغَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْخَامِسَةَ أَمَرَ الْحَاكِمُ رَجُلًا فَأَمْسَكَ بِيَدِهِ فَمَ الرَّجُلِ، وَأَمَرَ امْرَأَةً تَضَعُ يَدَهَا عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ يَعِظُهُ فَيَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فِي قِصَّةِ هِلَالٍ قَالَ: «فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأَمْسَكَ عَلَى فِيهِ فَوَعَظَهُ، وَقَالَ: وَيْحَكَ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَقَالَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأَمْسَكَ عَلَى فِيهَا فَوَعَظَهَا، وَقَالَ: وَيْحَكِ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ».
ج- الْوَعْظُ قَبْلَ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَرَادَ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَعْظُ النَّاسِ وَتَذْكِيرُهُمْ بِالْخَيْرِ، وَأَمْرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَبِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَبِأَدَاءِ الْحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (اسْتِسْقَاء ف9 وَمَا بَعْدَهَا).
د- الْوَعْظُ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
19- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْوَعْظُ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامُ النَّاسَ بَعْدَ سَلَامِهِ، فَيُذَكِّرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ وَيُكَبِّرُوا وَيَتَصَدَّقُوا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا خُطْبَةَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ.
وَنَصُّ الْحَنَفِيَّةِ: عَلَى أَنَّهُ يَدْعُو الْإِمَامُ بَعْدَ الصَّلَاةِ جَالِسًا مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ إِنْ شَاءَ، أَوْ يَدْعُو قَائِمًا مُسْتَقْبَلَ النَّاسِ، وَإِذَا دَعَا يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللَّهِ وَالدُّعَاءُ وَالتَّكْبِيرُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعِتْقُ وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ خُطْبَتَيْنِ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ فِي الْأَرْكَانِ.
(ر: صَلَاةُ الْكُسُوفِ ف7)
هـ- وَعْظُ السُّلْطَانِ:
20- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ وَعْظِ السُّلْطَانِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا كَانَ عَادِلًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ وَعْظِ السُّلْطَانِ إِذَا كَانَ جَائِرًا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى جَوَازِ وَعْظِ السُّلْطَانِ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ.
وَأَمَّا تَخْشِينُ الْقَوْلِ: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى أَنَّ تَخْشِينَ الْقَوْلِ لَهُ كَقَوْلِهِ: يَا ظَالِمُ، يَا مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَذَلِكَ إِنْ كَانَ يُحَرِّكُ فِتْنَةً يَتَعَدَّى شَرُّهَا إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ.أَمَّا إِنْ كَانَ هَذَا الشَّرُّ لَا يَعُودُ إِلاَّ عَلَى الْوَاعِظِ فَهُوَ جَائِزٌ وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ وَعْظِ السُّلْطَانِ وَتَخْوِيفِهِ وَتَحْذِيرِهِ مِنَ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أَوْجَبُ مَا يَكُونُ هَذَا عَلَى مَنْ وَاكَلَهُمْ وَجَالَسَهُمْ وَكُلُّ مَنْ أَمْكَنُهُ نُصْحُ السُّلْطَانِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ إِذَا رَجَا أَنْ يَسْمَعَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الْجَائِزِ أَفْضَلُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَتَعَرَّضُ لِلسُّلْطَانِ؛ فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُولٌ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا قُلْنَا بِالْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِالتَّعْرِيفِ وَالْوَعْظِ بِالْكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَيَذْكُرُ لَهُ الْعَاقِبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَجِبُ ذَلِكَ لقوله تعالى خِطَابًا لِنَبِيِّهِ مُوسَى وَهَارُونَ حِينَ أَرْسَلَهُمَا إِلَى عَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}.أَيْ كَنِّيَاهُ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ هُوَ الَّذِي لَا خُشُونَةَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ مُوسَى أُمِرَ أَنْ يَقُولَ لِفِرْعَوْنَ قَوْلًا لَيِّنًا فَمَنْ دُونَهُ أَحْرَى بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِذَلِكَ فِي خِطَابِهِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَكَلَامِهِ.
و- وَعَظُ الْبُغَاةِ:
21- إِذَا بَعَثَ الْإِمَامُ إِلَى الْبُغَاةِ مَنْ يَسْأَلُهُمْ وَيَكْشِفُ لَهُمُ الصَّوَابَ فَأَبَوُا الرُّجُوعَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وَعْظِهِمْ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ وَعْظِ الْبُغَاةِ وَتَخْوِيفِهِمُ الْقِتَالَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ لَا قَتْلُهُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ، فَإِنْ فَاءُوا وَإِلاَّ قَاتَلَهُمْ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ إِذَا لَقُوا أَهْلَ الْبَغْيِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْعَدْلِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ بَعَثَ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- إِلَى أَهْلِ حَرُورَا حَتَّى نَاظَرَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ رُبَّمَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ بِالْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ، لِأَنَّ الْكَيَّ آخِرُ الدَّوَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ اسْتِحْبَابَ وَعْظِهِمْ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَتَحْسِينَ اتِّحَادِ كَلِمَةِ الدِّينِ لَهُمْ وَعَدَمَ شَمَاتَةِ الْكَافِرِينَ.
(ر: بُغَاة ف10).
التَّكَسُّبُ بِالْوَعْظِ:
22- لَا يَحِلُّ لِلْوَاعِظِ سُؤَالُ النَّاسِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْوَعْظِ، لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ الدُّنْيَا بِالْعِلْمِ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
حُضُورُ النِّسَاءِ مَجَالِسَ الْوَعْظِ:
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ حُضُورِ النِّسَاءِ مَجَالِسَ الْوَعْظِ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ شَابَّةً وَذَلِكَ لِخَشْيَةِ الْفِتْنَةِ.
أَمَّا الْعَجَائِزُ فَلَهُنَّ حُضُورُ مَجَالِسِ الْوَعْظِ وَذَلِكَ لِأَمْنِ الْفِتْنَةِ فَعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَنِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُنِعْنَ الْمَسْجِدَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
H
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
43-تاج العروس (شنظر)
[شنظر]: الشَّنْظَرَةُ، بالظَّاءِ المُعْجَمَة، أَهمله الجَوْهَرِيّ، وقال أَبو عَمْرٍو: هو الشَّتْمُ في الأَعْرَاضِ.ويقال: شَنْظَرَ الرجلُ بِهِمْ شَنْظَرَةً: شَتَمَهُم، وأَنشد:
يُشَنْظِرُ بِالقَوْمِ الكِرَامِ ويَعْتَزِي *** إِلى شَرِّ حَافٍ في البِلَادِ وناعِلِ
والشِّنْظِيرُ، بالكَسْر: السِّيِّئُ الخُلُق من الإِبِلِ والرّجالِ.
والبَذِيُّ الفَحّاشُ الغَلِقُ، كالشِّنْذِيرِ والشِّنْغِيرِ، والشِّنْفِير، كالشِّنْظِيرَة، أَنشد ابنُ الأَعْرَابِيّ لامرأَةٍ من العَرَبِ:
شِنْظِيرَةٌ زَوَّجَنِيهِ أَهْلِي *** مِن حُمْقِه يَحْسَبُ رَأْسِي رِجْلِي
كأَنَّه لَمْ يَرَ أُنْثَى قَبْلِي
وقال أَبو سعيد: الشِّنْظِيرُ: السَّخِيفُ العَقْلِ، وهو الشِّنْظِيرَةُ أَيضًا، وربما قالوا: شِنْذِيرَةٌ، بالذال المعجمة؛ لقُرْبِهَا من الظّاءِ لُغَة أَو لُثْغَة، والأُنْثَى شِنْظِيرَةٌ، قال:
قامَتْ تُعَنْظِي بكَ بَيْنَ الحَيَّيْنْ *** شِنْظِيرَةُ الأَخْلَاقِ جَهْرَاءُ العَيْنْ
وقال شَمِرٌ: الشِّنْظِيرُ مثْل الشُّنْظُوَة: الصَّخْرَةُ تَنْفَلِقُ مِنْ رُكْنِ الجَبَلِ، فتَسْقُط، كالشُّنْظُورَةِ، بالضَّمّ.
والشِّنْظِيرَةُ، بالهاءِ: حَرْفُ الجَبَلِ وطَرَفُه، وقال أَبو الخَطّاب: شَنَاظِيرُ الجَبَلِ: أَطرافُه، وحُرُوفُه، الواحِد شِنْظِيرٌ.
وبَنُو شِنْظِيرٍ: بَطْنٌ من العَرَبِ، قاله ابنُ دُرَيْدٍ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
44-تاج العروس (طلق)
[طلق]: طَلُقَ كَكَرُمَ طُلوقةً وطُلوقًا وهو طَلْق الوَجْه مُثَلَّثَة الطاء، الأَخِيرَتان عن ابنِ الأَعرابيّ، وجمع الطَّلْق طَلْقات. قال ابنُ الأَعرابيّ: ولا يُقالُ: أَوجهٌ طَوالِقُ إِلّا في الشِّعرِ.وطَلِقُ الوَجْه، كَكَتِفٍ، وأَمِيرٍ أَي: ضاحِكُه مُشْرِقُه وهو مَجاز. قال رُؤْبة:
وارِي الزِّنادِ مُسفِرُ البَشِيشِ *** طَلْقٌ إِذا استَكْرَشَ ذو التَّكْريشِ
وفي الحديث: «أَن تَلْقاه بوَجْه طَلِق».
وفي حَديثٍ آخر: «أَفضلُ الإِيمانِ أَن تُكَلِّم أَخاكَ وأَنتَ طَلِيقٌ» أَي مُستَبْشِر مُنْبَسِط الوَجْه. وقال أَبو زَيْد: رجل طَلِيقُ الوَجْه: ذو بِشْرٍ حَسَن. وطَلْق الوَجْه: إِذا كان سَخِيًّا.
ورجلٌ طَلْق اليَدَيْن، بالفَتْحِ وعليه اقتصرَ الجوهَرِيّ.
وطُلْق اليَدَيْن بالضم، نقله الصّاغانيّ وأَغفَله المُصنِّف قُصورًا.
وطُلُق اليَدَيْن بضَمَّتَيْن نقله الصاغانِيّ أَيضًا، وكذا طَلِيقُهما، نقله صاحِبُ اللِّسان، أَي: سَمْحُهُما، وكذلك المَرأَة، وقال حَفْصُ بنُ الأَخْيَف الكِنانيُّ:
نَفَرَت قَلُوصِي من حجارةِ حَرَّةٍ *** بُنِيَت على طَلْقِ اليَدَيْن وَهُوبِ
يَعنِي قَبرَ رَبِيعةَ بنِ مُكَدَّمٍ. وليس الشّعرُ لحسَّان رضي الله عنه، كما وَقَع في الحَماسةً والعَيْن.
قال الصاغانِيّ ورجل طَلِقْ اللِّسانِ، بالفَتْح، والكَسْر، وطَلِيقُه كأَمِير أَي: فَصِيحُه وهو مَجازٌ، وكذلك طُلَق، كصُرَدٍ.
ولِسانٌ طَلِقٌ ذَلِقٌ، فيه أَربعُ لُغات ذَكَرهُنّ الجوهريُّ، بالفَتْح، وطَلِيقٌ ذَلِيقٌ كأَمِير، وطُلُقٌ ذُلُقٌ، بضَمَّتَيْن، وطُلَق ذُلَق كصُرَد وأَنكره ابنُ الأَعرابي. وقالَ الكِسائيُّ: يُقالُ ذلكَ. وقالَ أَبو حاتِمٍ: وسُئل الأَصمعيُّ في طُلُقَ أَو طُلَقٍ، فقال: لا أَدْرِي لِسانٌ طُلُقٌ أَو طُلَقٌ.
وزاد الصاغانيُّ: لِسان طَلِقٌ ذَلِقٌ، مثل كَتِف أَي: ذُو انْطِلاق وحِدَّة منه حديثُ الرَّحم: «تتكَلَّمُ بلِسان طَلِقٍ ذَلِقٍ» رُوِي بكلِّ ما ذُكِر من اللُّغاتِ، وفي رواية: «بأَلْسِنَةٍ طُلُقٍ ذُلُقٍ.
ومن المَجاز: فَرسٌ طَلْقُ اليَدِ اليُمْنَى أَي: مُطْلَقُها ليس فيها تَحجِيل. ومنه الحَدِيث: «خَيرُ الخَيْل الأَدهَم الأَقرحُ المُحَجَلُ الأَرثَمُ طَلْقُ اليَدِ اليُمْنَى». فإِن لم يَكُنْ أَدْهَم فكُمَيْت على هذه الصِّفَة، وضَبَطه الجَوْهَرِيُّ بضَمَّتَين.
وتَقْيِيدُ المُصَنِّفِ اليدَ اليُمنى ليس بِشَرط بل أَيّ قائمةٍ من قوائِمها كانت، وكأَنّه أَرادَ بَيانَ لَفْظِ الحديثِ، فتَأَمّل.
وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: الطَّلْقُ بالفتح: الظَّبْيُ، سُمِّيت لسُرعة عَدوِها ج: أَطلاقٌ.
والطَّلْق أَيضًا: كَلْبُ الصَّيْدِ لكونِه مُطْلقًا، أَو لسُرعة عَدْوه على الصيدِ.
والطَّلْقُ: النَّاقَةُ الغَيْر المُقَيَّدةِ، وكذا البَعِيرُ، والمَحْبوسُ كذا في العُبابِ. والذي في الصِّحاح: بَعِيرٌ طُلُق، ونَاقَةٌ طُلُق «بضَمِّ الطَّاءِ واللام» أَي: غير مُقَيَّدٍ. والجمعُ أَطْلاق.
وهكذا ضَبَطه الصاغانِيّ أَيضًا فَفِي سياقِ المُصَنِّف مَحلُّ نَظَر، ويَشْهَد لذلِك أَيضًا قولُ أَبي نَصْر: ناقَةٌ طَالِقٌ وطُلُق: لا قَيْدَ عليها، وطُلُقٌ أَكثرُ مما سيأْتي.
ومن المَجازِ: يومٌ طَلْقٌ بَيِّنُ الطَّلاقَةِ: مُشْرِق لا حَرَّ فيه ولا قُرَّ يُؤْذِيانِ، وقِيلَ: لا مَطَرَ، وقيلَ: لا رِيحَ، وقِيلَ: هو اللَّيِّنُ القُرِّ، من أَيّام طَلْقاتٍ، بسُكُون الَّلامِ أَيضًا. قال رُؤبَةُ:
أَلَّا نُبالِي إِذْ بَدَرْنا الشَّرْقَا *** أَيَومُ نَحْسٍ أَمْ يكونُ طَلْقَا
وقالَ أَبو عَمْروٍ: ليلة طلْقٌ لا بَرْدَ فيها. قال أَوسُ بنُ حَجَرٍ:
خُذِلْتُ على ليلةٍ ساهِرَهْ *** بصحراءِ شَرْجٍ إِلى ناظِرَهْ
تُزادُ لَياليَّ في طُولِها *** فلَيْسَتْ بطَلْقٍ ولا سَاكِرَهْ
أَي: ساكنة الريح. وقال ابن دِرَيد: ليلة طَلْقَة، قالَ: وربما سُمِّيت الَّليْلَةُ القَمْراءُ طَلْقة.
وقِيلَ: ليلَةٌ طَلْقَةٌ، وطَالِقَةٌ أَي: ساكِنةٌ مُضِيئةٌ.
وليالٍ طَوَالِقُ: طَيِّبَةٌ لا حَرَّ فيها ولا بَرْد. قال كُثَيِّر:
يُرشِّحُ نَبْتًا ناضِرًا ويَزِينُه *** ندىً وليالٍ بعد ذاكَ طَوالِقُ
وزَعَمَ أَبو حَنِيفةَ أَنَّ واحدةَ الطّوالِق طَلْقة، وقد غَلِط لأَنّ فَعْلة لا تُكسَّر على فَواعِلَ إِلَّا أَنْ يَشِذَّ شَيْءٌ. وقد طَلُق فِيهِما أَي: في اليَوْمِ واللَّيْلةِ كَكَرُم طُلوقَةً بالضَّم وطَلاقةً بالفتح.
وطَلْقُ بنُ علِيّ بنِ طَلْق بنِ عمرو، ويُقال: ابنُ قَيْس الرَّبَعِيّ الحَنفِيّ السُّحَيْميّ: والد قَيْسِ بنِ طَلْق، له وفادة وعِدَّةُ أَحادِيثَ، وعنه وَلَداه: قَيْس وخَلْدةُ وغَيْرهما.
وطَلْقُ بنُ خُشَّافٍ قاله مُسلِمُ بنُ إِبراهيم، قال: حدَّثنا سَوادَةُ بنُ أَبِي الأَسودِ القَيْسِيُّ عن أَبيه أَنه سَمِعَ طَلْقًا، وخُشَّاف، كرُمّانٍ: تقدَّم ذِكرُه في مَحَلِّه، وذكَره ابنُ حِبّان في ثِقاتِ التّابِعينَ، وقالَ: إِنه من بَنِي بكرِ بنِ وَائِل بنِ قَيْسِ بنِ ثَعْلَبةَ، يَروِي عن عُثْمانَ، وعائِشةَ، وعنْه سَوادُ بنُ مُسلِم بنِ أَبِي الأَسودِ، فتَأَمَّل ذلك.
وطَلْقُ بنُ يَزِيد أَو يَزِيدُ بن طَلْق، روى عنه مُسلِمُ بنُ سلام في مسند أَحمد.
وطُلَيْق، كَزُبَيْر، ابن سُفْيانَ بنِ أُمَيَّة بنِ عَبْد شَمْس: صحابِيُّون رضي الله عنهم. والأَخِيرُ من المُؤَلَّفةِ قُلُوبُهم، كما قالَه الذَّهَبِيُّ وابنُ فَهْدٍ، وكذلك ابنُه حَكِيمُ بنُ طُلَيْق.
وقد أَغْفَلَ المُصَنِّفُ ذكرَ طُلَيقٍ في المُؤَلَّفةِ قلوبُهم في «أ ل ف» وذكر ابنَه حَكِيمًا فقط، وقد نَبَّهْنا على ذلك هناك.
وفاته: عليُّ بنُ طَلْقِ بنِ حَبيبٍ العَنَزِيُّ يَروِي عن جابِرٍ وابْنِ الزُّبير وأَنَس، وعنه عَمْرُو بنُ دِينار. وطُلَيقُ بنُ مُحَمّدٍ، وطُلَيْقُ بن قَيْسَ: تابِعِيّان.
وطَلْقَة: فَرَسُ صَخْرِ بنِ عَمْروِ بنِ الحارِثِ بنِ الشَّرِيدِ.
ويُقال: طُلِقَت المرأَة كعُنِي تُطْلَقُ في المَخاضِ طَلْقًا، وكذلك طَلُقَت بضم اللام، وهي لُغَيَّة: أَصابَها وَجَعُ الوِلادَةِ. والطَّلْقةُ: المَرَّة الواحِدَة، ومنه الحَدِيثُ: «أَنَّ رَجُلًا حَجَّ بأُمِّه، فحَمَلَها على عاتِقِه، فسأَله: هل قَضَى حَقَّها؟ قالَ: ولا طَلْقة واحِدَة».
وامْرأَة مَطْلُوقة: ضَرَبَها الطَّلْقُ.
ومن المَجاز: طَلَقت المَرْأَةُ من زَوْجِها، كنَصَر، وكَرُم، طَلاقًا: بانَتْ قالَ ابنُ الأَعرابيّ: طَلُقت من الطَّلاق أَجوَدُ، وطَلَقَتْ، بفَتْحِ اللَّام جائِزٌ، ومن الطَّلْقِ طُلِقَتْ بالضَّمّ.
وقال ثَعْلب: طَلَقت بالفَتْح تَطلُق طَلاقًا، وطَلُقت، والضَّم أَكثرُ.
وقال الأَخفشُ: لا يُقال: طَلُقت بالضَّمّ. قالَ ابنُ الأَعرابِيِّ: وكُلُّهم يَقولُ: فهي طالِقٌ بغيرِ هاءٍ ج: طُلَّق كَرُكَّع وقالَ الأَخْفَشُ: طالِقٌ وطَالِقَةٌ غدًا. قال اللَّيْثُ: وكذلك كُلُّ فاعِلَةٍ تُسْتَأْنَفُ لَزِمَتْها الهاءُ. قال الأَعْشَى:
أَيا جارَتِي بِينِي فإِنَّكِ طالِقَهْ *** كَذاكِ أُمورُ النّاسِ غادٍ وطارِقَهْ
وقال غيرُه: قال: طَالِقَةٌ على الفِعْل؛ لأَنّها يُقال لها: قد طَلَقَتْ، فبَنَى النَّعْتَ على الفِعْل، ج: طَوَالِقُ.
وفي العُبابِ: طَلاقُ المَرْأَة يكونُ بمَعْنَيَيْن: أَحدُهما: حَلُّ عُقْدةِ النِّكاح، والآخر: بمَعْنَى التِّركِ والإِرسال. وفي اللِّسانِ: في حَدِيثِ عُثْمان وزَيْد: «الطَّلاقُ بالرِجالِ، والعِدَّةُ بالنّساءِ» هذا مُتَعَلِّقٌ بهؤُلاءِ، وهذِه مُتَعلِّقَةٌ بهؤُلاءِ، فالرَّجلُ يُطلِّقُ، والمَرأَةُ تَعْتَدُّ. وقيل: أَرادَ أَنَّ الطَّلاقَ يتعَلَّقُ بالزَّواجِ في حُرِّيَّته ورِقِّه، وكذلك العِدَّةُ بالمَرْأَةِ في الحالَتَيْنِ. وفيه بَيْنَ الفُقَهاءِ خِلافٌ، فمِنْهم مَنْ يقولُ: إِن الحُرَّة إِذا كانت تَحْتَ العَبْدِ لا تَبِين إِلا بِثَلاثٍ، وتَبِينُ الأَمةُ تَحْتَ الحُرِّ باثْنَتَينِ. ومنهم مَنْ يَقُولُ: إِن الحُرَّة تَبِينُ تَحتَ العَبْدِ بإثْنَتَين، ولا تَبِينُ الأَمَةُ تحتَ الحُرِّ بأَقَلَّ من ثَلاثٍ.
ومنهم مَنْ يَقُولُ: إِذا كانَ الزَّوْجُ عَبْدًا وهي حُرَّة، أَو بالعَكْس، أَو كانا عَبْدَينِ فإِنَّها تَبِين باثْنَتَين. وأَمَّا العِدَّةُ فإِنَّ المرأَةَ إِن كانت حُرَّةً اعتدَّت للوفَاةِ أَربعةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا، وبالطَّلاقِ ثَلاثَة أَطْهار، او ثَلاثَ حِيَضٍ، تحت حُرٍّ كانت أَو عَبْدٍ، فإِن كانت أَمةً اعتدَّتْ شَهْرَينِ وخَمْسًا، أَو طُهْرَينِ، أَو حَيْضَتَيْنِ تحتَ عَبْدٍ كانَتْ أَو حُرٍّ.
وأَطْلَقَها بَعْلُها وطَلَّقها إِطْلاقًا وتَطْلِيقًا فهو مِطْلَاقٌ ومِطْلِيقٌ كمُحْراب ومِسْكِينٍ. ومنه حدِيثُ عليٍّ رضي الله عنه: «إِنَّ الحَسَنَ مِطْلاقٌ فلا تُزَوِّجُوه؟».
ورجل طُلَقَةٌ وطِلِّيقٌ كهُمَزَة وسِكِّيتٍ: كَثِيرٌ التَّطْلِيقِ للنِّساءِ، وقد رُوِي في حَدِيثِ الحَسَن: «إِنَّكَ رَجُلٌ طِلِّيقٌ».
والطالِقَةُ من الإِبِل: ناقَةٌ تُرْسَلُ في المرعَى، قاله ابنُ الأَعرابيّ. وقال اللَّيْثُ: تُرسَلُ في الحَيِّ تَرْعَى من جَنابِهم حَيْثُ شَاءَت لا تُعْقَلُ إِذا راحَتْ، ولا تُنَحَّى في المَسْرحِ.
وأَنشدَ لأَبِي ذُؤَيْب الهُذَلِيّ:
غَدَتْ وهي مَحْشُوكَةٌ طالِقٌ
وأَنْشَدَ في تَرْكِيبِ «ح ش ك»:
غَدَتْ وهي مَحْشُوكَةٌ حافِلٌ *** فَراحَ الذِّئارُ عليها صَحِيحَا
قال الصّاغانِيُّ: لم أَجِدِ البيتَ في قَصِيدَته المَذْكورة في دِيوانِ الهُذَلِيّين، وهي ثلاثة وعِشْرُون بيتًا.
أَو هي التي يتْرُكُها الرَّاعِي لِنَفْسِه، فلا يَحْتَلِبُها على الماءِ، كما في العُبابِ. وقال الشَّيْبانيُّ: هي التي يتْركها الرَّاعي بصِرارِها، وأَنْشَد للحُطَيْئةِ:
أَقِيمُوا على المِعْزَى بدارِ أَبِيكُمُ *** تَسُوفُ الشِّمالَ بين صَبْحَى وطَالِقِ
قالَ: الصَّبْحَى: التي يَحْتَلِبُها في مَبْرَكِها يَصْطَبِحُها.
والطَّالِقُ: التي يتْرُكُها بصِرارِها فلا يَحْتَلِبُها في مَبْرَكها.
ومن المجاز: طَلَق يده بِخَيْر وبمالٍ، وكَذَا في خَيْر، وفي مال يطْلِقُها بالكسرِ طَلْقًا: فَتَحها كأَطْلَقَها. قال الشاعر:
اطْلُق يَديْك تَنْفَعاكَ يا رجُلْ *** بالرَّيْثِ ما أَروَيْتَها لا بالعَجَلْ
ويروى: أَطْلِقْ، وهكذا أَنشدَه ثَعلَبٌ. نقَلَه أَبو عُبَيد، ورواه الكِسائيُّ في باب فَعَلْتُ وأَفْعَلْتُ. ويدُه مَطْلوقة ومُطْلَقة، أَي: مَفْتُوحة، ثم إِنَّ ظاهِر سِياقِه أَنه من بابِ ضَرَب؛ لأَنَّه ذَكَرَ الآتِي على ما هو اصْطِلاحه. والجَوهَرِيُّ جَعلَه من باب نَصَر، فإِنَّه قال ـ بَعْدَ ما أَوْرَدَ البَيْت ـ: يُرْوَى بالضَّمِّ والفَتْحِ، فتأَمَّل.
وقالَ ابنُ عبّادٍ: طَلَق الشيءَ، أَي: أَعطاه.
قال: وطَلِق كسَمِع: إِذا تَباعَدَ.
والطَّلِيقُ كأَمِيرٍ: الأَسِيرُ الذي أُطْلِقَ عنه إِسارُه وخُلِّي سَبِيلُه. قال يَزِيدُ بنُ مُفَزِّعٍ:
عَدَس ما لِعَبَّادٍ عَليكِ إِمارةٌ *** نَجوْتِ وهذا تَحْمَلِين طَلِيقُ
وقد تقدمت قصته في «ع بلد س».
وطَلِيقُ الإِله: الرِّيحُ، نَقَله الصّاغانِيُّ. وهو مَجازٌ، وأَنشَدَ سِيبَوَيْهُ:
طَلِيق الله لم يَمْنُنْ عليه *** أَبو دَاودَ وابنُ أَبي كَبِيرِ
ومن المَجاز: الطِّلْقُ، بالكَسْرِ: الحَلالُ وهو المُطْلَق الذي لا حَصْر عليه. يُقالُ: أَعطيتُه من طِلْقِ مالِي، أَي: من صَفْوِه وَطَيِّبه. وَهُو لَكَ طِلْقًا. ويُقال: هذا حَلالٌ طِلْقٌ، وحَرامٌ غِلْقٌ. وفي الحَدِيث: «الخَيْلُ طِلْق» يَعنِي أَنَّ الرِّهانَ على الخَيْلِ حَلالٌ.
ويُقالُ: أَنتَ طِلْقٌ منه أَي: خارِجٌ منه. وقيل: بَرِيءٌ.
وطِلْقُ الإِبِل. ظاهِرُ سِياقه أَنَّه بالكَسْر، والذي في الصحاح والعُباب بالتَّحْرِيك، ونصُّهما ـ بعدَ ذِكْرِ قوله: عدا طَلَقا أَو طَلَقَيْن ـ: والطَّلَق أَيضًا: سَيْرُ اللَّيل لوِرْد الغِبِّ؛ وهو أَن يَكُون بَيْنَها أَي: الإِبِل وبَيْنَ المَاءِ لَيْلَتَان. فاللَّيلةُ الأُولَى الطَّلَقُ هكذا ضَبَطاه بالتَّحْرِيك، قالا: لأَنَّ الرَّاعيَ يُخَلِّيها إِلى الماءِ، ويَتْرُكُها مع ذلِك تَرْعَى في سَيْرِها، فالإِبلُ بعدَ التَّحْوِيزِ طَوالِقُ، وفي اللَّيلةِ الثَّانِيَة قَوارِبُ.
ونقل أَبو عُبَيْدٍ عن أَبِي زَيْدٍ: أَطلَقْتُ الإِبلَ إِلى الماءِ حتى طَلَقَتْ طَلْقًا وطُلُوقًا، والاسْمُ الطَّلَقُ بفَتْح اللام.
وقال الأَصمَعِيُّ: طَلَقَت الإِبِلُ فهي تَطلُق طَلْقًا، وذلِك إِذا كانَ بينَها وبَيْنَ الماءِ يَوْمان، فاليومُ الأَول الطَّلَقُ، والثَّانِي القَرَب. وقالَ: إِذا خَلَّى وُجوهَ الإِبِلِ إِلى الماءِ، وتَرَكَها في ذلك تَرْعَى ليلَتَه فهي لَيْلَةُ الطَّلَقِ، وإِن كانَت اللَّيلة الثّانِية فهي لَيْلَة القَرَبِ، وهو السَّوقُ الشَّدِيدُ.
وقالَ غيرُه: ليلةُ الطَّلَقِ: اللَّيْلَةُ الثّانِية من لَيالِي تَوجُّهِها إِلى الماءِ.
وقال ثَعْلَبٌ: إِذا كان بَيْنَ الإِبلِ والماءِ يَوْمان، فأَوَّلُ يومٍ يُطْلَبُ فيه الماءُ هو القَرَبُ. والثانِي هو الطَّلَقُ.
وقِيلَ: لَيْلَة الطَّلَقِ: أَنْ يُخلِّيَ وُجوهَها إِلى الماءِ، عَبَّر عن الزّمانِ بالحَدَثِ. قال ابنُ سِيدَه: ولا يُعجِبُني.
والطَّلَقُ بالتَّحْرِيك: المِعَى. وقالُوا: الطَّلَقُ: القِتْبُ في بَعْضِ اللُّغات ج: أَطْلاقٌ كسَبَبٍ وأَسْبابٍ قاله ابنُ دُرَيْدٍ. وقال أَبو عُبَيدَةَ: في البَطْنِ أَطْلاقٌ، واحِدُها طَلَقٌ، بالتحريكِ وهو طَرائِقُ البَطْنِ، وقالَ غَيرُه: طَلَقُ البَطْنِ: جُدَّتُه، والجَمْعُ أَطْلاقٌ، وأَنْشَد:
تَقاذَفْن أَطْلاقًا وقارَبَ خَطْوَه *** عن الذَّوْدِ تَقْرِيبٌ وهُنَّ حَبائِبُه
قُلتُ: وهذا أَيضًا يُخالِفُ سِياقَ المُصنِّف، فإِنَّ ظاهِرَه أَن يَكونَ بالكَسْرِ، وهذا يَدُلُّكَ على أَنَّ طَلَق الإِبل بالتَّحْرِيك كما صَوَّبْناه، فتَأَمَّل.
والطَّلْق: الشُّبْرُمُ، نقله ابنُ عَبَّاد، وضَبَطَه بالفَتْح، أَو نَبْتٌ يُسْتَعْمَل في الأَصبَاغِ نَقلَه ابنُ عَبَّادٍ أَيضًا: وقالَ الأَصمَعِيُّ: يُقالُ لضَرْبٍ من الدَّواءِ، أَو نَبْتٍ: طَلَقٌ، مُحرَّك اللّام، نقله الأَزهرِيّ. وقال غيرُه: هو نَبت تُسْتَخرَج عُصارَتُه فيتَطَلَّى به الذين يَدْخُلُون النّارَ أَو هذَا وَهَمٌ أَي ما نَقَلَهُ ابنُ عَبّاد والأَصمَعِيُّ. وقال في ابنِ عَبَّاد: لم يَعْمَل شَيْئًا، وهو لَيْس بنَبْت، إِنَّما هو من جِنْسِ الأَحْجار واللِّخافِ، ولعلَّه سَمِع أَنَّ الطَّلْقَ يُسَمَّى كَوْكَب الأَرْض، فتَوَهَّم أَنه نَبْت، ولو كان نَبْتًا لأَحرقَتْه النّار، وهي لا تَحرقُه إِلا بحِيَل، وهو مُعَرَّب «تَلْك».
والطِّلْق: النَّصِيبُ نَقَله ابنُ عبّادٍ، وضَبَطَه بالتَّحْرِيكِ.
وفي الأَساسِ: أَصبتُ من مالِه طَلَقًا، أَي: نَصِيبًا، وهو مَجاز، وأَصْلُه من طَلَقِ الفَرَس.
والطِّلْق أَيضًا: الشَّوْطُ الواحدُ في جَرْيِ الخَيْلِ، ضَبَطه الجوهريّ والصّاغانيّ وابنُ الأَثِير بالتَّحْرِيك.
وقد عَدَا الفَرسُ طِلْقًا أَو طِلْقَيْن أَي: شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ.
ولم يُخَصِّصْ في التَّهذِيبِ بفَرَسٍ ولا غَيْرِه. وفي الحَدِيثِ: «فَرَفعْتُ فَرَسِي طَلَقًا أَو طَلَقَيْنِ». قال ابنُ الأَثِير: هو بالتَّحْرِيك: الشَّوط والغَايةُ التي يَجْري إِليها الفَرَسُ.
والطَّلَق، بالتَّحْرِيك: قَيْدٌ من جُلُودٍ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.
وفي المُحْكَمِ: قَيْدٌ من أَدَمٍ، قالَ رُؤْبةُ يَصِفُ حِمارًا:
مُحَمْلَجٌ أُدرِجَ إِدراجَ الطَّلَقْ
وفُسِّر بالحَبْل الشَّدِيد الفَتْل حتى يَقُومَ. وقالَ الراجِزُ:
عَوْدٌ على عَوْدٍ على عَوْدٍ خَلَقْ
كأَنَّها واللَّيلُ يَرْمِي بالغَسَقْ *** مَشاجِبٌ وفِلْقُ سَقْبٍ وطَلَقْ
شَبَّه الرّجُلَ بالمِشْجَبِ؛ ليُبْسه وقِلّة لَحْمِه، وشَبَّه الجَمَل بفِلْقِ سَقْب. والسَّقْب: خشبةٌ من خَشَبات البيت. وشَبَّه الطَّرِيقَ بالطَّلَقِ، وهو قَيْدٌ من أَدَمٍ. وفي حَدِيث حُنَيْنٍ: «ثُمّ انتَزَعَ طَلَقًا من حَقَبِه فقيَّدَ به الجَمَل». وفي حَدِيثِ ابنِ عَبّاسٍ: «الحَياءُ والإِيمانُ مَقْرونانِ في طَلَقٍ» وهو حَبْل مَفْتولٌ شَدِيدُ الفَتْلِ، أَي: هما مُجْتَمِعان لا يَفتَرِقان، كأَنَّهما قد شُدَّا في حَبْلٍ أَو قَيْدٍ.
والطَّلَق: النَّصِيبُ عن ابنِ عَبَّاد، وهو أَصابَ في ذِكْره هُنَا، وقد أَخْطَأَ المُصنِّفُ حيث ذَكَره مَرَّتَين.
والطَّلَقُ: سَيْرُ اللَّيْل لوِرْدِ الغِبِّ نقله الجوهَرِيُّ والصاغانِيُّ، وهو طَلَقُ الإِبل الذي تقدَّم، وهو تَفْسِيرٌ عن هذا، وقد أَخْطَأَ المُصنِّف في التَّفرِيق بينهما.
ويُقالُ: حُبِسَ فُلانٌ في السِّجْن طَلْقًا، ويُضَمُّ، والصَّوابُ بضَمَّتَيْن أَي: بلا قَيْد ولا وَثاقٍ ولا كَبْلٍ.
والطَّلَقُ: دَواءٌ إِذا طُلِيَ به أَي بعُصارَتِه بعد ما تُسْتَخْرَجُ منه مَنعَ من حَرْق النَّار كما تَقَدَّم، والمَشْهُورُ فيه سُكُونُ اللَّام نقلَه الصاغانِيُّ، أَو هو لَحْنٌ والصوابُ التَّحْرِيك، كما نقله الأَزهرِيُّ وغيرُه. قال الصاغانيُّ: وهو مُعرَّب تَلْك.
وحَكَى أَبُو حَاتِم عن الأَصمعيِّ: طِلْق بالكسرِ، كمِثْل. قالَ الصّاغانِيُّ: وَهُوَ من جِنْس الأَحْجارِ واللِّخافِ، وليس بنَبْتٍ.
وقال الرَّئيسُ: هو حَجَرٌ بَرّاقٌ يَتَشظَّى إِذا دُقَّ صَفائِحَ وشَظَايَا، يُتَّخَذُ منها مَضاوِيَ للحَمَّامَاتِ بَدَلًا عن الزُّجَاجِ، وأَجوَدُه اليَمَانِيُّ، ثم الهِنْدِيُّ، ثم الأَنْدَلُسِيُّ. وقالُوا: مَنْ عَرَف حَلَّ الطِّلْقِ استَغْنَى عن الخلْق. والحِيلَةُ في حَلِّه: أَنْ يُجْعَلَ في خِرْقَة مع حَصَواتٍ، ويُدْخَلَ في المَاءِ الفَاتِر، ثم يُحَرَّكَ برِفْقٍ حتى يَنْحَلَّ، ويَخْرُجَ من الخِرْقَةِ في الماءِ، ثم يُصَفَّى عنه الماءُ، ويُشَمَّس لِيَجِفَّ.
وناقَةٌ طالِقٌ: أَي بلا خِطامٍ عن ابنِ دُرَيْدٍ. وقالَ غيرُه: بلا عِقالٍ، وأَنْشَدَ:
مُعقَّلات العِيسِ أَو طَوالِق
أَي قد طَلَقت عن العِقال، فَهي طالِقٌ: لا تُحْبَسُ عن الإِبِل.
أَو طالِقٌ: مُتَوَجِّهَةٌ إِلى الماءِ، وقال أَبو نَصْر: الطّالِقُ، هي التي تَنْطَلِقُ إِلى الماءِ كالمِطْلاقِ والجَمْع أَطْلاقٌ، ومَطالِيقُ، كصاحِبٍ وأَصْحاب، ومِحْرابٍ ومَحارِيبَ.
أَو هي الَّتِي تُتْرَك يَوْمًا ولَيْلةً ثم تُحْلَبُ، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّيّ لابنِ هَرْمةَ:
تُشْلَى كَبِيرتُها فتُحلَبُ طالِقًا *** ويُرمِّقُونَ صِغارَها تَرْمِيقَا
والجَمْع: طَلَقة، ككَاتِبٍ وكَتَبةٍ. وقالَ أَبو عَمْروٍ: الطَّلَقَةُ من الإِبِلِ: التي تُحْلَبُ في المَرْعَى.
وأَطْلَق الأَسِيرَ: إِذا خَلَّاهُ وسَرَّحهُ، فهو مُطلَقٌ، وفي الحَدِيث: «أَطْلِقُوا ثُمامَة»، وكذلك أَطْلَقَ عنهُ. قالَ عَبْدُ يَغُوثَ بنُ وقّاص الحارِثيُّ:
أَقولُ وقَدْ شَدُّوا لِسانِي بنِسْعَةٍ: *** أَمَعْشَر تَيْمٍ أَطْلِقُوا عن لِسانِيَا
وقالَ ابنُ الأَعْرابِيِّ: أَطْلَقَ عَدُوَّه: إِذا سَقاه سَمًّا.
قالَ: وأَطلَقَ نَخْلَه وذلك إِذا كانَ طَوِيلًا فأَ لقحه فهو مُطلَق، أَي: مُلْقَحٌ، قالَ: كطَلَّقَهُ تَطْلِيقًا وهو مَجازٌ.
وأَطْلَقَ القَوْمُ فهم مُطْلِقُون: طَلَقَت إِبِلُهم، وفي المُحْكَم: إِذا كانَت إِبلُهم طوَالِقَ في طَلَب الماءِ.
وطُلِّقَ السَّلِيمُ، بالضَّمّ تَطْلِيقًا: إِذا رَجَعَتْ إِليه نَفْسُه، وسَكَنَ وَجَعَهُ بعد العِدَادِ، وفي المُفْرداتِ: طُلِّقَ السَّلِيم: خَلّاهُ الوَجَعُ، قال النابِغَةُ الذُّبيانِيّ:
تَناذَرَها الرَّاقُونَ من سُوءِ سُمِّها *** تُطلِّقُهُ طَوْرًا وطَوْرا تُراجِعُ
وقالَ رَجلٌ من رَبِيعَةَ:
تَبِيتُ الهُمومُ الطّارِقاتُ يَعُدْنَنِي *** كما تَعْتَرِي الأَهْوالُ رأْسَ المُطَلَّقِ
أَرادَ تَعْتَرِيه.
والمُطَلِّقُ كمُحَدِّث: مَنْ يُرِيدُ يُسابِقُ بِفَرَسِه سُمِّيَ به لأَنَّه لا يَدْرِي: أَيَسْبِقُ أَم يُسْبَقُ؟ ومن المَجازِ قَوْلُهم: انْطَلَق يَفعَلُ كَذا، مثلُ قولِكَ: ذَهَبَ يقدم. وقال الراغِبُ: انطَلَق فُلانٌ إِذا مَرَّ مُنْخَلِعًا.
ومنه قَولُه تعالى: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ}، {انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}، وقالَ ابنُ الأَثير: الانْطِلاقُ: سُرْعَةُ الذَّهابِ في أَصْلِ المِحْنَةِ.
ومن المَجازِ: انْطلَق وَجْهُه أَي: انْبَسَط.
وانطُلِقَ به مبنِيًّا للمَفْعول: إِذا ذُهِب به قالَ الجوهَرِيُّ: كما يُقال انقُطِع به.
قالَ: وتَصْغِير مُنْطَلِق مُطَيْلِق، وإِن شِئتَ عَوَّضْتَ من النُّونِ وقُلتَ: مُطَيْلِيقٌ.
وتَصْغِيرُ الانْطِلاق نُطَيْلِيق؛ لأنك حَذَفْتَ ألِفَ الوَصْلِ لأَنَّ أَولَ الاسْمِ يَلْزَمُ تَحرِيكُه بالضَّمّ للتَّحْقِير، فتسقُط الهَمْزة لِزَوالِ السُّكونِ الذي كانَت الهَمْزَة اجْتُلِبَتْ له، فبَقِي نُطْلاق، ووقَعَتْ الأَلفُ رابِعَةً، فلِذلك وَجَب فيه التَّعْويض، كما تَقُولُ: دُنَيْنِير؛ لأَنَّ حرفَ اللِّينِ إِذا كانَ رابِعًا ثَبَتَ البَدَلُ منه، فلم يَسْقُطْ إِلّا في ضَرُورةِ الشِّعرِ، أَو يكونُ بعدَه ياءٌ، كقَوْلِهم في جَمع أُثْفِيَّة: أَثافٍ، فقِسْ على ذلِك، هكذا هو نَصُّ الجَوْهري والصاغانِيّ. وسَوْقُ هذه العِبارَة الكثيِرةِ الفائدة أَوْلَى من سَوْق الأَمثال والقِصَص مِمَّا حَشَى بها كِتابَه وأَخرجَه من حدِّ الاخْتِصار. وسَيأْتِيك قريبًا بعدَ هذا التَّركيب في الطَّوق ما لم يَحْتَج إِليه من التَّطْويل، والكَمال لله سبحانه.
ثم إِنَّ قولَ الجَوْهرِيِّ، فبَقي نَطلاق هكذا هو مَضْبوطٌ بالفَتْح، والصَّواب كَسْرُ نُونِه؛ لأَنّه لَيْسَ في الكلامِ نَفعال.
واستِطْلاقُ البَطْنِ: مَشْيُهُ وخُروجُ ما فيه، وهو الإِسْهال، ومنه الحَدِيثُ: «إِنّ رَجُلًا اسْتَطْلَقَ بَطنُه».
وتَصْغِيرُ الاسْتِطْلاق: تُطَيْلِيق.
وتَطَلَّقَ الظَّبْيُ: إِذا استَنَّ في عَدْوِه فمَضَى ومَرَّ لا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ وهو تَفعَّل، قاله الجوهَرِيّ.
وقالَ أَبو عُبَيد: تَطَلَّق الفَرسُ: إِذا بَالَ بعدَ الجَرْيِ وهو مَجازٌ. وأَنْشد:
فصادَ ثَلاثًا كَجِزع النِّظا *** مِ لم يَتَطَلَّقْ ولم يُغْسَلِ
معنى لم يُغْسَلِ: لم يَعْرَقْ.
ويُقال: ما تَطَّلِقُ نَفسُه لهذا الأَمر، كتَفْتَعِل أي: لا تَنْشَرِحُ نَقَلَهُ الجَوهرِيُّ، قالَ: وتصغيرُ الاطِّلاق طُتَيْلِيق بقَلْب الطّاءِ تاءً؛ لتَحَرُّك الطَّاء الأُولى، كما تَقُول في تَصْغِير اضْطِراب: ضُتَيْرِيب، تَقْلِبُ الطاءَ تاءً، لتَحَرُّك الضّاد.
وطَالَقانُ، كخَابَران: د، بين بَلْخَ ومَرْوِ الرُّوذِ مما يَلِي الجَبَلَ، منه أَبو مُحَمَّدٍ مَحْمودُ بنُ خِداشٍ الطَالَقَانِيُّ سَكَن بِبَغْدادَ، ورَوَى عن يَزِيدَ بنِ هَارون، وابنِ المُبارَك، والفَضْل، وعنه إِبراهيمُ الحَرْبيُّ وأَبو يَعْلَى المَوْصِليّ، ماتَ في شعبان سنة 250 عن تِسْعِين سنة.
وطَالَقانُ أَيضًا: د، أَو كُورَةٌ بَيْن قَزْوِين وأَبْهَر، منه الصاحِبُ إِسماعيلُ بنُ أَبي الحَسَنِ بنِ عَبّاد بنِ العَبّاسِ بن عَبَّادٍ، مُؤَلِّف كتابِ المُحِيطِ في اللُّغَةِ، وقد جَمَعَ فيهِ فأَوعَى، ووالِدُه كانَ من المُحَدِّثِينَ، سَمِعَ عن جَعْفَرٍ الفِرْيابِيّ، وعنه أَبو الشيخ، وتوفي سنة 335 وكان وَزِيرًا لِدَوْلَةِ آل بُوَيْهِ.
ومن طَالَقانَ هذه أَيضًا: أَبو الخَيْرِ أَحمدُ بنُ إِسماعِيلَ بنِ يُوسُف الطَّالَقانِيُّ القَزْوِينِيُّ الشافعيّ، أَحد المُدَرِّسينَ في النِّظامِيَّة ببغداد، سمع بنَيْسابُورَ أَبا عَبْدِ الله الفَزارِيِّ، وماتَ بقَزْوِينَ سنة 550.
* ومما يُسْتَدْرَكُ عليه:
رَجُلٌ طَلَّاق، كشَدَّادٍ: كَثِيرُ الطَّلاق نقله الزَّمَخْشَرِيُّ.
وطَلَّق البِلاد: تَركَها، عن ابنِ الأَعرابِيِّ وهو مجاز، وأَنشد:
مُراجِعُ نَجْدٍ بعدَ فِرْكٍ وبِغْضَةٍ *** مُطلِّقُ بُصْرَى أَشعثُ الرّأْسِ جافِلُه
قال: وقالَ العُقَيْليّ، وسأَله الكِسائيُّ فقالَ: أَطَلَّقْتَ امرأَتَك؟ فقال: نَعَم والأَرضَ من وَرائِها.
وطَلَّقْتُ القومَ: تَرَكتُهم، وأَنْشَد لابنِ أَحْمرَ:
غَطارِفَةٌ يَرَوْنَ المَجْدَ غُنْمًا *** إِذا ما طَلَّقَ البَرِمُ العِيالا
أَي: تَرَكَهم كما يَتْرُكُ الرجلُ المَرْأَةَ.
ويُقالُ للإِنسانِ إِذا عَتَق: طَلِيق، أَي: صارَ حُرًّا.
وأَطْلَقَ النَّاقةَ من عِقالِها، وطَلَّقها فطَلَقَت هي، بالفَتْح.
ونَعْجَةٌ طَالِق: مُخَلّاةٌ تَرْعَى وَحْدَها.
وفي الحَدِيث: «الطُّلَقاءُ من قُرَيْش، والعُتَقاءُ من ثَقِيف». كأَنَّه مَيَّزَ قُرَيْشًا بهذا الاسْمِ، حَيْث هو أَحْسَنُ من العُتَقاءِ.
وقالَ ثَعْلَبٌ: الطُّلَقاءُ: الذين أُدْخِلُوا في الإِسلامِ كُرْهًا.
واسْتَطْلقَ الرَّاعِي ناقَةً لنَفْسِه: حَبَسَها.
والإِطْلاقُ: الحَلُّ والإِرْسال.
والمُطْلَقُ من الأَحْكام: ما لا يَقَع فيه اسْتِثْناء.
والماءُ المُطْلَق: ما سَقَطَ عنه القَيْد.
وأَطلقَ النّاقةَ، فهو مُطلِقْ: ساقَها إِلى الماءِ. قال ذُو الرُّمَّة:
قِرانًا وأَشْتاتًا وحادٍ يَسُوقُها *** إِلى الماءِ من حَوْرِ التَّنُوفَة مُطلِقُ
وإِذا خَلَّى الرّجلُ عن ناقَته قِيلَ: طَلَّقَها، والعَيْرُ إِذا جازَ عانَتَه، ثم خَلَّى عَنْها قِيلَ: طَلَّقَها، وإِذا استَعْصَتِ العَانَةُ عليه ثُم انْقَدْنَ له قِيلَ: طَلَّقْنه، قال رُؤْبَةُ:
طلَّقْنَهُ فاستَوْرَدَ العَدامِلَا
والإِطْلاقُ في القَائِمة: أَنْ لا يَكون فيها وَضَحٌ. وقومٌ يَجْعَلُونَ الإِطْلاقَ: أَنْ يَكونَ يَدٌ ورِجْلٌ في شِقٍّ مُحَجَّلَتَيْن، ويَجْعَلُونَ الإِمْساكَ أَن يَكُون يَدٌ ورِجْلٌ ليس بِهِما تَحْجِيلٌ.
وبَعِيرٌ طَلْقُ اليَدَيْنِ: غيرُ مُقَيَّد.
وقالَ الكسائيُّ: رَجُلٌ طَلْق: ليسَ عليه شيءٌ.
وقولُ الرَّاعِي:
فلمَّا عَلَتْه الشَّمسُ في يومِ طَلْقَةٍ
يُرِيد: يَوْمَ ليلةٍ طلْقَةٍ ليسَ فيها قُرٌّ ولا رِيحٌ، يُرِيدُ يومَها الَّذِي بَعْدَها والعَرَبُ تَبْدأُ باللَّيْلِ قبلَ اليَوْمِ.
قال الأَزهَرِيُّ: وأَخْبَرَني المُنْذِريُّ عن أَبي الهَيْثَمِ أَنه قالَ ـ في بَيْتِ الرَّاعي وبَيْتٍ آخَرَ أَنْشَدَه لِذِي الرُّمَّةِ:
لها سُنَّةٌ كالشَّمْسِ في يَوْمِ طَلْقَةٍ
قال: والعَرَب تُضِيفُ الاسْمَ إِلى نَعْتِه، قال: وزَادُوا الهاءَ في الطَّلْقِ للمُبالَغة في الوَصْفِ، كما قالُوا: رَجُلٌ دَاهِيَةٌ.
وقالَ ابنُ الأَعرابِيِّ: يُقالُ: هو طَلِيقٌ، وطَلْق، ومُطْلَقٌ: إِذا خَلَّى عنه، وأَطْلَقَ رِجْلَه.
واستَطْلَقه: اسْتَعْجَله.
وأَطْلَقَ الدَّواءُ بَطْنَه: مَشّاه.
واسْتَطْلَق الظَّبيُ: مثلُ تَطَلَّق.
وتَطَلَّقَت الخَيْلُ: مَضَتْ طَلْقًا لم تَحْتَبِسْ إِلى الغايَةِ.
وأَطْلَقَ خَيْلَه في الحَلْبَةِ: أَجْراها.
ورجُلٌ مُنْطَلِقُ اللِّسانِ، ومُتَطَلِّقُه: فَصِيحٌ، وهو مَجازٌ.
وشَرَفُ الدِّين بن المُطَلِّقِ، كمُحدِّث من شُيُوخِ أَبِي الفُتوح الطّاوسي، وكانَ في عَصْرِ المُصَنِّف.
وطَالق: من مُدن أَشبِيلِيَّةَ، منها أَبُو القَاسِم عَبْدس بنُ محمد بن عبد العَظِيم السُّلَيْجِيّ الأَشْبِيليُّ الطّالِقِي، رَوَى عن بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ توفي سنة 325 ذكره ابن الفَرَضِيِّ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
45-تاج العروس (ذا)
[ذا]: إشارةٌ إلى المُذَكَّرِ، تقولُ: ذَا وذاكَ، الكافُ للخِطابِ وهو للبَعِيدِ.قال ثَعْلبُ والمبرِّدُ: ذا يكونُ بمعْنَى هذا؛ ومنه قولهُ تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلّا بِإِذْنِهِ}؛ أَي مَنْ هذا الذي يَشْفَع.
وقال أَبو الهَيْثم: ذَا اسْمُ كلِّ مُشارٍ إليه مُعايَنٍ يَراهُ المُتكلِّم المُخاطِبُ، قال: والاسْمُ فيها الذالُ وحْدُها مَفْتوحَة، وقالوا: الذالُ وَحْدُها هي الاسْمُ المُشارُ إليه، وهو اسمٌ مُبْهمٌ لا يُعرَف ما هو حتى يُفَسِّره ما بعْدَه كقولك: ذَا الرَّجُلُ، وذا الفرسُ.
وتُزادُ لامًا للتَّأْكيدِ فيُقالُ: ذلِكَ، والكافُ للخِطابِ؛ وفيها دَليلٌ على أنَّ المُشارَ إليه: بَعِيدٌ، ولا مَوْضِع لَها مِن الإعْرابِ. وقولهُ تعالى: {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ}، قال الزجَّاج: مَعْناه هذا الكِتابُ.
* قُلْت: وقال غيرُه إنَّما قالَ ذلكَ لبُعْدِ مَنْزلتِه في الشَّرَفِ والتّعْظيمِ.
أَو هَمْزًا فيُقالُ: ذائِكَ، هذه الهَمْزةُ بدلٌ من اللامِ، وكِلاهُما زائِدتَانِ ويُصَغَّرُ فيُقالُ: ذَيَّاكَ، هو تَصْغيرُ ذاكَ، وأَمَّا تَصْغيرُ ذلِكَ: ذَيَّالِكَ؛ وأَنْشَدَ الجَوْهرِي لبعضِ الرجَّاز:
أَو تَحْلِفي بِرَبِّكِ العَلِيِّ *** أنِّي أَبو ذَيَّالِكَ الصَّبِيِّ
قُلْت: هو لبعضِ العَرَبِ وقَدِمَ من سَفَرِه فوجَدَ امْرأَتَه قد وَلَدَتْ غُلامًا فأنْكَره فقالَ لها:
لَتَقْعُدِنَّ مَقْعَدَ القَصِيِّ *** مِنِّي ذا القاذُورَةِ المَقْلِيِّ
أَو تَحْلِفي برِبِّكِ العَلِيِّ *** أنِّي أَبو ذَيَّالِكَ الصَّبِيِّ
قدْ رابَني بالنَّظَر الركيِّ *** ومُقْلةٍ كمُقْلَةِ الكُرْكِيِّ
فقالت:
لا والذي رَدَّكَ يا صَفِيِّ *** ما مَسَّنِي بَعْدَكَ مِن إنْسِيِّ
غيرِ غُلامٍ واحدٍ قَيْسِيِّ *** بَعْدَ امرَأَيْنِ مِنْ بَني عَدِيِّ
وآخَرَيْنِ مِنْ بَني بَلِيِّ *** وخَمْسة كانوا على الطَّوِيِّ
وسِتَّةٍ جاؤُوا مع العَشِيِّ *** وغيرِ تُرْكِيٍّ وبَصْرَوِيِّ
وقد تَدْخُلُ ها التَّنْبِيه على ذا فتقولُ: هذا زَيْدٌ، فها حَرْفُ تَنْبيهٍ، وذا: اسْمُ المُشارِ إليه، وزيْدٌ هو الخَبَرُ.
وذِي، بالكسْر، وإنْ وَقفْتَ عليه قُلْتَ: ذِهْ بهاءٍ مَوْقُوفَةٍ، وهي بدلٌ مِن الياءِ وليسَتْ للتّأْنِيثِ وإنَّما هي صِلَةٌ، كما أَبْدلُوا في هُنَيَّةٍ فقالوا هُنَيْهة، وكِلاهُما للمُؤَنَّثِ، تقولُ: ذِي أَمَةُ الله، وذِهْ أَمَةُ الله؛ وأَنْشَدَ المبرِّدُ:
أَمِنْ زَيْنَبَ ذِي النارُ *** قُبَيْلَ الصُّبْحِ ما تَخْبُو
إذا ما خَمَدَتْ يُلْقى *** عَلَيها المَنْدَلُ الرَّطْبُ
قال ثَعْلَب: ذِي مَعْناهُ ذِهْ، ولا تَدْخُلُ الكافُ على ذِي للمُؤَنَّثِ، وإنَّما تُدْخَلُها على تا، تقولُ: تِيكَ وتِلْكَ ولا تَقُلْ ذِيكَ، فإنَّه خَطَأٌ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
تَصْغِيرُ ذَا ذَيَّا، لأنَّك تَقْلِبُ أَلفَ ذَا ياءَ لمَكانِ الياءِ قَبْلها فتُدْغِمُها في الثانيةِ وتُزِيدُ في آخرِه أَلِفًا لِتَفْرُقَ بينَ تَصْغير المُبْهَم والمُعْرَب، وذَيَّان في التَّثْنيةِ، وتَصْغيرُ هذا هَذَيَّا، ولا يُصَغَّرُ ذِي للمُؤَنَّثِ وإنَّما يُصَغَّرُ تا، وقد اكْتفُوا به، وإن ثَّنيْتَ، ذَا قلْتَ ذانِ لأنَّه لا يصحُّ اجْتِماعُهما لسكونِهما فتَسْقُط إحْدَى الألِفَيْن، فمَنْ أَسَقَطَ أَلفَ ذَا قرَأَ: إنَّ هذَيْنِ لَساحِرانِ فأَعْرَبَ، ومَنْ أَسْقَط أَلِفَ التَّثْنيةِ قَرأَ: إنَّ هذانِ لَساحِرانِ لأنَّ أَلفَ ذا لا يَقَعُ فيها إعْرابٌ؛ وقد قيل: إنَّها لغةُ بلحارِثِ بنِ كعْبٍ، كذا في الصِّحاح.
قال ابنُ برِّي عنْدَ قولِ الجَوْهرِي مَنْ أَسْقَطَ أَلفَ التَّثْنيةِ قرَأَ: إنَّ هذانِ لَساحِرانِ: هذا وَهمٌ مِن الجَوْهرِي لأنَّ أَلفَ التَّثْنيةِ حَرْفٌ زِيدَ لمعْنًى، فلا تَسقُط وتَبْقى الأَلفُ الأصْليَّةُ كما لم يَسْقُط التَّنْوين في: هذا قاضٍ، وتَبْقى الياءُ الأصْليَّةُ لأنَّ التَّنْوينَ زِيدَ لمعْنًى فلا يصحُّ حذْفهُ، انتَهَى.
وتدخلُ الهاءُ على ذَاكَ فتقولُ: هذاكَا زيْدٌ، ولا تدخلُها على ذلِكَ ولا على أُولئِكَ كما تقدَّمَ، وتقولُ في التَّثْنيةِ رأَيْتُ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْن، وجاءَني ذانِكَ الرَّجُلانِ، ورُبَّما قالوا ذانِّكَ بتَشْديدِ النونِ.
قال ابنُ برِّي: قُلِبَتِ اللامُ نُونًا وأُدْغِمتِ النُّون في النونِ، ومنهم مَنْ يقولُ تَشْديدُ النونِ عِوَضٌ مِن الألفِ المَحْذوفَةِ مِن ذا.
قال الجَوْهرِي: وإنَّما شَدَّدوا النُّونَ في ذانِكَ تأْكيدًا وتكْثيرًا للاسْمِ لأنَّه بقي على حَرْفٍ واحدٍ كما أَدْخلُوا اللامَ على ذلكَ، وإنَّما يَفْعلونَ مثْلَ هذا في الأسْماءِ المُبْهمةِ لنُقصانِها؛ وأَمَّا ما أَنْشَدَه اللّحياني عن الكِسائي لجميلٍ:
وأَتَى صَواحِبُها فَقُلْنَ هَذَا الذي *** مَنَحَ المَوَدَّةَ غَيْرَنا وجَفانا
فإنَّه أَرادَ أَذا الذي، فأبْدلَ الهاءَ مِن الهَمْزةِ؛ وسَيَأتي للمصنِّفِ في الهاءِ المُبْدلَة قرِيبًا.
وقد اسْتُعْمِلَت ذا مَكان، الذي كقولهِ تعالى: {يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ}؛ أَي ما الذي، فما مَرْفُوعةٌ بالابْتِداءِ وذا خَبَرُها، ويُنْفِقُونَ صِلَةُ ذا.
وكَذلكَ هذا بمعْنَى الذي؛ ومنه قولُ الشاعرِ:
عَدَسْ ما لعباد عليك امارةٌ *** نَجَوْتِ وهذا تَحْمِلينَ طليقُ
أَي الذي.
وقد تكونُ ذِي زائِدَةً؛ كما في حديثِ جريرٍ: «يطلعُ عَلَيْكم رجُلٌ مِن ذِي يمنٍ على وجْهِهِ مسْحَةٌ مِن ذِي ملكٍ».
قال ابنُ الأثير: كذا أوْرَدَه أبو عُمر الزَّاهِد، وقالَ: إنَّها صلَةٌ أَي زائِدَةٌ.
ويقالُ في تأْنِيثِ هذا: هذه مُنْطَلِقَة، وقال بعضُهم: هذي مُنْطلقَةٌ؛ قال ذو الرُّمّة:
فهذِي طَواها بُعْدَ هذِي وهذه *** طَواها لهِذِي وخْدُها وانْسِلالُها
وقال بعضُهم: هَذاتِ مُنْطَلقاتٌ، وهي شاذَّةٌ مَرْغوبٌ عنها؛ قال أَبو الهَيْثم: وقولُ الشاعرِ:
تمنّى شبيبٌ مِنّةً ينفلت به *** وذا قطري لفّه منه وائلُ
يُريدُ قطريًّا، وذا زائِدَةٌ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
46-المصباح المنير (طلق)
طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقًا فَهُوَ مُطَلِّقٌ فَإِنْ كَثُرَ تَطْلِيقُهُ لِلنِّسَاءِ قِيلَ مِطْلِيقٌ وَمِطْلَاقٌ وَالِاسْمُ الطَّلَاقُ وَطَلَقَتْ هِيَ تَطْلُقُ مِنْ بَابِ قَتَلَ.وَفِي لُغَةٍ مِنْ بَابِ قَرُبَ فَهِيَ طَالِقٌ بِغَيْرِ هَاءٍ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَكُلُّهُمْ يَقُولُ طَالِقٌ بِغَيْرِ هَاءٍ قَالَ وَأَمَّا قَوْلُ الْأَعْشَى
أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهُ *** كَذَاكِ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهُ
فَقَالَ اللَّيْثُ أَرَادَ طَالِقَةً غَدًا وَإِنَّمَا اجْتَرَأَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُقَالُ طَلَقَتْ فَحَمَلَ النَّعْتَ عَلَى الْفِعْلِ وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ أَيْضًا امْرَأَةٌ طَالِقٌ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَطَالِقَةٌ غَدًا فَصَرَّحَ بِالْفَرْقِ لِأَنَّ الصِّفَةَ غَيْرُ وَاقِعَةٍ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ إذَا كَانَ النَّعْتُ مُنْفَرِدًا بِهِ الْأُنْثَى دُونَ الذَّكَرِ لَمْ تَدْخُلْهُ الْهَاءُ نَحْوُ طَالِقٍ وَطَامِثٍ وَحَائِضٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى فَارِقٍ لِاخْتِصَاصِ الْأُنْثَى بِهِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ يُقَالُ طَالِقٌ وَطَالِقَةٌ وَأَنْشَدَ بَيْتَ الْأَعْشَى وَأُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا تَقَدَّمَ وَالثَّانِي أَنَّ الْهَاءَ لِضَرُورَةِ التَّصْرِيعِ عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ أَنْشَدَنِي أَعْرَابِيٌّ مِنْ شِقِّ الْيَمَامَةِ الْبَيْتَ فَإِنَّكِ طَالِقٌ مِنْ غَيْر تَصْرِيعٍ فَتَسْقُطُ الْحُجَّةُ بِهِ قَالَ الْبَصْرِيُّونَ إنَّمَا حُذِفَتْ الْعَلَامَةُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ النَّسَبُ وَالْمَعْنَى امْرَأَةٌ ذَاتُ طَلَاقٍ وَذَاتُ حَيْضٍ أَيْ هِيَ مَوْصُوفَةٌ بِذَلِكَ حَقِيقَةً وَلَمْ يُجْرُوهُ عَلَى الْفِعْلِ وَيُحْكَى عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ هَذِهِ نُعُوتٌ مُذَكَّرَةٌ وُصِفَ بِهِنَّ الْإِنَاثُ كَمَا يُوصَفُ الْمُذَكَّرُ بِالصِّفَةِ الْمُؤَنَّثَةِ نَحْوُ عَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ وَهُوَ سَمَاعِيٌّ وَقَالَ الْفَارَابِيُّ نَعْجَةٌ طَالِقٌ بِغَيْرِ هَاءٍ إذَا كَانَتْ مُخَلَّاةً تَرْعَى وَحْدَهَا فَالتَّرْكِيبُ يَدُلُّ عَلَى الْحَلِّ وَالِانْحِلَالِ.
يُقَالُ أَطْلَقْتُ الْأَسِيرَ إذَا حَلَلْتُ إسَارَهُ وَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَانْطَلَقَ أَيْ ذَهَبَ فِي سَبِيلِهِ وَمِنْ هُنَا قِيلَ أَطْلَقْتُ الْقَوْلَ إذَا أَرْسَلْتُهُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ وَلَا شَرْطٍ وَأَطْلَقْتُ الْبَيِّنَةَ إذَا شَهِدْتُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِتَارِيخٍ وَأَطْلَقْتُ النَّاقَةَ مِنْ عِقَالِهَا وَنَاقَةٌ طُلُقٌ بِضَمَّتَيْنِ بِلَا قَيْدٍ وَنَاقَةٌ طَالِقٌ أَيْضًا مُرْسَلَةٌ تَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ وَقَدْ طَلَقَتْ طُلُوقًا مِنْ بَابِ قَعَدَ إذَا انْحَلَّ وَثَاقُهَا وَأَطْلَقْتُهَا إلَى الْمَاءِ فَطَلَقَتْ.
وَالطَّلَقُ بِفَتْحَتَيْنِ جَرْيُ الْفَرَسِ لَا تَحْتَبِسُ إلَى الْغَايَةِ فَيُقَالُ عَدَا الْفَرَسُ طَلَقًا
أَوْ طَلَقَيْنِ كَمَا يُقَالُ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ تَطَلَّقَ الظَّبْيُ مَرَّ لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ وَطَلُقَ الْوَجْهُ بِالضَّمِّ طَلَاقَةً وَرَجُلٌ طَلْقَ الْوَجْهِ أَيْ فَرِحٌ ظَاهِرُ الْبِشْرِ وَهُوَ طَلِيقُ الْوَجْهِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ مُتَهَلِّلٌ بَسَّامٌ وَهُوَ طَلْقُ الْيَدَيْنِ بِمَعْنَى سَخِيٍّ وَلَيْلَةٌ طَلْقَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا قُرٌّ وَلَا حَرٌّ وَكُلُّهُ وِزَانُ فَلْسٍ وَشَيْءٌ طِلْقٌ وِزَانُ حِمْلٍ أَيْ حَلَالٌ وَافْعَلْ هَذَا طِلْقًا لَكَ أَيْ حَلَالًا وَيُقَالُ الطِّلْقُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهُ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ فَيَكُونُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ الذِّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ وَأَعْطَيْتُهُ مِنْ طِلْقِ مَالِي أَيْ مِنْ حِلِّهِ أَوْ مِنْ مُطْلَقِهِ.
وَطُلِقَتْ الْمَرْأَةُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ طَلْقًا فَهِيَ مَطْلُوقَةٌ إذَا أَخَذَهَا الْمَخَاضُ وَهُوَ وَجَعُ الْوِلَادَةِ وَطَلُقَ لِسَانُهُ بِالضَّمِّ طُلُوقًا وَطُلُوقَةً فَهُوَ طَلِقُ اللِّسَانِ وَطَلِيقُهُ أَيْضًا أَيْ فَصِيحٌ عَذْبُ الْمَنْطِقِ وَاسْتَطْلَقَتْ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ كَذَا فَأَطْلَقَهُ وَاسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ لَازِمًا وَأَطْلَقَهُ الدَّوَاءُ وَفَرَسٌ مُطْلَقُ الْيَدَيْنِ إذَا خَلَا مِنْ التَّحْجِيلِ.
المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م
47-المصباح المنير (عشر)
الْعُشْرُ الْجُزْءُ مِنْ عَشْرَةِ أَجْزَاءٍ وَالْجَمْعُ أَعْشَارٌ مِثْلُ قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ وَهُوَ الْعَشِيرُ أَيْضًا وَالْمِعْشَارُ وَلَا يُقَالُ مِفْعَالٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُسُورِ إلَّا فِي مِرْبَاعٍ وَمِعْشَارٍ وَجَمْعُ الْعَشِيرِ أَعْشِرَاءُ مِثْلُ نَصِيبٍ وَأَنْصِبَاءَ وَقِيلَ إنَّ الْمِعْشَارَ عُشْرُ الْعَشِيرِ وَالْعَشِيرُ عُشْرُ الْعُشْرِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْمِعْشَارُ وَاحِدًا مِنْ أَلْفٍ لِأَنَّهُ عُشْرُ عُشْرِ الْعُشْرِوَعَشَرْتُ الْمَالَ عَشْرًا مِنْ بَابِ قَتَلَ وَعُشُورًا أَخَذْتُ عُشْرَهُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ عَاشِرٌ وَعَشَّارٌ وَعَشَرْتُ الْقَوْمَ عَشْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ صِرْتُ عَاشِرَهُمْ وَقَدْ يُقَالُ عَشَرْتُهُمْ أَيْضًا إذَا كَانُوا عَشَرَةً فَأَخَذْتَ مِنْهُمْ وَاحِدًا وَعَشَّرْتَهُمْ بِالتَّثْقِيلِ إذَا كَانُوا تِسْعَةً فَزِدْتَ وَاحِدًا وَتَمَّتْ بِهِ الْعِدَّةُ وَالْمَعْشَرُ الْجَمَاعَةُ مِنْ النَّاسِ وَالْجَمْعُ مَعَاشِرُ وَقَوْلُهُ «إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» نَصَبَ مَعَاشِرَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ.
وَالْعَشِيرَةُ الْقَبِيلَةُ وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا وَالْجَمْعُ عَشِيرَاتٌ وَعَشَائِرُ.
وَالْعَشِيرُ الزَّوْجُ وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ أَيْ إحْسَانَ الزَّوْجِ وَنَحْوِهِ وَالْعَشِيرُ الْمَرْأَةُ أَيْضًا وَالْعَشِيرُ الْمُعَاشِرُ وَالْعَشِيرُ مِنْ الْأَرْضِ عُشْرُ الْقَفِيزِ وَالْعَشَرَةُ بِالْهَاءِ عَدَدٌ لِلْمُذَكَّرِ يُقَالُ عَشَرَةُ رِجَالٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ وَالْعَشْرُ بِغَيْرِ هَاءٍ عَدَدٌ لِلْمُؤَنَّثِ يُقَالُ عَشْرُ نِسْوَةٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ.
وَفِي التَّنْزِيلِ {وَالْفَجْرِ} [الفجر: 1] {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] وَالْعَامَّةُ تُذَكِّرُ الْعَشْرَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ جَمْعُ الْأَيَّامِ فَيَقُولُونَ الْعَشْرُ الْأَوَّلُ وَالْعَشْرُ الْأَخِيرُ وَهُوَ خَطَأٌ فَإِنَّهُ تَغْيِيرُ الْمَسْمُوعِ وَلِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَرَبِيَّ تَنَاقَلَتْهُ الْأَلْسُنُ اللُّكْنُ وَتَلَاعَبَتْ بِهِ أَفْوَاهُ النَّبَطِ فَحَرَّفُوا بَعْضَهُ وَبَدَّلُوهُ فَلَا يُتَمَسَّكُ بِمَا خَالَفَ مَا ضَبَطَهُ الْأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ وَنَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَالشَّهْرُ ثَلَاثُ عَشَرَاتٍ فَالْعَشْرُ الْأُوَلُ جَمْعُ أُولَى وَالْعَشْرُ الْوَسَطُ جَمْعُ وُسْطَى وَالْعَشْرُ الْأُخَرُ جَمْعُ أُخْرَى وَالْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ أَيْضًا جَمْعُ آخِرَةٍ وَهَذَا فِي غَيْرِ التَّارِيخِ وَأَمَّا فِي التَّارِيخِ فَقَدْ قَالَتْ الْعَرَبُ سِرْنَا عَشْرًا وَالْمُرَادُ عَشْرُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا فَغَلَّبُوا الْمُؤَنَّثَ هُنَا عَلَى الْمُذَكَّرِ لِكَثْرَةِ دَوْرِ الْعَدَدِ عَلَى أَلْسِنَتِهَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَيُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ إلَى تِسْعَةَ عَشَرَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونُهَا لُغَةٌ وَقَرَأَ بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ وَالْعِشْرُونَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَيُعْرَبُ بِالْوَاوِ وَالْيَاءِ وَيَجُوزُ إضَافَتُهَا لِمَالِكِهَا فَتَسْقُطُ النُّونُ تَشْبِيهًا بِنُونِ الْجَمْعِ فَيُقَالُ عِشْرٌ وَزَيْد وَعِشْرُوكَ هَكَذَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ وَمَنَعَ الْأَكْثَرُ إضَافَةَ الْعُقُودِ وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ إضَافَةَ الْعَدَدِ إلَى غَيْرِ التَّمْيِيزِ وَالْعِشْرَةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ وَالتَّعَاشُرِ وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ.
وَعَشَّرَتْ النَّاقَةُ بِالتَّثْقِيلِ فَهِيَ عُشَرَاءُ أَتَى عَلَى حَمْلِهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ وَالْجَمْعُ عِشَارٌ وَمِثْلُهُ نُفَسَاءُ وَنِفَاسٌ وَلَا
ثَالِثَ لَهُمَا.
وَعَاشُورَاءُ عَاشِرُ الْمُحَرَّمِ وَتَقَدَّمَ فِي تِسْع فِيهَا كَلَامٌ وَفِيهَا لُغَاتٌ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ مَعَ الْأَلِفِ بَعْدَ الْعَيْنِ وَعَشُورَاءُ بِالْمَدِّ مَعَ حَذْفِ الْأَلِفِ.
المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م
48-لسان العرب (ألقاب الحروف)
بَاب ألقاب الْحُرُوف وطبائعها وخواصها قَالَ عبد الله مُحَمَّد بن المكرم: هَذَا الْبَاب أَيْضا لَيْسَ من شرطنا لكني اخْتَرْت ذكر الْيَسِير مِنْهُ، وَإِنِّي لَا أضْرب صفحا عَنهُ ليظفر طَالبه مِنْهُ بِمَا يُرِيد وينال الافادة مِنْهُ من يَسْتَفِيد، وليعلم كل طَالب أَن وَرَاء مطلبه أخر، وَأَن لله تَعَالَى فِي كل شئ سرا لَهُ فعل واثر.وَلم أوسع القَوْل فِيهِ خوفًا من انتقاد من لَا يدريه.
ذكر ابْن كيسَان فِي ألقاب الْحُرُوف: أَن مِنْهَا المجهور والمهموس، وَمعنى المجهور مِنْهَا أَنه لزم مَوْضِعه إِلَى انْقِضَاء حُرُوفه، وَحبس النَّفس أَن يجْرِي مَعَه، فَصَارَ مجهورا لانه لم يخالطه شئ يُغَيِّرهُ، وَهُوَ تِسْعَة عشر حرفا: الالف وَالْعين والغين وَالْقَاف وَالْجِيم وَالْبَاء وَالضَّاد وَاللَّام وَالنُّون وَالرَّاء والطاء وَالدَّال وَالزَّاي والظاء والذال وَالْمِيم وَالْوَاو والهمزة وَالْيَاء، وَمعنى المهموس مِنْهَا أَنه حرف لَان مخرجه دون المجهور، وَجرى مَعَه النَّفس، وَكَانَ دون المجهور فِي رفع الصَّوْت، وَهُوَ عشرَة أحرف: الْهَاء والحاء وَالْخَاء وَالْكَاف والشين وَالسِّين وَالتَّاء وَالصَّاد والثاء وَالْفَاء، وَقد يكون المجهور شَدِيدا، وَيكون رخوا، والمهموس كَذَلِك.
وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد: حُرُوف الْعَرَبيَّة تِسْعَة وَعِشْرُونَ حرفا مِنْهَا خَمْسَة وَعِشْرُونَ حرفا صِحَاح، لَهَا أحياز ومدارج، واربعة أحرف جَوف: الْوَاو وَالْيَاء والالف اللينة والهمزة، وَسميت جوفا لانها تخرج من الْجوف، فَلَا تخرج فِي مدرجة من مدارج الْحلق، وَلَا مدارج اللهاة، وَلَا مدارج اللِّسَان، وَهِي فِي الْهَوَاء، فَلَيْسَ لَهَا حيّز تنْسب إِلَيْهِ إِلَّا الْجوف.
وَكَانَ يَقُول: الالف اللينة وَالْوَاو وَالْيَاء هوائية أَي أَنَّهَا فِي الْهَوَاء.
واقصى الْحُرُوف كلهَا الْعين، وارفع مِنْهَا الْحَاء، وَلَوْلَا بحة فِي الْحَاء لاشبهت الْعين لقرب مخرجها مِنْهَا، ثمَّ الْهَاء، وَلَوْلَا هتة فِي الْهَاء، وَقَالَ مرّة أُخْرَى ههة فِي الْهَاء، لاشبهت الْحَاء لقرب مخرجها مِنْهَا، فَهَذِهِ الثَّلَاثَة فِي حيّز وَاحِد، ولهذه الْحُرُوف ألقاب أخر، الحلقية: الْعين وَالْهَاء والحاء وَالْخَاء والغين، اللهوية: الْقَاف وَالْكَاف، الشجرية: الْجِيم والشين وَالضَّاد، وَالشَّجر مفرج الْفَم، الاسلية: الصَّاد وَالسِّين وَالزَّاي، لَان مبداها من أسلة اللِّسَان وَهِي مستدق طرفه، النطعية: الطَّاء والذال وَالتَّاء، لَان مبداها من نطع الْغَار الاعلى، اللثوية: الظَّاء وَالدَّال والثاء، لَان مبداها من اللثة، الذلقية: الرَّاء وَاللَّام وَالنُّون، الشفوية: الْفَاء وَالْبَاء وَالْمِيم، وَقَالَ مرّة شفهية، الهوائية: الْوَاو والالف وَالْيَاء.
وَسَنذكر فِي صدر كل حرف أَيْضا شَيْئا مِمَّا يَخُصُّهُ.
واما تَرْتِيب كتاب الْعين وَغَيره، فقد قَالَ اللَّيْث بن المظفر: لما أَرَادَ الْخَلِيل بن أَحْمد الِابْتِدَاء فِي كتاب الْعين أعمل فكره فِيهِ، فَلم يُمكنهُ أَن يَبْتَدِئ فِي أول حُرُوف المعجم، لَان الالف حرف معتل، فَلَمَّا فَاتَهُ أول الْحُرُوف كره أَن يَجْعَل الثَّانِي أَولا، وَهُوَ الْبَاء، إِلَّا بِحجَّة وَبعد استقصاء، فدبر وَنظر إِلَى الْحُرُوف كلهَا وذاقها، فَوجدَ مخرج الْكَلَام كُله من الْحق، فصير أولاها، فِي الِابْتِدَاء، أدخلها فِي الْحلق.
وَكَانَ إِذا أَرَادَ أَن يَذُوق الْحَرْف فتح فَاه بالف ثمَّ أظهر الْحَرْف ثمَّ يَقُول: اب ات اث اج اع، فَوجدَ الْعين أقصاها فِي الْحلق، وادخلها، فَجعل أول الْكتاب الْعين، ثمَّ مَا قرب مخرجه مِنْهَا بعد الْعين الا رفع فالارفع، حَتَّى أَتَى على آخر الْحُرُوف، فَقلب الْحُرُوف عَن موَاضعهَا، ووضعها على قدر مخرجها من الْحلق.
وَهَذَا تأليفه وترتيبه: الْعين والحاء وَالْهَاء وَالْخَاء والغين وَالْقَاف وَالْكَاف وَالْجِيم والشين وَالضَّاد وَالصَّاد وَالسِّين وَالزَّاي والطاء وَالدَّال وَالتَّاء والظاء والذال والثاء وَالرَّاء وَاللَّام وَالنُّون وَالْفَاء وَالْبَاء وَالْمِيم وَالْيَاء وَالْوَاو والالف.
وَهَذَا هُوَ تَرْتِيب الْمُحكم لِابْنِ سَيّده، إِلَّا انه خَالفه فِي الاخير، فرتب بعد الْمِيم الالف وَالْيَاء وَالْوَاو.
وَلَقَد انشدني شخص بِدِمَشْق المحروسة أبياتا، فِي تَرْتِيب الْمُحكم، هِيَ أَجود مَا قيل فِيهَا: عَلَيْك حروفا هن خير غوامض*** قيود كتاب، جلّ، شانا، ضوابطه صِرَاط سوي، زل طَالب دحضه، *** تزيد ظهورا ذَا ثبات روابطه لذلكم نلتذ فوزا بمحكم، *** مُصَنفه، أَيْضا، يفوز وضابطه وَقد انتقد هَذَا التَّرْتِيب على من رتبه.
وترتيب سِيبَوَيْهٍ على هَذِه الصُّورَة: الْهمزَة وَالْهَاء وَالْعين والحاء وَالْخَاء والغين وَالْقَاف وَالْكَاف وَالضَّاد وَالْجِيم والشين وَاللَّام وَالرَّاء وَالنُّون والطاء وَالدَّال وَالتَّاء وَالصَّاد وَالزَّاي وَالسِّين والظاء والذال والثاء وَالْفَاء وَالْبَاء وَالْمِيم وَالْيَاء والالف وَالْوَاو.
واما تقَارب بَعْضهَا من بعض وتباعدها، فان لَهَا سرا، فِي النُّطْق، يكشفه من تعناه، كَمَا انْكَشَفَ لنا سره فِي حل المترجمات، لشدَّة احتياجنا إِلَى معرفَة مَا يتقارب بعضه من بعض، ويتباعد بعضه من بعض، ويتركب بعضه مَعَ بعض، وَلَا يتركب بعضه مَعَ بعض، فان من الْحُرُوف مَا يتَكَرَّر وَيكثر فِي الْكَلَام اسْتِعْمَاله، وَهُوَ: ال م هـ وي ن، وَمِنْهَا مَا يكون تكراره دون ذَلِك، وَهُوَ: ر ع ف ت ب ك د س ق ح ج، وَمِنْهَا مَا يكون تكراره أقل من ذَلِك، وَهُوَ: ظ غ ط ز ث خَ ض ش ص ذ.
وَمن الْحُرُوف مَا لَا يَخْلُو مِنْهُ أَكثر الْكَلِمَات، حَتَّى قَالُوا: ان كل كلمة ثلاثية فَصَاعِدا لَا يكون فِيهَا حرف أَو حرفان مِنْهَا، فَلَيْسَتْ بعربية، وَهِي سِتَّة أحرف: د ب م ن ل ف، وَمِنْهَا مَا لَا يتركب بعضه مَعَ بعض، إِذا اجْتمع فِي كلمة، إِلَّا ان يقدم، وَلَا يجْتَمع، إِذا تَأَخّر، وَهُوَ: ع هـ، فان الْعين إِذا تقدّمت تركبت، وَإِذا تَأَخَّرت لَا تتركب، وَمِنْهَا مَا لَا يتركب، إِذا تقدم، ويتركب، إِذا تَأَخّر، وَهُوَ: ض ج، فان الضَّاد إِذا تقدّمت تركبت، وَإِذا تَأَخَّرت لَا تتركب فِي أصل الْعَرَبيَّة، وَمِنْهَا مَالا يتركب بعضه مَعَ بعض لَا إِن تقدم وَلَا إِن تَأَخّر، وَهُوَ: س ث ض ز ظ ص، فَاعْلَم ذَلِك.
وَأما خواصها: فان لَهَا أعمالا عَظِيمَة تتَعَلَّق بابواب جليلة من أَنْوَاع المعالجات، وأوضاع الطلسمات، وَلها نفع شرِيف بطبائعها، وَلها خُصُوصِيَّة بالافلاك المقدسة وملائمة لَهَا، وَمَنَافع لَا يحصيها من يصفها، لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهَا، لَكنا لَا بُد ان نلوح بشي من ذَلِك، ننبه على مِقْدَار نعم الله تَعَالَى على من كشف لَهُ سرها، وَعلمه علمهَا، وأباح لَهُ التَّصَرُّف بهَا.
وَهُوَ أَن مِنْهَا مَا هُوَ حَار يَابِس طبع النَّار، وَهُوَ: الالف وَالْهَاء والطاء وَالْمِيم وَالْفَاء والشين والذال، وَله خُصُوصِيَّة بِالْمُثَلثَةِ النارية، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَارِد يَابِس طبع التُّرَاب، وَهُوَ: الْبَاء وَالْوَاو وَالْيَاء وَالنُّون وَالصَّاد وَالتَّاء وَالضَّاد، وَله خُصُوصِيَّة بِالْمُثَلثَةِ الترابية، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَار رطب طبع الْهَوَاء، وَهُوَ: الْجِيم وَالزَّاي وَالْكَاف وَالسِّين وَالْقَاف والثاء والظاء، وَله خُصُوصِيَّة بِالْمُثَلثَةِ الهوائيه، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَارِد رطب طبع المَاء، وَهُوَ: الدَّال والحاء وَاللَّام وَالْعين وَالرَّاء وَالْخَاء والغين، وَله خُصُوصِيَّة بِالْمُثَلثَةِ المائية.
ولهذه الْحُرُوف فِي طبائعها مَرَاتِب ودرجات ودقائق وثوان وثوالث وروابع وخوامس يُوزن بهَا الْكَلَام، وَيعرف الْعَمَل بِهِ علماؤه، وَلَوْلَا خوف الاطالة، وانتقاد ذَوي الْجَهَالَة، وَبعد اكثر النَّاس عَن تَأمل دقائق صنع الله وحكمته، لذكرت هُنَا اسرارا من افعال الْكَوَاكِب المقدسة، إِذا مازجتها الْحُرُوف تخرق عقول من لَا اهْتَدَى إِلَيْهَا، وَلَا هجم بِهِ تنقيبه وبحثه عَلَيْهَا.
وَلَا انتقاد عَليّ فِي قَول ذَوي الْجَهَالَة، فان الزَّمَخْشَرِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، قَالَ فِي تَفْسِير قَوْله عزوجل: وَجَعَلنَا السَّمَاء سقفا مَحْفُوظًا، وهم عَن آياتها معرضون، قَالَ: عَن آياتها اي عَمَّا وضع الله فِيهَا من الادلة والعبر، كَالشَّمْسِ وَالْقَمَر، وَسَائِر النيرات، ومسايرها وطلوعها وغروبها على الْحساب القويم، وَالتَّرْتِيب العجيب، الدَّال على الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْقُدْرَة الباهرة.
قَالَ وَأي جهل أعظم من جهل من أعرض عَنْهَا، وَلم يذهب بِهِ وهمه الى تدبرها وَالِاعْتِبَار بهَا، وَالِاسْتِدْلَال على عَظمَة شان من اوجدها عَن عدم، ودبرها ونصبها هَذِه النصبة، واودعها مَا اودعها مِمَّا لَا يعرف كنهه الا هُوَ جلت قدرته، ولطف علمه.
هَذَا نَص كَلَام الزَّمَخْشَرِيّ رَحمَه الله.
وَذكر الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس احْمَد الْبونِي رَحمَه الله قَالَ: منَازِل الْقَمَر ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ مِنْهَا اربعة عشر فَوق الارض، وَمِنْهَا اربعة عشر تَحت الارض.
قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحُرُوف: مِنْهَا اربعة عشر مُهْملَة بِغَيْر نقط، واربعة عشر مُعْجمَة بنقط، فَمَا هُوَ مِنْهَا غير منقوط، فَهُوَ اشبه بمنازل السُّعُود، وَمَا هُوَ مِنْهَا منقوط، فَهُوَ منَازِل النحوس والممتزجات، وَمَا كَانَ مِنْهَا لَهُ نقطة وَاحِدَة، فَهُوَ اقْربْ الى السُّعُود، وَمَا هُوَ بنقطتين، فَهُوَ متوسط فِي النحوس، فَهُوَ الممتزج، وَمَا هُوَ بِثَلَاث نقط، فَهُوَ عَام النحوس.
هَكَذَا وجدته.
وَالَّذِي نرَاهُ فِي الْحُرُوف انها ثَلَاثَة عشر مُهْملَة وَخَمْسَة عشر مُعْجمَة، إِلَّا أَن يكون كَانَ لَهُم اصْطِلَاح فِي النقط تغير فِي وقتنا هَذَا.
واما الْمعَانِي المنتفع بهَا من قواها وطبائعها فقد ذكر الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ الْحَرَّانِي وَالشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس احْمَد الْبونِي والبعلبكي وَغَيرهم، رَحِمهم الله، من ذَلِك مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ كتبهمْ من قواها وتاثيراتها، وَمِمَّا قيل فِيهَا أَن تتَّخذ الْحُرُوف الْيَابِسَة وَتجمع متواليا، فَتكون متقوية لما يُرَاد فِيهِ تَقْوِيَة الْحَيَاة الَّتِي تسميها الاطباء الغريزية، أَو لما يُرَاد دَفعه من آثَار الامراض الْبَارِدَة الرّطبَة، فيكتبها، أَو يرقي بهَا، أَو يسقيها لصَاحب الحمي البلغمية والمفلوج والملووق.
وَكَذَلِكَ الْحُرُوف الْبَارِدَة الرّطبَة، إِذا اسْتعْملت بعد تتبعها، وعولج بهَا، رقية أَو كِتَابَة أَو سقيا، من بِهِ حمى محرقة، أَو كتبت على ورم حَار، وخصوصا حرف الْحَاء لانها، فِي عالمها، عَالم صُورَة.
وَإِذا اقْتصر على حرف مِنْهَا كتب بعدده، فَيكْتب الْحَاء مثلا ثَمَانِي مَرَّات، وَكَذَلِكَ مَا تكتبه من الْمُفْردَات تكتبه بعدده.
وَقد شاهدنا نَحن ذَلِك فِي عصرنا، وراينا، من معلمي الْكِتَابَة وَغَيرهم، من يكْتب على خدود الصّبيان، إِذا تورمت، حُرُوف أبجد بكمالها، ويعتقد أَنَّهَا مفيدة، وَرُبمَا افادت، وَلَيْسَ الامر كَمَا اعْتقد، وَإِنَّمَا لما جهل اكثر النَّاس طبائع الْحُرُوف، وراوا مَا يكْتب مِنْهَا، ظنُّوا الْجَمِيع أَنه مُفِيد فكتبوها كلهَا.
وشاهدنا أَيْضا من يقلقه الصداع الشَّديد ويمنعه الْقُرْآن، فَيكْتب لَهُ صُورَة لوح، وعَلى جوانبه تاءات ارْبَعْ، فَيبرأ بذلك من الصداع.
وَكَذَلِكَ الْحُرُوف الرّطبَة إِذا اسْتعْملت رقى، أَو كِتَابَة، أَو سقيا، قوت الْمِنَّة وادامت الصِّحَّة وقوت على الباه، وَإِذا كتبت للصَّغِير حسن نَبَاته، وَهِي اوتار الْحُرُوف كلهَا، وَكَذَلِكَ الْحُرُوف الْبَارِدَة الْيَابِسَة، إِذا عولج بهَا من نزف دم بسقي، أَو كِتَابَة، أَو بخور، وَنَحْو ذَلِك من الامراض.
وَقد ذكر الشَّيْخ محيي الدّين بن الْعَرَبِيّ، فِي كتبه، من ذَلِك، جملا كَثِيرَة.
وَقَالَ الشَّيْخ عَليّ الحرالي رَحمَه الله: إِن الْحُرُوف الْمنزلَة اوائل السُّور وعدتها، بعد اسقاط مكررها، اربعة عشر حرفا، وَهِي: الالف وَالْهَاء والحاء والطاء وَالْيَاء وَالْكَاف وَاللَّام وَالْمِيم وَالرَّاء وَالسِّين وَالْعين وَالصَّاد وَالْقَاف وَالنُّون، قَالَ: إِنَّهَا يقْتَصر بهَا على مداواة السمُوم، وتقاوم السمُوم باضدادها، فيسقى للدغ الْعَقْرَب حارها، وَمن نهشة الْحَيَّة باردها الرطب، أَو تكْتب لَهُ، وتجري المحاولة، فِي الامور، على نَحْو من الطبيعة فتسقى الْحُرُوف الحارة الرّطبَة للتفريح وإذهاب الْغم، وَكَذَلِكَ الحارة الْيَابِسَة لتقوية الْفِكر وَالْحِفْظ، والباردة الْيَابِسَة الثَّبَات وَالصَّبْر، والباردة الرّطبَة لتيسير الامور وتسهيل الْحَاجَات وَطلب الصفح وَالْعَفو.
وَقد صنف البعلبكي فِي خَواص الْحُرُوف كتابا مُفردا، وَوصف لكل حرف خاصية يَفْعَلهَا بِنَفسِهِ، وخا صية بمشاركة غَيره من الْحُرُوف على اوضاع مُعينَة فِي كِتَابه، وَجعل لَهَا نفعا بمفردها على الصُّورَة الْعَرَبيَّة، ونفعا بمفردها، إِذا كتبت على الصُّورَة الْهِنْدِيَّة، ونفعا بمشاركتهما فِي الْكِتَابَة، وَقد اشْتَمَل من الْعَجَائِب على مَا لَا يعلم مِقْدَاره الا من علم مَعْنَاهُ.
وَأما اعمالها فِي الطلسمات فان لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهَا سرا عجيبا، وصنعا جميلا، شاهدنا صِحَة اخبارها، وَجَمِيل آثارها.
وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع الاطالة بِذكر مَا جربناه مِنْهَا ورأيناه من التَّأْثِير عَنْهَا، فسبحان مسدي النِّعْمَة، ومؤتى الْحِكْمَة، الْعَالم بِمن خلق، وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير.
نذْكر، فِي هَذَا الْحَرْف، الْهمزَة الاصلية، الَّتِي هِيَ لَام الْفِعْل، فاما المبدلة من الْوَاو نَحْو العزاء، الذى اصله عز أَو، لانه من عزوت، أَو المبدلة من الْيَاء نَحْو الاباء، الذى اصله اباي، لانه من ابيت، فنذكره فِي بَاب الْوَاو وَالْيَاء، ونقدم هُنَا الحَدِيث فِي الْهمزَة.
قَالَ الازهري: إعلم أَن الْهمزَة لَا هجاء لَهَا، انما تكْتب مرّة ألفا وَمرَّة يَاء وَمرَّة واوا، والالف اللينة لَا حرف لَهَا، انما هِيَ جُزْء من مُدَّة بعد فَتْحة.
والحروف ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ حرفا مَعَ الْوَاو والالف وَالْيَاء، وتتم بِالْهَمْزَةِ تِسْعَة وَعشْرين حرفا.
والهمزة كالحرف الصَّحِيح، غير أَن لَهَا حالات من التليين والحذف والابدال وَالتَّحْقِيق تعتل، فالحقت بالاحرف المعتلة الْجوف، وَلَيْسَت من الْجوف، انما هِيَ حلقية فِي أقْصَى الْفَم، وَلها ألقاب كالقاب الْحُرُوف الْجوف، فَمِنْهَا همزَة التَّأْنِيث، كهمزة الْحَمْرَاء وَالنُّفَسَاء والعشراء والخشاء، وكل مِنْهَا مَذْكُور فِي مَوْضِعه، وَمِنْهَا الْهمزَة الاصلية فِي آخر الْكَلِمَة مثل: الْجفَاء والبواء والرطاء والطواء، وَمِنْهَا الوحاء وَالْبَاء والداء والايطاء فِي الشّعْر.
هَذِه كلهَا همزها أُصَلِّي، وَمِنْهَا همزَة الْمدَّة المبدلة من الْيَاء وَالْوَاو: كهمزة السَّمَاء والبكاء والكساء وَالدُّعَاء وَالْجَزَاء وَمَا اشبهها، وَمِنْهَا الْهمزَة المجتلبة بعد الالف الساكنة نَحْو: همزَة وَائِل وطائف، وَفِي الْجمع نَحْو كتائب وسرائر، وَمِنْهَا الْهمزَة الزَّائِدَة نَحْو: همزَة الشمأل والشامل والغرقئ، وَمِنْهَا الْهمزَة الَّتِي تزاد لِئَلَّا يجْتَمع ساكنان نَحْو: اطْمَأَن واشمأز وازبأر وَمَا شاكلها، وَمِنْهَا همزَة الوقفة فِي آخر الْفِعْل لُغَة لبَعض دون بعض نَحْو قَوْلهم للْمَرْأَة: قولئ، وللرجلين قولا، وللجميع قولؤ، وَإِذا وصلوا الْكَلَام لم يهمزوا، ويهمزون لَا إِذا وقفُوا عَلَيْهَا، وَمِنْهَا همزَة التَّوَهُّم، كَمَا روى الْفراء عَن بعض الْعَرَب أَنهم يهمزون مَا لَا همز فِيهِ إِذا ضارع المهموز.
قَالَ: وَسمعت امراة من غَنِي تَقول: رثات زَوجي بابيات، كَأَنَّهَا لما سَمِعت رثات اللَّبن ذهبت الى أَن مرثية الْمَيِّت مِنْهَا.
قَالَ: وَيَقُولُونَ لبات بِالْحَجِّ وحلات السويق، فيغلطون لَان حلات يُقَال فِي دفع العطشان عَن المَاء، ولبات يذهب بهَا اللبا.
وَقَالُوا: استنشأت الرّيح وَالصَّوَاب استنشيت، ذَهَبُوا بِهِ الى قَوْلهم نشا السَّحَاب، وَمِنْهَا الْهمزَة الاصلية الظَّاهِرَة نَحْو همز الخبء والدفء والكفء والعبء وَمَا اشبهها، وَمِنْهَا اجْتِمَاع همزتين فِي كلمة وَاحِدَة نَحْو همزتي الرئاء والحاوئاء، واما الضياء فَلَا يجوز همز يائه، والمدة الاخيرة فِيهِ همزَة اصلية من ضاء يضوء ضوءا.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس احْمَد بن يحيى فِيمَن همز مَا لَيْسَ بمهموز: وَكنت أرجي بِئْر نعْمَان، حائرا، فلوأ بالعينين والانف حائر اراد لوى، فهمز، كَمَا قَالَ: كمشترئ بِالْحَمْد مَا لَا يضيره قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: هَذِه لُغَة من يهمز مَا لَيْسَ بمهموز.
قَالَ: وَالنَّاس كلهم يَقُولُونَ، إِذا كَانَت الْهمزَة طرفا، وَقبلهَا سَاكن، حذفوها فِي الْخَفْض وَالرَّفْع، واثبتوها فِي النصب، الا الْكسَائي وَحده، فانه يثبتها كلهَا.
قَالَ وَإِذا كَانَت الْهمزَة وسطى اجْمَعُوا كلهم على ان لَا تسْقط.
قَالَ وَاخْتلف الْعلمَاء باى صُورَة تكون الْهمزَة، فَقَالَت طَائِفَة: نكتبها بحركة مَا قبلهَا وهم الْجَمَاعَة، وَقَالَ اصحاب الْقيَاس: نكتبها بحركة نَفسهَا، واحتجت الْجَمَاعَة بَان الْخط يَنُوب عَن اللِّسَان.
قَالَ وانما يلْزمنَا ان نترجم بالخط مَا نطق بِهِ اللِّسَان.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس وَهَذَا هُوَ الْكَلَام.
قَالَ: وَمِنْهَا اجْتِمَاع الهمزتين بمعنيين وَاخْتِلَاف النَّحْوِيين فيهمَا.
قَالَ الله عزوجل: أأنذرتهم ام لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ.
من الْقُرَّاء من يُحَقّق الهمزتين فيقرا أأنذرتهم، قرا بِهِ عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وقرا أَبُو عَمْرو آأنذرتهم مُطَوَّلَة، وَكَذَلِكَ جَمِيع مَا اشبهه نَحْو قَوْله تعالى: {آانت قلت للنَّاس}، آألد وانا عَجُوز، آاله مَعَ الله، وَكَذَلِكَ قرا ابْن كثير وَنَافِع وَيَعْقُوب بِهَمْزَة مُطَوَّلَة، وقرا عبد الله بن ابي اسحق آأنذرتهم بالف بَين الهمزتين، وَهِي لُغَة سائرة بَين الْعَرَب.
قَالَ ذُو الرمة: تطاللت، فاستشرفته، فعرفته، فَقلت لَهُ: آأنت زيد الارانب؟ وَأنْشد احْمَد بن يحيى: خرق إِذا مَا الْقَوْم أجروا فكاهة *** تذكر آإياه يعنون أم قردا؟ وَقَالَ الزّجاج: زعم سِيبَوَيْهٍ أَن من الْعَرَب من يُحَقّق الْهمزَة وَلَا يجمع بَين الهمزتين، وَإِن كَانَتَا من كَلِمَتَيْنِ.
قَالَ: وَأهل الْحجاز لَا يحققون وَاحِدَة مِنْهُمَا.
وَكَانَ الْخَلِيل يري تَخْفيف الثَّانِيَة، فَيجْعَل الثَّانِيَة بَين الْهمزَة والالف وَلَا يَجْعَلهَا ألفا خَالِصَة.
قَالَ: وَمن جعلهَا ألفا خَالِصَة، فقد اخطا من جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا أَنه جمع بَين ساكنين، والاخرى أَنه أبدل من همزَة متحركة، قبلهَا حَرَكَة، ألفا، وَالْحَرَكَة الْفَتْح.
قَالَ: وانما حق الْهمزَة، إِذا تحركت وَانْفَتح مَا قبلهَا، ان تجْعَل بَين بَين، أَعنِي بَين الْهمزَة وَبَين الْحَرْف الَّذِي مِنْهُ حركتها، فَتَقول فِي سَالَ سَالَ، وَفِي رؤف رؤف، وَفِي بئس بئس، وَهَذَا فِي الْخط وَاحِد، وانما تحكمه بالمشافهة.
قَالَ: وَكَانَ غير الْخَلِيل يَقُول فِي مثل قَوْله {فقد جَاءَ اشراطها} أَن تخفف الاولى.
قَالَ سِيبَوَيْهٍ: جمَاعَة من الْعَرَب يقرأون: فقد جَاءَ اشراطها، يحققون الثَّانِيَة ويخففون الاولى.
قَالَ والى هَذَا ذهب أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء.
قَالَ: وَأما الْخَلِيل، فانه يقْرَأ بتحقيق الاولى وَتَخْفِيف الثَّانِيَة.
قَالَ: وانما اخْتَرْت تَخْفيف الثَّانِيَة لِاجْتِمَاع النَّاس على بدل الثَّانِيَة فِي قَوْلهم: آدم وَآخر، لَان الاصل فِي آدم أأدم، وَفِي آخر أأخر.
قَالَ الزّجاج: وَقَول الْخَلِيل أَقيس، وَقَول أبي عَمْرو جيد أَيْضا.
وَأما الهمزتان، إِذا كَانَتَا مكسورتين، نَحْو قَوْله: على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا، وَإِذا كَانَتَا مضمومتين نَحْو قَوْله: أَوْلِيَاء أُولَئِكَ، فان أَبَا عَمْرو يُخَفف الْهمزَة الاولى مِنْهُمَا، فَيَقُول: على الْبغاء ان، وأولياء أُولَئِكَ، فَيجْعَل الْهمزَة الاولى فِي الْبغاء بَين الْهمزَة وَالْيَاء ويكسرها، وَيجْعَل الْهمزَة فِي قَوْله: أَوْلِيَاء أُولَئِكَ، الاولى بَين الْوَاو والهمزة ويضمها.
قَالَ: وَجُمْلَة ماقاله فِي مثل هَذِه ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا، وَهُوَ مَذْهَب الْخَلِيل، أَن يَجْعَل مَكَان الْهمزَة الثَّانِيَة همزَة بَين بَين، فَإِذا كَانَ مضموما جعل الْهمزَة بَين الْوَاو والهمزة.
قَالَ: أَوْلِيَاء أُولَئِكَ، على الْبغاء ان، وَأما أَبُو عَمْرو فيقرا على مَا ذكرنَا، وَأما ابْن أبي اسحق وَجَمَاعَة من الْقُرَّاء، فانهم يجمعُونَ بَين الهمزتين، وَأما اخْتِلَاف الهمزتين نَحْو قَوْله تعالى: {كَمَا آمن السُّفَهَاء أَلا}، فاكثر الْقُرَّاء على تَحْقِيق الهمزتين، وَأما أَبُو عَمْرو، فانه يُحَقّق الْهمزَة الثَّانِيَة فِي رِوَايَة سِيبَوَيْهٍ، ويخفف الاولى، فيجعلها بَين الْوَاو والهمزة، فَيَقُول: السُّفَهَاء أَلا، ويقرا من فِي السَّمَاء أَن، فيحقق الثَّانِيَة، واما سِيبَوَيْهٍ والخليل فَيَقُولَانِ: السُّفَهَاء وَلَا، يجعلان الْهمزَة الثَّانِيَة واوا خَالِصَة.
وَفِي قَوْله تعالى: (أأمنة من فِي السماءين)، يَاء خَالِصَة، وَالله اعْلَم.
قَالَ وَمِمَّا جَاءَ عَن الْعَرَب فِي تَحْقِيق الْهَمْز وتليينه وتحويله وحذفه، وَقَالَ أَبُو زيد الانصاري: الْهَمْز على ثَلَاثَة اوجه: التَّحْقِيق وَالتَّخْفِيف والتحويل.
فالتحقيق مِنْهُ أَن تُعْطى الْهمزَة حَقّهَا من الاشباع، فَإِذا اردت أَن تعرف إشباع الْهمزَة، فَاجْعَلْ الْعين فِي موضعهَا، كَقَوْلِك من الخبء: قد خبات لَك بِوَزْن خبعت لَك، وقرات بِوَزْن قرعت، فانا أخبع وأقرع، وانا خابع وخابئ وقارئ نَحْو قارع، بعد تَحْقِيق الْهمزَة بِالْعينِ، كَمَا وصفت لَك، قَالَ: وَالتَّخْفِيف من الْهَمْز انما سموهُ تَخْفِيفًا لانه لم يُعْط حَقه من الاعراب والاشباع، وَهُوَ مشرب همزا، تصرف فِي وُجُوه الْعَرَبيَّة بِمَنْزِلَة سَائِر الْحُرُوف الَّتِي تحرّك، كَقَوْلِك: خبات وقرات، فَجعل الْهمزَة ألفا سَاكِنة على سكونها فِي التَّحْقِيق، إِذا كَانَ مَا قبلهَا مَفْتُوحًا، وَهِي كَسَائِر الْحُرُوف الَّتِي يدخلهَا التحريك، كَقَوْلِك: لم يخبا الرجل، وَلم يقرا الْقرَان، فَكسر الالف من يخبا ويقرا لسكون مَا بعْدهَا، فكانك قلت لم يخبير جلّ وَلم يقر يلقران، وَهُوَ يخبو ويقرو، فيجعلها واوا مَضْمُومَة فِي الادراج، فان وقفتها جَعلتهَا ألفا غير أَنَّك تهيئها للضمة من غير أَن تظهر ضمتها فَتَقول: مَا أخباه وَأَقَرَّاهُ، فَتحَرك الالف بِفَتْح لبَقيَّة مَا فِيهَا من الْهمزَة كَمَا وصفت لَك، وَأما التَّحْوِيل من الْهَمْز، فان تحول الْهَمْز الى الْيَاء وَالْوَاو، كَقَوْلِك: قد خبيت الْمَتَاع فَهُوَ مخبي، فَهُوَ يخباه، فَاعْلَم، فَيجْعَل الْيَاء الْفَا حَيْثُ كَانَ قبلهَا فَتْحة نَحْو الف يسْعَى ويخشى لَان مَا قبلهَا مَفْتُوح.
قَالَ: وَتقول رفوت الثَّوْب رفوا، فحولت الْهمزَة واوا كَمَا ترى، وَتقول لم يخب عني شَيْئا فَتسقط مَوضِع اللَّام من تظيرها من الْفِعْل للاعراب، وَتَدَع مَا بَقِي على حَاله متحركا، وَتقول مَا أخباه، فتسكن الالف المحولة كَمَا أسكنت الالف من قَوْلك مَا أخشاه وأسعاه.
قَالَ: وَمن مُحَقّق الْهَمْز قَوْلك للرجل: يلؤم، كانك قلت يلعم، إِذا كَانَ بَخِيلًا، وَأسد يزئر كَقَوْلِك يزعر، فَإِذا أردْت التَّخْفِيف قلت للرجل: يلم، وللاسد يزر على إِن القيت الْهمزَة من قَوْلك يلؤم ويزئر، وحركت مَا قبلهَا بحركتها على الضَّم وَالْكَسْر، إِذا كَانَ مَا قبلهَا سَاكِنا، فَإِذا اردت تَحْويل الْهمزَة مِنْهَا قلت للرجل يلوم فجعلتها واوا سَاكِنة لانها تبِعت ضمة، والاسد يزير فجعلتها يَاء للكسرة قبلهَا نَحْو يَبِيع ويخيط، وَكَذَلِكَ كل همزَة تبِعت حرفا سَاكِنا عدلتها إِلَى التَّخْفِيف، فانك تلقيها وتحرك بحركتها الْحَرْف السَّاكِن قبلهَا، كَقَوْلِك للرجل: سل، فتحذف الْهمزَة تحرّك مَوضِع الْفَاء من نظيرها من الْفِعْل بحركتها، واسقطت الف الْوَصْل، إِذْ تحرّك مَا بعْدهَا، وانما يجتلبونها للاسكان، فَإِذا تحرّك مَا بعْدهَا لم يحتاجوا إِلَيْهَا.
وَقَالَ رؤبة: وانت يَا بامسلم وفيتا ترك الْهمزَة، وَكَانَ وَجه الْكَلَام: يَا أَبَا مُسلم، فَحذف الْهمزَة، وَهِي أَصْلِيَّة، كَمَا قَالُوا لَا أَب لَك، وَلَا ابا لَك، وَلَا با لَك، ولاب لغيرك، وَلَا با لشانئك.
وَمِنْهَا نوع آخر من الْمُحَقق، وَهُوَ قَوْلك من رايت، وانت تامر: إرا، كَقَوْلِك إرع زيدا، فَإِذا اردت التَّخْفِيف قلت: رزيدا فَتسقط الف الْوَصْل لتحرك مَا بعْدهَا.
قَالَ أَبُو زيد: وَسمعت من الْعَرَب من يَقُول: يَا فلَان نويك على التَّخْفِيف، وتحقيقه نؤيك، كَقَوْلِك إبغ بغيك، إِذا امْرَهْ ان يَجْعَل نَحْو خبائه نؤيا كالطوق يصرف عَنهُ مَاء الْمَطَر.
قَالَ: وَمن هَذَا النَّوْع رايت الرجل، فَإِذا اردت التَّخْفِيف قلت: رايت، فحركت الالف بِغَيْر اشباع همز، وَلم تسْقط الْهمزَة لَان مَا قبلهَا متحرك، وَتقول للرجل تراى ذَلِك على التَّحْقِيق.
وَعَامة كَلَام الْعَرَب فِي يري وتري وارى ونرى، على التَّخْفِيف، لم تزد على ان القت الْهمزَة من الْكَلِمَة، وَجعلت حركتها بِالضَّمِّ على الْحَرْف السَّاكِن قبلهَا.
قَالَ أَبُو زيد: وَاعْلَم ان وَاو فعول ومفعول وياء فعيل وياء التصغير لَا يعتقين الْهَمْز فِي شئ من الْكَلَام، لَان الاسماء طولت بهَا، كَقَوْلِك فِي التَّحْقِيق: هَذِه خَطِيئَة، كَقَوْلِك خطيعة، فَإِذا ابدلتها إِلَى التَّخْفِيف قلت: هَذِه خطية، جعلت حركتها يَاء للكسرة، وَتقول: هَذَا رجل خبوء، كَقَوْلِك خبوع، فَإِذا خففت قلت: رجل خبو، فتجعل الْهمزَة واواللضمة الَّتِي قبلهَا، وجعلتها حرفا ثقيلا فِي وزن حرفين مَعَ الْوَاو الَّتِي قبلهَا، وَتقول: هَذَا مَتَاع مخبوء بِوَزْن مخبوع، فَإِذا خففت قلت: مَتَاع مخبو، فحولت الْهمزَة واوا للضمة قبلهَا.
قَالَ أَبُو مَنْصُور: وَمن الْعَرَب من يدغم الْوَاو فِي الْوَاو ويشددها، فَيَقُول: مخبو.
قَالَ أَبُو زيد: تَقول رجل برَاء من الشّرك، كَقَوْلِك براع، فَإِذا عدلتها الى التَّخْفِيف قلت: براو، فَتَصِير الْهمزَة واوا لانها مَضْمُومَة، وَتقول: مَرَرْت بِرَجُل براي فَتَصِير يَاء على الكسرة ورايت رجلا برايا، فَتَصِير ألفا لانها مَفْتُوحَة.
وَمن تَحْقِيق الْهمزَة قَوْلهم: هَذَا غطاء وَكسَاء وخباء، فتهمز مَوضِع اللَّام من نظيرها من الْفِعْل لانها غَايَة، وَقبلهَا ألف سَاكِنة، كَقَوْلِهِم: هَذَا غطاع وكساع وخباع، فالعين وخباع، فالعين مَوضِع الْهمزَة، فَإِذا جمعت الِاثْنَيْنِ على سنة الْوَاحِد فِي التَّحْقِيق، قلت: هَذَانِ غطاآن وكساآن وخباآن، كَقَوْلِك غطاعان وكساعان وخباعان، فتهمز الِاثْنَيْنِ على سنة الْوَاحِد، وَإِذا أردْت التَّخْفِيف قلت: هَذَا غطاو وكساو وخباو، فتجعل الْهمزَة واوا لانها مَضْمُومَة، وان جمعت الِاثْنَيْنِ بِالتَّخْفِيفِ على سنة الْوَاحِد قلت: هَذَانِ عطاأن وكساأن وخباأن، فَتحَرك الالف، الَّتِي فِي مَوضِع اللَّام من نظيرها من الْفِعْل، بِغَيْر إشباع، لَان فِيهَا بَقِيَّة من الْهمزَة، وَقبلهَا ألف سَاكِنة، فَإِذا أردْت تَحْويل الْهمزَة قلت: هَذَا غطاو وكساو لَان قبلهَا حرفا سَاكِنا، وَهِي مَضْمُومَة، وَكَذَلِكَ الفضاء: هَذَا فضاو، على التَّحْوِيل، لَان ظُهُور الْوَاو هَهُنَا أخف من ظُهُور الْيَاء، وَتقول فِي الِاثْنَيْنِ، إِذا جمعتهما على سنة تَحْويل الْوَاو: هما غطاوان وكساوان وخباوان وفضاوان.
قَالَ أَبُو زيد وَسمعت بعض بني فَزَارَة يَقُول: هما كسايان وخبايان وفضايان، فيحول الْوَاو الى الْيَاء.
قَالَ: وَالْوَاو فِي هَذِه الْحُرُوف أَكثر فِي الْكَلَام.
قَالَ: وَمن تَحْقِيق الْهمزَة قَوْلك: يَا زيد من أَنْت، كَقَوْلِك من عنت، فَإِذا عدلت الْهمزَة إِلَى التَّخْفِيف قلت: يَا زيد من نت، كانك قلت مننت، لانك أسقطت الْهمزَة من أَنْت وحركت مَا قبلهَا بحركتها، وَلم يدْخلهُ إدغام، لَان النُّون الاخيرة سَاكِنة والاولى متحركة، وَتقول من أَنا، كَقَوْلِك من عَنَّا على التَّحْقِيق، فَإِذا أردْت التَّخْفِيف قلت: يَا زيد من نَا، كانك قلت: يَا زيد منا، ادخلت النُّون الاولى فِي الاخرة، وجعلتهما حرفا وَاحِدًا ثقيلا فِي وزن حرفين، لانهما متحركان فِي حَال التَّخْفِيف، وَمثله قَوْله تعالى: {لَكنا هُوَ الله رَبِّي}، خففوا الْهمزَة من لَكِن أَنا، فَصَارَت لَكِن نَا، كَقَوْلِك لكننا، ثمَّ أسكنوا بعد التَّخْفِيف، فَقَالُوا لَكنا.
قَالَ: وَسمعت اعرابيا من قيس يَقُول: يَا أَب أقبل وياب أقبل يَا أَبَة أقبل ويابة أقبل، فالقي الْهمزَة من....
وَمن تَحْقِيق الْهمزَة قَوْلك إفعو علت من وايت: إيا وايت، كَقَوْلِك إفعو عيت، فَإِذا عدلته الى التَّخْفِيف قلت: ايويت وَحدهَا، وويت، والاولى مِنْهُمَا فِي مَوضِع الْفَاء من الْفِعْل، وَهِي سَاكِنة، وَالثَّانيَِة هِيَ الزَّائِدَة، فحركتها بحركة الهمزتين قبلهَا.
وَثقل ظُهُور الواوين مفتوحتين، فهمزوا الاولى مِنْهُمَا، وَلَو كَانَت الْوَاو الاولى وَاو عطف لم يثقل ظهورهما فِي الْكَلَام، كَقَوْلِك: ذهب زيد ووافد، وَقدم عَمْرو وواهب.
قَالَ: وَإِذا أردْت تَحْقِيق مفعوعل من وأيت قلت: موأوئي، كَقَوْلِك موعوعي، فَإِذا عدلت الى التَّخْفِيف قلت: مواوي، فتفتح الْوَاو الَّتِي فِي مَوضِع الْفَاء بفتحة الْهمزَة الَّتِي فِي مَوضِع الْعين من الْفِعْل، وتكسر الْوَاو الثَّانِيَة، وَهِي الثَّابِتَة، بِكَسْر الْهمزَة الَّتِي بعْدهَا.
قَالَ أَبُو زيد وَسمعت بعض بني عجلَان من قيس يَقُول: رَأَيْت غلاميبيك، ورايت غلاميسد، تحول الْهمزَة الَّتِي فِي أَسد وَفِي أَبِيك على الْيَاء، ويدخلونها فِي الْيَاء الَّتِي فِي الغلامين، الَّتِي هِيَ نفس الاعراب، فَيظْهر يَاء ثَقيلَة فِي وزن حرفين، كانك قلت رايت غلاميبيك ورايت غلاميسد.
قَالَ وَسمعت رجلا من بني كلب يَقُول: هَذِه دَابَّة، وَهَذِه امراة شَابة، فهمز الالف فيهمَا وَذَلِكَ أَنه ثقل عَلَيْهِ إسكان الحرفين مَعًا، وَإِن كَانَ الْحَرْف الاخر مِنْهُمَا متحركا.
وَأنْشد الْفراء: يَا عجبا! لقد رايت عجبا *** حمَار قبان يَسُوق ارنبا وَأمّهَا خاطمها أَن تذهبا قَالَ أَبُو زيد: أهل الْحجاز وهذيل وَأهل مَكَّة وَالْمَدينَة لَا ينبرون.
وقف عَلَيْهَا عِيسَى بن عمر فَقَالَ: مَا آخذ من قَول تَمِيم الا بالنبر وهم أَصْحَاب النبر، وَأهل الْحجاز إِذا اضطروا نبروا.
قَالَ: وَقَالَ أَبُو عمر الهذلى قد توضيت فَلم يهمز وحولها يَاء، وَكَذَلِكَ مَا أشبه هَذَا من بَاب الْهَمْز.
وَالله تَعَالَى أعلم.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
49-لسان العرب (شنظر)
شنظر: شَنْظَر الرجلُ بِالْقَوْمِ شَنْظَرَة: شَتَمَ أَعراضهم؛ وأَنشد:يُشَنْظِرُ بِالْقَوْمِ الْكِرَامِ، ويَعْتَزي ***إِلى شَرِّ حافٍ فِي البِلادِ وناعِلِ
أَبو سَعِيدٍ: الشِّنْظِير السَّخِيف الْعَقْلِ، وَهُوَ الشِّنْظِيرة أَيضًا.
والشِّنظِير: الفاحشُ الغَلْقُ مِنَ الرِّجَالِ والإِبلِ السَّيِءُ الخُلُقِ.
ورجل شِنْغِير وشِنْظِير وشِنْظِيرة: بَذِيٌّ فَاحِشٌ؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي لامرأَة مِنَ الْعَرَبِ:
شِنظيرة زَوَّجَنِيهِ أَهْلِي، ***مِنْ حُمْقِه يَحْسَبُ رأْسِي رِجْلي،
كأَنه لَمْ يَرَ أُنثى قَبْلِي "وَرُبَّمَا قَالُوا شِنْذِيرَة، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، لِقُرْبِهَا مِنَ الظَّاءِ لُغَةً أَو لُثْغَة، والأُنثى شِنْظيرَة؛ قَالَ:
قامَتْ تُعَنْظِي بِكَ بَيْنَ الحَيَّيْنْ ***شِنْظِيرَةُ الأَخلاقِ، جَهْراءُ العَيْنْ
شَمِرٌ: الشِّنْظِير مِثْلُ الشُّنْظُرَة وَهِيَ الصَّخْرَةُ تنفلِق مِنْ رُكْن مِنْ أَركان الْجَبَلِ فَتَسْقُطُ.
أَبو الخطَّاب: شَناظِير الْجَبَلِ أَطرافه وَحُرُوفُهُ، الواحدُ شِنْظِيرٌ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
50-لسان العرب (عنز)
عنز: العَنْزُ: الماعِزَةُ، وَهِيَ الأُنثى مِنَ المِعْزَى والأَوْعالِ والظِّباءِ، وَالْجَمْعُ أَعْنُزٌ وعُنُوزٌ وعِنازٌ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بالعِنازِ جَمْعَ عَنْزِ الظِّباءِ؛ وأَنشد ابن" الأَعرابي:أَبُهَيُّ، إِنَّ العَنْزَ تَمْنَع رَبَّها ***مِن أَنْ يُبَيِّتَ جارَهُ بالحائِل
أَراد يَا بُهَيَّةُ فرخَّم، وَالْمَعْنَى أَن الْعَنْزَ يَتَبَلَّغُ أَهلُها بِلَبَنِهَا فَتَكْفِيهِمُ الغارةَ عَلَى مَالِ الْجَارِ الْمُسْتَجِيرِ بأَصحابها.
وَحَائِلٌ: أَرض بِعَيْنِهَا، وأَدخل عَلَيْهَا الأَلف وَاللَّامَ لِلضَّرُورَةِ، وَمِنْ أَمثال الْعَرَبِ: حَتْفَها تَحْمِلُ ضأْنٌ بأَظلافها.
وَمِنْ أَمثالهم فِي هَذَا: لَا تَكُ كالعَنْزِ تَبْحَثُ عَنِ المُدْيَةِ؛ يُضْرَبُ مَثَلًا لِلْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ جِنَايَةً يَكُونُ فِيهَا هَلَاكُهُ، وأَصله أَن رَجُلًا كَانَ جَائِعًا بِالْفَلَاةِ فَوَجَدَ عَنَزًا وَلَمْ يَجِدْ مَا يَذْبَحُهَا بِهِ، فَبَحَثَتِ بِيَدَيْهَا وأَثارت عَنْ مُدْيَةٍ فَذَبَحَهَا بِهَا.
وَمِنْ أَمثالهم فِي الرَّجُلَيْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِي الشَّرَفِ قَوْلُهُمْ: هُمَا كَرُكْبَتَيِ العَنْزِ؛ وَذَلِكَ أَن رُكْبَتَيْهَا إِذا أَرادت أَن تَرْبِضَ وَقْعَتَا مَعًا.
فأَما قَوْلُهُمْ: قَبَّحَ اللهُ عَنْزًا خَيْرُها خُطَّةٌ فإِنه أَراد جَمَاعَةَ عَنْزٍ أَو أَراد أَعْنُزًا فأَوقع الْوَاحِدَ مَوْقِعَ الْجَمْعِ.
وَمِنْ أَمثالهم: كُفِيَ فلانٌ يومَ العَنْزِ؛ يُضْرَبُ لِلرَّجُلِ يَلْقَى مَا يُهْلِكُه.
وَحُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ: يومٌ كيومِ العَنْزِ، وَذَلِكَ إِذا قَادَ حَتْفًا؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
رأَيتُ ابنَ ذِبْيانَ يَزِيدَ رَمَى بِهِ ***إِلى الشَّامِ يومُ العَنْزِ، واللهُ شاغِلُهْ
قَالَ الْمُفَضَّلُ: يُرِيدُ حَتْفًا كَحَتْفِ العَنْزِ حِينَ بَحَثَتْ عَنْ مُدْيَتِها.
والعَنْزُ وعَنْزُ الماءِ، جَمِيعًا: ضَرْبٌ مِنَ السَّمَكِ، وَهُوَ أَيضًا طَائِرٌ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ.
والعَنْزُ: الأُنثى مِنَ الصُّقور والنُّسور.
والعَنْزُ: العُقاب، وَالْجَمْعُ عُنُوزٌ.
والعَنْزُ: الْبَاطِلُ.
والعَنْزُ: الأَكَمَةُ السَّوْدَاءُ؛ قَالَ رُؤْبَةُ: " وإِرَمٌ أَخْرَسُ فوقَ عَنْزِ قَالَ الأَزهري: سأَلني أَعرابي عَنْ قَوْلِ رُؤْبَةَ: وإِرَمٌ أَعْيَسُ فوقَ عَنْزِ "فَلَمْ أَعرفه، وَقَالَ: العَنْزُ الْقَارَّةُ السَّوْدَاءُ، والإِرَمُ عَلَمٌ يُبْنَى فَوْقَهَا، وَجَعَلَهُ أَعيس لأَنه بُنِيَ مِنْ حِجَارَةٍ بِيضٍ لِيَكُونَ أَظهر لِمَنْ يُرِيدُ الِاهْتِدَاءَ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ فِي الْفَلَاةِ.
وكلُّ بناءٍ أَصَمَّ، فَهُوَ أَخرس؛ وأَما قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وقاتَلَتِ العَنْزُ نصف النَّهارِ ***ثُمَّ تَوَلَّتْ مَعَ الصَّادِرِ
فَهُوَ اسْمُ قَبِيلَةٍ مِنْ هوزان؛ وَقَوْلُهُ: " وَكَانَتْ بيومِ العَنْزِ صادَتْ فُؤادَهُ "الْعَنْزُ: أَكمة نَزَلُوا عَلَيْهَا فَكَانَ لَهُمْ بِهَا حَدِيثٌ.
والعَنْزُ: صَخْرَةٌ فِي الْمَاءِ، وَالْجَمْعُ عُنُوزٌ.
والعَنْزُ: أَرض ذَاتُ حُزُونَةٍ وَرَمْلٍ وَحِجَارَةٍ أَو أَثْلٍ، وَرُبَّمَا سُمِّيَتِ الحُبارَى عَنْزًا، وَهِيَ العَنْزَةُ أَيضًا والعَنَزُ.
والعَنَزَةُ أَيضًا: ضَرْبٌ مِنَ السِّبَاعِ بِالْبَادِيَةِ دَقِيقُ الخَطْمِ يأْخذ الْبَعِيرَ مِنْ قِبَلِ دُبُرِه، وَهِيَ فِيهَا كالسَّلُوقِيَّةِ، وَقَلَّمَا يُرَى؛ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى قَدْرِ ابْنِ عُرْسٍ يَدْنُو مِنَ النَّاقَةِ وَهِيَ بَارِكَةٌ ثُمَّ يَثِبُ فَيَدْخُلُ فِي حَيَائِهَا فَيَنْدَمِصُ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ إِلى الرَّحِم فَيَجْتَبِذُها فَتَسْقُطُ الناقةُ فَتَمُوتُ، وَيَزْعُمُونَ أَنه شَيْطَانٌ؛ قَالَ الأَزهري: العَنَزَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ جِنْسِ الذِّئَابِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، ورأَيت بالصَّمَّانِ نَاقَةً مُخِرَتْ مِنْ قِبَلِ ذَنَبِهَا لَيْلًا فأَصبحت وَهِيَ مَمْخُورةقَدْ أَكلت العَنَزَةُ مِنْ عَجُزِها طَائِفَةً فَقَالَ رَاعِي الإِبل، وَكَانَ نُمَيْرِيًّا فَصِيحًا: طَرَقَتْها العَنَزَةُ فَمَخَرَتْها، والمَخْرُ الشَّقُّ، وَقَلَّمَا تَظْهَرُ لِخُبْثِهَا؛ وَمِنْ أَمثال الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ: " رَكِبَتْ عَنْزٌ بِحِدْجٍ جَمَلا وَفِيهَا يَقُولُ الشَّاعِرُ:
شَرَّ يَوْمَيْها وأَغواهُ لَهَا ***رَكِبَتْ عَنْزٌ بِحِدْجٍ جَمَلا
قَالَ الأَصمعي: وأَصله أَن امرأَة مِنْ طَسْمٍ يُقَالُ لَهَا عَنْزٌ أُخِذَتْ سَبِيَّةً، فَحَمَلُوهَا فِي هَوْدَج وأَلطفوها بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتْ: شَرُّ يَوْمَيْهَا وأَغواه لَهَا "تَقُولُ: شَرُّ أَيامي حِينَ صِرْتُ أُكرم للسِّباء؛ يُضْرَبُ مَثَلًا فِي إِظهار البِرِّ بِاللِّسَانِ وَالْفِعْلِ لِمَنْ يُرَادُ بِهِ الْغَوَائِلُ.
وَحَكَى ابْنُ بَرِّيٍّ قَالَ: كَانَ المُمَلَّكُ عَلَى طَسْمٍ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ عُمْلُوقٌ أَو عِمْلِيقٌ، وَكَانَ لَا تُزَفُّ امرأَةٌ مِنْ جَدِيسَ حَتَّى يؤْتى بِهَا إِليه فَيَكُونَ هُوَ المُفْتَضّ لَهَا أَولًا، وجَدِيسُ هِيَ أُخت طَسْمٍ، ثُمَّ إِن عُفَيْرَةَ بِنْتَ عَفَارٍ، وَهِيَ مِنْ سَادَاتِ جَدِيسَ، زُفَّتْ إِلى بَعْلِهَا، فأُتِيَ بِهَا إِلى عِمْلِيقٍ فَنَالَ مِنْهَا مَا نَالَ، فَخَرَجَتْ رَافِعَةً صَوْتَهَا شَاقَّةً جَيْبَهَا كَاشِفَةً قُبُلَها، وَهِيَ تَقُولُ:
لَا أَحَدٌ أَذَلَّ مِنْ جَدِيسِ ***أَهكذا يُفْعَلُ بالعَرُوسِ
فَلَمَّا سُمِعُوا ذَلِكَ عَظُمَ عَلَيْهِمْ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُمْ وَمَضَى بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ، ثُمَّ إِن أَخا عُفَيْرَةَ وَهُوَ الأَسود بْنُ عَفَار صَنَعَ طَعَامًا لعُرْسِ أُخته عُفَيرة، وَمَضَى إِلى عِمْلِيقٍ يسأَله أَن يَحْضُرَ طَعَامَهُ فأَجابه، وَحَضَرَ هُوَ وأَقاربه وأَعيان قَوْمِهِ، فَلَمَّا مَدُّوا أَيديهم إِلى الطَّعَامِ غَدَرَتْ بِهِمْ جَدِيسُ، فَقُتِلَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ الطَّعَامَ وَلَمْ يُفلِتْ مِنْهُمْ أَحد إِلا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ رِياحُ بْنُ مُرَّة، تَوَجَّهَ حَتَّى أَتى حَسَّان بْنَ تُبَّعٍ فاسْتَجاشَهُ عَلَيْهِمْ ورَغَّبَهُ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنَ النِّعم، وَذَكَرَ أَن عِنْدَهُمُ امرأَة يُقَالُ لَهَا عَنْز، مَا رأَى النَّاظِرُونَ لَهَا شِبْهًا، وَكَانَتْ طَسْم وجَدِيسُ بجَوِّ الْيَمَامَةِ، فأَطاعه حسانُ وَخَرَجَ هُوَ وَمَنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتوا جَوًّا، وَكَانَ بِهَا زرقاءُ الْيَمَامَةِ، وَكَانَتْ أَعلمتهم بِجَيْشِ حَسَّانَ مِنْ قَبْلِ أَن يأْتي بِثَلَاثَةِ أَيام، فأَوقع بِجَدِيسَ وَقَتَلَهُمْ وَسَبَى أَولادهم ونساءَهم وَقَلَعَ عَيْنَيْ زَرْقَاءَ وَقَتَلَهَا، وأُتِيَ إِليه بعَنْز رَاكِبَةً جَمَلًا، فَلَمَّا رأَى ذَلِكَ بَعْضُ شُعَرَاءِ جَدِيسَ قَالَ:
أَخْلَقَ الدَّهْرُ بِجَوٍّ طَلَلا ***مثلَ مَا أَخْلَقَ سَيْفٌ خِلَلا
وتَداعَتْ أَرْبَعٌ دَفَّافَةٌ ***تَرَكَتْه هامِدًا مُنْتَخِلا
مِنْ جَنُوبٍ ودَبُورٍ حِقْبَةً ***وصَبًا تُعْقبُ رِيحًا شَمْأَلا
وَيْلَ عَنْزٍ واسْتَوَتْ راكِبَةً ***فوقَ صَعْب، لَمْ يُقَتَّلْ ذُلُلا
شَرَّ يَوْمَيْها وأَغْواهُ لَهَا ***رَكِبَتْ عَنْزٌ بِحِدْجٍ جَمَلا
لَا تُرَى مِنْ بَيْتِهَا خارِجَةً ***وتَراهُنَّ إِليها رَسَلا
مُنِعَتْ جَوًّا، ورامَتْ سَفَرًا ***تَرَكَ الخَدَّيْنِ مِنْهَا سَبَلا
يَعْلَمُ الحازِمُ ذُو اللُّبِّ بِذا ***أَنما يُضْرَبُ هَذَا مَثَلا
وَنَصَبَ شَرَّ يَوْمَيْهَا بِرَكِبَتْ عَلَى الظَّرْفِ أَي رَكِبَتْ بِحِدْجٍ جَمَلًا فِي شَرِّ يَوْمَيْهَا.
والعَنَزَةُ: عَصًا فِي قَدْر نِصْفِ الرُّمْح أَو أَكثر شَيْئًا فِيهَا سِنانٌ مِثْلُ سِنَانِ الرُّمْحِ، وَقِيلَ: فِي طَرَفِهَا الأَسفل زُجٌّ كَزُجِّ الرُّمْحِ يتوكأُ عَلَيْهَا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَقِيلَ: هِيَ أَطول مِنَ الْعَصَا وأَقصر مِنَ الرُّمْحِ والعُكَّازَةُ قَرِيبٌ مِنْهَا.
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ لِمَا طُعِنَ أُبيّ بْنُ خَلَفٍ بالعَنَزَة بَيْنَ ثَدْيَيْه قَالَ: قَتَلَنِي ابنُ أَبي كَبْشَة.
وتَعَنَّزَ واعْتَنَزَ: تَجَنَّب الناسَ وَتَنَحَّى عَنْهُمْ، وَقِيلَ: المُعْتَنِزُ الَّذِي لَا يُساكِنُ الناسَ لِئَلَّا يُرْزَأَ شَيْئًا.
وعَنَزَ الرجلُ: عَدَلَ، يُقَالُ: نَزَلَ فُلَانٌ مُعْتَنِزًا إِذا نزل حَرِيدًا فِي نَاحِيَةٍ مِنَ النَّاسِ.
ورأَيته مُعْتَنِزًا ومُنْتَبِذًا إِذا رأَيته مُتَنَحِّيًا عَنِ النَّاسِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَباتَكَ اللهُ فِي أَبياتِ مُعْتَنِزٍ ***عَنِ المَكارِمِ، لَا عَفٍّ وَلَا قارِي
أَي وَلَا يَقْرِي الضيفَ وَرَجُلٌ مُعَنَّزُ الْوَجْهِ إِذا كَانَ قَلِيلَ لَحْمِ الْوَجْهِ فِي عِرْنِينِه شَمَمٌ.
وعُنِّزَ وَجْهُ الرَّجُلِ: قَلَّ لَحْمُهُ.
وَسُمِعَ أَعرابي يَقُولُ لِرَجُلٍ: هُوَ مُعَنَّزُ اللِّحْيَة، وفسره أَبو داود بُزْ رِيش: كأَنه شَبَّهَ لِحْيَتَهُ بِلِحْيَةِ التَّيْسِ.
والعَنْزُ وعَنْزٌ، جَمِيعًا: أَكَمَةٌ بِعَيْنِهَا.
وعَنْزُ: اسْمُ امرأَة يقال لها عَنْز الْيَمَامَةِ، وَهِيَ الْمَوْصُوفَةُ بحدَّة النَّظَرِ.
وعَنْزٌ: اسْمُ رَجُلٍ، وَكَذَلِكَ عِنازٌ، وعُنَيْزَةُ اسْمُ امرأَة تَصْغِيرُ عَنَزَة.
وعَنَزَةُ وعُنَيْزَةُ: قَبِيلَةٌ.
قَالَ الأَزهري: عُنَيْزَة فِي الْبَادِيَةِ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ، وعُنَيْزَة قَبِيلَةٌ.
قَالَ الأَزهري: وَقَبِيلَةٌ مِنَ الْعَرَبِ يُنْسَبُ إِليهم فَيُقَالُ فُلَانٌ العَنَزِيّ، وَالْقَبِيلَةُ اسْمُهَا عَنَزَةُ.
وعَنَزَةُ: أَبو حَيٍّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَهُوَ عَنَزَة بْنِ أَسد بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ نِزار؛ وأَما قَوْلُ الشَّاعِرِ:
دَلَفْتُ لَهُ بِصَدْرِ العَنْزِ لَمَّا ***تَحامَتْهُ الفَوارِسُ والرِّجالُ
فَهُوَ اسْمُ فَرَسٍ؛ والعَنْزُ فِي قَوْلُ الشَّاعِرِ: " إِذا مَا العَنْزُ مِنْ مَلَقٍ تَدَلَّتْ "هِيَ العُقاب الأُنثى.
وعُنَيْزَةُ: مَوْضِعٌ؛ وَبِهِ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ إمرئِ الْقَيْسِ: " وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ "وعُنازة: اسْمُ مَاءٍ؛ قَالَ الأَخطل:
رَعَى عُنازَةَ حَتَّى صَرَّ جُنْدُبُها ***وذَعْذَعَ المالَ يومٌ تالِعٌ يَقِرُ
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
51-لسان العرب (طلق)
طلق: الطَّلْق: طَلق الْمَخَاضِ عِنْدَ الوِلادة.ابْنُ سِيدَهْ: الطَّلْق وجَع الْوِلَادَةِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنّ رَجُلًا حَجَّ بأُمّه فَحملها عَلَى عاتِقه فسأَله: هَلْ قَضَى حَقَّها؟ قَالَ: وَلَا طَلْقَة وَاحِدَةً»؛ الطَّلْق: وَجَعُ الْوِلَادَةِ، والطَّلْقَة: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَقَدْ طُلِقَت المرأَة تُطْلَق طَلْقًا، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وطَلُقت، بِضَمِّ اللَّامِ.
ابْنُ الأَعرابي: طَلُقَت مِنَ الطَّلَاقِ أَجود، وطَلَقَت بِفَتْحِ اللَّامِ جَائِزٌ، وَمِنَ الطَّلْق طُلِقَت، وَكُلُّهُمْ يَقُولُ: امرأَة طالِق بِغَيْرِ هَاءٍ؛ وأَما قَوْلُ الأَعشى: " أَيا جارَتا بِيِني، فإِنك طالِقَه فإِن اللَّيْثَ قَالَ: أَراد طالِقة غَدًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: قَالَ طالِقة عَلَى الْفِعْلِ لأَنها يُقَالُ لَهَا قَدْ طَلَقَت فَبُنِيَ النَّعْتُ "عَلَى الْفِعْلِ، وطَلاقُ المرأَة: بَيْنُونَتُهَا عَنْ زَوْجِهَا.
وامرأَة طالِق مِنْ نِسْوَةٍ طُلَّق وطالِقة مِنْ نِسْوَةٍ طَوَالِق؛ وأَنشد قَوْلَ الأَعشى:
أَجارَتنا بِيني، فإِنك طَالِقَهْ ***كذاكِ أُمور النَّاسِ غادٍ وطارِقَه
وطَلَّق الرَّجُلُ امرأَته وطَلَقت هِيَ، بِالْفَتْحِ، تَطْلُق طَلاقًا وطَلُقَت، والضم أَكثر؛ عَنْ ثَعْلَبٍ، طَلاقًا وأَطْلَقها بَعْلُها وطَلَّقها.
وَقَالَ الأَخفش: لَا يُقَالُ طَلُقت، بِالضَّمِّ.
وَرَجُلٌ مِطْلاق ومِطْليق وطلِّيق وطُلَقة، عَلَى مِثَالِ هُمَزة: كَثِيرُ التَّطْليق لِلنِّسَاءِ.
وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ: «إِنك رَجُلٌ طلِّيق»أَي كَثِيرُ طَلاق النِّسَاءِ، والأَجود أَن يُقَالَ مِطْلاق ومِطْلِيق؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِن الحَسن مِطْلاق فَلا تزوِّجُوه.
وطَلَّق البلادَ: تَرَكَهَا؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:
مُرَاجعُ نَجْد بَعْدَ فِرْكٍ وبِغْضَةٍ، ***مُطَلِّقُ بُصْرَى، أَشْعثُ الرأْسِ جافِلُه
قَالَ: وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ وَسَأَلَهُ الْكِسَائِيُّ فَقَالَ: أَطَلّقْت امرأَتك؟ فَقَالَ: نَعَمْ والأَرض مِنْ وَرَائِهَا وطَلَّقت الْبِلَادَ: فارقْتها.
وطَلّقْت الْقَوْمَ: تركتُهم؛ وأَنشد لِابْنِ أَحمر:
غَطارِفَة يَرَوْن المجدَ غُنْمًا، ***إِذا مَا طَلَّقَ البَرِمُ العِيالا
أَي تَرَكَهُمْ كَمَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ المرأَة.
وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ: «الطَّلاقُ بِالرِّجَالِ والعِدَّة بِالنِّسَاءِ»، هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِهَؤُلَاءِ وَهَذِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بهؤلاء، فالرجال يُطَلِّق والمرأَة تعتدُّ؛ وَقِيلَ: أَراد أَن الطَّلَاقَ يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ فِي حُرِّيَّتِهِ ورقِّه، وَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ بالمرأَة فِي الْحَالَتَيْنِ، وَفِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءُ خِلَافٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِن الْحُرَّةَ إِذا كَانَتْ تَحْتَ الْعَبْدِ لَا تَبين إِلا بِثَلَاثٍ وتَبِين الأَمة تَحْتَ الْحُرِّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِن الحرة تَبِين تَحْتَ الْعَبْدِ بِاثْنَتَيْنِ وَلَا تَبِينُ الأَمة تَحْتَ الْحُرِّ بأَقلّ مِنْ ثَلَاثٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِذا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا وَهِيَ حُرَّةٌ أَو بِالْعَكْسِ أَو كَانَا عبدَين فإِنها تَبِين بِاثْنَتَيْنِ، وأَما الْعِدَّةُ فإِن المرأَة إِن كَانَتْ حُرَّةً اعتدَّت لِلْوَفَاةِ أَربعة أَشهر وَعَشْرًا، وَبِالطَّلَاقِ ثَلَاثَةَ أَطهار أَو ثلاثَ حِيَض، تَحْتَ حُرٍّ كَانَتْ أَو عبدٍ، فإِن كَانَتْ أَمة اعْتَدَّتْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسًا أَو طُهْرين أَو حَيْضتين، تَحْتَ عَبْدٍ كَانَتْ أَو حُرٍّ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ وَالرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لِزَوْجَتِهِ: «أَنتِ خليَّة طالِقٌ»؛ الطالِقُ مِنَ الإِبل: الَّتِي طُلِقت فِي المرعَى، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي لَا قَيْد عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الخليَّة.
وطَلاقُ النِّسَاءِ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحدهما حَلُّ عُقْدة النِّكَاحِ، وَالْآخَرُ بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ والإِرْسال.
وَيُقَالُ للإِنسان إِذا عَتَق طَلِيقٌ أَي صَارَ حُرًّا.
وأَطْلَق النَّاقَةَ مِنْ عِقَالها وطَلَّقَها فطَلَقَت: هِيَ بِالْفَتْحِ، وَنَاقَةٌ طَلْق وطُلُق: لَا عِقال عَلَيْهَا، وَالْجَمْعُ أَطْلاق.
وَبَعِيرٌ طَلْق وطُلُق: بِغَيْرِ قَيْد.
الْجَوْهَرِيُّ: بَعِيرٌ طُلُق وناقة طُلُق، بِضَمِّ الطَّاءِ وَاللَّامِ، أَي غَيْرُ مقيَّد.
وأَطْلَقْت النَّاقَةَ مِنَ العِقال فطَلَقَت.
والطالِق مِنَ الإِبل: الَّتِي قَدْ طَلَقت فِي الْمَرْعَى.
وَقَالَ أَبو نَصْرٍ: الطَّالِقُ الَّتِي تَنْطَلق إِلى الْمَاءِ وَيُقَالُ الَّتِي لَا قَيْد عَلَيْهَا، وَهِيَ طُلُق وطالِق أَيضًا وطُلُق أَكثر؛ وأَنشد: " مُعَقَّلات الْعِيسِ أَو طَوالِقِ أَي قَدْ طَلَقَت عَنِ الْعِقَالِ فَهِيَ طالِق لَا تحبَس عَنِ الإِبل.
وَنَعْجَةٌ طالِق: مُخَلَّاة ترعَى وحْدَها، وحبَسُوه فِي السِّجْن طَلْقًا أَي بِغَيْرِ قَيْدٍ وَلَا كَبْل.
وأَطْلَقَه، "فَهُوَ مُطْلَق وطَلِيق: سَرَّحَهُ؛ وأَنشد سِيبَوَيْهِ:
طَلِيق اللَّهِ، لَمْ يَمْنُنْ عَلَيْهِ ***أَبُو داودَ، وابنُ أَبي كَبِير
وَالْجَمْعُ طُلقَاء، والطُّلَقاء: الأُسراء العُتَقاء.
والطَّليق: الأَسير الَّذِي أُطْلِق عَنْهُ إِسارُه وخُلِّيَ سبِيلُه.
والطَّلِيقُ: الأَسِير يُطْلَق، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وتَبْسِمُ عَنْ نَوْرِ الأَقاحِيّ أَقْفَرَتْ ***بِوَعْساء مَعْروف، تُغامُ وتُطْلَقُ
تُغامُ مرَّة أَي تُسْتر، وتُطْلَق إِذا انْجَلَى عَنْهَا الْغَيْمُ، يَعْنِي الأَقاحي إِذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهَا فَقَدْ طُلِقَت.
وأَطْلَقْت الأَسير أَي خليَّته.
وَفِي حَدِيثِ حُنَيْنٍ: «خَرَجَ وَمَعَهُ الطُّلَقاء»؛ هُمُ الَّذِينَ خَلَّى عَنْهُمْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وأَطْلَقَهم فَلَمْ يَسْتَرِقَّهم، واحدهم طَلِيق وَهُوَ الأَسِير إِذا أُطْلِق سَبِيلُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الطِّلَقاءُ مِنْ قُرَيش والعُتَقاءُ مِنْ ثَقِيف»، كأَنَّه ميَّز قُرَيْشًا بِهَذَا الِاسْمِ حَيْثُ هُوَ أَحسن مِنَ العُتَقاء.
والطُّلَقاء: الَّذِينَ أُدخِلوا فِي الإِسلام كَرْهًا؛ حَكَاهُ ثَعْلَبٌ، فإِما أَن يَكُونَ مِنْ هَذَا، وإِما أَن يَكُونَ مِنْ غيره.
وَنَاقَةٌ طالِقٌ: بِلَا خِطَامٍ، وَهِيَ أَيضًا الَّتِي تُرْسَلُ فِي الْحَيِّ فَتَرْعَى مِنْ جَنابِهم حَيْثُ شاءَت لَا تُعْقَل إِذا رَاحَتْ وَلَا تُنَحَّى فِي الْمَسْرَحِ؛ قَالَ أَبو ذؤَيب: " غَدَتْ وَهِيَ مَحْشوكةٌ طالِق "وَنَعْجَةٌ طالِق أَيضًا: مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي يَحْتَبِسُ الرَّاعِي لَبَنها، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي يُتْرَك لَبَنُهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ يُحْلب.
والطَّالِق مِنَ الإِبل: الَّتِي يَتْرُكُهَا الرَّاعِي لِنَفْسِهِ لَا يَحْتَلِبُهَا عَلَى الْمَاءِ، يُقَالُ: اسْتَطْلق الرَّاعِي نَاقَةً لِنَفْسِهِ، والطَّالِقُ: النَّاقَةُ يُحَلُّ عَنْهَا عِقالُها؛ قَالَ: " مُعَقَّلات العِيسِ أَو طَوَالِق وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ أَيضًا لإِبراهيم بْنِ هَرْمَةَ:
تُشْلى كبيرتُها فتُحْلَبُ طالِقًا، ***ويُرمِّقُونَ صغارَها تَرْميقا
أَبو عَمْرٍو: الطَّلَقَة النُّوقُ الَّتِي تُحْلب فِي الْمَرْعَى.
ابْنُ الأَعرابي: الطالِقُ النَّاقَةُ تُرْسَلُ فِي الْمَرْعَى.
الشَّيْبَانِيُّ: الطالِقُ مِنَ النُّوقِ الَّتِي يَتْرُكُهَا بِصِرارِها؛ وأَنشد لِلْحُطَيْئَةِ:
أَقيموا عَلَى المِعْزَى بِدَارِ أَبيكُمُ، ***تَسُوفُ الشِّمالُ بَيْنَ صَبْحَى وطالِقِ
قَالَ: الصَّبْحَى الَّتِي يَحْلِبُهَا فِي مَبْرَكِهَا يَصْطَبِحُها، والطَّالِقُ الَّتِي يَتْرُكُهَا بِصِرَارِهَا فَلَا يَحْلِبُهَا فِي مَبْرَكِهَا، وَالْجَمْعِ المَطالِيق والأَطْلاق.
وَقَدْ أُطْلِقَت النَّاقَةُ فطَلَقت أَي حُلَّ عقالُها؛ وَقَالَ شَمِرٌ: سأَلت ابْنَ الأَعرابي عَنْ قَوْلِهِ:
ساهِم الوَجْه مِنْ جَدِيلةَ أَو نَبْهانَ، ***أَفْنى ضِراه للإِطْلاقِ
قَالَ: هَذَا يَكُونُ بِمَعْنَى الْحَلِّ والإِرسال، قَالَ: وإِطْلاقُه إِيَّاها إِرسالها عَلَى الصَّيْدِ أَفناها أَي بقَتْلِها.
والطَّالِقُ والمِطْلاقُ: النَّاقَةُ الْمُتَوَجِّهَةُ إِلى الْمَاءِ، طَلَقَتْ تَطْلُق طَلْقًا وطُلوقًا وأَطْلَقَها؛ قال" ذُو الرُّمَّةِ:
قِرانًا وأَشْتاتًا وحادٍ يَسُوقُها، ***إِلى الماءِ مِنْ حَوْر التَّنُوفةِ، مُطْلِق
وليلةُ الطَّلَق: اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ لَيَالِي تَوَجُّهِهَا إِلى الْمَاءِ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: إِذا كَانَ بَيْنَ الإِبل وَالْمَاءِ يَوْمَانِ فأَول يَوْمٍ يُطْلب فِيهِ الْمَاءُ هُوَ القَرَب، وَالثَّانِي الطَّلَق؛ وَقِيلَ: لَيْلَةُ الطَّلَق أَن يُخَلِّيَ وُجوهَها إِلى الْمَاءِ، عبَّر عَنِ الزَّمَانِ بِالْحَدَثِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا يُعْجِبُنِي.
أَبو عُبَيْدٍ عَنْ أَبي زَيْدٍ: أَطْلَقْتُ الإِبل إِلى الماءِ حَتَّى طَلَقَت طَلْقًا وطُلوقًا، وَالِاسْمُ الطَّلَق، بِفَتْحِ اللَّامِ.
وَقَالَ الأَصمعي: طَلَقَت الإِبلُ فَهِيَ تَطْلُق طَلْقًا، وَذَلِكَ إِذا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَاءِ يَوْمَانِ، فَالْيَوْمُ الأَول الطَّلَق، وَالثَّانِي القَرَب، وَقَدْ أَطْلَقَها صاحُبها إِطْلاقًا، وَقَالَ: إِذا خلَّى وُجوهَ الإِبل إِلى الماءِ وَتَرَكَهَا فِي ذَلِكَ تَرْعَى لَيْلَتَئذ فَهِيَ لَيْلَةُ الطَّلَق، وإِن كَانَتِ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ فَهِيَ لَيْلَةُ القَرَب، وَهُوَ السَّوق الشَّدِيدُ؛ وإِذا خلَّى الرجلُ عَنْ نَاقَتِهِ قِيلَ طَلّقها، والعَيْرُ إِذا حازَ عانَته ثُمَّ خلَّى عَنْهَا قِيلَ طَلَّقها، وإِذا اسْتَعْصَت العانةُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْقَدْنَ لَهُ قِيلَ طَلَّقْنَه؛ وأَنشد لِرُؤْبَةَ: " طَلَّقْنَه فاسْتَوْرَدَ العَدَامِلا وأُطْلِقَ القومُ، فَهُمْ مُطْلَقون إِذا طَلَقَت إِبلُهم، وَفِي الْمُحَكَمِ إِذا كَانَتْ إِبلهم طَوالِق فِي طَلَبِ الْمَاءِ، والطَّلَق: سَيْرُ اللَّيْلِ لوِرْدِ الغِبِّ، وَهُوَ أَن يَكُونَ بَيْنَ الإِبل وَبَيْنَ الْمَاءِ لَيْلَتَانِ، فَاللَّيْلَةُ الأُولى الطَّلَق يُخَلِّي الرَّاعِي إِبلَه إِلى الْمَاءِ وَيَتْرُكُهَا مَعَ ذَلِكَ تَرْعَى وَهِيَ تَسِيرُ، فالإِبل بَعْدَ التَّحويز طَوالِقُ، وَفِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ قَوارِبُ.
والإِطْلاق فِي الْقَائِمَةِ: أَن لَا يَكُونَ فِيهَا وَضَحٌ، وَقَوْمٌ يَجْعَلُونَ الإِطْلاق أَن يَكُونَ يَدٌ وَرِجْلٌ فِي شِقّ مُحَجَّلَتين، وَيَجْعَلُونَ الإِمْساك أَن يَكُونَ يَدٌ وَرِجْلٌ لَيْسَ بِهِمَا تَحْجِيلٌ.
وَفَرَسٌ طُلُقُ إِحدى الْقَوَائِمِ إِذا كَانَتْ إِحدى قَوَائِمِهِ لَا تَحْجِيلَ فِيهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «خيرُ الحُمُر الأَقْرحُ طُلُقُ اليدِ الْيُمْنَى»أَي مُطْلَقُها لَيْسَ فِيهَا تَحْجِيلٌ؛ وطَلُقَت يدُه بِالْخَيْرِ طَلاقةً وطَلَقَت وطَلَقَها بِهِ يَطْلُقها وأَطْلَقها؛ أَنشد أَحمد بْنُ يَحْيَى:
أُطْلُقْ يَدَيْك تَنْفَعاك يَا رَجُلْ ***بالرَّيْثِ مَا أَرْوَيْتَها، لَا بالعَجَلْ
وَيُرْوَى: أَطْلِقْ.
وَيُقَالُ: طَلَقَ يَدَهُ وأَطْلقَها فِي الْمَالِ وَالْخَيْرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ قَالَ ذَلِكَ أَبو عُبَيْدٍ وَرَوَاهُ الْكِسَائِيُّ فِي بَابِ فَعَلْت وأَفْعَلْت، ويدُه مَطْلوقة ومُطْلَقة.
وَرَجُلٌ طَلْقُ الْيَدَيْنِ وَالْوَجْهِ وطَلِيقُهما: سَمْحُهما.
وَوَجْهٌ طَلْقٌ وطِلْقٌ وطُلْقٌ؛ الأَخيرتان عَنِ ابْنِ الأَعرابي: ضَاحِكٌ مُشْرِق، وجمعُ الطَّلْقِ طَلْقات.
قَالَ ابْنُ الأَعرابي: وَلَا يُقَالُ أَوْجُهٌ طَوالِق إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وامرأَة طَلْقةُ الْيَدَيْنِ.
وَوَجْهٌ طَلِيقٌ كطَلْق، والاسمُ مِنْهَا وَالْمَصْدَرُ جَمِيعًا الطَّلاقةُ.
وَقَدْ طَلُق الرجلُ، بِالضَّمِّ طَلاقةً فَهُوَ طَلْقٌ وطَلِيقٌ أَي مُسْتَبْشِر مُنْبَسِطُ الْوَجْهِ مُتَهَلِّلُه.
وَوَجْهٌ مُنْطَلِق: كطَلْق، وَقَدِ انْطَلَق؛ قَالَ الأَخطل:
يَرَوْنَ قِرًى سَهْلًا وَدَارًا رَحِيبةً، ***ومُنْطَلَقًا فِي وَجْهِ غيرِ بَسُورِ
وَيُقَالُ: لَقِيتُهُ مُنْطَلِقَ الْوَجْهِ إِذا أَسفر؛ وأَنشد:
يَرْعَوْنَ وَسْمِيًّا وَصَى نَبْتُه، ***فانْطَلَقَ الوجهُ ودقَّ الكُشُوحْ
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَفْضلُ الإِيمانِ أَن تُكَلِّم أَخاك وأَنت طَلِيقٌ»أَي مُسْتَبْشِرٌ مُنْبَسِطُ الْوَجْهِ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «أَن تَلْقاه بِوَجْهٍ طَلِق».
وتَطَلّقَ الشيءَ: سُرَّ بِهِ فَبَدَا ذَلِكَ فِي وَجِهِهِ.
أَبو زَيْدٍ: رَجُلٌ طَلِيقُ الْوَجْهِ ذُو بِشْرٍ حَسَنٍ، وطَلْق الْوَجْهِ إِذا كَانَ سخِيًّا، وَمِثْلُهُ بَعِيرٌ طَلْقُ الْيَدَيْنِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ، وَجَمْعُهُ أَطلاق.
الْكِسَائِيُّ: رَجُلٌ طُلُقٌ، وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَيَوْمٌ طَلْقٌ بيِّن الطَّلاقة، وليلةٌ طَلْقٌ أَيضًا وليلة طَلْقةٌ: مُشْرِقٌ لَا بَرْدَ فِيهِ وَلَا حَرَّ وَلَا مَطَرَ وَلَا قُرّ، وَقِيلَ: وَلَا شَيْءَ يُؤْذِي، وَقِيلَ: هُوَ الليِّنُ القُرِّ مِنْ أَيام طَلْقات، بِسُكُونِ اللَّامِ أَيضًا، وَقَدْ طَلُقَ طُلوقةً وطَلاقةً.
أَبو عَمْرٍو: لَيْلَةٌ طَلْقٌ لَا بَرْدَ فِيهَا؛ قَالَ أَوس:
خَذَلْتُ عَلَى لَيْلةٍ ساهِرهْ، ***فلَيْسَتْ بِطَلْقٍ وَلَا ساكِرهْ
وليالٍ طَلْقات وطَوالِقُ.
وَقَالَ أَبو الدُّقَيْشِ: وَإِنَّهَا لطَلْقةُ السَّاعَةِ؛ وَقَالَ الرَّاعِي: " فَلَمَّا عَلَتْه الشمسُ فِي يومِ طَلْقةٍ "يُرِيدُ يومَ ليلةٍ طَلْقةٍ لَيْسَ فِيهَا قُرٌّ وَلَا رِيحٌ، يُرِيدُ يَوْمَهَا الَّذِي بَعْدَهَا، وَالْعَرَبُ تبدأُ بِاللَّيْلِ قَبْلَ الْيَوْمِ؛ قَالَ الأَزهري: وأَخبرني الْمُنْذِرِيُّ عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ أَنه قَالَ فِي بَيْتِ الرَّاعِي وَبَيْتٍ آخَرَ أَنشده لِذِي الرُّمَّةِ: " لَهَا سُنَّةٌ كالشمسِ فِي يومِ طَلْقةٍ "قَالَ: وَالْعَرَبُ تُضِيفُ الِاسْمَ إِلى نَعْتِهِ، قَالَ: وَزَادُوا فِي الطَّلْق الْهَاءَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَمَا قَالُوا رَجُلٌ دَاهِيَةٌ، قَالَ: وَيُقَالُ ليلةٌ طَلْقٌ وَلَيْلَةٌ طَلْقةٌ أَي سَهْلَةٌ طْيبة لَا بَرْدَ فِيهَا، وَفِي صِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: ليلةٌ سَمْحةٌ طَلْقةٌ أَي سَهْلَةٌ طَيِّبَةٌ.
يُقَالُ: يَوْمٌ طَلْقٌ وَلَيْلَةٌ طَلْقٌ وطَلْقةٌ إِذا لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ يُؤْذِيَانِ، وَقِيلَ: لَيْلَةٌ طَلْقٌ وطَلْقةٌ وطالِقة سَاكِنَةٌ مُضِيئة، وَقِيلَ: الطَّوالِق الطيبةُ الَّتِي لَا حَرَّ فِيهَا وَلَا بَرْدَ؛ قَالَ كثيِّر:
يُرَشِّحُ نَبْتًا ناضِرًا ويَزينُه ***نَدًى، وليَالٍ بَعْد ذَاكَ طَوالِق
وَزَعَمَ أَبو حَنِيفَةَ أَن وَاحِدَةَ الطَّوالِق طَلْقة، وَقَدْ غَلِطَ لأَن فَعْلة لَا تُكسّر عَلَى فَوَاعِلَ إِلا أَن يَشِذَّ شَيْءٌ.
وَرَجُلٌ طَلْقُ اللسانِ وطُلُقٌ وطُلَقٌ وطَلِيق: فَصِيح، وَقَدْ طَلُق طُلوقةً وطُلوقًا، وَفِيهِ أَربع لُغَاتٍ: لسانٌ طَلْقٌ ذَلْقٌ، وطَلِيق ذَلِيق، وطُلُقٌ ذُلُقٌ، وطُلَقٌ ذُلَقٌ؛ وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ الرَّحِم: «تَكلَّم بِلِسَانٍ طَلْقٍ»أَي مَاضِي الْقَوْلِ سَرِيعِ النُّطْقِ، وَهُوَ طَلِيق اللِّسَانِ وطِلْقٌ وطَلْقٌ، وَهُوَ طَلِيقُ الْوَجْهِ وطَلْقُ الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: لَا يُقَالُ طُلَقٌ ذُلَقٌ، وَالْكِسَائِيُّ يَقُولُهُمَا، وَهُوَ طَلْقُ الْكَفِّ وطَلِيقُ الْكَفِّ قَرِيبَانِ مِنَ السَّوَاءِ.
وَقَالَ أَبو حَاتِمٍ: سُئِلَ الأَصمعي فِي طُلُقٍ أَو طُلَقٍ فَقَالَ: لَا أَدري لِسَانٌ طُلُقٍ أَو طُلَق؛ وقال شمر: طَلُقَت يدُه وَلِسَانُهُ طُلوقَةً وطُلوقًا.
وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ هُوَ طَلِيقٌ وطُلُقٌ وطالِقٌ ومُطْلَقٌ إِذا خُلِّي عَنْهُ، قَالَ: والتَّطْلِيقُ التَّخْلِيَةُ والإِرسال وحلُّ الْعَقْدُ، وَيَكُونُ الإِطلاقُ بِمَعْنَى التَّرْكِ والإِرسال، والطَّلَق الشَّأْوُ، وَقَدْ أَطْلَقَ رِجْلَه.
واسْتَطْلَقَه: اسْتَعْجَلَهُ.
واسْتَطْلَقَ بطنُه: مَشَى.
واسْتِطلاقُ الْبَطْنِ: مَشْيُه، وَتَصْغِيرُهُ تُطَيْلِيق، " وأَطْلَقَه الدَّوَاءُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن رَجُلًا اسْتَطْلَق بطنُه»أَي كَثُرَ خُرُوجُ مَا فِيهِ، يُرِيدُ الإِسهال.
وَاسْتَطْلَقَ الظبيُ وتَطلَّق: اسْتَنَّ فِي عَدْوِه فَمَضَى وَمَرَّ لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ تَفَعَّلَ، وَالظَّبْيُ إِذا خَلَّى عَنْ قَوَائِمِهِ فَمَضَى لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ قِيلَ تَطَلَّقَ.
قَالَ: والانطِلاقُ سُرْعَةُ الذَّهَابِ فِي أَصل المحْنة.
وَيُقَالُ: مَا تَطَّلِقُ نَفْسِي لِهَذَا الأَمر أَي لَا تَنْشَرِحُ وَلَا تَسْتَمِرُّ، وَهُوَ تَطَّلِقُ تَفْتَعِلُ، وَتَصْغِيرُ الاطِّلاق طُتَيْلِيق، بِقَلْبِ الطَّاءِ تَاءً لِتَحَرُّكِ الطَّاءِ الأُولى كَمَا تَقُولُ فِي تَصْغِيرِ اضْطِرَابٍ ضُتَيرِيب، تُقْلَبُ الطَّاءُ تَاءً لِتُحَرَّكَ الضَّادُ، والانطِلاقُ: الذَّهَابُ.
وَيُقَالُ: انْطُلِقَ بِهِ، عَلَى مَا لَمْ يسمَّ فَاعِلُهُ، كَمَا يُقَالُ انقُطِع بِهِ.
وَتَصْغِيرُ مُنْطَلِق مُطَيْلِق، وإَن شِئْتَ عَوَّضْتَ مِنَ النُّونِ وَقُلْتَ مُطَيْلِيق، وَتَصْغِيرُ الانطِلاق نُطَيْلِيق، لأَنك حَذَفْتَ أَلف الْوَصْلِ لأَن أَول الِاسْمِ يَلْزَمُ تَحْرِيكُهُ بِالضَّمِّ لِلتَّحْقِيرِ، فَتَسْقُطُ الْهَمْزَةُ لِزَوَالِ السُّكُونِ الَّذِي كَانَتِ الْهَمْزَةُ اجتُلِبت لَهُ، فَبَقِيَ نُطْلاق وَوَقَعَتِ الأَلف رَابِعَةً فَلِذَلِكَ وَجَبَ فِيهِ التَّعْوِيضُ، كَمَا تَقُولُ دُنَيْنِير لأَن حَرْفَ اللِّينِ إِذا كَانَ رَابِعًا ثَبَتَ الْبَدَلُ مِنْهُ فَلَمْ يَسْقُطْ إِلا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، أَو يَكُونُ بَعْدَهُ يَاءٌ كَقَوْلِهِمْ فِي جَمْعِ أُثْفِيّة أَثافٍ، فقِسْ عَلَى ذَلِكَ.
وَيُقَالُ: عَدا الفرسُ طَلَقًا أَو طَلَقَين أَي شَوْطًا أَو شَوْطين، وَلَمْ يُخصّص فِي التَّهْذِيبِ بِفَرَسٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَيُقَالُ: تَطلَّقَت الخيلُ إِذا مَضَتْ طَلَقًا لَمْ تُحْتبَس إِلى الْغَايَةِ، قَالَ: والطَّلَقُ الشَّوْطُ الْوَاحِدُ فِي جَرْي الْخَيْلِ.
والتَّطَلُّقُ أَن يَبُولَ الْفَرَسُ بَعْدَ الْجَرْيِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
فصادَ ثَلَاثًا كجِزْعِ النِّظامِ، ***لَمْ يَتَطَلَّقْ وَلَمْ يُغْسَل
لَمْ يُغْسَل أَي لَمْ يَعْرَقْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فرَفَعْتُ فَرَسِي طَلَقًا أَو طَلَقَين»؛ هُوَ، بِالتَّحْرِيكِ، الشَّوْطُ وَالْغَايَةُ الَّتِي يَجْرِي إِليها الْفَرَسُ.
والطَّلَقُ، بِالتَّحْرِيكِ: قَيْدٌ مِنْ أَدَمٍ، وَفِي الصِّحَاحِ: قَيْدٌ مِنْ جُلُودٍ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
عَوْدٌ عَلَى عَوْدٍ عَلَى عَوْدٍ خَلَقْ ***كأَنها، والليلُ يَرْمِي بالغَسَقْ،
مَشاجِبٌ وفِلْقُ سَقْبٍ وطَلَق شَبَّهَ الرَّجُلَ بالمِشْجَبِ لِيُبْسهِ وَقِلَّةِ لَحْمِهِ، وشبَّه الْجَمَلَ بِفِلْقِ سَقْبٍ، والسَّقْب خَشَبَةٌ مِنْ خَشَبَاتِ الْبَيْتِ، وَشَبَّهَ الطَّرِيقَ بالطَّلَق وَهُوَ قَيْدٌ مِنْ أَدَمٍ.
وَفِي حَدِيثِ حُنَيْنٍ: «ثُمَّ انتزَع طَلَقًا مِنْ حَقَبه فقَيَّد بِهِ الجمَلَ»؛ الطَّلَقُ، بِالتَّحْرِيكِ: قَيْدٌ مِنْ جُلُودٍ.
والطَّلَق: الْحَبْلُ الشَّدِيدُ الْفَتْلِ حَتَّى يَقوم؛ قَالَ رُؤْبَةُ: " مُحَمْلَج أُدْرِجَ إِدْراج الطَّلَقْ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الحياءُ والإِيمانُ مَقْرونان فِي طَلَقٍ»؛ الطَّلَقُ هَاهُنَا: حَبْلٌ مَفْتُولٌ شَدِيدُ الْفَتْلِ؛ أي هُمَا مُجْتَمِعَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ كأَنهما قَدْ شُدَّا فِي حَبْلٍ أَو قَيْدٍ.
وطَلَق الْبَطْنِ: جُدَّتُه، والجمع أَطلاق؛ وأَنشد:
تَقاذَقْنَ أَطْلاقًا، وقارَبَ خَطْوَه ***عَنِ الذَّوْدِ تَقْرِيبٌ، وهُنَّ حَبائِبُه
أَبو عُبَيْدَةَ: فِي الْبَطْنِ أَطْلاق، واحدُها طَلَقٌ، مُتَحَرِّكٌ، وَهُوَ طَرَائِقُ الْبَطْنِ.
والمُطَلَّقُ: المُلَقَّح مِنَ النَّخْلِ، وَقَدْ أَطْلَقَ "نَخْلَهُ وطَلَّقها إِذا كَانَتْ طِوالًا فأَلقحها.
وأَطْلَقَ خَيْلَه فِي الحَلْبة وأَطْلَقَ عَدُوَّه إِذا سَقَاهُ سُمًّا.
قَالَ: وطَلَق أَعطى، وطَلِقَ إِذا تَبَاعَدَ.
والطِّلْقُ، بِالْكَسْرِ: الْحَلَالُ؛ يُقَالُ: هُوَ لَكَ طِلْقًا طلْقٌ أَي حَلَالٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الخيلُ طِلْقٌ»؛ يَعْنِي أَن الرِّهان عَلَى الْخَيْلِ حَلَالٌ.
يُقَالُ: أَعطيته مِنْ طِلْقِ مالي أَي صَفْوه وطَيِّبِه.
وأَنتَ طِلْقٌ مِنْ هَذَا الأَمر أَي خارجٌ مِنْهُ.
وطُلِّقَ السليمُ، عَلَى مَا لَمْ يُسمَّ فَاعِلُهُ: رَجَعَتْ إِليه نفسهُ وَسَكَنَ وَجَعُهُ بَعْدَ العِداد، فَهُوَ مُطَلَّق؛ قَالَ الشَّاعِرَ:
تَبِيتُ الهُمُوم الطارِقاتُ يَعُدْنَني، ***كَمَا تَعْتَرِي الأَهْوالُ رأْسَ المُطَلَّقِ
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
تَناذَرَها الراقُون مِنْ سُوءِ سمِّها، ***تُطَلِّقه طَورًْا، وطَوْرًا تُراجِعُهْ
والطَّلَقُ: ضَرْبٌ مِنَ الأَدْوية، وَقِيلَ: هُوَ نَبْتٌ تُسْتَخْرَجُ عُصَارَتُهُ فيتطلَّى بِهِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي النَّارِ.
الأَصمعي: يُقَالُ لِضَرْبٍ مِنَ الدَّوَاءِ أَو نَبْتٍ طَلَقٌ، مُتَحَرِّكٌ.
وطَلْقٌ وطَلَق: اسمان.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
52-لسان العرب (عقل)
عقل: العَقْلُ: الحِجْر والنُّهى ضِدُّ الحُمْق، وَالْجَمْعُ عُقولٌ.وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «تِلْك عُقولٌ كادَها بارِئُها»أَي أَرادها بسُوءٍ، عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا ومَعْقُولًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ صِفَةٌ، وَكَانَ يَقُولُ إِن الْمَصْدَرَ لَا يأْتي عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ البَتَّةَ، ويَتأَوَّل المَعْقُول فَيَقُولُ: كأَنه عُقِلَ لَهُ شيءٌ؛ أي حُبسَ عَلَيْهِ عَقْلُه وأُيِّد وشُدِّد، قَالَ: ويُسْتَغْنى بِهَذَا عَنِ المَفْعَل الَّذِي يَكُونُ مَصْدَرًا؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ:
فَقَدْ أَفادَتْ لَهُم حِلْمًا ومَوْعِظَةً ***لِمَنْ يَكُون لَهُ إِرْبٌ ومَعْقول
وعَقَل، فَهُوَ عاقِلٌ وعَقُولٌ مِنْ قَوْمٍ عُقَلاء.
ابْنُ الأَنباري: رَجُل عاقِلٌ وَهُوَ الْجَامِعُ لأَمره ورَأْيه، مأْخوذ مِنْ عَقَلْتُ البَعيرَ إِذا جَمَعْتَ قَوَائِمَهُ، وَقِيلَ: العاقِلُ الَّذِي يَحْبِس نَفْسَهُ ويَرُدُّها عَنْ هَواها، أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدِ اعْتُقِل لِسانُه إِذا حُبِسَ ومُنِع الكلامَ.
والمَعْقُول: مَا تَعْقِله بِقَلْبِكَ.
والمَعْقُول: العَقْلُ، يُقَالُ: مَا لَهُ مَعْقُولٌ أَي عَقْلٌ، وَهُوَ أَحد الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى مَفْعُولٍ كالمَيْسور والمَعْسُور.
وعاقَلَهُ فعَقَلَه يَعْقُلُه، بِالضَّمِّ: كَانَ أَعْقَلَ مِنْهُ.
والعَقْلُ: التَّثَبُّت فِي الأُمور.
والعَقْلُ: القَلْبُ، والقَلْبُ العَقْلُ، وسُمِّي العَقْلُ عَقْلًا لأَنه يَعْقِل "صاحبَه عَنِ التَّوَرُّط فِي المَهالِك أَي يَحْبِسه، وَقِيلَ: العَقْلُ هُوَ التَّمْيِيزُ الَّذِي بِهِ يَتَمَيَّزُ الإِنسان مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَيُقَالُ: لِفُلان قَلْبٌ عَقُول، ولِسانٌ سَؤُول، وقَلْبٌ عَقُولٌ فَهِمٌ؛ وعَقَلَ الشيءَ يَعْقِلُه عَقْلًا: فَهِمه.
وَيُقَالُ أَعْقَلْتُ فُلَانًا أَي أَلْفَيْته عاقِلًا.
وعَقَّلْتُه أَي صَيَّرته عاقِلًا.
وتَعَقَّل: تكَلَّف العَقْلَ كَمَا يُقَالُ تَحَلَّم وتَكَيَّس.
وتَعَاقَل: أَظْهَر أَنه عاقِلٌ فَهِمٌ وَلَيْسَ بِذَاكَ.
وَفِي حَدِيثِ الزِّبْرِقانِ: «أَحَبُّ صِبْيانِنا إِلينا الأَبْلَهُ العَقُول»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هُوَ الَّذِي يُظَنُّ بِهِ الحُمْقُ فإِذا فُتِّش وُجِد عَاقِلًا، والعَقُول فَعُولٌ مِنْهُ لِلْمُبَالَغَةِ.
وعَقَلَ الدواءُ بَطْنَه يَعْقِلُه ويَعْقُلُه عَقْلًا: أَمْسَكَه، وَقِيلَ: أَمسكه بَعْدَ اسْتِطْلاقِهِ، واسْمُ الدَّوَاءِ العَقُولُ.
ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ عَقَلَ بطنُه واعْتَقَلَ، وَيُقَالُ: أَعْطِني عَقُولًا، فيُعْطِيه مَا يُمْسِك بطنَه.
ابْنُ شُمَيْلٍ: إِذا اسْتَطْلَقَ بطنُ الإِنسان ثُمَّ اسْتَمْسَك فَقَدْ عَقَلَ بطنُه، وَقَدْ عَقَلَ الدواءُ بطنَه سَوَاءٌ.
واعْتَقَلَ لِسانُه: امْتَسَكَ.
الأَصمعي: مَرِضَ فُلَانٌ فاعْتُقِل لسانُه إِذا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
ومُعْتَقَل اللِّسانِ بغَيْر خَبْلٍ، ***يَميد كأَنَّه رَجُلٌ أَمِيم
واعْتُقِل: حُبِس.
وعَقَلَه عَنْ حَاجَتِهِ يَعْقِله وعَقَّله وتَعَقَّلَهُ واعتَقَلَه: حَبَسَه.
وعَقَلَ البعيرَ يَعْقِلُه عَقْلًا وعَقَّلَه واعْتَقَله: ثَنى وَظِيفَه مَعَ ذِرَاعِهِ وشَدَّهما جَمِيعًا فِي وَسَطِ الذِّرَاعِ، وَكَذَلِكَ النَّاقَةُ، وَذَلِكَ الحَبْلُ هُوَ العِقالُ، وَالْجَمْعُ عُقُلٌ.
وعَقَّلْتُ الإِبلَ مِنَ العَقْل، شُدِّد لِلْكَثْرَةِ؛ وَقَالَ بُقَيْلة الأَكبر وَكُنْيَتُهُ أَبو المِنْهال:
يُعَقِّلُهُنَّ جَعْدٌ شَيظَميٌّ، ***وبِئْسَ مُعَقِّلُ الذَّوْدِ الظُّؤَارِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «القُرْآنُ كالإِبِلِ المُعَقَّلة»أَي الْمَشْدُودَةِ بالعِقال، وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ لِلتَّكْثِيرِ؛ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: «كُتِب إِليه أَبياتٌ فِي صَحِيفَةٍ»، مِنْهَا:
فَما قُلُصٌ وُجِدْنَ مُعَقَّلاتٍ ***قَفا سَلْعٍ، بمُخْتَلَفِ التِّجار
يَعْنِي نِساءً مُعَقَّلات لأَزواجهن كَمَا تُعَقَّل النوقُ عِنْدَ الضِّراب؛ وَمِنَ الأَبيات أَيضًا: " يُعَقِّلُهنَّ جَعْدَة مِنْ سُلَيْم "أَراد أَنه يَتَعرَّض لَهُنَّ فكَنى بالعَقْلِ عَنِ الْجِمَاعِ أَي أَن أَزواجهن يُعَقِّلُونَهُنَّ وَهُوَ يُعَقِّلهن أَيضًا، كأَنَّ البَدْء للأَزواج والإِعادة لَهُ، وَقَدْ يُعْقَل العُرْقوبانِ.
والعِقالُ: الرِّباط الَّذِي يُعْقَل بِهِ، وَجَمْعُهُ عُقُلٌ.
قَالَ أَبو سَعِيدٍ: وَيُقَالُ عَقَلَ فُلَانٌ فُلَانًا وعَكَلَه إِذا أَقامه عَلَى إِحدى رِجْلَيْهِ، وَهُوَ مَعْقُولٌ مُنْذُ اليومِ، وَكُلُّ عَقْلٍ رَفْعٌ.
والعَقْلُ فِي العَروض: إِسقاط الْيَاءِ مِنْ مَفاعِيلُنْ بَعْدَ إِسكانها فِي مُفاعَلَتُنْ فيصير مَفاعِلُنْ؛ وبيته:
مَنازِلٌ لفَرْتَنى قِفارٌ، ***كأَنَّما رسُومُها سُطور
والعَقْلُ: الديَة.
وعَقَلَ القَتيلَ يَعْقِله عَقْلًا: وَدَاهُ، وعَقَلَ عَنْهُ: أَدَّى جِنايَته، وَذَلِكَ إِذا لَزِمَتْه دِيةٌ فأَعطاها عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ عَقَلْته وعَقَلْت عَنْهُ وعَقَلْتُ لَهُ؛ فأَما قَوْلُهُ:
فإِنْ كَانَ عَقْل، فاعْقِلا عَنْ أَخيكما ***بَناتِ المَخاضِ، والفِصَالَ المَقَاحِما
فإِنما عَدَّاه لأَن فِي قَوْلِهِ اعْقِلوا "مَعْنَى أَدُّوا وأَعْطُوا حَتَّى كأَنه قَالَ فأَدِّيا وأَعْطِيا عَنْ أَخيكما.
وَيُقَالُ: اعْتَقَل فُلَانٌ مِنْ دَمِ صَاحِبِهِ وَمِنْ طَائِلَتِهِ إِذ أَخَذَ العَقْلَ.
وعَقَلْت لَهُ دمَ فُلَانٍ إِذا تَرَكْت القَوَد للدِّية؛ قَالَتْ كَبْشَة أُخت عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكرِب:
وأَرْسَلَ عبدُ اللَّهِ، إِذْ حانَ يومُه، ***إِلى قَوْمِه: لَا تَعْقِلُوا لَهُمُ دَمِي
والمرأَة تُعاقِلُ الرجلَ إِلى ثُلُثِ الدِّيَةِ أَي تُوازِيه، مَعْنَاهُ أَن مُوضِحتها ومُوضِحته سواءٌ، فإِذا بَلَغَ العَقْلُ إِلى ثُلُثِ الدِّيَةِ صَارَتْ دِيَةُ المرأَة عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: «المرأَة تُعاقِل الرَّجُلَ إِلى ثُلُث دِيَتِهَا، فإِن جَاوَزَتِ الثُّلُثَ رُدَّت إِلى نِصْفِ دِيَةِ الرَّجُلِ»، وَمَعْنَاهُ أَن دِيَةَ المرأَة فِي الأَصل عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ كَمَا أَنها تَرِث نِصْفَ ما يَرِث مَا يَرِث الذَّكَرُ، فجَعَلَها سعيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ تُساوي الرجلَ فِيمَا يَكُونُ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ، تأْخذ كَمَا يأْخذ الرَّجُلُ إِذا جُني عَلَيْهَا، فَلها فِي إِصبَع مِنْ أَصابعها عَشْرٌ مِنَ الإِبل كإِصبع الرَّجُلِ، وَفِي إِصْبَعَيْن مِنْ أَصابعها عِشْرُونَ مِنَ الإِبل، وَفِي ثَلَاثٍ مِنْ أَصابعها ثَلَاثُونَ كَالرَّجُلِ، فإِن أُصِيب أَربعٌ مِنْ أَصابعها رُدَّت إِلى عِشْرِينَ لأَنه جَاوَزَتِ الثُّلُث فَرُدَّت إِلى النِّصْفِ مِمَّا لِلرَّجُلِ؛ وأَما الشَّافِعِيُّ وأَهل الْكُوفَةِ فإِنهم جَعَلُوا فِي إِصْبَع المرأَة خَمْسًا مِنَ الإِبل، وَفِي إِصبعين لَهَا عَشْرًا، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا الثُّلُثَ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ.
وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: «فاعْتَصَم نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ فأَسْرَع فِيهِمُ القتلَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأَمَر لَهُمْ بنصفِ العَقْل»؛ إِنما أَمر لَهُمْ بِالنِّصْفِ بَعْدِ عِلْمِهِ بإِسلامهم، لأَنهم قَدْ أَعانوا عَلَى أَنفسهم بمُقامهم بَيْنَ ظَهْراني الْكُفَّارِ، فَكَانُوا كَمَنْ هَلَك بِجِنَايَةِ نَفْسِهِ وَجِنَايَةِ غَيْرِهِ فَتَسْقُطُ حِصَّة جِنَايَتِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وإِنما قِيلَ لِلدِّيَةِ عَقْلٌ لأَنهم كَانُوا يأْتون بالإِبل فيَعْقِلونها بفِناء وَلِيِّ الْمَقْتُولِ، ثُمَّ كثُر ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ دِيَةٍ عَقْلٌ، وإِن كَانَتْ دَنَانِيرَ أَو دَرَاهِمَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن امرأَتين مِنْ هُذَيْل اقْتَتَلَتا فَرَمَتْ إِحداهما الأُخرى بِحَجَرٍ فأَصاب بطنَها فَقَتَلَها، فقَضَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَتِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الأُخرى».
وَفِي الْحَدِيثِ: «قَضَى رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدِيَةِ شِبْه العَمْد والخَطإِ المَحْض عَلَى العاقِلة يُؤدُّونها فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إِلى ورَثَة الْمَقْتُولِ»؛ الْعَاقِلَةُ: هُم العَصَبة، وَهُمُ الْقَرَابَةُ مِنْ قِبَل الأَب الَّذِينَ يُعْطُون دِيَةَ قَتْل الخَطَإِ، وَهِيَ صفةُ جَمَاعَةٍ عَاقلةٍ، وأَصلها اسْمُ فاعلةٍ مِنَ العَقْل وَهِيَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ، قَالَ: وَمَعْرِفَةُ العاقِلة أَن يُنْظَر إِلى إِخوة الْجَانِي مِنْ قِبَل الأَب فيُحَمَّلون مَا تُحَمَّل العاقِلة، فإِناحْتَمَلوها أَدَّوْها فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وإِن لَمْ يَحْتَمِلُوهَا رفِعَتْ إِلى بَني جَدِّهِ، فإِن لَمْ يَحْتَمِلُوهَا رُفِعت إِلى بَنِي جَدِّ أَبيه، فإِن لَمْ يَحْتَمِلُوهَا رُفِعَتْ إِلى بَنِي جَد أَبي جَدِّه، ثُمَّ هَكَذَا لَا تَرَفُّعَ عَنْ بَني أَب حَتَّى يَعْجِزُوا.
قَالَ: ومَنْ فِي الدِّيوان وَمَنْ لَا دِيوان لَهُ فِي العَقْل سواءٌ، وَقَالَ أَهل الْعِرَاقِ: هُمْ أَصحاب الدَّواوِين؛ قَالَ إِسحاق بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْتُ لأَحمد بْنِ حَنْبَلٍ مَنِ العاقِلَةُ؟ فَقَالَ: القَبِيلة إِلا أَنهم يُحَمَّلون بِقَدْرِ مَا يُطِيقُونَ، قَالَ: فإِن لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةٌ لَمْ تُجْعَل فِي مَالِ الْجَانِي وَلَكِنْ تُهْدَر عَنْهُ، وَقَالَ إِسحاق: إِذا لَمْ تَكُنِ الْعَاقِلَةُ أَصْلًا فإِنه يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا تُهْدَر الدِّيَةُ؛ قَالَ الأَزهري: والعَقْل فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدِّيةُ، سُمِّيَتْ عَقْلًا لأَن الدِّيَةَ كَانَتْ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِبلًا لأَنها كَانَتْ أَموالَهم، فَسُمِّيَتِ الدِّيَةُ عَقْلًا لأَن الْقَاتِلَ كَانَ يُكَلَّف أَن يَسُوقَ الدِّيَةَ إِلى فِناء وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ فَيَعْقِلُها بالعُقُل ويُسَلِّمها إِلى أَوليائه، وأَصل العَقْل مَصْدَرُ عَقَلْت البعيرَ بالعِقال أَعْقِلُهُ عَقْلًا، وَهُوَ حَبْلٌ تُثْنى بِهِ يَدُ الْبَعِيرِ إِلى رُكْبَتِهِ فتُشَدُّ به؛ قل ابْنُ الأَثير: وَكَانَ أَصل الدِّيَةِ الإِبل ثُمَّ قُوِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْبَقْرِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهَا؛ قَالَ الأَزهري: وقَضَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ الخطإِ المَحْض وشِبْه العَمْد أَن يَغْرَمها عَصَبةُ الْقَاتِلِ وَيَخْرُجَ مِنْهَا ولدُه وأَبوه، فأَما دِيَةُ الخطإِ المَحْض فإِنها تُقسم أَخماسًا: عِشْرِينَ ابْنَةَ مَخَاض، وَعِشْرِينَ ابْنَةَ لَبُون، وَعِشْرِينَ ابْنَ لَبُون، وَعِشْرِينَ حِقَّة، وَعِشْرِينَ جَذَعة؛ وأَما دِيَةُ شِبْه العَمْد فإِنها تُغَلَّظ وَهِيَ مِائَةُ بَعِيرٍ أَيضًا: مِنْهَا ثلاثون حِقَّة، وَثَلَاثُونَ جَذَعة، وأَربعون مَا بَيْنَ ثَنِيَّة إِلى بازلِ عامِها كُلُّها خَلِفَةٌ، فعَصَبة الْقَاتِلِ إِن كَانَ الْقَتْلُ خطأَ مَحْضًا غَرِموا الدِّيَةَ لأَولياء الْقَتِيلِ أَخماسًا كَمَا وصَفْتُ، وإِن كَانَ الْقَتْلُ شِبْه العَمْد غَرِموها مُغَلَّظَة كَمَا وصَفْت فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَهُمُ العاقِلةُ.
ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ عَقَلْت عَنْ فُلَانٍ إِذا أَعطيتَ عَنِ الْقَاتِلِ الدِّيَةَ، وَقَدْ عَقَلْت المقتولَ أَعْقِلُهُ عَقْلًا؛ قَالَ الأَصمعي: وأَصله أَن يأْتوا بالإِبل فتُعْقَل بأَفْنِية الْبُيُوتِ، ثُمَّ كَثُر استعمالُهم هَذَا الْحَرْفَ حَتَّى يُقَالَ: عَقَلْت المقتولَ إِذا أَعطيت دِيَتَهُ دَرَاهِمَ أَو دَنَانِيرَ، وَيُقَالُ: عَقَلْت فُلَانًا إِذا أَعطيت ديتَه وَرَثَتَه بَعْدَ قَتْله، وعَقَلْت عَنْ فُلَانٍ إِذا لَزِمَتْه جنايةٌ فغَرِمْت ديتَها عَنْهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَعقِل العاقِلةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا»أَي أَن كُلَّ جِنَايَةِ عَمْدٍ فإِنها فِي مَالِ الْجَانِي خَاصَّةً، وَلَا يَلْزم العاقِلةَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْجِنَايَاتِ فِي الخطإِ، وَكَذَلِكَ إِذا اعْتَرَفَ الْجَانِي بِالْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنة تَقُومُ عَلَيْهِ، وإِن ادَّعَى أَنها خَطأٌ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يُلْزَم بِهَا الْعَاقِلَةُ؛ " وَرُوِيَ: لَا تَعْقِل العاقِلةُ العَمْدَ وَلَا العَبْدَ "؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وأَما الْعَبْدُ فَهُوَ أَن يَجْنيَ عَلَى حُرٍّ فَلَيْسَ عَلَى عاقِلة مَوْلاه شَيْءٌ مِنْ جِنَايَةِ عَبْدِهِ، وإِنما جِنايته فِي رَقَبته، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبي حَنِيفَةَ؛ وَقِيلَ: هُوَ أَن يَجْنِيَ حُرٌّ عَلَى عَبْدٍ خَطَأً فَلَيْسَ عَلَى عاقِلة الْجَانِي شَيْءٌ، إِنما جِنَايَتُهُ فِي مَالِهِ خاصَّة، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبي لَيْلَى وَهُوَ مُوَافِقٌ لِكَلَامِ الْعَرَبِ، إِذ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الأَوّل لَكَانَ الكلامُ: لَا تَعْقِل العاقِلةُ عَلَى عَبْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَا تَعْقِل عَبْدًا، وَاخْتَارَهُ الأَصمعي وَصَوَّبَهُ وَقَالَ: كلَّمت أَبا يُوسُفَ الْقَاضِيَ فِي ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ فَلَمْ يَفْرُق بَيْنَ عَقَلْتُه وعَقَلْتُ عَنْهُ حَتَّى فَهَّمْته، قَالَ: وَلَا يَعْقِلُ حاضرٌ عَلَى بادٍ، يَعْنِي أَن القَتيل إِذا كَانَ فِي الْقَرْيَةِ فإِن أَهلها يَلْتَزِمُونَ بَيْنَهُمُ الدِّيَةَ وَلَا يُلْزِمون أَهلَ الحَضَر مِنْهَا شَيْئًا.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: «أَن رَجُلًا أَتاه فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ عَمِّي شُجَّ مُوضِحةً، فَقَالَ: أَمِنْ أَهْلِ القُرى أَم مِنْ أَهل الْبَادِيَةِ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهل الْبَادِيَةِ، فَقَالَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّا لَا نَتَعاقَلُ المُضَغَ بَيْنَنَا»؛ مَعْنَاهُ أَن أَهل القُرى لَا يَعْقِلون عَنْ أَهل الْبَادِيَةِ، وَلَا أَهلُ الْبَادِيَةِ عَنْ أَهل الْقُرَى فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَشياء، والعاقلةُ لَا تَحْمِل السِّنَّ والإِصْبَعَ والمُوضِحةَ وأَشباه ذَلِكَ، وَمَعْنَى لَا نَتَعاقَل المُضَغَ؛ أي لَا نَعْقِل بَيْنَنَا مَا سَهُل مِنَ الشِّجاج بَلْ نُلْزِمه الْجَانِي.
وتَعَاقَلَ القومُ دَمَ فُلَانٍ: عَقَلُوه بَيْنَهُمْ.
والمَعْقُلة: الدِّيَة، يُقَالُ: لَنا عِنْدَ فُلَانٍ ضَمَدٌ مِنْ مَعْقُلة أَي بَقِيَّةٌ مِنْ دِيَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ.
ودَمُه مَعْقُلَةٌ عَلَى قَوْمِهِ أَي غُرْمٌ يؤدُّونه مِنْ أَموالهم.
وبَنُو فُلَانٍ عَلَى مَعَاقِلِهم الأُولى مِنَ الدِّيَةِ أَي عَلَى حَالِ الدِّيات الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُؤدُّونها كَمَا كَانُوا يؤدُّونها فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلَى مَعاقِلهم أَيضًا أَي عَلَى مَرَاتِبِ آبَائِهِمْ، وأَصله مِنْ ذَلِكَ، وَاحِدَتُهَا مَعْقُلة.
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَتَبَ بَيْنَ قُرَيْشٍ والأَنصار كِتَابًا فِيهِ: المُهاجِرون مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَباعَتِهم يَتَعاقَلُون بَيْنَهُمْ مَعاقِلَهم الأُولى»أَي يَكُونُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ أَخذ الدِّيَاتِ وإِعطائها، وَهُوَ تَفاعُلٌ مِنَ العَقْل.
والمَعاقِل: الدِّيات، جَمْعُ مَعْقُلة.
والمَعاقِل: حَيْثُ تُعْقَل الإِبِل.
ومَعاقِل الإِبل: حَيْثُ تُعْقَل فِيهَا.
وفلانٌ عِقالُ المِئِينَ: وَهُوَ الرَّجُلُ الشَّرِيفُ إِذا أُسِرَ فُدِيَ بمئينَ مِنَ الإِبل.
وَيُقَالُ: فُلَانٌ قَيْدُ مائةٍ وعِقالُ مائةٍ إِذا كَانَ فِداؤُه إِذا أُسِرَ مِائَةً مِنَ الإِبل؛ قَالَ يَزِيدُ بْنُ الصَّعِق:
أُساوِرُ بيضَ الدَّارِعِينَ، وأَبْتَغِي ***عِقالَ المِئِينَ في الصباع وَفِي الدَّهْر
واعْتَقَل رُمْحَه: جَعَلَه بَيْنَ رِكَابِهِ وَسَاقِهِ.
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْع: «واعْتَقَل خَطِّيًّا»؛ اعْتِقالُ الرُّمْح: أَن يَجْعَلَهُ الرَّاكِبُ تَحْتَ فَخِذه ويَجُرَّ آخرَه عَلَى الأَرض وَرَاءَهُ.
واعْتَقَلَ شاتَه: وَضَعَ رِجْلَهَا بَيْنَ سَاقِهِ وَفَخِذِهِ فَحَلبها.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: «مَنْ اعْتَقَلَ الشاةَ وحَلَبَها وأَكَلَ مَعَ أَهله فَقَدْ بَرِئ مِنَ الكِبْر».
وَيُقَالُ: اعْتَقَلَ فُلَانٌ الرَّحْل إِذا ثَنى رِجْله فَوَضَعها عَلَى المَوْرِك؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
أَطَلْتُ اعْتِقالَ الرَّحْل فِي مُدْلَهِمَّةٍ، ***إِذا شَرَكُ المَوْماةِ أَوْدى نِظامُها
أَي خَفِيَتْ آثارُ طُرُقها.
وَيُقَالُ: تَعَقَّلَ فُلَانٌ قادِمة رَحْله بِمَعْنَى اعْتَقَلها؛ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: " مُتَعَقِّلينَ قَوادِمَ الأَكْوار "قَالَ الأَزهري: سَمِعْتُ أَعرابيًا يَقُولُ لِآخَرَ: تَعَقَّلْ لِي بكَفَّيْك حَتَّى أَركب بَعِيرِي، وَذَلِكَ أَن الْبَعِيرَ كَانَ قَائِمًا مُثْقَلًا، وَلَوْ أَناخه لَمْ يَنْهَضْ بِهِ وبحِمْله، فَجَمَعَ لَهُ يَدَيْهِ وشَبَّك بَيْنَ أَصابعه حَتَّى وَضَع فِيهِمَا رِجْله وَرَكِبَ.
والعَقَلُ: اصْطِكاك الرُّكْبَتَيْنِ، وَقِيلَ الْتِوَاءٌ فِي الرِّجْل، وَقِيلَ: هُوَ أَن يُفْرِطَ الرَّوَحُ فِي الرِّجْلَين حَتَّى يَصْطَكَّ العُرْقوبانِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ؛ قَالَ الْجَعْدِيُّ يَصِفُ نَاقَةً:
وحاجةٍ مِثْلِ حَرِّ النارِ داخِلةٍ، ***سَلَّيْتُها بأَمُونٍ ذُمِّرَتْ جَمَلا
مَطْوِيَّةِ الزَّوْر طَيَّ الْبِئْرِ دَوسَرةٍ، ***مَفروشةِ الرِّجل فَرْشًا لَمْ يَكُنْ عَقَلا
وَبَعِيرٌ أَعْقَلُ وَنَاقَةٌ عَقْلاء بَيِّنة العَقَل: وَهُوَ الْتِوَاءٌ فِي رِجْلِ الْبَعِيرِ واتساعٌ، وَقَدْ عَقِلَ.
والعُقَّال: دَاءٌ فِي رِجْلِ الدَّابَّةِ إِذا مَشَى ظَلَع سَاعَةً ثُمَّ انْبَسَطَ، وأَكْثَرُ مَا يَعْتَرِي فِي الشِّتَاءِ، وخَصَّ أَبو عُبَيْدٍ بالعُقَّال الفرسَ، وَفِي الصِّحَاحِ: العُقَّال ظَلْعٌ يأْخذ فِي قَوَائِمِ الدَّابَّةِ؛ وَقَالَ أُحَيْحة بْنُ الجُلاح:
يَا بَنِيَّ التُّخُومَ لَا تَظْلِموها، ***إِنَّ ظلْم التُّخوم ذُو عُقَّال
وداءٌ ذُو عُقَّالٍ: لَا يُبْرَأُ مِنْهُ.
وَذُو العُقَّال: فَحْلٌ مِنْ خُيُولِ الْعَرَبِ يُنْسَب إِليه؛ قَالَ حَمْزَةُ عَمُّ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَيْسَ عِنْدِي إِلّا سِلاحٌ وَوَرْدٌ ***قارِحٌ مِنْ بَنات ذِي العُقَّالِ
أَتَّقِي دُونَهُ المَنايا بنَفْسِي، ***وهْوَ دُوني يَغْشى صُدُورَ العَوالي
قَالَ: وَذُو العُقَّال هُوَ ابْنُ أَعْوَج لصُلْبه ابْنِ الدِّيناريِّ بْنِ الهُجَيسِيِّ بْنِ زَادِ الرَّكْب، قَالَ جَرِيرٌ:
إِنَّ الجِياد يَبِتْنَ حَوْلَ قِبابِنا ***مِنْ نَسْلِ أَعْوَجَ، أَو لِذِي العُقَّال
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسٌ يُسمَّى ذَا العُقَّال»؛ قَالَ: العُقَّال، بِالتَّشْدِيدِ، دَاءٌ فِي رِجْل الدَّوَابِّ، وَقَدْ يُخَفَّفُ، سُمِّيَ بِهِ لِدَفْعِ عَيْنِ السُّوءِ عَنْهُ؛ وَفِي الصِّحَاحِ: وَذُو عُقَّال اسْمُ فَرَسٍ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَالصَّحِيحُ ذُو العُقَّال بِلَامِ التَّعْرِيفِ.
والعَقِيلة مِنَ النِّسَاءِ: الكَريمةُ المُخَدَّرة، وَاسْتَعَارَهُ ابْنُ مُقْبِل للبَقَرة فَقَالَ:
عَقيلة رَمْلٍ دافَعَتْ فِي حُقُوفِه ***رَخاخَ الثَّرى، والأُقحُوان المُدَيَّما
وعَقِيلَةُ القومِ: سَيِّدُهم.
وعَقِيلة كُلِّ شَيْءٍ: أَكْرَمُه.
وَفِي حَدِيثِ عليٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الْمُخْتَصُّ بعَقائل كَراماتِه»؛ جَمْعُ عَقِيلة، وَهِيَ فِي الأَصل المرأَة الْكَرِيمَةُ النَّفِيسَةُ ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي الْكَرِيمِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْمَعَانِي، وَمِنْهُ عَقائل الْكَلَامِ.
وعَقائل الْبَحْرِ.
دُرَرُه، وَاحِدَتُهُ عَقِيلة.
والدُّرَّة الكبيرةُ الصافيةُ: عَقِيلةُ الْبَحْرِ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: العَقِيلة الدُّرَّة فِي صَدَفتها.
وعَقائِلُ الإِنسان: كرائمُ مَالِهِ.
قَالَ الأَزهري: العَقيلة الكَريمة مِنَ النِّسَاءِ والإِبل وَغَيْرِهِمَا، وَالْجَمْعُ العَقائِلُ.
وعاقُولُ الْبَحْرِ: مُعْظَمُه، وَقِيلَ: مَوْجه.
وعَوَاقِيلُ الأَودِية: دَراقِيعُها فِي مَعاطِفها، وَاحِدُهَا عاقُولٌ.
وعَوَاقِيلُ الأُمور: مَا التَبَس مِنْهَا.
وعاقُولُ النَّهر وَالْوَادِي وَالرَّمْلِ: مَا اعوَجَّ مِنْهُ؛ وكلُّ مَعطِفِ وادٍ عَاقُولٌ، وَهُوَ أَيضًا مَا التَبَسَ مِنَ الأُمور.
وأَرضٌ عَاقُولٌ: لَا يُهْتَدى لَهَا.
والعَقَنْقَل: مَا ارْتَكَم مِنَ الرَّمل وتعَقَّل بعضُه بِبَعْضٍ، ويُجْمَع عَقَنْقَلاتٍ وعَقَاقِل، وَقِيلَ: هُوَ الحَبل، مِنْهُ، فِيهِ حِقَفةٌ وجِرَفةٌ وتعَقُّدٌ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مِنْ التَّعْقِيل، فَهُوَ عِنْدَهُ ثُلَاثِيٌّ.
والعَقَنْقَل أَيضًا، مِنَ الأَودية: مَا عَظُم واتسَع؛ قَالَ:
إِذا تَلَقَّتْه الدِّهاسُ خَطْرَفا، ***وإِنْ تلَقَّته العَقاقِيلُ طَفا
والعَقنْقَلُ: الْكَثِيبُ الْعَظِيمُ المتداخِلُ الرَّمْل، وَالْجَمْعُ "عَقاقِل، قَالَ: وَرُبَّمَا سَمَّوْا مصارِينَ الضَّبِّ عَقَنْقَلًا؛ وعَقنْقَلُ الضَّبِّ: قانِصَتُه، وَقِيلَ: كُشْيَته فِي بَطْنِهِ.
وَفِي الْمَثَلِ: أَطعِمْ أَخاك مِنْ عقَنْقَل الضبِّ؛ يُضْرب هَذَا عِنْدَ حَثِّك الرجلَ عَلَى الْمُوَاسَاةِ، وَقِيلَ: إِن هَذَا مَوْضوع عَلَى الهُزْءِ.
والعَقْلُ: ضَرْبٌ مِنَ المَشط، يُقَالُ: عَقَلَتِ المرأَةُ شَعرَها عَقْلًا؛ وَقَالَ:
أَنَخْنَ القُرونَ فعَقَّلْنَها، ***كعَقْلِ العَسِيفِ غَرابيبَ مِيلا
والقُرونُ: خُصَل الشَّعَر.
والماشِطةُ يُقَالُ لَهَا: العاقِلة.
والعَقْل: ضرْب مِنَ الوَشْي، وَفِي الْمُحْكَمِ: مِنَ الوَشْيِ الأَحمر، وَقِيلَ: هُوَ ثَوْبٌ أَحمر يُجَلَّل بِهِ الهوْدَج؛ قَالَ عَلْقَمَةُ:
عَقْلًا ورَقْمًا تَكادُ الطيرُ تَخْطَفُه، ***كأَنه مِنْ دَمِ الأَجوافِ مَدْمومُ
وَيُقَالُ: هُمَا ضَرْبَانِ مِنَ البُرود.
وعَقَلَ الرجلَ يَعْقِله عَقْلًا واعْتَقَلَه: صَرَعه الشَّغْزَبِيَّةَ، وَهُوَ أَن يَلْوي رِجله عَلَى رِجْلِهِ.
وَلِفُلَانٍ عُقْلةٌ يَعْقِلُ بِهَا النَّاسَ.
يَعْنِي أَنه إِذا صارَعهم عَقَلَ أَرْجُلَهم، وَهُوَ الشَّغْزَبيَّة والاعْتِقال.
وَيُقَالُ أَيضًا: بِهِ عُقْلةٌ مِنَ السِّحر، وَقَدْ عُمِلَت لَهُ نُشْرة.
والعِقالُ: زَكاةُ عامٍ مِنَ الإِبل وَالْغَنَمِ؛ وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ: «أَنه اسْتَعْمَلَ ابْنَ أَخيه عَمرو بْنِ عُتْبة بْنِ أَبي سُفْيَانَ عَلَى صَدَقاتِ كلْب فاعتَدى عَلَيْهِمْ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ العَدَّاء الْكَلْبِيُّ:
سَعَى عِقالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا، ***فكَيفَ لوْ قَدْ سَعى عَمرٌو عِقالَينِ؟
لأَصْبَحَ الحيُّ أَوْبادًا، وَلَمْ يَجِدُوا، ***عِندَ التَّفَرُّقِ فِي الهَيْجا، جِمالَينِ»
قَالَ ابْنُ الأَثير: نصَب عِقالًا عَلَى الظَّرْفِ؛ أَراد مُدَّةَ عِقال.
وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِينَ امْتَنَعَتِ العربُ عَنْ أَداء الزَّكَاةِ إِليه: «لَوْ مَنَعوني عِقالًا كَانُوا يُؤَدُّونه إِلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتَلْتُهم عَلَيْهِ»؛ قَالَ الْكِسَائِيُّ: العِقالُ صَدَقة عامٍ؛ يُقَالُ: أُخِذَ مِنْهُمْ عِقالُ هَذَا الْعَامِ إِذا أُخِذَت مِنْهُمْ صدقتُه؛ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَراد أَبو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بالعِقال الحَبل الَّذِي كَانَ يُعْقَل بِهِ الفَرِيضة الَّتِي كَانَتْ تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ إِذا قَبَضَهَا المُصَدِّق، وَذَلِكَ أَنه كَانَ عَلَى صَاحِبِ الإِبل أَن يُؤَدِّيَ مَعَ كُلِّ فَرِيضَةٍ عِقالًا تُعْقَل بِهِ، ورِواءً؛ أي حَبْلًا، وَقِيلَ: أَراد مَا يُسَاوِي عِقالًا مِنْ حُقُوقِ الصَّدَقَةِ، وَقِيلَ: إِذا أَخذ المصَدِّقُ أَعيانَ الإِبل قِيلَ أَخَذ عِقالًا، وإِذا أَخذ أَثمانها قِيلَ أَخَذ نَقْدًا، وَقِيلَ: أَراد بالعِقال صدَقة الْعَامِ؛ يُقَالُ: بُعِثَ فُلَانٌ عَلَى عِقال بَنِي فُلَانٍ إِذا بُعِث عَلَى صَدَقاتهم، وَاخْتَارَهُ أَبو عُبَيْدٍ وَقَالَ: هُوَ أَشبه عِنْدِي، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنما يُضْرَب المثَل فِي مِثْل هَذَا بالأَقلِّ لَا بالأَكثر، وَلَيْسَ بسائرٍ فِي لِسَانِهِمْ أَنَّ العِقالَ صَدَقَةُ عَامٍ، وَفِي أَكثر الرِّوَايَاتِ: " لَوْ مَنَعوني عَناقًا، وَفِي أُخرى: جَدْيًا "؛ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَمِنَ الأَول حديثُ" عُمَرَ أَنه كَانَ يأْخذ مَعَ كُلِّ فَرِيضَةٍ عِقالًا ورِواءً، فإِذا جَاءَتْ إِلى الْمَدِينَةِ بَاعَهَا ثمَّ تصَدَّق بِهَا، وحديثُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسلمة: أَنه كَانَ يَعمَل عَلَى الصَّدَقَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يأْمر الرَّجُلَ إِذا جَاءَ بِفَرِيضَتَيْنِ أَن يأْتي بعِقالَيهما وقِرانيهما، وَمِنَ الثَّانِي حديثُ عُمَرَ أَنه أَخَّر الصدقةَ عَامَ الرَّمادة، فَلَمَّا أَحْيا الناسُ بَعَثَ عَامِلَهُ فَقَالَ: اعْقِلْ عَنْهُمْ عِقالَين، فاقسِمْ فِيهِمْ عِقالًا، وأْتِني بِالْآخَرِ "؛ يُرِيدُ صَدَقَةَ عامَين.
وَعَلَى بَنِي فُلَانٍ عِقالانِ أَي صدقةُ سَنَتَيْنِ.
وعَقَلَ المصَدِّقُ الصدقةَإِذا قَبَضها، ويُكْرَه أَن تُشترى الصدقةُ حَتَّى يَعْقِلها السَّاعِي؛ يُقَالُ: لَا تَشْتَرِ الصَّدَقَةَ حَتَّى يَعْقِلها المصدِّق أَي يَقبِضَها.
والعِقالُ: القَلوص الفَتِيَّة.
وعَقَلَ إِليه يَعْقِلُ عَقْلًا وعُقولًا: لجأَ.
وَفِي حَدِيثِ ظَبْيان: «إِنَّ مُلوك حِمْيَر مَلَكوا مَعاقِلَ الأَرض وقَرارها»؛ المَعاقِلُ: الحُصون، وَاحِدُهَا مَعْقِلٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «ليَعْقِلَنَّ الدِّينُ مِنَ الْحِجَازِ مَعْقِلَ الأُرْوِيَّة مِنْ رأْس الْجَبَلِ»أَي ليَتحَصَّن ويَعتَصِم ويَلتَجئُ إِليه كَمَا يَلْتجئ الوَعِلُ إِلى رأْس الْجَبَلِ.
والعَقْلُ: الملجأُ.
والعَقْلُ: الحِصْن، وَجَمْعُهُ عُقول؛ قَالَ أُحَيحة:
وَقَدْ أَعْدَدْت للحِدْثانِ عَقْلًا، ***لوَ انَّ المرءَ يَنْفَعُهُ العُقولُ
وَهُوَ المَعْقِلُ؛ قَالَ الأَزهري: أُراه أَراد بالعُقول التَّحَصُّنَ فِي الْجَبَلِ؛ يُقَالُ: وَعِلٌ عاقِلٌ إِذا تَحَصَّن بوَزَرِه عَنِ الصَّيَّاد؛ قَالَ: وَلَمْ أَسمع العَقْلَ بِمَعْنَى المَعْقِل لِغَيْرِ اللَّيْثِ.
وَفُلَانٌ مَعْقِلٌ لِقَوْمِهِ أَي مَلجأ عَلَى الْمَثَلِ؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:
لَقَدْ عَلِمَ القومُ أَنَّا لَهُمْ ***إِزاءٌ، وأَنَّا لَهُمْ مَعْقِلُ
وعَقَلَ الوَعِلُ أَي امْتَنَعَ فِي الْجَبَلِ الْعَالِي يَعْقِلُ عُقولًا، وَبِهِ سُمِّي الْوَعْلُ عاقِلًا عَلَى حَدِّ التَّسْمِيَةِ بِالصِّفَةِ.
وعَقَلَ الظَّبْيُ يَعْقِلُ عَقلًا وعُقولًا: صَعَّد وَامْتَنَعَ، وَمِنْهُ المَعْقِل وَهُوَ المَلْجأ، وَبِهِ سُمِّي الرجُل.
ومَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ: مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ مِنْ مُزَيْنةِ مُضَر يُنْسَبُ إِليه نهرٌ بِالْبَصْرَةِ، والرُّطَب المَعْقِليّ.
وأَما مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَيضًا، فَهُوَ مِنْ أَشْجَع.
وعَقَلَ الظِّلُّ يَعْقِل إِذا قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرة.
وأَعْقَلَ القومُ: عَقَلَ بِهِمُ الظِّلُّ أَي لَجأَ وقَلَص عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ.
وعَقَاقِيلُ الكَرْمِ: مَا غُرِسَ مِنْهُ؛ أَنشد ثَعْلَبٌ:
نَجُذُّ رِقابَ الأَوْسِ مِنْ كلِّ جَانِبٍ، ***كَجَذِّ عَقَاقِيل الكُرُوم خَبِيرُها
وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا وَاحِدًا.
وَفِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ: «ثُمَّ يأْتي الخِصب فيُعَقِّل الكَرْمُ»؛ يُعَقِّلُ الكَرْمُ مَعْنَاهُ يُخْرِجُ العُقَّيْلى، وَهُوَ الحِصْرِم، ثُمَّ يُمَجِّج؛ أي يَطِيب طَعْمُه.
وعُقَّال الكَلإِ: ثلاثُ بَقَلات يَبْقَيْنَ بَعْدَ انصِرَامه، وهُنَّ السَّعْدَانة والحُلَّب والقُطْبَة.
وعِقَالٌ وعَقِيلٌ وعُقَيلٌ: أَسماء.
وعاقِلٌ: جَبل؛ وثنَّاه الشاعرُ لِلضَّرُورَةِ فَقَالَ:
يَجْعَلْنَ مَدْفَعَ عاقِلَينِ أَيامِنًا، ***وجَعَلْنَ أَمْعَزَ رامَتَينِ شِمَالا
قَالَ الأَزهري: وعاقِلٌ اسْمُ جَبَلٍ بِعَيْنِهِ؛ وَهُوَ فِي شِعْرِ زُهَيْرٍ فِي قَوْلِهِ:
لِمَنْ طَلَلٌ كالوَحْيِ عافٍ مَنازِلُه، ***عَفَا الرَّسُّ مِنْهُ فالرُّسَيْسُ فَعَاقِلُه؟
وعُقَيْلٌ، مُصَغَّرٌ: قَبِيلَةٌ.
ومَعْقُلةُ.
خَبْراء بالدَّهْناء تُمْسِكُ الْمَاءَ؛ حَكَاهُ الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبي زَيْدٍ؛ قَالَ الأَزهري: وَقَدْ رأَيتها وَفِيهَا حَوَايا كَثِيرَةٌ تُمْسِك مَاءَ السَّمَاءِ دَهْرًا طَوِيلًا، وإِنما سُمِّيت مَعْقُلَة لأَنها تُمْسِك الْمَاءَ كَمَا يَعْقِل الدواءُ البَطْنَ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
حُزَاوِيَّةٍ، أَو عَوْهَجٍ مَعْقُلِيّةٍ ***تَرُودُ بأَعْطافِ الرِّمالِ الحَرائر
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَوْلُهُمْ مَا أَعْقِلُه عَنْكَ شَيْئًا أَي دَعْ عَنْكَ الشَّكَّ، وَهَذَا حَرْفٌ رَوَاهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الِابْتِدَاءِ يُضْمَر فِيهِ مَا بُنِيَ عَلَى الِابْتِدَاءِ كأَنه قَالَ: مَا أَعلمُ شَيْئًا مِمَّا تَقُولُ فدَعْ عَنْكَ الشَّكَّ، وَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا عَلَى صِحَّةِ الإِضمار فِي كَلَامِهِمْ لِلِاخْتِصَارِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: خُذْ عَنْك وسِرْ عَنْك؛ وَقَالَ بَكْرٌ الْمَازِنِيُّ: سأَلت أَبا زَيْدٍ والأَصمعي وأَبا مَالِكٍ والأَخفش عَنْ هَذَا الْحَرْفِ فَقَالُوا جَمِيعًا: مَا نَدْرِي مَا هُوَ، وَقَالَ الأَخفش: أَنا مُنْذُ خُلِقْتُ أَسأَل عَنْ هَذَا، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ بَرِّيٍّ الَّذِي رَوَاهُ سِيبَوَيْهِ: مَا أَغْفَلَه عَنْكَ، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ، والقاف تصحيف.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
53-لسان العرب (حيا)
حيا: الحَيَاةُ: نَقِيضُ الْمَوْتِ، كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ لِيُعْلَمَ أَن الْوَاوَ بَعْدَ الْيَاءِ فِي حَدِّ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: عَلَى تَفْخِيمِ الأَلف، وَحَكَى ابْنُ جِنِّي عَنْ قُطْرُب: أَن أَهل الْيَمَنِ يَقُولُونَ الحَيَوْةُ، بِوَاوٍ قَبْلَهَا فَتْحَةٌ، فَهَذِهِ الْوَاوُ بَدَلٌ مِنَ أَلف حياةٍ وَلَيْسَتْ بِلَامِ الْفِعْلِ مِنْ حَيِوْتُ، أَلا تَرَى أَن لَامَ الْفِعْلِ يَاءٌ؟ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ أَهل الْيَمَنِ بِكُلِّ أَلف مُنْقَلِبَةٍ عَنْ وَاوٍ كَالصِّلْوَةِ وَالزِّكْوَةِ.حَيِيَ حَياةً.
وحَيَّ يَحْيَا ويَحَيُّ فَهُوَ حَيٌّ، وَلِلْجَمِيعِ حَيُّوا، بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ: ولغة أُخرى حَيَّ وَلِلْجَمِيعِ حَيُوا، خَفِيفَةٌ.
وقرأَ أَهل الْمَدِينَةِ: ويَحْيَا مَنْ حَيِيَ عَنْ بيِّنة، وَغَيْرُهُمْ: مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ "؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: كتابتُها عَلَى الإِدغام بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَكثر قِرَاءَاتِ الْقُرَّاءِ، وقرأَ بَعْضُهُمْ: حَيِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ، بِإِظْهَارِهَا؛ قَالَ: وَإِنَّمَا أَدغموا الْيَاءَ مَعَ الْيَاءِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يَفْعَلُوا لأَن الْيَاءَ الأَخيرة لَزِمَهَا النَّصْبُ فِي فِعْلٍ، فأُدغم لمَّا التَقى حَرْفَانِ مُتَحَرِّكَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، قَالَ: وَيَجُوزُ الإِدغام فِي الِاثْنَيْنِ لِلْحَرَكَةِ اللَّازِمَةِ لِلْيَاءِ الأَخيرة فَتَقُولُ حَيّا وحَيِيَا، وَيَنْبَغِي لِلْجَمْعِ أَن لَا يُدْغَم إِلَّا بِيَاءٍ لأَن يَاءَهَا يُصِيبُهَا الرَّفْعُ وَمَا قَبْلَهَا مَكْسُورٌ، فَيَنْبَغِي لَهَا أَن تُسَكَّنَ فَتَسْقُطَ بِوَاوِ الجِماعِ، وَرُبَّمَا أَظهرت الْعَرَبُ الإِدغام فِي الْجَمْعِ إرادةَ تأْليفِ الأَفَعال وأَن تَكُونَ كُلُّهَا مُشَدَّدَةً، فَقَالُوا فِي حَيِيتُ حَيُّوا، وَفِي عَيِيتُ عَيُّوا؛ قَالَ: وأَنشدني بَعْضُهُمْ:
يَحِدْنَ بِنَا عَنْ كلِّ حَيٍّ، كأَنَّنا ***أَخارِيسُ عَيُّوا بالسَّلامِ وَبِالْكُتُبِ
قَالَ: وأَجمعت الْعَرَبُ عَلَى إِدْغَامِ التَّحِيَّة لِحَرَكَةِ الْيَاءِ الأَخيرة، كَمَا اسْتَحَبُّوا إِدْغَامَ حَيَّ وعَيَّ لِلْحَرَكَةِ اللَّازِمَةِ فِيهَا، فأَما إِذَا سَكَنَتِ الْيَاءُ الأَخيرة فَلَا يَجُوزُ الإِدغام مِثْلُ يُحْيِي ويُعْيِي، وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ الإِدغام وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ، وأَنكر الْبَصْرِيُّونَ الإِدغام فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يَعْبإ الزَّجَّاجُ بِالْبَيْتِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وكأَنَّها، بينَ النِّسَاءِ، سَبِيكةٌ ***تَمْشِي بسُدّةِ بَيْتِها فتُعيِّي
وأَحْياه اللهُ فَحَيِيَ وحَيَّ أَيضًا، والإِدغام أَكثر لأَن الْحَرَكَةَ لَازِمَةٌ، وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْحَرَكَةُ لَازِمَةً لَمْ تُدْغَمْ كَقَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى.
والمَحْيا: مَفْعَلٌ مِنَ الحَياة.
وَتَقُولُ: مَحْيَايَ ومَماتي، وَالْجَمْعُ المَحايِي.
وَقَوْلُهُ تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً}، قَالَ: نرْزُقُه حَلالًا، وَقِيلَ: الحَيَاة الطَّيِّبَةُ الْجَنَّةُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً هُوَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ فِي الدُّنْيَا، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ إِذَا صَارُوا إِلَى اللَّهِ جَزاهُم أَجرَهُم فِي الْآخِرَةِ بأَحسنِ مَا عَمِلُوا.
والحَيُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: نقيضُ الْمَيِّتِ، وَالْجَمْعُ أَحْيَاء.
والحَيُّ: كُلُّ مُتَكَلِّمٍ نَاطِقٍ.
والحيُّ مِنَ النَّبَاتِ: مَا كَانَ طَرِيًّا يَهْتَزّ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ}؛ فَسَّرَهُ ثَعْلَبٌ فَقَالَ الحَيُّ هُوَ الْمُسْلِمُ وَالْمَيِّتُ هُوَ الْكَافِرُ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: الأَحْيَاءُ الْمُؤْمِنُونَ والأَموات الْكَافِرُونَ، قَالَ: وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ"، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا "؛ أَي مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَكَانَ يَعْقِلُ مَا يُخاطب بِهِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ كَالْمَيِّتِ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ}؛ أَمواتٌ بإضْمار مَكْنِيٍّ أَي لَا تَقُولُوا هُمْ أَمواتٌ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَن يُسَمُّوا مَنْ قُتِل فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَيِّتًا وأَمرهم بأَن يُسَمُّوهم شُهداء فَقَالَ: بَلْ أَحْياءٌ؛ الْمَعْنَى: بَلْ هُمْ أَحياء عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فأَعْلَمنا أَن مَنْ قُتل فِي سَبِيلِهِ حَيٌّ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا بالُنا نَرى جُثّتَه غيرَ مُتَصَرِّفة؟ فَإِنَّ دليلَ ذَلِكَ مثلُ مَا يَرَاهُ الإِنسانُ فِي مَنَامِهِ وجُثّتُه غيرُ مُتَصَرِّفَةٍ عَلَى قَدْرِ مَا يُرى، وَاللَّهُ جَلَّ ثناؤُه قَدْ تَوَفَّى نَفْسَهُ فِي نَوْمِهِ فَقَالَ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها، ويَنْتَبِهُ النائمُ وَقَدْ رَأَى مَا اغْتَمَّ بِهِ فِي نَوْمِهِ فيُدْرِكُه الانْتِباهُ وَهُوَ فِي بَقِيَّةِ ذَلِكَ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَن أَرْواحَ الشُّهداء جَائِزٌ أَن تُفارقَ أَجْسامَهم وَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَحْيَاء، فالأَمْرُ فِيمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يُوجِبُ أَن يُقالَ لَهُ مَيِّتٌ، وَلَكِنْ يُقَالُ هُوَ شَهِيدٌ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَيٌّ، وَقَدْ قِيلَ فِيهَا قَوْلٌ غَيْرُ هَذَا، قَالُوا: مَعْنَى أَموات أَي لَا تَقُولُوا هُمْ أَموات فِي دِينِهِمْ أَي قُولوا بَلْ هُمْ أَحياء فِي دِينِهِمْ، وَقَالَ أَصحاب هَذَا الْقَوْلِ دليلُنا قَوْلُهُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؛ فجَعَلَ المُهْتَدِيَ حَيًّا وأَنه حِينَ كَانَ عَلَى الضَّلالة كَانَ مَيْتًا، وَالْقَوْلُ الأَوَّلُ أَشْبَهُ بالدِّين وأَلْصَقُ بِالتَّفْسِيرِ.
وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: ضُرِبَ ضَرْبةً لَيْسَ بِحايٍ مِنْهَا أَي لَيْسَ يَحْيا مِنْهَا، قَالَ: وَلَا يُقَالُ لَيْسَ بحَيٍّ مِنْهَا إِلَّا أَن يُخْبِرَ أَنه لَيْسَ بحَيٍّ أَي هُوَ مَيِّتٌ، فَإِنْ أَردت أَنه لَا يَحْيا قُلْتَ لَيْسَ بحَايٍ، وَكَذَلِكَ أَخوات هَذَا كَقَوْلِكَ عُدْ فُلانًا فَإِنَّهُ مَرِيضٌ تُريد الحالَ، وَتَقُولُ: لَا تأْكل هَذَا الطعامَ فَإِنَّكَ مارِضٌ أَي أَنك تَمْرَضُ إِنْ أَكلته.
وأَحْياهُ: جَعَله حَيًّا.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى}؛ قَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: عَلَى أَنْ يُحْيِي الْمَوْتَى، أَجْرى النصبَ مُجْرى الرَّفْعِ الَّذِي لَا تَلْزَمُ فِيهِ الْحَرَكَةُ، ومُجْرى الْجَزْمِ الَّذِي يَلْزَمُ فِيهِ الْحَذْفُ.
أَبو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ؛ أَي مَنْفَعة؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَيْسَ لِفُلَانٍ حَيَاةٌ أَي لَيْسَ عِنْدَهُ نَفْع وَلَا خَيْر.
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ لَمْ يُؤمِنُوا بالبَعْثِ والنُّشُور: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ؛ قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: اخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ مُقَدَّم ومُؤَخَّرِ، وَمَعْنَاهُ نَحْيا ونَمُوتُ وَلَا نَحْيا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَاهُ نَحْيَا وَنَمُوتُ وَلَا نَحْيَا أَبدًا وتَحْيا أَوْلادُنا بعدَنا، فَجَعَلُوا حَيَاةَ أَولادهم" بَعْدَهُمْ كَحَيَاتِهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: وَتَمُوتُ أَولادُنا فَلَا نَحْيا وَلَا هُمْ.
وَفِي حَدِيثِ حُنَيْنٍ قَالَ للأَنصار: « المَحْيَا مَحْيَاكُمْ والمَماتُ مَمَاتُكُمْ »؛ المَحْيا: مَفْعَلٌ مِنَ الحَياة وَيَقَعُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}؛ أَراد خَلَقْتنا أَمواتًا ثُمَّ أَحْيَيْتَنا ثُمَّ أَمَتَّنا بعدُ ثُمَّ بَعَثْتَنا بَعْدَ الْمَوْتِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ التَّفْسِيرِ أَنَّ إحْدى الحَياتَين وإحْدى المَيْتَتَيْنِ أَن يَحْيا فِي الْقَبْرِ ثُمَّ يَمُوتَ، فَذَلِكَ أَدَلُّ عَلَى أَحْيَيْتَنا وأَمَتَّنا، والأَول أَكثر فِي التَّفْسِيرِ.
واسْتَحْيَاه: أَبقاهُ حَيًّا.
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: استَحْيَاه استَبقاه وَلَمْ يَقْتُلْهُ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تعالى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ}؛ أَي يَسْتَبْقُونَهُنَّ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً؛ أَي لَا يسْتَبْقي.
التَّهْذِيبُ: وَيُقَالُ حَايَيْتُ النارَ بالنَّفْخِ كَقَوْلِكَ أَحْيَيْتُها؛ قَالَ الأَصمعي: أَنشد بعضُ الْعَرَبِ بيتَ ذِي الرُّمَّةِ:
فقُلْتُ لَهُ: ارْفَعْها إليكَ وحَايِهَا ***برُوحِكَ، واقْتَتْه لَهَا قِيتَةً قَدْرا
وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: حَيَّتِ النَّارُ تَحَيُّ حَيَاة، فَهِيَ حَيَّة، كَمَا تَقُولُ ماتَتْ، فَهِيَ مَيْتَةٌ؛ وَقَوْلُهُ:
وَنَارٌ قُبَيْلَ الصُّبحِ بادَرْتُ قَدْحَها ***حَيَا النارِ، قَدْ أَوْقَدْتُها للمُسافِرِ
أَراد حياةَ النارِ فَحَذَفَ الْهَاءَ؛ وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأَعرابي أَنه أَنشده:
أَلا حَيَّ لِي مِنْ لَيْلَةِ القَبْرِ أَنَّه ***مآبٌ، ولَوْ كُلِّفْتُه، أَنَا آيبُهْ
أَراد: أَلا أَحَدَ يُنْجِيني مِنْ لَيْلَةِ الْقَبْرِ، قَالَ: وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ إِذَا ذَكَرَتْ مَيْتًا كُنَّا سَنَةَ كَذَا وَكَذَا بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا وحَيُّ عمرٍو مَعَنا، يُرِيدُونَ وعمرٌو مَعَنا حيٌّ بِذَلِكَ الْمَكَانِ.
وَيَقُولُونَ: أَتيت فُلَانًا وحَيُّ فلانٍ شاهدٌ وحَيُّ فلانَة شاهدةٌ؛ الْمَعْنَى فُلَانٌ وَفُلَانَةُ إذ ذَاكَ حَيٌّ؛ وأَنشد الْفَرَّاءُ فِي مِثْلِهِ:
أَلا قَبَح الإِلَهُ بَني زِيادٍ، ***وحَيَّ أَبِيهِمُ قَبْحَ الحِمارِ
أَي قَبَحَ اللَّهُ بَني زِيَادٍ وأَباهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: أَتانا حَيُّ فُلانٍ أَي أَتانا فِي حَياتِهِ.
وسَمِعتُ حَيَّ فُلَانٍ يَقُولُ كَذَا أَي سَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي حَيَاتِهِ.
وَقَالَ الكِسائي: يُقَالُ لَا حَيَّ عَنْهُ أَي لَا مَنْعَ مِنْهُ؛ وأَنشد:
ومَنْ يَكُ يَعْيا بالبَيان فإنَّهُ ***أَبُو مَعْقِل، لَا حَيَّ عَنْهُ وَلَا حَدَدْ
قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ لَا يَحُدُّ عَنْهُ شيءٌ، وَرَوَاهُ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بالبَيانِ فإنَّه ***أَبُو مَعْقِل، لَا حَيَّ عَنْهُ وَلَا حَدَدْ
ابْنُ بَرِّيٍّ: وحَيُّ فلانٍ فلانٌ نَفْسُه؛ وأَنشد أَبو الْحَسَنِ لأَبي الأَسود الدُّؤَلِيِّ:
أَبو بَحْرٍ أَشَدُّ الناسِ مَنًّا ***عَلَيْنَا، بَعدَ حَيِّ أَبي المُغِيرَهْ
أَي بَعْدَ أَبي المُغيرَة.
وَيُقَالُ: قَالَهُ حَيُّ رِياح أَي رِياحٌ.
وحَيِيَ الْقَوْمُ فِي أَنْفُسِهم وأَحْيَوْا فِي دَوابِّهِم وماشِيَتِهم.
الْجَوْهَرِيُّ: أَحْيَا القومُ حَسُنت حالُ مواشِيهمْ، فَإِنْ أَردت أَنفُسَهم قُلْتَ حَيُوا.
وأَرضٌ حَيَّة: مُخْصِبة كَمَا قَالُوا فِي الجَدْبِ مَيِّتَةٌ.
وأَحْيَيْنا الأَرضَ: وَجَدْنَاهَا حيَّة النباتِ غَضَّة.
وأَحْيَا القومُ أَي صَارُوا فِي الحَيا، وَهُوَ الخِصْب.
وأَتَيْت الأَرضَ ف أَحْيَيتها أَي وَجَدْتُهَا خِصْبة.
وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: أُحْيِيَت الأَرض إِذَا اسْتُخْرِجَت.
وَفِي الْحَدِيثِ: « مَنْ أَحْيا مَواتًا فَهو أَحقُّ بِهِ »؛ المَوَات: الأَرض الَّتِي لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا مِلْكُ أَحد، وإحْياؤُها مباشَرَتها بتأْثير شَيْءٍ فِيهَا مِنْ إِحَاطَةٍ أَو زَرْعٍ أَو عِمَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَمْرٍو: قِيلَ سلمانَ أَحْيُوا مَا بَيْنَ العِشاءَيْن أَي اشْغَلُوهُ بِالصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ وَلَا تعطِّلوه فَتَجْعَلُوهُ كَالْمَيِّتِ بعُطْلَته، وَقِيلَ: أَراد لَا تَنَامُوا فِيهِ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لأَن النوم موت واليقطة حَيَاةٌ.
وإحْياءُ اللَّيْلِ: السَّهَرُ فِيهِ بِالْعِبَادَةِ وَتَرْكِ النَّوْمِ، وَمَرْجِعُ الصِّفَةِ إِلَى صَاحِبِ اللَّيْلِ؛ وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:
فأَتَتْ بِهِ حُوشَ الفُؤادِ مُبَطَّنًا ***سُهُدًا، إِذَا مَا نَامَ لَيْلُ الهَوْجَلِ
أَي نَامَ فِيهِ، وَيُرِيدُ بِالْعِشَاءَيْنِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فَغَلَبَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّة »أَي صَافِيَةُ اللَّوْنِ لَمْ يَدْخُلْهَا التَّغْيِيرُ بدُنُوِّ المَغِيب، كَأَنَّهُ جَعَلَ مَغِيبَها لَها مَوْتًا وأَراد تَقْدِيمَ وَقْتِهَا.
وطَريقٌ حَيٌّ: بَيِّنٌ، وَالْجَمْعُ أَحْياء؛ قَالَ الْحُطَيْئَةُ: " إِذَا مَخَارِمُ أَحْياءٍ عَرَضْنَ لَه "وَيُرْوَى: أَحيانًا عَرَضْنَ لَهُ.
وحَيِيَ الطريقُ: استَبَان، يُقَالُ: إِذَا حَيِيَ لَكَ الطريقُ فخُذْ يَمْنَةً.
وأَحْيَت النَّاقَةُ إِذَا حَيِيَ ولَدُها فَهِيَ مُحْيٍ ومُحْيِيَة لَا يَكَادُ يَمُوتُ لَهَا وَلَدٌ.
والحِيُّ، بِكَسْرِ الْحَاءِ: جمعُ الحَياةِ.
وقال ابن سيده: الحِيُّ الحيَاةُ زَعَموا؛ قَالَ الْعَجَّاجُ:
كأنَّها إذِ الحَياةُ حِيُّ، ***وإذْ زَمانُ النَّاسِ دَغْفَلِيُ
وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ}؛ أَي دارُ الحياةِ الدَّائِمَةِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: كَسَرُوا أَوَّل حِيٍّ لِئَلَّا تَتَبَدَّلَ الْيَاءُ وَاوًا كَمَا قَالُوا بِيضٌ وعِينٌ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الحَياةُ والحَيَوان والحِيِّ مَصادِر، وَتَكُونُ الحَيَاة صِفَةً كالحِيُّ كالصَّمَيانِ لِلسَّرِيعِ.
التَّهْذِيبِ: وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: « إنَّ الرجلَ لَيُسْأَلُ عَنْ كلِّ شيءٍ حَتَّى عَنْ حَيَّةِ أَهْلِه »؛ قَالَ: مَعْنَاهُ عَنْ كلِّ شيءٍ حَيٍّ فِي مَنْزِلِهِ مثلِ الْهِرِّ وَغَيْرِهِ، فأَنَّث الحَيّ فَقَالَ حَيَّة، ونحوَ ذَلِكَ قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ حَيَّة لأَنه ذَهَبَ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ أَو دَابَّةٍ فأَنث لِذَلِكَ.
أَبو عَمْرٍو: الْعَرَبُ تَقُولُ كَيْفَ أَنت وَكَيْفَ حَيَّةُ أَهْلِكَ أَي كَيْفَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَيًّا؛ قَالَ مَالِكُ بن الحرث الْكَاهِلِيُّ:
فَلَا يَنْجُو نَجَاتِي ثَمَّ حَيٌّ، ***مِنَ الحَيَواتِ، لَيْسَ لَهُ جَنَاحُ
أَي كُلُّ مَا هُوَ حَيٌّ فَجَمْعُهُ حَيَوات، وتُجْمع الحَيَّةُ حَيَواتٍ.
والحَيَوانُ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حيٍّ، وَسَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْآخِرَةَ حَيَوانًا فَقَالَ: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ "؛ قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْحَيَاةُ.
الأَزهري: الْمَعْنَى أَن مَنْ صَارَ إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَمُتْ وَدَامَ حَيًّا فِيهَا لَا يَمُوتُ، فَمَنْ أُدخل الْجَنَّةَ حَيِيَ فِيهَا حَيَاةً طَيِّبَةً، وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَإِنَّهُ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى، كَمَا قَالَ تَعَالَى.
وكلُّ ذِي رُوح حَيَوان، وَالْجَمْعُ وَالْوَاحِدُ فِيهِ سَوَاءٌ.
قَالَ: والحَيَوان عينٌ فِي الجَنَّة، وَقَالَ: الحَيَوان مَاءٌ فِي الْجَنَّةِ لَا يُصِيبُ شَيْئًا إلا حَيِيَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ: « يُصَبُّ عَلَيْهِ ماءُ الحَيَا »؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَالْمَشْهُورُ: " يُصَبُّ عَلَيْهِ ماءُ الحَيَاةِ.
ابْنُ سِيدَهْ: والحَيَوان أَيضًا جِنْسُ الحَيِّ، وأَصْلُهُ حَيَيانٌ فَقُلِبَتِ الْيَاءُ الَّتِي هِيَ لَامٌ وَاوًا، اسْتِكْرَاهًا لِتَوَالِي الْيَاءَيْنِ لِتَخْتَلِفَ الْحَرَكَاتُ؛ هَذَا مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَذَهَبَ أَبو عُثْمَانَإِلَى أَن الْحَيَوَانَ غَيْرُ مُبْدَلِ الْوَاوِ، وأَن الْوَاوَ فِيهِ أَصل وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِعْلٌ، وَشَبَّهَ هَذَا بِقَوْلِهِمْ فَاظَ المَيّت يَفِيظُ فَيْظًا وفَوْظًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا مِنْ فَوْظٍ فِعْلًا، كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ عِنْدَهُ مَصْدَرٌ لَمْ يُشْتَقّ مِنْهُ فِعْلٌ.
قَالَ أَبو عَلِيٍّ: هَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ مِنْ أَبي عُثْمَانَ مِنْ قِبَل أَنه لَا يَمْتَنِعُ أَن يَكُونَ فِي الْكَلَامِ مَصْدَرٌ عَيْنُهُ وَاوٌ وَفَاؤُهُ وَلَامُهُ صَحِيحَانِ مِثْلُ فَوْظٍ وصَوْغٍ وقَوْل ومَوْت وأَشباه ذَلِكَ، فأَما أَن يُوجَدَ فِي الْكَلَامِ كَلِمَةٌ عَيْنُهَا يَاءٌ وَلَامُهَا وَاوٌ فَلَا، فحَمْلُه الحيوانَ عَلَى فَوْظٍ خطأٌ، لأَنه شَبَّهَ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ مُطَّرِدٌ؛ قَالَ أَبو عَلِيٍّ: وكأَنهم اسْتَجَازُوا قَلْبَ الْيَاءِ وَاوًا لِغَيْرِ عِلَّةٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ أَثقل مِنَ الْيَاءِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا لِلْوَاوِ مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِ الْيَاءِ وَغَلَبَتِهَا عَلَيْهَا.
وحَيْوَة، بِسُكُونِ الْيَاءِ: اسمُ رجلٍ، قُلِبَتِ الْيَاءُ وَاوًا فِيهِ لضَرْبٍ مِنَ التوَسُّع وَكَرَاهَةً لِتَضْعِيفِ الْيَاءِ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ كَرِهُوا تَضْعِيفَ الْيَاءِ مَعَ الْفَصْلِ حَتَّى دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى التَّغْيِيرِ فِي حاحَيْت وهَاهَيْتُ، كَانَ إِبْدَالُ اللَّامِ فِي حَيْوةٍ لِيَخْتَلِفَ الْحَرْفَانِ أَحْرَى، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أنَّه عَلَم، والأَعلام قَدْ يَعْرِضُ فِيهَا مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا نَحْوُ مَوْرَقٍ ومَوْهَبٍ ومَوْظَبٍ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: حَيْوَة اسْمُ رَجُلٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُدْغَمْ كَمَا أُدغم هَيِّنٌ ومَيّت لأَنه اسْمٌ مَوْضُوعٌ لَا عَلَى وَجْهِ الْفِعْلِ.
وحَيَوانٌ: اسْمٌ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي حَيْوَةَ.
والمُحَايَاةُ: الغِذاء لِلصَّبِيِّ بِمَا بِهِ حَيَاته، وَفِي الْمُحْكَمِ: المُحَايَاةُ الغِذاء للصبيِّ لأَنّ حَياته بِهِ.
والحَيُّ: الْوَاحِدُ مِنْ أَحْيَاءِ العَربِ.
والحَيُّ: البطن من بطون العرب؛ وَقَوْلُهُ: " وحَيَّ بَكْرٍ طَعَنَّا طَعْنَةً فَجَرى "فَلَيْسَ الحَيُّ هُنَا البطنَ مِنْ بُطُونِ الْعَرَبِ كَمَا ظَنَّهُ قَوْمٌ، وَإِنَّمَا أَراد الشَّخْصَ الْحَيَّ المسمَّى بَكْرًا أَي بَكْرًا طَعَنَّا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ، فحَيٌّ هُنَا مُذَكَّرُ حَيَّةٍ حَتَّى كأَنه قَالَ: وشخصَ بكرٍ الحَيَّ طَعَنَّا، فَهَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمُسَمَّى إِلَى نَفْسِهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنُ أَحمر:
أَدْرَكْتَ حَيَّ أَبي حَفْصٍ وَشِيمَتَهُ، ***وقَبْلَ ذاكَ، وعَيْشًا بَعْدَهُ كَلِبَا
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ حَيَّ لَيْلَى لَشَاعِرَةٌ، هُوَ مِنْ ذَلِكَ، يُريدون لَيْلَى، وَالْجَمْعُ أَحْيَاءٌ.
الأَزهري: الحَيُّ مِنْ أَحْيَاء العَرب يَقَعُ عَلَى بَني أَبٍ كَثُروا أَم قَلُّوا، وَعَلَى شَعْبٍ يجمَعُ القبائلَ؛ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَاتَل اللهُ قيسَ عَيْلانَ حَيًّا، ***مَا لَهُمْ دُونَ غَدْرَةٍ مِنْ حِجابِ
وَقَوْلُهُ:
فتُشْبِعُ مَجْلِسَ الحَيَّيْنِ لَحْمًا، ***وتُلْقي للإِماء مِنَ الوَزِيمِ
يَعْنِي بالحَيَّينِ حَيَّ الرجلِ وحَيَّ المرأَة، والوَزِيمُ العَضَلُ.
والحَيَا، مَقْصُورٌ: الخِصْبُ، وَالْجَمْعُ أَحْيَاء.
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: الحَيَا، مقصورٌ، المَطَر وَإِذَا ثَنَّيْتَ قُلْتَ حَيَيان، فتُبَيِّن الياءَ لأَن الْحَرَكَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ.
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ مرَّةً: حَيَّاهم اللَّهُ بِحَيًا، مَقْصُورٌ، أَي أَغاثهم، وَقَدْ جَاءَ الحَيَا الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ وَالْخِصْبُ مَمْدُودًا.
وحَيَا الربيعِ: مَا تَحْيا بِهِ الأَرض مِنَ الغَيْث.
وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ: « اللَّهُمَّ اسْقِنا غَيْثًا مُغيثًا وَحَيًا رَبيعًا »؛ الحَيَا، مَقْصُورٌ: المَطَر لإِحْيائه الأَرضَ، وَقِيلَ: الخِصْبُ وَمَا تَحْيا بِهِ الأَرضُ وَالنَّاسُ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه: « لَا آكلُ السَّمِينَ حَتَّى يَحْيا الناسُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَحْيَوْنَ» أَي حَتَّى يُمْطَروا ويُخْصِبُوا فَإِنَّ المَطَر سَبَبُ الخِصْب، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مِنَ الْحَيَاةِ لأَن الْخِصْبَ سَبَبُ الْحَيَاةِ.
وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنه قَالَ: كَانَ عليٌّ أَميرُ الْمُؤْمِنِينَ يُشْبِهُ القَمَر الباهِرَ والأَسَدَ الخادِرَ والفُراتَ الزَّاخِرَ والرَّبيعَ الباكِرَ، أَشْبَهَ مِنَ القَمر ضَوْءَهُ وبَهاءَهُ ومِنَ الأَسَدِ شَجاعَتَهُ ومَضاءَهُ وَمِنَ الفُراتِ جُودَه وسَخاءَهُ وَمِنَ الرَّبيعِ خِصْبَه وحَياءَه.
أَبو زَيْدٍ: تَقُولُ أَحْيَا القومُ إِذَا مُطِرُوا فأَصابَت دَوابُّهُم العُشْبَ حَتَّى سَمِنَتْ، وَإِنْ أَرادوا أَنفُسَهم قَالُوا حَيُوا بعدَ الهُزال.
وأَحْيا اللَّهُ الأَرضَ: أَخرج فِيهَا النَّبَاتَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَحْياها مِنَ الحَياة كأَنها كَانَتْ مَيْتَةً بالمحْل فأَحْياها بِالْغَيْثِ.
والتَّحِيَّة: السَّلَامُ، وَقَدْ حَيَّاهُ تحِيَّةً، وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: حَيَّاك اللهُ تَحِيَّةَ المؤمِن.
والتَّحِيَّة: البقاءُ.
والتَّحِيَّة: المُلْك؛ وَقَوْلُ زُهَيْر بْنُ جَنابٍ الكَلْبي:
ولَكُلُّ مَا نَال الْفَتَى ***قَدْ نِلْتُه إِلَّا التَّحِيَّهْ
قِيلَ: أَراد المُلْك، وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: أَراد البَقاءَ لأَنه كَانَ مَلِكًا فِي قَوْمِهِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: زهيرٌ هَذَا هُوَ سَيِّدُ كَلْبٍ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْغَارَاتِ وعُمِّرَ عُمْرًا طَوِيلًا، وَهُوَ الْقَائِلُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ:
أبَنِيَّ، إنْ أَهْلِكْ فإنِّي ***قَدْ بَنَيْتُ لَكُمْ بَنِيَّهْ
وتَرَكْتُكُمْ أَولادَ ساداتٍ، ***زِنادُكُمُ وَرِيَّهْ
ولَكُلُّ مَا نالَ الفَتى ***قَدْ نِلْتُه، إِلَّا التَّحِيَّهْ
قَالَ: وَالْمَعْرُوفُ بالتَّحِيَّة هُنَا إِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْبَقَاءِ لَا بِمَعْنَى الْمُلْكِ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: تَحِيَّة تَفْعِلَة، وَالْهَاءُ لَازِمَةٌ، وَالْمُضَاعَفُ مِنَ الْيَاءِ قَلِيلٌ لأَن الْيَاءَ قَدْ تَثْقُلُ وَحْدَهَا لَامًا، فَإِذَا كَانَ قَبْلَهَا ياءٌ كَانَ أَثقل لَهَا.
قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: والتَّحِيَّةُ فِي غَيْرِ هَذَا السلامُ.
الأَزهري: قَالَ اللَّيْثُ فِي قَوْلِهِمْ فِي الْحَدِيثِ التَّحِيَّات لِلَّهِ "، قَالَ: مَعْنَاهُ البَقاءُ لِلَّهِ، وَيُقَالُ: المُلْك لِلَّهِ، وَقِيلَ: أَراد بِهَا السَّلَامَ.
يُقَالُ: حَيَّاك اللَّهُ أَي سلَّم عَلَيْكَ.
والتَّحِيَّة: تَفْعِلَةٌ مِنَ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا أُدغمت لِاجْتِمَاعِ الأَمثال، وَالْهَاءُ لَازِمَةٌ لَهَا وَالتَّاءُ زَائِدَةٌ.
وَقَوْلُهُمْ: حيَّاكَ اللهُ وبَيَّاكَ اعتَمَدَكَ بالمُلْك، وَقِيلَ: أَضْحَكَكَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَيَّاكَ اللهُ أبْقاكَ اللهُ.
وحَيَّاك اللَّهُ أَي مَلَّكك اللَّهُ.
وحَيَّاك اللَّهُ أَي سلَّم عَلَيْكَ؛ قَالَ: وَقَوْلُنَا فِي التَّشَهُّدِ" التَّحِيَّات لِلَّهِ "يُنْوَى بِهَا البَقاءُ لِلَّهِ والسلامُ مِنَ الآفاتِ والمُلْكُ لِلَّهِ ونحوُ ذَلِكَ.
قَالَ أَبو عَمْرٍو: التَّحِيَّة المُلك؛ وأَنشد قَوْلَ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ:
أَسيرُ بِهِ إِلَى النُّعْمانِ، حتَّى ***أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بجُنْدي
يَعْنِي عَلَى مُلْكِه؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَيُرْوَى أَسِيرُ بِهَا، وَيُرْوَى: أَؤُمُّ بِهَا؛ وَقَبْلَ الْبَيْتِ:
وَكُلِّ مُفاضَةٍ بَيْضاءَ زَغْفٍ، ***وَكُلِّ مُعاوِدِ الغاراتِ جَلْدِ
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ: لَوْ كَانَتِ التَحِيَّة المُلْكَ لَمَا قِيلَ التَّحِيَّات لِلَّهِ، وَالْمَعْنَى السَّلَامَاتُ مِنَ الْآفَاتِ كُلِّهَا، وجَمَعها لأَنه أَراد السَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ؛ وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: إِنَّمَا قِيلَ التَّحِيَّات لِلَّهِ لَا عَلَى الجَمْع لأَنه كَانَ فِي الأَرض مُلُوكٌ يُحَيَّوْنَ بتَحِيّات مُخْتَلِفَةٍ، يقال لبعضهم: أَبَيْتَ اللَّعْنَ، وَلِبَعْضِهِمْ: اسْلَمْ وانْعَمْ وعِشْ أَلْفَ سَنَةٍ، وَلِبَعْضِهِمْ: انْعِمْ صَباحًا، فَقِيلَ لَنَا: قُولوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ أَي الأَلفاظُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمُلْكِ وَالْبَقَاءِ وَيُكَنَّى بِهَا عَنِ الْمُلْكِ فَهِيَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ أَنه يَقُولُ: التَّحِيَّةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِذَا تَلاقَوْا، قَالَ: وتَحِيَّةُ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِمُؤْمِنِي عِبَادِهِ إِذَا تَلاقَوْا ودَعا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بأَجْمَع الدُّعَاءِ أَن يَقُولُوا السلامُ عَلَيْكُمْ ورحمةُ اللَّهِ وبركاتُه.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}.
وَقَالَ فِي تحيَّة الدُّنْيَا: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها "؛ وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: " قَدْ نِلْتُهُ إِلَّا التحيَّة "يُرِيدُ: إِلَّا السَّلَامَةَ مِنَ المَنِيَّة وَالْآفَاتِ فَإِنَّ أَحدًا لَا يَسْلَمُ مِنَ الْمَوْتِ عَلَى طُولِ الْبَقَاءِ، فَجَعَلَ مَعْنَى التَّحِيَّات لِلَّهِ أَي السَّلَامُ لَهُ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ الَّتِي تَلْحَقُ الْعِبَادَ مِنَ الْعَنَاءِ وَسَائِرِ أَسباب الْفَنَاءِ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبو الْهَيْثَمِ حَسَنٌ وَدَلَائِلُهُ وَاضِحَةٌ، غَيْرَ أَن التَّحِيَّة وَإِنْ كَانَتْ فِي الأَصل سَلَامًا، كَمَا قَالَ خَالِدٌ، فَجَائِزٌ أَن يُسَمَّى المُلك فِي الدُّنْيَا تَحِيَّةً كَمَا قَالَ الْفَرَّاءُ وأَبُو عَمْرٍو، لأَن المَلِكَ يُحَيَّا بتَحِيَّةِ المُلْكِ الْمَعْرُوفَةِ لِلْمُلُوكِ الَّتِي يُبَايِنُونَ فِيهَا غَيْرَهُمْ، وَكَانَتْ تحيَّةُ مُلُوك العَجَم نَحْوًا مِنْ تحيَّة مُلوك العَرَب، كَانَ يُقَالُ لِمَلِكهم: زِهْ هَزَارْ سَالْ؛ الْمَعْنَى: عِشْ سَالِمًا أَلْفَ عَامٍ، وَجَائِزٌ أَن يُقَالَ لِلْبَقَاءِ تَحِيَّة لأَنَّ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ فَهُوَ باقٍ، وَالْبَاقِي فِي صِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذَا لأَنه لَا يَمُوتُ أَبدًا، فَمَعْنَى؛ حَيّاك اللَّهُ أَي أَبقاك اللَّهُ، صحيحٌ، مِنَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ الْبَقَاءُ.
يُقَالُ: أَحْيَاه اللَّهُ وحَيّاه بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الشَّيْءَ بِاسْمِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ مَعَهُ أَو مِنْ سَبَبِهِ.
وَسُئِلَ سَلَمة بنُ عاصمٍ عَنْ حَيّاك اللَّهُ فَقَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَحْيَاك اللَّهُ أَي أَبقاك اللَّهُ مِثْلُ كرَّم وأَكرم، قَالَ: وَسُئِلَ أَبو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ عَنْ حَيَّاك اللَّهُ فَقَالَ عَمَّرك اللَّهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَن الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ لِآدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيَّاك اللَّهُ وبَيَّاك »؛ مَعْنَى حَيَّاك اللهُ أَبقاك مِنَ الْحَيَاةِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنِ اسْتِقْبَالِ المُحَيّا، وَهُوَ الوَجْه، وَقِيلَ: ملَّكك وفَرَّحك، وَقِيلَ: سلَّم عَليك، وَهُوَ مِنَ التَّحِيَّة السَّلَامُ، وَالرَّجُلُ مُحَيِّيٌ والمرأَة مُحَيِّيَة، وَكُلُّ اسْمٍ اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثُ ياءَات فيُنْظَر، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مبنيٍّ عَلَى فِعْلٍ حُذِفَتْ مِنْهُ اللَّامُ نَحْوَ عُطَيٍّ فِي تَصْغِيرِ عَطاءٍ وَفِي تَصْغِيرِ أَحْوَى أُحَيٍّ، وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى فِعْلٍ ثَبَتَتْ نَحْوَ مُحَيِّي مِنْ حَيَّا يُحَيِّي.
وحَيَّا الخَمْسين: دَنَا مِنْهَا؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.
والمُحَيّا: جَمَاعَةُ الوَجْهِ، وَقِيلَ: حُرُّهُ، وَهُوَ مِنَ الفرَس حَيْثُ انفرَقَ تحتَ الناصِية فِي أَعلى الجَبْهةِ وَهُنَاكَ دائرةُ المُحَيَّا.
والحياءُ: التوبَة والحِشْمَة، وَقَدْ حَيِيَ مِنْهُ حَيَاءً واستَحْيَا واسْتَحَى، حَذَفُوا الْيَاءَ الأَخيرة كَرَاهِيَةَ الْتِقَاءِ الياءَينِ، والأَخيرتان تَتَعَدَّيانِ بِحَرْفٍ وَبِغَيْرِ حَرْفٍ، يَقُولُونَ: استَحْيَا مِنْكَ واستَحْياكَ، واسْتَحَى مِنْكَ واسْتَحَاك؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: شَاهِدُ الحَيَاء بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ قَوْلُ جَرِيرٍ:
لَوْلَا الحَياءُ لَعَادني اسْتِعْبارُ، ***ولَزُرْتُ قَبرَكِ، والحبيبُ يُزارُ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: الحَياءُ شُعْبةٌ مِنَ الإِيمان "؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ جعَل الحياءَ وَهُوَ غَرِيزةٌ شُعْبةً مِنَ الإِيمان وَهُوَ اكْتِسَابٌ؟ وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ: أَن المُسْتَحي يَنْقَطِعُ بالحَياء عَنِ الْمَعَاصِي، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَقِيَّة، فَصَارَ كالإِيمان الَّذِي يَقْطَعُ عَنْهَا ويَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَهَا؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَإِنَّمَا جُعِلَ الحَيَاء بَعْضَ الإِيمان لأَن الإِيمان يَنْقَسِمُ إِلَى ائْتِمَارٍ بِمَا أَمر اللَّهُ بِهِ وَانْتِهَاءٍ عمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَإِذَا حَصَلَ الِانْتِهَاءُ بِالْحَيَاءِ كَانَ بعضَ الإِيمان؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: « إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فاصْنَع مَا شئتَ »؛ الْمُرَادُ أَنهإِذَا لَمْ يَسْتَحِ صَنَعَ مَا شَاءَ، لأَنه لَا يَكُونُ لَهُ حياءٌ يحْجزُه عَنِ الْمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَلَهُ تأْويلان: أَحدهما ظَاهِرٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ إِذَا لَمْ تَسْتَح مِنَ العَيْب وَلَمْ تَخْشَ العارَ بِمَا تَفْعَلُهُ فَافْعَلْ مَا تُحَدِّثُك بِهِ نفسُك مِنْ أَغراضها حسَنًا كَانَ أَو قَبِيحًا، ولفظُه أَمرٌ وَمَعْنَاهُ تَوْبِيخٌ وَتَهْدِيدٌ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بأَنَّ الَّذِي يردَع الإِنسانَ عَنْ مُواقَعة السُّوء هُوَ الحَياءُ، فَإِذَا انْخَلَعَ مِنْهُ كَانَ كالمأْمور بِارْتِكَابِ كُلِّ ضَلَالَةٍ وَتَعَاطِي كُلِّ سَيِّئَةٍ، وَالثَّانِي أَن يُحْمَلَ الأَمر عَلَى بَابِهِ، يَقُولُ: إِذَا كُنْتَ فِي فِعْلِكَ آمِنًا أَن تَسْتَحيَ مِنْهُ لجَريك فِيهِ عَلَى سَنَن الصَّوَابِ وَلَيْسَ مِنَ الأَفعال الَّتِي يُسْتَحَى مِنْهَا فَاصْنَعْ مِنْهَا مَا شِئْتَ.
ابْنُ سِيدَهْ: " قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِمَّا أَدرَك الناسُ مِنْ كَلَامِ النبوَّة إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فاصْنَعْ مَا شِئْتَ ".
أَي مَنْ لَمْ يَسْتَحِ صَنَعَ مَا شَاءَ عَلَى جِهَةِ الذمِّ لتَرْكِ الحَياء، وَلَيْسَ يأْمره بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَمرٌ بِمَعْنَى الخَبَر، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنه يأْمُرُ بالحَياء ويَحُثُّ عَلَيْهِ ويَعِيبُ تَرْكَه.
وَرَجُلٌ حَيِيٌّ، ذُو حَياءٍ، بِوَزْنِ فَعِيلٍ، والأُنثى بِالْهَاءِ، وامرأَة حَيِيَّة، واسْتَحْيَا الرَّجُلُ واسْتَحْيَت المرأَة؛ وَقَوْلُهُ:
وإنِّي لأَسْتَحْيِي أَخي أَنْ أَرى لَهُ ***عليَّ مِنَ الحَقِّ، الَّذِي لَا يَرَى لِيَا
مَعْنَاهُ: آنَفُ مِنْ ذَلِكَ.
الأَزهري: لِلْعَرَبِ فِي هَذَا الْحَرْفِ لُغَتَانِ: يُقَالُ اسْتَحَى الرَّجُلُ يَسْتَحِي، بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ، واسْتَحْيَا فُلَانٌ يَسْتَحْيِي، بياءَين، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِهَذِهِ اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا}.
وحَيِيتُ مِنْهُ أَحْيا: استَحْيَيْت.
وَتَقُولُ فِي الْجَمْعِ: حَيُوا كَمَا تَقُولُ خَشُوا.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: ذَهَبَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لأَن الْوَاوَ سَاكِنَةٌ وَحَرَكَةَ الْيَاءِ قَدْ زَالَتْ كَمَا زَالَتْ فِي ضَرَبُوا إِلَى الضَّمِّ، وَلَمْ تُحَرَّكِ الْيَاءُ بِالضَّمِّ لِثِقَلِهِ عَلَيْهَا فَحُذِفَتْ وضُمَّت الْيَاءُ الْبَاقِيَةُ لأَجل الْوَاوِ؛ قَالَ أَبو حُزابة الوليدُ بْنُ حَنيفة:
وَكُنَّا حَسِبْناهم فَوارِسَ كَهْمَسٍ ***حَيُوا بعد ما ماتُوا، مِنَ الدهْرِ، أَعْصُرا
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: حَيِيتُ مِنْ بَنَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَيُّوا، بِالتَّشْدِيدِ، تَرَكَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ للإِدغام؛ قَالَ عبيدُ بنُ الأَبْرص:
عَيُّوا بأَمرِهِمُو، كَمَا ***عَيَّتْ ببَيْضَتِها الحَمامَهْ
وَقَالَ غَيْرُهُ: اسْتَحْياه واسْتَحْيا مِنْهُ بِمَعْنًى مِنَ الْحَيَاءِ، وَيُقَالُ: اسْتَحَيْتُ، بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ، وأَصله اسْتَحْيَيْتُ فأَعَلُّوا الْيَاءَ الأُولى وأَلقَوا حَرَكتها عَلَى الْحَاءِ فَقَالُوا اسْتَحَيْتُ، كَمَا قَالُوا اسْتنعت اسْتِثْقَالًا لَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهَا الزوائدُ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: حُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لأَن الْيَاءَ الأُولى تُقْلَبُ أَلفًا لِتَحَرُّكِهَا، قَالَ: وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْثُ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ.
وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: لَمْ تُحْذَفْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لأَنها لَوْ حُذِفَتْ لِذَلِكَ لَرَدُّوهَا إِذَا قَالُوا هُوَ يَسْتَحِي، وَلَقَالُوا يَسْتَحْيي كَمَا قَالُوا يَسْتَنِيعُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَوْلُ أَبي عُثْمَانَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَالَّذِي حَكَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ لَيْسَ هُوَ قَوْلَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ لأَن الْخَلِيلَ يَرَى أَن اسْتَحَيْت أَصله اسْتَحْيَيْت، فأُعل إِعْلَالَ اسْتَنَعْت، وأَصله اسْتَنْيَعْتُ، وَذَلِكَ بأَن تُنْقَلَ حَرَكَةُ الْفَاءِ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَتُقْلَبَ أَلفًا ثُمَّ تُحْذَفَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَيَرَى أَنها حُذِفَتْ تَخْفِيفًا لِاجْتِمَاعِ الْيَاءَيْنِ لَا لإِعلال مُوجِبٍ لِحَذْفِهَا، كَمَا حَذَفْتَ السينَ مِنْ أَحْسَسْت حِينَ قلتَ أَحَسْتُ، ونقلتَ حَرَكَتِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا" تَخْفِيفًا.
وَقَالَ الأَخفش: اسْتَحَى بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَبِيَاءَيْنِ لُغَةُ أَهل الْحِجَازِ، وَهُوَ الأَصل، لأَن مَا كَانَ موضعُ لَامِهِ مُعْتَلًّا لَمْ يُعِلُّوا عَيْنَهُ، أَلا تَرَى أَنهم قَالُوا أَحْيَيْتُ وحَوَيْتُ؟ وَيَقُولُونَ قُلْتُ وبِعْتُ فيُعِلُّون الْعَيْنَ لَمَّا لَمْ تَعْتَلَّ اللامُ، وَإِنَّمَا حَذَفُوا الْيَاءَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ كَمَا قَالُوا لَا أَدْرِ فِي لَا أدْرِي.
وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَحْيَى مِنَ الهَدِيِّ، وأَحْيَى مِنْ كَعابٍ، وأَحْيَى مِنْ مُخَدَّرة وَمِنْ مُخَبَّأَةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الحَياء، مَمْدُودٌ.
وأَما قَوْلُهُمْ أَحْيَى مِنْ ضَبّ، فَمِنَ الحياةِ.
وَفِي حَدِيثِ البُراقِ: « فدنَوْتُ مِنْهُ لأَرْكَبَه فأَنْكَرَني ف تَحَيَّا مِنِّي» أَي انْقَبَض وانْزَوى، وَلَا يَخْلُو أَن يَكُونَ مأْخودًا مِنَ الْحَيَاءِ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ، لأَن مِنْ شَأْنِ الحَيِيِّ أَن يَنْقَبِضَ، أَو يَكُونَ أَصله تَحَوّى أَي تَجَمَّع فَقُلِبَتْ وَاوُهُ يَاءً، أَو يَكُونَ تَفَيْعَلَ مِنَ الحَيِّ وَهُوَ الْجَمْعُ، كتَحَيَّز مِنَ الحَوْز.
وأَما قَوْلُهُ: وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ "، فَمَعْنَاهُ يَسْتَفْعِلُ مِنَ الحَياة أَي يتركهنَّ أَحياء وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا لُغَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ حَيِيتُ مَنْ فِعْلِ كَذَا وَكَذَا أَحْيَا حَياءً أَي اسْتَحْيَيْتُ؛ وأَنشد:
أَلا تَحْيَوْنَ مِنْ تَكْثير قَوْمٍ ***لعَلَّاتٍ، وأُمُّكُمو رَقُوبُ؟
مَعْنَاهُ أَلا تَسْتَحْيُونَ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: « اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْرِكِينَ واسْتَحْيُوا شَرْخَهم» أَي اسْتَبْقُوا شَبابَهم وَلَا تَقْتُلُوهُمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ}؛ أَي يسْتَبْقيهن لِلْخِدْمَةِ فَلَا يَقْتُلُهُنَّ.
الْجَوْهَرِيُّ: الحَياء، مَمْدُودٌ، الِاسْتِحْيَاءُ.
والحَياء أَيضًا: رَحِمُ النَّاقَةِ، وَالْجَمْعُ أَحْيِيةٌ؛ عَنِ الأَصمعي.
اللَّيْثُ: حَيا النَّاقَةِ يُقْصَرُ وَيُمَدُّ لُغَتَانِ.
الأَزهري: حَياءُ النَّاقَةِ وَالشَّاةِ وَغَيْرِهِمَا مَمْدُودٌ إِلَّا أَن يَقْصُرَهُ شَاعِرٌ ضَرُورَةً، وَمَا جَاءَ عَنِ الْعَرَبِ إِلَّا مَمْدُودًا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ حَياءً بِاسْمِ الحَياء مِنَ الاسْتحياء لأَنه يُسْتَر مِنَ الْآدَمِيِّ ويُكْنى عَنْهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، ويُسْتَفحش التصريحُ بِذِكْرِهِ وَاسْمِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ ويُسْتَحى مِنْ ذَلِكَ ويُكْنى عَنْهُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: يَجُوزُ قَصْر الحَياء ومَدُّه، وَهُوَ غَلَطٌ لَا يَجُوزُ قَصْرُهُ لِغَيْرِ الشَّاعِرِ لأَن أَصله الحَياءُ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه كَرِهَ مِنَ الشاةِ سَبْعًا: الدَّمَ وَالْمَرَارَةَ والحَياءَ والعُقْدَةَ والذَّكَر والأُنْثَيين والمَثانَة »؛ الحَيَاءُ، مَمْدُودٌ: الْفَرْجُ مِنْ ذَوَاتِ الخُفِّ والظِّلْف، وَجَمْعُهَا أَحْيِيَة.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَقَدْ جَاءَ الحَياء لِرَحِمِ النَّاقَةِ مَقْصُورًا فِي شِعْرِ أَبي النَّجْم، وَهُوَ قَوْلُهُ: " جَعْدٌ حَياها سَبِطٌ لَحْياها "قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي تَرْجَمَةِ عَيِيَ: وَسَمِعْنَا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ أَعْيِياءُ وأَحْيِيَةٌ فيُبَيِّنُ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ أَحْيِيَة جَمْعُ حَياءٍ لِفَرْجِ النَّاقَةِ، وَذَكَرَ أَن مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُدْغِمُهُ فَيَقُولُ أَحِيَّة، قَالَ: وَالَّذِي رأَيناه فِي الصِّحَاحِ سَمِعْنَا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ أَعْيِياءُ وأَعْيِيَةٌ فَيُبَيِّنُ؛ ابْنُ سِيدَهْ: وَخَصَّ ابْنُ الأَعرابي بِهِ الشَّاةَ وَالْبَقَرَةَ وَالظَّبْيَةَ، وَالْجَمْعُ أَحْيَاءٌ؛ عَنْ أَبي زَيْدٍ، وأَحْيِيَةٌ وأَحِيَّةٌ وحَيٌّ وحِيٌّ؛ عَنْ سِيبَوَيْهِ، قَالَ: ظَهَرَتِ الْيَاءُ فِي أَحْيِيَة لِظُهُورِهَا فِي حَيِيَ، والإِدْغامُ أَحسنُ لأَن الْحَرَكَةَ لَازِمَةٌ، فَإِنْ أَظهرت فأحْسَنُ ذَلِكَ أَن تُخْفي كَرَاهِيَةَ تَلاقي الْمِثْلَيْنِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ بِزِنَتِهَا مُتَحَرِّكَةٌ، وَحَمَلَ ابْنُ جِنِّي أَحْياءً عَلَى أَنه جَمْعُ حَياءٍ مَمْدُودًا؛ قَالَ: كَسَّرُوا فَعالًا عَلَى أَفعال حَتَّى كَأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَسَّرُوا فَعَلًا.
الأَزهري: والحَيُّ فَرْجُ المرأَة.
وَرَأَى أَعرابي جِهَازَ عَرُوسٍ فَقَالَ: هَذَا سَعَفُ الحَيِّ أَي جِهازُ فَرْجِ المرأَة.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
54-لسان العرب (رأي)
رأي: الرُّؤْيَة بالعَيْن تَتَعدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَبِمَعْنَى العِلْم تتعدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ؛ يُقَالُ: رَأَى زَيْدًا عَالِمًا ورَأَى رَأْيًا ورُؤْيَةً ورَاءَةً مِثْلُ راعَة.وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الرُّؤْيَةُ النَّظَرُ بالعَيْن والقَلْب.
وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي: عَلَى رِيَّتِكَ أَي رُؤيَتِكَ، وفيه ضَعَةٌ، وحَقيقَتُها أَنه أَراد رُؤيَتك فَأبْدَلَ الهمزةَ وَاوًا إِبْدَالًا صَحِيحًا فَقَالَ رُويَتِك، ثُمَّ أَدغَمَ لأَنَّ هَذِهِ الواوَ قَدْ صَارَتْ حرفَ علَّة لمَا سُلِّط عَلَيْهَا مِنَ البَدَل فَقَالَ رُيَّتِك، ثُمَّ كَسَرَ الراءَ لِمُجَاوِرَةِ الْيَاءِ فَقَالَ رِيَّتِكَ.
وَقَدْ رَأَيْتُه رَأْيَةً ورُؤْيَة، وَلَيْسَتِ الهاءُ فِي رَأْيَة هُنَا للمَرَّة الْوَاحِدَةِ إِنَّمَا هُوَ مصدَرٌ كَرُؤيةٍ، إلَّا أَنْ تُرِيدَ المَرَّةَ الْوَاحِدَةَ فَيَكُونَ رَأَيْته رَأْية كَقَوْلِكَ ضَرَبْتُه ضربة، فأَمَّا إذ لَمْ تُردْ هَذَا فرأْية كرؤْية لَيْسَتِ الهاءُ فِيهَا للوَحْدَة.
ورَأَيْته رِئْيَانًا: كرُؤْية؛ هَذِهِ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، وَرَيْتُهُ عَلَى الحَذْف؛ أَنشد ثَعْلَبٌ:
وَجنْاء مُقْوَرَّة الأَقْرابِ يَحْسِبُها ***مَنْ لَمْ يَكُنْ قَبْلُ رَاهَا رَأْيَةً جَمَلا
حَتَّى يَدُلَّ عَلَيْها خَلْقُ أَرْبَعةٍ ***فِي لازِقٍ لاحِقِ الأَقْرابِ، فانْشَمَلا
خَلْقُ أَربعةٍ: يَعْنِي ضُمورَ أَخْلافها، وانْشَمَلَ: ارْتَفَعَ كانْشمرَ، يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَرَها قبلُ ظَنَّها جَمَلًا لِعظَمها حَتَّى يَدلَّ عَلَيْهَا ضُمورُ أَخْلافِها فيَعْلَم حِينَئِذٍ أَنها نَاقَةٌ لأَن الْجَمَلَ لَيْسَ لَهُ خِلْفٌ؛ وأَنشد ابْنُ جِنِّي:
حَتَّى يَقُولَ من رآهُ إذْ رَاهْ: ***يَا وَيْحَه مِنْ جَمَلٍ مَا أَشْقاهْ
أَراد كلَّ من رَآهُ إذْ رَآهُ، فسَكَّنَ الهاءَ وأَلقَى حركةَ الْهَمْزَةِ؛ وَقَوْلُهُ:
مَنْ رَا مِثْلَ مَعْدانَ بنِ يَحْيَى، ***إِذَا مَا النِّسْعُ طَالَ عَلَى المَطِيَّهْ؟
ومَنْ رَا مثلَ مَعْدانَ بْنِ يَحْيَى، ***إِذَا هَبَّتْ شآمِيَةٌ عَرِيَّهْ؟
أَصل هَذَا: مِنْ رأَى فخفَّف الْهَمْزَةَ عَلَى حَدِّ: لَا هَناك المَرْتَعُ، فَاجْتَمَعَتْ أَلفان فَحَذَفَ إِحْدَاهُمَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ؛ وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: أَصله رأَى فأَبدل الْهَمْزَةَ يَاءً كَمَا يُقَالُ فِي سأَلْت سَيَلْت، وَفِي قرأْت قَرَيْت، وَفِي أَخْطأْت أَخْطَيْت، فَلَمَّا أُبْدِلت الْهَمْزَةُ الَّتِي هِيَ عَيْنٌ يَاءً أَبدلوا الْيَاءُ أَلفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، ثُمَّ حُذِفَتِ الأَلف الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ الْيَاءُ الَّتِي هِيَ لَامٌ الْفِعْلِ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الأَلف الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ؛ قَالَ: وسأَلت أَبا عَلِيٍّ فَقُلْتُ لَهُ مَنْ قَالَ: " مَنْ رَا مِثْلَ مَعْدانَ بنِ يَحْيَى "فَكَيْفَ يَنْبَغِي أَن يَقُولَ فَعَلْتُ مِنْهُ فَقَالَ رَيَيْت وَيَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ حَيَيْتُ وَعَيَيْتُ؟ قَالَ: لأَن الْهَمْزَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِذَا أُبدلت عَنِ الْيَاءِ تُقلب، وَذَهَبَ أَبو عَلِيٍّ فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ أَنه أَراد رأَى فحذَفَ الهمزةَ كَمَا حَذَفَهَا مِنْ أَرَيْت وَنَحْوِهِ، وَكَيْفَ كَانَ الأَمر فَقَدْ حُذِفْتَ الْهَمْزَةُ وَقُلِبَتِ الْيَاءُ أَلفًا، وَهَذَانِ إِعْلَالَانِ تَوَالَيَا فِي الْعَيْنِ وَاللَّامِ؛ وَمِثْلُهُ مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: جَا يَجِي، فَهَذَا إِبْدَالُ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ يَاءٌ أَلفًا وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ تَخْفِيفًا، فأَعلّ اللَّامَ وَالْعَيْنَ جَمِيعًا.
وأَنا أَرَأُهُ والأَصلُ أَرْآهُ، حذَفوا الهمزةَ وأَلْقَوْا حَرَكَتها عَلَى مَا قبلَها.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: كلُّ شيءٍ كَانَتْ أَوَّلَه زائدةٌ سِوَى أَلف الْوَصْلِ مَنْ رأَيْت فَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى تَخْفِيفِ هَمْزِهِ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ إِيَّاهُ، جَعَلُوا الهمزةَ تُعاقِب، يَعْنِي أَن كُلَّ شيءٍ كَانَ أَوّلُه زَائِدَةً مِنَ الزَّوَائِدِ الأَربع نَحْوَ أَرَى ويَرَى ونرَى وتَرَى فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ ذَلِكَ بِالْهَمْزِ أَي أَنَّها لَا تَقُولُ أَرْأَى وَلَا يَرْأَى وَلَا نَرْأَى وَلَا تَرْأَى، وَذَلِكَ لأَنهم جَعَلُوا هَمْزَةَ الْمُتَكَلِّمِ فِي أَرَى تُعاقِبُ الهمزةَ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ، وَهِيَ همزةُ أَرْأَى حَيْثُ كَانَتَا هَمْزَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الأُولى زَائِدَةً وَالثَّانِيَةُ أَصليةً، وكأَنهم إِنَّمَا فرُّوا مِنِ الْتِقَاءِ هَمْزَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَرْفٌ سَاكِنٌ، وَهِيَ الرَّاءُ، ثُمَّ أَتْبعوها سائرَ حروفِ الْمُضَارَعَةِ فَقَالُوا يَرَى ونَرَى وتَرَى كَمَا قَالُوا أَرَى؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَحَكَى أَبو الْخَطَّابِ قدْ أَرْآهم، يَجيءُ بِهِ عَلَى الأَصل وَذَلِكَ قَلِيلٌ؛ قَالَ:
أَحِنُّ إِذَا رَأيْتُ جِبالَ نَجْدٍ، ***وَلَا أَرْأَى إِلَى نَجْدٍ سَبِيلا
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا أَرَى عَلَى احْتِمَالِ الزِّحافِ؛ قَالَ سُراقة الْبَارِقِيُّ:
أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرْأَياهُ، ***كِلانا عالِمٌ بالتُّرَّهاتِ
وَقَدْ رَوَاهُ الأَخفش: مَا لَمْ تَرَياهُ، عَلَى التَّخْفِيفِ الشَّائِعِ عَنِ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْحَرْفِ.
التَّهْذِيبُ: وَتَقُولُ الرجلُ يَرَى ذاكَ، عَلَى التَّخْفِيفِ، قَالَ: وَعَامَّةُ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي يَرَى ونَرَى وتَرَى وأَرَى عَلَى التَّخْفِيفِ، قَالَ: ويعضهم يحقِّقُه فَيَقُولُ، وَهُوَ قَلِيلٌ، زيدٌ يَرْأَى رَأْيًا حَسَنًا كَقَوْلِكَ يَرْعَى رَعْيًا حَسَنًا، وأَنشد بَيْتَ سُرَاقَةَ الْبَارِقِيِّ.
وارْتَأَيْتُ واسْتَرْأَيْت: كرَأَيْت أَعني مِنْ رُؤية العَين.
قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: قَالَ الْكِسَائِيُّ اجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى هَمْزِ مَا كَانَ مِنْ رَأَيْت واسْتَرْأَيْت وارْتَأَيْت فِي رُؤْية الْعَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ يَترُك الْهَمْزَ وَهُوَ قَلِيلٌ، قَالَ: وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَهمُوزٌ؛ وأَنشد فِيمَنْ خَفَّفَ:
صاحِ، هَلْ رَيْتَ، أَو سَمِعتَ بِراعٍ ***رَدَّ فِي الضَّرْعِ مَا قَرَى فِي الحِلابِ؟
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَرُبَّمَا جَاءَ مَاضِيهِ بِلَا هَمزٍ، وأَنشد هَذَا الْبَيْتَ أَيضًا: صاحِ، هَلْ رَيْتَ، أَو سَمِعتَ "وَيُرْوَى: فِي الْعِلَابِ؛ وَمِثْلُهُ للأَحوص:
أَوْ عَرَّفُوا بصَنِيعٍ عندَ مَكْرُمَةٍ ***مَضَى، وَلَمْ يَثْنِه مَا رَا وَمَا سَمِعا
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي أَرَأَيْتَ وأَ رَأَيْتَكَ أَرَيْتَ وأَ رَيْتَك، بِلَا هَمْزٍ؛ قَالَ أَبو الأَسود:
أَرَيْتَ امرَأً كُنْتُ لَمْ أَبْلُهُ ***أَتاني فَقَالَ: اتَّخِذْني خَلِيلا
فترَك الهمزةَ، وَقَالَ رَكَّاضُ بنُ أَبَّاقٍ الدُّبَيْري:
فقُولا صادِقَيْنِ لزَوْجِ حُبَّى ***جُعلْتُ لَهَا، وإنْ بَخِلَتْ، فِداءَ
أَرَيْتَكَ إنْ مَنَعْتَ كلامَ حُبَّى، ***أَتَمْنَعُني عَلَى لَيْلى البُكاءَ؟
وَالَّذِي فِي شِعْرِهِ كَلَامُ حبَّى، وَالَّذِي رُوِيَ كَلَامُ لَيْلى؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
أَرَيْتَ، إِذَا جالَتْ بكَ الخيلُ جَوْلةً، ***وأَنتَ عَلَى بِرْذَوْنَةٍ غيرُ طائِلِ
قَالَ: وأَنشد ابْنُ جِنِّي لِبَعْضِ الرُّجَّازِ:
أَرَيْتَ، إنْ جِئْتِ بِهِ أُمْلُودا ***مُرَجَّلًا ويَلْبَسُ البُرُودا،
أَقائِلُنَّ أَحْضِرُوا الشُّهُودا قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَفِي هَذَا الْبَيْتِ الأَخير شُذُوذٌ، وَهُوَ لِحَاقُ نُونِ التَّأْكِيدِ لِاسْمِ الْفَاعِلِ.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والكلامُ الْعَالِي فِي ذَلِكَ الهمزُ، فَإِذَا جئتَ إِلَى الأَفعال الْمُسْتَقْبَلَةِ الَّتِي فِي أَوائلها الْيَاءُ وَالتَّاءُ وَالنُّونُ والأَلف اجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ، الَّذِينَ يَهْمِزُونَ وَالَّذِينَ لَا يَهْمِزُونَ، عَلَى تَرْكِ الْهَمْزِ كَقَوْلِكَ يَرَى وتَرَى ونَرَى وأَرَى، قَالَ: وَبِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ نَحْوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى، وإِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ، وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}؛ إِلَّا تَيمَ الرِّباب فَإِنَّهُمْ يَهْمِزُونَ مَعَ حُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ فَتَقُولُ هُوَ يَرْأَى وتَرْأَى ونَرْأَى وأَرْأَى، وَهُوَ الأَصل، فَإِذَا قَالُوا مَتَى نَراك قَالُوا مَتَى نَرْآكَ مِثْلَ نَرْعاك، وبعضٌ يَقْلِبُ الْهَمْزَةَ فَيَقُولُ مَتَى نَرَاؤكَ مِثْلَ نَراعُك؛ وأَنشد:
أَلا تِلْكَ جاراتُنا بالغَضى ***تقولُ: أَتَرْأَيْنَه لنْ يضِيفا
وأَنشد فِيمَنْ قَلَبَ:
مَاذَا نَراؤُكَ تُغْني فِي أَخي رَصَدٍ ***مِنْ أُسْدِ خَفَّانَ، جأْبِ الوَجْه ذِي لِبَدِ
وَيُقَالُ: رأَى فِي الْفِقْهِ رَأْيًا، وَقَدْ تَرَكَتِ الْعَرَبُ الْهَمْزَ فِي مُسْتَقْبَلِهِ لِكَثْرَتِهِ فِي كَلَامِهِمْ، وَرُبَّمَا احْتَاجَتْ إِلَيْهِ فهَمَزَته؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأَنشد شاعِرُ تَيْمِ الرِّباب؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هُوَ للأَعْلم بْنِ جَرادَة السَّعْدي:
أَلَمْ تَرْأَ مَا لاقَيْت والدَّهْرُ أَعْصُرٌ، ***وَمَنْ يَتَمَلَّ الدَّهْرَ يَرْأَ ويَسْمَعِ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَيُرْوَى ويَسْمَعُ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، لأَن الْقَصِيدَةَ مَرْفُوعَةٌ؛ وَبَعْدَهُ:
بأَنَّ عَزِيزًا ظَلَّ يَرْمي بِحَوْزِهِ ***إليَّ، وراءَ الحاجِزَينِ، ويُفْرِعُ
يُقَالُ: أَفْرَعَ إِذَا أَخذَ فِي بَطْنِ الْوَادِي؛ قَالَ وَشَاهِدُ تَرْكِ الْهَمْزَةِ مَا أَنشده أَبو زَيْدٍ:
لمَّا اسْتَمَرَّ بِهَا شَيْحانُ مُبْتَجِحٌ ***بالبَيْنِ عَنْك بِمَا يَرْآكَ شَنآنا
قَالَ: وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ، فَإِذَا جِئتَ إِلَى الأَمر فَإِنَّ أَهل الْحِجَازِ يَتْركون الْهَمْزَ فَيَقُولُونَ: رَ ذَلِكَ، وللإِثنين: رَيا ذَلِكَ، وَلِلْجَمَاعَةِ: رَوْا ذَلِكَ، وللمرأَة رَيْ ذَلِكَ، وللإِثنين كَالرَّجُلَيْنِ، وَلِلْجَمْعِ: رَيْنَ ذاكُنَّ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَهْمِزُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: ارْأَ ذَلِكَ وارْأَيا وَلِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ ارْأَيْنَ، قَالَ: فَإِذَا قَالُوا أَرَيْتَ فُلَانًا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِه أَرَيْتَكُم فُلَانًا أَفَرَيْتَكُم فَلَانًا فَإِنَّ أَهل الْحِجَازِ يَهْمِزُونَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَلَامِهِمُ الْهَمْزُ، فَإِذَا عَدَوْت أَهلَ الْحِجَازِ فَإِنَّ عامَّة العَرب عَلَى تَرْكِ الْهَمْزِ، نَحْوَ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ "أَرَيْتَكُمْ، وَبِهِ قرأَ الْكِسَائِيُّ تَرَك الْهَمْزَ فِيهِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: وَلَوْ تَرَ مَا أَهلُ مَكَّةَ، قَالَ أَبو عَلِيٍّ: أَرادوا وَلَوْ تَرى مَا فَحَذَفُوا لِكَثْرَةِ الاسْتِعْمال.
اللِّحْيَانِيُّ: يُقَالُ إِنَّهُ لخَبِيثٌ وَلَوْ تَرَ مَا فلانٌ وَلَوْ تَرى مَا فُلَانٍ، رَفْعًا وَجَزْمًا، وَكَذَلِكَ وَلَا تَرَ مَا فلانٌ وَلَا تَرى مَا فُلانٌ فِيهِمَا جَمِيعًا وَجْهَانِ: الْجَزْمُ وَالرَّفْعُ، فَإِذَا قَالُوا إِنَّهُ لَخَبِيثٌ وَلَمْ تَرَ مَا فُلانٌ قَالُوهُ بِالْجَزْمِ، وَفُلَانٌ فِي كُلِّهِ رُفِعَ وتأْويلُها وَلَا سيَّما فلانٌ؛ حكي ذَلِكَ عَنِ الْكِسَائِيِّ كُلُّهُ.
وَإِذَا أَمَرْتَ مِنْهُ عَلَى الأَصل قُلْتَ: ارْءَ، وَعَلَى الْحَذْفِ: رَا.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَصَوَابُهُ عَلَى الْحَذْفِ رَهْ، لأَن الأَمر مِنْهُ رَ زَيْدًا، وَالْهَمْزَةُ سَاقِطَةٌ مِنْهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ}، قَالَ: الْعَرَبُ لَهَا فِي أَرأَيْتَ لُغَتَانِ وَمَعْنَيَانِ: أَحدهما أَنْ يسأَلَ الرجلُ الرجلَ: أَرأَيتَ زَيْدًا بعَيْنِك؟ فَهَذِهِ مَهْمُوزَةٌ، فَإِذَا أَوْقَعْتَها عَلَى الرجلِ مِنْهُ قُلْتَ أَرَأَيْتَكَ عَلَى غيرِ هَذِهِ الْحَالِ، يُرِيدُ هَلْ رأَيتَ نَفْسَك عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، ثُمَّ تُثَنِّي وتَجْمع فتقولُ لِلرَّجُلَيْنِ أَرَأَيْتُماكُما، وَلِلْقَوْمِ أَرَأَيْتُمُوكُمْ، وللنسوة أَرأَيْتُنَّكُنَّ، وللمرأَة أَرأَيْتِكِ، بِخَفْضِ التاءِ لَا يَجُوزُ إِلَّا ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى الْآخَرُ أَنْ تَقُولَ أَرأَيْتَكَ وأَنت تَقُولُ أَخْبِرْني، فتَهْمِزُها وتنصِب التاءَ مِنْهَا وتَتركُ الهمزَ إِنْ شِئْتَ، وَهُوَ أَكثر كَلَامِ الْعَرَبِ، وتَتْرُكُ التاءَ مُوحَّدةً مَفْتُوحَةً لِلْوَاحِدِ وَالْوَاحِدَةِ وَالْجَمْعِ فِي مؤَنثه ومذكره، فنقول للمرأَة: أَرَأَيْتَكِ زَيْدًا هَلْ خَرج، وَلِلنِّسْوَةِ: أَرَأَيْتَكُنَّ زَيْدًا مَا فَعَل، وَإِنَّمَا تَرَكَتِ الْعَرَبُ التاءَ وَاحِدَةً لأَنهم لَمْ يُرِيدُوا أَن يَكُونَ الْفِعْلُ مِنْهَا وَاقِعًا عَلَى نَفْسِهَا فَاكْتَفَوْا بِذِكْرِهَا فِي الْكَافِ وَوَجَّهُوا التَّاءَ إِلَى الْمُذَكَّرِ وَالتَّوْحِيدِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ وَاقِعًا، قَالَ: وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ فِي جَمِيعِ مَا قَالَ، ثُمَّ قَالَ: وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي هَذِهِ الْكَافِ الَّتِي فِي أَرأَيتَكُمْ فَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: لَفْظُهَا لفظُ نصبٍ وتأْويلُها تأْويلُ رَفْعٍ، قَالَ: وَمِثْلُهَا الْكَافُ الَّتِي فِي دُونَكَ زَيْدًا لأَنَّ الْمَعْنَى خُذْ زَيْدًا قَالَ أَبو إِسْحَاقَ: وَهَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَقُلْه النَّحْوِيُّونَ القُدَماء، وَهُوَ خطَأٌ لأَن قَوْلَكَ أَرأَيْتَكَ زَيْدًا مَا شأْنُه يُصَيِّرُ أَرَأَيْتَ قَدْ تَعَدَّتْ إِلَى الْكَافِ وَإِلَى زيدٍ، فتصيرُ أَرأَيْتَ اسْمَيْن فَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَرأَيْتَ نفْسَكَ زَيْدًا مَا حالُه، قَالَ: وَهَذَا مُحَالٌ وَالَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ الْمَوْثُوقُ بِعِلْمِهِمْ أَن الْكَافَ لَا مَوْضِعَ لَهَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَرأَيْتَ زَيْدًا مَا حالُه، وَإِنَّمَا الْكَافُ زِيَادَةٌ فِي بَيَانِ الْخِطَابِ، وَهِيَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي الْخِطَابِ فَتَقُولُ لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ: أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا مَا حَالُهُ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْكَافِ، وَتَقُولُ فِي الْمُؤَنَّثِ: أَرَأَيْتَكِ زَيْدًا مَا حالُه يَا مَرْأَةُ؛ فَتُفْتَحُ التَّاءُ عَلَى أَصل خِطَابِ الْمُذَكَّرِ وَتُكْسَرُ الْكَافُ لأَنها قَدْ صَارَتْ آخرَ مَا فِي الْكَلِمَةِ والمُنْبِئَةَ عَنِ الْخِطَابِ، فَإِنَّ عدَّيْتَ الْفَاعِلَ إِلَى الْمَفْعُولِ فِي هَذَا الْبَابِ صَارَتِ الكافُ مَفْعُولَةً، تَقُولُ: رأَيْتُني عَالِمًا بِفُلَانٍ، فَإِذَا سَأَلَتْ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ قلتَ لِلرَّجُلِ: أَرَأَيْتَكَ عَالِمًا بِفُلَانٍ، وللإِثنين أَرأَيتُماكما عالمَينِ بِفُلَانٍ، وَلِلْجَمْعِ أَرَأَيْتُمُوكُمْ، لأَن هَذَا فِي تأْويل أَرأَيتُم أَنْفُسَكم، وَتَقُولُ للمرأَة: أَرأَيتِكِ عالمَة بفُلانٍ، بِكَسْرِ التاء، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ.
وَرَوَى الْمُنْذِرِيُّ عَنْ أَبي الْعَبَّاسِ قَالَ: أَرأَيْتَكَ زَيْدًا قَائِمًا، إِذَا اسْتَخْبَر عَنْ زَيْدٍ تَرَكَ الْهَمْزَ وَيَجُوزُ الْهَمْزُ، وَإِذَا اسْتَخْبَرَ عَنْ حَالِ الْمُخَاطَبِ كَانَ الْهَمْزُ الِاخْتِيَارَ وَجَازَ تَرْكُه كَقَوْلِكَ: أَرَأَيْتَكَ نَفْسَك أَي مَا حالُك مَا أَمْرُك، وَيَجُوزُ أَرَيْتَكَ نَفْسَك.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَإِذَا جَاءَتْ أَرأَيْتَكُما وأَ رأَيْتَكُمْ بِمَعْنَى أَخْبِرْني كَانَتِ التَّاءُ موَحَّدة، فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى العِلْم ثَنَّيْت وجَمَعْت، قُلْتَ: أَرأَيْتُماكُما خارِجَيْنِ وأَ رأَيْتُمُوكُمْ خارِجِينَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ أَرأَيْتَكَ وأَ رأيْتَكُمْ وأَ رأَيْتَكما، وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ عِنْدَ الِاسْتِخْبَارِ بِمَعْنَى أَخبِرْني وأَخْبِراني وأَخْبِرُوني، وتاؤُها مَفْتُوحَةٌ أَبدًا.
وَرَجُلٌ رَءَّاءٌ: كَثيِرُ الرُّؤيَةِ؛ قَالَ غِيلَانُ الرَّبَعي: " كأَنَّها وقَدْ رَآها الرَّءَّاءُ "وَيُقَالُ: رأَيْتُه بعَيْني رُؤيَةً ورأَيْتُه رَأْيَ العينِ أَي حَيْثُ يَقَعُ الْبَصَرُ عَلَيْهِ.
وَيُقَالُ: مِنْ رأْيِ القَلْبِ ارْتَأَيْتُ؛ وأَنشد:
أَلَا أَيُّها المُرْتَئِي فِي الأُمُور، ***سيَجْلُو العَمَى عنكَ تِبْيانُها
وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: إِذَا أَمرْتَ مَنْ رأَيْتَ قُلْتَ ارْأَ زَيْدًا كأنَّكَ قُلْتَ ارْعَ زَيْدًا، فَإِذَا أَردت التَّخْفِيفَ قُلْتَ رَ زَيْدًا، فَتُسْقِطُ أَلف الْوَصْلِ لِتَحْرِيكِ مَا بَعْدَهَا، قَالَ: وَمِنْ تَحْقِيقِ الْهَمْزِ قَوْلُكَ رأَيْت الرَّجُلَ، فَإِذَا أَردت التَّخْفِيفَ قُلْتَ رأَيت الرَّجُلَ، فحرَّكتَ الأَلف بِغَيْرِ إِشْبَاعِ الْهَمْزِ وَلَمْ تُسْقِطِ الْهَمْزَةَ لأَن مَا قَبْلَهَا مُتَحَرِّكٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: « أَن أَبا البَخْترِي قَالَ ترَاءَيْنا الهِلالَ بذاتِ عِرْق، فسأَلنا ابنَ عباسٍ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدَّهُ إِلَى رُؤْيَتِه فإنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فأَكْمِلوا العِدَّة، قَالَ شَمِرٌ: قَوْلُهُ تَراءَيْنا الهلالَ» أَي تَكَلَّفْنا النَّظَر إِلَيْهِ هل نَراهُ أَم لَا، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ انْطَلِقْ بِنَا حَتَّى نُهِلَّ الهلالَ أَي نَنْظُر أَي نراهُ.
وَقَدْ تَراءَيْنا الهِلالَ أَي نظرْناه.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ راءَيْتُ ورأَيْتُ، وقرأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرَاوُون النَّاسَ.
وَقَدْ رأَّيْتُ تَرْئِيَةً: مِثْلَ رَعَّيْت تَرْعِيَةً.
وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: أَرَيْتُه الشيءَ إِرَاءَةً وإرايَةً وإرءَاءَةً.
الْجَوْهَرِيُّ: أَرَيْتُه الشيءَ فرآهُ وأَصله أَرْأَيْتُه.
والرِّئْيُ والرُّواءُ والمَرْآةُ: المَنْظَر، وَقِيلَ: الرِّئْيُ والرُّواءُ، بِالضَّمِّ، حُسْنُ المَنْظر فِي البَهاء والجَمال.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: « حَتَّى يتَبيَّنَ لَهُ رِئْيُهما »، وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ، أَي مَنْظَرُهُما وَمَا يُرَى مِنْهُمَا.
وَفُلَانٌ مِنِّي بمَرْأىً ومَسْمَعٍ أَي بِحَيْثُ أَراهُ وأَسْمَعُ قولَه.
والمَرْآةُ عامَّةً: المَنْظَرُ، حَسَنًا كَانَ أَو قَبِيحًا.
وَمَا لهُ رُواءٌ وَلَا شاهِدٌ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا.
وَيُقَالُ: امرأَةٌ لَهَا رُواءٌ إِذَا كَانَتْ حَسَنةَ المَرْآةِ والمَرْأَى كَقَوْلِكَ المَنْظَرَة والمَنْظر.
الْجَوْهَرِيُّ: المَرْآةُ، بِالْفَتْحِ عَلَى مَفْعَلةٍ، المَنْظر الحَسن.
يُقَالُ: امرأَةٌ حَسَنةُ المَرْآةِ والمَرْأَى، وَفُلَانٌ حسنٌ فِي مَرْآةِ العَين أَي فِي النَّظَرِ.
وَفِي المَثل: تُخْبِرُ عَنْ مَجْهولِه مَرْآتُه أَي ظاهرُه يدلُّ عَلَى باطِنِه.
وَفِي حَدِيثِ الرُّؤْيا: « فَإِذَا رجلٌ كَرِيهُ المَرْآةِ »أَي قَبِيحُ المَنْظرِ.
يُقَالُ: رَجُلٌ حَسَنُ المَرْأَى والمَرْآةِ حَسُنَ فِي مَرْآةِ الْعَيْنِ، وَهِيَ مَفْعَلة مِنَ الرُّؤْيَةِ.
والتَّرْئِيَةُ: حُسْنُ البَهاء وحُسْنُ المنظرِ، اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
أَمَّا الرُّواءُ ففِينا حَدُّ تَرْئِيَةٍ، ***مِثل الجِبالِ الَّتِي بالجِزْعِ منْ إضَمِ
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُمْ أَحْسَنُ أَثاثًا وَرِءْيًا}؛ قُرِئَتْ رِئْيًا؛ بِوَزْنِ رِعْيًا، وَقُرِئَتْ رِيًّا؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: الرِّئْيُ المَنْظَر، وَقَالَ الأَخفش: الرِّيُّ مَا ظَهَر عَلَيْهِ مِمَّا رأَيْت، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ المدينة يَقْرؤُونها رِيًّا، بِغَيْرِ هَمْزٍ، قَالَ: وَهُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ مِنْ رأَيْت لأَنَّه مع آياتٍ لَسْنَ مهموزاتِ الأَواخِر.
وَذَكَرَ بعضهم: أَنَّه ذهب بالرِّيِّ إلى رَوِيت إذا لم يُهْمَزْ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ قرأَ رِيًّا، بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَلَهُ تَفْسِيرَانِ أَحدهما أَن مَنْظَرهُم مُرْتَوٍ مِنَ النَّعْمة كأَن النَّعِيم بَيِّنٌ فِيهِمْ وَيَكُونُ عَلَى ترك الهمز من رأَيت، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَنْ هَمَزَهُ جَعَلَهُ مِنَ الْمَنْظَرِ مِنْ رأَيت، وَهُوَ مَا رأَتْهُ الْعَيْنُ مِنْ حالٍ حسَنة وَكُسْوَةٍ ظَاهِرَةٍ؛ وأَنشد أَبو عُبَيْدَةَ لِمُحَمَّدِ بْنِ نُمَير الثَّقَفِيِّ:
أَشاقَتْكَ الظَّعائِنُ يومَ بانُوا ***بِذِي الرِّئْيِ الجمِيلِ منَ الأَثاثِ؟
وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْهُ إِمَّا أَن يَكُونَ عَلَى تَخْفِيفِ الْهَمْزِ أَو يَكُونَ مِنْ رَوِيَتْ أَلْوانهم وَجُلُودُهُمْ رِيًّا أَي امْتَلأَتْ وحَسُنَتْ.
وَتَقُولُ للمرأَة: أَنتِ تَرَيْنَ، وَلِلْجَمَاعَةِ: أَنْتُنَّ تَرَيْنَ، لأَن الْفِعْلَ لِلْوَاحِدَةِ وَالْجَمَاعَةِ سَوَاءٌ فِي الْمُوَاجَهَةِ فِي خَبَرِ المرأَةِ مِنْ بنَاتِ الْيَاءِ، إِلَّا أَن النُّونَ الَّتِي فِي الْوَاحِدَةِ عَلَامَةُ الرَّفْعِ وَالَّتِي فِي الْجَمْعِ إِنَّمَا هِيَ نُونُ الْجَمَاعَةِ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَفَرْقٌ ثَانٍ أَن الياءَ فِي تَرَيْن لِلْجَمَاعَةِ حَرْفٌ، وَهِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ، وَالْيَاءُ فِي فِعْلِ الْوَاحِدَةِ اسْمٌ، وَهِيَ ضَمِيرُ الْفَاعِلَةِ الْمُؤَنَّثَةِ.
وَتَقُولُ: أَنْتِ تَرَيْنَني، وَإِنْ شِئْتَ أَدغمت وَقُلْتَ تَرَيِنِّي، بِتَشْدِيدِ النُّونِ، كَمَا تَقُولُ تَضْرِبِنِّي.
واسْتَرْأَى الشيءَ: اسْتَدْعَى رُؤيَتَه.
وأَرَيْتُه إِيَّاهُ إراءَةً وَإِرَاءً؛ الْمَصْدَرُ عَنْ سِيبَوَيْهِ، قَالَ: الْهَاءُ لِلتَّعْوِيضِ، وَتَرَكَهَا عَلَى أَن لَا تعوَّض وَهْمٌ مِمَّا يُعَوِّضُونَ بَعْدَ الْحَذْفِ وَلَا يُعَوِّضون.
ورَاءَيْت الرجلَ مُراآةً ورِياءً: أَرَيْته أَنِّي عَلَى خِلَافِ مَا أَنا عَلَيْهِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {بَطَرًا وَرِئاءَ النَّاسِ}، وَفِيهِ: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ "؛ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ أَي إِذَا صَلَّى الْمُؤْمِنُونَ صَلَّوا معَهم يُراؤُونهُم أَنَّهم عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ.
وَفُلَانٌ مُراءٍ وقومٌ مُراؤُونَ، والإِسم الرِّياءُ.
يُقَالُ: فَعَلَ ذَلِكَ رِياءً وسُمْعَةً.
وَتَقُولُ مِنَ الرِّياء يُسْتَرْأَى فلانٌ، كَمَا تَقُولُ يُسْتَحْمَقُ ويُسْتَعْقَلُ؛ عَنْ أَبي عَمْرٍو.
وَيُقَالُ: رَاءَى فُلَانٌ الناسَ يُرائِيهِمْ مُراآةً، ورَايَاهم مُرَايَاةً، عَلَى القَلْب، بِمَعْنًى، ورَاءَيْته مُراآةً ورِيَاءً قابَلْته فرَأَيْته، وَكَذَلِكَ تَرَاءَيْته؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
أَبَى اللهُ إِلَّا أَن يُقِيدَكَ، بَعْدَ ما ***تَراءَيْتُموني مِنْ قَرِيبٍ ومَوْدِقِ
يَقُولُ: أَقاد اللَّهُ مِنْكَ عَلانيَةً وَلَمْ يُقِدْ غِيلَة.
وَتَقُولُ: فُلَانٌ يَتَرَاءَى أَي يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ فِي المِرْآةِ أَو فِي السَّيْفِ.
والمِرْآة: مَا تَراءَيْتَ فِيهِ، وَقَدْ أَرَيْته إِيَّاهَا.
ورَأَّيْتُه تَرْئِيَةً: عَرَضْتُها عَلَيْهِ أَو حَبَسْتُهَا لَهُ يَنْظُرُ نفسَه وتَرَاءَيْتُ فِيهَا وتَرَأَّيْتُ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: « لَا يتَمَرْأَى أَحدُكم فِي الْمَاءِ» أَي لَا يَنْظُر وَجْهَه فِيهِ، وَزْنُه يتَمَفْعَل مِنَ الرُّؤْية كَمَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: تَمَسْكَنَ مِنَ المَسْكَنة، وتَمدْرَع مِنَ المَدْرَعة، وَكَمَا حَكَاهُ أَبو عُبَيْدٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَمَنْدَلْت بالمِندِيل.
وَفِي الْحَدِيثِ: « لَا يتَمَرْأَى أَحدُكُم فِي الدُّنْيَا» أَي لَا يَنْظُر فيها، وقال: وَفِي رِوَايَةٍ لَا يتَمَرْأَى أَحدُكم بالدُّنيا مِنَ الشَّيْءِ المَرْئِيِّ.
والمِرآةُ، بِكَسْرِ الْمِيمِ: الَّتِي يُنْظَرُ فِيهَا، وَجَمْعُهَا المَرَائِي وَالْكَثِيرُ المَرَايَا، وَقِيلَ: مَنْ حوَّل الْهَمْزَةَ قَالَ المَرَايَا.
قَالَ أَبو زَيْدٍ: تَراءَيْتُ فِي المِرآةِ تَرَائِيًا ورَأَّيْتُ الرجلَ تَرْئِيَةً إِذَا أَمْسَكْتَ لَهُ "المِرآةَ لِيَنْظُر فِيهَا.
وأَرْأَى الرجلُ إِذا تراءَى فِي المِرآة؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِشَاعِرٍ:
إِذا الفَتى لَمْ يَرْكَبِ الأَهْوالا، ***فأَعْطِه المِرْآة والمِكْحالا،
واسْعَ لَهُ وعُدَّهُ عِيالا "والرُّؤْيا: مَا رأَيْته فِي منامِك، وَحَكَى الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبي الْحَسَنِ رُيَّا، قَالَ: وَهَذَا عَلَى الإِدغام بَعْدَ التَّخْفِيفِ الْبَدَلِيِّ، شَبَّهُوا وَاوَ رُويا الَّتِي هِيَ فِي الأَصل هَمْزَةٌ مُخَفَّفَةٌ بِالْوَاوِ الأَصلية غَيْرِ المقدَّر فِيهَا الْهَمْزُ، نَحْوُ لوَيْتُ لَيًّا وشَوَيْتُ شَيًّا، وَكَذَلِكَ حَكَى أَيضًا رِيَّا، أَتبع الْيَاءَ الْكَسْرَةَ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْيَاءِ الْوَضْعِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: قَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَخْفِيفِ رُؤْيا رِيَّا، بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَذَلِكَ أَنه لَمَّا كَانَ التَّخْفِيفُ يصيِّرها إِلى رُويَا ثُمَّ شُبِّهَتِ الْهَمْزَةُ الْمُخَفَّفَةُ بِالْوَاوِ الْمُخَلَّصَةِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ قَرْنٌ أَلْوى وقُرُونٌ لُيٌّ وأَصلها لُويٌ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ إِلى الْيَاءِ بَعْدَهَا وَلَمْ يَكُنْ أَقيسُ الْقَوْلَيْنِ قَلْبَها، كَذَلِكَ أَيضًا كُسِرَتِ الرَّاءُ فَقِيلَ رِيَّا كَمَا قِيلَ قُرون لِيٌّ، فَنَظِيرُ قَلْبِ وَاوِ رُؤْيَا إِلحاقُ التَّنْوِينِ مَا فِيهِ اللامُ، وَنَظِيرُ كَسْرِ الراءِ إِبدالُ الأَلف فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمُنَوَّنِ الْمَنْصُوبِ مِمَّا فِيهِ اللَّامُ نَحْوُ العِتابا، وَهِيَ الرُّؤَى.
ورأَيتُ عَنْكَ رُؤىً حَسَنَةً: حَلَمتها.
وأَرْأَى الرجلُ إِذا كَثُرَتْ رُؤَاهُ، بِوَزْنِ رُعاهُ، وَهِيَ أَحْلامه، جمعُ الرُّؤْيا.
ورَأَى فِي مَنَامِهِ رُؤْيا، عَلَى فُعْلى بِلَا تَنْوِينٍ، وجمعُ الرُّؤْيا رُؤىً، بِالتَّنْوِينِ، مِثْلُ رُعىً؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَقَدْ جَاءَ الرُّؤْيا فِي اليَقَظَة؛ قَالَ الرَّاعِي:
فكَبَّر للرُّؤْيا وهَشَّ فُؤادُه، ***وبَشَّرَ نَفْسًا كَانَ قَبْلُ يَلُومُها
وَعَلَيْهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}؛ قَالَ وَعَلَيْهِ قَوْلُ أَبي الطَّيِّبِ: " ورُؤْياكَ أَحْلى، فِي العُيون، مِنَ الغَمْضِ التَّهْذِيبُ: الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ}؛ إِذا تَرَكَتِ العربُ الْهَمْزَ مِنَ الرُّؤْيا قَالُوا الرُّويا طَلَبًا لِلْخِفَّةِ، فإِذا كَانَ مِنْ شأْنهم تحويلُ الْوَاوِ إِلى الْيَاءِ قَالُوا: لَا تَقْصُصْ رُيَّاك، فِي الْكَلَامِ، وأَما فِي الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ؛ وأَنشد أَبو الْجَرَّاحِ:
لَعِرْضٌ مِنَ الأَعْراض يُمْسِي حَمامُه، ***ويُضْحي عَلَى أَفنانهِ الغِينِ يَهْتِفُ
أَحَبُّ إِلى قَلْبي مِنَ الدِّيكِ رُيَّةً ***.
وبابٍ، إِذا مَا مالَ للغَلْقِ يَصْرِفُ
أَراد رُؤْيةً، فَلَمَّا تَرَكَ الْهَمْزَ وَجَاءَتْ وَاوٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحَوَّلَتَا يَاءً مُشَدَّدَةً، كَمَا يُقَالُ لَوَيْتُه لَيًّا وكَوَيْتُه كَيًّا، والأَصل لَوْيًا وكَوْيًا؛ قَالَ: وإِن أَشرتَ فِيهَا إِلى الضَّمَّةِ فَقُلْتَ رُيَّا فَرَفَعْتَ الرَّاءَ فَجَائِزٌ، وَتَكُونُ هَذِهِ الضَّمَّةُ مِثْلَ قوله وحُيلَ [حِيلَ] وسُيق [سِيق] بالإِشارة.
وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنه سَمِعَ أَعرابيًّا يَقْرَأُ: " إِن كُنْتُمْ للرُّيَّا تَعْبُرون.
وَقَالَ اللَّيْثُ: رأَيتُ رُيَّا حَسَنة، قَالَ: وَلَا تُجْمَعُ الرُّؤْيا، وَقَالَ غَيْرُهُ: تُجْمَعُ الرُّؤْيا رُؤىً كَمَا يُقَالُ عُلْيًا وعُلىً.
والرَّئِيُّ والرِّئِيُّ: الجِنِّيُّ يَرَاهُ الإِنسانُ.
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: لَهُ رَئِيٌّ مِنَ الْجِنِّ ورِئِيٌّ إِذا كَانَ يُحِبه ويُؤَالِفُه، وَتَمِيمٌ تَقُولُ رِئِيٌّ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ، مِثْلُ سِعيد وبِعِير.
اللَّيْثُ: الرَّئِيُّ جنِّيّ يَتَعَرَّضُ لِلرَّجُلِ يُريه كَهَانَةً وطِبًّا، يُقَالُ: مَعَ فُلَانٍ رَئِيٌّ.
قَالَ ابْنُ الأَنباري: بِهِ رَئِيٌّ مِنَ الْجِنِّ بِوَزْنِ رَعِيّ، وَهُوَ الَّذِي يَعْتَادُ الإِنسان مِنَ الجنّ.
ابن الأَعرابي: أَرْأَى الرجلُ إِذا صَارَ لَهُ رَئِيٌّ مِنَ الْجِنِّ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « قَالَ لِسَوادِ بنِ قارِبٍ أَنتَ الَّذِي أَتاكَ رَئِيُّكَ بِظُهور رسولِ اللَّهِ»، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
يُقَالُ لِلتَّابِعِ مِنَ الْجِنِّ: رَئِيٌّ بِوَزْنِ كَمِيٍّ، وَهُوَ فَعِيلٌ أَو فَعُولٌ، سُمِّي بِهِ لأَنه يَتَراءى لمَتْبوعه أَو هُوَ مِنَ الرَّأْيِ، مِنْ قَوْلِهِمْ فلانٌ رَئِيُّ قومِهِ إِذا كَانَ صَاحِبَ رأْيِهِم، قَالَ: وَقَدْ تُكْسَرُ رَاؤُهُ لِاتِّبَاعِهَا مَا بَعْدَهَا؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" الخُدْري: فإِذا رَئِيٌّ مِثْلُ نِحْيٍ "، يَعْنِي حَيَّةً عظِيمَةً كالزِّقِّ، سَمَّاهَا بالرَّئِيِّ الجِنِّ لأَنهم يَزْعُمُونَ أَن الحيَّاتِ مِنْ مَسْخِ الجِنِّ، وَلِهَذَا سَمَّوْهُ شَيْطَانًا وحُبابًا وَجَانًّا.
وَيُقَالُ: بِهِ رَئِيٌّ مِنَ الْجِنِّ أَي مَسٌّ.
وتَرَاءَى لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْجِنِّ، وَلِلِاثْنَيْنِ تَرَاءَيَا، وَلِلْجَمْعِ تَراءَوْا.
وأَرْأَى الرجلُ إِذا تَبَّيَنت الرَّأْوَة فِي وجْهِه، وَهِيَ الحَماقة.
اللِّحْيَانِيُّ: يُقَالُ عَلَى وَجْهِهِ رَأْوَةُ الحُمْقِ إِذا عَرَفْت الحُمْق فِيهِ قَبْلَ أَن تَخْبُرَهُ.
وَيُقَالُ: إِن فِي وَجْهِهِ لرَأْوَةً أَي نَظْرَة ودَمامَةً؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ رَأْوَةَ الحُمْقِ.
قَالَ أَبو عَلِيٍّ: حَكَى يَعْقُوبُ عَلَى وَجْهِهِ رَأْوَةٌ، قَالَ: وَلَا أَعرف مثلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي تَصْرِيفِ رَأَى.
ورَأْوَةُ الشَّيْءِ: دلالَتُه.
وَعَلَى فُلان رَأْوَةُ الحُمْقِ أَي دَلالَته.
والرَّئِيُّ والرِّئِيُّ: الثَّوْبُ يُنْشَر للبَيْع؛ عَنْ أَبي عَلِيٍّ.
التَّهْذِيبُ: الرِّئْيُ بِوَزْنِ الرِّعْيِ، بِهَمْزَةٍ مسَكَّنَةٍ، الثوبُ الْفَاخِرُ الَّذِي يُنشَر ليُرى حُسْنُه؛ وأَنشد: " بِذِي الرِّئْيِ الجَميلِ مِنَ الأَثاثِ وَقَالُوا: رَأْيَ عَيْني زيدٌ فَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ نادِرِ المصادِرِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَنَظِيرُهُ سَمْعَ أُذُنِي، وَلَا نَظِيرَ لَهُمَا فِي المُتَعَدِّيات.
الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ أَبو زَيْدٍ بعينٍ مَا أَرَيَنَّكَ أَي اعْجَلْ وكُنْ كأَنِّي أَنْظُر إِلَيْكَ.
وَفِي حَدِيثِ حنَظلة: « تُذَكِّرُنا بالجَنَّةِ والنَّارِ كأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ».
تَقُولُ: جعلتُ الشَّيْءَ رَأْيَ عَيْنِك وبمَرْأًى مِنْكَ أَي حِذاءَكَ ومُقابِلَك بِحَيْثُ تَرَاهُ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَي كأَنَّا نراهُما رَأْيَ العَيْنِ.
والتَّرْئِيَةُ، بِوَزْنِ التَّرْعِيةِ: الرجلُ المُخْتال، وَكَذَلِكَ التَّرَائِيَة بوزْنِ التَّراعِيَة.
والتَّرِيَّة والتَّرِّيَّة والتَّرْيَة، الأَخيرة نَادِرَةٌ: مَا تَرَاهُ المرأَة مِنْ صُفْرةٍ أَو بَياضٍ أَو دمٍ قليلٍ عِنْدَ الْحَيْضِ، وَقَدْ رَأَتْ، وَقِيلَ: التَّرِيَّة الخِرْقَة الَّتِي تَعْرِفُ بِهَا المرأَةُ حَيْضَها مِنْ طُهْرِهَا، وَهُوَ مِنَ الرُّؤْيَةِ.
وَيُقَالُ للمَرْأَةِ: ذاتُ التَّرِيَّةِ، وَهِيَ الدَّمُ الْقَلِيلُ، وَقَدْ رَأَتْ تَرِيَّةً أَي دَمًا قَلِيلًا.
اللَّيْثُ: التَّرِّيَّة مشدَّدة الرَّاءِ، والتَّرِيَّة خَفِيفَةُ الرَّاءِ، والتَّرْية بجَزْمِ الرَّاءِ، كُلُّها لُغَاتٌ وَهُوَ مَا تَرَاهُ المرأَةُ مِنْ بَقِيَّة مَحِيضِها مِنْ صُفْرة أَو بَيَاضٍ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: كأَنّ الأَصل فِيهِ تَرْئِيَةٌ، وَهِيَ تَفْعِلَةٌ مِنْ رأَيت، ثُمَّ خُفِّفَت الهَمْزة فَقِيلَ تَرْيِيَةٌ، ثُمَّ أُدْغِمَت الياءُ فِي الْيَاءِ فَقِيلَ تَرِيَّة.
أَبو عُبِيدٍ: التَّرِيَّةُ فِي بَقِيَّةِ حَيْضِ المرأَة أَقَلُّ مِنَ الصُّفْرَةِ والكُدْرَة وأَخْفَى، تَراها المرأَةُ عِنْدَ طُهْرِها لِتَعْلم أَنَّها قَدْ طَهُرَت مِنْ حَيْضِها، قَالَ شَمِرٌ: وَلَا تَكُونُ التَّرِيَّة إِلا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ، فأَما مَا كَانَ فِي أَيام الْحَيْضِ فَلَيْسَ بتَرِيَّة وَهُوَ حَيْضٌ، وَذَكَرَ الأَزهري هَذَا فِي تَرْجَمَةِ التَّاءِ وَالرَّاءِ مِنَ الْمُعْتَلِّ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: التَّرِيَّة الشيءُ الخَفِيُّ اليَسيِرُ مِنَ الصُّفْرة والكْدْرة تَراها المرأَةُ بَعْدَ الاغْتِسال مِنَ الحَيْضِ.
وَقَدْ رَأَتِ المرأَة تَرِيئَةً إِذا رَأَت الدَّمَ القليلَ عِنْدَ الْحَيْضِ، وَقِيلَ: التَّرِيَّة الماءُ الأَصْفَر الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الأَصل فِي تَرِيَّة تَرْئِيَة، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى الرَّاءِ فَبَقِيَ تَرِئْيَة، ثُمَّ قُلِبَتِ الْهَمْزَةِ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا كَمَا فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي المَراة والكَماة، والأَصل المَرْأَة، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلى الرَّاءِ ثُمَّ أُبدلت الْهَمْزَةُ أَلفًا لِانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا.
وَفِي حَدِيثِ أُمّ عَطِيَّةَ: « كُنَّا لَا نَعُدُّ الكُدْرة والصُّفْرة والتَّرِيَّة شَيْئًا »، وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ الأَثير تَفْسِيرَهُ فَقَالَ: التَّرِيَّة، بِالتَّشْدِيدِ، مَا تَرَاهُ المرأَة بَعْدَ الْحَيْضِ وَالِاغْتِسَالِ مِنْهُ مِنْ كُدْرة أَو صُفْرة، وَقِيلَ: هِيَ الْبَيَاضُ الَّذِي تَرَاهُ عِنْدَ الطُّهْر، وَقِيلَ: هِيَ الخِرْقة الَّتِي تَعْرِف بِهَا المرأَة حيضَها مِنْ طُهْرِها، والتاءُ فِيهَا زَائِدَةٌ لأَنه مِنَ الرُّؤْية، والأَصل فِيهَا الْهَمْزُ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوهُ وشدَّدوا الياءَ فَصَارَتِ اللَّفْظَةُ كأَنها فَعِيلَةٌ، قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يُشَدِّدُ الراءَ وَالْيَاءَ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَن الْحَائِضَ إِذا طَهُرت واغْتَسَلت ثُمَّ عَادَتْ رَأَتْ صُفْرة أَو كُدْرة لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا وَلَمْ يُؤَثِّر فِي طُهْرها.
وتَراءَى القومُ: رَأَى بعضُهُم بَعْضًا.
وتَراءَى لِي وتَرَأَّى؛ عَنْ ثَعْلَبٍ: تَصَدَّى لأَرَاهُ.
ورَأَى المكانُ المكانَ: قابَلَه حَتَّى كَأَنَّه يَراهُ؛ قَالَ سَاعِدَةُ:
لَمَّا رَأَى نَعْمانَ حَلَّ بِكِرْفِئٍ ***عَكِرٍ، كَمَا لَبَجَ النُّزُولَ الأَرْكُبُ
وقرأَ أَبو عَمْرٍو: وأَرْنا مَنَاسِكَنا "، وَهُوَ نادِرٌ لِمَا يَلْحَقُ الفعلَ مِنَ الإِجْحاف.
وأَرْأَتِ الناقَةُ والشاةُ مِنَ المَعَز والضَّأْنِ، بتَقْدِير أَرْعَتْ، وَهِيَ مُرْءٍ ومُرْئِيَةٌ: رؤِيَ فِي ضَرْعها الحَمْلُ واسْتُبينَ وعَظُمَ ضَرْعُها، وَكَذَلِكَ المَرْأَة وجميعُ الحَوامِل إِلا فِي الحَافِر والسَّبُع.
وأَرْأَت العَنْزُ: وَرِمَ حَياؤُها؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، وتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِيهَا.
التَّهْذِيبُ: أَرْأَت العَنْزُ خاصَّة، وَلَا يُقَالُ لِلنَّعْجة أَرْأَتْ، وَلَكِنْ يُقَالُ أَثْقَلَت لأَن حَياءَها لَا يَظْهَر.
وأَرْأَى الرجلُ إِذا اسْوَدَّ ضَرْعُ شاتِهِ.
وتَرَاءَى النَّخْلُ: ظَهَرَت أَلوانُ بُسْرِهِ؛ عَنْ أَبي حَنِيفَةَ، وكلُّه مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ.
ودُورُ الْقَوْمِ مِنَّا رِئَاءٌ أَي مُنْتَهَى البَصَر حيثُ نَرَاهُم.
وهُمْ مِنِّي مَرْأىً ومَسْمَعٌ، وإِن شئتَ نَصَبْتَ، وَهُوَ مِنَ الظُّرُوفِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي أُجْرِيَتْ مُجْرَى غَيْرِ الْمَخْصُوصَةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ مَناطَ الثُّرَيَّا ومَدْرَجَ السُّيُول، وَمَعْنَاهُ هُوَ مِنِّي بحيثُ أَرَاهُ وأَسْمَعُه.
وهُمْ رِئَاءُ أَلْفٍ أَي زُهَاءُ أَلْفٍ فِيمَا تَرَى العَيْنُ.
ورأَيت زَيْدًا حَلِيمًا: عَلِمْتُه، وَهُوَ عَلَى المَثَل برُؤْيَةِ العَيْن.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ}؛ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَمْ تَعْلَم أَي أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلى هَؤُلاء، ومَعْناه اعْرِفْهُم يَعْنِي عُلَمَاءَ أَهل الْكِتَابِ، أَعطاهم اللَّهُ عِلْم نُبُوّةِ النبي، صلى الله عليه وَسَلَّمَ، بأَنه مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإِنجيل يَأْمرُهم بالمَعْروف ويَنْهاهُمْ عَنِ المُنْكر، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَلَمْ تَرَ} " أَلَمْ تُخْبِرْ، وتأْويلُهُ سُؤالٌ فِيهِ إِعْلامٌ، وتَأْوِيلُه أَعْلِنْ قِصَّتَهُم، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ: « أَلَمْ تَرَ إِلى فلان، وأَلَمْ تَرَ إِلى كَذَا»، وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا العربُ عِنْدَ التَّعَجُّب مِنَ الشَّيْءِ وَعِنْدَ تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ}، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ}؛ أَي أَلَمْ تَعْجَبْ لِفِعْلِهِم، وأَلَمْ يَنْتَه شأْنُهُم إِليك.
وأَتاهُم حِينَ جَنَّ رُؤْيٌ رُؤْيًا ورَأْيٌ رَأْيًا أَي حينَ اختَلَطَ الظَّلام فلَمْ يَتَراءَوْا.
وارْتَأَيْنا فِي الأَمْرِ وتَراءَيْنا: نَظَرْناه.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، وذَكَر المُتْعَة: « ارْتَأَى امْرُؤٌ بعدَ ذَلِكَ مَا شاءَ أَنْ يَرْتَئِيَ» أَي فكَّر وتَأَنَّى، قَالَ: وَهُوَ افْتَعَل مِنْ رُؤْيَة القَلْب أَو مِنَ الرَّأْيِ.
ورُوِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: أَنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ، قِيلَ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا تَراءَى نَارَاهُما "؛ قَالَ ابنُ الأَثِير: أَي يَلْزَمُ المُسْلِمَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَن يُباعِدَ مَنْزِلَه عَنْ مَنْزِل المُشْرِك وَلَا يَنْزِل بِالْمَوْضِعِ الَّذِي إِذا أُوقِدَتْ فِيهِ نارُه تَلُوح وتَظْهَرُ لِنَارِ المُشْرِكِ إِذا أَوْقَدَها فِي مَنْزِله، وَلَكِنَّهُ يَنْزِل معَ المُسْلِمِين فِي دَارِهِم، وإِنما كَرِهَ مُجاوَرَة الْمُشْرِكِينَ لأَنهم لَا عَهْدَ لَهُمْ وَلَا أَمانَ، وحَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الهِجْرة؛ وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَن يَسْكُنَ بلادَ المُشْرِكين فيكونَ مَعَهم بقَدْر مَا يَرَى كلُّ واحدٍ مِنْهُمْ نارَ صاحِبه.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
55-لسان العرب (ذا)
ذا: قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ أَحمد بْنِ يَحْيَى وَمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ: ذَا يَكُونُ بِمَعْنَى هَذَا، وَمِنْهُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}؛ أَي مَنْ هَذَا الَّذِي يَشْفَع عِنده؛ قَالَا: وَيَكُونُ ذَا بِمَعْنَى الَّذِي، قَالَا: وَيُقَالُ هَذَا ذُو صَلاحٍ ورأَيتُ هَذَا ذَا صَلاحٍ وَمَرَرْتُ بِهَذَا ذِي صَلاحٍ، وَمَعْنَاهُ كُلُّهُ صاحِب صَلاح.وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: ذَا اسمُ كلِّ مُشارٍ إِلَيْهِ مُعايَنٍ يَرَاهُ الْمُتَكَلِّمُ وَالْمُخَاطَبُ، قَالَ: وَالِاسْمُ فِيهَا الذَّالُ وَحْدَهَا مَفْتُوحَةً، وَقَالُوا الذَّالُ وَحْدَهَا هِيَ الِاسْمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ لَا يُعرَف مَا هُوَ حَتَّى يُفَسِّر مَا بَعْدَهُ كَقَوْلِكَ ذَا الرَّجلُ، ذَا الفرَسُ، فَهَذَا تَفْسِيرُ ذَا ونَصْبُه وَرَفْعُهُ وخفصه سَوَاءٌ، قَالَ: وَجَعَلُوا فَتْحَةَ الذَّالِ فَرْقًا بَيْنَ التَّذْكِيرِ والتأْنيث كَمَا قَالُوا ذَا أَخوك، وَقَالُوا ذِي أُخْتُك فَكَسَرُوا الذَّالَ فِي الأُنثى وَزَادُوا مَعَ فَتْحَةِ الذَّالِ فِي الْمُذَكِّرِ أَلفًا وَمَعَ كَسْرَتِهَا للأُنثى يَاءً كَمَا قَالُوا أَنْتَ وأَنْتِ.
قَالَ الأَصمعي: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لَا أُكَلِّمُك فِي ذِي السَّنَةِ وَفِي هَذِي السَّنَةِ، وَلَا يُقَالُ فِي ذَا السَّنةِ، وَهُوَ خطأٌ، إِنما يُقَالُ فِي هَذِهِ السَّنةِ؛ وَفِي هَذِي السَّنَةِ وَفِي ذِي السَّنَة، وَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ ادْخُلْ ذَا الدارَ وَلَا الْبَسْ ذَا الجُبَّة، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ ادْخُل ذِي الدارَ والْبَس ذِي الجُبَّةَ، وَلَا يَكُونُ ذَا إِلَّا لِلْمُذَكَّرِ.
يُقَالُ: هَذِهِ الدارُ وَذِي المرأَةُ.
وَيُقَالُ: دَخلت تِلْكَ الدَّار وتِيكَ الدَّار، وَلَا يُقَالُ ذِيك الدَّارَ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ذِيك البَتَّةَ، والعامَّة تُخْطِئ فِيهِ فَتَقُولُ كَيْفَ ذِيك المرأَةُ؟ وَالصَّوَابُ كَيْفَ تِيكَ المرأَةُ؟ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ذَا اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلى الْمُذَكَّرِ، وَذِي بِكَسْرِ الذَّالِ لِلْمُؤَنَّثِ، تَقُولُ: ذِي أَمَةُ اللهِ، فإِن وَقَفْتَ عَلَيْهِ قُلْتَ ذِهْ، بِهَاءٍ مَوْقُوفَةٍ، وَهِيَ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ، وَلَيْسَتْ للتأْنيث، وَإِنَّمَا هِيَ صِلةٌ كَمَا أَبدلوا فِي هُنَيَّةٍ فَقَالُوا هُنَيْهة؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ وَلَيْسَتْ للتأْنيث وَإِنَّمَا هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ، قَالَ: فإِن أَدخلت عَلَيْهَا الْهَاءَ لِلتَّنْبِيهِ قُلْتَ هَذَا زيدٌ وَهَذِي أَمَةُ اللهِ وَهَذِهِ أَيضًا، بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ، وَقَدِ اكْتَفَوْا بِهِ عَنْهُ، فإِن صَغَّرْت ذَا قُلْتَ ذَيًّا، بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ، لأَنك تَقْلِب أَلف ذَا يَاءٍ لِمَكَانِ الْيَاءِ قَبْلَهَا فتُدْغِمها فِي الثَّانِيَةِ وَتَزِيدُ فِي آخِرِهِ أَلفًا لتَفْرُقَ بَيْنَ المُبْهَم وَالْمُعْرَبِ، وذَيّانِ فِي التَّثْنِيَةِ، وَتَصْغِيرُ هَذَا هَذَيًّا، وَلَا تُصَغَّر ذِي لِلْمُؤَنَّثِ وَإِنَّمَا تُصَغَّر تَا، وَقَدِ اكْتَفَوْا بِهِ عَنْهُ، وَإِنْ ثَنَّيْتَ ذَا قُلْتَ ذانِ لأَنه لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا لِسُكُونِهِمَا فتَسْقُط إِحْدَى الأَلفين، فَمَنْ أَسقط أَلف ذَا قرأَ إنَّ هذَينِ لَساحِرانِ فأَعْرَبَ، وَمَنْ أَسقط أَلف التَّثْنِيَةِ قرأَ" إنَّ هذانِ لساحِرانِ لأَن أَلف ذَا لَا يَقَعُ فِيهَا إِعْرَابٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا على لغة بَلْحَرِثِ ابن كَعْبٍ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ عِنْدَ قَوْلِ الْجَوْهَرِيِّ: مَنْ أَسقط أَلف التَّثْنِيَةِ قرأَ إنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، قَالَ: هَذَا وَهْمٌ مِنَ الْجَوْهَرِيِّ لأَن أَلف التَّثْنِيَةِ حَرْفٌ زِيدَ لِمَعْنًى، فَلَا يَسْقُطُ وَتَبْقَى الأَلف الأَصلية كَمَا لَمْ يَسقُط التَّنْوِينُ فِي هَذَا قاضٍ وَتَبْقَى الْيَاءُ الأَصلية، لأَن التَّنْوِينَ زيدَ لِمَعْنًى فَلَا يَصِحُّ حَذْفُهُ، قَالَ: وَالْجَمْعُ أُولاء مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، فَإِنْ خاطبْتَ جئْتَ بِالْكَافِ فَقُلْتَ ذاكَ وَذَلِكَ، فَاللَّامُ "زَائِدَةٌ وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُومأُ إِليه بَعِيدٌ وَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الإِعراب، وتُدْخِلُ الْهَاءَ عَلَى ذَاكَ فَتَقُولُ هَذَاكَ زَيدٌ، وَلَا تُدْخِلُها عَلَى ذَلِكَ وَلَا عَلَى أُولئك كَمَا لَمْ تَدْخُل عَلَى تلْكَ، وَلَا تَدْخُل الكافُ عَلَى ذِي لِلْمُؤَنَّثِ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى تَا، تَقُولُ تِيكَ وتِلْك، وَلَا تَقُلْ ذِيك فإِنه خطأٌ، وَتَقُولُ فِي التَّثْنِيَةِ: رأَيت ذَيْنِكَ الرِّجُلين، وَجَاءَنِي ذانِكَ الرَّجُلانِ، قَالَ: وَرُبَّمَا قَالُوا ذانِّك، بِالتَّشْدِيدِ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ يَقُولُ ذانِّك، بِتَشْدِيدِ النُّونِ، تَثْنِيةَ ذَلِكَ قُلِبَتِ اللَّامُ نُونًا وأُدْغِمَت النُّونُ فِي النُّونِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تشديدُ النُّونِ عِوضٌ مِنَ الأَلف الْمَحْذُوفَةِ مِنْ ذَا، وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي اللذانِّ إِنَّ تَشْدِيدَ النُّونِ عِوَضٌ مِنَ الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ مِنَ الَّذِي، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَإِنَّمَا شَدَّدُوا النُّونَ فِي ذَلِكَ تأْكيدًا وَتَكْثِيرًا لِلِاسْمِ لأَنه بَقِيَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ كَمَا أَدخلوا اللَّامَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الأَسماء المُبْهَمة لِنُقْصَانِهَا، وَتَقُولُ لِلْمُؤَنَّثِ تانِكَ وتانِّك أَيضًا، بِالتَّشْدِيدِ، وَالْجَمْعُ أُولئك، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حُكْمِ الْكَافِ فِي تَا، وَتَصْغِيرُ ذَاكَ ذَيّاك وَتَصْغِيرُ ذَلِكَ ذَيّالِك؛ وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ وقَدِمَ مِنْ سَفَره فَوَجَدَ امرأَته قَدْ وَلَدَتْ غُلَامًا فأَنكره فَقَالَ لَهَا:
لَتَقْعُدِنَّ مَقْعَدَ القَصِيِّ ***مِنِّي ذِي القاذُورةِ المَقْلِيِ
أَو تَحْلِفِي برَبِّكِ العَلِيِّ ***أَنِّي أَبو ذَيّالِكِ الصَّبيِ
قَدْ رابَني بالنَّظَر التُّرْكِيِّ، ***ومُقْلةٍ كمُقْلَةِ الكُرْكِيِ
فَقَالَتْ:
لَا وَالَّذِي رَدَّكَ يَا صَفِيِّي، ***مَا مَسَّني بَعْدَك مِن إنْسِيِ
غيرِ غُلامٍ واحدٍ قَيْسِيِّ، ***بَعْدَ امرأَيْنِ مِنْ بَني عَدِيِ
وآخَرَيْنِ مِنْ بَني بَلِيِّ، ***وَخَمْسَةٍ كَانُوا عَلَى الطَّوِيِ
وسِتَّةٍ جاؤوا مَعَ العَشِيِّ، ***وغيرِ تُرْكِيٍّ وبَصْرَوِيِ
وَتَصْغِيرُ تِلْك تَيَّاكَ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ تَيّالِكَ، فأَما تَيّاك فَتَصْغِيرُ تِيك.
وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ذَا إِشارة إِلى الْمُذَكَّرِ، يُقَالُ ذَا وَذَاكَ، وَقَدْ تُزَادُ اللَّامُ فَيُقَالُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {ذلِكَ الْكِتابُ}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ هَذا الكتابُ، وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى ذَا هَا الَّتِي للتَّنْبِيه فَيُقَالُ هَذا، قَالَ أَبو عَلِيٍّ: وأَصله ذَيْ فأَبدلوا يَاءَهُ أَلفًا، وَإِنْ كَانَتْ سَاكِنَةً، وَلَمْ يَقُولُوا ذَيْ لِئَلَّا يُشْبِهَ كَيْ وأَيْ، فأَبدلوا يَاءَهُ أَلفًا لِيلْحَقَ بِبَابِ مَتَى وَإِذْ أَو يَخْرُجَ مِنْ شَبَه الحَرْفِ بعضَ الخُروج.
وَقَوْلُهُ تعالى: {إنَّ هَذانِ لَساحِرانِ}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَراد يَاءَ النَّصْبِ ثُمَّ حَذَفَهَا لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الأَلف قَبْلَها، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْقَوِيِّ، وذلِك أَن الْيَاءَ هِيَ الطَّارِئَةُ عَلَى الأَلف فَيَجِبُ أَن تُحْذَفَ الأَلف لِمَكَانِهَا، فأَما مَا أَنشده اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ لِجَمِيلٍ مِنْ قَوْلِهِ:
وأَتَى صَواحِبُها فَقُلْنَ: هَذَا الَّذي ***مَنَحَ المَوَدَّةَ غَيْرَنا وجَفانا
فإِنه أَراد أَذا الَّذِي، فأَبدل الْهَاءَ مِنَ الْهَمْزَةِ.
وَقَدِ استُعْمِلت ذَا مَكَانَ الَّذِي كَقَوْلِهِ تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}؛ أَي مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ فِيمَنْ رَفَعَ الْجَوَابَ فَرَفْعُ العَفْوِ يَدُلُّ عَلَى أَن مَا مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ وَذَا خَبَرُهَا ويُنْفِقُون صِلةُ ذَا، وأَنه لَيْسَ مَا وَذَا جَمِيعًا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ عِنْدَسِيبَوَيْهِ، وإِن كَانَ قَدْ أَجاز الوجهَ الْآخَرَ مَعَ الرَّفْعِ.
وَذِي، بِكَسْرِ الذَّالِ، لِلْمُؤَنَّثِ وَفِيهِ لُغاتٌ: ذِي وذِهْ، الْهَاءُ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ، الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي تَحْقِيرِ ذَا ذَيّا، وذِي إِنَّمَا هِيَ تأْنيث ذَا وَمِنْ لَفْظِهِ، فَكَمَا لَا تَجِب الْهَاءُ فِي الْمُذَكَّرِ أَصلًا فَكَذَلِكَ هِيَ أَيضًا فِي الْمُؤَنَّثِ بَدَلٌ غيرُ أَصْلٍ، وَلَيْسَتِ الْهَاءُ فِي هَذِه وَإِنِ اسْتُفِيدَ مِنْهَا التأْنيث بِمَنْزِلَةِ هَاءِ طَلْحَة وحَمْزَة لأَن الْهَاءَ فِي طَلْحَةَ وَحَمْزَةَ زَائِدَةٌ، وَالْهَاءُ فِي هَذا لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ إِنما هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ فِي هَذِي، وأَيضًا فإِنَّ الْهَاءَ فِي حَمْزَةَ نَجِدُهَا فِي الْوَصْلِ تَاءً وَالْهَاءُ فِي هَذِهِ ثابِتةٌ فِي الْوَصْلِ ثَباتَها فِي الْوَقْفِ.
وَيُقَالُ: ذِهِي، الْيَاءُ لِبَيَانِ الْهَاءِ شَبَّهَهَا بِهَاءِ الإِضمار فِي بِهِي وهَذِي وهَذِهِي وهَذِهْ، الْهَاءُ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ ساكنةٌ إِذا لَمْ يَلْقَهَا سَاكِنٌ، وَهَذِهِ كُلُّهَا فِي مَعْنَى ذِي؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:
قُلْتُ لَها: يَا هَذِهي هَذَا إِثِمْ، ***هَلْ لَكِ فِي قاضٍ إِلَيْهِ نَحْتَكِمْ؟
وَيُوصَلُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِكَافِ الْمُخَاطَبَةِ.
قَالَ ابْنُ جِنِّي: أَسماء الإِشارة هَذا وهذِه لَا يَصِحُّ تَثْنِيَةُ شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ التَّثْنِيَةَ لَا تَلْحَقُ إِلا النَّكِرَةَ، فَمَا لَا يَجُوزُ تَنْكِيرُهُ فَهُوَ بأَن لَا تَصِحَّ تَثْنِيَتُهُ أَجْدَرُ، فأَسْماء الإِشارة لَا يَجُوزُ أَن تُنَكَّر فَلَا يَجُوزُ أَن يُثَنَّى شَيْءٌ مِنْهَا، أَلا تَرَاهَا بَعْدَ التَّثْنِيَةِ عَلَى حَدِّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّثْنِيَةِ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِكَ هَذانِ الزَّيْدانِ قائِمَيْن، فَنَصْبُ قائِمَيْن بِمَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الإِشارةُ والتنبيهُ، كَمَا كُنْتَ تَقُولُ فِي الْوَاحِدِ هَذَا زَيْدٌ قَائِمًا، فَتَجِدُ الْحَالَ وَاحِدَةً قَبْلَ التثنيةِ وَبَعْدَهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُكَ ضَرَبْتُ اللَّذَيْنِ قَامَا، تَعرَّفا بِالصِّلَةِ كَمَا يَتَعَرَّفُ بِهَا الْوَاحِدُ كَقَوْلِكَ ضَرَبْتُ الَّذِي قامَ، والأَمر فِي هَذِهِ الأَشياء بَعْدَ التَّثْنِيَةِ هُوَ الأَمر فِيهَا قَبْلَ التَّثْنِيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سائرُ الأَسماء الْمُثَنَّاةِ نَحْوَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، أَلا تَرَى أَن تَعْرِيفَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو إِنما هُوَ بِالْوَضْعِ وَالْعَلَمِيَّةِ؟ فإِذا ثَنَّيْتَهُمَا تَنَكَّرَا فَقُلْتَ عِنْدِي عَمْرانِ عاقِلانِ، فإِن آثَرْتَ التَّعْرِيفَ بالإِضافة أَو بِاللَّامِ فَقُلْتَ الزَّيْدانِ والعَمْرانِ وزَيْداكَ وعَمْراكَ، فَقَدْ تَعَرَّفا بَعْدَ التَّثْنِيَةِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ تَعَرُّفِهما قَبْلَهَا ولَحِقا بالأَجْناسِ وفارَقا مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ تَعْرِيفِ العَلَمِيَّةِ والوَضْعِ، فإِذا صَحَّ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَن تعلمَ أَنَّ هذانِ وهاتانِ إِنما هِيَ أَسماء مَوْضُوعَةٌ لِلتَّثْنِيَةِ مُخْتَرعة لَهَا، وَلَيْسَتْ تَثْنِيَةً لِلْوَاحِدِ عَلَى حَدِّ زَيْدٍ وزَيْدانِ، إِلا أَنها صِيغت عَلَى صُورَةِ مَا هُوَ مُثَنًّى عَلَى الْحَقِيقَةِ فَقِيلَ هذانِ وهاتانِ لِئَلَّا تَخْتَلِفَ التَّثْنِيَةُ، وَذَلِكَ أَنهم يُحافِظون عَلَيْهَا مَا لَا يُحافِظون عَلَى الْجَمْعِ، أَلا تَرَى أَنك تَجِدُ فِي الأَسماء الْمُتَمَكِّنَةِ أَلفاظَ الجُموع مِنْ غَيْرِ أَلفاظِ الْآحَادِ، وَذَلِكَ نَحْوَ رَجُلٍ ونَفَرٍ وامرأَةٍ ونِسْوة وبَعير وإِبلٍ وَوَاحِدٍ وجماعةٍ، وَلَا تَجِدُ فِي التَّثْنِيَةِ شَيْئًا مِنْ هَذَا، إِنَّمَا هِيَ مِنْ لَفْظِ الْوَاحِدِ نَحْوَ زَيْدٍ وَزَيْدَيْنِ وَرَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَيضًا كَثِيرٌ مِنَ الْمَبْنِيَّاتِ عَلَى أَنها أَحق بِذَلِكَ مِنَ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَذَلِكَ نَحْوَ ذَا وأُولَى وأُلات وذُو وأُلُو، وَلَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي تَثْنِيَتِهَا نَحْوَ ذَا وذانِ وذُو وذَوانِ، فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَعِنَايَتِهِمْ بِهَا، أَعني أَن تَخْرُجَ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ لِئَلَّا تَخْتَلِفَ، وأَنهم بِهَا أَشدُّ عِناية مِنْهُمْ بِالْجَمْعِ، وَذَلِكَ لَمَّا صِيغَتْ لِلتَّثْنِيَةِ أَسْماء مُخْتَرَعة غَيْرُ مُثناة عَلَى الْحَقِيقَةِ كَانَتْ عَلَى أَلفاظ المُثناة تَثْنِيةً حَقِيقَةً، وَذَلِكَ ذانِ وتانِ، وَالْقَوْلُ فِي اللَّذانِ واللَّتانِ كَالْقَوْلِ فِي ذانِ وتانِ.
قَالَ ابْنُ جِنِّي: فأَما قَوْلُهُمْ هذانِ وهاتانِ وَفَذَانِكَ فإِنما تُقْلَبُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لأَنهم عَوَّضوا مِنْ حَرْفٍ "مَحْذُوفٍ، وأَما فِي هذانِ فَهِيَ عِوَضٌ مِنْ أَلف ذَا، وَهِيَ فِي ذانِك عِوَضٌ مِنْ لَامِ ذَلِكَ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَيضًا أَن تَكُونَ عِوَضًا مِنْ أَلف ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ كُتِبَتْ فِي التَّخْفِيفِ بِالتَّاءِ لأَنها حِينَئِذٍ مُلْحَقَةٌ بدَعْد، وإِبدال التَّاءِ مِنَ الْيَاءِ قَلِيلٌ، إِنما جَاءَ فِي قَوْلِهِمْ كَيْتَ وكَيْتَ، وَفِي قَوْلِهِمْ ثِنْتَانِ، وَالْقَوْلُ فِيهِمَا كَالْقَوْلِ فِي كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَذَكَرَ الأَزهري فِي تَرْجَمَةِ حَبَّذا قَالَ: الأَصل حَبُبَ ذَا فأُدغمت إِحدى الباءَين فِي الأُخرى وشُدِّدت، وَذَا إِشارة إِلى مَا يَقْرُبُ مِنْكَ؛ وأَنشد بَعْضُهُمْ:
حَبَّذا رَجْعُها إِلَيْكَ يَدَيْها ***فِي يَدَيْ دِرْعِها تَحُلُّ الإِزارا
كأَنه قَالَ: حَبُبَ ذَا، ثُمَّ تَرْجَمَ عَنْ ذَا فَقَالَ: هُوَ رَجْعُها يَدَيْها إِلى حَلّ تِكَّتها أَي مَا أَحَبَّه، ويَدا دِرْعِها: كُمَّاها.
وَفِي صِفَةِ الْمَهْدِيِّ: قُرَشِيٌّ يَمانٍ لَيْسَ مِن ذِي وَلَا ذُو أَي لَيْسَ نَسَبُه نَسَبَ أَذْواء الْيَمَنِ، وَهُمْ مُلوكُ حِمْيَرَ، مِنْهُمْ ذُو يَزَنَ وذُو رُعَيْنٍ؛ وَقَوْلُهُ: قرشيٌّ يَمانٍ أَي قُرَشِيُّ النَّسَب يَمانِي المَنْشإ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ عَيْنُهَا وَاوٌ، وَقِيَاسُ لَامِهَا أَن تَكُونَ يَاءً لأَن بَابَ طَوَى أَكثر مِنْ بَابِ قَوِيَ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" جَرِيرٍ: يَطْلُع عَلَيْكُمْ رَجل مِنْ ذِي يَمَنٍ عَلَى وجْهِه مَسْحة مِنْ ذِي مَلَكٍ "؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: كَذَا أَورده أَبو عُمَر الزَّاهِدُ وَقَالَ ذِي هَاهُنَا صِلة أَي زائدة.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
56-مختار الصحاح (ذا)
(ذَا) اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْمُذَكَّرِ وَ (ذِي) بِكَسْرِ الذَّالِ لِلْمُؤَنَّثِ، تَقُولُ: ذِي أَمَةُ اللَّهِ، فَإِنْ أَدْخَلْتَ عَلَيْهَا هَا التَّنْبِيهِ قُلْتَ: هَذَا زَيْدٌ وَهَذِي أَمَةُ اللَّهِ وَهَذِهِ أَيْضًا بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ.وَتَثْنِيَةُ ذَا ذَانِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ الْأَلِفَيْنِ لِسُكُونِهِمَا فَتَسْقُطُ إِحْدَاهُمَا: فَمَنْ أَسْقَطَ أَلِفَ ذَا قَرَأَ «إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ» فَأَعْرَبَ.
وَمَنْ أَسْقَطَ أَلِفَ التَّثْنِيَةِ قَرَأَ «إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ» لِأَنَّ أَلِفَ ذَا لَا يَقَعُ فِيهَا إِعْرَابٌ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا عَلَى لُغَةِ بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ.
وَالْجَمْعُ أُولَاءِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ.
فَإِنْ خَاطَبْتَ جِئْتَ بِالْكَافِ فَقُلْتَ: (ذَاكَ) وَ (ذَلِكَ) فَاللَّامُ زَائِدَةٌ وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُومَأُ إِلَيْهِ بِعِيدٌ وَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ.
وَتُدْخِلُ هَا عَلَى ذَاكَ فَتَقُولُ: (هَذَاكَ) زَيْدٌ وَلَا تُدْخِلْهَا عَلَى ذَلِكَ وَلَا عَلَى أُولَئِكَ كَمَا لَمْ تُدْخِلْهَا عَلَى تِلْكَ.
وَلَا تُدْخِلِ الْكَافَ عَلَى ذِي لِلْمُؤَنَّثِ وَإِنَّمَا تُدْخِلُهَا عَلَى تَا تَقُولُ: تِيكَ وَتِلْكَ وَلَا تَقُلْ: ذِيكَ فَإِنَّهُ خَطَأٌ.
وَتَقُولُ فِي التَّثْنِيَةِ: (ذَانِكَ) فِي الرَّفْعِ وَ (ذَيْنِكَ) فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ وَرُبَّمَا قَالُوا: (ذَانِّكَ) بِالتَّشْدِيدِ وَلِلْمُؤَنَّثِ تَانِكَ وَتَانِّكَ أَيْضًا بِالتَّشْدِيدِ وَالْجَمْعُ أُولَئِكَ.
وَحُكْمُ الْكَافِ سَبَقَ فِي - تَا -.
مختار الصحاح-محمد بن أبي بكر الرازي-توفي: 666هـ/1268م
57-مقاييس اللغة (عرض)
(عَرَضَ) الْعَيْنُ وَالرَّاءُ وَالضَّادُ بِنَاءٌ تَكْثُرُ فُرُوعُهُ، وَهِيَ مَعَ كَثْرَتِهَا تَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْعَرْضُ الَّذِي يُخَالِفُ الطُّولَ.وَمَنْ حَقَّقَ النَّظَرَ وَدَقَّقَهُ عَلِمَ صِحَّةَ مَا قُلْنَاهُ، وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ شَرْحًا شَافِيًا.
فَالْعَرْضُ: خِلَافُ الطُّولِ.
تَقُولُ مِنْهُ: عَرُضَ الشَّيْءُ يَعْرُضُ عِرَضًا، فَهُوَ عَرِيضٌ.
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: عَرُضَ عَرَاضَةً.
وَأَنْشَدَ:
إِذَا ابْتَدَرَ الْقَوْمُ الْمَكَارِمَ عَزَّهُمْ *** عَرَاضَةُ أَخْلَاقِ ابْنِ لَيْلَى وَطُولُهَا
وَقَوْسٌ عُرَاضَةٌ: عَرِيضَةٌ.
وَأَعْرَضَتِ الْمَرْأَةُ أَوْلَادَهَا: وَلَدَتْهُمْ عِرَاضًا، كَمَا يُقَالُ أَطَالَتْ فِي الطُّولِ.
وَمِنَ الْبَابِ: عَرَضَ الْمَتَاعَ يَعْرِضُهُ عَرْضًا.
وَهُوَ كَأَنَّهُ فِي ذَاكَ قَدْ أَرَاهُ عَرْضَهُ.
وَعَرَّضَ الشَّيْءَ تَعْرِيضًا: جَعَلَهُ عَرِيضًا.
وَمِنْ ذَلِكَ عَرْضُ الْجُنْدِ: أَنْ تُمِرَّهُمْ عَلَيْكَ، وَذَلِكَ كَأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى الْعَارِضِ مِنْ حَالِهِمْ.
وَيُقَالُ لِلْمَعْرُوضِ مِنْ ذَلِكَ: عَرَضٌ مُتَحَرِّكَةٌ، كَمَا يُقَالُ قَبَضَ قَبَضًا، وَقَدْ أَلْقَاهُ فِي الْقَبَضِ.
وَعَرَضُوهُمْ عَلَى السَّيْفِ عَرْضًا، كَأَنَّ السَّيْفَ أَخَذَ عَرْضَ الْقَوْمِ فَلَمْ يَفُتْهُ أَحَدٌ.
وَعَرَضْتُ الْعُودَ عَلَى الْإِنَاءِ أَعْرُضُهُ بِضَمِّ الرَّاءِ، إِذَا وَضَعْتَهُ عَلَيْهِ عَرْضًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: هَلَّا خَمَّرْتَهُ وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرُضُهُ عَلَيْهِ.
وَيُقَالُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ: عَرَضَ يَعْرِضُ، بِكَسْرِ الرَّاءِ.
وَمَا عَرَضْتُ لِفُلَانٍ وَلَا تَعْرِضْ لَهُ، وَذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ عَرْضَكَ بِإِزَاءِ عَرْضِهِ.
وَيُقَالُ: عَرَضَ الرُّمْحَ يَعَرِضُهُ عَرْضًا.
قَالَ النَّابِغَةُ:
لَهُنَّ عَلَيْهِمْ عَادَةٌ قَدْ عَرَفْنَهَا *** إِذَا عَرَضُوا الْخَطِّيَّ فَوْقَ الْكَوَاثِبِ
وَعَرَضَ الْفَرَسُ فِي عَدْوِهِ عَرْضًا، كَأَنَّهُ يُرِي النَّاظِرَ عَرْضَهُ.
قَالَ:
يَعْرِضُ حَتَّى يَنْصِبَ الْخَيْشُومَا.
قَالُوا: إِذَا عَدَا عَارِضًا صَدْرَهُ، أَوْ مَائِلًا بِرَأْسِهِ.
وَيُقَالُ: عَرَضَ فُلَانٌ مِنْ سِلْعَتِهِ، إِذَا عَارَضَ بِهَا، أَعْطَى وَاحِدَةً وَأَخَذَ أُخْرَى.
وَمِنْهُ:
هَلْ لَكَ وَالْعَارِضُ مِنْكَ عَائِضُ.
أَيْ يُعَارِضُكِ فَيَأْخُذُ مِنْكِ شَيْئًا، وَيُعْطِيكَ شَيْئًا.
وَيُقَالُ: عَرَضْتُ أَعْوَادًا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَاعْتَرَضَتْ هِيَ.
قَالَ أَبُو دُوَادٍ:
تَرَى الرِّيشَ فِي جَوْفِهِ طَامِيًا *** كَعَرْضِكَ فَوْقَ نِصَالٍ نِصَالَا
يَصِفُ الْمَاءَ أَنَّ الرِّيشَ بَعْضُهُ مُعْتَرِضٌ فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا يَعْتَرِضُ النَّصْلُ عَلَى النَّصْلِ كَالصَّلِيبِ.
وَيُقَالُ: عَرَضْتُ لَهُ مِنْ حَقِّهِ ثَوْبًا فَأَنَا أَعْرِضُهُ، إِذَا كَانَ لَهُ حَقٌّ فَأَعْطَاهُ ثَوْبًا، كَأَنَّهُ جَعَلَ عَرْضَ هَذَا بِإِزَاءِ عَرْضِ حَقِّهِ الَّذِي كَانَ لَهُ.
وَيُقَالُ: أَعْيَا فَاعْتَرَضَ عَلَى الْبَعِيرِ.
وَذَكَرَ الْخَلِيلُ: أَعْرَضْتُ الشَّيْءَ: جَعَلْتُهُ عَرِيضًا.
وَتَقُولُ الْعَرَبُ: أَعْرَضْتَ الْقِرْفَةَ.
وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَعْرَضْتَ الْفُرْقَةَ وَلَعَلَّهُ أَجْوَدُ، وَذَلِكَ لِلرَّجُلِ يُقَالُ لَهُ: مَنْ تَتَّهِمُ؟ فَيَقُولُ: أَتَّهِمُ بَنِي فُلَانٍ، لِلْقَبِيلَةِ بِأَسْرِهَا.
فَيُقَالُ لَهُ: أَعْرَضْتَ الْقِرْفَةَ، أَيْ جِئْتَ بِتُهْمَةٍ عَرِيضَةٍ تَعْتَرِضُ الْقَبِيلَ بِأَسْرِهِ.
وَمِنَ الْبَابِ: أَعْرَضْتُ عَنْ فُلَانٍ، وَأَعْرَضْتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَعْرَضَ.
بِوَجْهِهِ.
"وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَا وَلَّاهُ عَرْضَهُ."
وَالْعَارِضُ إِنَّمَا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَرْضِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الطُّولِ.
وَيُقَالُ: أَعْرَضَ لَكَ الشَّيْءُ مِنْ بَعِيدٍ، فَهُوَ مُعْرِضٌ، وَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ لَكَ وَبَدَا.
وَالْمَعْنَى أَنَّكَ رَأَيْتَ عَرْضَهُ.
قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
وَأَعْرَضَتِ الْيَمَامَةُ وَاشْمَخَرَّتْ *** كَأَسْيَافٍ بِأَيْدِي مُصْلِتِينَا
[وَ] تَقُولُ: عَارَضْتُ فُلَانًا فِي السَّيْرِ، إِذَا سِرْتَ حِيَالَهُ.
وَعَارَضْتُهُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، إِذَا أَتَيْتَ إِلَيْهِ مِثْلَ مَا أَتَى إِلَيْكَ.
وَمِنْهُ اشْتُقَّتِ الْمُعَارَضَةُ.
وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، كَأَنَّ عَرْضَ الشَّيْءِ الَّذِي يَفْعَلُهُ مِثْلُ عَرْضِ الشَّيْءِ الَّذِي أَتَاهُ.
وَقَالَ طُفَيْلٌ:
وَعَارَضْتُهَا رَهْوًا عَلَى مُتَتَابِعٍ *** نَبِيلِ الْقُصَيْرَى خَارِجِيٍّ مُحَنَّبِ
وَيُقَالُ: اعْتَرَضَ فِي الْأَمْرِ فُلَانٌ، إِذَا أَدْخَلَ نَفْسَهُ فِيهِ.
وَعَارَضْتُ فُلَانًا فِي الطَّرِيقِ، وَعَارَضْتُهُ بِالْكِتَابِ، وَاعْتَرَضْتُ أُعْطِي مَنْ أَقَبَلَ وَأَدْبَرَ.
وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ.
وَاعْتَرَضَ فُلَانٌ عِرْضَ فُلَانٍ يَقَعُ فِيهِ، أَيْ يَفْعَلُ فِعْلًا يَأْخُذُ عَرْضَ عِرْضِهِ.
وَاعْتَرَضَ الْفَرَسُ، إِذَا لَمْ يَسْتَقِمْ لِقَائِدِهِ.
قَالَ الطِّرِمَّاحُ:
وَأَرَانِي الْمَلِيكُ رُشْدِي وَقَدْ كُنْ *** تُ أَخَا عُنْجُهِيَّةٍ وَاعْتِرَاضِ
وَتَعَرَّضَ لِي فُلَانٌ بِمَا أَكْرَهُ.
وَرَجُلٌ عِرِّيضٌ، أَيْ مُتَعَرِّضٌ.
وَمِنَ الْبَابِ: اسْتَعْرَضَ الْخَوَارِجُ النَّاسَ، إِذَا لَمْ يُبَالُوا مَنْ قَتَلُوا.
وَفِي الْحَدِيثِ: كُلِ الْجُبْنَ عُرْضًا، أَيِ اعْتَرِضْهُ كَيْفَ كَانَ وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ.
وَهَذَا كَمَا قُلْنَاهُ فِي إِعْرَاضِ الْقِرْفَةِ.
وَالْمُعْرِضُ: الَّذِي يَعْتَرِضُ النَّاسَ يَسْتَدِينُ مِمَّنْ أَمْكَنَهُ.
وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ: أَلَا إِنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ ادَّانَ مُعْرِضًا.
وَمِنَ الْبَابِ الْعِرْضُ: عِرْضُ الْإِنْسَانِ.
قَالَ قَوْمٌ: هُوَ حَسَبُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَفْسُهُ.
وَأَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَهُوَ مِنَ الْعَرْضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِرْضَ: رِيحُ الْإِنْسَانِ طَيِّبَةً كَانَتْ أَمْ غَيْرَ طَيِّبَةٍ، فَهَذَا طَرِيقُ الْمُجَاوَزَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مِنْ عِرْضِهِ سُمِّيَتْ عِرْضًا.
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّمَا هُوَ عَرَقٌ يَجْرِي مِنْ أَعْرَاضِهِمْ أَيْ أَبْدَانِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْعِرْضَ: النَّفْسُ بِقَوْلِ حَسَّانَ، يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ *** وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي *** لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
وَتَقُولُ: هُوَ نَقِيُ الْعِرْضِ، أَيْ بَعِيدٌ مِنْ أَنْ يُشْتَمَ أَوْ يُعَابَ.
وَمِنَ الْبَابِ: مَعَارِيضُ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَخْرُجُ فِي مِعْرَضٍ غَيْرِ لَفْظِهِ الظَّاهِرِ، فَيُجْعَلُ هَذَا الْمِعْرَضِ لَهُ كَمِعْرَضِ الْجَارِيَةِ، وَهُوَ لِبَاسُهَا الَّذِي تُعْرَضُ فِيهِ، وَذَلِكَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَرْضِ.
وَقَدْ قُلْنَا فِي قِيَاسِ الْعَرْضِ مَا كَفَى.
وَزَعَمَ نَاسٌ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَرَفْتُ ذَاكَ فِي عَرُوضِ كَلَامِهِ، أَيْ فِي مَعَارِيضِ كَلَامِهِ.
وَمِنَ الْبَابِ الْعَرْضُ: الْجَيْشُ الْعَظِيمُ، وَهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ بِالْعَرْضِ مِنَ السَّحَابِ، وَهُوَ مَا سَدَّ بِعَرْضِهِ الْأُفُقَ.
قَالَ:
كُنَّا إِذَا قُدْنَا لِقَوْمٍ عَرْضَا.
أَيْ جَيْشًا كَأَنَّهُ جَبَلٌ أَوْ سَحَابٌ يَسُدُّ الْأُفُقَ، وَقَالَ دُرَيْدٌ:
نَعِيَّةُ مِنْسَرٍ أَوْ عَرْضُ جَيْشٍ *** تَضِيقُ بِهِ خُرُوقُ الْأَرْضِ مَجْرِ
وَكَانَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ يَقُولُ: الْأَعْرَاضُ: الْجِبَالُ وَالْأَوْدِيَةُ وَالسَّحَابُ، الْوَاحِدُ عِرْضٌ.
كَذَا قَالَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا بِالْفَتْحِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَرْضُ: سَنَدُ الْجَبَلِ.
وَأَنْشَدَ:
أَلَا تَرَى بِكُلِّ عَرْضٍ مُعْرِضِ.
وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ:
كَمَا تَدَهْدَى مِنَ الْعَرْضِ الْجَلَامِيدُ.
وَالْعَرِيضُ: الْجَدْيُ إِذَا نَزَا [أَوْ] يَكَادُ يَنْزُوَ، وَذَلِكَ إِذَا بَلَغَ.
وَهَذَا قِيَاسُهُ أَيْضًا قِيَاسُ الْبَابِ، وَهُوَ مِنَ الْعَرْضِ، وَجَمْعُهُ عُرْضَانٌ.
فَأَمَّا عَرُوضُ الشِّعْرِ فَقَالَ قَوْمٌ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَرُوضِ، وَهِيَ النَّاحِيَةُ، كَأَنَّهُ نَاحِيَةٌ مِنَ الْعِلْمِ.
وَأَنْشَدَ فِي الْعَرُوضِ:
لِكُلِّ أُنَاسٍ مِنْ مَعَدٍّ عِمَارَةٌ *** عَرُوضٌ إِلَيْهَا يَلْجَئُونَ وَجَانِبُ
وَقَالَ آخَرُونَ: الْعَرِيضُ: الطَّرِيقُ الصَّعْبُ، ذَلِكَ يَكُونُ فِي عَرْضِ جَبَلٍ، فَقَدْ صَارَ بَابُهُ قِيَاسَ سَائِرِ الْبَابِ.
قَالُوا: وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ عُرْضِيَّةٌ، إِذَا كَانَتْ صَعْبَةً.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهَا لَا تَسْتَقِيمُ فِي السَّيْرِ، بَلْ تَعْتَرِضُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنَحْتُهَا قَوْلِي عَلَى عُرْضِيَّةٍ *** عُلُطٍ أُدَارِي ضِغْنَهَا بِتَوَدُّدِ
وَمِنَ الْبَابِ: عُرْضُ الْحَائِطِ، وَعُرْضُ الْمَالِ، وَعُرْضُ النَّهْرِ، وَيُرَادُ بِهِ وَسَطُهُ.
وَذَلِكَ مِنَ الْعَرْضِ أَيْضًا.
وَقَالَ لَبِيدٌ:
فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَا *** مَسْجُورَةً مُتَجَاوِرًا قُلَّامُهَا
وَعُرْضُ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ، وَكُلُّهُ الْوَسَطُ.
وَكَانَ اللِّحْيَانِيُّ يَقُولُ: فُلَانٌ شَدِيدُ الْعَارِضَةِ، أَيِ النَّاحِيَةِ.
وَالْعَرَضُ مِنْ أَحْدَاثِ الدَّهْرِ، كَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، سُمِّيَ عَرَضًا لِأَنَّهُ يَعْتَرِضُ، أَيْ يَأْخُذُهُ فِيمَا عَرَضَ مِنْ جَسَدِهِ.
وَالْعَرَضُ: طَمَعُ الدُّنْيَا، قَلِيلًا [كَانَ] أَوْ كَثِيرًا.
وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُعْرِضُ، أَيْ يُرِيكَ عُرْضَهُ.
وَقَالَ:
مَنْ كَانَ يَرْجُو بَقَاءً لَا نَفَادَ لَهُ *** فَلَا يَكُنْ عَرَضُ الدُّنْيَا لَهُ شَجَنَا
وَيُقَالُ: الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يَأْخُذُ مِنْهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرْضِ.
"فَإِنِّمَا سَمِعْنَاهُ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَالِ غَيْرَ نَقْدٍ ; وَجَمْعُهُ عُرُوضٌ."
فَأَمَّا الْعَرَضُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، فَمَا يُصِيبُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ حَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا.
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169].
وَقَالَ الْخَلِيلُ: فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ: لَا يَزَالُونَ يَقَعُونَ فِيهِ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْتَرِضُونَ عُرْضَهُ.
وَالْمِعْرَاضُ: سَهْمٌ لَهُ أَرْبَعُ قُذَذٍ دِقَاقٍ، وَإِذَا رُمِيَ بِهِ اعْتَرَضَ.
قَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ السَّهْمُ الَّذِي يُرْمَى بِهِ لَا رِيشَ لَهُ يَمْضِي عَرْضًا.
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: شَدِيدُ الْعَارِضَةِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا قَالَهُ اللِّحْيَانِيُّ فِيهِ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ شَدِيدُ الْعَارِضَةِ، أَيْ ذُو جَلَدٍ وَصَرَامَةٍ.
وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، أَيْ شَدِيدٌ.
مَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنْهُ.
وَعَارِضَةُ الْوَجْهِ: مَا يَبْدُو مِنْهُ عِنْدَ الضَّحِكِ.
وَزَعَمَ أَنَّ أَسْنَانَ الْمَرْأَةِ تُسَمَّى الْعَوَارِضَ وَالْقِيَاسُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَاحِدٌ.
قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَكَأَنَّ فَارَةَ تَاجِرٍ بِقَسِيمَةٍ *** سَبَقَتْ عَوَارِضُهَا إِلَيْكَ مِنَ الْفَمِ
وَرَجُلٌ خَفِيفُ الْعَارِضَيْنِ، يَعْنِي عَارِضَيِ اللِّحْيَةِ.
وَقَالَ أَبُو لَيْلَى: الْعَوَارِضُ الضَّوَاحِكُ، لِمَكَانِهَا فِي عَرْضِ الْوَجْهِ.
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: عَارِضَا الرَّجُلِ: شَعْرُ خَدَّيْهِ، لَا يُقَالُ لِلْأَمْرَدِ: امْسَحْ عَارِضَيْكَ.
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: يَمْشِي الْعِرَضْنَى، فَالنُّونُ فِيهِ زَائِدَةٌ، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَقُّ فِي عَدْوِهِ مُعْتَرِضًا.
قَالَ الْعَجَّاجُ:
تَعْدُو الْعِرَضْنَى خَيْلُهُمْ حَرَاجِلًا.
وَامْرَأَةٌ عُرْضَةٌ: ضَخْمَةٌ قَدْ ذَهَبَتْ مِنْ سِمَنِهَا عَرْضًا.
قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَوَارِضُ: سَقَائِفُ الْمَحْمَلِ الْعِرَاضُ الَّتِي أَطْرَافُهَا فِي الْعَارِضَيْنِ، وَذَلِكَ أَجْمَعُ هُوَ سَقْفُ الْمِحْمَلِ.
وَكَذَلِكَ عَوَارِضُ سَقْفِ الْبَيْتِ إِذَا وُضِعَتْ عَرْضًا.
وَقَالَ أَيْضًا: عَارِضَةُ الْبَابِ هِيَ الْخَشَبَةُ الَّتِي هِيَ مِسَاكُ الْعِضَادَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ.
وَالْعَرْضِيُّ: ضَرْبٌ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَعَلَّ لَهُ عَرْضًا.
قَالَ أَبُو نُخَيْلَةَ:
هَزَّتْ قَوَامًا يَجْهَدُ الْعَرْضِيَّا *** هَزَّ الْجَنُوبِ النَّخْلَةَ الصَّفِيَّا
وَكُلُّ شَيْءٍ أَمْكَنَكَ مِنْ عَرْضِهِ فَهُوَ مُعْرِضٌ لَكَ، بِكَسْرِ الرَّاءِ.
"وَيُقَالُ: أَعْرَضَ لَكَ الظَّبْيُ فَارْمِهِ، إِذَا أَمْكَنَكَ مِنْ عَرْضِهِ ; مِثْلُ أَفْقَرَ وَأَعْوَرَ."
وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: فُلَانٌ عَرِيضُ الْبِطَانِ، إِذَا أَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ.
وَيُقَالُ: ضَرَبَ الْفَحْلُ النَّاقَةَ عِرَاضًا، إِذَا ضَرَبَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَادَ إِلَيْهَا.
وَهَذَا مِنْ قَوْلِنَا: اعْتَرَضَ الشَّيْءَ: أَتَاهُ مِنْ عُرْضٍ، كَأَنَّهُ اعْتَرَضَهَا مِنْ سَائِرِ النُّوقِ: قَالَ الرَّاعِي:
نَجَائِبُ لَا يُلْقَحْنَ إِلَّا يَعَارَةً *** عِرَاضًا وَلَا يُبْتَعْنَ إِلَّا غَوَالِيَا
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: لَقِحَتِ النَّاقَةُ عِرَاضًا، أَيْ ذَهَبَتْ إِلَى فَحْلٍ لَمْ تُقَدْ إِلَيْهِ.
وَالْعَارِضُ: السَّحَابُ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ قِيَاسِهِ.
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24].
وَالْعَارِضُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: مَا يَسْتَقْبِلُكَ، كَالْعَارِضِ مِنَ السَّحَابِ وَنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَارِضُ مِنَ السَّحَابِ: الَّذِي يَعْرِضُ فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاءِ مِنَ الْعَشِيِّ ثُمَّ يُصْبِحُ قَدْ حَبَا وَاسْتَوَى.
وَيُقَالُ لَهُ: الْعَانُّ بِالتَّشْدِيدِ.
وَمِنَ الْمُشْتَقِّ مِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: مَرَّ بِي عَارِضٌ مِنْ جَرَادٍ، إِذَا مَلَأَ الْأُفُقَ.
وَلِفُلَانٍ عَلَى أَعْدَائِهِ عُرْضِيَّةٌ، أَيْ صُعُوبَةٌ.
وَهَذَا مِنْ قَوْلِنَا نَاقَةٌ عُرْضِيَّةٌ، وَقَدْ ذُكِرَ قِيَاسُهُ.
وَيُقَالُ: إِنَّ التَّعْرِيضَ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْإِبِلِ مِنْ مِيرَةٍ أَوْ زَادٍ.
وَهَذَا مُشْتَقٌّ مِنْ أَنَّهُ يُعْرَضُ عَلَى مَنْ لَعَلَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَيُقَالُ: عَرِّضُوا مِنْ مِيرَتِكُمْ، أَيْ أَطْعِمُونَا مِنْهَا.
قَالَ:
حَمْرَاءَ مِنْ مُعَرِّضَاتِ الْغِرْبَانِ.
يَصِفُ نَاقَةً لَهُ عَلَيْهَا الْمِيرَةُ فَهِيَ تَتَقَدَّمُ الْإِبِلَ وَيَنْفَتِحُ مَا عَلَيْهَا لِسُرْعَتِهَا فَتَسْقُطُ الْغِرْبَانُ عَلَى أَحْمَالِهَا، فَكَأَنَّهَا عَرَّضَتْ لِلْغِرْبَانِ مِيرَتَهُمْ.
وَيُقَالُ لِلْإِبِلِ الَّتِي تَبْعُدُ آثَارُهَا فِي الْأَرْضِ: الْعُرَاضَاتُ، أَيْ إِنَّهَا تَأْخُذُ فِي الْأَرْضِ عَرْضًا فَتَبِينُ آثَارُهَا.
وَيَقُولُونَ: إِذَا طَلَعَتِ الشِّعْرَى سَفَرًا، وَلَمْ تَرَ فِيهَا مَطَرًا، فَأَرْسِلِ الْعُرَاضَاتِ أَثَرًا، يَبْغِينَكَ فِي الْأَرْضِ مَعْمَرًا.
وَيُقَالُ: نَاقَةٌ عُرْضَةٌ لِلسَّفَرِ، أَيْ قَوِيَّةٌ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهَا لِقُوَّتِهَا تُعْرَضُ أَبَدًا لِلسَّفَرِ.
فَأَمَّا الْعَارِضَةُ مِنَ النُّوقِ أَوِ الشَّاءِ، فَإِنَّهَا الَّتِي تُذْبَحُ لِشَيْءٍ يَعْتَرِيهَا.
وَقَالَ:
مِنْ شِوَاءٍ لَيْسَ مِنْ عَارِضَةٍ *** بِيَدَيْ كُلِّ هَضُومٍ ذِي نَفَلْ
"وَهَذَا عِنْدَنَا مِمَّا جُعِلَ فِيهِ الْفَاعِلُ مَكَانَ الْمَفْعُولِ ; لِأَنَّ الْعَارِضَةَ هِيَ الَّتِي عُرِضَ لَهَا بِمَرَضٍ، كَمَا يَقُولُونَ: سِرٌّ كَاتِمٌ."
وَمَعْنَى عُرِضَ لَهَا أَنَّ الْمَرَضَ أَعْرَضَهَا، وَتَوَسَّعُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى بَنَوُا الْفِعْلَ مَنْسُوبًا إِلَيْهَا، فَقَالُوا: عَرَضَتْ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا عَرَضَتْ مِنْهَا كَهَاةٌ سَمِينَةٌ *** فَلَا تُهْدِ مِنْهَا وَاتَّشِقْ وَتَجَبْجَبِ
وَالْعِرْضُ: الْوَادِي، وَالْعِرْضُ: وَادٍ بِالْيَمَامَةِ.
قَالَ الْأَعْشَى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعِرْضَ أَصْبَحَ بَطْنُهُ *** نَخِيلًا وَزَرْعًا نَابِتًا وَفَصَافِصَا
وَقَالَ الْمُتَلَمِّسُ:
فَهَذَا أَوَانُ الْعِرْضِ حَيَّ ذُبَابُهُ *** زَنَابِيرُهُ وَالْأَزْرَقُ الْمُتَلَمِّسُ
وَمِنَ الْبَابِ: نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَرْضَ عَيْنٍ، أَيِ اعْتَرَضْتُهُ عَلَى عَيْنِي.
وَرَأَيْتُ فُلَانًا عَرْضَ عَيْنٍ، أَيْ لَمْحَةً.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ عَرَضَ لِعَيْنِي، فَرَأَيْتُهُ.
وَيُقَالُ: عَلِقْتُ فُلَانًا عَرَضًا، أَيِ اعْتِرَاضًا مِنْ غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ مِنِّي لِذَلِكَ وَلَا إِرَادَةٍ.
وَهَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عِرَاضِ الْبَعِيرِ وَالنَّاقَةِ.
وَأَنْشَدَ:
عُلِّقْتُهَا عَرَضًا وَأَقْتُلُ قَوْمَهَا *** زَعْمًا لَعَمْرُ أَبِيكِ لَيْسَ بِمَزْعَمِ
وَيُقَالُ: أَصَابَهُ سَهْمُ عَرَضٍ، إِذَا جَاءَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي مَنْ رَمَاهُ.
وَهَذَا مِنَ الْبَابِ أَيْضًا كَأَنَّهُ جَاءَهُ عَرَضًا مِنْ حَيْثُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمِعْرَاضِ مِنَ السِّهَامِ.
وَالْمَعَارِضُ: جَمْعُ مَعْرَضٍ وَهِيَ بِلَادٌ تُعْرَضُ فِيهَا الْمَاشِيَةُ لِلرَّعْيِ.
قَالَ:
أَقُولُ لِصَاحِبَيَّ وَقَدْ هَبَطْنَا *** وَخَلَّفْنَا الْمَعَارِضَ وَالْهِضَابَا
مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م
58-صحاح العربية (طلق)
[طلق] رجلٌ طَلْقُ الوجهِ وطَليق الوجهِ، وقد طَلُقَ بالضم طَلاقَةً.ورجلٌ طَلْقُ اليدين، أي سمحٌ.
وامرأة طَلْقَةُ اليدين.
ورجلٌ طَلْقُ اللسانِ وطَليقُ اللسانِ.
ولسانٌ طَلْقٌ ذُلقٌ وطَليقٌ ذليقٌ، وطُلُقٌ ذُلُقٌ وطُلَقٌ ذُلَقٌ: أربع لغات.
ويومٌ طَلْقٌ وليلةٌ طَلْقٌ أيضًا، إذا لم يكن فيهما قر ولا شئ يؤذى.
والطلق: ضرب من الأدوية.
والطَلقُ: وجع الولادة.
وقد طُلِقَتِ المرأة تُطْلَقُ طَلْقًا على ما لم يسمّ فاعله.
والطَلَقُ بالتحريك: قيدٌ من جلود.
ويقال أيضًا: عدا الفرسُ طَلَقًا أو طلقين، أي شوطا أوشوطين.
والطَلَقُ أيضًا: سيرُ الليلِ لِوِرد الغِبِّ، وهو أن يكون بين الابل وبين الماء ليلتان، فالليلة الاولى الطلق يخلى الراعى إبله إلى الماء ويتركها مع ذلك ترعى وهى تسير، فالابل بعد التحويز طوالق، وهى الليلة الثانية قوارب.
وقد أطْلَقْتُها حتَّى طَلَقَتْ طَلْقًا وطُلوقًا.
والاسم الطَلَقَ بالتحريك.
وأطْلَقَ القوم فهم مطلقون، إذا طلقت إبلهم.
وأطْلَقْتُ الأسيرَ، أي خلّيته.
وأطْلَقْتُ الناقة من عِقالها فَطَلَقَتْ هي، بالفتح وأطْلَقَ يده بخير وطَلِقَها أيضًا.
وينشد: أطْلِقْ يديك تَنْفَعاكَ يارجل بالريث ما أرويتها لا بالعَجَلْ بالضم والفتح.
والطَليقُ: الأسيرُ الذي أُطْلِقَ عنه إسارُهُ وخلى سبيله.
وبعير طلق.
ناقة طلق، بضم الطاء والكلام، أي غير مقيد.
والجمع أطْلاق، وحُبِسَ فلان في السجن طُلُقًا، أي بغير قيد.
ويقال أيضًا: فرسٌ طُلُقُ إحدى القوائم، إذا كانت إحدى قوائمها لا تحجيل فيها.
والطلق بالكسر: الحلال.
وقال: هو لك طلقا.
وأنت طِلْقٌ من هذا الأمر، أي خارج منه.
والانْطِلاقُ: الذَهابٌ.
وتقول: انْطُلِقَ به، على ما لم يسمّ فاعله، كما يقال انْقُطِعَ به.
وتصغير مُنْطَلِقٍ مُطَيْلِقٌ، وإن شئت عوّضت من النون وقلت مطيليق.
وتصغير الانطلاق نطيلق، لانك حذفت ألف الوصل، لان أول الاسم يلزم تحريكه بالضم للتحقير، فتسقط الهمزة لزوال السكون الذى كانت الهمزة اجتلبت له فبقى نطلاق، ووقعت الالف رابعة فلذلك وجب التعويض فيه، كما تقول دنينير، لان حرف اللين إذا كان رابعا ثبت البدل منه فلم يسقط إلا في ضرورة الشعر، أو يكون بعدها ياء، كقولهم في أثفية أثاف.
فقس على ذلك واستطلاق البطنِ: مشيُهُ، وتصغيره تُطَيْليقٌ.
وطُلِّقَ السليمُ، على ما لم يسمّ فاعله، إذا رجعت إليه نفسه وسكن وجعه بعد العِداد، فهو مُطَلَّقٌ.
قال الشاعر: تَبيتُ الهُمومُ الطارقاتُ تُعَدنَني كما تعتري الأهوالَ رأس المطلق
وقال النابغة: تَناذَرَها الراقونَ من سُوءِ سَمِّها تطلقة طورا وطورا تراجع وطلق الرجال امرأته تَطْليقًا، وطَلَقَت هي بالفتح تَطْلُقُ طَلاقًا، فهي طالِقٌ وطالِقَةٌ أيضا.
قال الاعشى:
أجارتنا بينى فإنك طالقه *** قال الاخفش: لا يقال طَلُقَتْ بالضم.
ورجلٌ مِطْلاقٌ، أي كثير الطَلاقِ للنساء.
وكذلك رجلٌ طلقة مثال همزة.
وناقة طالق ونعجة طالق، أي مُرْسَلَةٌ ترعى حيث شاءت.
والطالِقُ من الإبل: التي يتركها الراعي لنفسه لا يحتلبها على الماء.
يقال: اسْتطلقَ الراعي ناقةً لنفسه.
وتطلق الظبيُ، أي مرَّ لا يلوي على شئ.
وهو تفعل.
ويقال: ما تطلق نفسي لهذا الأمر، أي لا تنشرح، وهو تفتعل.
وتصغير الطلاق طتيليق، تقلب الطاء تاء لتحرك الطاء الاولى، كما تقول في تصغير اضطراب ضتيريب، تقلب الطاء ياء لتحرك الضاد.
صحاح العربية-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م
59-صحاح العربية (ذا)
[ذا] ذا اسمٌ: يشار به إلى المذكرْ.وذي بكسر الذال للمؤنث.
تقول: ذِي أَمَةُ اللهِ.
فإنْ وقفْتَ عليه قلت: ذِهْ بهاء موقوفة.
وهى بدل من الياء، وليست للتأنيث وإنما هي صلة، كما أبدلوا في هنية فقالوا هنيهة.
فإن أدخلت عليه ها للتنبيه قلت: هذا زيد، وهذى أمة الله، وهذه أيضا بتحريك الهاء.
وقد اكتفوا به عنه.
فإن صغرت ذا قلت: ذيا بالفتح والتشديد، لانك تقلب ألف ذا ياء لمكان الياء قبلها، فتدغمها في الثانية وتزيد في آخره ألفا لتفرق بين المبهم والمعرب.
وذيان في التثنية.
وتصغير هذا: هذيا.
ولا يصغر ذى للمونث وإنما يصغرتا، وقد اكتفوا به عنه.
وإن ثنّيت ذا قلت ذان، لانه لا يصح
اجتماعهما لسكونهما فتسقط إحدى الالفين، فمن أسقط ألف ذا قرأ: (إن هذين لساحران) فأعرب.
ومن أسقط ألف التثنية قرإ: (إن هذان لساحران)، لان ألف ذا لا يقع فيها إعراب.
وقد قيل إنها على لغة بلحارث بن كعب.
والجمع أولاء من غير لفظه.
فإن خاطبتَ جئتَ بالكاف فقلت: ذاكَ وذَلِكَ، فاللام زائدة والكاف للخطاب، وفيها دليلٌ على أنَّ ما يومأ إليه بعيدٌ.
ولا موضعَ لها من الإعراب.
وتُدْخِلُ " ها " على ذاكَ فتقول: هَذاكَ زيدٌ، ولا تُدْخِلُها على ذَلِكَ ولا على أُولَئِكَ كما لم تدخلها على تِلْكَ.
ولا تُدخل الكاف على ذي للمؤنّث، وإنَّما تدخلها على تا، تقول: تيك وتلك، ولا تقل ذيك فإنه خطأ.
وتقول في التثنية: رأيت ذَيْنِكَ الرجلين، وجاءني ذانِكَ الرجلان.
وربَّما قالوا: ذانِّكَ بالتشديد، وإنَّما شدَّدوا تأكيدًا وتكثيرًا للاسم، لانه بقى على حرف واحد، كما أدخلوا اللام على ذلك، وإنما يفعلون مثل هذا في الاسماء المبهمة لنقصانها.
وتقول للمؤنث: تانِكَ، وتانِّكِ أيضًا
بالتشديد، والجمع أولَئِكَ.
وحكم الكاف قد ذكرناه في تا.
وتصغير ذا: ذَيَّاكَ، وتصغير ذَلِكَ: ذَيَّالِكَ.
وقال: أو تحلفي بربك العلى *** أنى أبوذيا لك الصبى وتصغير تلك تياك.
وأما ذو الذي بمعنى صاحِبٍ فلا يكون إلاَّ مضافًا، فإنْ وصفتَ به نكرةً أضفتَه إلى نكرةٍ، وإن وصفتَ به معرفةً أضفته إلى الألف واللام، ولا يجوز أن تضيفه إلى مضمر ولا إلى زيد وما أشبهه.
تقول: مررتُ برجلٍ ذي مالٍ، وبامرأة ذاتِ مالٍ، وبرجلين ذَوَيْ مالٍ بفتح الواو، كما قال تعالى: (وأشهدو ذوى عدل منكم) وبرحال ذوى مالٍ بالكسر، وبنسوة ذّواتِ مالٍ، ويا ذَواتِ الجِمامِ فتكسر التاء في الجمع في موضع النصب، كما تكسر تاء المسلمات.
تقول
رأيت ذَواتِ مالٍ، لأنَّ أصلها هاء، لانك لو وقفت عيها في الواحد لقلت ذاهْ بالهاء، ولكنَّها لما وُصِلَتْ بما بعدها صارت تاءً.
وأصل ذو ذَوًى مثل عَصًا، يدلُّ على ذلك قولهم: هاتانِ ذَواتا مالٍ.
قال تعالى: (ذَواتا أفنانٍ) في التثنية.
ونرى أنّ الألف منقلبة من واو، ثم حذفت من أن ذوى عينُ الفعل لكراهتهم اجتماعَ الواوين، لأنَّه كان يلزم في التثنية ذووان مثل عصوان، فبقى ذا منوّنًا ثم ذهب التنوين للإضافة في قولك: ذو مالٍ.
والإضافة لازمةٌ له، كما تقول: فُو زَيْدٍ وفا زَيْدٍ، فإذا أفردْتَ قلت: هّذا فَمٌ.
فلو سمَّيت رجلًا ذو لقلت هَذا ذّوى قد أقبل، فتردّ ما ذهب، لأنَّه لا يكون اسمٌ على حرفين أحدهما حرفُ لين ; لأنَّ التنوين يذهبه فيبقى على حرفٍ واحد.
ولو نسبتَ إليه قلت ذووى، مثال عصوى.
وكذلك إذا نسبتَ إلى ذَاتٍ ; لأنَّ التاء تحذف في النسبة، فكأنّك أضفت إلى ذي فرددْتَ الواو.
ولو جمعت ذو مالٍ قلت: هؤلاء ذَوُونَ، لأنَّ الإضافة قد زالت.
قال الكميت: ولا أَعْني بذلك أَسْفَلِيكُمْ *** ولكنِّي أريد به الذَوينا يعني به الأَذْواءَ وهم ملوك اليمن من قُضاعة المسمَّون بذي يَزَنَ، وذي جَدَنٍ، وذي نُواسٍ، وذي فائِشٍ، وذي أَصْبَحَ، وذي الكَلاع.
وهم التَبابعة.
وأما ذُو التي في لغة طيئ بمعنى الذى فحقُّها أن توصف بها المعارف، تقول: أنا ذُو عَرَفْتَ وذو سَمِعْتَ، وهَذِهِ المرأةُ ذُو قالت كذا، يستوي فيه التثنية والجمع والثأنيث.
قال الشاعر: ذاك خليلي وذو يعاتبني *** يرمى ورائي بامسهم وا مسلمه يريد الذى يعاتبني، والواو التي قبله زائدة.
قال سيبويه: إن ذَا وحدها بمنزلة الذي،
كقولهم: ماذا رأيت؟ فتقول: متاعٌ حسنٌ.
قال لبيد: ألاَ تَسْأَلانِ المرء ماذا يحاول *** أأب فيقضى أم ضلالٌ وباطلُ قال: وتجرى مع ما بمنزلة اسمٍ واحدٍ، كقولهم: ماذا رأيت؟ فتقول: خيرًا، بالنصب كأنَّه قال: ما رأيت؟ ولو كان ذا ههنا بمنزلة الذي لكان الجواب خيرٌ بالرفع.
وأما قولهم ذاتُ مرّةٍ وذُو صباحٍ، فهو من ظروف الزمان التي لا تتمكَّن.
تقول: لقيته ذاتَ يومٍ وذاتَ ليلةٍ وذاتَ غَداةٍ وذاتَ العِشاءِ وذاتَ مرّةٍ وذات الزمين ذات العويم، وذا صباحٍ وذا مَساءٍ وذا صَبوحٍ وذا غَبوقٍ، فهذه الأربعة بغيرها هاءٍ وإنَّما سُمِعَ في هذه الأوقات، ولم يقولوا: ذاتَ شهرٍ ولا ذاتَ سنةٍ.
قال الأخفش في قوله تعالى: (وَأَصْلِحوا ذاتَ بَيْنِكُم) إنّما أنّثوا ذاتَ لأنَّ بعض الأشياء قد يُوضع له اسمٌ مؤنّث ولبعضها اسمٌ مذكَر، كما قالوا دارٌ وحائطٌ، أنّثوا الدار وذكَّروا الحائط.
وقولهم: كان ذَيْتَ وذَيْتَ، مثل كيت وكيت، أصله ذيؤ على فعل ساكنة العين، فحذفت الواو فبقي على حرفين فشُدِّدَ كما شُدِّدَ كَيُّ
إذا جعلته اسمًا، ثم عُوِّضَ من التشديد التاء.
فإنْ حذفْتَ التاء وجئت بالهاء فلا بد من أن تردَّ التشديد، تقول: كان ذَيِّت وذَيَّة.
وإن نسبْتَ إليه قلت ذَيَويٌّ، كما تقول بَنَوِيٌّ في النسبة إلى البنت.
صحاح العربية-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م
60-تهذيب اللغة (حيا)
حيا: قال الليث: يقال حَيِي يحيا فهو حَيٌ ويقال للجميع حَيُّوا بالتشديد.قال ولغة أخرى يقال حَيَ يَحَييُ، والجميع حَيُوا خفيفة.
وقال الله جلَّ وعزَّ: {وَيَحْيى مَنْ حَيَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] قال الفرّاء: كِتَابُها على الإدغام بياءٍ واحدةٍ وهي أكثرُ القراءة.
وقال بعضهم حَيِيَ عن بيّنَةٍ بإظهارهما.
قال: وإنما أدْغَمُوا الياءَ مع اليَاءِ، وكان ينبغي أن لا يفعلوا لأن الياء الآخِرَةَ لزمها النصبُ في فعلٍ فأدغموا لَمّا الْتَقَى حَرْفَانِ متحرِّكَانِ من جنسٍ واحِد.
قال ويجوز الإدغام في الاثنين للحركة اللّازمة للياةء الآخِرة.
فتقول حَيَّا وحَيِيَا، وينبغي للجميع أن لا يُدْغَم إلا بِيَاءٍ لأن ياءَها يصيبُها الرفعُ وما قبلها مكسورٌ فينبغي لها أن تسْكُنَ فتسقط بِواوِ الجَمْعِ، وربّما أظهرت العربُ الإدغَامَ في الجمع إرَادَة تأليفِ الأفْعَال وأن تكون كلُّها مشدّدة فقالو في حَيِيتُ حَيُّوا وفي عَيِيتُ عَيُّوا قال: وأنشدني بعضهم:
يَحْدِنَ بنا عَنْ كُلِ حَيٍ كأنَّنَا *** أَخَارِيْسُ عَيُّوا بالسَّلَامِ وبالنَّسَبْ
قال: وقد أجمعت العرَبُ على إدغام التحيّة لحركة الياء الآخِرة كما استحبوا إدغام حَيّ وعَيّ للحركة اللّازمة فيها.
فأمّا إذا سكنت الياء الأخيرة فلا يجوز الإدغامُ مثل يُحْيِي ويُعْيِي.
وقد جاء في بعض الشعر الإدْغَامُ وليس بالوجْه.
قلت: وأنكر البصريون الإدغام في مثل هذا الموضع ولم يَعْبأ الزجّاج بالبيت الذي احتجّ به الفرّاء وقال: لا يعرف قائله.
وكأَنّها بينَ النِّسَاءِ سَبِيكَةٌ *** تَمْشِي بِسُدَّةِ بَيْتِها فَتُحَيَ
حدثنا الحسين عن عثمان بن أبي شَيْبَة عن أبي معاوية عن إسماعيل بن سُمَيعْ عن أبي مالك عن ابن عباس في قول الله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً} [النّحل: 97] قال هو الرِّزْقُ الحلالُ في الدُّنْيَا {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [النّحل: 97] إذا صارُوا إلى الله جَزَاهم أجرهم في الآخرة بأحسنِ ما عملوا.
ثعلب عن ابن الأعرابي الحَيُ: الحقُّ واللَّيُّ الباطِلُ ومنه قولهم: هو لا يَعرِف الحَيَ من اللَّيِّ وكذلك الحوُّ من اللَّوِ في المعنيين.
قال: وأخبرني المنذريّ عن ابن حَمُّويَةَ، قال سمعت شمرًا يقول في قول العرب فلان لا يعرف الحَوَّ من اللَّوِّ الحَوُّ نَعَمْ واللَّوُّ: لو قال، والحَيُ الحَوِيّةُ واللَّيُّ لَيُّ الحَبْلِ أي فَتْلُه يُضرب هذا لِلأَحمق الذي لا يعرف شيئًا.
قال والحيُ فَرْج المرأة، ورأى أعرابيٌ جهازَ عَروسٍ فقال: هذا سَعَفُ الحَيّ أي جهازَ فَرْجِ امرأةٍ.
قال: والحيُ كلُّ متكلِّم ناطق.
قال والحَيّ من النَّبَات ما كان طرِيًّا يهتزُّ، والحيُ الواحِدُ من أَحْيَاءِ العرب.
قال والحِيّ بكسر الحاء جمع الحياة وأنشد:
ولو ترى إذا الحياةُ حِيّ
قال الفرّاء كسروا أَوّلها لئلا يتبدل الياءُ واوًا كما قالوا بِيضٌ وعِينٌ.
قال الأزهري: الحيُ من أَحْياءِ العرب يقع على بني أبٍ كَثُروا أم قلّوا، وعلى شَعْبٍ يجمع القبائل من ذلك قول الشاعر:
قَاتَلَ اللهُ قَيْسَ عَيْلَانَ حَيًّا *** ما لَهُمْ دُونَ غَدْرَةٍ مِنْ حِجَابِ
أنشده أبو عبيدة.
وقال الليث: الحياة كتبت بالواو في المصحف ليُعلم أن الواو بعد الياء، وقال بعضهم بل كتبت واوًا على لغة من يفخِّم الألف التي مرجعها إلى الواو، نحو الصلوة، والزكوة، وحَيْوَة اسم رجل بسكون الياء، وأخبرني المنذري عن الغساني عن سَلَمة عن أبي عبيدة في قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} [البَقَرَة: 179] أي منفعةٌ، ومنه قولهم ليس بفلان حياة أي ليس عنده نَفْعٌ، ولا خيرٌ.
ويقال حايَيْتُ النار بالنفْخ كقولك أحْيَيْتُها.
وقال الأصمعيّ: أنشد بعض العرب بيت ذي الرمة:
فقلتُ له ارْفَعْهَا إليكَ وَحَايِها *** بِرُوحِكَ واقْتَتْهُ لها قِيتَةً قَدْرا
وغيره يرويه وأحْيها، وسمعتُ العربَ تقول إذا ذَكَرَتْ مَيِّتًا: كُنَّا سَنَة كَذَا وكَذَا بمكان كَذَا وكَذَا، وَحَيُ عمروٍ معنا، يريدون: عَمْرُو مَعَنَا حَيٌ بذلك المكان، وكانوا يقولون: أتينا فلانًا زَمَانَ كذا وحيُ فلان شاهدٌ وحيُ فلانَةَ شاهدَةٌ، المعنى وفلانٌ إذ ذاك حَيٌ وأنشد الفرّاء في هذا
ألا قَبَحَ الإِلهُ بَنِي زِيَادٍ *** وحَيَ أبِيهِمُ قَبْحَ الحِمَارِ
أي: قبّح الله بني زياد وأباهم.
وقال ابن شميلٍ: يقالُ أتانا حَيُ فلانٍ أي أَتانا في حَيَاتِه وسمعتُ حَيَ فلان يقولون كذا أي: سمعته يقول في حياتِه.
أخبرني المنذري عن ثعلب عن ابن الأعرابي أَنَّهُ أنشده:
ألا حَيَ لي مِنْ ليلةِ القَبْرِ أَنَّهُ *** مَآبٌ ولو كُلِّفْتُه أنا آئِبُهْ
قال: أراد ألا يُنْجِيَنِي من ليلة القَبْرِ.
وقال الكسائيّ: يقال لا حَيّ عنه أي لا مَنْعَ منه وأنشد:
ومَنْ يَكُ يَعْيَا بالبيَان فإنَّه *** أبو مَعْقِلٍ لا حَيَ عنه ولا حَدَدْ
قال الفرّاء معناه: لا يَحُدُّ عَنْه شيءٌ، ورواه:
فإِنْ تَسْأَلُوني بالبيَانِ فإناه *** أبو مَعْقِلٍ.
.
.
الخ والعرب تذكّر الحيَّةَ وتؤنّثها فإذا قالت: الحيُّوتُ عَنَوْا الحية الذَّكَر.
وقال الليث: جاء في الحديث أَنّ الرجل الميّتَ يُسأل عن كلّ شيء حتى عن حيَّة أَهْلِه قال معناه عن كل شيء حيٍ في منزله مثل الهِرّة وغيره، فأنَّث الحيّ وقال حيَّة، ونحوَ ذلك.
قال أَبُو عبيد في تفسير هذا الحرف: قال وإنَّما قال حيَّةٌ لأنَّه ذهب إلى كلّ نفس أو دَابَّةٍ فأنّث لذلك.
عمرو عن أبيه: العرب تقول: كيف أنت وكيف حَيَّةُ أهْلِك، أي كيف مَنْ بقي منهم حَيًّا.
قلت: وللعرب أَمْثَالٌ كثيرة في الحَيّة نَذْكُرُ ما حضرَنا منها، سمعتُهم يقولون في باب التشبيه: هو أَبْصَرُ من حيَّةٍ؛ لِحدَّة بَصَره ويقولون: هو أظْلمُ من حيّة، لأنها تأتي جُحْرَ الضبّ فتأكل حِسْلها وتسكن
جُحْرُهُ.
ويقولون: فلانٌ حَيَّةُ الْوادِي إذا كان شديدَ الشكيمة حاميَ الحقيقة.
وهم حَيَّةُ الأرْضِ إذا كانُوا أَشِدَّاء ذوي بَسالة، ومنه قول ذي الإصبع العَدْوانيّ:
عَذِيرَ الحَيِ من عَدْوَا *** نَ كَانُوا حَيَّةَ الأرْضِ
أراد أَنَّهم كانوا ذوي إِرْبٍ وشِدَّة لا يضيعون ثأرًا.
ويقال: فلان رأسُه رأْسُ حيَّةٍ إذا كان متوقِّدًا ذَكيًّا شَهْمًا.
وفلانٌ حَيَّةٌ ذَكَرٌ أي شجاع شديدٌ.
ويُدْعَى على الرجُلِ فيقالُ: سقاه الله دم الحيَّاتِ أي أهْلَكَه اللهُ.
ويقال: رأيت في كتابٍ كتَبَه فلانٌ في أمرِ فلان حيَّاتٍ وعَقَارِبَ إذا مَحَلَ كاتبهُ برجُلٍ إلى سلطانٍ ليُوقِعَه في وَرْطة.
ويقال للرجُلِ إذا طال عُمْره وللمرأَة المعمَّرة: ما هو إلا حيَّةٌ وما هي إلا حَيَّةٌ، وذلك أن عمر الحيَّة يطول وكأنه سمّي حيَّةً لطول حياته وأنه قَلَّمَا يوجد ميِّتًا إلا أن يُقْتل.
أبو العباس عن ابن الأعرابيّ: فلان حيَّةُ الوادي، وحيَّةُ الأرْضِ وشيطان الحَمَاطِ إذا بلغ النهاية في الإرْب والخُبْثِ وأنشد الفرّاء:
كَمِثْلِ شَيْطَانِ الحَمَاطِ أَعْرَفُ
وقول مالك بن الحارث الكاهلي:
فلا يَنْجُو نَجَائي ثَمَ حَيٌ *** من الحَيَواتِ لَيْسَ له جَنَاحُ
كل ما هُوَ حَيٌ، فجمعه حَيَوات، وتجمع الحيَّة حَيَوَات، وفي الحديث: «لا بأس بقتل الحَيَوَات» جمع الحيَّة.
والحيَوَانُ اسمٌ يقع على كل شيءٍ حَيٍ.
وسمَّى الله جلَّ وعزَّ الآخرة حيوانًا فقال: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ} [العَنكبوت: 64] فحدثنا ابن هَاجَك عن حمزة عن عبد الرازق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ} قال: هي الحَيَاةُ.
قال الأزهري: معناه أَنَّ من صار إلى الآخرة لم يَمُتْ ودام حَيًّا فيها لا يموت، فمن أُدْخِلَ الجنَّةَ حَيِيَ فيها حياة طيبة، ومن دَخَلَ النارَ فإنّه لا يموت فيها ولا يَحْيَا، كما قال الله جلَّ وعزَّ.
وكُلُّ ذي رُوح حيوانٌ.
والحيوان عَيْنٌ في الجنة.
ابن هانىء عن زيد بن كَثوة: من أمثالهم: حَيَّهِنْ حِماري وحمارَ صاحبي.
حَيِّهِنْ حِماري وَحْدي.
يقال ذلك عند المَزْرِئَة على الذي يستحقّ ما لا يملِكُ مكابرَةً وظُلْمًا، وأَصْلُه أنَّ امرأَةً كانت رافقت رَجُلًا في سفَرٍ وهي راجلة وهُو على حِمَار، قال فَأَوَى لَها وأَفْقَرها ظَهرَ حِمَارِه، ومشى عنها، فبينما هما في مسيرهما إذ قالت وهي راكبة عليه حَيَّهِن حِمارِي وحِمار صاحبي، فسمع الرجل مقالَتهَا فقال: حَيَّهِنْ حِماري وَحْدي، ولم يَحْفِل لقولها ولم يُنْغِضْها، فلم يزالا كذلك حتى بلغت النَّاسَ فلمَّا وثقت قالت: حَيَّهِنْ حِمَاري وحْدِي وهي عليْه فنازَعَها الرجلُ إيّاه، فاستغاثت عليه، فاجتمع لهما الناسُ والمرأةُ راكبةٌ على الحمار والرجل راجل، فَقُضِي لهَا عليه بالحمارِ لِمَا رَأَوْا فذهبت مثلًا.
وقال أبو زيد: يقال أرض مَحْيَاةٌ ومَحْوَاةٌ من الحَيَّات.
وقال ابن المظفّر: الحَيَوانُ كلٌّ ذِي رُوحٍ، والجميع والواحد فيه سواءٌ.
قالً: والحَيَوان مَاءٌ في الجنة لا يصيب شيئًا إلا حَيِيَ بإذن الله.
قال: واشتقاق الحيَّةِ من الحيَاةِ، ويقال هي في أصل البناء حَيْوَة فأُدْغِمت الياء في الواو، وجُعلتا ياءً شديدة.
قال ومن قال لصاحب الحيَّاتِ حَايٍ فهو فاعلٌ من هذا البِنَاءِ وصارت الواو كسْرةً كواو الغازِي والعالي.
ومن قال حَوّاء على فَعَّال فإنه يقول: اشتقاق الحيَّةِ من حَوَيْتُ لأنها تَتَحَوَّى في الْتوائها، وكُل ذلك تقول العربُ.
قلت: وإن قيل حَاوٍ على فاعل فهو جائز، والفرْقُ بينه وبين غازِي أَنَّ عين الفعل من حاوٍ وَاوٌ وعينَ الفعل من الغازِي الزاي فبينهما فرق.
وهذا يَجُوزُ على قولِ من جعل الحيَّة في أصل البناء حَوْيَةً.
وقال الليثُ الحياءُ من الاستحياء ممدودٌ ورجل حَيِيٌ بوزن فَعِيلٍ وامرأة حَيِيَّةٌ ويقال: استحيا الرجل واستحْيَتْ المرأةُ.
قلت: وللعرب في هذا الحرف لغتان يقال اسْتَحى فلان يستَحِي بياءٍ واحدةٍ، واستحْيَا فلان يَسْتَحيي بياءين.
والقرآنُ نَزَلَ باللُّغة التامَّة.
قال الله جلَّ وعزَّ: {إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البَقَرَ: 26].
وأما قوله صلى الله عليه وسلم «اقْتُلوا شُيُوخَ المُشْركين واستَحْيُوا شَرْخَهُمْ فهو بمعنى استفْعِلُوا من الحياة أي استبْقوهم ولا تقتلوهم.
وكذلك قول الله {يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ} [القَصَص: 4] أي يستبْقِيهِنّ فلا يقتلُهن.
وليس في هذا المعنى إلا لُغَةٌ واحدة.
ويقال فلانٌ أحيا من الهَدِيِّ وأحيا من كَعَابٍ وأحيا من مُخَدَّرةٍ ومن مخبَّأَةٍ، وهذا كله من الحياء ممدودٌ، وأما قولُهم أحيا من الضَّبِّ فهي الحياةُ.
وقال أبو زيد يقال حَيِيتُ من فعل كذا أَحْيَا حَيَاءً أي استَحْيَيتُ وأنشد:
ألا تَحْيَوْنَ من تَكْثِيرِ قَوْمٍ *** لِعَلَّاتٍ وأمُّكُمُ رَقُوبُ
معناه ألا تَسْتَحْيُونَ.
ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «الحَيَاءُ شعبةٌ من الإيمان».
واعترض هذا الحديثَ بعضُ الناس، فقال كيفَ جعل الحيَاءَ وهو غرِيزةٌ شعبةً من الإيمان وهو اكتسابٌ؟ والجواب في ذلك أن المستحِي ينقطع بالحياءِ عن المعَاصِي وإن لم تكن له تقِيَّةٌ، فصار كالإيمان الذي يُقْطعُ عَنْها ويحول بين المؤمنين وبيْنهَا، وكذلك قِيلَ إذا لم تَسْتَحِ فاصنعْ ما شِئْتَ، يُرَادُ أَنَّ من لم يَسْتَحِ صَنَع ما شَاءَ لأنّه لا يكون له حياءٌ يَحْجِزُه عن الفواحِش فيتهافَتُ فيها ولا يتوقّاها، والله أعلم.
وأما قول الله جلَّ وعزَّ مُخْبِرًا عن طائفةٍ من الكفّار لم يؤمنوا بالبعث والنشور بعد الموت {وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الجَاثِيَة: 24] فإنّ أبا العباس أحمد بن
يحيى سُئِل عن تفسيرِها فقال: اختُلِفَ فيه، فقالت طائِفَةٌ: هو مقدم ومؤخر ومعناه نحيا ونموت ولا نحيا بعد ذلك.
وقالت طائِفَةٌ: معناه نَحْيَا ونَمُوتُ ولا نَحْيَا أبدًا، ويحيا أولادُنا بَعْدَنا فجعلوا حياةَ أَوْلَادِهم بَعْدَهُم كحياتهم، ثم قالوا: ويموت أَوْلَادُنا فلا نحيا وَلَا هُمْ.
وقال ابْنُ المظَفَّر في قول المصلّي في التشهد: التحيَّاتُ للهِ، قال: معناه: البقاء للهِ، ويقال: المُلْكُ للهِ.
وأخبرني المنذريُّ عن أبي العباس عن سلَمَةَ عن الفرّاء أَنّه قال في قول العرب حَيَّاكَ اللهُ، معناه: أبقاك اللهُ، قال: وحَيّاكَ أَيْضًا أي ملّكك اللهُ، قال: وحيّاك أي سلّم عليك.
قال وقولنا في التشهد: التَّحِيَّاتُ للهِ يُنْوَى بها البقاءُ للهِ والسلام من الآفاتِ لله والمُلْكُ للهِ.
وَنَحْوَ ذلك قال أبو طالب النحويُّ فيما أفادني عنه المنذري.
وقال أبو عبيد قال أبو عمرو: التحيَّةُ: المُلْكُ وأنشد قول عمرو بن معدي كرب:
أسيِّرُها إلى النُّعْمَانِ حتى *** أُنِيْخَ على تَحِيَّتِه بِجُنْدي
يعني على مُلْكِه، وأنشد قول زهير بن جَنَابٍ الكَلْبي:
وَلَكُلُّ ما نال الفَتَى *** قَدْ نِلْتُه إلَّا التَّحِيَّة
قال يعني المُلْكَ.
قال أبو عبيد: والتحيَّةُ في غير هذا: السلامُ.
قال خالد بن يزيد: لو كانت التحيَّةُ المُلْكَ لما قيل التحيَّاتُ لِلَّهِ، والمعنى السلَامَاتُ من الآفات كلها لِلَّهِ، وجَمَعَها لأنه أراد السلام من كل آفَةٍ.
وقال القتبي: إنما قيل التحيّات لِلَّهِ على الجمع لأنه كان في الأرض مُلُوك يُحَيَّوْن بتحيّاتٍ مختلفة يقال لبعضهم: أبيتَ اللَّعْن، ولبعضهم اسْلَمْ وانْعَمْ، وَعِشْ ألفَ سنَةٍ، فقيل لنا قُولُوا: التحيَّاتُ لِلَّهِ، أي الألفاظ التي تَدُل على المُلْكِ ويُكَنَّى بها عن المُلْكِ هي للهِ تعالى.
وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه كان يُنكر في تفسير التحية ما رويناه عن هؤلاء الأئمة، ويقول: التحيَّةُ في كلام العرب ما يُحيِّي به بعضُهم بعضًا إذا تلاقَوْا.
قال: وتحيّةُ اللهِ التي جعلها في الدنيا والآخرةِ لِمُؤْمِنِي عبادِه إذا تلاقَوْا ودعا بعضُهم لبعض بأَجْمَع الدُّعَاءِ أن يقول: السلام عليكم ورَحْمَةُ اللهِ.
قال اللهُ في أهل الجنة: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44] وقال في تحيَّة الدنيا {وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها} [النِّساء: 86] وقال في قول زهير بن جناب:
ولَكُلُّ مَا نَال الْفَتَى *** قَدْ نِلْتُهُ إلا التّحِيَّة
يريد إلّا السلامة من المنيّة والآفات فإن أحدًا لا يسلم من الموتِ على طول البقَاءِ.
فجعل أبو الهيثم معنى (التحياتُ لِلَّهِ) أي السلام له من الآفات التي تلحق العباد من العَناء وأسباب الفناء
قلت: وهذا الذي قاله أبو الهيثم حسَنٌ ودلائله واضحة غير أن التحيّة وإن كانت في الأَصْلِ سلامًا فجائز أن يُسَمَّى المُلْكُ في الدنيا تحيّةً كما قال الفرّاء وأبو عمرو، لأن المَلِكَ يُحيَّا بِتَحِيّة المُلْكِ المعروفة للملوك التي يباينون فيها غيرَهم، وكانت تحية ملوك العجم قريبةً في المعنى من تحية مُلوكِ العرب، كان يقال لِمَلِكِهم زِهْ هَزَارْ سَالْ، المعنى عِشْ سالمًا ألفَ سنة.
وجائز أن يقال للبقاء تحيَّةً لأن من سَلِمَ من الآفات فهو باقٍ، والباقي في صفة اللهِ من هذا لأنه لا يموت أبدًا، فمعنى حيَّاك اللهُ: أي أَبقاك صحيحٌ، من الحياة، وهو البقاء.
يقال: أَحْيَاهُ اللهُ وحيَّاه بمعنىً واحد، والعرب تسمي الشيءَ باسم غيرِه إذا كان معه أو من سببه.
أخبرني محمد بن مُعاذ عن حاتم بن المظفّر أنه سأل سَلَمة بن عاصم عن قوله: حيّاك اللهُ، فقال: بمنزلة أَحْيَاكَ اللهُ أي أبقاك اللهُ مثل كرّم اللهُ وأكرم اللهُ، قال: وسألت أبا عثمان المازني عن حيّاك اللهُ فقال عَمَّرك اللهُ.
وقال الليثُ: المحاياةُ الغِذاء للصبيّ بما به حَيَاتُه، وقال: حَيَا الربيع ما تحيا به الأرض من الغيث.
وروى أَبُو عبيد عن أبي زيد يقال أحيا القومُ إذا مُطِروا فأصابت دوابُّهم العشب وسمنت.
وإن أرادُوا أنفسَهم قالوا: حَيُوا بعد الهزال.
والحَيَا الغيثُ مقصورٌ لا يمدّ.
وحَيَاءُ الشَّاةِ والناقةِ والمرأةِ ممدودٌ ولا يجوز قصْره إلا لشاعرٍ يُضطرّ في شعره إلى قَصْره.
وما جاء عن العرب إلا ممدودًا، وإنما قيل له حَيَاءٌ باسم الحياءِ من الاستحياء لأنه يُسْتَرُ من الآدميّ، ويكنّى عنه من الحيوان ويستفحش التصريح بذكره واسمه الموضوع له، ويستحى من ذلك، سمّي حياءً لهذا المعنى.
وقد قال الليث: يجوز قصر الحياء ومدُّه وهو غلطٌ لا يجوز قصره لغير الشاعر لأن أصْلَه الحياء من الاستحياء.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
61-تهذيب اللغة (خظا)
خظا: قال اللّيثُ: يقال: خَظَا يَخْظُو وَخَظِيَ يَخْظَى..
فَهُوَ خَاظٍ وَخَظٍ ـ وهو المكْتَنِزُ اللَّحْمِ.
والْخَظَاةُ ـ من كلِّ شيءٍ ـ: المُكْتَنِزَةُ.
وأنشد:
لها مَتْنَتانِ خَظَاتَا كَمَا *** أَكَبَّ عَلَى سَاعِدَيْهِ النَّمِرْ
قال بعضُ النَّحْوِيِّينَ: كُفَّ نُونُ «خَظَاتَانِ» ـ كما قالوا: «اللَّذَا»، وهُمْ يُرِيدون «اللَّذَانِ».
وقال الأَخْطَلُ:
أَبَنِي كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا *** قَتَلَا المُلُوكَ وَفَكَّكَا الأَغْلَالا
وقيل: بل أُخْرِجَتْ على أصل التصريف.
كما يقال ـ للذكر ـ «خَظَا».
.
قالوا: للمرأتين: «خَظَاتَا».
.
لأن الواحدة يقال لها: «خَظَتْ، وغَزَتْ» ـ فَتُسْقِطُ الألِفَ التَّاءُ فلما تحركَتِ التَّاءُ في قولكَ: «خَظَتَا وَغَزَتَا» كان في القياس: أن تُتْرَكَ الألِفُ مكانها «خَظَاتَا وَغَزَاتَا» ولكنهم بَنَوُا التثنيةَ على عَقِب فِعْلِ الْوَاحِدِ.
.
فَأَلْزَمُوا طَرْحَ الألِف، وكان في «خَظَاتَا» رِوَايةٌ على هذا الْقِياس ـ فافهم.
فإذا جَمَعْتَ «الْخَظَاةَ» بالتاء.
قلتَ: خَظَوَاتٌ لأنَّ أَصْلَها الواوُ.
أبو عبيد ـ عن الفراء ـ: «خَظَا» و «بَظَا» و «كَظَا» ـ بغير هَمْزٍ ـ يعني اكتنزَ.
ومِثْلُه: «يَخْظُو، ويَبْظُو، ويَكْظُو».
وقال شمر: يقال «خَظَا يَخْظُو خَظْوًا» و «بظا يبظو بَظْوًا».
وأنشد:
بِأَيْدِيهِمْ صَوارِمُ مُرْهَفَاتٌ *** وكُلُّ مُجَرَّبٍ خَاظِي الْكُعُوبِ
قال: والْخَاظِي: الْغَلِيظُ الصُّلْبُ.
وقال الهُذَلِيُّ يصفُ حِمارًا:
خَاظٍ كَعِرْقِ السِّدْرِ يَسْ *** بِقُ غَارَةَ الْخُوصِ النّجَائِبِ
وأخبرني المنذريُّ ـ عن ثعلب عن ابن الأعرابيِّ ـ أنه قال ـ في قول امرىء القيس:
لَهَا مَتْنَتَانِ خظاتَا
أراد: «خَظَاتانِ».
.
فأسقط النون.
وقال أبو الهيثم: يقال فرس خَظٍ بَظٍ.
ثم يقال: خَظَا بَظَا ـ وكذلك خَظِيَةٌ بَظِيَةٌ.
ثم يقال: خَظَاةٌ بَظَاةٌ ـ تُقْلَبُ الياءُ أَلفًا ساكنة.
.
على لغة طَيِّيءٍ.
وأنشد:
وَمَتْنَانِ خَظاتَان *** كَزُحْلُوفٍ مِنَ الهَضْبِ
أراد «خَظِيَتَانِ».
وأنشد:
أَمْسَيْنَا أَمْسَيْنَا *** وَلَمْ تَنامِ الْعَيْنَا
كان أصله: «ولَمْ تَنَم الْعَيْنَانِ».
فلما حَرَّك المِيمَ لاستقبالها اللامَ: رَدَّ الأَلِفَ وأنشد:
مهْلًا ـ فِداءٌ لَكَ يا فَضَالهْ *** أَجِرَّهُ الرُّمْحُ ولَا تُهَالَهْ
أراد: «ولا تُهَلْهُ».
وقال آخَرُ:
حَتَّى تَحَاجَزْنَ عَنِ الذُّوَّادِ *** تَحاجُزَ الرِّيِّ وَلَمْ تَكادِ
أراد: ولم تَكَد
فلما حَرَّكَتِ القافيةُ الدالَ: ردَّ الألف.
قلت: وأما قولهم: حَظِيَتِ المرأةُ وبَظِيَتْ ـ من الْحُظْوَةِ ـ فهو بالحاء.
.
ولم أسمع فيه الخاء.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
62-تهذيب اللغة (شِمر)
شِمر: الشِّنظير مثل الشُّنْظُرَة، وهي الصخرة تَنْفلق من رُكن من أركان الجبل فَتَسْقُط.النَّضْر عن أبي الخطاب: شَناظِير الجبل: أطرافُه وحُروفُه، الواحد شِنْظِير.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
63-تهذيب اللغة (رأى)
رأى: قال اللّيث: الرَّأيُ: رَأْي القَلْب.والجمع: الآرَاء.
ويقال: ما أضَلّ آرَاءهم! وما أَضلَ رَأْيَهم!
ويقال: رأيتُه بعينيّ رُؤْيةً.
ورأيتُه رَأي العَيْن، أي حَيث يَقَع البَصَرُ عليه.
ويُقال من «رَأْي» القَلب: ارتأَيت؛ وأَنشد:
ألا أيّها المُرْتَئِي في الأُمُورِ *** سَيَجْلو العَمَى عَنْك تِبْيانُها
وقال الفَرّاء في قوله عزوجل: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]: إذا تَركت
العربُ الهمزة من الرُّؤْيا قالوا: الرُّويَا، طَلَبًا للخفّة، فإذا كان من شأنهم تحويلُ الواو إلى الياء قالوا: «لا تَقْصُص رُيّاك» في الكَلام، وأما في القُرآن فلا يَجُوز؛ وأنشد أبو الجرّاح:
لَعِرْضٌ من الأعراضِ يُمْسي حَمامُه *** ويُضْحِي على أفْنانِه الغين يَهْتِفُ
أحبّ إلى قَلبي من الدِّيك رُيَّةً *** وبابٍ إذا ما مال للغَلْقِ يَصْرِفُ
أراد «رُؤْية» فلما ترك الهمز وجاءت واو ساكنة بعدها ياء تَحوّلت ياءً مشدَّدة، كما قالوا: لَوَيته لَيًّا، وكَوَيْته كَيًّا، والأصل: لَوْيًا، وكَوْيًا.
قال: وإن أشرت فيها إلى الضمة فقلت: رُيًّا، فرفَعت الراء، فجائز، وتكون هذه الضَّمة مثل قوله: صُيِل، وسُيِق، بالإشارة.
وزعم الكسائي: أنه سمع أعرابيًّا يقرأ: «إن كنتم للرُّيَّا تَعْبُرون».
وقال اللّيث: رأيت رُيًّا حَسنة.
قال: ولا تجْمع الرُّؤيا.
وقال غيره: تجمع الرُّؤيا: رُؤًى، كما يُقال: عُلْيًا، وعُلًى.
قوله عزوجل: {هُمْ أَحْسَنُ أَثاثًا وَرِءْيًا} [مريم: 74].
قُرِئت رِءْيًا بوزن رِعْيًا وقُرئت رِيًّا.
وقال الفرّاء: الرّئْيُ: المَنْظر.
وقال الأخفش: الرِّيّ ما ظهر عليه ممّا رأيت.
وقال الفَراء: أهل المدينة يَقْرءونها رِيًّا بغير هَمز، وهو وجه جيّد، من رأيت، لأنه مع آيات لَسْنَ مَهْموزات الأواخر.
وذكر بعضهم أنه ذهب بالرِّيّ إلى رَوِيت إذا لم يَهْمز.
ونحو ذلك قال الزّجّاج.
قال: ومن قرأ رِيًّا بغير هَمْز فله تَفْسيران: أحدهما: أنّ مَنْظره مُرْتَوٍ من النِّعمة، كأن النَّعيم بَيِّنٌ فيهم.
ويكون على تَرك الهَمزة من رأيت.
وقال الليث: الرَّئِيّ: جِنِّي يَعْرض للرّجل يُريه كهانةً وطِبًّا.
يُقال: مع فُلان رَئِيّ.
قال: والرُّوَاء: حُسن المَنْظر في البَهاء والجمال.
يقال: امرأة لها رُواء، إذا كانت حسنة المَرْآة، والمَرْأَى، كقولك: المَنْظرة، والمَنْظر.
والمِرآة: التي يُنْظر فيها.
وجمعها: المَرَائي.
ومن حَوّل الهمزة قال: المَرَايَا.
قال أبو زيد: إذا أمرت من رأيت قلت: ارْ زَيدًا.
كأنك قلت: ادْع زيدًا.
فإذا أردت التخفيف قلت: رَ زيدًا.
فَتُسْقط ألف الوَصل فتحرّك ما بعدها.
قال: ومن تَحقيق الهمز قولك: رأيت الرجل.
فإذا أردت التخفيف قلت: رايت الرجل.
فحركت الألف بغير إشباع همز، ولم تسقط الهمزة لأنّ ما قبلها مُتحرك، فتقول: الرّجُل يَرَى ذاك، على التَّخفيف.
قال: وعامّة كلام العرب في: يرى، وترى، ونرى، وأرى، على التخفيف.
وقال بعضهم يخففه، وهو قليل.
فيقول: زيد يرأى رأيًا حَسنًا.
كقولك: يَرْعَى رَعْيًا حَسنًا؛ وأَنشد:
أُرى عَيْنَيّ ما لم تَرْأَياه *** كِلانا عالمٌ بالتُّرّهّاتِ
وقال اللِّحياني: اجتمعت العربُ على همز ما كان من رأيت واسْترأيت وارتأيت وراءيت وما كان من رؤية العين.
وقال بعضهم بترك الهمزة، وهو قليل.
قال: وكُل ما جاء في كتاب الله مَهْموز، وأَنْشد فيمن خَفّف:
صاح هل رَيْت أو سَمِعت برَاعٍ *** رَدْ في الضَّرْع ما تَرَى في الحِلَابِ
والكلام العالي الهمز، فإذا جئت إلى الأفعال المُستقبلة التي في أولها الياء والتاء والنون والألف، اجتمعت العربُ الذين يَهْمزون والذين لا يهمزون على ترك الهمزة، كقولك: يَرى، وتَرى، وأرى، ونرى، وبه نزل القُرآن، إلا تَيم الرِّباب فإنّها تَهمز فتقول: هو يرأى، وترأى، ونرأى، وأرأى.
فإذا قالوا: متى نراك؟ قالوا: متى نرآك؟
مثل نَرْعاك.
وبعضٌ يقلب الهمزة، فيقول: متى نَراؤُك؟
مثل: نَرَاعُك؛ وأَنْشد:
ألا تلك جارَتُنا بالغَضَا *** تَقُول أتَرْأَيْنَه لن يضِيفَا
وأنشد فيمن قَلَب:
ماذا نَراؤُك تُغْنِي في أخِي ثِقَةٍ *** من أُسْد خَفّان جَأْب الوَجه ذي لُبد
قال: فإن جئت إلى الأمر، فإِن أهل الحجاز يتركون الهمز فيقولون: رَ ذاك؛ وللاثنين: رَيَا ذاك؛ وللجميع: رَوا ذاك؛ وللمرأة: رَيْ ذاك، وللنِّسوة: رَيْن.
وتَميم تهمز في الأمر على الأصل، فيقولون: ارْأ ذاك، وارْأيا، ولجماعة النِّسوة: ارْأَيْن.
قال: فإِذا قالوا: أَرَيْت فلانًا ما كان من أمره، أَرَيْتكم فلانًا، أفَريتكم فلانًا؛ فإِن أَهل الحجاز يهمزونها، وإن لم يكن مِن كلامهم الهَمْز.
فإذا عَدوت أهل الحجاز فإِنَّ عامّة العرب على ترك الهمزة، نحو: أريت الذي يُكَذِّب، أَرَيْتُكم.
وبه قرأ الكسائي، تَرَك الهمز فيه في جميع القرآن؛ وأَنشد لأبي الأسود:
أرَيْتَ امْرَأ كنْتُ لم أَبْلُه *** أتانِي فقال اتَّخذني خَلِيلًا
فترك الهمزَة.
وأخبرني المُنذريّ، عن أبي طالب، عن أبيه، عن الفراء في قول الله عزوجل: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} [الأنعام: 40].
قال: العرب لها في أرأيت لغتان ومَعنيان: أحدهما أن يسأل الرجُل الرجلَ: أرأيت زَيدًا بعينك؟ فهذه مَهموزة.
فإِذا أوقعتها على الرّجل منه قلت: أرأيتَك على غير هذه الحال؟ يُريد هل رأيت نَفْسك على غير هذه الحال.
ثم تُثنّي وتَجمع، فتقول للرَّجُلين: أَرَأيْتُماكما، وللقوم: أرأيتُموكم، وللنِّسْوة: أرأتنّ كنّ، وللمرأة: أرأيتِك، بخفض التاء، لا يجوز إلا ذلك.
والمعنى الآخر، أن تقول: أرأيْتَك.
وأنت تقول: أَخْبرني، فتهمزها وتنصب التاء منها، وتترك الهمز إن شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتترك التاء موحّدة مَفتوحة للواحد والواحدة والجميع، في مؤنثه ومذكره، فتقول للمرأة: أرأيتَك زيدًا، هل خَرج؟ وللنِّسوة: أرأَيتكنّ زيدًا ما فعل؟
وإنما تركت العربُ التاء واحدةً لأنّهم لم يُريدوا أن يكون الفِعل منها واقعًا على نفسها، فاكتفوا بذكرها في الكاف، ووجّهوا التاء إلى المذكر والتوحيد إذا لم يكن الفِعل واقعًا.
ونحو ذلك قال الزّجاج في جميع ما قال.
ثم قال: واخْتلف النّحويّون في هذه الكاف التي في (أَرَأَيْتَكُمْ).
فقال الفرّاء والكسائيّ: لفظها لَفْظ نَصب، وتأويلها تَأويل رَفْع.
قال: ومثلها الكاف التي في دونك زيدًا، لأن المعنى: خُذْ زَيدًا.
قال أبو إسحاق: وهذا القول لم يَقُله النّحويّون القُدماء، وهو خطأ، لأن قولك: أرأيتَك زَيْدًا ما شأنُه؟ يُصَيِّر أرأيت قد تعدّت إلى الكاف، وإلى زيد، فتَصير أرأَيْت اسْمَيْن، فيَصير المَعْنى: أرَأيتَ نَفْسَك زَيدًا ما حاله؟
قال: وهذا مُحَالٌ.
والذي يَذْهب إليه النَّحويون الموثوق بعلمهم أن الكاف لا موضع لها، وإنما المعنى: أرأيت زيد ما حاله؟ وإنما الكاف زيادة في بيان الخطاب، وهي المعتمد عليها في الخطاب.
فتقول للواحد المذكر: أرأَيْتَك
زيدًا ما حاله؟ بفتح التاء والكاف، وتقول في المؤنث: أرأيتك زيدًا ما حاله يا مَرأة؟ فتفتح التاء على أصل خطاب المذكر وتكسر الكاف، لأنّها قد صارت آخر ما في الكلمة والمنبئة عن الخطاب، فإن عَدَّيت الفاعل إلى المَفْعُول في الباب صارت الكاف مفعولة، تقول: رأَيْتني عالمًا بفُلان.
فإذا سألت عن هذا الشَّرط قلت للرَّجل، أَرَأَيْتَك عالمًا بفلان؟
وللاثنين: أرأَيْتماكما عالِمَيْن بفلان؟
وللجميع: أرأيْتُموكم؟ لأن هذا في تأويل: أَرأيتم أنْفُسكم؟
وتقول للمرأة: أرأيتِك عالمةً بفُلان؟
بكسر التاء.
وعلى هذا قياس هذين البابين.
أَخبرني المُنذريّ، عن أبي العباس ثعلب، قال: أَرأَيْتَك زَيْدًا قائمًا؟ إذا اسْتخبر عن زيد تَرَك الهَمْز، ويجوز الهَمْز.
وإذا استخبر عن حال المخَاطب كان الهَمز الاختيار، وجاز تَرْكه، كقولك: أرَأَيْتَك نَفْسَك؟ أي ما حالُك، ما أَمْرُك؟
ويجوز: أَرَيْتَك نَفْسك؟
وذكر شَمر حديثًا بإسناد له أن أبا البَخْتريّ قال: تراءَيْنَا الهلال بذات عِرْق فسألنا ابن عبّاس، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَدَّه إلى رُؤيته، فإنْ أُغمِي عليكم فَأكْمِلوا العِدَّة.
قال شَمِر: قوله: تراءينا الهلال، أي تكلَّفنا النَّظر إليه، هل نَراه أم لا؟
قال: وقال ابن شُميل: انْطلقْ بنا حتى يُهلّ الهِلال، أي نَنْظر أنَراه؟
وقد تراءينا الهِلال: أي نَظرناه.
وقال الفراء: العرب تقول: راءَيت، ورَأَيْت.
وقرأ ابن عبّاس: {يُراؤُنَ النَّاسَ} [النساء: 142].
وقد رَأَّيْتُ تَرْئِية، مثل: رَعَّيت تَرْعِية.
قال: وقال ابن الأعرابي: أَرَيْتُه الشيءَ إراءةً، وإراية، وإرْءَاءةً.
قال: وقال أبو زيد: تراءَيت في المِرآة تَرائِيًا.
ورَأَّيْتُ الرَّجُل تَرْئِيَةً، إذا أَمْسكتَ له المِرآة لِيَنْظُر فيها.
واسْتَرْأيت الرجل في الرأي، أي اسْتَشَرتُه.
وراءيته، وهو يُرائيه، أي يُشاوره؛ وقال عِمران بن حَطّان:
فإنْ تكُن حين شَاوَرْناك قلْتَ لنا *** بالنُّصح منك لنا فيما نُرائِيكَا
أي: نَسْتَشيرك.
قُلت: وأمّا قول الله عزوجل: {يُراؤُنَ النَّاسَ} [النساء: 142] وقوله: {يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ {7}} [الماعون: 6 و7]
فليس من المُشاورة، ولكن مَعناه، إذا أَبْصرهم النّاس صَلّوا، وإذا لم يَرَوهم تَركوا الصَّلاة.
ومن هذا قول الله عزوجل: {بَطَرًا وَرِئاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47].
وهو المُرائي، كأنّه يُرِي الذي يَراه أنه يَفْعل ولا يفعل بالنيّة.
وأما قول الفَرزدق يهجو قومًا ويَرمي امرأَةً مِنهم بغير الجَمِيل:
وبَات يُراآها حصانًا وقد جَرَتْ *** لنا بُرَتاها بالّذي أنا شَاكره
قوله: يُراآها: يظن أنها كذا.
وقوله: لنا بُرتاها، معناه: أنها أَمكنته من رِجْلَيها.
قال شَمر: العرب تقول: أرى الله بفلانٍ، أي أرى الله الناسَ بفُلَانِ العذابَ والهلاك، ولا يقال ذلك: إلا في الشر؛ وقال الأعشى:
وعَلِمت أنّ الله عَمْ *** دًا خَسَّها وأَرَى بها
قال ابن الأعرابي: أرى الله بها أعداءها ما يَسُرهم؛ وأنشد:
* أرانا الله بالنَّعَم المُنَدَّى*
وقال أبو حاتم نحوَه.
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تَراءى نارَاهُما».
قال أبو عُبيد: معناه: أنّ المُسلم لا يَحلّ له أن يَسْكن بلاد المُشركين فيكون معهم بقَدْر ما يَرى كُلُّ واحدٍ منهم نار صاحبه.
ويقال: تراءينا، أي تلاقينا فرأيتُه ورآني.
وقال: أبو الهيثم في قوله: لا تراءى ناراهما، أي لا يَتَّسم المُسلم بِسمة المُشْرك ولا يَتَشَبَّه به في هَدْيه وشَكله، ولا يتخلّق بأخلاقه، من قولك: ما نارُ بَعِيرك؟ أي ما سِمَته؟
ويقال: داري تَرى دار فلان، أي تقابلها؛ وقال ابن مُقْبِل:
سَلِ الدّارَ مِن جَنْبَي حَبِيرٍ فواحِفٍ *** إلى ما رَأى هَضْبَ القَلِيب المصَبَّح
أراد: إلى ما قابَله.
قال الأصمعي: رأسٌ مُرْأى، بوزن مُرْعًى، إذا كان طويل الخَطم فيه شَبيه بالتَّصْويب، كهيئة الإبْريق.
وقال ذو الرُّمّة:
وجَذْب البُرَى أَمْرَاس نجران رُكِّبت *** أواخِيُّها بالمُرْأَيات الزَّواحِف
يعني أواخيّ الأمراس، وهذا مَثل.
والرّاية: العَلم، لا تهمزها العربُ، وتجمع: رايات، وأصلها الهَمز.
ويقال: رأيت رايتَه، أي رَكَزتُها.
وبعضهم يقول: أَرْأَيتها، وهما لُغتان.
وقال اللَّيث: الراية، من رايات الأعلام.
وكذلك الراية التي تجعل في العُنق.
وهما من تأليف ياءين وراء.
وتصغير الرَّاية: رُيَيَّهْ.
والفعل: رَيَّيْت رَيًّا، ورَيَّيْت تَرِيَّةً.
والأمر بالتخفيف ارْيهْ، والتشديد ريِّهْ.
وعلمٌ مَرِيّ، بالتخفيف.
وإن شئتَ بَيَّنت الياءات فقُلت.
مَرْئِيٌ، بِبَيان الياءات.
والعرب تقول: أَرى اللهُ بفلانٍ، أي أَرْأَى به ما يَشمِت به عدوّه؛ ومنه قول الأعشى:
وعلمت أنّ الله عَمْ *** دًا خَسَّها وأَرَى بها
يَعني قبيلةً ذكرها، أي أَرَى الله عدوَّها ما شَمِت به.
وقال النّضر: الإرآء: انتكاب خطم البعير على حَلْقه.
يقال: جمل مُرْأى، وجِمالٌ مُرْآة.
أبو عُبَيد، عن أبي زيد: إذا استبان حمل الشاة من المعز والضأن وعَظُم ضَرْعها قيل: أَرْأَت، تقديره أَرْعَت.
ورمّدت تَرْمِيدًا، مثله.
وروى ابن هانىء عنه: أرأت العَنْزُ خاصّة، ولا يُقال للنّعجة: أَرأت، ولكن يُقال: أَثْقلت، لأنّ حياءها لا يَظهر.
وقال الليث: يقال من الظن: رِيتُ فُلانًا أخاك.
ومن همز قال: رُؤِيت.
فإذا قُلت: أرى وأخواتها، لم تهمز.
قال: ومَن قلب الهمزة من رأى قال: راء، كقولك: نأى، وناء.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه بدأ بالصّلاة قبل الخُطْبة يوم العيد ثم خَطب فرُئِي أنه لم يُسمع النِّساء فأتاهن ووعَظهن.
وقال الفراء: قرأ بعض القُرّاء: وَتَرَى النَّاسَ سُكَرَى [الحج: 2] فنصب الراء من تُرى.
قال: وهو وَجه جيّد، يُريد مثل قولك: رُئيتُ أنك قائم، ورُئِيتك قائمًا، فيجعل سكارى في موضع نَصب، لأن ترى تحتاج إلى شيئين، تَنْصبهما، كما تحتاج ظَنّ.
قلت: رُئيت، مقلوب، الأصل فيه: أُريت، فأخّرت الهمزة، وقيل: رُئيت، وهو بمَعنى الظّنّ.
وقال الليث: يقال: فلانٌ يتراءى برأي فلان، إذا كان يَرى رأيه ويَميل إليه ويَقْتدي به.
ويقالُ: منازلهم رئاءٌ، على تقدير رِعَاء، إذا كانت متحاذية؛ وأَنْشد:
ليالي يَلْقَى سِرْبُ دَهْما سِرْبَنا *** ولَسْنا بجيرانٍ ونحن رِئَاءُ
ابن بُزُرْج: التَّرْئية، بوزن التَّرْعِية: الرجُلُ المُخْتال.
وكذلك: التّرائية، بوزن التّراعِية.
الليث: التَّرِيّة، مشدّدة الياء، والتَّرِيَة، خفيفة الياء بكسر الراء، والتَّرْية، بجزم الراء، كلها لُغات، وهي ما تراه المرأة من بقيّة حَيضها من صُفرة أو بَياض.
قلت: كأنّ الأصل فيه تَرئية، وهي تفعلة من رأيت فخفّفت الهمزة، فقيل: تَرْيِية، ثم أُدغمت الياء في الياء فقيل: تَرِيّة.
وقال: ويقال للمرأة: ذاتُ التَّرِيّة، وهي الدمُ القليل.
وقد رأت تَرِيَّة، أي دمًا قلِيلًا.
وفي حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ أَهل الجنَّة ليتراءَوْن أهْلَ عِلِّيّين كما تَرَوْن الكوكب الدُّرِّي في كَبِدِ السَّماء».
قال شمر: يَتراءَوْن: يتفاعلون، من رأيت كقولك: تراءَيْنا الهِلَال.
وقال: معناه: يَنْظُرون.
وقال غيره: معنى يتراءون أي: يرون، يدُل على ذلك قوله: كما تَرَوْن.
أبو عُبيد، عن الأصمعيّ: يُقال لكل ساكن لا يَتَحَرَّك: ساجٍ وَرَاهٍ وَرَاءٍ.
قال شمر: لا أعرف راءٍ بهذا المعنى إلا أن يكون أراد راه فجعل بدل الهاء ياء.
وقال ابن الأنباري: رِئِيٌ من الجِنّ، بوزن رِعِيّ وهو الذي يَعْتاد الإنسان من الجِنّ.
قال: الرِّئْيُ، بوزن الرِّعْي بهمزة مُسكَّنة: الثوبُ الفاخر الذي يُنْشر ليُرَى حُسْنه؛ وأَنْشد:
* بذي الرِّئْي الجَمِيل من الأَثاث*
أبو العباس، عن ابن الأعرابي: أَرْأَى الرَّجل، إذا كَثرت رُؤَاه، بوزن رُعَاه وهي أحلامه، جمع الرُّؤْيا.
اللَّحياني: على وَجْهه رَأْوة الحُمق، إذا عَرفت الحُمق فيه قبل أن تَخْبُره.
ويُقال: إنّ في وَجهه لرَأْوَةً، أي نَظْرةً ودَمامَة.
قال: وأرْأَى، إذا تَبَيَّنت الرَّأْوَةُ في وَجْهه، وهي الحَماقة.
وأَرْأَى، إذا تراءى في المِرآة.
وأرأى، إذا صار له رَئيّ مِن الجِنّ.
ويقال: أَرْأَى الرَّجُل، إذا أظهر عَملًا صالحًا رِيَاءً وسُمْعة.
وأَرْأَى، إذا اشْتكى رِئَته، وأرأى؛ إذا اسْودّ ضَرْعُ شاتِه.
وأَرْأى: إذا حَرّك بعَينيه عند النظر تَحْريكًا كثيرًا، وهو يُرأْرِي بعَينَيه.
أبو الحسن اللَّحياني: يقال: إنه لخَبيثٌ ولو ترى ما فلان؟ ولو تَرَ ما فلان؟ رَفْعٌ وجَزْم.
وكذلك: لا تر ما فلان؟ ولا ترى ما فلان؟
فيها جميعًا وجهان: الجزم والرفع.
فإِذا قالوا: إنه لخبيث، ولم تر ما فلان، قالُوا بالجزم.
وفلان في كُله رفْع.
وتأويلها: ولا سيما فلانٌ.
حُكي ذلك كُله عن الكسائي.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
64-تهذيب اللغة (تحقيق الهمز)
باب ما جاء عن العرب في تحقيق الهمز وتليينه وتحويله وحذفهفالتحقيق منه أن تعطي الهمزة حقها من الإشباع، فإذا أردت أن تعرف إشباع الهمزة فاجعل «العَين» في موضعها، كقولك من «الخب»: قد خبأت لك، بوزن «خبعت»، وقرأت، بوزن «قرعت»، فأنا أخبع وأقرع، وأنا خابىء وقارىء، نحو: خابع، وقارع.
"
فخُذ تحقيق الهمز بالعين كما وصفت لك.
قال: والتخفيف من الهمزة، إنما سمّوه تخفيفًا لأنه لم يُعط حقّه من الإعراب والإشباع، وهو مُشْرب همزًا تصرّف في وجوه العربيّة بمنزلة سائر الحروف التي تحرّك، كقولك: خبأت وقرأت، فجعل الهمزة ألفًا ساكنة على سُكونها في التحقيق، إذا كان ما قبلها مفتوحًا.
وهي كسائر الحروف التي يدخلها التحريك، كقولك: لم يَخبا الرجل، ولم يقرا القرآن، فيكسر الألف من «يخبا» و «يقرا»، لسكون ما بعدها، فكأنك قلت: لم يَخْبِيَّرجُل، ولم يَقْر يَلْقرآن، وهو يخبو ويَقرو، فيجعلها واوًا مضمومة في الإدراج.
فإِن وقفتها جعلتها ألفًا، غير أنك تهيئها للضَّمة من غير أَن تظهر ضمتها، وتقول: ما أخباه وأقراه، فتحرّك الألف بفتح لبقيّة ما فيها من الهمزة، كما وَصفت لك.
قال: وأمّا التَّحويل من الهمز فأَن تحوّل الهمزة إلى «الياء» و «الواو»، كقولك: قد خَبَيت المتاع؛ فهو مخبيّ، وَهو يَخباه، فاعْلم.
فيجعل الياءَ ألفًا حيث كان قبلها فتحة، نحو ألف: يسعا، و: يخشا؛ لأن ما قبلها مفتوح.
قال: وَتقول: رفوت الثوب رَفوًا، فحوّلت الهمزة واوًا، كما ترى.
وتقول: لم يخب عني شيئًا، فتسقط موضع اللام من نظيرها من الفِعْل؛ للإعراب، وتدع ما بقي على حاله متحركًا، وتقول: ما أخباه؛ فتسكن الألف المحوّلة كما أسكنت الألف من قولك: ما أخشاه.
قال: ومن محقّق الهمز قولُك للرجل: يلؤم، كأنك قلت: يَلعم، إذا كان بخيلًا؛ والأسد يَزْئر، كقولك: يزعر.
فإِذا أردت التَّخفيف قلت للرجل: يَلُم، وللأسد: يَزر؛ على أن ألقيت الهمزة من قولك: يلؤم ويزئر، وحركت ما قبلها بحركتها على الضم والكسر، إذا كان ما قبلها ساكنًا.
فإِذا أردت تحويل الهمزة منهما قلت للرجل: يَلُوم، فجعلتها واوًا ساكنة، لأنها تَبعت الضمة؛ وللأسد: يزير، فجعلتها ياء للكسرة قبلها، نحو: يبيع.
وكذلك كل همزة تبعث حرفًا ساكنًا عَدلتها إلى التخفيف، فإِنك تلقيها وتحرّك بحركتها الحرفَ الساكن قبلها، كقولك للرجل: يسل، فتحذف الهمزة وتحرك موضع الفاء من نظيرها من الفعل بحركتها، لأنه ساكن؛ كقولك في الأمر: سل، فتحرك ما قبل الهمزة بحركتها، وأسقطت ألف الوصل إذ تحرك ما بعدها.
وإنما يجتلبونها للإسكان؛ فإِذا تحرك ما بعدها لم يحتاجوا إليها.
ومن المحقق باب آخر: وهو قولك من «رأيت»، وأنت تأمر: ارأ، كقولك: ارْع زَيدًا.
فإذا أردت التخفيف قلت: رَ زَيْدًا، فتسقط ألف الوصل لتحرّك ما بعدها.
قال أبو زيد: وسمعت من العرب من يقول: يا فلان نُويك، على التخفيف، وتحقيقه: انْأَ نُؤْيك، كقولك: انْع نعيك، إذا أمره أن يجعل حول خبائه نؤيًا كالطّوق يَصْرف عنه ماء المطر.
ومن هذا الباب قولك: رأيت الرجل، فإذا أردت التخفيف قلت: رايت، فحركت الألف بغير إشباع همز، ولا تسقط الهمزة لأن ما قبلها متحرك.
وتقول للرجل: ترأى ذلك، على التحقيق.
وعامّة كلام العرب في: يرى، وترى، وأرى، ونرى، على التخفيف.
قال: وتقول: رأب القدح، فهو مرؤوب، بوزن: مرعوب، ومروب، على التخفيف، لم تزد على أن ألقيت الهمزة من الكلمة وجعلت حركتها بالضمّ على الحرف الساكن قَبلها.
قال أبو زيد: واعلم أن واو «فعول» و «مفعول» وياء «فعيل» وياء التصغير لا يَعتقبن الهمز في شَيء من الكلام، لأن الأسماء طوّلت بها، كقولك في التحقيق: هذه خطيئة، بوزن «خطيعة»، فإذا عدلتها إلى التخفيف قلت: هذه خطية، جعلت حركتها ياء للكسرة، وتقول: هذا رجل خبوء، كقولك: خبوع، فإذا خفّفت قلت: رجل خبو، فجعلت الهمزة واوًا للضمة التي قبلها، وجعلتها حرفًا ثقيلًا في وزن حرفين مع الواو التي قبلها، وتقول هذا، متاع مخبوء، بوزن مخبوع، فإِذا خففت قلت: متاع مخبو، فحولت الهمزة واوًا للضمة قبلها.
أبو زيد: تقول: رجل براء من الشرك، كقولك: براع، فإذا عدلتها إلى التخفيف قلت: براو، فتصير الهمزة واوًا، لأنها مضمومة.
وتقول: مررت برجل براي، فتصير ياء على الكسرة، ورأيت رجلًا برايا، فتصير ألفًا لأنها مفتوحة.
ومن تحقيق الهمز قولك: هذا غطاء، وكساء، وخباء، فتهمز موضع اللام من نظيرها من الفعل، لأنها غاية وقبلها ألف ساكنة، كقولك: هذا غطاع، وهذا كساع، وهذا خباع، فالعين موضع الهمزة.
فإذا جمعت الاثنين على سنة الواحد في التحقيق قلت: هذان غذاآن، وكساآن، وخباآن، كقولك غطاعان وكساعان وخباعان، فتهمز الاثنين على سنة الواحد.
وإذا أردت التخفيف قلت: هذا غطاو، وكساو، وخباو، فتجعل الهمزة واوًا لأنها مضمومة.
وإن جمعت الاثنين بالتخفيف على سنة الواحد، قلت: هذان غطاآن، وكساآن، وخباآن، فتحرك الألف التي في موضع اللام من نظيرها من الفعل بغير إشباع، لأن فيها بقية من الهمزة وقبلها ألف ساكنة.
فإذا أردت تحويل الهمزة، قلت: هذا غطاو، وكساو، وخباو، لأن قبلها حرفًا ساكنًا وهي مضمومة، وكذلك: القضاء، هذا قضاو، على التحويل، لأن ظهور الواو ها هنا أخف من ظهور الياء.
وتقول في الاثنين إذا جمعتهما على سنة
تحويل الواو: غطاوان، وكساوان، وخباوان، وقضاوان.
قال أبو زيد: وقد سمعت بعض بني فزارة يقول: هما كسايان، وخبايان، وقضايان، فيحول الواو إلى الياء.
قال: والواو في هذه الحروف أكثر في الكلام.
ومن تحقيق الهمز قولك: يا زيد من أنت؟ كقولك: من عَنت.
فإذا عدلت الهمزة إلى التخفيف قلت: يا زيد من نت، كأنك قلت: نعنت؛ لأنك أسقطت الهمزة من «أنت» وحركت ما قبلها بحركتها، ولم يدخله إدغام لأن النون الأخيرة ساكنة والأولى متحركة.
وتقول: من أنا، كقولك: من عنا، على التحقيق.
فإِن أردت التخفيف قلت: يا زيد من نا، كأنك قلت: يا زيد منا، لأنك أسقطت الهمزة وحركت ما قبلها بحركتها.
فإذا أردت الإسكان قلت: يا زيد منا، أدخلت النون الأولى في الأخيرة، وجعلتهما حرفًا واحدًا ثقيلًا في وزن حرفين، لأنهما متحركان في حال التخفيف، ومثله قول الله تعالى: {لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي} [الكهف: 38] خففوا الهمزة من: لكن أنا، فصارت «لكن نا»، كقولك: لكننا، ثم أسكنوا، بعد التخفيف.
فقالوا: لكنا.
قال: وسمعت أعرابيًا من قيس يقول: يا أب أقبل، وياب اقبل، ويا أبة أقبل، ويابة أقبل، فألغى الهمزة من كل هذا.
ومن تحقيق الهمزة قولك: افْعوعلت، من «رأيت»: إياوْأيْت، كقولك: افْعوْعيت.
فإذا عدلته إلى التخفيف قلت: إيويت وحدها، وويت، والأولى منهما في موضع الفاء من الفعل، وهي ساكنة، والثانية هي الزائدة، فحرّكتها بحركة الهمزتين قبلها، وثقل ظهور الواوين مفتوحتين، فهمزوا الأولى منهما.
ولو كانت الواو الأولى واو عطف لم يثقل ظهورها في الكلام، كقولك: ذهب زيد ووافد؛ وقدم عمرو وراهب.
قال: وإذا أردت تحقيق «مُفْعوعل» من «وأيت» قلت: مُوأَوْئى، كقولك: مُوعوعى.
فإذا عدلت إلى التخفيف قلت: مُواوِي، فتفتح الواو التي في مَوضع الفاء بفتحة الهمزة التي في موضع العين من الفعل، وتكسر الواو الثانية، وهي الزائدة، بكسر الهمزة التي بعدها.
قال أبو زيد: وسمعت بعض بني عجلان بن قيس يقول: رأَيت غُلامِيَّبَيْك.
ورأيت غُلَاميَّسَد.
تحوّل الهمزة التي في «أسد» وفي «أبيك» إلى الياء، ويدخلونها
في الياء التي في «الغلامين» التي هي نفس الإعراب فيظْهر ياء ثقيلة في وزن حرفين، كأنك قلت: رأيت غلاميبيك، ورأيت غلاميَّسد.
قال: وسمعت رجلًا من بني كلب يقول: هذه وأبة، وهذه امرأة شأبة، فهمزوا الألف منهما، وذلك أنه ثقل عليه إسكان الحرفَيْن معًا.
وإن كان الحرف الآخر منها متحرِّكًا؛ وأنشد الفَرّاء:
يا عَجَبا لقد رأيتُ عَجَبَا *** حِمار قَبَّان يسوق أَرْنَبَا
* وأمّها خاطُمها أن تذهبَا*
وقال أبو زيد: أهل الحجاز إذا اضطروا نَبَروا.
قال: وقال أبو عمرو الهذلي: قد توضَّيْت، فلم يهمز وحَوَّلها ياء.
وكذلك ما أشبه هذا.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
65-معجم العين (خظو)
خظو، خظي: خَظَا يَخْظُو وخَظِيَ يَخْظَى (فهو خاظٍ وخَظٍ) إذا اكتنز لحمه، قال:لها متنتان خَظاتا كما *** أَكبَّ على ساعِدَيْهِ النَّمِرْ
وقال بعض النحويين: كف نون خُظاتانِ كما قالوا في الرفع اللَّذا وهم يريدون اللَّذانِ وعلى هذا الكف قراءة من قرأ: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ فنصب الصلاة.
ويقال: بل أخرجت على أصل التصريف كما تقول للذكر خَظَأ، وقالوا للمرأتين خَظاتا، لأن الواحدة يقال لها: خَظَتْ وغَزَتْ فتُسقِطَ الألف التاء، فلما تحركت التاء في قولك خظاتا وغَزَتَا كان في القياس أن تترك الألف مكانها خَظتا وغَزَاتا، ولكنهم بندا التثنية على عقب فِعْل الواحد فألزموا طَرْحَ الألف، وكان في خظاتا رواية على هذا القياس فافهم.
قال أبو عبد الله: لما وجدوا إلى حركة تاء المؤنث سبيلًا أقاموا الحرف قبله، وكان القياس أن يترك.
وإذا جمعتَ الخَظاة بالتاء قلت خَظَوات لأن أصلها الواو.
العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م