نتائج البحث عن (فَتَطْهُرُ)
1-موسوعة الفقه الكويتية (الأشربة 2)
الْأَشْرِبَةُ -2طُرُقُ إِثْبَاتِ السُّكْرِ:
25- إِنَّ إِثْبَاتَ الشُّرْبِ الْمُوجِبِ لِعُقُوبَةِ الْحَدِّ لِأَجْلِ إِقَامَتِهِ عَلَى الشَّارِبِ بِوَاسِطَةِ الشَّهَادَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ أَوِ الْقَيْءِ وَنَحْوِهَا تَفْصِيلُهُ فِي حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِثْبَاتٌ).
حُرْمَةُ تَمَلُّكِ وَتَمْلِيكِ الْخَمْرِ:
26- يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ تَمَلُّكُ أَوْ تَمْلِيكُ الْخَمْرِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ الِاخْتِيَارِيَّةِ أَوِ الْإِرَادِيَّةِ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا».وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ» أَمَّا إِذَا كَانَ التَّمَلُّكُ لِلْخَمْرِ بِسَبَبٍ جَبْرِيٍّ كَالْإِرْثِ، فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ وَتُورَثُ، كَمَا إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لِذِمِّيٍّ فَأَسْلَمَ، أَوْ تَخَمَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِ عَصِيرُ الْعِنَبِ قَبْلَ تَخَلُّلِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَالْخَمْرُ فِي حَوْزَتِهِ، فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ مِلْكِيَّتُهَا إِلَى وَارِثِهِ بِسَبَبٍ غَيْرِ إِرَادِيٍّ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّمَلُّكِ وَالتَّمْلِيكِ الِاخْتِيَارِيِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.وَيَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَمْرَ هَلْ هِيَ مَالٌ أَوْ لَا؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، لَكِنْ يَجُوزُ إِتْلَافُهَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَتُضْمَنُ إِذَا أُتْلِفَتْ لِذِمِّيٍّ.فِي حِينِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ- وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ إِتْلَافُهَا، لِمُسْلِمٍ كَانَتْ أَوْ ذِمِّيٍّ.أَمَّا غَيْرُ الْخَمْرِ مِنَ الْمُسْكِرِ الْمَائِعِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِتْلَافُهُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحَيْ (بَيْعٌ) (وَإِتْلَافٌ).
ضَمَانُ إِتْلَافِ الْخَمْرِ أَوْ غَصْبِهَا:
27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إِنْ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ فَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمَانِ مَنْ أَتْلَفَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْقَوْلِ بِالضَّمَانِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الضَّمَانِ، لِانْتِفَاءِ تَقَوُّمِهَا كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا تُرَاقُ الْخَمْرَةُ الْمَغْصُوبَةُ مِنْ مُسْلِمٍ إِذَا كَانَتْ مُحْتَرَمَةً- وَهِيَ الَّتِي عُصِرَتْ لَا بِقَصْدِ الْخَمْرِيَّةِ، وَإِنَّمَا بِقَصْدِ التَّخْلِيلِ- وَتُرَدُّ إِلَى الْمُسْلِمِ، لِأَنَّ لَهُ إِمْسَاكَهَا لِتَصِيرَ خَلًّا.وَالضَّمَانُ هُنَا إِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لَا بِالْمِثْلِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِهِ وَتَمَلُّكِهِ إِيَّاهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْزَازِهَا.وَإِذَا وَجَبَ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْمِثْلِ.وَيُنْظَرُ أَيْضًا مُصْطَلَحُ (إِتْلَافٌ) (وَضَمَانٌ).
حُكْمُ الِانْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ:
28- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ لِلْمُدَاوَاةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَوْجُهِ الِانْتِفَاعِ، كَاسْتِخْدَامِهَا فِي دُهْنٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ بَلْ طِينٍ.وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ «أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٌ- رضي الله عنه- سَأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ- أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا- فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ».وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُحَدُّ مَنْ شَرِبَهَا لِدَوَاءٍ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ حَرَامٌ فِي الْأَصَحِّ إِذَا كَانَتْ صَرْفًا غَيْرَ مَمْزُوجَةٍ بِشَيْءٍ آخَرَ تُسْتَهْلَكُ فِيهِ، وَيَجِبُ الْحَدُّ.أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ آخَرَ تُسْتَهْلَكُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ عِنْدَ فَقْدِ مَا يَقُومُ بِهِ التَّدَاوِي مِنَ الطَّاهِرَاتِ، وَحِينَئِذٍ تَجْرِي فِيهِ قَاعِدَةُ الضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ.وَإِذًا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِذَلِكَ لِتَعْجِيلِ شِفَاءٍ، بِشَرْطِ إِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ بِذَلِكَ، أَوْ مَعْرِفَتِهِ لِلتَّدَاوِي بِهِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمُسْتَعْمَلُ قَلِيلًا لَا يُسْكِرُ.وَذَهَبَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ إِلَى الْجَزْمِ بِحُرْمَتِهَا فَقَالَ: الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي.
حُكْمُ سَقْيِهَا لِغَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ:
29- يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَسْقِيَ الْخَمْرَ الصَّبِيَّ، أَوِ الْمَجْنُونَ، فَإِنْ أَسْقَاهُمْ فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الشَّارِبِ، وَلَا حَدَّ عَلَى الشَّارِبِ، لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ.وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ» وَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَآكِلَ ثَمَنِهَا» (4).وَيَحْرُمُ أَيْضًا عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُسْقِيَ الْخَمْرَ لِلدَّوَابِّ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
الِاحْتِقَانُ أَوِ الِاسْتِعَاطُ بِالْخَمْرِ:
30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا الِاحْتِقَانُ بِالْخَمْرِ (بِأَخْذِهَا حُقْنَةً شَرَجِيَّةً) أَوْ جَعْلِهَا فِي سَعُوطٍ، لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْمُحَرَّمِ النَّجِسِ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْحَدَّ مُرْتَبِطٌ بِالشُّرْبِ، فَهُوَ سَبَبُ تَطْبِيقِ الْحَدِّ.وَيُلَاحَظُ- كَمَا سَبَقَ- أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ عُقُوبَةً أُخْرَى زَاجِرَةً بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الِاحْتِقَانَ بِهَا يُعْتَبَرُ حَرَامًا.وَخِلَافُهُمْ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي التَّسْمِيَةِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يُسَمُّونَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ تَرْكَهُ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ وَالْإِلْزَامِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا، وَالْجُمْهُورُ يُسَمُّونَهُ حَرَامًا.وَهُمْ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي حَالَةِ الِاحْتِقَانِ بِالْخَمْرِ، لِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ، وَلَا حَاجَةَ لِلزَّجْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَرْغَبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَادَةً.وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِي حَالَةِ الِاسْتِعَاطِ، لِأَنَّ الشَّخْصَ أَوْصَلَ الْخَمْرَ إِلَى بَاطِنِهِ مِنْ حَلْقِهِ.
حُكْمُ مُجَالَسَةِ شَارِبِي الْخَمْرِ:
31- يَحْرُمُ مُجَالَسَةُ شُرَّابِ الْخَمْرِ وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا، أَوِ الْأَكْلُ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ خَمْرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقْعُدْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ».
نَجَاسَةُ الْخَمْرِ:
32- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً مُغَلَّظَةً، كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا وَتَسْمِيَتِهَا رِجْسًا.كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: الشَّيْءُ الْقَذِرُ وَالنَّتِنُ.أَمَّا الْأَشْرِبَةُ الْأُخْرَى الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَالْحُكْمُ بِالْحُرْمَةِ يَسْتَتْبِعُ عِنْدَهُمُ الْحُكْمَ بِنَجَاسَتِهَا.وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ وَالصَّنْعَانِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ، إِلَى طَهَارَتِهَا، تَمَسُّكًا بِالْأَصْلِ، وَحَمَلُوا الرِّجْسَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْقَذَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ.أَمَّا الْبَهِيمَةُ إِذَا سُقِيَتْ خَمْرًا، فَهَلْ تَحِلُّ أَوْ تَحْرُمُ لِأَجْلِ الْخَمْرِ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ).
أَثَرُ تَخَلُّلِ الْخَمْرِ وَتَخْلِيلِهَا:
33- إِذَا تَخَلَّلَتِ الْخَمْرُ بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ قَصْدِ التَّخْلِيلِ يَحِلُّ ذَلِكَ الْخَلُّ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «نِعْمَ الْأُدْمُ الْخَلُّ».وَيُعْرَفُ التَّخَلُّلُ بِالتَّغَيُّرِ مِنَ الْمَرَارَةِ إِلَى الْحُمُوضَةِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهَا مَرَارَةٌ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ فِيهَا بَعْضُ الْمَرَارَةِ لَا يَحِلُّ شُرْبُهَا، لِأَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُ لَا تَصِيرُ خَلًّا إِلاَّ بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَلِيَّةِ فِيهِ.كَمَا لَا يَصِيرُ الْعَصِيرُ خَمْرًا إِلاَّ بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: تَصِيرُ الْخَمْرُ خَلًّا بِظُهُورِ قَلِيلٍ مِنَ الْحُمُوضَةِ فِيهَا، اكْتِفَاءً بِظُهُورِ الْخَلِّيَّةِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْعَصِيرَ يَصِيرُ خَمْرًا بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَمْرِيَّةِ، كَمَا أَشَرْنَا فِي بَيَانِ مَذْهَبِهِمَا.
تَخْلِيلُ الْخَمْرِ بِعِلَاجٍ:
34- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ لَا يَحِلُّ تَخْلِيلُ الْخَمْرِ بِالْعِلَاجِ كَالْخَلِّ وَالْبَصَلِ وَالْمِلْحِ، أَوْ إِيقَادُ نَارٍ عِنْدَهَا، وَلَا تَطْهُرُ حِينَئِذٍ، لِأَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِاجْتِنَابِهَا، فَيَكُونُ التَّخْلِيلُ اقْتِرَابًا مِنَ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَطْرُوحَ فِي الْخَمْرِ يَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاتِهَا فَيُنَجِّسُهَا بَعْدَ انْقِلَابِهَا خَلًّا، وَلِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِإِهْرَاقِ الْخَمْرِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ بِتَحْرِيمِهَا.وَعَنْ «أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، فَقَالَ: أَهْرِقْهَا، قَالَ: أَفَلَا أُخَلِّلُهَا؟ قَالَ: لَا» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا؟ فَقَالَ: لَا، فَسَارَّهُ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: بِمَ سَارَرْتَهُ؟ فَقَالَ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، فَفَتَحَ الرَّجُلُ الْمَزَادَتَيْنِ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِمَا».
فَقَدْ أَرَاقَ الرَّجُلُ مَا فِي الْمَزَادَتَيْنِ بِحَضْرَةِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَازَ تَخْلِيلُهَا لَمَا أَبَاحَ لَهُ إِرَاقَتَهَا، وَلَنَبَّهَهُ عَلَى تَخْلِيلِهَا.وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَلَوْ كَانَ إِلَى اسْتِصْلَاحِهَا سَبِيلٌ مَشْرُوعٌ لَمْ تَجُزْ إِرَاقَتُهَا، بَلْ أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ، سِيَّمَا وَهِيَ لِأَيْتَامٍ يَحْرُمُ التَّفْرِيطُ فِي أَمْوَالِهِمْ.وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ- كَمَا يَقُولُونَ- فَقَدْ رَوَى أَسْلَمُ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: لَا تَأْكُلْ خَلًّا مِنْ خَمْرٍ أُفْسِدَتْ، حَتَّى يَبْدَأَ اللَّهُ تَعَالَى إِفْسَادَهَا، وَذَلِكَ حِينَ طَابَ الْخَلُّ، وَلَا بَأْسَ عَلَى امْرِئٍ أَصَابَ خَلًّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَبْتَاعَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا إِفْسَادَهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ النَّهْيُ.وَهَذَا قَوْلٌ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ لِأَنَّهُ إِعْلَانٌ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ.وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ.وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَحِلُّ شُرْبُهَا، وَيَكُونُ التَّخْلِيلُ جَائِزًا أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِصْلَاحٌ، وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ، قِيَاسًا عَلَى دَبْغِ الْجِلْدِ، فَإِنَّ الدِّبَاغَ يُطَهِّرُهُ، لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَقَالَ عَنْ جِلْدِ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ: «إِنَّ دِبَاغَهَا يُحِلُّهُ كَمَا يُحِلُّ خَلٌّ الْخَمْرَ» فَأَجَازَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- التَّخْلِيلَ، كَمَا ثَبَتَ حِلُّ الْخَلِّ شَرْعًا، بِدَلِيلِ قَوْلِه- صلى الله عليه وسلم- أَيْضًا: «خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ» وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ أَيْضًا: «نِعْمَ الْأُدْمُ الْخَلُّ»، فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّخَلُّلِ بِنَفْسِهِ وَالتَّخْلِيلِ، فَالنَّصُّ مُطْلَقٌ.وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ يُزِيلُ الْوَصْفَ الْمُفْسِدَ، وَيَجْعَلُ فِي الْخَمْرِ صِفَةَ الصَّلَاحِ، وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ إِرَاقَةَ الْخَمْرِ.وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنْ مَالِكٍ- وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ- أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ.
تَخْلِيلُ الْخَمْرِ بِنَقْلِهَا، أَوْ بِخَلْطِهَا بِخَلٍّ:
35- إِذَا نُقِلَتِ الْخَمْرُ مِنَ الظِّلِّ إِلَى الشَّمْسِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَلَوْ بِقَصْدِ التَّخْلِيلِ، فَتَخَلَّلَتْ يَحِلُّ الْخَلُّ الْحَاصِلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى الْخَمْرِ بِلَا نَقْلٍ، كَرَفْعِ سَقْفٍ كَانَ فَوْقَهَا، لَا يَحِلُّ نَقْلُهَا.وَعَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ الْحِلَّ بِقَوْلِهِمْ: لِأَنَّ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ (أَيِ الْإِسْكَارَ) الَّتِي هِيَ عِلَّةُ النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمِ، قَدْ زَالَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعَقِّبَ نَجَاسَةً فِي الْوِعَاءِ، فَتَطْهُرُ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نُقِلَتِ الْخَمْرُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ، فَتَخَلَّلَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَدَ تَخْلِيلَهَا حَلَّتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ تَخْلِيلُهَا احْتَمَلَ أَنْ تَطْهُرَ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ الْقَصْدُ، فَلَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا.وَيُحْتَمَلُ أَلاَّ تَطْهُرَ، لِأَنَّهَا خُلِّلَتْ بِفِعْلٍ، كَمَا لَوْ أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ.
إِمْسَاكُ الْخَمْرِ لِتَخْلِيلِهَا:
36- اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ إِمْسَاكِ الْخَمْرِ بِقَصْدِ تَخْلِيلِهَا.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ، وَهَذَا الْخَلُّ عِنْدَهُمْ حَلَالٌ طَاهِرٌ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ إِمْسَاكِ الْخَمْرِ بِقَصْدِ تَخْلِيلِهَا، لَكِنْ يَحِلُّ عِنْدَهُمْ لِلْخَلاَّلِ إِمْسَاكُ الْخَمْرِ لِيَتَخَلَّلَ، لِئَلاَّ يَضِيعَ مَالُهُ.
طَهَارَةُ الْإِنَاءِ:
37- إِذَا تَخَلَّلَتِ الْخَمْرَةُ وَطَهُرَتْ- حَسَبَ اخْتِلَافِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ السَّابِقَةِ فِي طَهَارَتِهَا أَوْ نَجَاسَتِهَا- فَإِنَّ الْإِنَاءَ الَّذِي فِيهِ الْخَمْرُ يَطْهُرُ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ.وَهُنَاكَ اخْتِلَافٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حَوْلَ طَهَارَةِ أَعْلَى الْإِنَاءِ، لَكِنْ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ الْجَزْمُ بِالطَّهَارَةِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِهِمْ أَنَّ أَعْلَى الْإِنَاءِ يَطْهُرُ تَبَعًا.وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ أَعْلَاهُ لَا يَطْهُرُ، لِأَنَّهُ خَمْرٌ يَابِسَةٌ إِلاَّ إِذَا غُسِلَ بِالْخَلِّ، فَتَخَلَّلَ مِنْ سَاعَتِهِ فَيَطْهُرُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
2-موسوعة الفقه الكويتية (تحول 1)
تَحَوُّلٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- التَّحَوُّلُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ تَحَوَّلَ، وَمَعْنَاهُ: التَّنَقُّلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا: الزَّوَالُ، كَمَا يُقَالُ: تَحَوَّلَ عَنِ الشَّيْءِ أَيْ: زَالَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ: التَّغَيُّرُ وَالتَّبَدُّلُ.وَالتَّحْوِيلُ مَصْدَرُ حَوَّلَ، وَهُوَ: النَّقْلُ، فَالتَّحَوُّلُ مُطَاوِعٌ وَأَثَرٌ لِلتَّحْوِيلِ.
وَيَقْصِدُ الْفُقَهَاءُ بِالتَّحَوُّلِ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِي اللُّغَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الِاسْتِحَالَةُ:
2- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِحَالَةِ لُغَةً: تَغَيُّرُ الشَّيْءِ عَنْ طَبْعِهِ وَوَصْفِهِ، أَوْ عَدَمُ الْإِمْكَانِ.
فَالِاسْتِحَالَةُ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى التَّحَوُّلِ، كَاسْتِحَالَةِ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ مِنَ الْعَذِرَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَتَحَوُّلِهَا عَنْ أَعْيَانِهَا وَتَغَيُّرِ أَوْصَافِهَا، وَذَلِكَ بِالِاحْتِرَاقِ، أَوْ بِالتَّخْلِيلِ، أَوْ بِالْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
أَحْكَامُ التَّحَوُّلِ:
لِلتَّحَوُّلِ أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاطِنِهَا، أَهَمُّهَا مَا يَلِي:
أ- تَحَوُّلُ الْعَيْنِ وَأَثَرُهُ فِي الطَّهَارَةِ وَالْحِلِّ:
3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى: أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَرَمَادُ النَّجِسِ لَا يَكُونُ نَجِسًا، وَلَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا مِلْحٌ كَانَ حِمَارًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَلَا نَجِسٌ وَقَعَ فِي بِئْرٍ فَصَارَ طِينًا، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ إِذَا صَارَتْ خَلًّا سَوَاءٌ بِنَفْسِهَا أَوْ بِفِعْلِ إِنْسَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِانْقِلَابِ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، فَيَنْتَفِي بِانْتِقَائِهَا.فَإِذَا صَارَ الْعَظْمُ وَاللَّحْمُ مِلْحًا أَخَذَا حُكْمَ الْمِلْحِ؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ غَيْرُ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: الْعَلَقَةُ فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ، فَإِذَا تَحَوَّلَتْ إِلَى الْمُضْغَةِ تَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ فَإِذَا تَحَوَّلَ خَمْرًا يَنْجُسُ.
فَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا: أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَالَ الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا.
وَالْأَصْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ: أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ لَا يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَالْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ يُلْقَى فِي الْمَلاَّحَةِ فَيَصِيرُ مِلْحًا، وَالدُّخَانُ الْمُتَصَاعِدُ مِنْ وُقُودِ النَّجَاسَةِ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارُ الْمُتَصَاعِدُ مِنْهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ مِنْهُ نَدَاوَةٌ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ، ثُمَّ قَطَّرَ، نَجِسٌ.
4- ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْخَمْرَ إِذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا فَتَطْهُرُ بِالتَّخَلُّلِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ النَّجَاسَةِ الْإِسْكَارُ وَقَدْ زَالَتْ، وَلِأَنَّ الْعَصِيرَ لَا يَتَخَلَّلُ إِلاَّ بَعْدَ التَّخَمُّرِ غَالِبًا، فَلَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِالطَّهَارَةِ تَعَذَّرَ الْحُصُولُ عَلَى الْخَلِّ، وَهُوَ حَلَالٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا إِنْ خُلِّلَتْ بِطَرْحِ شَيْءٍ فِيهَا بِفِعْلِ إِنْسَانٍ فَلَا تَطْهُرُ عِنْدَهُمْ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا لَوْ تَخَلَّلَتْ بِإِلْقَاءِ الرِّيحِ فَلَا تَطْهُرُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ دَخْلٌ فِي التَّخْلِيلِ كَبَصَلٍ وَخُبْزٍ حَارٍّ، أَمْ لَا كَحَصَاةٍ.
وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُلْقَاةُ طَاهِرَةً أَوْ نَجِسَةً.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ أَكْثَرُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيلٌ وَاسْتِحَالَةٌ).
ب- تَطْهِيرُ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ:
5- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَهُ عَلَى اتِّجَاهَاتٍ كَثِيرَةٍ.وَفِي الْمَوْضُوعِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ وَخِلَافٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ النَّجَاسَةِ وَكَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهَا، وَيُرَاجَعُ فِيهِ أَيْضًا مُصْطَلَحُ: (دِبَاغَةٌ).
ج- تَحَوُّلُ الْوَصْفِ أَوِ الْحَالَةِ:
تَحَوُّلُ الْمَاءِ الرَّاكِدِ إِلَى الْمَاءِ الْجَارِي:
6- الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ الرَّاكِدَ إِذَا تَحَوَّلَ إِلَى جَارٍ يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ جَرَيَانِهِ، وَالْجَارِي مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا بِأَنْ يَدْخُلَ الْمَاءَ مِنْ جَانِبٍ وَيَخْرُجَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ حَالَ دُخُولِهِ، وَإِنْ قَلَّ الْخَارِجُ، لِأَنَّهُ صَارَ جَارِيًا حَقِيقَةً، وَبِخُرُوجِ بَعْضِهِ وَقَعَ الشَّكُّ فِي بَقَاءِ النَّجَاسَةِ، فَلَا تَبْقَى مَعَ الشَّكِّ.
وَفِيهِ قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
الْأَوَّلُ: لَا يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ التَّحَوُّلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِ قَدْرِ مَا فِيهِ.
وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِ ثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِ.
وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ وَالْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِي: أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْحَوْضِ يَكُونُ طَاهِرًا بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ.وَلَا يَكُونُ طَاهِرًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: الْبِئْرُ وَحَوْضُ الْحَمَّامِ وَالْأَوَانِي.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ يَتَحَوَّلُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ النَّجِسُ طَهُورًا بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِصَبِّ مَاءٍ مُطْلَقٍ عَلَيْهِ، قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، أَوْ مَاءٍ مُضَافٍ مُقَيَّدٍ انْتَفَتْ نَجَاسَتُهُ، أَمْ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ كَتُرَابٍ أَوْ طِينٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ أَحَدُ أَوْصَافِ مَا أُلْقِيَ فِيهِ.لِأَنَّ تَنَجُّسَهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ التَّغَيُّرِ وَقَدْ زَالَ، وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، كَالْخَمْرِ إِذَا صَارَتْ خَلًّا، وَفِي تَغَيُّرِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ قَوْلَانِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَا يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ نَجِسٍ، لِحَدِيثِ «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ».أَيْ لَا يَقْبَلُ النَّجِسَ.
هَذَا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَيَنْجُسُ لِحَدِيثِ: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ».
فَإِنْ تَغَيَّرَ وَصْفٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَنَجَّسَ، فَإِنْ زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَاءٍ انْضَمَّ إِلَيْهِ طَهُرَ.وَمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، فَإِنْ بَلَغَهُمَا بِمَاءٍ وَلَا تَغَيُّرَ بِهِ فَطَهُورٌ.وَلَوْ كَوْثَرٌ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَطْهُرْ.وَقِيلَ: هُوَ طَاهِرٌ لَا طَهُورٌ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَخْتَلِفُ تَطْهِيرُ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ بِالْمُكَاثَرَةِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالٍ ثَلَاثٍ لِلْمَاءِ: أَنْ يَكُونَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ زَائِدًا عَنْهُمَا.
(1) فَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَتَطْهِيرُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِمَاءٍ آخَرَ.
فَإِنِ اجْتَمَعَ نَجِسٌ إِلَى نَجِسٍ، فَالْكُلُّ نَجِسٌ وَإِنْ كَثُرَ، لِأَنَّ اجْتِمَاعَ النَّجِسِ إِلَى النَّجِسِ لَا يَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا طَاهِرٌ، كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَطْهُرَ إِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ وَبَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ، لِحَدِيثِ: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» وَحَدِيثِ: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَاءٌ غُيِّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ».
وَجَمِيعُ النَّجَاسَاتِ فِي هَذَا سَوَاءٌ، إِلاَّ بَوْلَ الْآدَمِيِّينَ وَعَذِرَتَهُمُ الْمَائِعَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تُنَجِّسُ الْمَاءَ الْكَثِيرَ، إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ حَدًّا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ كَالْغُدْرَانِ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ.
(2) فَإِنْ كَانَ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ:
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَيَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ إِذَا أَزَالَتِ التَّغَيُّرَ، أَوْ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَزُولَ تَغَيُّرُهُ بِطُولِ الْمُكْثِ.
(3) وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ: فَإِنْ كَانَ نَجِسًا بِغَيْرِ التَّغَيُّرِ فَلَا طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهِ بِغَيْرِ الْمُكَاثَرَةِ.
وَإِنْ كَانَ نَجِسًا مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ فَتَطْهِيرُهُ إِمَّا بِالْمُكَاثَرَةِ، أَوْ زَوَالِ تَغَيُّرِهِ بِمُكْثِهِ، أَوْ أَنْ يُنْزَحَ مِنْهُ مَا يَزُولُ بِهِ التَّغَيُّرُ، وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (طَهَارَةٌ).
التَّحَوُّلُ إِلَى الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْهَا:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ، فَفَرْضُهُ الصَّلَاةُ إِلَى عَيْنِهَا بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، بِأَنْ لَا يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْهُ عَنِ الْكَعْبَةِ وَلَوْ عُضْوًا، فَلَوْ تَحَوَّلَ بِغَيْرِ عُذْرٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
وَأَمَّا فِي تَحْوِيلِ الْوَجْهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوِ انْحَرَفَ وَجْهُهُ عَنْ عَيْنِ الْكَعْبَةِ انْحِرَافًا لَا تَزُولُ فِيهِ الْمُقَابَلَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَأَمَّا تَحْوِيلُ الصَّدْرِ عَنِ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَمُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: مَنِ الْتَفَتَ بِجَسَدِهِ كُلِّهِ عَنِ الْقِبْلَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، إِنْ بَقِيَتْ قَدَمَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ التَّحَوُّلَ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَامِدًا مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ، وَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ.وَفِي الْمَوْضُوعِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَالٌ).
التَّحَوُّلُ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ فِي الصَّلَاةِ:
8- التَّحَوُّلُ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، وَمِنْهُ إِلَى الِاسْتِلْقَاءِ أَوِ الِاضْطِجَاعِ مِنْ فُرُوعِ قَاعِدَةِ: «الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ» وَالْأَصْلُ فِيهَا قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ أَثْنَاءَهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ خَافَ زِيَادَةَ مَرَضٍ، أَوْ بُطْءَ بُرْئِهِ، أَوْ دَوَرَانَ رَأْسِهِ، أَوْ وَجَدَ لِقِيَامِهِ أَلَمًا شَدِيدًا وَنَحْوَهُ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْمَأَ مُسْتَلْقِيًا، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» زَادَ النَّسَائِيُّ: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا».
وَيُزَادُ فِي النَّافِلَةِ: أَنَّ لَهُ التَّحَوُّلَ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ بِلَا عُذْرٍ.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى كِتَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ.
تَحَوُّلُ الْمُقِيمِ إِلَى مُسَافِرٍ وَعَكْسُهُ:
أ- تَحَوُّلُ الْمُقِيمِ إِلَى مُسَافِرٍ:
9- يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَ مَقَامِهِ، وَجَاوَزَ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ تَوَابِعِ الْبَلَدِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ، قَاصِدًا الْمَسَافَةَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا السَّفَرُ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ.وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ نِيَّةُ الْمَتْبُوعِ لَا التَّابِعِ، حَتَّى تَصِيرَ الزَّوْجَةُ مُسَافِرَةً بِنِيَّةِ الزَّوْجِ، وَالْجُنْدِيُّ بِنِيَّةِ الْقَائِدِ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ.
ثَانِيهِمَا: إِذَا أَنْشَأَ السَّيْرَ بَعْدَ الْإِقَامَةِ.
وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).
ب- تَحَوُّلُ الْمُسَافِرِ إِلَى مُقِيمٍ:
10- يَصِيرُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا بِأَحَدِ الْأُمُورِ التَّالِيَةِ:
الْأَوَّلُ: الْعَوْدُ إِلَى الْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِيهِ.
وَالضَّبْطُ فِيهِ: أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي شَرَطَ الْفُقَهَاءُ مُفَارَقَتَهُ فِي إِنْشَاءِ السَّفَرِ مِنْهُ.
الثَّانِي: الْوُصُولُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَافِرُ إِلَيْهِ، إِذَا عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ الْقَدْرَ الْمَانِعَ مِنَ التَّرَخُّصِ، وَكَانَ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ.وَالْمُدَّةُ الْمَانِعَةُ مِنَ التَّرَخُّصِ خِلَافِيَّةٌ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).
الثَّالِثُ: إِذَا تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ بِبَلَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْهُ وَطَنًا، وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ.
الرَّابِعُ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الطَّرِيقِ: وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَنِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَاتِّحَادُ الْمَكَانِ، وَصَلَاحِيَّتُهُ لِلْإِقَامَةِ.
وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَنَحْوُهَا فَفِي انْقِطَاعِ السَّفَرِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).
الْخَامِسُ: الْإِقَامَةُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْأَصْلُ مُقِيمًا، فَيَصِيرَ التَّبَعُ أَيْضًا مُقِيمًا، بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ.
التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ:
الْكَلَامُ عَلَى التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
أ- الزَّكَاةُ:
11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الزَّكَاةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.فَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ الْعَيْنَ أَوِ الْقِيمَةَ مِنَ النَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}.
نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَأْخُوذِ (صَدَقَةً) وَكُلُّ جِنْسٍ يَأْخُذُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ.
وَلِقَوْلِ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمُ: «ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَأْتِي بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ».
وَالْفِقْهُ فِيهِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ إِيصَالُ الرِّزْقِ الْمَوْعُودِ إِلَى الْفَقِيرِ، وَدَفْعُ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ أَيْضًا.قَالَ - عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ قُوتَ الْفُقَرَاءِ، وَسَمَّاهُ زَكَاةً».
وَفِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ هَلْ تُدْفَعُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْأَدَاءِ أَمْ يَوْمَ الْوُجُوبِ؟ خِلَافٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مَوْطِنِهِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: فَيَجُوزُ التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَقَطْ، فَيَجُوزُ لِلْمُزَكِّي أَنْ يُخْرِجَ فِي زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ بِقِيمَتِهَا، وَيُخْرِجَ عَنِ الْفِضَّةِ ذَهَبًا بِقِيمَتِهِ، قَلَّتِ الْقِيمَةُ أَوْ كَثُرَتْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّهِ، فَكَانَتْ بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهُمَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ.
وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ.
وَأَمَّا فِي الْمَوَاشِي: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَائِزٌ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ بِجَوَازِ الْقِيمَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ، وَلِئَلاَّ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِمَّا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ قَدْ بَخَسَ الْفُقَرَاءَ حَقَّهُمْ، إِلاَّ إِذَا أَجْبَرَ السَّاعِي الْمُزَكِّيَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَقَتِهِ، فَيُجْزِئُ عَنْهُ، إِذَا كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عِنْدَ مَحَلِّهَا.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُجْزِئُ إِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ.وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْإِبِلُ مِرَاضًا، أَوْ قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ لِعَيْبٍ أَجْزَأَ الْبَعِيرُ النَّاقِصُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ، وَإِنْ كَانَتْ صِحَاحًا سَلِيمَةً لَمْ يُجْزِئِ النَّاقِصُ.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (الزَّكَاةُ).
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّحَوُّلُ فِي الْمَاشِيَةِ مِنْ جِنْسٍ إِلَى آخَرَ وَلَا إِلَى الْقِيمَةِ..
ب- زَكَاةُ الْفِطْرِ:
12- التَّحَوُّلُ عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الْقِيمَةِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَأَمَّا التَّحَوُّلُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى آخَرَ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَقْوَاتِ، أَوِ التَّحَوُّلُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى وَعَكْسُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (زَكَاةُ الْفِطْرِ).
ج- الْعُشُورُ:
13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الْعُشُورِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الْعُشُورِ، وَذَلِكَ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّحَوُّلُ مِنَ الْوَاجِبِ إِلَى الْأَعْلَى فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ نَوْعًا وَاحِدًا.
وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَنْوَاعُ: أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِالْحِصَّةِ إِنْ لَمْ يَتَعَسَّرْ، فَإِنْ عَسُرَ أَخْذُ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِأَنْ كَثُرَتْ، وَقَلَّ ثَمَرُهَا فَفِيهِ أَوْجُهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْوَسَطِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ.
وَالثَّانِي: يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِقِسْطِهِ.
وَالثَّالِثُ: مِنَ الْغَالِبِ، وَقِيلَ: يُؤْخَذُ الْوَسَطُ قَطْعًا.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُشْرٌ).
د- الْكَفَّارَاتُ:
14- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا تَعَيَّنَ، وَإِنْ كَانَ مُخَيَّرًا تَخَيَّرَ فِي الْخِصَالِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الشَّارِعُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِنْ كَانَ مَالِيًّا إِلَى الْبَدَلِ فِي الْكَفَّارَاتِ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَاتٌ).
هـ- النُّذُورُ:
15- الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُعَيَّنًا وَغَيْرَ مُطْلَقٍ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ مِمَّا عَيَّنَهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنِ الْمُعَيَّنِ إِلَى غَيْرِهِ بَدَلًا أَوْ قِيمَةً.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (النَّذْرُ).
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، كَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْعُدُولُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْقِيمَةِ فِي النُّذُورِ، وَاسْتَثْنَوْا نَذْرَ الْعِتْقِ وَالْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ.
تَحَوُّلُ فَرِيضَةِ الصَّوْمِ إِلَى فِدْيَةٍ:
16- اتَّفَقَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ الْهَرِمَ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ، أَوْ تَلْحَقُهُ بِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ لَا صَوْمَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ غَيْرُ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ غَيْرُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.وَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ وَلَدِهَا، وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ
، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ وَفِدْيَةٌ)..
تَحَوُّلُ الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تُسْتَكْمَلْ شَرَائِطُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ:
17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْهِبَةَ إِذَا كَانَتْ بِشَرْطِ الْعِوَضِ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَتَحَوَّلُ إِلَى بَيْعٍ، فَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ وَالشُّفْعَةُ، وَيَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَبْطُلُ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّ هِبَةَ الثَّوَابِ بَيْعٌ ابْتِدَاءً، وَلِذَا لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ حِيَازَةِ الْهِبَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثَابَ عَنِ الذَّهَبِ فِضَّةً أَوِ الْعَكْسُ، لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّرْفِ الْمُؤَخَّرِ، مَا لَمْ يَحْدُثِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.وَفِي كَوْنِ الْعِوَضِ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، وَكَذَلِكَ فِي كَوْنِهَا بَيْعًا ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (هِبَةٌ).
وَلِتَحَوُّلِ الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تُسْتَكْمَلْ شَرَائِطُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى مِنْهَا: تَحَوُّلُ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَى وَكَالَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفَاتِ الْمُضَارِبِ، وَلِذَلِكَ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُضَارِبِ مَنُوطَةٌ بِالْمَصْلَحَةِ كَالْوَكِيلِ.
وَإِلَى شَرِكَةٍ إِنْ رَبِحَ الْمُضَارِبُ، وَإِلَى إِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ إِنْ فَسَدَتْ.
وَمِنْهَا: تَحَوُّلُ السَّلَمِ إِلَى بَيْعٍ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَيْنًا فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَإِلَى هِبَةٍ لَوْ قَالَ: بِعْتُ بِلَا ثَمَنٍ، وَالْأَظْهَرُ الْبُطْلَانُ.
وَمِنْهَا: تَحَوُّلُ الِاسْتِصْنَاعِ سَلَمًا إِذَا ضُرِبَ فِيهِ الْأَجَلُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى تُعْتَبَرَ فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ.
وَفِي كُلٍّ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (عَقْدٌ، وَسَلَمٌ، وَمُضَارَبَةٌ، وَشَرِكَةٌ، وَاسْتِصْنَاعٌ).
تَحَوُّلُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ إِلَى نَافِذٍ:
18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ أَصْبَحَ نَافِذًا، وَإِلاَّ فَلَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَيَجِبُ رَدُّهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَقَدْ فَصَّلَ الْقَائِلُونَ بِانْعِقَادِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ الْكَلَامَ حَوْلَهُ، وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ: (عَقْدٌ، وَمَوْقُوفٌ، وَفُضُولِيٌّ).
تَحَوُّلُ الدَّيْنِ الْآجِلِ إِلَى حَالٍّ:
يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ الْآجِلُ إِلَى حَالٍّ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
أ- الْمَوْتُ:
19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الْآجِلَ يَتَحَوَّلُ بِالْمَوْتِ إِلَى حَالٍّ، لِانْعِدَامِ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ وَتَعَذُّرِ الْمُطَالَبَةِ.وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا.
وَفِي لِحَاقِ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ هَلْ يَتَقَرَّرُ مَوْتُهُ، وَتَثْبُتُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ؟ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَمُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ).وَمُصْطَلَحِ أَجَلٌ (ف: 95 ج 2).
ب- التَّفْلِيسُ:
20- الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَالِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْحَجْرِ لِلْإِفْلَاسِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِالتَّفْلِيسِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُفَلِّسِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَلَسِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا لَهُ، فَلَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ إِلَى: أَنَّ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِإِفْلَاسِهِ يَتَحَوَّلُ دَيْنُهُ الْآجِلُ إِلَى حَالٍّ، لِأَنَّ التَّفْلِيسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ بِالْمَالِ، فَيَسْقُطُ الْأَجَلُ كَالْمَوْتِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْرٌ).
تَحَوُّلُ الْوَقْفِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ:
21- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ فِي الْوَقْفِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ الَّذِي لَا خِلَافَ فِي صِحَّتِهِ: مَا كَانَ مَعْلُومَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَ نِهَايَتَهُ إِلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ، كَأَنْ يَجْعَلَ آخِرَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ انْقِرَاضُهُمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوِ انْقَطَعَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ:
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الْوَاقِفِ، أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى فُلَانٍ، وَعَلَى فُلَانٍ فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُسَمَّى كَانَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا، وَيَنْصَرِفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ.وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَصْرِفِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوَقْفِ.
وَيُرْجَعُ إِلَى تَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ).
تَحَوُّلُ الْمِلْكِيَّةِ الْعَامَّةِ مِنَ الْإِبَاحَةِ إِلَى الْمِلْكِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَعَكْسُهُ:
22- قَدْ تَتَحَوَّلُ الْمِلْكِيَّةُ مِنَ الْعَامَّةِ إِلَى الْخَاصَّةِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ، كَالْإِقْطَاعِ مِنْ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ.
فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الْأَرْضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، كَمَا يُعْطِي الْمَالَ حَيْثُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْمَالِ فِي الدَّفْعِ لِلْمُسْتَحِقِّ.وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (إِقْطَاعٌ).
وَيَتَحَوَّلُ الْمِلْكُ الْخَاصُّ إِلَى الْعَامِّ إِذَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَارِثُهُ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَذَكَرَ أَبُو يَعْلَى أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مَصْرُوفًا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْمِيرَاثِ.
وَيَتَحَوَّلُ الْمِلْكُ الْخَاصُّ إِلَى عَامٍّ، فِي نَحْوِ الْبَيْتِ الْمَمْلُوكِ إِذَا اُحْتِيجَ إِلَيْهِ لِلْمَسْجِدِ، أَوْ تَوْسِعَةِ الطَّرِيقِ، أَوْ لِلْمَقْبَرَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ.
تَحَوُّلُ الْوِلَايَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
23- تَتَحَوَّلُ الْوِلَايَةُ مِنَ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ إِلَى الْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
- إِذَا فُقِدَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أُسِرَ أَوْ حُبِسَ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ تَتَحَوَّلُ مِنَ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ تَنْتَقِلُ إِلَى الْحَاكِمِ.
- وَمِنْهَا غَيْبَةُ الْوَلِيِّ، فَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَنْتَقِلُ إِلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ وَلِيُّ الْغَائِبِ.وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَتَنْتَقِلُ عِنْدَهُمْ إِلَى الْأَبْعَدِ.
وَمِنْهَا: الْعَضْلُ، وَهُوَ: مَنْعُ الْوَلِيِّ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ زَوَاجِ الْكُفْءِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ الْأَقْرَبَ إِذَا عَضَلَهَا انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه-.وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رضي الله عنه- وَشُرَيْحٍ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَنْصُوصِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْأَبْعَدِ.وَانْظُرْ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالْخِلَافِ فِيهِ مُصْطَلَحَ: (وِلَايَةُ النِّكَاحِ).
تَحَوُّلُ حَقِّ الْحَضَانَةِ:
24- الْأَصْلُ فِي الْحَضَانَةِ أَنَّ الْأُمَّ أَوْلَى النَّاسِ بِحَضَانَةِ الطِّفْلِ إِذَا كَمُلَتِ الشُّرُوطُ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي».
فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأُمُّ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ لِفِقْدَانِ جَمِيعِ الشُّرُوطِ فِيهَا أَوْ بَعْضِهَا، أَوِ امْتَنَعَتْ مِنَ الْحَضَانَةِ، فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ، وَتَنْتَقِلُ الْحَضَانَةُ إِلَى مَنْ يَلِيهَا، وَهَكَذَا تَتَحَوَّلُ مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ.عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَةٌ).
تَحَوُّلُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ:
25- إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي عِدَّةِ طَلَاقِهِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا سَقَطَتْ عَنْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، أَيْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ حِينِ الْوَفَاةِ، بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ رَجْعِيًّا زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، وَيَنَالُهَا مِيرَاثُهُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ.
وَإِذَا مَاتَ مُطَلِّقُ الْبَائِنِ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، أَوْ طَلَّقَهَا بِطَلَبِهَا، بَنَتْ عَلَى مُدَّةِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ.أَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِغَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا، فَهَذِهِ خِلَافِيَّةٌ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ احْتِيَاطًا لِشُبْهَةِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، بِاعْتِبَارِ إِرْثِهَا مِنْهُ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
تَحَوُّلُ الْعِدَّةِ مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ وَعَكْسُهُ:
أ- تَحَوُّلُ الْعِدَّةِ مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ:
26- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، وَكَذَلِكَ الْبَالِغَةُ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ، فَحَاضَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، أَنَّ عِدَّتَهَا تَتَحَوَّلُ مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّهُورَ بَدَلٌ عَنِ الْأَقْرَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَلِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَلِ، قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي حَقِّ الْمُتَيَمِّمِ، فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْأَشْهُرِ، وَتَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ.
وَكَذَا الْآيِسَةُ إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، فَتَتَحَوَّلُ عِدَّتُهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ يُقَدِّرُوا فِيهَا لِلْإِيَاسِ سِنًّا مُعَيَّنَةً.
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْلَ السَّبْعِينَ- وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْلَ السِّتِّينَ- يَكُونُ دَمًا مَشْكُوكًا فِيهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى النِّسَاءِ.
إِلاَّ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا، فَهُوَ حَيْضٌ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَّتُوا لِلْإِيَاسِ فِيهَا وَقْتًا: إِلَى أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ بَعْدَهَا لَيْسَ بِحَيْضٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ دَمًا خَالِصًا فَحَيْضٌ، حَتَّى يَبْطُلَ بِهِ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ.وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَيْ: (إِيَاسٌ، وَعِدَّةٌ).
27- وَأَمَّا مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا بَعْدَ أَنْ رَأَتِ الدَّمَ، وَقَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ الْيَأْسِ- وَهِيَ الْمُرْتَابَةُ- فَذَهَبَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ بِسَبَبٍ مَعْرُوفٍ كَرَضَاعٍ وَنِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَإِنَّهَا تَصْبِرُ حَتَّى تَحِيضَ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، أَوْ تَبْلُغُ سِنَّ الْيَأْسِ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ، وَلَا عِبْرَةَ بِطُولِ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَشْهُرِ جُعِلَ بَعْدَ الْيَأْسِ بِالنَّصِّ، فَلَمْ يَجُزِ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ قَبْلَهُ.
أَمَّا مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا لَا لِعِلَّةٍ تُعْرَفُ.فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَهَذِهِ سَنَةٌ.وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ تَبَيَّنَتْ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَيْضًا، وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ( ( (.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَيْضًا أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ ثَلَاثَةً، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
3-موسوعة الفقه الكويتية (تخليل)
تَخْلِيلٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّخْلِيلُ لُغَةً يَأْتِي بِمَعَانٍ، مِنْهَا: تَفْرِيقُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، يُقَالُ: خَلَّلَ الرَّجُلُ لِحْيَتَهُ: إِذَا أَوْصَلَ الْمَاءَ إِلَى خِلَالِهَا، وَهُوَ الْبَشَرَةُ الَّتِي بَيْنَ الشَّعْرِ.وَأَصْلُهُ مِنْ إِدْخَالِ الشَّيْءِ فِي خِلَالِ الشَّيْءِ، وَهُوَ وَسَطُهُ.وَيُقَالُ: خَلَّلَ الشَّخْصُ أَسْنَانَهُ تَخْلِيلًا: إِذَا أَخْرَجَ مَا يَبْقَى مِنَ الْمَأْكُولِ بَيْنَهَا.وَخَلَّلْتُ النَّبِيذَ تَخْلِيلًا: جَعَلْتُهُ خَلًّا.
وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ التَّخْلِيلِ بِهَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.
أَحْكَامُ التَّخْلِيلِ بِأَنْوَاعِهِ:
أَوَّلًا: التَّخْلِيلُ فِي الطَّهَارَةِ:
أ- تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ:
2- إِيصَالُ الْمَاءِ بَيْنَ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالتَّخْلِيلِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ الْغُسْلِ، فَهُوَ فَرْضٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ؛ لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.
أَمَّا التَّخْلِيلُ بَعْدَ دُخُولِ الْمَاءِ خِلَالَ الْأَصَابِعِ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَنَّ تَخْلِيلَ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ»، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ أَنَّ التَّخْلِيلَ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ آكَدُ، وَعَلَّلُوا اسْتِحْبَابَ التَّخْلِيلِ بِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي إِزَالَةِ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى وُجُوبِ التَّخْلِيلِ فِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَاسْتِحْبَابِهِ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا وَجَبَ تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ دُونَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ لِعَدَمِ شِدَّةِ الْتِصَاقِهَا، فَأَشْبَهَتِ الْأَعْضَاءَ الْمُسْتَقِلَّةَ، بِخِلَافِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ لِشِدَّةِ الْتِصَاقِهَا، فَأَشْبَهَ مَا بَيْنَهَا الْبَاطِنُ.
وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ عِنْدَهُمْ: يَجِبُ التَّخْلِيلُ فِي الرِّجْلَيْنِ كَالْيَدَيْنِ.
وَمُرَادُ الْمَالِكِيَّةِ بِوُجُوبِ التَّخْلِيلِ إِيصَالُ الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ بِالدَّلْكِ.
3- وَكَذَلِكَ يُسَنُّ تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي الْغُسْلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، حَيْثُ ذَكَرُوا فِي بَيَانِ الْغُسْلِ الْكَامِلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ أَنْ يَتَوَضَّأَ كَامِلًا قَبْلَ أَنْ يَحْثُوَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ» وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ تَخْلِيلَ الْأَصَابِعِ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ فِي الْوُضُوءِ، فَكَذَلِكَ فِي الْغُسْلِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى وُجُوبِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فِي الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالُوا فِي الْوُضُوءِ مِنِ اسْتِحْبَابِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ.
ب- تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ فِي التَّيَمُّمِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فَرْضٌ فِي التَّيَمُّمِ؛ لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
كَذَلِكَ يَجِبُ تَعْمِيمُ وَاسْتِيعَابُ مَحَلِّ الْفَرْضِ بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِوُجُوبِ نَزْعِ الْخَاتَمِ وَالسِّوَارِ إِذَا كَانَا ضَيِّقَيْنِ يُخْشَى عَدَمُ وُصُولِ الْغُبَارِ إِلَى مَا تَحْتَهُمَا، حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا بِوُجُوبِ نَزْعِ الْخَاتَمِ، وَلَوْ كَانَ وَاسِعًا، وَإِلاَّ كَانَ حَائِلًا.
وَعَلَى ذَلِكَ يَجِبُ تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْنَهَا غُبَارٌ، أَوْ لَمْ تُمْسَحْ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ بَعْدَ مَسْحِهِمَا، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِاسْتِحْبَابِهِ احْتِيَاطًا، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ فَرَّقَ أَصَابِعَهُ فِي الضَّرْبَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْهَا فِيهِمَا، أَوْ فَرَّقَهَا فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَجَبَ التَّخْلِيلُ.وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ مَا يُوَافِقُ مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، حَيْثُ قَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ وُجُوبَ التَّخْلِيلِ بِعَدَمِ وُصُولِ الْغُبَارِ إِلَى الْأَصَابِعِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ تَعْمِيمُ يَدَيْهِ لِكُوعَيْهِ مَعَ تَخْلِيلِ أَصَابِعِهِ مُطْلَقًا.
كَيْفِيَّةُ تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ:
5- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ تَخْلِيلَ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ يَكُونُ بِالتَّشْبِيكِ بَيْنَهُمَا.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُدْخِلُ أَصَابِعَ إِحْدَاهُمَا بَيْنَ أَصَابِعِ الْأُخْرَى، سَوَاءٌ أَدَخَلَ مِنَ الظَّاهِرِ أَوِ الْبَاطِنِ، وَلَا يَكْرَهُونَ التَّشْبِيكَ فِي الْوُضُوءِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِكَرَاهَةِ التَّشْبِيكِ، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَا يَفْعَلُ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ».
أَمَّا تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الرِّجْلِ، فَيُسْتَحَبُّ فِيهِ أَنْ يَبْدَأَ بِخِنْصَرِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى، وَيَخْتِمَ بِخِنْصَرِ الرَّجُلِ الْيُسْرَى لِيَحْصُلَ التَّيَامُنُ، وَهُوَ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِحَدِيثِ «الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ فَخَلَّلَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ» وَلِمَا وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي وُضُوئِهِ» إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: التَّخْلِيلُ يَكُونُ بِخِنْصَرِ يَدِهِ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِإِزَالَةِ الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ مِنْ بَاطِنِ رِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ بِخِنْصَرِ يَدِهِ الْيُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ بِسَبَّابَتَيْهِ.
ج- تَخْلِيلُ الشَّعْرِ:
(1) تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ:
6- اللِّحْيَةُ الْخَفِيفَةُ- وَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهَا وَلَا تَسْتُرُهَا عَنِ الْمُخَاطَبِ- يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهَا وَإِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهَا فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ تَخْلِيلِهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَذَلِكَ لِفَرْضِيَّةِ غَسْلِ الْوَجْهِ بِعُمُومِ الْآيَةِ فِي قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}..الْآيَةَ.
أَمَّا اللِّحْيَةُ الْكَثِيفَةُ- وَهِيَ الَّتِي لَا تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهَا- فَيَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهَا، وَلَوْ كَانَتْ مُسْتَرْسِلَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ مَا اسْتَرْسَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ، لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ دَائِرَةِ الْوَجْهِ، فَأَشْبَهَ مَا نَزَلَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ.
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ، وَهُوَ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَفِي اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ تَحْصُلُ الْمُوَاجَهَةُ بِالشَّعْرِ الظَّاهِرِ.
أَمَّا بَاطِنُهَا فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ اتِّفَاقًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا: أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الْأُخْرَى، فَغَسَلَ بِهَا وَجْهَهُ» وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ الْكَرِيمَةُ كَثِيفَةً، وَبِالْغَرْفَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا غَالِبًا، وَيَعْسُرُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ.
7- وَيُسَنُّ تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي».
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَخْلِيلِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْوُجُوبُ، وَالْكَرَاهَةُ وَالِاسْتِحْبَابُ، أَظْهَرُهَا الْكَرَاهَةُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعَمُّقِ.
8- أَمَّا فِي الْغُسْلِ فَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّخْلِيلِ، بَلْ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى أُصُولِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَلَوْ كَثِيفَةً اتِّفَاقًا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ».
وَلِكَيْ يَتَأَكَّدَ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى أُصُولِ الشَّعْرِ وَيَتَجَنَّبَ الْإِسْرَافَ قَالُوا: يُدْخِلُ الْمُغْتَسِلُ أَصَابِعَهُ الْعَشْرَ يَرْوِي بِهَا أُصُولَ الشَّعْرِ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ.
وَمَنْ عَبَّرَ بِوُجُوبِ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ كَالْمَالِكِيَّةِ، أَرَادَ بِذَلِكَ أَيْضًا إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَى أُصُولِ الشَّعْرِ.
(2) تَخْلِيلُ شَعْرِ الرَّأْسِ:
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ إِرْوَاءُ أُصُولِ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي الْغُسْلِ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّعْرُ خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا لِمَا رَوَتْ «أَسْمَاءُ- رضي الله عنها- أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ فَقَالَ: تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتُدَلِّكُهُ، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ»،، وَعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهِ مِنَ النَّارِ كَذَا وَكَذَا»، قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْت شَعْرِي وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يُجْزِي مُجَرَّدُ تَخْلِيلِ الشَّعْرِ فِي الْغُسْلِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِوُجُوبِ تَخْلِيلِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَلَوْ كَثِيفًا، لِلتَّأَكُّدِ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى أُصُولِهِ، حَيْثُ قَالُوا: وَيَجِبُ تَخْلِيلُ شَعْرٍ وَلَوْ كَثِيفًا وَضَغْثُ مَضْفُورِهِ- أَيْ جَمْعُهُ وَتَحْرِيكُهُ- لِيَعُمَّهُ بِالْمَاءِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الشَّعْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لَكِنَّ الْمُحْرِمَ يُخَلِّلُ بِرِفْقٍ لِئَلاَّ يَتَسَاقَطَ الشَّعْرُ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ التَّخْلِيلُ لِلْمُحْرِمِ.
ثَانِيًا: تَخْلِيلُ الْأَسْنَانِ:
10- تَنْظِيفُ الْأَسْنَانِ بِالسِّوَاكِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِيَاكٌ).
11- أَمَّا تَخْلِيلُهَا بَعْدَ الْأَكْلِ بِالْخِلَالِ لِإِخْرَاجِ مَا بَيْنَهَا مِنَ الطَّعَامِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي آدَابِ الْأَكْلِ.قَالَ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَلِّلَ أَسْنَانَهُ إِنْ عَلِقَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ، قَالَ فِي الْمُسْتَوْعَبِ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: تَرْكُ الْخِلَالِ يُوهِنُ الْأَسْنَانَ.وَرُوِيَ: «تَخَلَّلُوا مِنَ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَشَدَّ عَلَى الْمَلَكَيْنِ أَنْ يَرَيَا بَيْنَ أَسْنَانِ صَاحِبِهِمَا طَعَامًا وَهُوَ يُصَلِّي».
قَالَ الْأَطِبَّاءُ: وَهُوَ نَافِعٌ أَيْضًا لِلِّثَةِ وَمِنْ تَغَيُّرِ النَّكْهَةِ.وَلَا يُخَلِّلُ أَسْنَانَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّعَامِ، بَلْ إِذَا فَرَغَ.وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ.
مَا تُخَلَّلُ بِهِ الْأَسْنَانُ:
12- يُسَنُّ التَّخْلِيلُ قَبْلَ السِّوَاكِ وَبَعْدَهُ، وَمِنْ أَثَرِ الطَّعَامِ، وَكَوْنُ الْخِلَالِ مِنْ عُودٍ، وَيُكْرَهُ بِالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ، وَبِعُودٍ يَضُرُّهُ كَرُمَّانٍ وَآسٍ، وَلَا يُخَلِّلُ بِمَا يَجْهَلُهُ لِئَلاَّ يَكُونَ مِمَّا يَضُرُّهُ، وَكَذَا مَا يَجْرَحُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ.
وَلَا يَجُوزُ تَخْلِيلُ الْأَسْنَانِ أَوِ الشَّعْرِ بِآلَةٍ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (آنِيَةٌ).
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ بَلْعِ مَا يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ الْأَسْنَانِ: فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، يُلْقِي مَا أَخْرَجَهُ الْخَلاَّلُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْتَلِعَهُ، وَإِنْ قَلَعَهُ بِلِسَانِهِ لَمْ يُكْرَهُ ابْتِلَاعُهُ كَسَائِرِ مَا بِفَمِهِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ بَلْعُ مَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ إِلاَّ لِخَلْطِهِ بِدَمٍ، فَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّغَيُّرِ يُصَيِّرُهُ نَجَسًا خِلَافًا لِمَا قِيلَ.
ثَالِثًا: تَخْلِيلُ الْخَمْرِ:
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا تَخَلَّلَتْ بِغَيْرِ عِلَاجٍ، بِأَنْ تَغَيَّرَتْ مِنَ الْمَرَارَةِ إِلَى الْحُمُوضَةِ وَزَالَتْ أَوْصَافُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْخَلَّ حَلَالٌ طَاهِرٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «نِعْمَ الْأُدْمُ أَوِ الْإِدَامُ الْخَلُّ»،، وَلِأَنَّ عِلَّةَ النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمِ الْإِسْكَارُ، وَقَدْ زَالَتْ، وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا.
وَكَذَلِكَ إِذَا تَخَلَّلَتْ بِنَقْلِهَا مِنْ شَمْسٍ إِلَى ظِلٍّ وَعَكْسِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ إِذَا كَانَ النَّقْلُ لِغَيْرِ قَصْدِ التَّخْلِيلِ.
14- وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا، كَالْخَلِّ وَالْبَصَلِ وَالْمِلْحِ وَنَحْوِهِ.فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ تَخْلِيلُ الْخَمْرِ بِالْعِلَاجِ، وَلَا تَطْهُرُ بِذَلِكَ، لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا، قَالَ: لَا».
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِإِهْرَاقِهَا.وَلِأَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهَا، وَمَا يُلْقَى فِي الْخَمْرِ يَتَنَجَّسُ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ، وَمَا يَكُونُ نَجِسًا لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِجَوَازِ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، فَتَصِيرُ بَعْدَ التَّخْلِيلِ طَاهِرَةً حَلَالًا عِنْدَهُمْ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا؛
وَلِأَنَّ بِالتَّخْلِيلِ إِزَالَةَ الْوَصْفِ الْمُفْسِدِ وَإِثْبَاتَ الصَّلَاحِ، وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ كَمَا فِي دَبْغِ الْجِلْدِ، فَإِنَّ الدِّبَاغَ يُطَهِّرُهُ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ».وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (خَمْرٌ)
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
4-موسوعة الفقه الكويتية (تغليظ)
تَغْلِيظٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّغْلِيظُ مِنْ غَلُظَ غِلَظًا خِلَافُ دَقَّ.وَكَذَا اسْتَغْلَظَ، وَالتَّغْلِيظُ التَّوْكِيدُ وَالتَّشْدِيدُ وَهُوَ مَصْدَرُ غَلَّظَ: أَيْ أَكَّدَ الشَّيْءَ وَقَوَّاهُ.وَهُوَ ضِدُّ التَّخْفِيفِ.وَمِنْهُ غَلَّظْتُ عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ تَغْلِيظًا أَيْ شَدَّدْتُ عَلَيْهِ وَأَكَّدْتُ.وَغَلَّظْتُ الْيَمِينَ تَغْلِيظًا أَيْضًا قَوَّيْتُهَا وَأَكَّدْتُهَا الْمُغَلَّظُ مِنَ النَّجَاسَاتِ:
2- يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ النَّجَاسَاتِ إِلَى مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْمُغَلَّظِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هِيَ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ مَا وَرَدَ فِي نَجَاسَتِهَا نَصٌّ لَمْ يُعَارَضْ بِنَصٍّ آخَرَ، فَإِنْ عَارَضَهُ نَصٌّ فَمُخَفَّفَةٌ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ، فَالْأَرْوَاثُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا، وَهُوَ مَا رَوَاهُ «ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- طَلَبَ مِنْهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ أَحْجَارًا لِلِاسْتِنْجَاءِ، فَأَتَى بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَرَمَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: إِنَّهَا رِكْسٌ» وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ يُعَارِضُهُ، فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا مُغَلَّظَةً.
أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَمُخَفَّفَةٌ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي نَجَاسَتِهَا.وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً مُغَلَّظَةً بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالصَّاحِبَيْنِ، لِانْعِدَامِ النَّصِّ الْمُعَارِضِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى نَجَاسَتِهِ عِنْدَهُمَا.
وَالنَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هِيَ مَا عَدَا فَضَلَاتِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ.وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ فِي النَّجَاسَاتِ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَنَجَاسَةُ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ أَشَدُّ، وَيَلِيهَا بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَعَذِرَتِهِ، ثُمَّ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ، ثُمَّ بَوْلُ الرَّضِيعِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنَ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ قَدْرُ دِرْهَمٍ إِذَا أَصَابَتِ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ فِي الصَّلَاةِ، أَمَّا الْمُخَفَّفَةُ فَيُعْفَى مَا لَيْسَ بِفَاحِشٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ بِالدَّلْكِ.أَمَّا الْمُغَلَّظَةُ فَلَا تَطْهُرُ إِلاَّ بِالْغُسْلِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي بَابِ النَّجَاسَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ النَّجَاسَةَ الْمُغَلَّظَةَ لَا تَطْهُرُ إِلاَّ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَمَا عَدَاهَا فَتَطْهُرُ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَأَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ وَإِنْ قَلَّتْ، أَوْ أَصَابَتِ الْبَدَنَ، أَوِ الثَّوْبَ.أَمَّا غَيْرُ الْمُغَلَّظَةِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهَا عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي بَابِ (النَّجَاسَةُ).
الْعَوْرَةُ الْمُغَلَّظَةُ:
3- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ، وَوُجُوبِ سَتْرِهَا فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا.
وَلَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ قَسَّمُوهَا فِي الصَّلَاةِ، وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا إِلَى: مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ.فَالْمُغَلَّظَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ السَّوْأَتَانِ، وَهُمَا الْقُبُلُ، وَالدُّبُرُ، بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ، فَعَوْرَةُ الرَّجُلِ الْمُغَلَّظَةِ هِيَ السَّوْأَتَانِ فِي الصَّلَاةِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَهِيَ مَا عَدَا صَدْرَهَا وَأَطْرَافَهَا، وَهِيَ الذِّرَاعَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْعُنُقُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا صَلَّى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ.
وَلَمْ يَرِدْ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هَذَا التَّقْسِيمُ لِلْعَوْرَةِ، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِيهَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ كُلَّهَا يُقَدِّمُ السَّوْأَتَيْنِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ.
تَغْلِيظُ الدِّيَةِ:
4- اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ- عَلَى أَصْلِ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَسْبَابِ التَّغْلِيظِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ التَّغْلِيظِ هِيَ مَا يَأْتِي:
أ- أَنْ يَقَعَ الْقَتْلُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ.
ب- أَنْ يَقْتُلَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ.
ج- أَنْ يَقْتُلَ قَرِيبًا لَهُ مَحْرَمًا.وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
د- أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ.
هـ- أَنْ يَقْتُلَ فِي الْإِحْرَامِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُحْرِمًا وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُغَلَّظُ فِي قَتْلٍ لَمْ يَجِبْ فِيهِ قِصَاصٌ، كَقَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ، وَالْمُرَادُ الْأَبُ وَإِنْ عَلَا، وَالْأُمُّ كَذَلِكَ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَغْلِيظَ إِلاَّ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ إِنْ قَضَى الدِّيَةَ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِنْ قَضَى مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ فَلَا تُغَلَّظُ.
أَمَّا صِفَةُ التَّغْلِيظِ وَبَاقِي التَّفَاصِيلِ فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ).
مَا يَجْرِي التَّغْلِيظُ فِيهِ مِنَ الدَّعَاوَى
5- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّغْلِيظَ يَجْرِي فِي دَعْوَى الدَّمِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْإِيلَاءِ، وَاللِّعَانِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْحِدَادِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، وَكُلِّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَالُ.أَمَّا الْأَمْوَالُ فَيَجْرِي التَّغْلِيظُ فِي كَثِيرِهَا، وَهُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ.
أَمَّا قَلِيلُهَا- وَهُوَ مَا دُونَ ذَلِكَ- فَلَا تَغْلِيظَ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الْقَاضِي التَّغْلِيظَ لِجُرْأَةِ الْحَالِفِ.
أَمَّا الْيَمِينُ الَّتِي تُغَلَّظُ فَيَسْتَوِي فِيهِ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تُغَلَّظُ الْيَمِينُ إِلاَّ فِيمَا لَهُ خَطَرٌ، كَالْجِنَايَاتِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِتَاقِ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَالِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُغَلَّظُ الْيَمِينُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ.
صِفَةُ تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ:
6- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ فِي الْخُصُومَاتِ بِزِيَادَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَالْجَوَازِ.كَأَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ مَثَلًا: بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-، «أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ»، وَلِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْيَمِينِ إِذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ، وَيَتَجَاسَرُ بِدُونِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْلِيظِهَا بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهَا تُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ كَالْجَامِعِ، وَأَدَاءُ الْقَسَمِ بِالْقِيَامِ، وَعِنْدَ مِنْبَرِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِنْ وَقَعَ الْيَمِينُ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَا يُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُمْ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَيَجْرِي بَعْدَ صَلَاةِ عَصْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَثَلًا فِي الْجَامِعِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَفِيهِمَا عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ.
وَهَلِ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ مُسْتَحَبٌّ أَمْ وَاجِبٌ لَا يُعْتَدُّ بِالْقَسَمِ إِلاَّ بِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وَاجِبٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ لَا تُغَلَّظُ الْيَمِينُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، لَا بِالزَّمَانِ وَلَا بِالْمَكَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَمَا يَحْصُلُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ جَوَّزُوا التَّغْلِيظَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إِنْ رَأَى الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً، وَتُغَلَّظُ الْيَمِينُ عِنْدَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
7- وَهَلْ يَتَوَقَّفُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ، أَمْ يُغَلِّظُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْخَصْمُ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّغْلِيظَ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَلَا دَخْلَ لِلْخَصْمِ فِي التَّغْلِيظِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ التَّغْلِيظَ فِي الْيَمِينِ هُوَ حَقٌّ لِلْخَصْمِ، فَإِنْ طَلَبَ الْخَصْمُ غُلِّظَتْ وُجُوبًا، فَإِنْ أَبَى مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مِمَّا طَلَبَهُ الْمُحَلِّفُ مِنَ التَّغْلِيظِ عُدَّ نَاكِلًا.
وَانْظُرْ لِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (أَيْمَانٌ).
التَّغْلِيظُ فِي اللِّعَانِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْلِيظِ اللِّعَانِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْلِيظِهِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَيَجْرِي اللِّعَانُ عِنْدَهُمْ فِي أَشْرَفِ مَوَاضِعِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالْمَقَامِ، وَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي الْجَامِعِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ.وَيُلَاعِنُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ كَالْكَنَائِسِ عِنْدَ النَّصَارَى، وَبَيْتِ النَّارِ لِلْمَجُوسِ.وَقَالَ الْقَفَّالُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا بَلْ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا يُؤْتَى بَيْتَ الْأَصْنَامِ فِي لِعَانِ الْوَثَنِيِّينَ؛ لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَاعْتِقَادُهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.
وَيُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ.
وَيُغَلَّظُ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ وَصُلَحَائِهِ.
ثُمَّ التَّغْلِيظُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ وُقُوعُهُ بَعْدَ صَلَاةٍ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ أَقْوَالٌ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمُ الِاسْتِحْبَابُ فِي الْجَمِيعِ.وَلَا يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِالزَّمَانِ وَلَا بِالْمَكَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِزَمَنٍ وَلَا مَكَانٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ هِلَالًا بِإِحْضَارِ امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بِزَمَنٍ وَلَا مَكَانٍ، وَلَوْ خَصَّهُ بِذَلِكَ لَنُقِلَ وَلَمْ يُهْمَلْ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَلَاعَنَا فِي الْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُعَظَّمُ.
تَغْلِيظُ عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ:
9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَغْلِيظَ عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ- وَهِيَ كُلُّ عُقُوبَةٍ شُرِعَتْ فِي مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ- يَكُونُ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الزَّجْرُ وَأَحْوَالُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
5-موسوعة الفقه الكويتية (جلد)
جِلْدٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْجِلْدُ فِي اللُّغَةِ: ظَاهِرُ الْبَشَرَةِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْجِلْدُ غِشَاءُ جَسَدِ الْحَيَوَانِ، وَالْجَمْعُ جُلُودٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}.وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَجْلَادٍ.وَيُطْلَقُ عَلَى الْجِلْدِ أَيْضًا (الْمَسْكُ)
وَسُمِّيَ الْجِلْدُ جِلْدًا لِأَنَّهُ أَصْلَبُ مِنَ اللَّحْمِ، مِنَ الْجَلَدِ وَهُوَ صَلَابَةُ الْبَدَنِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْأَدِيمُ:
2- الْأَدِيمُ: الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ، أَوِ الْجِلْدُ مَا كَانَ، أَوْ أَحْمَرُهُ.
وَالْأَدَمَةُ: بَاطِنُ الْجِلْدَةِ الَّتِي تَلِي اللَّحْمَ وَالْبَشَرَةُ ظَاهِرُهَا، أَوِ الْأَدَمَةُ ظَاهِرُ الْجِلْدَةِ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّعْرُ وَالْبَشَرَةُ بَاطِنُهَا، وَمَا ظَهَرَ مِنْ جِلْدَةِ الرَّأْسِ.
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ الْأَدِيمِ عَلَى الْجِلْدِ، وَبَعْضُهُمْ يُطْلِقُهُ عَلَى الْمَدْبُوغِ مِنَ الْجِلْدِ وَبِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْأَدِيمُ مُرَادِفًا لِلْجِلْدِ.وَبِالْإِطْلَاقِ الثَّانِي يَكُونُ غَيْرَ مُرَادِفٍ.
ب- الْإِهَابُ:
3- الْإِهَابُ: الْجِلْدُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ، أَوْ هُوَ مَا لَمْ يُدْبَغْ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَالْجَمْعُ فِي الْقَلِيلِ آهِبَةٌ وَفِي الْكَثِيرِ أُهُبٌ، وَرُبَّمَا اسْتُعِيرَ لِجِلْدِ الْإِنْسَانِ، قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ: جَعَلَتِ الْعَرَبُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ إِهَابًا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ عَنْتَرَةَ: وَالْجَمْعُ فِي الْقَلِيلِ آهِبَةٌ وَفِي الْكَثِيرِ أُهُبٌ، وَرُبَّمَا اسْتُعِيرَ لِجِلْدِ الْإِنْسَانِ، قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ: جَعَلَتِ الْعَرَبُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ إِهَابًا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ عَنْتَرَةَ:
فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ إِهَابَهُ
وَعَنْ عَائِشَةَ فِي وَصْفِ أَبِيهَا- رضي الله عنهما-: حَقَنَ الدِّمَاءَ فِي أُهُبِهَا، أَيْ أَبْقَى دِمَاءَ النَّاسِ فِي أَجْسَادِهَا.
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْإِهَابِ عَلَى الْجِلْدِ قَبْلَ دِبَاغِهِ، فَإِذَا دُبِغَ لَمْ يُسَمَّ إِهَابًا.
ج- فَرْوَةٌ:
4- الْفَرْوَةُ: الْجِلْدُ الَّذِي عَلَيْهِ شَعْرٌ أَوْ صُوفٌ، وَجِلْدَةُ الرَّأْسِ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ.
وَجَمْعُ الْفَرْوَةِ: فِرَاءٌ.
وَالْجِلْدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَبَرٌ أَوْ صُوفٌ لَمْ يُسَمَّ فَرْوَةً بَلْ يُسَمَّى جِلْدًا.
وَالْفَرْوَةُ أَخَصُّ مِنَ الْجِلْدِ.
د- الْمَسْكُ:
5- الْمَسْكُ الْجِلْدُ، وَخَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ جِلْدَ السَّخْلَةِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: مَا كَانَ عَلَى فِرَاشِي إِلاَّ مَسْكُ كَبْشٍ أَيْ جِلْدُهُ، وَالْمَسْكَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الْجِلْدِ.
فَالْمَسْكُ إِنْ خُصَّ بِهِ جِلْدُ السَّخْلَةِ أَخَصُّ مِنَ الْجِلْدِ، وَإِلاَّ فَهُوَ مُرَادِفٌ لَهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجِلْدِ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاطِنِ:
أَوَّلًا: مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ:
6- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ، أَوْ أَصْغَرَ مَسُّ الْمُصْحَفِ، وَمِنْهُ جِلْدُهُ الْمُتَّصِلُ بِهِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُهُ اسْمُ الْمُصْحَفِ وَيَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَمَوْضِعِ الْبَيَاضِ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْقِيَاسِ، وَالْمَنْعُ أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي مَسِّ الْمُصْحَفِ وَالْخِلَافِ فِيهِ فِي مُصْطَلَحِ: (مُصْحَفٌ).
ثَانِيًا: تَعَلُّقُ الْجِلْدِ الْمَنْزُوعِ بِمَحَلِّ الطَّهَارَةِ:
7- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ: إِنْ كُشِطَ جِلْدٌ وَتَقَلَّعَ مِنَ الذِّرَاعِ، وَتَعَلَّقَ بِهِ أَوْ بِالْمِرْفَقِ وَتَدَلَّى مِنْ أَحَدِهِمَا، وَجَبَ غَسْلُ ظَاهِرِ هَذَا الْجِلْدِ وَبَاطِنِهِ، وَغَسْلُ مَا ظَهَرَ بَعْدَ الْكَشْطِ، وَالتَّقَلُّعِ مِنَ الذِّرَاعِ عِنْدَ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَإِنْ كُشِطَ الْجِلْدُ مِنَ الذِّرَاعِ وَبَلَغَ تَقَلُّعُهُ إِلَى الْعَضُدِ، ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَهُوَ الْعَضُدُ، وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ الْعَضُدِ وَتَدَلَّى مِنْهُ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّهُ تَدَلَّى مِنْ غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ الْعَضُدِ وَبَلَغَ التَّقَلُّعُ إِلَى الذِّرَاعِ، ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ لَزِمَهُ غَسْلُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مِنَ الذِّرَاعِ، وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْتَحَمَ بِالْآخَرِ لَزِمَهُ غَسْلُ مَا حَاذَى مِنْهُ مَحَلَّ الْفَرْضِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ الَّذِي عَلَى الذِّرَاعِ إِلَى الْعَضُدِ، فَإِنْ كَانَ مُتَجَافِيًا عَنْ ذِرَاعِهِ لَزِمَ غَسْلُ مَا تَحْتِهِ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ فِي الْوُضُوءِ.
ثَالِثًا- طَهَارَةُ الْجِلْدِ بِالذَّكَاةِ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ جِلْدَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يُؤْكَلُ لَحْمُهُ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ مَأْكُولٍ، فَجَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَعْدَ الذَّكَاةِ كَاللَّحْمِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ الذَّكَاةِ فِي تَطْهِيرِ جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَجُمْلَةُ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ، إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهِ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي طَهَارَةِ جِلْدِهِ، بَلْ يَكُونُ نَجِسًا بِهَذِهِ الذَّكَاةِ كَمَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّ هَذِهِ الذَّكَاةَ لَا تُطَهِّرُ اللَّحْمَ وَلَا تُبِيحُ أَكْلَهُ، كَذَبْحِ الْمَجُوسِ، وَكُلِّ ذَبْحٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَلَا يَطْهُرُ بِهَا الْجِلْدُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ بِالذَّبْحِ أَكْلُ اللَّحْمِ، فَإِذَا لَمْ يُبِحْهُ هَذَا الذَّبْحُ فَلأَنْ لَا يُبِيحَ طَهَارَةَ الْجِلْدِ أَوْلَى.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بَيْنَ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ كَالْخِنْزِيرِ، وَالْمُخْتَلَفِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ كَالْحِمَارِ، وَالْمَكْرُوهِ أَكْلُهُ كَالسَّبُعِ، قَالُوا: إِنَّ الْمُخْتَلَفَ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ لَكِنْ لَا يُؤْكَلُ، وَأَمَّا مَكْرُوهُ الْأَكْلِ فَإِنْ ذُكِّيَ لِأَكْلِ لَحْمِهِ طَهُرَ جِلْدُهُ تَبَعًا لَهُ، وَإِنْ ذُكِّيَ لِأَخْذِ الْجِلْدِ فَقَطْ طَهُرَ وَلَمْ يُؤْكَلِ اللَّحْمُ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ لِعَدَمِ نِيَّةِ ذَكَاتِهِ بِنَاءً عَلَى تَبَعُّضِ النِّيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَعَلَى عَدَمِ تَبَعُّضِهَا يُؤْكَلُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ- عِنْدَهُمْ- بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ».أَلْحَقَ الذَّكَاةَ بِالدِّبَاغِ، ثُمَّ الْجِلْدُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَذَا بِالذَّكَاةِ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُشَارِكُ الدِّبَاغَ فِي إِزَالَةِ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَةِ النَّجِسَةِ فَتُشَارِكُهُ فِي إِفَادَةِ الطَّهَارَةِ.
رَابِعًا- ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ لِأَخْذِ جِلْدِهِ:
9- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِأَخْذِ جِلْدِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْحِمَارُ الزَّمِنُ وَالْبَغْلُ الْمُكَسَّرُ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَبْحُهُ لِجِلْدِهِ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا عَنْهُ جَوَازُهُ وَالثَّانِيَةُ تُحَرِّمُهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ لِأَجْلِ جِلْدِهِ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلَوْ كَانَ فِي النَّزْعِ.
خَامِسًا- تَطْهِيرُ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ:
10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ- بِصِفَةٍ عَامَّةٍ- يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «قَالَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا».
وَقَالُوا: إِنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فَجَازَ أَنْ يُطَهَّرَ كَجِلْدِ الْمُذَكَّاةِ إِذَا تَنَجَّسَ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّائِلَةِ، وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالدِّبَاغِ فَتَطْهُرُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ إِذَا غُسِلَ، وَلِأَنَّ الدِّبَاغَ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ عَلَى الْجِلْدِ، وَيُصْلِحُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَيَاةِ، ثُمَّ الْحَيَاةُ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ الْجِلْدِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ.ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كُلُّ إِهَابٍ دُبِغَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَةَ طَهُرَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُهَا لَا يَطْهُرُ، إِلاَّ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ لَا يَطْهُرُ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ نَجِسُ الْعَيْنِ بِمَعْنَى أَنَّ ذَاتَهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ نَجِسَةٌ حَيًّا وَمَيِّتًا فَلَيْسَتْ نَجَاسَتُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ كَنَجَاسَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَلِذَا لَمْ يَقْبَلِ التَّطْهِيرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلاَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِ «مُنْيَةِ الْمُصَلِّي».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: كُلُّ الْجُلُودِ النَّجِسَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْمُتَوَلِّدَ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُمَا بِالدِّبَاغِ، لِأَنَّ الدِّبَاغَ كَالْحَيَاةِ، ثُمَّ الْحَيَاةُ لَا تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ، وَلَا يَزِيدُ الدِّبَاغُ عَلَى الْحَيَاةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الدِّبَاغُ تَطْهِيرٌ لِلْجُلُودِ، وَلَا يُحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى تَطْهِيرٍ بِالْمَاءِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ- لَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ حَتَّى يُغْسَلَ بِالْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَا يُدْبَغُ بِهِ تَنَجَّسَ بِمُلَاقَاةِ الْجِلْدِ، فَإِذَا زَالَتْ نَجَاسَةُ الْجِلْدِ بَقِيَتْ نَجَاسَةُ مَا يُدْفَعُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُغْسَلَ حَتَّى يَطْهُرَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ- إِلَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ وَلَوْ دُبِغَ، وَلَا يُفِيدُ دَبْغُهُ طَهَارَتَهُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ الْمَائِعَاتِ.
وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ جِلْدُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ.
وَفِي بَقِيَّةِ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ تَفْصِيلٌ أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ.
وَفِي الدِّبَاغِ، وَمَا يُدْبَغُ بِهِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى فِعْلٍ لِلدَّبْغِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ..تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِبَاغَةٌ).
سَادِسًا- الِاسْتِنْجَاءُ بِالْجِلْدِ:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِيَابِسٍ (جَامِدٍ) طَاهِرٍ مُنَقٍّ (قَالِعٍ لِلنَّجَاسَةِ) غَيْرِ مُؤْذٍ وَلَا مُحَرَّمٍ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمُبْتَلٍّ، أَوْ نَجِسٍ، أَوْ أَمْلَسَ، أَوْ مُحَدَّدٍ، أَوْ مُحَرَّمٍ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا أَوْ حَقًّا لِلْغَيْرِ أَوْ لِشَرَفِهِ.
وَلَهُمْ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْجِلْدِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ تَفْصِيلٌ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ- كَمَا وَرَدَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ- يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِنَحْوِ حَجَرٍ مُنَقٍّ كَالْمَدَرِ وَالتُّرَابِ وَالْعُودِ وَالْخِرْقَةِ وَالْجِلْدِ وَمَا أَشْبَهَهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِلْدَ الْمُذَكَّى الَّذِي تُحِلُّهُ الذَّكَاةُ يَطْهُرُ بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ.أَمَّا غَيْرُ الْمُذَكَّى فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ أَيْضًا لِنَجَاسَتِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الطَّاهِرُ مِنَ الْجِلْدِ ضَرْبَانِ:
الْأَوَّلُ: جِلْدُ الْمَأْكُولِ الْمُذَكَّى وَلَوْ غَيْرَ مَدْبُوغٍ، وَالْمَدْبُوغُ مِنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ، أَمَّا غَيْرُ الْمَدْبُوغِ فَفِي جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ كَالثِّيَابِ وَسَائِرِ الْأَعْيَانِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حُرْمَةٌ، فَلَيْسَتْ هِيَ بِحَيْثُ تَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ فِي سَائِرِ النَّجَاسَاتِ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ النَّجَاسَةِ.
وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ فِيهِ دُسُومَةً تَمْنَعُ التَّنْشِيفَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْكُولٌ حَيْثُ يُؤْكَلُ الْجِلْدُ التَّابِعُ لِلرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ تَبَعًا لَهَا، فَصَارَ كَسَائِرِ الْمَطْعُومَاتِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَكَثِيرُونَ، وَحَمَلُوا مَا نُقِلَ مِنْ تَجْوِيزِ الِاسْتِنْجَاءِ عَلَى مَا بَعْدَ الدِّبَاغِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَدْبُوغُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ لِأَنَّ الدِّبَاغَ يُزِيلُ مَا فِيهِ مِنَ الدُّسُومَةِ، وَيَقْلِبُهُ عَنْ طَبْعِ اللُّحُومِ إِلَى طَبْعِ الثِّيَابِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَلُ وَيَجُوزُ أَكْلُهُ إِذَا دُبِغَ وَإِنْ كَانَ جِلْدَ مَيْتَةٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَمَا نُقِلَ مِنَ الْمَنْعِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الدِّبَاغِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الدَّبْغَ لَا يُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَلْ يَظَلُّ نَجِسًا، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَجِلْدُ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى يَحْرُمُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ لِأَنَّ لَهُ حُرْمَةَ الطَّعَامِ.
سَابِعًا- طَهَارَةُ الشَّعْرِ عَلَى الْجِلْدِ:
12- الشَّعْرُ عَلَى جِلْدِ الْحَيِّ الطَّاهِرِ حَالَ حَيَاتِهِ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَالشَّعْرُ عَلَى جِلْدِ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ طَاهِرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالشَّعْرُ مِنْ مَيْتَةِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ فِيهِ خِلَافٌ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِيمَا رَجَّحَهُ الْخِرَقِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ- إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْحَيَوَانِ (الطَّاهِرِ حَالَ حَيَاتِهِ) لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِيهِ قَبْلَ الْمَوْتِ الطَّهَارَةُ فَكَذَا بَعْدَهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُحِلُّهُ إِذْ لَيْسَ فِيهِ حَيَاةٌ فَلَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحُسُّ وَلَا يَتَأَلَّمُ، وَلَا يَحُسُّ الْحَيَوَانُ فِي حَيَاتِهِ وَلَا يَتَأَلَّمُ بِقَطْعِ الشَّعْرِ أَوْ قَصِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي الشَّعْرِ حَيَاةٌ لَتَأَلَّمَ الْحَيَوَانُ بِقَصِّهِ أَوْ قَطْعِهِ كَمَا يَتَأَلَّمُ بِقَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الصَّحِيحِ- إِلَى أَنَّ شَعْرَ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ حَالَ حَيَاتِهِ غَيْرَ الْآدَمِيِّ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمِ الْمَيْتَةُ} وَهُوَ عَامٌّ لِلشَّعْرِ وَغَيْرِهِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّعْرَ لَا يَطْهُرُ بِدِبَاغِ الْجِلْدِ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّعْرُ.
وَفِي الْمَوْضُوعِ عِنْدَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي الْأَقْوَالِ وَخِلَافٌ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَعْرٌ).
ثَامِنًا- أَكْلُ الْجِلْدِ:
13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْمَأْكُولَ الْمُذَكَّى، يُؤْكَلُ جِلْدُهُ قَبْلَ الدَّبْغِ مَا لَمْ يَغْلُظْ وَيَخْشُنْ وَيَصِرْ جِنْسًا آخَرَ غَيْرَ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُحِلُّ لَحْمَهُ وَجِلْدَهُ وَسَائِرَ مَا يَجُوزُ أَكْلُهُ مِنْهُ.
أَمَّا الْحَيَوَانُ الْمَأْكُولُ الَّذِي مَاتَ أَوْ ذُكِّيَ ذَكَاةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ، فَإِنَّ جِلْدَهُ قَبْلَ دَبْغِهِ لَا يُؤْكَلُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمِ الْمَيْتَةُ} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا» وَالْجِلْدُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ فَحَرُمَ أَكْلُهُ كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا.
هَذَا عَنِ الْحُكْمِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، أَمَّا بَعْدَهُ: فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ الْمُفْتَى بِهِ إِلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ لِلْآيَةِ وَالْحَدِيثِ السَّابِقَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ أَمْ غَيْرَ مَأْكُولٍ.
تَاسِعًا- لُبْسُ الْجِلْدِ وَاسْتِعْمَالُهُ:
14- يَخْتَلِفُ حُكْمُ لُبْسِ جِلْدِ الْحَيَوَانِ تَبَعًا لِلْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ (ف/10) إِلاَّ أَنَّ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَةِ شَيْءٍ مِنْهُ فَصَّلَ فِي حُكْمِ اللُّبْسِ وَالِاسْتِعْمَالِ.
فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ فِي الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ قَبْلَ الدَّبْغِ، صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَمَّا لُبْسُهُ فَلَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغِ: فَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيهِ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ- عَدَا الْخِنْزِيرَ- يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَيَجُوزُ لُبْسُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ بَعْدَ دَبْغِهِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسَاتِ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها-.
وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- لَمَّا فَتَحُوا فَارِسَ انْتَفَعُوا بِسُرُوجِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ، وَذَبَائِحِهِمْ مَيْتَةً، وَلِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَشْبَهَ الِاصْطِيَادَ بِالْكَلْبِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَاءِ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا الصَّلَاةُ فِيهِ وَلَا عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُبْسِ وَاسْتِعْمَالِ جُلُودِ الثَّعَالِبِ وَالسِّبَاعِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُ جُلُودِ السِّبَاعِ أَوِ الرُّكُوبُ عَلَيْهَا، أَوِ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِحَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ عَامِرِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ».
«وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ- رضي الله عنه-: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ».
وَكَذَلِكَ حُكْمُ جُلُودِ الثَّعَالِبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهَا عَلَى الْأَصَحِّ لِعَدَمِ طَهَارَةِ الشَّعْرِ الَّذِي عَلَى تِلْكَ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ تُبْنَيَانِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى حِلِّهَا، فَإِنْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهَا فَحُكْمُ جُلُودِهَا حُكْمُ جُلُودِ بَقِيَّةِ السِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ السَّنَانِيرُ الْبَرِّيَّةُ، فَأَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَمُحَرَّمَةٌ، وَهَلْ تَطْهُرُ جُلُودُهَا بِالدِّبَاغِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْفَرْوِ مِنَ السِّبَاعِ كُلِّهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَةِ وَالْمُذَكَّاةِ، وَقَالَ: ذَكَاتُهَا دِبَاغُهَا، وَفِيهَا: وَلَا بَأْسَ بِجُلُودِ النُّمُورِ وَالسِّبَاعِ كُلِّهَا إِذَا دُبِغَتْ أَنْ يُجْعَلَ مِنْهَا مُصَلًّى.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ إِذَا ذُكِّيَتْ، وَكُلُّ مَا ذُكِّيَ الْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ.
عَاشِرًا- نَزْعُ الْمَلَابِسِ الْجِلْدِيَّةِ لِلشَّهِيدِ:
15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنِ الشَّهِيدِ عِنْدَ دَفْنِهِ الْجِلْدُ، وَالسِّلَاحُ وَالْفَرْوُ، وَالْحَشْوُ، وَالْخُفُّ، وَالْمِنْطَقَةُ، وَالْقَلَنْسُوَةُ، وَكُلُّ مَا لَا يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ».
وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهِيدٌ).
حَادِيَ عَشَرَ: بَيْعُ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ:
16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِهَا أَوْ أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ: «وَلَا تَبِيعُوا لُحُومَ الْهَدْيِ وَالْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَاسْتَمْتِعُوا بِجُلُودِهَا».
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ بَيْعِ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أُضْحِيَّةٌ).
ثَانِيَ عَشَرَ: السَّلَمُ فِي الْجِلْدِ:
17- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّلَمَ فِي الْجِلْدِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهِ مَعْلُومٌ (أَيْ مُنْضَبِطٌ) فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ السَّلَمِ فِيهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي جُلُودِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الْجُلُودَ لَا تُوزَنُ عَادَةً وَلَكِنَّهَا تُبَاعُ عَدَدًا، وَهِيَ عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِيهَا الصَّغِيرُ وَفِيهَا الْكَبِيرُ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ.وَالسَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ فِي أَبْعَاضِ الْحَيَوَانِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأَكَارِعِ وَالرُّءُوسِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأُدُمِ وَالْوَرَقِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ مِنَ الْأُدُمِ ضَرْبًا مَعْلُومَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْجَوْدَةِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ كَالثِّيَابِ، وَكَذَلِكَ الْأُدُمُ إِذَا كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا تُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجِلْدِ لِاخْتِلَافِ أَجْزَائِهِ فِي الرِّقَّةِ وَالْغِلَظِ، نَعَمْ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي قِطَعٍ مِنْهُ مَدْبُوغَةٍ وَزْنًا.
ثَالِثَ عَشَرَ: الْإِجَارَةُ عَلَى سَلْخِ حَيَوَانٍ بِجِلْدِهِ:
18- لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ سَلاَّخٍ لِسَلْخِ حَيَوَانٍ بِجِلْدِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَفْسُدُ بِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَهُنَا تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ بِالْغَرَرِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَتَقَطَّعُ الْجِلْدُ حَالَ سَلْخِهِ أَمْ يَنْفَصِلُ سَلِيمًا، وَهَلْ يَكُونُ ثَخِينًا أَمْ رَقِيقًا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنْ سَلَخَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ.
رَابِعَ عَشَرَ: ضَمَانُ الْجِلْدِ:
19- لِلْفُقَهَاءِ فِي ضَمَانِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ دَبْغِهِ وَبَعْدَ دَبْغِهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى ضَمَانِ جِلْدِ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَالْحُرْمَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الْمِلْكِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ جَزَّ صُوفَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلَوْ وَجَدَهُ صَاحِبُ الشَّاةِ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَلَوْ دَبَغَ جِلْدَهَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ فِي الدِّبَاغِ.
وَقَالُوا: لَوْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ فَلِصَاحِبِ الْجِلْدِ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيَرُدَّ عَلَى الْغَاصِبِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ، وَإِنِ اسْتَهْلَكَ الْغَاصِبُ الْجِلْدَ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَضْمَنُهُ مَدْبُوغًا وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ يَضْمَنْهُ بِإِجْمَاعِهِمْ.
وَلَوْ دَبَغَ الْغَاصِبُ الْجِلْدَ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ فَهُوَ لِمَالِكِهِ بِلَا شَيْءٍ، وَلَوِ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا، وَقِيلَ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ دُبِغَ أَمْ لَمْ يُدْبَغْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَصَحِّ الَّذِي نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ- لَوْ أَخَذَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ طَهُرَ وَإِنْ كَانَ مَالِكُهُ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ ثُمَّ أَخَذَهُ الدَّابِغُ فَهُوَ لِلدَّابِغِ، وَإِنْ كَانَ غَصَبَهُ فَهُوَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ مِلْكِهِ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَهُ، وَلَوْ أَعْرَضَ الْمَالِكُ عَنْهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِإِعْرَاضِهِ مَلَكَهُ آخِذُهُ، وَإِذَا لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ لَزِمَ الْغَاصِبَ رَدُّهُ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ، وَلَوْ أَتْلَفَ جِلْدًا لَمْ يُدْبَغْ، فَادَّعَى مَالِكُهُ تَذْكِيَتَهُ وَالْمُتْلِفُ عَدَمَهَا، صُدِّقَ الْمُتْلِفُ بِيَمِينِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّذْكِيَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَلْزَمُ رَدُّ جِلْدِ مَيْتَةٍ غُصِبَ لِأَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِدَبْغٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ قَوِيٍّ أَنَّهُ يَلْزَمُ رَدُّهُ أَيْ جِلْدُ الْمَيْتَةِ الَّذِي دُبِغَ إِنْ كَانَ بَاقِيًا لِمَنْ يَرَى طَهَارَتَهُ.
خَامِسَ عَشَرَ: الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْجِلْدِ:
20- جِلْدُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ الْمُذَكَّى، مَالٌ طَاهِرُ يُقْطَعُ سَارِقُهُ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ مَعَ تَوَفُّرِ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَبِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ.
أَمَّا جِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْلَ دَبْغِهِ فَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ بَعْدَ دَبْغِهِ يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِشُرُوطِ الْقَطْعِ، لَكِنَّ عِبَارَةَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْقِيمَةِ الَّتِي يُقْطَعُ فِيهَا: جِلْدُ مَيْتَةِ الْمَأْكُولِ أَوْ غَيْرِهِ يُقْطَعُ سَارِقُهُ بَعْدَ الدَّبْغِ إِنْ زَادَ دَبْغُهُ عَلَى قِيمَةِ أَصْلِهِ نِصَابًا، بِأَنْ يُقَالَ مَا قِيمَتُهُ غَيْرَ مَدْبُوغٍ أَنْ لَوْ كَانَ يُبَاعُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِذَا قِيلَ: دِرْهَمَانِ فَيُقَالُ: وَمَا قِيمَتُهُ مَدْبُوغًا فَإِذَا قِيلَ: خَمْسَةٌ قُطِعَ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ بَعْدَ دَبْغِهِ نِصَابًا لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ كَمَا لَوْ سَرَقَهُ غَيْرَ مَدْبُوغٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَوْ سَرَقَ جُلُودَ السِّبَاعِ الْمَدْبُوغَةَ وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ لَا يُقْطَعُ، وَلَوْ جُعِلَتْ مُصَلاَّةً أَوْ بِسَاطًا قُطِعَ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ جُلُودَ السِّبَاعِ لِتَغَيُّرِ اسْمِهَا وَمَعْنَاهَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
6-موسوعة الفقه الكويتية (حيض 2)
حَيْضٌ -2انْقِطَاعُ الدَّمِ دُونَ الْعَادَةِ:
18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمُعْتَادَةِ دُونَ عَادَتِهَا، فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِذَلِكَ وَلَا تُتَمِّمُ عَادَتَهَا، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ انْقِطَاعُ الدَّمِ دُونَ أَقَلِّ الْحَيْضِ.وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَطْأَهَا حِينَئِذٍ حَتَّى تَمْضِيَ عَادَتُهَا وَإِنِ اغْتَسَلَتْ.قَالُوا: لِأَنَّ الْعَوْدَ فِي الْعَادَةِ غَالِبٌ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الِاجْتِنَابِ.
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَطْؤُهَا.وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ كَرَاهَتِهِ كَسَائِرِ الطَّاهِرَاتِ
وَمَتَى كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ دُونَ أَقَلِّ الْحَيْضِ- عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ- فَلَيْسَ ذَلِكَ الدَّمُ بِحَيْضٍ فِي حَقِّهَا لِتَبَيُّنِ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ لَا حَيْضٍ وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهَا تَقْضِي الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا تُصَلِّي كُلَّمَا انْقَطَعَ الدَّمُ، لَكِنْ تَنْتَظِرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وُجُوبًا فَإِنْ لَمْ يَعُدْ فِي الْوَقْتِ تَتَوَضَّأُ فَتُصَلِّي وَكَذَا تَصُومُ إِنِ انْقَطَعَ لَيْلًا، فَإِنْ عَادَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ فِي الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهَا فَتَقْعُدُ عَنِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.وَالْفَرْقُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ انْقِطَاعِ الدَّمِ قَبْلَ الْعَادَةِ وَبَعْدَ الثَّلَاثِ- وَهُوَ أَقَلُّ الْحَيْضِ عِنْدَهُمْ- وَانْقِطَاعُهُ قَبْلَ الثَّلَاثِ أَنَّهَا تُصَلِّي، بِالْغُسْلِ كُلَّمَا انْقَطَعَ قَبْلَ الْعَادَةِ وَبَعْدَ الثَّلَاثِ لَا بِالْوُضُوءِ.لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ كَوْنُهَا حَائِضًا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ ثَلَاثَةً فَأَكْثَر، بِخِلَافِ انْقِطَاعِهِ قَبْلَ الثَّلَاثِ، فَإِنَّهَا تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّمَ دَمُ فَسَادٍ لَا دَمُ حَيْضٍ.
وَإِنْ عَادَ الدَّمُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُبْطِلُ الْحُكْمَ بِطَهَارَتِهَا بِشَرْطِ أَنْ يَعُودَ فِي مُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ- عَشَرَةِ أَيَّامٍ- وَلَمْ يَتَجَاوَزْهَا.وَأَنْ تَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ طَاهِرًا أَقَلّ الطُّهْرِ- خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا- فَلَوْ تَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ أَوْ نَقَصَ الطُّهْرُ عَنْ ذَلِكَ فَحَيْضُهَا أَيَّامُ عَادَتِهَا فَقَطْ.وَلَوِ اعْتَادَتْ فِي الْحَيْضِ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا هَكَذَا إِلَى الْعَشَرَةِ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ.وَإِذَا طَهُرَتْ فِي الثَّانِي تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ وَفِي الثَّالِثِ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ.وَفِي الرَّابِعِ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَهَكَذَا إِلَى الْعَشَرَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا لَوْ عَادَ الدَّمُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ الِانْقِطَاعِ لَا يَبْلُغُ أَقَلّ الطُّهْرِ أُلْغِيَ وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ، وَأُضِيفَ الدَّمُ الْأَوَّلُ إِلَى الثَّانِي، وَجُعِلَ حَيْضَةً مُنْقَطِعَةً تَغْتَسِلُ مِنْهَا الْمَرْأَةُ عِنْدَ إِدْبَارِ الدَّمِ وَإِقْبَالِ الطُّهْرِ، يَوْمًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، وَتُصَلِّي فَإِذَا عَادَ الدَّمُ إِلَيْهَا كَفَّتْ عَنِ الصَّلَاةِ وَضَمَّتْهُ إِلَى أَيَّامِ دَمِهَا، وَعَدَّتْهُ مِنْ حَيْضَتِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَادَ الدَّمُ بَعْدَ النَّقَاءِ، فَالْكُلُّ حَيْضٌ- الدَّمُ وَالنَّقَاءُ- بِشُرُوطٍ: وَهِيَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ تَنْقُصِ الدِّمَاءُ مِنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّقَاءُ مُحْتَوَشًا بَيْنَ دَمَيِ الْحَيْضِ.وَهَذَا الْقَوْلُ يُسَمَّى عِنْدَهُمْ قَوْلَ السَّحْبِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ هُوَ أَنَّ النَّقَاءَ طُهْرٌ، لِأَنَّ الدَّمَ إِذَا دَلَّ عَلَى الْحَيْضِ وَجَبَ أَنْ يَدُلَّ النَّقَاءُ عَلَى الطُّهْرِ وَيُسَمَّى هَذَا الْقَوْلُ قَوْلَ اللَّقْطِ وَقَوْلَ التَّلْفِيقِ.وَمَحَلُّ التَّلْفِيقِ عِنْدَهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ، فَلَا يُجْعَلُ النَّقَاءُ طُهْرًا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِإِجْمَاعِهِمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ عَادَتِهَا طُهْرًا خَالِصًا وَلَوْ أَقَلّ مُدَّةٍ فَهِيَ طَاهِرٌ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَتَفْعَلُ مَا تَفْعَلُهُ الطَّاهِرَاتُ، وَلَا يُكْرَهُ وَطْءُ الزَّوْجِ لَهَا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ، فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي أَثْنَاءِ الْعَادَةِ وَلَمْ يُجَاوِزْهَا، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ زَمَنَ الدَّمِ مِنَ الْعَادَةِ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ، لِأَنَّهُ صَادَفَ زَمَنَ الْعَادَةِ.
مُجَاوَزَةُ الدَّمِ لِلْعَادَةِ:
19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا جَاوَزَ دَمُ الْمُعْتَادَةِ عَادَتَهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا رَأَتِ الْمُعْتَادَةُ مَا يُخَالِفُ عَادَتَهَا، فَإِمَّا أَنْ تَنْتَقِلَ عَادَتُهَا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَنْتَقِلْ رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا، فَيُجْعَلُ الْمَرْئِيُّ فِيهَا حَيْضًا وَمَا جَاوَزَ الْعَادَةَ اسْتِحَاضَةً، وَإِنِ انْتَقَلَتْ فَالْكُلُّ حَيْضٌ- وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ قَاعِدَةِ انْتِقَالِ الْعَادَةِ- فَإِذَا اسْتَمَرَّ دَمُ الْمُعْتَادَةِ وَزَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَطُهْرُهَا وَحَيْضُهَا مَا اعْتَادَتْ فَتُرَدُّ إِلَيْهَا فِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِنْ كَانَ طُهْرُهَا أَقَلّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ طُهْرُهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ فَإِنَّهُ لَا يُقَدَّرُ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الطُّهْرَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَلُّ مِنْ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ عَادَةً فَيُرَدُّ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلاَّ سَاعَةً تَحْقِيقًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ طُهْرِ الْحَيْضِ وَطُهْرِ الْحَمْلِ وَحَيْضُهَا بِحَالِهِ.وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيِّ.قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.وَفِي التَّتَارَخَانِيّةِ: (وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِشَهْرَيْنِ وَاخْتَارَهُ الْحَاكِمُ).قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيلَ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ وَاخْتَرْنَا قَوْلَ الْمَيْدَانِيِّ لِقُوَّةِ قَوْلِهِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ مَا اخْتَارَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ عَلَيْهِ الْفَتْوَى، لِأَنَّهُ أَيْسَرُ عَلَى الْمُفْتِي وَالنِّسَاءِ وَمَشَى عَلَيْهِ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَمَادَى دَمُ الْحَيْضِ عَلَى الْمُعْتَادَةِ، فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ الزَّائِدِ عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا، ثُمَّ هِيَ طَاهِرٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا تُجَاوِزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِذَا اعْتَادَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ أَوَّلًا، ثُمَّ تَمَادَى، مَكَثَتْ ثَمَانِيَةً، فَإِنْ تَمَادَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ مَكَثَتْ أَحَدَ عَشَرَ، فَإِنْ تَمَادَى فِي الرَّابِعَةِ مَكَثَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ.فَإِنْ تَمَادَى فِي مُرَّةٍ أُخْرَى فَلَا تَزِيدُ عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ.وَمَنْ كَانَتْ عَادَتُهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَتَسْتَظْهِرُ يَوْمَيْنِ.وَمَنْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَلَا اسْتِظْهَارَ عَلَيْهَا، وَقَاعِدَةُ ذَلِكَ أَنَّ الَّتِي أَيَّامُ عَادَتِهَا اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا فَدُونَ ذَلِكَ تَسْتَظْهِرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ بِيَوْمَيْنِ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ بِيَوْمٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ لَا تَسْتَظْهِرُ بِشَيْءٍ.وَأَمَّا الَّتِي عَادَتُهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ تَحِيضُ فِي شَهْرٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَفِي آخَرَ أَقَلّ أَوْ أَكْثَر إِذَا تَمَادَى بِهَا الدَّمُ فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ عَلَى أَكْثَرِ أَيَّامِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ.وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ تَسْتَظْهِرُ عَلَى أَقَلِّ الْعَادَةِ.وَأَيَّامُ الِاسْتِظْهَارِ كَأَيَّامِ الْحَيْضِ، وَالدَّمُ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ فِيمَا بَيْنَ عَادَتِهَا وَنِصْفِ شَهْرٍ اسْتِحَاضَةٌ.
وَتَغْتَسِلُ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ وَتُصَلِّي وَتَصُومُ وَتُوطَأُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ جَاوَزَ الدَّمُ عَادَتَهَا وَلَمْ يَعْبُرْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَالْجَمِيعُ حَيْضٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِمْرَارُ الْحَيْضِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إِلَى مَا خَرَجَ عَنْ عَادَتِهَا قَبْلَ تَكَرُّرِهِ، فَمَا تَكَرَّرَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثًا أَوْ مَرَّتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِلاَّ فَلَا، فَتَصُومُ وَتُصَلِّي قَبْلَ التَّكْرَارِ.
وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ ثَانِيًا.فَإِذَا تَكَرَّرَ ثَلَاثًا أَوْ مَرَّتَيْنِ صَارَ عَادَةً فَتُعِيدُ مَا صَامَتْهُ وَنَحْوَهُ مِنْ فَرْضٍ.وَيَرَى ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهَا تَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- لِلنِّسَاءِ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ رَدَّ النَّاسَ إِلَى الْعُرْفِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْعُرْفُ بَيْنَ النِّسَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى رَأَتْ دَمًا يَصْلُحُ لأَنْ يَكُونَ حَيْضًا اعْتَقَدَتْهُ حَيْضًا، وَإِنْ عَبَرَ الدَّمُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ.وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ اسْتِحَاضَةٌ. انْتِقَالُ الْعَادَةِ:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي انْتِقَالِ الْعَادَةِ:
20- إِذَا رَأَتِ الْمُعْتَادَةُ مَا يُخَالِفُ عَادَتَهَا فِي الْحَيْضِ.فَإِذَا لَمْ يُجَاوِزِ الدَّمُ الْعَشَرَةَ الْأَيَّامَ، فَالْكُلُّ حَيْضٌ، وَانْتَقَلَتِ الْعَادَةُ عَدَدًا فَقَطْ إِنْ طَهُرَتْ بَعْدَهُ طُهْرًا صَحِيحًا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ الْأَيَّامَ رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا، لِأَنَّهُ صَارَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي.وَهَذَا فِيمَا إِذَا لَمْ تَتَسَاوَ الْعَادَةُ وَالْمُخَالَفَةُ حَيْثُ يَصِيرُ الثَّانِي عَادَةً لَهَا.فَإِنْ تَسَاوَتِ الْعَادَةُ وَالْمُخَالَفَةُ فَالْعَدَدُ بِحَالِهِ، سَوَاءٌ رَأَتْ نِصَابًا (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا، أَوْ قَبْلَهَا، أَوْ بَعْدَهَا، أَوْ بَعْضُهُ فِي أَيَّامِهَا، وَبَعْضُهُ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، لَكِنْ إِنْ وَافَقَ زَمَانًا وَعَدَدًا فَلَا انْتِقَالَ أَصْلًا.وَإِلاَّ فَالِانْتِقَالُ ثَابِتٌ عَلَى حَسَبِ الْمُخَالِفِ.
فَإِذَا جَاوَزَ الدَّمُ الْعَشَرَةَ وَوَقَعَ نِصَابٌ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ.فَالْوَاقِعُ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ فَقَطْ حَيْضٌ وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ.ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى كَانَ الْوَاقِعُ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ مُسَاوِيًا لِعَادَتِهَا عَدَدًا، فَالْعَادَةُ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّ الْعَدَدِ وَالزَّمَانِ مَعًا.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا لِعَادَتِهَا انْتَقَلَتِ الْعَادَةُ عَدَدًا إِلَى مَا رَأَتْهُ نَاقِصًا.وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالنَّاقِصِ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ لِكَوْنِ الْوَاقِعِ فِي الْعَادَةِ زَائِدًا عَلَيْهَا.
وَإِذَا جَاوَزَ الدَّمُ الْعَشَرَةَ وَلَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ نِصَابٌ بِأَنْ لَمْ تَرَ شَيْئًا، أَوْ رَأَتْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ انْتَقَلَتِ الْعَادَةُ زَمَانًا، وَالْعَدَدُ بِحَالِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ.
انْتِقَالُ الْعَادَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:
21- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ تَنْتَقِلُ، فَتَتَقَدَّمُ أَوْ تَتَأَخَّرُ، أَوْ يَزِيدُ قَدْرُ الْحَيْضِ أَوْ يَنْقُصُ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ انْتِقَالِ الْعَادَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا إِذَا تَمَادَى دَمُ الْمُعْتَادَةِ وَزَادَ عَلَى عَادَتِهَا فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى عَادَتِهَا، وَيَصِيرُ الِاسْتِظْهَارُ عَادَةً لَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً عَلَى انْتِقَالِ الْعَادَةِ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي: إِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا الْأَيَّامَ الْخَمْسَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الشَّهْرِ، فَرَأَتْ فِي بَعْضِ الشُّهُورِ، الْأَيَّامَ الْخَمْسَةَ الْأُولَى دَمًا وَانْقَطَعَ، فَقَدْ تَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا، وَلَمْ يَزِدْ حَيْضُهَا، وَلَمْ يَنْقُصْ وَلَكِنْ نَقَصَ طُهْرُهَا فَصَارَ عِشْرِينَ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ.وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، أَوِ الْخَامِسَةِ أَوِ السَّادِسَةِ، فَقَدْ تَأَخَّرَتْ عَادَتُهَا، وَلَمْ يَزِدْ حَيْضُهَا، وَلَمْ يَنْقُصْ، وَلَكِنْ زَادَ طُهْرُهَا.وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ الثَّالِثَةِ فَقَدْ زَادَ حَيْضُهَا، وَتَأَخَّرَتْ عَادَتُهَا.وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، فَقَدْ زَادَ حَيْضُهَا وَتَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا.وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَقَدْ زَادَ حَيْضُهَا، فَصَارَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَتَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا وَتَأَخَّرَتْ.وَإِنْ رَأَتْهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ يَوْمٍ مِنَ الْخَمْسَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَقَدْ نَقَصَ حَيْضُهَا وَلَمْ تَنْتَقِلْ عَادَتُهَا.
وَإِنْ رَأَتْهُ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنَ الْخَمْسَةِ الْأُولَى فَقَدْ نَقَصَ حَيْضُهَا وَتَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا.وَإِنْ رَأَتْ ذَلِكَ فِي الْخَمْسَةِ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، أَوْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ نَقَصَ حَيْضُهَا وَتَأَخَّرَتْ عَادَتُهَا.
وَالْأَمْثِلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي انْتِقَالِ الْعَادَةِ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْعَادَةِ الْمُنْتَقِلَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْتِقَالُ الْعَادَةِ يَثْبُتُ بِمَرَّةٍ فِي الْأَصَحِّ.وَهَذَا إِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْحَيْضِ، فَرَأَتِ الدَّمَ فِي غَيْرِ عَادَتِهَا لَمْ تَعْتَبِرْ مَا خَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ حَيْضًا حَتَّى يَتَكَرَّرَ ثَلَاثًا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، أَوْ مَرَّتَيْنِ فِي رِوَايَةٍ.وَسَوَاءٌ رَأَتِ الدَّمَ قَبْلِ عَادَتِهَا أَوْ بَعْدَهَا، مَعَ بَقَاءِ الْعَادَةِ، أَوِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهَا، أَوْ فِي بَعْضِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَجْلِسُ فِي غَيْرِ أَيَّامِهَا حَتَّى يَتَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَإِذَا تَكَرَّرَ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَيْضٌ مُتَنَقِّلٌ فَتَصِيرُ إِلَيْهِ، أَيْ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ فِيهِ، وَيَصِيرُ عَادَةً لَهَا، وَتَتْرُكُ الْعَادَةَ الْأُولَى.وَيَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْهُ مِنَ الْفَرْضِ فِي هَذِهِ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَمَرْنَاهَا بِالصِّيَامِ فِيهَا، لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا صَامَتْهُ فِي حَيْضٍ، وَالصَّوْمُ فِي الْحَيْضِ غَيْرُ صَحِيحٍ.وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ.وَقِيلَ: لَا حَاجَةَ إِلَى التَّكْرَارِ، وَتَنْتَقِلُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهَا دَمًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا.فَعَلَيْهِ: تَجْلِسُ مَا تَرَاهُ مِنَ الدَّمِ قَبْلَ عَادَتِهَا وَبَعْدَهَا مَا لَمْ يَزِدْ عَنْ أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي.وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنْ تَجَاوَزَتِ الزِّيَادَةُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَهِيَ اسْتِحَاضَةٌ وَنَرُدُّهَا إِلَى عَادَتِهَا، وَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ مَا تَرَكَتْهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِيمَا زَادَ عَنْ عَادَتِهَا.
وَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فَرَأَتِ الدَّمَ أَكْثَر مِنْهَا وَجَاوَزَ أَكْثَر الْحَيْضِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَحَيْضُهَا مِنْهُ قَدْرُ الْعَادَةِ لَا غَيْرُ.وَلَا تَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الشُّهُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إِلاَّ قَدْرَ الْعَادَةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَ الْعَادَةَ. أَنْوَاعُ الْعَادَةِ:
22- الْعَادَةُ ضَرْبَانِ: مُتَّفِقَةٌ، وَمُخْتَلِفَةٌ.
فَالْمُتَّفِقَةُ مَا كَانَتْ أَيَّامًا مُتَسَاوِيَةً، كَسَبْعَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَهَذِهِ تَجْلِسُ أَيَّامَ عَادَتِهَا وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا.وَالْمُخْتَلِفَةُ هِيَ مَا كَانَتْ أَيَّامًا مُخْتَلِفَةً، وَهِيَ قِسْمَانِ مُرَتَّبَةٌ، بِأَنْ تَرَى فِي شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَفِي الثَّانِي أَرْبَعَةٍ، وَفِي الثَّالِثِ خَمْسَةً، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ.فَهَذِهِ، إِذَا اسْتُحِيضَتْ فِي شَهْرٍ وَعَرَفَتْ نَوْبَتَهُ عَمِلَتْ عَلَيْهِ.وَإِنْ نَسِيَتْ نَوْبَتَهُ جَلَسَتِ الْأَقَلَّ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ.
وَغَيْرُ مُرَتَّبَةٍ: بِأَنْ تَتَقَدَّمَ هَذِهِ مَرَّةً، وَهَذِهِ أُخْرَى كَأَنْ تَحِيضَ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَفِي الثَّانِي خَمْسَةً، وَفِي الثَّالِثِ أَرْبَعَةً.فَإِنْ أَمْكَنَ ضَبْطُهُ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ هُوَ، فَالَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُ رُدَّتْ إِلَى مَا قَبْلَ شَهْرِ الِاسْتِحَاضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْعَادَةِ بِمَرَّةٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجْلِسُ الْأَقَلَّ فِي كُلِّ شَهْرٍ.
وَتَلْفِيقُ الْحَيْضِ:
23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا، وَالطُّهْرَ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا، بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ لَهَا طُهْرٌ كَامِلٌ، اخْتِلَافًا يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: وَيُسَمَّى قَوْلَ التَّلْفِيقِ أَوِ اللَّقْطَ، وَهُوَ أَنْ تُلَفِّقَ حَيْضَهَا مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ فَقَطْ، وَتُلْغِيَ أَيَّامَ الطُّهْرِ فَتَكُونَ فِيهَا طَاهِرًا، تُصَلِّيَ وَتَصُومَ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَيُسَمِّيهِ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَ السَّحْبِ، وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ أَيَّامَ الدَّمِ، وَأَيَّامَ الطُّهْرِ كُلَّهَا أَيَّامَ حَيْضٍ.وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ ذَكَرُوهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْفِيقٌ).
الطُّهْرُ مِنَ الْحَيْضِ:
(1) أَقَلُّ الطُّهْرِ وَأَكْثَرُهُ:
24- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِ الطُّهْرِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ لَا تَحِيضُ أَصْلًا.
وَقَدْ تَحِيضُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً.حَكَى أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ امْرَأَةً فِي زَمَنِهِ كَانَتْ تَحِيضُ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَلّ طُهْرٍ بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا، لِأَنَّ الشَّهْرَ غَالِبًا لَا يَخْلُو مِنْ حَيْضٍ وَطُهْرٍ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الطُّهْرِ كَذَلِكَ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا.لِمَا رَوَى أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ- قَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا- فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ.فَقَالَ عَلِيٌّ لِشُرَيْحٍ.قُلْ فِيهَا.فَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنْ جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْجَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ.وَإِلاَّ فَهِيَ كَاذِبَةٌ.فَقَالَ عَلِيٌّ: قَالُونُ- أَيْ جَيِّدٌ بِالرُّومِيَّةِ- قَالُوا: وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إِلاَّ تَوْقِيفًا، وَهُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ اشْتُهِرَ، وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ.وَوُجُودُ ثَلَاثِ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ طُهْرٌ صَحِيحٌ يَقِينًا.قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَخْتَلِفُ أَنَّ الْعِدَّةَ يَصِحُّ أَنْ تَنْقَضِيَ فِي شَهْرٍ إِذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ.وَغَالِبُ الطُّهْرِ بَاقِي الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ بَعْدَ غَالِبِ الْحَيْضِ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ، أَوْ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ.
(2) عَلَامَةُ الطُّهْرِ:
25- الطُّهْرُ مِنَ الْحَيْضِ يَتَحَقَّقُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا انْقِطَاعِ الدَّمِ، أَوْ رُؤْيَةِ الْقَصَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ الْجَفَافُ بِحَيْثُ تَخْرُجُ الْخِرْقَةُ غَيْرَ مُلَوَّثَةٍ بِدَمٍ، أَوْ كُدْرَةٍ، أَوْ صُفْرَةٍ.فَتَكُونُ جَافَّةً مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَلَا يَضُرُّ بَلَلُهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ.
وَالْقَصَّةُ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ يَأْتِي فِي آخِرِ الْحَيْضِ.قَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- عَنْهَا: لَمَّا كَانَتِ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَيْهَا بِالدُّرْجَةِ (اللِّفَافَةِ) فِيهَا الْكُرْسُفُ (الْقُطْنُ) فِيهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ.لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْغَايَةَ الِانْقِطَاعُ، فَإِذَا انْقَطَعَ طَهُرَتْ، سَوَاءٌ خَرَجَتْ بَعْدَهُ رُطُوبَةٌ بَيْضَاءُ أَمْ لَا.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مُعْتَادَةِ الْجُفُوفِ، وَمُعْتَادَةِ الْقَصَّةِ، وَمُعْتَادَةِ الْقَصَّةِ مَعَ الْجُفُوفِ.فَمُعْتَادَةُ الْجُفُوفِ إِذَا رَأَتِ الْقَصَّةَ أَوَّلًا، لَا تَنْتَظِرُ الْجُفُوفَ وَإِذَا رَأَتِ الْجُفُوفَ أَوَّلًا، لَا تَنْتَظِرُ الْقَصَّةَ.
وَأَمَّا مُعْتَادَةُ الْقَصَّةِ فَقَطْ، أَوْ مَعَ الْجُفُوفِ إِذَا رَأَتِ الْجُفُوفَ أَوَّلًا، نُدِبَ لَهَا انْتِظَارُ الْقَصَّةِ لآِخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ.وَإِنْ رَأَتِ الْقَصَّةَ أَوَّلًا فَلَا تَنْتَظِرُ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ.فَالْقَصَّةُ أَبْلَغُ لِمُعْتَادَتِهَا، وَلِمُعْتَادَتِهَا مَعَ الْجُفُوفِ أَيْضًا. حُكْمُ الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّلِ بَيْنَ أَيَّامِ الْحَيْضِ:
26- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النَّقَاءِ الْمُتَخَلِّلِ بَيْنَ أَيَّامِ الْحَيْضِ، هَلْ هُوَ حَيْضٌ أَوْ طُهْرٌ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ حَيْضٌ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ طُهْرٌ.وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْفِيقٌ).
(4) دَمُ الْحَامِلِ:
27- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دَمِ الْحَامِلِ هَلْ هُوَ دَمُ حَيْضٍ، أَوْ عِلَّةٍ وَفَسَادٍ؟.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْحَامِلِ دَمُ عِلَّةٍ وَفَسَادٍ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ: لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ» فَجَعَلَ الْحَيْضَ عَلَمًا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ.«وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَقِّ ابْنِ عُمَرَ- لَمَّا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ- مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا».فَجَعَلَ الْحَمْلَ عَلَمًا عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ كَالطُّهْرِ.
وَقَدِ اسْتَحَبَّ الْحَنَابِلَةُ لِلْحَامِلِ أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَنْهَا احْتِيَاطًا، وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْحَامِلِ حَيْضٌ، إِنْ تَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ لِخَبَرِ: «دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ» وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ فِي الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ: أَنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ دَمَيِ الْجِبِلَّةِ وَالْعِلَّةِ، وَالْأَصْلُ السَّلَامَةُ مِنَ الْعِلَّةِ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ لَا يَمْنَعُهُ الرَّضَاعُ بَلْ إِذَا وُجِدَ مَعَهُ حُكِمَ بِكَوْنِهِ حَيْضًا، وَإِنْ نَدَرَ فَكَذَا لَا يَمْنَعُهُ الْحَيْضُ. وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ لِلْحَامِلِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَتْرَةِ الْحَيْضِ.
(5) أَنْوَاعُ الطُّهْرِ:
28- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الطُّهْرَ إِلَى صَحِيحٍ، وَفَاسِدٍ، وَإِلَى تَامٍّ، وَنَاقِصٍ.
فَالطُّهْرُ الصَّحِيحُ: هُوَ النَّقَاءُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَر لَا يَشُوبُهُ خِلَالَهَا دَمٌ مُطْلَقًا لَا فِي أَوَّلِهِ، وَلَا فِي وَسَطِهِ، وَلَا فِي آخِرِهِ، وَيَكُونُ بَيْنَ دَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ، وَالطُّهْرُ الْفَاسِدُ مَا خَالَفَ الصَّحِيحَ فِي أَحَدِ أَوْصَافِهِ، بِأَنْ كَانَ أَقَلّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، أَوْ خَالَطَهُ دَمٌ أَوْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ دَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ.
فَإِذَا كَانَ الطُّهْرُ أَقَلّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنَّهُ طُهْرٌ فَاسِدٌ، وَيُجْعَلُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي.وَلَوْ كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، لَكِنْ خَالَطَهُ دَمٌ صَارَ طُهْرًا فَاسِدًا، كَمَا لَوْ رَأَتِ الْمُبْتَدَأَةُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَالطُّهْرُ هُنَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ اسْتَكْمَلَ خَمْسَةَ عَشَرَ، لَكِنَّهُ فَاسِدٌ مَعْنًى، لِأَنَّ الْيَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ تُصَلِّي فِيهِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الطُّهْرِ.فَقَدْ خَالَطَ هَذَا الطُّهْرَ دَمٌ فِي أَوَّلِهِ فَفَسَدَ.
وَإِذَا كَانَ الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَكِنْ كَانَ بَيْنَ اسْتِحَاضَتَيْنِ، أَوْ بَيْنَ حَيْضَيْنِ وَنِفَاسٍ، أَوْ بَيْنَ نِفَاسٍ وَاسْتِحَاضَةٍ، أَوْ بَيْنَ طَرَفَيْ نِفَاسٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ طُهْرًا فَاسِدًا.
وَالطُّهْرُ التَّامُّ مَا كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَر سَوَاءٌ أَكَانَ صَحِيحًا، أَمْ فَاسِدًا.
وَالطُّهْرُ النَّاقِصُ: مَا نَقَصَ عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الطُّهْرِ الْفَاسِدِ.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَيْضِ:
(1) الْبُلُوغُ:
29- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا التَّكْلِيفُ، فَإِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ فِي زَمَنِ الْإِمْكَانِ، أَصْبَحَتْ بَالِغَةً مُكَلَّفَةً يَجِبُ عَلَيْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الْبَالِغَاتِ الْمُكَلَّفَاتِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ».فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَتِرَ لِبُلُوغِهَا بِالْحَيْضِ.فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ حَصَلَ بِهِ.وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِالْحَيْضِ الَّذِي يَنْزِلُ بِنَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا تَسَبَّبَ فِي جَلْبِهِ، فَلَا يَكُونُ عَلَامَةً.
(2) التَّطَهُّرُ:
30- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ طَهَارَةُ الْحَائِضِ، فَإِذَا اغْتَسَلَتِ الْحَائِضُ لِرَفْعِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ، فَلَا يَصِحُّ غُسْلُهَا، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ، إِنِ اغْتَسَلَتْ لِلْجَنَابَةِ زَمَنَ حَيْضِهَا صَحَّ غُسْلُهَا، وَاسْتُحِبَّ تَخْفِيفًا لِلْحَدَثِ، وَيَزُولُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ.لِأَنَّ بَقَاءَ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ لَا يَمْنَعُ ارْتِفَاعَ الْآخَرِ.كَمَا لَوِ اغْتَسَلَ الْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَر.وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِلْجَنَابَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ حَيْضُهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ.
(أ) غُسْلُ الْحَائِضِ:
31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ مُوجِبٌ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ وَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَغْتَسِلَ لِاسْتِبَاحَةِ مَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْهُ بِالْحَيْضِ، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي» وَأَمَرَ بِهِ أُمَّ حَبِيبَةَ وَسَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ وَغَيْرَهُنَّ.وَيُؤَيِّدُهُ قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} أَيْ إِذَا اغْتَسَلْنَ، فَمَنَعَ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا قَبْلَ غُسْلِهَا فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَيْهَا لِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الِانْقِطَاعَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْغُسْلِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، إِمَّا حَقِيقَةً، بِأَنْ أَرَادَتْ صَلَاةَ مَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْت مِنْ نَافِلَةٍ أَوْ مَقْضِيَّةٍ، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، إِذْ بِدُخُولِهِ تَجِبُ الصَّلَاةُ وَيَجِبُ تَحْصِيلُ شُرُوطِهَا وَإِنْ لَمْ تُرِدِ الْفِعْلَ فَهِيَ مُرِيدَةٌ حُكْمًا لِكَوْنِ الشَّارِعِ أَلْجَأَهَا إِلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْإِرَادَةِ فَهِيَ مُرِيدَةٌ بِالْقُوَّةِ.
وَغُسْلُ الْحَيْضِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُغْتَسِلَةِ مِنَ الْحَيْضِ، غَيْرِ الْمُحْرِمَةِ وَالْمُحِدَّةِ تَطْيِيبُ مَوْضِعِ الدَّمِ.لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَة- رضي الله عنها- «أَنَّ أَسْمَاءَ- رضي الله عنها-، سَأَلْتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ؟ فَقَالَ: تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ.ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ.ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بِهَا فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا.فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ.تَطَهَّرِينَ بِهَا.فَقَالَتْ عَائِشَةُ.كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ تَتَبَّعِينَ أَثَرَ الدَّمِ.وَسَأَلَتْهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: تَأْخُذُ مَاءً فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، أَوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ.ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ.حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا.ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ.فَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَكُنْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ».
(ب) طَهَارَةُ الْحَائِضِ:
32- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي طَهَارَةِ جَسَدِ الْحَائِضِ، وَعَرَقِهَا، وَسُؤْرِهَا، وَجَوَازِ أَكْلِ طَبْخِهَا وَعَجْنِهَا، وَمَا مَسَّتْهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ، وَالْأَكْلُ مَعَهَا وَمُسَاكَنَتُهَا، مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَا يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الْآيَةَ.فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: » اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ «فَأَنْكَرَتِ الْيَهُودُ ذَلِكَ.فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ: كَذَا كَذَا، فَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا».
وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَائِشَةَ: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَقَالَتْ: إِنِّي حَائِضٌ.قَالَ: إِنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك».«وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَشْرَبُ مِنْ سُؤْرِ عَائِشَةَ وَهِيَ حَائِضٌ، وَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيهَا».وَكَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهِيَ حَائِضٌ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
(3) الصَّلَاةُ:
33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْحَائِضِ إِذِ الْحَيْضُ مَانِعٌ لِصِحَّتِهَا.كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَدَاؤُهَا.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إِسْقَاطِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَنْهَا فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ» كَمَا نَقَلَ النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى سُقُوطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَنْهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ فَيَحْرُمَانِ عَلَى الْحَائِضِ.
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ مَا فَاتَ الْحَائِضَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِمَا رَوَتْ مُعَاذَةُ قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ فَقُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ.وَلَكِنْ أَسْأَلُ.فَقَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ.ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ قَضَائِهَا لِلصَّلَاةِ إِذَا أَرَادَتْ قَضَاءَهَا.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ قَضَائِهَا، وَتَنْعَقِدُ نَفْلًا مُطْلَقًا لَا ثَوَابَ فِيهِ، لِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، لِذَاتِ الصَّلَاةِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِذَاتِهِ لَا ثَوَابَ فِيهِ.وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْضَاوِيُّ بِحُرْمَتِهَا.وَخَالَفَ الرَّمْلِيُّ فَقَالَ بِصِحَّتِهَا وَانْعِقَادِهَا عَلَى قَوْلِ الْكَرَاهَةِ الْمُعْتَمَدِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ طَلَبِ الْعِبَادَةِ عَدَمُ انْعِقَادِهَا.وَقِيلَ لِأَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: فَإِنْ أَحَبَّتْ أَنْ تَقْضِيَهَا؟ قَالَ: لَا، هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: فَظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ.وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَكِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ إِلاَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، لِأَنَّهَا نُسُكٌ لَا آخِرَ لِوَقْتِهِ.
إِدْرَاكُ وَقْتِ الصَّلَاةِ:
الْحَائِضُ إِمَّا أَنْ تُدْرِكَ أَوَّلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِأَنْ تَكُونَ طَاهِرًا ثُمَّ يَطْرَأَ الْحَيْضُ، أَوْ تُدْرِكَ آخِرَ الْوَقْتِ بِأَنْ تَكُونَ حَائِضًا ثُمَّ تَطْهُرَ.
(أ) إِدْرَاكُ أَوَّلِ الْوَقْتِ:
34- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَدْرَكَتِ الْحَائِضُ أَوَّلَ الْوَقْتِ، بِأَنْ كَانَتْ طَاهِرًا ثُمَّ حَاضَتْ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَرَأَ الْحَيْضُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ سَقَطَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَلَوْ بَعْدَ مَا افْتَتَحَتِ الْفَرْضَ.
أَمَّا لَوْ طَرَأَ وَهِيَ فِي التَّطَوُّعِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَدَثَ الْحَيْضُ فِي وَقْتٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ سَقَطَتِ الصَّلَاتَانِ، وَإِنْ حَدَثَ فِي وَقْتٍ مُخْتَصٍّ بِإِحْدَاهُمَا، سَقَطَتِ الْمُخْتَصَّةُ بِالْوَقْتِ وَقُضِيَتِ الْأُخْرَى.فَمِثْلًا إِنَّ أَوَّلَ الزَّوَالِ مُخْتَصٌّ بِالظُّهْرِ إِلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ تَشْتَرِكُ الصَّلَاتَانِ إِلَى أَنْ تَخْتَصَّ الْعَصْرُ بِأَرْبَعٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ فِي الْحَضَرِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ.فَلَوْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِي وَقْتِ الِاشْتِرَاكِ سَقَطَتِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَلَوْ حَاضَتْ فِي وَقْتِ الِاخْتِصَاصِ بِالْعَصْرِ وَكَانَتْ لَمْ تُصَلِّ الظُّهْرَ وَلَا الْعَصْرَ سَقَطَ عَنْهَا قَضَاءُ الْعَصْرِ وَحْدَهَا، وَلَوْ حَاضَتْ فِي وَقْتِ الِاخْتِصَاصِ بِالظُّهْرِ سَقَطَتْ، وَإِنْ تَمَادَى الْحَيْضُ إِلَى وَقْتِ الِاشْتِرَاكِ سَقَطَتِ الْعَصْرُ، فَإِنِ ارْتَفَعَ قَبْلَهُ وَجَبَتْ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَرَأَ الْحَيْضُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ فَقَطْ إِنْ أَدْرَكَتْ قَدْرَ الْفَرْضِ، وَلَا تَجِبُ مَعَهَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَجْمَعُ مَعَهَا بَعْدَهَا، وَيَجِبُ الْفَرْضُ الَّذِي قَبْلَهَا أَيْضًا، إِنْ كَانَتْ تَجْمَعُ مَعَهَا وَأَدْرَكَتْ قَدْرَهُ وَلَمْ تَكُنْ قَدْ صَلَّتْهُ لِتَمَكُّنِهَا مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَدْرَكَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ قَدْرَ تَكْبِيرَةٍ، ثُمَّ طَرَأَ الْحَيْضُ لَزِمَهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي أَدْرَكَتِ التَّكْبِيرَةَ مِنْ وَقْتِهَا فَقَطْ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِدُخُولِ أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى مُكَلَّفٍ، لَمْ يَقُمْ بِهِ مَانِعٌ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا، فَإِذَا قَامَ بِهِ مَانِعٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُسْقِطْهَا.فَيَجِبُ قَضَاؤُهَا عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ.وَلَا تَلْزَمُهَا غَيْرُ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا قَبْلَ طُرُوءِ الْحَيْضِ، لِأَنَّهَا لَمْ تُدْرِكْ جُزْءًا مِنْ وَقْتِهَا، وَلَا مِنْ وَقْتِ تَبَعِهَا فَلَمْ تَجِبْ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
7-موسوعة الفقه الكويتية (حيض 3)
حَيْضٌ -3(ب) إِدْرَاكُ آخِرِ الْوَقْتِ:
35- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْوَقْتِ الَّذِي تُدْرِكُ فِيهِ الْحَائِضُ الصَّلَاةَ إِنْ طَهُرَتْ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ انْقِطَاعِ الدَّمِ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَانْقِطَاعِهِ قَبْلَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُبْتَدَأَةِ، وَانْقِطَاعِ دَمِ الْمُعْتَادَةِ فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا أَوْ بَعْدَهَا، أَوْ قَبْلَهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَادَةِ.
فَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ لِأَكْثَرَ الْحَيْضِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ لَوْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ تَحْرِيمَةٍ، وَإِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهَا الِاغْتِسَالُ فِيهِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ.فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ هَذَا الْمِقْدَارُ فَلَا قَضَاءَ وَلَا أَدَاءَ.فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمُ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنَ الْوَقْتِ بِقَدْرِ التَّحْرِيمَةِ.فَلَوْ كَانَتْ فِيهِ طَاهِرَةً وَجَبَتِ الصَّلَاةُ وَإِلاَّ فَلَا.
وَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ قَبْلَ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُبْتَدَأَةِ، أَوْ كَانَ انْقِطَاعُهُ فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا أَوْ بَعْدَهَا- قَبْلَ تَمَامِ أَكْثَرِ الْمُدَّةِ- أَوْ قَبْلَهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَادَةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ إِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ التَّحْرِيمَةِ، وَالْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ.وَلَا بُدَّ هُنَا مِنْ بَقَاءِ قَدْرِ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ التَّحْرِيمَةِ، لِأَنَّ زَمَانَ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ حَيْضٌ، فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا قَبْلَ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ زَمَنٌ يَسَعُهُ وَيَسَعُ التَّحْرِيمَةَ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ بَعْدَ زَمَانِ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ التَّحْرِيمَةِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَكْثَرَ الْمُدَّةِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي قَدْرُ التَّحْرِيمَةِ فَقَطْ، لِأَنَّ زَمَانَ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ مِنَ الطُّهْرِ، لِئَلاَّ يَزِيدَ الْحَيْضُ عَنِ الْعَشَرَةِ، فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ تَخْرُجُ مِنَ الْحَيْضِ، فَإِذَا أَدْرَكَتْ بَعْدَهُ قَدْرَ التَّحْرِيمَةِ تَحَقَّقَ طُهْرُهَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ، وَالْمَقْصُودُ بِالْغُسْلِ هُنَا الْغُسْلُ مَعَ مُقَدِّمَاتِهِ، كَالِاسْتِقَاءِ، وَخَلْعِ الثِّيَابِ، وَالتَّسَتُّرِ عَنِ الْأَعْيُنِ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغُسْلُ الْفَرْضُ لَا الْمَسْنُونُ، لِأَنَّهُ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ رُجْحَانُ جَانِبِ الطَّهَارَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ تُدْرِكُ الصَّلَاةَ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ رَكْعَةً تَامَّةً، وَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، فَإِذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ قَبْلَ الطُّلُوعِ، أَوِ الْغُرُوبِ، أَوِ الْفَجْرِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ، فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَلَا تُدْرِكُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتُدْرِكُ الظُّهْرَ وَالْمَغْرِبَ إِذَا بَقِيَ مِنْ وَقْتِهِمَا الضَّرُورِيِّ مَا يَسَعُ فَضْلَ رَكْعَةٍ عَلَى الصَّلَاةِ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةِ، فَإِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ قَدْرُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ صَلَّتِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، لِأَنَّهُ إِذَا صَلَّتِ الْمَغْرِبَ بَقِيَتْ رَكْعَةٌ لِلْعِشَاءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ وَقَدْ أَدْرَكَتْ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ قَدْرَ تَكْبِيرَةٍ، فَيَجِبُ قَضَاؤُهَا فَقَطْ إِنْ لَمْ تَجْمَعْ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَضَاؤُهَا وَقَضَاءُ مَا قَبْلَهَا إِنْ كَانَتْ تَجْمَعُ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَبَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ تَكْبِيرَةً لَزِمَهَا قَضَاءُ الصُّبْحِ فَقَطْ، لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَا تُجْمَعُ إِلَيْهَا.وَإِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِمِقْدَارِ تَكْبِيرَةٍ لَزِمَهَا قَضَاءُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَكَذَا إِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِمِقْدَارِ تَكْبِيرَةٍ لَزِمَهَا قَضَاءُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ «تُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَلَّتِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا» لِأَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لِلْأُولَى فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، فَفِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ أَوْلَى، لِأَنَّهَا فَوْقَ الْعُذْرِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةٍ لِأَنَّهُ إِدْرَاكٌ.
(4) الصَّوْمُ:
36- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ مُطْلَقًا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَعَدَمُ صِحَّتِهِ مِنْهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ، وَلَمْ تَصُمْ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» فَإِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَسَدَ صَوْمُهَا، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَكَوْنُ الصَّوْمِ لَا يَصِحُّ مِنْهَا لَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ مَشْرُوطَةً فِيهِ.
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ رَمَضَانَ عَلَيْهَا، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي الْحَيْضِ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ.وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ، لِأَنَّهُ يُنَافِي الصَّوْمَ وَلَا تَخْلُو عَنْهُ ذَاتُ الْأَقْرَاءِ فِي الشَّهْرِ غَالِبًا، وَالتَّأْخِيرُ إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ فِيهِ خَطَرٌ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَنَحْوَهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَةٌ).
إِدْرَاكُ الصَّوْمِ:
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْزِيهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاؤُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْإِمْسَاكُ حِينَئِذٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لَهَا التَّمَادِي عَلَى تَعَاطِي الْمُفْطِرِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهَا الْإِمْسَاكُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَلْزَمُهَا الْإِمْسَاكُ.
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَهُرَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْفَتْرَةِ الَّتِي إِذَا انْقَطَعَ فِيهَا الدَّمُ فَإِنَّهُ يَجْزِيهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْزِيهَا صَوْمُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ الِاغْتِسَالِ وَالتَّحْرِيمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا إِلاَّ بِهَذَا، وَإِنْ بَقِيَ قَدْرُهُمَا يَجْزِيهَا، لِأَنَّ الْعِشَاءَ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ فَحُكِمَ بِطَهَارَتِهَا ضَرُورَةً.وَالْمُرَادُ بِالْغُسْلِ هُنَا مَا يَشْمَلُ مُقَدِّمَاتِهِ كَمَا فِي غُسْلِ الْحَائِضِ لِلصَّلَاةِ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ رَأَتِ الطُّهْرَ قَبْلَ الْفَجْرِ بِلَحْظَةٍ وَجَبَ الصَّوْمُ، بِأَنْ رَأَتْ عَلَامَةَ الطُّهْرِ مُقَارِنَةً لِلْفَجْرِ وَنَوَتِ الصَّوْمَ حِينَئِذٍ.وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُعْتَادَةَ الْقَصَّةِ لَا تَنْتَظِرُهَا هُنَا، بَلْ مَتَى رَأَتْ أَيَّ عَلَامَةٍ جُفُوفًا كَانَتْ أَوْ قَصَّةً، وَجَبَ عَلَيْهَا الصَّوْمُ، وَيَصِحُّ صَوْمُهَا حِينَئِذٍ، وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ إِلاَّ بَعْدَ الْفَجْرِ، بَلْ إِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ أَصْلًا، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصَّوْمِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مَتَى انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ وَجَبَ عَلَيْهَا الصَّوْمُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فَتْرَةً مُعَيَّنَةً كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِذَا انْقَطَعَ الْحَيْضُ ارْتَفَعَ تَحْرِيمُ الصَّوْمِ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا نَوَتِ الْحَائِضُ صَوْمَ غَدٍ قَبْلَ انْقِطَاعِ دَمِهَا، ثُمَّ انْقَطَعَ لَيْلًا صَحَّ إِنْ تَمَّ لَهَا فِي اللَّيْلِ أَكْثَرُ الْحَيْضِ، وَكَذَا قَدْرُ الْعَادَةِ فِي الْأَصَحِّ.كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِمِثْلِ هَذَا، فَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَتِ الْحَائِضُ صَوْمَ غَدٍ وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا تَطْهُرُ لَيْلًا صَحَّ.
(5) الْحَجُّ:
أ- أَغْسَالُ الْحَجِّ:
37- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ أَغْسَالِ الْحَجِّ لِلْحَائِضِ، لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ: قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي».فَيُسَنُّ لَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِلْإِحْرَامِ، وَلِدُخُولِ مَكَّةَ.وَلِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الِاغْتِسَالَ لِدُخُولِ مَكَّةَ فَلَمْ يَسْتَحِبُّوهُ لِلْحَائِضِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلطَّوَافِ، فَلِذَا لَا يُطْلَبُ مِنَ الْحَائِضِ لِمَنْعِهَا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ.
ب- الطَّوَافُ:
38- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ إِلاَّ الطَّوَافَ، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ».
ثُمَّ إِنَّ الْأَطْوِفَةَ الْمَشْرُوعَةَ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ: طَوَافُ الْقُدُومِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَدَا الْمَالِكِيَّةَ حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِهِ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ بِالِاتِّفَاقِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَدَا الْمَالِكِيَّةَ حَيْثُ قَالُوا بِسُنِّيَّتِهِ.
فَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ الْقُدُومِ سَقَطَ عَنْهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِسُنِّيَّتِهِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَيْثُ بَقِيَ عُذْرُهَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهَا الْإِتْيَانُ بِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَإِنَّهَا تَبْقَى عَلَى إِحْرَامِهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَطُوفَ.فَإِنْ طَافَتْ وَهِيَ حَائِضٌ فَلَا يَصِحُّ طَوَافُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَهُ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ غَيْرُ طَاهِرَةٍ، وَتَأْثَمُ وَعَلَيْهَا بَدَنَةٌ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ بِلَا طَوَافِ وَدَاعٍ، تَخْفِيفًا عَلَيْهَا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ صَفِيَّةَ- رضي الله عنها- حَاضَتْ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَنْصَرِفَ بِلَا وَدَاعٍ».وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: تُفْتِي أَنْ تَصْدُرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ.فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِمَّا لَا.فَسَلْ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ، هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: فَرَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا أَرَاكَ إِلاَّ قَدْ صَدَقْتَ.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا إِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِ مَكَّةَ لَزِمَهَا الْعَوْدُ فَتَغْتَسِلُ وَتَطُوفُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَعَلَيْهَا دَمٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا طَهُرَتْ خَارِجَ مَكَّةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ).
أ- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ:
39- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قِرَاءَةِ الْحَائِضِ لِلْقُرْآنِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى حُرْمَةِ قِرَاءَتِهَا لِلْقُرْآنِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ».
وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ حُرْمَةُ قِرَاءَتِهَا لِلْقُرْآنِ وَلَوْ دُونَ آيَةٍ مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ لَا الْمُفْرَدَاتِ، وَذَلِكَ إِذَا قَصَدَتِ الْقِرَاءَةَ، فَإِنْ لَمْ تَقْصِدِ الْقِرَاءَةَ بَلْ قَصَدَتِ الثَّنَاءَ أَوِ الذِّكْرَ فَلَا بَأْسَ بِهِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فَلَوْ قَرَأَتِ الْفَاتِحَةَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَلَمْ تُرِدِ الْقِرَاءَةَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَصَرَّحُوا أَنَّ مَا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ كَسُورَةِ الْمَسَدِ، لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ نِيَّةُ الدُّعَاءِ فَيَحْرُمُ، وَقَدْ أَجَازُوا لِلْمُعَلِّمَةِ الْحَائِضِ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ كَلِمَةً كَلِمَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَطِّعَ بَيْنَ كُلِّ كَلِمَتَيْنِ، لِأَنَّهَا لَا تُعَدُّ بِالْكَلِمَةِ قَارِئَةً.كَمَا أَجَازُوا لِلْحَائِضِ أَنْ تَتَهَجَّى بِالْقُرْآنِ حَرْفًا حَرْفًا، أَوْ كَلِمَةً كَلِمَةً مَعَ الْقَطْعِ، مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَكَرِهُوا لَهَا قِرَاءَةَ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَا يُكْرَهُ لَهَا قِرَاءَةُ الْقُنُوتِ، وَلَا سَائِرُ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ حُرْمَةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْحَائِضِ وَلَوْ بَعْضَ آيَةٍ، كَحَرْفٍ لِلْإِخْلَالِ بِالتَّعْظِيمِ سَوَاءٌ أَقَصَدَتْ مَعَ ذَلِكَ غَيْرَهَا أَمْ لَا، وَصَرَّحُوا بِجَوَازِ إِجْرَاءِ الْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ، وَجَوَازِ النَّظَر فِي الْمُصْحَفِ، وَإِمْرَارِ مَا فِيهِ فِي الْقَلْبِ، وَكَذَا تَحْرِيكُ لِسَانِهَا وَهَمْسُهَا بِحَيْثُ لَا تُسْمِعُ نَفْسَهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ.وَيَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا قِرَاءَةُ آيَةٍ فَصَاعِدًا، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا قِرَاءَةُ بَعْضِ آيَةٍ، لِأَنَّهُ لَا إِعْجَازَ فِيهِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً، كَمَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَكْرِيرُ بَعْضِ آيَةٍ مَا لَمْ تَتَحَيَّلْ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهَا.وَلَهَا تَهْجِيَةُ آيِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقِرَاءَةٍ لَهُ، وَلَهَا التَّفَكُّرُ فِيهِ وَتَحْرِيكُ شَفَتَيْهَا بِهِ مَا لَمْ تُبَيِّنِ الْحُرُوفَ، وَلَهَا قِرَاءَةُ أَبْعَاضِ آيَةٍ مُتَوَالِيَةٍ، أَوْ آيَاتٍ سَكَتَتْ بَيْنَهَا سُكُوتًا طَوِيلًا.وَلَهَا قَوْلُ مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ وَلَمْ تَقْصِدْهُ، كَالْبَسْمَلَةِ، وَقَوْلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَآيَةِ الِاسْتِرْجَاعِ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} وَآيَةِ الرُّكُوبِ، وَلَهَا أَيْضًا أَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهَا وَهِيَ سَاكِتَةٌ، لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تُنْسَبُ إِلَى الْقِرَاءَةِ، وَلَهَا أَنْ تَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَاخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْحَائِضِ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ إِذَا خَافَتْ نِسْيَانَهُ، بَلْ يَجِبُ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ يَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي حَالِ اسْتِرْسَالِ الدَّمِ مُطْلَقًا، كَانَتْ جُنُبًا أَمْ لَا، خَافَتِ النِّسْيَانَ أَمْ لَا.وَأَمَّا إِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا، فَلَا تَجُوزُ لَهَا الْقِرَاءَةُ حَتَّى تَغْتَسِلَ جُنُبًا كَانَتْ أَمْ لَا، إِلاَّ أَنْ تَخَافَ النِّسْيَانَ.
هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى التَّطَهُّرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا جَازَ لَهَا الْقِرَاءَةُ إِنْ لَمْ تَكُنْ جُنُبًا قَبْلَ الْحَيْضِ.فَإِنْ كَانَتْ جَنْبًا قَبْلَهُ فَلَا تَجُوزُ لَهَا الْقِرَاءَةُ.
(ب) مَسُّ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ:
40- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ مَسُّ الْمُصْحَفِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وَلِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا، وَكَانَ فِيهِ: لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ» وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمُعَلِّمَةَ وَالْمُتَعَلِّمَةَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا مَسُّ الْمُصْحَفِ.وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُصْحَفٌ).
دُخُولُ الْمَسْجِدِ:
41- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْحَائِضِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الِاعْتِكَافُ كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ عُبُورِهَا لِلْمَسْجِدِ دُونَ لُبْثٍ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ، كَالْخَوْفِ مِنَ السَّبُعِ قِيَاسًا عَلَى الْجُنُبِ لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} وَاللِّصِّ وَالْبَرْدِ وَالْعَطَشِ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تُنَاوِلَهُ الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَقَالَتْ إِنَّهَا حَائِضٌ فَقَالَ حَيْضَتُك لَيْسَتْ بِيَدِكِ»، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْأَوْلَى لَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَنْ تَتَيَمَّمَ ثُمَّ تَدْخُلَ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ حُرْمَةَ دُخُولِهَا الْمَسْجِدَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ لِلْمُكْثِ أَوْ لِلْعُبُورِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ دُخُولَهَا لِلطَّوَافِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ مُرُورِهَا فِي الْمَسْجِدِ إِنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ، لِأَنَّ تَلْوِيثَهُ بِالنَّجَاسَةِ مُحَرَّمٌ، وَالْوَسَائِلُ لَهَا حُكْمُ الْمَقَاصِدِ.فَإِنْ أَمِنَتْ تَلْوِيثَهُ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ عُبُورِهَا الْمَسْجِدَ، وَمَحِلُّ الْكَرَاهَةِ إِذَا عَبَرَتْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَمِنَ الْحَاجَةِ الْمُرُورُ مِنَ الْمَسْجِدِ، لِبُعْدِ بَيْتِهَا مِنْ طَرِيقٍ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَقُرْبِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ مِنْ مُرُورِهَا فِي الْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ.قَالَ أَحْمَدُ- فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ- تَمُرُّ وَلَا تَقْعُدُ.
كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُولِ الْحَائِضِ مُصَلَّى الْعِيدِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَا مُصَلَّى الْجِنَازَةِ إِذْ لَيْسَ لَهُمَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي الْأَصَحِّ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ مُصَلَّى الْعِيدِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ مَسْجِدٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى»، وَأَجَازُوا مُصَلَّى الْجَنَائِزِ لَهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ.
الِاسْتِمْتَاعُ بِالْحَائِضِ:
42- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ فِي الْفَرَجِ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ» وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَنْ بِهِ شَبَقٌ لَا تَنْدَفِعُ شَهْوَتُهُ بِدُونِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، وَيَخَافُ تَشَقُّقَ أُنْثَيَيْهِ إِنْ لَمْ يَطَأْ، وَلَا يَجِدُ غَيْرَ الْحَائِضِ، بِأَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى مَهْرِ امْرَأَةٍ أُخْرَى.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- إِلَى حُرْمَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ ثُمَّ يُبَاشِرُهَا.قَالَتْ: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَمْلِكُ إِرْبَهُ» وَعَنْ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها- نَحْوُهُ.وَفِي رِوَايَةٍ «كَانَ يُبَاشِرُ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ وَهِيَ حَائِضٌ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا إِزَارٌ» وَلِأَنَّ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ حَرِيمٌ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَ الْحِمَى.
وَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الِاسْتِمْتَاعَ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ.
وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ.كَمَا مَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ النَّظَرَ إِلَى مَا تَحْتَ الْإِزَارِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِهِ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالرُّكْبَةِ لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا دُونَ الْإِزَارِ» وَمَحَلُّهُ الْعَوْرَةُ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الرُّكْبَةُ.وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الِاسْتِمْتَاعَ بِالسُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ حُكْمَ مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ لِزَوْجِهَا، وَقَرَّرُوا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا مُبَاشَرَتُهَا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الْحَائِضِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَهَذَا مِنْ مُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ.
وَيُسْتَحَبُّ لَهُ حِينَئِذٍ سَتْرُ الْفَرْجِ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، قَالَ فِي النُّكَتِ: وَظَاهِرُ كَلَامِ إِمَامِنَا وَأَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ مُوَاقَعَةَ الْمَحْظُورِ أَوْ يَخَافَ، وَصَوَّبَ الْمِرْدَاوِيُّ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ لِئَلاَّ يَكُونَ طَرِيقًا إِلَى مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ.
كَفَّارَةُ وَطْءِ الْحَائِضِ:
43- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ وَطْءَ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ كَبِيرَةٌ مِنَ الْعَامِدِ الْمُخْتَارِ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ.وَقَدْ أَوْجَبَ الْحَنَابِلَةُ نِصْفَ دِينَارٍ ذَهَبًا كَفَّارَةً فِي وَطْءِ الْحَائِضِ، وَهُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ.
وَاسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ كَانَ الْجِمَاعُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ وَبِنِصْفِهِ إِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: أَوْ وَسَطِهِ.لِحَدِيثِ: «إِذَا وَاقَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إِنْ كَانَ دَمًا أَحْمَر فَدِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ» وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَطْءُ الْحَائِضِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ:
44- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْءُ الْحَائِضِ حَتَّى تَطْهُرَ- يَنْقَطِعَ الدَّمُ- وَتَغْتَسِلَ.فَلَا يُبَاحُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ لِحِلِّ الْوَطْءِ شَرْطَيْنِ: انْقِطَاعَ الدَّمِ، وَالْغُسْلَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أَيْ يَنْقَطِعَ دَمَهُنَّ. {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَيِ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ {فَأَتَوْهُنَّ}.وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَكْفِي التَّيَمُّمُ لِعُذْرٍ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِي حِلِّ الْوَطْءِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْغُسْلِ حَتَّى يَحِلَّ وَطْؤُهَا.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ الدَّمُ لِأَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ لِأَقَلِّهِ، وَكَذَا بَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ لِتَمَامِ عَادَتِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ قَبْلَ عَادَتِهَا.فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ عَلَى أَكْثَرِ الْمُدَّةِ فِي الْحَيْضِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ زَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِدُونِ غُسْلٍ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الْوَطْءِ لِمَا بَعْدَ الْغُسْلِ.
وَإِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا قَبْلَ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ أَوْ لِتَمَامِ الْعَادَةِ فِي الْمُعْتَادَةِ بِأَنْ لَمْ يَنْقُصْ عَنِ الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ تَتَيَمَّمَ، أَوْ أَنْ تَصِيرَ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ مِقْدَارُ الْغُسْلِ وَالتَّحْرِيمَةِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا بَعْدَهُ وَلَوْ قَبْلَ الْغُسْلِ.
وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ قَبْلَ الْعَادَةِ وَفَوْقَ الثَّلَاثِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَمْضِيَ عَادَتُهَا وَإِنِ اغْتَسَلَتْ، لِأَنَّ الْعَوْدَ فِي الْعَادَةِ غَالِبٌ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الِاجْتِنَابِ، فَلَوْ كَانَ حَيْضُهَا الْمُعْتَادُ لَهَا عَشَرَةً فَحَاضَتْ ثَلَاثَةً وَطَهُرَتْ سِتَّةً لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا مَا لَمْ تَمْضِ الْعَادَةُ.
طَلَاقُ الْحَائِضِ:
45- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي فَتْرَةِ الْحَيْضِ حَرَامٌ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ لِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ «ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ0 وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ» وَلِمُخَالِفَتِهِ قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَشْرَعْنَ فِيهِ فِي الْعِدَّةِ، وَزَمَنُ الْحَيْضِ لَا يُحْسَبُ مِنَ الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ فِي إِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ لِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا حَيْثُ إِنَّ بَقِيَّةَ الْحَيْضِ لَا تُحْسَبُ مِنْهَا.
كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ- رضي الله عنه- بِالْمُرَاجَعَةِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَفِي لَفْظِ الدَّارَقُطْنِيِّ، «قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتُ لَوْ أَنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا.قَالَ: كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةً» قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهِ، رَاجَعَهَا كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-، وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ فِي مَحَلِّهِ فَوَقَعَ كَطَلَاقِ الْحَامِلِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَيُعْتَبَرُ لِوُقُوعِهِ مُوَافَقَةُ السُّنَّةِ بَلْ هُوَ إِزَالَةُ عِصْمَةٍ وَقَطْعُ مِلْكٍ، فَإِيقَاعُهُ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ أَوْلَى تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَعُقُوبَةً لَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ مُرَاجَعَتِهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُرَاجَعَتَهَا سُنَّةٌ.
وَمَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامٍ إِنَّمَا هُوَ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَوْ مِنْ فِي حُكْمِهَا.وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (طَلَاقٌ).
خُلْعُ الْحَائِضِ:
46- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى جَوَازِ الْخُلْعِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ لِإِطْلَاقِ قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَلِحَاجَتِهَا إِلَى الْخَلَاصِ بِالْمُفَارَقَةِ حَيْثُ افْتَدَتْ بِالْمَالِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى مَنْعِ الْخُلْعِ فِي الْحَيْضِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ).
مَا يَحِلُّ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ:
47- إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ لَمْ يَحِلَّ مِمَّا حَرُمَ غَيْرُ الصَّوْمِ وَالطَّلَاقِ، وَلَمْ يُبَحْ غَيْرُهُمَا حَتَّى تَغْتَسِلَ وَإِنَّمَا أُبِيحَ الصَّوْمُ وَالطَّلَاقُ بِالِانْقِطَاعِ دُونَ الْغُسْلِ، أَمَّا الصَّوْمُ فَلِأَنَّ تَحْرِيمَهُ بِالْحَيْضِ لَا بِالْحَدَثِ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ مِنَ الْجُنُبِ، وَقَدْ زَالَ، وَأَمَّا بِالطَّلَاقِ فَلِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ وَهُوَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ
أَحْكَامٌ عَامَّةٌ:
1- إِنْزَالُ وَرَفْعُ الْحَيْضِ بِالدَّوَاءِ:
48- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ شُرْبُ دَوَاءٍ مُبَاحٍ لِقَطْعِ الْحَيْضِ إِنْ أُمِنَ الضَّرَرُ، وَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِإِذْنِ الزَّوْجِ.لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْوَلَدِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ مَخَافَةَ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى نَفْسِهَا ضَرَرًا بِذَلِكَ فِي جِسْمِهَا.كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَشْرَبَ دَوَاءً مُبَاحًا لِحُصُولِ الْحَيْضِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا غَرَضٌ مُحَرَّمٌ شَرْعًا كَفِطْرِ رَمَضَانَ فَلَا يَجُوزُ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى شَرِبَتْ دَوَاءً وَارْتَفَعَ حَيْضُهَا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهَا بِالطَّهَارَةِ، وَأَمَّا إِنْ شَرِبَتْ دَوَاءً وَنَزَلَ الْحَيْضُ قَبْلَ وَقْتِهِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ النَّازِلَ غَيْرُ حَيْضٍ وَأَنَّهَا طَاهِرٌ.فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ، وَتُصَلِّي وَتَصُومُ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ غَيْرَ حَيْضٍ، وَتَقْضِي الصَّوْمَ دُونَ الصَّلَاةِ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حَيْضٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَتِ الْمَرْأَةُ دَوَاءً فَنَزَلَ الدَّمُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ حَيْضٌ وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ.
2- ادِّعَاءُ الْحَيْضِ:
49- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ الْحَيْضَ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ قُبِلَ قَوْلُهَا وُجُوبًا، لِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ فَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا حِينَئِذٍ وَإِنْ كَذَّبَهَا، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ مِمَّا إِذَا كَانَتْ عَفِيفَةً أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهَا، أَمَّا لَوْ كَانَتْ فَاسِقَةً وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهَا بِأَنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ أَوَانِ الْحَيْضِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ أَخْبَرَتْهُ بِالْحَيْضِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتُهَا إِنْ صَدَّقَهَا وَإِلاَّ فَلَا، وَإِذَا صَدَّقَهَا وَادَّعَتْ دَوَامَهُ صُدِّقَتْ.
3- مَا يَتَّفِقُ فِيهِ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ مِنْ أَحْكَامٍ وَمَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ:
50- حُكْمُ النِّفَاسِ حُكْمُ الْحَيْضِ فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِ إِلاَّ فِي مَسَائِلَ:
1- الِاعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ دُونَ النِّفَاسِ، لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ، وَالنِّفَاسُ لَيْسَ بِقُرْءٍ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ.
2- حُصُولُ الْبُلُوغِ بِالْحَيْضِ دُونَ النِّفَاسِ حَيْثُ إِنَّ الْبُلُوغَ يَحْصُلُ قَبْلَهُ بِالْحَمْلِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَنْعَقِدُ مِنْ مَائِهِمَا لقوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}.
3- الْحَيْضُ يَكُونُ اسْتِبْرَاءً، بِخِلَافِ النِّفَاسِ.
4- الْحَيْضُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، بِخِلَافِ النِّفَاسِ.
5- احْتِسَابُ الْحَيْضِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ دُونَ النِّفَاسِ.
6- يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ الْفَصْلُ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ بِخِلَافِ النِّفَاسِ.
7- أَقَلُّ الْحَيْضِ مَحْدُودٌ، وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّ النِّفَاسِ، وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشَرَةٌ، أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَأَكْثَرُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ، أَوْ سِتُّونَ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
8-موسوعة الفقه الكويتية (سماد)
سَمَادالتَّعْرِيفُ:
1- السَّمَادُ مَا تُسَمَّدُ بِهِ الْأَرْضُ، مِنْ سَمَّدَ الْأَرْضَ؛ أَيْ أَصْلَحَهَا بِالسَّمَادِ.
وَتَسْمِيدُ الْأَرْضِ: أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا السَّمَادَ.
وَالسَّمَادُ مَا يُطْرَحُ فِي أُصُولِ الزَّرْعِ وَالْخُضَرِ مِنْ تُرَابٍ وَسِرْجِينٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِيَجُودَ نَبَاتُهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
أ- الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ السَّمَادِ وَنَجَاسَتِهِ:
2- الْأَسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ رَجِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا مِنْ غَيْرِ الطُّيُورِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَتِهَا.
أَمَّا الْأَسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، وَهِيَ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ كَالشَّاهِينِ وَالْبَازِي، فَهِيَ نَجِسَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى طَهَارَتِهَا.
أَمَّا الْأَسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ رَجِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُؤْكَلُ لَحْمُهَا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا إِلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ مِنَ الطُّيُورِ أَوْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ طَهَارَةَ سَمَادِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِعَدَمِ أَكْلِهِ لِلنَّجَاسَاتِ، فَإِنْ أَكَلَ نَجِسًا فَسَمَادُهُ نَجِسٌ عِنْدَهُمْ أَيْضًا.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ رَجِيعَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، سَوَاءٌ الْمَأْكُولَةُ لُحُومُهَا أَمْ غَيْرُ الْمَأْكُولَةِ مِنْ طُيُورٍ أَوْ غَيْرِهَا نَجِسٌ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ مَا عَدَا زُفَرَ وَمُحَمَّدًا إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا ذَرْقَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَعَدُّوهُ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ.
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ فِي الْمَسْأَلَةِ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (رَوْث، عَذِرَة، زِبْل، نَجَاسَة).
حُكْمُ التَّسْمِيدِ بِالنَّجَاسَةِ وَالْأَكْلِ مِنْ ثِمَارِ الْأَشْجَارِ الْمُسَمَّدَةِ بِهَا:
3- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الطَّاهِرِ الزَّرْعَ الَّذِي سُقِيَ بِنَجَسٍ أَوْ نَبَتَ مِنْ بَذْرٍ نَجِسٍ وَظَاهِرُهُ نَجَسٌ فَيُغْسَلُ قَبْلَ أَكْلِهِ وَإِذَا سَنْبَلَ فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ قَطْعًا وَلَا حَاجَةَ إِلَى غَسْلِهَا، وَهَكَذَا الْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ وَشَبِيهُهُمَا يَكُونُ طَاهِرًا وَلَا حَاجَةَ إِلَى غَسْلِهِ.وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ رَوْثَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَمْ يُجِيزُوا التَّسْمِيدَ بِأَيٍّ مِنْهُمَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسْمِيدُ بِالنَّجَاسَاتِ، وَالزُّرُوعُ الْمَسْقِيَّةُ بِالنَّجَاسَاتِ لَا تَحْرُمُ وَلَا تُكْرَهُ.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ تَحْرُمُ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: كُنَّا نُكْرِي أَرَاضِيَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَدْمُلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ وَلِأَنَّهُ تُتْرَكُ أَجْزَاءُ النَّبَاتِ بِالنَّجَاسَةِ، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ النَّجِسَ عِنْدَهُمْ.وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُمُ وَلَا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيلُ فِي بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ لَحْمًا وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- يَدْمُلُ أَرْضَهُ بِالْعَرَّةِ وَيَقُولُ: مِكْتَلُ عَرَّةٍ مِكْتَلُ بُرَّةٍ وَالْعَرَّةُ عَذِرَةُ النَّاسِ.ا هـ.
ب- بَيْعُ السَّمَادِ:
4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ السَّمَادِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمَأْكُولَةِ لُحُومُهَا أَمْ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَرِهُوا بَيْعَ الْعَذِرَةِ (رَجِيعِ بَنِي آدَمَ) خَالِصَةً بِخِلَافِ مَا خُلِطَ مِنْهَا بِالتُّرَابِ أَوِ الرَّمَادِ فَلَا كَرَاهَةَ.
وَفَصَّلَ (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا: بِجَوَازِ بَيْعِ الزِّبْلِ وَالسِّرْقِينِ وَالْأَسْمِدَةِ الطَّاهِرَةِ كَخُرْءِ الْحَمَامِ، وَخِثْيِ الْبَقَرِ وَبَعْرِ الْإِبِلِ وَنَحْوِهَا.
أَمَّا الْأَسْمِدَةُ النَّجِسَةُ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا حَيْثُ أَوْرَدُوا فِي بَابِ الْبَيْعِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا هُوَ نَجَاسَةٌ أَصْلِيَّةٌ أَوْ لَا يُمْكِنُ طَهَارَتُهُ كَزِبْلٍ مِنْ غَيْرِ مُبَاحٍ وَذَلِكَ لِاشْتِرَاطِهِمُ الطَّهَارَةَ فِي الْبَيْعِ، لَكِنِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الزِّبْلِ (الْأَسْمِدَةِ) غَيْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ عَذِرَةِ بَنِي آدَمَ وَذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْأَسْمِدَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ نَجَسٌ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ النَّجَسِ سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ تَطْهِيرُهُ كَسِرْجِينٍ وَأَسْمِدَةٍ وَغَيْرِهَا. (ر: نَجَاسَة).
ج- السَّمَادُ فِي الْمُزَارَعَةِ أَوِ الْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِهَا:
5- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الزِّرَاعَةِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكُ يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ تَسْمِيدُ الْأَرْضِ بِالزِّبْلِ، فَشِرَاءُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَمَلِ فَجَرَى مَجْرَى مَا يُلَقَّحُ بِهِ، وَتَفْرِيقُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْعَامِلِ كَالتَّلْقِيحِ.فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ تَأْكِيدًا، أَمَّا إِنْ شُرِطَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْءٌ مِمَّا يَلْزَمُ الْآخَرَ كَاشْتِرَاطِ شِرَاءِ السَّمَادِ عَلَى الْعَامِلِ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَأَفْسَدَهُ كَالْمُضَارَبَةِ إِذَا شُرِطَ الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ قَوْلَهُمْ: كُلُّ شَرْطٍ يَنْتَفِعُ بِهِ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يُفْسِدُهَا كَطَرْحِ السِّرْقِينِ (السَّمَادِ) فِي الْأَرْضِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
9-موسوعة الفقه الكويتية (طهارة 2)
طَهَارَةٌ -2طَهَارَةُ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ:
20- إِذَا تَنَجَّسَتْ الْأَرْضُ بِنَجَاسَةٍ مَائِعَةٍ- كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا- فَتَطْهِيرُهَا أَنْ تُغْمَرَ بِالْمَاءِ بِحَيْثُ يَذْهَبُ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا، وَمَا انْفَصَلَ عَنْهَا غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ بِهَا فَهُوَ طَاهِرٌ.
بِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةٍ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ» وَفِي لَفْظٍ فَدَعَاهُ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذِرِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» وَأَمَرَ رَجُلًا فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالذَّنُوبِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَغْمُرُ الْبَوْلَ، وَيُسْتَهْلَكُ فِيهِ الْبَوْلُ وَإِنْ أَصَابَ الْأَرْضَ مَاءُ الْمَطَرِ أَوِ السُّيُولُ فَغَمَرَهَا وَجَرَى عَلَيْهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ صَبَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةٌ وَلَا فِعْلٌ، فَاسْتَوَى مَا صَبَّهُ الْآدَمِيُّ وَمَا جَرَى بِغَيْرِ صَبِّهِ.
وَلَا تَطْهُرُ الْأَرْضُ حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرَائِحَتُهَا، وَلِأَنَّ بَقَاءَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَزُولُ لَوْنُهَا إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ سَقَطَ عَنْهُ إِزَالَتُهَا كَالثَّوْبِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الرَّائِحَةِ.
وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ أَرْضًا رَخْوَةً فَيُصَبُّ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَتَطْهُرُ، لِأَنَّهَا تُنَشِّفُ الْمَاءَ، فَيَطْهُرُ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهَا، ثُمَّ تُكْبَسُ الْحَفِيرَةُ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا الْغُسَالَةُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْض ف 3).
مَا تَطْهُرُ بِهِ الْأَرْضُ سِوَى الْمِيَاهِ:
21- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ إِذَا أَصَابَهَا نَجِسٌ، فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ أَوِ الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَذَهَبَ أَثَرُهُ طَهُرَتْ وَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا أَرْضٍ جَفَّتْ فَقَدْ ذَكَتْ».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِغَيْرِ الْمَاءِ، لِأَمْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ ذَنُوبُ مَاءٍ، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَلَمْ يَطْهُرْ بِغَيْرِ الْغَسْلِ.
طَهَارَةُ النَّجَاسَةِ بِالِاسْتِحَالَةِ:
22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا صَارَتْ طَاهِرَةً.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيل ف 13، 14).
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا الْخَمْرَ مِنْ نَجِسِ الْعَيْنِ هَلْ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالِاسْتِحَالَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا» لِأَكْلِهَا النَّجَاسَةَ، وَلَوْ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ.
قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَلَا يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالْغَسْلِ مُطْلَقًا، وَلَا بِالِاسْتِحَالَةِ، كَمَيْتَةٍ وَقَعَتْ فِي مَلاَّحَةٍ فَصَارَتْ مِلْحًا، أَوْ أُحْرِقَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا.
وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَلَا تَطْهُرُ نَجَاسَةٌ بِنَارٍ، فَالرَّمَادُ مِنَ الرَّوْثِ النَّجِسِ نَجِسٌ وَصَابُونٌ عُمِلَ مِنْ زَيْتٍ نَجِسٍ نَجِسٌ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ كَلْبٌ فِي مَلاَّحَةٍ فَصَارَ مِلْحًا، أَوْ فِي صَبَّانَةٍ فَصَارَ صَابُونًا.
لَكِنْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَحَوَّلَتِ الْعَلَقَةُ إِلَى مُضْغَةٍ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ طَاهِرَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نَجِسَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا بِصَيْرُورَتِهَا عَلَقَةً، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَادَتْ إِلَى أَصْلِهَا، كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجَاسَةِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَتَنْتَفِي الْحَقِيقَةُ بِانْتِفَاءِ بَعْضِ أَجْزَاءِ مَفْهُومِهَا، فَكَيْفَ بِالْكُلِّ؟.
وَنَظِيرُهُ فِي الشَّرْعِ النُّطْفَةُ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ عَلَقَةً وَهِيَ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ مُضْغَةً فَتَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ فَيَصِيرُ خَمْرًا فَيَنْجُسُ، وَيَصِيرُ خَلًّا فَيَطْهُرُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَالَ الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا اسْتَحَالَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ بِالنَّارِ، أَوْ زَالَ أَثَرُهَا بِهَا يَطْهُرُ.
كَمَا تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ عِنْدَهُمْ بِانْقِلَابِ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَمِنْ تَفْرِيعَاتِ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمُجْتَبَى أَنَّهُ إِنْ جُعِلَ الدُّهْنُ النَّجِسُ فِي صَابُونٍ يُفْتَى بِطَهَارَتِهِ، لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ، وَالتَّغَيُّرُ يُطَهِّرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَيُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى، وَعَلَيْهِ يَتَفَرَّعُ مَا لَوْ وَقَعَ إِنْسَانٌ أَوْ كَلْبٌ فِي قِدْرِ الصَّابُونِ فَصَارَ صَابُونًا يَكُونُ طَاهِرًا لِتَبَدُّلِ الْحَقِيقَةِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْعِلَّةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ التَّغَيُّرُ وَانْقِلَابُ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّهُ يُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى، وَمُقْتَضَاهُ: عَدَمُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالصَّابُونِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ تَغَيُّرٌ وَانْقِلَابٌ حَقِيقَةً، وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى عَامَّةٌ.
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا تَحَجَّرَتْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، لِزَوَالِ الْإِسْكَارِ مِنْهَا، وَأَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّارَ تَطْهُرُ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: سَوَاءٌ أَكَلَتِ النَّارُ النَّجَاسَةَ أَكْلًا قَوِيًّا أَوْ لَا، فَالْخُبْزُ الْمَخْبُوزُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ طَاهِرٌ وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّمَادِ، وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ قَبْلَ غَسْلِ الْفَمِ مِنْ أَكْلِهِ، وَيَجُوزُ حَمْلُهُ فِي الصَّلَاةِ.
مَا يَطْهُرُ مِنَ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغَةِ:
23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ جُلُودِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانَاتِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ: (دِبَاغَة ج 20 ف 8 وَمَا بَعْدَهَا).
تَطْهِيرُ الْخُفِّ مِنَ النَّجَاسَةِ:
24- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتْ أَسْفَلَ الْخُفِّ أَوِ النَّعْلِ نَجَاسَةٌ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِغَسْلِهِ، وَلَا يُجْزِئُ لَوْ دَلَكَهُ كَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ رَطْبَةً أَوْ جَافَّةً، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَةِ الْجَافَّةِ إِذَا دُلِكَتْ، أَصَحُّهُمَا: الْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَغْسِلَهُ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهِ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ؛ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا».
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ وَهُوَ الْعَفْوُ فَلَهُ شُرُوطٌ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلنَّجَاسَةِ جِرْمٌ يَلْتَصِقُ بِالْخُفِّ، أَمَّا الْبَوْلُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَكْفِي دَلْكُهُ بِحَالٍ.
الثَّانِي: أَنْ يَدْلُكَهُ فِي حَالِ الْجَفَافِ، وَأَمَّا مَا دَامَ رَطْبًا فَلَا يَكْفِي دَلْكُهُ قَطْعًا.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُصُولُ النَّجَاسَةِ بِالْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَلَوْ تَعَمَّدَ تَلْطِيخَ.الْخُفِّ بِهَا وَجَبَ الْغَسْلُ قَطْعًا.
وَنَقَلَ الْبُهُوتِيُّ عَنِ الْإِنْصَافِ أَنَّ يَسِيرَ النَّجَاسَةِ إِذَا كَانَتْ عَلَى أَسْفَلِ الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ بَعْدَ الدَّلْكِ يُعْفَى عَنْهُ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الْخُفَّ نَجَاسَةٌ لَهَا جِرْمٌ، كَالرَّوْثِ وَالْعَذِرَةِ، فَجَفَّتْ، فَدَلَكَهُ بِالْأَرْضِ جَازَ، وَالرَّطْبُ وَمَا لَا جِرْمَ لَهُ كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلاَّ الْغَسْلُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُ الْمَسْحُ فِيهِمَا إِلاَّ الْبَوْلَ وَالْخَمْرَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ فِيهِمَا إِلاَّ الْغُسْلُ كَالثَّوْبِ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ إِطْلَاقُ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَصَابَ خُفَّ أَحَدِكُمْ أَوْ نَعْلَهُ أَذًى فَلْيَدْلُكْهُمَا فِي الْأَرْضِ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ طَهُورٌ لَهُمَا» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَالْمُتَجَسِّدِ وَغَيْرِهِ، وَلِلضَّرُورَةِ الْعَامَّةِ.وَلِأَبِي حَنِيفَةَ هَذَا الْحَدِيثُ.إِلاَّ أَنَّ الرَّطْبَ إِذَا مُسِحَ بِالْأَرْضِ يَتَلَطَّخُ بِهِ الْخُفُّ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ، فَلَا يُطَهِّرُهُ بِخِلَافِ الْيَابِسِ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ لَا يَتَدَاخَلُهُ إِلاَّ شَيْءٌ يَسِيرٌ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالْخَمْرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُجْتَذَبُ مِثْلُ مَا عَلَى الْخُفِّ، فَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ، حَتَّى لَوْ لَصِقَ عَلَيْهِ طِينٌ رَطْبٌ فَجَفَّ، ثُمَّ دَلَكَهُ جَازَ، كَاَلَّذِي لَهُ جِرْمٌ، وَبِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُتَخَلَّلٌ فَتَتَدَاخَلُهُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ، فَلَا تَزُولُ بِالْمَسْحِ، فَيَجِبُ الْغَسْلُ.
وَلِمُحَمَّدٍ الْقِيَاسُ عَلَى الثَّوْبِ وَالْبِسَاطِ، بِجَامِعِ أَنَّ النَّجَاسَةَ تَدَاخَلَتْ فِي الْخُفِّ تَدَاخُلَهَا فِيهِمَا.
قَالَ الْكَمَالُ: وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: وَهُوَ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِلضَّرُورَةِ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَإِذَا أَصَابَ الْخُفَّ شَيْءٌ مِنْ رَوْثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ إِنْ دُلِكَ بِتُرَابٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ نَحْوِهِ حَتَّى زَالَتِ الْعَيْنُ، وَكَذَا إِنْ جَفَّتِ النَّجَاسَةُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يُخْرِجُهُ الْغُسْلُ سِوَى الْحُكْمِ.
وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْعَفْوَ بِأَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ الْخُفِّ أَوِ النَّعْلِ بِالنَّجَاسَةِ بِمَوْضِعٍ يَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا- كَالطُّرُقِ- لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ نَقْلًا عَنِ الْبُنَانِيِّ: وَهَذَا الْقَيْدُ نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَالظَّاهِرُ اعْتِبَارُهُ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ لِتَعْلِيلِهِ بِالْمَشَقَّةِ، كَمَا ذَكَرَ خَلِيلٌ أَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا هُوَ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ بِمَوْضِعٍ لَا تَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا وَلَوْ دَلْكًا.
وَإِنْ أَصَابَ الْخُفَّ أَوِ النَّعْلَ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَاتِ غَيْرِ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، كَخُرْءِ الْكِلَابِ أَوْ فَضْلَةِ الْآدَمِيِّ أَوْ دَمٍ، فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ.
قَالَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: وَالْعِلَّةُ نُدُورُ ذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ، فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِيهَا صَارَ كَرَوْثِ الدَّوَابِّ.
تَطْهِيرُ مَا تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ مِنْ مَلَابِسِ النِّسَاءِ فِي الطُّرُقِ:
25- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ ذَيْلُ ثَوْبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْبَدَنِ، وَلَا يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَرْضِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ ذَيْلَ ثَوْبِ الْمَرْأَةِ الْيَابِسِ مِنَ النَّجَاسَةِ إِذَا مَرَّتْ بَعْدَ الْإِصَابَةِ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَابِسٍ، سَوَاءٌ كَانَ أَرْضًا أَوْ غَيْرَهُ.
وَقَيَّدُوا هَذَا الْعَفْوَ بِعِدَّةِ قُيُودٍ هِيَ:
أ- أَنْ يَكُونَ الذَّيْلُ يَابِسًا وَقَدْ أَطَالَتْهُ لِلسَّتْرِ، لَا لِلزِّينَةِ وَالْخُيَلَاءِ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا تُطِيلُهُ لِلسَّتْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ لَابِسَةٍ لِخُفٍّ أَوْ جَوْرَبٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ لَابِسَةً لَهُمَا فَلَا عَفْوَ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ زِيِّهَا أَمْ لَا.
ب- وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي أَصَابَتْ ذَيْلَ الثَّوْبِ مُخَفَّفَةٌ جَافَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَالطِّينِ.
ج- وَأَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَمُرُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ طَاهِرًا يَابِسًا.
التَّطْهِيرُ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ وَبَوْلِ الْجَارِيَةِ:
26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ وَبَوْلِ الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَيْنِ أَكَلَا أَوْ لَا، يَكُونُ بِغَسْلِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ».
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَطْعَمِ الطَّعَامَ النَّضْحُ، وَيَكُونُ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَى الْمَكَانِ الْمُصَابِ وَغَمْرِهِ بِهِ بِلَا سَيَلَانٍ، فَقَدْ «رَوَتْ أُمُّ قَيْسِ بِنْتُ مُحْصَنٍ- رضي الله عنها- أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ» أَمَّا بَوْلُ الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ فَلَا يُجْزِئُ فِي تَطْهِيرِهِ النَّضْحُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْغَسْلِ، لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ «يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ، وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ»، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ الِائْتِلَافَ بِحَمْلِ الصَّبِيِّ يَكْثُرُ، فَيُخَفَّفُ فِي بَوْلِهِ، وَبِأَنَّ بَوْلَهُ أَرَقُّ مِنْ بَوْلِهَا، فَلَا يَلْصَقُ بِالْمَحَلِّ كَلَصْقِ بَوْلِهَا بِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ: الصَّبِيُّ إِذَا طَعِمَ الطَّعَامَ وَأَرَادَهُ وَاشْتَهَاهُ غُسِلَ بَوْلُهُ، وَلَيْسَ إِذَا طَعِمَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَلْعَقُ الْعَسَلَ، وَمَا يَطْعَمُهُ لِغِذَائِهِ وَهُوَ يُرِيدُهُ وَيَشْتَهِيهِ يُوجِبُ الْغَسْلَ (ر: أُنُوثَة ف 16).
تَطْهِيرُ أَوَانِي الْخَمْرِ:
27- الْأَصْلُ فِي تَطْهِيرِ أَوَانِي الْخَمْرِ هُوَ غَسْلُهَا، بِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِيمَا كَانَ مُزَفَّتًا مِنَ الْآنِيَةِ.
وَفِي هَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا ثَلَاثًا بِحَيْثُ لَا تَبْقَى فِيهَا رَائِحَةُ الْخَمْرِ وَلَا أَثَرُهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ رَائِحَتُهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَائِعَاتِ سِوَى الْخَلِّ؛ لِأَنَّهُ بِجَعْلِهِ فِيهَا تَطْهُرُ وَإِنْ لَمْ تُغْسَلْ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْخَمْرِ يَتَخَلَّلُ بِالْخَلِّ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: الْكُوزُ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْرٌ تَطْهِيرُهُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ الْمَاءُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلَّ مَرَّةٍ سَاعَةً، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطْهُرُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا زَالَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ، وَيُنْدَبُ غَسْلُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».
فَنُدِبَ إِلَى الثَّلَاثِ لِلشَّكِّ فِي النَّجَاسَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ إِذَا تَيَقَّنَ وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَالْغَسْلُ الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُكَاثِرَ بِالْمَاءِ حَتَّى تُسْتَهْلَكَ النَّجَاسَةُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ: فِي طَهَارَةِ الْفَخَّارِ مِنْ نَجِسِ غَوَّاصٍ كَالْخَمْرِ قَوْلَانِ، قَالَ الْمَوَّاقُ نَقْلًا عَنِ النَّوَادِرِ فِي أَوَانِي الْخَمْرِ: تُغْسَلُ وَيُنْتَفَعُ بِهَا، وَلَا تَضُرُّهَا الرَّائِحَةُ.وَتَطْهُرُ أَوَانِيهِ إِذَا تَحَجَّرَتِ الْخَمْرُ فِيهَا أَوْ خُلِّلَتْ، وَيَطْهُرُ إِنَاؤُهَا تَبَعًا لَهَا وَلَوْ فَخَّارًا بِغَوَّاصٍ.
وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي الْإِنَاءِ خَمْرٌ يَتَشَرَّبُهَا الْإِنَاءُ، ثُمَّ مَتَى جُعِلَ فِيهِ مَائِعٌ، سَوَاءٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ أَوْ لَوْنُهُ، لَمْ يَطْهُرْ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يَسْتَأْصِلُ أَجْزَاءَهُ مِنْ جِسْمِ الْإِنَاءِ، فَلَمْ يُطَهِّرْهُ.كَالسِّمْسِمِ إِذَا ابْتَلَّ بِالنَّجَاسَةِ، قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ: آنِيَةُ الْخَمْرِ مِنْهَا الْمُزَفَّتُ، فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الزِّفْتَ يَمْنَعُ وُصُولَ النَّجَاسَةِ إِلَى: جِسْمِ الْإِنَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِمُزَفَّتٍ، فَيَتَشَرَّبُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ، فَلَا يَطْهُرُ بِالتَّطْهِيرِ، فَإِنَّهُ مَتَى تُرِكَ فِيهِ مَائِعٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ وَلَوْنُهُ.
تَطْهِيرُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ وَمَلَابِسِهِمْ:
28- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ فِي آنِيَةِ الْكُفَّارِ: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ لِأَنَّ سُؤْرَهُمْ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ اللُّعَابُ، وَقَدْ تَوَلَّدَ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ، فَيَكُونُ طَاهِرًا، فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا مُشْرِكِينَ».
وَلَوْ كَانَ عَيْنُ الْمُشْرِكِ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ: وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّجَسُ فِي الْعَقِيدَةِ، فَمَتَى تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى مَا تَنَجَّسَ مِنْ أَوَانِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَسْلٍ وَغَيْرِهِ، إِذْ لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ، وَلَا يُكْرَهُ مِنْهَا إِلاَّ السَّرَاوِيلُ الْمُتَّصِلَةُ بِأَبْدَانِهِمْ لِاسْتِحْلَالِهِمُ الْخَمْرَ، وَلَا يَتَّقُونَهَا كَمَا لَا يَتَوَقَّوْنَ النَّجَاسَةَ وَالتَّنَزُّهَ عَنْهَا، فَلَوْ أَمِنَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لَهَا وَكَانَ التَّأَكُّدُ مِنْ طَهَارَتِهَا قَائِمًا، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لُبْسُهَا، وَإِذَا تَنَجَّسَتْ جَرَى عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى تَطْهِيرِ مَلَابِسِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا تُصِيبُهَا نَجَاسَةٌ، سَوَاءٌ بِالْغَسْلِ أَوْ غَيْرِهِ.
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِعْمَالَ أَوَانِيَهُمْ وَثِيَابَهُمْ لِمَا «رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلاَّ أَنْ لَا تَجِدُوا بُدًّا، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا».وَلِأَنَّهُمْ لَا يَتَجَنَّبُونَ النَّجَاسَةَ فَكُرِهَ لِذَلِكَ.
فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ أَوَانِيهِمْ نُظِرَتْ: فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ صَحَّ الْوُضُوءُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» وَتَوَضَّأَ عُمَرُ- رضي الله عنه- مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيٍّ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ.
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ الْوُضُوءُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ، وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ كَمَا يَتَدَيَّنُ.
الْمُسْلِمُونَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ أَوَانِيهِمْ وَثِيَابِهِمُ النَّجَاسَةُ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ اسْتِعْمَالَ أَوَانِيهِمْ إِلاَّ إِذَا تَيَقَّنَ عَدَمَ طَهَارَتِهَا، وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَسْتَنْجُونَ وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنَ النَّجَاسَاتِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةَ، فَإِذَا تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِزَوَالِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَهُ صِفَةُ الطَّهُورِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِمَلَابِسِهِمْ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ مَا لَمْ يُصِبْهَا النَّجِسُ، وَلِذَا لَا يُصَلَّى فِي مَلَابِسِهِمْ أَيْ مَا يَلْبَسُونَهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهَا، فَحُمِلَ عَلَيْهَا عِنْدَ الشَّكِّ: أَمَّا إِنْ عُلِمَتْ أَوْ ظُنَّتْ طَهَارَتُهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى فِيهَا.
وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ فِي ثِيَابِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ مُبَاحَةُ الِاسْتِعْمَالِ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، وَأَضَافُوا: إِنَّ الْكُفَّارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ- أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ- فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَيُبَاحُ أَكْلُ طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَاسْتِعْمَالِ آنِيَتِهِمْ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ- رضي الله عنه- قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا.قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُتَبَسِّمًا».
وَرَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَضَافَهُ يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ»، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.
وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ- وَهُمُ الْمَجُوس وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَنَحْوُهُمْ- وَمَنْ يَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُمْ أَكْلُهُ، أَوْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، أَوْ يَذْبَحُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ فَحُكْمُ ثِيَابِهِمْ حُكْمُ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَأَمَّا أَوَانِيهِمْ فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: حُكْمُهَا حُكْمُ أَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ، يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهَا مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهَا، «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ.
وَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ نَجِسَةٌ، لَا يُسْتَعْمَلُ مَا اسْتَعْمَلُوهُ مِنْهَا إِلاَّ بَعْدَ غَسْلِهِ، لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِأَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ، فَتَتَنَجَّسُ بِهَا وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ: لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَعَامِهِمْ إِلاَّ الْفَاكِهَةُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَةُ آنِيَتِهِمُ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي أَطْعِمَتِهِمْ، وَمَتَى شَكَّ فِي الْإِنَاءِ هَلْ اسْتَعْمَلُوهُ أَمْ لَا؟ فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ.
تَطْهِيرُ الْمَصْبُوغِ بِنَجِسٍ:
29- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمَصْبُوغَ بِنَجِسٍ يَطْهُرُ بِغُسْلِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: يُغْسَلُ حَتَّى يَصِيرَ الْمَاءُ صَافِيًا، وَقِيلَ: يُغْسَلُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ حَتَّى يَزُولَ طَعْمُ النَّجِسِ، وَمَتَى زَالَ طَعْمُهُ فَقَدْ طَهُرَ وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ لَوْنِهِ وَرِيحِهِ.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: يُغْسَلُ حَتَّى يَنْفَصِلَ النَّجِسُ مِنْهُ وَلَمْ يَزِدِ الْمَصْبُوغُ وَزْنًا بَعْدَ الْغَسْلِ عَلَى وَزْنِهِ قَبْلَ الصَّبْغِ، وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لِعُسْرِ زَوَالِهِ، فَإِنْ زَادَ وَزْنُهُ ضَرَّ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ لِتَعَقُّدِهِ بِهِ لَمْ يَطْهُرْ، لِبَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهِ.
وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- فِي الدَّمِ: «وَلَا يَضُرُّكَ أَثَرُهُ».
رَمَادُ النَّجِسِ الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ:
30- الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبِهِ يُفْتَى، وَالْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ: أَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ طَاهِرٌ، فَيَطْهُرُ بِالنَّارِ الْوَقُودُ الْمُتَنَجِّسُ وَالسِّرْقِينُ وَالْعَذِرَةُ تَحْتَرِقُ فَتَصِيرُ رَمَادًا تَطْهُرُ، وَيَطْهُرُ مَا تَخَلَّفَ عَنْهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَمَاد ج 23، ف 3).
تَطْهِيرُ مَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ:
31- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اللَّحْمِ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ، هَلْ يَطْهُرُ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- عَدَا أَبِي يُوسُفَ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِذَا صَبَّ الطَّبَّاخُ فِي الْقِدْرِ مَكَانَ الْخَلِّ خَمْرًا غَلَطًا، فَالْكُلُّ نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُغْلَى ثَلَاثًا لَا يُؤْخَذُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ مِنْ مَاءٍ، أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ حَالَ طَبْخِهِ قَبْلَ نُضْجِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، أَمَّا إِنْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ بَعْدَ نُضْجِهِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْسِلَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَرَقِ.
وَقَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ تَطُلْ إِقَامَةُ النَّجَاسَةِ فِيهِ، بِحَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهَا سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ طَهَارَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغْسَلُ ثُمَّ يُعْصَرُ كَالْبِسَاطِ، الثَّانِي: يُشْتَرَطُ أَنْ يَغْلِيَ بِمَاءٍ طَهُورٍ.وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِوُجُوبِ السَّقْي مَرَّةً ثَانِيَةً وَالْغَلْيِ، وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الِاكْتِفَاءَ بِالْغُسْلِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْفَخَّارِ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، هَلْ يَطْهُرُ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَخَّارَ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ لَا يَطْهُرُ.
وَنَقَلَ الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْبُنَانِيِّ أَنَّ الْفَخَّارَ الْبَالِيَ إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةُ غَوَّاصَةٍ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ هُوَ الْفَخَّارُ الَّذِي لَمْ يُسْتَعْمَلْ قَبْلَ حُلُولِ الْغَوَّاصِ فِيهِ، أَوِ اسْتُعْمِلَ قَلِيلًا، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِثْلَ الْفَخَّارِ أَوَانِي الْخَشَبِ الَّذِي يُمْكِنُ سَرَيَانُ النَّجَاسَةِ إِلَى دَاخِلِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْخَزَفِ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ ثَلَاثًا، وَيُجَفَّفَ كُلَّ مَرَّةٍ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقْيَسُ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْسَعُ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بَاطِنُ حَبٍّ تَشَرَّبَ النَّجَاسَةَ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ طُبِخَتِ الْحِنْطَةُ فِي الْخَمْرِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُطْبَخُ ثَلَاثًا بِالْمَاءِ وَتُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا طُبِخَتْ فِي الْخَمْرِ لَا تَطْهُرُ أَبَدًا، وَبِهِ يُفْتَى، إِلاَّ إِذَا صُبَّ فِيهِ الْخَلُّ، وَتُرِكَ حَتَّى صَارَ الْكُلُّ خَلًّا.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّيْتُونَ الَّذِي مُلِّحَ بِنَجِسٍ، بِأَنْ جُعِلَ عَلَيْهِ مِلْحٌ نَجِسٌ يُصْلِحُهُ، إِمَّا وَحْدَهُ أَوْ مَعَ مَاءٍ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ بَعْدَ تَمْلِيحِهِ وَاسْتِوَائِهِ، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْجُبْنِ وَاللَّيْمُونِ وَالنَّارِنْجِ وَالْبَصَلِ وَالْجَزَرِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ، وَمَحَلُّ عَدَمِ الضَّرَرِ إِذَا لَمْ تَمْكُثِ النَّجَاسَةُ مُدَّةً يُظَنُّ أَنَّهَا سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْضَ الَّذِي سُلِقَ بِنَجِسٍ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمَسْلُوقُ فِيهِ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ أَمْ لَا.
وَقَالَ الْبُنَانِيِّ: الظَّاهِرُ- كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ- أَنَّ الْمَاءَ إِذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، ثُمَّ سُلِقَ فِيهِ الْبَيْضُ، فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُهُ، حَيْثُ إِنَّ الْمَاءَ حِينَئِذٍ طَهُورٌ وَلَوْ قَلَّ عَلَى الْمَشْهُورِ.
أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ عَلَى الْبَيْضِ الْمَسْلُوقِ نَجَاسَةٌ بَعْدَ سَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ شُوِيَ الْبَيْضُ الْمُتَنَجِّسُ قِشْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّبِنَ الْمُخْتَلِطَ بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ- كَالرَّوْثِ وَعِظَامِ الْمَيْتَةِ- نَجِسٌ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهِ لِعَيْنِ النَّجَاسَةِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ طُبِخَ فَالْمَذْهَبُ- وَهُوَ الْجَدِيدُ- أَنَّهُ عَلَى نَجَاسَتِهِ.أَمَّا اللَّبِنُ غَيْرُ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ، بِأَنْ نَجِسَ بِسَبَبِ عَجْنِهِ بِمَاءٍ نَجِسٍ أَوْ بَوْلٍ، فَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَيَطْهُرُ بَاطِنُهُ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ عَجِينٌ تَنَجَّسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
10-موسوعة الفقه الكويتية (نجاسة 3)
نَجَاسَةٌ -3بَيْعُ النَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ:
43- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ النَّجِسِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي هَذَا قَالُوا: إِنَّ بَيْعَ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِهَانَةً لَهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَجَازُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ لِلْخَرَزِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ
كَمَا لَمْ يُجِيزُوا بَيْعَ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ لِأَنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ بِالدِّبَاغِ، أَمَّا قَبْلَ الدِّبَاغِ فَهِيَ نَجِسَةٌ
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسَّبُعِ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَالًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ»
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا».
وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمُوجِبِ الْبَيْعَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مُحْتَاجُونَ إِلَى مُبَاشَرَتِهَا كَالْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ خَاصَّةً فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَصِيرِ وَعَقْدَهُمْ عَلَى الْخِنْزِيرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الشَّاةِ، لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ- رضي الله عنه-: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَّاتِ إِذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْأَدْوِيَةِ وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ فَلَا يَجُوزُ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الدُّهْنِ النَّجِسِ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِلِاسْتِصْبَاحِ فَهُوَ كَالسِّرْقِينِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ، وَأَمَّا الْعَذِرَةُ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا إِلاَّ إِذَا خُلِطَتْ بِالتُّرَابِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إِلاَّ تَبَعًا لِلتُّرَابِ الْمَخْلُوطِ، بِخِلَافِ الدَّمِ يُمْنَعُ مُطْلَقًا
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ لَدَيْهِمْ إِلَى أَنَّ الْمُتَنَجِّسَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمَا لَا يَقْبَلُهُ كَالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَفِي أَسْهَلِ الْمَدَارِكِ عَنِ الْخَرَشِيِّ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ وَالْمَأْخُوذِ مِنَ الْحَيِّ نَجِسٌ، وَلَوْ دُبِغَ عَلَى الْمَشْهُورِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَلَا يُؤَثِّرُ دَبْغُهُ طَهَارَةً فِي ظَاهِرِهِ وَلَا بَاطِنِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ طَهَارَةُ عَيْنِهِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ نَجِسِ الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ أَمْ لَا كَالسِّرْجِينِ وَالْكَلْبِ وَلَوْ مُعَلَّمًا وَالْخَمْرِ وَلَوْ مُحْتَرَمَةً، لِخَبَرِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم-: «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ» وَقَالَ كَذَلِكَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ» وَقِيسَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهُ.
وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَالصَّبْغِ وَالْآجُرِّ الْمَعْجُونِ بِالزِّبْلِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَجِسِ الْعَيْنِ، أَمَّا مَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِإِمْكَانِ طُهْرِهِ
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: وَفْقُ ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ تَحْرِيمُ بَيْعِ النَّجِسِ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى فِي الزَّيْتِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ: لُتُّوهُ بِالسَّوِيقِ وَبِيعُوهُ وَلَا تَبِيعُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَبَيِّنُوهُ.
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً؛ أَنَّهُ يُبَاعُ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ بِنَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ وَيَسْتَبِيحُونَ أَكْلَهُ.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ وَلَا يَجُوزُ لَنَا بَيْعُهُ لَهُمْ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ
الِانْتِفَاعُ بِالنَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ دُونَ تَطْهِيرٍ:
44- ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْفَتْحِ يَقُولُ وَهُوَ بِمَكَّةَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ.فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا.هُوَ حَرَامٌ»
كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ وَلِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِمُتَنَجِّسٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ كَزَيْتٍ وَلَبَنٍ وَخَلٍّ وَنَبِيذٍ، أَمَّا النَّجِسُ وَهُوَ مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً كَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، إِلاَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ الدَّبْغِ فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ، أَوْ مَيْتَةً تُطْرَحُ لِكِلَابٍ إِذْ طَرْحُ الْمَيْتَةِ لِلْكِلَابِ فِيهِ انْتِفَاعٌ لِتَوْفِيرِ مَا كَانَتْ تَأْكُلُهُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِهَا، أَوْ شَحْمَ مَيْتَةٍ لِدُهْنِ عِجْلَةٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ عَظْمَ مَيْتَةٍ لِوَقُودٍ عَلَى طُوبٍ أَوْ حِجَارَةٍ لِتَصِيرَ جِيرًا، أَوْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ كَإِسَاغَةِ غُصَّةٍ بِخَمْرٍ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ، وَكَأَكْلِ مَيْتَةٍ لِمُضْطَرٍّ، أَوْ جَعْلَ عَذِرَةٍ بِمَاءٍ لِسَقْيِ الزَّرْعِ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لَا فِيهِ، فَلَا يُوقَدُ بِزَيْتٍ تَنَجَّسَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمِصْبَاحُ خَارِجَهُ وَالضَّوْءُ فِيهِ فَيَجُوزُ، وَلَا يُبْنَى بِالْمُتَنَجِّسِ فَإِنْ بُنِيَ بِهِ لَا يُهْدَمُ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَفِي غَيْرِ أَكْلِ وَشُرْبِ آدَمِيٍّ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْآدَمِيِّ أَكْلُ وَشُرْبُ الْمُتَنَجِّسِ لِتَنْجِيسِهِ جَوْفَهُ وَعَجْزِهِ عَنْ تَطْهِيرِهِ، وَلَا يُدْهَنُ بِهِ، إِلاَّ أَنَّ الِادِّهَانَ بِهِ مَكْرُوهٌ عَلَى الرَّاجِحِ إِنْ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُ بِهِ النَّجَاسَةَ، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الْمَسْجِدِ وَأَكْلِ الْآدَمِيِّ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ وَيُعْمَلَ بِهِ صَابُونٌ، ثُمَّ تُغْسَلَ الثِّيَابُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْغَسْلِ بِهِ، وَيُدْهَنَ بِهِ حَبْلٌ وَعَجَلَةٌ وَسَاقِيَةٌ وَيُسْقَى بِهِ وَيُطْعَمَ لِلدَّوَابِّ
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ كَاسْتِعْمَالِ الْإِنَاءِ مِنَ الْعَظْمِ النَّجِسِ، وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَإِيقَادُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ لَكِنْ يُكْرَهُ
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الِاسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ إِبَاحَتُهُ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَمَرَ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، لِحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ»
وَفِي إِبَاحَةِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ قَالُوا: إِنَّهُ زَيْتٌ أُمْكِنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَجَازَ كَالطَّاهِرِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْعَجِينِ الَّذِي عُجِنَ بِمَاءٍ مِنْ آبَارِ ثَمُودَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ وَهَذَا الزَّيْتُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ شُحُومِهَا فَيَتَنَاوَلُهُ الْخَبَرُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَصْبَحُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمَسُّهُ وَلَا تَتَعَدَّى نَجَاسَتُهُ إِلَيْهِ.
وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ تُدْهَنَ بِهَا الْجُلُودُ وَقَالَ: يُجْعَلُ مِنْهُ الْأَسْقِيَةُ وَالْقِرَبُ.
وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تُدْهَنُ بِهِ الْجُلُودُ، وَعَجِبَ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا وَقَالَ: إِنَّ فِي هَذَا لَعَجَبًا! ! شَيْءٌ يُلْبَسُ يُطَيَّبُ بِشَيْءٍ فِيهِ مَيْتَةٌ؟! ! فَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ: كُلُّ انْتِفَاعٍ يُفْضِي إِلَى تَنْجِيسِ إِنْسَانٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إِلَى ذَلِكَ جَازَ، فَأَمَّا أَكْلُهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» وَلِأَنَّ النَّجِسَ خَبِيثٌ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْخَبَائِثَ.
فَأَمَّا شُحُومُ الْمَيْتَةِ وَشَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِاسْتِصْبَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَلَا الْجُلُودُ، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ».
وَإِذَا اسْتُصْبِحَ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَدُخَانُهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ جُزْءٌ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تَطْهُرُ، فَإِنْ عَلِقَ بِشَيْءٍ وَكَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ.
اسْتِعْمَالُ مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ:
45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِ مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ الْغَسْلِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِيهَا قَبْلَ الْغَسْلِ جَازَ، وَلَا يَكُونُ آكِلًا وَشَارِبًا حَرَامًا.وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِنَجَاسَةِ الْأَوَانِي، فَأَمَّا إِذَا عَلِمَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَبَ وَيَأْكُلَ مِنْهَا قَبْلَ الْغَسْلِ، وَلَوْ شَرِبَ أَوْ أَكَلَ كَانَ شَارِبًا وَآكِلًا حَرَامًا، وَهُوَ نَظِيرُ سُؤْرِ الدَّجَاجَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مِنْقَارِهَا نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ.
وَالصَّلَاةُ فِي سَرَاوِيلِ الْمُشْرِكِينَ نَظِيرُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ أَوَانِيهِمْ: إِنْ عَلِمَ أَنَّ سَرَاوِيلَهُمْ نَجِسَةٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَلَوْ صَلَّى يَجُوزُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى فَرْضٌ أَوْ نَفْلٌ بِلِبَاسِ كَافِرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، كِتَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، بَاشَرَ جِلْدَهُ أَوْ لَمْ يُبَاشِرْهُ، كَانَ مِمَّا الشَّأْنُ أَنْ تَلْحَقَهُ النَّجَاسَةُ كَالذَّيْلِ وَمَا حَاذَى الْفَرْجَ، أَوْ لَا كَعِمَامَتِهِ وَالشَّالِ، جَدِيدًا أَوْ لَا، إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ أَوْ تُظَنَّ طَهَارَتُهُ، بِخِلَافِ نَسْجِهِ أَيْ مَنْسُوجِ الْكَافِرِ، فَيُصَلَّى فِيهِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهُ أَوْ تُظَنَّ لِحَمْلِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَكَذَا سَائِرُ صَنَائِعِهِ يُحْمَلُ فِيهَا عَلَى الطَّهَارَةِ عِنْدَ الشَّكِّ- وَلَوْ صَنَعَهَا فِي بَيْتِ نَفْسِهِ- خِلَافًا لِابْنِ عَرَفَةَ.
وَيَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى بِمَا يَنَامُ فِيهِ مُصَلٍّ آخَرُ، أَيْ غَيْرُ مُرِيدِ الصَّلَاةِ بِهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهُ بِمَنِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْ يَظُنَّ أَنَّ مَنْ يَنَامُ فِيهِ مُحْتَاطٌ فِي طَهَارَتِهِ، وَإِلاَّ صَلَّى فِيهِ، وَكَذَا يُصَلَّى فِيهِ إِذَا أَخْبَرَ صَاحِبُهُ بِطَهَارَتِهِ إِذَا كَانَ ثِقَةً. وَأَمَّا مَا يُفْرَشُ فِي الْمَضَايِفِ وَالْقِيعَانِ وَالْمَقَاعِدِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّائِمَ عَلَيْهِ يَلْتَفُّ فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ ذَلِكَ الْفَرْشِ، فَإِذَا حَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ مَثَلًا فَإِنَّمَا يُصِيبُ مَا هُوَ مُلْتَفٌّ بِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ عَلَى طَهَارَتِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتِ النَّجَاسَةُ فِي شَيْءٍ وَالْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ كَثِيَابِ مُدْمِنِي الْخَمْرِ، وَالنَّجَاسَةُ كَالْمَجُوسِ وَالْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَالْجَزَّارِينَ..حُكِمَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَكَذَا مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى كَعَرَقِ الدَّوَابِّ وَلُعَابِهَا..وَنَحْوِ ذَلِكَ
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ثِيَابَ الْكُفَّارِ وَأَوَانِيَهُمْ طَاهِرَةٌ إِنْ جَهِلَ حَالَهَا كَمَا لَوْ عُلِمَتْ طَهَارَتُهَا، وَكَذَا آنِيَةُ مُدْمِنِي الْخَمْرِ وَثِيَابُهُمْ، وَآنِيَةُ مَنْ لَابَسَ النَّجَاسَةَ كَثِيرًا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ.
وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِ الْمُرْضِعَةِ وَالْحَائِضِ وَالصَّبِيِّ وَنَحْوِهِمْ كَمُدْمِنِي الْخَمْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهَا، مَعَ الْكَرَاهَةِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ، مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهَا.
الصَّبْغُ لِلثِّيَابِ وَالِاخْتِضَابُ بِمَادَّةٍ نَجِسَةٍ:
46- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَا خُضِّبَ أَوْ صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ يُطَهَّرُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا، فَلَوِ اخْتَضَبَ الرَّجُلُ أَوِ اخْتَضَبَتِ الْمَرْأَةُ بِالْحِنَّاءِ الْمُتَنَجِّسِ وَغُسِلَ كُلٌّ ثَلَاثًا طَهُرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الِاخْتِضَابُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ فَلَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِزَوَالِ عَيْنِهَا وَطَعْمِهَا وَرِيحِهَا وَخُرُوجِ الْمَاءِ صَافِيًا، وَيُعْفَى عَنْ بَقَاءِ اللَّوْنِ لِأَنَّ الْأَثَرَ الَّذِي يَشُقُّ زَوَالُهُ لَا يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْمَصْبُوغُ بِالدَّمِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَالْمَصْبُوغُ بِالدُّودَةِ غَيْرِ الْمَائِيَّةِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ فَإِنَّهَا مَيْتَةٌ يَتَجَمَّدُ الدَّمُ فِيهَا وَهُوَ نَجِسٌ.
وَأَضَافَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صَفَاءِ غُسَالَةِ ثَوْبٍ صُبِغَ بِنَجِسٍ، وَيَكْفِي غَمْرُ مَا صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ أَوْ صَبُّ مَاءٍ قَلِيلٍ عَلَيْهِ كَذَلِكَ فَيَطْهُرُ هُوَ وَصِبْغُهُ.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (اخْتِضَاب ف 15).
الِاسْتِجْمَارُ بِالنَّجِسِ:
47- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِجْمَارُ بِالنَّجِسِ وَلَا بِالْمُتَنَجِّسِ، وَمِمَّا اشْتَرَطُوهُ فِيمَا يَصِحُّ الِاسْتِجْمَارُ بِهِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، أَيْ غَيْرَ نَجِسٍ وَلَا مُتَنَجِّسٍ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِجْمَار ف 28). التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ:
48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلاَّ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَدَاوِي ف 8).
سَقْيُ الزُّرُوعِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ وَالتَّسْمِيدُ بِالنَّجَاسَاتِ:
49- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي سَقْيِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ أَنَّهَا لَا تَتَنَجَّسُ وَلَا تَحْرُمُ. (ر: أَطْعِمَة ف 11).
وَفِي هَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: الزَّرْعُ الْمَسْقِيُّ بِنَجِسٍ طَاهِرٌ وَإِنْ تَنَجَّسَ ظَاهِرُهُ فَيُغْسَلُ مَا أَصَابَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَوْ جَعَلَ الْعَذِرَةَ فِي الْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ جَازَ وَأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ بِالنَّجِسِ كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا نَجِسٌ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَادَاتِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، لَكِنْ يُسْقَى بِهِ الزَّرْعُ وَالْبَهَائِمُ.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الزَّرْعُ النَّابِتُ عَلَى السِّرْجِينِ قَالَ عَنْهُ الْأَصْحَابُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ
الْعَيْنِ لَكِنْ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا غُسِلَ طَهُرَ، وَإِذَا سَنْبَلَ فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ وَلَوْ أَكَلَتْ بَهِيمَةٌ حَبًّا ثُمَّ أَلْقَتْهُ صَحِيحًا: فَإِنْ كَانَتْ صَلَابَتُهُ بَاقِيَةً بِحَيْثُ لَوْ زُرِعَ نَبَتَ فَعَيْنُهُ طَاهِرَةٌ، وَيَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ غِذَاءً لَهَا فَمَا تَغَيَّرَ إِلَى فَسَادٍ، فَصَارَ كَمَا لَوِ ابْتَلَعَ نَوَاةً، وَإِنْ زَالَتْ صَلَابَتُهُ بِحَيْثُ لَا يَنْبُتُ فَنَجِسُ الْعَيْنِ.
وَحَرَّمَ الْحَنَابِلَةُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ الَّتِي سُقِيَتَ بِالنَّجِسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كُنَّا نُكْرِي أَرْضَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَدْمِلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ».وَلِأَنَّهَا تَتَغَذَّى بِالنَّجَاسَاتِ وَأَجْزَاؤُهَا تَتَحَلَّلُ فِيهَا، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُمَ، وَلَا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيلُ فِي بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- يَدْخُلُ أَرْضَهُ بِالْمَعَرَّةِ وَيَقُولُ: مِكْتَلُ عَرَّةٍ مِكْتَلُ بُرٍّ، وَالْعَرَّةُ عَذِرَةُ النَّاسِ.
وَكَرِهُوا لِذَلِكَ أَكْلَ الزُّرُوعِ الَّتِي تُسَمَّدُ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ تُسْقَى بِمُتَنَجِّسٍ مِنْ زَرْعٍ وَثَمَرٍ، وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يُسْقَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ يَسْتَهْلِكُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ، وَنُقِلَ فِي الْإِنْصَافِ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلَا مُحَرَّمٍ، بَلْ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ لَبَنًا، وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّبْصِرَةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ فَالتَّسْمِيدُ بِهِ لَا يُحَرِّمُ الزَّرْعَ.
إِطْعَامُ الْحَيَوَانَاتِ عَلَفًا نَجِسًا أَوْ مُتَنَجِّسًا:
50- أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِطْعَامَ الْعَلَفِ النَّجِسِ أَوِ الْمُتَنَجِّسِ لِلدَّوَابِّ كَمَا أَجَازُوا سَقْيَ الْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجِسِ لِلْبَهَائِمِ وَالزَّرْعِ.
وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ بِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ فِي التَّدَاوِي بِالِاحْتِقَانِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَالْإِقْطَارِ فِي الْإِحْلِيلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجِسِ حَرَامٌ، فَإِذَا حَرُمَ سَقْيُ الدَّوَابِّ بِالنَّجِسِ حَرُمَ إِطْعَامُهَا بِهِ.
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ إِطْعَامَ ذَلِكَ لِمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يُجِيزُوا إِطْعَامَهُ لِمَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى الْجَلاَّلَةِ، فَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ خَبَّازٍ خَبَزَ خُبْزًا فَبَاعَ مِنْهُ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْمَاءِ الَّذِي عَجَنَ مِنْهُ فَإِذَا فِيهِ فَأْرَةٌ؟ فَقَالَ: لَا يَبِيعُ الْخُبْزَ مِنْ أَحَدٍ، وَإِنْ بَاعَهُ اسْتَرَدَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ تَصَّدَّقَ بِثَمَنِهِ، وَيُطْعِمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَلَا يُطْعِمُ لِمَا يُؤْكَلُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى الْجَلاَّلَةِ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ إِنَّمَا اشْتُبِهَ عَلَيْهِ، قِيلَ لَهُ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْحَجَّامِ يُطْعِمُ النَّوَاضِحَ، قَالَتْ هَذَا أَشَدُّ عِنْدِي لَا يُطْعِمُ الرَّقِيقَ لَكِنْ يَعْلِفُهُ الْبَهَائِمَ، قِيلَ لَهُ: أَيْنَ الْحُجَّةُ؟ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ صَخْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ قَوْمًا اخْتَبَزُوا مِنْ آبَارِ الَّذِينَ مُسِخُوا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئَارِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَ تَرِدُهَا النَّاقَةُ».
دَرَجَاتُ النَّجَاسَاتِ:
أ- النَّجَاسَاتُ الْمُغَلَّظَةُ:
51- الْمُغَلَّظُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا وَرَدَ فِي نَجَاسَتِهِ نَصٌّ وَلَمْ يُعَارِضْهُ آخَرُ وَلَا حَرَجَ فِي اجْتِنَابِهِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اتُّفِقَ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَا بَلْوَى فِي إِصَابَتِهِ.
وَالْقَدْرُ الَّذِي يَمْنَعُ الصَّلَاةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ أَنْ تَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً إِنْ كَانَ مَائِعًا وَوَزْنًا إِنْ كَانَ كَثِيفًا.
وَقَالُوا: كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّطْهِيرِ فَنَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، كَذَلِكَ الْمَنِيُّ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «إِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسَةً فَافْرُكِيهِ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَنِيَّ» وَلَوْ أَصَابَ الْبَدَنَ وَجَفَّ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَطْهُرُ لِأَنَّ الْبَلْوَى فِيهِ أَعَمُّ، وَالِاكْتِفَاءَ بِالْفَرْكِ لَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْفَرْكِ، فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ حَتَّى إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ يَعُودُ نَجِسًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا.
وَكَذَلِكَ الرَّوْثُ وَالْإِخْثَاءُ وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا ثَبَتَتْ بِنَصٍّ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُه- عليه الصلاة والسلام- فِي الرَّوْثَةِ: «هِيَ رِجْسٌ» وَالْإِخْثَاءُ مِثْلُهُ، وَلِأَنَّهُ اسْتَحَالَ إِلَى نَتَنٍ وَفَسَادٍ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ حَيَوَانٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَصَارَ كَالْآدَمِيِّ. وَكَذَلِكَ بَوْلُ الْفَأْرَةِ وَخُرْؤُهَا، لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ» وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنٌ فِي الْمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ فَيُعْفَى عَنْهُ فِيهِمَا.
وَكَذَلِكَ بَوْلُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلَا أَوْ لَا، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ نَضْحِ بَوْلِ الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ فِيمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ، وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ» فَالنَّضْحُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْغَسْلِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْمَذْيِ: «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ» أَيِ اغْسِلْهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا.
وَالْبَطُّ الْأَهْلِيُّ وَالدَّجَاجُ نَجَاسَتُهُمَا غَلِيظَةٌ بِإِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمُغَلَّظَ مَا نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مُتَوَلِّدٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.
وَالنَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً كَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْمُتَنَجِّسُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْأَصْلِ وَأَصَابَهُ نَجَاسَةٌ.
وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرِهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
الْأَوَّلُ: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْلِ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.
الثَّانِي: نَجَاسَةُ بِوْلِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.
الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ الْمُتَنَجِّسَاتِ وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ مُنْقِيَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ.
ب- النَّجَاسَاتُ الْمُخَفَّفَةُ:
52- الْمُخَفَّفُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالنَّصِّ. وَالنَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ لَا تَمْنَعُ الصَّلَاةَ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ رُبُعَ الثَّوْبِ، لِأَنَّ لِلرُّبُعِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَحَلْقِهِ، وَثُمَّ قِيلَ: رُبُعُ جَمِيعِ الثَّوْبِ، وَقِيلَ: رُبُعُ مَا أَصَابَهُ كَالْكُمِّ وَالذَّيْلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَعَنْهُ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْمُخْتَارُ الرُّبُعُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى، لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الِاسْتِفْحَاشِ.
وَمِنَ النَّجَسِ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الرَّوْثُ وَالْإِخْثَاءُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فِي الطُّرُقَاتِ وَوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ.
وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبَوْلُ الْفَرَسِ وَدَمُ السَّمَكِ وَلُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَخُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ نَجَاسَتُهُ مُخَفَّفَةٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ، لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُوَ «أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَيْنَةَ أَتَوُا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا- أَيْ لَمْ تُوَافِقْهُمْ- فَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ وَانْتَفَخَتْ بُطُونُهُمْ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَخَرَجُوا وَشَرِبُوا فَصَحُّوا».فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْإِبِلِ نَجِسًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِشُرْبِهِ لِكَوْنِهِ حَرَامًا- وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».
وَيَدْخُلُ فِي الطَّاهِرِ بَوْلُ الْفَرَسِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا، وَدَمُ السَّمَكِ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَبْيَضُّ بِالشَّمْسِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَلِذَا قِيلَ بِخِفَّتِهِ لِذَلِكَ، وَلُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ لِتَعَارُضِ النُّصُوصِ، وَخُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِأَنَّهَا تَزْرِقُ مِنَ الْهَوَاءِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ لِأَنَّهَا لَا تُخَالِطُ النَّاسَ فَلَا بَلْوَى.
وَالْمُخَفَّفَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هِيَ خُصُوصُ بَوْلِ الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَبْلُغِ الْحَوْلَيْنِ وَلَمْ يَتَغَذَّ إِلاَّ بِاللَّبَنِ، بِخِلَافِ الْأُنْثَى وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ بَوْلَ الصَّبِيِّ عِنْدَمَا يُرَادُ تَطْهِيرُ مَحَلِّ إِصَابَتِهِ يُرَشُّ عَلَى مَحَلِّ الْإِصَابَةِ بِمَاءٍ يَعُمُّ النَّجَاسَةَ وَإِنْ لَمْ يَسِلْ، أَمَّا الْأُنْثَى وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ، وَيَتَحَقَّقُ الْغَسْلُ بِالسَّيَلَانِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ».وَأُلْحِقَ الْخُنْثَى بِالْأُنْثَى.
وَلَهُمْ تَقْسِيمٌ ثَالِثٌ وَهُوَ النَّجَاسَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ، وَهِيَ مَا عَدَا النَّجَاسَةَ الْمُغَلَّظَةَ وَالْمُخَفَّفَةَ.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا، وَهِيَ مَا تُيُقِّنَ وُجُودُهَا، وَلَا يُدْرَكُ لَهَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رِيحٌ كَفَى فِي تَطْهِيرِهَا جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى مَحَلِّهَا بِحَيْثُ يَسِيلُ زَائِدًا عَلَى النَّضْحِ.
وَإِنْ كَانَتْ عَيْنِيَّةً وَجَبَ بَعْدَ زَوَالِ عَيْنِهَا إِزَالَةُ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَإِنْ عَسُرَ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.
وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ فَيُطَهَّرُ الْمَحَلُّ لِلْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَهُلَ فَيَضُرُّ بَقَاؤُهُ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.
وَفِي الرِّيحِ قَوْلُهُ أَنَّهُ يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ بَقِيَا مَعًا بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ ضَرَّا عَلَى الصَّحِيحِ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَالثَّانِي لَا يَضُرُّ لِاغْتِفَارِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ، فَكَذَا مُجْتَمِعَيْنِ.
وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرُهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْلِ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.
وَالثَّانِي: نَجَاسَةُ بَوْلِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.
الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ النَّجَاسَاتِ، وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ مُنْقِيَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ.
ج ـ النَّجَاسَاتُ الْمَعْفُوُّ عَنْهَا:
53- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ عَنْ أُمُورٍ: فَيُعْفَى قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَزْنًا فِي النَّجَاسَةِ الْكَثِيفَةِ وَقُدِّرَ بِعِشْرِينَ قِيرَاطًا، وَفِي النَّجَاسَةِ الرَّقِيقَةِ أَوِ الْمَائِعَةِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً، وَقُدِّرَ بِمُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِلَ مَفَاصِلِ الْأَصَابِعِ، وَالْمَقْصُودُ بِعَفْوِ الشَّارِعِ عَنْهَا: الْعَفْوُ عَنْ فَسَادِ الصَّلَاةِ، وَإِلاَّ فَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بَاقِيَةٌ إِجْمَاعًا إِنْ بَلَغَتِ الدِّرْهَمَ، وَتَنْزِيهًا إِنْ لَمْ تَبْلُغْ.
وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِ الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَخُرْئِهِمَا فِيمَا تَظْهَرُ فِيهِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، فَيُعْفَى عَنْ خُرْءِ الْفَأْرَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْحِنْطَةِ وَلَمْ يَكْثُرْ حَتَّى يَظْهَرَ أَثَرُهُ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِهَا إِذَا سَقَطَ فِي الْبِئْرِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا ثَوْبًا أَوْ إِنَاءً مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِ الْهِرَّةِ إِذَا وَقَعَ عَلَى نَحْوِ ثَوْبٍ لِظُهُورِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَصَابَ خُرْؤُهَا أَوْ بَوْلُهَا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ.
وَيُعْفَى عَنْ بُخَارِ النَّجِسِ وَغُبَارِ سِرْقِينٍ، فَلَوْ مَرَّتِ الرِّيحُ بِالْعَذِرَاتِ وَأَصَابَتِ الثَّوْبَ لَا يَتَنَجَّسُ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ، وَقِيلَ: يَتَنَجَّسُ إِنْ كَانَ مَبْلُولًا لِاتِّصَالِهَا بِهِ.
وَيُعْفَى عَنْ رَشَاشِ الْبَوْلِ إِذَا كَانَ رَقِيقًا كَرُءُوسِ الْإِبَرِ بِحَيْثُ لَا يُرَى وَلَوْ مَلأَ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْعَدَمِ لِلضَّرُورَةِ، وَمِثْلُهُ الدَّمُ الَّذِي يُصِيبُ الْقَصَّابَ فَيُعْفَى عَنْهُ فِي حَقِّهِ لِلضَّرُورَةِ، فَلَوْ أَصَابَ الرَّشَاشُ ثَوْبًا ثُمَّ وَقَعَ ذَلِكَ الثَّوْبُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ تَنَجَّسَ الْمَاءُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ حِينَئِذٍ، وَمِثْلُ هَذَا أَثَرُ الذُّبَابِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى نَجَاسَةٍ ثُمَّ أَصَابَ ثَوْبَ الْمُصَلِّي فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ. وَيُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ الْغَاسِلَ مِنْ غُسَالَةِ الْمَيِّتِ مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ مَا دَامَ فِي تَغْسِيلِهِ.
وَيُعْفَى عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ وَلَوْ كَانَ مَخْلُوطًا بِنَجَاسَةٍ غَالِبَةٍ مَا لَمْ يُرَ عَيْنُهَا.
وَيُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَمَّا دُونَ رُبُعِ الثَّوْبِ كُلِّهِ أَوْ رُبُعِ الْبَدَنِ كُلِّهِ.
وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْخِفَّةُ فِي غَيْرِ الْمَائِعِ، لِأَنَّ الْمَائِعَ مَتَى أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ تَنَجَّسَ، لَا فَرْقَ بَيْنَ مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ، وَلَا عِبْرَةَ فِيهِ لِوَزْنٍ أَوْ مِسَاحَةٍ.
وَيُعْفَى عَنْ بَعْرِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، مَا لَمْ يَكْثُرْ كَثْرَةً فَاحِشَةً أَوْ يَتَفَتَّتْ فَيَتَلَوَّنَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي خَالَطَهُ.
وَالْقَلِيلُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ مَا يَسْتَقِلُّهُ النَّاظِرُ إِلَيْهِ، وَالْكَثِيرُ عَكْسُهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
11-الغريبين في القرآن والحديث (ربع)
(ربع)في صفته - صلى الله عليه وسلم -: (أطول من المربوع) المربوع والربعة هو الرجل بين الرجلين.
وفي الحديث: (إنه مر بقوم يربعون حجرا).
وفي بعض الحديث: (يرتبعون حجرا).
قال أبو عبيد: الربع أن يشال الحجر باليد، يفعل ذلك ليعرف به شدة الرجل، يقال ربعت الحجر أربعه ربعا، وارتبعته ارتباعا.
وفي الحديث أنه قال لعدي بن حاتم: (إنك تأكل المرباع وهو لا يحل لك في دينك) المرباع الربع.
وكان الرئيس في الجاهلية: يأخذه من الغنيمة خالصة دون أصحابه.
وفي حديث سبيعة: (فلما تعلت من نفاسها تشوفت للخطاب، فقيل لها: لا يحل لك، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: اربعي على نفسك) معناه تحسبي على نفسك، لا على زوجك المتوفى عنك، وتزوجي من شئت.
قال ابن المظفر: اربع على نفسك، واربع على ظلعك، واربع عليك، أي: انتظر.
وفي دعاء الاستقساء: (اللهم اسقنا غيثا مريئا مربعا) فالمربع المغني عن الإرتياد: لعمومه فالناس يربعون حيث شاءوا لا يحتاجون إلى النجعة.
ومنه قولهم: اربع على نفسك، أي: ارفق بها وأنبت.
وفي رواية أخرى (مرتعا) بالتاء، أي: ينبت الله به ما ترتع فيه الإبل.
وفي الحديث في المزرعة (ويشترط على ما سقى الربيع) يريد النهر، وهو السعيد أيضا، جمعه أربعاء.
ومنه الحديث: (إنهم كانوا يكرون الأرض بما ينبت على الأربعاء والتبن) وهي الأنهار الصغار.
ومنه الحديث: (فعدل إلى الربيع فتطهر) ومثله الجداول الواحد جدول، ووجه الحديث: أنهم كانوا يكرون الأرض بشيء معلوم ويشترطون بعد ذلك على مكريها ما ينبت على الأنهار والتبن.
وفي الحديث (أغبوا عيادة المريض وأربعوا) قوله: (أربعوا) يقول: دعوه
يومين وأتوه اليوم الرابع، والأصل فيه أوراد الإبل، فإذا وردت يومًا تركت يومين ووردت اليوم الرابع، وقد أربع إبله إذا أوردها كذلك.
وفي الحديث: (إنهم أمة على رباعتهم) يريد على أمرهم الذي كانوا عليه.
وقال الفراء: القوم على رباعهم ورباعتهم، أي: على استقامتهم وفي بعض الحديث في وصف ناقة (إنها لمرباع) يعني: التي تبكر في الحمل.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
12-الغريبين في القرآن والحديث (شرب)
(شرب)قوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} أي سقى قلوبهم حب العجل فحذف الحب وأقيم العجل مقامه كما قال الشاعر:
«وكيف تواصل من أصبحت *** خلالته كأبي مرحب»
كخلالة أبي مرحب، وقال ابن عرفة: يقال أشرب قلبه محبة كذا أي حل محل الشراب.
وفي الحديث (إنها أيام أكل وشرب) رواه ابن الأنباري بفتح الشين، قال: الشرب بمعنى الشرب في قراءة من قرأ بفتح الشين (شرب الهيم)
وقال الفراء: الشرب والشرب والشرب ثلاث لغات وفتح الشين أقلها إلا أن الغالب على الشرب جمع شارب وعلى الشرب الحظ والنصيب من الماء، ويقال أكل فلان ماله وشربه إذا أطعم الناس وسقاهم ويقال: رجل مشرب إذا كان مشربًا دمًا وحمرة.
وفي حديث الشورى (أن جرعة شروب خير من عذب موب) الشروب من الماء الذي لا يشرب إلا عند الضرورة ضربه مثلًا لرجلين أحدهما أرفع وأضر، والآخر أنفع وأدون.
وفي الحديث (أنه كان في مشربة له) أي في غرفة يقال: مشربة ومشربة والجمع مشارب ومشربات.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها (واشرأب النفاق) أي ارتفع وعلا وكل رافع رأسه فهو مشرئب.
ومنه الحديث (فينادي مناد يوم القيامة فيشرئبون لصوته).
وفي حديث لقيط (ثم أشرفت عليها-يعني على الأرض-وهي شربة واحدة) قال القتيبي: إن هذا هو المحفوظ فإنه أراد أن الماء قد كثر فمن حيث أردت أن تشرب شربت وإن كان المحفوظ شربة-بفتح الراء-فهو حوض يكون في أصل النخلة يملأ ماء، يريد أن الماء قد وقف منها في مواضع فشبه
ومنه حديث جابر (أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حائط لنا فعدل إلى الربيع فتطهر وأقبل إلى شربة) والربيع: النهر، وإن كان المحفوظ-بالياء- فهي الحنظلة أراد أن الأرض اخضرت بالنبات.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
13-لغة الفقهاء (الطلاق)
الطلاق: بفتح الطاء، التخلية وإزالة القيد.[*] إزالة عقد النكاح، وهو على أنواع كما سيأتي:... Divorce, repudiation
1. أ) الطلاق السني: وهو عند الحنفية على نوعين:
- طلاق أحسن: أن يطلقها طلقة واحدة ثم يتركها حتى تنقضي عدتها.
- طلاق حسن: أن يطلقها في حيض لم يجامعها فيه ثم يتركها حتى تحيض وتطهر فيطلقها الثانية، ثم يتركها حتى تحيض فتطهر فيطلقها الثالثة.
ب) الطلاق البدعي: أن يطلقها أكثر من طلقة واحدة بلفظ واحد، أو بألفاظ متعددة، ولكن في طهر واحد، أو يطلقها واحدة في طهر جامعها فيه.
2. أ) الطلاق الرجعي: أن يطلقها واحدة أو اثنتين فقط بلفظ الطلاق، أو بما لا تعتبر به بائنا. ويحق له إرجاعها ما دامت في العدة... Revocable divorce
ب) الطلاق البائن بينونة صغرى: أن يطلقها طلاقا رجعيا ثم يتركها حتى تنقضي عدتها، وفي هذه يحق له إعادتها بعقد جديد ومهر جديد.
، الجمع:) الطلاق البائن بينونة كبرى: هو الطلاق المتمم للثلاث ولا يحق له إرجاعها فيه حتى تنكح زوجا غيره، ويدخل بها دخولا صحيحًا:... Irrevocable or final divorce
3. أ) الطلاق الصريح: أن يستعمل في التطليق لفظ الطلاق.
ب) الطلاق بالكناية: أن يستعمل في التطليق لفظا يحتمل الطلاق، ويحتمل غيره. كقوله: ((حبلك على غاربك)) وهو على نوعين:
- كناية ظاهرة في الطلاق كقوله: أنت خلية، برية، بتة، بائن.
- كناية غير ظاهرة في الطلاق كقولك: حبلك على غاربك، وجهي من وجهك حرام ونحو ذلك.
4. أ) الطلاق المنجز: أن يطلقها طلاقا منجزًا بصيغة الجزم كقوله: أنت طالق.
ب) أن يعلق الطلاق على وقت، كقوله: أن جاء يوم كذا فأنت طالق.
، الجمع:) أن يعلق الطلاق على، فعل، وهو على نوعين:
- أن يقصد به الطلاق، كقوله: نحن ذاهبون إلى بلد كذا، فإذا دخلنا البلد فأنت طالق.
- أن يقصد به المنع من الفعل، كقوله: لا تخرجي من الدار، فأن خرجت فأنت طالق
معجم لغة الفقهاء-محمد رواس قلعه جي/حامد صادق قنيبي-صدر: 1405هـ/1985م
14-تاج العروس (شرب)
[شرب]: شَرِبَ الماءَ وغيره كَسمِع يَشْرَبُ شَرْبًا مَضْبُوطٌ عندَنَا بالرَّفْع، وضَبَطَه شَيْخُنا بالفَتْح وقَالَ: إِنَّه عَلَى القِيَاس، ونَقَلَ أَيْضًا أَنَّ الفَتْحَ أَفْصَحُ وأَقْيَسُ. قُلْتُ: وسَيَأتِي مَا يُنَافِيه. ويُثَلَّثُ، ومنه قَوْلُه تَعَالَى: {فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} بالوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ.قال يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ: سَمَعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يقرأُ: «فَشَارِبُونَ شَرْبَ الهِيمِ» فذَكَرْتُ ذَلِكَ لجَعْفَر بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: ولَيْسَتْ كَذلِك، إِنَّمَا هِيَ {شُرْبَ الْهِيمِ}. قَالَ الفَرَّاءُ: وسَائِر القُرّاء يَرْفَعُون الشِّينَ.
وفي حَدِيثِ أَيَّام التَّشْرِيقِ «أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْل وشُرَبَ» يُرْوَى بالضَّمِّ والفَتْح، وهُمَا بمَعْنَىً، والفَتْحُ أَقَلُّ اللُّغَتَيْن وَبِهَا قَرَأَ أَبو عَمْرو، كذا في لِسَانِ العَرَب.
ومَشْرَبا بالفَتْح يَكُونُ مَوْضِعًا ويَكُونُ مَصْدَرًا، وأَنْشَد:
ويُدْعَى ابنُ مَنْجُوفٍ أَمَامِي كَأَنَّه *** خصِيُّ أَتَى لِلمَاءِ مِنْ غَيْرِ مَشْرَبِ
أَي مِنْ غَيْرِ وَجْهِ الشُّرْبِ وسَيَأْتِي. وتَشْرَابًا بالفَتْح عَلَى تَفْعَال يُبَنَى عِنْدِ إِرَادَة التَّكْثِيرِ: جَرَعَ وَمِثْلُه في الأَسَاس، وَفي قَوْلِ أَبِي ذُؤيْبٍ في وَصْف سَحَاب: شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعتَ البَاءُ زَائِدَةٌ. وقيل: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ شَرِبْنَ بِمَعْنى رَوِيْنَ وكَانَ رَوِينَ مِمَّا يَتَعَدَّى بالْبَاء عَدَّى شَرِبْن بالبَاءِ.
وفي حديثِ الإِفْكِ: «لَقَد سَمِعْتُموه وأُشْرِبَتْه قُلُوبُكم» أَي سُقِيتْه كما يُسْقَى العَطْشَانُ المَاءَ. يُقَالُ: شَرِبْتُ المَاءَ وأُشْرِبْتُه أَنَا إِذَا سُقِيتُه أَوِ الشَّرْبُ بالفَتحِ بأَوِ المُنَوِّعَةِ لِلْخِلَاف عَلَى الصَّوَاب. وسَقَط من نُسْخَة شَيْخنا مَصْدَرٌ كالأَكْلِ والضَّرْب. وبِالضَّم والكَسْرِ: اسْمَان من شَرِبْتُ لا مَصْدَرَان، نص عليه أَبُو عُبَيْدَةَ، والاسْم الشِّرْبَةُ، بالكسر، عن اللِّحْيانيّ. والشَّرْب بالفَتْح: القَومُ يَشْرَبُون ويُجْمِعُون عَلَى الشَّرَاب. قال ابْنُ سِيده: فَأَمَّا الشَّرْبُ فَاسْمٌ لجَمْعِ شَارِبٍ كرَكْبٍ وَرَجْلٍ، وقيل هو جَمْعٌ كالشُّرُوب بالضَّمِّ.
قال ابن سيده: أَمَّا الشُّرُوب عِنْدِي فجَمْعُ شَارِبٍ كَشَاهِدٍ وشُهُودٍ، وجَعَلَه ابن الأَعْرَابِيّ جمع شَرْب، قَالَ: وَهُوَ خَطَأٌ، قال: وهَذَا مِمَّا يَضِيقُ عَنْه عِلْمُه لجَهْلِه بالنَّحْوِ.
قال الأَعْشَى:
هُوَ الوَاهِبُ المُسْمِعَاتِ الشُّرُو *** بَ بَيْن الحَرِيرِ وبَيْن الكَتَنْ
وقوله أَنْشَدَه ثَعْلَب:
يَحْسِبُ أَطْمَارِي عَلَيَّ جُلُبَا *** مِثْلَ المَنَادِيل تُعَاطَى الأَشْرُبَا
يكون جَمْعَ شَرْب، وشَرْب جَمْعُ شَارِب وَهُوَ نَادِرٌ لأَنَّ سِيبَوَيْه لَم يَذْكُر أَنَّ فَاعِلًا قَدْ يُكَسَّرُ عَلَى أَفْعُلٍ، كَذَا فِي لِسَانِ العَرَب، ونَقَلَه شَيْخُنَا فأَجْحَفَ في نَقْله، وَفِيه في حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ رضي الله عنهما: «وَهُو في هَذَا البَيْت في شَرْبٍ من الأَنْصَارِ».
وقيل: الشَّرْبُ بالفَتْح المَصْدَر. والشِّرْبُ بالكَسْر: الاسْمُ، وقيلَ هو الماءُ بِعَيْنِه يُشْرَب والجَمْعُ أَشْرَابٌ كالمَشْرب بالكَسْر، وهو المَاءُ الَّذِي يُشْرَب، قَالَهُ أَبُو زَيْد.
والشِّرْبُ بالكسر أَيْضًا: الحَظُّ منه أَي المَاء. يُقَالُ: لَهُ شِرْبٌ مِنْ مَاءٍ أَي نَصِيبٌ منه، ذكرَهُمَا ابْنُ السِّكِّيتُ كَذَا في التَّهذيب. والشِرْبُ بالكَسْر: المَوْرِدُ قَالَه أَبُو زَيْدٍ. جَمْعُه أَشْرَاب. وقيل: الشِّرْبُ هُوَ وَقْتُ الشُّرْب، قَالَ شَيْخُنَا: قَالُوا إِنَّما يَدُلُّ عَلَى الوَقْتِ بِضَرْبٍ من المَجَازِ، واخْتَلَفُوا في عَلَاقَتِه، فتَأَمَّل.
والشَّرَابُ: ما شُرِبَ، وفي نُسْخَة مَا يُشْرَب، مِنْ أَيِّ نَوع كَانَ وعَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، وجَمْعُه أَشْرِبَةٌ. وقيل: الشَّرَابُ والعَذَابُ لا يُجْمَعَان كما يَأْتي للمُصَنِّفِ في «ن ه ـ ر».
وقال أَبو حنيفة: الشَّرَابُ كالشَّرِيب والشُّرُوبِ يرفَعُ ذَلِكَ إِلى أَبِي زَيْد.
وفي لِسَانِ العَرَبِ: الشَّرَابُ: اسمٌ لِمَا يُشْرَبُ، وكُلُّ شَيْءٍ لا مَضْغَ فيه فإنه يقال فيه: يُشْرَب. والشَّرُوبُ: ما شُرِب. أَو هُمَا أَي الشَّرُوب والشَّرِيبُ: المَاءُ بين العَذْب والمِلْح. وقيل: الشَّرُوبُ: الذي فيه شَيءٌ من العُذُوبَة، وقد يَشْرَبُه النَّاسُ على مَا فِيه. والشَّرِيبُ: دون العَذْب ولَيْسَ يَشْرَبُهُ النَّاسُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَة، وقد تَشْرَبُه: البَهَائِم، ذَكَرَ هَذَا الفَرْقَ ابنُ قُتَيْبَة ونَسَبَه الصَّاغَانِيّ إِلَى أَبِي زَيْد، قلت: فَلَه قَوْلَانِ فِيه، وقيل: الشَّرِيب العَذْب، وقيل: المَاءُ الشَّرُوب الذي يُشْرَب. والمَأْجُ: المِلْحُ. قال ابْنُ هُرْمَة:
فإنَّكَ بالقَرِيحَةِ عَامَ تُمْهَى *** شَرُوبُ المَاءِ ثُمَّ تَعُودُ مَأْجَا
هكذا أَنْشَدَهُ أَبُو عُبَيْد «بالقَرِيحَة»، والصَّوَابُ «كَالقَرِيحَة».
وفي التهذيب عن أَبي زيد: الماءُ الشَّرِيبُ: الذي لَيْسَ فِيه عُذُوبَةٌ، وقد يَشْرَبُه النَّاسُ عَلَى مَا فِيه. والشَّرُوب: دُونَه في العُذُوبَة ولَيْسَ يَشْرَبُه النَّاسُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، ومِثْلُه حَكَاه صَاحِب كتاب المَعَالِم وابْنُ سِيدَه في المُخصّص والمُحْكَم. وقال الليث: مَاءُ شَرِيبٌ وشَرُوبٌ: فيه مَرَارَةٌ ومُلُوحَةٌ ولم يَمْتَنِع من الشُّرْبِ، ومِثْلُه قَالَ صَاحِبُ الوَاعِي.
ومَاءٌ شَرُوبٌ و [ماءٌ] طَعِيمٌ بِمَعْنىً وَاحد. وفي حديث الشورى: «جُرْعَةٌ شرُوبٌ أَنْفَعُ مِنْ عَذْبٍ موبٍ» يَسْتَوِي فِيهِ المذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ، وَلِهَذا وُصِفَ به الجُرْعَة. ضُرب الحَدِيثُ مَثَلًا لِرَجُلَيْن أَحَدُهُما أَدْوَنُ وأَنْفَعُ، والآخَر أَضَرُّ وأَرْفَعُ، كذا في لِسَانِ العَرَب.
وعن ابْنِ دُرَيْدِ: مَاءٌ شَرُوبٌ، ومِيَاهٌ شَرُوبٌ، ومَاءٌ مَشْرَبٌ كَشَرُوب عن الأَصمعي. وأَشْرَب الرجلُ: سَقَى إِبِلَه.
وأَشْرَبَ: عَطِش بِنَفْسِه. يُقَالُ: أَشْرَبْنَا أَي عَطِشْنَا. قَالَ: اسْقِنِي فإنَّني مُشْرِب.
رَوَاهُ ابْنُ الأَعْرَابِيّ وَفَسَّرهُ بأَنَّ مَعْناه عَطْشَان يَعْنِي نَفْسَه أَوْ إِبْلَه. وقال غيرُه: أَشْرَبَ: رَوِيتْ إِبله. وعَطِشَت رَجُلٌ مُشْرِبٌ: قَدْ شَرِبَتِ إِبِلُه، ومُشْرِبٌ عَطِشَت إِبِلُه، وهما عِنْدَه ضِدُّ ونَسَبَه الصَّاغَانِيُّ إِلَى اللَّيْثِ. وأَشْرَبَ الإِبِلَ فَشِرِبَت، وأَشْرَب الإِبِل حَتَّى شَرِبَت. وأَشْرَبْنَا نَحْنُ: رَوِيَتْ إِبِلُنَا.
وأَشْرَبْنَا: [عَطِشْنا أَو] عَطِشَت إِبِلُنَا. وأَشْرَب الرَّجُلُ: حَانَ لإِبِلِه أَنْ تَشْرَبَ.
ومن المجازِ: أَشْرَبَ اللَّونَ: أَشْبَعَه، وكلُّ لَوْنٍ خَالَطَ لونًا آخر فقد أُشْرِبَه، وقد اشرابّ على مِثَالِ اشْهابّ.
والإِشْرَابُ: لَوْنٌ قد أُشْرِبَ مِنْ لَوْن [آخر]. يقال: أُشْرِبَ الأَبْيَضُ حُمْرَةً؛ أَي عَلَاه ذلِكَ. وفيه شُرْبَةٌ من حُمَرَة أَي إِشرَابٌ. ورَجُلٌ مُشْرَبٌ حُمُرَةً، مُخَفَفَّا، وإِذَا شُدِّد كان للتَكْثِيرِ والمُبَالَغَة. والشَّرِيبُ: مَنْ يَسْتَقِي أَو يُسْقَى مَعَك. وَبِه فَسَّر ابْن الأَعْرَابِي قَوْلَ الرَّاجز:
رُبَّ شَرِيبٍ لَكَ ذِي حُسَاسِ *** شِرَابُه كالحَزِّ بالمَواسِي
الحُساس: الشُّؤم والقَتْل. يَقُولُ: انْتِظَارُك إِيَّاه عَلى الحَوْضِ قَتْلٌ لَكَ ولإبِلك.
والشَّرِيبُ: مَنُ يُشَارِبُكَ ويِورِدُ إِبِلَه مَعَك. شَارَبَ الرَجلَ مُشَارَبَةً وشِرَابًا. شَرِبَ معه، وهو شَرِيبِي.
قال الراجز:
إِذَا الشَّرِيبُ أَخَذَتْهُ أَكَّهْ *** فخَلِّه حَتَّى يَبُكَّ بَكَّهْ
والشِّرِّيبِ كِسِكِّيت: المولَعُ بالشَّراب، ومِثْلُه في التَّهْذِيب. ورجل شَارِبٌ وشَرُوبٌ وشِرِّيبٌ وشَرَّابٌ: مُولَعٌ بالشَّرَاب. ورَجُلٌ شَرُوبٌ: شَدِيدُ الشُّرْب.
والشَّارِبَةُ: القَومُ يَسْكُنُون على ضِفَّة، وفي نُسْخَةٍ ضَفّة بفَتْحِ الضَّادِ المُعْجَمَة النَّهْرِ، وَهُم الَّذِين لَهُم مَاءُ ذلِكَ النَّهْر.
والشَّرْبَةُ: النَّخْلَةُ الَتي تَنْبُتُ من النَّوى جَمْعُه شَرَبَاتٌ.
والشُّرْبَةُ. بالضَّمِّ: حُمْرَةٌ في الوَجْه. يقال: أُشْرِبَ الأَبْيَضُ حُمْرَةً: عَلَاه ذَلِك. وفيه شُرْبَةٌ من حُمْرَةٍ. ورجُلٌ مُشْرَبٌ حُمْرَة، وإِنَّه لمَسْقِيُّ الدَّمِ، مِثْلُه.
وفي صِفَتِهصَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمْ «أَبْيَضُ مُشْرَبٌ حُمْرَةً» وسَيَأْتِي بَيَانُه.
والشُّرْبَةُ: موضع ويُفْتَح في المَوْضِع، وجاءَ ذلِك في شِعْرِ امْرِئ القَيْسِ، والصَّحِيحُ أَنَّه الشَّرَبَّةُ بتشديد الموحدة، وإِنَّما غَيَّرهَا لِلضَّرُورَةِ.
والشُّرْبَةُ: مِقْدَارُ الرِّيِّ مِنَ الْمَاءِ كالحُسْوَة والغُرْفَةِ واللُقْمَة.
والشُّرَبَةُ كهُمَزَة: الكَثِيرُ الشُّرْبِ. يُقَالُ: رَجُلٌ أُكَلَة شُرَبَةٌ: كَثِيرُ الأَكْلِ والشُّرْبِ عن ابْنِ السِّكِّيت. كالشَّرُوبِ والشَّرَّاب كَكَتَّانٍ. ورَجُلٌ شَرُوبٌ: شَدِيدُ الشُّرْبِ، كما تَقَدَّم.
والشَّرَبَة بالتحريك: كَثْرَةُ الشُّرْبِ وجَمْعُ شَارِب كَكَتَبَة جَمْع كَاتِب، نَقَلَه الفَيُّومِي في المِصْبَاحِ. قال أَبو حَنِيفَة: قَالَ أَبُو عَمْرو: إِنَّه لَذو شَرَبَةٍ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الشُّرْب.
والشَّرَبَةُ مِثْلُ الحُوَيْضِ يُحْفَر حَوْلَ النَّخْلَة والشَّجَرة يُمْلأُ مَاءً يَسَعُ رِيَّها فتترَوَّى منه. والجَمع شَرَبٌ وشَرَبَاتٌ. قال زُهَيْرٌ:
يَخْرُجْنَ مِنْ شَرَبَاتٍ مَاؤُهَا طَحِلٌ *** عَلَى الجُذُوعِ يَخَفْنَ الغَمَّ والغَرَقَا
وأَنْشَدَ ابْنُ الأَعْرَابِيّ:
مِثْل النَّخِيل يُرَوِّي فَرْعَها الشَّرَبُ
وفي حَدِيث عُمَرَ رضي الله عنه ـ «اذْهَبْ إِلَى شَرَبَةٍ من الشَّرَبَات فادلُك رَأْسَك حتى تُنَقِّيَه» وفي حَدِيثِ جَابِر: «أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمْ فَعَدَلَ إِلَى الرَّبيعِ فَتطَهَّر وأَقْبل إِلى الشَّرَبَّة».
الرَّبِيعُ: النهر.
والشَّرَبَةُ: كُرْدُ الدَّبْرَة، وهي المِسْقَاةُ. والجَمْعُ مِن ذلِك كُلِّه شَرَبَاتٌ وشَرَبٌ.
والشَّرَبَةُ: العَطَشُ. ولم تَزَلْ بِهِ شَرَبَةٌ [هذا] اليومَ أَيْ عَطَشٌ، قاله اللِّحْيَانيّ. وفي التهذيب: جَاءَتِ الإبِلُ وبِهَا شَرَبَةٌ أَي عَطَشٌ. وقد اشْتَدَّت شَرَبَتُها.
وطَعَامٌ مَشْرَبَةٌ: يُشْرَبُ عَلَيْهِ الماءُ كَثِيرًا. وطَعَامٌ ذُو شَرَبَة: إِذَا كَانَ لا يُرْوَى فِيه من الماءِ.
وفي لسان العرب: الشَّرَبَةُ: عَطَشُ المَالِ بَعْدَ الجَزْءِ، لأَنَّ ذلِك يَدْعُوهَا إِلَى الشُّرْب.
والشَّرَبَةُ: شِدَّةُ الحَرِّ. يقال: يَوْمٌ ذو شَرَبَةٍ أَي شَدِيدُ الحَرِّ يُشْرَبُ فِيهِ المَاءُ أَكْثر مِمّا يُشْرَبُ في غيره. والشَّوَارِبُ: عُرُوقٌ في الحَلْقِ تَشْرَبُ المَاءَ، وهي مَجَارِيه، وقيل: هِي عُرُوقٌ لازِقَةٌ بالحُلْقُومِ وأَسْفَلُهَا بالرِّئَة، قَالَه ابْنُ دُرَيْدِ. ويقال: بَلْ مُؤَخَّرُهَا إِلَى الوَتِين، ولَهَا قَصَب منه يَخْرُجُ الصَّوْت.
وقيل: هي مَجَارِي الماءِ في العُنُقِ وَهِيَ الَّتي يَقَعُ فِيهَا الشَّرَقُ ومِنْهَا يَخْرُج الرِّيقُ، وقيل: شَوَارِبُ الفَرَسِ: نَاحِيَةُ أَوْدَاجه حَيْثُ يُوَدِّجُ البَيْطَارُ، وَاحِدُهَا في التَّقْدِيرِ شَارِبٌ. وحِمَارٌ صَخبُ الشَّوَارِبِ، مِنْ هَذَا؛ أَي شَدِيدُ النَّهِيقِ.
وفي الأَسَاس، ومِن المَجَازِ: يُقَال للمُنْكَرِ الصَّوْتِ: صَخِبُ الشَّوَارِبِ، يُشَبَّه بالحِمَارِ، انتهى.
وفي لِسَانِ العَرَبَ عَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيّ:؛ الشَّوَارِبُ: مَجَارِي المَاءِ في العَيْنِ. قال أَبُو مَنْصُور: أَحْسَبُه [أَراد] مَجَارِيَ المَاءِ في العينِ الَّتِي تَفُورُ في الأَرْضِ لا مَجَارِيَ مَاءِ عَيْنِ الرَّأْسِ.
والشَّوَارِبُ: مَا سَالَ على الفَمِ من الشَّعَر. قال اللِّحْيَانِيُّ: وقَالُوا: إِنَّه لَعَظِيمُ الشَّوَارِبِ، قال: وَهُوَ من الوَاحِدِ [الذي] فُرِّقَ فَجُعِلَ كُلُّ جُزْءٍ منه شَارِبًا، ثم جُمِعْ عَلَى هَذَا. وقد طَرَّ شَارِب الغُلَامِ، وهُمَا شَارِبَانِ، انْتَهَى.
وقيل: إِنَّمَا هُو الشَّارِبُ والتَّثْنِيَة خَطَأٌ. وقال أَبُو علِيّ الفَارِسيّ: لا يَكَاد الشَّارِب يُثَنَّى، ومثلُه قَوْلُ أَبِي حَاتِم.
وقال أَبُو عُبَيْدَةَ: قالَ الكِلَابِيُّون: شَارِبَانِ باعْتِبَارِ الطَّرَفَيْن والجَمْعُ شَوَارِب، نَقَلَه شَيْخُنا. وأَنْشَدَنِي الأَدِيبُ المَاهِر حَسَن بْنُ مُحَمَّد المَنْصُورِيّ بدَجْوَة مِنْ لَطَائِف ابْنِ نُبَاتَة:
لقد كنْتَ لي وَحْدِي وَوَجْهُك جَنَّتي *** وكُنَّا وكَانَت لِلزَّمَانِ مَوَاهِبُ
فَعَارَضَنِي في رَوْض خَدِّك عَارضٌ *** وزَاحَمَني في وِرْدِ رِيقِك شَارِبُ
والشَّارِبَان عَلَى مَا فِي التَّهْذِيب وغَيْرِه: ما طَالَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّبَلَةِ، أَو السَّبَلَةُ كُلّهَا شَارِب واحد. قَالَه بَعْضُهُم، ولَيْسَ بِصَوَابٍ.
ومن المَجَازِ: أُشْرِبَ فلانٌ حُبَّ فُلَانٍ كذَا في النُّسَخ.
وفي غير وَاحِدٍ من الأُمَّهَاتِ «فُلَانَةَ» أَي خَالَطَ قَلْبَه. وأُشْرِبَ قَلْبُه مَحَبَّةَ هذَا، أَيْ حَلَّ مَحَلَّ الشَّرَابِ. وفي التَّنْزِيلِ: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أَي حُبَّ العِجْل، فَحُذِفَ المُضَافُ وأُقِيم المُضَافُ إِلَيْه مُقَامه، ولا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ العِجْلُ هو المُشْرَب، لأَنَّ العِجْلَ لا يُشْرَبُه القَلْبُ.
وقال الزَّجَّاج: معناه أَي سُقُوا حُبَّ العِجْلِ، فَحُذِفَ حُبّ وأُقِيم العِجْل مُقَامَه، كما قَالَ الشَّاعِر:
وكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ *** خَلَالَتُه كَأَبِي مَرْحَبِ
أَي كخَلَالةِ أَبِي مَرْحَبٍ.
وأُشْرِبَ قَلْبُه كَذَا أَي حَلَّ مَحَلَّ الشَّرَابِ أَوِ اخْتَلَطَ بِه كما يَخْتَلِط الصِّبْغُ بالثَّوْبِ. وفي حديث أَبي بكر: «وأُشْرِب قلبُه الإِشْفَاقَ» كذا في لسان العرب.
وفي الأَسَاسِ، ومِن المَجَازِ قَوْلُهم: رَفَع يَدَه فَأَشْرَبَهَا الهَوَاءَ ثم قَالَ بها على قَذَالى.
ومن المَجَازِ تَشَرَّبَ الصِّبْغُ في الثَّوْب: سَرَى، والصِّبْغُ يَتَشَرَّبُ الثَّوْبَ. وتَشَرَّبَ الثوبُ العَرَقَ: نِشْفَهُ، هكَذَا في نُسْخَتِنَا.
والَّذِي في الأَسَاسِ ولِسَانِ العَرَب: الثَّوْبُ يَتَشَرّب الصِّبْغ أَي يَتَنَشَّفُه، والثوبُ يَشْرَبُ الصِّبْغَ يَنْشَفُه.
واسْتَشْرَبَ لَوْنُه: اشْتَدَّ. يقال: اسْتَشْرَبَتِ القوسُ حُمْرَةً أَي اشْتَدَّت حُمْرَتُها، وذلك إِذَا كَانَت مِنَ الشِّرْيانِ، حكاه أَبو حنيفة.
والمَشْرَبَةُ بالفتح في الأَوَّل والثَّالِثِ، وتُضَمُّ الرَّاء: أَرْضٌ لَيِّنَةٌ دَائِمَةُ النَّبَاتِ أَي لا يزال فِيهَا نَبْتٌ أَخْضَرُ رَيَّانُ. والمَشْرَبَةُ، بالوَجْهَيْنِ: الغُرْفَةُ، قال في الأَسَاس: لأَنَّهم يَشْرَبُون فِيهَا. وعن سيبويه: جَعَلُوه اسْمًا كالغُرْفَة. وفي الحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمْ كَانَ في مَشْرُبَة لَه» أَي كَان في غُرْفَة وجَمْعُها مَشْرَبَاتٌ ومَشَارِبُ. والمَشْرَبَةُ: العِلِّيَّةُ. قال شيخنا: هي كَعطْفِ التَّفْسِير على الغُرْفَة، وهي أَشْهَرُ من العِلِّيَّة، وعليه اقْتَصَر الفَيُّوميّ، انتهى. والمَشَارِبُ: العَلَالِيّ في شِعْر الأَعْشَى. والمَشْرِبَةُ: الصُّفَةُ، وقِيلَ: هي كالصُّفَّةِ بَيْن يَدَيِ الغُرْفَة. والمَشْرَبَةُ: المَشْرَعَةُ. وفي الحديث: «مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ أَحَاطَ على مَشْرَبَة». هي بفَتْح [الراء] من غير ضَمِّ: المَوْضِعُ الذي يُشْرَبُ مِنْه كالمَشْرَعَة، ويُرِيدُ بالإحَاطة تَمَلُّكَه ومنْعَ غيره [منه]. كذا في لسان العرب. ويوجد هنا في بعض النسخ بدل المشرعة المِشْرَبة، كأَنَّه يقول: والمَشْرَبة بالفَتْح وكمكْنَسَة أَي بالكسر، وهو خطأٌ لما عَرَفت.
وقد يُرَدُّ على المُصَنِّف بوَجْهَيْن: أَوَّلًا أَنَّ المَشْرَبَة بالوَجْهَين إِنَّما هُوَ في مَعْنَى الغُرْفَة فقط، وبمعنى أَرْض لَيِّنة وَجهٌ وَاحِد وهو الفَتْح، صَرَّحَ به غَيْرُ وَاحِدٍ. وثانِيًا أَن المَشْرَبَة بالمَعْنَيَيْن الأَخِيرين إِنَّمَا هو كالصُّفَّة وكالمَشْرَعَة لا هما بِنَفْسِهما كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذلِكَ، وقد أُغْفِل عن ذلك شَيْخُنا.
والمِشْرَبَةُ كمِكْنَسَة وجوَّز شيخُنا فيه الفَتح، ونَقْلَه عن الفَيُّوميّ: الإِنَاءُ يُشْرَبُ فيه.
والشَّروبُ الَّتي تَشْتَهِي الفَحْلَ. يقال: ضَبَّةٌ شَرُوبٌ إِذا كَانَت كَذِلكَ.
وعن أَبي عبيد: شَرَّبَ تَشْرِيبًا. تَشْرِيبُ القِرْبَةِ: تَطْييبُهَا بالطِّين وذَلكَ إِذَا كانت جَدِيدَةً، فجَعَلَ فِيهَا طِينًا وماءٌ ليَطِيبَ طَعْمُها، وفي نسخة تَطْيِينُها بالنُّونِ، وهو خطأُ.
وشَرِب به أَيالرَّجُلِ كَسَمِعَ وأَشْرَبَ به أَيْضًا: كَذَبَ عَلَيْهِ.
ومن المَجَازِ: أَشْرَبَ إِبِلَه إِذَا جَعَلَ لِكُلِّ جَمَلٍ قَرِينًا، فَيَقُولُ أَحَدُهُم لِنَاقَتِه: لأُشْرِبَنَّكِ الحِبَالَ والنُّسوعَ أَي لأَقْرُنَنَّكِ بِهَا. وأَشْرَبَ الخَيْلَ: جَعَلَ الحِبَالَ في أَعْنَاقها.
وأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
وأَشْرَبْتُهَا الأَقْرَانَ حتى أَنَخْتُهَا *** بِقُرْحَ وقد أَلْقَيْنَ كُلَّ جَنِينِ
وأَشْرَب فُلانًا وكذا البَعِيرَ والدَّابَّة الحَبْلَ: جَعَلَه أَي وَضَعَه في عُنُقِه.
ومن المَجَازِ: اشْرَأَبَّ إِليه ولَهُ اشْرِئْبَابًا: مَدَّ عُنُقَه ليَنْظُرَ، أَو هُوَ إِذَا ارْتَفَع وعَلَا، وكُلُّ رَافِعٍ رَأْسَه مُشْرَئِبُّ، قَالَه أَبُو عُبَيْد. والاسم الشُّرَابِيبَةُ بالضَّمِّ كالطُّمَأْنِيَنَة. وقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها «اشرأَبَّ النِّفَاقُ، وارْتَدَّتِ العَرَبُ». أَي ارْتَفَع وَعَلَا، وفي حَدِيث: «يُنَادِي يَوْمَ القِيَامَة مُنَاد، يا أَهْلَ الجَنَّة، ويا أَهْلَ النَّار فيَشْرَئِبُّونَ لِصَوْتِه» أَي يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهم ليَنْظُرُوا إِلَيْه. وكُلُّ رَافِعٍ رَأْسَه مُشْرَئِبٌّ. وأَنْشدَ لذي الرُّمَّةِ يَصِفُ الظَّبْيَةَ ورَفْعَها رَأْسَهَا:
ذَكَرْتُكِ أَنْ مَرَّت بِنَا أُمُّ شَادِنٍ *** أَمَامَ المَطَايَا تَشْرَئِبُّ وتَسْنَحُ
قال: اشْرَأَبَّ مَأْخُوذٌ من المَشْرَبَة، وَهي الغُرْفَةُ، كذا في لسان العرب.
والشَّرَبَّةُ كجَرَبَّة قال شَيْخُنَا: وفي بَعْضِ النُّسَخ كخِدَبَّة، بكسْرِ الخَاءِ المُعْجَمَةِ، وفي أُخْرَى بالجيم بَدَل الخَاءِ، وكِلَاهُمَا على غَيْرِ صَوَاب، وعن كُرَاع: لَيْسَ في الكلام «فَعَلَّة» إِلَّا هذَا أَي الشَّرَبَّة، وزِيد عليه قَوْلُهُم: جَرَبَّة، وقد ذُكِرَ في مَوْضِعِهِ ولا ثَالِثَ لَهُمَا بالاستِقْرَاءِ، وَهِيَ الأَرْضُ اللّيِّنَةُ المُعْشِبَةُ أَي تُنْبِتُ العُشْب لا شَجَرَ بها. قَالَ زُهَيْرٌ:
وإِلَّا فإِنَّا بِالشَّرَبَّة فالِّلوَى *** نُعَقِّرُ أُمَّاتِ الرِّبَاعِ ونَيْسِرُ
وشَرَبَّة بتَشْدِيدِ البَاءِ بِغَيْر تَعْرِيفٍ: موضع قال سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّةَ:
بِشَرَبَّةٍ دَمِثِ الكَثِيبِ بِدُورِه *** أَرْطَى يَعُوذُ بِهِ إِذَا ما يُرْطَبُ
يُرْطَبُ أَي يُبَلُّ. وقال: دَمِثُ الكَثِيب، لأَنَّ الشَّرَبَّةَ مَوْضِعٌ أَو مَكَانٌ، قال ابنُ سِيدَه في المُحْكَم.
وقال الأَصْمَعِيُّ: الشَّرَبَّةُ بِنَجْد. وفي مَرَاصِدِ الاطَّلَاع: الشَّرَبَّةُ: مَوْضِع بَيْنَ السَّلِيلَةِ والرَّبَذَةِ وهو بين الخَطِّ وَالرُّمَّةِ وخَطّ الجُرَيْب حتى يَلْتَقِيَا، والخَطُّ: مَجْرَى سَيْلِهِمَا، فَإِذَا الْتَقيَا انقطعت الشَّرَبَّة، ويَنْتَهِي أَعْلَاهَا مِن القِبْلَةِ إِلى حَزْن مُحَارِب، وقيل: هِيَ فِيمَا بَيْن الزَّبَّاءِ والنَّطُوفِ وفيها هَرْشَى، وهي هَضْبَة دُون المَدينة، وهي مُرْتَفِعَةٌ كَادَت تَكُونُ فيما بين هَضْبِ القَلِيبِ إِلَى الرَّبَذَة، وقيل: إِذا جاوزْتَ النَّقْرَةَ ومَاوَانَ تُرِيدُ مَكَّة وَقَعْتَ في الشَّرَبَّة، وهي أَشَدُّ بِلَادِ نَجْدٍ قُرًّا، ومنها الرَّبَذَةُ وتَنْقَطِعُ عِنْدُ أَعْلَى الجُرَيْب، وهي مِنْ بَلَادِ غَطَفَان، وقيل: هي فِيما بَيْن نَخْل ومَعْدِن بَنِي سُلَيْم. قال: وَهَذِه الأَقَاوِيلُ مُتَقَارِبَةٌ.
قلت: وكونه فِي دِيَار غَطَفَان هُوَ المَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ يَاقُوت في «أُقُرٍ» قال:
وإِلَى الأَمِيرِ من الشَّرَبَّةِ والِّلوَى *** عَنَّيْتُ كُلَّ نَجِيبَةٍ مِحْلَالِ
والشَّرَبَّةُ: الطَّرِيقَةُ كالمَشْرَب يقال: ما زَالَ فُلَانٌ على شَرَبَّةٍ وَاحِدَةٍ أَي على أَمْرٍ وَاحِدٍ.
ومن المَجَاز عَنْ أَبِي عَمْرو: الشَّرْبُ: الفَهْمُ. يُقَالُ: شَرَب كنَصَرَ يَشْرُب شَرْبًا إِذَا فَهِمَ وشَرَب مَا أُلْقِي إِلَيْهِ: فَهِمَه. ويقال للبَليد: احْلُب ثم اشْرُب. أَي ابْرُك ثم افهم. وحَلَبَ إِذَا بَرَكَ كما تَقَدَّم. وشَرِبَ كَفَرِحَ إِذَا عَطِشَ. وشَرِبَ إِذَا رَوِيَ، ضدّ.
وشَرِبَ أَيْضًا إِذا ضَعُفَ بَعِيرُه. وشَرِبَ وفي نُسْخَةٍ: أَو عَطِشَت إِبلُه ورَوِيَتْ عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ، وَهُو ضِدُّ، وقد تَقَدَّمَ في أَشْرَب.
وشِرْبٌ بالكَسْر: موضع.
وشَرْبٌ بالفَتْح: موضع آخَرُ بقُرْب مَكَّةَ حرَسَها اللهُ تَعَالَى، وفيه كَانَتْ وَقْعَةُ الفِجَارِ.
وَشَرِيبٌ كأَمِيرٍ: مَوْضعٌ ود بَيْنَ مكّةَ والبَحْرَيْن.
وشرِيبٌ أَيْضًا: جَبَلٌ نَجْدِيٌّ في دِيَارِ بَنِي كِلَاب.
وشُوْرَبَانُ بالضَّمِّ: قرية بِكَسّ بفتح الكاف وكَسْرِهَا مَعَ إِهْمَال السِّين كما يَأْتِي.
وشَرِبٌ كَكَتِفٍ: موضعٌ قربَ مَكَّةَ المُشَرَّفَة.
وشُرَيْبٌ مصغرًا وشَرْبُبٌ كقُنْفُذٍ: اسْمُ وَادٍ بعَيْنِه، وهو في شِعْر لَبِيد شُرْبُبَة بالهاء:
هل تَعْرِف الدَّارَ بسَفْحِ الشُّرْبُبَهْ
قال الصَّاغَانِيُّ: ولَيْسَ لِلَبِيدٍ على هَذَا الرَّوِيِّ شَيْءٌ.
وشُرْبُوبٌ وشُرْبَةٌ بضَمِّهِنّ وقد تقدّم ضَبْطُ الأَخِير بالفَتْح أَيْضًا، وشَرْبَانُ «بالفَتْح» مَوَاضِعُ قد بَيَّنَّا بَعْضَهَا. ونُحِيل البَقِيَّةَ على مُعْجَم يَاقُوت ومَرَاصِدِ الاطِّلَاعِ فإِنَّهُمَا قد اسْتَوْفَيا بيَانَها.
والشَّارِبُ: الضَّعِيفُ من جَمِيع الحَيَوانِ. يقال: في بَعِيرِك شَارِبٌ، وهو الخَوَرُ والضَّعْفُ في الحَيَوانِ. وقد شَرِبَ كَسَمِع إِذا ضَعُفَ بَعِيرُه. ويقال: نِعْم هَذَا البَعِيرُ لَوْ لَا أَنَّ فِيهِ شَارِبَ خَوَر أَي عِرْقَ خَوَرٍ.
ومن المجاز الشَّارِبانِ وهما أَنْفَانِ طَوِيلَانِ في أَسْفَلِ قَائِم السَّيْف أَحَدُهُما مِنْ هذَا الجَانِب والآخَرُ من هَذَا الجانب، والغاشِيَةُ: ما تَحْت الشَّارِبَيْنِ، قَالَه ابْنُ شُمَيْلٍ. وفي التَّهْذِيبِ: الشَّارِبَانِ: مَا طَالَ مِنْ نَاحيَة السَّبَلَةِ، وبِذلِكَ سُمِّيَ شَارِبَا السَّيْفِ: ما اكْتَنَفَ الشَّفْرَة، وَهُوَ مِنْ ذلِكَ.
ومن المجَازِ أَشْرَبْتَنِي بِتَاءِ الخِطَابِ ما لم أَشْرَب أَي ادّعَيْتَ عَلَيّ مَا لَمْ أَفْعَلْ وهو مَثَلٌ ذكرَه الجَوْهَرِيُّ والمَيْدَانِيّ والزَّمَخْشَرِيّ وابْنُ سِيدَه وابْنُ فَارِس.
وذُو الشُّوَيْرِب: شَاعِرٌ اسْمُه عَبْد الرَّحْمن أَخُو بَني أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ، كَان في زَمَن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
والشُّرْبُبُ كقُنْفُذٍ: الغَمْلِيُّ من النَّبَاتِ، وهو ما الْتَفَّ بعضُه على بَعْضٍ، عن ابن الأَعْرَابِيّ.
* ومما يُسْتَدْرَكُ عليه: قَوْلُهُم في المَثَل: «آخِرُهَا أَقَلُّها شُرْبًا». وأَصْلُه في سَقْيِ الإِبِل، لأَنَّ آخِرَهَا يَرِد وقَد نُزِف الحَوْضُ.
والشَّرِيبَةُ من الغَنَم: التي تُصْدِرُهَا إِذَا رَوِيَتْ فتَتْبِعُهَا الغَنَمُ، هذه في الصَّحَاح. وفي بعض النسخ حَاشِيَة: الصَّوَابُ السَّرِيبَةُ، بالسِّينِ المُهْمَلَة.
والمَشْرَبُ: الوَجْهُ الَّذِي يُشْرَبُ مِنْهُ. والمَشْرَبُ: شَرِيعَةُ النَّهْرِ.
ويقال في صِفَة بَعِيرٍ: نِعْمَ مُعَلَّقُ الشَّرْبةِ هذَا يَقُولُ: يَكْتفِي إِلَى مَنْزِلِه الَّذِي يُرِيدُ بِشَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ لا يَحْتَاجُ إِلَى أُخْرَى.
وتقول: شَرَّبَ مَالِي وأَكَّلَه أَي أَطْعَمَهُ النَّاسَ وسَقَاهُم [به] وظَلَّ مَالي يُؤَكَّل ويُشَرَّب أَي يَرْعَى كَيْفَ شَاءَ، وهو مَجَازٌ.
وشَرَّبَ الأَرْضَ والنَّخْلَ: جَعَلَ لَهَا شَرَابًا. وأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ في صِفَة نَخْل:
مِن الغُلْبِ مِنْ عِضْدَانِ هَامَةَ شُرِّبَتْ *** لِسَقْيٍ وجُمَّتْ للنَّواضِحِ بِئْرُهَا
وكُلّ ذَلِكَ من الشُّرْبِ.
وقال بعض النَّحْوِيّينَ: من المُشْرَبَةِ حُرُوفٌ يَخْرُجُ مَعَهَا عِنْد الوُقُوف عَلَيْها نَحْوُ النَّفْخ إِلَّا أَنَّهَا لم تُضْغَط ضَغْطَ المَحْقُورَة، وهي الزَّايُ والظَّاءُ والذَّالُ والضَّادُ. قال سِيبويه: وبَعْضُ العَرَب أَشَدُّ تَصْويبًا من بَعْض.
وشُرْبةُ، بالضم: مَوْضِعٌ. قال امْرُؤُ القَيْس:
كأَنِّي وَرَحْلِي فَوْقَ أَحْقَبَ قَارِحٍ *** بشُرْبَةَ أَو طَاوٍ بعِرْنَانَ مُوجِسِ
ويُروى بسُرَبة، ويروى بحربة، وقد أَشَرْنَا لَهُ في السِّينِ، والمُصَنِّفُ أَهْمَلَه في المَوْضِعِين.
وأَبُو عَمْرو أَحْمَدُ بنُ الحَسَن الشُّورَابِيّ، بالضم، الأَسْتَرَ ابَاذِيّ، رَوَى عَنْ عَمَّارِ بْنِ رَجَاء، وعَنْه ابنه أَبُو أَحْمَد عَمْرٌو وعن عمرو هذا أَبُو سَعْدٍ الإِدْرِيسِيّ. وأَبُو بَكْر عَبْدُ الرَحْمَن ابْنُ مَحْمُود الشَّوْرَابِيّ، بالفَتْح، مُحَدِّثٌ.
ومن المجاز: أُشْرِبَ الزَّرْعُ: جَرَى فِيهِ الدَّقِيقُ، وكذلك أُشْرِبَ الزَّرْعُ الدَّقِيقَ، غذاه. ويقال للزرعِ إِذَا خَرَجَ قَصَبُه: قد شَرِبَ الزَّرْعُ في القَصَب، وشَرَّبَ قَصَبُ الزَّرْع إِذَا صَارَ المَاءُ فِيهِ. وفي حديث أُحُدٍ «أَنَّ المُشْرِكِينَ نَزَلُوا عَلَى زَرْعِ أَهْلِ المَدِينَة وخَلُّوا فِيه ظُهُورهم وقد شُرِّبَ الزَّرْعُ الدَّقِيقَ». وفي رواية «شَرِبَ الزَّرْعُ الدَّقِيقَ». وهو كِنَايَةٌ عَنِ اشْتِدَادِ حَبِّ الزَّرْعِ وقُرْبِ إِدرَاكِه. يقال: شَرِبَ السُّنْبُلُ الدقيقَ إِذَا صَارَ فِيه طُعْمٌ، والشُّرْبُ فيه مُسْتَعَارٌ، كأَنَّ الدَّقِيقَ كان مَاءً فَشِربَه. وتَقُولُ للسُّنْبُل حِينَئذٍ: شَارِبُ قَمْحٍ، بالإِضافة. كَذَا في الأَسَاسِ.
والشِّرَابُ بالكَسْر: مَصْدَرُ المُشَارَبَة والشِّرْب، بالكَسْر: وَقْتُ الشُرْب. وقال اللِّحْيَانِيّ: يُقَالُ: طَعَامٌ مَشْرَبَةٌ إِذَا كَانَ يُشْرَبُ عَلَيْه المَاءُ [كثيرًا]، كما قَالُوا: شَرَابٌ مَسْفَهَةٌ من سَفَهْتُ المَاءَ إِذَا أَكثرتَ مِنْه فَلَمْ تَرْوَ.
* ومِمَّا اسْتَدْرَكَه شَيْخُنَا: شَرْبَةُ أَبِي الجَهْم. يُقَالُ للشَّيْءِ اللَّذِيذِ الوَخِيمِ عَاقِبَتُه، وذَكَرَ لها قِصَّةً مَع المَنْصُورِ العَبَّاسِيّ نَقْلًا من المُضَافِ والمَنْسُوبِ لِلثَعَالِبِيّ، وأَنْشَدَ:
تَجَنَّبْ سَوِيقَ الِّلْوزِ لا تَشربَنَّه *** فَشُرْبُ سَوِيقِ اللِّوْزِ أَوْدَى أَبا الجَهْمِ
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
15-تاج العروس (ربع)
[ربع]: الرَّبْعُ: الدّارُ بعَيْنِهَا حَيْثُ كانَتْ، كما في الصّحاح. وأَنشد الصّاغَانِيّ لزُهَيْرِ بنِ أَبِي سُلْمَى:فلَمّا عَرَفْتُ الدّارَ قُلْتُ لرَبْعِها *** أَلَا انْعَمْ صَباحًا أَيُّهَا الرِّبْعُ واسْلَم
قال الجَوْهَرِيّ: ج: رِباعٌ بالكَسْرِ، ورُبُوعٌ، بالضَّمِّ، وأَرْبَعُ، كأَفْلُسٍ، وأَرْبَاعُ، كزَنْدٍ وأَزْنَادٍ. شاهد الرِّبُوع قَوْلُ الشِّمَاخِ:
تُصِيبُهُمُ وتُخْطِئُنِي المَنَايَا *** وِأَخْلُفُ فِي رُبُوعٍ عَنْ رُبُوعِ
وشاهِدُ الأَرْبُعِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّة:
أَلِلأَرْبُعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّها *** بَقِيَّةُ وَحْيٍ في بُطُونِ الصَّحَائِفِ
وِالرِّبْعُ: المَحَلَّة. يُقالُ: ما أَوْسَع رُبْعَ فُلانٍ. نقله الجَوْهَرِيّ.
وِالرِّبْعُ: المَنْزِلُ والوَطنُ، مَتى كان، وبِأَىِّ مَكانٍ كان، كُلُّ ذلِك مُشتَقٌّ من رَبَعَ بالمَكَانِ يَرْبَع رَبْعًا، إِذا اطمَأَنَّ، والجَمْعُ كالجَمْعِ، ومِنْهُ الحَدِيثُ: «وهَلْ تَرَك لَنا عَقِيلٌ مِنْ رَبْع» ويُرْوَى: مِنْ رِبَاعٍ، أَرادَ به المَنْزِلَ ودَارَ الإِقامَةِ. وفي حَدِيثِ عائِشةَ رضي الله عنها: «أَنَّها أَرادَتْ بَيْعَ رِبَاعِها» أَي مَنازِلها.
وِالرِّبْعُ: النَّعْشُ، يُقَالُ: حَمَلْتُ رَبْعَهُ، أَيْ نَعْشهُ. ويُقَالُ أَيْضًا: رَبَعَهُ الله، إِذا نَعَشهُ. ورَجُلٌ مَرْبُوعٌ، أَىْ مَعْنُوشٌ.
مُنَفَّسٌ عَنه. وهو مَجَازٌ.
وِالرِّبْعُ: جَمَاعَةُ النّاسِ. وقال شِمرٌ: الرُّبُوعُ: أَهْلُ المَنَازِلِ. وبه فُسِّرَ قوْلُ الشَّمّاخ المُتقدَّم.
وِأَخْلُفُ في رُبُوعٍ عنْ رُبُوعٍ
أَيْ في قَوْمٍ بَعْدَ قَوْمٍ. وقال الأَصْمَعِيّ: يُرِيدُ في رَبْعٍ من أَهْلِي، أَىْ في مَسْكَنِهم.
وقال أَبو مالِكٍ: الرَّبْعُ، مِثْلُ السَّكَنِ، وهُمَا أَهْلُ البَيْتِ، وأَنْشَد:
فإِنْ يَكُ رَبْعُ مِنْ رِجالِي أَصابَهُمْ *** مِن الله والحَتْمِ المُطِلَّ شعُوبُ
وقال شَمْرٌ: الرِّبْعُ: يَكُونُ المَنْزِلَ، ويَكُونُ أَهْلَ المَنْزِلِ.
قالَ ابنُ بَرِّيّ: والرِّبْعُ أَيْضًا: العَدَدُ الكَثِيرُ.
وِالرِّبْعُ: المَوْضِعُ يَرْتَبِعُونَ فيه في الرَّبِيعِ خاصَّةً، كالمَرْبَع كمَقْعَدٍ، وهو مَنْزِلُ القَوْمِ في الرَّبِيعِ خاصَّةً.
تَقُولُ: هذِه مَرَابِعُنا ومَصَايِفُنَا، أَيْ حَيْثُ نَرْتَبعُ ونَصِيفُ، كما في الصحّاح.
وِالرِّبْعُ: الرَّجُلُ المُتَوَسِّطُ القامَةِ بَيْنَ الطُّولِ والقِصَرِ، كالمَرْبُوعِ والرَّبْعَة، بالفَتْح ويُحَرَّكُ، والمِرْبَاعِ كمِحْرابِ، ما رَأَيْتُه في أُمِّهاتِ اللُّغَةِ إِلّا صاحِب المُحِيط، ذَكَرَ «حَبْلُ مِرْبَاعٌ بمَعْنَى مَرْبُوعٍ» فَأَخَذَه المُصَنِّفُ وعَمَّ به، والمُرْتَبِعِ مَبْنِيَّا للفاعِلِ وللمَفْعُولِ، وبِهِمَا رُوِيَ قَوْلُ العَجّاج:
رَباعِيًا مُرْتَبعًا أَو شَوْقَبَا
وقد ارْتَبَعَ الرَّجُلُ، إِذا صَارَ مَرْبُوعَ الخِلْقَةِ. وفي الحَدِيثِ: كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَطْوَلَ من المَرْبُوعِ، وأَقْصَرَ مِنَ المُشَذَّبِ» وفي حَدِيثِ أُمَّ مَعْبَدٍ رضي الله عنها: «كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وآل وسلم رَبْعَةً، لا يَأْسَ مِنْ طُولٍ، ولا تَقْتَحِمُه عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ» أَيْ لَمْ يَكُنْ في حَدِّ الرَّبْعَة غَيْرَ مُتَجَاوِزٍ لَهُ، فجَعَلَ ذلِكَ القَدْرَ مِنْ تَجَاوُز حَدَّ الرَّبْعَة عَدَمَ يَأْسٍ مِنْ بَعْضِ الطُّولِ، وفي تَنْكِيرِ الطُّولِ دَلِيْلٌ على مَعْنَى البَعْضِيَّةِ، وهِيَ رَبْعَةٌ أَيضًا بالفَتح والتَّحْرِيكِ، كالمُذَكَّر وجَمْعُهُمَا جَمِيعًا رَبْعاتُ بسُكُونِ الباءِ، حكاهُ ثَعْلَبُ عَنِ ابن الأَعْرَابِيّ، ورَبَعَاتٌ، مُحَرَّكَةً، وهو شاذٌّ، لأَنَّ فَعْلَةً إِذا كانَتْ صِفَةً لا تُحَرَّكُ عَيْنُهَا في الجَمْع وإِنَّمَا تُحَرَّكُ إِذا كانَت اسْمًا، ولم تَكُنِ العَيْنِ، أَىْ مَوْضِعُ العَيْنِ وَاوًا أَو يَاءَ، كما في العُبَاب والصّحاح.
وفي اللِّسَآن: وإِنَّمَا حَرَّكوا رَبعَاتٍ، وإِنْ كانَ صِفَةً، لأَنَّ أَصْلَ رَبْعَة اسْمٌ مُؤَنَّثٌ وَقَعَ عَلَى المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، فوُصِفَ به.
وقال الفَرّاءُ: إِنَّمَا حُرِّكَ رَبَعَاتٌ لِأَنه جاءَ نَعْتًا للْمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، فكأَنَّهُ اسْمُ نُعِتَ بِهِ.
وقالَ الأَزْهَرِىّ: خُولِفَ به طَرِيقُ ضَمْخمَةٍ وضَخْماتٍ، لِاسْتِواءِ نَعْتِ الرَّجُلِ والمَرْأَةِ في قَوْلِهِ: رَجُلٌ رَبْعَةٌ وامْرَأَةٌ رَبْعَةٌ، فصارَ كالاسْمِ، والأَصلُ في باب فَعْلَة من الأَسْمَاءِ ـ مِثْلِ: تَمْرَةٍ وجَفْنَةٍ ـ أَنْ يُجْمَعَ على فَعَلاتٍ، مِثْل تَمَرَاتٍ وجَفَنَاتٍ، وما كانَ مِنَ النُّعُوتِ عَلَى فَعْلِهِ، مَثْلُ شاةٍ لَجْبَةٍ، وامْرَأَةٍ عَبْلَةٍ، أَنْ يُجْمَعَ على فَعْلاتٍ بسُكُونِ العَيْنِ، وإِنَّمَا جُمِعَ رِبْعَةٌ على رَبَعَاتٍ ـ وهُوَ نَعْتُ ـ لأَنَّهُ أَشْبَه الأَسْمَاءَ لاسْتِواءِ لَفْظِ المُذَكَّرِ والمُؤنَّثِ في وَاحِدِهِ. قالَ وقال الفَرَّاءُ: مِن العَرَبِ مَنْ يَقُولُ: امْرَأَةٌ رَبْعَةٌ، ونِسْوَهٌ رَبْعَاتُ، وكَذلِكَ رَجُلُ رَبْعَةُ ورِجَالُ رَبْعُون، فَيْجْعَلُه كسَائرِ النُّعُوتِ.
وِقال ابن السِّكّيت: رَبَعَ الرَّجُلُ يَرْفَعُ، كمَنَعَ: وَقَفَ وانْتَظَرَ وتَحَبَّس، ولَيْسَ في نَصِّ ابنِ السِّكِّيت: انْتَظَرَ، على ما نَقَلَهُ الجَوْهَرِى والصّاغَانِيّ وصاحِبُ اللِّسَانِ ومِنْهُ قَوْلُهُمْ: ارْبَعْ عَلَيْكَ، أَو ارْبَعْ عَلَى نَفْسِكَ، او ارْبَعْ عَلَى ظُلْعِكَ، أَيْ ارْفُق بِنَفْسِكَ، وكُفَّ، كما في الصّحاح، وقِيلَ: مَعْنَاهُ انْتَظِرْ. قال الأَحْوَصُ:
ما ضَرَّ جِيرانَنَا إِذا انْتَجَعُوا *** لَوْ أَنَّهُمْ قَبْلَ بَيْنِهِمْ رَبَعُوا
وفي المُفَرداتِ: وقَوْلُهُم: ارْبَعَ عَلَى ظَلْعِكَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الإِقَامَةِ، أَيْ أَقِمْ عَلَى ظَلْعِكَ، و [يجوز] أَنْ يَكُونَ مِنْ رَبَعَ الحَجَرَ. أَي تَنَاوَلْهُ عَلَى ظَلْعِك انتهى.
وفي حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّة «ارْبَعِي بِنَفْسِك» ويُرْوَى: عَلَى نَفْسِكَ. ولَهُ تَأوِيلانِ.
أَحَدِهما: بمَعْنَى تَوَقَّفِي وانْتَظِري تَمَامَ عِدَّةِ الوَفَاةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُول: عِدَّتُها أَبْعَدُ الأَجَلَيْنِ. وهُوَ مَذْهَبُ عَلِىُّ وابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم.
والثّانِي، أَنْ يَكُون مِن رَبَعَ الرَّجُلُ، إِذا أَخْصَبَ، والمَعْنَى: نَفَّسِي عَنْ نَفْسِكِ وأَخْرَجِيهَا عَنْ بُؤْسِ العِدَّةِ وسُوءِ الحالِ، وهذا على مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ عِدَّتَهَا أَدْنَى الأَجَلَيْنِ، ولهذا قالَ عُمَرُ: إِذا وَلَدَتْ وزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِه ـ يَعْنِي لَمْ يُدْفَنْ ـ جازَ أَنْ تَتَزَوَّجَ.
وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «فإِنَّهُ لا يَرْبَعُ عَلَى ظَلْعِكَ مَنْ لا يَحْزُنُهُ أَمْرُكَ» أَيْ لا يَحْتَبِسُ عَلَيْكِ ويَصْبِر إِلَّا مَنْ يُهِمُّهُ أَمْرُكَ.
وفي المَثَلِ: «حَدَّثْ حَدِيثَيْنِ امْرَأَةً، فإِنْ أَبَتْ فَارْبَعْ» أَيْ كُفَّ. ويُرْوَى بِقَطْعِ الهَمْزَةِ، ويُرْوَى أَيْضًا: «فأَرْبَعَة» أَي زِدْ، لأَنَّهَا أَضْعَفُ فَهْمًا، فإِنْ لَمْ تَفْهَمْ فاجْعَلْها أَرْبَعَة، وأَرادَ بالحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا وَاحِدًا تَكَرَّرُهُ مَرَّتَيْنِ، فكَأَنَّكَ حَدَّثْتَها بِحَدِيثَيْنِ. قال أَبو سَعِيدٍ: فإِنْ لَمْ تَفْهَمْ بَعْدَ الأَرْبَعَةِ فالمِرْبَعَة، يَعْنِي العَصَا. يُضْرَبُ فِي سُوءِ السَّمْع والإِجابَةِ.
وِرَبَعَ يَرْبَعُ رَبْعًا: رَفَعَ الحَجَرَ باليَدِ وشالَهُ: وقِيلَ: حَمَلَهُ امْتِحَانًا للْقُوَّةِ، قالَ الأَزْهَرِيّ: يُقَالُ ذلِكَ في الحَجَرِ خاصَّةً.
ومِنْهُ الحَدِيثُ: «أَنَّهُ مَرَّ بقَوْمٍ يَرْبَعُونَ حَجَرًا فقالَ: ما هذا؟ فقالُوا: هذا [حَجَرُ] الأشِدّاءِ. فقالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَشَدِّكُمْ؟ مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ». وفي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ قالَ: عُمّالُ اللهِ أَقْوَى مِنْ هؤلاءِ».
وِرَبَعَ الحَبْلَ وكَذلِكَ الوَتَرَ: فَتَلَهُ مِنْ أَرْبَع قُوًى؛ أَي طَاقَاتٍ يُقَالُ: حَبْلٌ مَرْبُوعٌ ومِرْبَاعٌ، الأَخِيرَةُ عن ابْنِ عَبّادٍ.
ووَتْرٌ مَرْبُوعٌ، ومِنْهُ قَوْلُ لَبيدٍ:
رَابِطُ الجَأْشِ عَلَى فَرْجِهِمُ *** أَعْطِفُ الجَوْنَ بمَرْبُوعٍ مِتَلّ
قِيلَ: أَيْ بِعِنانٍ شَدِيدٍ مِنْ أَرْبَعِ قُوًى، وقِيلَ: أَرادَ رُمْحًا، وسَيَأْتِي. وأَنْشَدَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي لَيْلَى:
أَتْرَعَهَا تَبَوُّعًا وَمتَّا *** بالمَسَدِ المَرْبُوعِ حَتَّى ارْفَتّا
التَّبَوُّعُ: مَدُّ الباعِ. وارْفَتَّ: انْقَطَعَ.
وِرَبَعَتِ الإِبِلُ تَرْبَعُ رَبْعًا: وَرَدَت الرَّبْعَ، بالكَسْرِ، بِأَنْ حُبِسَتْ عَنِ الماءِ ثَلاثَةَ أَيّامٍ، أَوْ أَرْبَعَةً، أَو ثَلاثُ لَيال، وَوَرَدَتْ في اليَوْمِ الرّابعِ.
وِالرَّبْعُ: ظِمْءٌ مِنْ أَظْمَاءِ الإِبِلِ، وقد اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: هو أَنْ تُحْبَسَ عَنِ الماءِ أَرْبَعًا، ثُمَّ تَرِد الخامِسَ، وقِيلَ: هو أَنْ تَرِدَ الماءَ يَوْمًا وتَدَعَهُ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ تَرِد اليَوْمَ الرّابِع، وقِيل: هو لِثَلاثِ لَيَالٍ وأَرْبَعَةِ أَيّامٍ. وقَدْ أَشَارَ إِلَى ذلِكَ المُصَنَّفُ في سِيَاقِ عِبَارَتِهِ مَعَ تَأَمُّلٍ فِيهِ.
وِهِيَ إِبِلٌ رَوابِعُ، وكَذلِكَ إِلَى العِشْرِ. واسْتَعَارَهُ العَجّاج لِوِرْدِ القطَا، فقال:
وِبَلْدَةٍ يُمْسِي قَطاها نُسَّسَا *** رَوابِعًا وقدْرَ رِبْعِ خُمَّسَا
وِرَبَعَ فُلانٌ يَرْبَعُ رَبْعًا: أَخْصَبَ، مِن الرَّبِيعِ. وبه فَسَّرَ بَعْضٌ حَدِيثُ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ، كما تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
وِعَلَيْه الحُمَّى: جاءَتْهُ رِبْعًا، بالكَسْرِ، وقَدْ رُبِعَ، * كعُنِيَ، وأُرْبَعَ بالضَّمَّ، فهو مَرْبُوعٌ ومُرْبَعٌ وهى أَى الرَّبْعُ من الحُمَى أَنْ تَأْخُذَ يَوْمًا وتَدَعَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ تَجِيءَ فِي اليَوْمِ الرّابعِ قالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
لَثِقًا تُجَفْجِفُهُ الصبا وكَأَنَّهُ *** شاكٍ تَنَكّرَ وِرْدُهُ مَرْبوعُ
وِأَرْبَعَتْ عَلَيْهِ الحُمَّى: لُغَةٌ في رَبَعَت، كَما أَنَّ أَرْبَعَ لُغَةٌ في رُبْعَ. قال أُسَامَةُ الهُذَليّ.
إِذا بَلَغُوا مِصْرَهُمْ عُوجِلُوا *** مِنَ المَوْت بالهِمْيَغِ الذّاعِطِ
مِنَ المُرْبِعِينَ ومِنْ آزِلٍ *** إذا جَنَّهُ اللَّيْلُ كالنّاحِطِ
ويُقَالُ: أَرْبَعَتْ عَلَيْهِ: أَخَذَتْه رِبْعًا. وأَغَبَّتْهُ: أَخَذَتْهُ غِبَّا.
ورَجُلٌ مُرْبعٌ ومُغِبُّ، بِكَسْرِ الباءِ. قالَ الأَزْهَرِيُّ: فقيلَ لَهُ: لِمَ قُلْتَ: أَرْبَعَتِ الحُمَّى زَيْدًا، ثُمَّ قُلْتَ: مِنَ المُرْبِعِين، فجَعَلْتَه مَرَّةً مَفْعُولًا وَمَرَّةً فاعِلًا؟ فقالَ: يُقَالُ: أَرْبَعَ الرَّجلُ أَيْضًا. قالَ الأَزْهَرِيّ: كَلامُ العَرَبِ أَرْبَعَتْ عَلَيْهِ الحُمَّى، والرَّجُلُ مُرْبَعٌ، بِفَتْحِ الباءِ. وقالَ ابنُ الأَعْرَابِيّ: أَرْبَعَتْهُ الحُمَّى، ولا يُقَالُ: رَبَعَتْهُ.
وِرَبَعَ الحِمْلَ يَرْبَعُهُ رَبْعًا، إذا أَدْخَلَ المِرْبَعَةَ تَحْتَهُ، وأَخَذَ بطَرَفِها، وأَخَذَ آخَرُ بطَرَفِها الآخَرِ، ثُمَّ رَفَعاهُ عَلَى الدَّابَّة. قالَ الجَوْهَرِيّ: فإِنْ لم تَكُنْ مِرْبَعَةٌ أَخَذَ أَحَدُهما بيَدِ صاحِبِهِ، أَيْ تَحْتَ الحِمْلِ حَتَّى يَرْفَعاهُ عَلَى البَعِيرِ، وهي المُرَابَعَةُ. وأَنْشَدَ ابنُ الأَعْرَابِيّ:
يا لَيْتَ أُمَّ العَمْرِ كَانَتْ صاحِبِي *** مَكَانَ مَنْ أَنْشَا عَلَى الرَّكَائِبِ
وِرابَعَتْنِي تَحْتَ لَيْلٍ ضارِبِ *** بِسَاعِدٍ فَعْمٍ وكَفَّ خاضِبِ
أَنْشَا: أَصْلُهُ أَنْشَأَ، فلَيَّنَ الهَمْزَةَ للضَّرُورَةِ. وقالَ أَبو عُمَرَ الزَّاهِدُ في «اليَواقِيتِ»: أَنْشَا: أَي أَقْبَلَ.
وِرَبَعَ القَوْمَ يَرْبَعُهُمْ رَبْعًا: أَخَذَ رُبْعَ أَمْوَالِهِم، مِثْل عَشَرَهُمْ عَشْرًا.
وِرَبَعَ الثَلاثَةَ: جَعَلَهُمْ بِنَفْسِهِ أَرْبَعَةً و: صارَ رابِعَهُمْ يَرْبُعُ ويَرْبِعُ ويَرْبَعُ، بالتَّثْلِيثِ فِيهِما، أَيْ في كُلَّ مِنْ رَبَعَ القَوْمَ، والثَّلاثَةَ.
وِرَبَعَ الجَيْشَ، إذا أَخَذَ مِنْهُم رُبْعَ الغَنِيمَةِ، ومُضَارِعُه يَرْبعُ ـ من حَدَّ ضَرَبَ ـ فَقَطْ، كما هو مُقْتَضَى سِيَاقِهِ، وفيه مُخَالَفَةٌ لِنَقْلِ الصّاغَانِيّ، فإنَّهُ قال: رَبَعْتُ القَوْمَ أَرْبُعُهُمْ وأَربِعُهُمْ وأَرْبَعُهُمْ، إذا صِرْتَ رابِعَهمْ، أَوْ أَخَذْتَ رُبْعَ الغَنِيمَةِ، قالَ ذلِكَ يُونُسُ في كتاب «اللُّغَاتِ» واقْتَصَرَ الجَوْهَريّ عَلَى الفَتْحِ، ثُمَّ إنَّ مَصْدَرَ رَبَعَ الجَيْشَ رَبْعٌ ورَبَاعَةٌ. صَرَّحَ به في اللَّسَانِ. وفي الحَدِيثِ: «أَلَمْ أَجْعَلْكَ تَرْبَعُ وتَدْسَعُ» أَي تَأَخُذُ المِرْباعَ، وقَدْ مَرَّ الحَدِيثُ في «د س ع» وقِيل في التَّفْسِير: أَيْ تَأْخُذ رُبْعَ الغَنِيمَةِ؟والمَعْنَى: أَلَمْ أَجْعَلْك رَئِيسًا مُطاعًا؟ كانَ يُفْعَل ذلِكَ، أَيْ أَخْذُ رُبْع ما غَنِمَ الجَيْشُ في الجاهِلِيَّة، فرَدَّهُ الإِسْلامُ خُمُسًا، فقالَ تَعالَى جَلَّ شَأْنُه: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}.
وِرَبَعَ عَلَيْهِ رَبْعًا: عَطَفَ، وقيلَ: رَفَقَ.
وِرَبَعَ عَنْه رَبْعًا: كَفَّ وأَقْصَرَ.
وِرَبَعَت الإِبِلُ تَرْبَعُ رَبْعًا: سَرَحَتْ في المَرْعَى، وأَكَلَتْ كَيْفَ شَاءَتْ وشَرِبَتْ، وكذلِكَ رَبَعَ الرَّجُلُ بالمَكَانِ، إذا نَزَلَ حَيْثُ شاءَ في خِصْبٍ ومَرْعًى.
وِرَبَعَ الرَّجُلُ في الماءِ: تَحَكَّمَ كَيْفَ شاءَ.
وِرَبَعَ القَوْمَ: تَمَّمَهُمْ بنَفْسِهِ أَرْبَعَةً، أَو أَرْبَعِينَ، أَوْ أَرْبَعَةً وأَرْبَعِينَ، فعَلَى الأَوّل: كانُوا ثَلاثَةً فكَمَّلَهُمْ أَرْبَعَةً، وعَلَى الثَّانِي: كانُوا تِسْعَةً وثلاثِينَ فكَمَّلَهُمْ أَرْبَعِينَ، وعَلَى الثَّالِثِ: كانُوا ثَلاثَةً وأَرْبَعِينَ فكَمَّلَهُمْ أَرْبَعَةً وأَرْبَعِينَ.
وِرَبَعَ بالمَكَانِ: اطْمَأَنَّ وأَقامَ قالَ الأَصْبَهَانِيّ في «المُفْرَدات» وأصْلُ رَبَعَ: أَقامَ في الرَّبِيع، ثم تُجُوَّزَ به في كُلِّ إِقَامَةٍ، وكُلَّ وَقْتٍ، حَتَّى سُمِّيَ كُلُّ مَنْزِلٍ رَبْعًا، وإنْ كان ذلِكَ في الأَصْل مُخْتَصًا بالرَّبِيع.
وِرُبِعُوا، بالضَّمِّ: مُطِرُوا بالرَّبِيع، أَيْ أَصابَهُم مَطَرُ الرَّبِيعِ. ومِنْهُ قَوْلُ أَبِي وَجْزَةَ:
حَتَّى إذا ما إيالاتٌ جَرَتْ بُرُحًا *** وِقَدْ رَبَعْنَ الشَّوَى مِنْ ماطِرٍ مَاجِ
أَي أَمْطَرْن، ومن ماطِرٍ: أَي عَرَقٍ مَأْج؛ أَي مِلْح.
يقول: أَمْطَرْنَ قَوَائِمَهنَّ مِنْ عَرَقِهِنّ.
وِالمِرْبَعُ والمِرْبَعَةُ، بكَسْرِهِمَا، الأُولَى عَن ابْنِ عَبّادٍ وصاحِبِ المُفْرَداتِ: العَصَا الَّتِي تُحْمَلُ بها الأَحْمَالُ. وفي الصّحاح: عُصَيَّةٌ يأْخُذُ رَجُلانِ بطَرَفَيْها ليَحْمِلَا الحِمْلَ ويَضَعاه على ظَهْرِ الدَّابَّةِ.
وفي المُفْرداتِ: المِرْبَعُ: خَشَبٌ يُرْبَعُ به، أَيْ يُؤْخَذ الشَّيءُ به. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ومِنْهُ قَوْلُ الراجِزِ:
أَيْنَ الشِّظاظانِ وأَيْنَ المِرْبَعَهْ *** وِأَيْنَ وَسْقُ النّاقَةِ الجَلَنْفَعَهْ
وِمَرْبَعٌ، كمَقْعَدٍ: موضع، قِيلَ هو جَبَلٌ قُرْبَ مَكَّةَ. قال الأَبَحُّ ابنُ مُرَّة أَخو أَبِي خِراش:
عَلَيْكَ بَنِى مُعَاوِيَةَ بنِ صَخْرٍ *** فأَنْتَ بمَرْبَعٍ وهُمُ بِضِيمِ
والرِّوايَة الصَّحِيحَة: «فأَنْتَ بعَرْعَرٍ».
وِمِرْبَعٌ، كمِنْبَرٍ ابنُ قَيْظِيّ بنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيّ الحارِثيّ، وإِلَيْه نُسِبَ المالُ الَّذِي بالمَدِينَةِ في بَنِي حَارِثَةَ، له ذِكْرٌ في الحَدِيثِ، وهو وَالِدُ عَبْدِ الله، شَهِدَ أُحُدًا، وقُتِلَ يَوْمَ الجِسْرِ، وعَبْدِ الرَّحْمن شَهِدَ أُحُدًا وما بَعْدَها، وقُتِلَ مع أَخِيهِ يَوْمَ الجِسْرِ، وزَيْدٍ نَقَلَه الحافِظُ في التَّبْصِير. وقال يَزِيدُ بنُ شَيْبَانَ: «أَتانا ابنُ مِرْبَعٍ ونَحْنُ بعَرَفَةَ» يَعْنِي هذا، ومُرَارَةَ، ذَكَرَهُ ابنُ فَهْدٍ والذَّهَبِيّ الصَّحابِيِّينَ، وكَانَ أَبُوهُمْ مِرْبَعٌ أَعْمَى مُنافقًا، رَضِيَ الله عَنْ بَنِيهِ.
وِمِرْبَعٌ: لَقَبُ وَعْوَعَةَ بنِ سَعِيد بنِ قُرْطِ بنِ كَعْبِ بنِ عَبْدِ بنِ أَبِي بَكْرِ بنِ كِلابٍ رَاوِيَةِ جَرِيرٍ الشاعِرِ، وفِيهِ يَقُولُ جَرِيرٌ:
زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أَنْ سَيَقْتُلُ مِرْبَعًا *** أَبْشِر بِطُولِ سَلامَةٍ يا مِرْبَعُ
وِأرْضٌ مَرْبَعَةٌ، كمَجْمَعَةٍ: ذاتُ يَرَابِيعَ نَقَلَهُ الجَوْهَرِي.
وِذُو المَرْبَعِيّ قَيْلٌ: مَنْ الأَقْيَالِ.
وِالمِرْبَاع، بالكَسْرِ: المَكَانُ يَنْبُتُ نَبْتُه في أَوَّل الرَّبِيعٍ.
قال ذُو الرُّمَّةِ:
بِأَوَّلِ ما هَاجَتْ لَكَ الشَّوْقَ دِمْنَةٌ *** بأَجْرَع مِرْباعٍ مَرَبٍّ مُحَلَّلِ
ويُقَالُ: رُبِعَتِ الأَرْضُ فهي مَرْبُوعَةٌ، إذا أَصابَها مَطَرُ الرَّبِيعِ. ومُرْبِعَةٌ ومِرْباعٌ: كَثِيرَةُ الرَّبِيعِ.
وِالمِرْباعُ: رُبُعُ الغَنِيمَة الَّذِي كانَ يَأْخُذُهُ الرَّئيسُ في الجَاهِلِيَّة، مَأْخُوذٌ من قَوْلهم: رَبَعْتُ القَوم؛ أَي كانَ القَوْمُ يَغْزُونَ بَعْضَهم في الجاهِليَّةِ، فيَغْنَمُون، فيَأْخُذُ الرَّئِيسُ رُبُعَ الغَنِيمَةِ دُونَ أَصْحابِهِ خَالِصًا، وذلِكَ الرُّبُعُ، يُسَمَّى المِرْبَاعَ.
ونَقَلَ الجَوْهَرِيّ عن قُطْرُب: المِرْباعُ: الرُّبُعُ، والمِعْشَارُ: العُشْرُ، قالَ: ولَمْ يُسْمَعْ في غَيْرِهما. قالَ عَبْدُ الله بنُ عَنَمَةَ الضَّبِّيّ:
لَكَ المِرْباعُ مِنْهَا والصَّفايَا *** وِحُكْمُكَ والنَّشِيطَةُ والفُضُولُ
وِفي الحَدِيثِ قالَ لِعَدِيّ بن حاتِمٍ ـ قَبْلَ إِسْلامِه ـ: «إِنَّكَ لَتَأْكُلُ المِرْبَاعَ وهو لا يَحِلُّ لَك في دِينِكَ».
وِالمِرْبَاعُ: النَّاقَةُ المُعْتَادَةُ بأَنْ تُنْتَجَ في الرَّبِيع. ونَصُّ الجَوْهَرِيّ: ناقَةٌ مُرْبعٌ: تُنْتَجُ في الرَّبِيعِ، فإِنْ كانَ ذلِكَ عادَتَها فهي مِرْبَاعٌ، أَو هي الَّتِي تَلِدُ في أَوَّلِ النِّتَاجِ، وهو قَوْلُ الأَصْمَعِيّ. وبه فُسِّرَ حَدِيثُ هِشَامِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ في وَصْفِ ناقَةِ: «إِنَّهَا لَهِلْوَاعٌ مِرْبَاعٌ، مِقْراعٌ مِسْياعٌ، حَلْبانَةٌ رَكْبَانَةٌ»، وقِيلَ: المِرْباعُ: هي الَّتِي وَلَدُهَا مَعَهَا، وهوَ رِبْعٌ، وقِيل: هي الَّتِي تُبَكِّرُ في الحَمْلِ.
وِالأَرْبَعَةُ فِي عَدَدِ المُذَكَّرِ، والأَرْبَعُ فِي عَدَدِ المُؤَنَّثِ، والأَرْبَعُونَ في العَدَدِ بَعْدَ الثّلاثِينَ. قال الله تَعالَى: {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} وقالَ: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
وِالأَرْبِعَاءُ من الأَيّام: رابِعُ الأَيّام مِن الأَحَدِ، كَذَا في المُفْرَدَات، وفي اللِّسَان: منَ الأُسْبُوع، لِأَنَّ أَوَّلَ الأَيَّامِ عِنْدَهم يَوْمُ الأَحَدِ، بدَلِيلٍ هذِهِ التَّسْمِيَة، ثم الاثْنَانِ، ثم الثلاثاءُ، ثُمَّ الأَرْبَعَاءُ، ولكِنَّهُمْ اخْتَصُّوهُ بهذا البِناءِ، كما اخْتَصُّوا الدَّبَرانَ والسِّماكَ؛ لِمَا ذَهَبُوا إلَيْه من الفَرْق مُثَلَّثَةَ الباءِ مَمْدُودَةً. أَمّا فَتْحُ الباءِ فقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَسَدٍ، كما نَقَلَهُ الجَوْهَرِيّ، وهكذا ضَبَطَهُ أَبو الحَسَن مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ الزُّبَيْدِيّ فيما اسْتَدْرَكَه علَى سِيبَوَيْهِ في الأَبْنِيَة، وقَالَ: هو أَفْعَلاءُ، بفَتْحِ العَيْن.
وقَالَ الأَصْمَعِيّ: يَوْمُ الأَرْبُعَاء، بِالضَّمِّ، لُغَةٌ في الفَتْح والكَسْرِ.
وقال الأَزْهَرِيّ: ومَنْ قالَ: أَرْبِعاء حَمَلَهُ عَلى أَسْعِداء، وهُمَا أَرْبِعاءانِ، ج: أَرْبِعاءَاتٌ. حُمِلَ على قِياسِ قَصْباءِ وما أَشْبَهَهَا.
وقال الفَرّاءُ عن أَبِي جَخَادِبَ: تَثْنِيَةُ الأَرْبَعَاءِ أَرْبَعاءان، والجَمْعُ أَرْبَعاءات، ذَهَبَ إِلى تَذْكِير الاسْمِ.
وقَال اللِّحْيَانِيّ: كان أَبُو زِيَاد يقول: مَضَى الأَرْبَعَاءُ بما فيه، فيُفْرِدُهُ ويُذَكِّره. وكانَ أَبو الجَرَّاح يقولُ: مَضَتِ الأَربعاءُ بما فِيهِنَّ، فيُؤَنِّثُ ويَجْمَع، يُخْرِجُه مَخْرَج العَدَدِ.
وقال القُتَيْبِيّ: لَمْ يَأْتِ أَفْعِلاءُ إِلّا في الجَمْعِ، نحو أَصْدِقَاءَ وأَنْصِبَاءَ، إِلَّا حَرْفٌ وَاحِدٌ لا يُعْرَفُ غَيْرُه، وهو الأَرْبِعاءُ. وقال أَبو زَيْدٍ: وقد جاءَ أَرْمِدَاء، كما في العُبَاب.
قال شَيْخُنا: وأَفْصَحُ هذِه اللُّغَاتِ الكَسْرُ، قالَ: وحَكَى ابْنُ هِشَامٍ كَسْرَ الهَمْزَةِ مع الباءِ أَيْضًا، وكَسْرَ الهَمْزَةِ وفَتْحَ الباءِ. ففي كَلام المُصَنِّفِ قُصُورٌ ظاهرٌ. انتهى.
وِقالَ اللِّحْيَانيّ: قَعَدَ فُلانٌ الأُرْبُعاءَ والأُرْبُعاوَى، بِضَمِّ الهَمْزَةِ والباءِ مِنْهُمَا، أَيّ مُتَرَبِّعًا. وقالَ غَيْرُه: «جَلَس الأُرْبَعَاء، بضَمِّ الهَمْزَةِ وفَتْحِ الباءِ والقَصْر، وهي ضَرْبٌ من الجِلَسِ، يَعْنِي جَمْعَ جِلْسَة.
وحَكَى كُرَاعِ: جَلَسَ الأُرْبَعَاوَى؛ أَي مُتَرَبِّعًا، قالَ: ولا نَظِيرَ لهُ.
وِقالَ القُتَيْبيّ: لَمْ يَأْتِ على أُفْعُلاءَ إِلَّا حَرْفٌ وَاحِدٌ، قالُوا: الأُرْبُعاءُ. وهو أَيْضًا: عَمُودٌ مِنْ: عُمُدِ البِنَاءِ.
قال أَبُو زَيْدٍ: ويُقَالُ: بَيْتٌ أُرْبُعاواءُ، عَلَى أُفْعُلاواءَ، بالضَّمِّ والمَدِّ، أَيْ عَلَى عَمُودَيْنِ وثَلَاثةٍ وأَرْبَعَةٍ ووَاحِدَةٍ، قالَ: والبُيُوتُ على طَرِيقَتَيْنِ وثَلَاثٍ وأَرْبَعٍ، وطَرِيقَةٍ وَاحِدَة، فَما كان عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فهو خِبَاءٌ، وما زادَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فهو بَيْتٌ، والطَّرِيقَةُ: العَمُودُ الوَاحِدُ، وكُلُّ عَمُودٍ طَرِيقَةٌ، وما كانَ بَيْنَ عَمُودَيْنِ فهو مَتْنٌ، وحَكَى ثَعْلَبٌ: بَنَى بَيْتَه عَلَى الأَرْبُعَاءِ وعَلَى الأَرْبُعَاوَى ـ ولَمْ يَأْتِ عَلَى هذا المِثَال غَيْرُه ـ: إِذا بَنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَعْمِدَةٍ.
وِالرَّبِيعُ: جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ السَّنَةِ، وهو عِنْدَ العَرَبِ رَبِيعَانِ: رَبِيعُ الشُّهُورِ، ورَبِيعُ الأَزْمِنَةِ: فرَبِيعُ الشُّهُورِ: شَهْرَانِ بَعْدَ صَفَر سُمِّيَا بذلك لأَنَّهُمَا حُدَّا فِي هذا الزَّمَن، فلَزِمَهُمَا في غَيْرِه، ولا يُقَالُ فيهما إِلَّا شَهْرُ رَبِيعٍ الأَوّل، وشَهْرُ رَبِيعٍ الآخِر.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ: العَرَبُ تَذْكُر الشُّهُورَ كُلَّهَا مُجَرَّدَةً، إِلّا شَهْرَيْ رَبِيعٍ، وشَهْرَ رَمَضَان.
وِأَمّا رَبِيعُ الأَزْمِنَةِ فرَبِيعانِ: الرَّبِيعُ الأَوَّلُ وهو الفَصْلُ الَّذِي يَأْتِي فِيهِ النَّوْر والكَمْأَةُ، وهو رَبِيعُ الكَلإِ.
وِالرَّبِيعُ الثَّانِي، وهو الفَصْلُ الَّذِي تُدْرَكُ فيه الثِّمَار، أَوْ هو أَي، ومِنَ العَرَب مَنْ يُسَمِّي الفَصْلَ الَّذِي تُدُرِكُ فيه الثِّمَارُ، وهو الخَرِيف الرَّبِيع الأَوّل، ويُسَمِّي الفَصْلَ الَّذِي يَتْلُو الشِّتَاءَ ويَأْتِي فِيه الكَمْأَةُ والنَّوْرُ الرَّبِيعَ الثّانِي، وكُلُّهُم مُجْمِعُون علَى أَنَّ الخَرِيفَ هو الرَّبِيعُ.
وقال أَبو حَنِيفَةَ: يُسَمَّى قِسْمَا الشِّتَاءِ رَبِيعَيْنِ: الأَوّلُ مِنْهُمَا: رَبِيعُ الماءِ والأَمْطَارِ، والثَّانِي: رَبِيعُ النَّبَاتِ لِأَنَّ فِيهِ يَنْتَهِي النَّبَاتُ مُنْتَهَاهُ. قالَ: والشِّتاءُ كُلُّهُ رَبِيعٌ عِنْدَ العَرَبِ لِأَجْل النَّدَى. وقالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيّ يَصِفُ ظَبْيَةً:
بِهِ أَبَلَتْ شَهْرَيْ رَبِيعٍ كِلَيْهِما *** فقَدْ مَارَ فِيها نَسْؤُهَا واقْتِرارُهَا
«به» أَيْ بِهذَا المَكَانِ، أَبَلَتْ: جَزَأَتْ.
أَو السَّنَةُ عِنْدَ العَرَبِ سِتَّةُ أَزْمِنَةٍ: شَهْرَانِ منها الرَّبِيعُ الأَوَّلُ، وشَهْرَانِ صَيْفٌ، وشَهْرَانِ قَيْظٌ، وشَهْرَانِ الرَّبِيعُ الثّانِي، وشَهْرَانِ خَرِيفٌ، وشَهْرَان شِتَاءٌ، هكذا نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عن أَبي الغَوْثِ. وأَنْشَدَ لِسَعْدِ بنِ مالك بنِ ضُبَيْعَةَ:
إِنَّ بَنِيَّ صِبْيَةٌ صَيْفِيُّونْ *** أَفْلَحَ مَنْ كانَ لَهُ رِبْعِيُّونْ
قالَ: فجَعَلَ الصَّيْفَ بَعْدَ الرَّبِيع الأَوّل.
وحَكَى الأَزْهَرِيّ عن أَبِي يَحْيَى بنِ كُنَاسَةَ في صِفَةِ أَزْمِنَةِ السَّنَةِ وفُصُولها ـ وكانَ عَلَّامَةً بِهَا ـ: أَنَّ السَّنَةَ أَرْبَعَةُ أَزْمِنَةٍ: الرَّبِيعُ الأَوَّلُ، وهو عِنْدَ العامَّةِ الخَرِيف، ثُمَّ الشِّتِاءُ، ثم الصَّيْفُ، وهو الرَّبِيعُ الآخِرُ، ثُمَّ القَيْظُ. وهذا كُلُه قَوْلُ العَرَبِ في البادِيَة، قالَ: والرَّبِيعُ [الأَول] الذي هو الخَرِيف عِنْدَ الفُرْس يَدْخُل لِثَلاثَةِ أَيّامٍ مِنْ أَيْلُولَ. قالَ: ويَدْخُلُ الشِّتاءُ لِثَلَاثَةِ أَيّامٍ مِنْ كَانُونَ الأَوّلِ، ويَدْخُل الصَّيْفُ الَّذِي هُوَ ـ الرَّبِيعُ عِنْدَ الفُرْسِ ـ لِخَمْسَةِ أَيّامٍ تَخْلُو مِن آذار. ويَدْخُلُ القَيْظُ ـ الَّذِي هو الصَّيْفُ عِنْدَ الفُرُسِ ـ لِأَرْبَعَةِ أَيّامٍ تَخْلُو مِن حَزِيرَانَ.
قال أَبو يَحْيَى: ورَبِيعُ أَهْلِ العِرَاق مُوافِقٌ لِرَبِيعِ الفُرْسِ، وهُوَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الشِّتَاءِ، وهو زَمانُ الوَرْدِ، وهو أَعدَلُ الأَزْمِنَةِ. قال: وأَهْلُ العِرَاقِ يُمْطَرُونَ في الشِّتَاءِ كُلِّهِ، ويخْصِبُونَ في الرَّبِيعِ الَّذِي يَتْلُو الشِّتَاءِ. وأَمّا أَهْلُ اليَمَنِ فإِنَّهُمْ يُمْطَرُونَ في القَيْظِ ويُخْصِبُون فِي الخَرِيفِ الَّذِي تُسَمِّيهِ العَرَبُ الرَّبِيعَ الأَوَّل.
قالَ الأَزْهَرِيّ: وإِنَّمَا سُمِّيَ فَصْلُ الخَرِيفِ خَرِيفًا، لأَنَّ الثِّمَارَ تُخْتَرَفُ فِيهِ، وسَمَّتْهُ العَرَبُ رَبِيعًا، لوقُوعِ أَوَّل المَطَرِ فيه.
وِقالَ ابنُ السِّكِّيت: رَبِيعٌ رَابِعٌ، أَيْ مُخْصِبٌ، النِّسْبَةُ رَبْعِيٌّ، بالكَسْرِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، ومِنْهُ قَوْلُ سَعْدِ بنِ مالِكٍ الَّذِي تَقَدَّمَ:
أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ رِبْعِيُّون
وِرِبْعِيُّ بنُ أَبِي رِبْعِيٍّ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: اسْمُ أَبِي رِبْعِيّ رَافِعُ بنُ الحَارِثِ بنِ زَيْدٍ بنِ حارِثَةَ البَلَوِيّ، حَلِيفُ الأَنْصَارِ، شَهِدَ بَدْرًا. ورِبْعِيُّ بنُ رَافِعٍ هو الَّذِي تَقَدَّم ذِكْرُهُ ورِبْعِيُّ بنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِيّ بَدْرِيٌّ، ورِبْعِيٌّ الأَنْصَارِيّ الزُّرَقِيُّ، الصَّوابُ فِيه رَبِيعٌ: صَحَابِيُّون، رضي الله عنهم ورِبْعِيُّ بنُ حِرَاش: تابِعِيٌّ يُقَالُ: أَدْرَكَ الجَاهِلِيَّةَ، وأَكْثَرَ الصَّحَابَة، تَقَدَّمَ ذِكْرُه فِي «ح ر ش» وكَذا ذِكْرُ أَخَوَيْهِ مَسْعُود والرَّبِيع. رَوَى مَسْعُودٌ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ، وأَخُوه رَبِيعٌ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بَعْدَ المَوْتِ، فكانَ الأَوْلَى ذِكْرَهُ عندَ أَخِيهِ، والتَّنْوِيهَ بشَأْنِهِ لأَجْلِ هذِه النُّكْتَةِ، وهو أَوْلَى مِن ذِكْرِ مِرْبَع بأَنَّه كانَ أَعْمَى مْنَافِقًا. فتَأَمَّلْ.
وِرِبْعِيَّةُ القَوْم: مِيرَتُهم أَوَّلَ الشِّتَاءِ، وقِيلَ: الرِّبْعِيَّة: مِيرَةُ الرَّبِيع، وهي أَوَّلُ المِيرِ، ثمّ الصَّيْفِيّةُ، ثمّ الدّفَئِيَّة، ثم الرَّمَضِيَّةُ.
وِجَمْعُ الرَّبَيعِ: أَرْبِعاءُ، وأَرْبِعَةٌ مِثْلُ: نَصِيبٍ، وأَنْصِبَاءَ، وأَنْصِبَةٍ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ ويُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى رِبَاعٍ، عَن أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ جَمْعُ رَبِيعِ الكَلإِ أَرْبِعَةٌ، وجَمْعُ رَبِيعِ الجَدَاوِلِ جَمْع جَدْولٍ، وهو النَّهْرُ الصَّغِيرُ، كما سَيَاتِي للمُصَنِّفِ أَرْبِعاءُ وهذا قَوْلُ ابن السِّكِّيت، كَما نَقَلَه الجَوْهَرِيّ، ومنهالحَدِيث: «أَنَّهُمْ كانُوا يُكْرُون الأَرْضَ بِما يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعاءِ، فنُهِيَ عن ذلِكَ»؛ أَي كانوا يَشْتَرِطُونَ على مُكْتَرِيها ما يَنْبُتُ عَلَى الأَنْهَارِ والسَّوَاقِي. أَمّا إكْرَاؤُهَا بدَرَاهِم أَو طَعَامٍ مُسَمًّى، فَلا بَأْسَ بِذلِكَ. وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَنَّ أَحَدَهُمْ كَان يَشْتَرِطُ ثَلاثَةَ جَدَاوِلَ، والقُصارَةَ، وما سَقَى الرَّبِيع، فنُهُوا عَنْ ذلِكَ». وفي حَدِيثِ سَهْل بنِ سَعْدٍ: «كانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تأْخُذ من أُصُولِ سِلْقٍ كُنَّا نَغْرِسُه عَلَى أَرْبِعائِنا».
وِيَوْمُ الرَّبِيعِ: من أَيّام الأَوْسِ والخَزْرَج، نُسِبَ إِلَى مَوْضِع بالمَدِينَة من نَوَاحيها. قال قَيْسُ بنُ الخَطِيمِ:
وِنَحْنُ الفَوارِسُ يومَ الرَّبِي *** عِ قد عَلِمْوا كيف فُرْسانُها
وِأَبو الرَّبِيعِ: كُنْيَةُ الهُدْهُدِ، لأَنَّهُ يَظْهَرُ بظُهُورِهِ، وكُنْيَةُ جَمَاعَةٍ من التّابِعِين والمُحَدِّثين، بَلْ وفي الصَّحَابَةِ رَجُلٌ اسْمُه أَبُو الرَّبِيعِ، وهو الَّذِي اشْتَكَى فعادَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأَعْطَاهُ خَمِيصَةً. أَخْرَجَ حَدِيثَهُ النَّسَائِي.
ومن التّابِعِينَ: أَبُو الرَّبِيعِ المَدَنِيّ، حَدِيثُهُ في الكُوفيِّينَ، رَوَى عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، وعَنْه عَلْقَمَةُ بنُ مَرْثَدٍ.
ومِن المُحَدِّثِينَ: أَبُو الرَّبِيعِ المَهْرِيُّ الرِّشْدِينيّ، هو سُلَيْمَانُ بنُ دَاوودَ بنِ حَمّادِ بنِ عَبْدِ الله بن وَهْبٍ، رَوَى عَنْهُ أَبو دَاوودَ.
وأَبو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيّ، اسْمُه سُلَيْمَانُ بنُ داوودَ، عَنْ حَمّادِ بنِ زَيْدٍ، وعَنْهُ البُخَارِيّ ومُسْلِمٌ.
وأَبو الرَّبِيعِ السَّمَّان، اسْمُه أَشْعَثُ بنُ سَعِيد، رَوَى عَنْ عاصِمِ بنِ عُبَيْدٍ، وعَنْهُ وَكِيعٌ. ضَعَّفُوه.
وِالرَّبِيعُ، كَأَمِيرٍ: سَبْعَةٌ صَحابِيُّون، وهم: الرَّبِيعُ بنُ عَدِيِّ بنِ مالِكٍ الأَنْصَارِيّ، شَهِدَ أُحُدًا، قالَهُ ابنُ سَعْدٍ، والرَّبِيعُ ابنُ قارِبٍ العَبْسِيّ، لَهُ وِفَادَةٌ، ذَكَرَهُ الغَسّانِيّ، والرَّبِيعُ بنُ مُطَرِّفٍ التَّمِيمِيّ الشاعر، شَهِدَ فَتْحَ دِمَشقَ، والرَّبِيع بنُ النُّعْمَان بنِ يساف، قالَهُ العديّ، والرَّبِيع بن النُعْمانِ، أَنْصَارِيّ أُحُدِيٌّ، ذكره الأَشيريّ، والرَّبِيع بن سَهْل بن الحارِث الأَوْسِيّ الظَّفَرِىَّ، شَهد أُحُدًا، والرَّبِيع بن ضَبُعٍ الفَزَارِيّ، قالَهُ ابن الجَوْزِيّ، عاشَ ثلاثمِائةٍ وسِتَّينَ سَنَةً، منها سِتُّونَ في الإِسْلام، فهؤلاءِ السَّبْعَة الذين أَشار إِليهم.
وأَما الرَّبِيع بن مَحْمُود المَاردِينِيّ فإِنّه كَذّابٌ، ظَهَرَ في حُدُودِ سنة تِسْعٍ وتِسْعِين وخَمْسِمائة، وادَّعَى الصُّحْبَةَ، فَلْيُحْذَرْ منه.
وِالرَّبِيعُ: جَمَاعَةٌ مُحَدِّثون، منهم: الرَّبِيع بن حَبِيبٍ، عن الحَسَنِ، والرَّبِيع بنُ خَلَفٍ، عن شُعْبَةَ، والرَّبِيع بن مالِكٍ، شَيْخٌ لحَجّاجِ بنِ أَرْطاةَ، والرَّبِيعُ بنُ بَرَّةَ، عن الحَسَنِ، والرَّبِيعُ بنُ صُبَيْحٍ البَصْرِيّ والرَّبِيعُ بنُ خَطّافٍ الأَحْدَبُ، عن الحَسَنِ، والرّبِيعُ بنُ مُطَرِّف، والرَّبِيعُ بنُ إِسماعِيلَ، عن الجَعْدِيّ، والرَّبِيعُ بنِ خيظان عن الحَسَنِ، وغَيْر هؤلاءِ. والرَّبِيعُ بنُ سُلَيْمَانَ المُرَادِيّ: مُؤذِّنُ المَسْجِدِ الجَامِعِ بِالْفُسْطَاطِ، رَوَى عَنْ عَبْدِ الله بن يُوسُفَ التِّنِّيسِيّ، وأَبِي يَعْقُوبَ البُوَيْطِيّ، وعِنْهُ مُحْمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ السُّلَمِيّ، ومُحَمَّد بن هارُونَ الرويانيّ، والإِمامُ أَبو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيّ، وُلِدَ هو وإِسْمَاعِيلُ بنُ يَحْيَى في سَنَةِ مَائَةٍ وأَرْبعةٍ وسَبْعِينَ، وكانَ المُزَنِيُّ أَسَنَّ مِن الرَّبِيع بسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وماتَ سَنَةَ مَائَتَيْنِ وسَبْعِينَ، وصَلَّى عَلَيْه الأَمِيرُ خُمَارَوَيْه بنُ أَحْمَدَ [بنِ طُولُونَ]، كَذَا في حاشِيَةِ الإِكْمَال.
وِالرَّبِيعُ بنُ سُلَيْمَانَ أَبو مُحَمَّدٍ الجِيزِيُّ، رَوَى عَنْ أَصْبَغَ بنِ الفَرَجِ، وعَبْدِ الله بنِ الزُّبَيْرِ الحُميديّ، وعَنْهُ عَليُّ بن سِرَاجٍ المصْرِيّ، وأَبو الفَوَارِس أَحْمَدُ بنُ الحُسَيْنِ الشُّرُوطِيُّ: وأَبُو بَكْر الباغَنْديّ. قالَ ابنُ يُونُس: كانَ ثِقَةً، تُوَفِّيَ سنة مِائتَيْن وسِتَّةٍ وخَمْسِينَ: صَاحِبَا سَيِّدنا الإِمام الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه.
قال أَبو عُمَرَ الكِنْدِيّ: الرَّبِيعُ بنُ سُلَيْمَانَ كانَ فَقِيهًا دَيِّنًا، رَأَى ابنَ وَهْبٍ، ولَمْ يُتْقِنِ السَّمَاعَ مِنْه، كَذا في ذَيْلِ الدِّيوان للذَّهَبِيّ.
قُلْتُ: وقَدْ حَدَّث وَلَدُهُ مُحَمَّد، وحَفِيدُهُ الرَّبِيعُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الرَّبِيعِ، وماتَ سَنَةَ ثِلاثِمَائَة واثْنَتَيْنِ وأَرْبَعِينَ، وقَدْ مَر ذِكْرُهم في «ج ي ز». والرَّبِيعُ: عَلَمٌ.
وِالرَّبِيعُ: المَطَرُ في الرَّبِيعِ، تَقُولُ مِنْهُ: رُبِعَتِ الأَرْضُ فهي مَرْبُوعَةٌ، كَما في الصّحاح. وقِيلَ: الرَّبِيعُ: المَطَرُ يَكُونُ بَعْدَ الوَسْمِيِّ، وبَعْدَه الصَّيِّف، ثُمَّ الحَمِيمُ.
وقال أَبو حَنِيفَة: والمَطَر عِنْدَهُمْ رَبِيعٌ مَتَى جاءَ، والجَمْعُ أَرْبِعَةٌ، ورِبَاعٌ.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ: وسَمِعْتُ العَرَب يَقُولون ـ لأَوَّلِ مَطَرٍ يَقَعُ بالأَرْض أَيَّام الخَرِيفِ ـ: رَبِيعٌ، ويَقُولُون: إِذا وَقَعَ رَبِيعٌ بالأَرْضِ بَعَثْنَا الرُّوَّادَ، وانْتَجَعْنَا مَساقِطَ الغَيْثِ.
وِقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: الرَّبِيعُ: الحَظُّ من الماءِ للأَرضِ ما كانَ، وقِيلَ: هو الحَظُّ منه رُبْعَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، ولَيْسَ بالقَوِيِّ.
يُقَالُ: لِفُلانٍ مِنْ وفي بَعْضِ النُّسَخ: فِي هذا الماءِ رَبِيعٌ أَيْ حَظٌّ.
وِالرَّبِيعُ: الجَدْوَلُ، وهو النَّهْرُ الصَّغِيرُ، وهو السَّعِيدُ أَيْضًا، وفي الحَدِيثِ: «فَعَدَلَ إِلَى الرَّبِيعِ، فَتَطَهَّرَ». وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «بِما يَنْبُتُ عَلَى رَبِيعِ السَّاقِي» هذا من إِضافَةِ المَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، أَيْ النَّهْر الَّذِي يَسْقِي الزَّرْعَ، وأَنْشَدَ الأَصْمَعِيُّ قَوْلَ الشّاعِر:
فُوهُ رَبِيعٍ وكَفُّهُ قَدَحٌ *** وِبَطْنُهُ حِينَ يَتَّكِي شَرَبَهْ
يَسَّاقَطُ النّاسُ حَوْلَهُ مَرَضًا *** وِهْوَ صَحِيحٌ ما إِنْ بِهِ قَلَبَهْ
أَرادَ بِقَوْلهِ: فوهُ رَبِيعٌ، أَيْ نَهْرٌ، لكَثْرَة شُرْبِه، والجَمْع أَرْبِعاءُ.
وِالرَّبِيعَة، بهاءٍ: حَجَرٌ تُمْتَحَنُ بإِشالَتِهِ ويُجَرِّبُون به القُوَى، وقيلَ: الرَّبَيعَة: الحَجَرُ المَرْفوع، وقِيلَ: الَّذِي يُشالُ. قالَ الأَزْهَرِيّ: يُقَال ذلِكَ في الحَجَرِ خاصَّةً.
وِالرَّبِيعَةُ: بَيْضَةُ الحَدِيدِ، وأَنْشَدَ اللَّيْثُ:
رَبِيعَتُه تَلُوحُ لَدَى الهِياجِ
وِقالَ ابن الأَعْرَابِيّ: الرَّبِيعَة: الرَّوْضَة.
وِالرَّبِيعَةُ: المَزَادَة.
وِالرَّبِيعَة: العَتِيدَة.
وِالرَّبِيعَة: قرية، كَبِيرَةٌ بالصَّعِيدِ في أَقْصاه، لِبَنِي رَبِيعَةَ، سُمِّيَتْ بهم.
وِرَبِيعَة الفَرَسِ: هو ابن نِزارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عَدْنَانَ، أَبُو قبيلَةٍ، وإِنّما قِيلَ لَهُ: رَبِيعَة الفَرَسِ، لأَنَّه أُعْطِيَ مِن مِيراثِ أَبيهِ الخَيْلَ، وأُعْطَيَ أَخْوهُ مُضَرُ الذَّهَبَ، فسُمِّيَ مُضَرَ الحَمْراءِ، وأُعْطِيَ أَنْمَارٌ أَخوهُما الغَنَمَ، فسُمِّيَ أَنْمَارَ الشَّاةِ، وقد ذُكِر في «ح معروف ر» والنِّسْبَة إِلَى رَبِيعَةَ رَبَعِيُّ، مُحَرَّكَةً.
والمَنْسُوبِ هكَذَا عِدَّةٌ، قالَ الحافظُ: ومنهم: أَبُو بَكْرٍ الرَّبَعِيُّ، له جُزْءٌ سمِعْنَاه عاليًا.
وِفي عُقَيْلٍ رَبِيعَتان: رَبِيعَةُ بنُ عُقَيْلٍ، وهو أَبْو الخُلَعَاءِ الَّذِينَ تَقَدَّم دِكْرُهم قَرِيبًا في «خ ل ع» ورَبِيعَةُ بن عامِرِ بنِ عُقَيْلٍ، وهو أَبُو الأَبْرَصِ، وقُحافَةَ، وعَرْعَرَةَ، وقُرَّة، وهُمَا يُنْسَبان إِلى الرَّبِيعَتَيْن، كما في الصّحاح والعُبَاب.
قال الجَوْهَرِيّ: وفي تمِيمٍ رَبِيعَتانِ: الكبْرَى، وهِي، كَذا نَصُّ العُبَابِ، ونَصُّ الصّحاح: وهو رَبِيعَةُ بن مالِكِ بنِ زَيْدِ مَنَاةَ بن تَمِيمٍ، وتُدْعَى، ونَصّ الصّحاح والعُبَاب: ويُلَقَّبُ رَبِيعَةَ الجُوعِ، والصُّغْرَى وهِيَ، كَذا نَصُّ العُبَاب، ونَصُّ الصّحاح: ورَبِيعَةُ الوُسْطى، وهي رَبِيعَةُ بنُ حَنْظَلَةَ بنِ مالِكِ بنِ زَيْدِ مَنَاةَ بنِ تَمِيمٍ.
وَرَبِيعَة: أَبُو حَيٍّ مِن هَوازِنَ، وهو رَبِيعَةُ بنُ عامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ، قال الجَوْهَرِيّ: وهُمْ بَنو مَجْدَ، ومَجْدُ اسْم أُمّهم فنُسِبُوا إِلَيْهَا.
قُلْت: هي مَجْدُ بِنْتُ تَيْم بنِ غالِبِ بنِ فِهْرٍ، كما في مَعَارِفِ ابنِ قُتَيْبَةَ، نَقَلَهُ شَيْخَنَا.
وِرَبِيعَةُ: ثَلاثونَ صَحَابِيَّا رضي الله عنهم، وهُمْ: رَبِيعَة بن أَكْثم، ورَبِيعَة بن الحارِث الأَوسِيّ، ورَبِيعَة بن الحارِثِ الأَسْلَمِيّ، ورَبِيعَة بن الحارِثِ بن عَبْدِ المُطَّلِب، ورَبِيعَة ابن حُبَيْشٍ، ورَبِيعَة خادِم رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ورَبِيعَة بن خِراش، ورَبِيعَةُ بن أَبِي خَرَشَةَ، ورَبِيعَةُ بن خُوَيْلد، وَرَبِيعَةُ بن رُفَيْعِ بن أَهْبَانِ، ورَبِيعَةُ بن رواء العَنْسِيّ، ورَبِيعَةُ بن رُفَيْعٍ يأْتِي ذكره في «ر ف ع» ورَبِيعَة بن رَوْحٍ، ورَبِيعَةُ بن زُرْعَةَ، ورَبِيعَةُ بن زِيادٍ، ورَبِيعَةُ بن سَعْدٍ، ورَبِيعَةُ بن السكّينِ ورَبِيعَة بن يَسارٍ، ورَبِيعَةُ بن شُرَحْبِيلَ، ورَبِيعَةُ بن عامِرٍ، ورَبِيعَةُ بن عِبَادٍ ورَبِيعَةُ بن عَبْدِ الله، ورَبِيعَةُ بن عُثْمَانَ، ورَبِيعَةُ ابن عَمْرٍو الثَّقَفِيُّ، ورَبِيعَةُ بن عَمْرٍو الجُهَنِيُّ، ورَبِيعَةُ ابن عَيْدانَ، ورَبِيعَةُ بن الفِرَاسِ، ورَبِيعَةُ بن الفَضْلِ، ورَبِيعَةُ بن قَيْسٍ، ورَبِيعَةُ بن كَعْبٍ.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
16-لسان العرب (شرب)
شرب: الشَّرْبُ: مَصْدَرُ شَرِبْتُ أَشْرَبُ شَرْبًا وشُرْبًا.ابْنُ سِيدَهْ: شَرِبَ الماءَ وَغَيْرَهُ شَرْبًا وشُرْبًا وشِرْبًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}؛ بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ.
قَالَسَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُموي: سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يقرأُ: فشارِبون شَرْبَ الهِيمِ؛ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، إِنما هِيَ: شُرْبَ الْهِيمِ؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَسَائِرُ الْقُرَّاءِ يَرْفَعُونَ الشِّينَ.
وَفِي حَدِيثِ أَيّامِ التَّشْريق: «إِنها أَيامُ أَكل وشُربٍ»؛ يُروى بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ، وَهُمَا بِمَعْنًى؛ وَالْفَتْحُ أَقل اللُّغَتَيْنِ، وَبِهَا قرأَ أَبو عَمْرِو: شَرْب الهِيمِ؛ يُرِيدُ أَنها أَيام لَا يَجُوزُ صَومُها، وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: الشَّرْبُ، بِالْفَتْحِ، مَصْدَرٌ، وَبِالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، اسْمَانِ مِنْ شَرِبْت والتَّشْرابُ: الشُّرْبُ؛ فأَما قَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:
شَرِبنَ بماءِ البحرِ، ثُمَّ تَرَفَّعَتْ، ***مَتى حَبَشِيَّاتٍ، لَهُنَّ نئِيجُ
فإِنه وصفَ سَحابًا شَرِبنَ مَاءَ الْبَحْرِ، ثُمَّ تَصَعَّدْنَ، فأَمْطَرْن ورَوَّيْنَ؛ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِمَاءِ الْبَحْرِ زَائِدَةٌ، إِنما هُوَ شَرِبنَ مَاءَ الْبَحْرِ؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الحالِ، والعُدُولُ عَنْهُ تَعَسُّفٌ؛ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ شَرِبنَ مِن مَاءِ الْبَحْرِ، فأَوْقَع الْبَاءَ مَوْقِعَ مِنْ؛ قَالَ: وَعِنْدِي أَنه لَمَّا كَانَ شَرِبنَ فِي مَعْنَى رَوِينَ، وَكَانَ رَوِينَ مِمَّا يتعدَّى بالباءِ، عَدَّى شَرِبنَ بالباءِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ؛ مِنْهُ مَا مَضَى، ومنه ماسيأْتي، فَلَا تَسْتَوْحِش مِنْهُ.
وَالِاسْمُ: الشِّرْبةُ، عَنِ اللِّحْيَانِيِّ؛ وَقِيلَ: الشَّرْبُ الْمَصْدَرُ، والشِّرْبُ الِاسْمُ.
والشِّرْبُ: الْمَاءُ، وَالْجَمْعُ أَشرابٌ.
والشَّرْبةُ مِنَ الماءِ: مَا يُشْرَبُ مَرَّةً.
والشَّرْبةُ أَيضًا: المرةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الشُّرْبِ.
والشِّرْبُ: الحَظُّ مِنَ الماءِ، بِالْكَسْرِ.
وَفِي الْمَثَلِ: آخِرُها أَقَلُّها شِرْبًا؛ وأَصلُهُ فِي سَقْيِ الإِبل، لأَنَّ آخِرَها يُرَدُّ، وَقَدْ نُزِفَ الحوْضُ؛ وَقِيلَ: الشِّرْبُ هُوَ وقتُ الشُّرْبِ.
قَالَ أَبو زَيْدٍ: الشِّرْبُ المَوْرِد، وَجَمْعُهُ أَشْرابٌ.
قَالَ: والمَشْرَبُ الْمَاءُ نَفسُه.
والشَّرابُ: مَا شُرِب مِنْ أَيِّ نوْعٍ كَانَ، وَعَلَى أَيّ حَالٍ كَانَ.
وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الشَّرابُ، والشَّرُوبُ، والشَّرِيبُ وَاحِدٌ، يَرْفَع ذَلِكَ إِلى أَبي زَيْدٍ.
ورَجلٌ شارِبٌ، وشَرُوبٌ وشَرّابٌ وشِرِّيبٌ: مُولَع بالشَّرابِ، كخِمِّيرٍ.
التَّهْذِيبُ: الشَّرِيبُ المُولَع بالشَّراب؛ والشَّرَّابُ: الكثيرُ الشُّرْبِ؛ وَرَجُلٌ شَروبٌ: شديدُ الشُّرْب.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَن شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَشْرَبها فِي الْآخِرَةِ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ فِي الْبَيَانِ؛ أَراد: أَنه لَمْ يَدْخُلِ الجنَّةَ، لأَنَّ الجنةَ شرابُ أَهلِها الخمْرُ، فإِذا لَمْ يَشْرَبْها فِي الْآخِرَةِ، لَمْ يَكن قَدْ دَخَلَ الجنةَ.
والشَّرْبُ والشُّرُوبُ: القَوم يَشْرَبُون، ويجْتَمعون عَلَى الشَّراب؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: فأَما الشَّرْبُ، فَاسْمٌ لِجَمْعِ شارِب، كرَكْبٍ ورَجْلٍ؛ وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ.
وأَما الشُّروب، عِنْدِي، فَجَمْعُ شاربٍ، كشاهدٍ وشُهودٍ، وَجَعَلَهُ ابْنُ الأَعرابي جَمْعَ شَرْبٍ؛ قَالَ: وَهُوَ خطأٌ؛ قَالَ: وَهَذَا ممَّا يَضِيقُ عَنْهُ عِلْمُه لِجَهْلِهِ بِالنَّحْوِ؛ قَالَ الأَعشى:
هُوَ الواهِبُ المُسْمِعاتِ الشُّرُوبَ ***بَين الحَريرِ وبَينَ الكَتَنْ
وَقَوْلُهُ أَنشده ثَعْلَبٌ:
يَحْسَبُ أَطْمَاري عَليَّ جُلُبا، ***مِثلَ المَناديلِ، تُعاطَى الأَشرُبا
يَكُونُ جَمْعَ شَرْبٍ، كَقَوْلِ الأَعشى:
لَهَا أَرَجٌ، فِي البَيْتِ، عالٍ، كأَنما ***أَلمَّ بهِ، مِن تَجْرِ دارِينَ، أَرْكُبُ
فأَرْكُبٌ: جَمْعُ رَكْبٍ، وَيَكُونُ جَمْعَ شَارِبٍ وراكِبٍ، وَكِلَاهُمَا نَادِرٌ، لأَنَّ سِيبَوَيْهِ لَمْ يَذْكُرْ أَن فَاعِلًا قَدْ يُكَسَّر عَلَى أَفْعُلٍ.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنَ الأَنصار»؛ الشَّرْبُ، بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: الْجَمَاعَةُ يَشْرَبُونَ الخمْر.
التَّهْذِيبُ، ابْنُ السِّكِّيتِ: الشِّرْبُ: الماءُ بعَينهِ يُشْرَبُ.
والشِّرْبُ: النَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ.
والشَّريبةُ مِنَ الْغَنَمِ: الَّتِي تُصْدِرُها إِذا رَوِيَتْ، فتَتْبَعُها الغَنمُ، هَذِهِ فِي الصِّحَاحِ؛ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حاشيةٌ: الصَّوَابُ السَّريبةُ، بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ.
وشارَبَ الرَّجُلَ مُشارَبَةً وشِرابًا.
شَرِبَ مَعَهُ، وَهُوَ شَرِيبي؛ قَالَ:
رُبَّ شَرِيبٍ لكَ ذِي حُساسِ، ***شِرابُه كالحَزِّ بالمَواسي
والشَّرِيبُ: صاحِبُكَ الَّذِي يُشارِبُكَ، ويُورِدُ إِبلَه معَكَ، وَهُوَ شَرِيبُك؛ قَالَ الراجز:
إِذا الشَّريبُ أَخَذَتْه أَكَّهْ، ***فخلِّه، حَتَّى يَبُكَّ بَكَّهْ
وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ الأَعرابي قَوْلَهُ: رُبَّ شَرِيب لَكَ ذِي حُساس
قَالَ: الشَّرِيبُ هُنَا الَّذِي يُسْقَى مَعَك.
والحُساسُ: الشُّؤْم والقَتْلُ؛ يَقُولُ: انتِظارُك إِيَّاه عَلَى الحوضِ، قَتْلٌ لَكَ ولإِبلِك.
قَالَ: وأَما نَحْنُ ففَسَّرْنا الحُساسَ هُنَا، بأَنه الأَذَى والسَّوْرَةُ فِي الشَّراب، وَهُوَ شَرِيبٌ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفاعِل، مِثْلُ نَديم وأَكِيل.
وأَشْرَبَ الإِبِلَ فَشرِبَتْ، وأَشْرَبَ الإِبل حَتَّى شَرِبَتْ، وأَشْرَبْنَا نَحْنُ: رَوِيَتْ إِبلُنا، وأَشْرَبْنا: عَطِشْنا، أَو عَطِشَت إِبلُنا؛ وَقَوْلُهُ:
اسْقِنِي، فإِنَّنِي مُشْرِب
رَوَاهُ ابْنُ الأَعرابي، وَفَسَّرَهُ بأَنَّ مَعْنَاهُ عَطْشَانُ، يَعْنِي نَفْسَهُ، أَو إِبله.
قَالَ وَيُرْوَى: فإِنَّكَ مُشْرِب أَي قَدْ وجَدْتَ مَن يَشْرَبُ.
التَّهْذِيبُ: المُشْرِبُ العَطْشان.
يُقَالُ: اسْقِنِي، فإِنِّي مُشْرِب.
والمُشْرِبُ: الرجُل الَّذِي قَدْ عَطِشَت إِبلُه أَيضًا.
قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الأَعرابي.
قَالَ وَقَالَ غَيْرُهُ: رَجل مُشْرِبٌ قَدْ شَرِبَت إِبله.
وَرَجُلٌ مُشرِبٌ: حانَ لإِبلِه أَن تَشْرَبَ.
قَالَ: وَهَذَا عِنْدَهُ مِنَ الأَضداد.
والمَشْرَبُ: الْمَاءُ الَّذِي يُشْرَبُ.
والمَشْرَبةُ: كالمَشْرَعةِ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «مَلْعُونٌ ملعونٌ مَنْ أَحاطَ عَلَى مَشْرَبةٍ»؛ المَشْرَبة، بِفَتْحِ الراءِ مِنْ غَيْرِ ضَمٍّ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُشْرَبُ مِنْهُ كالمَشْرَعةِ؛ وَيُرِيدُ بالإِحاطة تَملُّكَه، ومنعَ غَيْرِهِ مِنْهُ.
والمَشْرَبُ: الوجهُ الَّذِي يُشْرَبُ مِنْهُ، وَيَكُونُ مَوْضِعًا، وَيَكُونُ مَصْدَرًا؛ وأَنشد:
ويُدْعَى ابنُ مَنْجُوفٍ أَمامي، كأَنه ***خَصِيٌّ، أَتَى للماءِ مِنْ غَيْرِ مَشْرَبِ
أَي مِنْ غَيْرِ وَجْهِ الشُّرْب؛ والمَشْرَبُ: شَرِيعةُ النَّهر؛ والمَشْرَبُ: المَشْروبُ نفسُه.
والشَّرابُ: اسْمٌ لِمَا يُشْرَبُ.
وكلُّ شَيْءٍ لَا يُمْضَغُ، فإِنه يُقَالُ فِيهِ: يُشْرَبُ.
والشَّرُوبُ: مَا شُرِبَ.
وَالْمَاءُ الشَّرُوب والشَّريبُ: الَّذِي بَيْنَ العَذْبِ والمِلْح؛ وَقِيلَ: الشَّروب الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ مِنْ عُذوبةٍ، وَقَدْ يَشْرَبُه النَّاسُ، عَلَى مَا فِيهِ.
والشَّرِيبُ: دُونَهُ فِي العُذوبةِ، وَلَيْسَ يَشْرَبُه النَّاسُ إِلّا عِنْدَ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ تَشْرَبُه الْبَهَائِمُ؛ وَقِيلَ: الشَّرِيبُ العَذْبُ؛ وَقِيلَ: الْمَاءُ الشَّرُوب الَّذِي يُشْرَبُ.
والمأْجُ: المِلْحُ؛ قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
فإِنَّكَ، بالقَريحةِ، عامَ تُمْهى، ***شَروبُ الْمَاءِ، ثُمَّ تَعُودُ مَأْجا
قَالَ: هَكَذَا أَنشده أَبو عُبَيْدٍ بالقَريحة، وَالصَّوَابُ كالقَرِيحةِ.
التَّهْذِيبُ أَبو زَيْدٍ: الْمَاءُ الشَّريبُ الذي ليس فِيهِ عُذوبةٌ، وَقَدْ يَشْرَبُه الناسُ عَلَى مَا فِيهِ.
والشَّرُوبُ: دُونهُ فِي العُذوبةِ، وَلَيْسَ يَشْرَبُه النَّاسُ إِلّا عِنْدَ الضَّرُورة.
وَقَالَ اللَّيْثُ: مَاءٌ شَرِيبٌ وشَرُوب فِيهِ مَرارةٌ ومُلُوحة، وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الشُّرْب؛ وَمَاءٌ شَرُوبٌ وَمَاءٌ طَعِيمٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَفِي حَدِيثِ الشُّورَى: «جُرْعةٌ شَرُوبٌ أَنْفَع مِنْ عَذْبٍ مُوبٍ»؛ الشَّرُوبُ مِنَ الماءِ: الَّذِي لَا يُشْرَب إِلّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَلِهَذَا وَصَفَ بِهِ الجُرْعةَ؛ ضُرِبَ الْحَدِيثُمَثَلًا لِرَجُلَيْنِ: أَحدهما أَدْوَنُ وأَنفعُ، وَالْآخَرُ أَرفعُ وأَضرُّ.
وماءٌ مُشْرِبٌ: كَشَروبٍ.
وَيُقَالُ فِي صِفَةِ بَعيرٍ: نِعْمَ مُعَلَّقُ الشَّرْبةِ هَذَا؛ يَقُولُ: يَكْتَفِي إِلى مَنْزِلِهِ الَّذِي يريدُ بشَرْبةٍ وَاحِدَةٍ، لَا يَحْتاجُ إِلى أُخرى.
وَتَقُولُ: شَرَّبَ مَالِي وأَكَّلَه أَي أَطْعَمه الناسَ وسَقاهُم بِهِ؛ وظَلَّ مَالِي يُؤَكَّل ويُشَرَّب أَي يَرْعَى كَيْفَ شاءَ.
وَرَجُلٌ أُكَلةٌ وشُرَبةٌ، مِثَالُ هُمَزةٍ: كَثِيرُ الأَكل والشُّرب، عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ.
ورجلٌ شَرُوبٌ: شديدُ الشُّرْبِ، وقومٌ شُرُبٌ وشُرَّبٌ.
ويومٌ ذُو شَرَبةٍ: شديدُ الحَرِّ، يُشْرَبُ فِيهِ الماءُ أَكثر مِمَّا يُشْرَب عَلَى هَذَا الْآخَرِ.
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: لَمْ تَزَلْ بِهِ شَرَبَةٌ هَذَا اليومَ أَي عَطَشٌ.
التَّهْذِيبِ: جاءَت الإِبل وَبِهَا شَرَبةٌ أَي عطَش، وَقَدِ اشْتَدَّتْ شَرَبَتُها؛ وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: قَالَ أَبو عَمْرٍو إِنه لَذُو شَرَبةٍ إِذا كَانَ كَثِيرَ الشُّرب.
وطَعامٌ مَشْرَبةٌ: يُشْرَبُ عَلَيْهِ الْمَاءُ كَثِيرًا، كَمَا قَالُوا: شَرابٌ مَسْفَهةٌ.
وطَعامٌ ذُو شَرَبة إِذا كَانَ لَا يُرْوَى فِيهِ مِنَ الماءِ.
والمِشْرَبةُ، بِالْكَسْرِ: إِناءٌ يُشْرَبُ فِيهِ.
والشَّارِبةُ: الْقَوْمُ الَّذِينَ مَسْكَنُهُمْ عَلَى ضَفَّة النَّهْرِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ مَاءُ ذَلِكَ النَّهْرِ.
والشَّرَبةُ: عَطَشُ المالِ بعدَ الجَزءِ، لأَنَّ ذَلِكَ يَدْعُوها إِلى الشُّرْب.
والشَّرَبةُ، بِالتَّحْرِيكِ: كالحُوَيْضِ يُحْفَرُ حولَ النخلةِ وَالشَّجَرَةِ، ويُمْلأُ مَاءً، فَيَكُونُ رَيَّها، فتَتَرَوَّى مِنْهُ، وَالْجَمْعُ شَرَبٌ وشَرَباتٌ؛ قَالَ زُهَيْرٌ:
يَخْرُجْنَ مِن شَرَباتٍ، مَاؤُهَا طَحِلٌ، ***عَلَى الجُذوعِ، يَخَفْنَ الغَمَّ والغَرَقا
وأَنشد ابْنُ الأَعرابي: مِثْلُ النَّخِيلِ يُرَوِّي، فَرْعَها، الشَّرَبُ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنْهُ: «اذْهَبْ إِلى شَرَبةٍ مِنَ الشَّرَباتِ»، فادْلُكْ رأْسَك حَتَّى تُنَقِّيَه.
الشَّرَبة، بِفَتْحِ الراءِ: حَوْضٌ يَكُونُ فِي أَصل النَّخْلَةِ وحَوْلَها، يُمْلأُ مَاءً لِتَشْرَبه؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ"""" جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتانا رسولُ اللَّهِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَدَلَ إِلى الرَّبِيع، فتَطَهَّرَ وأَقْبَلَ إِلى الشَّرَبةِ
؛ الرَّبِيعُ: النهرُ.
وَفِي حَدِيثِ لَقِيطٍ: «ثُمَّ أَشْرَفْتُ عَلَيْهَا، وَهِيَ شَرْبةٌ وَاحِدَةٌ»؛ قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: إِن كَانَ بِالسُّكُونِ، فإِنه أَراد أَن الْمَاءَ قَدْ كَثُرَ، فَمِنْ حَيْثُ أَردت أَن تَشْرَبَ شَرِبْتَ، وَيُرْوَى بالياءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ.
والشَّرَبةُ: كُرْدُ الدَّبْرَةِ، وَهِيَ المِسْقاةُ، وَالْجَمْعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ شَرَباتٌ وشَرَبٌ.
وشَرَّبَ الأَرضَ والنَّخلَ: جَعَلَ لَهَا شَرَباتٍ؛ وأَنشد أَبو حَنِيفَةَ فِي صِفَةِ نَخْلٍ:
مِنَ الغُلْبِ، مِن عِضْدانِ هامةَ شُرِّبَتْ ***لِسَقْيٍ، وجُمَّتْ لِلنَّواضِحِ بِئْرُها
وكلُّ ذَلِكَ مِنَ الشُّرْب.
والشَّوارِبُ مَجاري الماءِ فِي الحَلْقِ؛ وَقِيلَ: الشَّوارِبُ عُروقٌ فِي الحَلْقِ تَشْرَبُ الْمَاءَ؛ وَقِيلَ: هِيَ عُرُوقٌ لاصِقةٌ بالحُلْقوم، وأَسْفَلُها بالرِّئةِ؛ وَيُقَالُ: بَل مُؤَخَّرُها إِلى الوَتِين، وَلَهَا قَصَبٌ مِنْهُ يَخْرُجُ الصَّوْت؛ وَقِيلَ: الشَّوارِبُ مَجاري الْمَاءِ فِي العُنُقِ؛ وَقِيلَ: شَوارِبُ الفَرَسِناحِيةُ أَوْداجِه، حَيْثُ يُوَدِّجُ البَيْطارُ، واحِدُها، فِي التَّقْدِيرِ، شارِبٌ؛ وحِمارٌ صَخِبُ الشَّوارِبِ، مِن هَذَا، أَي شَديدُ النَّهِيقِ.
الأَصمعي، فِي قَوْلِ أَبي ذؤَيب:
صَخِبُ الشَّوارِبِ، لَا يَزالُ كأَنَّه ***عَبْدٌ، لآلِ أَبي رَبِيعةَ، مُسْبَعُ
قَالَ: الشَّوارِبُ مَجاري الماءِ فِي الحَلْقِ، وإِنما يُرِيدُ كَثرةَ نُهاقِه؛ وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هِيَ عُرُوقُ باطِن الحَلْقِ.
والشَّوارِبُ: عُرُوقٌ مُحْدِقَةٌ بالحُلْقُومِ؛ يُقَالُ: فِيهَا يَقَعُ الشَّرَقُ؛ وَيُقَالُ: بَلْ هِيَ عُرُوق تأْخذ الْمَاءَ، وَمِنْهَا يَخْرُج الرِّيقُ.
ابْنُ الأَعرابي: الشَّوارِبُ مَجاري الماءِ فِي الْعَيْنِ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: أَحْسَبُه أَرادَ مَجارِيَ الماءِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي تَفُور فِي الأَرض، لَا مَجارِيَ ماءِ عَيْنِ الرأْس.
والمَشْرَبةُ: أَرضٌ لَيِّنةٌ لَا يَزالُ فِيهَا نَبْتٌ أَخْضَرُ رَيّانُ.
والمَشْرَبةُ والمَشْرُبَةُ، بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ: الغُرْفةُ؛ سِيبَوَيْهِ: وَهِيَ المَشْرَبةُ، جَعَلُوهُ اسْمًا كالغُرْفةِ؛ وَقِيلَ: هِيَ كالصُّفَّةِ بَيْنَ يَدَي الغُرْفةِ.
والمَشارِبُ: العَلاليُّ، وَهُوَ فِي شِعْرِ الأَعشى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مَشْرَبةٍ لَهُ»أَي كَانَ فِي غُرْفةٍ؛ قَالَ: وَجَمْعُهَا مَشْرَباتٌ ومَشارِبُ.
والشارِبانِ: مَا سالَ عَلَى الفَم مِنَ الشَّعر؛ وَقِيلَ: إِنما هُوَ الشَّارِبُ، وَالتَّثْنِيَةُ خطأٌ.
والشَّارِبان: مَا طالَ مِن ناحِيةِ السَّبَلةِ، وَبَعْضُهُمْ يُسمِّي السَّبَلةَ كلَّها شارِبًا وَاحِدًا، وَلَيْسَ بِصَوَابٍ، وَالْجَمْعُ شَوارِبُ.
قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَقَالُوا إِنه لَعَظِيمُ الشَّواربِ.
قَالَ: وَهُوَ مِنَ الْوَاحِدِ الَّذِي فُرِّقَ، فَجُعِلَ كلُّ جزءٍ مِنْهُ شارِبًا، ثُمَّ جُمِع عَلَى هَذَا.
وَقَدْ طَرَّ شارِبُ الغُلامِ، وَهُمَا شارِبانِ.
التَّهْذِيبُ: الشارِبانِ مَا طالَ مِنْ ناحِيةِ السَّبَلةِ، وَبِذَلِكَ سُمِّي شارِبا السيفِ؛ وشارِبا السيفِ: مَا اكْتَنَفَ الشَّفْرةَ، وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ.
ابْنُ شُمَيْلٍ: الشارِبانِ فِي السيفِ، أَسْفَلَ القائِم، أَنْفانِ طَويلانِ: أَحدُهما مِنْ هَذَا الْجَانِبِ، والآخَرُ مِنْ هَذَا الجانِب.
والغاشِيةُ: مَا تحتَ الشَّارِبَين؛ والشارِبُ والغاشيةُ: يَكُونَانِ مِنْ حديدٍ وفِضَّةٍ وأَدَمٍ.
وأَشْرَبَ اللَّونَ: أَشْبَعَه؛ وكلُّ لَوْنٍ خالَطَ لَوْنًا آخَر، فَقَدْ أُشْرِبَه.
وَقَدِ اشْرابَّ: عَلَى مِثالِ اشْهابَّ.
والصِّبْغُ يَتَشَرَّبُ فِي الثوبِ، والثوبُ يَتَشَرَّبُه أَي يَتَنَشَّفُه.
والإِشْرابُ: لَوْنٌ قَدْ أُشْرِبَ مِنْ لَونٍ؛ يُقَالُ: أُشْرِبَ الأَبيضُ حُمْرةً أَي عَلاه ذَلِكَ؛ وَفِيهِ شُرْبةٌ مِنْ حُمْرَةٍ أَي إِشْرابٌ.
ورجُل مُشْرَبٌ حُمْرةً، وإِنه لَمَسْقِيُّ الدَّم مِثْلُهُ، وَفِيهِ شُرْبةٌ مِنَ الحُمْرةِ إِذا كَانَ مُشْرَبًا حُمْرَةً وَفِي صِفَتِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَبيضُ مُشْرَبٌ حُمرةً.
الإِشْرابُ: خَلْطُ لَوْنٍ بلَوْنٍ.
كأَنَّ أَحد اللَّوْنَينِ سُقِيَ اللونَ الآخَرَ؛ يُقَالُ: بياضٌ مُشْرَبٌ حُمْرةً مُخَفَّفًا، وإِذا شُدّد كَانَ لِلتَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ.
وَيُقَالُ أَيضًا: عِنْدَهُ شُربةٌ مِنْ ماءٍ أَي مِقدارُ الرِّيِّ؛ وَمِثْلُهُ الحُسْوةُ، والغُرْفةُ، واللُّقْمةُ.
وأُشْرِبَ فُلَانٌ حُبَّ فلانةَ أَي خالَطَ قَلْبَه.
وأُشْرِبَ قلبُه مَحَبَّةَ هَذَا أَي حَلَّ مَحَلَّ الشَّرابِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ}؛ أَي حُبَّ العِجْلِ، فحذَف المضافَ، وأَقامَ المضافَإِليه مُقامَه؛ وَلَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ العِجْلُ هُوَ المُشْرَبَ، لأَنَّ العِجْلَ لَا يَشْرَبُه القَلْبُ؛ وَقَدْ أُشْرِبَ فِي قَلْبِه حُبّه أَي خالَطَه.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ؛ قَالَ: مَعْنَاهُ سُقُوا حُبَّ العِجْلِ، فَحُذِفَ حُبَّ، وأُقِيمَ العِجْلُ مُقامَه؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِرِ:
وكَيْفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ***خَلالَتُه، كأَبي مَرْحَبِ؟
أَي كَخلالةِ أَبي مَرْحَبٍ.
والثَّوْبُ يَتَشرَّبُ الصِّبْغَ: يَتَنَشَّفُه.
وتَشَرَّبَ الصِّبْغُ فِيهِ: سَرَى.
واسْتَشْرَبَتِ القَوْسُ حُمْرةً: اشْتَدَّت حُمْرَتُها؛ وذلك إِذا كانت من الشِّرْبانِ؛ حَكَاهُ أَبو حَنِيفَةَ.
قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: مِنَ المُشْرَبةِ حُروف يَخْرُجُ مَعَهَا عِنْدَ الوُقوفِ عَلَيْهَا نَحْوَ النَّفْخِ، إِلَّا أَنها لَمْ تُضْغَطْ ضَغْطَ المَحْقُورَةِ، وَهِيَ الزَّايُ والظاءُ وَالذَّالُ وَالضَّادُ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: وبعضُ الْعَرَبِ أَشَدُّ تَصْوِيبًا مِنْ بَعْضٍ.
وأُشْرِبَ الزَّرْعُ: جَرى فِيهِ الدَّقيقُ؛ وَكَذَلِكَ أُشْرِبَ الزَّرْعُ الدَّقيقَ، عَدَّاه أَبو حَنِيفَةَ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ أَو الرُّواة.
وَيُقَالُ لِلزَّرْعِ إِذا خَرَجَ قَصَبُه: قَدْ شَرِبَ الزرعُ فِي القَصَبِ، وشَرَّبَ قَصَبُ الزرعِ إِذا صارَ الماءُ فِيهِ.
ابْنُ الأَعرابي: الشُّرْبُبُ الغَمْلى مِنَ النَّبَاتِ.
وَفِي حَدِيثِ أُحد: «إنَّ الْمُشْرِكِينَ نَزَلُوا عَلَى زَرْعِ أَهلِ المدينةِ، وخَلَّوا فِيهِ ظَهْرهم، وَقَدْ شُرِّبَ الزرعُ الدَّقيقَ»؛ وَفِي رِوَايَةٍ:
شَرِبَ الزرعُ الدقيقَ
، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اشْتِدادِ حَبِّ الزَّرْع، وقُرْبِ إِدْراكِه.
يُقَالُ: شَرَّبَ قَصَبُ الزَّرْعِ إِذا صارَ الماءُ فِيهِ؛ وشُرِّبَ السُّنْبُلُ الدَّقيقَ إِذا صارَ فِيهِ طُعْمٌ؛ والشُّرْبُ فِيهِ مستعارٌ، كأَنَّ الدَّقِيقَ كَانَ مَاءً، فَشَرِبَه.
وَفِي حَدِيثِ الإِفك: «لَقَدْ سَمِعْتُموه وأُشْرِبَتْه قُلوبُكم»؛ أي سُقِيَتْهُ كَمَا يُسْقَى العَطْشانُ الْمَاءَ؛ يُقَالُ: شَرِبْتُ الماءَ وأُشْرِبْتُه إِذا سُقِيتَه.
وأُشْرِبَ قَلْبُه كَذَا، أَي حَلَّ مَحَلَّ الشَّراب، أَو اخْتَلَطَ بِهِ، كَما يَخْتَلِطُ الصِّبغُ بِالثَّوْبِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وأُشْرِبَ قَلْبُه الإِشْفاقَ».
أَبو عُبَيْدٍ: وشَرَّبَ القِرْبةَ، بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، إِذا كَانَتْ جَدِيدَةً، فَجَعَلَ فِيهَا طِيبًا وَمَاءً، لِيَطِيبَ طَعْمُها؛ قَالَ الْقُطَامِيُّ يَصِفُ الإِبل بِكَثْرَةِ أَلبانها:
ذَوارِفُ عَيْنَيْها، منَ الحَفْلِ، بالضُّحَى، ***سُجُومٌ، كتَنْضاحِ الشِّنانِ المُشَرَّب
هَذَا قَوْلُ أَبي عُبَيْدٍ وَتَفْسِيرُهُ، وَقَوْلُهُ: كتَنْضاحِ الشِّنانِ المُشَرَّبِ؛ إِنما هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ؛ قَالَ: وَرِوَايَةُ أَبي عُبَيْدٍ خَطَأٌ.
وتَشَرَّبَ الثوبُ العَرَقَ: نَشِفَه.
وضَبَّةٌ شَرُوبٌ: تَشْتَهِي الْفَحْلَ، قَالَ: وأُراه ضائنةٌ شَرُوبٌ.
وشَرِبَ بِالرَّجُلِ، وأَشْرَبَ بِهِ: كَذَبَ عَلَيْهِ؛ وَتَقُولُ: أَشْرَبْتَني مَا لَمْ أَشْرَبْ أَي ادَّعَيْتَ عليَّ مَا لَمْ أَفْعَلْ.
والشَّرْبةُ: النَّخْلة الَّتِي تَنبُتُ مِنَ النَّوى، وَالْجَمْعُ الشَّرَبَّاتُ، والشَّرائِبُ، والشَّرابِيبُ.
وأَشْرَبَ البعيرَ والدَّابَّةَ الحَبْلَ: وَضَعَه فِي عُنُقها؛ قَالَ:
يَا آلَ وَزْرٍ أَشْرِبُوها الأَقْرانْ
وأَشْرَبْتُ الخَيْلَ أَي جَعَلْتُ الحِبالَ فِي أَعْناقِها؛ وأَنشد ثَعْلَبٌ:
وأَشْرَبْتُها الأَقْرانَ، حَتَّى أَنَخْتُها ***بِقُرْح، وَقَدْ أَلقَيْنَ كُلَّ جَنِينِ
وأَشْرَبْتُ إِبلَكَ أَي جَعَلْتُ لِكُلِّ جَمَلٍ قَرينًا؛ وَيَقُولُ أَحدهم لِنَاقَتِهِ: لأُشْرِبَنَّكِ الحِبالَ والنُّسُوع أَي لأَقْرُنَنَّكِ بِهَا.
والشَّارِبُ: الضَّعْفُ، فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ؛ يُقَالُ: فِي بعيرِك شارِبُ خَوَرٍ أَي ضَعْفٌ؛ ونِعْم البعيرُ هَذَا لَوْلَا أَن فِيهِ شارِبَ خَوَرٍ أَي عِرقَ خَوَرٍ.
قَالَ: وشَرِبَ إِذا رَوِيَ، وشَرِبَ إِذا عَطِشَ، وشَرِبَ إِذا ضَعُفَ بَعيرُه.
وَيُقَالُ: مَا زالَ فُلَانٌ عَلَى شَرَبَّةٍ واحدةٍ أَي عَلَى أَمرٍ وَاحِدٍ.
أَبو عَمْرٍو: الشَّرْبُ الْفَهْمُ.
وَقَدْ شَرَبَ يَشْرُبُ شَرْبًا إِذا فَهِمَ؛ وَيُقَالُ لِلْبَلِيدِ: احْلُبْ ثُمَّ اشْرُبْ أَي ابْرُك ثُمَّ افْهَمْ.
وحَلَبَ إِذا بَرَكَ.
وشَرِيبٌ، وشُرَيْبٌ، والشُّرَّيْبُ، بِالضَّمِّ، والشُّرْبُوبُ، والشُّرْبُبُ: كُلُّهَا مَوَاضِعُ.
والشُّرْبُبُ فِي شِعْرِ لَبِيدٍ، بالهاءِ؛ قَالَ:
هَلْ تَعْرِفُ الدَّار بسَفْحِ الشُّرْبُبَه؟
والشُّرْبُبُ: اسْمُ وادٍ بعَيْنِه.
والشَّرَبَّةُ: أَرض لَيِّنَة تُنْبِتُ العُشْبَ، وَلَيْسَ بِهَا شَجَرٌ؛ قَالَ زُهَيْرٌ:
وإِلَّا فإِنَّا بالشَّرَبَّةِ، فاللِّوى، ***نُعَقِّر أُمّاتِ الرِّباع، ونَيْسِرُ
وشَرَبَّةُ، بِتَشْدِيدِ الباءِ بِغَيْرِ تَعْرِيفٍ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ سَاعِدَةُ بْنُ جؤَية:
بِشَرَبَّةٍ دَمِث الكَثِيبِ، بدُورِه ***أَرْطًى، يَعُوذُ بِهِ، إِذا مَا يُرْطَبُ
يُرْطَبُ: يُبَلُّ؛ وَقَالَ دَمِث الكَثِيب، لأَنَّ الشُّرَبَّةَ مَوْضِعٌ أَو مكان؛ ليس فِي الْكَلَامِ فَعَلَّةٌ إِلَّا هَذَا، عَنْ كُرَاعٍ، وَقَدْ جاءَ لَهُ ثَانٍ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: جَرَبَّةٌ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ.
واشْرَأَبَّ الرَّجُلُ للشيءِ وإِلى الشيءِ اشْرِئْبابًا: مَدَّ عُنُقَه إِليه، وَقِيلَ: هُوَ إِذا ارْتَفَعَ وعَلا؛ وَالِاسْمُ: الشُّرَأْبِيبةُ، بِضَمِّ الشِّينِ، مِنِ اشْرَأَبَّ.
وَقَالَتْ"""" عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: اشْرَأَبَّ النِّفاقُ، وارْتَدَّت العربُ
؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: اشْرَأَبَّ ارتفعَ وَعَلَا؛ وكلُّ رافِعٍ رأْسَه: مُشْرَئِبٌّ.
وَفِي حَدِيثٍ:
يُنادِي منادٍ يومَ القيامةِ: يَا أَهلَ الجنةِ، وَيَا أَهلَ النَّارِ، فيَشْرَئِبُّون لِصَوْتِهِ
؛ أَي يَرْفَعُون رؤُوسهم ليَنْظُروا إِليه؛ وكلُّ رَافِعٌ رأْسه مشرئبٌّ؛ وأَنشد لِذِي الرُّمَّةِ يَصِفُ الظَّبْيةَ، ورَفْعَها رأْسَها:
ذَكَرْتُكِ، إِذْ مَرَّتْ بِنا أُمُّ شادِنٍ، ***أَمامَ المَطايا، تَشْرَئِبُّ وتَسْنَحُ
قَالَ: اشْرأَبَّ مأْخوذ مِنَ المَشْرَبة، وهي الغُرْفةُ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
17-لسان العرب (ربع)
ربع: الأَربعة والأَربعون مِنَ الْعَدَدِ: مَعْرُوفٌ.والأَربعة فِي عَدَدِ الْمُذَكَّرِ والأَربع فِي عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ، والأَربعون بَعْدَ الثَّلَاثِينَ، وَلَا يَجُوزُ فِي أَربعينَ أَربعينُ كَمَا جَازَ فِي فِلَسْطِينَ وَبَابِهِ لأَن مَذْهَبَ الْجَمْعِ فِي أَربعين وَعِشْرِينَ وَبَابِهِ أَقْوَى وأَغلب مِنْهُ فِي فِلَسْطين وَبَابِهَا؛ فأَما قَوْلُ سُحَيْم بْنُ وَثِيل الرِّياحيّ:
وَمَاذَا يَدَّري الشُّعراء مِنِّي، ***وَقَدْ جاوَزْتُ حَدَّ الأَرْبَعِينِ؟
فَلَيْسَتِ النُّونُ فِيهِ حَرْفَ إِعراب وَلَا الْكَسْرَةُ فِيهَا عَلَامَةَ جرِّ الِاسْمِ، وإِنما هِيَ حَرَكَةٌ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ إِذا الْتَقَيَا وَلَمْ تُفْتَحْ كَمَا تُفْتَحُ نُونُ الْجَمْعِ لأَن الشَّاعِرَ اضطُرَّ إِلى ذَلِكَ لِئَلَّا تَخْتَلِفَ حَرَكَةُ حَرْفِ الرَّوِيِّ فِي سَائِرِ الأَبيات؛ أَلا تَرَى أَن فِيهَا:
أَخُو خَمْسِينَ مُجتمِعٌ أَشُدِّي، ***ونَجَّذَني مُداوَرَةُ الشُّؤُونِ
ورُباعُ: مَعْدُولٌ مِنْ أَربعة.
وَقَوْلُهُ تعالى: {مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ}؛ أَراد أَربعًا فعدَله وَلِذَلِكَ تُرِكَ صرْفه.
ابْنُ جِنِّي: قرأَ الأَعمش مَثْنَى وثُلَثَ" ورُبَعَ، عَلَى مِثَالِ عُمر، أَراد ورُباع فَحَذَفَ الأَلف.
ورَبَعَ القومَ يَرْبَعُهم رَبْعًا: صَارَ رابِعَهم وَجَعَلَهُمْ أَربعة أَو أَربعين.
وأَربَعُوا: صَارُوا أَربعة أَو أَربعين.
وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبْسةَ: «لَقَدْ رأَيْتُني وإِنِّي لرُبُعُ الإِسلام»؛ أي رابِعُ أَهل الإِسلام تقدَّمني ثلاثةٌ وَكُنْتُ رَابِعَهُمْ.
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «كَنْتُ رابِعَ أَربعة» أَي وَاحِدًا مِنْ أَربعة.
وَفِي حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ فِي السَّقْط: «إِذا نُكِس فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ»؛ أي إِذا صَارَ مُضْغة فِي الرَّحِم لأَن اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ.
وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: «فَجَاءَتْ عَيْنَاهُ بأَربعة»أَي بدُموع جرَتْ مِنْ نَوَاحِي عَيْنَيْهِ الأَربع.
والرِّبْعُ فِي الحُمَّى: إِتيانُها فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَذَلِكَ أَن يُحَمَّ يَوْمًا ويُتْرَك يَوْمَيْنِ لَا يُحَمّ ويُحَمّ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَهِيَ حُمَّى رِبْعٍ، وَقَدْ رُبِع الرَّجُلُ فَهُوَ مَرْبوع ومُرْبَع، وأُرْبِعَ؛ قَالَ أُسامةُ بْنُ حَبِيبٍ الْهُذَلِيُّ:
مِن المُرْبَعِينَ وَمِنْ آزِلٍ، ***إِذا جَنَّه الليلُ كالناحِطِ
وأَرْبَعَت عَلَيْهِ الحُمَّى: لُغَةٌ فِي رُبِعَ، فَهُوَ مُرْبَع.
وأَربَعَت الحُمّى زَيْدًا وأَرْبَعَت عَلَيْهِ: أَخذَته رِبعًا، وأَغَبَّتْه: أَخذته غِبًّا، وَرَجُلٌ مُرْبِعٌ ومُغِبٌّ، بِكَسْرِ الْبَاءِ.
قَالَ الأَزهري: فَقِيلَ لَهُ لِمَ قُلْتَ أَرْبَعَتِ الحُمَّى زَيْدًا ثُمَّ قُلْتَ مِنَ المُرْبِعين فَجَعَلْتَهُ مَرَّةً مَفْعُولًا وَمَرَّةً فَاعِلًا؟ فَقَالَ: يُقَالُ أَرْبَعَ الرَّجُلُ أَيضًا.
قَالَ الأَزهري: كَلَامُ الْعَرَبِ أَربعت عَلَيْهِ الْحُمَّى وَالرَّجُلُ مُرْبَع، بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: أَرْبَعَتْه الْحُمَّى وَلَا يُقَالُ رَبَعَتْه.
وَفِي الصِّحَاحِ: تَقُولُ رَبَعَتْ عَلَيْهِ الحُمّى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَغِبُّوا فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وأَرْبِعُوا إِلا أَن يَكُونَ مَغْلُوبًا»؛ قَوْلُهُ أَرْبِعُوا أَي دَعُوه يَوْمَيْنِ بَعْدَ الْعِيَادَةِ وأْتوه الْيَوْمَ الرَّابِعَ، وأَصله مِنَ الرِّبْع فِي أَورادِ الإِبل.
والرِّبْعُ: الظِّمْء مِنْ أَظْماء الإِبل، وَهُوَ أَن تُحْبَس الإِبلُ عَنِ الْمَاءِ أَربعًا ثُمَّ تَرِدَ الْخَامِسَ، وَقِيلَ: هُوَ أَن تَرِدَ الماءَ يَوْمًا وتَدَعَه يَوْمَيْنِ ثُمَّ تَرِدَ الْيَوْمَ الرَّابِعَ، وَقِيلَ: هُوَ لِثَلَاثِ لَيَالٍ وأَربعة أَيام.
ورَبَعَت الإِبلُ: وَرَدتْ رِبعًا، وإِبلٌ رَوابِعُ؛ وَاسْتَعَارَهُ العَجَّاج لوِرْد الْقَطَا فَقَالَ:
وبَلْدةٍ تُمْسِي قَطاها نُسَّسا ***رَوابِعًا، وقَدْرَ رِبْعٍ خُمَّسا
وأَرْبَعَ الإِبلَ: أَوردها رِبْعًا.
وأَرْبعَ الرجلُ: جَاءَتْ إِبلُه رَوابعَ وخَوامِس، وَكَذَلِكَ إِلى العَشْر.
والرَّبْعُ: مَصْدَرُ رَبَعَ الوَترَ وَنَحْوَهُ يَرْبَعه رَبْعًا، جَعَلَهُ مَفْتُولًا مِنْ أَربع قُوًى، وَالْقُوَّةُ الطاقةُ، وَيُقَالُ: وَتَرٌ مَرْبوعٌ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٌ:
رابِطُ الجأْشِ عَلَى فَرْجِهِمُ، ***أَعْطِفُ الجَوْنَ بمرْبوعٍ مِتَلِ
أَي بِعِنَانٍ شَدِيدٍ مِنْ أَربع قُوًى.
وَيُقَالُ: أَراد رُمْحًا مَرْبوعًا لَا قَصِيرًا وَلَا طَوِيلًا، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ أَي ومعيَ رُمْح.
وَرُمْحٌ مَرْبُوعٌ: طُولُهُ أَرْبَعُ أَذْرُعٍ.
وربَّع الشيءَ: صَيَّرَهُ أَربعةَ أَجزاء وَصَيَّرَهُ عَلَى شَكْلٍ ذِي أَربع وَهُوَ التَّرْبِيعُ.
أَبو عَمْرٍو: الرُّومِيُّ شِراعُ السَّفِينَةِ الْفَارِغَةِ، والمُرْبِعُ شِراعُ المَلأَى، والمُتَلَمِّظةُ مَقْعدُ الاشْتِيام وَهُوَ رَئيسُ الرُّكابِ.
والتربيعُ فِي الزَّرْعِ: السَّقْية الَّتِي بَعْدَ التَّثْلِيثِ.
وَنَاقَةٌ رَبوعٌ: تَحْلُبُ أَربعة أَقداح؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.
وَرَجُلٌ مُرَبَّعُ الْحَاجِبَيْنِ: كَثِيرُ شِعْرِهِمَا كأَنَّ لَهُ أَربعة حَواجبَ؛ قَالَ الرَّاعِي:
مُرَبَّع أَعلى حاجبِ العينِ، أُمُّه ***شَقيقةُ عَبْدٍ، مِنْ قَطينٍ، مُوَلَّدِ
والرُّبْع والرُّبُع والرَّبيعُ: جُزْءٌ مِنْ أَربعة يَطَّرد ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْكُسُورِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَالْجَمْعُ أَرباعٌ ورُبوعٌ.
وَفِي حَدِيثِ طَلْحَةَ: «أَنه لَمَّا رُبِعَ يَوْمَ أُحُد وشَلَّت يدُه قَالَ لَهُ: باءَ طلحةُ بالجنةِ»؛ رُبِعَ؛ أي أُصِيبَت أَرباعُ رأْسه وَهِيَ نَوَاحِيهِ، وَقِيلَ: أَصابه حُمّى الرِّبْع، وَقِيلَ: أُصِيبَ جَبينُه؛ وأَما قَوْلُ الفَرزدق:
أَظُنُّك مَفْجوعًا بِرُبْعِ مُنافِقٍ، ***تَلَبَّس أَثوابَ الخِيانةِ والغَدْرِ
فإِنه أَراد أَنَّ يَمِينَهُ تُقْطَع فيَذْهَب رُبْع أَطرافِه الأَربعة.
ورَبَعَهم يَرْبَعُهم رَبْعًا: أَخذ رُبْع أَموالهم مِثْلُ عَشَرْتُهم أَعْشُرُهم.
ورَبَعهم: أَخذ رُبع الْغَنِيمَةِ.
والمِرْباع: مَا يأْخذه الرَّئِيسُ وَهُوَ رُبْعُ الْغَنِيمَةِ؛ قَالَ:
لكَ المِرْباعُ مِنْهَا والصَّفايا، ***وحُكْمُكَ والنَّشِيطةُ والفُضول
الصَّفايا: مَا يَصْطَفِيه الرَّئِيسُ، والنَّشِيطةُ: مَا أَصاب مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ أَن يَصِيرَ إِلى مُجتَمع الْحَيِّ، والفُضول: مَا عُجِزَ أَن يُقْسَم لِقِلَّتِهِ وخُصَّ بِهِ.
وَفِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ: «أَلم أَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ»أَي تأْخذ رُبع الْغَنِيمَةِ أَو تأْخذ المِرْباع؛ مَعْنَاهُ أَلم أَجْعَلْك رَئِيسًا مُطاعًا؟ قَالَ قُطْرُبٌ: المِرْباع الرُّبع والمِعْشار العُشر وَلَمْ يُسْمَعْ فِي غَيْرِهِمَا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ" النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَبْلَ إِسلامه: إِنك لتأْكلُ المِرْباع وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ "؛ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذا غَزا بَعْضُهُمْ بَعْضًا وغَنِموا أَخذ الرَّئِيسُ رُبْعَ الْغَنِيمَةِ خَالِصًا دُونَ أَصحابه، وَذَلِكَ الرُّبْعُ يُسَمَّى المِرْباع؛ وَمِنْهُ شِعْرُ وَفْدِ تَمِيم: " نَحْنُ الرُّؤُوس وَفِينَا يُقْسم الرُّبُعُ وَقَالَ ابْنُ سِكِّيتٍ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ يَصِفُ الْغَيْثَ:
كأَنَّ فِيهِ، لمَّا ارْتَفَقْتُ لَهُ، ***رَيْطًا ومِرْباعَ غانمٍ لَجَبا
قَالَ: ذَكَرَ السَّحاب، والارْتِفاقُ: الاتِّكاءُ عَلَى المِرْفَقِ؛ يَقُولُ: اتَّكأْت عَلَى مِرْفَقي أَشِيمُه وَلَا أَنام، شبَّه تبَوُّجَ الْبَرْقِ فِيهِ بالرَّيْط الأَبيض، والرَّيْطةُ: مُلاءة لَيْسَتْ بمُلَفَّقة، وأَراد بِمِرْبَاعِ غانمٍ صوْتَ رَعْدِهِ، شَبَّهَهُ بِمِرْبَاعِ صَاحِبِ الْجَيْشِ إِذا عُزل لَهُ رُبْعُ النَّهْب مِنَ الإِبل فتحانَّت عِنْدَ المُوالاة، فَشَبَّهَ صَوْتَ الرَّعْدِ فِيهِ بِحَنِينها؛ ورَبعَ الجَيْشَ يَرْبَعُهم رَبْعًا ورَباعةً: أَخذ ذَلِكَ مِنْهُمْ.
ورَبَع الحَجرَ يَرْبَعُه رَبْعًا وَارْتَبَعَهُ: شالَه وَرَفَعَهُ، وَقِيلَ: حَمَلَهُ، وَقِيلَ: الرَّبْعُ أَن يُشال الْحَجَرُ بِالْيَدِ يُفْعَلُ ذَلِكَ لتُعْرَفَ بِهِ شدَّة الرَّجُلِ.
قَالَ الأَزهري: يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْحَجَرِ خَاصَّةً.
والمَرْبُوعُ والرَّبيعة: الْحَجَرُ المَرْفُوع، وَقِيلَ: الَّذِي يُشال.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مرَّ بِقَوْمٍ يَرْبَعُون حَجرًا أَو يَرْتَبِعُون، فَقَالَ: عُمّالُ اللَّهِ أَقْوَى مِنْ هؤُلاء»؛ الرَّبْعُ: إِشالةُ الْحَجَرِ ورَفْعُه لإِظْهار القوَّةِ.
والمِرْبَعةُ: خُشَيْبة قَصِيرَةٌ يُرْفَع بِهَا العِدْل يأْخذ رَجُلَانِ بطَرَفَيْها فيَحْمِلان الحِمْل ويَضَعانه عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ؛ وَقَالَ الأَزهري: هِيَ عَصًا تُحْمَلُ بِهَا الأَثقال حَتَّى توضَع عَلَى ظَهْرِ الدَّوَابِّ، وَقِيلَ: كُلُّ شَيْءٍ رُفعبِهِ شَيْءٌ مِرْبَعة، وَقَدْ رابَعَه.
تَقُولُ مِنْهُ: رَبَعْت الحِمْل إِذا أَدخَلتها تَحْتَهُ وأَخذت أَنت بطَرَفِها وصاحِبُك بطرَفِها الْآخَرِ ثُمَّ رَفَعْتَه عَلَى الْبَعِيرِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَينَ الشِّظاظانِ وأَينَ المِرْبَعهْ؟ ***وأَينَ وَسْقُ الناقةِ الجَلَنْفَعَهْ؟
فإِن لَمْ تَكُنِ المِرْبَعةُ فالمُرابَعةُ، وَهِيَ أَن تأْخذ بِيَدِ الرَّجُلِ ويأْخذ بِيَدِكَ تَحْتَ الحِمْل حَتَّى تَرفعاه عَلَى الْبَعِيرِ؛ تَقُولُ: رابَعْت الرَّجل إِذا رَفَعْتَ مَعَهُ العِدْلَ بِالْعَصَا عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
يَا لَيْتَ أُمَّ العَمْر كانتْ صاحِبي، ***مَكانَ مَنْ أَنْشا عَلَى الرَّكائبِ
ورابَعَتْني تحتَ لَيْلٍ ضارِبِ، ***بساعِدٍ فَعْمٍ وكَفٍّ خاضِبِ
ورَبَع بِالْمَكَانِ يَرْبَعُ رَبْعًا: اطمأَنَّ.
والرَّبْع: الْمَنْزِلُ وَالدَّارُ بِعَيْنِهَا، والوَطَنُ مَتَى كَانَ وبأَيِّ مَكَانٍ كَانَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَجَمْعُهُ أَرْبُعٌ ورِباعٌ ورُبُوعٌ وأَرْباعٌ.
وَفِي حَدِيثِ أُسامة: «قَالَ لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَهَلْ تَرَك لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ رِباعٍ»؛ الرَّبْعُ: المَنْزِلُ ودارُ الإِقامة.
ورَبْعُ الْقَوْمِ: مَحَلَّتُهم.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَرَادَتْ بَيْعَ رِباعِها»؛ أي مَنازِلها.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ رَبْعةٍ أَو حَائِطٍ أَو أَرض»؛ الرَّبْعةُ: أَخصُّ مِنَ الرَّبع، والرَّبْعُ المَحَلَّة.
يُقَالُ: مَا أَوسع رَبْعَ بَنِي فُلَانٍ والرَّبّاعُ: الرَّجُلُ الْكَثِيرُ شراءِ الرِّباع، وَهِيَ المنازِل.
ورَبَعَ بِالْمَكَانِ رَبْعًا: أَقام.
والرَّبْعُ: جَماعةُ الناسِ.
قَالَ شَمِرٌ: والرُّبُوع أَهل المَنازل أَيضًا؛ قَالَ الشَّمّاخ:
تُصِيبُهُمُ وتُخْطِئُني المَنايا، ***وأَخْلُفُ فِي رُبُوعٍ عَنْ رُبُوعِ
أَي فِي قَوْم بَعْدَ قَوْمٍ؛ وَقَالَ الأَصمعي: يُرِيدُ فِي رَبْعٍ مِنْ أَهلي أَي فِي مَسْكَنهم، بَعْدَ رَبْع.
وَقَالَ أَبو مَالِكٍ: الرَّبْعُ مِثْلُ السَّكن وَهُمَا أَهل البيتِ؛ وأَنشد:
فإِنْ يَكُ ربْعٌ مِنْ رِجالٍ، أَصابَهمْ، ***مِنَ اللَّهِ والحَتْمِ المُطِلِّ، شَعُوبُ
وَقَالَ شَمِرٌ: الرَّبْعُ يَكُونُ المنزلَ وأَهل الْمَنْزِلِ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: والرَّبْعُ أَيضًا العَدَدُ الْكَثِيرُ؛ قَالَ الأَحوص:
وفِعْلُكَ مرضِيٌّ، وفِعْلُكَ جَحْفَلٌ، ***وَلَا عَيْبَ فِي فِعْلٍ وَلَا فِي مُرَكَّبِ
قال: وأَما قَوْلُ الرَّاعِي:
فَعُجْنا عَلَى رَبْعٍ برَبْعٍ، تَعُودُه، ***مِنَ الصَّيْفِ، جَشّاء الحَنِينِ تُؤَرِّجُ
قَالَ: الرَّبْع الثَّانِي طَرَف الجَبل.
والمَرْبُوع مِنَ الشِّعْرِ: الَّذِي ذهَب جُزْآنِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَجزاء مِنَ المَديد والبَسِيط؛ والمَثْلُوث: الَّذِي ذَهَبَ جُزْآنِ مِنْ سِتَّةِ أَجزاء.
والرَّبِيعُ: جُزْءٌ مِنْ أَجزاء السَّنَةِ فَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُهُ الْفَصْلَ الَّذِي يُدْرِكُ فِيهِ الثِّمَارُ وَهُوَ الْخَرِيفُ ثُمَّ فَصْلُ الشِّتَاءِ بَعْدَهُ ثُمَّ فَصْلُ الصَّيْفِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَدْعُوه الْعَامَّةُ الرّبيعَ، ثُمَّ فَصْلُ القَيْظ بَعْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَدْعُوهُ العامةُ الصَّيْفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يسمي الفصل الذيتُدْرَكُ فِيهِ الثِّمَارُ، وَهُوَ الْخَرِيفُ، الربيعَ الأَول وَيُسَمَّى الْفَصْلَ الَّذِي يَتْلُو الشِّتَاءَ وتأْتي فِيهِ الكَمْأَة والنَّوْرُ الربيعَ الثَّانِيَ، وَكُلُّهُمْ مُجْمِعون عَلَى أَنّ الْخَرِيفَ هُوَ الرَّبِيعِ؛ قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: يُسَمَّى قِسما الشِّتَاءِ رَبِيعَيْنِ: الأَوَّل مِنْهُمَا رَبِيعُ الْمَاءِ والأَمطار، وَالثَّانِي رَبِيعُ النَّبَاتِ لأَن فِيهِ يَنْتَهِي النَّبَاتُ مُنْتهاه، قَالَ: وَالشِّتَاءُ كُلُّهُ رَبِيعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ أَجل النَّدى، قَالَ: وَالْمَطَرُ عِنْدَهُمْ رَبِيعٌ مَتَى جَاءَ، وَالْجَمْعُ أَرْبِعةٌ ورِباعٌ.
وشَهْرا رَبِيعٍ سُمِّيَا بِذَلِكَ لأَنهما حُدّا فِي هَذَا الزَّمَنِ فلَزِمَهما فِي غَيْرِهِ وَهُمَا شهرانِ بَعْدَ صفَر، وَلَا يُقَالُ فِيهِمَا إِلا شهرُ رَبِيعٍ الأَوّل وشهرُ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
والربيعُ عِنْدَ الْعَرَبِ رَبيعانِ: رَبيعُ الشُّهُورِ وَرَبِيعُ الأَزمنة، فَرَبِيعُ الشُّهُورِ شَهْرَانِ بَعْدَ صَفَرَ، وأَما رَبِيعُ الأَزمنة فَرَبِيعَانِ: الربيعُ الأَول وَهُوَ الْفَصْلُ الَّذِي تأْتي فِيهِ الكمأَة والنَّوْر وَهُوَ ربيع الكَلإِ، والثاني وهو الفصل الذي تدرك فيه الثِّمَارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ الرَّبِيعَ الأَوّل؛ وَكَانَ أَبو الْغَوْثِ يَقُولُ: الْعَرَبَ تَجْعَلُ السَّنَةَ سِتَّةَ أَزمنة: شَهْرَانِ مِنْهَا الرَّبِيعُ الأَوّل، وَشَهْرَانِ صَيْف، وَشَهْرَانِ قَيظ، وَشَهْرَانِ الرَّبِيعُ الثَّانِي، وَشَهْرَانِ خَرِيفٌ، وَشَهْرَانِ شِتَاءٌ؛ وأَنشد لِسَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضُبَيْعةَ:
إِنَّ بَنِيَّ صِبْيةٌ صَيْفِيُّونْ، ***أَفْلَحَ مَن كانتْ لَهُ رِبْعِيُّونْ
فَجَعَلَ الصَّيْفَ بَعْدَ الرَّبِيعِ الأَول.
وَحَكَى الأَزهري عَنْ أَبي يَحْيَى بْنِ كُنَاسَةَ فِي صِفَةِ أَزمنة السَّنَةِ وفُصولها وَكَانَ علَّامة بِهَا: أَن السَّنَةَ أَربعةُ أَزمنة: الرَّبِيعُ الأَول وَهُوَ عِنْدَ الْعَامَّةِ الْخَرِيفُ، ثُمَّ الشِّتَاءُ ثُمَّ الصَّيْفُ، وَهُوَ الرَّبِيعُ الْآخِرُ، ثُمَّ الْقَيْظُ؛ وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الْعَرَبِ فِي الْبَادِيَةِ، قَالَ: وَالرَّبِيعُ الأَوّل الَّذِي هُوَ الْخَرِيفُ عِنْدَ الفُرْس يَدْخُلُ لِثَلَاثَةِ أَيام مِنْ أَيْلُول، قَالَ: وَيَدْخُلُ الشِّتَاءُ لِثَلَاثَةِ أَيام مِنْ كانُون الأَوّل، وَيَدْخُلُ الصَّيْفُ الَّذِي هُوَ الرَّبِيعُ عِنْدَ الْفُرْسِ لِخَمْسَةِ أَيام تَخْلُو مِنْ أَذار، وَيَدْخُلُ الْقَيْظُ الَّذِي هُوَ صَيْفٌ عِنْدَ الْفُرْسِ لأَربعة أَيام تَخْلُو مِنْ حَزِيران، قَالَ أَبو يَحْيَى: وَرَبِيعُ أَهل العِراق مُوَافِقٌ لِرَبِيعِ الْفُرْسِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الشِّتَاءِ، وَهُوَ زَمَانُ الوَرْد وَهُوَ أَعدل الأَزمنة، وَفِيهِ تُقْطع الْعُرُوقُ ويُشرب الدَّوَاءُ؛ قَالَ: وأَهل الْعِرَاقِ يُمطَرون فِي الشِّتَاءِ كُلِّهِ ويُخْصِبون فِي الرَّبِيعِ الَّذِي يَتْلُو الشِّتَاءَ، فأَما أَهل الْيَمَنِ فإِنهم يُمْطَرون فِي الْقَيْظِ ويُخْصِبون فِي الْخَرِيفِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الرَّبِيعَ الأَول.
قَالَ الأَزهري: وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ يَقُولُونَ لأَوّل مَطَرٍ يَقَعُ بالأَرض أَيام الْخَرِيفِ رَبِيعٌ، وَيَقُولُونَ إِذا وَقَعَ رَبِيعٌ بالأَرض: بَعَثْنا الرُّوّاد وانْتَجَعْنا مساقِط الغَيْثِ؛ وَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ لِلنَّخِيلِ إِذا خُرِفت وصُرِمَت: قَدْ تَربَّعَت النَّخِيلُ، قَالَ: وإِنما سُمِّيَ فَصْلُ الْخَرِيفِ خَرِيفًا لأَن الثِّمَارَ تُخْتَرَف فِيهِ، وَسَمَّتْهُ الْعَرَبُ رَبِيعًا لِوُقُوعِ أَوّل الْمَطَرِ فِيهِ.
قَالَ الأَزهري: الْعَرَبُ تَذْكُر الشُّهُورَ كُلَّهَا مُجَرَّدَةً إِلا شَهْرَيْ رَبِيع وَشَهْرَ رَمَضَانَ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَيُقَالُ يومٌ قائظٌ وصافٍ وشاتٍ، وَلَا يُقَالُ يومٌ رابِعٌ لأَنهم لَمْ يَبْنُوا مِنْهُ فِعْلًا عَلَى حَدِّ قاظَ يومُنا وَشَتَا فَيَقُولُوا رَبَعَ يومُنا لأَنه لَا مَعْنَى فِيهِ لحَرّ وَلَا بَرْد كَمَا فِي قاظَ وَشَتَا.
وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ اجْعلِ القرآنَ رَبِيعَ قَلْبي»؛ جَعَلَهُ رَبِيعًا لَهُ لأَن الإِنسان يَرْتَاحُ قَلْبُهُ فِي الرَّبِيعِ مِنَ الأَزمان ويَمِيل إِليه، وجمعُ الرَّبِيعِ أَرْبِعاء وأَرْبِعة مِثْلُ نَصِيب وأَنْصِباء وأَنْصِبة، قَالَ يَعْقُوبُ: وَيُجْمَعُ رَبِيع الكلإِ عَلَى أَربعة، ورَبِيعُ الجَداولِ أَرْبِعاء.
والرَّبِيع: الجَدْوَلُ.
وَفِي حَدِيثِ المُزارَعةِ: «ويَشْتَرِط مَا سقَى الرَّبيعُ والأَرْبِعاء»؛ قَالَ: الربيعُ النَّهرُ الصَّغِيرُ، قَالَ: وَهُوَ السَّعِيدُ أَيضًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فعدَلَ إِلى الرَّبِيعِ فَتَطَهَّر».
وَفِي الْحَدِيثِ: «بِمَا يَنْبُت عَلَى ربِيعِ السَّاقي»، هَذَا مِنْ إِضافة المَوْصُوف إِلى الصِّفَةِ أَي النَّهْرُ الَّذِي يَسْقِي الزَّرْع؛ وأَنشد الأَصمعي قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فُوهُ رَبيعٌ وكَفُّه قَدَحٌ، ***وبَطْنُه، حِينَ يَتَّكِي، شَرَبَهْ
يَسَّاقَطُ الناسُ حَوْلَهُ مَرَضًا، ***وهْو صَحِيحٌ، مَا إِنْ بِهِ قَلَبَهْ
أَراد بِقَوْلِهِ فُوهُ رَبِيعٌ أَي نَهْرٌ لِكَثْرَةِ شُرْبه، وَالْجَمْعُ أَرْبِعاء؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «أَنهم كَانُوا يُكْرُون الأَرض بِمَا يَنْبُت عَلَى الأَرْبِعاء» أَي كَانُوا يُكرون الأَرض بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَيَشْتَرِطُونَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُكْتريها مَا يَنْبُت عَلَى الأَنهار وَالسَّوَاقِي.
وَفِي حَدِيثِ سَهْل بْنِ سَعْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تأْخذ مِنْ أُصُول سِلْقٍ كُنَّا نَغْرِسُه عَلَى أَرْبِعائنا».
ورَبِيعٌ رابِعٌ: مُخْصِبٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَرُبَّمَا سُمِّيَ الكَلأُ والغَيْثُ رَبِيعًا.
والرّبيعُ أَيضًا: الْمَطَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي الرَّبِيعِ، وَقِيلَ: يَكُونُ بَعْدَ الوَسْمِيِّ وَبَعْدَهُ الصَّيْفُ ثُمَّ الحَمِيمُ.
والرَّبيعُ: مَا تَعْتَلِفُه الدوابُّ مِنَ الخُضَر، وَالْجَمْعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَرْبعةٌ.
والرِّبعة، بِالْكَسْرِ: اجْتِماعُ الْمَاشِيَةِ فِي الرَّبِيع، يُقَالُ: بَلَدٌ مَيِّثٌ أَنيثٌ طَيِّبُ الرِّبْعةِ مَريء العُود.
ورَبَع الرَّبِيعُ يَرْبَع رُبُوعًا: دخَل.
وأَرْبَع القومُ: دَخَلُوا فِي الرَّبِيع، وَقِيلَ: أَرْبعوا صَارُوا إِلى الرِّيف وَالْمَاءِ.
وتَرَبَّع القومُ الموضِع وَبِهِ وارْتَبَعوه: أَقاموا فِيهِ زمَن الرَّبِيعِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: «أَنه جَمَّع فِي مُتَرَبَّعٍ لَهُ»؛ المَرْبَع والمُرْتَبَعُ والمُتَرَبَّعُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُنْزَلُ فِيهِ أَيّام الرَّبِيعِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرى إِقامة الْجُمُعَةِ فِي غَيْرِ الأَمصار، وَقِيلَ: تَرَبَّعوا وارْتَبَعوا أَصابوا رَبِيعًا، وَقِيلَ: أَصابوه فأَقاموا فِيهِ.
وتربَّعت الإِبل بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا أَي أَقامت بِهِ؛ قَالَ الأَزهري: وأَنشدني أَعرابي:
تَرَبَّعَتْ تَحْتَ السُّمِيِّ الغُيَّمِ، ***فِي بَلَدٍ عَافِي الرِّياضِ مُبْهِمِ
عَافِي الرِّياضِ أَي رِياضُهُ عافِيةٌ وافِيةٌ لَمْ تُرْعَ.
مُبْهِم: كَثِيرُ البُهْمى.
والمَرْبَع: المَوضع الَّذِي يُقَامُ فِيهِ زَمَنَ الرَّبِيع خَاصَّةً، وَتَقُولُ: هَذِهِ مَرابعُنا ومَصايِفُنا أَي حَيْثُ نَرْتَبِع ونَصِيفُ، وَالنِّسْبَةُ إِلى الرَّبِيعِ رِبعيٌّ، بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَكَذَلِكَ رِبْعِيُّ ابن خِراش.
وَقِيلَ: أَرْبَعُوا أَي أَقاموا فِي المَرْبَع عَنْ الارْتِياد والنُّجْعة؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: غَيْثٌ مُرْبِعٌ مُرْتِع؛ المُرْتِعُ الَّذِي يُنْبِت مَا تَرْتَعُ فِيهِ الإِبل.
وَفِي حَدِيثِ الاسْتِسْقاء: «اللَّهُمَّ اسْقِنا غَيْثًا مَرِيعًا مُرْبِعًا»، فالمَرِيع: المُخْصِب الناجِعُ فِي الْمَالِ، والمُرْبِع: العامُّ المُغْني عَنْ الارْتِياد والنُّجعة لِعمومه، فَالنَّاسُ يَرْبَعُون حَيْثُ كَانُوا؛ أي يُقِيمون للخِصْب الْعَامِّ وَلَا يَحتاجُون إِلى الِانْتِقَالِ فِي طَلَب الكلإِ، وَقِيلَ: يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَ الغَيْثُ إِذا أَنبت الرّبِيعَ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَداكَ يَدٌ رَبيعُ النَّاسِ فِيهَا ***وَفِي الأُخْرَى الشُّهورُ مِنَ الحَرام
أَراد أَنَّ خِصْب الناسِ فِي إِحدى يَدَيْهِ لأَنه يُنْعِش الناسَ بسَيْبِه، وَفِي يَدِهِ الأُخرى الأَمْنُ والحَيْطة ورَعْيُ الذِّمام.
وارْتَبَعَ الفرَسُ والبعيرُ وترَبَّع: "أَكل الرَّبِيعَ.
والمُرْتَبِعُ مِنَ الدَّوَابِّ: الَّذِي رَعى الرَّبِيعَ فسَمِن ونَشِط.
ورُبِعَ القومُ رَبْعًا: أَصابهم مَطَرُ الرَّبيع؛ وَمِنْهُ قَوْلُ أَبي وَجْزَةَ:
حَتَّى إِذا مَا إِيالاتٌ جَرَتْ بُرُحًا، ***وَقَدْ رَبَعْن الشَّوَى مِنْ ماطِرٍ ماجِ
فإِنّ مَعْنَى رَبَعْن أَمْطَرْن مِنْ قَوْلِكَ رُبِعْنا أَي أَصابَنا مَطَرُ الرَّبِيعِ، وأَراد بِقَوْلِهِ مِنْ مَاطِرٍ أَي عَرَق مأْجٍ ملْحٍ؛ يَقُولُ: أَمْطَرْن قَوائمَهن مِنْ عَرَقِهن.
ورُبِعَت الأَرضُ، فَهِيَ مَرْبُوعة إِذا أَصابها مَطَرُ الرَّبِيعِ.
ومُرْبِعةٌ ومِرْباعٌ: كَثِيرَةُ الرَّبِيع؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
بأَوَّلَ مَا هاجَتْ لكَ الشَّوْقَ دِمْنةٌ ***بِأَجْرَعَ مِرْباعٍ مَرَبٍّ، مُحَلَّلِ
وأَرْبَع إِبله بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا: رَعَاهَا فِي الرَّبِيعِ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَرْبَعُ عِنْدَ الوُرُودِ فِي سُدُمٍ، ***أَنْقَعُ مِنْ غُلَّتي وأُجْزِئُها
قِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَغُ فِي ماءٍ سُدُمٍ وأَلهَجُ فِيهِ.
وَيُقَالُ: ترَبَّعْنا الحَزْن والصَّمّانَ أَي رَعَينا بُقولها فِي الشِّتاء.
وعامَله مُرابَعة ورِباعًا: مِنَ الرَّبيع؛ الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
واستأْجره مُرابعةً ورِباعًا؛ عَنْهُ أَيضًا، كَمَا يُقَالُ مُصايَفة ومشاهَرة.
وَقَوْلُهُمْ: مَا لَهُ هُبَعٌ وَلَا رُبَعٌ، فالرُّبَع: الفَصيل الَّذِي يُنْتَج فِي الرَّبِيعِ وَهُوَ أَوّل النِّتاج، سُمِّيَ رُبَعًا لأَنه إِذا مَشَى ارتَبَع ورَبَع أَي وسَّع خطْوه وعَدا، وَالْجَمْعُ رِباع وأَرْباع مِثْلُ رُطَب ورِطاب وأَرْطاب؛ قَالَ الرَّاجِزُ:
وعُلْبة نازَعْتها رِباعي، ***وعُلْبة عِنْدَ مَقِيل الرّاعِي
والأُنثى رُبَعةٌ، وَالْجَمْعُ رُبَعات، فإِذا نُتِج فِي آخِرِ النِّتاج فَهُوَ هُبَع، والأُنثى هُبَعة، وإِذا نُسِبَ إِليه فَهُوَ رُبَعِيٌّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مُرِي بَنِيك أَن يُحْسِنوا غِذَاءَ رِباعهم»؛ الرِّباع، بِكَسْرِ الرَّاءِ: جَمْعُ رُبَع وَهُوَ مَا وُلد مِنَ الإِبل فِي الرَّبِيعِ، وَقِيلَ: مَا وُلِدَ فِي أَوّل النِّتاج؛ وإِحْسان غِذائها أَن لَا يُستَقْصى حلَب أُمهاتها إِبقاء عَلَيْهَا؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ: كأَنه أَخْفاف الرِّباع.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: «سأَله رَجُلٌ مِنَ الصَّدقة فأَعْطاه رُبَعة يَتْبَعُها ظِئراها»؛ هُوَ تأْنيث الرُّبَع؛ وَفِي حَدِيثِ سليْمَان بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ:
إِنَّ بَنِيَّ صِبْيةٌ صَيْفِيُّونْ، ***أَفْلَحَ مَن كَانَ لَهُ رِبْعِيُّونْ
الرِّبْعي: الَّذِي وُلِدَ فِي الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ مَثَلٌ لِلْعَرَبِ قَدِيمٌ.
وَقِيلَ للقمَر: مَا أَنت ابنُ أَربع، فَقَالَ: عَتَمة رُبَعْ لَا جَائِعٌ وَلَا مُرْضَع؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي جَمْعِ رِباع:
سَوْفَ تَكْفِي مِنْ حُبِّهِنَّ فتاةٌ ***تَرْبُقُ البَهْمَ، أَو تَخُلُّ الرِّباعا
يَعْنِي جَمْعَ رُبَع أَي تَخُلّ أَلسِنةَ الفِصال تَشُقُّها وَتَجْعَلُ فِيهَا عُودًا لِئَلَّا تَرْضَع، وَرَوَاهُ ابْنُ الأَعرابي: أَو تحُلّ الرِّباعا أَي تَحُلُّ الرَّبيع مَعَنَا حَيْثُ حَلَلْنا، يَعْنِي أَنها مُتَبَدِّية، وَالرِّوَايَةُ الأُولى أَولى لأَنه أَشبه بِقَوْلِهِ تربق البَهْم أَي تَشُدُّ البَهم عَنْ أُمّهاتها لِئَلَّا تَرْضَع وَلِئَلَّا تُفَرَّقَ، فكأَنّ هَذِهِ الفَتاة تَخْدم البَهْم والفِصال، وأَرْباعٌ ورِباع شَاذٌّ لأَن سِيبَوَيْهِ قَالَ: إِنّ حُكْم فُعَل أَن يُكَسَّر عَلَى فِعْلان فِي غَالِبِ الأَمر، والأُنثى رُبَعة.
وَنَاقَةٌ مُرْبِعٌ: ذَاتُ رُبَع، ومِرْباعٌ: عادتُها أَن تُنْتَج الرِّباع، وفرَّق الْجَوْهَرِيُّ فَقَالَ: نَاقَةٌ مُرْبِع تُنْتَج فِي الرَّبِيعِ، فإِن كَانَ ذَلِكَ عَادَتَهَا فَهِيَ مِرْباع.
وَقَالَ الأَصمعي: المِرْباع مِنَ النُّوقِ الَّتِي تَلِدُ فِي أَوّل النِّتاج.
والمِرْباعُ: الَّتِي وَلَدُهَا مَعَهَا وَهُوَ رُبَع.
وَفِي حَدِيثِ هِشَامٍ فِي وَصْفِ نَاقَةٍ: «إِنها لمِرْباعٌ مِسْياعٌ»؛ قَالَ: هِيَ مِنَ النُّوقِ الَّتِي تَلِدُ فِي أَول النِّتَاجِ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي تُبَكِّر فِي الحَمْل، وَيُرْوَى بِالْيَاءِ، وسيأْتي ذِكْرُهُ.
ورِبْعِيّة الْقَوْمِ: ميرَتُهم فِي أَول الشِّتَاءِ، وَقِيلَ: الرِّبْعِية مِيرَةُ الرَّبيع وَهِيَ أَوَّل المِيَر ثُمَّ الصَّيْفِيَّةُ ثُمَّ الدَّفَئية ثُمَّ الرَّمَضِيَّة، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعِهِ.
والرِّبْعية أَيضًا: الْعِيرُ الممْتارة فِي الرَّبِيعِ، وَقِيلَ: أَوّلَ السَّنَةِ، وإِنما يَذْهَبُونَ بأَوّل السَّنَةِ إِلى الرَّبِيعِ، وَالْجَمْعُ رَباعيّ.
والرِّبْعِيَّة: الغَزوة فِي الرَّبيع؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
وكانَتْ لَهُمْ رِبْعِيَّةٌ يَحْذَرُونَها، ***إِذا خَضْخَضَتْ ماءَ السَّمَاءِ القَنابِل
يَعْنِي أَنه كَانَتْ لَهُمْ غَزْوَةٌ يَغْزُونها فِي الرَّبِيعِ.
وأَرْبَعَ الرجلُ، فَهُوَ مُرْبِعٌ: وُلِدَ لَهُ فِي شَبَابِهِ، عَلَى الْمِثْلِ بِالرَّبِيعِ، وَوَلَدُهُ رِبْعِيّون؛ وأَورد:
إِنَّ بَنِيَّ غِلْمةٌ صَيْفِيُّونْ، ***أَفْلَحَ مَن كَانَتْ لَهُ رِبْعِيُّونْ
وَفَصِيلٌ رِبْعِيٌّ: نُتِجَ فِي الرَّبِيعِ نَسَبٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.
ورِبْعِيّة النِّتاج والقَيْظ: أَوَّله.
ورِبْعيّ كُلِّ شَيْءٍ: أَوَّله.
رِبْعيّ النِّتَاجِ ورِبْعيّ الشَّبَابِ: أَوَّله؛ أَنشد ثَعْلَبٌ:
جَزِعْت فَلَمْ تَجْزَعْ مِنَ الشَّيْبِ مَجْزَعا، ***وَقَدْ فاتَ رِبْعيُّ الشبابِ فَوَدَّعا
وَكَذَلِكَ رِبْعِيّ المَجْد والطعْنِ؛ وأَنشد ثَعْلَبٌ أَيضًا:
عَلَيْكُمْ بِرِبْعِيِّ الطِّعان، فإِنه ***أَشَقُّ عَلَى ذِي الرَّثْيةِ المُتَصَعِّبِ
رِبْعِيُّ الطِّعان: أَوَّله وأَحَدُّهُ.
وسَقْب رِبْعي وسِقاب رِبْعية: وُلِدت فِي أَوَّل النِّتاج؛ قَالَ الأَعشى:
ولكِنَّها كَانَتْ نَوًى أَجْنَبيَّةً، ***تَواليَ رِبْعيِّ السِّقابِ فأَصْحَبا
قَالَ الأَزهري: هَكَذَا سَمِعْتُ الْعَرَبَ تُنْشِده وَفَسَّرُوا لِي تَوالي رِبْعِي السِّقَابِ أَنه مِنَ المُوالاة، وَهُوَ تَمْيِيزُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ.
يُقَالُ: والَيْنا الفُصْلان عَنْ أُمهاتها فتَوالَتْ أَي فَصَلْناها عَنْهَا عِنْدَ تَمام الحَوْل، ويَشْتَدّ عَلَيْهَا المُوالاة ويَكْثُر حَنِينها فِي إِثْر أُمهاتها ويُتَّخَذ لَهَا خَنْدق تُحْبَس فِيهِ، وتُسَرَّح الأُمهات فِي وَجْه مِنْ مراتِعها فإِذا تَباعَدت عَنْ أَولادها سُرِّحت الأَولاد فِي جِهة غَيْرِ جِهَةِ الأُمهات فَتَرْعَى وَحْدَهَا فَتَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ، وتُصْحب بَعْدَ أَيام؛ أَخبر الأَعشى أَنّ نَوَى صاحِبته اشْتدَّت عَلَيْهِ فَحنّ إِليها حَنِين رِبْعيِّ السِّقاب إِذا وُوليَ عَنْ أُمه، وأَخبر أَنَّ هَذَا الْفَصِيلَ يَسْتَمِرُّ عَلَى المُوالاة وَلَمْ يُصْحِب إِصْحاب السَّقْب.
قَالَ الأَزهري: وإِنما فَسَّرْتُ هَذَا البيت لأَنالرُّوَاةَ لَمَّا أَشكل عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ تخَبَّطُوا فِي اسْتِخْراجه وخَلَّطوا، وَلَمْ يَعْرِفوا مِنْهُ مَا يَعْرِفه مَن شاهَد الْقَوْمَ فِي بَادِيَتِهِمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَوْ ذهبْت تُرِيدُ وَلَاءَ ضَبَّةَ مِنْ تَميم لتعَذَّر عَلَيْكَ مُوالاتُهم مِنْهُمْ لِاخْتِلَاطِ أَنسابهم؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
وكُنَّا خُلَيْطَى فِي الجِمالِ، فَأَصْبَحَتْ ***جِمالي تُوالى وُلَّهًا مِنْ جِمالِك
تُوالى أَي تُمَيَّز مِنْهَا.
والسِّبْطُ الرِّبْعِي: نَخْلة تُدْرك آخِرَ الْقَيْظِ؛ قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: سَمَّى رِبعِيًّا لأَن آخِرَ الْقَيْظِ وَقْتُ الوَسْمِيّ.
وَنَاقَةٌ رِبْعِية: مُتَقَدِّمة النِّتاج، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: صَرَفانةٌ رِبْعِيّة تُصْرَم بِالصَّيْفِ وَتُؤْكَلُ بالشَّتِيّة؛ رِبعِية: مُتقدِّمة.
وارْتَبَعتِ الناقةُ وأَرْبَعَتْ وَهِيَ مُرْبِعٌ: اسْتَغْلَقَت رَحِمُها فَلَمْ تَقبل الْمَاءَ.
وَرَجُلٌ مَرْبوع ومُرْتَبَع ومُرْتَبِع ورَبْعٌ ورَبْعة ورَبَعة أَي مَرْبُوعُ الخَلْق لَا بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، وُصِف المذَكَّر بِهَذَا الِاسْمِ المؤَنّث كَمَا وُصِفَ الْمُذَكَّرُ بخَمْسة وَنَحْوِهَا حِينَ قَالُوا: رِجَالٌ خَمْسَةٌ، وَالْمُؤَنَّثُ رَبْعة وربَعة كَالْمُذَكَّرِ، وأَصله لَهُ، وجَمْعُهما جَمِيعًا رَبَعات، حَرَّكُوا الثَّانِيَ وإِن كَانَ صِفَةً لأَن أَصل رَبْعة اسمٌ مُؤَنَّثٌ وَقَعَ عَلَى الْمُذَكَّرِ والمؤنثِ فَوُصِفَ بِهِ، وَقَدْ يُقَالُ رَبْعات، بِسُكُونِ الْبَاءِ، فَيُجْمَعُ عَلَى مَا يُجْمَعُ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الصِّفَةِ؛ حَكَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.
قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنما حُرِّكَ رَبَعات لأَنه جَاءَ نَعْتًا لِلْمُذَكَّرِ والمؤَنث فكأَنه اسْمٌ نُعت بِهِ.
قَالَ الأَزهري: خُولِفَ بِهِ طَرِيقُ ضَخْمة وضَخْمات لِاسْتِوَاءِ نَعْتِ الرَّجُلِ والمرأَة فِي قَوْلِهِ رَجُلٌ رَبْعة وامرأَة رَبْعَةٌ فَصَارَ كَالِاسْمِ، والأَصل فِي بَابِ فَعْلة مِنَ الأَسماء مِثْلِ تَمْرة وجَفْنة أَن يُجْمَعَ عَلَى فَعَلات مِثْلِ تَمَرات وجَفَنات، وَمَا كَانَ مِنَ النُّعُوتِ عَلَى فَعْلة مِثْلِ شَاةٍ لَجْبة وامرأَة عَبْلة أَن يُجْمَعَ عَلَى فَعْلات بِسُكُونِ الْعَيْنِ وإِنما جُمِعَ رَبْعة عَلَى رَبَعات وَهُوَ نَعْتٌ لأَنه أَشبه الأَسماء لِاسْتِوَاءِ لَفْظِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فِي وَاحِدِهِ؛ قَالَ: وَقَالَ الْفَرَّاءُ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ امرأَة رَبْعة وَنِسْوَةٌ رَبْعات، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ رَبْعة وَرِجَالٌ رَبْعون فَيَجْعَلُهُ كَسَائِرِ النُّعُوتِ.
وَفِي صِفَتِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَطول مِنَ المَرْبوع وأَقْصَر مِنَ المُشَذَّب "؛ فالمشذَّب: الطَّوِيلُ الْبَائِنُ، والمَرْبوعُ: الَّذِي لَيْسَ بِطَوِيلٍ وَلَا قَصِيرٍ، فَالْمَعْنَى أَنه لَمْ يَكُنْ مُفرط الطُّولِ وَلَكِنْ كَانَ بَيْنَ الرَّبْعة والمُشَذَّب.
والمَرابيعُ مِنَ الْخَيْلِ: المُجْتَمِعةُ الخَلْق.
والرَّبْعة، بِالتَّسْكِينِ: الجُونة جُونة العَطَّار.
وَفِي حَدِيثِ هِرَقْل: «ثُمَّ دَعَا بِشَيْءٍ كالرَّبْعة الْعَظِيمَةِ»؛ الرَّبْعة: إِناء مُربَّع كالجُونة.
والربَعَة: الْمَسَافَةُ بَيْنَ قَوَائِمِ الأَثافي والخِوان.
وحملْت رَبْعَه أَي نَعْشَه.
والربيعُ: الجَدْوَلُ.
والرَّبيعُ: الحَظُّ مِنَ الْمَاءِ مَا كَانَ، وَقِيلَ: هُوَ الحَظّ مِنْهُ رُبْع يَوْمٍ أَو لَيْلَةٍ؛ وَلَيْسَ بالقَوِيّ.
وَالرَّبِيعُ: السَّاقِيَةُ الصَّغِيرَةُ تَجْرِي إِلى النَّخْلِ، حِجَازِيَّةٌ، وَالْجَمْعُ أَرْبِعاء ورُبْعان.
وَتَرَكْنَاهُمْ عَلَى رَباعاتِهم ورِباعَتِهم، بِكَسْرِ الرَّاءِ، ورَبَعاتهم ورَبِعاتِهم، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا، أَي حالةٍ حسَنةٍ مِنَ اسْتقامتهم وأَمْرِهم الأَوَّل، لَا يَكُونُ فِي غَيْرِ حُسْنِ الْحَالِ، وَقِيلَ: رِباعَتُهم شَأْنُهم، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: رَبَعاتُهم ورَبِعاتُهم مَنازِلُهم.
وَفِي كِتَابِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ والأَنصار: " إِنهم أُمَّة وَاحِدَةٌ عَلَى رِباعتهم "أَي عَلَى اسْتِقَامَتِهِمْ؛ يُرِيدُ أَنهم عَلَى أَمرهم الَّذِي كَانُوا عليه.
ورِباعةُ الرَّجُلِ: شأْنه وحالهُ الَّتِي هُوَ رابِعٌ عَلَيْهَا أَي ثَابِتٌ مُقيمٌ.
الْفَرَّاءُ: النَّاسُ عَلَى سَكَناتهم ونَزلاتهم ورَباعتهم ورَبَعاتهم يَعْنِي عَلَى اسْتِقَامَتِهِمْ.
وَوَقَعَ فِي كِتَابِ رسول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَهُودَ عَلَى رِبْعَتهم؛ هَكَذَا وُجِدَ فِي سِيَر ابْنِ إِسحاقَ وَعَلَى ذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ هِشَامٍ.
وَفِي حَدِيثِ المُغيرة: «أَن فُلَانًا قَدِ ارْتَبَعَ أَمْرَ الْقَوْمِ»أَي يَنْتَظِرُ أَن يُؤَمَّر عَلَيْهِمْ؛ وَمِنْهُ المُسْتَرْبِعُ المُطيقُ لِلشَّيْءِ.
وَهُوَ عَلَى رِبَاعَةِ قَوْمِهِ أَي هُوَ سَيِّدهم.
وَيُقَالُ: مَا فِي بَنِي فُلَانٍ مَنْ يَضْبِطُ رِباعَته غَيْرُ فُلَانٍ أَي أَمْرَه وشأْنه الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ.
وَفِي التَّهْذِيبِ: مَا فِي بَنِي فُلَانٍ أَحد تُغْني رِباعَتُه؛ قَالَ الأَخطل:
مَا فِي مَعَدٍّ فَتًى تُغْنِي رِباعَتُه، ***إِذا يَهُمُّ بأَمْرٍ صالِحٍ فَعَلا
والرِّباعةُ أَيضًا: نَحْوٌ مِنَ الحَمالة.
والرَّباعةُ والرِّباعة: الْقَبِيلَةُ.
والرَّباعِيةُ مِثْلُ الثَّمَانِيَةِ: إِحدى الأَسنان الأَربع الَّتِي تَلِي الثَّنايا بَيْنَ الثَّنِيّة وَالنَّابِ تَكُونُ للإِنسان وَغَيْرِهِ، وَالْجَمْعُ رَباعِياتٌ؛ قَالَ الأَصمعي: للإِنسان مِنْ فَوْقُ ثَنِيّتان ورَباعِيتان بَعْدَهُمَا، ونابانِ وضاحِكان وستةُ أَرْحاء مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وناجِذان، وَكَذَلِكَ مِنْ أَسفل.
قَالَ أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ لِكُلِّ خُفّ وظِلْف ثَنِيّتان مِنْ أَسفل فَقَطْ، وأَما الحافرُ والسِّباع كلُّها فَلَهَا أَربع ثَنايا، وَلِلْحَافِرِ بَعْدَ الثَّنَايَا أَربعُ رَباعِيات وأَربعة قَوارِحَ وأَربعة أَنْياب وَثَمَانِيَةُ أَضراس.
وأَرْبَعَ الفرسُ وَالْبَعِيرُ: أَلقى رَباعِيته، وَقِيلَ: طَلَعَتْ رَباعِيتُه.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَمْ أَجد إِلا جَمَلًا خِيارًا رَباعِيًا»، يُقَالُ لِلذَّكَرِ مِنَ الإِبل إِذا طلَعت رَباعِيتُه: رَباعٌ ورَباعٍ، وللأُنثى رَباعِيةٌ، بِالتَّخْفِيفِ، وَذَلِكَ إِذا دَخَلَا فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ.
وَفَرَسٌ رَباعٍ مِثْلُ ثَمان وَكَذَلِكَ الْحِمَارُ وَالْبَعِيرُ، وَالْجَمْعُ رُبَع، بِفَتْحِ الْبَاءِ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، ورُبْع، بِسُكُونِ الْبَاءِ؛ عَنْ ثَعْلَبٍ، وأَرباع ورِباع، والأُنثى رَباعية؛ كُلُّ ذَلِكَ لِلَّذِي يُلقِي رَباعيته، فإِذا نَصَبْتَ أَتممت فَقُلْتَ: رَكِبْتُ بِرْذَوْنًا رَباعيًا؛ قَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ حِمَارًا وحْشيًّا: " رَباعِيًا مُرْتَبِعًا أَو شَوْقَبَا "وَالْجَمْعُ رُبُعٌ مِثْلُ قَذال وقُذُل، ورِبْعان مِثْلُ غَزال وغِزْلان؛ يُقَالُ ذَلِكَ لِلْغَنَمِ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، وَلِلْبَقَرِ وَالْحَافِرِ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ، وللخُفّ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ، أَرْبَعَ يُرْبِع إِرْباعًا، وَهُوَ فَرَسٌ رَباع وَهِيَ فَرَسٌ رَباعِية.
وَحَكَى الأَزهري عَنِ ابْنِ الأَعرابي قَالَ: الْخَيْلُ تُثْنِي وتُرْبِع وتُقْرِح، والإِبل تُثْنِي وتُرْبِع وتُسْدِسُ وتَبْزُلُ، وَالْغَنَمُ تُثْنِي وتُرْبِع وتُسدس وتَصْلَغُ، قَالَ: وَيُقَالُ لِلْفَرَسِ إِذا اسْتَتَمَّ سَنَتَيْنِ جَذَع، فإِذا اسْتَتَمَّ الثَّالِثَةَ فَهُوَ ثَنيّ، وَذَلِكَ عِنْدَ إِلقائه رَواضِعَه، فإِذا اسْتَتَمَّ الرَّابِعَةَ فَهُوَ رَباع، قَالَ: وإِذا سَقَطَتْ رَواضِعه وَنَبَتَ مَكَانَهَا سِنّ فَنَبَاتُ تِلْكَ السِّنِّ هُوَ الإِثْناء، ثُمَّ تَسْقُط الَّتِي تَلِيهَا عِنْدَ إِرباعه فَهِيَ رَباعِيته، فيَنْبُت مَكَانَهُ سِنٌّ فَهُوَ رَباع، وَجَمْعُهُ رُبُعٌ وأَكثر الْكَلَامِ رُبُعٌ وأَرْباع.
فإِذا حَانَ قُرُوحه سَقَطَ الَّذِي يَلِي رَباعيته، فَيَنْبُتُ مَكَانَهُ قارِحُه وَهُوَ نابُه، وَلَيْسَ بَعْدَ الْقُرُوحِ سقُوط سِنّ وَلَا نَبَاتُ سِنٍّ؛ قَالَ: وَقَالَ غَيْرُهُ إِذا طعَن البعيرُ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ فَهُوَ جذَع، فإِذا طَعَنَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ فَهُوَ ثَنِيّ، فإِذا طَعَنَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ فَهُوَ رَباع، والأُنثى رَباعِية، فإِذا طَعَنَ فِي الثَّامِنَةِ فَهُوَ سَدَسٌ وسَدِيس، فإِذا طَعَنَ فِي التَّاسِعَةِ فَهُوَ بازِل، وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: تُجْذِع العَناق لِسَنَةٍ، وتُثْنِي لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ، وَهِيَ رَباعِية لِتَمَامِ ثَلَاثِ سِنِينَ، وسَدَسٌ لِتَمَامِ أَربع سِنِينَ، وصالِغٌ لِتَمَامِ خَمْسِ سِنِينَ.
وَقَالَ أَبو فَقْعَسٍ الأَسدي: وَلَدُ الْبَقَرَةِ أَوّل سَنَةٍ تَبِيعٌ ثُمَّ جذَع ثُمَّ ثَنِيّ ثُمَّ رَباع ثُمَّ سَدَس ثُمَّ صالغٌ، وَهُوَ أَقصى أَسنانه.
والرَّبيعة: الرَّوْضة.
والرَّبيعة: المَزادَة.
والرَّبيعة: العَتِيدة.
وحَرْب رَباعِية: شَدِيدَةٌ فَتِيَّة، وَذَلِكَ لأَن الإِرْباع أَول شِدَّةِ الْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ، فَهِيَ كَالْفَرَسِ الرَّباعي وَالْجَمَلِ الرَّباعي وَلَيْسَتْ كَالْبَازِلِ الذي هو في إِدبار وَلَا كالثَنيِّ فَتَكُونُ ضَعِيفَةً؛ وأَنشد:
لأُصْبِحَنْ ظَالِمًا حَرْبًا رَباعِيةً ***فاقْعُدْ لَهَا، ودَعَنْ عنكَ الأَظانِينا
قَوْلُهُ فاقْعُد لها أَي هيِء لَهَا أَقْرانَها.
يُقَالُ: قَعَدَ بَنُو فُلَانٍ لِبَنِي فُلَانٍ إِذا أَطاقوهم وَجَاؤُوهُمْ بأَعْدادهم، وَكَذَلِكَ قَعد فُلَانٌ بِفُلَانٍ، وَلَمْ يُفَسِّرِ الأَظانين، وجملٌ رباعٍ: كرباعٌ وَكَذَلِكَ الْفَرَسُ؛ حَكَاهُ كُرَاعٌ قَالَ: وَلَا نَظِيرَ لَهُ إِلَّا ثمانٍ وشَناحٍ فِي ثمانٌ وشناحٌ؛ والشناحُ: الطَّوِيلُ.
والرَّبِيعةُ: بَيْضَةُ السِّلَاحِ الْحَدِيدِ.
وأَرْبَعَت الإِبل بالوِرْد: أَسْرَعت الْكَرَّ إِليه فَوَرَدَتْ بِلَا وَقْتٍ، وَحَكَاهُ أَبو عُبَيْدٍ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
والمُرْبِعُ: الَّذِي يُورِد كلَّ وَقْتٍ مِنْ ذَلِكَ.
وأَرْبَع بالمرأَة: كَرَّ إِلى مُجامَعتها مِنْ غَيْرِ فَتْرة، وَذَكَرَ الأَزهري فِي تَرْجَمَةِ عذَم قَالَ: والمرأَة تَعْذَم الرجلَ إِذا أَرْبَع لَهَا بِالْكَلَامِ أَي تَشْتُمه إِذا سأَلها المَكْروه، وَهُوَ الإِرْباعُ.
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م